بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فالفقه الإسلامي بحاجة إلى إعادة بعثه وتصنيفه بما يؤام هذا الوقت، فإن زمن قصر العناية على المتون الفقهية قد انتهى إن شاء الله تعالى إلى غير رجعة، وزمن التقليد أخذ ينحصر، وأتوقع أن لا يمضي وقت طويل حتى يقضي الله بمشيئته على بدعة التقليد، فالصحوة تبشر ببعث جديد، يعود فيه دور الفقيه المسلم إلى حياة المسلمين، فالصحوة سلفية، وفقهها سلفي، والعناية بمتون السنة أولى من العناية بكلام البشر، وصرف الأوقات في تحليل عبارات الرجال (1).
ولقد شارك في هذه الصحوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى مؤسسات كثيرة وعلماء جهابذة، فالجامعات الإسلامية في هذا البلد المعطاء قامت منذ طلائع هذه الصحوة ببعث التراث الإسلامي مهتمين ببيان الحديث الصحيح
__________
(1) ولا يعني هذا القول بأني أدعو إلى الاعتماد اعتماداً كلياً على كتب السنة وعدم الاستفادة من أقوال الأئمة؛ فإن كتبهم ومؤلفاتهم من أعظم الأسباب التي تعين طالب العلم على فهم الأدلة الشرعية، ومراد الشارع منها، وبيان المخصص، والمقيد للأدلة العامة والمطلقة، ومنهجي في هذا البحث شاهد على ما أقول، ولكني في الوقت نفسه لا أرى الاكتفاء بكتب الفقه، والاقتصار على المتون، وعدم النظر في كتب السنة، وترك العناية في البحث فيها، وبيان صحيحها من ضعيفها.(1/3)
من الضعيف، ولا ينسى دور بعض العلماء الذين تحملوا في ذلك عبئاً كبيراً في تعليم الناس الفقه السلفي، المبني على الدليل البعيد عن التقليد والمذهبية، وأترك ذكر الأسماء حتى لا يفهم الحصر؛ لأن استيعابهم يطول.
ورأيت مشاركة مني أن أكتب بحوثاً علمية في الفقه الإسلامي أجمع فيها بين أقوال الفقهاء، وأدلة المحدثين، يكون البحث فيه متناسقاً بين الآثر والنظر، فالنظر الخالي من الأثر نظر أعمى، والأثر الخالي من الفقه نص معطل المنافع، ولا بد للأثر من فقيه يستخرج كنوزه، ولا بد للفقيه من طريقة المحدثين حتى يعرف الضعيف من الصحيح فلا يبني بناءه على شفا جرف هار، فكان هذا المشروع الذي أرجو أن يكون لبنة في هذا البناء الشامخ الذي شرع فيه أوائل هذه الأمة في وضع أسسه وضوابطه.
إن هذا المشروع بالنسبة لي هو مشروع حياة، سوف أنذر وقتي إن شاء الله على إكماله وسأصل الليل بالنهار، وانقطع من كل نشاط حتى أبلغ كماله أو أعذر، والمعذور له أجره كاملاً كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا حميد الطويل،
(1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله b رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال:
إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة. قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر (1) .
(2) وروى البخاري أيضاً، قال: حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي، قال: سمعت أبا
__________
(1) صحيح البخاري (4423) .(1/4)
بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة:
سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله b: إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحاً (2) .
وقد قاربت من نهاية كتاب الطهارة في اثني عشر مجلداً تقريباً، طبع منه كتاب الحيض والنفاس في ثلاث مجلدات كبيرة، وكان تقديم طباعته على غيره نظراً لحاجة المكتبات إلى كتاب متخصص في الحيض والنفاس يجمع بين أقوال الفقهاء ونظر الأطباء، فكان هذا الكتاب ولله الحمد.
ثم صدر منه أيضاً كتاب أحكام المسح على الحائل في مجلد كبير جداً يقع في ستمائة وسبعين صفحة، طبع في شتاء عام 1420 هـ
واليوم أقدم أربع مجلدات في المياه، وآداب الخلاء وسنن الفطرة، وسوف يصدر الباقي تباعاً إن شاء الله تعالى.
منهجي في هذا البحث.
سبق أن ذكرت منهجي في عرض أقوال المذاهب، وأدلة المسائل في كتاب الحيض والنفاس، فلا داعي لإعادته في هذا البحث، ولكني أنبه فيه على مسألة أخذت عليَّ في البحوث السابقة، حول خلو البحث من كلام الفقهاء المعاصرين.
فأقول: لقد فعلت ذلك عن عمد، وذلك طلباً لعلو الإسناد إلا في كلام للمعاصرين لم أره للمتقدمين، فيكون مقتضى الأمانة أن أذكره لهم إذا احتجت إلى نقله، ولقد كان الإمام أحمد لا يروي عن الأحياء إلا في عدد
__________
(2) البخاري (2996) .(1/5)
قليل جداً من الرواة، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، باستثناء من أفضى منهم إلى ما قدم كالشيخ أحمد شاكر رحمه الله، وليس الحامل على هذا هو التقليل من شأن العلماء المعاصرين، ولكني رأيت في طلابهم من يتعصب لأقوال شيخه ويغضب لمخالفتها أشد من غضب المتمذهبين لمذاهبهم، وصاروا يدعوننا بدلاً من اتباع الأئمة إلى تقليد شيوخهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن ربط الناس بعلماء السلف عند الترجيح، وأن هذا هو رأي الإمام أحمد أو سفيان أو مالك أو الزهري خير من ربطهم بالعلماء المعاصرين، وأين الثرى من الثريا، فلا تكاد تجد قولاً قوياً لبعض العلماء المعاصرين إلا وتجد أنه قد قال به إمام من أئمة السلف، فكان مقتضى العدل والإنصاف والأمانة في النقل أن ينسب هذا القول لمن قاله، لا لمن نقله.
ثم إني إذا تعرضت للنقل عن المعاصرين حملني هذا في بعض الأحيان إلى نقد ما أنقله، إما بزيادة أو حذف، فليس كل ما ينقل يُسَلَّم، فيكون هذا سبباً في إيغار الصدور، وأنا إلى تأليف القلوب، وسلامة الصدور أحوج مني إلى نقل كلام زيد، وعرضه للنقد، وهذا الفعل مني اجتهاد لا أدعي أنه صواب، وقد دفعني للبوح به ما بلغني من بعض الإخوة من عتاب في عدم ذكر بعض المشايخ عند الترجيح، فأردت أن يفهم الحامل على هذا، وأن لا يسيئ الظن أحد من إخواني في تحميل الأمر ما لا يحتمل.
دراسة مقارنة بين هذا البحث وبعض المتون المشهورة.
تعود طلبة العلم في الديار النجدية من البلاد السعودية حرسها الله أن يتعلموا ويتخرجوا على دراسة بعض المتون الفقهية والتي تلقى عناية من المشايخ وطلبة العلم سواء في حلق المساجد أو في الجامعات والمعاهد العلمية،(1/6)
وقد أجريت مقارنة بين مسائل هذه المتون وبين هذا البحث ليكون طالب العلم على دراية بأن مسائل هذه المتون قد دخلت ضمن هذه الموسوعة.
وقد أخترت كتابين من المتون المشهورة عندنا، وهما زاد المستقنع، وشرحه الروض المربع. فكتاب زاد المستقنع يكاد يكون من أكثر المتون الفقهية التي تدرس في المساجد والمعاهد العلمية، حتى قال عنه بعض مشايخنا: قد شغف فيه المبتدئون من طلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحفظه كثير منهم عن ظهر قلب، وكان شيخنا عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى يحثنا على حفظه ويدرسنا فيه، وقد انتفعنا به كثيراً ولله الحمد (1) .
ويقول شيخنا صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: وحيث إن مختصر المقنع (زاد المستقنع) لشرف الدين أبي النجا موسى الحجاوي اشتمل على مهمات المسائل في المذهب الحنبلي لذا اعتنى به الفقهاء من الحنابلة بدراسته وتدريسه وتفهمه وتفهيمه، وبالأخص في البلاد النجدية (2) . اهـ
وأما كتاب الروض المربع فيقول عنه بعض طلبة العلم:
كتاب الروض المربع يعتبر بحق من أهم الموسوعات الفقهية التي اشتملت على كثير من الأحكام الشرعية مقرونة بأدلتها التفصيلية، وقد اعتنى به عامة طلبة العلم، وخصوصاً في هذه البلاد حرسها الله من كل سوء ومكروه سواء من القضاة والمحاكم الشرعية أو في المدارس النظامية في كليات الشريعة وما يماثلها أم في حلق المساجد والجوامع إذ لا تكاد تخلو مدينة من عالم يدرس هذا الكتاب في حلقته، ولا غرابة في ذلك فقد أودع فيه البهوتي رحمه الله
__________
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/5) .
(2) السلسبيل (1/11) ئ.(1/7)
جملة من النصوص والآثار إذ بنى معظم مسائل هذا الكتاب على نص من السنة أو أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم (1) .
فإذا أحصينا مسائل زاد المستقنع والروض المربع في كتاب المياه وآداب الخلاء وسنن الفطرة وجدناها بلغت مائة وخمساً وأربعين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث مائة وست وثمانين مسألة، أي بزيادة إحدى وأربعين مسألة فقهية، وهو عدد ليس بالقليل كما ترى، فإذا أضيف إلى هذا أن مسائل البحث قد درست دراسة مقارنة عرض فيها ما يمكن عرضه من أقوال الأئمة الأربعة والفقهاء المجتهدين، وجمع فيها ما يمكن من أدلة من أحاديث مرفوعة وآثار عن الصحابة والتابعين أدرك القارئ الكريم قدر هذا البحث من الناحيتين الفقهية والحديثية، وإليك تفصيل مسائل كل كتاب من هذه الكتب.
بلغت مسائل زاد المستقنع في باب المياه ثلاثاً وعشرين مسألة فقيهة.
وزاد الروض المربع على زاد المستقنع في باب المياه سبعة عشر مسألة، لتكون مسائل الروض المربع أربعين مسألة فقهية.
وبلغت مسائل الموسوعة في باب المياه أربعين مسألة فقهية.
وفي كتاب الاستنجاء، بلغت مسائل زاد المستقنع ست وثلاثين مسألة، وزاد الروض المربع خمساً وعشرين مسألة ليكون المجموع إحدى وستين مسألة، وبلغت مسائل هذا البحث تسعين مسألة فقهية، وهذا يعني أن الموسوعة زادت على الكتابين بمقدار الثلث، أي بمقدار ثلاثين مسألة فقهية لم
__________
(1) مقدمة كتاب الروض المربع لمجموعة من المشايخ الفضلاء: الطيار والغصن والمشيقح (1/10) .(1/8)
يتعرض لها الكتابان، وهو قدر لا يستهان به كما ترى.
وأما الكتاب الثالث: وهو سنن الفطرة:
فبلغت مسائل زاد المستنقنع ثلاث عشرة مسألة فقط.
وزاد عليها صاحب الروض المربع إحدى وثلاثين مسألة ليكون المجموع أربعاً وأربعين مسألة، فإذا قارناهما في الموسوعة، نجد أن مسائل سنن الفطرة فيها بلغت ستاً وخمسين مسألة أي بفارق أثني عشر مسألة، فإذا ضممنا هذه الزيادة للزيادة السابقة تكون الموسوعة قد زادت على الكتابين بمقدار أحدى وأربعين مسألة فقهية ليست موجودة فيهما، فالحمد لله أولاً وآخراً، لا نحصي ثناء عليه.
أما مقارنة الموسوعة في المتون الحديثية فإنه لا وجه فيها للمقارنة إذا علمت أن أحاديث الموسوعة مع المكرر بلغت 770 حديثاً وأثراً فقط في الثلاثة مجلدات التي هي المياه والخلاء وسنن الفطرة، وكان كتاب الحيض والنفاس من قبل قد شمل ما يقدر بخمسائة وثلاثين حديثاً، وباب المسح على الحائل شمل مائة وثمانين حديثاً ليكون المجموع ألفاً وأربعمائة وثمانين حديثاً مع المكرر، ويتوقع أن تبلغ أحاديث كتاب الطهارة أكثر من ألفي حديث، فلا يكاد يوجد متن في الحديث يقاربها، فإذا علمت أن أحاديث السواك بلغت ما يقارب مائة حديث، علمت أن البحث من الناحية الحديثية عمل موسوعي شمل ما في السنن والمسانيد والمعاجم مما يمكن أن يكون دليلاً في الباب، ولم يقتصر العمل على جمع هذه الموسوعة الحديثية بل خرجت أحاديثها، وأوليت متونها عناية خاصة، في بيان الشاذ والمحفوظ منها مع تتبع أحكام العلماء المتقدمين وما نقل عنهم في بيان بعض العلل الخفية، وقدمت تراجم للرواة(1/9)
المختلف فيهم فقط طلباً للاختصار، ونقلت تراجمهم من أمهات كتب التراجم، ولم أقتصر على التهذيب، وإن كان فيه كفاية فكنت أنقل كلام أبي حاتم من الجرح والتعديل، وكذا كلام يحيى بن معين والقطان وأحمد والبخاري من التاريخ الكبير والأوسط، ومن ضعفاء العقيلي ومن الثقات لابن حبان ومن غيرها من كتب الجرح والتعديل، فجاء الكتاب ولله الحمد أشبه ما يكون بالفتح، ولذلك بلغ كتاب الطهارة ما يقارب اثني عشر مجلداً في عمل غير مسبوق، وأسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يمن علي لإكمال هذا المشروع الموسوعي الذي إن بلغني الله إكماله فإنه سيكون إضافة حقة للمكتبة الإسلامية، وإن أراد الله بحكمته غير ذلك فقد بينت منهجاً يمكن أن يكمل المشروع من بعدي، ولو تبنى المشروع مؤسسة، وكان معي فريق يساعدني على إكمال هذه الموسوعة لأنجزت في زمن قياسي، والله المستعان وحده والموفق.
خطة البحث في هذا الكتاب
أحكام المياه، ويشتمل على مقدمة، وأبو اب، ويشتمل كل باب منها على فصول، والفصول على مباحث وفروع ومسائل، على النحو التالي:
توطئة: منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة.
المقدمة: وفيها ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الطهارة.
المبحث الثاني: تعريف النجاسة.(1/10)
المبحث الثالث: بيان الأصل في المياه والأعيان.
الباب الأول: أقسام المياه.
الباب الثاني: الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه.
الباب الثالث: حكم رفع الحدث وإزالة الخبث من ماء زمزم.
الباب الرابع: في الماء المتغير، وفيه فصول:
الفصل الأول: في الماء المتغير بالطاهرات.
وفيه مباحث:
المبحث الأول: الماء المتغير بطاهر غير ممازج
المبحث الثاني: الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه
المبحث الثالث: الماء المتغير بمكثه
المبحث الرابع: الماء المتغير بالملح.
الفرع الأول: الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به.
الفرع الثاني: الخلاف في ماء البحر.
المبحث الخامس: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه.
الفرع الثاني: خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ.
الفصل الثاني: في الماء المتغير بنجاسة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الماء المتغير بمجاورة النجاسة.
المبحث الثاني: الماء المتغير بمخالطة النجاسة.(1/11)
الباب الخامس: في الماء المستعمل.
الفصل الأول: حكم الماء المستعمل في رفع الحدث.
الفصل الثاني: الماء المستعمل في طهارة مستحبة.
الفصل الثالث: الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة.
الفصل الرابع: الماء المستعمل في التبرد والنظافة.
الفصل الخامس: الماء المستعمل في غمس يد القائم من نوم الليل.
الفرع الأول: حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء.
الفرع الثاني: هل الحكم خاص في من قام من نوم الليل.
الفصل السادس: الماء المستعمل في إزالة النجاسة.
الباب السادس: في الكلام على فضل الوضوء.
الفصل الأول: حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم.
الفصل الثاني: في فضل وضوء المرأة.
الفصل الثالث: في فضل وضوء الرجل.
الباب السابع: في الشك والاشتباه.
الفصل الأول: في الشك في الماء ونحوه.
الفصل الثاني: إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس.
الفصل الثالث: إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر.
الفصل الرابع: إذا اشتبه ثياب طاهرة بمحرمة أو نجسة.
الفصل الخامس: في الإخبار بنجاسة الماء.(1/12)
المبحث الأول: إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء.
المبحث الثاني: أذا أخبره صبي عن نجاسة الماء.
المبحث الثالث: إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء.
المبحث الرابع: في السؤال عن الماء.
الباب الثامن: في الماء النجس.
الفصل الأول: في الماء القليل إذا لاقته نجاسة ولم يتغير
الفصل الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة
المبحث الأول: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فغيرته
المبحث الثاني: في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره.
فرع: حكم ماء بئر المقبرة.
الفصل الثالث: في المائع غير المائي تخالطه النجاسة.
الفصل الرابع: في الماء المسخن.
المبحث الأول: الماء المسخن بنجس.
المبحث الثاني: الماء المسخن بالشمس.
الباب التاسع: في تطهير الماء المتنجس.
هذا فيما يتعلق في كتاب المياه، وأرجو أن أكون أتيت على أكثر مسائل المياه، وأما خطة البحث في باب الآنية فهي كالتالي.
الفصل الأول: في الأواني الثمنية من غير الذهب والفضة.
الفصل الثاني: في أواني الذهب والفضة.
المبحث الأول: في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة.(1/13)
المبحث الثاني: في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
المبحث الثالث: في حكم الطهارة من آنية الذهب والفضة.
المبحث الرابع: في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة.
الفصل الثالث: في الأواني المضببة بالذهب والفضة.
المبحث الأول: في تضبيب الأواني بالذهب.
المبحث الثاني: خلاف العلماء في التضبيب بالفضة.
الفصل الرابع: في آنية الكفار.
الفصل الخامس: في الأواني المتخذة من الميتة.
المبحث الأول: في الأواني المتخذة من جلود الميتة.
المبحث الثاني: في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها.
المبحث الثالث: في الآنية المتخذة من شعر الميتة، وصوفها ووبرها.
هذا في ما يتعلق بخطة هذا المجلد، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل العمل خالصاً لوجهه، وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن ينفع به، وأنه يجعله من العمل الصالح الذي لا ينقطع، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه أبو عمر دبيان بن محمد الدبيان.
السعودية- القصيم- بريدة.(1/14)
توطئة
منهج الباحث في الشذوذ وزيادة الثقة.
نظراً إلى أن الخلاف في بعض المسائل الأصولية ينبني عليها تضعيف أو تصحيح كثير من الأحاديث، والخطأ في مسألة أصولية واحدة يعني: الخطأ في عشرات المسائل المتفرعة من تلك المسألة، فكم من خطأ أصولي أوقع في أخطاء كثيرة، وأذكر بعض الأمثلة:
المثالث الأول:
يرى بعض الباحثين أن فعل الرسول b إذا عارض قوله، حمل الفعل على أنه خاص بالنبي b، ولا يحاول أن يجمع بين الفعل والقول وذلك بحمل النهي على الكراهة والأمر على الاستحباب، ولا شك أن هذا القول خطأن ولا تثبت الخصوصية إلا بدليل صريح أن هذا الفعل خاص بالنبي b، ومثل هذا القول لقائله لو أحصينا المسائل التي خالف فيها القول الراجح بسبب هذا المنهج لجاءت مسائل كثيرة متفرقة على أبواب الفقه، هذا مثال، وقس عليه غيره.
مثال آخر:
أخذ بعضهم من الأمر المطلق بقوله b: خذوا عني مناسككم. وقوله b: صلوا كما رأيتموني أصلي أن الأصل في جميع أفعال الحج والصلاة الوجوب، إلا لصارف وقرينة يدل على أن الحكم فيها للاستحباب.
ولا شك أن الاستدلال بمثل هذا الأمر العام المشتمل على أحوال وهيئات، وصفات وأقوال، أحكامها مختلفة، لا أرى أن يستدل على وجوبها بهذا العموم. فقوله b: " خذوا عني مناسككم " يدل على(1/15)
كونه مشروعاً، وأنه من أفعال المناسك، أما دلالته على الوجوب فيحتاج إلى دليل خاص، كما أن دلالته على الشرطية أو الركنية يحتاج إلى دليل خاص كذلك. فإذا كان ورود الأمر الخاص فيه نزاع في دلالته على الوجوب كما هو معلوم في أصول الفقه، فما بالك في حديث: "خذوا عني مناسككم" والذي يشمل جميع أفعال المناسك.
ولأهمية هذه المسألة رأيت أيت أن أذكر منهجي في مسائلة مهمة يختلف فيها الاجتهاد من باحث لآخر، ويترتب على الخلاف فيها اختلاف في الحكم على مئات الأحاديث صحة وضعفاً، فرأيت أن أقدم ما آراه صواباً مدعوماً بالحجة في منهج المحدثين في الشذوذ وزيادة الثقة.
ومسألة الشذوذ مسألة شائكة مترامية الأطراف، ومن أكبر أسس العلة تصحيحاً وتضعيفاً، وقد خاض في هذه المسألة طوائف من العلماء مختلفة مشاربهم، خالفوا فيها جمهور المحدثين، على رأسهم جمهور الأصوليين المتأثرين بعلم الكلام، البعيدين كل البعد عن الممارسة والتطبيق في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وبيان عللها، وتأثر كثير من طلبة العلم بمنهج الأصوليين، وأصبح منهج جمهور المحدثين غير معمول به عند كثير من الطلبة، وممن له عمل في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وليست هذه هي الجناية الوحيدة من الأصوليين على مصطلح الحديث، فقد أقحموا مباحث كثيرة، ونشروا أراء لم تكن معروفة عند أهل الحديث، وليس هذا مجال بحثها.
ومما زاد الطين بلة أن الحافظ ابن حجر رحمه الله قرر في نخبة الفكر رأي الأصوليين واعتمده، فانتشر هذا الرأي بسبب انتشار النخبة، بينما الحافظ نفسه ضعف ما رجحه في النخبة في كتابه القيم النكت على مقدمة ابن(1/16)
الصلاح، ورد عليه في كلام طويل أوردت بعضه في هذا البحث.
ولم أقصد في هذا البحث أن أتوسع في هذه المسألة، وإنما أردت أن أعطي إشارات ليفهم منها القارئ منهج جمهور المحدثين، وليعلم سبب تضعيفي لبعض الزيادات في بعض الأحاديث التي قد تكون في الصحيحين أو في بعضهما، وأشهر الأقوال في قبول زيادة الثقة ما يلي:
القول الأول: منهج الفقهاء.
ذهب جمهور الفقهاء والأصوليين إلى قبول زيادة الثقة، ما لم تكن منافية لرواية من هو أوثق منه، ومعنى منافية: أي يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى (1) . واستدلوا على ذلك:
أولاً: قالوا: إن الراوي إذا كان ثقة، وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً، فكذلك انفراده بالزيادة.
وأجيب عن هذا
قال الحافظ في النكت: هناك فرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله، وبين تفرده بالزيادة؛ لأن تفرده بالحديث من أصله لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات، إذ لا مخالفة في روايته لهم بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أوثق منه حفظاً، وأكثر عدداً، فالظن غالب بترجيح روايتهم له على روايته (2) . اهـ
وقال أيضاً في النكت: الحديث الذي يتحد مخرجه، فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه،
_________
(1) انظر المنهل الروي (ص: 58) ، الكفاية في علم الرواية (ص: 424،425) .
(2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/691) .(1/17)
يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما إما متناً أو إسناداً، فكيف تقبل زيادته، وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إذا كان شيخهم ممن كان يجمع حديثه، ويعتنى بمروياته، كالزهري وأضرابه بحيث يقال: لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها، ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في مثل هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة (1) .
الدليل الثاني للفقهاء:
قالوا: من الجائز أن يقول الشارع كلاماً في وقت، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر، فيحضره غير الأول، ويؤدي كل منهم ما سمع، وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام، فيسمعه ناقصاً، ويضبطه الآخر تاماً، وينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام، ويتأخر الآخر، وبتقدير حضورهما، فقد يذهل أحدهما، أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل، أو غير ذلك من الشواغل، ولا يعرض لمن حفظ الزيادة، ونسيان الساكت محتمل، والذاكر مثبت، وغاية ما فيه أنه لم يذكر الزيادة.
وأجيب:
قال الحافظ في النكت: إن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو في زيادة بعض الرواة التابعين فمن بعدهم، وأما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في قصة آخر من يخرج من النار، وأن الله يقول له بعد أن يتمنى ما يتمنى: لك ذلك ومثله معه. قال
_________
(1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/688) .(1/18)
أبو سعيد رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله b يقول: لك ذلك، وعشرة أمثاله.
ثم قال الحافظ: وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث بقبولها من غير الحافظ، حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وأنفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد منهم بها دونهم، مع توافر دواعيهم على الأخذ عنه، وجمع حديثه، يقتضي ريبة توجب التوقف فيها (1) .
قلت: واضح أن الفقهاء عند ما ساقوا دليلهم الثاني كانوا لا يعلمون من طريقة المحدثين إلا ما يعرفونه من حلق تدريس الفقه، فقد يحضر طالب متقدم، ويتأخر آخر، فيسمع المتقدم قبل المتأخر، إن هذا الكلام لا يتمشى مع طريقة المحديثين والعنابة بمروياتهم، وربما امتحن حفظ الشيخ بعد سنوات من تحديثه، فإذا زاد فيه أو نقص كان هذا دليلاً على عدم حفظه، وكانوا بعضهم لا يحدث إلا على آداب معروفة من الطهارة وقصد التحديث، بل إنك تجد المحدثين يفرقون بين ما سمعوه في المذاكرة، وإن كان على سبيل الرواية، وبين غيره؛ لأن المذاكرة قد يتساهل الشيخ في النص المروي.. فلله درهم!! كيف حفظ الله بهم دينه، وأين هذا من طريقة الفقهاء والأصوليين، وما أبعد التنظير النظري عن التطبيق العملي.
القول الثاني: قول جمهور المحدثين.
قالوا: إن زيادة الثقة لا تقبل مطلقاً، ولا ترد مطلقاً، بل ينظر في كل
_________
(1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/692) .(1/19)
زيادة بحسبها، على حسب ما يقوم عندهم من القرائن المحتفة بالقبول أو الرد.
يقول ابن حجر عن منهج الشيخين: والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد، بل هو دائر مع القرائن، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديثٍ أعرضا في تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله (1) .
وقال الزيلعي رحمه الله: من الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل: وهي أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله أو دونه في الثقة، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها (2) . اهـ
وقال ابن دقيق العيد: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد، أن الحكم للزائد، فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول (3) .
وقد يقول بعض الحفاظ: هذه زيادة من ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، فيفهم من ليس له ممارسة واطلاع على عمل المحدثين أن الزيادة مقبولة مطلقاً إذا لم تكن منافية، وهذا فهم غير دقيق.
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لعلل الترمذي: وهكذا الدراقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في بعض المواضع
_________
(1) فتح الباري (10/203) .
(2) نصب الراية (1/336) .
(3) النكت على ابن الصلاح (2/604) .(1/20)
زيادات كثيرة من الثقات، ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك الموضع خاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها (1) .اهـ
فقد أراحنا ابن رجب رحمه الله في هذا التفسير من اعتراض بعض الطلبة ممن تخرج على النخبة، ولم يمارس التصحيح، فيقطع نصاً من كلام بعض العلماء، ويقول: انظر الإمام فلان يقول: هذه زيادة من ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، فلا يعني هذا الكلام قبول زيادة الثقة مطلقاً، كما لا يعني أيضاً: قبولها بشرط أن لا تكون منافية، فهذا التفصيل على منهج المحدثين غير معروف.
فإذا كان ترجيح الأئمة يدرو مع القرائن، فإني سوف أستعرض لك أشهر القرائن التي تكون سبباً في ترجيح الأئمة على زيادة بالحفظ أو الرد، فمنها:
الأولى: الكثرة، وهي من أشهر القرائن وأوضحها. قال الشافعي رحمه الله: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد (2) .
(3) مثال ذلك، ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن ابن المنكدر، عن جابر مرفوعاً في إجابة المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته".
تفرد محمد بن عوف، عن علي بن عياش بزيادة: إنك لا تخلف الميعاد، كما في سنن البيهقي (3) ، فهذه الزيادة شاذة لمخالفة محمد بن عوف جماعة من
_________
(1) .
(2) الرسالة (ص: 281) ، وسنن البيهقي (2/25) .
(3) سنن البيهقي (1/410) .(1/21)
الحفاظ، منهم:
الأول: البخاري في صحيحه (1) .
الثاني: أحمد بن حنبل (2) ، ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (3) .
الثالث: محمد بن سهل البغدادي، كما في سنن الترمذي (4) .
الرابع: إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، كما في سنن الترمذي (5) .
الخامس: محمد بن يحيى الذهلي، كما في سنن ابن ماجة (6) .
السادس: أبو زرعة الدمشقي، كما في شرح معاني الآثار (7) .
السابع: موسى بن سهل الرملي، كما في صحيح ابن خزيمة (8) .
الثامن: محمد بن جعفر السمناني، كما في سنن ابن ماجه (9) .
التاسع: العباس بن الوليد الدمشقي، كما في سنن ابن ماجه (10) .
العاشر: عمرو بن منصور النسائي، كما في سنن النسائي (11) .
_________
(1) رقم (614) .
(2) المسند (3/354) .
(3) رقم (529) .
(4) رقم (211) .
(5) الرقم السابق.
(6) رقم (722) ، وابن حبان (1689) .
(7) شرح معاني الآثار (1/146) .
(8) رقم (420) .
(9) رقم (722) .
(10) الرقم السابق.
(11) رقم (680) .(1/22)
فاتفاق العشرة على عدم ذكر زيادة محمد بن عوف، يدل على ضبطهم، ووهمه.
مثال آخر:
(4) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع،
عن ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي b وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت. ورواه مسلم (1) .
وقد رواه الطيالسي (2) ، وأحمد (3) ، وابن أبي شيبة (4) ، وأبو داود (5) ، والترمذي (6) ، والنسائي في الكبرى وفي المجتبى (7) ، وابن ماجه (8) ، والدرامي (9) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (10) ، وابن حبان (11) ، والبيقهي
_________
(1) روه البخاري (473) ، ومسلم (749) .
(2) رقم (1932) .
(3) المسند (2/26) .
(4) المصنف (2/74) .
(5) رقم (1295) .
(6) رقم (597) .
(7) في الكبرى (472) ، والمجتبى (1666) .
(8) برقم (1322) .
(9) برقم (1458) .
(10) (1/334) .
(11) برقم (2482) .(1/23)
(1) ، من طريق علي البارقي، وهو صدوق عن ابن عمر، بلفظ: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. بزيادة: كلمة (والنهار) .
وقد رواه جماعة عن ابن عمر بدون هذه الزيادة، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
الأول: نافع كما في موطأ مالك (2) ، ومسند أحمد (3) ، وصحيح البخاري (4) ، ومسلم (5) ، وأبي داود (6) ، والترمذي (7) ، والنسائي في الكبرى (8) ، والمجتبى.
الثاني: سالم، كما في مصنف ابن أبي شيبة (9) ، وأحمد (10) ، والبخاري (11) ، ومسلم (12) ، والنسائي (13) ، والطبراني في مسند الشاميين (14) .
_________
(1) السنن الكبرى (2/487) .
(2) الموطأ (1/123) .
(3) المسند (2/5) .
(4) برقم (473،990،998) .
(5) برقم (729،749) .
(6) برقم (1326) .
(7) برقم (437) .
(8) في الكبرى (1399) ، وفي المجتبى (1670،1671) .
(9) (2/74) .
(10) المسند (2/133) .
(11) برقم (1137) .
(12) برقم (749) .
(13) المجتبى (1668،1672) .
(14) برقم (642) .(1/24)
الثالث: عبد الله بن دينار، كما في موطأ مالك (1) ، ومصنف ابن أبي شيبة (2) ، والبخاري (3) ، ومسلم (4) ، والنسائي (5) .
الرابع: عبد الله بن شقيق، كما في مصنف ابن أبي شيبة (6) ، وأحمد (7) ، ومسلم (8) ، وأبي داود (9) .
الخامس: طاووس، كما في مصنف ابن أبي شيبة (10) ، وأحمد (11) ، ومسلم (12) ، والنسائي (13) .
السادس: أبو سلمة، كما في مسند أحمد (14) ، وسنن النسائي (15) ،
_________
(1) برقم (269) .
(2) المصنف (2/74) .
(3) برقم (991) .
(4) برقم (749) .
(5) برقم (1694) .
(6) المصنف (2/74) .
(7) المسند (2/40) .
(8) برقم (749) .
(9) برقم (1421) .
(10) المسند (7/313) .
(11) المسند (2/30،113) .
(12) صحيح مسلم (146-749) .
(13) برقم (1667) .
(14) (2/10) .
(15) رقم (1669) .(1/25)
السابع: القاسم بن محمد كما في صحيح البخاري (1) ، والنسائي (2) .
الثامن: حميد بن عبد الرحمن بن عوف، كما في مصنف عبد الرزاق (3) ، ومسند أحمد (4) ، وصحيح مسلم (5) ، والنسائي (6) ، وأبي عوانة (7) ، وشرح معاني الآثار (8) .
التاسع: عبيد الله بن عبد الله بن عمر، كما في صحيح مسلم (9) .
العاشر: عقبة بن حريث، كما في مسند أحمد (10) ، وصحيح مسلم (11) ، ومسند أبي عوانة (12) ، والبيهقي (13) .
الحادي عشر: لا حق بن حميد أبو مجلز، كما في سنن ابن ماجه (14) .
_________
(1) برقم (993) .
(2) برقم (1692) .
(3) برقم (4677) .
(4) المسند (2/134) .
(5) برقم (749) .
(6) برقم (1673) .
(7) مسند أبي عوانة (2/331) .
(8) (2/278) .
(9) برقم (749) .
(10) المسند (2/44) .
(11) برقم (749) .
(12) (2/330) .
(13) سنن البيهقي (2/486) .
(14) برقم (1175) .(1/26)
الثاني عشر: أنس بن سيرين كما في مسند أحمد (1) ، والبخاري (2) .
الثالث عشر: محمد بن سيرين، كما في مصنف عبد الرزاق (3) ، ومسند أحمد (4) .
الرابع عشر: عطية بن سعد العوفي، كما في مسند أحمد (5) .
الخامس عشر: عقبة بن مسلم، كما في شرح معاني الآثار (1/279) .
السادس عشر: عقبة بن سعد، كما في مسند أحمد (2/155) .
السابع عشر: سعد بن عبادة كما عند الطبراني في الصغير (1/125) .
فهؤلاء سبعة عشر راوياً فيهم من هو من أخص أصحاب ابن عمر مثل سالم ونافع، ومنهم ثمانية حفاظ في الصحيحين أو في أحدهما، كلهم يروون هذا الحديث وليس فيه ما ذكره علي البارقي.
قال النسائي كما في سننه عن زيادة والنهار: هذا الحديث عندي خطأ والله أعلم. اهـ
وضعف الزيادة يحيى بن معين، وقال: مَنْ عليّ الأزدي حتى أقبل منه؟! (6) .
وضعف الزيادة ابن تيمية (7) .
_________
(1) المسند (2/31) .
(2) برقم (995) .
(3) برقم (4675) .
(4) المسند (2/32،33) .
(5) المسند (2/155) .
(6) الفتح (2/479) .
(7) قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/359) عن زيادة البارقي هذا: يرويه الأزدي، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، وهو خلاف ما رواه الثقات المعروفون عن ابن عمر؛ فإنهم رووا ما في الصحيحين: أنه سئل عن صلاة الليل؟ فقال: " صلاة الليل مثنى مثنى , فإذا خفت الفجر فأوتر بواحدة"، ولهذا ضعف الإمام أحمد وغيره من العلماء حديث البارقي، ولا يقال: هذه زيادة من الثقة، فتكون مقبولة، لوجوه:
أحدهما: أن هذا متكلم فيه.
الثاني: أن ذلك إذا لم يخالف الجمهور، وإلا فإذا انفرد عن الجمهور ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره.
الثالث: أن هذا إذا لم يخالف المزيد عليه، وهذا الحديث قد ذكر ابن عمر "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة". ومعلوم أنه لو قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة لم يجز ذلك، وإنما يجوز إذا ذكر صلاة الليل منفردة، كما ثبت في الصحيحين، والسائل إنما سأله عن صلاة الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد يجيب عن أعم مما سئل عنه، كما في حديث البحر " لما قيل له: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". لكن يكون الجواب منتظما كما في هذا الحديث، وهناك إذا ذكر النهار لم يكن الجواب منتظماً؛ لأنه ذكر فيه قوله:" فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة "، وهذا ثابت في الحديث لا ريب فيه. حتى قال: وهذه الأمور وما أشبهها متى تأملها اللبيب علم أنه غلط في الحديث، وإن لم يعلم ذلك أوجب ريبة قوية تمنع الاحتجاج به على إثبات مثل هذا الأصل العظيم. اهـ(1/27)
وقد روى ابن أبي شيبة والطحاوي في شرح معاني الآثار بسند صحيح عن ابن عمر، أنه كان يصلي بالليل مثنى مثنى، ويصلي بالنهار أربعاً، وهذا يؤكد خطأ البارقي (1) .
فاتفاق العدد الكثير على لفظ، وانفراد واحد عنهم بزيادة توجب ريبة في قبول زيادته، إذ لو كانت محفوظة كيف يغفل عنها هذا العدد الكثير ممن
_________
(1) انظر مصنف ابن أبي شيبة (2/74) ، وشرح معاني الآثار للطحاوي (1/334) .(1/28)
روى الحديث.
(5) مثال آخر. نقل الحافظ في النكت في حديث رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص، في بيع الرطب بالتمر نسيئة.
قال الدراقطني: قد رواه مالك وإسماعيل بن أمية، وأسامة بن زيد، والضحاك بن عثمان، عن أبي عياش، فلم يقولوا: نسيئة.
قال الدارقطني: واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه (1) .
فهذه أمثلة ثلاثة، وهي تفصح عن غيرها، فالقصد من ذكر ما سبق هو ضرب المثال، ولو استطرد الباحث في ذكر الأمثلة على رد أئمة الحديث زيادات خالف فيها الفرد الثقة من هم أكثر منه عدداً لجاء ذلك في رسالة خاصة.
القرينة الثانية: الحفظ: وهو أن يكون أحد الراويين أحفظ وأتقن وأضبط، فيقدم الأحفظ على الحافظ، والأوثق على الثقة.
قال الحازمي في الاعتبار في ذكر وجوه الترجيح: أن يكون أحد الراويين أتقن وأحفظ، بنحو ما إذا اختلف مالك وشعيب بن أبي حمزة في الزهري، فإن شعيباً وإن كان حافظاً غير أنه لا يوازي مالكاً في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد فيه بوناً بعيداً (2) .
القرينة الثالثة: الاختصاص بالراوي، فأبو معاوية الضرير: محمد بن خازم من أثبت أصحاب الأعمش، فإذا خالفه غيره في الأعمش قدم عليهم،
_________
(1) النكت (2/689،690) .
(2) الاعتبار (ص: 11) .(1/29)
ومثله هشام بن حسان في ابن سيرين، وحماد بن سلمة في ثابت البناني. وهذا النوع كثير.
القرينة الرابعة: أن يكون المعروف عن الراوي خلافه.
(6) مثاله: حديث ابن عباس في شاة ميمونة، فرواه الشيخان وغيرهما بلفظ: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها.
والحديث مداره على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، واختلف على الزهري فيه:
فرواه ابن عيينة، كما في صحيح مسلم (1) ، عن الزهري بذكر الدباغ، بلفظ: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به.
ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، بدون ذكر الدباغ، وهاك بعض من وقفت عليهم:
الأول: الإمام مالك رحمه الله، وهو من أجل من روى عن الزهري، وروايته في الموطأ (2) ، ومن طريقه رواه أحمد (3) ، والنسائي في الكبرى، وفي المجتبى (4) .
الثاني: يونس بن يزيد، كما في صحيح البخاري (5) ، ومسلم (6) ، وصحيح ابن حبان (7) ، البيهقي في السنن (8) .
الثالث: صالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (9) ، وصحيح البخاري (10) ،ومسلم (11) ،
_________
(1) صحيح مسلم (363) .
(2) (2/498) .
(3) المسند (1/327) .
(4) الكبرى (4561) ، والمجتبى (4235) .
(5) البخاري (1421) .
(6) مسلم (363) .
(7) صحيح ابن حبان (1284) .
(8) سنن البيهقي (1/20،23) .
(9) المسند (1/262) .
(10) رقم (2221) .
(11) رقم (363) .(1/30)
وأبي عوانة (1) .
الرابع: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (2) ، وأحمد (3) ، وأبي عوانة (4) ، وابن المنذر في الأوسط (5) ، وأبي داود (6) ، والطبراني في المعجم الكبير (7) .
الخامس: الأوزاعي، كما في مسند أحمد (8) ، ومسند أبي يعلى (9) ، وابن حبان (10) ، والطبراني في الكبير (11) .
_________
(1) (1/210) .
(2) رقم (184،185) .
(3) (1/365) .
(4) (1/210) .
(5) رقم (832) .
(6) سنن أبي داود (4121) .
(7) (23/428) رقم 1038.
(8) (1/329) .
(9) رقم (2419) .
(10) رقم (1282) .
(11) (23/428) رقم 1039.(1/31)
السادس: حفص بن الوليد، كما في سنن النسائي الكبرى والصغرى (1) . وحفص روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب صدوق.
السابع: عقيل، فقد قال أبو داود في إثر حديث (4122) لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري ذكر الدباغ (2) . اهـ
الثامن: إسحاق بن راشد، كما في معجم الطبراني (3)
فهؤلاء ثمانية رواة لم يذكروا لفظ الدباغ، وفيهم من يعد من أجل من روى عن الزهري، كمالك ومعمر ويونس، والأوزاعي.
وقد رد الأئمة زيادة ابن عيينة بذكر الدباغ، لأن الزهري الذي مدار الحديث عليه ينكر الدباغ، ويفتي بجواز الانتفاع به، ولو لم يدبغ، والحديث حديثه، ومداره عليه، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (4) ، عن معمر، كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال، وممن طعن في هذه الزيادة الإمام أحمد قال ابن تيمية: ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في
_________
(1) الكبرى (4562) ، والصغرى (4236) .
(2) وقد وقفت على ورواية عقيل وفيها ذكر الدباغ، فقد أخرجها الدارقطني (1/41) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/20) وزاد: أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟، وفي رواية: أو ليس في الماء والدباغ ما يطهرها. إلا أنها من طريق يحيى بن أيوب عن عقيل. قال الذهبي في تنقيح التحقيق () : ذكر الدباغ في حديث عقيل مما انفرد به يحيى بن أيوب، وقد لين.
(3) (23/428) رقم 1040.
(4) المصنف (1/62) ، وأخرجه أحمد (1/365) ، وأبو داود (4122) من طريق عبد الرزاق به.(1/32)
صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث (1) .
فلما كان معروفاً عن الزهري خلاف ما زاده ابن عيينة اعتبر ذلك قرينة على وهمه، ولم تعتبر زيادته محفوظة.
القرينة الخامسة: الاختلاف على الراوي، فكثرة الاختلاف على الراوي في لفظ الحديث دليل على عدم ضبطه، فيقدم الراوي الذي لم يختلف عليه، على الراوي الذي اختلف عليه.
فهذه بعض القرائن، وهي ليست محصورة؛ لأن أسباب الترجيح كثيرة، وهي أكثر من أن تحصر، وما ذكرته إنما على سبيل التمثيل، وكل حديث له قرينة خاصة تستدعي ترجيح هذا اللفظ على آخر، والله أعلم.
وبقي قولان في المسألة:
أحدهما: عدم قبول الزيادة مطلقاً، أي ترجيح الموقوف على المرفوع، والمرسل على الموصول، والناقص على الزائد (2) .
قال ابن الصلاح: الإرسال نوع قدح في الحديث، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل (3) .
وثانيهما: قبول زيادة الثقة مطلقاً، وهذا رأي جماعة من أئمة الفقه والأصول (4) .
_________
(1) انظر مسائل أحمد رواية عبد الله (1/38) رقم 43، ومجموع الفتاوى (21/101) .
(2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/604) .
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص: 94) .
(4) الكفاية (ص: 411-425) .(1/33)
هذا ما أردت الإشارة إليه، وقد تبين لنا أن عمل أئمة الحديث من الدقة بحيث تكون كل زيادة معرضة للنقد، فتجري مقارنة بين ألفاظ جميع من روى الحديث عن هذا الشيخ، وينظر في ما اتفقوا عليه، وتمحص تلك الزيادة التي قد يزيدها بعض الرواة، هل تابعه عليها أحد، أم لا؟ وهل من ذكرها أحفظ ممن لم يذكرها أم لا؟ فدراسة الاسناد سهلة جداً، وهي كد كثير من المتأخرين مع الأسف، فمعرفة هل الرواي ثقة أو ضعيف ليس عملاً شاقاً، فيكفي أن يقلب الباحث التقريب ليعرف درجة الراوي في الحفظ، ولكن دراسة المتن، والعناية به، ومقارنة المتون بعضها ببعض، لينظر تصرف بعض الرواة في المتن، وروايتهم له بالمعنى، فإن الفهم قد يدخله ما يدخله، والضبط عند الرواة ليس بدرجة واحدة، ورحم الله الإمام أحمد حين كان يتهيب في قبول زيادة من إمام في الحفظ مثل الإمام مالك حتى وجده قد توبع.
قال الترمذي في العلل الصغير: روى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: فرض رسول الله b زكاة الفطر في رمضان على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير. فزاد مالك كلمة (من المسلمين)
قال ابن رجب في شرحه لهذا النص: قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك (من المسلمين) يعني: حتى وجده من حديث العمريين، قيل له: محفوظ عندك (من المسلمين) ؟ قال: نعم. قال ابن رجب: وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات، ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة (1) .اهـ والله أعلم.
_________
(1) شرح علل الترمذي (ص: 239) .(1/34)
المقدمة(1/35)
[صفحة فارغة](1/36)
المبحث الأول
تعريف الطهارة
الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة
جاء في اللسان: الطهر: نقيض الحيض، والطهر: نقيض النجاسة، والجمع أطهار، وقد طَهَرَ يَطْهُر وطَهُرَ طُهْراً وطهارة المصدران عن سيبويه.
وفي الصحاح طَهَر وطَهُر بالضم: طهارة فيهما.
وطَهَّرته: أنا تطهيراً وتَطَهَّرت بالماء، ورجل طاهر.
وقال أيضاً: وتَطَهَّرت المرأة: اغتسلت. وطَهَّره بالماء: غسله.
واسم الماء: الطَّهُور، وكل ماء نظيف طَهُور. وماء طَهُور: أي يتطهر به، وكل طهور طاهر، وليس كل طاهر طهوراً. قال الأزهري: وكل ما قيل في قوله عز وجل: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (1) ، فإن الطهور في اللغة: هو الطاهر المطهر؛ لأنه لا يكون طَهُوراً إلا وهو يتطهر به، كالوضوء: هو الماء الذي يتوضأ به، والنشوق: ما يستنشق به، والفطور: ما يفطر عليه من شراب أو طعام، وسئل رسول الله b عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته: أي المطهر أراد أنه طاهر يطهر.
وقال الشافعي رضي الله عنه: كل ماء خلقه الله نازلاً من السماء، أو نابعاً من عين في الأرض، أو بحر لا صنعة فيه لآدمي غير الاستقاء، ولم يغير لونه شيء يخالطه، ولم يتغير طعمه منه، فهو طهور، كما قال الله عز وجل، وما عدا ذلك من مار ورد، أو ورق شجر، أو ماء يسيل من كرم، فإنه وإن كان طاهراً فليس بطهور، وفي الحديث: لا يقبل الله صلاة بغير طهور.
_________
(1) الفرقان: 48.(1/37)
قال ابن الأثير: الطُهور بالضم التطهر، وبالفتح الماء الذي يتطهر به كالوَضُوء والوُضُوء والسَحُور والسُحُور.
وقال سيبويه: الطَهور بالفتح يقع على الماء والمصدر معاً، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون الحديث بفتح الطاء وضمها، والمراد بهما التطهر. والماء الطَهُور بالفتح: هو الذي يرفع الحدث، ويزيل النجس؛ لأن فعولاً من أبنية المبالغة، فكأنه تناهى في الطهارة، والماء الطاهر: كالمستعمل في الوضوء والغسل.
والمطهرة: الإناء الذي يتوضأ به، ويتطهر به.
والطهارة: اسم يقوم مقام التطهر بالماء: الاستنجاء والوضوء.
والطهارة: فضل ما تطهرت به، والتطهر: التنزه، والكف عن الإثم وما لا يحل، ورجل طاهر الثياب: أي منزه، ومنه قول الله عز وجل في ذكر قوم لوط وقولهم في مؤمني قوم لوط {إنهم أناس يتطهرون} (1) ، أي يتنزهون عن إتيان الذكور.
وقيل: يتنزهون عن أدبار الرجال والنساء، قاله قوم لوط تهكماً، والتطهر: التنزه عما لا يحل، وهم قوم يتطهرون: أي يتنزهون من الأدناس، وفي الحديث: " السواك مطهرة للفم " ورجل: طهر الخلق، وطاهره، والأنثى طاهرة وإنه لطاهر الثياب: أي ليس بذي دنس في الأخلاق، ويقال: فلان طاهر الثياب، إذا لم يكن دنس الأخلاق
قال امرؤ القيس: ثياب بني عوف طهارى نقية...
_________
(1) الأعراف: 82.(1/38)
...............
وقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (1) معناه: وقلبك فطهر، وعليه قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه... ليس الكريم على القنا بمحرم
أي شككت قلبه. وقيل: معنى وثيابك فطهر: أي نفسك.
وقيل: معناه لا تكن غادراً، فتدنس ثيابك؛ فإن الغادر دنس الثياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر: دنس الثياب.
وقيل: معناه: وثيابك فقصر؛ فإن تقصير الثياب طهر؛ لأن الثوب إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن تصيبه نجاسة، وقصره يبعده من النجاسة.
وقيل معنى قوله: وثيابك فطهر، يقول: عملك فأصلح، وروى عكرمة، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وثيابك فطهر} يقول: لا تلبس ثيابك على معصية، ولا على فجور وكفر، وأنشد قول غيلان:
إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنعا
والتوبة التي تكون بإقامة الحدود نحو الرجم وغيره طهور للمذنب تطهره تطهيراً، وقد طهره الحد.
وقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (2) ، يعني به الكتاب: لا يمسه إلا المطهرون عنى به الملائكة. وكله على المثل.
وقيل: لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة.
وقوله عز وجل: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} (3) ، أي:
_________
(1) المدثر: 4.
(2) الواقعة: 79.
(3) المائدة: 41.(1/39)
أن يهديهم (1) .
تعريف الطهارة اصطلاحاً:
تعريف الحنفية:
قال في الجوهرة النيرة: الطهارة: عبارة عن رفع حدث وإزالة نجس، حتى يسمى الدباغ والتيمم طهارة، وأعم من هذا أن يقال: عبارة عن إيصال مطهر إلى محل يجب تطهيره، أو يندب إليه، والمطهر: هو الماء عند وجوده، والصعيد عند عدمه (2) .
وجاء في مجمع الأنهر: الطهارة في الشرع (3) : نظافة المحل عن النجاسة حقيقة كانت أو حكمية، سواء كان لذلك المحل تعلق بالصلاة كالبدن والثوب والمكان، أو لم يكن كالأواني والأطعمة (4) .
تعريف المالكية:
جاء في مواهب الجليل: تطلق الطهارة في الشرع على معنيين:
أحدهما: الصفة الحكمية القائمة بالأعيان التي توجب لموصوفها استباحة الصلاة به أو فيه أوله، كما يقال: هذا الشيء طاهر، وتلك الصفة الحكمية التي هي الطهارة الشرعية: هي كون الشيء تباح ملابسته في الصلاة والغذاء.
_________
(1) لسان العرب (4/504-505) ، القاموس المحيط (ص: 554) ، العين (4/18،19) ، مختار الصحاح (2/379) ، وانظر أنيس الفقهاء (ص:46) .
(2) الجوهرة النيرة (1/3) ، وانظر البحر الرائق (1/8) ، والعناية شرح الهداية (1/12) .
(3) يبغي أن يقول: الطهارة في الاصطلاح، وإنما يكون التعريف بالشرع، إذا كانت حقيقته شرعية كالإيمان والصلاة، ونحوهما.
(4) مجمع الأنهر (1/9) .(1/40)
والمعنى الثاني: رفع الحدث وإزالة النجاسة، كما في قولهم: الطهارة واجبة.
وفي كلام القرافي: أن المعنى الأول حقيقة، والثاني مجاز، فلذلك عرفها ابن عرفة بقوله صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أوله، فالأوليان من خبث، والأخيرة من حدث انتهى. ويقابلها بهذا المعنى النجاسة، ولذلك عرفها ابن عرفة: بأنها صفة حكمية توجب لموصوفها منع استباحة الصلاة به أو فيه انتهى.
واعترض ابن عرفة على من عرف الطهارة بالمعنى الثاني فقال: وقول المازري وغيره: الطهارة إزالة النجس، أو رفع مانع الصلاة بالماء أو في معناه، إنما يتناول التطهير، والطهارة غيره لثبوتها دونه فيما لم يتنجس، وفي المطهر بعد الإزالة (1) .
تعريف الشافعية والحنابلة:
قالوا: الطهارة: هي ارتفاع الحدث، وما في معناه، وزوال الخبث (2) .
وقد اشتمل التعريف على ثلاثة أقسام، كل منها يطلق عليه طهارة شرعية.
الأول: رفع الحدث.
الثاني: إزالة النجاسة
_________
(1) مواهب الجليل (1/43،44) ، وانظر شرح حدود ابن عرفة (ص: 12) ، الخرشي (1/60،61) ، الفواكه الدواني (1/122) .
(2) انظر في كتب الشافعية: المجموع (1/123) ، أسنى المطالب (1/4) ، شرح البهجة (1/13) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/19) ، وانظر في كتب الحنابلة: كشاف القناع (1/23) ، المطلع على أبواب المقنع (ص: 5) .(1/41)
الثالث: ما في معناهما.
الأول: رفع الحدث.
لا شك أن ارتفاع الحدث يسمى طهارة شرعية، سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، فإذا توضأ الإنسان أو اغتسل من الحدث فقد تطهر، قال تعالى، بعد أن ذكر طهارة الوضوء من الحدث الأصغر والأكبر، في طهارة الماء والتيمم {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} (1) .
والذي لم يتطهر يقال له محدث بنص السنة.
(7) فقد جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " (2)
الثاني من أقسام الطهارة: إزالة النجاسة، فإذا أزيلت النجاسة عن المحل فقد حصلت له طهارة شرعية من هذه النجاسة.
(8) روى مسلم في صحيحه من طريق محمد بن سيرين، وهمام بن منبه كلاهما
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله b: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولا هن بالتراب (3) .
فالطهارة التي ذكرها رسول الله b لهذا الإناء ليست من الحدث،
_________
(1) المائدة: 6.
(2) البخاري (135) ، ومسلم (2ـ 225) .
(3) مسلم (91،29-279) .(1/42)
ولكنها طهارة من الخبث، وهي النجاسة، ومع ذلك اعتبرها الشارع طهارة شرعية، بل لو قيل: إن الطهارة من النجاسة هي الأصل في إطلاق الطهارة؛ لأن الطاهر عكس النجس، بخلاف طهارة الحدث فإنها ليست عن نجاسة، وقد لا يزال بها وساخة لم يكن القول بعيداً من حيث اللغة.
بهذه الأدلة تبين لنا أن رفع الحدث طهارة، وزوال النجاسة طهارة أيضاً. وقد جمع الله سبحانه وتعالى طهارة الحدث، وطهارة النجاسة في آية واحدة في سورة البقرة على القول الصحيح. قال تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} (1) . فقوله سبحانه: حتى يطهرن. أي من النجاسة، التي هي انقطاع دم الحيض. وقوله: فإذا تطهرن: أي من الحدث الأكبر بالغسل بعد الطهارة من الحيض.
النوع الثالث: هناك طهارة لا يرتفع بها الحدث، ولا تزال بها النجاسة، وهي مع ذلك طهارة شرعية. سماها الفقهاء: " في معنى ارتفاع الحدث، وفي معنى إزالة النجاسة.
فالطهارة التي في معنى ارتفاع الحدث كتجديد الوضوء، فهو طهارة شرعية، ومع ذلك لم يرتفع بها الحدث، لأن الحدث قد ارتفع، ومثله الأغسال المستحبة شرعاً، ومثله الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء.
والطهارة التي في معنى إزالة النجاسة طهارة المستحاضة، فإنه يحكم لها بالطهارة وإن كان الحدث مستمراً، ومثله من به سلس بول، ومن قال: إن هذه إستباحة وليست طهارة فالخلاف معه قريب من اللفظي (2) ، لأننا إذا
_________
(1) البقرة، آية: 122.
(2) وقد يقال: إنه خلاف معنوي، وله ثمرة، حيث إنهم يوجبون على المتيمم التيمم لكل صلاة، ولو لم يحدث، والمخالف لهم يبيح له الصلاة بتيممه ما لم يحدث، أو يمكنه استعمال الماء.(1/43)
أبحنا له فعل الصلاة، فقد حكمنا له بالطهارة. وقد قال الرسول b: لا يقبل الله صلاة بغير طهور " وقد سبق تخريجه. فلما أذن له شرعاً بالصلاة علم أنها هذه طهارته(1/44)
المبحث الثاني
تعريف النجاسة
تعريف النجاسة.
قال في القاموس: النجس ضد الطاهر.
وقال في كتاب العين: نجس: النجس الشيء القذر، وكل شيء قذرته فهو نجس (1) .
وقال في مختار الصحاح: نجس الشيء من باب طرب، فهو نجس بكسر الجيم وفتحها. قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} (2) ، وأنجسه غيره ونجسه: بمعنى (3) .
فقيل: النجس بفتح الجيم عين النجاسة وبكسرها ما لا يكون طاهراً
والنَّجْس والنِّجْس والنَّجَس: القذر من الناس ومن كل شيء قذرته.
ونَجِسَ الشيء بالكسر يَنْجَس نجساً، فهو نَجِسٌ، ونَجَسٌ.
ورجل نَجِسٌ ونَجَسٌ، والجمع: أنجاس.
وقيل: النجس يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد، رجل نجس، ورجلان نجس، وقوم نجس، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} (4) ، فإذا كسروا، ثنوا وجمعوا وأنثوا، فقالوا: أنجاس ونجسة.
_________
(1) العين (6/55) .
(2) التوبة: 28.
(3) مختار الصحاح (ص: 270) .
(4) التوبة: 28.(1/45)
وقال الفراء: نجس لا يجمع ولا يؤنث.
والنجس: الدنس
والنجس أيضاً: اتخاذ عوذة للصبي عند أهل الجاهلية، وقد نجس له ونجسه: عوذه. ويقال للمعوذ منجس (1) .
النجاسة اصطلاحاً:
هناك تعريفات كثيرة في النجاسة نقتصر على بعضها:
التعريف الأول:
قيل: النجاسة عين مستقذرة شرعاً (2) .
فقوله: " عين " خرج به الوصف؛ فإن النجاسة عين لها جرم محسوس، وليست من المعاني.
وقوله: " مستقذرة شرعاً " خرج به الأشياء المستقذرة بالطبع، ولم يأت الشرع بتنجيسها، كالمخاط والبصاق.
التعريف الثاني:
قال المتولي: النجاسة في اصطلاح الفقهاء: كل عين حرم تناولها على الإطلاق، مع إمكان التناول لا لحرمتها.
قال: وقولنا: على الإطلاق احتراز من السموم التي هي نبات؛ فإنها لا يحرم تناولها على الإطلاق، بل يباح القليل منها، وإنما يحرم الكثير الذي فيه ضرر. قال: وقولنا: مع إمكان التناول احتراز من الأشياء الصلبة؛ لأنه لا يمكن تناولها، وقولنا: لا لحرمته احتراز من الآدمي.
_________
(1) بتصرف يسير انظر لسان العرب (6/226،227) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/85) .(1/46)
قال النووي: وهذا الذي حدد به المتولي ليس محققاً فإنه يدخل فيه التراب والحشيش المسكر والمخاط والمني وكلها طاهرة مع أنها محرمة. وفي المني وجه أنه يحل أكله، فينبغي أن يضم إليها لا لحرمتها أو استقذارها أو ضررها في بدن أو عقل والله أعلم (1) .
وزاد بعضهم قيداً آخر، وهو كونه في حالة الاختيار؛ لأن الضرورة لا تحريم معها (2) .
التعريف الثالث:
النجاسة: هي كل عين جامدة، يابسة أو رطبة أو مائعة، يمنع منها الشرع بلا ضرورة، لا لأذى فيها طبعاً، ولا لحق الله أو غيره شرعاً (3) .
وهذا التعريف قريب من التعريف الذي قبله، والتعريف الأول أرجح، لأنه أسهل وأسلم من غيره، وإن كان قد يعترض عليه بأن كسب الحجام خبيث، ومع ذلك ليس بنجس لكن قد يقال: إن الخبث هنا يعني الرديء، وليس الخبث الذي هو النجاسة، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/565) ، المنثور في القواعد (3/248) ، الإنصاف (1/26) .
(2) المطلع على أبواب المقنع (ص: 7) ، والمنثور في القواعد (3/248) ، أسنى المطالب (1/9) .
(3) الإنصاف (1/26) .(1/47)
المبحث الثاني
الأصل في المياه
الأصل في المياه الطهارة، بل الأصل طهارة الأعيان كلها (1) .
دليل هذه القاعدة.
الأول: الإجماع، وقد نقل الإجماع على هذا الأصل ابن تيمية، قال: الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل، وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك (2) .
وقال أيضاً: الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر (3) .
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (4) .
قال ابن تيمية على هذه الآية: التفصيل: التبيين، فبين سبحانه وتعالى أنه بين المحرمات، فما لم يبين تحريمه ليس بمحرم، وما ليس بمحرم فهو حلال، إذ ليس إلا حلال أو حرام (5) .
قال الشوكاني: حق استصحاب البراءة الأصلية، وأصالة الطهارة، أن
_________
(1) أحكام القرآن للجصاص (1/33) ، تفسير القرطبي (1/251) ،.
(2) مجموع الفتاوى (21/542،591) .
(3) المرجع السابق.
(4) الأنعام: 119.
(5) مجموع الفتاوى (21/536) .(1/48)
يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل، فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك، وإن عجز عنه، أو جاء بما لا تقوم به الحجة، فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة (1) .
وعليه فلا يطالب من يدعي طهارة عين أو إباحتها بالدليل، لأن دليله الأصل والبراءة، ولكن يطالب من زعم أن عيناً من الأعيان نجسة أو محرمة.
وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة، يحتاج إليه الفقيه في كثير من الأعيان المختلف في نجاستها.
_________
(1) السيل الجرار (1/31) .(1/49)
[صفحة فارغة](1/50)
الباب الأول
في أقسام المياه
اختلف العلماء في أقسام المياه:
فقيل: ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، وهو قول الجمهور (1) .
وقيل: الماء قسمان: طهور، ونجس. وهو رواية عن الإمام أحمد، وهى التي نص عليها في أكثر أجوبته (2) ، وذكره ابن تيمية مذهباً لأبي حنيفة (3) ،
_________
(1) أي في الجملة وإن اختلفوا في بعض أنواع المياه هل تلحق بالطاهر أم بالطهور، فالذي يعنينا أن الماء عندهم ثلاثة أنواع بمعنى أنهم أثبتوا قسم الطاهر وهو النوع المختلف فيه، وأما الطهور والنجس فلم يختلف أحد من أهل العلم في ثبوتهما.
انظر في مذهب الحنفية إثباتهم لقسم الطاهر في بدائع الصنائع (1/66، 67) ، وحاشية ابن عابدين "رد المحتار" (1/200،201) ، والبناية (1/349) ، وفتح القدير (1/87) ، تبيين الحقائق (1/19) .
وفي مذهب المالكية: المقدمات الممهدات (1/86) ، وبداية المجتهد (1/271) ، والكافي في فقه أهل المدينة (ص:15) .
وانظر في مذهب الشافعية: مغنى المحتاج (1/18) ، والمجموع (1/150) ، وكفاية الأخيار (1/23) ، والحاوي الكبير (1/46) .
وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/30) ، وشرح منتهى الإرادات (1/14) والفروع (1/79) ، والمبدع (1/41) .
(2) الفتاوى (21/25) . وانظر شرح الزركشي (1/119) والمغني (1/21) .
(3) مجموع الفتاوى (21/25) ، والذي في كتبهم إثبات الماء الطاهر في الماء المستعمل في طهارة شرعية (واجبة أو مستحبة) فالرواية المشهورة عنهم أنه طاهر غير مطهر، وقيل نجس ولم يأت في كتبهم البتة أنه طهور. والله أعلم.(1/51)
ومال إليه ابن قدامة (1) ، واختاره ابن تيمية (2) ، والشوكاني (3) .
أدلة القائلين بأن الماء ثلاثة أقسام:
الدليل الأول: من القرآن قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (4) .
وجه الاستدلال:
الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته.
أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك.
إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى التيمم (5) .
الدليل الثاني:
(9) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة،
عن أبي هريرة، عن النبي b قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (6) .
_________
(1) انظر المغني (1/21-22) ، والكافي (1/7) .
(2) مجموع الفتاوى (21/25) ، الإنصاف (1/22) .
(3) السيل الجرار (1/56،
(4) المائدة: 6.
(5) بتصرف - الفتاوى (21/24) ، والحاوي الكبير (1/48) ، والأوسط (1/257) .
(6) أحمد (2/237) .(1/52)
[الحديث صحيح] (1) .
_________
(1) الحديث اختلف في إسناده، فقيل: عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة به.
وتابع مالكاً إسحاق بن إبراهيم المزني، وعبد الرحمن بن إسحاق المدني، فروياه عن صفوان بن سليم به.
كما توبع صفوان بن سليم.
فقد تابعه الجلاح عند الحاكم (1/141) ، والبيهقي (1/3) من طريق عبيد بن شريك قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني الجلاح أبو كثير أن ابن سلمة المخزومي أخبره أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكر نحوه.
واختلف على الليث فيه:
فروه يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، كما سبق..
ورواه الإمام أحمد (2/378) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن الجلاح، عن المغيرة، عن أبي هريرة.
فالليث تارة يحدث به عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح كما فى رواية يحيى بن بكير عنه وتارة يحدث به عن الجلاح مباشرة كما فى رواية قتيبة بن سعيد عنه.
كما أن فى رواية يحيى بن بكير مخالفة أخرى. فيحيى أبي بن بكير فى روايتة جعل بين الجلاح وبين المغيرة سعيد بن سلمة كما في رواية مالك. بينما قتيبة جعل الجلاح يروى عن المغيرة مباشرة.
وهذا الاختلاف يمكن فيه الترجيح فلا يحكم له بالاضطراب، والراجح والله أعلم رواية يحيى بن بكيرعن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن الجلاح عن سعيد بن سلمة عن المغيرة عن أبي هريرة به. ورجحت رواية يحيى وإن كان قتيبة أحفظ منه وأضبط للأسباب التالية:
أولاً: أن يحيى بن بكير، قال فيه ابن عدى: كان جار لليث بن سعد، وهو من أثبت الناس فيه. انظر تهذيب التهذيب (11/238) ، ولم أجده في الكامل.
وقال فية الحافظ: (7580) : ثقة في الليث.
ثانياً: أن يحيى بن بكير لم ينفرد به. فقد توبع كما أخرج أبو عبيد فى كتابة الطهور (ص: 294) ، قال: حدثنا أبو النضر ويحيى بن بكير عن الليث به. وأبو النضر هو هاشم بن القاسم بن سلمة الليثى. قال فيه الحافظ (7256) : ثقه ثبت.
وقال بعضهم: إن الراوي عن يحيى هو عبيد بن عبدالواحد بن شريك فيه كلام. فقد جاء فى الترجمة من تاريخ بغداد (11/99) .
قال الدار قطنى: صدوق.
وقال أبو مزاحم موسى بن عبيد الله: كان أحد الثقات، ولم أكتب عنه فى تغيره شيئاً.
وعن محمد بن العباس قال: قرىء على علي ابن المنادى - وأنا أسمع- قال عبيد بن عبدالواحد بن شريك أبو محمد البزار: أكثر الناس عنه، ثم أصابه أذى فغيره فى آخر أيامه، وكان على ذلك صدوقاً. وقال إسماعيل بن على الخطبي: لم أكتب عنه شيئاً.....الخ ".
فالجواب: أنه لم يتفرد به عبيد بن شريك فقد تابعه القاسم بن سلام فى كتابه الطهور (294) .
والقاسم بن سلام إمام لايحتاج إلى من يترجم له.
ثالثاً: ومما يرجح أيضاً أن سعيد بن سلمة هو الراوي عن المغيرة كما في رواية يحيى بن بكير، أن النسائي قد رواه (59) عن قتيبة بن سعيد نفسه عن مالك عن صفوان بن سلمة عن المغيرة به، فرواية قتيبة بن سعيد عن مالك أرجح من روايته عن الليث.
واختلف على يزيد بن أبي حبيب فيه، فقد رواه الليث عن يزيد عن الجلاح عن سعيد بن سلمة عن المغيرة به كما سبق.
وخالفه محمد بن إسحاق عند الدارمي (728) ، والبيهقي في المعرفة (1/227) فرواه عن يزيد عن الجلاح عن عبد الله بن سعيد عن المغيرة عن أبيه عن أبي هريرة فأسقط ابن إسحاق سعيد بن سلمة ووضع بدلاً منه عبدالله بن سعيد كما أنه جعل بين المغيرة وبين أبي هريرة والد المغيرة. قال ابن حبان فى كتاب الثقات (5/410) : " من أدخل بينه وبين أبي هريرة أباه فقد وهم ".
والظاهر أن هذا من محمد بن إسحاق حيث لم يحفظ الحديث، فقد جاء الحديث عند البخارى فى تاريخه الكبير (2/1/رقم 1599) من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن جلاح عن عبدالله بن سعيد المخزومى عن المغيرة بن أبي يردة عن أبي هريرة.
فهذا ابن إسحاق لم يذكر والد المغيرة. ولكنه ذكر عبدالله بن سعيد بدلاً من سعيد بن سلمة.
وأخرجه البخارى أيضاً قال: قال سلمة حدثنا ابن إسحاق عن يزيد عن اللجلاج والصواب عن الجلاح كما نقله عنه البيهقى فى المعرفة (1/ 227) عن سلمة بن سعيد والصواب سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة حليف بني عبد الدار عن أبي هريرة. وهذا هو الصواب.
فأنت ترى أن محمد بن إسحاق تارة يذكر والد المغيرة وتارة يسقطه، وتارة يذكر سعيد بن سلمة وتارة يسقطه ويذكر بدلاً منه عبدالله بن سعيد، فهذا الاضطراب يسقط رواية محمد بن إسحاق لانه لم يحفظ الحديث ولكن لا ينبغى أن تعل به رواية الامام مالك عن صفوان، فقد أقام الإمام مالك إسناده، والله أعلم.
وقد صحح الحديث جماعة منهم:
البخاري فيما ذكره عنه الترمذي في " كتاب العلل " المفرد له قال: سألت محمداً عن حديث مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن أبي سلمة أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل..... وذكر الحديث. فقال: " هو حديث صحيح " نصب الراية (1/96) .
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح " سنن الترمذي (1/100، 101) .
وصححه ابن خزيمة كما في صحيحه (1/58، 59) . وابن حبان كما في الإحسان (1243) ، وابن المنذر، وقال ثابت: عن رسول الله b أنه قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته" كما في الأوسط (1/247) .
وقال البيهقي: " هو حديث صحيح كما قال البخاري " المعرفة (1/152) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد: " وهو عندي صحيح، لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء". التمهيد (16/219) .
وقال النووي: " حديث صحيح "، كما في المجموع (1/127) .
وصححه الدارقطني قال في العلل (9/13) : " وأشبهها بالصواب قول مالك ومن تابعه عن صفوان بن سليم ".، وصححه الحافظ ابن حجر كما في تلخيص الحبير (1/9 - 12) . وغيرهم كثير.
وضعفه الشيخ ابن دقيق العيد، جاء في نصب الراية عنه: " وهذا الحديث يعل بأربع علل:
العلة الأولى: جهالة سعيد بن سلمة، والمغيرة بن أبي بردة، وقالوا: لم يرو عن المغيرة إلا سعيد بن سلمة، ولا عن سعيد بن سلمة إلا صفوان بن سليم.
والجواب: أن سعيد بن سلمة قد روى عنه صفوان بن سليم، والجلاح أبو كثير،
قال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (10/480) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/364) . فارتفعت عنه جهالة العين والحال. وأما المغيرة بن أبي بردة
قال الآجري عن أبي داود: معروف. تهذيب التهذيب (10/229) .
وقال النسائي: ثقة. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: وصحح حديثه عن أبي هريرة في البحر ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن مندة والحاكم وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وآخرون. المرجع السابق. فهذا توثيق ضمني من هؤلاء، والله أعلم.
العلة الثانية: أنهم اختلفوا في اسم سعيد بن سلمة، فقيل: هذا، وقيل: عبد الله بن سعيد، وقيل سلمة بن سعيد.
والجواب: أن الصحيح أنه سعيد بن سلمة لأنها رواية مالك مع جلالته وهذا مع وفاق من وافقه، والاسمان الآخران من رواية محمد بن إسحاق وقد بينت فيما سبق أنه لم يحفظ الحديث وأن الخطأ جاء من قبله زيادة ونقصاً.
العلة الثالثة: الإرسال.
قال ابن عبد البر: " ذكر ابن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن المغيرة بن أبي بردة أن ناساً من مدلج أتوا رسول الله b.... الحديث.
قال: وهذا مرسل لا يقوم بمثله حجة. ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة قال الشيخ: وهذا مبني على تقديم إرسال الأحفظ على إسناد من دونه وهو مشهور في الأصول.
والجواب: أن يحيى بن سعيد الأنصاري قد اختلف عليه اختلافاً كبيراً جداً يسقط روايته. انظر العلل للدار قطني (9/11،13) .
فلا ينبغي أن تعل رواية سعيد بن سلمة بمثل هذا، ولذلك قال الدارقطني بعد أن بين الاختلاف على يحيى بن سعيد: " وأشبهها بالصواب قول مالك ومن تابعه عن صفوان بن سليم".
وقال البيهقي في المعرفة (1/231) بعد أن ساق الاختلاف على سعيد قال: " وهذا الاختلاف يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي، وقد أقام إسناده مالك بن أنس عن صفوان بن سليم، وتابعه على ذلك الليث بن سعد عن يزيد عن الجلاح أبي كثير، ثم عمرو بن الحارث عن الجلاح، كلاهما عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة فصار الحديث بذلك صحيحاً كما قال البخاري في رواية أبي عيسىعنه.
العلة الرابعة: الاضطراب.
فقد ذكروا الاضطراب في رواية كل من محمد بن إسحاق ويحيى بن سعيد الأنصاري. انظر نصب الراية (1/97) والعلل للداقطني (9/11،13) وقد بينت أن هذا يضعف روايتهما ولكن لا تعل به رواية الامام مالك عن صفوان بن سليم ومن تابعه، كما أن للحديث شاهدين سنأتي على ذكرهما في تخريج الحديث.
[تخريج الحديث]
أما حديث مالك، فتخريجه كالتالي:
الحديث هو في الموطأ (1/22) ، ولفظه عن أبي هريرة: جاء رجل إلى رسول الله b فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله b: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
ورواه عن مالك جماعة:
الأول: عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، رواه أحمد كما في إسناد الباب (2/237) ، وكذلك (2/393) ، وسنن الدارقطني (1/36) .
الثاني: قتيبة بن سعيد، عن مالك. كما في سنن الترمذي (69) ، النسائي في الكبرى (58) والصغرى (59، 332)
الثالث: القعنبي كما في سنن أبي داود (83) ، وابن حبان (1243، 5258) ، وسنن الدارقطني (1/36) ، والمستدرك (1/140،141) .
الرابع: هشام بن عمار، كما في سنن ابن ماجه (386) .
الخامس: محمد بن المبارك، كما في سنن الدارمي (729،2011) .
السادس: أبو سلمة الخزاعي، كما في مسند أحمد (2/361) .
السابع: عبد الله بن وهب، عن مالك، كما في صحيح ابن خزيمة (1/59) .
الثامن: الشافعي (1/23) ، وسنن البيهقي (1/3) ، تاريخ بغداد (9/129)
التاسع: أحمد بن إسماعيل المدني، كما في سنن الدارقطني (1/36) .
العاشر: بشر بن عمر، كما في المنتقى لابن الجارود (43) .
وتابع إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المزني، وعبد الرحمن بن إسحاق تابعا مالكاً، فروياه عن صفوان بن سليم.
فأما متابعة عبد الرحمن بن إسحاق، فقد أخرجها الحاكم في المستدرك (1/141) من طريق محمد بن المنهال ومحمد بن أبي بكر، كلاهما عن يزيد بن زريع، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، ثنا صفوان بن سليم به.
وأخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1/225) من طريق محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن زريع به.
وأما متابعة إسحاق بن إبراهيم المزني، فقد أخرجه الحاكم أيضاً (1/141) ومن طريقه البيهقي في المعرفة (1/225) من طريق سعيد بن كثير بن يحيى بن حميد الأنصاري، ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن صفوان بن سليم به.
كما توبع صفوان بن سليم.
فقد تابعه الجلاح أبو كثير عند الحاكم (1/141) ، والبيهقي في السنن (1/3) وفي المعرفة (1/226) من طريق عبيد بن شريك، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: حدثني الجلاح أبو كثير، أن ابن سلمة المخزومي أخبره، أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكر نحوه.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/478) وقال عبد الله - يعني ابن صالح كاتب الليث - حدثنا الليث حدثنا يزيد بن أبي حبيب به.
واختلف على الليث فيه:
فرواه يحيى بن بكير، عن الليث، عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، كما سبق..
ورواه الإمام أحمد (2/378) من طريق قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن الجلاح، عن المغيرة، عن أبي هريرة.
فالليث تارة يحدث به عن يزيد بن حبيب، عن الجلاح كما فى رواية يحيى بن بكير عنه وتارة يحدث به عن الجلاح مباشرة كما فى رواية قتيبة بن سعيد عنه.
كما أن فى رواية يحيى بن بكير مخالفة أخرى. فيحيى أبي بن بكير فى روايتة جعل بين الجلاح وبين المغيرة سعيد بن سلمة كما في رواية مالك. بينما قتيبة جعل الجلاح يروى عن المغيرة مباشرة.
ورواية يحيى بن بكير أرجح، كما أسلفت في أول التخريج، وذكرت مجموعة من الأوجه في كونها أرجح، يضاف إلى ذلك أن عمرو بن الحارث المصري تابع يزيد بن أبي حبيب، فقد رواه البخاري في التاريخ الكير (3/478) والبيهقي في المعرفة (1/227) من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة. فذكر في الإسناد عن الجلاح، عن سعيد بن سلمة.
وأما تخريج رواية ابن إسحاق، فهي كما يلي:
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/478) ، والدارمي (728) والبيهقي في المعرفة (1/227) من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن جلاح، عن عبد الله بن سعيد المخزومي، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي هريرة.
هكذا في رواية الدارمي والبيهقي، وليس في التاريخ الكبير، عن أبيه، وهذا الإسناد فيه مخالفتان:
الأولى: قوله: عبد الله بن سعيد المخزومي، والصواب سعيد بن سلمة.
الثاني: قوله: " عن أبيه " ولم يقل أحد عن أبيه إلا ابن إسحاق.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/478،479) من طريق سلمة بن الفضل الأبرش، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن اللجلاح، عن سلمة بن سعيد، عن المغيرة به، فانقلب اسمه من سلمة بن سعيد إلى سعيد بن سلمة.
وأخرجه البخاري (3/479) وعلقه البيهقي في المعرفه عنه (1/227) قال البخاري: وحدثني يوسف بن راشد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن اللجلاج، عن عبد الله بن سعيد المخزومي، عن مغيرة بن أبي بردة، الكناني، عن أبي هريرة.
قال البيهقي: قال البخاري: وحديث مالك أصح، وللجلاج خطأ.
قال البيهقي: الليث بن سعد أحفظ من ابن إسحاق، وقد أقام إسناده عن يزيد بن أبي حبيب، وتابعه على ذلك عمرو بن الحارث، عن الجلاح، فهو أولى أن يكون صحيحاً.
قال البيهقي: وقد رواه يزيد بن محمد القرشي، عن المغيرة بن أبي بردة، نحو رواية من رواه على الصحة، ثم ساق إسناده في المعرفة (1/228) أخبرنا علي بن محمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثنا عبيد بن شريك، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثني خالد بن يزيد، أن يزيد بن محمد القرشي حدثه عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، قال: أتى نفر من بني فراس إلى رسول الله b فقالوا: نصيد في البحر، فنتزود من الماء العذب، فربما تخوفنا العطش، فهل يصلح أن نتوضأ من ماء البحر، فقال: نعم توضأوا به، وحل ميت ما طرح.
ورواه الحاكم في المستدرك (1/142) حدثنا علي بن حمشاد العدل، ثنا عبيد بن عبدالواحد، ثنا ابن أبي مريم به. وإسناده حسن إن شاء الله.
وأما طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فأخرجه الدارقطني (1/37) ، والحاكم (1/142) من طريق عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وهذا إسناد ضعيف، لضعف عبد الله القدامي.
قال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبين لي من رواياته واضطرابه فيها ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره. الكامل (4/257) .
وقد ضعفه الدارقطني في غرائب مالك في مواضع بعبارات مختلفة مرة قال ضعيف ومرة قال غيره اثبت منه.
وقال ابن حبان: كان تقلب له الأخبار فيجيب فيها، كان آفته ابنه، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار، ولعله قلب له على مالك أكثر من مائة وخمسين حديثاً فحدث بها كلها، وعن إبراهيم بن سعد الشيء الكثير. روى عن إبراهيم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: سئل النبي b عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. المجروحين (2/39) .
وأما طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، فأخرجه الدارقطني (1/36) والحاكم (1/142) من طريق محمد بن غزوان، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهذا إسناد ضعيف من أجل محمد بن غزوان.
قال أبو زرعة: منكر الحديث. الجرح والتعديل (8/54) .
وقال ابن حبان: يقلب الأخبار، ويسند الموقوف، لا يحل الاحتجاج به. المجروحين (2/299) .
وأما طريق يحيى بن سعيد، فقال البيهقي في سننه (1/3) اختلف فيه على يحيى بن سعيد:
فروي عنه، عن المغيرة بن أبي بردة، عن رجل من بني مدلج، عن النبي b.
وروي عنه، عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، أن رجلا من بني مدلج.
وروي عنه، عن عبد الله بن المغيرة الكندي، عن رجل من بني مدلج.
وعنه، عن المغيرة بن عبد الله، عن أبيه. وقيل: غير هذا. اهـ
فأخرجه أحمد بن عمرو بن الضحاك في الآحاد والمثاني (2818) حدثنا هدبة، نا حماد، عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله b قال: ماء البحر هو الطهور ماؤه، الحلال ميتته.
ورواه الحاكم في المستدرك (1/141،142) من طريق حجاج بن منهال، ثنا حمادبه.
ورواه البيهقي (1/230) من طريق محمد بن أبي بكر، قال: حدثنا حماد بن زيد به.
قال الحاكم: وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة، عن أبيه.
ورواه الحاكم في المستدرك (1/141) والبيهقي في المعرفة (1/228،229) من طريق هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن رجل من بني مدلج، عن النبي b.
ورواه البيهقي (1/229) من طريق القعنبي، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، أن رجلاً من بني مدلج قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم،... فذكر نحوه.
وأخرجه أيضاً (1/230) من طريق أبي خالد، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني عبد الله بن المغيرة، عن رجل من بني مدلج.
وأخرجه أيضاً (1/230) من طريق ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، قال: حدثني عبد الله بن المغيرة الكندي، عن رجل من بني مدلج.
ورواه ابن عبد البر في التمهيد بإسناده (16/219) من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن عبدالله بن أبي بردة، أن ناسا من بني مدلج أتوا رسول الله b، فقالوا: يا رسول الله إنا نركب أرماتا في البحر بنحوه.
وهو في معرفة السنن للبيهقي بنحوه (1/229) من طريق سفيان به.
قال ابن عبد البر في التمهيد (16/220) : أرسل يحيى بن سعيد الأنصاري هذا الحديث، عن المغيرة بن أبي بردة لم يذكر أبا هريرة. ويحيى بن سعيد أحد الأئمة في الفقه والحديث، وليس يقاس به سعيد بن سلمة ولا أمثاله، وهو أحفظ من صفوان بن سليم، وفي رواية يحيى بن سعيد لهذا الحديث ما يدل على أن سعيد بن سلمة لم يكن معروف الحديث عند أهله، وقد روي هذا الحديث عن يحيى بن سعيد، عن المغيرة بن عبدالله بن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي b والصواب فيه عن يحيى بن سعيد، ما رواه عنه ابن عيينة مرسلا كما ذكرنا والله أعلم.
والصواب أن رواية يحيى بن سعيد ليست محفوظة للاختلاف عليه، قال البيهقي: هذا الاختلاف يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي، وقد أقام إسناده مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، وتابعه على ذلك الليث بن سعد، عن يزيد، عن الجلاح أبي كثير، ثم عمرو بن الحارث، عن الجلاح، كلاهما عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، عن النبي b، فصار الحديث بذلك صحيحاً كما قال البخاري في رواية أبي عيسى عنه.
وللحديث شواهد:
الشاهد الأول: حديث جابر:
روى الإمام أحمد (3/373) قال: حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد، أخبرني إسحاق بن حازم، عن أبي مقسم، - يعني عبيد الله بن مقسم - عن جابر بن عبد الله، عن النبي b قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
قال الحافظ في الدراية (ص45) : إسناده لا بأس به. اهـ وأبو القاسم بن أبي الزناد.
قال الحافظ في التقريب (8309) : " ليس به بأس".
وأثنى عليه الإمام أحمد، وقال فيه ابن معين: ليس به بأس. انظر تهذيب الكمال (34/192) .
وإسحاق بن حازم: قال فيه الحافظ (348) : صدوق تكلم فيه للقدر. اهـ
قلت: لنا صدقه وعليه بدعته.
وقد وثقه أحمد ويحيى بن معين كما في تهذيب الكمال (2/417، 418) .
وعبيد الله بن مقسم ثقة مشهور أخرج له البخاري ومسلم. انظر التقريب (434) . فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة.
[تخريج حديث جابر]
الحديث أخرجه أحمد، ومن طريق أحمد أخرجه ابن ماجه (388) وابن الجارود في المنتقى (879) ، وابن خزيمة (112) ، وابن حبان (1244) والدارقطني (1/34) والبيهقي (1/251-252) .
واختلف فيه على إسحاق بن حازم، فروى عنه كما سبق.
وأخرجه الدراقطني (1/34) من طريق عبد العزيز بن أبي ثابت، عن إسحاق بن حازم، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، عن أبي بكر الصديق مرفوعاً.
فهنا عبد العزيز بن أبي ثابت جعله من مسند أبي بكر، وجعل وهب بن كيسان مكان عبيد الله بن مقسم، وعبد العزيز بن أبي ثابت ضعيف جداً، فروايته منكرة، والمعروف رواية الإمام أحمد، والله أعلم.
وأخرجه الطبراني في الكبير (1759) قال: حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار، ثنا الحسين بن بشر، ثنا المعافى بن عمران، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي b قال في البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته.
وأخرجه الدارقطني (1/34) قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع نا محمد بن علي بن شعيب به.
وأخرجه الحاكم (1/143) قال: حدثناه عبد الباقي بن نافع الحافظ، ثنا محمد بن علي بن شعيب به.
قال الحافظ في التلخيص (1/11) وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس.
الشاهد الثاني: حديث ابن عباس.
رواه أحمد (1/279) قال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس من حديث طويل، وفيه: " وسألته عن ماء البحر، فقال: ماء البحر طهور. وهذا إسناد صحيح إلا أنه موقوف علىابن عباس.
واختلف فيه على حماد بن سلمة، فرواه عفان، عن حماد به موقوفاً.
ورواه سريج بن النعمان عن حماد به مرفوعاً، وعفان من أثبت أصحاب حماد بلامنازع ورجح الدارقطني الموقوف، وإليك تخريجها.
فقد أخرجه الدارقطني (1/35) قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، نا إبراهيم بن راشد، نا سريج بن النعمان، نا حماد بن سلمة، عن أبي التياح، نا موسى بن سلمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال سئل رسول الله b عن ماء البحر، فقال: ماء البحر طهور. قال الدارقطني: كذا قال، والصواب موقوف.
وأخرجه الحاكم (1/140) قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا سريج بن النعمان، ثنا حماد بن سلمة به مرفوعاً.
الشاهد الثالث: حديث الفراسي، هو ضعيف.
أخرجه ابن ماجه (387) من طريق يحيى بن بكير، حدثني الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة، عن بكر بن سوادة، عن مسلم بن مخشي، عن ابن الفراسي قال: كنت أصيد وكانت لي قربة أجعل فيها ماء، وإني توضأت بماء البحر، فذكرت ذلك لرسول الله b فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
وهذا مرسل، وابن الفراسي تابعي. وجاء في الزوائد: (ص: 86) رجال هذا الإسناد ثقات إلا أن مسلماً لم يسمع من الفراسي وإنما سمع من ابن الفراسي ولا حجة له، وإنما روى هذا الحديث عن أبيه، فالظاهر أنه سقط من هذه الطريق.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (16/220) من طريق يحيى بن بكير به. إلا أنه قال: عن الفراسي بدلاً من ابن الفراسي، وهذا منقطع لأن مسلماً لم يسمع من الفراسي كما ذكر ذلك البوصيري فيما سبق.
فالحديث إما مرسل أو منقطع، وبالتالي فهو ضعيف، لكن يصلح في الشواهد والمتابعات. والله أعلم.
الشاهد الرابع: حديث أنس بن مالك، وهو ضعيف جداً.
أخرجه عبد الرزاق (320) قال: عن الثوري، عن أبان، عن أنس عن النبي b مختصراً.
وأخرجه الدارقطني (1/35) قال: حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر، نا محمد بن حرب، نا محمد بن يزيد، عن أبان به.
قال الدارقطني: أبان بن أبي عياش متروك.
الشاهد الخامس: حديث علي بن أبي طالب.
أخرجه الدارقطني (1/35) قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، نا أحمد بن الحسين بن عبد الملك، نا معاذ بن موسى، نا محمد بن الحسين، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله b عن ماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/142،143) قال: حدثناه أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي ثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن الحسين بن علي حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب.
قال الحافظ في التلخيص (1/12) : " رواه الدارقطني والحاكم من حديث علي بن أبي طالب، من طريق أهل البيت، وفي إسناده من لا يعرف ". اهـ
الشاهد السادس: حديث عبد الله بن عمرو.
أخرجه الدارقطني (1/35) والحاكم (1/143) من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله b قال: ميتة البحر حلال وماؤه طهور.
والمثنى بن الصباح ضعيف، وقد سبقت ترجمته في مسألة التسوك بالأصبع، وذكرنا أقوال أهل الجرح فيه.
(2) المجموع (1/130) ، المبدع (1/33) ، الشرح الكبير (1/35،36) .
(3) انظر المبدع (1/45) ، والمغني (1/33، 34، 35) .
(4) المبدع (1/32)(1/53)
وجه الاستدلال:
الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن ماء البحر ليس بنجس، فإذاً هو طاهر عندهم بلا شك، ولكن هذا الصحابي لا يعلم هل هو طهور أم لا؟ لذلك سأل النبي الله b عن ذلك، فدل ذلك على أنه قد استقر في ذهن(1/65)
الصحابة أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور (2)
الدليل الثالث:
استدل أيضاً من يقسم الماء إلى ثلاثة بأحاديث النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، وبالنهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها إذا استيقظ من نوم الليل.
وأترك ذكر متون هذه الأحاديث؛ لأنها سوف تأتي مسألة مسألة.
وجه الاستدلال:
أن هذه المياه مع كونها ليست نجسة فقد ورد النهي عن الاغتسال فيها ومنها كالاغتسال في الماء الراكد، فكونه يوجد ماء ليس بنجس ولا يمكن التطهر منه، هذا هو الماء الطاهر؛ لأن الماء الطاهر ليس بنجس، ولا يمكن التطهر منه (3) .
الدليل الرابع: من النظر.
قالوا: الماء إما أن يجوز الوضوء به أو لا. فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلوا، إما أن يجوز شربه أو لا، فإن جاز فهو الطاهر، وإلا فهو النجس (4) .
أدلة القائلين بأن الماء قسمان
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد(1/66)
منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) .
وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل
ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (2) .
وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (3) . فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (4) .
الدليل الثاني:
(10) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (5) ، عن ابن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي b، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال إن الماء لا ينجسه شيء (6) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) مجموع الفتاوى (21/25) ، الكافي (2/5) ، الزركشي (1/119) .
(3) المائدة: 6.
(4) الأوسط (2/268) .
(5) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع، واستدركته من أطراف المسند (6/269) .
(6) المسند (3/15،16) .(1/67)
[حديث صحيح بشواهده] (1) .
_________
(1) [تخريج الحديث من هذا الطريق]
الحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده (1304) من طريق يونس بن محمد.
وأخرجه النسائي (327) من طريق عبد الملك بن عمرو.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/12) من طريق عيسى بن إبراهيم البركي. ثلاثتهم عن عبد العزيز بن مسلم به، إلا أن إسناد الطحاوي سقط منه سليط.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/257) من طريق عبد الله بن مسلمة، ثنا عبد العزيز بن مسلم به.
وفي هذا الإسناد خالد بن أبي نوف:
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (3/355) .
وقال أبو حاتم الرازي: يروى ثلاثة أحاديث مراسيل. المرجع السابق، يقصد منقطعة.
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (6/264) .
وفي التقريب: مقبول، يعني إن توبع، وإلا فلين.
وفيه سليط بن أيوب:
وسليط: روي عنه خالد بن أبي نوف، ومحمد بن اسحاق،
ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (4/287) .
ذكره ابن حبان في الثقات (6/340) .
ولا أعلم وثقه أحد غيره، وفي التقريب (2520) مقبول.
واختلف فيه على سليط، فتارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه كما في إسناد أحمد.
وتارة يحدث به عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن أبي سعيد من طريق ابن اسحاق عنه، إلا أن ابن إسحاق قد اختلف عليه اختلافاً كثيراً،
فقيل: عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع، عن أبي سعيد.
وقيل فيه: عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد. ليس فيه سليط.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن.
وقيل: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن رافع عن أبي سعيد، وإليك تخريج هذه الروايات:
أما رواية ابن إسحاق، قال: حدثني سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبي سعيد، فأخرجه أحمد في مسنده (3/86) قال: حدثنا يعقوب، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني سليط بن أيوب بن الحكم الأنصاري، عن عبيد الله بن عبدالرحمن بن رافع الأنصاري ثم أحد بني عدي بن النجار، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الدارقطني (1/31) من طريقين، عن يعقوب بن إبراهيم به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/11) من طريق الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري به.
وتابع محمد بن سلمة إبراهيم بن سعد:
فقد أخرجه أبو داود (67) ومن طريقه البيهقي (1/257) قال: حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان، قالا ثنا محمد بن سلمة به.
وأخرجه الدارقطني (1/30) من طريق محمد بن معاوية بن مالج، عن محمد بن سلمة به إلا أنه قال: عن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري.
ولا يتصور أنه خطأ في الإسناد؛ لأن البيهقي بعد أن أخرجه من طريق أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان، قالا ثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري، عن أبي سعيد الخدري.
قال البيهقي: كذا روياه عن محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، وقيل: عن محمد بن سلمة في هذا الإسناد، عن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري.. الخ كلامه.
وأما رواية ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، فأخرجه الدارقطني (1/31) قال: حدثنا محمد بن أحمد بن صالح الأزدي، نا محمد بن شوكر، نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ح
وثنا أحمد بن كامل، نا محمد بن سعد العوفي، نا يعقوب بن إبراهيم، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري عن أبي سعيد به.
تابع أحمد بن خالد الوهبي إبراهيم بن سعد في ذكر عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، فقد أخرجه الدارقطني (1/31) من طريق أحمد بن خالد الوهبي، نا ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع به.
وهو في تهذيب الكمال (11/336) من نفس الطريق إلا أنه قال: عن عبيد الله بن عبد الرحمن.
وأما رواية ابن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله، فقد أخرجها أبو داود الطيالسي (2199) حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد به.
وقال البيهقي في السنن الكبرى: وقال يحيى بن واضح، عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع، كما قال محمد بن كعب.
وقال إبراهيم بن سعد وأحمد بن خالد الوهبي ويونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن سليط، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع.
وقيل: عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الله بن رافع.
وقيل: عن سليط، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه. اهـ كلام البيهقي.
فهنا نرى أن ابن إسحاق فيه اختلاف كثير، ومع أنه صرح بالتحديث كما عند أحمد إلا أنه جاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 155، 156) قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وساق حديث بئر بضاعه بإسناده عن محمد بن اسحاق، عن سليط، عن أبي سعيد ثم قال: قال أبي: محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي بينه وبين سليط رجل. اهـ
والراجح فيه ما قيل فيه: عبيد الله بن عبد الله بن رافع، وما قيل: عبد الله بن عبد الله فهو اختلاف في اسمه، فإنه حكي في اسمه الوجهان،
فقد أخرجه الدارقطني (1/31) من طريق عبيد الله بن سعد، حدثني عمي ثنا ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عبد الله بن رافع حدثه أنه سمع أبا سعيد فذكره.
وعبيد الله بن سعد: هو عبيد الله بن سعد الزهري.
وعمه: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
وعبيد الله هذا: أخرج له البخاري. وعمه يعقوب: أخرج له الشيخان وأبوه: إبراهيم بن سعد أخرجا له أيضاً.
وقد صرح ابن اسحاق بالتحديث عن عبد الله بن أبي سلمة فزال ما يخشى من تدليسه.
قال الدارقطني في العلل كما نقل ذلك عنه ابن عبد الهادي في التنقيح وأقره (1/206) قال: " وأحسنها إسناداً حديث الوليد بن كثير عن محمد بن كعب، وحديث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة " اهـ
وحديث الوليد بن كثير الذي أشار إليه الدارقطني،
أخرجه أحمد (3/31) حدثنا أبو أسامة، حدثنا الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبيد الله بن عبد الله - وقال أبو أسامة مرة: عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج - عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب؟ قال: إن الماء طهور لا ينجسه شيء.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/133) ، وأبو داود (66) ، والترمذي (66) ، والنسائي (1/174) وابن الجارود (47) ، والدارقطني (1/30) ، والبيهقي في السنن (1/4،257) من طريق أبي أسامة به.
وعبيد الله بن عبد الله بن رافع:
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/321) .
وضعفه ابن القطان الفاسي، فقال: وأمره إذا بين - يعني الحديث - يبين منه ضعف الحديث لا حسنه، وذلك أن مداره على أبي أسامة، عن محمد بن كعب، ثم اختلف على أبي أسامة في الواسطة التي بين محمد بن كعب وأبي سعيد:
فقوم يقولون: عبد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج.
وقوم يقولون: عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج.
وله طريق آخر من رواية ابن إسحاق، عن سليط بن أيوب، واختلف على ابن إسحاق في الواسطة بين سليط وأبي سعيد:
فقوم يقولون: عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع.
وقوم يقولون: عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع.
وقوم يقولون: عن عبد الرحمن بن رافع.
فتحصل في هذا الرجل الراوي له عن أبي سعيد خمسة أقوال:
عبد الله بن عبد الله بن رافع، وعبيد الله بن عبد الله بن رافع، وعبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع، وعبد الرحمن بن رافع، وكيفما كان، فهو لاتعرف له حال ولا عين!! بيان الوهم والإيهام (1059) .
وقال ابن مندة: مجهول. تهذيب التهذيب (7/26) .
قلت: كيف يكون مجهول الحال والعين، وقد صحح حديثه الأئمة، منهم أحمد كما في معالم السنن (1/74) تلخيص الحبير (1/13) .
وابن معين كما في التخليص (1/13) .
وابن الملقن كما في البدر المنير (2/51) .
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد، وفي الباب عن ابن عباس وعائشة. سنن الترمذي (1/101) .
وقال البغوى: " هذا حديث حسن صحيح " شرح السنة (2/61) .
وصحح الحديث ابن تيمية، قال في الفتاوى (21/41) : " قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: إنك تتوضأ من بئر بضاعة..
قال الحافظ في التلخيص (1/13) : نقل ابن الجوزي أن الدارقطني، قال: إنه ليس بثابت، قال الحافظ: ولم نر ذلك في العلل له، ولا في السنن، وقد ذكر في العلل الاختلاف فيه على ابن إسحاق وغيره.. ثم قال: وأحسنها إسناداً رواية الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب... الخ كلامه.
والحق أن كلام الدارقطني موجود في العلل (8/156) لكنه عنى به حديث المقبري، عن أبي هريرة في بئر بضاعة، ولم يقصد هذا الحديث، والله أعلم.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (2155) قال حدثنا قيس، عن طريف بن سفيان، عن أبي نظرة، عن أبي سعيد، قال: كنا مع رسو الله b فأتينا على غدير فيه جيفة، فتوضأ بعض القوم، وأمسك بعض القوم حتى يجيئ النبي b فجاء النبي b في أخريات الناس، فقال: توضؤوا واشربوا؛ فإن الماء لا ينجسه شيء.
وقيس: هو ابن الربيع مختلف فيه، والراجح ضعفه، وقد حررت القول فيه في مسألة دفن الظفر والشعر، فارجع إليه إن شئت. وما يخشى من سوء حفظه قد زال بالمتابعة فقد تابعه شريك بن عبد الله النخعي عن طريف به إلا أن شريكاً تارة يرويه بالشك عن جابر أو أبي سعيد، كما أخرجه الطحاوي (1/12) ، والبيهقي (1/258) ، وتارة يرويه بالجزم عن جابر وحده، كما عند ابن ماجه (520) ، وتارة يرويه بالجزم عن أبي سعيد وحده كما جاء ذلك عند ابن عدي في الكامل (4/117) وهو الصواب.
وهذا الشك إنما جاء من قبل شريك، فإنه صدوق سىء الحفظ.
والحديث ضعيف لضعف طريف بن سفيان، ويقال: طريف بن سعد ويقال: طريف بن شهاب.
قال ابن عبد البر كما في تهذيب التهذيب (5/11) : " طريف اجمعوا على أنه ضعيف الحديث " اهـ.
إلا أن الحديث صالح في الشواهد والمتابعات.
قال ابن عدي (4/118) : " طريف قد روى عن الثقات، وإنما أنكر عليه في متون الأحاديث أشياء لم يأت بها غيره، وأما أسانيده مستقيمة.
والحديث له شواهد، منها:
الشاهد الأول: حديث سهل بن سعد.
قال ابن القطان في الوهم والإيهام (5/224) : " بعد أن ضعف حديث أبي سعيد الخدري، قال: ونذكر الآن هنا أن له إسناداً صحيحاً من رواية سهل بن سعد، ثم نقل من كتاب قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا ابن وضاح، حدثنا أبو علي: عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي بحلب، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قالوا: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وفيها ما ينجي الناس، والمحائض والخبث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماء لا ينجسه شيء.
قال قاسم: هذا من أحسن شيء في بئر بضاعة.
وقال محمد بن عبد الملك بن أيمن: حدثنا ابن وضاح فذكره أيضاً بإسناده ومتنه -وذكر ابن حجر أن محمد بن عبد الملك أخرجه في مستخرجه، كما في تلخيص الحبير (1/14) .
ثم قال ابن القطان: قال ابن حزم: وعبد الصمد بن أبي سكينة ثقة مشهور.
وقال قاسم: ويروى حديث عن سهل بن سعد في بئر بضاعة من طرق، هذا خيرها، فاعلم ذلك. اهـ
وقال ابن حجر في التلخيص متعقباً (1/14) : ابن أبي سكينة الذي زعم ابن حزم أنه مشهور، قال ابن عبد البر وغير واحد: إنه مجهول، ولم نجد عنه راوياً إلا محمد بن وضاح. اهـ
قلت: على فرض أن يكون ضعيفاً، فهو شاهد صالح لحديث أبي سعيد الخدري.
كما أن له متابعاً، فقد أخرجه الإمام أحمد (5/337،338) ، والدار قطنى (1/32) من طريق الفضيل بن سليمان، والطحاوى في شرح معاني الآثار (1/12) من طريق حاتم بن إسماعيل، كلاهما عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن أمه، قالت: دخلنا على سهل بن سعد فى أربع نسوة فقال: لو سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك. وقد سقيت رسول الله b منها بيدى.
وقال الحافظ فى أطراف مسند الإمام أحمد (2/560) رواه إسحاق فى مسنده قال: حدثنا بعض أصحابنا، ثنا حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن أبي يحيى به.
ومحمد بن أبي يحيى:
قال العجلي: مدني ثقة. معرفة الثقات (2/257) .
وقال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن أبى يحيى ثقة. الجرح والتعديل (7/282) .
وقال الآجري: سألت أبا داود عن عن أبيه - يعني أبا يحيى، فقال: أبوه ثقة. تهذيب التهذيب (9/460) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (7/372) .
وقال أبو حاتم: تكلم فيه يحيى القطان. تهذيب التهذيب (9/460) . ولم أقف عليه في مظانه.
وقال ابن شاهين: فيه لين. المرجع السابق.
وقال: الخليلي ثقة. المرجع السابق.
وأمه مجهولة لم يرو عنها إلا ابنها هذا محمد
قال عنها الحافظ فى التقريب (8769) : مقبولة.
واختلف على حاتم بن إسماعيل فأخرجة البيهقى (1/259) من طريق علي بن بحر القطان، والطبرانى (6/207) من طريق هشام بن عمار، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن أبي يحيى الأسلمى، عن أبيه قال: دخلت على سهل بن سعد في نسوة..... وساق الحديث، وهذا لفظ البيهقي، فصار الفضيل بن سليمان يرويه عن محمد بن يحيى الأسلمي عن أمه.
وأما حاتم بن إسماعيل فرواه على الوجهين: عن أبيه تارة، وعن أمه تارة.
ومحمد بن أبي يحيى حدث عن أبيه، كما حدث عن أمه، وأبوه سمعان قال فيه الحافظ فى التقريب (2633) : لا بأس به.
وجاء فى مسند الطبراني: " جابر بن إسماعيل " وهو تصحيف والصحيح حاتم بن إسماعيل كما عند الطحاوى والبيهقى.
فهذا الطريق إذا انضم إلى الذي قبله قوي الحديث عن سهل بن سعد. والله أعلم.
الشاهد الثاني: حديث عائشة.
أخرجه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثنا الحماني، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي b قال: الماء لا ينجسه شيء.
وفي هذا الإسناد الحماني:
قال أحمد: ما زلنا نعرف أنه يسرق الأحاديث أو يتلقفها أو يتلقطها، وقال: قد طلب وسمع ولو اقتصر على ما سمع لكان له فيه كفاية، فالحماني حافظ مجروح، لكنه لم ينفرد به، فقد رواه الطبري في تهذيب الآثار (2/709) والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/132) والطبراني في الأوسط (2114) من طريق أبي أحمد الزبيري، ثنا شريك به.
وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن المقدام إلا شريك.
قال الحافظ في المطالب العالية (1) إسناده حسن، فإن الحماني لم ينفرد به. والحق أن إسناده ضعيف، والحماني وإن توبع، فإن ضعفه من قبل شريك، فقد تفرد به.
وقول الهيثمي في مجمع الزوائد (1/214) رجاله ثقات بعد أن عزاه للبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط فيه نظر للعلة نفسها، فإن شريكاً قد تفرد عندهم بهذا الحديث.
وقد رواه شريك كما سبق من مسند أبي سعيد وشك فيه، فتارة يجزم به عنه، وتارة يشك فيه عن أبي سعيد أو جابر، وتارة يجزم به عن جابر، وهنا جعله من مسند عائشة، وهذا التخليط إنما جاء من قبل سوء حفظه رحمه الله، فلا يقبل ما تفرد به والله أعلم.
ورواه أحمد من طريق آخر بسند صحيح إلا أنه موقوف على عائشة، قال أحمد (6/172) ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة عن الغسل من الجنابة فقالت: إن الماء لا ينجسه شيء، قد كنت أغتسل أنا ورسول الله b من إناء واحد، يبدأ فيغسل يديه.
الشاهد الثالث: حديث ابن عباس.
ما رواه أحمد (1/235) قال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله b: الماء لا ينجسه شيء.
ومداره على سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ورواه عن سماك جمع، منهم، سفيان الثوري، وشعبة، وحماد بن سلمة، وأبوالأحوص وشريك، وغيرهم، وإليك بيانها.
الأول: سفيان الثوري، عن سماك.
أخرجه عبد الرزاق (396) قال: عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة،
عن ابن عباس أن امرأة من نساء النبي b استحمت من جنابة، فجاء النبي b فتوضأ من فضلها، فقالت: إني غتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/284) ، وابن الجارود (49) والطبراني (11714) ، والبيهقي (1/267) .
ورواه أحمد (1/235) ، والنسائي (325) ، وابن خزيمة (109) ، وابن حبان (1242) ، والحاكم (1/195) من طرق عن ابن المبارك عن سفيان به.
وأخرجه الدارمي (734) ، وابن الجارود في المنتقى (48) ، والبيهقي (1/188) من طريق عبيد الله بن موسى، عن سفيان به.
ورواه الطحاوي (1/26) وابن خزيمة (109) من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان به.
ورواه أحمد (1/308) حدثنا عبد الله بن الوليد، قال حدثنا سفيان به، ومن طريق عبد الله بن الوليد أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/286) .
ورواه أحمد (1/235، 308) عن وكيع. ومن طريق وكيع أخرجه ابن ماجه (371) ، وابن خزيمة (109) إلا أن وكيعاً رواه عن سفيان واختلف عليه، فرواه أحمد عن وكيع من حفظه موصولاً، ورواه أحمد عن وكيع من مصنفه مرسلاً.
قال الإمام أحمد (1/308) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله b الماء لا ينجسه شيء "
قال أبي في حديثه: حدثنا به وكيع في المصنف، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، ثم جعله بعد عن ابن عباس.
قال أحمد شاكر: هذا بيان للإسناد السابق، يريد الإمام أن يوضح أن شيخه وكيع بن الجراح حدثه بالحديثين على وجهين: حدثه به في كتابه المصنف، عن عكرمة مرسلاً، ثم حدثه به بعد ذلك متصلاً، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقد رواه غير وكيع عن سفيان مرفوعاً كما تقدم من رواية ابن المبارك وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد وعبيد الله بن موسى وأبي أحمد الزبيري.
ولعل هذا ما جعل الإمام أحمد يقول: أتقيه لحال سماك، وليس أحد يرويه غيره، وقال: هذا فيه اختلاف شديد، بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه. تنقيح التحقيق (1/220) .
وكما اختلف على وكيع في وصله وإرساله اختلف فيه على شعبة أيضاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على طريق شعبة.
الثاني: أبو الأحوص، عن سماك.
رواه ابن أبي شيبة (1/38) رقم 353، ومن طريقه ابن ماجه (370) قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي b في جفنة، فجاء رسول الله b ليغتسل منها أو ليتوضأ، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال النبي b إن الماء لا يجنب.
ورواه أبو داود (68) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/89،267) ، قال: حدثنا مسدد، قال: ثنا أبو الأحوص به.
ورواه الترمذي (65) قال: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو الأحوص به. ومن طريق قتيبة بن سعيد أخرجه ابن حبان في صحيحه (1261،1269) .
ورواه ابن حبان في صحيحه (1241) عن أبي معمر القطيعي، حدثنا أبو الأحوص به.
ووراه ابن حبان أيضاً (1248) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص به.
الثالث: حماد بن سلمة، عن سماك.
أخرجه الطبراني في الكبير (11/274) رقم 11715 قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب به.
الرابع: شريك، عن سماك.
أخرجه أحمد (1/337) قال: ثنا حجاج، أن شريكاً حدثه، عن سماك، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: أجنب النبي b وميمونة، فاغتسلت ميمونة في جفنة، وفضلت فضلة، فأراد النبي b أن يغتسل منها، فقالت: يا رسول الله إني قد اغتسلت منه، فقال -يعني النبي b -إن الماء ليست عليه جنابة، أو قال: إن الماء لا ينجس.
وأخرجه أبو داود الطيالسي (1625) ، ومن طريقه أخرجه أحمد (6/330) ، والدارقطني (1/53) ، عن شريك به.
وأخرجه أحمد (3/330) من طريق هاشم بن القاسم عن شريك به،
ورواه أبو يعلى (7098) قال: حدثنا أبو عامر عبد الله بن عامر، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، حدثنا شريك به.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (24/18) قال: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور الجوهري، ثنا عصمة بن سليمان الخزاز، حدثنا شريك به.
ووراه الطبراني أيضاً (23/425) من ثلاثة طرق، عن شريك به.
واختلف على شريك، فرواه عنه من سبق من مسند ابن عباس، ورواه ابن الجعد في مسنده (2333) قال: أنا شريك، عن سماك، عن عكرمة،
عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: أجنبت أنا ورسول الله b، فاغتسلت من جفنة، وفضلت فيها فضلة، فجاء النبي b ليغتسل منها، قلت: قد اغتسلت منها، فاغتسل، وقال: إن الماء ليس عليه جنابة. فجعله من مسند ميمونة. وهذا من قبل شريك؛ لأنه سيء الحفظ.
جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/43) : سألت أبا زرعة عن حديث رواه سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن بعض أزواج النبي b اغتسلت من جنابة، فجاء النبي b، فقالت له، فتوضأ بفضلها، وقال: إن الماء لا ينجسه شيء.
ورواه شريك عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن ميمونة، فقال: الصحيح عن ابن عباس، عن النبي b بلا ميمونة. اهـ
قال الدارقطني: اختلف في هذا الحديث على سماك، ولم يقل فيه: عن ميمونة غير شريك.
الخامس: يزيد بن عطاء، عن سماك.
وأخرجه الدارمي (735) قال: أخبرنا يحيى بن حسان، ثنا يزيد بن عطاء، عن سماك به، إلا أنه قال: إنه ليس على الماء جنابة، بدلاً من قوله: إن الماء لا ينجسه شيء. اهـ
السادس: حصين، عن عكرمة.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/132) قال: حدثنا هشيم، عن حصين، عن عكرمة قال الماء طهور لا ينجسه شيء، فهنا أوقفه حصين، على عكرمة، لكن إسناده ضعيف، لأن هشيماً قد عنعن، وهو مدلس.
لكن أخرجه ابن الجعد في مسنده (2998) قال: أنا أبو جعفر، عن حصين، قال: سألت عكرمة عن الحمام يدخله الجنب واليهودي والنصراني والمجوسي ونحو ذلك فقال إن الماء لا ينجسه شيء. فهنا تابع أبو جعفر هشيماً في وقفه على عكرمة.
السابع: شعبة، عن سماك.
أخرجه ابن خزيمة (91) قال: نا أحمد بن المقدام العجلي ومحمد بن يحيى القطعي، قال: حدثنا محمد بن بكر، نا شعبة به.
ومن طريق شعبة أخرجه البزار كما في كشف الأستار (1/35) ، والحاكم في المستدرك (1/159) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/332، 333) : " رواه جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس منهم شعبة والثوري الا أن جل أصحاب شعبة يروونه عنه، عن سماك، عن عكرمة مرسلاً، ووصله عنه محمد بن بكر، وقد وصله جماعة عن سماك منهم الثوري، وحسبك بالثوري حفظاً وإتقاناً، ثم ساق الحديث بإسناده من طريق وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس وذكر الحديث، ثم قال: وهكذا رواه أبو الأحوص وشريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً، وكل من أرسل هذا الحديث فالثوري أحفظ منه، والقول فيه قول الثوري ومن تابعه على إسناده. اهـ
قلت أيضاً روي مرسلاً من طريق وكيع، عن سفيان وسبق الكلام عليه.
الطريق الثامن: إسرائيل، عن سماك.
أخرجه عبد الرزاق (497) عن إسرائيل، عن عكرمة به. كذا في المطبوع، والظاهر أنه سقط من إسناده سماك؛ لأن إسرائيل ليست له رواية عن عكرمة، وإنما يروي عن سماك، والله أعلم.
وعلته رواية سماك عن عكرمة، قال علي بن المديني: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. تهذيب الكمال (12/115) .
وقال أبو داود في مسائله لأحمد (ص: 440) رقم 2016: سمعت أحمد قال: قال شريك: كانوا يلقنون سماكاً أحاديثه عن عكرمة، يلقنونه عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس. اهـ
وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح وليس من المتثبتين، ومن سمع من سماك قديماً مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم ". المرجع السابق.
وقال الحافظ: وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه شعبة، عن سماك، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. اهـ فتح الباري (1/300) .
قال النسائي: كان ربما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن تهذيب التهذيب (4/204) .
وقال العجلي: سماك بن حرب البكري كوفي تابعي جائز الحديث، وكان له علم بالشعر، وأيام الناس، وكان فصيحاً إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء عن ابن عباس، وربما قال: قال النبي b، وإنما كان عكرمة يحدث عن ابن عباس، وكان سفيان الثوري يضعفه بعض الضعف، وكان جائز الحديث، لم يترك حديثه أحد، ولم يرغب عنه أحد. معرفة الثقات (1/436) .
(2) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206) .(1/68)
وجه الاستدلال من الحديث:
أن حديث أبي سعيد أثبت قسماً من الماء وهو الماء الطهور، وثبت الماء النجس بالإجماع فهذان قسمان من الماء أحدهما ثبت بحديث أبي سعيد، والآخر ثبت بالإجماع، وبقى الماء الطاهر لا دليل على ثبوته فيكون الماء قسمين: طهوراً ونجساً ولا ثالث لهما.
أو يقال: الحديث أثبت طهورية الماء، وأنه لا ينجسه شيء، فالماء إذاً باق على طهوريته لا يخرج منها إلا بإجماع، وهذا لا يكون إلا بتغيره بالنجاسة.
الدليل الثالث:
(11) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي b: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (2) .
الدليل الرابع:
(12) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين،
عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله(1/81)
صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه تعني إزاره (1) .
وجه الاستدلال من الحديثين.
قالوا: الماء إذا أضيف إليه السدر لا بد أن يتغير، وإذا كان هذا المتغير بشىء طاهر يطهر الميت فطهارة الحي كطهارة الميت، فما طهر الميت طهر الحي (2) .
الدليل الخامس:
(13) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي b وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939) .
(2) مجموع الفتاوى (21/26) .
(3) مسند أحمد (6/341،342) .
(4) رجاله ثقات، وعبد الملك بن عمرو هو أبو عامر العقدي.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (242) وفي الصغرى (240) قال: أخبرنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال: حدثنا إبراهيم بن نافع به.
ومن طريق محمد بن بشار أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/15) .
وأخرجه ابن ماجه (378) حدثنا أبو عامر الأشعري عبد الله بن عامر، ثنا يحيى بن بكير، ثنا إبراهيم بن نافع به.
وأخرجه البيهقي (1/7) وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/137) من طريق أبي عامر، عن إبراهيم بن نافع به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/430) رقم 1051 من طريقين عن يحيى بن بكير، عن إبراهيم بن نافع به.
وقد توبع مجاهد، عن أم هانئ، تابعه عطاء، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، ويوسف بن ماهك، وأبو مرة مولى عقيل، وقيل: مولى أم هانئ.
أما طريق عطاء، عن أم هانئ.
فقد أخرجه النسائي (415) قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن محمد، قال: حدثنا محمد بن موسى بن أعين، قال: حدثنا أبي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال:
حدثتني أم هانئ أنها دخلت على النبي b يوم فتح مكة، وهو يغتسل، قد سترته بثوب دونه في قصعة فيها أثر العجين، قالت: فصلى الضحى، فما أدري كم صلى حين قضى غسله.
في إسناده: محمد بن موسى بن أعين، روى عنه جماعة.
ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (9/64) ولم يوثقه من المتقدمين أحد غيره.
روى له البخاري حديثاً واحداً من طريقه، عن أبيه، حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن محمد بن جعفر حدثه، عن عروة،
عن عائشة مرفوعاً: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
ثم قال البخاري: تابعه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، ورواه يحيى بن أيوب، عن ابن أبي جعفر.
وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (5174) .
وفي التقريب: صدوق.
وفيه أيضاً عبد الملك بن أبي سليمان، جاء في ترجمته:
قيل لشعبة مالك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث؟ قال: من حسنها فررت. انظر الجرح والتعديل (5/366) ، والضعفاء للعقيلي (3/31) .
وعن أبي بكر بن خلاد، قال: سمعت يحيى يقول: عن عبد الملك ين سليمان فيه شيء مقطع يوصله، أو موصل يقطعه. الضعفاء للعقيلي (3/31) .
وقال يحيى ابن معين أيضاً: ضعيف. كما في رواية إسحاق بن منصور عنه. الجرح والتعديل (5/366) .
وسئل يحيى مرة عبد الملك بن أبي سليمان أحب إليك أو ابن جريج. فقال: كلاهما ثقتان. كما في رواية عثمان بن سعيد عنه. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: لا بأس به. انظر المرجع السابق.
وقال الخطيب: قد أساء شعبة في اختياره حيث حدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان لأن محمد بن عبيد الله لم تختلف الأئمة من أهل الأثر في ذهاب حديثه وسقوط روايته وأما عبد الملك فثناؤهم عليه مستفيض وحسن ذكرهم له مشهور. تاريخ بغداد (10/393) .
وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً ثبتاً. انظر الطبقات (6/350) .
وقال ابن عمار الموصلي: ثقة ثبت في الحديث.
وقال الترمذي: ثقة مأمون لا نعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة.
وقال الثوري: حفاظ الحديث أربعة، فذكره منهم. وسماه هو وابن المبارك: الميزان. انظر تهذيب التهذيب (6/352) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام. والحق أنه ثقة، فقد وثقه أحمد، ويحيى بن معين، والنسائي، وابن سعد، والترمذي، وابن عمار الموصلي، والثوري وابن المبارك والدارقطني. وأخذ عليه وهمه في حديث الشفعة، ثم ماذا؟ ومن الذي لا يهم؟ ولذلك لم يمنع هذا الوهم من أن يوثقه الأئمة. قال يحيى بن معين عندما سئل عن حديث الشفعة، قال: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، وقد أنكره الناس عليه، ولكن عبد الملك ثقة صدوق لم يرد على مثله.
وقال أحمد: هذا حديث منكر - يعني: حديث الشفعة- وعبد الملك ثقة. انظر تهذيب التهذيب (6/352) .
فالإسناد حسن إن شاء الله تعالى، وعبد الملك بن أبي سليمان قد توبع تابعه ابن جريج.
فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (4857) عن ابن جريج، قال: أخبرنا عطاء،
عن أم هانئ بنت أبي طالب، أنها دخلت على رسول الله b يوم الفتح، وهو في قبة له، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صحفة إني لأرى فيها أثر العجين، ورأيته يصلي الضحى.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (6/341) ، والطبراني في الكبير (24/427) ، وابن حزم في المحلى (1/200) . وهذا السند رجاله كلهم ثقات، وابن جريج قد صرح بالتحديث، وهو مكثر عن عطاء، فلا تضر عنعنته، والله أعلم.
فهذه متابعة قوية لعبد الملك بن أبي سليمان في روايته عن عطاء.
وأما طريق المطلب بن حنطب، عن أم هانئ.
فقد أخرجها عبد الرزاق (4860) ، عن معمر، عن ابن طاووس، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب،
عن أم هانىء قالت: نزل رسول الله b يوم الفتح بأعلى مكة، فأتيته، فجاءه أبوذر في جفنة فيها ماء قالت: إني لأرى فيها أثر العجين، قالت: فستره أبو ذر، فاغتسل ثم ستر النبي b أبا ذر فاغتسل، ثم صلى ثماني ركعات، وذلك ضحى.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد (6/341) والطبراني في الكبير (24/426) ، وابن خزيمة (1/119) ، والبيهقي (1/8) ، وابن حزم (1/200)
وليس عند أحمد: " ثم ستر النبي b أبا ذر فاغتسل ".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/269) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح خلا قصة أبي ذر، وستر كل واحد منهما الآخر.
والمطلب بن حنطب: قال الحافظ في التقريب: صدوق كثير التدليس والإرسال.
قلت: لم أجد أحداً نص على تدليسه سوى الحافظ في التقريب، ولم يذكر ذلك عنه في التهذيب، ولا في تعريف أهل التقديس، ولم يذكر ذلك عنه المزي في تهذيب الكمال، والله أعلم.
نعم لم يلق المطلب أم هانئ، فروايته عنها من قبيل الإرسال، والإرسال ليس من التدليس عند ابن حجر، وكثيراً ما يخلط بينهما.
قال الترمذي في سننه (2916) : قال محمد - يعني البخاري - لا أعرف للمطلب بن عبد الله سماعاً من أحد من أصحاب النبي b إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي b قال: وسمعت عبد الله بن عبدالرحمن يقول: لا نعرف للمطلب سماعاً من أحد من أصحاب النبي b..... الخ.
وقال محمد بن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبي b كثيراً، وليس له لقي، وعامة أصحابه يدلسون. الطبقات الكبرى (5/332) .
وقال أبو حاتم: في روايته عن عائشة مرسل، ولم يدركها، وقال في روايته عن جابر يشبه أن يكون أدركه، وقال في روايته عن غيره من الصحابة مرسل، وعامة حديثه مراسيل غير أني رأيت حديثاً يقول فيه حدثني خالي أبو سلمة. اهـ الجرح والتعديل (8/359) .
وفي هذا الحديث أن أبا ذر هو الذي كان يستر النبي b، وقد جاء في الصحيحين أن فاطمة هي التي كانت تستره.
وجمع بينهما الحافظ في الفتح (3/64) : بأن ذلك تكرر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هاني، وفيه أن أبا ذر ستره لما اغتسل، وفي رواية أبي مرة عنها أن فاطمة بنته هي التي سترته. اهـ
قلت: ليس في صحيح ابن خزيمة من طريق مجاهد عنها أن أبا ذر ستر النبي b، إنما جاء عنده ذلك من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم هانئ.
ورواية مجاهد عنها أخرجها ابن خزيمة (1/119، 120) وفيها أن النبي b أغتسل وميمونة من قصعة فيها أثر العجين، وهى بلفظها عند أحمد (6/341) ، والنسائي (1/131) وابن ماجه (378) ، وسبق تخريجها.
ومما يبعد تكرار ذلك أنها قالت عند مسلم (81-336) : فلم أره سبحها قبل ولا بعد.
قال الحافظ: " ويحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه ".
قلت: تفرد بذكر أبي ذر في ستره للنبي b المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو لم يسمع من أم هانئ، وعليه فيكون ضعيفاً، وما في الصحيحين مقدم عليه، ولا أرى داعياً للتكلف بالجمع بين الحديثين ما دام أن أحدهما ضعيف. والله أعلم،
وأما طريق يوسف بن ماهك.
فقد رواه أحمد (6/424) قال: " ثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا زهير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: حدثني يوسف بن ماهك، أنه دخل على أم هانىء بنت أبي طالب، فسألها عن مدخل رسول الله b يوم الفتح، فسألها: هل صلى عندك النبي b قالت:
دخل في الضحى، فسكبت له في صحفة لنا ماء إني لأرى فيها وضر العجين، قال يوسف: ما أدري أي ذلك أخبرتني أتوضأ أم اغتسل؟ ثم ركع في هذا المسجد -مسجد في بيتها- أربع ركعات.
وأخرجه الطبراني (24/428) من طريق عمرو بن خالد الحراني ثنا زهير بن معاوية به.. وأخرجه أيضاً (24/429) من طريق يحيى بن سليمان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به.
فمدار هذا الإسناد على عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن أم هانئ.
وعبد الله بن عثمان بن خثيم جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: ثقة حجة.
وقال أيضاً: أحاديثه ليست بالقوية، كما في رواية عبد الله بن الدورقي عنه. الكامل (4/161) ، تهذيب التهذيب (5/275) .
وقال أبو حاتم الرازي: ما به بأس. صالح الحديث. الجرح والتعديل (5/111) .
وقال النسائي: ثقة. تهذيب الكمال (15/279) .
وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وإنما خرجت هذا لئلا يجعل ابن جريج عن أبي الزبير، وما كتبناه إلا عن إسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك حديث ابن خثيم ولا عبد الرحمن، إلا أن علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث، وكأنَّ علياً خلق للحديث. سنن النسائي (5/248) .
وقال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث حسنة. الطبقات (5/487) .
وقال ابن عدي: هو عزيز، وأحاديثه حسان، مما يجب أن يكتب. الكامل (4/161) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (2/281) .
وقال العجلي: مكي ثقة. ثقات العجلي (2/46) .
وقال ابن حبان: كان من أهل الفضل والنسك والفقه. مشاهير علماء الأمصار (1/87) .
وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (5/34) .
وفي التقريب: صدوق. فالإسناد حسن إن شاء الله، وهو صحيح لغيره، إلا أن قوله: "فصلي أربع ركعات " مخالف لما في الصحيحين وغيرهما من أن الرسول b صلى ثماني ركعات، إلا إن كان المقصود بأربع ركعات إطلاق الركعة على التسليمة فيكون موافقاً لما في الصحيحين.
وقد اختلف في عدد الركعات التي صلاها رسول الله b يوم الفتح، هل هى اثنتان أم أربع أم ست أم ثمان؟
ورواية الصحيحين، وهي رواية الأكثر، أنها ثمان. وليس هذا موضع تحريرها؛ لأن البحث في اغتسال النبي b من قصعة فيها أثر العجين.
وأما رواية أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانئ.
فرواه عنه جماعة، منهم سعيد بن أبي هند، والمقبري، وأبو النضر، وميمون بن ميسرة، وغيرهم:
أما رواية سعيد بن أبي هند، فأخرجها ابن أبي شيبة (7/407) رقم 36928 حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب،
عن أم هانئ بنت أبي طالب، قالت: لما افتتح رسول الله b مكة فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، قالت: فخبأتهما في بيتي، فدخل علي أخي علي بن أبي طالب، فقال: لأقتلنهما. قالت: فأغلقت الباب عليهما، ثم جئت رسول الله b بأعلى مكة، وهو يغتسل في جفنة إن فيها أثر العجين، وفاطمة ابنته تستره، فلما فرغ رسول الله b من غسله أخذ ثوبا فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل فقال: مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟ قالت: قلت: يا نبي الله فر إلي رجلان من أحمائي فدخل علي علي بن أبي طالب فزعم أنه قاتلهما. فقال: لا قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمنا من أمنت.
وهذا إسناد حسن، وابن إسحاق قد صرح بالتحديث عند الطحاوي وغيره.
ومن طريق عبد الرحيم بن سليمان أخرجه الطبراني في الكبير (24/420) رقم 1020 من طريق الحماني، عن عبد الرحيم.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/323) من طريق عبد الله بن إدريس، حدثني محمد بن إسحاق، حدثني سعيد بن أبي هند.
وأخرجه ابن بشكوال (1/142) من طريق زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد بن إسحاق به، وقد صرح بالتحديث.
وأما طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
فأخرجه أحمد (6/323،324) قال: ثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي مرة مولى عقيل،
عن أم هاني قالت: أتيت رسول الله b، وهو بأعلى مكة فلم أجده، ووجدت فاطمة فجاء رسول الله b، وعليه أثر الغبار، فقلت: يا رسول الله إني قد أجرت حموين لي، وزعم ابن أمي أنه قاتلهما، قال: قد أجرنا من أجرت، ووضع له غسل في جفنه، فلقد رأيت أثر العجين فيها، فتوضأ، أو قال اغتسل - أنا أشك - وصلى الضحى في ثوب مشتملاً به.
وتابع الحميدي في مسنده الامام أحمد (331) في روايته عن سفيان به.
وأخرجه ابن بشكوال في غوامض الأسماء المبهمة (1/141) من طريق الحميدي به.
وأخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (6/137) من طريق سفيان به.
وأخرجه البيهقي (1/8) من طريق سفيان به. لكنه قال فيه: عن ابن عجلان عن رجل عن أبي مرة مولى عقيل.
وابن عجلان صدوق، وهو وإن كانت اختلطت عليه أحاديث سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة بأحاديث سعيد المقبري عن أبي هريرة، إلا أنه قد توبع هنا فقد تابعه ابن أبي ذئب، عن المقبري، فقد أخرجه أحمد (6/341) ثنا زيد بن الحباب، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/323) من طريق بشر بن عمر الزهراني، ثنا ابن أبي ذئب به.
وأما طريق ميمون بن ميسرة، عن أم هانئ، فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/76) رقم 4861 عن مالك، عن ميمون بن ميسرة، عن أم هانئ به.
وأما طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مرة، فأخرجه أحمد (6/342) حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد - يعني ابن عمرو - عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي مرة به. وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا محمد بن عمرو، وهو صدوق.
وأما طريق أبي النضر سالم بن أبي أمية، فأخرجه أحمد (6/344) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب به. وسنده صحيح.(1/82)
وجه الاستدلال:
أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي b وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (1) .
الدليل السادس:
(14) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، قال: أخبرني كريب،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي b فلما كان في بعض الليل قام رسول الله b فتوضأ من شن معلق... الحديث قطعة من حديث طويل (2) .
وجاء في الصحيحين (3) ، من حديث عمران بن حصين الطويل في قصة انتفاع النبي b وأصحابه من ماء مزادة امرأة مشركة، واغتسال من أصابته جنابة منها.
وجه الاستدلال:
أن هذه الأسقية لا بد أن تؤثر في الماء في طعمه ولونه ورائحته، ولم يمنع
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/27،28) .
(2) صحيح البخاري (859) ، ومسلم (186 - 763) .
(3) البخاري (3571) ، ومسلم (312، 682) .(1/90)
هذا من التطهر منه، ولم يتحول الماء إلى كونه طاهراً في نفسه غير مطهر لغيره، فدل على أن الماء قسمان لا ثالث لهما: طهور ونجس (1) .
الدليل السابع:
من النظر، قالوا: إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس. الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسلم إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم.
والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول b.
وهذا القول - أعني: تقسيم الماء إلى قسمين - هو الراجح.
والجواب: عن أدلة القول الأول مايلى:
أما استدلالهم بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) .الآية
فقد علمت الجواب عنه، وأن كلمة (ماء) نكرة فى سياق النفي فتعم كل ماء إلا ما دل الاجماع على خروجه، وهو الماء النجس.
وأما الجواب عن السؤال عن طهورية ماء البحر وأنه كان مستقراً فى ذهن الصحابه أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور فغير مسلم.
ويجاب عنه من ثلاثة وجوه:
الأول: لانسلم أن الاشكال الذى يكون عند رجل من الصحابة يؤخذ منه هذا العموم؛ إذ كيف يؤخذ من فرد واحد من الصحابه سأل عن طهورية ماء البحر بأنه قد استقر فى ذهن الصحابة عموم رأي جميع الصحابة،
_________
(1) المغني (1/21) .
(2) المائدة: 6.(1/91)
أن هناك ماء ليس بطهور وليس بنجس، وهو الطاهر، ولو قيل: إنه قد استقر في ذهن هذا الصحابي فقط لكان فيه نزاع فكيف بهذا التعميم، والصحابة منهم الفقهاء، ومنهم من لم يُعْرَف بالفقه، وشرف الصحبة شىء والفقه شىء آخر.
الثاني:
يحتمل أن يكون الصحابي سأل عن التطهر بماء البحر، لأن بعض الصحابة كان يكره التطهر منه كابن عمر، وكعبد الله بن عمرو، فلذلك سأل عن هذا (1) . ولم تكن علة الكراهة عندهما أنه طاهر.
الثالث:
أنتم جعلتم الشك الذي قام عند الصحابي دليلاً على وجود الطاهر، ونحن نرى أن حكم النبي b على البحر بأنه طهور دليل على أنه لا يضر تغير الماء بشىء طاهر؛ فإن ماء البحر متغير بالملح ومع ذلك هو طهور، والاستدلال بحكم النبي b أولى من الأستدلال بشك فرد واحد من الصحابة إن سُلِّم لكم بأنه قد شك.
أما الجواب عن الاغتسال بالماء الراكد، وعن النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثاً إذا استيقظ من النوم فسوف تأتي مناقشة الأدلة بالتفصيل إن شاء الله في مسائل مستقلة.
وهناك قولان آخران تركتهما في أخر البحث؛ لأنهما ضعيفان لايخرجان عن القولين الأولين.
_________
(1) التمهيد (16/221) .(1/92)
القول الأول: الماء المشكوك فيه (1) ، وهذا القول في الحقيقة لا يخرج عن القولين السابقين لأن الشك إنما هو من قبل الإنسان نفسه، وأما الشارع فلا يمكن أن يقوم عنده شك في حقيقة الماء.
نعم قد يحصل عند بعض المكلفين تردد في الماء هل هو طهور أم نجس؟ لكن يبقى الماء في حقيقة الأمر إما هذا، وإما هذا، ومع القول بأن الماء لا ينجس إلا بالتغير تصبح صورة هذا النوع قليلة أو نادرة؛ لأن التغير أمر مشاهد محسوس اللهم إلا أن يقال: قد يقع في بعض الصور كما لو كان التغير بسبب ولوغ الكلب، أو كان الإنسان فاقداً للشم أو أعمى، فهذا ممكن أن لا يشعر بالتغير، والله أعلم.
القول الثاني: زاد قوم آخرون الماء المغصوب.
قالوا: وحكم هذا الماء لا يمكن أن يرفع به الحدث لكن تزال به النجاسة (2) .
لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان.
ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟
قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية
_________
(1) الإنصاف (1/22) .
(2) نيل المآرب شرح دليل الطالب (1/39) .(1/93)
القربة بخلاف رفع الحدث، والصحيح أن هذا القسم لا يخرج عن القولين الأولين؛ لأن الغصب صفة خارجه عن الماء راجعة إلى الغاصب، أما الماء في حقيقته فطهور.(1/94)
الباب الثاني
الوضوء بالماء المحرم كالمغصوب ونحوه
إذا تعدى الإنسان على مال غيره، وكان غيره بحاجة إليه، كالماء مثلاً فإنه يأثم بذلك، ولكن هل يرتفع الحدث، ويزول الخبث، أم لا؟
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: يأثم، ويرتفع حدثه وخبثه، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) .
وقيل: لا تصح الطهارة به، ويرتفع به الخبث، اختاره بعض الحنابلة (4) .
وقيل: لا يرتفع به حدث، ولا خبث، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) ، وهو اختيار ابن حزم (6) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/48) ، الفصول في الأصول (2/179) ، حاشية ابن عابدين (1/341) .
(2) أنواع البروق في أنواع الفروق (2/84) ، الخرشي (1/181) ، و (3/44) ، الفواكه الدواني (1/124) ، حاشية الدسوقي (1/144) و (3/54) ، منح الجليل (1/138) .
(3) إعانة الطالبين (1/55) ، المجموع (2/295) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/59،68) .
(4) قال في منار السبيل (1/15) : " ماء يحرم استعماله ولا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو ماليس مباحاً كمغصوب ونحوه ". اهـ
(5) قال في الإنصاف (1/28) : وأما الوضوء بالماء المغصوب، فالصحيح من المذهب، أن الطهارة لا تصح به. وهو من مفردات المذهب. وعنه: تصح وتكره، اختاره ابن عبدوس في تذكرته. اهـ
وانظر قواعد ابن رجب القاعدة التاسعة (ص: 12) ، كشاف القناع (1/30) ، مطالب أولي النهى (4/62) ، المبدع (1/40) .
(6) المحلى (1/208) .(1/95)
دليل من قال لا يرتفع به الحدث.
الدليل الأول:
القياس على الصلاة في الثوب المسبل، فإذا كانت الصلاة في ثوب مسبل حرام لا تصح، فكذلك المسح على شيء محرم لا يصح
(15) فقد روى أحمد، قال: ثنا يونس بن محمد، قال، ثنا أبان وعبدالصمد، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار،
عن بعض أصحاب النبي b قال: بينما رجل يصلي، وهو مسبل إزاره، إذ قال له رسول الله b: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال له رسول الله b: اذهب، فتوضأ. قال: فذهب، فتوضأ، ثم جاء، فقال: ما لك يا رسول الله، ما لك أمرته يتوضأ؟ ثم سكت، قال: إنه كان يصلي، وهو مسبل إزاره، وإن الله عز وجل لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره (1) .
[إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (2) .
_________
(1) المسند (4/67) .
(2) فيه أبو جعفر المدني الأنصاري، لم يرو عنه سوى يحيى بن أبي كثير.
قال الدارمي: أبو جعفر هذا رجل من الأنصار.
وقال ابن القطان: مجهول.
وفي التقريب: مقبول، ومن زعم أنه محمد بن علي بن الحسين فقد وهم. اهـ
قلت: قال ابن حبان في صحيحه هو محمد بن علي بن الحسين. فتعقبه الحافظ في التهذيب، وقال: ليس هذا بمستقيم؛ لأن محمد بن علي لم يكن مؤذناً، ولأن أبا جعفر هذا قد صرح بسماعه من أبي هريرة في عدة أحاديث، وأما محمد بن علي بن الحسين فلم يدرك أبا هريرة فتعين أنه غيره. تهذيب التهذيب (12/58) .
واختلف أيضاً في إسناده فرواه أبان، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي b، وقيل عن أبي هريرة.
وخالفه حرب بن شداد، في سنن البيهقي (2/241) فرواه عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن أبا جعفر المدني حدثه، أن عطاء بن يسار حدثه، أن رجلاً من أصحاب رسول الله b حدثه، فذكره، فزاد في الإسناد إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة.
وكما صرح يحيى بن أبي كثير بالتحديث من إسحاق، قد صرح أيضاً بالتحديث من أبي جعفر كما في بغية الباحث في زوائد مسند الحارث (138،573) ، فلعله سمعه منهما.
وقال النووي: على شرط مسلم، انظر رياض الصالحين (ص: 358) ، ولم يصب.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/92) : " وفي إسناده أبو جعفر المدني، إن كان محمد بن علي بن الحسين، فروايته عن أبي هريرة مرسلة له، وإن كان غيره فلا أعرفه".
[تخريج الحديث]
الحديث رواه أحمد أيضا (5/379) بالإسناد نفسه.
ورواه النسائي في الكبرى (9703) عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام الدستوائي به مختصراً بلفظ: " لا تقبل صلاة رجل مسبل إزاره ".
وأخرجه أبو داود (638،4086) حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي جعفر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة به. فسمى الصحابي.
ورواه البيهقي في السنن (2/241) من طريق أبي إسماعيل الترمذي، ثنا موسى بن إسماعيل به.
ورواه الحارث في مسنده كما في بغية الباحث (138،573) حدثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي به.(1/96)
وجه النكارة فيه؛ إذا كانت الصلاة لا تقبل من أجل الإسبال، فلماذا يطلب منه إعادة الوضوء، وهو لم يحدث، ما بال الوضوء؟!
ولماذا لم يبلغه بأن يرفع إزاره، فقد يكون الرجل جاهلاً، والبلاغ تعليمه(1/97)
ما أخطأ فيه، لا أن يحيله على أمر قد أحسنه، فما إعادته للوضوء إلا عبث، حتى تجديد الوضوء لا يشرع في هذه الصورة؛ لأنه ما إن فرغ من وضوئه حتى طلب منه أن يعيده، لا لنقص في الوضوء، ولكن لأن الله لايقبل صلاة المسبل إزاره!!.
الدليل الثاني:
الماء المغصوب كسبه محرم بالاتفاق.
(16) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة،
عن أبي بكرة ذكر النبي b قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب (1) .
فإذا كان كسبه محرماً وصححنا الوضوء به نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله b.
(17) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد جميعاً عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا عبدالله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد، عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال:
أخبرتني عائشة أن رسول الله b قال: من عمل عملاً ليس عليه
_________
(1) البخاري (105) ، ومسلم (1679) .(1/98)
أمرنا فهو رد (1) .
ومعنى رد: أي مردود عليه، والوضوء بالماء المغصوب خلاف أمر الله ورسوله b.
قال ابن حزم رحمه الله: من توضأ بماء مغصوب، أو أخذ بغير حق، أو اغتسل به، أو من إناء كذلك، فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به، بل هو وضوء محرم، هو فيه عاص لله تعالى، وكذلك الغسل، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ، وهذا أمر لا إشكال فيه. ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين، فأطعمهم مال غيره، أو من عليه صيام أيام، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره، أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه؟ فمن قولهم: لا. فيقال لهم: فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء. وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه. وليس هذا قياساً، بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعال، ى وقد قال رسول الله b: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله b فهو مردود بحكم
_________
(1) صحيح مسلم (1718) .(1/99)
النبي b (1) .
وأجيب:
بأن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع.
الدليل الثالث:
قالوا إن المعدوم شرعا كالمعدوم حساً فتكون صورة التطهير معدومة حساً مع العمد، وذلك مبطل للصلاة والطهارة.
وأجيب:
بأن هذا النظر إنما يتم لو سلم أن الله تعالى أمر بالطهارة واشترط في ذلك أن تكون الأداة مباحة، ونحن لا نسلم ذلك بل نقول: إن الله تعالى أوجب الطهارة والصلاة مطلقاً، وحرم الغصب، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون عدمه شرطاً. ألا ترى أنه لو سرق في صلاته لم تبطل صلاته مع مقارنة المحرم، فكذلك في هذه المسألة (2) .
الدليل الرابع:
وقال بعضهم: إن تجويز الوضوء بالماء المغصوب يؤدي إلى إتلافه، وما يؤدي إلى إتلاف مال الغير ينبغي أن يحكم ببطلانه، بخلاف الصلاة في المكان المغصوب، والثوب المغصوب، فإنه لا يؤدي إلى إتلاف المغصوب.
_________
(1) المحلى (1/207،208) .
(2) أنوار البروق (2/99) .(1/100)
وأجيب:
بأن الحكم ببطلان الطهارة لن يرفع تلف الماء، فلا فائدة في الحكم ببطلان الطهارة.
أدلة القائلين بصحة الوضوء.
عدم الدليل المقتضي لفساد الطهارة، فهذا قد تطهر الطهارة الشرعية بغسل ما يجب غسله، فطهارته صحيحة، ولا يحكم ببطلانها إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل هنا.
الدليل الثاني:
إن المنع من الوضوء بالماء المغصوب لا يختص بالطهارة، فالغاصب مأذون له في المسح في الجملة، والمنع عارض أدركه من جهة الغصب، لا من جهة الطهارة، فأشبه غاصب مدية الذبح، وكلب الصيد، فيأثمون، ويصح فعلهم.
دليل من فرق بين الحدث والخبث.
الحنابلة قالوا: إن الماء المغصوب لا يرفع الحدث، ولكن يزيل الخبث.
لماذا لا يرفع الحدث وهو ماء طهور؟ قالوا: لأنه ماء استعماله محرم، فلو قلنا: إنه يرفع الحدث لرتبنا على المحرم أثره، إذ كيف يكون محرماً ويتقرب به الإنسان، وكل الأدلة التي سقتها في القول الأول يستدلون بها على المنع من رفع الحدث.
ولماذا إذاً قلتم بأنه يزيل النجاسة؟
قالوا: لأن النجاسة إذا ذهبت بالماء المحرم فقد زال حكمها فالحكم بنجاسة المحل مع زوال النجاسة غير ممكن، ولا يشترط لإزالة النجاسة نية(1/101)
القربة بخلاف رفع الحدث.
الراجح: أن الماء المغصوب تصح الطهارة منه في رفع الحدث والخبث، مع التحريم، فجهة المنع من قبل الغصب، لا من قبل الطهارة، ولا يكون النهي مقتضياً لفساد المنهي عنه إلا إذا عاد النهي إلى ذات العبادة، كما هو مقرر في أصول الفقه، والله أعلم.(1/102)
الباب الثالث
حكم رفع الحدث والخبث من ماء زمزم
اختلف العلماء في استعمال ماء زمزم في رفع الحدث وإزالة الخبث،
فقيل: يكره استعماله في إزالة الخبث، ولا يكره في رفع الحدث، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: لا يكره فيهما، وهو مذهب المالكية.
وقيل: في إزالة النجاسة بماء زمزم خلاف الأولى، ولا يكره الوضوء والغسل منه، وهو مذهب الشافعية (3) .
وقيل: يكره فيهما، وهو قول في مذهب الحنابلة (4) ، اختاره ابن تيمية (5) .
وقيل: يحرم فيهما، حكاه قولاً بعض الفقهاء (6) ، وهو وجه في مذهب
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/180) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/16) .
(2) الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل (1/58) ، الفروع (1/74) ، الإنصاف (1/27) ، المغني (1/28) .
(3) إعانة الطالبين (1/107) ، حاشية البجيرمي (1/59) ، حواشي الشرواني (1/174) .
(4) المغني (1/28) ، وساقه رواية عن أحمد، وقد جاء في مسائل أحمد رواية صالح (1094) : قلت: الغسل من ماء زمزم، وقد قال العباس: لا أحلها لمغتسل؟ فقال أحمد: يتمالك الناس من هذا؟ قال: وكان سفيان بن عيينة يحكي عن ابن عباس: لا أحلها لمغتسل، فيحكى عن العباس، وابن العباس، قال: وإن توقاه أعجب إلي.
(5) الاختيارات (ص: 4) .
(6) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/16) .(1/103)
الحنابلة (1) .
وقيل: يحرم إزالة النجاسة فقط، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يستحب الوضوء من زمزم، اختاره ابن الزاغوني من الحنابلة (3) .
وقيل: يكره الغسل، دون الوضوء، وهو رواية عن أحمد (4) .
دليل من منع الطهارة من ماء زمزم مطلقاً.
بعضهم يرجع المنع إلى كونه ماء مباركاً، فيكون النهي من باب التعظيم، فقد قال الرسول b عن زمزم، كما في صحيح مسلم: إنها مباركة، إنها طعام طعم (5) .
دليل من فرق بين الغسل وبين الوضوء.
أما من فرق بين الوضوء والغسل فيرجع المنع إلى مخالفة شرط الواقف.
(18) فقد روى عبد الرزاق في المصنف، قال: عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه،
أنه سمع ابن عباس يقول وهو قائم عند زمزم، إني لا أحلها لمغتسل، ولكن هي لشارب - أحسبه قال - ومتوضئ حل وبل (6) .
_________
(1) الفروع (1/74) .
(2) الهداية لأبي الخطاب (1/10) ، الفروع (1/74) ، الإنصاف (1/27،29) .
(3) الفروع (1/77) .
(4) تصحيح الفروع (1/76) .
(5) صحيح مسلم (2473) .
(6) مصنف (5/114) رقم 9115. وإسناده صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/41) ، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، قال: لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد، وهي لشارب ومتوضئ حل وبل. وإسناده صحيح.
ورواه الفاكهي في أخبار مكه (2/64) من طريقين عن سفيان به، وذكر قصة، ولفظه: قال إن رجلا من بني مخزوم من آل المغيرة اغتسل في زمزم، فوجد من ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وجداً شديداً، وقال: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب ومتوضىء حل وبل. قال سفيان: يعني في المسجد.
وقد ورد مثل ذلك عن العباس، فقد روى أحمد في العلل ومعرفة الرجال (2/187) حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، قال: سمعت العباس، وذكر زمزم، فقال: هي حل وبل، لا أحلها لمغتسل.
وروى الفاكهي في أخبار مكة (2/63) حدثنا محمد بن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثت عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش به.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف (9114) عن معمر، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه، قال: أخبرني من سمع عباس بن عبد المطلب يقول: وذكره.(1/104)
دليل من فرق بين رفع الحدث وإزالة الخبث.
وجه هذا القول: أن الحدث ليس فيه إهانة لماء زمزم، لأنه ماء طهور، لاقى بدناً طاهراً، بخلاف الخبث، فإن فيه إهانة، وهو ماء مبارك ليس كسائر المياه.
دليل من جوز رفع الحدث والخبث.
أما جواز رفع الحدث به، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، وهذا ماء طهور، فلا يجوز التيمم مع وجوده، وقد توضأ الصحابة من الماء الذي نبع من أصابع رسول الله b، مع كونه ماء مباركاً.
وأما جواز رفع الخبث، فلأنه لا يوجد ما يمنع منه، وكونه ماء مباركاً
_________
(1) المائدة: 6.(1/105)
فهذا وحده غير كاف، وجنس الماء في نفسه مطعوم، ومن المال، ومع ذلك يزال به الخبث، والله سبحانه وتعالى أنزل الماء ليطهرنا، ولم يفرق بين ماء وآخر، ومن منع فعليه الدليل، والحل هو الأصل.
الراجح من الأقوال:
أرى الجواز له قوة، ولا يوجد دليل يمنع من رفع الحدث أو إزالة الخبث، لكن إن وجد غيره في إزالة الخبث فتركه أولى، وإن لم يوجد غيره فلا مانع من إزالة الخبث به، والله أعلم.(1/106)
الباب الرابع
في الماء المتغير(1/107)
[صفحة فارغة](1/108)
الفصل الأول
في الماء المتغير بالطاهرات(1/109)
[صفحة فارغة](1/110)
المبحث الأول
الماء المتغير بطاهر غير ممازج
تمهيد: هل يشمل التغير بغير ممازح اللون والطعم؟
اختلف الفقهاء رحمهم الله، هل يشمل المتغير بغير ممازج جميع أوصاف الماء من طعم ولون ورائحة أو يشمل التغير بالرائحة فقط.. على قولين.
القول الأول:
قالوا: المقصود بالتغير تغير الرائحة فقط؛ لأن تغير اللون أو الطعم لا يتصور إلا بانفصال أجزاء واختلاطها بالماء، وبالتالي يكون التغير تغيراً عن ممازجة ومخالطة وليس تغيراً بالمجاورة.
وقد اختار هذا القول أكثر المالكية (1) ، واختاره الماوردي (2)
وابن الصلاح من الشافعية (3) ، وظاهر عبارة صاحب المهذب (4) ، ومفهوم عبارة الشافعي في
_________
(1) الإكليل شرح مختصر خليل (1/6) .
(2) الحاوي الكبير (1/53) قال رحمه الله: إذا تغير بالكافور فله ثلاث أحوال:
الأولى: حال يعلم انحلال الكافور فيه فاستعماله غير جائز لأنه تغير عن مخالطة.
الثانية: وحال يعلم أنه لم يدخل فيه فاستعماله جائز لأنه تغير عن مجاورة.
الثالثة: وحال يشك فيه، فينظر في صفاء التغير، فإن تغير الطعم دون الرائحة فهو دال على تغير المخالطة ولا يجوز استعماله، وإن كان تغير الريح ففيه لأصحابنا وجهان.
(3) نقل النووي عن ابن الصلاح في المجموع (1/154) قوله: "وعندي أن التغير بالمجاورة لا يكون إلا بالرائحة؛ لأن تغير اللون والطعم لا يتصوران إلا بانفصال أجزاء واختلاطها، والرائحة تحصل بدون ذلك، ولهذا تتغير رائحته بما على طرف الماء لا طعمه ولونه ".
(4) قال رحمه الله (1/154) : وإن وقع فيه ما لا يختلط به فغير رائحته كالدهن الطيب والعود. ثم قال: وإن وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته.(1/111)
الأم (1) .
واختاره من الحنابلة المجد في شرحه وتبعه صاحب الحاوي الكبير (2) .
وقيل: إن التغير بغير ممازج يشمل الأوصاف الثلاثة. واختاره النووي من الشافعية: وقال إنه هو الموافق لإطلاق كلام الأصحاب. بل قد صرح به أبو حامد وصاحبه المحاملي بأنه شامل لأوصاف الماء كلها (3) .
والراجح القول الأول: أنه لا يشمل إلا الريح فقط. إذ لا يتصور أن يتغير لون الماء ثم يكون تغيره عن مجاورة وليس عن
ممازجة، فالتغير بالمجاورة مقصور على الريح فقط.
خلاف العلماء في الماء إذا تغير بطاهر غير ممازج.
إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج كالدهن وقطع الكافور، فاختلف العلماء فيه هل يبقى على طهوريته أم يتحول إلى طاهر:
فقيل: الماء طهور بلا كراهة،
وهو مذهب الحنفية (4) ، واختاره ابن رشد وابن الحاجب من
_________
(1) قال رحمه الله (1/7) : ولو صب فيه دهن طيب أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء فظهر ريحه بالماء توضأ به. الخ
(2) الإنصاف (1/ 23) ، والحاوي الكبير هذا كتاب حنبلي، وهو غير كتاب الماوردي، لأن الماوردي شافعي.
(3) النووي في المجموع (1/155) . انظر متن المهذب مع شرحه المجموع.
(4) في مذهب الحنفية لا يفرقون بين الممازج وغير الممازج، فإذا كان الممازج طهوراً عندهم، فغير الممازج من باب أولى، انظر شرح فتح القدير (1/72) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/21) ، البحر الرائق (1/71) .(1/112)
المالكية (1) ، وهو مذهب الشافعية (2) ،
ورجحه ابن حزم (3) ، وابن قدامة (4) .
وقيل: يكون طاهراً، اختاره من المالكية ابن عرفة وابن مرزوق والأجهوري (5) ، وهو وجه في مذهب الشافعية رجحه البويطي (6) ، واختاره
_________
(1) قال في حاشية الدسوقي (1/36) : " وإن كان تغير ريحه بدهن لا صق: أي برياحين مطروحة على سطح الماء، فنشأ من ذلك تغير ريحه فلا يضر على ما قاله المصنف تبعاً لابن عطاء الله وابن بشير وابن رشد وابن الحاجب، وهو ضعيف، والمعتمد أنه يضر مثل تغير اللون والطعم كما قال ابن عرفة: إنه ظاهر الروايات، والحاصل أن التغير بالمجاور الغير الملاصق لا يضر مطلقاً: أي سواء تغير الريح أو اللون أو الطعم أو الثلاثة، وسواء كان التغير بيناً أولا، كان الماء قليلاً أو كثيراً، وأما التغير بالمجاور الملاصق فيضر اتفاقاً إن كان المتغير لوناً أو طعماً، كان التغير بيناً أولا، قل الماء أو كثر، وفي تغير الريح خلاف، والمعتمد الضرر، وأما التغير بالممازج فيضر مطلقاً باتفاق، هذا محصل كلام الشارح، وانظر مواهب الجليل (1/54) والتاج والإكليل (1/75) ، وشرح الخرشي (1/70) .
(2) الأم (1/20) : " ولو صب فيه دهن أو طيب، أو ألقي فيه عنبر أو عود أو شيء ذو ريح لا يختلط بالماء، فظهر ريحه في الماء توضأ به؛ لأنه ليس في الماء شيء منه يسمى الماء مخوضاً به، ولو كان صب فيه مسك أو ذريرة أو شيء ينماع في الماء حتى يصير الماء غير متميز منه فظهر فيه ريح لم يتوضأ به؛ لأنه حينئذ ماء مخوض به، وإنما يقال له: ماء مسك مخوضة وذريرة مخوضة، وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره، إذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه لم يتوضأ به؛ لأن الماء حينئذ منسوب إلى ما خالطه منه. اهـ. وانظر المجموع (1/155) ..
(3) قال ابن حزم في المحلى (مسألة 147) : " وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح، فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء، فالوضوء به جائز، والغسل للجنابة جائز، ثم قال: سواء كان الواقع فيه مسكاً أو عسلاً أو زعفراناً، أو غير ذلك.
(4) انظر المغني (1/23) ، والمبدع شرح المقنع (1/36) ، والإنصاف (1/23) .
(5) الإكليل (1/6) ، حاشية الدسوقي (1/36) .
(6) المجموع (1/154) .(1/113)
أبو الخطاب في الانتصار (1) ، والمجد، وصاحب الحاوي الكبير من الحنابلة (2) .
وقيل: يصبح طهوراً مكروهاً، وهو المشهور عند الحنابلة (3) .
دليل من قال الماء طهور مكروه.
قالوا إن الماء إذا تغير بغير ممازج، فإنه طهور يرفع الحدث ويزيل النجاسة. ومكروه: أي يثاب تاركه امتثالاً. ولا يعاقب فاعله.
فلماذا هو طهور، وقد تغير؟
قالوا: لأن هذا التغير ليس عن ممازجة وإنما هو عن مجاورة.
ولماذا هو إذاً مكروه؟
قالوا: لأن بعض العلماء يقولون بأنه طاهر فقلنا إنه مكروه خروجاً من الخلاف.
والتعليل بالكراهة لوجود الخلاف قول ضعيف، وهو قد زاد من الخلاف، ولم يخفف الخلاف، وسبب ذلك:
أولاً: أنتم لم تأتوا بقول يجمع بين القولين حتى يقال: دفعكم إلى القول به وجود الخلاف، فلا أنتم تمسكتم بالقول بأنه طهور بلا كراهة، ولا أنتم قلتم بأنه طاهر، فأنتم في الحقيقة أحدثتم قولاً ثالثاً لا لدليل دعاكم إلى القول بهذا القول، ولكن الذي دعاكم إلى هذا وجود قولين في المسألة وبدلاً من أن يصبح في المسألة قولان أصبح فيها ثلاثة أقوال: طهور مطلقاً، وطاهر، والقول الذي أحدثتموه (طهور مكروه) .
_________
(1) الانتصار في المسائل الكبار (1/126) .
(2) الإنصاف (1/23) .
(3) الإنصاف (1/123) .(1/114)
ثانياً: أن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع المتفق عليها ولا المختلف فيها.
ثالثاً: لو أخذنا بالخلاف كدليل أو تعليل للحكم الشرعي للزم أن كل مسألة خلافية نقول إنها مكروهة، وهذا لا يقول به أحد.
فالصحيح أن الخلاف نوعان:
نوع يكون الخلاف فيه ضعيفاً جداً، فهذا نطرحه ولا نبالي.
وليس كل خلاف جاء معتبراً... إلا خلافاً له حظ من النظر.
فإذا كان الخلاف ليس له حظ من النظر الشرعي أو العقلي (الأثر أوالتعليل) فلا يراعى.
النوع الثاني من الخلاف: خلاف يكون قوياً فتجدكل قول في المسألة له دليل قوي.
فهنا يقال: إن الخروج من الخلاف فيه احتياط، وليس السبب وجود الخلاف وإنما السبب هو احتمال الأدلة.. فهو من باب دع ما يريبك إلا ما لا يريبك.
دليل من قال الماء طاهر غير مطهر.
قالوا: إن هذا الماء قد تغير بطاهر فيكون كما لو تغير بغير ممازج، قال أبو الخطاب: من سلم من أصحابنا أن التغير بالكافور والعود والدهن لا يمنع من الطهارة، قال: لأن ذلك تغير مجاورة لا مخالطة، والمانع تغير المخالطة، وهذا غير صحيح، فإن الكافور يوجد طعمه في الماء ومرارته، وكذلك طعم الدهن، وليس ذلك إلا بحصول جزء منه في الماء، ومخالطة له (1) .
_________
(1) الانتصار (1/127) .(1/115)
دليل من قال الماء طهور بلا كراهة.
لا يحتاج هذا القول إلى دليل؛ لأن الأصل أن الماء طهور، ومن أراد أن ينقله عن أصله طلب منه الدليل، وإلا بقي على أصله، ومع ذلك فإن الأدلة كثيرة على عدم وجود قسم الطاهر، فالماء إما طهور أو نجس، ولاثالث لهما، وإذا ضعفنا القول بوجود الماء الطاهر فإن الماء في هذه المسألة يصبح طهوراً؛ لأن أحداً لم يقل بأنه إذا خالطه طاهر يصبح نجساً، وإنما الخلاف هل يصبح طاهراً أم طهوراً، وقد أفردت مسألة مستقلة في الخلاف في أقسام الماء، وذكرت أدلة كثيرة على أن الماء قسمان، وكل هذه الأدلة تصلح أن تكون أدلة في مسألتنا، والله أعلم.(1/116)
المبحث الثاني
الماء المتغير بطاهر يشق صون الماء عنه
مثاله: ماء نابت بجواره أشجار كثيرة، فإذا حركت الرياح الأشجار تساقطت الأوراق.. فتقع تلك الأوراق في الماء فيتغير بها.
أو نبت في الماء طحلب فتغير بسببه فهنا تغير الماء بشيء طاهر وليس بنجس، وهذا الطاهر يصعب الاحتراز منه، فما حكمه؟
اختلف الفقهاء في ذلك:
فقيل: الماء طهور، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والشافعية (2)
والحنابلة (3) ، واختاره العراقيون من أصحاب الإمام مالك (4) ،
ورجحه
_________
(1) لا يفرق الحنفية بين ما يشق التحرز منه، وما لا يشق، والتغير عندهم بشيء طاهر لا يضر مطلقاً، انظر البناية (1/304) .
(2) قال الشيرازي في المهذب (1/150) : " وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت، فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب، وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به؛ لأنه لا يمكن صون الماء منه، فعفي عنه.. الخ كلامه.
قال النووي شارحاً لعبارته (1/150) : " أما قوله: إذا تغير بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به، فمجمع عليه، ووجهه ما ذكره من تعذر الاحتراز ".
وقول النووي: مجمع عليه، إن كان يقصد في المذهب فذاك، وإن كان يقصد الإجماع العام، فغير مسلم؛ لأن الخلاف فيه محفوظ في المذهب المالكي، كما سيأتي، والله أعلم.
(3) قال صاحب المغني (1/25) : " الثاني ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب، وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريح فتلقيه فيه، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما إذا جرى عليه الماء فتغير به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء، فهذا كله يعفى عنه؛ لأنه يشق التحرز منه... الخ كلامه رحمه الله. وانظر الإنصاف (1/22) .
(4) قال محمد البناني على حاشية الزرقاني (1/13) : " الذي يظهر من كلام أهل المذهب، ونقولهم التي ذكرناها ترجيح القول بأن ذلك - يعني تغير الماء بما يقع فيه مما يشق التحرز منه - لا يسلبه الطهورية؛ لأنه قول شيوخنا العراقيين، وقدمه صاحب الطراز وابن عرفة، واقتصر عليه صاحب الذخيرة، ولم يذكر غيره، واختاره ابن رشد، فكان ينبغي للمصنف أن يقتصر عليه، أو يقدمه، فإن القول الذي قدمه هو قول الابياني، وقد علمت أنه في غاية الشذوذ، كما قال ابن رشد، لكن المصنف والله أعلم إنما اعتمد في تقديمه على ما يفهمه من كلام اللخمي من أنه هو المعروف من المذهب، وذلك على ما أصله، وقد علمت أنه ضعيف. انتهى.
وجاء في المنتقى للباجي (1/55) : " إذا سقط ورق الشجر أو الحشيش في الماء فتغير فإن مذهب شيوخنا العراقيين أنه لا يمنع الوضوء به.
وقال أبو العباس الأبياني: يمنع.
وجه القول الأول: أنه مما لا ينفك الماء عنه غالباً، ولا يمكن التحفظ منه، ويشق ترك استعماله كالطحلب، وقد روى في المجموعة ابن غانم، عن مالك في غدر تردها الماشية، فتبول فيها وتروث، فتغير طعم الماء ولونه: لا يعجبني الوضوء به، ولا أحرمه، ومعنى ذلك أن هذا مما لا ينفك الماء عنه غالباً، ولا يمكن منعه منه. اهـ(1/117)
ابن رشد (1) ، وابن حزم (2) ، وابن تيمية (3) ، وغيرهم.
وقيل: يسلبه الطهورية، ولا فرق في ذلك بين ما يشق التحرز منه، وما لا يشق، وهو قول في مذهب المالكية (4) .
_________
(1) محمد البناني على حاشية الزرقاني (1/13) وفيه: أن ابن رشد قال عن القول بأنه يسلبه الطهورية، قال عنه: بأنه شاذ خارج عن أصل المذهب، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا يعرج عليه... انتهى"
(2) المحلى (مسألة: 147) .
(3) انظر الفروع (1/77) .
(4) قال الخرشي (1/72) : اختاره اللخمي، وقال: وهو المعروف من المذهب، وقدمه خليل في مختصره (ص: 5) .(1/118)
دليل من قال إن الماء طهور.
أولاً: الإجماع.
نقل الإجماع على طهوريته النووي (1) ، وفيه نظر؛ لأن الخلاف في المذهب المالكي محفوظ.
ثانياً: إن التحرز منه يشق، فعفي عنه، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (2) .
قال أبو الخطاب: ما لا يمكن التحرز منه لا يحرج به الشرع، بل يعفو عنه كأثر الاستنجاء، والتراب القليل في الأموال الربوية، وملاقاة الماء للنجاسة قبل الانفصال، والعمل القليل في الصلاة، ويسير الدماء وغير ذلك (3) .
ثالثاً: قدمت الخلاف في أقسام المياه، وأن وجود ماء طاهر غير مطهر لا يثبت من حيث الأدلة، وأن الماء قسمان طهور ونجس، ولا ثالث لهما، فكل دليل ذكرته في تلك المسألة يصلح أن يكون دليلاً لهذه المسألة، والله أعلم.
دليل من قال إن الماء طاهر غير مطهر.
قالوا: إذا تغير الماء بشيء طاهر فإنه يسلبه الطهورية، لا فرق بين ما يشق وما لا يشق، لأن العلة هي التغير بشيء طاهر وقد حصل، وذلك أن الحكم بتغير الماء حكم وضعي، فكما أن النجاسة إذا وقعت في الماء فغيرته يكون نجساً، لا فرق بين نجاسة يشق التحرز عنها وبين غيرها، فكذلك الطاهر إذا وقع في الماء فإنه يسلبه الطهورية لا فرق بين ما يشق، وبين ما لايشق.
_________
(1) المجموع (1/150) .
(2) الحج، آية:.
(3) الانتصار (1/128) .(1/119)
وهذا القول صحيح لو سلمنا أن الماء إذا تغير بشيء طاهر لا يشق التحرز منه يصبح طاهراً، ولكن الصحيح أن الماء طهور، ولو تغير طعمه ولونه ورائحته بشيء طاهر وضع فيه ما لم يخرج عن مسمى الماء، لأن الماء كما قدمنا قسمان لا ثالث لهما، وقد ذكرت أحاديث كثيرة تدل على التطهر بالماء الذي تغير بشيء طاهر، مثل حديث: "اغسلوه بماء وسدر" لمن وقصته ناقته، وسبق تخريجه، وقوله في حديث أم عطية في تغسيل ابنته رضي الله عنها: "اغسلوها بماء وسدر" وكون الرسول b اغتسل هو وزوجه من قصعة فيها أثر العجين، وسبق تحرير الخلاف في أن الماء قسمان، فارجع إليه غير مأمور.(1/120)
المبحث الثالث
الماء المتغير بطول مكثه
إذا طال ركود الماء في المكان، تغير إما في لونه أو طعمه أو ريحه. ويسمى الماء الآجن والآسن.
فذهب الآئمة الأربعة إلى أنه ماء مطلق، طهور غير مكروه (1) .
وقيل: يكره استعماله، وهو وجه في مذهب الحنابلة (2) .
الدليل على طهورية الماء الآجن.
أولاً: الإجماع على طهوريته.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن الذي قد طال مكثه في الموضع من غير نجاسة حلت فيه جائزة إلا شيئاً يروى عن ابن سيرين (3) .
وقال ابن تيمية: أما ما تغير بمكثه ومقره فهو باق على طهوريته باتفاق
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية البحر الرائق (1/71) ، الفتاوى الهندية (1/21) ، حاشية ابن عابدين (1/186) المبسوط (1/72) بدائع الصنائع (1/15) .
وانظر في مذهب المالكية أحكام القرآن لابن العربي (3/440،441) ، شرح الخرشي (1/68) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/33) ، جواهر الإكليل (1/78) .
وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/20) ، المجموع (1/221) ، أسنى المطالب (1/8) ، تحفة المحتاج (1/70) .
وفي مذهب الحنابلة انظر المغني (1/26) ، الفتاوى الكبرى (1/214) ، الفروع (1/73) ، الإنصاف (1/22) ، كشاف القناع (1/26)
(2) الإنصاف (1/22) .
(3) الأوسط (1/259) .(1/121)
العلماء (1) .
(19) وأما ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ابن عون،
عن ابن سيرين أنه كان يكره الوضوء بالماء الآجن (2) .
[وسنده صحيح] (3) .
فلعل المقصود أن نفسه تكرهه؛ لأنه منتن الرائحة لا أنها كراهة شرعية، والله أعلم.
ثانياً: لأن تغيره جاء من غير مخالطة، فلم يخالطه شيء لا طاهر ولانجس، والماء طهور في نفسه حتى تخالطه الأخباث العارضة، وهذا ما لم يحصل في الماء الآجن.
وأما ما يروى عن النبي b وأنه توضأ بماء آجن، فهذا الحديث يذكره الفقهاء كصاحب المبدع، والروض، ولا يذكرون من خرجه، ولم أجده في كتب السنة من السنن والمسانيد والمعاجم، وقد ذكر ابن قاسم النجدي في حاشيته بأنه رواه البيهقي، وبالرجوع إلى البيهقي لم أجده بهذا اللفظ، وإليك ألفاظه:
(20) فقد روى البيهقي، قال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي، ثنا محمد بن عمرو بن خالد، ثنا أبي، ثنا ابن
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/6) ، وحكاه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/36) ، وحكى الإجماع ابن مفلح في المبدع (1/36) .
(2) المصنف (1/46) رقم 458.
(3) ورواه أبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 310) .(1/122)
لهيعة، ثنا أبو الأسود،
عن عروة في قصة أحد وما أصاب النبي b في وجهه، قال: وسعى علي بن أبي طالب إلى المهراس، فأتى بماء في مجنة، فأراد رسول الله b أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فقال رسول الله b هذا ماء آجن، فمضمض منه، وغسلت فاطمة عن أبيها الدم (1) .
[ضعيف] (2) .
(21) وروى البيهقي أيضاً، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم،
عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قال: فلما انتهى رسول الله b إلى فم الشعب، خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس، ثم جاء به إلى رسول الله b ليشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه b (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/269) .
(2) وهذا فيه علتان:
الأولى: أنه مرسل.
والثانية: فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف وسيأتي إن شاء الله بيان ابن لهيعة وأنه ضعيف مطلقاً قبل احتراق كتبه وبعدها.
(3) سنن البيهقي (1/269) .
(4) وهذا فيه علتان أيضاً:
الأولى: كونه مرسلاً.
الثانية: فيه رجل مبهم، ومع ذلك اختلف فيه على ابن إسحاق.
قال البيهقي: هكذا رواه يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق ورواه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، وهو إسناد موصول. اهـ كلام البيهقي.(1/123)
(22) وقال ابن المنذر: احتج إسحاق بحديث روي عن الزبير بن العوام،
قال إسحاق: أنا وهب بن جرير، ثنا أبي، قال: سمعت محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير،
عن أبيه، قال: خرجنا مع رسول الله b مصعدين في أحد، قال: ثم أمر رسول الله b علي بن أبي طالب فأتى المهراس، فأتى بماء في درقته، فأراد رسول الله b أن يشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه، فغسل به الدماء التي في وجهه، وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله b، وكان الذي أدمى وجه رسول الله b يومئذ عتبة بن أبي وقاص.
قال إسحاق: ففي ذلك بيان على أنه طاهر، ولولا ذلك لم يغسل النبي b الدم به (1) .
[إسناده صحيح]
وإذا ثبت أنه ليس بنجس، فإنه طهور؛ لأن الماء إما طهور وإما نجس، ولا ثالث لهما كما تبين في الخلاف السابق عند الكلام على أقسام الماء، والله أعلم.
_________
(1) الأوسط لابن المنذر (1/260) .(1/124)
المبحث الرابع
الماء المتغير بالملح(1/125)
[صفحة فارغة](1/126)
الفرع الأول
الماء إذا وضع فيه ملح فتغير به
اختلف العلماء في الماء المتغير بالملح:
فقيل: طهور مطلقاً، سواء كان الملح مائياً أو معدنياً، طرح قصداً أو من غير قصد، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
ووجه في مذهب الشافعية (3) ،
_________
(1) مذهب الحنفية أوسع المذاهب من جهة الماء إذا تغير بشيء طاهر سواء كان من الملح أو من غيره، ولذلك قال ابن نجيم في البحر الرائق (1/71) : " يجوز الوضوء بالماء، ولو خالطه شيء طاهر، فغير أحد أوصافه التي هي: الطعم واللون والريح ". اهـ
فلا يقيدون التغير أن يكون مما لا يمكن حفظ الماء عنه، ولا بكونه تراباً، ولا بكونه ملحاً مائياً.
وبخصوص التغير بالملح فلهم قيد أن يكون ماء انعقد به الملح، لا بماء الملح: أي الحاصل بذوبان الملح. والفرق بينهما أن ماء الملح: يجمد في الصيف، ويذوب في الشتاء عكس الماء.
فماء الملح: هو ماء يتحول إلى ملح لجوهر الماء، وليس بسبب الأرض السبخة، وله عيون تسمة عيون الملح تنبع ماء، ثم يتحول إلى ملح.
فالحنفية يجوزن الطهارة بماء وقع فيه ملح بسبب الأرض ونحوها، ولا يجوزن الطهارة بماء الملح؛ لأنهم يرونه جنساً آخر غير الماء. انظر تبيين الحقائق (1/19) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/21) ،
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/36،37) ، شرح خليل (1/69) .
وقال في مواهب الجليل (1/57) : " الماء إذا تغير بشيء طرح فيه، وكان ذلك المطروح من جنس ما هو من قرار الماء كالتراب والملح، فإن ذلك لا يسلبه الطهورية، ولو كان الطرح قصداً، وهذا هو المشهور.
وقيل: إن ذلك يسلبه الطهورية إذا كان الطرح قصداً، حكاه المازري وغيره، ونقله ابن عرفة. وانظر المنتقى شرح الموطأ (1/55) .
(3) روضة الطالبين (1/11) .(1/127)
واختاره ابن تيمية (1) .
وقيل: إن تغير بملح مائي فهو طهور، وإن تغير بملح معدني فهو طاهر غير مطهر، وهذا ما عليه أكثر أصحاب الإمام الشافعي (2) .
وقيل: أن تغير بملح معدني فإنه طاهر.. وإن تغير بملح مائي فإنه طهور
_________
(1) لا يفرق ابن تيمية رحمه الله بين ما تغير بالملح، أو تغير بشيء طاهر، فكل ذلك عنده طهور، ما دام يسمى ماء، انظر مجموع الفتاوى (21/24) ، والفتاوى المصرية (ص: 5) . بل إن ابن تيمية رحمه الله لا يثبت القسم الطاهر، ويرى أن الماء قسمان: طهور ونجس.
(2) قال النووي في روضة الطالبين: والمتغير بالملح فيه أوجه:
أصحها: يسلب الجبلي منه دون المائي.
والثاني: يسلبان.
والثالث: لا يسلبان. وانظر المجموع (1/151) .
ويشترط في الجبلي حتى يكون سالباً للطهورية أن لا يكون بممر الماء، فإن كان بممر الماء لم يسلبه الطهورية لمشقة التحرز منه، كما سبق تحريره في مسألة الماء المتغير بما يشق صون الماء عنه. انظر أسنى المطالب (1/8) .
قال الماوردي: الماء الذي ينعقد منه ملح إن بدأ في الجمود، وخرج عن حد الجاري، لم تجز الطهارة به.
وإن كان جارياً فهو ضربان:
ضرب يصير ملحاً لجوهر التربية كالسباخ إذا حصل فيها مطر أو غيره صار ملحاً، جازت الطهارة به.
وضرب يصير ملحاً لجوهر الماء كأعين الملح التي ينبع ماؤها مائعاً، ثم يصير ملحاً، فظاهر مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه: جواز الطهارة به؛ لأن اسم الماء يتناوله في الحال، وإن تغير في وقت آخر، كما يجمد الماء فيصير ثلجاً.
وقال أبو سهل الصعلوكي: لا يجوز؛ لأنه جنس آخر كالنفط، وكذا نقل القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وجهين في الماء الذي ينعقد منه ملح، وعبارة البغوي: ماء الملاحة، والصواب الجواز مطلقاً مادام جارياً، والله أعلم. اهـ(1/128)
مكروه، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (1) .
وقيل: إن طرح فيه الملح قصداً سلبه الطهورية، وإلا فلا، وهو قول في مذهب المالكية اختاره ابن يونس (2) ، ووجه في مذهب الإمام أحمد (3) .
دليل من قال الماء طهور.
الدليل الأول:
(23) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي b: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم
_________
(1) مطالب أولي النهى (1/31،32) ،
(2) حاشية الدسوقي (1/37) قال: " والأرجح عند ابن يونس السلب للطهورية بالملح المطروح قصداً، وهو ضعيف " اهـ وانظر مواهب الجليل (1/57) .
وقال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/32) : " حاصله أن المتأخرين اختلفوا في الملح المطروح قصداً:
فقال ابن أبي زيد: لا ينقل حكم الماء كالتراب، وهذا هو المذهب.
وقال القابسي: إنه كالطعام، فينقله، واختاره ابن يونس.
وقال الباجي: المعدني كالتراب، والمصنوع كالطعام، فهذه ثلاث طرق للمتأخرين.
ثم اختلف من بعدهم:
هل ترجع هذه الطرق إلى قول واحد؟
فيكون من جعله كالتراب أراد المعدني. ومن جعله كالطعام أراد المصنوع، وحينئذ اتفقت الطرق على أن المصنوع يضر... الخ كلامه رحمه الله.
(3) الإنصاف (1/23) .(1/129)
القيامة ملبياً (1) .
الدليل الثاني:
(24) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين،
عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (2) .
وجه الاستدلال من الحديثين:
أن السدر أضيف إلى الماء، ولا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق، وإذا كان السدر لم يسلب الماء الطهورية لم يسلبه الملح من باب أولى.
الدليل الثالث:
(25) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي b وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206) .
(2) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939) .
(3) مسند أحمد (6/341،342) .(1/130)
[إسناده صحيح] (1) .
أن هذا الماء لا بد أن يتغير من العجين لا سيما في آخر الأمر إذا قل الماء وانحل العجين، ولم يمنع هذا من اغتسال النبي b وزوجه، فدل هذا على أن الماء إذا تغير بشىء طاهر يبقى طهوراً، ولا يتحول إلى طاهر غير مطهر (2) .
الدليل الرابع:
إثبات قسم من الماء لا طهور ولا نجس، الحاجة إلى بيانه أشد من الحاجة إلى بيان كثير من الآداب والأحكام، لأن المسألة إما أن يتوضأ، وإما أن يتيمم.
والمسألة تتعلق بالصلاة التي هى أعظم أركان الإسلام العملية فلو كان هذا القسم موجودا لبينة الرسول b.
وهذا القول هو الراجح.
دليل من فرق بين الملح المائي والمعدني.
قالوا: تغير الماء بالملح المائي يشبه تغيره بالتراب؛ وذلك لأن الملح منعقد من الماء، فيكون حكمه حكم الثلج إذا ذاب وتحول إلى ماء فما دام ملحاً لا يجوز الوضوء به، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء، ولا يضره تغير طعمه به، لأن الملح منه. وأما الملح المعدني فلم يكن قط ماء، فإذا تغير الماء به يكون حكمه كما لو تغير بالطعام، فلا تصح الطهارة منه.
والصحيح أن الملح المعدني إذا وقع في الماء فغير أحد أوصافه فإنه ماء، فالماء المالح يسمى ماء على الإطلاق، وإذا كان الماء المالح كالبحر لم يمنع أن
_________
(1) سبق تخريجه في الخلاف في أقسام المياه.
(2) مجموع الفتاوى (21/27،28) .(1/131)
يسمى ماء، وتصح الطهارة منه، فكذلك الماء إذا وضع فيه المالح فغير طعمه لا يمنع أن يسمى ماء، ولا يتحول عنه اسم الماء بمجرد أنه تغير، وحكم الماء إذا تغير بشيء طاهر سوف يبحث في مسألة مستقله إن شاء الله.
وجه قول من قال طهور مكروه
لماذا قالوا: إنه طهور وقد تغير؟
قالوا: لأنه تغير بشيء منعقد من الماء.
ولماذا يكون مكروهاً؟
قالوا: لأن بعض العلماء يقولون عنه بأنه طاهر فخروجاً من الخلاف، قلنا: إنه مكروه.
وقد سبق أن الكراهة بسبب وجود الخلاف قول ضعيف جداً.
وجه من قال إن وضع قصداً سلبه الطهورية.
قالوا: لما فارق الملح الأرض أصبح طعاماً لا يجوز التيمم عليه، فصار حكمه حكم إذا وضع فيه شيء طاهر (1) .
والجواب عنه كالجواب عن الذي قبله، ويضاف إليه أن القصد نية متعلقة بالقلب وليست متعلقة بالماء، والقلب أجنبي عن الماء، فكما أنه لا تؤثر النية في تغير الماء بالنجاسة، فإذا تغير بالنجاسة نجس، سواء كان عن قصد أو غير قصد، فكذلك وقوع الشيئ الطاهر بالماء لا تؤثر فيه النية، فإن كان يسلب الماء الطهورية سلبه سواء كان عن قصد أو من غير قصد، وإذا كان لا يسلبه فكذلك. فقيد القصد قيد ضعيف، والله أعلم.
_________
(1) مواهب الجليل (1/58) .(1/132)
الراجح من الخلاف كما قدمت أن الماء طهور مطلقاً سواء تغير بالملح المائي أو المعدني، وسواء وضع فيه عن قصد أو عن غير قصد.(1/133)
[صفحة فارغة](1/134)
الفرع الثاني
الخلاف في طهورية ماء البحر
في طهورية ماء البحر خلاف شاذ، يلزم ذكره عند الكلام على طهورية ماء البحر ليعلم أن المسألة ليست إجماعاً، وهاك بيان الخلاف فيه:
فقيل: ماء البحر طهور، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) ، وبه قال ابن حزم (2) .
وقيل: يكره التطهر بماء البحر، وهو مروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: الهداية (1/17) ، البحر الرائق (1/166) ، بدئع الصنائع (1/15) ، أحكام القرآن للجصاص (1/43) ، شرح فتح القدير (1/70) ،.
وفي مذهب المالكية: انظر حاشية الدسوقي (1/34) ، أسهل المدارك (1/34) ، المنتقى للباجي (1/55) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/446،447) ، الفواكه الدواني (1/124) .
وفي مذهب الشافعية: انظر الأم (1/16) ، المجموع (1/136) ، الوجيز (1/4) .
وفي مذهب الحنابلة: انظر المغني (1/22،23) ، المبدع (1/33) ، الكافي (1/3) ، وكشاف القناع (1/26) ،
(2) المحلى (1/210) .
(3) ذكره الترمذي بعد أن ساق حديث (69) ، وانظر: المجموع (1/136) ، المغني (1/22) ، المحلى (1/210) .
وقد عبر الترمذي في سننه بالكراهة، فقال: وقد كره بعض أصحاب النبي b الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو.
وقال ابن حزم في المحلى (1/210) : " روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ ". اهـ والتعبير بعدم الإجزاء هو المنقول عنهما في مصنف بن أبي شيبة كما سيأتي تخريجه عنهم، والكراهة عند السلف قد تحمل على كراهة التحريم، والله أعلم.(1/135)
دليل الجمهور:
الدليل الأول:
من الكتاب قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) .
وجه الاستدلال: كلمة (ماء) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، نزل من السماء أو نبع من الأرض، إلا ما خصه الدليل، وماء البحر لم يستثن، بل الثابت جواز الوضوء منه.
الدليل الثاني:
إذا كان طعام البحر، وصيده حلالاً لنا، فيلزم منه أن يكون ماؤه طهوراً، فكيف يكون الطعام حلالاً والماء ليس بطهور، قال سبحانه وتعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة} (2) .
الدليل الثالث:
(26) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة،
عن أبي هريرة، عن النبي b قال في ماء البحر: هو الطهور ماؤه الحلال ميتته (3) .
[الحديث صحيح، وسبق تخريجه] .
الدليل الرابع:
القياس على الماء العذب، فإن كلاً منهما باق على أصل خلقته التي
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المائدة: 96.
(3) أحمد (2/237) .(1/136)
خلقه الله عليها، ولم يتغير لونه أو ريحه أو طعمه.
الدليل الخامس:
حكى بعضهم الإجماع على طهوريته، وفي الإجماع نظر:
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم يتغير له لوناً، ولا طعماً، ولا ريحاً (1) ، أنه بحاله، ويتطهر منه (2) .
وقال ابن جزي من المالكية: الماء المطلق، وهو الباقي على أصله، فهو طاهر مطهر إجماعاً، سواء أكان عذباً أو مالحاً، أو من بحر أو سماء أو أرض (3) .
دليل من قال لا يتطهر بماء البحر
الدليل الأول:
(27) رواه سعيد بن منصور في سننه، قال: نا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبي عبد الله، عن بشير بن مسلم،
عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله b: لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله؛ فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً (4) .
_________
(1) الذي يظهر أن النصب خطأ، فلون وطعم وريح، كلها كلمات وقعت مرفوعة، فلون فاعل الفعل (يتغير) ، والبقية معطوفة عليها، لكنها هكذا في كتاب الإجماع.
(2) الإجماع (ص: 33) .
(3) القوانين الفقهية (ص: 44) .
(4) السنن لسعيد بن منصور (2/186) رقم 2393.(1/137)
[حديث ضعيف] (1) .
_________
(1) ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه أبو داود (2489) ، والبيهقي (4/334) ، وخرجه الديلمي في الفردوس (5/149) .
والحديث فيه ثلاث علل:
الأولى: الاضطراب في إسناده:
فقيل: عن بشير بن مسلم، عن ابن عمرو.
وقيل: عن بشير بن مسلم، عن رجل، عن ابن عمرو.
وقيل: عن بشير أنه بلغه عن ابن عمرو.
وقيل: عن مطرف عن بشر، عن بشير.
وقيل: عن مطرف، عن بشير، وإليك بيان هذا الاختلاف.
واختلف في إسناده، فرواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، عن بشر أبى عبد الله، عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو.
ورواه البيهقي (4/334) ، (6/18) من طريق سعيد بن سليمان، عن إسماعيل بن زكريا وصالح بن عمر، عن مطرف بن طريف، عن بشير بن مسلم، عن عبد الله بن عمرو، فأسقط من إسناده بشراً أبا عبد الله.
وأشار البخاري في التاريخ الكبير إلى أن بشير بن مسلم بينه وبين عبد الله بن عمرو رجل، قال البخاري: بشير بن مسلم الكندي، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي b قال: لا يركب البحر الا حاج أو معتمر أو غاز. قاله لنا محمد بن صباح، سمع صالح بن عمر، سمع مطرفاً. وقال لي أبو الربيع: ثنا إسماعيل بن زكريا، عن مطرف، حدثني بشير أبو عبد الله الكندي، عن عبد الله بن عمرو عن النبي b. قال البخاري: ولم يصح حديثه. وقال أبو حمزة: عن مطرف، عن بشير أبي عبد الله، عن عبد الله بن عمرو. اهـ
وقال الحافظ في التهذيب عن بشير بن مسلم: شيخ لمطرف بن طريف. وقيل: عن مطرف، عن بشر أبي عبد الله الكندي، عن عبد الله.
وقيل: عن مطرف، عن بشير بن مسلم، أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو. وقيل: غير ذلك. تهذيب التهذيب (1/410) .
العلة الثانية: ضعف بشير بن مسلم، فقد جاء في ترجمته:
ذكره ابن حبان من أتباع التابعين، وعليه فلا يمكن أن يروي عن عبد الله بن عمرو، انظر الثقات (6/100) ، وانظر التهذيب (1/410) .
وسكت عليه ابن أبي حاتم، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (2/378) .
وقال مسلمة بن قاسم: مجهول. التهذيب (1/410) .
وفي التقريب: بشير بن مسلم: مجهول.
العلة الثالثة: ضعف بشر أبي عبد الله الكندي، لم يرو عنه إلا مطرف، ولم يوثقه أحد. قال الذهبي: لا يكاد يعرف. تهذيب التذيب (1/405) .
وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم:
قال البخاري: لم يصح حديثه، وسبق العزو إليه.
وقال ابن عبد البر: وهو حديث ضعيف مظلم الإسناد، لا يصححه أهل العلم بالحديث؛ لأن رواته مجهولون، لا يعرفون، وحديث أم حرام هذا يرده. التمهيد (1/240) .
وممن ضعف الحديث الخطابي في معالم السنن (3/359) ، والنووي كما في المجموع (1/137) . والله أعلم.(1/138)
وجه الاستدلال:
قالوا: إن البحر طبق جهنم، وما كان طبق سخط، لا يكون طريقاً للطهارة والرحمة، وقياساً على نهي النبي b عن الوضوء بماء ثمود (1) .
وأجيب:
أولاً: بأن الحديث ضعيف، وقد تبين ضعفه من خلال الكلام على إسناده.
ثانياً: قال ابن قدامة: قولهم: هو نار، إن أريد به أنه نار في الحال، فهو خلاف الحس، وإن أريد أن يصير ناراً لم يمنع ذلك الوضوء به في حال كونه
_________
(1) القبس (1/141،142) ، البناية (1/299) .(1/139)
ماء (1) .
الدليل الثاني:
(28) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، عن هشام، عن قتادة، عن أبي أيوب،
عن عبد الله بن عمرو، قال: ماء البحر لا يجزيء من وضوء ولا جنابة، إن تحت البحر ناراً، ثم ماء، ثم نار (2) .
[إسناده صحيح، وعنعنة قتادة قد روى عنه شعبة، وهو لا يحمل عنه إلا ما صرح فيه بالتحديث، لكن لا حجة بالموقوف إذا خالف المرفوع] (3) .
الدليل الثالث:
(29) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة،
_________
(1) المغني (1/23) .
(2) المصنف (1/122) رقم 1394.
(3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/334) من طريق أبي داود، عن شعبة وهمام، عن قتادة به، وزاد: حتى عد سبعة أبحر، وسبعة أنيار.
ورواه الجوزجاني في الأباطيل (1/345) من طريق ابن المهاجر، عن هشام الدستوائي، عن قتادة به. قال الجوزجاني: هذا حديث باطل، تفرد به محمد بن المهاجر، ومحمد بن المهاجر كان يضع الحديث. اهـ وقد علمت أن ابن المهاجر لم يتفرد به.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (1/93) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الانصار، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ماءان لا ينقيان من الجنابة: ماء البحر وماء الحمام.
قال معمر: سألت يحيى عنه بعد حين، فقال: قد بلغني ما هو أوثق من ذلك، أن رسول الله b سئل عن ماء البحر؟ فقال: ماء البحر طهور، وحل ميتته. وفي إسناده رجل مبهم.(1/140)
عن عقبة بن صهبان، قال:
سمعت ابن عمر يقول: التيمم أحب إلي من الوضوء من ماء البحر (1) .
[إسناده صحيح، ولا حجة في موقوف خالف مرفوعاً] (2) .
الدليل الرابع:
(30) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الأنصار،
عن أبي هريرة قال: ماءان لا يجزيان من غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) مصنف بن أبي شيبة (1/122) رقم 1393.
(2) ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/249) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.
(3) المصنف (1/122) رقم 1395.
(4) فيه رجل مبهم، ومع وجود هذا الرجل المبهم قد اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فرواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة كما في المصنف.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (318) عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، فجعله من مسند أبي هريرة.
وقد رواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعاً: سئل رسول الله b عن الوضوء بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتتة. وهذا اللفظ هو المعروف من حديث أبي هريرة، والله أعلم.(1/141)
[صفحة فارغة](1/142)
المبحث الخامس
إذا تغير الماء بشيء طاهر(1/143)
[صفحة فارغة](1/144)
الفرع الأول
الماء المتغير بطاهر يمكن التحرز منه.
سبق أن بحثنا ثلاث مسائل في تغير الماء الطهور بشيء طاهر.
الأولى: إذا كان هذا الطاهر يشق الاحتراز منه.
الثانية: إذا كان هذا الطاهر لا يمازج الماء.
الثالثة: إذا كان هذا الطاهر أصله منعقد من الماء كالتغير بالملح المائي.
ومسألتنا هذه إذا وقع في الماء الطهور شيء طاهر ممازج للماء يمكن التحرز منه، ولم يكن ملحاً. فاختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فقيل: يكون الماء طاهراً غير مطهر، يصلح للأكل
والشرب، ولا يصلح أن يرفع به حدث، أو أن تزال به نجاسة، وهذا مذهب الجمهور من المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: إن الماء طهور يرفع الحدث، ويزيل النجاسة، وهو مذهب
_________
(1) المقدمات الممهدات (1/86) ، بداية المجتهد (2/271) ، الفواكه الدواني (1/124) ، حاشية الدسوقي (1/37،38)
(2) مغني المحتاج (1/18) ، والمجموع (1/150) ، وكفاية الأخيار (1/23) ، الحاوي الكبير (1/46) .
(3) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/122) : إذا تغير الماء بشيء من الطاهرات تغيراً أزال اسم الماء عنه لم يرتفع الحدث به. قال أحمد في رواية حرب: لا تتوضأ بكل شيء زال عنه اسم الماء، وأراد إطلاق الاسم. الخ كلامه.
وقال أيضاً في رواية عبد الله (1/22) : " كل شيء يتحول عن اسم الماء لا يعجنبي أن يتوضأ به ". اهـ وانظر منتهى الإرادات (1 /17) ، كشاف القناع (1/30) ، والفروع (1/79) والمبدع (1/41) الإنصاف (1/32) .(1/145)
الحنفية (1) ،
واختيار ابن حزم (2) ، وابن تيمية (3) .
دليل الجمهور على أن الماء طاهر
استدلوا من القرآن بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (4) .
وجه الاستدلال:
الماء ورد في الآية مطلقاً لم يقيد بشىء، والماء المطلق هو الماء الباقي على خلقته.
أما الماء المتغير فلا يسمى ماء مطلقاً، إنما يضاف إلى تلك المادة التي يتغير بها كماء ورد أو زعفران أو ماء غريب، أو ماء مستعمل ونحو ذلك.
إذاً دلت الآية على أن الطهارة بالماء المطلق، فإن لم يوجد انتقلنا إلى
_________
(1) شرح فتح القدير (1/71) ، البناية في شرح الهداية (1/304) ، واشترط الحنفية أن يكون باقياً على رقته أما إذا غلب عليه غيره وصار به ثخيناً فلا يجوز، والغلبة عندهم على الصحيح من حيث الأجزاء، لا من حيث اللون، وهو اختيار أبي يوسف خلافاً لمحمد. ولذلك قال قاضي خان: لا يتوضأ بماء الورد والزعفران، ولا بماء الصابون والحرض إذا ذهبت رقته، وصار ثخيناً، فإن بقيت رقته ولطافته جاز التوضوء به. انظر تبيين الحقائق (1/1/19) .
وقال في كتاب الهداية: " وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه كماء المد، والماء الذي اختلط به اللبن أو الزعفران أو الصابون أو الأشنان ". انظر كتاب الهداية مطبوع مع نصب الراية (1/155) ، والعناية شرح الهداية (1/71) .
(2) قال ابن حزم في المحلى (مسألة: 147) : " وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء، فالوضوء به جائز، والغسل به للجنابة جائز ".
(3) مجموع الفتاوى (21/24) ، والفتاوى المصرية (ص: 50) ، الاختيارات (ص: 3) .
(4) المائدة: 6.(1/146)
التيمم (1) .
الدليل الثاني: من النظر.
قال ابن العربي: المخالط للماء على ثلاثة أضرب:
ـ ضرب يوافقه في صفتيه جميعاً: الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، لم يسلبه وصفاً منهما، لموافقته له فيهما، وهو التراب.
وضرب يوافق الماء في إحدى صفتيه، وهي الطهارة، ولا يوافقه في صفته الأخرى، وهي التطهير، فإذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه، وهو التطهير، دون ما وافقه، وهي الطهارة، كماء الورد، وسائر الطهارات.
ـ والضرب الثالث: مخالفته في الصفتين جميعاً، وهي الطهارة والتطهير، فإذا خالطه فغيره، سلبه الصفتين جميعاً، لمخالفته له فيهما، وهو النجس (2) .
دليل من قال الماء طهور
الدليل الأول:
من القرآن قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (3) .
وجه الاستدلال: أن كلمة " ماء " نكرة فى سياق النفى فتعم كل ماء سواء كان مطلقاً أومقيداً، متغيراً أو غير متغير، مستعملاً أو غير مستعمل، خرج الماء النجس بالإجماع وبقى ما عداه على أنه طهور (4) .
_________
(1) بتصرف - الفتاوى (21/24) ، والحاوي الكبير (1/48) ، والأوسط (1/257) .
(2) أحكام القرآن - ابن العربي (3/439) .
(3) المائدة: 6.
(4) مجموع الفتاوى (21/25) ، الكافي (2/5) ، الزركشي (1/119) .(1/147)
وقال ابن المنذر: قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (1) ، فالطهارة على ظاهر كتاب الله بكل ماء إلا ما منع منه كتاب أو سنة أو إجماع. والماء الذي منع الإجماع الطهارة منه هو الماء الذى غلبت عليه النجاسة بلون أوطعم أو ريح (2) .
الدليل الثاني:
(31) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو وابن أبي بكير، قالا: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،
عن أم هانئ قالت: اغتسل النبي b وميمونة من إناء واحد قصعة فيها أثر العجين (3) .
[إسناده صحيح] (4) .
فهذا ماء وقع فيه عجين، ولا بد أن يتغير الماء خاصة إذا قل الماء وانحل العجين، ومع ذلك لم يمنع من التطهر به.
الدليل الثالث
(32) ما رواه البخاري، قال حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال فأوقصته - قال النبي b: اغسلوه بماء
_________
(1) المائدة: 6.
(2) الأوسط (1/268) .
(3) مسند أحمد (6/341،342) .
(4) سبق تخريجه في الخلاف في أقسام المياه.(1/148)
وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً (1) .
الدليل الرابع:
(33) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين،
عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه يعني إزاره (2) .
وجه الاستدلال من الحديثين:
أن السدر أضيف إلى الماء، لا بد أن يتغير به، ومع ذلك لم يمنع أن يتطهر به الميت، وما طهر الميت طهر الحي إذ لا فرق.
الدليل الخامس: من الآثار
(34) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن ابن عباس، قال: يجزئه أن لا يعيد على رأسه الغسل - يعني إذا غسل رأسه بالخطمي.
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (1265) ومسلم (1206) .
(2) صحيح البخاري (1253) ومسلم (939) .
(3) المصنف (1/71) رقم 775.(1/149)
الآثر الثاني:
(35) روى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع،
قال عبد الله: من غسل رأسه بالخطمي، وهو جنب، فقد أبلغ الغسل
[إسناده حسن] (1) .
_________
(1) المصنف (1/71) رقم 771.
هذا الأثر موقوف على ابن مسعود، وقد رواه عنه جماعة منهم:
الأول: الحارث بن الأزمع.
أخرجه عبد الرزاق (1008) ومن طريقه الطبراني (9/254) عن الثوري.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/207) والطبراني (9/254) من طريق شعبة.
وأخرجه عبد الرزاق (1009) والبيهقي (1/183) من طريق سفيان بن عيينة.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/71) عن أبي الأحوص وزكريا بن أبي زائدة فرقهما.
والطبراني في الكبير (9/254) من طريق زهير بن معاوية وحجاج بن أرطاة كلهم رووه عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع به.
والحارث بن الأزمع، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروى عن عمر، وابن مسعود، وعمرو بن العاص. الثقات (4/126) .
وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. الطبقات الكبرى (6/119) .
وقال العجلي: من أصحاب عبد الله، ثقة. معرفة الثقات (1/277) .
وذكره ابن أبي حاتم، وذكر أنه يروى عن عمر وابن مسعود وعمرو بن العاص، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/69) .
ومن كان مثله من كبار التابعين بحيث يروى عن عمر، وكان قليل الحديث كما قال ابن سعد، ووثقه ابن حبان والعجلي، لا يضره أن يسكت عليه. وعنعنة أبي إسحاق قد زالت برواية شعبة عنه،
الثاني: سارية بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود به.
رواه الأعمش، واختلف عليه:
فرواه ابن أبي شيبة (1/71) من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن مسعود. بدون ذكر سارية، وقد أشار ابن أبي شيبة أن الثوري لم يذكر سارية في إسناده، إلا أن البخاري في التاريخ الكبير (4/407) قال: قال ابن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن سالم، عن سارية عن ابن مسعود.
ورواه ابن أبي شيبة (1/71) عن حفص، عن الأعمش، عن سالم، عن سارية، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فزاد حفص ذكر سارية.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/407) عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن سارية به.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/207) وعلقه البيهقي (1/183) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثابت بن قطبة، عن ابن مسعود. وأعله البيهقي (1/183) ورجح رواية سفيان الثوري عن الأعمش. أي بذكر سارية بدلاً من ثابت ابن قطبة.
ورواه ابن أبي شيبة (1/71) رقم 776 قال حدثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي أجزأه ذلك.
قال إبراهيم: مثل ذلك، أو قال: لا يعيد عليه.
ورجاله ثقات إلا أن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود.
وأخرجه الطبراني في الكبير (9/254) من طريق زائدة بن قدامة عن الأعمش به.
هذا هو الاختلاف على الأعمش، فأما أن نرجح أو نضعف طريق الأعمش، وعلى كلا الاحتمالين يبقى طريق الحارث حديث حسن، لم يختلف عليه فيه.
فذكر ثابت بن قطبة انفرد به أبو عوانة من سائر الرواة عن الأعمش، فذكره شاذ.
وأما طريق سارية وإبراهيم فمدراهما على الأعمش، وسفيان الثوري من أثبت أصحاب الأعمش قد نص على ذكر سارية في إسناده، وهو مقدم على غيره في الأعمش، وقد توبع، أما ذكر إبراهيم في إسناده فقد رواه حفص بن غياث، وحفص قد تكلم في حفظه لحديث الأعمش، تكلم فيه الإمام أحمد وغيره. انظر شرح علل الترمذي لابن رجب (ص:297) .
وقد اختلف على حفص فتارة يرويه كما رواه سفيان الثوري، وتارة يرويه بذكر إبراهيم، وأما طريق زائدة فقد تابع فيه حفص بذكر إبراهيم إلا أنه انفرد به الطبراني في المعجم الكبير، وهو إذا تفرد بحديث كان من مظنة الحديث المنكر والغريب، نص عليه ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي (ص: 70) .
وعلى كل حال، فالاختلاف على الأعمش كما قلنا لا يؤثر على طريق الحارث لسلامته من الاختلاف، وقد رجح البخاري في تاريخه الكبير بعد أن ساق طرق الحديث، قال: (4/207) : حديث الحارث أصح. وقد استفدت أكثر هذا التخريج مما كتبه لي أخونا الشيخ خالد الغصن وفقه الله.(1/150)
(36) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن مهدي، عن غياث. وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن صفية،
عن سعيد بن جبير في الجنب يغسل رأسه بالسدر، قال: لا يغسل رأسه.
[إسناده صحيح] (1) .
قال ابن حزم في المحلى: وهذا قول ثابت عن ابن مسعود، قال: إذا غسل رأسه بالخطمي أجزأه ذلك، وكذلك نصاً عن ابن عباس. وروي أيضاً هذا عن علي بن أبي طالب، وثبت عن سعيد بن المسيب، وابن جريج، وعن صواحب النبي b من نساء الأنصار، والتابعات منهن أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحنا رقيق أن ذلك يجزؤها من غسل رأسها للحيضة والجنابة، ولا تعيد غسله، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب يغسل رأسه بالسدر والخطمي أنه يجزؤه ذلك من غسل رأسه للجنابة (2) .اهـ
وهذا القول هو الراجح، والله أعلم.
_________
(1) المصنف (1/71) .
(2) المحلى (مسألة 147) .(1/152)
الفرع الثاني
خلاف العلماء في الطهارة بالنبيذ
اتفق العلماء على أن الحدث يرفع بالماء الطهور، واختلفوا في رفعه بالنبيذ
فقيل: يتوضأ به إن لم يجد غيره، وهو مذهب أبي حنيفة (1) .
وقيل: يتوضأ به ويتيمم، وهو مذهب محمد بن الحسن (2) .
وقيل: يتيمم، ولا يتوضأ به، وهو مذهب المالكية (3) ،والشافعية (4) ، والحنابلة (5) ، واختاره أبو يوسف والطحاوي من الحنفية (6) ، وهو رواية عن
_________
(1) المبسوط (2/90) ، بدائع الصنائع (1/15) ، العناية شرح الهداية (1/118) ، أحكام القرآن (2/543) .
(2) البناية (1/464) ، وفتح القدير (1/118، 119) ، بدائع الصنائع (1/15) ..
(3) قال مالك في المدونة (1/114) : " ولا يتوضأ بشيء من الأنبذة، ولا العسل الممزوج بالماء، قال: والتيمم أحب إلي من ذلك " اهـ.
(4) انظر الأم (1/7) قال النووي في المجموع (1/140) : " أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر، أو زبيب، أو غيرها، مطبوخاً كان أو غيره، فإن نشَّ أو أسكر فهو نجس يحرم شربه، وعلى شاربه الحد، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه، ولكن لا تجوز الطهارة به، هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " اهـ.
(5) مسائل أحمد رواية عبد الله (1/22) ، ومسائل ابن هانئ (1/5) ، ومسائل أحمد وإسحاق (1/127) ، المغني (1/23) ، الانتصار في المسائل الكبار (1/136) ، الكافي لابن قدامة (1/6) ، المبدع (1/42) ، تنقيح التحقيق (1/225) .
(6) بدائع الصنائع (1/15) المبسوط (2/90) ، تبيين الحقائق (1/35) ، العناية شرح الهداية (1/118) .(1/153)
أبي حنيفة (1) ، وهو اختيار ابن حزم (2) .
الدليل على أن الحدث يرفع بالماء الطهور.
الإجماع أن الماء الطهور يرفع الحدث (3) .
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الحدث لا يرفع بسائل آخر غير الماء كالزيت والدهن والمرق (4) .
وقال الغزالي: الطهورية مختصة بالماء من بين سائر المائعات، أما في طهارة الحدث فبالإجماع (5) .
وتعقبه النووي في المجموع شرح المهذب، فقال: حكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصم: أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة بكل مائع طاهر، قال القاضي أبو الطيب إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به، ثم قال: والأول أرجح؛ قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (6) ، فأحالنا إلىالتيمم عند عدم الماء ولم ينقلنا إلى سائل آخر (7) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/35) .
(2) المحلى (مسألة: 148) .
(3) نقل الإجماع ابن المنذر في الأوسط (1/246) ولم يستثن من الماء الطهور إلا ماء البحر فإنه قد وقع فيه خلاف، وانظر حاشية ابن قاسم (1/59) رقم ثلاثة من الحاشية.
(4) الأوسط لابن المنذر (1/253) .
(5) الوسيط (1/107،108) .
(6) المائدة: 6.
(7) المجموع (1/139) وقال النووي: وأما قول الغزالي في الوسيط: طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه. اهـ(1/154)
دليل الحنفية على جواز الوضوء بالنبيذ.
الدليل الأول:
(37) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن زكريا، عن إسرائيل، عن أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث،
عن ابن مسعود، قال: كنت مع النبي b ليلة لقي الجن، فقال: أمعك ماء؟ فقلت: لا. فقال: ما هذه الإداوة؟ قلت: نبيذ. قال: أرنيها تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منها، ثم صلى بنا (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (1/402) .
(2) فيه أبو زيد، جاء في ترجمته:
قال الترمذي: " أبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث. لايعرف له راوية غير هذا الحديث ". سنن الترمذي (1/147) .
وقال البخارى: " أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود أن النبى b قال: " ثمرة طيبة وماء طهور " رجل مجهول لايعرف بصحبة عبد الله، وروى علقمة عن عبد الله أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول الله b ". الكامل (7/291) ، البيهقي (1/10) .
وقال الحاكم: " رجل مجهول لايوقف على صحة كنيته ولا اسمه ولايعرف له راوياً غير أبي فزارة ولا رواية من وجه ثابت إلا هذا الحديث الواحد. تهذيب الكمال (33/332) .
وقال ابن عدي: " وهذا الحديث مداره على أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود وأبو فزارة مشهور واسمه راشد بن كيسان، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث مجهول، ولا يصح هذا الحديث عن النبي b، وهو خلاف القرآن. الخ ". الكامل (7/292) .
وقال ابن حبان: " يروى عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه، ليس يدرى من هو، لا يعرف أبوه، ولا بلده، والإنسان إذا كان بهذا النعت، ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والاجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها ولا يحتج بها ". المجروحين (3/158) .
وقال أبو بكر بن أبي داود: " كان أبو زيد هذا نباذاً فى الكوفة. تهذيب الكمال (33/332) .
وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أن أبا زيد مجهول، وحديثه منكر. تهذيب التهذيب (12/113) .
[تخريج الحديث]
هذا الإسناد مداره على أبي فزارة، عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، عن ابن مسعود، ورواه جماعة عن أبي فزارة، منهم إسرائيل، وسفيان، وشريك، وأبو عميس، وقيس بن الربيع، والجراح بن مليح وغيرهم:
فأما طريق إسرائيل، عن أبي فزارة، فأخرجه أحمد كما في حديث الباب، وعبدالرزاق في المصنف (1/179) والشاشي (828) ، والطبراني في الكبير (9963) ، وابن عدي في الكامل (7/292) وابن الجوزي في العلل المتناهية (587) .
وأما طريق سفيان، عن أبي فزارة، فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (693) عنه، ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد (1/449) وابن ماجه (384) والطبراني في الكبير (9963) ، والبيهقي (1/9) .
وأخرجه الشاشي في مسنده (827) من طريق أبي حذيفة، نا سفيان به.
وأما طريق شريك، عن أبي فزارة، فأخرجه أبو داود (84) حدثنا هناد وسليمان بن داود العتكي، قالا: ثنا شريك به.
وأخرجه الترمذي (88) حدثنا هناد، حدثنا شريك به.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (5046) حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا شريك بن عبد الله به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10/65) رقم 9964 من طريق أبي الربيع الزهراني، ثنا شريك به.
وأخرجه الطبراني أيضاً (10/65) 9965 من طريق عبد الوارث أبي عبد الله الشقري، عن شريك به.
وأما طريق الجراح والد وكيع، عن أبي فزارة.
فأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وأبو يعلى في مسنده (5301) عن وكيع، عن أبيه، عن أبي فزارة به، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (384) .
وأخرجه ابن ماجه (384) حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع به.
ومن طريق وكيع أخرجه الطبراني في الكبير (10/66) رقم 9967
وأما طريق أبي عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن أبي فزارة.
فأخرجه أحمد (1/458،459) حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبو عميس عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن أبي فزارة به، وفيه زيادات لم ترد في سائر الطرق. وسنده إلى أبي فزارة إسناد حسن؛ وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق إلا أن علته كما سبق أبو زيد.
وأخرجه الطبراني في الكبير (9966) من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد. وأخرجه أيضاً من طريق عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي عميس.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/313) " رواه أبو داود وغيره باختصار، ورواه أحمد، وفيه أبو زيد مولى عمرو بن حريث، وهو مجهول.
وأما طريق قيس بن الربيع، عن أبي فزارة، فأخرجه الطبراني في الكبير (9962) ، والبيهقي في السنن (1/9) ، هذا ما وقفت عليه من طريق أبي فزارة.
الطريق الثاني: عن ابن عباس، عن ابن مسعود.
أخرجه أحمد (398) قال: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما أنه كان مع رسول الله b ليلة الجن، فقال له النبي b: يا عبد الله أمعك ماء؟ قال: معي نبيذ في إداوة، فقال: اصبب علي، فتوضأ. قال: فقال النبي b: يا عبد الله بن مسعود شراب طهور.
وإسناده ضعيف فيه ابن لهيعة، وضعفه مشهور.
وفيه قيس بن الحجاج.
قال أبو حاتم الرازي: صالح. الجرح والتعديل (7/95) .
وقال ابن يونس: كان رجلاً صالحاً. تهذيب التهذيب (8/348) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/329) .
وفي التقريب: صدوق. وبقية رجال الإسناد ثقات.
والحديث أخرجه أحمد كما قدمنا من طريق يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة به من مسند ابن مسعود.
وتابعه عليه يحيى بن بكير فقد أخرجه الدار قطنى (1/76) والطبراني (9961) والبزار (1437) من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة به، من مسند ابن مسعود.
وخالفهما أسد بن موسى، ومروان بن محمد، فروياه عن ابن لهيعة به من مسند ابن عباس.
فقد أخرجه ابن ماجه (385) قال: حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، ثنا مروان بن محمد، ثنا ابن لهيعة، ثنا قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله b قال لابن مسعود ليلة الجن: معك ماء؟ قال: لا إلا نبيذاً في سطيحة، فقال: رسول الله b: تمرة طيبة وماء طهور صب علي، قال: فصببت عليه، فتوضأ به.
وأخرجه الطحاوي (1/94) من طريق أسد بن موسى، عن ابن لهيعة به.
قال البزار كما في البحر الزخار (4/268) : وهذا الحديث لا يثبت لابن لهيعة؛ لأن ابن لهيعة كانت قد احترقت كتبه، فكان يقرأ من كتب غيره، فصار في أحاديثه أحاديث مناكير، وهذا منها. اهـ فالحديث ضعيف.
الطريق الثالث: عن أبي رافع، عن ابن مسعود.
أخرجه أحمد (1/455) قال: ثنا أبو سعيد، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود أن رسول الله b ليلة الجن خط حوله، فكان يجيء أحدهم مثل سواد النخل، وقال لي: لا تبرح مكانك، فأقرأهم كتاب الله عز وجل، فلما رأى الزط قال: كأنهم هؤلاء، وقال النبي b: أمعك ماء؟ قلت: لا. قال: أمعك نبيذ؟ قلت: نعم، فتوضأ به.
وأخرجه الدار قطنى (1/77) وابن الجوزي في العلل المتناهية (588) من طريق أبي سعيد به.
وأخرجه الدار قطنى (1/77) من طريق عبد العزيز بن أبي رزمة نا حماد بن سلمة به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/95) من طريق أبي عمرو الحوضي قال: ثنا حماد بن سلمة به.
قال الدارقطنى: علي بن زيد ضعيف، وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، وليس هذا الحديث في مصنفات حماد بن سلمة.
في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وأما قول الدارقطني رحمه الله: إن أبا رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود، فقد نقل الزيلعي في نصب الراية (1/141) عن الشيخ ابن دقيق في "الإمام " قوله: " وهذا الطريق أقرب من طريق أبي فزارة، وإن كان طريق أبي فزارة أشهر، فإن علي بن زيد وإن ضعف فقد ذكر بالصدق. قال: وقول الدارقطني: وأبو رافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه، فإن أبا رافع الصائغ جاهلي إسلامي.
قال أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب: " وهو مشهور من علماء التابعين ".
وقال في الاستيعاب: " لم ير النبي b فهو من كبار التابعين اسمه نفيع، وكان أصله من المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، روى عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود وروى عنه خلاس بن عمرو الهجري، والحسن البصري، وقتادة، وثابت البناني، وعلي بن زيد، ولم يرو عنه أهل المدينة.
وقال عنه في الاستيعاب: عظم روايته عن عمر وأبي هريرة، ومن كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعه من جميع الصحابة، اللهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب. اهـ
وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (1/9) تعليقاً على قول الدارقطني بأنه لم يثبت سماعه من ابن مسعود قال: " فهو على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع، وقد أنكر مسلم ذلك في مقدمة كتابه إنكاراً شديداً، وزعم أنه قول مخترع، وأن المتفق عليه أنه يكفي للاتصال إمكان اللقاء أو السماع، ثم قال: على أن صاحب الكمال صرح بأنه سمع منه وكذا ذكر الصريفيني فيما قرأت بخطه.... الخ ".
قلت: نفيع الصائغ: أبو رافع قال فيه الحافظ (7182) : " ثقة ثبت".
لكن مدار الحديث على علي بن زيد.
قال فيه الامام أحمد: ليس بشىء. وقال مرة: ضعيف الحديث.
وقال فيه يحيى بن معين: ضعيف.
وقال أخرى: ضعيف في كل شىء.
وقال في موضع آخر: ليس بشىء.
وقال أبو زرعة ويحيى وأبو حاتم: ليس بالقوي، وزاد أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن خزيمة: لا يحتج به لسوء حفظه.
وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، فيه ميل عن القصد، لايحتج بحديثه.
وقال حماد بن زيد: حدثنا علي بن زيد، وكان يقلب الأحاديث، وفي رواية: كان علي بن زيد يحدثنا اليوم بالحديث، ثم يحدثنا غداً فكأنه ليس بذاك.
وقال العجلي: يكتب حديثه، وليس بالقوي. وقال في موضع آخر: لا بأس به.
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صالح الحديث، وإلى اللين ما هو.
وقال فيه بن عدي: لم أر أحداً من البصريين وغيرهم امتنعوا عن الرواية عنه، وكان يغالي في التشيع في جملة أهل البصرة، ومع ضعفه يكتب حديثه ".
وقال الحافظ في التقريب (4734) : ضعيف. انظر ترجمته في تهذيب الكمال (20/434) وفي الكامل لابن عدي (5/195-201) وميزان الاعتدال (3/127) .
الطريق الرابع: عن أبي وائل، عن ابن مسعود.
أخرجه الدارقطني (1/77) من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي، نا معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: سمعت ابن مسعود يقول: " كنت مع النبي b ليلة الجن، فأتاه، فقرأ عليهم القرآن، فقال رسول الله b في بعض الليل: أمعك ماء يا ابن مسعود؟ قلت: لا والله يا رسول الله إلا إداوة فيها نبيذ. فقال رسول الله b: ثمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ به رسول الله b.
والحديث: موضوع. قال الدارقطني (1/78) : الحسين بن عبيد الله يضع الحديث على الثقات.
الطريق الخامس:
ما أخرجه الدارقطني، نا عمر بن أحمد الدقاق، نا محمد بن عيسى بن حيان ثنا الحسن بن قتيبة، نا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عن عبيدة وأبي أحوص،
عن ابن مسعود قال: مر بي رسول الله b فقال: خذ معك إداوة من ماء، ثم انطلق وأنا معه - فذكر حديث ليلة الجن- فلما أفرغت عليه من الإداوة فإذا هو نبيذ، فقلت يارسول الله أخطأت بالنبيذ، فقال: تمرة حلوة، وماء عذب.
ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (590)
قال الدارقطني: تفرد به الحسن بن قتيبة، عن يونس عن أبي إسحاق، والحسن بن قتيبة، ومحمد بن عيسى ضعيفان. اهـ
والصحيح أن الحسن بن قتيبة ليس كما قال الدارقطني: ضعيف، بل هو هالك.
فقد نقل الحافظ الذهبي في الميزان (2 / 246) عن الدارقطني بأنه متروك الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي الحديث، ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/33) .
وقال العقيلي: كثير الوهم. الضعفاء الكبير (1/241) .
وقال ابن عدي: وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان، وأرجو انه لا بأس به. الكامل (2/327) .
فتعقبه الحافظ، فقال: بل هو هالك، قال الدارقطني في رواية البرقاني متروك الحديث، ثم نقل تضعيف أبي حاتم، وقول الأزدي: واهي الحديث، ثم نقل كلام العقيلي. اهـ كلام الحافظ ابن حجر.
وأما محمد بن عيسى بن حيان فقد نقل الحافظ الذهبي في الميزان (5/333) عن الدارقطني أنه قال: ضعيف متروك. وقال الحاكم: متروك. وقال آخر: كان مغفلاً، وأما البرقاني فوثقه. اهـ
الطريق السادس: عن ابن غيلان، عن ابن مسعود.
أخرجه الدارقطني (1/78) قال حدثني محمد ابن أحمد بن الحسن، نا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان، نا هاشم ابن خالد الأزرق، ثنا الوليد، نا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد عن جده أبي سلام، عن فلان ابن غيلان الثقفي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: دعاني سول الله b ليلة الجن... فذكر نحو ما سبق.
ومن طريق الدارقطني رواه ابن الجوزي في التحقيق (1/54) رقم 36.
قال الدارقطني: الرجل الثقفي الذي رواه عن ابن مسعود مجهول، قيل اسمه: عمرو، وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان.
وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/44،45) : " سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ، فقالا: هذا حديث ليس بقوي؛ لأنه لم يروه غير أبي فزارة، عن أبي زيد.
وحماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن ابن مسعود.
وعلي بن زيد ليس بقوي، وأبو زيد شيخ مجهول لا يعرف، وعلقمة يقول: لم يكن عبدالله مع النبي b ليلة الجن فوددت أنه كان معه. قلت لهما: فإن معاوية بن سلام يحدث عن أخيه، عن جده، عن ابن غيلان، عن ابن مسعود قالا: وهذا أيضا ليس بشيء، ابن غيلان مجهول، ولا يصح في هذا الباب شيء.(1/155)
الدليل الثاني:
(38) ما رواه الدارقطني من طريق أبي القاسم يحيى بن عبد الباقي، نا المسيب ابن واضح، نا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله b: " النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (1) .
[المعروف أنه من قول عكرمة، ورفعه منكر] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/75) .
(2) ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (591) ، وفي التحقيق في أحاديث الخلاف (1/54) رقم 37.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (7/170) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/11) .
قال الدارقطني: وهم فيه المسيب بن واضح في موضعين، في ذكر ابن عباس، وفي ذكر النبي b.
وقد اختلف فيه على المسيب، فحدثنا به محمد بن المظفر، نا محمد بن محمد بن سليمان، نا المسيب بهذا الإسناد موقوفاً غير مرفوع إلى النبي b، والمحفوظ أنه من قول عكرمة غير مرفوع إلى النبي b، ولا إلى ابن عباس، والمسيب ضعيف ثم ساق الدارقطني بإسناده عن هقل بن زياد، والوليد بن مسلم كلاهما عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة قال: " النبيذ وضوء لمن لم يجد غيره ".
وتابع الأوزاعي شيبان النحوي وعلي بن المبارك، كلاهما عن يحيى، عن عكرمة موقوفاً عليه.
قلت: تفرد برفعه المسيب بن واضح كما قال الدارقطني فهو حديث منكر.
وللمسيب أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل، ثم قال (6/389) : والمسيب بن واضح له حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالف فيه الناس هو ما ذكرته، لا يتعمده، بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به.
وقال فيه أيضاً: كان النسائي حسن الرأي فيه، ويقول الناس يؤذوننا فيه: أي يتكلمون فيه.
وجاء في الميزان (4/116) : وقال أبو حاتم: صدوق، يخطيء كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل.
وسأل ابن عدي عبدان كما في الكامل (5/265) : أيما أحب إليك، عبد الوهاب بن الضحاك، أو المسيب؟ قال: كلاهما سواء.
قال الذهبي: عبد الوهاب هذا ضعيف جداً.
قال أبو داود: كان يضع الحديث.
وقال النباتي، والدارقطني، والعقيلي: متروك.
وقال الجوزقاني: كان كثير الخطأ والوهم. اهـ من لسان الميزان (6/158) .
ولابن عباس طريق آخر أيضاً:
فقد أخرجه الدارقطني (1/76) من طريق أبي عبيدة مجاعة، عن أبان، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله b: إذا لم يجد أحدكم ماء ووجد نبيذاً فليتوضأ به.
قال الدارقطني: أبان هو ابن أبي عياش. متروك الحديث، ومجاعة: ضعيف، والمحفوظ أنه رأى عكرمة غير مرفوع. اهـ كلام الدارقطني.
(3) البقرة: 282.
(4) المائدة: 6.
(5) المصنف (913) .(1/162)
فالخلاصة أن حديث ابن مسعود جاء من ثلاثة طرق ضعيفة،
والسؤال: هل هذه الطرق الضعيفة يمكن أن يقوي بعضها بعضاً فتكون حسنة لغيرها، فيصلح الاحتجاج بها، على أن الضعيف إذا جاء من طريق آخر شد بعضه بعضاً كما قال بعضهم فى قوله سبحانه وتعالى في شهادة المرأة {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} الآية (3) .
الجواب: هذا ممكن أن يقال لولا أن الحديث فيه مخالفات:
الأولى: المخالفة لظاهر الكتاب.
قال تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (4) ، فنقلنا عند عدم وجود الماء إلى التيمم، ولو كان هناك سائل آخر يمكن التطهر منه لأحالنا عليه كالنبيذ، وعليه فإذا لم نجد إلا نبيذاً فإننا نتيمم، لأننا لم نجد الماء.
ثانياً: مخالفته للسنة.
(39) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر
أنه أتى النبيb وقد أجنب، فدعا النبي b بماء، فاستتر واغتسل، ثم قال له النبي b: إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك هو خير (5) .(1/164)
[حديث حسن] (1) .
_________
(1) الإسناد فيه: عمرو بن بجدان.
ذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (5/171) .
وقال العجلي: بصري، تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/172) .
وصحح حديثه الحاكم، ومن قبله الترمذي.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير (6/317) ولم يورد جرحاً ولا تعديلاً.
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (6/222) .
وقال الذهبي: حسنه الترمذي، ولم يرقه إلى الصحة للجهالة بحالة عمرو، وقال: وقد وثق عمرو مع جهالته. الميزان (3/247) بينما صحح حديثه في المستدرك (1/176) ، وقال في الكاشف: وثق.
قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا. تهذيب التهذيب (8/7) .
وقال ابن القطان: لا يعرف. المرجع السابق.
وقال ابن حجر في التقريب: لا يعرف حاله.
قلت: من عادة الحافظ في الراوي إذا كان لم يرو عنه إلا واحد، وكان من التابعين ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وقد وثقه ابن حبان أن يقول في حقه: مقبول، أي حين يتابع، كيف وقد صحح حديثه الترمذي، والحاكم والبيهقي وابن حبان، فهذا توثيق ضمني، وقد أجاب ابن دقيق العيد على قول ابن القطان في عمرو بن بجدان: لايعرف له حال، فقال كما في نصب الراية (1/149) : " ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو ابن بجدان، مع تفرده بالحديث، وهو قد نقل كلامه: هذا حديث حسن صحيح، وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة، أو يصحح له حديثاً انفرد به. وإن كان توقف في ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا بمقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله، وهو تصحيح الترمذي له.
قلت: تصحيح الحاكم والبيهقي وابن حبان مع الترمذي يفيد الراوي قوة، مع كون حديثه هذا له شاهد من حديث أبي هريرة. وسيأتي ذكره. فالحديث إسناده لا ينزل عن مرتبة الحسن. والله أعلم.
[تخريج الحديث] :
مداره على أبي قلابة، عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر.
ويرويه عن أبي قلابة خالد الحذاء، وأيوب السختياني.
أما طريق خالد الحذاء فله طرق كثيرة إليه.
الأول: يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به.
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (6/317) من طريق هشام بن عبد الملك، عن يزيد ابن زريع به، وأخرجه البيهقي (1/220) من طريق إبراهيم بن موسى. وأخرجه (1/220) من طريق مسدد، كلاهما عن يزيد بن زريع به، وأخرجه ابن حبان (1312) من طريق الفضيل بن الحسين الجحدري، قال: حدثنا يزيد بن زريع به.
الطريق الثاني: خالد بن عبد الله الواسطي عن خالد الحذاء به.
أخرجه أبو داود (332) حدثنا عمرو بن عوف، ومسدد، قالا: أخبرنا خالد ـ يعني ابن عبد الله الواسطي ـ عن خالد الحذاء به. قال أبو داود: حديث عمرو أتم.
وأخرجه البيهقي (1/220) والحاكم (1/176،177) من طريق مسدد به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه، إذ لم نجد لعمرو بن بجدان راوياً غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما قد خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين.
الطريق الثالث: الثوري عن خالد الحذاء به.
منه إسناد الباب، أعني: عبد الرزاق (913) عن الثوري به، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (5/155) ، وأخرجه أحمد أيضاً (5/180) ثنا أبو أحمد ـ يعني: الزبيري ـ ثنا سفيان، عن خالد الحذاء به.
وأما رواية أيوب السختياني عن أبي قلابة به:
فأخرجه أحمد (5/155) ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن أيوب السختياني وخالد الحذاء به، وأخرجه النسائي (322) أخبرنا عمرو بن هشام، قال: ثنا مخلد، عن سفيان، عن أيوب به، وأخرجه الدارقطني (1/186) من طريق مخلد بن يزيد، حدثنا سفيان، عن أيوب وخالد به.
وأخرجه البيهقي (1/212) من طريق أحمد بن بكار، حدثنا مخلد بن يزيد به.
وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (197) من طريق عبد الحميد بن محمد المستام، حدثنا مخلد ابن يزيد به.
وجاء الحديث (عن أيوب عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر) .
أخرجه ابن أبي شيبة (1/144) : حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة به.
وأخرجه أحمد (5/146) حدثنا إسماعيل ـ يعني: ابن علية ـ به.
وأخرجه الدارقطني (1/187) من طريق يعقوب بن إبراهيم، نا ابن علية به.
وأخرجه الطيالسي (484) حدثنا حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، عن أيوب به.
وأخرجه أبو داود (133) حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، عن أيوب به.
(وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر)
أخرجه عبد الرزاق (912) عن معمر، عن أيوب به.
وأخرجه أحمد (5/146،147) ثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن أيوب به.
(وقيل: عن أيوب عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن أبي ذر)
أخرجه الدارقطني (1/187) من طريق خلف بن موسى العمي، أخبرنا أبي، عن أيوب عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب به.
فتبين من هذا أن رواية خالد الحذاء لم يختلف عليه في إسناده، وأما رواية أيوب فقد اختلف عليه كما سبق، ففي بعض طرقها ما يوافق رواية خالد، والبعض الآخر يخالفه في الإسناد، فهل ما خالف فيه أيوب خالداً يطرح؟ أو أن الخلاف على أيوب لا يضر؟ قال أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/215) :
" عن رجل من بني قشير، عن أبي ذر، وهذا الرجل هو الأول نفسه، لأن بني قشير من بني عامر كما في الاشتقاق لابن دريد (ص:181) ، وهو عمرو بن بجدان نفسه ". اهـ.
قلت: فعلى هذا قوله: " عن رجل من بني قشير، أو عن رجل من بني عامر " لا فرق بينهما وهو عمرو بن بجدان؛ لأنه قشيرى من بني عامر. فيبقى رواية أبي المهلب، فإن لم تكن كنية لعمرو ابن بجدان، فقد تفرد بها خلف بن موسى بن خلف العمي، حدثني أبي، وخلف وأبوه، كل واحد منهما صدوق له أوهام، فيكون هذا من أوهامه لمخالفته من هو أوثق منه.
وضعفه ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام (3/327) وقال:
" لا يعرف لعمرو بن بجدان هذا حاله، وإنما روى عنه أبو قلابة واختلف عنه: فيقول: خالد الحذاء عنه، عن عمرو بن بجدان ولا يختلف ذلك على خالد.
وأما أيوب فإنه رواه عن أبي قلابة، عن رجل من بني عامر.
ومنهم من يقول: عن رجل فقط.
ومنهم من يقول: عن رجاء بن عامر.
ومنهم من يقول: عن عمرو بن بجدان كقول خالد.
ومنهم من يقول: عن أبي المهلب.
ومنهم من لا يجعل بينهما أحداً، فيجعله عن أبي قلابة، عن أبي ذر.
ومنهم من يقول: عن أبي قلابة أن رجلاً من بني قشير، قال: يا نبي الله.
هذا كله اختلاف على أيوب في روايته إياه عن أبي قلابة، وجميعه في علل الدارقطني وسننه، وهو حديث ضعيف لا شك فيه ". اهـ. وتعقبه ابن دقيق العيد في (الإمام) فقال:
" أما الاختلاف الذي ذكره من كتاب الدارقطني، فينبغي على طريقته، وطريقة الفقه أن ينظر في ذلك، إذ لا تعارض بين قولنا: عن رجل، وبين قولنا عن رجل من بني عامر، وبين قولنا: عن رجل من بني بجدان.
وأما من أسقط ذكر هذا الرجل فيؤخذ بالزيادة ويحكم بها.
وأما من قال: عن أبي المهلب، فإن كان كنية لعمرو فلا اختلاف، وإلا فهي رواية واحدة مخالفة احتمالاً لا يقيناً.
وأما من قال: عن رجل من بني قشير، قال: يا نبي الله، فهي مخالفة، فكان يجب أن ينظر في إسنادها على طريقته، فإن لم يكن ثابتاً لم يعلل بها ". اهـ
قال أحمد شاكر معلقاً في تحقيقه للسنن (1/215،217) :
وهذا الذي حققه ابن دقيق العيد بديع ممتع، وهو الصواب المطابق لأصول هذا الفن، وأنا أظن أن رواية من قال: إن رجلاً من بني قشير قال: يا نبي الله. فيها خطأ، وأن أصله ما ذكرته من رواية ابن أبي عروبة، عند أحمد في المسند، عن رجل من بني قشير، فذكر القصة في كونه أتى أباذر، وسأله، وأجابه وأن يكون سقط من بعض الرواة ذكر أبي ذر خطأ فقط. اهـ
وأما شاهده من حديث أبي هريرة، فقد رواه البزار، كما في مختصر زوائد البزار (193) قال: حدثنا مقدم بن محمد بن علي بن مقدم المقدمي، حدثنا عمي القاسم بن يحيى ابن عطاء بن مقدم ثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله b:
الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله ويمسه بشرته، فإن ذلك خير.
قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه.
ومقدم ثقة معروف النسب.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/261) : رجاله رجال الصحيح.
ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (478) :
حدثنا أحمد ـ يعني ابن محمد بن صدقه، ثنا مقدم به.
وفي تلخيص الحبير (1/271) صححه ابن القطان، لكن قال الدارقطني في العلل: إن إرساله أصح.
(2) مسلم (150-450) فقد رواه من طريق عامر والشعبي وإبراهيم عن علقمة به.(1/165)
ثالثاً: المخالفة لما ثبت في مسلم.
(40) قال علقمة: سألت ابن مسعود فقلت: هل شاهد أحد منكم مع رسول الله b ليلة الجن؟ قال: لا. ولكن كنا مع رسول الله b ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم...الحديث (2) .
فأحاديث النبيذ تروي: أن ابن مسعود شهد ليلة الجن مع رسول الله b، وهذا الحديث في مسلم صريح بأنه لم يكن مع رسول الله b.
رابعاً: الحنفية رحمهم الله خالفوا هذه المرة مقتضى قواعدهم، فإن أحاديث الآحاد عندهم دلالتها ظنية، والقرآن دلالته قطعية، وهم يردون(1/169)
أحاديث في الصحيحين مجمعاً على صحتها، لأن ظاهرها يخالف آية قرآنية أو قاعدة شرعية بحسب فهمهم، ومع ذلك عملوا بأحاديث الوضوء بالنبيذ مع أن أحاديثه تخالف ظاهر القرآن، ولا يسلم منها حديث واحد كما سبق.
ولو تجاهلنا كل هذه المخالفات من مخالفة الكتاب والسنة وقلنا: إن حديث الوضوء بالنبيذ قابل لأن يكون حسناً لغيره، فإننا نحمله على أن تسميته نبيذاً فيه تجاوز، وأن النبيذ الذي كان مع ابن مسعود لم يخرج عن رقة الماء وطبيعته وسيولته، وغاية ما فيه أنه ماء تغير بشىء طاهر، لم يخرج فيه عن مسمى الماء، كما لو تغير الماء بشىء طاهر ولم يخرج عن اسمه، وسوف يأتي في قسم الماء الطاهر تحرير الخلاف في الماء إذا تغير بشىء طاهر إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
فخلصنا من هذا أن الحدث لا يرفع إلا بالماء الطهور، ويرفع أيضاً بالتيمم على خلاف هل التيمم رافع أم مبيح؟ وسوف يأتي بحثها في بحوث التيمم.
وأما إزالة النجاسة فهل يتعين الماء الطهور؟ أو تزال بأي مزيل، يأتي بحثها في بحوث النجاسات إن شاء الله تعالى.(1/170)
الفصل الثاني
الماء المتغير بالنجاسة(1/171)
[صفحة فارغة](1/172)
المبحث الأول
الماء المتغير بمجاورة نجاسة
اختلف العلماء في المقصود من التغير بالمجاورة.
فقيل: المقصود إذا تغيرت رائحة الماء فقط، ولا يشمل تغير الطعم واللون؛ لأنه لو تغير لونه أو طعمه بمجاورة النجاسة لعلمنا علماً مؤكداً بأن النجاسة حلت فيه، وبالتالي يكون التغير عن ممازجة وليس عن مجاورة.
وقيل: لا فرق بين تغيره بالرائحة، وبين تغير الطعم واللون، وهو قول في مذهب المالكية، قال الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير: بل لو فرض تغير الثلاثة - يقصد الطعم واللون والرائحة - لا يضر، وإنما اقتصر المؤلف على الريح لكونه الشأن (1) .
والراجح الأول.
_________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/31،32) ، وهذا الذي ذكره الصاوي ليس متفقاً عليه في المذهب المالكي، بل في المذهب المالكي قولان:
أحدهما: ما ذكرناه عن الصاوي، وأن التغير بالمجاورة لا يضر، ولو تغيرت أوصافه الثلاثة.
وقال في حاشية الدسوقي (1/35) : والحاصل أن التغير بالمجاور الغير ملاصق، لا يضر مطلقاً: أي سواء تغير الريح أو الطعم أو اللون أو الثلاثة، وسواء كان التغير بيناً أو لا، كان الماء قليلاً أو كثيراً.... الخ.
والقول الثاني: أن التغير لا يشمل إلا بالرائحة فقط، كما هو مذهب الجمهور، فقد جاء في منح الجليل (1/32) : " وأما اللون والطعم فلا يتغيران بالمجاورة، وإن حصل دل على الممازجة، فليس مطلقاً - يعني الماء المتغير بهما - خلافاً لعج ومن تبعه ".
وقال في شرخ الخرشي (1/67) : " أو تغير بمجاورة، فالمراد به تغير ريحه فقط بحسب الصورة برائحة كريهة كالجيفة، أو طيبة كنبت مجاور له، فلا يضر ذلك... الخ كلامه.
وقال محمد عليش تعليقاً على كلام الدسوقي في حاشيته (1/35) : " تغير اللون والطعم بالمجاور لا يمكن، كما نص عليه ابن التلمساني وغيره، وإن حصل تغير فيهما أو في أحدهما فهو دليل على الممازجة فيحكم بسلب الطهورية كما في ضوء الشموع خلافاً للشيخ عبد الباقي الزرقاني والشارح. اهـ مطبوع أسفل حاشية الدسوقي.(1/173)
مثاله: ماء طهور، تغيرت رائحته بجيفة قريبة منه، ولم تقع فيه.
حكمه: إذا تغيرت رائحة الماء بمجاورة النجاسة، فهو طهور، قولاً واحداً، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
الدليل على ذلك:
أولاً: الإجماع.
نقل الإجماع عدد من العلماء، منهم الحطاب من المالكية (5) ، والنووي
_________
(1) أحكام القرآن (3/440) .
(2) مواهب الجليل (1/54) ، الشرح الصغير (1/31،32) ، وحاشية الدسوقي (1/35) ، منح الجليل (1/32) ، شرح الخرشي (1/67) .
(3) المجموع (1/155) ، روضة الطالبين (1/131) ، وحاشية الجمل (1/48) ، حاشية البجيرمي على المنهج (1/27) ، أسنى المطالب (1/15) ، شرح البهجة (1/24،25) .
ونقل ابن مفلح في الفروع (1/ 72) كراهية الشافعي له. حيث قال " ولا يكره متغير بنجس مجاور خلافاً للشافعي ".
والموجود في كتب مذهب الشافعية خلاف ذلك كما في الروضة والمهذب، ونص النووي على أنه طهور بلا خلاف كما في المجموع ولم يذكر كراهة. وكتب المذهب مقدمة على غيرها.
(4) المبدع (1/37) ، الشرح الكبير (1/38) ،.
(5) قال الحطاب في مواهب الجليل (1/54) : الماء إذا تغير بمجاورة شيء له، فإن تغيره لا يسلبه الطهورية، وسواء كان المجاور منفصلاً عن الماء أو ملاصقاً له، فالأول: كما لو كان إلى جانب الماء جيفة أو عذرة أو غيرهما، فنقلت الريح رائحة ذلك إلى الماء فتغير، ولا خلاف في هذا.... الخ كلامه رحمه الله.(1/174)
من الشافعية (1) ، وابن مفلح الصغير (2) ، وصاحب الشرح الكبير من الحنابلة (3) .
ثانياً: قالوا: إن هذا التغير حصل بالمجاورة، ولم يحصل عن ممازجة، وما كان تغيره عن مجاورة لم يؤثر في الماء، فلا يلزم من انتقال الرائحة انتقال جزء من الميتة، فهذا الطيب تجد ريحه ينتشر في المكان، وعينه باقية لم تنتقل.
ومع كونه طهوراً بالإجماع إلا أن التنزه عنه أفضل متى وجد غيره؛ لإن الماء قد لا يسلم من تلوثه ببعض الميكروبات التي قد تضر بعض الناس، والله أعلم.
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/155) : " لو تغير الماء بجيفة بقربه، يعني: جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه، ففي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعاً، بل الماء طهور بلا خلاف". اهـ
(2) المبدع شرح المقنع (1/37) .
(3) الشرح الكبير (1/38) .(1/175)
[صفحة فارغة](1/176)
المبحث الثاني
الماء المتغير بممازجة النجاسة
إذا وقعت في الماء نجاسة، فغيرت طعمه أو لونه نجس، وهو مذهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة (1) ، ومالك (2) ، والشافعي (3) ، وأحمد (4) .
_________
(1) البحر الرائق (1/78) ، وشرح معاني الآثار (1/12) .
(2) التاج والإكليل (1/73، 104) ، المنتقى للباجي (1/59) ، حاشية الدسوقي (1/38، 48) ، الشرح الصغير (1/36) .
(3) قال الشافعي في الأم (1/17) : " وإذا كان الماء الجاري قليلاً أو كثيراً، فخالطته نجاسة فغيرت ريحه أو طعمه أو لونه كان نجساً ".
(4) جاء في مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 5) : " سمعت أحمد بن محمد بن حنبل قال له الوركاني: بئر لنا وقعت فيها فأرة؟
فقال أحمد: إن لم تغير طعم الماء وريحه فلا نرى لها بأساً.
فقال له الوركاني: نحن نزحنا الماء؟
قال أحمد: ما بقي من الماء ما تصنع به؟ ثم قال أحمد: يقع في بئرنا مثل هذا كثير، فنخرجه، فنرمي به، ثم قال: قال رسول الله b: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء.
قال أحمد: فإن تغير طعمه أو ريحه نزح حتى يطيب. الخ وانظر مسائل أحمد رواية عبدالله (1/6،7) .
وقال في رواية صالح (1/301) : " الذي سمعنا أن الماء إذا كان قدر قلتين أو ثلاث لم ينجس، والقلال: قلال هجر، ويقال: إن القلة تسع نحو القربتين، فإذا كان الماء خمس قرب، ست قرب - كلما كان أكثر فهو أحب إلينا - لم ينجسه إلا مان غير طعمه أو ريحه، فإذا تغير طعم أو لون أو ريح لم يقرب، إلا البول والعذرة الرطبة التي تقع في الماء فلا يقدر عليها، فإن ذلك ينجس إلا أن تكون هذه المصانع التي في طريق مكة، فإن ذلك لا ينجسه شيء. اهـ وانظر المغني (1/31) ، والفروع (1/84) .(1/177)
وفي الريح خلاف شاذ عن عبد الملك بن الماجشون (1) .
الدليل الأول: الإجماع.
حكى الإجماع على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة الطحاوي من الحنفية، فقال: قد أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البئر، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه أو لونه، أن ماءها قد فسد (2) .
وقال ابن نجيم: " اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة به، قليلاً كان الماء أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (3) .
والباجي من المالكية، قال: ما تغير بنجاسة خالطته، فلا خلاف في نجاسته (4) .
وقال الشافعي رحمه الله: إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه كان نجساً، يروى عن النبي b من وجه لا يُثْبِت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا
_________
(1) لم يعتبر عبد المك بن الماجشون التنجيس بالرائحة، وقال: لو تغيرت رائحة الماء فقط، فإنه لا ينجس، واستدل له القرافي كما في الذخير (1/163) ، فقال: " ووجه قول عبد الملك أن الثياب لا تنجس بروائح النجاسات، فكذلك الماء؛ لأنه أقوى في الدفع عن نفسه، ولأن الرائحة لو كان تغيرها معتبراً لذكر في الحديث. اهـ
وممكن أن يستدل له أن التغير بالرائحة بالمجاورة لا ينجس، بخلاف التغير بالطعم واللون، والله أعلم.
(2) شرح معاني الآثار (1/12) ..
(3) البحر الرائق (1/78) .
(4) المنتقى للباجي (1/59) .(1/178)
أعلم بينهم فيه اختلافاً (1) ، وحكى الإجماع النووي أيضاً (2) . وابن قدامة من الحنابلة، قال: وأما نجاسة ما تغير بالنجاسة فلا خلاف فيه (3) ، وكذلك ابن تيمية (4) .
وقال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت النجاسة الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً، أنه نجس ما دام كذلك، ولا يجزي الوضوء والاغتسال به (5) .
كما حكى الإجماع من المحدثين ابن حبان في صحيحه، والبيهقي (6) ، وابن عبد البر في التمهيد (7) ، والعراقي (8) .
قال ابن حبان: قوله b: " الماء لا ينجسه شيء "
وقوله: " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء " يَخُص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً، فغير طعمه أو لونه، أو ريحه نجاسة وقعت فيه أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع (9) .
_________
(1) الأم (8/612) .
(2) المجموع (1/212) وانظر (1/160) .
(3) المغني (1/1/31) .
(4) قال في مجموع الفتاوى (21/504) : " والماء لنجاسته سببان: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: المتغير بالنجاسة ".
(5) الأوسط (1/260) .
(6) سنن البيهقي الكبرى (1/260) .
(7) التمهيد (1/332) .
(8) طرح التثريب (2/32) .
(9) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (4/59) .(1/179)
الدليل الثاني: من النظر
أن الماء الطاهر إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فإننا إذا استعملناه أصبحنا مستعملين للنجاسة نفسها، فيجب الامتناع عنه.
قال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد عن الماء إذا تغير طعمه أو ريحه؟ قال: فلا يتوضأ به، ولا يشرب، وليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة وريحها، فلا يحل له، وذلك أمر ظاهر.
قال الخلال: وإنما قال أحمد ليس فيه حديث؛ لأن هذا الحديث (الماء طهور إلا ما غلب... الحديث) يرويه سليمان بن عمر، ورشدين بن سعد، وكلاهما ضعيف (1) .
قال ابن حزم: وإذا تغير لون الطاهر بما مازجه من نجس، أو تغير طعمه بذلك، أو تغير ريحه، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الطاهر إلا باستعمال النجس، واستعمال النجس حرام في الصلاة، ولذلك وجب الامتناع عنه (2) .
وأما ما يروى عن النبي b من نجاسة الماء إذا غيرت طعمه أو لونه أو ريحه فلا يثبت عن النبي b فيه شيء.
(41) فقد روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان، قالا: ثنا مروان بن محمد، ثنا رشدين، أنبأنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد،
عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال رسول الله b: إن الماء لا ينجسه
_________
(1) المغني (1/20) وانظر مسائل أحمد رواية عبد الله (1/4) .
(2) المحلى (1/143) بتصرف يسير.(1/180)
شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (521) .
(2) فيه رشدين بن سعد، جاء في ترجمته:
ضعفه أحمد بن حنبل عن رشدين بن سعد، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل (3/513) .
وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال على بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأ هـ. التاريخ الكبير (3/337) .
وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (203) .
وقال ابن رشدين: كان ضعيفاً. الطبقات الكبرى (7/517) .
وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (3/149) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/66) .
وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كل ما يدفع إليه، سواء كان ذلك حديثه أو من غير حديثه، ويقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه. المجروحين (1/303) .
[تخريج الحديث]
أخرجه البيهقي (1/259) من طريق أبي الأزهر، ثنا مروان بن محمد به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8/104) من طريق العباس بن الوليد الخلال، ثنا مروان بن محمد به، إلا أنه قال: إلا ما غلب على ريحه أو طعمه، ولم يذكر اللون.
واختلف على مروان بن محمد، فرواه عنه العباس بن الوليد الخلال، كما عند الطبراني، وأبو الأزهر، كما في سنن البيهقي، كلاهما، عن مروان بن محمد، عن رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة.
وخالفهم عيسى بن خالد، فأخرجه الدارقطني (1/28) ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (1/40) عن عيسى بن خالد، نا مروان بن محمد، عن رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن ثوبان، فجعله من مسند ثوبان.
وتابع محمد بن يوسف الغضيضي مروان بن محمد في جعله من مسند أبي أمامة، فأخرجه الدارقطني (1/28) وابن عدي في الكامل (3/156) والطبراني في الأوسط (1/226) من طريق محمد بن يوسف الغضيضي، ثنا رشدين بن سعد به.
قال الدارقطني: لم يرفعه غير رشدين بن سعد، عن معاوية بن صالح، وليس بالقوي الصواب فيه قول راشد.
كما تابع رشدين بن سعد ثور بن يزيد، فأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/259) قال: أخبرنا أبو عبد الله، أنا أبو الوليد، ثنا الشاماتي، ثنا عطية بن بقية بن الوليد، ثنا أبي، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الماء طاهر، إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه.
وإسناده ضعيف، فيه عطية بن بقية، ووالده بقية بن الوليد.
وأخرجه البيهقي (1/260) قال: أخبرنا أبو حازم الحافظ، ثنا أبو أحمد الحافظ، ثنا أبو الحسن أحمد بن عمير بن يوسف الدمشقي بدمشق، ثنا أبو أمية يعني محمد بن إبراهيم، ثنا حفص بن عمر، ثنا ثور بن يزيد به.
وهذا سند ضعيف جداً غير صالح في المتابعات، لأن فيه حفص بن عمر الرازي الإمام.
وقيل: الواسطي، وقيل: هما اثنان.
قال فيه أبو حاتم الرازي: كان يكذب. الجرح والتعديل (3/184) .
وقال البخاري: يتكلمون فيه. التاريخ الكبير (2/367) .
وكذبه أبو رزعة. لسان الميزان (7/201) .
وقال أبو الوليد: لم يسمع من أبي سنان الشيباني إلا حديثاً واحداً، ثم قدم البصرة فحدثهم بأحاديث كثيرة عن أبي سنان، وذكره بذكر سيء، وقال: بيننا وبينه سبب فلا يظهر هذا عني. الجرح والتعديل (3/180) .
وقال يزيد بن هارون: لا بأس به. المرجع السابق.
واختلف فيه على راشد بن سعد، فرواه عنه من سبق من مسند أبي أمامة.
وأخرجه عبد الرزاق (1/80) رقم 264 عن إبراهيم بن محمد، عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد - في المطبوع عامر بن سعد، وهو خطأ - أن النبي b قال: لا ينجس الماء إلا ما غير ريحه أو طعمه، أو ما غلب على ريحه وطعمه.
وهذا إسناد ضعيف جداً من أجل إبراهيم بن يحيى.
وأخرجه أبو مسهر في نسخته (6) قال: حدثنا عيسى بن يونس، ثنا الأحوص، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله b فذكره. ومن طريق عيسى بن يونس أخرجه الطحاوي (1/16) ، والدارقطني (1/29) قال الدراقطني بعده: مرسل، ووقفه أبو أسامة على راشد.
وأخرجه الدراقطني (1/28) قال: حدثنا ابن الصواف، نا حامد بن شعيب، نا سريج، نا أبو إسماعيل المؤدب وأبو معاوية، عن الأحوص، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله b: لا ينجس الماء إلا ما غير طعمه أو ريحه. قال الدارقطني: لم يجاوز به راشد.
ورواه أبو أسامة، عن الأحوص، عن أبي عون وراشد بن سعد من قولهما.
أخرجه الدارقطني (1/29) قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا أبو البختري، نا أبوأسامة، نا الأحوص بن حكيم، عن أبي عون وراشد بن سعد، قالا: الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غير ريحه أو طعمه. اهـ وهذا موقوف.
قال ابن أبي حاتم في العلل (1/44) : " سألت أبي عن حديث رواه عيسى بن يونس، عن الاحوص بن حكيم، عن راشد بن سعد، قال: قال رسول الله b: لاينجس الماء إلا ما غلب عليه طعمه ولونه، فقال أبي: يوصله رشدين بن سعد، يقول: عن أبي أمامة، عن النبي b، ورشدين ليس بقوى، والصحيح مرسل.
فالحديث في إسناده اختلاف كثير، فتارة من مسند أبي أمامة، وتارة من مسند ثوبان.
وتارة موصولاً، وتارة مرسلاً، وتارة موقوفاً.
والحديث ضعفه الشافعي في الأم (8/612) ، والدارقطني في العلل كما في تلخيص الحبير (1/15) ، والبيهقي في السنن (1/260) وغيرهم.
وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه. انظر المجموع (1/160) .(1/181)
قال صديق حسن خان: " وقد اتفق أهل الحديث على ضعف الزيادة - يعني زيادة الاستثناء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه - لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها، كما نقله ابن المنذر، وابن الملقن في البدر المنير، والمهدي في البحر، فمن كان يقول: بحجية الإجماع، كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع، ومن كان لا يقول بحجية الإجماع، كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الرواية، لكونها صارت مما أجمع على معناها وتلقي بالقبول، فالاستدلال بها، لا بالإجماع (1) .
ولا أعرف أن الإجماع يعتبر به في تقوية الحديث الضعيف، فالإجماع وحده حجة، ولا يعتبر بالحديث الضعيف لا من القرآن، ولا من الإجماع، ولا من غيرهما إلا من السنة فقط بشروط ليس هذا مجال ذكرها، هذا الذي أعرفه من عمل أئمة الحديث، والله أعلم.
_________
(1) الروضة الندية (1/5-6) .(1/184)
الباب الخامس
في الماء المستعمل(1/185)
[صفحة فارغة](1/186)
الفصل الأول
حكم الماء المستعمل في رفع الحدث
متى يكون الماء مستعملاً؟
وللجواب على ذلك نقول: الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق (1) .
وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملاً؟
قالوا: إذا كان الماء قليلاً كان مستعملاً.
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية البناية في شرح الهداية (1/352) قال: والماء المستعمل هو ماء أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة. وانظر حاشية ابن عابدين (1/200) ، وقال في البحر الرائق (1/97) : " الماء يصير مستعملاً بواحد من ثلاثة:
إما بإزالة الحدث، سواء كان معه تقرب أو لا. يقصد كان معه نية ألا، لأن الحدث عندهم يرتفع، ولو لم ينو رفع الحدث.
قال: أو إقامة القربة كان معه رفع الحدث أو لا - يقصد: أن الطهارة لم تكن عن حدث، وإنما نوى تجديداً مسنوناً.
قال: أو إسقاط الفرض. يعني فرض الطهارة. اهـ
وقال في منح الجليل من المالكية (1/38) : وهو المتقاطر من العضو المغسول، والمغسول فيه العضو لا الجاري عليه، ولا الباقي في الإناء بعد الاغتراف منه.
وقال في حاشية الدسوقي (1/42) والمستعمل ما تقاطر من الأعضاء، أو اتصل بها، أو انفصل عنها، وكان يسيراً كآنية وضوء، غَسَل عضوه فيه ".
ثم قال في شرحه: والكراهة مقيدة بأمرين: أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلاً كآنية الوضوء والغسل، وأن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة ".
وقال في شرح الخرشي (1/74) : " ما تقاطر من العضو الذي تتم به الطهارة ماء مستعمل بلا نزاع ".
وانظر في مذهب الشافعية المجموع (1/215) ، الحاوي الكبير (1/300) .(1/187)
واختلفوا في حد القليل:
فيرى الحنفية أن الجنب إذا انعمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه (1) .
ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم.
وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملاً، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملاً (2) .
والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملاً، وإلا فلا (3) .
ولا يكون الماء مستعملاً إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها.
_________
(1) البحر الرائق (1/95) ، المبسوط (1/53) .
(2) انظر الشرح الصغير (1/37) ، حاشية الدسوقي (41،42) ، الخرشي (1/75،76) القوانين الفقهية (ص: 25) ، الاستذكار (1/253) ، التمهيد (4/43) .
وقال في شرح الخرشي (1/74) : لو غمس يده في الإناء ولم يدلك يده إلا بعد ما أخرجها فالظاهر أنه غير مستعمل كما ظهر لي، ثم وجدت عج ذكره.
وسبب هذا أن الدلك عندهم فرض، فإذا خرج يده ولم يدلكها لم يرتفع الحدث عن العضو في الماء، وإنما ارتفع خارج الماء فلم يتأثر الماء، والله أعلم.
(3) المجموع (1/215) ، الفتاوى الكبرى
انظر في المذهب الحنبلي المبدع (1/45،46) ، الكافي (1/6) .
وقال ابن قدامة في المغني (1/30) : " وإذا انغمس الجنب أو المحدث فيما دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملاً، ولم يرتفع حدثه. وقال الشافعي: يصير مستعملاً، ويرتفع حدثه؛ لأنه إنما صار مستعملاً بارتفاع حدثه فيه... الخ كلامه رحمه الله. وانظر الفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/421،422) .(1/188)
وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف (1) .
هذا كلام أهل العلم في الماء متى يكون مستعملاً، وهو واضح في الماء المتقاطر من العضو، حيث استعمل في طهارة العضو، وأما الماء الذي وضع يده فيه فلم يتضح لي أن النية مؤثرة، فإن غمسها بنية الوضوء كان مستعملاً، وإن لم ينو لم يستعمل، بل يقال بقول المالكية إن كان الماء قليلاً كآنية الوضوء، وغمس يده فيه صار مستعملاً، وإلا فلا، ولا يؤخذ بحديث القلتين في تحديد الماء القليل حتى في وقوع الأعيان الطاهرة، لأننا لو سلمنا بمفهوم حديث
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/69) ، البحر الرائق (1/19) .
وقال في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/9) : قال القاضي خان: المحدث والجنب إذا أدخل يده في الماء للاغتراف، وليس عليها نجاسة، لا يفسد الماء، وكذا إذا وقع الكوز في الجب، وأدخل يده إلى المرفق لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملا، وكذا الجنب إذا أدخل رجله في البئر ليطلب الدلو لا يصير مستعملا لمكان الضرورة. الخ
وفي مذهب المالكية: قال في مواهب الجليل (1/68) : " قال ابن الإمام: والأظهر أن إدخال المحدث يده في الإناء بعد غسل الوجه ونية رفع الحدث لا يصير الماء مستعملاً إذا انفصلت اليد من الماء على أصلنا، ولم أر فيه نصاً ".
وفي مذهب الشافعية، قال النووي في المجموع (1/215) : " إذا غمس المتوضئ يده في إناء فيه دون القلتين، فإن كان قبل غسل الوجه لم يصر الماء مستعملاً سواء نوى رفع الحدث أم لا، وإن كان بعد غسل الوجه فهذا وقت غسل اليد، ففيه تفصيل: إن قصد غسل اليد صار مستعملاً، وارتفع الحدث عن الجزء الأول من اليد
وفي مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة في المغني (1/86) : " ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه بيده، فغرف منه عند غسل يديه لم يؤثر ذلك في الماء.. ألخ كلامه رحمه الله.
وقال أيضاً (1/135) : " وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث منها، فهو باق على طهوريته، ثم قال: " وإن نوى رفع حدثها فحكم الماء حكم ما لو اغتسل الجنب فيه للجنابة ". يقصد: أنه يكون مستعملاً. وانظر الإنصاف (1/44) .(1/189)
القلتين فإنه في معرض بيان وقوع النجاسات في الماء، وليس في بيان وقوع الأعيان الطاهرة فيه، والله أعلم.
خلاف العلماء في الماء المستعمل في رفع الحدث
بعد أن عرفنا متى يصبح الماء مستعملاً، نذكر خلاف العلماء في طهوريته،
فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة (1) ، واختارها أبو يوسف (2) .
وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية (3) .
وقيل: إنه طاهر غير مطهر، وهو الرواية المشهورة عن الإمام أبي
_________
(1) البناية (1/350) ، حاشية ابن عابدين (1/201) وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان "
وقال في البناية (1/351) : " رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/46) : أي لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم.
ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش. والله أعلم.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الصغير (1/37) ، حاشية الدسوقي (1/37) ، بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية (1/274) .
والكراهة مقيدة بأمرين:
الأول: أن يكون ذلك الماء قليلاً كآنية الوضوء والغسل.
الثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة.(1/190)
حنيفة رحمه الله، وعليه الفتوى (1) ، وهو مذهب الشافعية (2) ،
_________
(1) انظر شرح فتح القدير (1/87) ، والمبسوط (1/46) ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/200، 201) ، قال العيني في البناية (1/349) : ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً. ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى
(2) الأم (8/100) ، الروضة (1/7) ، وقال في المجموع (1/202) : " قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي في جميع كتبه القديمة والجديدة أن المستعمل ليس بطهور ".
وقال الماوردي: الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه، أو من بدن الجنب في غسله، فمذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة، وما نقله عنه جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه طاهر مطهر. هكذا في الحاوي (1/296) ، وهذه العبارة بنصها نقلها النووي إلا أنه قال: وما نقله جميع أصحابه سماعاً ورواية أنه غير طهور. المجموع (1/203) . وعبارة النووي هي أصوب لما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله.
ولذلك قال الماوردي بعد العبارة السابقة مما يبين أنها خطأ:
قال: فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين:
الأول: أنه طاهر غير مطهر، وهو ما صرح به في جميع كتبه، ونقله جمهور أصحابه. اهـ
فهذا يدل على خطأ في النص السابق، ولم ينتبه له محقق الكتاب، إن لم يكن الخطأ من الناسخ. ثم قال:
والثاني: أنه طاهر مطهر، وهو ما حكاه عيسى بن أبان، ودلت عليه رواية أبي ثور، وكان أبو العباس، وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين، ويعدلان عن رواية عيسى؛ لأنه وإن كان ثقة، فهو مخالف لما يحكيه أصحاب الخلاف، ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعاً من لفظه، ولا هو منصوصه، فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته رداً على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به. الخ كلامه.(1/191)
والحنابلة (1) ، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية (2) .
وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد (3) ، ورجحها ابن حزم (4) ، وابن تيمية (5) ، وابن عبد الهادي (6) ، والشوكاني (7) ، وغيرهم.
دليل من قال بنجاسة الماء المستعمل.
الدليل الأول:
(42) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى، عن محمد بن عجلان، قال: سمعت أبي،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: لا يبل أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة (8) .
_________
(1) الإنصاف (1/35،36) ، كشاف القناع (1/32) ، شرح منتهى الإرادات (1/14) ،.
(2) شرح فتح القدير (1/87) ، والمبسوط (1/46) ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/200، 201) ، البناية (1/349) .
(3) الكافي (1/5) ، المبدع (1/44) ، وقال صاحب الانصاف (1/36) : وهو أقوى في النظر.
(4) المحلى (1/183) .
(5) الاختيارات للبعلي (ص: 3) ، ومجموع الفتاوى (20/519) .
(6) التنقيح (1/211) .
(7) نيل الأوطار (1/44) .
(8) أحمد (2/433) .
والحديث رواه أبو داود (70) ، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/238) حدثنا مسدد، حدثنا يحيى به.
وأخرجه ابن حبان (1257) من طريق أبي خيثمة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان به.(1/192)
[رجاله ثقات إلا محمد بن عجلان فإنه صدوق، والحديث بهذا اللفظ غير محفوظ] (1) .
_________
(1) الجمع بين النهي عن البول في الماء الدائم، والنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، ولو لم يبل فيه، جمع بينهما ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وليس النقاش في ثبوت النهي عن الاغتسال في الماء الدائم للجنب، وإنما جمع الحديثين في حديث واحد انفرد به ابن عجلان في سائر من روى الحديث، وانفراده يوجب ريبة أن الحديث بهذا اللفظ لم يثبت، وقد اختلف على ابن عجلان أيضاً:
فرواه عنه يحيى بن سعيد القطان كما تقدم، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وروه الليث، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بنفس اللفظ، رواه البيهقي (1/238) قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث به.
وهذا إسناد حسن إلى ابن عجلان، كلهم ثقات إلا عبيد بن عبد الواحد فإنه صدوق.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/5) من طريق أبي زرعة وهب الله بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: سمعت ابن عجلان يحدث عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة فذكره بلفظ أبي داود.
وهذا إسناد فيه لين: فيه أبو زرعة وهب الله بن راشد، جاء في ترجمته.
قال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: أردت أن أكتب عن أبي زرعة وهب الله بن راشد، فنهاني عمي أن أكتب عنه. الضعفاء الكبير (4/323) .
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى عنه، فقال: بين ذلك، فقيل لأبي: وهب الله بن راشد أحب إليك أم وهب بن راشد الرقى؟ قال: وهب الله لا يقرن إلى ذلك، ووهب الله بن راشد محله الصدق. الجرح والتعديل (9/27) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. الثقات (9/228) .
وخالفهم أبو خالد الأحمر، ويحيى بن محمد بن قيس.
فأخرجه ابن ماجه (344) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن أبيه،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b لا يبولن أحدكم في الماء الراكد.
ورواه يحيى بن محمد بن قيس، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ الجماعة: نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يغتسل منه.
أخرجه النسائي (398) أخبرنا محمد بن صالح البغدادي، قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثني ابن عجلان، عن أبي الزناد،
عن أبي هريرة، أن رسول الله b نهى أن يبال في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه من الجنابة.
وأخرجه البيهقي (1/238) قال: أخبرناه أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقري، أنا الحسن بن محمد بن إسحاق، أنا يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى ابن محمد بن قيس به بمثله لكن قال: ثم يغتسل فيه للجنابة.
قال البيهقي: هذا اللفظ هو الذي أخرج في الصحيحين من هذا الحديث ثم يغتسل منه، إلا أنه لم يخرج فيه للجنابة.
ويحيى بن محمد بن قيس فيه ضعف، وأخرج له مسلم في المتابعات، لكنه قد توبع في هذا اللفظ من طرق كثيرة، منها طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة في الصحيحين، وليس فيها ما ذكره ابن عجلان. فهذا الاختلاف على ابن عجلان يؤكد أنه لم يضبط الحديث.
وقد روى الحديث جماعة عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما، لم يذكروا ما ذكره محمد بن عجلان: منهم: محمد بن سيرين، وهو من أثبت أصحاب أبي هريرة، وهمام، والأعرج من غير طريق ابن عجلان، وحميد بن عبد الرحمن، وخلاس بن عمرو، وغيرهم كما سأبينه بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
الطريق الأول: الأعرج، عن أبي هريرة.
أخرجه البخاري (239) قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. قرنه بحديث: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ".
وأخرجه ابن خزيمة (66) من طريق سفيان، عن أبي الزناد به. بلفظ البخاري.
وأخرجه الطحاوي (1/15) من طريق ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ البخاري. وهذه متابعة لحديث أبي الزناد موافقاً له على لفظ الصحيح. وهو سند صالح في المتابعات. وعليه يكون رواه اثنان عن أبي الزناد منهم شعيب في البخاري، وسفيان بن عيينة عند ابن خزيمة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، ولا يذكران ما يذكره ابن عجلان، عن أبي الزناد. ولو لم يكن فيه إلا مخالفة هؤلاء لكفى، فكيف وقد خالف أمة رووه عن أبي هريرة.
الطريق الثاني: ابن سيرين، عن أبي هريرة.
رواه عن ابن سيرين جماعة، منهم:
أولاً: أيوب، عن ابن سيرين.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (300) أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (2/265) وابن الجارود في المنتقى (54) ، وأبو عوانة (1/276) .
وأخرجه الحميدي (970) حدثنا سفيان بن عينية، ثنا أيوب به، بلفظ: " ثم يغتسل منه ".
واختلف على سفيان، فرواه عنه الحميدي، وهو من أثبت أصحابه عن أيوب به مرفوعاً.
ورواه قتيبة، عنه به موقوفاً.
أخرجه النسائي (400) أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا سفيان به. بلفظ: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يحري ثم يغتسل فيه. موقوفاً على أبي هريرة.
ورواه البيهقي (1/239) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب به موقوفاً.
قلت: وكذلك رواه عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب موقوفاً، انظر العلل للدارقطني (8/121) .
وقال البيهقي: وكذلك رواه يزيد بن هارون، عن محمد بن سيرين موقوفاً.
قلت: وكذلك رواه يونس، عن ابن سيرين موقوفاً، انظر العلل للدارقطني (8/121) .
وفي رواية النسائي: قال سفيان بن عيينة: قالوا لهشام يعني ابن حسان إن أيوب إنما ينتهي بهذا الحديث إلى أبي هريرة، فقال: إن أيوب لو استطاع أن لا يرفع حديثاً لم يرفعه.
وهذا يدل على أنه مشهور عن أيوب وقف هذا الحديث.
قال السندي معلقاً في حاشيته على النسائي في كون أيوب لم يرفعه، قال: تعظيماً للنسبة إلى النبي b، وخوفاً من أن يقع منه فيه خطأ، فيقع في الكذب عليه، والله تعالى أعلم.
هذا فيما يتعلق في رواية أيوب عن ابن سيرين.
وتابعه هشام بن حسان، عن ابن سيرين.
أخرجه أحمد (2/362) حدثنا عبد الله بن يزيد - يعني المقرئ - قال: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه.
وأخرجه مسلم (282) حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن هشام به، بلفظ: "ثم يغتسل منه ".
وأخرجه أبو داود (69) قال: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زائدة في حديث هشام به.
وأخرجه الدارمي (730) قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله ثنا زائدة عن هشام به.
وأخرجه الطحاوي (1 /14) وأبو يعلى (6076) ، والبيهقي (1/256) من طريق عبد الله بن بكر السهمي، ثنا هشام به.
وأخرجه البيهقي (1/238) من طريق الأنصاري وجرير، كلاهما عن هشام به.
ولفظ هشام من هذا الطريق: ثم يغتسل منه.
واختلف على هشام:
فأخرجه من سبق، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وخالفهم ابن عليه، فرواه عن هشام به موقوفاً، أخرجه ابن أبي شيبة (1/131) رقم 1501، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: لا يبول أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه.
كما رواه هشيم عن هشام به موقوفاً كما في علل الدارقطني (8/121) .
وقال الدارقطني: ورواه يونس، عن ابن سيرين موقوفاً. المرجع السابق.
ورواه سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين به موقوفاً على أبي هريرة، أخرجه ابن أبي شيبة (1/131) رقم 1502 قال: حدثنا ابن علية، عن سلمة به.
ورواه عوف، عن ابن سيرين.
أخرجه أحمد (2/259) حدثنا عبد الواحد، حدثنا عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة.
وأخرجه النسائي في الكبرى (55) وفي الصغرى (57) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، قال: حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله b به بلفظ: ثم يتوضأ منه.
ومن طريق إسحاق بن إبراهيم أخرجه ابن حبان (1251) .
ورواه البيهقي (1/238) من طريق يحيى بن سعيد، عن عوف بن محمد به. إلا أنه قال: ثم يتطهر منه، وهي رواية بالمعنى صحيحة.
ورواه يحيى بن عتيق، عن ابن سيرين.
أخرجه النسائي في الكبرى (56) وفي السنن الصغرى (58) أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا إسماعيل، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه.
قال النسائي: كان يعقوب لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/216) من طريق علي بن عبدة، ثنا ابن علية، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين به. بلفظ: ثم يتوضأ منه أو قال: يغتسل.
قال ابن عدي: هذا الحديث لم يحدث به عن ابن علية من الثقات غير يعقوب الدورقي حدثنا جماعة من الثقات منهم أبو عبد الرحمن النسائي، عن يعقوب، وكان يعقوب يأخذ على هذا الحديث ديناراً، فسرقه منه علي بن عبدة. اهـ
الطريق الثالث: همام بن منبه، عن أبي هريرة.
رواه عبد الرزاق في مصنفه (299) عن معمر، عن همام بن منبه، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله b لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يتوضأ منه.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (2/316) وقال بدلاً من يتوضأ منه، قال: يغتسل منه.
وأخرجه مسلم (282) حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق به. بلفظ أحمد.
وأخرجه الترمذي (68) ومن طريق الترمذي أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/43) قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق به، بلفظ عبدالرزاق. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (397) أخبرنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر به، بلفظ: ثم يغتسل منه أو يتوضأ
وأخرجه ابن الجارود (54) حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق به. بلفظ عبد الرزاق، ثم يتوضأ منه.
وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/276) حدثنا السلمي والدبري جميعاً، عن عبد الرزاق به. بلفظ: ثم يغتسل به، كما هو لفظ مسلم.
الطريق الرابع: عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة. وفي لفظه: " ثم يتوضأ منه أو يشرب. وذكر الشرب انفرد بها الحارث بن أبي ذباب، عن عطاء بن ميناء، وهي شاذة، والحارث صدوق له أوهام.
والحديث أخرجه ابن خزيمة (94) ، ومن طريقه ابن حبان (1256) قال: نا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا أنس بن عياض، عن الحارث - وهو بن أبي ذباب - عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه أو يشرب.
وأخرجه الطحاوي (1/14) حدثنا يونس بن عبد الأعلى به. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/239) من طريق ابن وهب، أخبرني أنس بن عياض به.
الطريق الخامس: أبو عثمان مولى المغيرة بن شعبة، عن أبي هريرة. بلفظ: " ثم يغتسل منه ".
أخرجه أحمد (2/394) قال: حدثنا أبو أحمد، ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: ثم يغتسل منه.
وأخرجه عبد الرزاق (302) عن الثوري، عن ابن ذكوان، عن موسى بن أبي عثمان به. بلفظ: ثم يغتسل فيه.
وأخرجه أحمد (2/464) حدثنا عبد الله بن الوليد ومؤمل، قالا: حدثنا سفيان، قال: حدثني أبو الزناد به.
وجاء من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد به.
وأخرجه الحميدي (696) حدثنا سفيان، ثنا أبو الزناد به. وأخرجه النسائي (399) أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان به. ومن طريق سفيان بن عيينة أخرجه ابن خزيمة (66) ، وابن حبان (1254) ، والبيهقي (1/256،238) .
وأخرجه الطحاوي (1/14) من طريق أبي نعيم ومحمد بن يوسف الفريابي، كلاهما، عن سفيان به.
وأخرجه الطحاوي (1/14) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به.
الطريق السادس: عن خلاس، عن أبي هريرة، وخلاس لم يسمع أبا هريرة.
أخرجه أحمد (2/259، 492) والنسائي (57) . ومع انقطاعه، فإن خلاس قد تابعه جمع كثير.
الطريق الثامن: عن أبي مريم، عن أبي هريرة.
أخرجه أحمد (2/288، 532) وابن أبي شيبة (1/131) رقم 1504. وسنده جيد.
الطريق الثامن: أخرجه أحمد (2/346) حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " ثم يغتسل منه".
فهؤلاء ثمانية رواة رووه عن أبي هريرة، ولم يقل واحد منهم ما قاله ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة بجمعه حديثين في حديث واحد.
وحديث النهي عن الإنغماس في الماء الدائم، والرجل جنب لا يعرف من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وإنما جاء من طريق أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة مرفوعاً
أخرجه مسلم (283) ، وابن ماجه (605) والنسائي (220) وابن الجارود (56) وابن خزيمة (93) ، وأبو عوانة (1/276) والطحاوي (1/14) ، وابن حبان (1252) والدارقطني (1/51،52) والبيهقي (1/237) من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله b: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً.
هذا ما وقفت عليه من طرق الحديث والله الموفق للصواب.(1/193)
وجه الاستدلال:
إن النهي عن الاغتسال فىالماء الراكد جاء مقروناً بالنهي عن البول فيه، فإذا كان البول ينجسة فكذلك الاغتسال (1) .
أجاب الجمهور بجوابين:
أحدهما: أن الحديث ضعيف، وهذا رأي البيهقي فى السنن.
قال النووى: رواه هكذا أبوداود فى سننه، من رواية محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبى b، ورواه البخاري ومسلم فى صحيحهما عن أبي هريرة عن النبى b قال: " لايبولن أحدكم فى الماء الدائم ثم يغتسل منه ".
وفى رواية لمسلم: "لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم، وهو جنب، فقيل لأبي هريرة: كيف يفعل؟. قال: يتناوله تناولاً".
فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود. قال البيهقى: رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة كما رواه البخاري ومسلم (2) .
_________
(1) البناية (1/353،354) .
(2) المجموع (1/204) . قلت: وقد يقال: إن هذه الرواية وإن كانت من طريق ابن عجلان، وهو صدوق، وقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، كما أفاده الحافظ فى التقريب: إلا أن هذه الرواية ليست مخالفة لرواية الصحيحين لأن الحديث فى الصحيحين: " لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه ".
ولفظ مسلم: " ثم يغتسل منه ". هذا الحديث موافق للشق الأول من حديث ابن عجلان، لأن لفظه: "لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم " وثبت عن مسلم: " لا يغتسل أحدكم فى الماء الدائم وهو جنب ".
وهذا موافق للشق الثانى من حديث أبي داود وهو قوله " ولا يغتسل فيه من الجنابة ".
فإذاً غاية ما في حديث ابن عجلان أنه ذكر الحديثين فى حديث واحد، وهذا لا يوجب قدحاً. وهذا الجواب فيه ضعف، لأن حديث مسلم في نهي الجنب عن الانغماس في الماء الدائم له مخرج مختلف عن حديث النهي عن البول في الماء الدائم، فكون ابن عجلان ينفرد بأمرين:
الأول: أنه جمع الحديثين في حديث واحد.
الثاني: أن لا يعرف حديث النهي عن انغماس الجنب من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. وكوننا نذكر أنه خطأ في الاسناد، لا يعني إعلال المتن، وثبوته من طريق آخر، والله أعلم.(1/200)
الجواب الثاني:
أن يقال: لايلزم من الاشتراك فى النهي.. الاشتراك فى الحكم.. فكون النهي عن البول اقترن فى النهى عن الاغتسال، لا يلزم منه الاشتراك فى الحكم، فقد ورد قوله تعالى:
{كلوا من ثمره إذا أثمر وآتو حقة يوم حصاده} (1) ، فقد اقترن الأمر بالأكل مع الأمر بإعطاء حق المال.. والأمر بالأكل مباح بخلاف الأمر بإعطاء حق المال فإنه قد يكون واجباً كما فى الزكاة، وإنقاذ الهلكة وقرى الضيف (2) .
_________
(1) الأنعام: 141.
(2) بتصرف يسير المجموع (1/204،205) .(1/201)
الدليل الثاني على نجاسة الماء المستعمل.
(43) ما رواه مسلم، قال: حدثني أحمد بن جعفر المعقري، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة: لقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنساً إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا -
عن أبي أمامة، قال: قال عمرو بن عبسة السلمي ما منكم رجل يقرب وضوءه، فيتمضمض، ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام، فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه، فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله b، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول، في مقام واحد يعطي هذا الرجل، فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله b إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (832) .(1/202)
وجه الاستدلال:
أن هذه الخطايا نجاسات وقاذورات فيتنجس الماء المخالط لها (1) .
ويمكن الجواب أن يقال:
إن الذنوب ليست لها أجرام محسوسة نراها تخالط الماء حتى تؤثر فيه.
وثانياً: العبد إذا أذنب لا يقال له تنجس
وثالثاً: إذا فرغ العبد من الوضوء ثم أذنب لا يؤثر ذلك فى وضوئه، ولو كانت هذه الذنوب تؤثر فى الماء لكان لها تأثير على بدن المتلبس بها من باب أولى
الدليل الثالث:
قالوا: إن استعمال الماء لرفع الحدث يسمى طهارة، قال تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (2) .
والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة؛ إذ تطهير الطاهر لا يعقل (3) .
ويجاب عنه:
أولاً: إنما سمي طهارة لأنه يطهر العبد من الذنوب، لا أنه طهره من نجاسة حلت فيه.
ولذلك لما اعتبر أبو هريرة حدثه نجاسة بين له b بقوله: " إن المؤمن لا ينجس ". متفق عليه.
وقوله: " لا ينجس" أى بمثل ذلك، وإلا فالمؤمن قد تطرأ عليه النجاسة
_________
(1) البناية (1/353، 354) .
(2) المائدة: 6.
(3) البناية بتصرف (1/350،351) .(1/203)
الحسية كغيره.
وثانياً: تجديد الوضوء يسمى طهارة شرعية مع أنه متطهر.
وثالثاً: لو كان المحدث نجساً لما صح حمله فى الصلاة، وقد جاء فى حديث أبي قتادة فى الصحيحين: " أن الرسول b كان يصلى، وهو حامل أمامة بنت زينب " (1) .
ورابعاً: المتوضئ لابد أن يتساقط على ثوبه من الماء المستعمل، ومعنى هذا أنه سوف تتنجس ثيابه، وكذلك ما يتنشف به، لكن حاولوا ينفكون من هذا بأنه سقط الحكم هنا لرفع الحرج، وهذا الانفكاك لا يفك، لأنه لو سقط من ثياب المتوضئ الذي عليه لم يسقط الحكم من الثياب التي يتنشف بها، ولا في ثياب غير المتوضئ، كما لوسلم عليه أو وقعت على ثيابه.
دليل من قال الماء طاهر وليس بطهور.
أما كونه طاهراً، فله أدلة كثيرة منها:
الدليل الأول:
(44) ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما صاحبه، وفيه من حديث طويل:
" وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه " (2) .
_________
(1) البخاري (516) ، ومسلم (41 - 543) .
(2) صحيح البخاري (2734) .(1/204)
الدليل الثاني:
(45) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر، قال:
سمعت جابراً يقول: جاء رسول الله b يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب علي من وضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الفرائض (1) .
وفي الباب في الصحيحين من حديث أبي جحيفة والسائب بن يزيد.
فإن قال الذاهبون إلى نجاسة الماء المستعمل في رفع الحدث، إن قالوا: إن هذه من خصائص النبي b.
قيل: الأصل أن حكمه b وحكم أمته واحد، حتى يقوم دليل على الخصوصية.
الدليل الثالث:
(46) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، أخبرنا أفلح، عن القاسم،
عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي b من إناء واحد تختلف أيدينا فيه (2) .
وجه الاستدلال:
أن هذا الإناء لا يسلم من رشاش يقع فيه، ولو كان المستعمل نجساً
_________
(1) رواه البخاري (194) ومسلم (1616) .
(2) صحيح البخاري (261) ومسلم (45-321)(1/205)
لنجس الماء.
وقول: إن هذا مما عفي عنه يصح هذا التقدير لو صح الأصل، وهو نجاسة المستعمل، ولكنه قول شاذ.
الدليل الخامس:
إن المسلم بدنه طاهر بالإجماع حال الحياة (1) ، قال الرسول b: لأبي هريرة: إن المؤمن لا ينجس، متفق عليه.
فيكون المستعمل ماء طهوراً لاقى ماء طاهراً، فكيف ينجس.
هذا فيما يتعلق بالأدلة على طهارة الماء المستعمل، وأما أدلتهم على كون المستعمل ماء طاهراً غير طهور، فهاك بيانها:
الدليل الأول:
(47) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول:
قال رسول الله b: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب.
فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (2) .
وجه الاستدلال:
قالوا: لما نهى رسول الله b عن الاغتسال في الماء الدائم دل ذلك
_________
(1) نيل الأوطار (1/44) .
(2) صحيح مسلم (283) .(1/206)
على أن الاغتسال يؤثر في الماء، ولو كان لا يؤثر لما نهى عنه، فالمراد من نهيه حتى لا يصير الماء مستعملاً (1) .
ويجاب عنه:
أولاً: أن الرسول b لم يعلل بأن الماء يكون مستعملاً، ولم يذكر الرسول b قط بأن الماء يكون مستعملاً، فهذا الكلام زيادة على حديث الرسول b
ثانياً: أن الحديث نص في الماء الدائم، وهو يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين، وأنتم قلتم بأنه لا يكون مستعملاً إلا إذا كان دون القلتين. فهذه مخالفة ثانية للحديث.
ثالثاً: أن الحديث نهي عن الاغتسال، وذلك يعني غسل البدن كله، وأنتم أدخلتم حتى الوضوء، بل أدخلتم ما دون ذلك، وذلك كما لو أدخل بعض أعضائه ناوياً رفع الحدث، فإن الماء يكون مستعملاً عندكم أي طاهراً غير مطهر، فالحديث نص في الحدث الأكبر، فخالفتم الحديث فأدخلتم الحدث الأصغر، بل حتى ولو غمس بعض أعضاء الحدث الأصغر. وهذه مخالفة ثالثة للحديث.
رابعاً: الحديث نهى الجنب أن يغتسل في الماء ما دام جنباً سواء نوى رفع الحدث أو لم ينو. لأن معنى: " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " أي لا يغتسل حالة كونه جنباً، ولم يتطرق الحديث إلى اشتراط النية، وأنتم قلتم لو انغمس وهو جنب، ولم ينو رفع الحدث لايكون الماء مستعملاً بل يبقى طهوراً. وهذه مخالفة رابعة. فتبين أن هذا الدليل لا يصلح أن يكون دليلاً لهم
_________
(1) المجموع (1/206) .(1/207)
دليلهم الثاني:
قالوا: إن النبي b وأصحابه احتاجوا في أسفارهم الكثيرة إلى الماء، ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى، ولو كان طهوراً لجمعوه، لأن التيمم لا يجوز مع وجود الماء (1) .
ويجاب عنه:
بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتصدون في الوضوء، وقد ثبت من حديث أنس المتفق عليه قال: " كان النبي b يتوضأ بالمد...الحديث" (2) ، بل توضأ بأقل من ذلك، وكان بعض السلف إذا توضأ لا يكاد يبلل الأرض. وعلى هذه الحال لا يمكن جمعه، ولو أمكن جمعه لكان في ذلك مشقة عظيمة، والحرج مرفوع عن هذه الأمة بنص القرآن. كما أن كونه لم يجمع لا يدل على أنه لا يتطهر به، ولهذا لم يجمعوه للشرب مع طهارته، وحاجتهم للشرب آكد، ولم يجمعوه لغير الشرب كالعجن والطبخ والتبرد، فعدم جمعه ليس دليلاً على عدم طهوريته، ثم يقال أيضاً: لم يجمعوا أيضاً الماء المستعمل في طهارة مستحبة مع كونه طهوراً، ولا يبعد أن يكون هناك من يتوضأ مجدداً الوضوء، فلم ينهض هذا دليلاً على عدم الطهورية (3) .
_________
(1) المجموع (1/206) .
(2) صحيح البخاري (201) ومسلم (325) .
(3) أجاب الشافعية عن هذا الاعتراض بقولهم: بأن الصحابة تركوا جمعه للشرب لاستقذاره، فإن النفوس تعافه. لكن يقال: إذا كانت تعافه للشرب، فإنها لا تعافه للتطهر. انظر المجموع (1/206(1/208)
الدليل الثالث:
ما سبق أن ذكر من أن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي وغيرهم (2) .
وأجيب: بأن لفظ (ماء) في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} (3) نكرة في سياق النفي، فتعم كل ماء، سواء كان مستعملاً أو غيره، وسواء كان متغيراً أم لم يتغير، ما دام أنه يسمى ماء، نعم خرج الماء النجس للإجماع على أنه لا يجوز التطهر به، وبقي ما عداه.
الدليل الرابع:
قالوا إن هذا الماء قد استعمل في عبادة واجبة، فلا يمكن أن يستعمل في عبادة أخرى، كالعبد إذا أعتق لا يمكن أن يعتق مرة أخرى (4) .
وأجيب:
بأن قياس الماء على العبد قياس مع الفارق.
أولاً: لأن العبد إذا أعتق صار حراً، والحر لا يعتق، وأما الماء حين استعمل بقى ماء يمكن التطهر به، ما لم توجد قرينة تدل على نجاسته، وهي
_________
(1) المائدة: 6.
(2) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/189) ورده عليهم.
(3) المائدة: 6.
(4) انظر المقنع شرح مختصر الخرقي (1/189) ، وكشاف القناع (1/32) .(1/209)
تغير أحد أوصافه بنجاسة.
ثانياً: أن العبد لو رجع إلى الكفار وغنمه المسلمون رجع إلى الرق مرة أخرى، فلا يصح القياس، فالصحيح قياس الماء المستعمل على الثوب، فالثوب حين تؤدى به عبادة واجبة، وهى ستر للعورة، لا يمنع من استعماله مرة أخرى (1) .
دليل من قال بأن الماء المستعمل طهور.
الأول: الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن ذلك إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ولا دليل.
الثاني: ما سبق ذكره من أن الماء المستعمل ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلا يتأثر.
الثالث: سبق أن أثبت في مسألة أقسام الماء أن الماء قسمان، طهور ونجس، ولا يوجد قسم يسمى بالماء الطاهر.
الرابع: الماء المتردد على العضو طهور بالإجماع مع أنه يمر على أول اليد ثم يمر على آخرها ولم يمنع كونه استعمل في أول العضو أن يطهر بقية العضو، ثم إن المتوضئ يرد يده إلى الإناء فيأخذ ماءً آخر للعضو الآخر، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر، وهذا ما لا مخلص منه (2) .
_________
(1) فرق الحنابلة بين استعمال الماء في عبادة، واستعمال الثوب. انظر المقنع شرح مختصر الخرقي (1/189) ، قالوا: إن استعمال الماء على وجه الإتلاف فيؤثر بخلاف استعمال الثوب في ستر العورة فإنه ليس على وجه الإتلاف وهذا التعليل ضعيف.
(2) المحلى (1/184) . مع أن الذين قالوا بأنه مستعمل لا يحكمون له بالاستعمال إلا إذا انفصل من العضو، وما دام لم ينفصل لا يعتبر مستعملاً عندهم. وهذا الشرط دليل على ضعف هذا القول، فكونه انفصل أو لم ينفصل هو في حقيقته ماء قد استعمل في رفع الحدث.(1/210)
الخامس: إذا كان هذا الماء إذااستعمل للتبرد أو لتنظيف الثوب الطاهر كان طهوراً بالإجماع (1) ، فهذا مثله إذ الفرق بين هذا الغسل وذاك هو النية فقط، والنية لا أثر لها في الماء لأن محلها القلب.
السادس: أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب التيمم على من لم يجد الماء، قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) فكيف يقال بالتيمم مع وجود ماء باق على صفته التي خلقه الله عليها.
السابع: استدلوا ببعض الأدلة التي فيها ضعف أو نزاع، وإن كان ما سبق من الأدلة كاف في بيان أنه القول الراجح، لكن إتماماً للفائدة أنقلها وأبين وجه النزاع فيها، فمنها:
(48) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال:
حدثتني الربيع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: كان رسول الله يأتينا فيكثر، فأتانا فوضعنا له الميضأة، فتوضأ فغسل كفيه ثلاثاً، ومضمض واستنشق مرة مرة، وغسل وجهه ثلاثاً، وذارعيه ثلاثاً، ومسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين، بدأ بمؤخره، ثم رد يده إلى ناصيته، وغسل رجليه ثلاثاً، ومسح إذنيه مقدمهما ومؤخرهما (3) .
_________
(1) قال في المغني (1/34) : ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظيف أنه باقي على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافا.
(2) المائدة: 6.
(3) مسند أحمد (6/358) .(1/211)
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) مدار الحديث على عبد الله بن عقيل، وقد تفرد به، والأكثر على ضعفه، وقد حررت الأقوال فيه في كتاب الحيض والنفاس، فليراجع، وقد اختلف عليه في لفظه:
وقد رواه عن ابن عقيل، جماعة منهم.:
الطريق الأول: الثوري، عن ابن عقيل.
أخرجه أحمد كما في إسناد الباب، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (155) .
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/28) رقم 211 حدثنا وكيع به، مختصراً: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ومسح رأسه بما بقي من وضوئه.
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/269) رقم قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع به، بلفظ: كان رسول الله b يأتينا، فيكثر، قالت: فأتانا فوضعنا له الميضأة، فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، ثم مضمض واستنشق مرة، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا، ومسح بما بقي من وضوئه مرتين، يبدأ بمؤخره، ثم رد يديه على ناصيته، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً.
ومن طريق عبيد بن غنام أخرجه البيهقي في الخلافيات (122) .
وأخرجه ابن ماجه في السنن (418) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع به، بلفظ: أن رسول الله b توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
وبهذا اللفظ أخرجه الطبراني في الكبير (24/269) رقم 680 من طريق محمد بن عبدالله بن نمير، ثنا وكيع به.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/65) من طريق يحيى بن يحيى، أنا وكيع به، بلفظ: أن النبي b توضأ، فأدخل أصبعيه في أذنيه.
أخرجه أبو داود (130) قال: حدثنا مسدد، عن عبد الله بن داود، عن سفيان بن سعيد، عن ابن عقيل، عن الربيع، أن النبي b مسح برأسه من فضل ماء كان في يده.
ومن طريق أبي داود أخرجه البغوي في شرح السنة (1/438) والبيهقي في السنن الكبرى (1/237) وقال: هكذا رواه جماعة عن عبد الله بن داود وغيره، عن الثوري، وقال بعضهم: ببلل يديه، وكأنه أراد أخذ ماء جديدا فصب بعضه، ومسح رأسه ببلل يديه، وعبد الله بن محمد بن عقيل لم يكن بالحافظ، وأهل العلم بالحديث مختلفون في جواز الاحتجاج برواياته.
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/268) رقم 679 قال: حدثنا معاذ بن المثنى وأبو مسلم الكشي، قالا: ثنا مسدد به.
وأخرجه في الكبير أيضاً (24/270) رقم 686 مطولاً، وليس فيه موضع الشاهد.
ورواه ابن المنذر في الأوسط (1/288) حدثنا يحيى بن محمد، ثنا مسدد به.
الطريق الثاني: عن معمر، عن ابن عقيل.
أخرجه عبد الرزق (11) قال: عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت عفراء، أن النبي b توضأ، ومسح رأسه مرتين. وليس فيه موضع الشاهد من الوضوء بما بقي من يديه.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/400) بلفظ: " أن النبي b مسح بأذنيه ظاهرهما، وباطنهما. والطبراني في الكبير (24/266) رقم 673 مطولاً وليس فيه أنه مسح رأسه بما بقي في يديه.
ورواه الطبراني أيضاً (24/266) رقم 674 من طريق حماد بن زيد، عن معمر به.
الطريق الثالث: بشر بن مفضل، عن ابن عقيل:
رواه أبو داود (126) حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل به. وليس فيه أنه مسح رأسه بما بقي في يديه.
وأخرجه الترمذي (33) ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا بشر بن المفضل به.
الطريق الرابع: الحسن بن صالح، عن ابن عقيل.
أخرجه أحمد (6/359) قال: ثنا وكيع، عن حسن، عن ابن عقيل، عن الربيع بنت معوذ أن النبي b توضأ، فأدخل إصبعيه في حجر أذنيه.
وأخرجه أبو داود (131) ومن طريقه البيهقي (1/65) قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا وكيع، ثنا الحسن بن صالح به.
وأخرجه ابن ماجه (441) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، عن الحسن بن صالح به.
وتابع وكيعاً أبو غسان، فأخرجه الطبراني في الكبير (24/267) قال: حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا، أبو غسان مالك بن إسماعيل، ثنا الحسن بن صالح به، مطولاً بذكر صفة الوضوء، وليس فيه موضع الشاهد من مسح الرأس بالماء المستعمل.
الطريق الخامس: روح بن القاسم، عن ابن عقيل.
رواه الطبراني في الكبير (24/267) رقم 676 وفي الأوسط (3/35) رقم 2388 قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا محمد بن المنهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كان النبي b يأتينا، فنأتيه بميضأة لنا فيها ماء، يأخذ بمد المدينة مداً ونصفاً أو ثلثاً، فأصب عليه، فيغسل يديه ثلاثا، ويمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ثلاثاً، ويمسح برأسه مرة واحدة، ويمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ويطهر قدميه.
الطريق السادس: سفيان بن عيينة، عن ابن عقيل.
رواه أحمد (6/358) قال: ثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال:
أرسلني علي بن حسين إلى الربيع بنت معوذ بن عفراء فسألتها عن وضوء رسول الله b، فأخرجت له يعنى إناء يكون مداً أو نحو مد وربع، قال سفيان: كأنه يذهب إلى الهاشمي، قالت: كنت أخرج له الماء في هذا، فيصب على يديه ثلاثاً أوقال: مرة يغسل يديه قبل أن يدخلهما، ويغسل وجهه ثلاثاً، ويمضمض ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، ويغسل يده اليمنى ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً، ويمسح برأسه، وقال: مرة أو مرتين مقبلاً ومدبراً، ثم يغسل رجليه ثلاثاً، قد جاءني ابن عم لك، فسألني وهو ابن عباس، فأخبرته، فقال: لي ما أجد في كتاب الله الا مسحتين وغسلتين.
ولم يذكر موضع الشاهد.
وأخرجه الحميدي (342) ثنا سفيان به. وزاد: ووصف لنا سفيان المسح، فوضع يديه على قرنيه، ثم مسح بهما إلى جبهته، ثم رفعهما ووضعهما على قرنيه من وسط رأسه، ثم مسح إلى قفاه. قال سفيان: وكان ابن عجلان حدثناه أولاً عن ابن عقيل، عن الربيع، فزاد في المسح، قال: ثم مسح من قرنيه على عارضيه حتى بلغ طرف لحيته، فلما سألنا ابن عقيل عنه لم يصف لنا في المسح العارضين، وكان في حفظه شيء، فكرهت أن ألقنه.
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/267) رقم 677 من طريق الحميدي به، وقرنه برواية حجاج بن منهال، ومحمد بن أبي عمر كلاهما، عن سفيان به.
وأخرجه أبو داود في السنن (127) ثنا إسحاق بن إسماعيل، ثنا سفيان به، وأحال على حديث بشر بن المفضل عن ابن عقيل، وقال: يغير بعض معاني بشر.
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/373) من طريق سعيد، ثنا سفيان به.
وأخرجه الدارقطني (1/96) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (1/72) قال:، حدثنا إبراهيم بن حماد، ثنا العباس بن يزيد، نا سفيان بن عيينة به.
الطريق السابع: شريك، عن ابن عقيل.
أخرجه ابن ماجه (390) قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا الهيثم بن جميل، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، بلفظ: أتيت النبي b بميضأة، فقال: اسكبي، فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه، وأخذ ماء جديداً، فمسح به رأسه مقدمه ومؤخره، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً.
وهنا فيه تصريح أنه أخذ ماء جديداً لرأسه، إلا أنه من طريق شريك، وشريك سيء الحفظ.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/236) من طريق سعيد بن عثمان التنوفي، قال: حدثنا الهيثم بن جميل به.
وأخرجه ابن ماجه (440) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريك به. بلفظ: " توضأ فمسح ظاهر أذنيه وباطنهما ".
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/269) رقم 683، قال: حدثنا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا شريك به.
وأخرجه الطبراني أيضاً (24/269) رقم 682، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، ثنا شريك به.
الطريق الثامن: فليح بن سليمان، عن ابن عقيل.
أخرجه الطبراني في الكبير (24/271) رقم 685 من طريق سريج بن النعمان الجوهري، ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به.
الطريق التاسع: عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل. أخرجه الدارمي (690) أخبرنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل به، مختصراً.
الطريق العاشر: سعيد بن أبي عروبة، عن ابن عقيل. أخرجه الطبراني في الكبير (1/511) رقم 943 من طريق صدقة بن عبد الله، عن سعيد بن أبي عروبة به.
الطريق الحادري عشر: محمد بن عجلان، عن ابن عقيل.
أخرجه أحمد (6/359) قال: ثنا يونس، ثنا ليث، عن محمد بن عجلان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبى طالب، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، أن رسول الله b توضأ عندها، فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لنصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته.
وأخرجه أحمد (6/360) ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ليث به.
وأخرجه أبو داود في السنن (128) ثنا قتيبة بن سعيد، ويزيد بن خالد الهمداني، قالا: ثنا ليث به.
وأخرجه الطبراني (24/271) رقم 688 من طريق قتيبة بن سعيد وعبد الله بن صالح، قالا: ثنا الليث به.
وأخرجه البيهقي في الكبرى (1/60) من طريق يحيى بن بكير، ثنا الليث به.
وتابع الليث جماعة، منهم:
بكر بن مضر، كما عند الترمذي (34) ، وأبو داود (129) البغوي (1/438) ، والطبراني في الكبير (689) .
ومنهم: سعيد بن أبي أيوب، عن ابن عجلان، كما في سنن البيهقي (1/59) .
ومنهم قيس بن الربيع، كما عند الطبراني (693) .
ومنهم بقية، كما عند الطبراني (690) .
هذا ما وقفت عليه من طرق حديث ابن عقيل، وقد تكون لحظت معي أن حديث ابن عقيل فيه اختلاف كثير في لفظه، وتارة يورده مختصراً وتارة مفصلاً.
وموضع الشاهد منه جاء من طريق سفيان، عن ابن عقيل بألفاظ مختلفة، ورواه أحد عشر نفساً عن ابن عقيل، ولم يذكروا ما ذكره سفيان، من مسح الرأس من بلل اليدين، ولفظه عن وكيع، عن سفيان، عن ابن عقيل:
جاء عند أحمد: " ومسح رأسه بما بقي من وضوء في يديه مرتين، بدأ بمؤخره ثم رد يده إلى ناصيته ".
ولفظ أبي داود من طريق عبد الله بن داود، عن سفيان، عن ابن عقيل: " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان في يده ".
ولفظ الدارقطني من طريق عبد الله بن داود، توضأ ومسح رأسه ببلل يديه. وفي رواية من نفس الطريق: " ومسح رأسه بما فضل في يديه من الماء.
وهذا الخطأ من ابن عقيل؛ لأن في حفظه ليناً.
ولحديث سفيان عن ابن عقيل أن رسول الله b مسح رأسه بفضل يديه. شاهد مرسل بسند لا بأس به.
فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (1/21) قال: حدثنا وكيع عن معمر عن أبي جعفر عن النبي b:" أنه كان يمسح رأسه بفضل وضوئه ".
ومعمر هذا: هو معمر بن يحيى بن سام، وقد أخرج له البخاري حديثاً واحداً. في المتابعات.
قال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (8/258) .
وقال الآجري، عن أبي داود: بلغني أنه لا بأس به وكأنه لم يرضه. تهذيب التهذيب (10/223) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (7/485) .
وفي التقريب مقبول، والحق أنه صدوق، فيكفي فيه توثيق أبي زرعة، وابن حبان،
وأبو جعفر: هو محمد بن علي بن الحسين.
وقد خالف حديث عبد الله بن عقيل، حديث عبدالله بن زيد عند الإمام مسلم (236) من طريق ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن حبان بن واسع حدثه،
أنه سمع عبدالله بن زيد بن عاصم المازني يذكر " أنه رأى رسول الله b توضأ، فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويده اليمنى ثلاثاً، والأخرى ثلاثاً، ومسح برأسه بماء غير فضل يده، وغسل رجليه حتى أنقاهما". فهذا هو المعروف من الحديث أن الرسول b أخذ ماء جديداً لرأسه غير فضل يديه.
ويحتمل أن يقال: إنه لا تعارض بينهما. لأن كونه b مسح رأسه بماء غير فضل يديه لا يدل على الحصر، ولا نفي لما عداه، ولا يستلزم عدم وقوع غيره. فيحتمل أن يكون فعل هذا مرة، وهذا مرة. خاصة أن كل حديث له إسناد مستقل فيعتبر حديثاً برأسه، وهذا جيد لولا ضعف عبد الله بن عقيل من جهة، وكثرة من روى عنه الحديث بدون هذه الزيادة، والله أعلم.(1/212)
وجه الاستدلال:
أن النبي b مسح رأسه، ومسحه فرض بالماء المتبقي من غسل يديه، إذاً هو قد رفع الحدث بماء مستعمل.
الدليل الثاني:
(49) ما روه أحمد، قال: ثنا على بن عاصم، ثنا أبو على الرحبي، عن عكرمة، أنا ابن عباس، قال: اغتسل رسول الله b من جنابة، فلما خرج رأى لمعة على منكبه الأيسر لم يصبها الماء، فأخذ من شعره فبلها، ثم مضى إلى الصلاة (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثالث:
(50) وأخرجه ابن شيبة، قال: حدثنا هشيم وابن علية ومعتمر، عن
_________
(1) مسند أحمد (1/243) .
(2) فيه أبو علي الرحبي: اسمه حسين بن قيس.
قال أحمد: متروك الحديث ضعيف الحديث. الضعفاء الكبير (1/247) .
قال البخاري: ترك أحمد حديثه. التاريخ الكبير (2/393) .
وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار، ويلزق رواية الضعفاء، كذبه أحمد بن حنبل، وتركه يحيى بن معين. المجروحين (1/242) .
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/46) رقم 456 ومن طريقه ابن ماجه (663) ، والبيهقي في الخلافيات (3/17) من طريق مسلم بن سعيد عن أبي علي الرحبي به، بنحوه.
وأخرجه البيهقي في الخلافيات أيضاً (1/17) من طريق علي بن عاصم، عن أبي علي الرحبي به.(1/218)
إسحاق بن سويد العدوي، قال:
حدثنا العلاء بن زياد، قال: اغتسل رسول الله b من جنابة، فخرج، فأبصر لمعة بمنكبه لم يصبها الماء، فأخذ بجمته فبلها به.
[رجاله ثقات، إلا أنه مرسل] (1) .
الدليل الرابع:
(51) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خلاس فيما يعلم حماد،
عن علي قال: إذا توضأ الرجل، فنسي أن يمسح برأسه، فوجد فى لحيته بللاً، أخذ من لحيته، فمسح رأسه.
[ضعيف فيه عنعنة قتادة، وخلاس لم يسمع من علي] (2) .
الدليل الخامس:
(52) روى ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، ثنا أبو الأحوص، عن محمد بن عبيد الله، عن الحسن بن سعد، عن أبيه،
_________
(1) المصنف (1/45) رقم 444. ومن طريق إسحاق بن سويد أخرجه أبو داود في المراسيل (7) .
وتابع هشام بن حسان إسحاق بن سويد فيما رواه عنه عبد الرزاق في المصنف (1015) .
(2) المصنف (1/28) رقم 218.
قال أحمد بن حنبل: كان يحي بن سعيد يتوقى أن يحدث عن خلاس، عن على خاصة.
وقال أبو داود: " كانوا يخشون أن يكون خلاس يحدث عن صحيفة الحارث الأعور. انظر تهذيب الكمال (8/364،365) . وأثر علي فيه إشكال آخر من الناحية الفقهية، وهى عدم مراعاة الترتيب، وهى مسألة خلافية وسوف تأتي إن شاء الله في باب الوضوء.(1/219)
عن علي، قال: جاء رجل إلى النبي b، فقال: إني اغتسلت من الجنابة، وصليت الفجر، ثم أصبحت، فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء، فقال رسول الله b: لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل السادس:
(53) ما رواه البيهقي في الخلافيات، من طريق يحيى بن عنبسة، ثنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة،
عن عبد الله، أن النبي b اغتسل من الجنابة، فبقيت لمعة في جسده، فقيل له: يا رسول الله هذه لمعة في جسدك لم يصبها الماء، قال: فأومأ إلى بلل شعره فبله، فأجزأه ذلك (3) .
[إسناده ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً] (4) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (466) .
(2) فيه محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو متروك.
ورواه البيهقي في الخلافيات (3/16) من طريق مسدد، حدثنا أبو الأحوص به.
قال البوصيري: وهذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبيد الله العرزمي.
وضعفه البيهقي في السنن الكبرى (1/237) وأحال على الخلافيات، وقال: ولا يصح شيء من ذلك لضعف أسانيده، وقد بينته في الخلافيات، وأصح شيء فيه ما رواه أبو داود في المراسيل، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد، عن النبي b أنه اغتسل فرأى لمعه في منكبه لم يصبها الماء فأخذ خصلة من شعر رأسه فعصرها على منكبه ثم مسح يده على ذلك المكان، وهذا منقطع.
(3) الخلافيات (1/18،19) .
(4) فيه يحيى بن عنبسة، قال البيهقي: يحيى بن عنبسة هذا كان يتهم بالوضع..(1/220)
الدليل السابع:
(54) ما رواه الدراقطني، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، نا هارون بن إسحاق، نا ابن أبي غنية، عن عطاء بن عجلان، عن عبد الله بن أبي مليكة،
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: اغتسل رسول الله b من جنابة، فرأى لمعة بجلده لم يصبها الماء، فعصر خصلة من شعر رأسه، فأمسها ذلك الماء (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثامن:
(55) ما روه الدارقطني، قال: حدثنا سعيد بن محمد بن أحمد الحناط، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا المتوكل بن فضيل أبو أيوب الحداد بصرى، عن أبي ظلال،
عن أنس بن مالك، قال صلى رسول الله b صلاة الصبح، وقد أغتسل من جنابة، فكان نكتة مثل الدرهم يابس لم يصبه الماء، فقيل:
_________
(1) سنن الدارقطني (1/112) .
(2) فيه عطاء بن عجلان، قال البيهقي في الخلافيات: متروك الحديث. الخلافيات (1/20) . وقال ابن الجوزي في الواهيات: فيه عطاء بن عجلان، قال: يحيى ليس بشيء كذاب. وقال مرة: كان يوضع له الحديث، فيحدث به، وقال الفلاس: كذاب. وقال الرازي والدارقطني: متروك. اهـ
والحديث رواه البيهقي في الخلافيات (3/20) ، وابن الجوزي في الواهيات (569) من طريق الدارقطني به.(1/221)
يارسول الله إن هذا الموضع لم يصبه الماء، فسلت شعره من الماء، ومسحه به، ولم يعد الصلاة (1) .
قال الدارقطني: المتوكل بن فضيل ضعيف (2) .
الدليل التاسع:
استدل ابن قدامة بما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، ثنا أبوالأحوص، ثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اغتسل بعض أزواج النبي b في جفنة، فجاء النبي b ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنباً، فقال رسول الله b: إن الماء لا يجنب (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
وجه الاستدلال:
قول النبي b إن الماء لا يجنب حتى ولو كان مستعملاً في رفع الحدث لا تنتقل إليه الجنابة.
_________
(1) سنن الدارقطني (1/112) .
(2) ومن طريق الدارقطني رواه البيهقي في الخلافيات (3/21،22) ، وابن الجوزي في الواهيات (569) .
والمتوكل جاء في ترجمته:
قال البخاري: عنده عجائب. التاريخ الكبير (8/43) .
وقال أبو حاتم الرازي: مجهول. الجرح والتعديل (8/372) .
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه. الميزان (4/316) .
(3) سنن أبي داود (68) .
(4) سبق الكلام عليه، وأن العلة فيه رواية سماك عن عكرمة وفيها اضطراب.(1/222)
وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر، من وجهين:
الأول: المحفوظ في هذا الحديث قوله b: إن الماء لا ينجسه شيء، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في مسألة الوضوء بفضل المرأة.
الثاني: ليس في الحديث ما يدل على التطهر بالماء المستعمل، نعم يدل الحديث على جواز الوضوء بفضل المرأة، وهناك فرق بين المسألتين. والله أعلم.
دليل من قال الماء المستعمل طهور مكروه.
قال الخرشي: وعللت الكراهة بعلل كلها لا تخلو من ضعف، والراجح في التعليل مراعاة الخلاف، كما قال ابن الحاجب لأن أصبغ قائل بعدم الطهورية " (1) اهـ.
قلت: وقد سبق لك أن تعليل الكراهة بوجود الخلاف أنه قول ضعيف جداً، لأن الكراهة حكم شرعي لا يقوم إلا على دليل شرعي، ووجود الخلاف ليس من أدلة الشرع، والراجح أن الماء المستعمل في طهارة واجبة طهور غير مكروه.
_________
(1) الخرشي (2/75) .(1/223)
[صفحة فارغة](1/224)
الفصل الثاني
الماء المستعمل في طهارة مستحبة
عرفنا متى يكون الماء مستعملا، وعرفنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة، فهل يختلف الحكم لو كان الماء المستعمل في طهارة مستحبة، اختلف الفقهاء:
فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة، ولا فرق عنده بين أن يستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (1) .
وقيل: إنه طاهر، اختارها من الحنفية العراقيون، ومشايخ ما رواء النهر (2) ،
_________
(1) في تعريف الماء المستعمل قال في البحر الرائق (1/97) : " الماء يصير مستعملاً بواحد من ثلاثة:
إما بإزالة الحدث، سواء كان معه تقرب أو لا. يقصد كان معه نية ألا، لأن الحدث عندهم يرتفع، ولو لم ينو رفع الحدث.
قال: أو إقامة القربة سواء كان معه رفع الحدث أو لا - يقصد: أن الطهارة لم تكن عن حدث، وإنما نوى تجديداً مسنوناً.
قال: أو إسقاط الفرض. يعني فرض الطهارة. اهـ، فهذا دليل على أن الماء يكون مستعملاً ولو كان في طهارة مستحبة؛ لأن الطهارة المستحبة طهارة قربة، أي يتقرب بها العبد إلى الله، انظر شرح فتح القدير (1/87) ، والمبسوط (1/46) ، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/200، 201) ،
(2) قال العيني في البناية (1/349) : ورواه زفر رحمه الله أيضاً عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهراً. ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: ارجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى(1/225)
وهو وجه في مذهب الشافعية (1) .
وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية، ولا فرق عندهم في الحكم بين ما استعمل في طهارة واجبة أو مستحبة (2) ، واختار الكراهة بعض الحنابلة (3) .
وقيل: إنه طهور مطلقاً غير مكروه، وهو المشهور من مذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
دليل القائلين بأنه نجس
انظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة، لأنهم لايفرقون بين ما استعمل في طهارة واجبة، أو طهارة مستحبة ما دام أن
_________
(1) المجموع (1/210) .
(2) القوانين الفقهية (ص: 25) وحاشية الدسوقي (1/41-43) . وعند المتأخرين: تردد هل يسوى بين الماء المستعمل في طهارة واجبة والمستعمل في طهارة مستحبة؟ وسبب هذا التردد أنه لا يوجد نص من المتقدمين في التفريق، ولذلك اعتمدت على لا أنه لا فرق عندهم في المسألتين. والله أعلم
(3) قال صاحب زاد المستقنع (ص: 20) : وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء، وغسل جمعة، وغسلة ثانية وثالثة كره.
(4) قال النووي في المجموع (1/210) : " واتفق الجماهير في جميع الطرق على أن الصحيح أنه ليس بمستعمل، وهو ظاهر نص الشافعي، وقطع به المحاملي في المقنع، والجرجاني في كتابيه ". الخ وانظر حاشية الجمل (1/39) . وقال في حاشية البجيرمي على الخطيب (1/82) : " وخرج بالمستعمل في فرض: المستعمل في نفل الطهارة، كالغسل المسنون والوضوء المجدد، فإنه طهور على الجديد ".
(5) شرح منتهى الإرادات (1/15) المبدع (1 / 45) ، وقال البهوتي: في كشاف القناع (1/23) : وظاهر المنتهى: كالتنقيح، والمبدع، والإنصاف وغيرها عدم الكراهة.(1/226)
الطهارة مشروعة.
دليل القائلين بأنه طاهر غير طهور.
جمهورهم فرقوا بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، فالأول قالوا: بأنه طاهر، والثاني طهور.
وسبب التفريق عندهم قولهم: أن ما استعمل في طهارة مستحبة لم يرفع حدثاً، ولم يذهب خبثاً، وبالتالي لم يتأثر الماء، غاية ما فيه أنه لا قى بدناً طاهراً، وهذا لايؤثر، بخلاف ما استعمل في رفع الحدث، فقد أثر في طهارة المحل. وانظر أدلتهم في الخلاف في الماء المستعمل في طهارة واجبة.
دليل القائلين بأنه طهور
الدليل الأول:
الأصل في الماء أنه طهور، ولا ينتقل عنه إلا لدليل من كتاب أو سنة، ولا دليل.
الدليل الثاني:
الماء المستعمل في الطهارة يسمى ماء، وهو ماء مطلق لم يتغير، والله يقول سبحانه: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (1) ، فكيف يتيمم مع وجود ماء باق على خلقته التي خلقه الله عليها.
الدليل الثالث:
قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم أن الندى الباقي على أعضاء المتوضي والمغتسل وما قطر منه على ثيابهما طاهر، دليل على طهارة الماء
_________
(1) المائدة: 6.(1/227)
المستعمل، وإذا كان طاهراً فلا معنى لمنع الوضوء به بغير حجة (1) .
الدليل الرابع:
إذا كان الماء إذا غسل به الثوب طهور، فكذلك الماء إذا غسل به البدن طهور ولا فرق بين ماء غسل به ثوب طاهر، وبين ماء غسل به بدن طاهر، والحدث معنى وليس نجاسة حتى يقال: إن الماء يتأثر بالنجاسة أو يتأثر بالانتقال إلى كونه طاهراً.
الراجح أن الماء المستعمل طهور، فلا فرق بين ما استعمل في طهارة واجبة، وبين ما استعمل في طهارة مستحبة، وسبب ترجيح هذا القول:
أولاً: لقوة أدلته، ودلالتها على المراد، في مقابل ضعف أدلة المخالفين.
ثانياً: أن في هذا رفعاً للمشقة والحرج عن الأمة، وهذا هو مقتضى الدين الإسلامي.
ثالثاً: ورود المناقشة المؤثرة على أدلة الأقوال المخالفة، مع سلامة أدلة هذا القول.
_________
(1) الأوسط (1/288) .(1/228)
الفصل الثالث
الماء المستعمل في طهارة غير مشروعة
تبين لنا حكم الماء المستعمل في طهارة واجبة أو مستحبة، فما حكم الماء فيما لو كانت الطهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة في الوضوء، والغسل الثانية والثالثة في الاغتسال ونحوها؟
اختلف الفقهاء في ذلك:
فقيل: إن أراد بها ابتداء الوضوء، أي زاد بعد فراغه من الوضوء الأول، صار الماء مستعملاً، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول، ففيها قولان:
فقيل: يصير الماء مستعملاً؛ لأن الزيادة في معنى الوضوء على الوضوء.
وقيل: لا يصير مستعملاً؛ لأنه من باب التعدي، وهذا مذهب الحنفية (1) .
فقيل: ما استعمل في طهارة غير مشروعة كالغسلة الرابعة طهور غير مستعمل، وهو مذهب الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، واختاره بعض المالكية (4) ،
وقيل: طهور مكروه، وهو قول في مذهب المالكية (5) .
_________
(1) انظر بدائع الصنائع (1/69) ، حاشية ابن عابدين (1/199) .
(2) قال النووي في المجموع (1/211) : " واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة الرابعة ليس بماء مستعمل؛ لأنها ليست بنفل ".
(3) الإنصاف (1/37) ، كشاف القناع (1/33) ، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/34،35) .
(4) حاشية الدسوقي (1/42) ، الخرشي (1/75) ، مواهب الجليل (1/70) .
(5) حاشية الدسوقي (1/42) .(1/229)
دليل من قال يصبح الماء مستعملاً.
قالوا: إن الغسلة الرابعة في معنى الوضوء، فتكون مؤثرة في طهوريته.
دليل من قال الماء طهور غير مستعمل.
قالوا: إن الماء المستعمل في الغسلة الرابعة لم يرتفع بها حدث، ولم تقع على وجه القربة، بحيث تكون مؤثرة في طهارة المحل، فغاية ما هناك ماء طهور لا قى بدناً طاهراً، وهذا لا يخرجه عن طهوريته.
دليل من قال طهور مكروه.
تعليلهم بوجود الخلاف في طهوريته، فما دام أن هناك خلافاً في طهورية هذا الماء، فنكره التطهر به خروجاً من الخلاف.
وقد سبق لك الجواب عن اعتبار الخلاف دليلا على الكراهة، وأنه قول ضعيف جداً، وليس الخلاف من أدلة الشرع المتفق عليها، ولا المختلف فيها، والخلاف إن كان له حظ من النظر بحيث تكون له أدلة معتبرة فحينئذ يكون له اعتبار من أجل الأدلة الثابتة، وإن لم يكن له أدلة معتبرة، فلا حظ له ولا اعتبار، ومع ذلك فليس التعليل بالخلاف حجة شرعية، وإنما العبرة بالدليل الشرعي.(1/230)
الفصل الرابع
الماء المستعمل في التبرد والنظافة
إذا استعمل الماء للتبرد، فهل يكون مستعملاً أم يبقى طهوراً، اختلف العلماء في ذلك،
فقيل: إن كان محدثاً صار الماء مستعملاً في مذهب أبي حنيفة، لوجود إزالة الحدث؛ لأن الحدث عنده يرتفع، ولو لم ينو، وإن كان استعمله للتبرد، وهو متوضئ، فهو طهور (1) .
وقيل: الماء طهور بلا كراهة، وهذا مذهب المالكية (2) ، والشافعية والحنابلة (3) .
وهذا هو الراجح؛ فإذا كنا رجحنا أن الماء المستعمل في رفع الحدث أنه طهور غير مكروه، فمن باب أولى أن يكون الماء المستعمل للتبرد طهوراً غير مكروه، وغاية ما فيه ماء طهور لا قى بدناً طاهراً فلم يخرجه عن حكمه، ومن ادعى خروجه عن حد الطهورية فليس معه دليل، والماء نوعان لا ثالث لهما:
نجس، وهو ما تغير أحد أوصافه الثلاثة من لونه أو طعمه أوريحه بنجاسة وقعت فيه.
وطهور، وهو خلاف الماء النجس، وهو الماء الباقي على خلقته حقيقة
_________
(1) تبيين الحقائق (1/24) ، المبسوط (1/69) ، شرح فتح القدير (1/88) .
(2) مواهب الجليل (70) ،.
(3) قال ابن قدامة في المغني (1/30) : " ولا تختلف الرواية أن ما استعمل في التبرد والتنظف، أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافاً ".(1/231)
أو حكماً، ولا يوجد قسم ثالث لهما، وقد أبطلنا أدلة من قسم الماء إلى ثلاثة أقسام، مثبتاً القسم الطاهر، فإذا لم يثبت قسم الماء الطاهر، لم تثبت كل مسألة حكم فيها الفقاء بأن الماء طاهر غير طهور، ومنه مسألتنا هذه، والله أعلم.(1/232)
الفصل الخامس
الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم(1/233)
[صفحة فارغة](1/234)
الفصل الخامس
الماء المستعمل في غمس يد القائم من النوم
اختلف العلماء في الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم الليل،
فقيل: الماء طهور، ولا يكون مستعملاً بذلك، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) ، ومذهب الظاهرية (5) .
_________
(1) أحكام القرآن ـ الجصاص (2/496،497) ، بدائع الصنائع (1/20) ، العناية شرح الهداية (1/20) ، شرح فتح القدير (1/20) ، البحر الرائق (1/18) ، حاشية ابن عابدي (1/110) .
(2) المنتقى (1/47) ، الخرشي (1/132) وانظر بداية المجتهد (1/105) ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/252) عن مذهب مالك: "من استيقظ من نومه، أو مس فرجه، أو كان جنباً، أو امراة حائضاً، فأدخل أحدهم يده في وضوئه فليس ذلك يضره إلا أن تكون في يده نجاسة كان ذلك الماء قليلاً أو كثيراً، ولا يدخل أحد منهم يده حتى يغسلها ". قال ابن عبد البر: " الفقهاء على هذا كلهم يستحبون ذلك، ويأمرون به، فإن أدخل أحد يده بعد قيامه من نومه في وضوئه قبل أن يغسلها، ويده نظيفة لا نجاسة فيها، فليس عليه شىء ولا يضر ذلك وضوءه " اهـ
(3) الأم (1/39) ، المجموع (1/214،389،390) ، طرح التثريب (2/45) ، شرح البهجة (1/105) ، تحفة المحتاج (1/226) ، نهاية المحتاج (1/185،186) ، حاشية البجيرمي (1/160،161) ، مطالب أولى النهى (1/92) .
(4) الفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/217،425) ، الفروع (1/79) ، الإنصاف.
(5) المحلى (1/155،156،294) ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/253، 254) : " وتحصيل مذهب داود وأكثر أصحابه أن فاعل ذلك عاص إذا كان بالنهي عالماً، والماء طاهر، والوضوء به جائز ما لم تظهر فيه نجاسة " اهـ..(1/235)
قال ابن تيمية: وهو قول أكثر الفقهاء (1) ، ورجحه ابن القيم (2) .
وقيل: إن الماء ينجس إذا كان الماء قليلاً، وهو مذهب الحسن البصري، وإسحاق بن راهوية، ومحمد بن جرير الطبري (3) ، وهو رواية عن أحمد (4) .
وقيل: إن الماء يكون طاهراً غير مطهر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (5) ، وهو من المفرادت (6) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/44) .
(2) تهذيب السنن (1/69) وحكم على القول بأن الماء يكون مستعملاً بأنه قول ضعيف.
(3) شرح النووي لصحيح مسلم (3/231) في الكلام على حديث رقم 278، والمجموع (1/390،391) .
(4) الإنصاف (1/38) ، وذكر أنها من المفردات، واختارها من أصحاب الإمام أحمد الخلال.
(5) انظر مسائل أحمد رواية أبي داود (ص: 9) ، والفتاوى الكبرى - ابن تيمية (1/217،425) ، الفروع (1/79) ، الإنصاف (1/38) ، شرح منتهى الإرادات (1/19) ، كشاف القناع (1/33،34) .
(6) المذهب لا يكون طاهراً إلا بشروط، منها:
الأول: أن يكون الماء قليلاً، وحد القليل عندهم: أن يكون دون القلتين، لقوله b: لايغمس يده في الإناء، وإناء الوضوء إناء صغير.
الثاني: أن يغمس كامل يده، لحديث أبي هريرة في الصحيحين، وفيه: "فلا يغمس يده"، واليد عند الإطلاق تشمل جميع الكف، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] وفي التيمم المسح خاص بالكف، لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} [المائدة: 6] وأما إذا كان الأمر زائداً على الكف فلا بد من التقييد، كما في آية الوضوء، قال تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} [المائدة: 6] .
وأما إذا غمس بعض يده فلا يؤثر في الماء، وهو المشهور من المذهب عند المتأخرين، انظر كشاف القناع (1/33) ، المبدع (1/46) .
وقيل: يؤثر، ولو غمس بعض اليد، انظر الفروع (1/79) ، والإنصاف (1/40) ، ولا يؤثر غمس عضو آخر غير اليد؛ لأن الحديث نص على اليد.
الثالث: أن يكون قائماً من نوم الليل. ولي فيها وقفة خاصة، نظراً لكثرة أدلتها.
الرابع: أن يكون النوم ناقضاً للوضوء، وهو عندهم كل نوم إلا نوماً يسيراً من قاعد أو قائم.
الخامس: لا بد أن تكون اليد يد مكلف بحيث لو كان الغامس صغيراً أو مجنوناً أو كافراً لم يؤثر ذلك في الماء.
في مذهب الإمام أحمد وجهان في الصغير والمجنون والكافر إذا غمسوا أيديهم في الماء:
أحدهما: أنهم كالمسلم البالغ العاقل لا يدرون أين باتت أيديهم.
والثانى: أنه لا تأثير لغمس الصبى والمجنون والكافر. قال صاحب الإنصاف: (1/41) وهو الصحيح، وإليه مال المصنف فى المغني، واختاره المجد فى شرح الهداية، وصححة ابن تميم، قال فى مجمع البحرين: لا يؤثر غمسهم فى أصح الوجهين.
واستدلوا:
أولاً: أن المنع من الغمس إنما ثبت من الخطاب: يعنى: قوله b: " إذا استيقظ أحدكم... الحديث، ولا خطاب فى حق هؤلاء.
وثانياً: إن وجوب الغسل أمر تعبدي، ولا تعبد فى حق هؤلاء
وثالثاً: الغسل المزيل لحكم المنع من شرطه النية، والمجنون والصبي والكافر ليسوا من أهلها.
ولكن هذا القول من أصحاب الامام أحمد رحمه الله عجيب! كيف إذا غمس الصبي الذي لا يحسن الطهارة، والكافر الذي لا يستنزه من البول، والمجنون الذي لا يعقل إذا غمسوا أيديهم في الماء لا يتأثر الماء، وتصح الطهارة منه، وإذا غمس المسلم العاقل البالغ الذي يحسن الطهارة أصبح الماء غير صالح للطهارة منه.
فالصحيح أن العلة في المسلم النائم، هى العلة في الكافر النائم، وهى العلة نفسها في الصبي والمجنون، وليس تأثير الغمس من الأحكام التكليفية، بل هو من الأحكام الوضعية، كما أن الكافر على الصحيح مخاطب بفروع الشريعة، وإن كان يفقد شرط الصحة، وهو الإيمان.
انظر في المذهب الحنبلي كشاف القناع (1/33) ، المبدع (1/47) ، الإنصاف (40،41) ، الروض المربع (1/23) .(1/236)
دليل الحنابلة على أن الماء طاهر.
(56) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (1) .
وجه الاستدلال:
قالوا: لم نقل بنجاسة الماء إذا غمست فيه اليد قبل غسلها؛ لأن اليد معلوم طهارتها، وليست نجسة، فهي يد طاهرة قابلت ماء طهوراً، ولم نقل إن الماء طهور، لكون الرسول b نهى عن غمسها حتى تغسل ثلاثاً، فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، فدل على أن الماء يكون طاهراً غير مطهر.
دليل الجمهور على أن الماء طهور.
حمل الجمهور حديث أبي هريرة على الاستحباب، وعللوا ذلك بأن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها، لقوله b: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والشك لا يقضي على اليقين.
وكون الرسول b أرشد إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء قرينة على أن الغسل ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة قياساً على دم الحيض، وإذا كان الغسل ليس واجباً لم يكن غمسها
_________
(1) صحيح مسلم (278) .(1/238)
مؤثراً في الماء، فيبقى الماء على طهوريته حتى يأتي دليل صحيح صريح ينقله عن الطهورية.
وسوف نناقش علة النهي عن غمس اليد في مبحث مستقل إن شاء الله تعالى.
دليل من قال إن الماء ينجس.
لا أعلم لهم دليلاً على نجاسة الماء، ولذلك قال النووي عن القول بالنجاسة: وهو ضعيف جداً؛ فإن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك، وقواعد الشريعة متظاهرة على هذا.
وقال ابن القيم: " القول بنجاسته من أشذ الشاذ " (1) .
دليل الحنابلة على كون الماء طاهراً وليس بطهور.
(57) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق،
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (2) .
وجه الاستدلال:
قالوا: إن الحديث نهى عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها، ولولا أن
_________
(1) تهذيب السنن (1/69) .
(2) صحيح مسلم (278) ، وانظر صحيح البخاري (162) .(1/239)
غمسها يؤثر في الماء لم ينه عنه، فإذا نهى عنه دل ذلك على تحول الماء إلى طاهر غير مطهر، وإنما قلنا: طاهر؛ لأن اليد ليست نجسة، وقلنا: ليس بطهور؛ للنهي عن غمس اليد في الماء، والله أعلم.
وأجيب:
أن الحديث لم يتعرض لحكم الماء، ولم يذكر الرسول b بأن الماء يتحول إلى طاهر لا يصح التطهر منه، إنما نهى عن غمس اليد فيه بعد القيام من النوم.
وقد سبق لنا في بحث أقسام المياه أن الماء: طهور ونجس ولا دليل على وجود قسم ثالث.(1/240)
المبحث الأول
حكم غسل اليد قبل إدخالها الإناء
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة:
فقيل: غسل اليد سنة، وليس بواجب، وهو مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، ورواية عن أحمد (4) .
وقيل: يجب غسل اليد ثلاثاً، وإليه ذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه (5) ، وإسحاق، وداود الظاهري، وابن حزم (6) ، والحسن البصري (7) .
دليل الجمهور على كون الغسل سنة.
الدليل الأول: قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
_________
(1) بدائع الصنائع (1/20) ، أحكام القرآن للجصاص (2/497) ، العناية شرح الهداية (1/20،21) ، الجوهرة النيرة (1/5) ، البحر الرائق (1/17) ، شرح فتح القدير (1/21) ، حاشية ابن عابدين (1/111،112) .
(2) المنتقى (1/48) ، الخرشي (1/132) ، الفواكه الدواني (1/134) ،.
(3) الأم (1/39) ، المجموع (1/214) ، إحكام الأحكام (1/68،69) ، حاشية البجيرمي على الخطيب (1/160) .
(4) الفتاوى الكبرى (1/217) .
(5) المغني (1/70،71) ، الفروع (1/144) ، الإنصاف (1/40) ، مطالب أولي النهى (1/92) .
(6) المحلى (1/155) .
(7) المغني (1/70) ،.(1/241)
وجوهكم} (1) .
(58) وروى مسلم، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي ح
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قالا جميعاً: حدثنا شعبة، عن جامع بن شداد قال: سمعت حمران بن أبان يحدث أبا بردة في هذا المسجد في إمارة بشر، أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله b: من أتم الوضوء كما أمره الله تعالى، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن. هذا حديث ابن معاذ، وليس في حديث غندر في إمارة بشر، ولا ذكر المكتوبات (2) .
فقوله b: " من توضأ كما أمره الله " فلم يقدم في الآ ية والخبر على الوجه فرضاً، فلو كان غسل اليد فرضاً لقدم ذكره، والله أعلم.
والجواب:
أن يقال: لا خلاف في أن غسل اليدين للوضوء من سنن الوضوء، ولكن غسلها لمن قام من الليل لا يتعلق بالوضوء فقط وإنما هو لمن أراد غمسها فى الإناء سواء كان لوضوء أم لغيره.
الدليل الثانى:
استدل القائلون بالسنية، أن طهارة اليد متيقنة، ونجاسة اليد مشكوك فيها لقوله b: " فإنه لا يدرى أين باتت يده "، والشك لا يقضي على اليقين، فدل على أن النهي عن غمسها ليس للتحريم، وأن غسل اليد مستحب وليس بواجب.
_________
(1) المائدة: 6.
(2) صحيح مسلم (232) .(1/242)
قال ابن دقيق العيد: الأمر - وإن كان ظاهره الوجوب - إلا أنه يصرف عن الظاهر لقرينة ودليل، وقد دل الدليل، وقامت القرينة ههنا؛ فإنه b علل بأمر يقتضي الشك، وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده "، والقواعد تقتضي أن الشك لا يقتضي وجوباً في الحكم , إذا كان الأصل المستصحب على خلافه موجوداً. والأصل: الطهارة في اليد، فلتستصحب.
ويجاب:
أن هذا توجيه يصح لو كانت العلة فى النهي عن غمس اليد هى نجاسة اليد، أما من يرى أن العلة تعبدية، أو أن العلة كما ذكر ابن تيمية وابن القيم: هى مبيت الشيطان على يده أو مبيتها عليه فلا يصح هذا الاستدلال. ولو كانت العلة فى الغسل النجاسة، لأرشد الرسول b إلى غسلها مرة واحدة، ألا ترى إلى دم الحيض يصيب الثوب، أرشد الرسول b إلى غسله مرة واحدة غسلة تذهب بعين النجاسة مع أن نجاسته متيقنة، فكيف بالنجاسة المتوهمة.
الدليل الثالث:
لما أرشد الرسول b إلى غسل اليد ثلاث مرات قبل غمسها فى الإناء علم أنه ليس بواجب إذ لو كان واجباً لكفى فيها غسلة واحدة. قياساً على دم الحيض
وأجيب:
بأن هذا القول مبنى على أن النهي لاحتمال أن تكون اليد نجسة. والذين قالوا بالوجوب لم يعللو بذلك على أن العدد ورد حتى فى إزالة النجاسة كالاستجمار والتسبيع فى ولوغ الكلب.(1/243)
الدليل الرابع:
(59) ما رواه مسلم، قال: حدثني بشر بن الحكم العبدي، حدثنا عبدالعزيز- يعني: الدراوردي- عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة،
عن أبي هريرة أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه، ورواه البخاري (1) .
وجه الاستدلال:
قالوا إذا كان الاستنثار سنة بالإجماع بعد القيام من النوم، فكذلك غسل اليدين بعد القيام من النوم، وقبل غمسهما في الإناء ليس بواجب.
والجواب:
أن يقال: هذا قياس فى العبادات، والقياس فيها ضعيف.
فالراجح: أن القول باستحباب غسل اليدين ثلاثاً إذا انتبه من نوم الليل قول قوي، والقول بالوجوب أقوى، ولو غمس يديه لم يمنع ذلك من التطهر بالماء، فالماء باق على طهوريته، والله أعلم.
دليل الحنابلة على الوجوب.
(60) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق،
_________
(1) صحيح البخاري (3295) ، ومسلم (238) .(1/244)
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (1) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث نهى عن غمس اليد بعد الاستيقاظ إلا بعد غسلها ثلاثاً، والأصل في النهي التحريم إلا لصارف، ولا صارف هنا.
وهل يختلف الحكم إذا تيقن المسلم طهارة يده؟
اختلفوا في ذلك:
فقيل: لا يسن غسلها، بل يغمسها بدون غسل، اختاره بعض الحنفية (2) .
وقيل: هو بالخيار، إن شاء غسل يده قبل غمسها، وإن شاء غمس يده، ولو لم يغسلها. وهذا مذهب الشافعية (3) .
وقيل: يجب غسلها حتى ولو كانت يده في جراب، أو كانت مكتوفة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة (4) .
وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في علة الأمر بغسل اليد:
فقيل: إن العلة هي الشك في نجاسة اليد، حتى قيد بعض الحنفية حديث النهي عن غمس اليد في الإناء حتى يغسلها بما إذا نام مستنجياً بالأحجار، أو
_________
(1) صحيح مسلم (278) ، وانظر صحيح البخاري (162) .
(2) شرح فتح القدير (1/21) .
(3) المجموع (1/389) ، شرح النووي لصحيح مسلم (1/232) .
(4) الإنصاف (1/41) .(1/245)
متنجس البدن، لا إذا نام متيقناً طهارتها، أو مستنجياً بالماء (1) .
وذكر الشافعية أن أهل الحجاز كانوا يستعملون الأحجار في الاستجمار، وكانت البلاد حارة، فيعرقون، وربما طافت أيديهم في موضع النجاسة فتنجست (2) .
والصحيح: أن الحديث مطلق، وهو عام لمن استنجى بالماء أو بالأحجار، عليه سراويل أم لا، ولا يقيد النص إلا نص مثله.
وقيل: إن العلة تعبدية، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فيجب الامتثال دون النظر إلى سبب الوجوب.
وقيل: إن العلة مبيت الشيطان على يده، وهذا اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قالا: هذه العلة نظير تعليل الشارع الاستنشاق بمبيت الشيطان على الخيشوم في قوله b: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنشق بمنخريه من الماء، فإن الشيطان يبيت على خيشومه " متفق عليه، وسبق تخريجه. فأمر بالغسل معللا بمبيت الشيطان على خيشومه، فعلم أن ذلك سبب الغسل، والحديث معروف. وقوله فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده يمكن أن يراد به ذلك، فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التى شهد لها النص بالإعتبار، وأما ملابسته ليده خاصة؛ فلأنها أعم الجوارح كسباً وتصرفاً ومباشرة لما يأمر به الشيطان من المعصية، فصاحبها كثير التصرف والعمل بها، ولهذا سميت جارحة لأنه يجترح بها: أى يكسب. والله أعلم (3) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/21) .
(2) الحاوي (1/102) .
(3) تهذيب السنن (1/69،70) ، ومجموع الفتاوى (21/44) .(1/246)
فرع آخر
هل يختص الحكم في القيام
من نوم الليل أو يشمل كل نوم؟
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: لا فرق بين نوم الليل، ونوم النهار، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: إن الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم، بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار، أو شك في نجاستها من غير نوم، وأما إذا تيقن طهارتها فوجهان: الأصح منهما، وهو والذي ذهب إليه الجماهير من أصحاب الشافعية أنه لا كراهة في غمس اليد، بل هو مخير إن شاء غمس، وإن شاء غسل قبل الغمس؛ لأن النبي b ذكر النوم، ونبه على العلة، وهى الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، وهذا مذهب الشافعية (3) .
وقيل: الحكم يتعلق بنوم الليل خاصة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (4) . وهو الراجح.
_________
(1) الهداية شرح البداية (1/12) ، حاشية ابن عابدين (1/108،109) .
(2) التمهيد (18/256) ، المنتقى للباجي (1/48) .
(3) شرح صحيح مسلم للنووي (1/232) ، المجموع (1/389) .
(4) الإنصاف (1/41) ، المغني (1/71) ، كشاف القناع (1/33) .(1/247)
دليل الجمهور على عدم التفريق بين نوم الليل والنهار.
الدليل الأول:
(61) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فكلمة (نومه) نكرة مضافة، فتعم، كقوله سبحانه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (2) فيشمل نوم الليل ونوم النهار.
الدليل الثاني:
على فرض أن يكون الحديث في نوم الليل فيدخل فيه نوم النهار من باب القياس الجلي؛ إذ لا فرق، فإذا كان النائم يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء لما ورد من ذلك في الحديث، فنوم النهار مثل نوم الليل في القياس.
الدليل الثالث:
قوله في الحديث: " فإنه لا يدري " وهذه العلة موجودة في نوم النهار،
_________
(1) صحيح البخاري (162) ، ومسلم (278) .
(2) النحل: 18.(1/248)
فالنائم إذا نام لا يدري سواء كان نومه في الليل أم في النهار؛ لأن النوم يحجب العقل.
قال ابن حجر: لكن التعليل يقتضي الحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة.
قال الرافعي في شرح المسند: يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلا أشد منها لمن نام نهارا؛ لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة (1) .
بل ذهب الباجي في المنتقى إلى دخول المغمى عليه والمجنون في الحكم، فقال: تعليق هذا الحكم بنوم الليل لا يدل على اختصاصه به؛ لأن النائم إن كان لا يدري أين باتت يده فكذلك المجنون والمغمى عليه، وكذلك من قام إلى وضوء من بائل أو متغوط أو محدث فإنه يستحب له غسل يده قبل أن يدخلها في إنائه خلافاً للشافعي؛ لأن المستيقظ لا يمكنه التحرز من مس رفغه ونتف إبطه وفتل ما يخرج من أنفه وقتل برغوث وعصر بثر وحك موضع عرق، وإذا كان هذا المعنى الذي شرع له غسل اليد موجودا في المستيقظ لزمه ذلك الحكم، ولا يسقط عنه أن يكون علق في الشرع على النائم، ألا ترى أن الشرع علقه على نوم المبيت ولم يمنع ذلك من أن يتعدى إلى نوم النهار لما تساويا في علة الحكم (2) .
وأجيب:
بأن الحكم خص في المبيت، فلم يقل في الحديث: " فإنه لا يدري "
_________
(1) فتح الباري (1/263) ، قلت: قول الباجي لا يعتبر قولاً مستقلاً؛ لأن الكراهة عنده ثابتة في نوم الليل ونوم النهار، إلا أن نوم الليل أشد على اعتبار أن ما نص عليه آكد مما ألحق به قياساً، على تقدير أن المبيت نص في نوم الليل. والله أعلم.
(2) المنتقى (1/48) .(1/249)
وسكت، بل قال: لا يدري أين باتت يده، ولو كانت العلة احتمال نجاسة اليد لكان له وجه في إلحاق المغمى عليه، وسبق لي أن ذكرت الاختلاف في العلة، ولم يظهر لي أن العلة احتمال النجاسة، وإلا لكانت غسلة واحدة كافية إن شاء الله في حصول المقصود، بل إن الغسل ثلاثاً مشروع حتى للمستيقظ عند إرادة الوضوء، فذكر التثليث يلحقه بالتعبد المحض، وإذا كانت العلة تعبدية لم يكن للقياس معنى، لعدم تعدي العلة، والله أعلم.
دليل الحنابلة على اختصاصه بنوم الليل.
الدليل الأول:
قوله b: " فإنه لا يدري أين باتت يده " والبيتوتة لا تكون إلا بالليل، كقوله تعالى {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو من أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} (1) ، فخص البيات بالليل ثم ذكر النهار.
وأجيب:
بقول ابن حزم: ادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله b: " أين باتت يده "، وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل.
قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل يقال: بات القوم يدبرون أمر كذا وإن كان نهاراً (2) .
ورد هذا ابن عبد البر، فقال: أما المبيت فيشبه أن يكون ما قاله أحمد بن حنبل صحيحاً فيه؛ لأن الخليل قال في كتاب العين: البيتوتة دخولك في
_________
(1) الأعراف: 97،98.
(2) المحلى (1/201،202) .(1/250)
الليل، وكونك فيه بنوم وبغير نوم، قال ومن قال: بت بمعنى نمت، وفسره على النوم فقد أخطأ، قال: ألا ترى أنك تقول بت أراعي النجم، معناه: بت أنظر إلى النجم. قال: فلو كان نوماً كيف كان ينام وينظر، إنما هو ظللت أراعي النجم. قال: وتقول: أباتهم الله إباتة حسنة، وباتوا بيتوتة صالحة، وأباتهم الأمر بياتاً، كل ذلك دخول الليل، وليس من النوم في شيء (1) .
الدليل الثاني:
قوله b: " إذا استيقظ أحدكم من نومه " فإن النوم عند الإطلاق لا يراد به إلا نوم الليل (2) .
الدليل الثالث:
(62) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله b: إذا قام أحدكم من الليل، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات؛ فإنه لا يدري أين باتت يده (3) .
[الحديث صحيح، وذكر القيام من الليل أخشى أن يكون غير محفوظ، فكل من ذكر الليل قد اختلف عليه فيه، فأكثر الطرق وأصحها ليس فيها ذكر الليل] (4) .
_________
(1) التمهيد (18/255) .
(2) بدائع الفوائد (4/89) .
(3) المصنف (1/94) رقم 1047.
(4) هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه من طرق كثيرة عنه، ووقع في بعضها اختلاف، كما اختلف في متنه على وجهين:
الوجه الأول: بذكر الليل، رواه جماعة عن أبي هريرة إلا أنه لا يوجد راو نص على القيام من نوم الليل إلا وقد اختلف عليه، وإليك بيان هذا الوجه.
الطريق الأول: الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة، تارة يجمع الأعمش شيوخه أبا صالح وأبا رزين، وتارة يفرقهما..
فقد أخرجه أحمد في المسند (2/253) حدثنا أبو معاوية عن الأعمش به، إلا أنه رواه عن أبي صالح، عن أبي هريرة بدلاً من أبي رزين، وهو محفوظ عنهما جميعاً.
وأخرجه أبو داود (103) ومن طريقه البيهقي (1/45) وابن عبد البر في التمهيد (18/232) من طريق مسدد، وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (1/331) من طريق أبي كريب،
وأخرجه البيهقي (1/45) من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي، كلهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة. بذكر الليل.
وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/221) من طريق علي بن حرب، ثنا أبو معاوية به إلا أنه ذكر أبا صالح وحده.
وأخرجه أحمد (2/253) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/22) من طريق زائدة بن قدامة، عن الأعمش به بذكر أبي صالح وحده، إلا أنهما لم يذكرا متنه، وأحالا على رواية سابقة، وفيها ذكر الليل. وهذه متابعة لأبي معاوية.
وقد اختلف على الأعمش، فرواه أبو معاوية وزائدة بن قدامة عنه بذكر الليل.
ورواه وكيع، كما في مسند أحمد (2/471) ، ومسلم (278) ، وأبي عوانة (1/264) ، وسنن البيهقي (1/45) ، إلا أن مسلماً وأبا عوانة لم يسوقا متنه، وأحالا على متن سابق.
وشعبة كما في مسند أبي داود الطيالسي (1/317) .
وشجاع بن الوليد كما في سنن البيهقي الكبرى (1/47) .
وأبو الأشهب جعفر بن الحارث النخعي كما في الأوسط للطبراني (4/94) رقم 3694 أربعتهم عن الأعمش به. ولم يذكروا لفظة الليل.
وأبو معاوية من أثبت أصحاب الأعمش، إلا أن وكيعاً وشعبة قد وافقت روايتهم رواية الأكثر بعدم ذكر الليل فقد رواه جمع كثير عن أبي هريرة، ولم يذكروا لفظة: " إذا قام من الليل".
الطريق الثاني: أبو سلمة، عن أبي هريرة.
رواه معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، واختلف على معمر:
فرواه أحمد (2/259) قال: ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري به بذكر الليل.
ورواه النسائي في الكبرى (153) وفي الصغرى (161) من طريق يزيد بن زريع، عن معمر به، بدون ذكر الليل كما هي رواية الجماعة.
وتابع الأوزاعي معمراً في ذكر الليل كما في سنن الترمذي (24) ، والنسائي (441) ، وابن ماجه (393) ، وسنن البيهقي (1/244) .
وقد رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بدون ذكر الليل، كما في مسند الشافعي (ص: 10) ومسند الحميدي (951) ، وأحمد (2/241) ، والمنتقى لابن الجارود (9) ، والدارمي (766) ، ومسلم (278) والنسائي في الكبرى (1) ، وفي الصغرى (1) ، والمستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم (639) ، مسند أبي عوانة (1/220،221،263) ، وابن خزيمة (99) ، وابن حبان (1062) ، والبيهقي (1/45) ،
ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/94) ، ومسند أحمد (2/382) ، ومسند أبي يعلى (5973) ، والطحاوي (1/22) .
وهذه توافق رواية ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة.
الطريق الثالث: سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
رواه الزهري، عن سعيد بن المسيب، واختلف على الزهري.
فرواه عنه معمر، عن الزهري بدون ذكر الليل. أخرجه أحمد (2/265،284) ومسلم (278) ، وأبو عوانة (1/264) والبيهقي (2/244) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل.
ورواه الأوزاعي، عن ابن شهاب واختلف على الأوزاعي:
فرواه الطحاوي (1/22) من طريق الفريابي وبشر بن بكر كلاهما عن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وحده، عن أبي هريرة بدون ذكر الليل، وذكر الغسل مرتين أو ثلاثاً.
ورواه النسائي في الصغرى (441) من طريق إسماعيل بن عبد الله عن الأوزاعي به بذكر الليل.
وأخشى أن يكون الأوزاعي اختلط عليه لفظ ابن شهاب، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، بلفظ ابن شهاب عن سعيد، عن أبي هريرة، فقد كان ابن شهاب تارة يجمع شيوخه، فيروي الحديث عن سعيد وأبي سلمة مقرونين، وتارة يفرقهما، فيذكر سعيداً وحده وأبا سلمة وحده. ولفظ سعيد وحده أو لفظه مقروناً من غير طريق الأوزاعي لا يذكر فيه القيام من الليل، فالراجح عندي أن طريق سعيد من الطرق التي لم تذكر القيام من الليل.
وأما طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مقرونين.
فأخرجه الترمذي (24) وابن ماجه (393) من طريق الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، حدثني ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة به. بذكر القيام من الليل.
وأخرجه الطحاوي (1/22) من طريق أبي صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، حدثني ابن شهاب به. ولم يذكر متناً.
فالحديث محفوظ عن الزهري من الطريقين، طريق سعيد بن المسيب وأبي سلمة.
قال الدارقطني في العلل (8/78) المحفوظ عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة. اهـ
وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/234) : قد حدث به معمر عن الزهري، مرة عن سعيد، عن أبي هريرة، ومرة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فدل على أن الحديث صحيح لهما عن أبي هريرة. اهـ
الطريق الرابع: العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة.
رواه العلاء واختلف عليه فيه:
فرواه مسلم في صحيحه (278) والبيهقي في السنن الكبرى (1/118) من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: إذا قام أحدكم من النوم إلى الوضوء فليفرغ على يديه من الماء فإنه لا يدري أين باتت يده. هذا لفظ البيهقي، وأما مسلم فلم يذكر متناً، وأحال على رواية سابقة، إلا أنه صرح أن الرواية ليس فيها التثليث.
وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/222) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن العلاء به بذكر التثليث، وبالشك، إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح، أو قال: من نومه، أو كلمة نحوها، فليفرغ على يديه ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده، والطريق الأول أرجح مع سلامته من الشك الوارد في متنه.
هذه الطرق التي نص فيها على أن القيام إنما هو من نوم الليل، وأنت ترى أنه لا يخلو طريق من الاختلاف عليه فيه.
الوجه الثاني: بدون ذكر الليل، رواه الأعرج، وابن سيرين، وهمام، وجابر، وعبد الله ابن شقيق، وموسى بن يسار ولم يختلف عليهم في عدم ذكر الليل، ومع اتفاقهم على عدم النص على الليل إلا أنهم اختلفوا في الغسل فبعضهم يذكر الغسل بدون عدد، وبعضهم ينص على أن الغسل ثلاث، والتثليث في الحديث محفوظ.
وإليك تخريج مروياتهم.
أولاً: الطرق التي تذكر الغسل ولا تذكر عدداً.
الطريق الأول: الأعرج، عن أبي هريرة.
رواه أبو الزناد، واختلف عليه:
فرواه مالك في الموطأ (1/21) ومن طريقه الشافعي (1/14) ، وأحمد (2/465) ، والبخاري (162) ، وابن حبان (1063) والبيهقي (1/45،118) وفي المعرفة (1/267) والبغوي في شرح السنة (207) .
ورواه المغيرة بن عبد الرحمن كما في مسلم (278) والبيهقي (1/118) كلاهما عن أبي الزناد به، وليس فيه التثليث.
وخالفهما سفيان بن عيينة كما في مسند الشافعي (1/14) والحميدي (952) ، وفيه ذكر التثليث في الغسل.
قال ابن عبد البر كما في التمهيد (18/233) : " وهو عندي وهم في حديث أبي الزناد، وأظنه حمله على حديث الزهري، والله أعلم. اهـ
وسبق أن خرجت حديث سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة بذكر التثليث.
الطريق الثاني: ابن سيرين، عن أبي هريرة.
أخرجه أحمد (2/295،507) ، وابن أبي شيبة (1/94) ، ومسلم (278) والطبراني في الأوسط (1/290) رقم 945.
الطريق الثالث: همام بن منبه، عن أبي هريرة.
أخرجه أحمد (2/316) ومسلم (278) ، وأبو عوانة في مسنده (1/264) ، والبيهقي في السنن الصغرى (19) ، وفي الكبرى (1/234) .
الطريق الرابع: ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن أبي هريرة، كما في صحيح مسلم (278) ومسند أبي عوانة (1/222) ، وسنن البيهقي (1/256) .
الطريق الخامس: عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة أخرجه أحمد (2/497) من طريق محمد بن إسحاق عن موسى بن يسار به.
فهذه خمسة طرق لا تذكر عدداً، ومنهم من هو من أخص أصحاب أبي هريرة كالأعرج، ومحمد بن سيرين.
ورواه جماعة عن أبي هريرة بذكر التثليث في الغسل، وهاك بيانها:
الطريق الأول: عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة.
كما في مسند أحمد (2/455) ومسلم (278) ، وابن خزيمة (100،145) ، وابن حبان (1064،1065) ، وأبو عوانة (1/263) ، والدارقطني (1/49) ، سنن البيهقي (1/46) ،
الطريق الثاني: أبو الزبير، عن جابر، عن أبي هريرة كما في مسند أحمد (2/403) ، وصحيح مسلم (278) ، وأبي يعلى (5863) ، وأبي عوانة (1/263) ، وسنن البيهقي الكبرى (1/47) .
الطريق الثالث: أبو مريم، عن أبي هريرة كما في سنن أبي داود (105) ، والدارقطني (1/50) ، وسنن البيهقي (1/46) من طريق معاوية بن صالح عنه.
الطريق الرابع والخامس: عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة وقد سبق تخريجه عند الكلام على طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عنهما به.
الطريق السادس: عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بذكر التثليث، وسبق تخريجه، فهؤلاء ستة من الحفاظ رووه عن أبي هريرة بذكر التثليث مما يؤكد أن التثليث محفوظ، ولعل البخاري تجنب تخريج ذكر التثليث للاختلاف في ذكره، والله أعلم.(1/251)
دليل من قال: الحكم يتعلق بالشك.
استدل الشافعية بأن الحكم يتعلق بالشك، لقوله b في الحديث: " فإنه
_________
(1) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (1/232) ، المجموع (1/389) .
(2) رواه البخاري (1142) ، ومسلم (776) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وتابع سعيد بن المسيب الأعرج عند البخاري (3269) .(1/256)
لا يدري أين باتت يده " أما من تيقن طهارة يده فلا شيء عليه، فالرسول b ذكر النوم ونبه على العلة، وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة (1) .
الراجح من أقوال أهل العلم:
بعد استعراض الخلاف الذي تميل له نفسي أن الليل قيد مؤثر والله أعلم؛ لقوله b في الحديث: " أين باتت يده "
ولأن دخول نوم الليل متيقن، ودخول غيره مشكوك فيه، والأصل براءة الذمة وعدم التكليف؛ ولأن نوم الليل أطول من نوم النهار عادة، وعلقت به أحكام كثيرة منها الأذكار الخاصة بالنوم على الصحيح، ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذ هو نام ثلاث عقد يضرب على مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان (2) .
فقوله: " وإلا أصبح " دليل على أن هذا في نوم الليل، والله أعلم.(1/257)
الفصل السابع
الماء المستعمل في إزالة النجاسة
الماء المستعمل في إزالة النجاسة إذا انفصل عن المحل لا يخلو إما أن يتغير بالنجاسة أو لا.
فإن تغير الماء بالنجاسة، فهو نجس بالإجماع، وقد تكلمنا عن الماء المتغير بالنجاسة في فصل الماء المتغير، فارجع إليه إن شئت.
وإن كان الماء المنفصل لم يتغير، فقد اختلف العلماء في حكمه بناء على اختلافهم في وجوب تكرار الغسل، فبعضهم يرى وجوب تكرار غسل النجاسة ثلاث مرات، وبعضهم يرى تكرارها سبع مرات، وبعضهم يرى أنه يكفي في غسل النجاسة غسلة واحدة ما لم تكن نجاسة كلب، وسوف يأتي بسط الأقوال كلها، ومناقشتها في باب إزالة النجاسة، ولكن البحث الآن في الماء المنفصل عند تطهير هذا المحل المتنجس، وهو ما يسمى بغسالة النجاسة، أو الماء المستعمل في إزالة النجاسة، إذا انفصل عن المحل، وهو لم يتغير هل يكون نجساً أم طاهراً أم طهوراً، اختلف العلماء في هذا:
فقيل: الماء المنفصل من غسل النجاسة الحقيقية من الغسلة الأولى حتى الغسلة الثالثة نجس، وهذا مذهب الحنفية (1) .
_________
(1) بدائع الصنائع (1/66) ، البحر الرائق (1/245) ، بريقة محمودية (4/240) ، حاشية ابن عابدين (1/325) ، وهذا مبني على وجوب غسل النجاسات الحقيقية ثلاث مرات، وضد الحقيقة الحكمية، وهي طهارة الحدث، فلا يجب فيها العدد، وهذا بناء على قولهم بأن الحدث نوع من النجاسة، وانظر بدائع الصنائع (1/87) .(1/258)
وقيل: الماء المنفصل طهور ما لم يتغير بالنجاسة، وهو مذهب المالكية (1) .
وقيل: يكون طاهراً غير مطهر، وهو الأصح عند الشافعية (2) .
وقيل: المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس، حتى ولو زالت عين النجاسة في الغسلة الأولى، والمنفصل من الغسلة السابعة طاهر، غير مطهر، والمنفصل من الغسلة الثامنة طهور. وهذا المشهور من مذهب
_________
(1) تهذيب المسالك في نصرة مذهب الإمام مالك (1/43) ، منح الجليل (1/72) ، القوانين الفقهية (ص: 35-36) ، الخرشي (1/80) ، حاشية الدسوقي (1/80) ، الاستذكار (3/259) .
(2) قال النووي في روضة الطالبين (1/34) : في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة، وإلا فإن كان قلتين فطاهرة بلا خلاف ومطهرة على المذهب، والله أعلم.
وإن كانت دونهما فثلاثة أقوال، وقيل أوجه:
أظهرها: وهو الجديد أن حكمها حكم المحل بعد الغسل إن كان نجساً بعد فنجسة، وإلا فطاهرة غير مطهرة.
والثاني: وهو القديم، حكمها حكمها قبل الغسل فتكون مطهرة.
والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل فتكون نجسة. اهـ
وقال في المجموع (2/544) : " والأصح طهارة غسالة النجاسة إذا انفصلت غير متغيرة، وقد طهر المحل " وانظر شرح زبد بن رسلان (1/34) . واشترط الشافعية للحكم بطهارة الغسالة شروطاً.
قال العراقي في طرح التثريب (2/134) : " الصحيح عند أصحابنا طهارة غسالة النجاسة بشرط عدم تغيرها، وبشرط طهارة المحل، فإن تغيرت كانت نجسة إجماعاً، وإن لم يطهر المحل بأن كان في المحل نجاسة عينية كالدم ونحوه فلم يزلها الماء وانفصل عنها، وهي باقية، فإنه نجس أيضا، وزاد الرافعي شرطاً آخر، وهو ألا يزداد وزن الغسالة بعد انفصاله على قدره قبل غسل النجاسة به. اهـ(1/259)
الحنابلة (1) .
دليل الحنفية على نجاسة الغسلات الثلاث.
قولهم مبني على وجوب غسل النجاسات ثلاث مرات، وسوف يأتي بسط الأدلة على هذه المسألة في مبحث مستقل، وعليه قالوا: إن الماء المنفصل في الغسلة الأولى والثانية انفصل والمحل نجس فتنجس، وأما الغسلة الثالثة فنجسة، وإن كان المحل قد طهر بناء على أن الماء قد استعمل في إزالة نجاسة، فالماء عندهم ينجس إذا استعمل في الطهارة سواء في طهارة الحدث أم في طهارة الخبث، وسبق لنا تحرير مذهبهم في الماء المستعمل في طهارة الحدث، وأجبنا عليه.
الدليل الثاني على نجاسة الغسالة:
(63) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير- يعني: ابن حازم- قال: سمعت عبد الملك- يعني: ابن عمير- يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صلى أعرابي مع النبي b بهذه القصة - يعني: قصة بول الأعرابي في المسجد- قال فيه: وقال: يعني النبي b:
_________
(1) قال أبو الخطاب في الانتصار (1/485) : يجب العدد في سائر النجاسات سبعاً نص عليه في رواية صالح وحنبل وأبي طالب والميموني. اهـ
وفي مسائل عبد الله لأبيه (1/34) : " سألت أبي عن الثوب يصيبه البول يجزيه أن يغمسه في الماء، أو لا بد من الدلك؟ فقال: يغسله سبعاً، ويعصره "وانظر مسائل ابن هانئ (1/27) رقم137. اهـ وانظركشاف القناع (1/36) ، شرح منتهى الإرادت (1/102) ، الفروع (1/238،239) ، الإنصاف (1/313)(1/260)
خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء (1) .
قال أبو داود: وهو مرسل ابن معقل لم يدرك النبي b.
[ضعيف، وزيادة خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه زيادة منكرة والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (2) .
وجه الاستدلال:
لولا أن الغسالة نجسة لما احتاج إلى نقلها قبل غسلها.
الدليل الثاني:
(64) ما رواه الدارقطني، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية، نا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد، نا أبو بكر بن عياش، حدثنا سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله b بمكانه، فاحتفر، فصب عليه دلواً من ماء، فقال الأعرابي: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يعمل عملهم، فقال رسول الله b: المرء مع من أحب (3) .
_________
(1) سنن أبي داود (381) .
(2) والحديث رواه أبو داود أيضاً في المراسيل (ص: 76) رقم 11 بالإسناد نفسه، ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن الكبرى (2/428) ، والدارقطني (1/132) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/77) .
قال الدارقطني: عبد الله بن معقل تابعي، وهو مرسل.
وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. تنقيح التحقيق (1/265) .
كما أن فيه علة أخرى، عبد الملك بن عمير مدلس، وقد عنعن، وهو مدلس مكثر.
(3) سنن الدراقطني (1/131) ، ومن طريق الدارقطني أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/78) .(1/261)
قال الدارقطني: سمعان مجهول (1) .
الدليل الثالث:
(65) ما رواه ابن الجوزي في التحقيق (2) ، وفي العلل المتناهية (3) ، من طريق محمد بن صاعد، عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد،
عن أنس، أن أعرابياً بال في المسجد، فقال النبي b: احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذنوباً من ماء.
[حديث معلول، والمعروف أنه مرسل] (4) .
_________
(1) وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/14) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا أبو بكر بن عياش به.
وفي إسناده سمعان بن مالك:
قال أبو زرعة: هذا حديث منكر، وسمعان ليس بالقوي. الجرح والتعديل (4/316) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لا أصل لهذا الحديث. العلل (1/24) .
وفي إسناده أيضاً: أبو هشام الرفاعي:
قال أبو حاتم الرازي: ضعيف، يتكلمون فيه، هو مثل مسروق بن المرزبان. الجرح والتعديل (8/129) .
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (551) .
وقال العجلي: كوفي لا بأس به، صاحب قرآن. معرفة الثقات (2/434) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطىء ويخالف. الثقات (9/109) .
(2) التحقيق (1/78) .
(3) العلل المتناهية (1/333) رقم 545. وذكر الزيلعي في نصب الراية (1/211) وابن حجر في تلخيص الحبير (1/37) أن الدارقطني أخرج الحديث، ولم أقف عليه في سننه.
(4) قال ابن الجوزي: قال الدارقطني: وهم عبد الجبار على ابن عيينة؛ لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عن يحيى بن سعيد فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، أن النبي b قال: احفروا مكانه. مرسلاً، فاختلط على عبد الجبار المتنان. اهـ
قلت: مرسل طاووس أخرجه عبد الرازق في مصنفه (1/424) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/14) من طريق ابن عيينة به.
قال الحافظ في الفتح (1/325) : " واحتجوا فيه - يعني الأحناف - " بحديث جاء من ثلاث طرق أحدها موصول عن ابن مسعود أخرجه الطحاوي لكن إسناده ضعيف.
قاله أحمد وغيره، والآخران مرسلان، أخرج أحدهما أبو داود من طريق عبد الله بن معقل، والآخر من طريق سعيد بن منصور ومن طريق طاووس، ورواتهما ثقات، وهو يلزم من يحتج بالمرسل مطلقاً، وكذا من يحتج به إذا اعتضد، والشافعي إنما يعتضد عنده إذا كان من رواية كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمى لا يسمى إلا ثقة، وذلك مفقود في المرسلين المذكورين على ما هو ظاهر من سنديهما، والله أعلم. اهـ
والراجح: أنهما لا يحتج بهما في كل حال حتى على فرض أن يقوي بعضها بعضاً، فإننا نحكم بشذوذها؛ لأن الحديث في الصحيحين وفي غيرهما من رواية الثقات لم يذكروا إلا مجرد صب الماء على البول، ولم يذكروا الحفر، ولو كان الحفر ثابتاً لنقل لأهميته.(1/262)
دليل الحنابلة في غسالة النجاسة.
يرى الحنابلة أن الماء المنفصل من الغسلة الأولى حتى الغسلة السادسة نجس؛ لأن الماء قد انفصل والمحل نجس، حتى ولو ذهبت عين النجاسة، فالمحل نجس حكماً، والتعليل عندهم: أنه ماء قليل لاقى نجاسة، فينجس ولو لم يتغير (1) .
وأما الماء المنفصل من الغسلة السابعة فإنه طاهر، ولماذا لا يكون طهوراً؟
_________
(1) وسوف نبحث إن شاء الله تعالى حكم الماء القليل إذا لاقى نجاسة، ولم يتغير في مسألة مستقلة.(1/263)
قالوا: لأنه أثر في المحل، فحصل به إزالة حكم النجاسة.
ولماذا لا يكون نجساً؟
قالوا: لأنه انفصل عن محل طاهر؛ لأن المحل يطهر عندهم في الغسلة السابعة، إذا ذهبت عين النجاسة.
أما المنفصل من الغسلة الثامنة فهو طهور؛ لأن المحل قد طهر من الغسلة السابعة، فلم يتأثر الماء.
والقول بوجوب غسل النجاسات ثلاثاً عند الحنفية أو سبعاً عند الحنابلة قول ضعيف، إلا في ولوغ الكلب حيث ثبت العدد في غسل الإناء من ولوغه سبعاً، وسوف يأتي بسط هذه المسألة في باب النجاسات إن شاء الله تعالى (1) .
دليل الشافعية على كون الماء طاهراً.
أدلتهم في هذه المسألة هي أدلتهم نفسها في المستعمل في رفع الحدث، فإذا كان المستعمل في رفع الحدث، وهو ليس نجاسة يكون طاهراً عندهم، فكيف بالمستعمل في إزالة النجاسة، ومن أدلتهم:
(66) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا، عن ابن وهب - قال هارون: حدثنا ابن وهب - أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله b: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم، وهو جنب.
_________
(1) بل انظرها قبل هذه المسألة في كتاب آداب الخلاء في صفة الإنقاء بالماء فقد بسطت أدلة كل فريق، وبيان الراجح منها، والله الموفق.(1/264)
فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا (1) .
وانظر الجواب عليه في مسألة المستعمل في رفع الحدث.
ومن أدلتهم قولهم: إن الماء المستعمل ليس ماء مطلقاً، بل هو مقيد بكونه ماء مستعملاً، والذي يرفع الحدث هو الماء المطلق كما في قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (2) ، فلم يقيده بشىء، فالماء المستعمل حكمه حكم ماء الورد والزعفران والشاي ونحو ذلك (3) .
وسبق الجواب عليه.
والصحيح أن إثبات قسم من الماء يكون طاهراً غير مطهر قول ضعيف، وقد بينت في مبحث أقسام المياه أن الماء قسمان: طهور، ونجس. ولا يوجد قسم الطاهر، والله أعلم.
دليل المالكية على أن غسالة النجاسة طاهرة مطهرة.
استدل المالكية على أن غسالة النجاسة من الماء الطهور إذا لم تتغير بعدة أدلته، منها:
الدليل الأول:
(67) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت،
عن أنس بن مالك، أن أعرابياً بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله b: لا تزرموه، ثم دعا بدلو من ماء، فصب عليه، ورواه
_________
(1) صحيح مسلم (283) .
(2) المائدة: 6.
(3) ذكره دليلاً لهم ابن حزم في المحلى (1/189) ورده عليهم.(1/265)
مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن الماء الذي غسل به بول الأعرابي لو كان نجساً لم يقض النبي b بطهارة ذلك المحل، ولأمر أن يصب عليه الماء ثانية وثالثة، فصح أن المغسول به النجاسة طاهر مطهر (2) .
الدليل الثاني:
(68) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أتي رسول الله b بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فأتبعه إياه. ورواه مسلم (3) .
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال من الحديث الذي قبله، فإن قيل في الحديث الأول: إن النجاسة كانت على الأرض، فالحديث الثاني النجاسة على ثوب، وهذا دليل على أنه لافرق بينهما.
الدليل الثالث:
قالوا من جهة المعنى: الماء المنفصل عن المحل المغسول هو من جملة الماء الباقي في المحل المغسول، فالمنفصل بعض المتصل، والماء الباقي في المحل
_________
(1) صحيح البخاري (6025) ومسلم (284) .
(2) انظر كتاب تهذيب المسالك (1/44) والحنابلة يفرقون بين النجاسة تكون على الأرض، وبين أن تكون على غيرها، ولا دليل على التفريق بينهما، بل الحكم واحد.
(3) صحيح البخاري (222) ومسلم (286) .(1/266)
المغسول طهور بإجماع، فوجب أن يكون المنفصل عنه مثله (1) .
الدليل الرابع:
إذا غلب الماء على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها، ولا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها، سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً، فقد جعل الله الماء طهوراً، وأنزله علينا ليطهرنا به، وقال الرسول b: " الماء لا ينجسه شيء " يعني: إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره، ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها، فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها، فالحكم له، وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها (2) .
وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر، إذا صارت خلاً من غير صانع، لاستهلاك ما كان يخامر العقل منها بطريان التحليل عليه، فلأن تطهر النجاسة، ويزول حكمها باستهلاك الماء لها أولى وأحرى (3) .
وهذا القول هو الراجح، لدليل النقل والعقل، والله أعلم.
_________
(1) كتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك (1/44) .
(2) الاستذكار (3/259) .
(3) تهذيب المسالك (1/45) .(1/267)
[صفحة فارغة](1/268)
الباب السادس
في الكلام على فضل الوضوء(1/269)
[صفحة فارغة](1/270)
الفصل الأول
حكم وضوء الرجال والنساء جميعاً إذا كانوا من المحارم
لا خلاف بين العلماء على جواز وضوء الرجال جميعاً من إناء واحد، ووضوء النساء جميعاً من إناء واحد، ووضوء الرجال والنساء جميعاً إن كان الرجال من المحارم، وقد نقل الإجماع على ذلك جماعة من أهل العلم، منهم:
قال الطحاوي من الحنفية: الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهما الماء معاً من إناء واحد، أن ذلك لا ينجس الماء (1) .
وقال القرطبي من المالكية: اتفق العلماء على جواز اغتسال الرجل وحليلته ووضوئهما معاً من إناء واحد، إلا شيئاً روي في كراهية ذلك عن أبي هريرة، وحديث ابن عمر وعائشة وغيرهما يرده، وإنما الاختلاف في وضوئه أو غسله من فضلها (2) .
وقال ابن حزم رحمه الله: واتفقوا على جواز توضيء الرجلين والمرأتين معاً (3) . اهـ
وقال الترمذي: وهو قول عامة الفقهاء، أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد.
وقال ابن تيمية: أحدها: وهو اشتراك الرجال والنساء في الاغتسال من إناء واحد، وإن كان كل واحد منهما يغتسل بسؤر الآخر، وهذا مما اتفق عليه أئمة المسلمين بلا نزاع بينهم، أن الرجل والمرأة أو الرجال والنساء إذا
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/26) .
(2) المفهم (1/583) .
(3) مراتب الإجماع (1/18) .(1/271)
توضئوا واغتسلوا من ماء واحد جاز، فأما اغتسال الرجال والنساء جميعاً من إناء واحد فلم يتنازع العلماء في جوازه، وإذا جاز اغتسال الرجال والنساء جميعاً، فاغتسال الرجال دون النساء جميعاً، أو النساء دون الرجال جميعاً أولى بالجواز، وهذا مما لا نزاع فيه، فمن كره أن يغتسل معه غيره، أو رأى أن طهره لا يتم حتى يغتسل وحده، فقد خرج عن إجماع المسلمين، وفارق جماعة المؤمنين (1) .اهـ
مستند هذا الإجماع:
الدليل الأول:
(69) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن عاصم الأحول، عن معاذة،
عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله b من إناء بيني وبينه واحد، فيبادرني، حتى أقول دع لي دع لي. قالت: وهما جنبان، وهو في البخاري (2) .
الدليل الثاني:
(70) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس،
أن النبي b وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد (3) .
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/221) ، مجموع الفتاوى (21/51) .
(2) رواه مسلم (321) .
(3) رواه البخاري (253) .(1/272)
الدليل الثالث:
(71) ما رواه البخاري، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال:
سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي b والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد (1) .
ففي هذه الأحاديث دليل على أن الرجل وزوجه يغتسلان معاً من غسل الجنابلة، وإذا اغتسلا معاً كان كل واحد منهما يغتسل بفضل صاحبه (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (264) .
(2) انظر المبسوط (1/61) ، شرح معاني الآثار (1/24) ، المنتقى شرح الموطأ (1/63) ، الأم للشافعي (7/262) ، المجموع (2/221) ، طرح التثريب (2/39) ، تحفة المحتاج (1/77) ، والمغني (1/137) ،.(1/273)
[صفحة فارغة](1/274)
الفصل الثاني
في فضل وضوء المرأة
إذا خلت المرأة بالماء، فهل يجوز الوضوء بفضلها، فيه خلاف:
واختلفوا في معنى الخلوة على قولين:
الأول: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وهذا مذهب الجمهور (1) ، ورواية عن أحمد (2) .
الثاني: أن تخلو به فلا يشاهدها مميز، سواء كان ذكراً أم أنثى، وهو المشهور عند المتأخرين من الحنابلة (3) .
_________
(1) سيأتي العزو عنهم قريباً عند ذكر الأقوال في حكم التطهر بفضل المرأة.
(2) قال أبو داود كما في مسائل أحمد (15) : " سمعت أحمد سئل عن الوضوء بفضل وضوء المرأة؟ قال: إن خلت به فلا. قيل: فإن لم تخل؟ قال: فلا بأس، كان النبي b والمرأة من نسائه يغتسلان جميعاً من إناء واحد ".
وقال في مسائل صالح (437) : " وسألت أبي عن فضل الجنب والحائض؟
فقال: إذا خلت به، فلا يعجبني، ولكن إذا كانا جميعاً فلا بأس به ". اهـ
فظاهر كلام الإمام أحمد المتقدم أن الخلوة عنده هي عدم المشاركة وإن رآها أحد، ولذلك قال ابن قدامة في المغني (1/137) : " وذهب بعض الأصحاب إلى أن الخلوة استعمالها للماء من غير مشاركة الرجل في استعماله؛ لأن أحمد قال: إذا خلت به فلا يعجبني أن يغتسل هو به، وإذا شرعاً فيه جميعاً فلا بأس به ". ففهم بعض الأصحاب من كلام أحمد أن الخلوة: هي عدم المشاركة.
(3) قال أحمد كما في مسائل عبد الله (1/22،23) : " سمعت أبي يقول: لا بأس أن يتوضأ - يعني بفضل وضوء المرأة - وهو يراها، ما لم تخل به ". اهـ
فشرط هنا أن يراها، فيكون معنى الخلوة: هي عدم المشاهدة، ولذلك قال المراداوي في الإنصاف (1/49) : إن في معنى الخلوة روايتين:
أحدهما: وهي المذهب أنها عدم المشاهدة عند استعمالها من حيث الجملة.
والثانية: انفرادها بالاستعمال، سواء شوهدت أم لا، وتزول الخلوة بمشاركته لها في الاستعمال بلا نزاع.(1/275)
وقد اختلف الفقهاء في الوضوء بفضل المرأة على أقوال:
فقيل: يجوز الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ،
والشافعية (3) ، وهو رواية عن أحمد، اختارها ابن عقيل من الحنابلة (4) ، ورجحه ابن المنذر (5) ، وهو رأي ابن عباس رضي الله عنهما (6) .
_________
(1) تبيين الحقائق (1/31) ، شرح معاني الآثار (1/26) ، المبسوط (1/61،62) ، حاشية ابن عابدين (1/133) ،.
(2) الخرشي (1/66) ، مختصر خليل (ص: 5) ، بداية المجتهد (1/294) ، التاج والإكليل (1/72) ، المنتقى شرح الموطأ (1/63) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/442) ، الاستذكار (1/372) ، حاشية الدسوقي (1/35) .
قال ابن عبد البر في التمهيد (14/165) : " والذي ذهب إليه جمهور العلماء، وجماعة فقهاء الأمصار، أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، وتتوضأ المرأة بفضله، انفردت بالإناء أو لم تنفرد، وفي مثل هذا آثار كثيرة عن النبي b صحاح، والذي يُذْهَب إليه أن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما ظهر فيه من النجاسات، أو غلب عليه منها، فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال، والله المستعان ". اهـ
(3) الأم (1/21) ، المجموع (2/221) ، طرح التثريب (2/39،40) ، تحفة المحتاج (1/77) .
(4) المغني (1/136) .
(5) قال في الأوسط (1/295) : " والذي نقول به الرخصة في أن يغتسل كل واحد منهما ويتوضأ بفضل طهور صاحبه، وإن كانا جنبين أو أحدهما، أو كانت المرأة حائضاً، وسواء ذلك خلت به، أو لم تخل به، لثبوت الأخبار عن رسول الله b الدالة على صحة ذلك. اهـ
(6) روى ابن أبي شيبة في المصنف (348) حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: سئل ابن عباس عن سؤر المرأة، فقال: هي ألطف بناناً، وأطيب ريحاً.
ورجاله ثقات. وأبو يزيد، سئل أبو زرعة عن اسمه، فقال: لا أعلم له اسماً.
وقال فيه ابن معين كما في رواية إسحاق بن منصور عنه: ثقة. الجرح والتعديل (9/458) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: وروى عن ابن عباس وأحيانا يدخل بينه وبين بن عباس عكرمة. المرجع السابق.
وقال عبد الرحمن أيضاً: سألت أبي عن أبي يزيد المدني؟ فقال: شيخ، سئل مالك عنه، فقال: لا أعرفه. وقال أبي عنه: يكتب حديثه. فقلت: ما اسمه؟ فقال: لايسمى. المرجع السابق.
وقال الآجري عن أبي داود: سألت أحمد عنه؟ فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب. تهذيب التهذيب (12/306) .
وفي التقريب: مقبول. يعني: إن توبع، وإلا فلين، هذا رأي الحافظ، وأرى والله أعلم أنه أكبر من ذلك، كيف وقد وثقه ابن معين، وأشار أحمد إلى توثيقه؛ لأن أيوب روى عنه. وأخرج له البخاري حديثه عن عكرمة عن ابن عباس: "إن أول قسامة كانت في الجاهلية لفينا بني هاشم. الحديث ".
ورواه عبد الرزاق (382،379) من طريقين عن عكرمة، عن ابن عباس.(1/276)
وقيل: لا يستعمل في رفع حدث الرجل خاصة، ويستعمل في إزالة النجاسة، وفي رفع حدث المرأة والصبي، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد (1) ،
_________
(1) مذهب الإمام أحمد كما في المشهور من مذهبه عند المتأخرين أن الماء لا يرفع حدث الرجل بشروط، وهي:
الأول: أن تخلو به المرأة عن مشاهدة رجل أو امرأة أو مميز، وقد قدمنا أن في المذهب روايتين، هذه أحدهما.
الثاني: أن تكون خلوتها بماء، فلا تضر خلوتها بتراب.
الثالث: أن يكون الماء يسيراً دون القلتين.
الرابع: أن تكون خلوتها بالماء لطهارة كاملة.
الخامس: أن تكون طهارتها عن حدث، وليس عن إزالة نجاسة.
قال ابن قدامة في المغني (1/137) : " فإن خلت به في بعض أعضائها، أو في تجديد طهارة، أو استنجاء، أو غسل نجاسة، ففيه وجهان:
أحدهما: المنع؛ لأنه طهارة شرعية.
والثاني: لا يمنع؛ لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة، وهذا ما عليه المتأخرون من أصحاب أحمد. وانظر في مذهب أحمد الكافي (1/62) ، الإنصاف (1/48) ، الفروع (1/83) ، تنقيح التحقيق (1/214) ، كشاف القناع (1/37) .(1/277)
ومذهب ابن حزم قريب منه (1) .
وقيل: يكره الوضوء بفضل المرأة، وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن (2) ،
_________
(1) قال ابن حزم في المحلى (1/204) : " وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلاً، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه، سواء وجدوا ماء آخر، أو لم يجدوا غيره، وفرضهم التيمم حينئذ، وحلال شربه للرجال والنساء، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال، ولا يكون فضلاً إلا أن يكون أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء ".
والفرق بين اختيار ابن حزم، ومذهب الحنابلة أن ابن حزم لا يشترط أن تخلو به المرأة عن المشاهدة، بل يكفي أن تنفرد به عن الرجل، ولا يحد ابن حزم الماء اليسير في القلتين، بل يحده بأن يكون الماء المتبقي أقل مما استعملته منه، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلاً، والله أعلم.
(2) روى عبد الرزاق في المصنف (375) عن معمر، عن قتادة، قال: سألت الحسن وابن المسيب عن الوضوء بفضل المرأة، فكلاهما نهاني عنه.
ورواية معمر عن قتادة فيها كلام؛ لكن تابعه شعبة، وهو من أثبت الناس في رواية قتادة، فقد روى ابن أبي شيبة (357) حدثنا عبدة بن سليمان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا يكرهان فضل طهورها.
وهذا إسناد صحيح، وشعبة لا يحمل عن قتادة إلا ما صرح به في التحديث.
وانظر الأوسط (1/292) والمجموع (2/221) ، المحلى (1/205) ، فقه سعيد بن المسيب (1/8) ، فقه الفقاء السبعة (1/24) .(1/278)
واختاره بعض الشافعية (1) .
وقيل: لا بأس أن يغتسل بفضل طهور المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً، وهو رأي ابن عمر رضي الله عنهما (2) .
دليل الجمهور على أن فضل المرأة طهور.
الدليل الأول:
(72) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم - قال إسحاق أخبرنا - وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، قال:
أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره، أن رسول الله b كان يغتسل بفضل ميمونة (3) .
[الحديث معلول، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان أن رسول الله b وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد] (4) .
الدليل الثاني:
(73) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الرزاق، أنا الثوري، عن سماك بن
_________
(1) تحفة المحتاج (1/77) .
(2) روى مالك في الموطأ (1/52) عن نافع، ان عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن حائضاً أو جنباً. وسنده في الصحة من أعلى الأسانيد.
(3) صحيح مسلم (323) .
(4) سيأتي الكلام على علته حين الجمع بين حديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة، وما يروى أن النبي b كان يغتسل بفضل ميمونة.(1/279)
حرب، عن عكرمة،
عن ابن عباس أن امرأة من نساء النبي b استحمت من جنابة، فجاء النبي b يتوضأ من فضلها، فقالت: إني اغتسلت منه، فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (1/248) .
(2) مدار هذا الإسناد على سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس.
ورواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد تكلمت عن إسناده في الشاهد الثالث عند تخريج الحديث رقم (10) ، وسوف أتكلم إن شاء الله تعالى في هذا الباب عن متنه فقط، فقد جاء في بعض الروايات أن النبي b جاء ليتوضأ، وفي بعضها جاء ليغتسل.. وهذا الاختلاف لا يؤثر لأن النبي b كان يتقدم غسله الوضوء.
وهناك اختلاف آخر في متن الحديث، فرواه شعبة، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وإسرائيل، أن الرسول b قال لها: إن الماء لا ينجسه شيء.
وراه يزيد بن عطاء عن سماك بلفظ: إن الماء ليس عليه جنابة.
ويزيد بن عطاء ضعفه يحيى بن معين والنسائي، وفي التقريب: فيه لين.
ورواه أيضاً أبو الأحوص عن سماك: وذكر أن الرسول b قال لها: " إن الماء لا يجنب " كما عند أبي داود (68) والترمذي (60) وابن ماجه (370) وابن حبان (1261) .
وأبو الأحوص ثقة متقن كما في التقريب، ولكن جاء الحديث من طريق أبي الأحوص أيضاً بما يوافق رواية الجماعة، كما في صحيح ابن حبان (1241) والطبراني (11716) أن الرسول b قال لها: " إن الماء لا ينجسه شيء " وفي لفظ الطبراني " إن الماء لا ينجس ".
ورواه شريك، عن سماك بالشك، إن الماء ليس عليه جنابة، أو قال: إن الماء لا ينجس.
وشريك سيء الحفظ، وخالف في إسناده كما سبق بيانه عند الكلام على إسناد الحديث انظر (10) .
فيكون المحفوظ من الحديث قوله: إن الماء لا ينجس؛ خاصة إذا علمنا أيضاً أن للحديث شاهداً من حديث أبي سعيد والله أعلم.
وهل هناك فرق بين اللفظتين بين قوله b: إن الماء لا يجنب، وبين قوله b: "إن الماء لا ينجسه شيء "؟
الجواب: نعم قول الرسول b: " إن الماء لا ينجسه شيء " أعم من قوله: " إن الماء لا يجنب "؛ لأن قوله b: " لا يجنب " أي لا تنتقل إليه الجنابة، والجنابة ليست نجاسة، بخلاف " إن الماء لا ينجسه شيء " هذا فرق، وحتى ولو لم يكن هناك فرق فإن ضبط اللفظ النبوي عبادة، والله أعلم.
فالخلاصة أن الحديث باغتسال النبي b من فضل وضوء المرأة لا يثبت من حديث ابن عباس؛ لأنه جاء من طريق سماك بن حرب، عن عكرمة، وروايته مضطربة، كما أن فيه اختلافاً في وقفه ورفعه، وسماك قد نص العلماء أنه يرفع أحاديث عكرمة عن ابن عباس، فيجعلها عن النبيb.
قال أبو داود في مسائله لأحمد (ص: 440) رقم 2016: سمعت أحمد قال: قال شريك: كانوا يلقنون سماكاً أحاديثه عن عكرمة، يلقنونه عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس. اهـ
ولفظ: إن الماء لا ينجس قد ثبت من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.(1/280)
دليل من قال: لا يغتسل بفضل المرأة.
الدليل الأول:
(74) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي،
عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي b أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله b "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن(1/281)
يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (4/111) .
(2) الحديث أخرجه أبو داود (81) حدثنا مسدد، ومن طريق مسدد أخرجه الطحاوي (1/24) وأخرجه النسائي (238) أخبرنا قتيبة كلاهما عن أبي عوانة به.
وأخرجه أحمد (4/110،111) ، وأبو داود (28،81) والحاكم (1/168) ، والبيهقي (1/98،190) من طريق زهير، عن داود بن عبد الله الأودي به.
إلا أن الحاكم قال: أظنه عن أبي هريرة، وهذا وهم، فإن الحديث صريح بأن الصحابي صحب النبي b كما صحبه أبو هريرة.
قال البيهقي: وهذا الحديث رواته ثقات، إلا أن حميداً لم يسم الصحابي الذي حدثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد، لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله. اهـ
فتعقبه الحافظ في الفتح (1/300) قائلاً: " ولم أقف لمن أعله حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة؛ لأن إيهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه. اهـ
وقال مثله ابن عبد الهادي في التنقيح (1/217) والنووي في المجموع (2/222) ، وقال: صحيح الإسناد.
وضعفه ابن حزم، وظن داود بن عبد الله الأودي هو داود بن يزيد الأودي عم عبدالله بن إدريس.
قال ابن عبد الهادي: وقد تكلم ابن حزم على هذا الحديث بكلام أخطأ فيه، ورد عليه ابن حزم مفوز وابن القطان وغيرهما، وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث. اهـ
وقال الحافظ في الفتح (1/300) : ودعوى ابن حزم أن داود - راويه عن حميد بن عبدالرحمن - هو ابن يزيد الأودي دعوى ضعيفة مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي، وهو ثقة. اهـ
وممن ضعف هذا الحديث وغيره من أحاديث الباب الإمام أحمد كما في فتح الباري (1/300) فإنه قال: إن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به ". وهذا ظاهره إعلال كل ما ورد في الباب من منع أو جواز، وهذا ما جعلني أقول رجاله ثقات بدلاً من قولي: إسناده صحيح، والله أعلم.(1/282)
الدليل الثاني:
(75) ما رواه أحمد، قال: ثنا سليمان بن داود، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم بن عمرو الغفاري،
أن رسول الله b نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة (1) .
[رجاله ثقات، وقد أعل بالوقف] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (5/66) ، ومن طريق أحمد أخرجه ابن الجوزي في التحقيق (1/46) رقم21.
(2) الحديث أخرجه أبو داود السجستاني (82) والترمذي (64) وابن ماجه (373) ، والبيهقي (1/191) عن محمد بن بشار.
والنسائي (343) أخبرنا عمرو بن علي، ومن طريق عمرو بن علي أخرجه ابن حبان كما في موارد الظمآن (224) .
والدارقطني (1/53) من طريق زيد بن أخزم، جميعهم عن أبي داود الطيالسي به.
وأخرجه الترمذي (64) قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود به. إلا أنه شك فيه، هل قال نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة أو قال بسؤرها؟
ورواه يونس بن حبيب كما في مسند أبي داود الطيالسي (1252) والبيهقي (1/191) عن أبي داود الطيالسي به، إلا أنه أبهم صحابيه، فقال: سمعت أبا حاجب يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله b أن النبي b نهى أن يتوضأ من فضل وضوء المرأة.
وتابع أبا دواد الطيالسي جماعة: منهم الربيع بن يحيى الأشناني عن الطبراني في الكبير (3156) بلفظ أبي داود الطيالسي.
وعبد الصمد عند أحمد (4/213) والبيهقي (1/191) بلفظ: نهى أن يتوضأ بفضلها، لا يدرى بفضل وضوئها أو فضل سؤرها.
ووهب بن جرير عند أحمد (4/213) ، والبيهقي (1/191) . بلفظ: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة. زاد البيقهي: وكان لا يدري عاصم فضل وضوئها، أو فضل شرابها.
هذا الشك من عاصم، وتارة يكون الشك من أبي حاجب.
فقد أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/24) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن شعبة به، بلفظ: نهى رسول الله b أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو بسؤر المرأة لا يدري أبو حاجب أيهما قال.
وتوبع شعبة في هذا الحديث، تابعه كل من: سليمان التيمي وقيس بن الربيع.
فقد أخرجه أحمد (5/66) قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا سليمان التيمي، عن أبي حاجب، عن رجل من أصحاب النبي b من بنى غفار أن النبي b نهى أن يتوضأ الرجل من فضل طهور المرأة.
وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات.
وأخرجه الترمذي (63) والطبراني في الكبير (3157) من طريق وكيع.
والبيهقي (1/191) من طريق يزيد بن زريع كلاهما عن سليمان التيمي به.
وأما متابعة قيس بن الربيع، فقد أخرجها الطبراني في الكبير (3155) من طريق قيس، عن عاصم به، نهى رسول الله b عن سؤر المرأة.
كلام أهل العلم في الحديث:
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
قال الترمذي في العلل (1/134) : سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: ليس بصحيح.
وقال الإمام أحمد كما في فتح الباري (1/300) : إن الأحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة، وفي جواز ذلك مضطربة، لكن صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به ".
وقال الإمام أحمد أيضاً كما في التنقيح (1/215) قال الأثرم: قال أبو عبد الله يضطربون فيه عن شعبة، وليس هو في كتاب غُنْدَر، وبعضهم يقول: عن فضل سؤر المرأة، وبعضهم يقول: فضل وضوء المرأة فلا يتفقون عليه. اهـ.
وقال الدارقطني في سننه (1/53) : أبو حاجب اسمه سوادة بن عاصم، واختلف عنه، فرواه عمران بن حدير وغزوان بن حجير السدوسي عنه موقوفاً من قول الحكم، غير مرفوع إلى النبي b.
قلت: رواية عمران بن حدير في مصنف ابن أبي شيبة (355) قال: حدثنا وكيع، عن عمران بن حدير، عن سوادة بن عاصم، قال:
انتهيت إلى الحكم الغفاري، وهو بالمربد، وهو ينهاهم عن فضل طهور المرأة، فقلت: ألا حبذا صفرة ذراعيها، ألا حبذا كذا!! فأخذ شيئاً فرماه به، وقال: لك ولأصحابك. وهذا إسناد صحيح.
فالحديث علته والله أعلم الاختلاف في رفعه ووقفه، وأما كون الحديث ورد مرة بسؤر المرأة، ومرة بفضل المرأة، ومرة بالشك، هل يريد فضل شرابها أم فضل سؤرها، فممكن الجمع بين هذه الروايات.
فرواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، رواه عن أبي داود ثلاثة:
1- محمد بن بشار، ويونس بن حبيب. وهذان متفقان على لفظ: فضل طهور المرأة.
ورواه محمود بن غيلان عن أبي داود بالشك: بفضل طهور المرأة، أو قال سؤرها.
والشك هنا من محمود، فيطرح الشك؛ لأنه قد رواه ثقتان عن أبي داود بدون شك.
وروى الحديث عبد الصمد، عن شعبة كما في مسند الإمام أحمد (4/213) ولفظه: " نهى رسول الله b أن يتوضأ بفضلها، لا يدري بفضل وضوئها أو فضل سؤرها ".
وهنا الشك ليس في اللفظ النبوي، لأن اللفظ النبوي " نهى رسول الله b أن يتوضأ بفضلها ". هذا اللفظ النبوي ليس فيه شك. وإنما الشك في تفسير الراوي لفضل المرأة ما هو؟
والتفسير من قبل الراوي قد يصيب وقد يخطيء وإذا كان عبد الصمد في تفسيره لم يجزم فالروايات الأخرى تقضي على الشك.
وأما رواية وهب بن جرير عن شعبة عند أحمد: نهى أن يتوضأ الرجل من سؤر المرأة.
ولنا في هذه الرواية إما الجمع أو الترجيح، والجمع أولى بأن يقال: المراد بالسؤر هنا: هو فضل الطهور، لا فضل الشراب؛ لأن السؤر أصله: البقية من كل شيء، وهنا المراد البقية من طهورها كما في سائر الروايات الأخرى.
وإن قلنا بالترجيح، فلا شك أن لفظ (فضل المرأة) أكثر طرقاً من لفظ (سؤر المرأة) والله أعلم.(1/283)
الدليل الثالث:
(76) حدثنا محمد بن يحيى، ثنا المعلى بن أسد، ثنا عبد العزيز بن المختار، ثنا عاصم الأحول،
عن عبد الله بن سرجس، قال: نهى رسول الله b أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعاً.
[المحفوظ وقفه على عبد الله بن سرجس] (1) .
_________
(1) الحديث أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/24) من طريق محمد بن خزيمة. والدارقطني (1/116) من طريق أبي حاتم الرازي. وابن حزم في المحلى (1/212) من طريق على بن عبد العزيز، ثلاثتهم عن معلى بن أسد به.
وأخرجه أبو يعلى (1564) ، والبيهقي (1/192) من طريق إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد العزيز بن المختار به.
وخالف شعبة عبد العزيز بن المختار، فرواه عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس، موقوفاً عليه.
أخرجه الدراقطني (1/117) من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس موقوفاً عليه، بلفظ: تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها. قال الدارقطني: هذا موقوف صحيح، وهو أولى بالصواب. وتبعه البيهقي في سننه (1/192) .
وقال البخاري عن حديث عبد الله بن سرجس: الصحيح أنه موقوف، ومن رفعه فهو خطأ. سنن البيهقي (1/192) .
وقال ابن ماجه: الصحيح الأول - يعني: حديث شعبة، عن عاصم، عن أبي حاجب، عن الحكم بن عمرو - والثاني وهم. يعني حديث عاصم، عن عبد الله بن سرجس.
وقد لحظ ابن ماجه رحمه الله أن مخرج الحديثين واحد، وهو عاصم الأحول، فشعبة يجعله من مسند الحكم، وعبد العزيز بن المختار يجعله من مسند عبد الله بن سرجس، وشعبة أرجح من عبد العزيز بن المختار، لكن يعكر على هذا أن شعبة رواه عن عاصم، عن عبد الله ابن سرجس موقوفاً عليه، فيبعد الوهم المطلق، وإنما الوهم في الرفع فقط، كما رجح ذلك البخاري والدارقطني والبيهقي، والله أعلم.(1/286)
الجمع بين حديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة، وحديث ابن عباس أن النبي b توضأ بفضل ميمونة.
أجاب المانعون بأحد جوابين:
الأول: قالوا: إن حديث ابن عباس غير محفوظ: " أن النبي b توضأ بفضل ميمونة، وأن المحفوظ ما جاء في الصحيحن من كون الرسول b يغتسل هو وميمونة من إناء واحد (1) .
_________
(1) الحديث مداره على عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس.
واختلف على عمرو بن دينار، فرواه ابن جريج كما في مصنف عبد الرزاق (1037) وأحمد (1/366) ومسلم (323) ، وابن خزيمة (108) ، والدارقطني (1/53) ، والبيهقي (1/188) ، عن عمرو بن دينار، قال علمي والذي يخطر على بالي، أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره أن النبي b كان يغتسل بفضل ميمونة.
وخالفه سفيان بن عيينة، فرواه عبد الرزاق في المصنف (1032) وابن أبي شيبة (368) ، والحميدي (1/148) ، والشافعي في مسنده (ص: 9) وأحمد (6/329) ، والبخاري (250) ، ومسلم (322) ، والترمذي (62) ، والنسائي في الصغرى (236) ، وفي الكبرى (238) ، وابن ماجه (377) ، وأبو يعلى (7080) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/25) ، والبيهقي (1/188) من طرق، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، عن ميمونة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله b من إناء واحد. وجعله البخاري من مسند ابن عباس. فيكون على هذا قد اختلف على ابن عيينة
فرواه عنه الحميدي، وأحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وقتيبة بن سعيد والشافعي، وابن أبي عمر، ويحيى بن موسى، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، كلهم رووه عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، فجعلوه من مسند ميمونة، كما سبق.
وخالفهم أبو نعيم، عند البخاري. قال البخاري (253) حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد - وهو أبو الشعثاء - عن ابن عباس أن النبي b وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. قال البخاري: كان ابن عيينة يقول أخيراً، عن ابن عباس عن ميمونة، والصحيح ما روى أبو نعيم.
وقد يقال: إن الصحيح رواية الجماعة، خاصة أن فيهم من هو من أخص أصحاب سفيان كالحميدي، وفيه أئمة حفاظ كالإمام أحمد وابن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد وغيرهم.
قال الحافظ في الفتح: إنما رحج البخاري رواية أبي نعيم جرياً على قاعدة المحدثين، لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع، لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الأخرين من جهة أخرى من وجوه الترجيح وهي كونهم أكثر عدداً وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى: وهي كون ابن عباس لايطلع على النبي b في حالة اغتساله مع ميمونة فيدل على أنه أخذه عنها، والله أعلم.
وقد أشار الحافظ إلى تعليل الحديث، وحكم عليه بالشذوذ، قال في الفتح (1/359) : " أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار، حيث قال: علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني... فذكر الحديث. وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد لكن راويها غير ضابط وقد خولف. والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ أن النبي b وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. اهـ
وقد جاء عند أحمد زيادة في المتن قال ابن جريج بعد أن ساق الحديث بالغسل من فضل ميمونة، قال: وذلك أني سألته عن إخلاء الجنبين جميعاً. وفي أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر (3/46) عن اختلاء بدلاً من إخلاء. وفي مصنف عبد الرزاق: وذلك أني سألته عن الجنبين يغتسلان جميعاً. وهذا قد يرجح قول ابن حجر بأن المحفوظ أنه كان b يغتسل هو وميمونة من إناء واحد؛ لأنه بهذا اللفظ يكون الحديث أكثر مطابقة للسؤال من أنه كان يغتسل بفضلها.(1/287)
الجواب الثاني:
قالوا: حديث أن النبي b توضأ بفضل ميمونة يحتمل أن يكون مع المشاهدة. ولذلك يشترطون أن تخلو به المرأة لطهارة كاملة. ومعنى تخلو به عندهم ليس معناه أن تنفرد به ولكن معناه ألا يشاهدها مميز أثناء الطهارة (1) .
_________
(1) تنقيح التحقيق (1/220) ، المنتقى (1/12) ح 16.(1/288)
وهذا الكلام عليه مأخذان.
الأول: أنه يبعد أن تشاهد المرأة وهي تغتسل من الجنابة.
الثاني: أن اشتراط ألا يشاهدها أحد ليس ظاهراً من الحديث، ولكن يكون الماء فضلها إذا انفردت باستعماله.. ولذا جاء في الحديث "وليغترفا جميعا " ولو كان مجرد المشاهدة يؤثر ما أرشد إلى الاغتراف جميعاً، وكان ممكن أن يقول نهى أن يتوضأ الرجل بما خلت به المرأة، وكان ممكن أن يقول: ولتغترف عند أحد.
القول الثاني في الجمع بين الحديثين:
أن النهي محمول على الكراهة، والفعل دال على الجواز (1) ، وهذا هو الراجح على القاعدة الأصولية التي تقول: إن فعل النبي b لا يعارض قوله.
فإذا أمر بشيء وتركه دل ذلك على أن الأمر للاستحباب، وإذا نهى عن شيء وفعله دل على أن النهي للكراهة. إلا إذا جاءنا دليل خاص يدل على أن مخالفة النبي b خصوصية له فيبقى الأمر على أصله للوجوب، والنهي عن أصله للتحريم، وليس عندنا دليل على أن النبي b حين اغتسل بفضل ميمونة أن هذا الحكم خاص به، بل عندنا دليل على أنه عام بدليل أن الرسول b علل الحكم بقوله " إن الماء لا ينجسه شيء " أو على اللفظ المرجوح " إن الماء لا يجنب " ولم يقل إني لست كهيئتكم كما قال ذلك عند الوصال في الصيام.
_________
(1) شرح الزركشي (1/301) ، وذكر أنه اختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وإليها ميل المجد في المنتقى.(1/289)
القول الثالث في الجمع:
حملوا النهي عن فضل وضوء المرأة من الجنب والحائض وأما إذا كانت طاهراً فلا بأس به (1) .
(77) فقد روى مالك في الموطأ (2) ، وعنه عبد الرزاق (3) ، من طريق نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا بأس أن يغتسل بفضل المرأة ما لم تكن جنباً أو حائضاً
أخرجه ابن أبي شيبة من طريق أيوب عن نافع به (4) .
وهذا القول ضعيف:
لأن اشتراط أن تكون المرأة حائضاً أو جنباً لم يرد في شيء من الأحاديث.
وقد قال b لعائشة وهي حائض: " إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم (5) .
فإذا كانت حيضتها ليست في يدها فهي كذلك ليست في وجهها ولا في رأسها ولا في قدمها ولا في شيء من أعضائها سوى مكان الأذى. فلا دليل على اشتراط الحيض أو الجنابة، وبدن الجنب، وبدن الحائض سوى مكان الأذى لا فرق بينه وبين غيره إلا أن هذا محدث وهذا غير محدث.
_________
(1) معالم السنن (1/80) .
(2) الموطأ (2/52) .
(3) المصنف (1/701) .
(4) المصنف (1/38) رقم 347.
(5) رواه مسلم (298) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.(1/290)
القول الرابع في الجمع:
قيل: إن النهي عن استعمال ما تقاطر من أعضائه عند التطهر، والجواز وارد على ما بقى في الماء من الإناء.
وهذا القول قدمه الخطابي ورجحه على غيره في معالم السنن (1) ، وهذا القول أيضاً ضعيف. فما كان من شأن الصحابة أن يجمعوا ما تقاطر من أعضائهم لاستعماله مرة أخرى حتى يفرق بين ما استعملته المرأة وبين ما استعمله الرجل.
فالراجح أن النهي لا يثبت، والقول بعدم الكراهة أقوى، وإذا كان الإمام أحمد يقول: إن المسألة ليس فيها حديث ثابت، وإنما العمل بقول بعض الصحابة، فالجواب أن الصحابة مختلفون، وابن عباس يرى جواز الوضوء من فضل المرأة، وابن عمر لا يرى به بأساً إلا من الحائض والنفساء، وإذا كان الصحابة مختلفين كان السبيل طلب الترجيح من جهة الدليل. ولا دليل يسلم في المسألة.
وإذا كان سؤر بهيمة الأنعام لا يمنع من الوضوء منه، بل ولا الهرة مع أن طهارتها لعلة التطواف، وإلا فالأصل نجاستها، فسؤر المرأة أولى بالجواز، وانظر إلى فقه ابن عباس حين قال: هي ألطف بناناً وأطيب ريحاً، ولو كان في المسألة نص سالم من النزاع لم أعارضه بالفهم القاصر، ولكن ما دامت النصوص لم تثبت، والصحابة مختلفون فينظر في أقربها للحق.
_________
(1) معالم السنن (1/80) .(1/291)
[صفحة فارغة](1/292)
الفصل الثالث
في الوضوء بفضل الرجل
ذكرنا في ما سبق الخلاف في الوضوء بفضل المرأة، وعلمنا أن قول الجمهور جواز الوضوء بفضل المرأة، والذي منع من الوضوء بفضل المرأة هم الحنابلة (1) ، وابن حزم (2) ، كما سبق، ولا شك أن الذي أجاز الوضوء بفضل المرأة أجاز الوضوء بفضل الرجل من باب أولى، ولم يمنع الحنابلة وابن حزم (3) ، الوضوء بفضل الرجل، مع منعهم الوضوء بفضل المرأة، وقد حكي فيه الإجماع، نقله جماعة من أهل العلم.
قال ابن عبد البر: لا بأس بفضل وضوء الرجل المسلم يتوضأ منه، وهذا كله في فضل طهور الرجل إجماع من العلماء والحمد لله (4) .
وقال النووي رحمه الله: واتفقوا على جواز وضوء الرجل والمرأة بفضل الرجل.
وقال أيضاً: لا نعلم أحداً من أهل العلم منعها- أي المرأة - فضل
_________
(1) انظر العزو إلى كتبهم في المسألة السابقة.
(2) المحلى (1/204) .
(3) قال المرداوي في الإنصاف (1/51) : مفهوم قوله " امرأة " أن الرجل إذا خلا به لا تؤثر خلوته منعاً، وهو صحيح، وهو المذهب. وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم. ونقله الجماعة عن أحمد. وحكاه القاضي وغيره إجماعاً. وذكر ابن الزاغوني عن الأصحاب وجهاً بمنع النساء من ذلك. قال في الرعاية: وهو بعيد. وأطلقهما ناظم المفردات. اهـ
وقال ابن حزم في المحلى (1/204) : أما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده، ولم نجده صحيحاً. اهـ
(4) التمهيد (1/218) .(1/293)
الرجل (1) .
وقال أيضاً: وأما تطهير المرأة بفضل الرجل فجائز بالإجماع أيضاً (2) .
ومع نقل الإجماع إلا أن الحديث الوارد قد جمع النهي عن الوضوء بفضل الرجل كما نهى عن الوضوء بفضل المرأة، فإن صح الإجماع فذاك، (78) وإلا فلينظر في الحديث، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي،
عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي b أربع سنين، كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله b "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً (3) .
وهذا حديث رجاله ثقات، وما حكي من الإجماع فينظر في صحة دعواه، فإن صح كان دليلاً لقول الإمام أحمد في تضعيف النهي عن الوضوء بفضل المرأة، لأنه لا يمكن أن ينهى الرسول b أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة، ويسوي الحديث بينهما في النهي، ثم ينقل الإجماع على عدم النهي عن وضوء المرأة بفضل الرجل إلا إذا كان النهي الوارد لا يثبت عن الرسول b، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/221،222) .
(2) شرح صحيح مسلم (4/2) .
(3) مسند أحمد (4/111) ، وسبق تخريجه.(1/294)
الباب السابع
في الشك والاشتباه(1/295)
[صفحة فارغة](1/296)
الفصل الأول
في حكم الماءونحوه إذا كان مشكوكاً فيه
ينبغى أن يعلم أنه ليس في الشريعة شىء مشكوك فيه البتة، وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض أمارتين فصاعدا، فتصير المسألة مشكوكا ً فيها بالنسبة إليه، فهى شكية عنده، وربما تكون ظنية عند غيره، وقطعية عند آخرين، فكون المسألة شكية أو ظنية أو قطعية ليس وصفاً ثابتاً لها، وإنما هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف (1) .
وينبغي أن يعلم أن مراد كثير من الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشىء وعدمه، سواء كان الطرفان في التردد سواء، أو أحدهما راجحاً، فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه، وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما.
فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم (2) .
وقد يجتمع في هذه المسائل أصل وظاهر، وذلك نحو آنية الكفار المتدينين باستعمال النجاسة، وثياب القصابين، والصبيان الذين لا يتقون النجاسة
فقيل: إنه محكوم بنجاستها عملاً بالظاهر.
وقيل: إنه محكوم بطهارتها عملاً بالأصل.
وقد يترجح الظاهر في بعض المسائل على الأصل فيؤخذ به، وقد يقدم
_________
(1) بدائع الفوائد (3/271) .
(2) حاشية الدسوقي (1/124) ، والمجموع (1/220) .(1/297)
الأصل، وقد يستوى الظاهر والأصل، وهذا هو السبب في عدم طرد فروع هذه المسائل عند بعض المذاهب (1) .
إذا عرفنا هذا فقد اختلف العلماء في حكم الشيء إذا تيقن طهارته أو نجاسته، وشك في نقيض ذلك.
فقيل: يبني على اليقين، وهو مذهب الحنفية (2) ،
والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
_________
(1) المجموع بتصرف (1/285،259) ، روضة الطالبين (1/146،147) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/186) ، المبسوط (1/146،147) و (30/28) ، بريقة محمودية (4/212) .
وهناك مسائل قد يعمل الأحناف بالظاهر ويقدمونه على الأصل لقرينة، فقد جاء فى المبسوط (1/86) : المتوضئ إذا تذكر أنه دخل الخلاء لقضاء حاجة وشك أنه خرج قبل أن يقضيها أو بعد ما قضاها فعليه أن يتوضأ؛ لأن الظاهر من حاله أنه ماخرج إلابعد قضائها، وكذلك المحدث إذا علم أنه جلس للوضوء ومعه الماء، وشك فى أنه قام قبل أن يتوضأ، أوبعد ما توضأ فلا وضوء عليه؛ لأن الظاهر أنه لايقوم حتى يتوضأ، والبناء على الظاهر واجب مالم يعلم خلافه " فهنا قدموا العمل بالظاهر على العمل بالأصل والمتيقن لأن الظاهر قد يقوى فيترجح على الأصل وقد يتعارضان بلا ترجيح وقد يضعف الظاهر فيقدم الأصل، والله أعلم.
(3) المجموع (1/219) ، كفاية الأخيار (1/72) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/42) ، شرح البهجة (1/145) ، أسنى المطالب (1/58) ، روضة الطالبين (1/77) .
(4) يقول ابن رجب في القواعد (ص: 339،340) : " إذا تيقن الطهارة أو النجاسة في ماء أو ثوب أو أرض أو بدن وشك في زوالها فإنه يبني على الأصل إلى أن يتيقن زواله، ولا يكتفي في ذلك بغلبة الظن ولا غيره، وكذلك لو تيقن حدثاً أو نجاسة، وغلب على ظنه زوالها فإنه يبني على الأصل، وكذلك في النكاح والطلاق وغيرهما. وانظر الإنصاف (1/221) ، شرح منتهى الإرادت (1/75) ، كشاف القناع (1/132) ، المغني (1/126) . إلا أن الحنابلة لم يطرد هذا الأصل عندهم، فهناك مسائل قالوا يعمل باليقين، ولا يلتفت إلى غلبة الظن لو وجد. وهناك مسائل قالوا: يكتفى فيها بغلبة الظن.
ومن المسائل التى قالوا: لابد فيها من اليقين، منها هذه المسائل التى مرت معنا. وهى إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث أو العكس. ومنها اشتباه الماء الطهور بالنجس أو بلفظ أعم: اشتباه المحرم بالحلال، ومنها لوشك فى طلوع الفجر فإنه يأكل حتى يستيقن، ومنها لوشك فى عدد الطلاق أو الرضعات، أوشك فى عدد الطواف أو السعى أو الرمي كل ذلك يعمل باليقين ويطرح الشك ولاينظر إلى غلبة الظن.
وهناك مسائل قالوا: يكفى فيها غلبة الظن، كالاجتهاد في تحري القبلة، وكالمستجمر إذا أتى بالعدد المعتبر، ومنها الغسل من الجنابة يكفى فيه الظن بالإسباغ، ومنها إذا شك فى صلاته فإنه يأخذ بالمتيقن مع إمكان غلبة الظن ومنها مسائل كثيره ذكرها ابن اللاحام فى القواعد والفوائد الأصوليه فلتراجع (ص: 5-15) ، وأما ابن تيمية فقد طرد القاعدة، فيرى أنه إذا تعذر اليقين رجع إلى غلبة الظن في عامة أمور الشرع. انظر القواعد والفوائد الأصولية (ص: 4) .(1/298)
وقيل: يختلف الشك في الماء، عن الشك في نجاسة الثوب، عن الشك في الحدث، والشك في الحدث يختلف في داخل الصلاة، عنه في خارجها، وهذا مذهب المالكية وإليك بيان مذهبهم في هذه المسائل.
إذا شك في نجاسة الثوب ونحوه وجب نضحه (1) .
وإذا شك في نجاسة البدن وجب غسله (2) .
وإذا شك في حصول الحدث، ففيه قولان:
فقيل: ينقض مطلقاً، وهو رواية ابن القاسم عن مالك.
وقيل: الشك ينقض الوضوء خارج الصلاة، ولا ينقض داخلها، وهو
_________
(1) قال الدسوقي في حاشيته (1/81) : " يجب غسل النجاسة في حالتين: إذا تحققت النجاسة، أو ظنها ظناً قوياً، ويجب النضح في حالتين: إذا شك في إصابة النجاسة أو ظنها ظناً ضعيفاً. اهـ وانظر مختصر خليل (ص: 9) ، الخرشي (1/116) ، البيان والتحصيل (1/85) .
(2) البيان والتحصيل (1/81) .(1/299)
المشهور من مذهب المالكية (1) ، ونسب هذا القول للحسن رحمه الله (2) .
وروى ابن نافع عن مالك أنه لا وضوء عليه مطلقاً كالجمهور (3) .
وأما مذهب المالكية في الشك في الماء، فيعمل بالأصل، وهو الطهارة كمذهب الجمهور (4) .
_________
(1) جاء في تهذيب المدونة (ص: 181) : " ولو أيقن بالوضوء، ثم شك في الحدث، فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا، فليعد وضوءه".اهـ
وقال الخرشي في شرحه (1/157) : من شك في طريان الحدث له بعد علمه بطهر سابق، فإن وضوءه ينتقض إلا أن يكون مستنكحاً بأن يشم في كل وضوء أو صلاة أو يطرأ له في اليوم مرة أو أكثر فلا أثر لشكه الطارئ بعد علم الطهر، ولا يبني على أول خاطر به على ما اختاره ابن عبد السلام؛ لأن من هذه صفته لا ينضبط له الخاطر الأول من غيره، والوجود يشهد لذلك، وإن كان ابن عرفة اقتصر على بنائه على ذلك، وكلام المؤلف فيمن حصل له الشك في طرو الحدث قبل الدخول في الصلاة بخلاف من شك في طرو الحدث في الصلاة أو بعدها فلا يخرج منها ولا يعيدها إلا بيقين؛ لأنه شك طرأ بعد تيقن سلامة العبادة. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/301) ، الثمر الداني (1/200) ، القوانين الفقهية (ص: 21) ، حاشية العدوي (1/431) .
(2) المغني (1/126) .
(3) فتح الباري (1/238) .
(4) قال الباجي في المنتقى (1/59) : " إن وجد مريد الطهارة الماء متغيراً، ولم يدر من أي شيء تغير، أَمِنْ معنى يمنع التطهر به، أم مِنْ معنى لا يمنع ذلك؟ فإنه ينظر إلى ظاهر أمره، فيقضي عليه به، فإن لم يكن له ظاهر، ولم يدر من أي شيء هو حمل على الطهارة، روى ذلك ابن القاسم في المجموعة. اهـ
وقال في الفواكه الدواني (1/125) : لو تحققنا تغير الماء، وشككنا في المغير له، هل هو من جنس ما يضر أم لا؟ فهو طهور حيث استوى طرفا الشك، وإلا عمل على الظن، بخلاف ما لو تحققنا التغير وعلمنا أن المغير مما يضر التغير به وشككنا في طهارته ونجاسته فلا يكون طهوراً بل هو طاهر فقط. اهـ(1/300)
دليل الجمهور.
الأصل العظيم، أن اليقين لا يزول بالشك، فمن تيقن الطهارة وشك بالحدث، أو تيقن النجاسة وشك في الطهارة، بنى على اليقين، وهذا الأصل له أدلة شرعية صحيحة.
دليل المالكية على وجوب النضح إذا شك في طهارة الثوب.
(79) ما رواه مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في ركب فيهم عمرو بن العاص، وأن عمر بن الخطاب عرس ببعض الطريق قريباً من بعض المياه، فاحتلم عمر، وقد كاد أن يصبح فلم يجد مع الركب ماء، فركب حتى جاء الماء، فجعل يغسل ما رأى من ذلك الاحتلام حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب، فدع ثوبك يغسل. فقال عمر بن الخطاب: واعجباً لك يا عمرو بن العاصي، لئن كنت تجد ثياباً أفكل الناس يجد ثياباً، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت، وأنضح ما لم أر (1) .
[إسناده منقطع] (2) .
وجه الاستدال:
لا شك أن النضح هنا هو الرش، بدليل قوله: " اغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. فجعل النضح غير الغسل.
_________
(1) الموطأ (1/50) .
(2) انظر تخريجه في باب السؤال عن الماء.(1/301)
قال ابن عبد البر في الاستذكار: ولا خلاف بين العلماء أن النضح فى حديث عمر هذا معناه الرش، وهو عند أهل العلم طهارة ماشك فيه، كأنهم جعلوه دفعاً للوسوسة.
ثم قال بعد: فمن استيقن حلول المني في ثوبه غسل موضعه منه
إذا اعتقد نجاسته، كغسله سائر النجاسات على ما قد بينا، وإن لم يعرف موضعه غسله كله، فإن شك هل أصاب ثوبه شيء منه أم لا؟ نضحه بالماء على ما وصفنا، وعلى هذا مذهب الفقهاء كما ذكرنا.
قلت: هذا الاستدلال فيه نظر بين، لأنه مبني أولاً على نجاسة المني والدليل خلافه، ومبني أيضاً على أن فعل عمر يدل على الوجوب، وإذا كان فعل الرسول b المجرد لا يدل على الوجوب فكيف بفعل غيره (1) .
الدليل الثاني على وجوب النضح.
(80) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة،
عن أنس بن مالك، أن جدته مليكة دعت رسول الله b لطعام صنعته له، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصل لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس، فنضحته بماء، فقام رسول الله b وصففت واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله b ركعتين، ثم انصرف (2) .
والجواب أن النضح هنا ليس عن نجاسة؛ إذ لو كان عن نجاسة لانتشرت
_________
(1) الاستذكار (1/115) .
(2) البخاري (380) ، ومسلم (658) .(1/302)
النجاسة بالنضح، ولكن النضح ليلين الحصير لاستعماله، وقد نقل ابن عبد البر مثل ذلك عن إسماعيل بن إسحاق من المالكية (1) ، وهو الراجح؛ لأن ثوب المسلم ونحوه محمول على طهارته، ولا يؤثر الشك فيه حتى تستيقن النجاسة.
دليل المالكية على وجوب الغسل إذا شك في نجاسة البدن.
(81) استدلوا بما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق،
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (2) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول b أمر بغسل اليد للشك في نجاستها، فهذا يقتضي وجوب غسل البدن إذا شك في نجاسته.
قالوا: وإنما لم نقل بالنضح؛ لإن النضح خلاف القياس، فيقتصر فيه على ما ورد، وهو الحصير والثوب والخف، وجعل ابن رشد هذا القول هو المذهب (3) .
وقد ناقشت الحديث فيما سبق، وبينت العلة من الأمر، وأنها ليست
_________
(1) الاستذكار (1/153) .
(2) صحيح مسلم (278) ، وانظر صحيح البخاري (162) .
(3) البيان والتحصيل (1/81) .(1/303)
للنجاسة، ولو كان الغسل من النجاسة لكفى في ذلك غسلة واحدة، كما في نجاسة دم الحيض يصيب الثوب.
وأما دليل المالكية على أن الشك في الحدث ينقض الطهارة.
قالوا: إنما أوجب الوضوء بالشك؛ لأن الطهارة شرط، والشك في الشرط مؤثر، بخلاف الشك في طلاق زوجته، أو عتق أمته، أو شك في الطهارة أو الرضاع لا يؤثر؛ لأنه شك في المانع، وهو لا يؤثر، وإنما أثر في الشرط دون المانع، لأن العبادة محققة في الذمة فلا تبرأ منها إلا بطهارة محققة، والمانع يطرأ على أمر محقق وهو الإباحة أو الملك من الرقيق، فلا تنقطع بأمر مشكوك فيه (1) .
وأما وجه الفرق بين الحدث داخل الصلاة وخارج الصلاة.
(82) فقد أخذوا ذلك من ظاهر الحديث، فقد روى البخاري، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب (ح) وعن عباد بن تميم،
عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله b الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً، ورواه مسلم (2) .
فأمره الرسول b إذا شك في الصلاة أن يستمر فيها، ولا ينصرف عنها إلا بيقين، قالوا: وأما إذا شك خارج الصلاة، فالحكم مختلف، فيلزمه أن
_________
(1) الفواكه الدواني (1/237) .
(2) صحيح البخاري (137) ، ومسلم (361) .(1/304)
يأتي بالطهارة بيقين.
قال الدسوقي في حاشيته: من شك، وهو في الصلاة طرأ عليه الشك فيها بعد دخوله، فوجب أن لا ينصرف عنها إلا بيقين، ومن شك خارجها طرأ عليه الشك في طهارته قبل الدخول في الصلاة، فوجب أن لا يدخلها إلا بطهارة متيقنة (1) .
قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: إن كان ناقضاً خارج الصلاة فينبغي أن يكون كذلك في الصلاة كبقية النواقض (2) .
هذا محصل مذهب مالك في الشك سواء كان في الماء أم في الثوب، أم في البدن، أم في الحدث، وله تفصيل في كل مسألة، ومذهبه لا يطرد، وما كان قولاً له موافقاً للجمهور تركت ذكر دليله اكتفاء بذكر دليل الجمهور، وما خالف فيه ذكرت وجه الدليل عنده. والله أعلم.
الراجح من هذه الأقوال قول الجمهور، وهو العمل باليقين، إلا أني أرى إن أمكن العمل بالظن عمل به، فإنه إذا كان هناك ظن راجح أخذ به، لأننا تعبدنا بالظن إذا تعذر اليقين، إلا في مسألة الماء إذا شك في طهارته أو نجاسته، فإن هذه المسألة نادرة الوقوع خاصة إذا رجحنا أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فإن تغير الماء حكمنا عليه بالنجاسة وهو أمر محسوس مشاهد، وإن لم يتغير فهو طهور، والله أعلم.
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/124) .
(2) فتح الباري (1/238) .(1/305)
[صفحة فارغة](1/306)
الفصل الثاني
إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس
إذا اشتبه الماء الطهور بالماء النجس، كما لو كان هناك أواني فيها ماء طهور، بأواني فيها ماء نجس، واشتبها عليه، فقد اختلف العلماء فيها على أقوال.
القول الأول: مذهب الحنفية:
قيل يتحرى بشرط أن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإن كانت الغلبة للأواني النجسة، أو كانا سواء، فليس له أن يتحرى، أي يجب تركهما (1) .
القول الثاني: مذهب المالكية:
في مذهب المالكية أقوال كالتالي:
قيل: إنه يتيمم ويتركها، وهو اختيار سحنون.
وقيل: يتوضأ بعدد الأواني النجسة، ويصلي بكل وضوء صلاة، ثم يزيد وضوءاً واحداً، ويصلي وحيئذ تبرأ ذمته بيقين (2) .
وقيل: يتحرى أحدهما ويتوضأ به ويصلي، وهو اختيار محمد بن المواز.
_________
(1) البحر الرائق (2/267) ، حاشية ابن عابدين (6/347) ، وقال ابن عابدين (6/736) : إذا غلب النجس يتحرى للشرب إجماعاً، ولا يتحرى للوضوء، بل يتيمم، والأولى أن يريق الماء قبله، أو يخلطه بالنجس. اهـ وانظر المبسوط للسرخسي (10/201) ، الدر المختار (6/347) ، شرح فتح القدير (2/276) ، الفتاوى الهندية (5/384) .
(2) جاء في حاشية الدسوقي (1/83) : " سواء قلت الأواني أو كثرت، وهو كذلك على المعتمد، ومقابله ما عزاه في التوضيح وابن عرفة لابن القصار من التفصيل: بين أن تقل الأواني، فيتوضأ بعدد النجس وزيادة إناء، وبين أن تكثر الأواني كالثلاثين، فيتحرى واحداً منها يتوضأ به إن اتسع الوقت للتحري وإلا تيمم. الخ كلامه رحمه الله.(1/307)
وقيل: يهرق الإناء الواحد، ثم يحصل الثاني ماء مشكوكاً فيه، فلا يؤثر فيه الشك، لأن الأصل في الماء الطهارة، ورجحه ابن عبد البر في الكافي.
وقيل: يتوضأ بأيهما شاء؛ لأن الماء ما دام لم يتغير بنجاسة فهو طهور، ذكره ابن الجلاب في التفريع، وهو الراجح (1) ، واختاره ابن حزم (2) .
القول الثالث: مذهب الشافعية.
الصحيح المنصوص عليه عندهم، الذي قطع به جمهورهم، وتظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله: أنه لا تجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر، فإن ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به (3) .
_________
(1) المنتقى للباجي (1/59،60) ، التفريع (1/217) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17) ، حاشية الدسوقي (1/182) ، مواهب الجليل (1/170،172) ، القوانين الفقهية (ص: 26) ، التاج والإكليل (1/170) ، مختصر خليل (1/12) .
(2) قال في المحلى (1/428) : فإن كان بين يديه إناءان فصاعداً، في أحدهما ماء طاهر بيقين، وسائرها مما ولغ فيه الكلب، أو فيها واحد ولغ فيه كلب، وسائرها طاهر، ولا يميز من ذلك شيئاً، فله أن يتوضأ بأيها شاء، ما لم يكن على يقين من أنه قد تجاوز عدد الطاهرات، وتوضأ بما لا يحل الوضوء به. اهـ
(3) انظر الأم (1/24،25) ، وروضة الطالبين (1/35) ، وقال النووي في المجموع (1/239) : " وسواء كان عدد الطاهر أكثر أو أقل، حتى لو اشتبه إناء طاهر بمائة إناء نجسة تحرى، وكذلك الأطعمة والثياب، هذا مذهبنا. اهـ
وجاء في مغني المحتاج (1/88) : أنه يجوز له الاجتهاد، حتى ولو أمكنه أن يتطهر بغيرهما، كما لو كان على شط نهر، أو بلغ الماءآن المشتبهان قلتين بخلطهما بلا تغير؛ إذ العدول إلى المظنون مع وجود المتيقن جائز؛ لأن بعض الصحابة كان يسمع من بعض، مع قدرته على المتيقن، وهو سماعه من رسول الله b.
وفي مذهب الشافعية وجهان آخران:
الأول: يجوز له الطهارة به إذا ظن طهارته، وإن لم تظهر علامة، بل وقع في نفسه طهارته، فإن لم يظن لم تجز الطهارة، حكاه الخرسانيون، وصاحب البيان.
الثاني: يجوز استعمال أحدهما بلا اجتهاد، ولا ظن؛ لأن الأصل طهارته، حكاه الخرسانيون أيضاً. قال إمام الحرمين وغيره: الوجهان ضعيفان. المجموع (1/233،234) ، مغني المحتاج (1/26) ، المهذب (1/9) ، حلية العلماء (1/103،104) .(1/308)
القول الرابع: مذهب الحنابلة:
المشهور من مذهب الحنابلة أنه يحرم استعمالهما، ولا يجوز التحري، ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما (1) .
_________
(1) ومحل الخلاف إذا لم يمكن تطهير أحدهما بالآخر، فإن أمكن تطهير أحدهما بالآخر امتنع من التيمم؛ لأنهم إنما أجازوا التيمم هنا بشرط عدم القدرة على استعمال الطهور، وفي هذه الحالة هو قادر على استعماله.
وفي مذهب الحنابلة قولان آخران:
فقيل: يشترط أن يريقهما حتى يسوغ له التيمم، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهنا الماء الطهور موجود لا بعينه، وحتى يباح له التيمم ينبغي أن يكون عادماً للماء الطهور حساً، فوجب أن يريقه.
وقيل: له أن يتحرى إذا كثر عدد الطهور. قال ابن رجب في القواعد صححه ابن عقيل، وهل يكفي مطلق الزيادة ولو بواحد، أو لابد أن تكون الزيادة عرفاً، أو لابد أن تكون تسعة طاهرة وواحد نجساً، أو لا بد أن تكون عشرة طاهرة وواحد نجساً، فيه أربعة أقوال، قدم في الفروع: أنه يكفي مطلق الزيادة. قال في الإنصاف: وهو الصحيح.
انظر في مذهب الحنابلة: الفروع (1/64) ، المحرر (1/7) ، عمدة الفقه (1/4) ، كشاف القناع (1/47) ، شرح الزركشي (1/149،150) ، الإنصاف (1/71ـ74) ، المغني (1/49،50) .
واختلف النقل عن ابن تيمية في هذه المسألة، فقد نقل ابن قاسم في حاشيته (1/94) عن ابن تيمية بأن اجتنابهما جميعاً واجب؛ لأنه يتضمن لفعل المحرم وتحليل أحدهما تحكم، حتى نقل رحمه الله الإجماع على ذلك حيث قال: لا أعلم أحدا جوزه. اهـ
ونقل ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان (1/77) عنه أنه يتوضأ بأيهما شاء، بناء على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير. ولا شك أن نقل تلميذه مع كونه موافقا للقواعد، هو أقرب عهداً به من غيره، وأعلم من غيره بمذهبه، خاصة إذا كان التلميذ مثل ابن القيم، وانظر الفتاوى الكبرى (1/239،240) .(1/309)
هذا ملخص الأقوال في المسألة، وبعضها أقوى من بعض، وسوف نعرض أدلة أقوى الأقوال في المسألة.
دليل من قال يتيمم.
قالوا: إذا اجتمع مبيح وحاضر، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وجب اجتنابهما جميعاً؛ لأن اجتناب النجس واجب، ولا يمكن اجتنابه إلا بتركهما جميعاً.
(83) ويشهد لهذا ما رواه مسلم، قال: حدثني الوليد بن شجاع، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن الشعبي،
عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله b: وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره، وقد قتل، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله. الحديث، والحديث رواه البخاري (1) .
هذا الدليل الأثري، وأما الدليل النظري، فإن هذا الرجل إن توضأ بأحدها لم يؤد الصلاة بيقين، لاحتمال أن يكون الماء نجساً، وإذا توضأ بكل واحد منها وصلى لزمته صلاتان للظهر مثلاً، وهو خلاف الأصول، فوجب العدول إلى التيمم.
_________
(1) مسلم (1929) ، صحيح البخاري (175) .(1/310)
دليل من قال يتحرى.
الدليل الأول:
(84) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال:
قال عبد الله: صلى النبي b. قال: إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص، فلما سلم، قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء، قال: وما ذاك؟ فأخبر، وفيه قال رسول الله b: وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين (1) .
وجه الاستدلال:
إذا كان المسلم يتحرى في الصلاة إذا شك فيها، مع أنها المقصود الأعظم من الطهارة، فكونه يتحرى في شرطها من باب أولى.
الدليل الثاني:
القياس على مشروعية التحري في إصابة القبلة، فكما أنه يجوز التحري إجماعاً إذا اشتبهت القبلة، فكذلك هنا.
الدليل الثالث:
ولأنه تعذر اليقين هنا، وكلما تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن.
وأما من قيد التحري بأن تكون الغلبة للأواني الطاهرة، فإنه نظر إلى أن الحكم للأغلب، فإن كان الأغلب الطهور، كانت إصابته في التحري راجحة، وإن كان الأغلب للنجس، كانت إصابته في تحريه أبعد، لهذا اشترط أن يكون
_________
(1) صحيح البخاري (401) ، ومسلم (572) .(1/311)
عدد الماء الطهور أغلب، وأما من اشترط في الترجيح أن تكون هناك علامة وأمارة، فهذا ظاهر، لأن الترجيح لابد أن يكون له مستند، فإذا لم يكن هناك علامة أوجبت الترجيح لم يكن ترجيحاً، وإنما كان تخييراً، والله أعلم.
دليل من قال يهرق أحدهما ثم يتوضأ بالآخر.
وجهه: إذا أهرق أحدهما، أصبح الماء الباقي مشكوكاً فيه، والشك في طهارة الماء لا تمنع من التطهر به، لأن الأصل في الماء الطهارة، حتى يتيقن النجاسة.
دليل من قال يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالأخر ويصلي.
وجهه: أنه لا بد أن يؤدي الصلاة بيقين، ولا يوجد يقين إلا بهذا الطريق، أن يتوضأ ويصلي بكل واحد منهما..
وهذا القول يلزم منه أن يصلي الإنسان الفرض الواحد مرتين، ثم لا يدري هذا أيهما فرضه، هل الصلاة الأولى، أم الصلاة الثانية، وليس له مثيل في الشرع في إيجاب عبادة واحدة مرتين، لا يدري أيهما فرضه.
دليل من قال: يتوضأ بأيهما شاء.
بنى هذا القول على أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وبالتالي لا يمكن أن تتصور هذه المسألة، لأن التغير أمر محسوس، فإذا لم يظهر التغير على الماء حكم بطهوريته، وهذا هو الراجح، فإذا غلبت عليه النجاسة طعماً أو لوناً أو ريحاً أصبح نجساً. وسوف نسوق أدلة هذا القول إن شاء الله تعالى في بحث الماء النجس إذا وقعت فيه نجاسة، وهو قليل، فلم تغيره.
فالراجح من أقوال أهل العلم أن الماء لا يمكن أن يشتبه الطهور بالماء(1/312)
النجس، لأننا لا نحكم على الماء بأنه نجس حتى يتغير، فإذا تغير أصبح محسوساً، يمكن معرفته، اللهم إلا أن يكون الماء الذي في الإناء قد ولغ فيه كلب، فإنه يحكم بنجاسته، ولو لم يتغير، فممكن في هذه الصورة النادرة أن تقع، وأما في غيرها فلا يتصور وقوعها، ولا يقال: قد يفقد الإنسان الشم أو النظر أو التذوق فلا يشعر بتغير الرائحة أو اللون أو الطعم؛ لأننا نقول: هذه الصورة ليست من قبل الماء، وإنما هي من قبل الإنسان نفسه، ونحن نتكلم عن اشتباه حقيقة الماء الطهور بالنجس، والله أعلم.(1/313)
[صفحة فارغة](1/314)
الفصل الثالث
إذا اشتبه ماء طهور بماء طاهر
اختلف العلماء في ما إذا اشتبه طهور بطاهر،
فقيل: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء ويصلي صلاة واحدة، وما شك في كونه من الطاهر أو هو من الطهور فهو من جملة الطاهر، وهذا مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهبي الشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: يتحرى، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعية (4) .
وقيل: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً، من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (5) .
والفرق بينه وبين المذهب المالكي أن المذهب المالكي جعله يتوضأ مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة، ولكن الحنابلة جعلوا الوضوء وضوءاً واحداً لكن في كل عضو يجب غسله مرتين من الطهور مرة ومن الطاهر مرة.
وقيل: يتخير بناء على أنه لا يوجد قسم الطاهر أصلاً، فالماء إما طهور،
_________
(1) الشرح الكبير (1/83) ، منح الجليل (1/75) ، مواهب الجليل (1/172) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/83) ، الخرشي (1/118) .
(2) المجموع (1/426،427) ، المهذب (1/9) ، حلية العلماء (1/88) .
(3) الإنصاف (1/75،76) ، الفروع (1/95) .
(4) المجموع (1/426،427) ، المهذب (1/9) ، حلية العلماء (1/88) .
(5) مطالب أولي النهى (1/54) ، كشاف القناع (1/48) ، الإنصاف (1/75،76) ، الفروع (1/95) ،.(1/315)
وإما نجس (1) ، وهو الراجح.
دليل من قال: يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء.
عللوا ذلك بأنه لا يمكن أن يجزم الإنسان بأنه أصاب الماء الطهور بيقين إلا إذا توضأ بعدد الطاهر وزاد عليه وضوءاً.
دليل من قال يتوضأ مرة واحدة من هذا غرفة ومن هذا غرفة.
منع الحنابلة الوضوء كاملاً، من هذا مرة ومن هذا مرة قالوا: لأنه لو توضأ وضوء كاملا من هذا، ثم انتقل وتوضأ وضوءاً كاملاً من الماء الآخر يكون قد أدى وضوءه، وهو شاك لا يدري أيهما رفع الحدث، بخلاف ما لو توضأ من هذا غرفة ومن هذا غرفة، فإن الإنسان يجزم بأنه رفع الحدث بيقين، فعندما غسل يده تيقن أنه رفع الحدث عنها، وكذلك يقال في الوجه وفي القدمين وفي غيرهما.
وتعليل آخر: قالوا: ولأننا بهذا لانوجب على العبد وضوءين مع إمكان رفع الحدث بوضوء واحد، فالأصل أنه لايجب عليه إلا وضوء واحد.
وقد نقل الإجماع على وجوب الوضوء مرتين ابن قدامة، فقال:
لا أعلم فيه خلافاً (2) . وكذا قال صاحب الشرح الكبير (3) .
قلت: نقل الإجماع فيه نظر، لأن إثبات ماء طاهر لا يطهر، الدليل على خلافه.
_________
(1) انظر عزو هذا القول، عند بحث مسألة أقسام المياه، فقد ذكرنا قول من يرى أن الماء قسمان، لا ثالث لهما، طهور، ونجس، ولا يوجد قسم طاهر غير مطهر.
(2) المغني (1/51) .
(3) الشرح الكبير (1/82) .(1/316)
دليل من قال: يتحرى.
أنظر أدلة من قال بالتحري في المسألة السابقة، فإن الباب واحد، والأدلة واحدة.
دليل من قال: يتخير.
أدلة هذا القول، هي نفس الأدلة الدالة على عدم وجود قسم ثالث، يسمى الماء الطاهر، طاهر في نفسه غير مطهر لغيره، فما دام أنه ماء، فهو إما طهور، وإما نجس، وقد سقتها في خلاف العلماء في أقسام المياه، وإذا ثبت أنه لا يوجد قسم الماء الطاهر، كان تصور هذه المسألة غير ممكن، والله أعلم.(1/317)
[صفحة فارغة](1/318)
الفصل الرابع
إذا اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو محرمة
إذا اشتبهت ثياب طاهرة، بثياب متنجسة، أو محرمة كالحرير، فقد اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: يتحرى، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، واختاره الباجي من المالكية (3) ، وهو رواية في مذهب أحمد (4) ، واختاره ابن تيمية (5) .
_________
(1) المبسوط (10/200) ، العناية شرح الهداية (2/275) ، البحر الرائق (2/267) . والحنفية هنا قالوا: يتحرى مطلقاً، حتى ولو كانت الثياب النجسة أكثر من الثياب الطاهرة، أما في مسألة الماء إذا اشتبه طهور بنجس، اشترطوا للتحري أن تكون الغلبة للأواني الطاهرة.
ويجيب السرخسي عن الفرق بين المسألتين، فيقول في المبسوط (10/201) : والفرق بين مسألة الثياب وبين مسألة الأواني لنا: أن الضرورة لا تتحقق في الأواني؛ لأن التراب طهور له عند العجز عن الماء الطاهر، فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة، لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل، وفي مسألة الثياب الضرورة مَسَّت؛ لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض، حتى إنه في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وعدم الماء الطاهر، يجوز له أن يتحرى للشرب؛ لأنه لما جاز له شرب الماء النجس عند الضرورى فلأن يجوز التحري وإصابة الطاهر مأمول بتحريه أولى.
يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت كلها نجسة لا يؤمر بالتوضىء بها، ولو فعل لا تجوز صلاته، فإذا كانت الغلبة له فكذلك أيضاً. وفي مسألة الثياب وإن كان الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها، ويجزيه ذلك، فكذلك إذا كانت الغلبة للنجاسة..
(2) قال الشافعي في الأم (8/111) : إن كان معه ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس ولا يعرفه فإنه يتحرى أحد الثوبين فيصلي فيه ويجزئه. اهـ وانظر المجموع (1/151) ، مختصر المزني (2/18) ، المجموع (1/234) .
(3) المنتقى (1/60) .
(4) الإنصاف (1/77) ، الفروع (1/66) .
(5) إغاثة اللهفان (1/176) ، بدائع الفوائد (3/776) .(1/319)
وقيل: يصلي بعدد الثياب النجسة أو المحرمة، ويزيد صلاة، وهو المشهور من مذهب أحمد (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) .
وقيل: يصلي عرياناً، وهو قول أبي ثور (3) .
وقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة، وإن قل عددها عمل باليقين، وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة (4) .
دليل من قال بالتحري.
انظر أدلة القائلين بالتحري في مسألة ما إذا اشتبه الماء الطهور بالنجس.
واستدل ابن تيمية على ذلك بقوله: لأن اجتناب النجاسة من باب الترك، ولهذا لا تشترط له النية، ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته، ثم علمها بعد الصلاة لم يعد، فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظنه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير. قال ابن القيم: وهذا كما لو اشترى ثوباً لا يعلم حاله جاز له أن يصلي فيه اعتماداً على غلبة ظنه، وإن كان نجساً في نفس الأمر، فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين وغلب على ظنه جاز أن يصلي فيه، وإن كان نجساً في نفس الأمر (5) .
دليل من قال يصلي بعدد النجس ويزيد صلاة.
قالوا: إذا صلى بعدد النجس، وزاد صلاة فقد أدى فرضه بيقين، وصلى
_________
(1) الفروع (1/66) ، الإنصاف (1/77) ، عمدة الفقه (ص: 4) ، المغني (1/51) .
(2) التفريع (1/241) .
(3) الأوسط (2/166) ، إغاثة اللهفان (1/176) .
(4) إغاثة اللهفان (1/176) .
(5) بدائع الفوائد (3/776) .(1/320)
بثوب متيقن طهارته، وإذا أمكن الوصول إلى اليقين تعين، بخلاف من صلى بالتحري فإنه ليس متيقن الطهارة، بل غاية ما فيه غلبة ظن، والعمل بالظن مع إمكان اليقين لا يجوز.
دليل من قال يصلي عرياناً.
قال: إن الثوب النجس في الشرع كالمعدوم، والصلاة فيه حرام، وقد عجز عن ستر العورة بثوب طاهر، فسقط فرض السترة.
قال ابن القيم: وقول أبي ثور في غاية الفساد، فإنه لو تيقن نجاسة الثوب لكانت صلاته فيه خيراً وأحب إلى الله من صلاته متجرداً بادي السوأة للناظرين (1) .
الراجح من هذه الأقوال هو القول بالتحري، وذلك لقوة أدلته ووجهاتها، ولما في ذلك من رفع المشقة ودفع الحرج عن الأمة، ولأن هذا مقتضى قول الله عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} (2) فهذا المتحري قد اتقى الله ما استطاع، وعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولم يفرط، وهذا هو وسعه الذي لا يكلفه الله غيره، والله أعلم.
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/177) .
(2) التغابن: 16.(1/321)
[صفحة فارغة](1/322)
الفصل الخامس
في الإخبار بنجاسة الماء(1/323)
[صفحة فارغة](1/324)
المبحث الأول
إذا أخبره رجل أو امرأة بنجاسة الماء
إذا أخبر الرجل عن الماء، فإما أن يخبر عن طهارة الماء، أو يخبر عن نجاسته،
فإن أخبر عن طهارة الماء، فقد قال النفراوي من المالكية: لو أخبرك شخص بطهارة ماء شككت في نجاسته لوجب عليك الرجوع إلى خبره، ولو كافراً أو صبياً؛ لأنه أقر بما يحمل عليه الماء، اللهم إلا أن يظهر في الماء ما يقتضي نجاسته أو يسلب طهوريته (1) .
والحقيقة أن العمل في هذه الحال ليس بسبب خبر الكافر، وإنما العمل بالأصل، وهو أن الأصل في الماء الطهارة، ومجرد الشك لا ينقل الماء عن الطهورية، ولذلك قال بقبول خبر الكافر، مع أن الكافر ليس ممن يقبل خبره، لانتفاء العدالة في حقه ظاهراً وباطناً.
وأما إذا أخبر عن نجاسة الماء، فإما أن يبين سبب النجاسة أو لا.
فإن بين سبب النجاسة، فقد حكي الإجماع على وجوب قبول خبره.
فقد قال النووي: اتفق الفقهاء على أنه إذا أخبر الثقة بنجاسة ماء، أو ثوب، أو طعام، أو غيره، وبين سبب النجاسة، وكان ذلك السبب يقتضي النجاسة حكم بنجاسته؛ لأن خبر الواحد العدل في مثل هذه الأشياء مقبول، وليس هذا من باب الشهادة، وإنما هو من باب الخبر، وكذا لو أخبر عن دخول وقت الصلاة، وعن حرمة الطعام أو حله، ولا فرق في هذا بين الرجل
_________
(1) الفواكه الدواني (1/125) .(1/325)
والمرأة، ولا بين الأعمى والبصير بخلاف الكافر والفاسق فلا يقبل خبرهما في النجاسة والطهارة، وكذا المجنون والصبي الذي لا يميز فلا يقبل خبرهما في مثل هذه الأشياء بلا خلاف (1) .
وهل يجوز الاجتهاد في مثل هذه الحالة، وقد أخبره عدل، وبين سبب النجاسة؟
قال النووي: قال أصحابنا: إذا أخبره مقبول الخبر بالنجاسة، وجب قبوله، ولا يجوز الاجتهاد بلا خلاف، كما لا يجتهد المفتي إذا وجد النص، وكما لا يجتهد إذا أخبره ثقة عن علم بالقبلة ووقت الصلاة، وغير ذلك (2) .
وأما إذا لم يبين سبب النجاسة ففيه ثلاثة أقوال:
قيل: يجب قبول خبره مطلقاً، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: لا يجب مطلقاً، وهو قول الجمهور (4) .
وقيل: يجب إن اتفقا مذهباً، وكان عالماً بما ينجس الماء، فإن اختلفا مذهباً لم يجب، لكن الأحسن ترك الماء؛ لتعارض الأصل، وهو الطهورية،
_________
(1) المجموع (1/228) ، وقال في المهذب (1/9) : وإن ورد على ماء، فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شيء نجس؛ لجواز أن يكون قد رأى سبعاً ولغ فيه، فاعتقد أنه نجس بذلك، فإن بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره بالقبلة، ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن أخبارهم مقبولة، ويقبل خبر الأعمى فيه؛ لأن له طريقاً إلى العلم به بالحس والخبر، ولا يقبل فيه قول صبي ولا فاسق ولا كافر؛ لأن أخبارهم لا تقبل. اهـ
(2) المجموع (1/229) .
(3) قال في الإنصاف (1/71) : لو أخبره عدل بنجاسة الماء قبل قوله،, إن عين السبب على الصحيح من المذهب وإلا فلا. وقيل: يقبل مطلقاً. اهـ
(4) سيأتي العزو إلى كتبهم من خلال نقول النصوص عنهم قريباً إن شاء الله تعالى.(1/326)
وإخبار المخبر بتنجيسه، وهذا عند وجود غيره، وإلا تعين استعمال الماء، وهذا مذهب المالكية (1) .
قال النووي: إذا لم يبين- يعني: سبب النجاسة- لم يقبل، هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب، قال الشيخ أبو حامد: نص عليه الشافعي رواه عنه المزني في الجامع الكبير (2) .
ثم قال النووي: وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه، والمحاملي وغيرهما: قال الشافعي: فإن كان يعلم من حال المخبر أنه يعلم أن سؤر السباع طاهر، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، قبل قوله عند الإطلاق- أي وإن لم يبين سبب النجاسة- هكذا نقل هؤلاء نص الشافعي، وكذا قطع بهذا التفصيل الذي نص عليه جماعات من أصحابنا المصنفين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق، والبغوي والروياني وغيرهم، ونقله صاحب العدة عن أصحابنا العراقيين، ونقل صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه نقله عن نص الشافعي، ولم أر لأحد من أصحابنا تصريحاً بمخالفته، فهو إذن متفق عليه (3) .
وقال ابن قدامة: إذا لم يعين سببها، فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره؛ لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر، كالحنفي يرى نجاسة الماء الكثير، والشافعي يرى نجاسة الماء اليسير بما لا نفس له سائلة، والموسوس الذي يعتقد نجاسته بما لا ينجسه.
_________
(1) الفواكه الدواني (1/125) ، منح الجليل (1/44) ، حاشية الدسوقي (1/47) ، التاج والإكليل (1/86) .
(2) المجموع (1/229) .
(3) المجموع (1/229) .(1/327)
ويحتمل أن يلزم قبول خبره، إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه (1) .
قلت: هذا الكلام إنما يتمشى على رأي من يرى نجاسة الماء، ولو لم يتغير، أما من يرى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا يحتاج إلى هذا التفصيل؛ لأن الماء إذا لم يتغير فهو طهور، نعم لو أخبره بولوغ الكلب في إناء، قبل هذا التفصيل؛ لأنه والحالة هذه قد ينجس الماء ولو لم يتغير، لكنه خاص في هذه الصورة فقط.
قال في حاشية الدسوقي: فإن كان الماء غير متغير، وأخبر بالنجاسة، فلا يقبل خبره؛ لأن الأصل الطهارة (2) .
_________
(1) المغني (1/52) .
(2) حاشية الدسوقي (1/47) .(1/328)
المبحث الثاني
إذا أخبره صبي عن طهارة أو نجاسة الماء
إذا أخره صبي مميز عن نجاسة الماء، وبين سبب النجاسة، فهل يجب عليه قبول خبره أم لا؟
ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب قبول خبره؛ لأن قبول الخبر مبني على ثبوت العدالة، وهو لا يمكن أن يوصف بالعدالة لصغره؛ لأن العدالة يشترط فيها أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً، فما دام أنه ليس من أهل الرواية ولا الشهادة لم يلزم قبول خبره (1) .
وقيل: بل يجب قبول خبره، اختاره بعض الحنفية (2) ، وهووجه عند الشافعية (3) ، وهو الصحيح.
لأن الصبي إذا كانت تصح إمامته في الصلاة، ويؤتمن على شروطها وواجباتها، فكيف لا يقبل خبره عن نجاسة الماء.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة تقديم الصبي للإمامة،
_________
(1) الفتاوى الهندية (5/309) ، حاشية ابن عابدي (6/346) ، المبسوط (10/164) ، وقال النووي في المجموع (1/228) : " وفي الصبي المميز وجهان: الصحيح لا يقبل، وبه قطع الجمهور. اهـ
وقال في المغني (1/51) : إن ورد ماء فأخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره؛ لأنه ليس من أهل الشهادة ولا الرواية، فلا يلزمه قبول خبره، كالطفل والمجنون. اهـ
(2) المبسوط (10/164) .
(3) المجموع (1/228) .(1/329)
(85) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة،
عن عمرو بن سلمة قال: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله. قال فلقيته فسألته فقال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم، ما للناس ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم، فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي b حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا بن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة، كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت: امرأة من الحي ألا تغطون عنا است قارئكم، فاشتروا فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص (1) .
كما أن الصحيح أن الصبي من أهل الرواية تحملاً وأداءً إذا علم منه الصلاح، ولم يجرب عليه الكذب (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (4302) .
(2) المجموع (4/216) ، شرح النووي على مسلم (15/189) ، طبقات الحنابلة (1/183) .(1/330)
المبحث الثالث
إذا أخبره فاسق عن نجاسة الماء
اختلف العلماء في خبر الفاسق إذا أخبره عن نجاسة الماء،
فقيل: إذا غلب على ظنه صدقه تيمم، ولم يتوضأ به، وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط، وإن غلب على ظنه كذبه توضأ به، وإن تيمم بعد الوضوء كان أحوط، ولا يجب، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا يقبل قول الفاسق، وهذا مذهب المالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
دليل من قال: إن غلب على ظنه صدقه قبله.
الدليل قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (5) ، فالله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، بل بالتثبت والتبين، فإن ظهرت دلالة على صدقه قبل خبره، وإن ظهرت دلالة على كذبه رد خبره، وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره.
دليل من قال: لا يقبل خبر الفاسق.
قالوا: لأن من شروط قبول الخبر العدالة، فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأنه
_________
(1) الفتاوى الهندية (5/309) ، المبسوط (10/163) .
(2) مواهب الجليل (1/86) ، منح الجليل (1/43،44) .
(3) المجموع (1/229) .
(4) الكافي في فقه أحمد (1/12) ، المغني (1/51) .
(5) الحجرات: 6.(1/331)
ليس من أهل الرواية ولا من أهل الشهادة، والعدالة المشروطة هنا هي العدالة الظاهرة، إلا أن الشافعية صرحوا بأنه: لو أخبر جماعة من الفساق لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن نجاسة الماء أو طهارته قبل خبرهم، وكذا لو أخبر الفاسق عن فعل نفسه في الماء.(1/332)
المبحث الرابع
في السؤال عن الماء
إذا شك الإنسان في طهورية الماء، فهل يجب عليه أن يسأل عن حال الماء أو هل يستحب له ذلك؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
فقيل: لا يجب على الإنسان أن يسأل هل الماء طهور أم نجس، وهذا هو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: يكره السؤال، نقله صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه.
وقيل: يجب عليه السؤال.
وقيل: الأولى السؤال. وهما قولان في مذهب الحنابلة (2) .
ولو سأل هل يلزم الجواب على أقوال:
فقيل: لا يلزمه الجواب.
وقيل: يلزمه، كالسؤال عن القبلة. وهذان قولان في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: يلزمه إن علم نجاسته، اختاره الأزجي من الحنابلة وصوبه في
_________
(1) شرح فتح القدير (1/82) ، بريقة محمودية (1/312) ، المدونة (1/6) ، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/83) ، المجموع (1/226) ، شرح منتهى الإرادات (1/26،27) ، كشاف القناع (1/47) .
(2) الفروع (1/92) .
(3) الفروع (1/92،93) ، شرح منتهى الإرادات (1/26،27) ، كشاف القناع (1/47) .(1/333)
الإنصاف (1) .
دليل من قال لا يسأل.
الدليل الأول:
عدم الدليل المقتضي للوجوب، فلو كان السؤال واجباً لجاء الأمر به.
الدليل الثاني:
العمل بالأصل، فالأصل في الماء الطهارة، وتغير الماء إن كان موجوداً قد يكون تغيره بطاهر، أو تغيره بمكثه أو بما لا يمازج الماء.
الدليل الثالث:
(86) ما رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب،
أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص: لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا (2) .
[رجاله ثقات إلا أن إسناده منقطع] (3) .
_________
(1) مطالب أولي النهى (1/52) ، شرح منتهى الإرادات (1/26،27) .
(2) الموطأ (1/23) ، والحديث رواه من طريق مالك عبد الرزاق في المصنف (250) ،.
(3) قال النووي في المجموع (1/226) : هذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع؛ فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب، قال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل، وكذا قاله غير ابن معين. الخ كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم وابن حبان مثل قول ابن معين بأنه ولد في خلافة عثمان. الجرح والتعديل (9/165) ، الثقات (5/523) ، وانظر جامع التحصيل (ص: 298) .(1/334)
هذا القول هو الراجح إلا أنه إن كان الماء نجساً وجب على من يعلم أن يخبره نصحاً له، وحتى لا يصلي وهو غير طاهر.
دليل من قال: يلزمه السؤال.
قالوا: إن هذا السؤال يتعلق بشرط الصلاة، وهو طهورية الماء، فيلزمه السؤال كما يلزمه السؤال عن القبلة.
دليل من قال يلزمه الجواب إن علم نجاسة الماء.
قالوا: إن إخباره عن نجاسة الماء من النصيحة له، ومن الأمر بالمعروف الواجب عليه.
(87) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان قال: قلت لسهيل: إن عمراً حدثنا عن القعقاع، عن أبيك، قال: ورجوت أن يسقط عني رجلاً قال: فقال سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقا له بالشام، ثم حدثنا سفيان، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد،
عن تميم الداري، أن النبي b قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (55) .(1/335)
[صفحة فارغة](1/336)
الباب الثامن
في الماء النجس(1/337)
[صفحة فارغة](1/338)
الفصل الأول
في الماء الراكد إذا لاقته نجاسة فلم تغيره
اختلف العلماء في الماء إذا لا قته نجاسة فلم تغيره،
فقيل: إذا كان الماء قليلاً فإنه ينجس، ولو لم يتغير، وإذا كان كثيراً فإنه لاينجس إلا بالتغير، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) ، على خلاف بينهم في حد القليل والكثير (4) .
_________
(1) شرح فتح القدير (1/70) ، تبيين الحقائق (1/21) .
(2) حاشية البجيرمي (1/27) ، الأم (1/18) ، أسنى المطالب (1/14) ، المجموع (1/162) ، المهذب (1/6) .
(3) الكافي (1/8) كشاف القناع (1/38) ، المغني (1/31) .
(4) اختلف الحنفية والشافعية في مقدار الماء القليل والماء الكثير، مع اتفاقهم أن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير بخلاف الماء الكثير:
فمذهب الحنفية في حد الماء القليل هو أن ينظر، فإن كانت النجاسة تخلص إلى الطرف الأخر لم يتوضأ منه، وإن كانت لا تخلص إلى طرفه الآخر توضأ من الطرف الآخر، وكيف نعرف أن النجاسة تخلص إلى الجانب الآخر، على أقوال عندهم، منها:
الأول: أن الرد إلى رأي المبتلى به، فإن غلب على ظنه وصول النجاسة إلى الجانب الآخر لم يتوضأ به، وإلا توضأ به، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقد رجحه ابن نجيم في البحر الرائق (1/78،79) ، قال: وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. وجاء في البناية في التحديد قال:" إن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الجانب الآخر فهو نجس، وإن غلب عدم وصولها فهو طاهر "، وقال عنه:" هذا هو الأصح وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ".
القول الثاني: قالوا: يعتبر الخلوص بالحركة، فإن كان إذا حرك أحد طرفيه، تحرك الطرف الآخر، تنجس ولو لم يتغير، وإن كان لا يتحرك الطرف الآخر فلا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في نوع الحركة:
فقيل: المعتبر حركة المغتسل، وهذا اختيار أبي يوسف، ومحمد في رواية؛ لأن الغالب في الحياض الاغتسال منها، وأما الوضوء فإنما يكون في البيوت.
وقيل: بحركة المتوضئ، وهو مروي عن أبي حنيفة.
وقيل: المعتبر حركة اليد من غير وضوء ولا اغتسال.
القول الثالث: قدره بالمساحة، على اختلاف بينهم اختلافاً كثيراً، أشهرها عشرة أذرع في عشرة أذرع.
القول الرابع: قالوا: يوضع في الماء صبغ، فحيثما وصل الصبغ اعتبر وصول النجاسة.
ومنهم من اعتبر التكدر.
وأما مذهب الشافعية في حد القليل من الكثير، فجعوا التقدير بالقلتين، فإذا بلغ الماء قلتين فهو كثير، لا ينجس إلا بالتغير، وإن كان دون القلتين نجس ولو لم يتغير، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
وأما المالكية فيقدرون القليل بآنية الوضوء ونحوها.
انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/71) ، شرح فتح القدير (1/79) ، البناية (1/330-334) ، المبسوط (1/87) ، المبسوط للشيباني (1/50) ، البحر الرائق (1/78) .
وانظر في مذهب الشافعية الأم (1/18) ، أسنى المطالب (1/14) ، المهذب (1/6) .(1/339)
وقيل: إن الماء لا ينجس إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة، وهذا مذهب مالك في رواية المدنيين عنه (1) ، ورواية عن أحمد (2) ، وإليه ذهب ابن المسيب، والحسن البصري (3) ، وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان،
_________
(1) المدونة (1/132) ، ورجحه ابن عبد البر في التمهيد (1/327) ، والاستذكار (2/103) ، الخرشي (1/76،81) ، وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/249) : " ويتحصل عن مالك في الماء اليسير تقع فيه النجاسة ثلاثة أقوال، قول: إن النجاسة تفسده، وقول: إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول: إنه مكروه ".
(2) المغني (1/31) ، المحرر (1/2) .
(3) الأوسط (1/266) ، المجموع (1/163) .(1/340)
وعبد الرحمن بن مهدي (1) ، واختاره ابن المنذر (2) ، وابن تيمية (3) ، وغيرهم.
وقيل: إن كانت النجاسة بول آدمي أو عذرته المائعة فإنه ينجس ولو كان كثيراً إلا أن يشق نزحه.
وإن كانت النجاسة غيرها فإنه ينجس إذا كان دون القلتين، فإن كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير، وهذا قول في مذهب الحنابلة (4) .
دليل الحنفية على اعتبار الخلوص.
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الخبائث، ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فإذا غلب على ظننا أن النجاسة تخلص إلى الطرف الآخر، فإن من استعمل الماء يكون قد استعمل النجاسة، واستعمال النجاسة لا يجوز، والأخذ بغلبة الظن طريق شرعي، فإن كثيراً من الأحكام الشرعية مبنية على الظن، وليس على اليقين.
وأما الدليل على تقدير الخلوص بالحركة أو بالمساحة أو بغيرهما فلا دليل خاص عليها، وإنما رأى بعض الحنفية أن غلبة الظن قد لا تنضبط،
_________
(1) انظر المرجعين السابقين.
(2) الأوسط (1/267-272) .
(3) مجموع فتاوى (21/30) .
(4) التفريق بين بول الآدمي وعذرته، وبين سائر النجاسات، فالأول إذا وقع في الماء فإنه ينجس الماء الكثير ولو لم يتغير إلا أن يشق نزحه، والثاني: إذا وقع في الماء تنجس ما كان دون القلتين فقط، هذا مذهب المتقدمين من الحنابلة، أما مذهب المتأخرين فلا فرق عندهم بين البول والعذرة، وبين سائر النجاسات، فإذا وقعت في ماء قليل دون القلتين نجس، ولو لم يتغير، وإذا وقعت في ماء كثير لم ينجس الماء إلا بالتغير. انظر الإنصاف (1/60) ، الفروع (1/85) ، كشاف القناع (1/38) ، المبدع (1/57) ، الكافي (1/8) ، المحرر (1/2) ، المغني (1/31) .(1/341)
فاجتهدوا في تحديد مقدار الماء الذي تخلص النجاسة إلى طرفه الآخر، لكن الأصل هو غلبة الظن.
وأما الدليل على إن الماء القليل ينجس ولو لم يتغير.
هناك مجموعة أدلة منها:
الدليل الأول:
(88) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله،
عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله b عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) .
[إسناده صحيح إن شاء الله] (2) .
_________
(1) المصنف (1/133) رقم 1526.
(2) الحديث قد ضعف بأمور منها:
أولاً: الاضطراب فى السند.
ثانياً: الاضطراب فى المتن.
ثالثاً: الشذوذ.
رابعاً: كونه موقوفاً.
خامساً: الجهل بمقدار القلة.
أما الجواب عن اضطراب السند:
فالحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/133) وأبو داود (63) ، والنسائي في الكبرى (50) ، وفي الصغرى (52) ، وابن الجارود في المنتقى (45) ، وعبد بن حميد في المسند كما في المنتخب (817) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/15) ، والدارقطني (1/14، 15) ، وابن حبان (1249) ، والحاكم في المستدرك (1/132) ، والبيهقي في السنن (1/260، 261) وفي المعرفة (2/85) ، وفي الخلافيات (3/146) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/34) ، من طرق كثيرة، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبدالله - المكبر - ابن عبد الله بن عمر عن أبيه.
وإسناده صحيح.
وأخرجه النسائي (328) ، والدارمي (732) ، وابن خزيمة (1/49) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/15) وفي مشكل الآثار (3/266) ، وابن حبان في الصحيح من طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله -المصغر- ابن عبد الله بن عمر عن أبيه. وهذا إسناد صحيح أيضاً.
وتابع عباد بن صهيب أبا أسامة، فرواه الدارقطني (1/18-19) ومن طريقه البيهقي في الخلافيات (3/165-166) فرواه عن الوليد بن كثير به، بذكر عبيد الله -المصغر- إلا أن عباد بن صهيب مجروح، جاء في ترجمته:
قال على بن المديني: عباد بن صهيب ذهب حديثه. الجرح والتعديل (6/81) .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: تركنا حديث عباد بن صهيب قبل أن يموت بعشرين سنة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث، ترك حديثه. المرجع السابق.
وبناءً على ما سبق يتضح لنا من الإسنادين، أنه قد اختلف على محمد بن جعفر بن الزبير فيه: فتارة يرويه أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله - المكبر ـ عن أبيه.
وتارة يرويه أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله ـ المصغر ـ عن أبيه وقد توبع الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبيد الله ـ المصغر ـ عن أبيه.
تابعه محمد بن أسحاق قال حدثنى محمد بن جعفر به.
أخرجه ابن أبي شيبة (1/133) ، وأحمد (2/12،27) ، أبو داود (64) ، والترمذى (67) ، وابن ماجه (517) ، والدارمي (731) ، وأبو يعلى في المسند (5590) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/15،16) ، والدار قطنى (1/19،21) والحاكم في المستدرك (1/133،134) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/26،261) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/33) ، وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث عند جماعة من المذكورين فانتفت شبهة التدليس.
وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، فإنه صدوق يدلس.
وأخرج الحديث أبوداود (63) ، وابن الجارود فى المنتقى (44) ، وابن حبان (1253) ، والدارقطنى (1/15،16،17) ، والحاكم (1/133) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/260) ، من طريق أبي أسامة، عن الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبدالله ـ المكبر ـ بن عبدالله بن عمر، عن أبيه.
وبناء عليه فيكون الحديث قد اختلف فيه على الوليد بن كثير، فصار تارة يرويه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وتارة يرويه عن محمد بن عباد بن جعفر، ومحمد بن عباد لا يرويه إلا عن عبد الله المكبر، عن أبيه، بينما محمد بن جعفر بن الزبير تارة يرويه عن عبدالله وتارة يرويه عن عبيدالله.
ووقف العلماء من هذا ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: بعضهم حكم عليه بالاضطراب فى سنده، وبالتالى ضعف الحديث
منهم الإمام عبد الله بن المبارك كما في الأوسط (1/271) .
وابن عبدالبر كما في التمهيد (1/335) ، والاستذكار (1/204) .
وابن العربي كما في القبس (1/130) ، والعارضة (1/84) ، وأحكام القرآن (3/) .
وابن القيم كما في تهذيب السنن (1/62) .
الموقف الثانى: الترجيح بين هذه الطرق وممن سلك مسلك الترجيح أبوداود في سننه وأبو حاتم وابن منده.
فرجح أبو داود طريق محمد بن عباد فقال رحمه الله (63) : حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا: حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه وساق الحديث.
قال أبو داود: هذا لفظ ابن العلاء، وقال عثمان والحسن بن علي عن محمد بن عباد بن جعفر، وهو الصواب. اهـ
ورجح أبو حاتم وابن منده رواية محمد بن جعفر بن الزبير.
جاء في العلل (1 رقم 96) قال ابن أبي حاتم: " قال أبي: محمد بن عباد بن جعفر ثقة، ومحمد بن جعفر بن الزبير ثقة، ولمحمد بن جعفر بن الزبير أشبه ".
وقال ابن مندة فيما نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (1/106) "واختلف على أبي أسامة، فروي عنه، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر. وقال مرة: عن محمد بن جعفر بن الزبير وهو الصواب، لأن عيسى بن يونس رواه عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن النبي b سئل فذكره". اهـ.
الموقف الثالث: من رجح الجمع بين هذه الطرق، وهو الصواب، فقد أخرج الدارقطني (1/18) ، والحاكم (1/133) ، والبيهقي (1/260،261) من طريق علي بن عبد الله بن مبشر الواسطي.
وأخرجه الدارقطني (1/18) ومن طريقه البيقهي في السنن (1/260) والخلافيات (3/157) من طريق ابن سعدان، كلاهما عن شعيب بن أيوب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر ومحمد بن عباد، عن عبدالله -المكبر- ابن عبد الله بن عمر عن أبيه.
قال الدارقطني (1/17) :" فلما اختلف علي أبي أسامة في إسناده أحببنا أن نعلم من أتى بالصواب، فنظرنا في ذلك فوجدنا شعيب بن أيوب قد رواه عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير على الوجهين جميعاً، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ثم اتبعه عن محمد بن عباد بن جعفر، فصح القولان جميعاً عن أبي أسامة، وصح أن الوليد بن كثير رواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبدالله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. فكان أبو أسامة مرة يحدث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ومرة يحدث به عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر. والله أعلم. اهـ
وقال الحاكم (1/133) " قد صح وثبت بهذه الرواية صحة الحديث، وظهر أن أبا أسامة ساق الحديث عن الوليد بن كثير عنهما جميعاً، فإن شعيب بن أيوب ثقة مأمون، وكذلك الطريق إليه، وقد تابع الوليد بن كثير على روايته عن محمد بن جعفر بن الزبير تابعه محمد بن إسحاق بن يسار القرشي. اهـ
وصححه العلائي في جزئه (ص: 35) ، وقال: نعلم بهذا أن الراوي الواحد إذا كان ضابطاً متقناً، وروى الحديث على الوجهين المختلفين أن كلا منهما صحيح. اهـ
كما صححه على الوجهين عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الوسطى (1/154-155) .
وقال الحافظ فى تلخيص الحبير (1/17) " والجواب أن هذا ليس اضطراباَ قادحاً فيه، فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظاً. انتقال من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق فالصواب أنه:
عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبدالله بن عبدالله ابن عمر ـ المكبر.
وعن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر المصغر
ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم.
قلت: لم أدر لما لم يعتمد الحافظ رواية محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله المكبر، واعتبرها وهماً؟
فقد أخرج الحديث كما سبق: ابن أبي شيبة (1/133) ، وأبو داود (63) وابن الجارود فى المنتقى (45) ، والدارقطنى (1/14،15) ، وابن حبان (1249) ، والبيهقى (1/260/261) من طرق عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير، عن محمد ابن جعفر، عن عبدالله ـ المكبر ـ عن أبيه.
ولهذا قال أحمد شاكر فى تحقيقه لسنن الترمذي (1/99) متعقباً كلام الحافظ: "وما قاله الحافظ من التحقيق غير جيد، والذى يظهر من تتبع الروايات أن الوليد بن كثير رواه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن محمد بن عباد بن جعفر، وأنهما كلاهما روياه عن عبدالله وعبيد الله ابني عبدالله عن عمر عن أبيهما ".
وهذا الكلام من العلامه أحمد شاكر جيد إلا أن محمد بن جعفر بن الزبير هو الذى روى الحديث عن ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما، وأما محمد بن عباد فلم يروه إلا عن عبدالله المكبر فقط. والله أعلم. وبهذا يندفع الاضطراب فى السند.
الجواب عن اضطراب المتن:
أعله قوم باضطراب المتن انظر تهذيب السنن (1/62) ، فقال بعضهم: روي إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً على الشك، وروي إذا بلغ الماء قلتين بلا شك، وروى إذا بلغ الماء أربعين قلة.
والجواب على ذلك أن يقال: إن رواية الشك مدارها على حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه. قال: قال رسول الله b: " إذا كان الماء قلتين أو ثلاثاً لم ينجسه شىء ".
وقد اختلف علىحماد فيه، فرواه عنه جماعة بالشك منهم:
1- وكيع عند ابن ماجه (518) وأحمد (2/23) .
2- عفان بن مسلم عند الامام أحمد (2/107) ، وروي عنه بدون شك كما سيأتي.
3- زيد بن الحباب عند أبى عبيد بن القاسم بن سلام فى كتاب الطهور (ص:226) .
4- يزيد بن هارون عند الدارقطنى (1/22) .
5- إبراهيم بن الحجاج عند الدارقطنى (1/22) والبيهقى (1/262)
6- هدبة بن خالد عند الدارقطنى (1/22) والبيهقى (1/262) .
7- كامل بن طلحة عند الداررقطنى (1/22) .
8- أبو الوليد الطيالسي، كما في المنتخب من مسند عبد بن حميد (818) .
وخالفهم جماعة من أصحاب حماد فرووه عنه بدون شك منهم:
1- موسى بن إسماعيل عند أبي داود (65) ، والدار قطنى (1/23) ، والبيهقي (1/262) .
2- عفان بن مسلم عند ابن الجارود فى المنتقى (46) ، والدارقطني (1/23) ، وروي عنه بالشك كما سبق.
3- يعقوب بن إسحاق الحضرمي عند الدار قطنى (1/23) .
4- العلاء بن عبدالجبار المكي، عند الدارقطني (1/23) .
5- عبيدالله بن محمد العيشي عند الدارقطنى (1/23) ، والبيهقي (1/261) .
6- الطيالسي كما في مسنده (1954) .
7- يزيد بن هارون عند الدارقطني في السنن (1/22) .
8- يحيى بن حسان عند الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/16) .
وهذا الشك والاختلاف لعله من قبل حماد بن سلمة. قال عنه الحافظ (1499) : ثقه عابد أثبت الناس فى ثابت، وتغير حفظه بآخرة.
والرواية التى بدون شك أرجح لموافقتها رواية الجماعة.
قال البيهقى رحمه الله (1/162) :" ورواية الجماعة الذين لم يشكوا أولى".
وأما رواية أربعين قلة، فجاءت من حديث جابر مرفوعاً، أخرجها ابن عدي في الكامل (6/34) ومن طريقه الدارقطني (1/26) ، والبيهقي (1/262) ، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله b: " إذا بلغ الماء أربعين قلة لايحمل الخبث ".
والقاسم بن عبد الله العمري، قال فيه أحمد: ليس بشىء كان يكذب ويضع الحديث.
وقال يحيى: ليس بشىء. وقال مرة: كذاب.
وقال أبو حاتم والنسائي: متروك.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال البخاري: سكتوا عنه.
وقال أبو زرعة: لا يساوي شيئاً، متروك الحديث، منكر الحديث.
وقال ابن المديني: ليس بشىء.
وقال الدارقطني (1/26، 27) : " كذا رواه القاسم العمري، عن ابن المنكدر، عن جابر، ووهم في إسناده، وكان ضعيفاً كثير الخطأ، وخالفه دوح بن القاسم، وسفيان الثوري، ومعمر بن راشد، رووه عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً.
ورواه أيوب السختياني، عن ابن المنكدر من قوله، لم يجاوزه.
وجاء عن أبي هريرة موقوفاً عليه عند الدارقطني (1/27) ، وأبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطهور (ص231) ، من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سليمان بن سنان، عن عبد الرحمن بن أبي هريرة، عن أبيه: إذا بلغ الماء أربعين قلة لم يحمل خبثاً.
وهذا مع كونه موقوفاً على أبي هريرة، ففي إسناده ابن لهيعة وقد خالفه غير واحد.
قال الدارقطني: وخالفه غير واحد، رووه عن أبي هريرة فقالوا: أربعين غرباً، ومنهم من قال: أربعين دلواً.
وعلى هذا فلا يمكن أن يقال باضطراب متنه؛ لأنه روي أربعين قلة حيث تبين أن المرفوع في إسناده القاسم العمري متهم بالكذب، وأما الموقوف على الصحابة، فإنه مع ضعفه، لا يعارض المرفوع من حديث ابن عمر وقد جاء بسند رجاله رجال الصحيح، وهذا ما يمكن أن يقال جواباً على من ادعى اضطراب المتن والله أعلم.
وأما الجواب عن قولهم: بأنه شاذ.
قال ابن القيم في تهذيب السنن (1/62) : " لا يلزم من مجرد صحة السند صحة الحديث، ما لم ينتف عنه الشذوذ والعلة، ولم ينتفيا عن هذا الحديث.
أما الشذوذ: فإن هذا الحديث فاصل بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، وهو في المياه كالأوسق في الزكاة والنصب في الزكاة، فكيف لا يكون مشهوراً شائعاً بين الصحابة، ينقله خلف عن سلف؟ لشدة حاجة الأمة إليه؛ فإن حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم إلى نصب الزكاة؛ لأن أكثر الناس لا تجب عليهم الزكاة، والوضوء بالماء الطاهر فرض على كل مسلم، فيكون الواجب نقل هذا الحديث كنقل نجاسة البول، ووجوب غسله، ونقل عدد الركعات ونظائر ذلك.
ومن المعلوم أن هذا لم يروه غير ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع، وسالم، وأيوب، وسعيد بن جبير؟ وأين أهل المدينة وعلماؤهم عن هذه السنة التي مخرجها من عندهم، وهم إليها أحوج الخلق؛ لعزة الماء عندهم؟ ومن البعيد جداً أن تكون هذه السنة عند ابن عمر، وتخفى على علماء أصحابه وأهل بلدته، ولا يذهب إليها أحد منهم، ولا يروونها ويديرونها بينهم. ومن أنصف لم يخف عليه امتناع هذا، فلو كانت هذه السنة العظيمة المقدار عند ابن عمر، لكان أصحابه، وأهل المدينة أقول الناس بها، وأرواهم لها، فأي شذوذ أبلغ من هذا، وحيث لم يقل بهذا التحديد أحد من أصحاب ابن عمر علم أنه لم يكن فيه سنة من النبي b فهذا وجه شذوذه. اهـ
والجواب عن ذلك:
أولاً: فهم ابن القيم رحمه الله أنه يلزم من تصحيح الحديث، القول بنجاسة الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة، ولو لم تغيره، عملاً بمفهوم هذا الحديث، فأطنب رحمه الله في بيان أن هذا لو كان صحيحاً لكانت الأمة في حاجته أكثر من حاجتها لبيان أنصباء الزكاة... الخ كلامه المتقدم. ولا يلزم من تصحيح الحديث القول بمفهومه على ما سيأتي بيانه، ومنطوق حديث القلتين موافق لمنطوق حديث أبي سعيد الخدري: " الماء طهور لا ينجسه شىء".
ثانياً: أن قوله رحمه الله: إن هذا الحديث لم يروه إلا ابن عمر، ولا عن ابن عمر غير عبيد الله وعبد الله، فأين نافع وسالم وأيوب وسعيد ابن جبير؟
فالجواب عليه أن يقال: إن حديث: " إنما الأعمال بالنيات " قد قال فيه علماء الإسلام كما في الفتح (1/17) : إنه ثلث الإسلام، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والشافعي، فيما نقله البويطي عنه، وأحمد ابن حنبل، وعلي بن المديني، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وحمزة الكناني، ومع ذلك فقد تفرد به عمر بن الخطاب، ولم يروه عنه إلا علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري.
وقد قاله: عمر بن الخطاب على المنبر، وبحضور جمع كبير، ومع دواعي نقله، والحاجة إليه لم ينقله أحد إلا علقمة، ولم يضر تفرده بذلك.
فهذا ما يمكن أن يجاب عن دعوى الشذوذ والله أعلم، على أن
أصحاب ابن عمر قد أخذوا بالحديث كسعيد بن جبير كما في الأوسط (1/261) ، ومجموع الفتاوى (21/35) ، المجموع (1/162) ، والمغني. وأفتى به مجاهد كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/133) ، وكتاب الطهور لأبي عبيد (ص: 230) ، ولعل ابن القيم لم يطلع على هذا.
وأما الجواب عن إعلاله بالوقف:
فقد ضعف جماعة رفع الحديث؛ لأن مجاهداً، قد رواه موقوفاً على ابن عمر.
قال ابن القيم: رجح شيخا الإسلام: أبو الحجاج المزي، وأبوالعباس بن تيمية وقفه، ورجح البيهقي وقفه من طريق مجاهد وجعله هو الصواب انظر تهذيب السنن (1/62) ، ومجموع الفتاوى (21/35) .
فقد أخرج الدارقطني (1/23) ، والبيهقي (1/262) من طريق معاوية بن عمرو، قال: نا زائدة بن قدامة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفاً: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً.
وقد روي مرفوعاً أخرجه الدارقطني (1/23) ومن طريقه البيقهي في السنن (1/262) من طريق عبد الله بن الحسين بن جابر، ثنا محمد بن كثير المصيصي، عن زائدة به مرفوعاً، ورجح الدارقطني رواية معاوية بن عمرو الموقوفة.
وفي كلا الطريقين ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. قال فيه الحافظ في التقريب (5685) : " صدوق اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك، فكيف يعارض به حديث عبد الله وعبيد الله ابني عمر، فإن السند إليهما رجالهما رجال الشيخين، وهما أولى بأبيهما من مجاهد، كيف وقد اختلف على مجاهد، فروى ابن أبي شيبة الحديث موقوفاً عليه (1/133) ، قال: حدثنا يزيد، عن أبي إسحاق - يعني السبيعي - عن مجاهد قال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شىء.
واستدلوا أيضاً بأن الحديث روى موقوفاً على ابن عمر من طريق ابن علية، فقد روى ابن أبي شيبة (1/144) قال: حدثنا ابن علية، عن عاصم بن المنذر، عن رجل، عن ابن عمر قال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجساً، أو كلمة نحوها.
ومن طريق ابن علية أخرجه ابن جرير في تهذيب الآثار (2/223) ، والدارقطني في السنن (1/22) ، وابن عبد البر في التمهيد (1/329) .
كما رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه موقوفاً أشار إليها أبو داود (65) عقب رواية حماد بن سلمة عن عاصم، إلا أنه خالف في شيخ عاصم بن المنذر.
والجواب: قد خالف حماد بن سلمة ابن علية، فقد أخرج أبو داود (65) ، وابن الجارود (46) ، والدارقطني (1/22) من طريق حماد بن سلمة، ثنا عاصم بن المنذر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه مرفوعاً.
جاء في تلخيص الحبير (1/18) ومعالم السنن للخطابي (1/58، 59) سئل ابن معين عن هذا الطريق فقال: إسنادها جيد. قيل: فإن ابن علية لم يرفعه، قال: وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد". اهـ
وقال العلائي في جزء تصحيح حديث القلتين (ص: 48-49) : " هذا الحديث قد روي مرسلاً وموقوفاً، وكلا منهما علة في صحته، فقد رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن المنذر، عن أبي بكر بن عبيد الله، عن النبي b مرسلاً، وروي أيضاً عنه موقوفاً على ابن عمر، رواه إسماعيل بن علية، عن عاصم بن المنذر، عن رجل لم يسمه، عن ابن عمر موقوفاً عليه ".
ثم قال: إن هذا بعد التسليم كونه علة، وكون حماد بن زيد وابن علية أحفظ من حماد بن سلمة وأتقن، حتى يقدم قولهما على روايته لا تؤثر إلا في حديث عاصم بن المنذر فقط، وأما رواية أبي أسامة، ورواية محمد بن إسحاق، فهما صحيحتان، لا يقدم هذا فيهما لتباين الطرق ". الخ كلامه رحمه الله.
وبهذا يتبين أن الحديث لا يعل بالوقف، لأن رواية الرفع أرجح وأكثر.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/41) :" وأما حديث القلتين، فأكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به، وقد أجابوا عن كلام من طعن فيه، وصنف أبو عبيد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءاً رد فيه ما ذكره ابن عبد البر وغيره.
الجواب عن الجهل بمقدار القلة:
ضعف الحديث جماعة للجهل بمقدار القلة كابن عبد البر في التمهيد (1/335) قال: قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع "
وكذلك قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/16) قال:"إن هاتين القلتين لم يبين لنا في هذه الآثار ما مقدارهما " اهـ.
ووافقهما ابن القيم في تهذيب السنن (1/63) .
والجواب أن يقال:
أما الخلاف في مقدار القلة فلا يكفي في رد الحديث الصحيح، وقد اختلف العلماء في أبلغ من هذا. فقد اختلفوا هل كان الرسول b يجهر بالبسملة أم لا؟ مع أنها مسألة تتكرر في حياة الرسول b في اليوم خمس مرات ولم يكن هذا الاختلاف ما نعاً من الترجيح بينها، وكذلك الحال في القلال، فقد اختار الشافعي كما في المجموع (1/165) وأبو عبيد، وابن تيمية وغيرهم أن المراد بالقلة قلال هجر، قال أبو عبيد في كتاب الطهور (ص 238) : " وقد تكلم الناس في، القلال فقال بعض أهل العلم: هى الجرار، وقال آخرون هى: الحباب، وهذا القول هو الذي اختاره وأذهب إليه، أنها الحباب، وهى قلال هجر، معروفة عندهم، وعند العرب مستفيضة، وقد سمعنا ذكرها في أشعارهم".
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/42) : " وأما لفظ القلة فإنه معروف عندهم أنه الجرة الكبيرة، كالحب وكان b يمثل بها كما في الصحيحين أنه قال في سدرة المنتهى: "وإذا أوراقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر"، وهى قلال معروفة الصفة والمقدار، فإن التمثيل لا يكون بمختلف متفاوت ".
هذا وقد صحح الحديث جماعة من أهل العلم منهم:
النووي فقد قال في المجموع (1/162) : هذا الحديث حديث حسن ثابت، وابن حزم في المحلى (1/151) وابن تيمية في الفتاوى (21/41، 42) . وجاء في الفتاوى عنه أيضاً ترجيح كونه موقوفاً وصححه الحاكم كما في المستدرك (1/132) وقال: على شرط الشيخين. وأقره الذهبي.
وقال ابن منده كما في تلخيص الحبير (1/17) : صحيح على شرط مسلم.
وصححه ابن حبان (1249، 1253) ، وابن خزيمة (92) ، وأبو عبيد في كتاب الطهور (ص: 235) ، وابن حجر في الفتح (1/408) ، وقال: رواته ثقات، وصححه جماعة من الأئمة، وانظر تلخيص الحبير (1/17) .
وقال الخطابي في معالم السنن (1/58) : " يكفي شاهد على صحة هذا الحديث أن نجوم أهل الحديث صححوه، وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعول في هذا الباب. وصححه الشوكاني في نيل الأوطار (1/30،31) ، وأحمد شاكر كما في تحقيقه لسنن الترمذي (1/98) . والله أعلم.(1/342)
وجه الاستدلال: من الحديث من وجهين:
الوجه الأول:
أن قوله b: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، مفهومه أنه إذا كان دون القتين فإنه يحمل الخبث.
الوجه الثاني:
لو كان الماء لا ينجس إلا بالتغير لم يكن للتحديد بالقلتين فائدة؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة نجس، ولو كان مائة قلة.
الدليل الثاني:
(89) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله b يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه.
ولمسلم: ثم يغتسل منه.
وجه الاستدلال:
أن الرسول b: نهى عن البول في الماء الدائم، وقد يتغير، وقد لا(1/353)
يتغير، ونهيه عن الاغتسال فيه دليل على أنه يؤثر فيه البول، ولم يشترط الرسول b التغير.
الدليل الثالث:
(90) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب.
(91) ورواه مسلم من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرار (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي b أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب، وجعله طهارة لهذا الإناء، كما أمر بإراقة سؤره، ولم يفرق بين ما تغير وما لم يتغير، وهذا دليل على أن النجاسة تؤثر في الماء ولو لم يتغير الماء.
الدليل الرابع:
(92) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد بن عبد الله بن شقيق،
_________
(1) صحيح مسلم (279) .(1/354)
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وأخرجه البخاري دون قوله: ثلاثاً (1) .
وجه الاستدلال:
قال النووي رحمه الله: نهاه النبي b عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه.
دليل من قال: لا ينجس الماء إلا بالتغير.
الدليل الأول:
قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} الآية (2) ، وهذا الماء الذى وقعت فيه نجاسة ولم تغيره باق على صفته التى خلقها الله عليها، لا فى لونه، ولا فى طعمه، ولا في رائحته فكيف يحرم الوضوء منه، ونعدل الى التيمم مع وجوده.
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} (3) ، فقد سمى الله الماء طهوراً، وهو إنما يكون طهوراً بصفته، فلا ينزع عنه اسم الطهورية حتى تنتفي عنه هذه الصفة بالتغير، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الماء طاهر في نفسه
_________
(1) البخاري (162) ، ومسلم (278) .
(2) المائدة: 6.
(3) الفرقان: 48.(1/355)
مطهر لغيره، فوجب ثبوت هذا الوصف له على كل حال، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، فإذا أطلق الله ذلك ولم يقيده بحال دون حال، فكل شيء خالطه من شيء نجس أو طاهر، ولم يغير ذلك المخالط له أحد أوصافه، بقي على أصله من الطهارة والتطهير، كان الماء قليلاً أو كثيراً، إلا أنا نكره استعمال القليل منه الذي لا مادة له، ولا أصل، مع كونه في الحكم طاهراً.
الدليل الثالث:
(93) ما رواه أحمد، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا مطرف، عن خالد بن أبي نوف، عن سليط بن أيوب (1) ، عن ابن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي b، وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله توضأ منها وهى يلقى فيها ما يلقى من النتن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء (2) .
[صحيح بشواهده وسبق تخريجه] .
وجه الاستدلال:
أن الرسول b حكم أن الماء طهور لا ينجسه شىء، وهذا يشمل القليل والكثير، بقى ما تغير بالنجاسة فإنه نجس بالإجماع، وما عداه فهو طهور.
_________
(1) سقط اسم (سليط بن أيوب) من المطبوع، واستدركته من أطراف المسند (6/269) .
(2) المسند (3/15،16) .(1/356)
الدليل الرابع:
الأصل في الماء أنه طهور، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب لا مخالف له، والفرق بين الماء النجس والماء الطهور هو أنه يوجد في الماء النجس صفات يحكم من خلالها بنجاسته، فإذا لم يظهر في الماء أثر النجاسة لافي لونه، ولافي طعمه، ولافي رائحته، فكيف نحكم عليه بأنه نجس (1) .
الدليل الخامس:
معلوم أنه إذا استحال الشيء بالشيء حتى لا يرى له ظهور يحكم له بالعدم، وعلى هذا فلو وقعت قطرة من لبن امرأة في ماء، فاستهلكت، وشربه الرضيع خمس رضعات فأكثر لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يجلد بشربه، فكذلك لو كانت قطرة بول لم تغير الماء يبقى الماء على أصله (2) .
الدليل السادس:
(94) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي b: دعوه، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (3) .
_________
(1) انظر بتصرف مجموع الفتاوى (21/35) .
(2) بدائع الفوائد (3/258) ، مجموع الفتاوى (21/33) .
(3) صحيح البخاري (220) .(1/357)
وجه الاستدلال:
قالوا: نعلم قطعاً أن بول الأعرابي باق في موضعه، وإن صب عليه ذلك الماء، وإنما قضى النبي b بطهارة ذلك الموضع لغلبة الماء له، واستغراقه عليه، واستهلاك أجزائه لأجزاء البول لغلبته عليه.
وقال الباجي: وهو حجة على أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، في قولهم: إن قليل الماء ينجسه قليل النجاسة، وإن لم تغيره، وهذا مسجد النبي b، وهو أرفع المواضع التي يجب تطهيرها، وقد حكم النبي فيه b بصب دلو من ماء على مانجس بالبول، ولا معنى له إلا تطهيره للمصلين فيه (1) .
قلت: ولا ينفكون منه بالتفريق بين ورود النجاسة على الماء، وورود الماء على النجاسة؛ لأن هذا التفريق لم يقم عليه دليل، وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.
الجواب عن الأدلة السابقة:
أما الجواب عن حديث القلتين فمن وجهين:
الوجه الأول: أن يقال عندنا منطوق ومفهوم، والمنطوق مقدم علىالمفهوم.
فحديث: "الماء طهور لا ينجسه شىء" منطوقه يشمل القليل والكثير.
وحديث: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" منطوقه موافق لحديث:"إن الماء طهور لا ينجسه شىء" لأن منطوقه أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء.
ومفهومه: أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس، وهذا المفهوم
_________
(1) المنتقى (1/129) .(1/358)
معارض لمنطوق حديث أبي سعيد، فيقدم المنطوق على المفهوم، فنأخذ من حديث القلتين منطوقه فقط، ولا نأخذ مفهومه؛ لأنه يعارض منطوق حديث أبي سعيد.
قال ابن المنذر في الأوسط للتدليل على هذه القاعدة: ونظير ذلك قوله تعالى {حافظوا على الصلوات} الآية (1) ، فأمر بالمحافظة على الصلوات، والصلوات داخلة في جملة قوله: {حافظوا على الصلوات} (2) ، ثم خص الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها، فقال: {والصلاة الوسطى} (3) ، فلم تكن خصوصية الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مخرجاً سائر الصلوات من الأمر العام الذي أمر بالمحافظة على الصلوات " اهـ (4) .
فكأن ابن المنذر يقول مفهوم {والصلاة الوسطى} (5) الآية، لم يؤخذ ويعارض به منطوق حافظوا على الصلوات.
أو نقول بتعبير آخر: إذا ذكر عموم، ثم ذكر فرد من أفراد العموم يوافق العموم في الحكم، فإن هذا الفرد لا يعتبر مخصصاً ولا مقيداً للعموم.
مثال ذلك: إذا قلنا: أكرم طلبة العلم، فهذا لفظ يفيد عموم الطلبة، ثم قلنا: أكرم زيداً، وكان زيد من طلبة العلم، فإنه لا يفهم منه تخصيص الإكرام لزيد وحده.
_________
(1) البقرة: 238.
(2) البقرة: 238.
(3) نفس السورة، ونفس الآية.
(4) الأوسط (1/270) .
(5) البقرة: 238.(1/359)
فالرسول b قال: "إن الماء طهور لا ينجسه شىء" هذا عام يشمل القليل والكثير، ثم أخبر الرسول b بحديث القلتين، أن الماء الكثير لا ينجس، فهو فرد من أفراد قوله b: "الماء طهور لا ينجسه شىء" فلا يقتضي تخصيصه ولا تقييده.
الوجه الثاني: أن يقال إن الرسول الله b أراد أن يعطي حكماً أغلبياً وليس حكماً مطرداً. فالرسول b قال في حديث ابن عمر: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " هل معنى ذلك أنه لا ينجس أبداً؟
الجواب: لا. إذ لو تغير بالنجاسة لنجس إجماعاً، ولكن معنى لم يحمل الخبث: أي غالباً لا يتغير بالنجاسة.
ومفهومه: إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث أي في الغالب أيضاً، وليس مطلقاً، وكيف نعرف أنه حمل الخبث أو لم يحمل؟
الجواب: نعرف ذلك بالتغير، فالغالب أن الماء إذا كان دون القلتين أنه يتغير بالنجاسة فإن لم يتغير عرفنا أنه لم يحمل الخبث.
فإذا كان منطوق الحديث يحمل على الغالب بالإجماع، فكذلك مفهوم الحديث ينبغي أن يحمل على الغالب من باب أولى، لأن
المفهوم أضعف من المنطوق (1) .
أما الجواب عن حديث لا يبولن أحدكم في الماء الدائم واستدلالهم بأن النبي b ما نهى عن الاغتسال في الماء الدائم بعد البول فيه إلا لأنه يتنجس بذلك.
_________
(1) راجع للاستزادة إغاثة اللهفان (1/156) وفتح الباري (1/408، 414) ، والأوسط (1/260) وتهذيب السنن (1/56-74) .(1/360)
فالجواب عن ذلك:
أولاً: أن النهي عن الاغتسال فيه لا يدل على أنه تنجس، ألا ترى أن الجنب قد نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مع أن بدنه طاهر كما في قوله b: " إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه، ومع ذلك لو انغمس في الماء الدائم فإنكم لا تقولون بنجاسته كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، ورواية في مذهب الحنفية.
ثانياً: لم يتعرض الرسول b لحكم الماء، ولم يقل إنه أصبح نجساً بمجرد البول فيه، فالحديث ليس فيه إلا النهي عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه.
ثالثاً: أن الماء الدائم يشمل ما فوق القلتين، وما دون القلتين وما يشق نزحه وما لا يشق، وما يتحرك آخره بتحرك طرف منه وما لا يتحرك.
قال ابن القيم: " إن النبي b نهى عن البول في الماء الدائم، ثم يغتسل البائل فيه، هكذا لفظ الصحيحين: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعد ما بال فيه، وهذا خلاف صريح للحديث.
فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله في الماء فيما فوق القلتين؟
إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن منعته فقد نقضت دليلك.
وكذلك يقال لمن حده بمشقة النزح أو التحريك.
أما تفريق الظاهرية رحمهم الله فإنه غريب جداً، فإذا كان النبي b نهى عن البول في الماء الدائم، مع أنه قد يحتاج إليه، فلأن ينهى عن البول في إناء ثم يصبه فيه بطريق الأولى. ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة(1/361)
وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم، والظاهرية البحتة تقسي القلوب، وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والنصائح والعدل والرحمة (1) .
وعلق النووي على هذا المذهب، فقال: "وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد، فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله، وفساده مغن عن الاحتجاج عليه، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه، وقالوا: فساده مغن عن إفساده، وقد خرق الإجماع في قوله "في الغائط" إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول، ثم تفريقه بين البول في نفس الماء، والبول في إناء ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء".
حتى قال رحمه الله: وفي الصحيح: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله " فلو أمر غيره فغسله، إن قال داود: لا يطهر لكونه ما غسله هو: خرق الاجماع، وإن قال: يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض، والله أعلم (2) .
فإن قيل ما الحكمة إذاً من النهي عن البول في الماء الدائم؟
فالجواب:
أولاً: سداً للذريعة، لأنه قد يفضي الأذن بالبول فيه إلى تنجسه، وليس مجرد البول فيه ينجسه، ولكن إذا تكاثر البول في الماء الدائم قد يتنجس، فمنع سداً للذريعة.
ثانياً: لأن الطباع مجبولة على كراهية استعمال الماء الدائم الذي يبال فيه، ولذلك نهى رسول الله b الجنب عن الاغتسال فيه، وإن كان بدن
_________
(1) تهذيب السنن (1/66) ، ومجموع الفتاوى (21/34) .
(2) المجموع (1/169) .(1/362)
الجنب طاهراً، فيكون النهي من أجل استقذار النفس له.
ثالثاً: أن البول في الماء الدائم، ثم استعماله بعد ذلك قد يصيب الانسان بنوع من الوساوس، هل استعمل البول باستعمال الماء أم لا؟ فأحب الرسول b أن يقطع وساوس الشيطان، فنهى عن البول في الماء الدائم، لا أن مجرد البول القليل يكفي لتنجيسه، والله أعلم (1) .
أما الجواب عن حديث الولوغ:
فيمكن أن يجاب بأحد جوابين.
أولاً: زيادة " فليرقه " زيادة شاذة (2) .
_________
(1) المراجع السابقة.
(2) قال النسائي في السنن (1/53) : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (18/273) : وأما هذا اللفظ من حديث الأعمش "فليهرقه " فلم يذكره أصحاب الأعمش الثقات الحفاظ مثل شعبة وغيره
وقال ابن مندة كما في فتح الباري (1/331) ، وتلخيص الحبير (1/23) : لا تعرف عن النبي b بوجه من الوجوه إلا من روايته.
وقال حمزة الكناني كما في فتح الباري (1/330) : إنها غير محفوظة.
ومعلوم أن علي بن مسهر رواه عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة، والذين رووه عن الأعمش ولم يذكروا هذه الزيادة جماعة، منهم:
الأول: اسماعيل بن زكريا عند مسلم (279) .
الثاني: أبو معاوية عند أحمد (2/253) .
الثالث: عبد الرحمن بن زياد عند الدارقطني (1/63) وإن كان ضعيفاً.
الرابع: شعبة عند أحمد (2/480) والطيالسي (2417) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/21) والتمهيد لابن عبد البر (18/267) .
الخامس: أبو أسامة عند ابن أبي شيبة (14/204) وهو حماد بن أسامة.
السادس: حفص بن غياث، كما في شرح معاني الآثار (1/21) .
السابع: جرير كما في مسند إسحاق بن راهوية (1/283) .
الثامن: عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي كما في المعجم الصغير للطبراني (1/164) .
التاسع: أبان بن تغلب، كما في المعجم الصغير (2/149) ، إلا أن هؤلاء منهم من رواه عن الأعمش عن أبي صالح وأبي رزين به كإسماعيل بن زكريا، وأبي معاوية، وعبد الرحمن بن زياد، وعبد الرحمن بن حميد، ومنهم من رواه عن الأعمش عن أبي رزين وذلك كأبي معاوية، وأبي أسامة، وجرير، وأبان بن تغلب، ومنهم من رواه عن الأعمش عن أبي صالح كشعبة فصار الأعمش تارة يجمع شيوخه وتارة يفرقهما، فهؤلاء تسعة رووه عن الأعمش، ولم يذكروا ما ذكره علي بن مسهر عن الأعمش.
ولا يقارن علي بن مسهر بشعبة فكيف بمن معه، وقد وافق شعبة عن الأعمش أبو معاوية، وقد سئل يحيى بن معين: من أثبت أصحاب الأعمش؟ قال: بعد سفيان وشعبة أبو معاوية.
وقال أحمد بن حنبل: كان أبو معاوية إذا سئل عن أحاديث الأعمش يقول: قد صار حديث الأعمش في فمي علقماً، أو هو أمر من العلقم لكثرة ما تردد عليه حديث الأعمش، وقال له شعبة: يا أبا معاوية، سمعت حديث كذا وكذا من الأعمش؟ قال: نعم. قال شعبة: هذا صاحب الأعمش، فاعرفوه، قال أبو معاوية عن نفسه: البصراء كانوا عليَّ عيالاً عند الأعمش، قال هذا لأنه ضرير.
كما رواه جماعة عن أبي هريرة، من غير طريق الأعمش، وليس فيه ذكر هذه الزيادة، وهاك بعض من وقفت عليه.
الأول: الأعرج، كما في مسند الشافعي (ص: 7) ، ومسند أحمد (2/245) ، ومسند الحميدي (967) ، وصحيح مسلم (279) ، وسنن النسائي (63) ، وابن ماجه (364) ، والمنتقى لابن الجارود (50،52) ، ومسند أبي عوانة (1/176) ، وصحيح ابن خزيمة (96) ، وصحيح ابن حبان (1294) ، والسنن الكبرى للبيهقي (1/240،256) .
الثاني: محمد بن سيرين، كما في مسند الشافعي (ص: 8) ، ومصنف عبد الرزاق (330،331) ، ومصنف بن أبي شيبة (1/159) ، ومسند أحمد (2/427،508) ، ومسلم (279) ، وسنن أبي داود (71،72،73) ، والنسائي في الكبرى (68) ، وفي الصغرى (339) ، ومسند أبي عوانة (1/177) ، وشرح معاني الآثار (1/21) ، والمعجم الأوسط للطبراني (946،1326) ، وصحيح ابن خزيمة (95،97) ، صحيح ابن حبان (1297) ، سنن الدراقطني (1/64) ، والحاكم (569،570،572) ، السنن الصغرى للبيهقي (1/132) ، والكبرى (1/240،241،247) .
الثالث: همام بن منبه، كما في مصنف عبد الرزاق (329) ، ومسند أحمد (2/314) ، وصحيح مسلم (279) ، صحيح ابن حبان (1295) ، المسند المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم (1/335) ، السنن الكبرى للبيهقي (1/240) .
الرابع: أبو رافع، كما في مسند إسحاق بن راهوية (1/121) ، والسنن الكبرى للنسائي (69) ، والصغرى (338) ، والدارقطني (1/65) ، والبيهقي الكبرى (1/241) .
الخامس: الحسن، كما في سنن الدارقطني (1/64) .
السادس: ثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، كما في مصنف عبد الرزاق (335) ، ومسند أحمد (2/271) ، والسنن الكبرى للنسائي (66) ، والصغرى (64) ،
السابع: أبو سلمة، عن أبي هريرة، كما في مصنف عبد الرزاق (335) ، ومسند أحمد (2/271) ، والسنن الكبرى للنسائي (67) ، والصغرى (65) ،.
الثامن: عطاء بن يسار، كما في المعجم الأوسط للطبراني (3719) .
التاسع: عبد الرحمن بن أبي عمرة، كما في مسند أحمد (2/360،482) .
العاشر: عن عبيد بن حنين مولى بن زريق، كما في مسند أحمد (2/398) .
ولا شك أن تفرد علي بن مسهر دون هؤلاء يوجب شذوذ هذه اللفظة؛ لأن علي بن مسهر قال فيه الحافظ في التقريب (4800) ثقة له غرائب بعد أن أضر " اهـ.(1/363)
ومع الحكم بشذوذ " فليرقه "، إلا أن المعنى يقتضي تنجس الماء ولو لم يتغير، لأن الرسول b أمر بغسل الإناء، وجعل ذلك طهارة للإناء.
(95) فقد روى مسلم من طريق ابن سيرين وهمام بن منبه، كلاهما عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله b: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن(1/365)
يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (1) .
ومعلوم أن نجاسة الإناء إنما جاءت من نجاسة الماء؛ لأن الولوغ إنما وقع على الماء، فتنجس الإناء لنجاسة الماء؛ ولأن النجاسة لو كانت للإناء وحده لأمر الرسول b أن يغسل من الإناء جهة الولوغ فقط، فلما أمر بغسل الإناء كله، علم أن النجاسة إنما سرت عن طريق الماء المتنجس. فإن قال قائل: إذاً كيف حكمتم على الأمر بالإراقة بالشذوذ؟
فالجواب: لا يلزم من الحكم بنجاسة الماء الحكم بوجوب إراقته؛ لأن الماء إذا تنجس لا يكون نجس العين، إذ يمكن تطهيره، وإذا أمكن تطهيره أمكن الانتفاع به بخلاف ما إذا أوجبنا إراقته.
ولا يعني ذلك إذا حكمنا بنجاسة الماء أن نقول بنجاسة كل ماء قليل حلت فيه نجاسة ولو لم يتغير؛ لأن الكلاب خصت ببعض الأحكام من دون سائر النجاسات، فمنها التسبيع، ومنها التتريب، فلا يقاس الأخف على الأغلظ.
على أنه قد يقال: لا نسلم عدم التغير؛ لأن لعاب الكلب له لزوجة قد لا تتحلل في الماء فتظهر على شىء منه، فيكون هذا نوعاً من تغير الماء عن طبيعته بالنجاسة، فينجس والله أعلم.
وسوف تأتي أقوال العلماء في نجاسة الكلب وكيفية التطهر منه إن شاء الله تعالى.
أما الجواب عن حديث النهي عن غمس اليد في الماء:
فقد استدل به من الحنابلة ابن قدامة (2) ، واستدل به من الشافعية
_________
(1) صحيح مسلم (279) .
(2) المغني (1/40) .(1/366)
النووي على نجاسة الماء اليسير إذا لا قى النجاسة ولو لم يتغير، قال النووي: " فنهاه b عن غمس يده، وعلله بخشية النجاسة، ويعلم بالضرورة أن النجاسة التي تكون على يده، وتخفى عليه لا تغير الماء، فلولا تنجسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه (1) . اهـ
وكيف يستدل به الحنابلة رحمهم الله، وهم يرون أن العلة في النهي تعبدية، وأن الماء يكون طاهراً عندهم غير مطهر: لا طهور ولا نجس، وكيف يستدل به الشافعية، وهم يرون أن غمس القائم من نوم الليل يده في الماء غاية ما فيه أنه مكروه، ويصح التطهر منه، فكيف صح دليلاً لهم في هذه المسألة، وهم لا يرون أبداً نجاسة الماء إذا غمس النائم فيه يده، فهذا نوع من التاقض والله أعلم، وكما بينت سابقاً أن الرسول b لم يتعرض لحكم الماء، إنما نهى النائم عن غمس يده، ولو غمسها كان آثماً إذا كان عالماً بالنهي، والماء طهور، والله أعلم.
فالراجح من الخلاف: أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وهذه المسألة أطلت فيها البسط؛ لأنها من المسائل الشائكة، قال ابن القيم عن هذه المسألة: هنا معترك النزال وتلاطم الأمواج، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت، ولم يظهر لها فيه أثر البتة (2) . وقال الشوكاني: وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو صواب فيها إلا الأفراد (3) . اهـ
_________
(1) المجموع (1/168) .
(2) بدائع الفوائد (3/257،258) .
(3) نيل الأوطار (1/301) .(1/367)
فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.(1/368)
الفصل الثاني
في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة(1/369)
[صفحة فارغة](1/370)
المبحث الأول
في الماء الكثير إذا لاقته نجاسة فلم تغيره
قد علمنا في المسألة السابقة خلاف العلماء في تحديد القليل والكثير، فإذا كان الماء كثيراً، فوقعت فيه نجاسة، فلم تغيره، فما حكمه؟
والجواب إن كان هذا الكثير مما يشق نزحه، وإذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الأخر فإنه طهور إجماعاً، ساق الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وغيرهم من المجتهدين.
قال ابن الهمام من الحنفية: للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا به. يعني: بالتغير (1) .
وقال أبو الوليد بن رشد، من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لاينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (2) .
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الماء الكثير من النيل والبحر، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسة، فلم تغير له لوناً ولا طعماً ولا ريحاً أنه بحاله يتطهر منه (3) .
وقال عبد الرحمن بن قدامة من الحنابلة: لا نعلم خلافاً أن الماء الذي لا
_________
(1) شرح فتح القدير (1/77،78) ، وانظر البناية (1/319) ، البحر الرائق (1/94) .
(2) مواهب الجليل (1/53) ، ونقل الإجماع كذلك ابن عبد البر كما في التمهيد (9/108) ، وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد (1/245) : " واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه، وأنه طاهر ".
وقال الحطاب في مواهب الجليل (1/53) : الماء الكثير إذا خالطه شيء نجس، ولم يغيره، فإنه باق على طهوريته. اهـ وانظر الخرشي (1/77) .
(3) الإجماع (ص: 33) ، وانظر الأوسط (1/261) .(1/371)
يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة، مثل المصانع التي جعلت مورداً للحجاج بطريق مكة يصدرون عنها، ولا ينفذ ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغير (1) .
وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء، منهم:
الطبري (2) ، وابن حزم (3) ، وابن تيمية (4) ، وابن قدامة (5) ، وابن دقيق العيد (6) ، والزركشي (7) ، وابن رجب (8) ، والعراقي في طرح التثريب (9) ، وابن عبد الهادي (10) ، والشوكاني (11) ، وغيرهم.
_________
(1) الشرح الكبير (1/13) .
(2) تهذيب الآثار (2/219،233) .
(3) مراتب الإجماع (ص: 17) .
(4) نقد مراتب الإجماع (ص: 17) .
(5) المغني (1/39) .
(6) إحكام الأحكام (1/22،23) .
(7) شرح الزركشي (1/134،134) .
(8) القواعد (29) .
(9) طرح التثريب (1/36) .
(10) مغني ذوي الأفهام (ص: 42) .
(11) نيل الأوطار (1/45) .(1/372)
المبحث الثاني
في الماء الكثير إذا غيرته النجاسة
إذا وقعت في الماء نجاسة فغيرته، فإنه نجس لا فرق بين قليله وكثيره، وقد نقل الإجماع على ذلك طوائف من أهل العلم.
قال الطحاوي من الحنفية: أجمعوا أن النجاسة إذا وقعت في البير، فغلبت على طعم مائها، أو ريحه، أو لونه، أن ماءها قد فسد (1) .
وقال ابن نجيم أيضاً: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة منه قليلاً أو كثيراً، جارياً كان أو غير جار، هكذا نقل الإجماع في كتبنا (2) .
وقال القاضي أبو الوليد ابن رشد من المالكية: لا خلاف أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه (3) .
وقال الشافعي رحمه الله: وما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه، أو لونه، كان نجساً، يروى عن النبي b من وجه لا يثبت مثله أهل الحديث، وهو قول العامة لا أعلم بينهم فيه اختلافاً (4) .
وقال النووي: واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص، خص منه
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/12) ، ونقل الإجماع العيني كما في البناية (1/130) ، وابن الهمام كما في شرح فتح القدير (1/77) ، وغيرهما.
(2) البحر الرائق (1/74) .
(3) مواهب الجليل (1/53،60) ، وانظر مقدمات ابن رشد (1/57) ، والمنتقى للباجي (1/56،59) ، وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/223) : فإن تغير الماء لم يطهر إجماعاً. وانظر البيان والتحصيل (1/42،60،134) ، القوانين الفقهية (32) .
(4) الأم (1/13) .(1/373)
المتغير بنجاسة، فإنه نجس للإجماع (1) .
وقال الزركشي من الحنابلة: إن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه، وإن كثر ولا نزاع في ذلك، وحكاه ابن المنذر إجماعاً (2) .
وقال ابن تيمية: إذا وقع في الماء نجاسة، فغيرته، تنجس اتفاقاً (3) .
وقد نقل الإجماع طوائف من العلماء منهم:
ابن عبد البر (4) ، وأبو العباس بن سريج (5) ، وابن جرير الطبري (6) ، وابن المنذر (7) ، وابن حبان (8) ، والقاضي عياض (9) ، وابن القطان الفاسي (10) ،
_________
(1) المجموع (1/131) ، وقد نقل الإجماع مجموعة من الشافعية، منهم الماوردي في الحاوي (1/325) ، والعراقي في طرح التثريب (2/32،35) ، 33) ، شرح المنهج (1/41) ، الغرر البهية (1/34) .
(2) شرح الزركشي (1/127) .
(3) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 18) .
(4) التميهد (18/235،236) ، (19/16) ، والاستذكار (1/211) .
(5) الودائع لنصوص الشرائع (1/93) .
(6) تهذيب الآثار (2/213،216) .
(7) الأوسط (1/260) ، والإجماع (ص: 33) .
(8) قال ابن حبان في صحيحه (4/59) : قوله b: الماء لا ينجسه شيء، لفظة أطلقت على العموم، تستعمل في بعض الأحوال، وهو المياه الكثيرة التي لا تحتمل النجاسة فتظهر فيها، وتخص هذه اللفظة التي أطلقت على العموم ورود سنة، وهو قوله b: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ويخص هذين الخبرين الإجماع على أن الماء قليلاً كان أو كثيراً فغير طعمه أو لونه أو ريحه نجاسة وقعت فيها، أن ذلك الماء نجس بهذا الإجماع الذي يخص عموم تلك اللفظة المطلقة التي ذكرناها. اهـ
(9) مواهب الجليل (1/60) .
(10) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني (1/49) .(1/374)
وابن دقيق العيد (1) ، وابن الفاكهاني (2) ، وابن الملقن (3) ، وابن مفلح (4) ، وغيرهم (5) .
ومن النظر: أن الله سبحانه وتعالى حرم استعمال النجاسة، والماء المتغير بالنجاسة إذا استعمل فقد استعملت النجاسة، لظهور أثرها في الماء من لون أو طعم أو رائحة، والله أعلم.
_________
(1) إحكام الأحكام (1/22،23) .
(2) مواهب الجليل (1/85) .
(3) نيل الأوطار (1/40) .
(4) المبدع (1/52) .
(5) انظر إجماعات ابن عبد البر في العبادات (1/124) .(1/375)
[صفحة فارغة](1/376)
الفصل الثالث
في المائع غير الماء تخالطه نجاسة
عرفنا في الفصل السابق حكم الماء تخالطه النجاسة، قليلاً كان أم كثيراً، تغير أم لم يتغير، وفي هذا الفصل نناقش المائع من غير الماء تخالطه النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة.
فقيل: إذا خالطت النجاسة مائعاً غير الماء فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة، من غير فرق بين القليل والكثير، وبين المتغير، وغير المتغير، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ،
_________
(1) الفتاوى الهندية (1/45) ، وأحكام القرآن للجصاص (1/166،167) ، المبسوط (10/198) .
(2) حاشية الدسوقي (1/59) ، وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 189) : ولا تطهر الأدهان النجسة بغسلها، وهذا تحصيل مذهب مالك وطائفة من المدنيين. اهـ
وانظر التمهيد (9/46) ، مواهب الجليل (1/110-114) ، التاج والإكليل (1/113) ، الفواكه الدواني (1/388) .
(3) قال النووي في المجموع (2/620) : إذا نجس الزيت والسمن والشيرج وسائر الأدهان، فهل يمكن تطهيره؟ فيه وجهان مشهوران، وقد ذكرهما المصنف في باب ما يجوز بيعه
أصحهما عند الأكثرين: لا يطهر بالغسل ولا بغيره، لقوله b في الفأرة تقع في السمن: إن كان مائعاً فلا تقربوه. ولم يقل اغسلوه، ولو جاز الغسل لبينه لهم، وقياساً على الدبس والخل وغيرهما من المائعات إذا تنجست، فإنه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلاف.
والثاني: يطهر بالغسل، بأن يجعل في إناء ويصب عليه الماء ويكاثر به ويحرك بخشبة ونحوها تحريكاً يغلب على الظن أنه وصل إلى أجزائه، ثم يترك حتى يعلو الدهن، ثم يفتح أسفل الإناء، فيخرج الماء، ويطهر الدهن، وهذا الوجه قول ابن سريج، ورجحه صاحب العدة، وقال البغوي وغيره: ليس هو بصحيح، وقال صاحب العدة: لا يطهر السمن بالغسل قطعاً، وفي غيره الوجهان، والمشهور أنه لا فرق. اهـ وانظر المجموع أيضاً (9/40) ، وحاشية البجيرمي (1/26) ، روضة الطالبين (3/349) ، منهاج الطالبين (1/6) .(1/377)
والحنابلة (1) .
وقيل: حكمه حكم الماء، لا تنجس منه القلتان فما فوق إلا بالتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة.
وقيل: التفرقة بين المائع المائي كالخل ونحوه، وغيره، فالمائع الذي يشبه الماء حكمه حكم الماء، وغير الماء كالزيوت والأدهان فتنجس بملاقاة النجاسة، قل أو كثر، تغير أم لم يتغير، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: المائعات إذا وقعت فيها نجاسة لا تنجس إلا إذا تغير طعمها أو لونها أو ريحها بسبب النجاسة، إلا السمن الذائب تقع فيه الفأرة، فإنه يتنجس مطلقاً، سواء ماتت فيه، أو خرجت وهي حية، وهذا اختيار ابن حزم (3) .
دليل من قال بنجاسة المائع مطلقاً إذا وقعت فيه نجاسة.
الدليل الأول:
(96) ما رواه أحمد، قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا معمر، أنا ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله b عن فأرة وقعت في سمن، فماتت قال: إن كان جامداً فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي،
_________
(1) الإنصاف (1/321) ، كشاف القناع (1/188) ، المبدع (1/243) .
(2) المغني (1/33) ، الإنصاف (1/67) ، المبدع (1/56) ،.
(3) المحلى (1/142) .(1/378)
وإن كان مائعاً فلا تأكلوه (1) .
[أخطأ فيه معمر سنداً ومتناً] (2) .
_________
(1) المسند (2/232) .
(2) والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (5/128) رقم 24393 حدثنا عبد الأعلى.
وأخرجه أحمد (2/265) وأبو داود (3842) ، وابن الجارود في المنتقى (871) ، وابن حبان (1394، 1393) ، والبيقهي (9/353) ، والبغوي (2812) ، والخطيب البغدادي (1/213) ، وابن عبد البر في التمهيد (9/37،38) من طريق عبد الرزاق، وهو في المصنف (278) .
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/380) ، والطبراني في الأوسط (2452) ، والدارقطني في العلل (7/287) من طريق يزيد بن زريع.
وأخرجه أبو يعلى الموصلي (5841) ، والبيهقي في السنن (9/353) وفي المعرفة (14/126) ، وابن عبد البر في التمهيد (9/38) من طريق عبد الواحد بن زياد.
وأخرجه أحمد (2/232) عن محمد بن جعفر كما في حديث الباب، خمستهم عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة.
واختلف على الزهري فيه:
فرواه معمر بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فخالف في إسناده ومتنه، أما المتن فقد انفرد بقوله: " وإن كان مائعاً فلا تأكلوه "
وأما المخالفة في الإسناد فجعل الحديث من مسند أبي هريرة، وهو من مسند ميمونة، فقد رواه عن الزهري سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، بل ومعمر بن راشد أيضاً رووه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً، وهاك بيان هذه الطرق.
الطريق الأول: سفيان بن عيينة، عن الزهري.
أخرجه البخاري في صحيحه (5538) ، وابن المنذر في الأوسط (869) ، والطبراني في المعجم الكبير (1043) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/353) ، وابن عبد البر في التمهيد (9/36) من طريق الحميدي عن سفيان به. وهو في مسنده (312) بلفظ: أن فأرة وقعت في سمن، فماتت، فسئل رسول الله b عنها، فقال: ألقوها وما حولها، وكلوه".
قال الحميدي: فقيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة؟
قال سفيان: ما سمعت الزهري يحدثه إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي b، وقد سمعته منه مراراً.
كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/128) رقم 24392.
ومن طريقه أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3099) والطبراني في المعجم الكبير (24/15) رقم 25.
وأخرجه أحمد في المسند (6/329) ، وأبو داود (3841) عن مسدد، والترمذي (1798) عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وأبي عمار، والنسائي (4258) عن قتيبة، والدارمي (738) عن محمد بن يوسف و (2083) عن علي بن عبد الله، وأبو يعلى في مسنده (7078) عن أبي خيثمة، وابن الجارود في المنتقى (872) عن ابن المقرئ وسعيد بن بحر القراطيسي جميعهم رووه عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً لم يذكروا التفصيل: إن كان مائعاً.
وخالفهم إسحاق بن راهوية، فرواه ابن حبان في صحيحه (1389) من طريقه عن سفيان به، وزاد في متنه: وإن كان ذائباً فلا تقربوه.
ولا شك أن مخالفة إسحاق للحميدي وأحمد وابن أبي شيبة وقتيبة ومسدد وأبي خيثمة ومحمد بن يوسف وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي وأبي عمار وغيرهم تجعل روايته من قبيل الوهم، إذ يبعد أن تكون اللفظة محفوظة من حديث سفيان ثم يتركها أصحابه.
وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (11/378) في ترجمة إسحاق، وقال: " نعم ما علمنا استغربوا من حديث ابن راهوية على سعة علمه سوى حديث واحد، وذكر الحديث، ثم قال: فزاد إسحاق في المتن من دون سائر أصحاب سفيان هذه الكلمة: وإن كان ذائباً فلا تقربوه، قال الذهبي: ولعل الخطأ فيه من بعض المتأخرين، أو من راويه عن إسحاق.
الطريق الثاني: الأوزاعي، عن الزهري.
أخرجه أحمد في مسنده (6/330) ثنا محمد بن مصعب قال ثنا الأوزاعي به.
الطريق الثالث: عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري به.
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3101) والطبراني في المعجم الكبير (24/15) رقم 27 كلاهما من طريق خالد بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري به. وأحال ابن أبي عاصم على رواية ابن عيينة.
الطريق الرابع: مالك بن أنس، عن الزهري.
اختلف على مالك على خمسة أوجه على النحو التالي:
الوجه الأول: مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة.
أخرجه مالك في الموطأ برواية يحيى بن يحيى (2/971) .
وأخرجه البخاري (235) ، وأبو نعيم في الحلية (3/379) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/352) من طريق إسماعيل بن أبي أويس.
وأخرجه البخاري (236) من طريق معن بن عيسى.
وأخرجه البخاري أيضاً (5540) عن عبد العزيز بن عبد الله.
وأخرجه أحمد (6/335) ، والنسائي في الكبرى (3/87) وفي الصغرى (7/157) من طريق عبد الرحمن بن مهدي.
وأخرجه الدارمي (2086) عن زيد بن يحيى.
والطبراني في المعجم الكبير (23/429) رقم 1042 من طريق سعيد بن داود.
وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (9/37) من طريقي أشهب بن عبد العزيز وسعيد بن أبي مريم، جميعهم رووه عن مالك، عن ابن شهاب به.
الوجه الثاني: مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس مرفوعاً بدون ذكر ميمونة.
رواه القعنبي كما في الأوسط لابن المنذر (2/284) ، وأبو نعيم في الحلية (3/379) .
وخالد بن مخلد كما في سنن الدارمي (2084) .
ومحمد بن الحسن الشيباني كما في موطأ مالك من روايته (ص: 341) رقم 984.
كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد (9/33) أن التنيسي وعثمان بن عمر ومعن بن عيسى، وإسحاق بن سليمان الرازي، وأبو قرة موسى بن طارق، وإسحاق بن محمد الفروي، كل هؤلاء رووه عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي b لم يذكروا ميمونة. ولم أقف على هذه الروايات.
ورواه الدارقطني في العلل (5/ق 180ب) من طريق يحيى القطان، ثنا مالك به، فكل هؤلاء رووه من مسند ابن عباس.
وذكر الدارقطني وابن عبد البر في التمهيد (9/35) والعقيلي في الضعفاء (3/87) أن الأوزاعي رواه عن الزهري من مسند ابن عباس، فتابع فيه مالكاً من هذا الوجه. ولعل ابن عباس تارة يسنده عن ميمونة، وتارة يرسله، ومرسل الصحابي حجة.
الوجه الثالث: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس.
رواه ابن وهب، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ميمونة، بدون ذكر ابن عباس، ذكرها ابن عبد البر في التمهيد (9/33) تعليقاً مجزوماً به، كما أخرجه تعليقاً أبو نعيم في الحلية (3/379) ، وأشار إليها الدارقطني في العلل.
ولم أعلم أحداً تابع ابن وهب على هذه الرواية، فهي رواية شاذة.
الوجه الرابع: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله عن ابن مسعود مرفوعاً
رواه أبو نعيم في الحلية (3/379) من طريق عبد الملك بن الماجشون، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود مرفوعاً.
وقد انفرد ابن الماجشون بجعل رواية مالك من مسند ابن مسعود، ولا أعلم أحداً تابعه على ذلك، وهي تخالف رواية الثقات من أصحاب مالك.
الوجه الخامس: مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن النبي b مرسلاً.
رواه مالك في الموطأ برواية أبي مصعب عنه (2179) .
كل هؤلاء رووه مخالفين لمعمر بن راشد، فلم يذكروا فيه ما ذكره من جعله من مسند أبي هريرة، كما لم يذكروا: وإن كان مائعاً فلا تقربوه، بل إن معمراً له رواية توافق رواية الجماعة في سنده، وهي أولى أن تكون محفوظة، فقد أخرجه أبو داود (3843) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/353) عن أحمد بن صالح.
وأخرجه النسائي في الكبرى (4586) وفي الصغرى (7/157) عن خشيش بن أصرم.
وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3100) والطبراني في الكبير (1045) ، وفي (24/15) رقم 26 عن سلمة بن شبيب.
وابن حبان في صحيحه (1391) عن إسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن عبد الرزاق، قال: أخبرني عبد الرحمن بن بوذويه، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة.
كلام العلماء في زيادة معمر إن كان مائعاً فلا تقربوه
القرائن الدالة على خطأ معمر:
أولاً: المخالفة في الإسناد، فأصحاب الزهري مالك وابن عيينة والأزاعي وغيرهم روواه من مسند ميمونة. قال سفيان بن عيينة كما في صحيح البخاري: قيل لسفيان: فإن معمراً يحدثه عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي b، ولقد سمعته منه مراراً.
ثانياً: أن ابن عباس لا يفرق بين السمن الجامد والمائع، فقد قال الحافظ في الفتح (9/669) ، قد أخرج أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس، سئل عن فأرة ماتت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها، فقلت: إن أثرها كان في السمن كله، قال: إنما كانت وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجه آخر، وقال فيه: عن جَرِّ فيه زيت، وقع فيه جرذ، وفيه: أليس جال في الجَرِّ كله؟ قال: وإنما جال وفيه الروح، ثم استقر حيث مات. اهـ ولم أقف عليه في مسند أحمد، لكن عزاهما ابن تيمية إلى مسائل أحمد رواية ابنه صالح كما في مجموع الفتاوى (21/497) ، ولم أقف عليه في مسائل صالح المطبوع، والله أعلم.
ثالثاً: أن البخاري قد روى في صحيحه (5539) قال: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن الدابة تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول الله b أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل، عن حديث عبيد الله بن عبد الله. فهذا الزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة، وما قرب منها، ويؤكل، فلو كان عنده هذا التفصيل الذي رواه معمر، لكان أفتى به. ولا يقال: ربما نسي ما روى، لأن الزهري كان من أحفظ الناس في عصره، فاحتمال نسيانه بعيد.
وقال الترمذي: روى معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي b، وهو حديث غير محفوظ. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي b، وذكر فيه أنه سئل عنه، فقال: إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه. هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. سنن الترمذي (1798) .
وقال البخاري أيضاً: حديث معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وهم فيه معمر، ليس له أصل. ترتيب العلل الكبير للترمذي (2/758) .
وقال أبو حاتم في العلل لابنه عن رواية معمر، بأنها وهم. انظر العلل (2/12) رقم 1507.
كما ضعف رواية معمر ابن تيمية في مجموع الفتاوى في أكثر من موضع، انظر مجموع الفتاوى (21/490،492،497)
وأطال ابن القيم في تعليل رواية معمر في تهذيب السنن (5/336-337) ، والله أعلم.(1/379)
وجه الاستدلال عندهم:
أن الحديث أمر بإراقة المائع الذي وقعت فيه الفأرة، وماتت فيه، ولم يفرق بين القليل والكثير، ولم يستفصل هل تغير أم لم يتغير، فدل على أنه لا فرق.
الدليل الثاني:
من النظر، قالوا: إن المائعات سوى الماء لا تدفع النجاسة عن غيرها، فلا تدفعها عن نفسها، بخلاف الماء الذي يدفع النجاسة عن غيره، فيدفعها أيضاً عن نفسه.
الدليل الثالث:
أن النجاسة إذا وقعت في الجامد، فإنها تجاور موضعاً واحداً، وهو الجزء الذي وقعت في النجاسة، بخلاف المائع فإنها تجاوره كله، إذا تنتقل من مكان إلى آخر، فيتنجس بها.(1/384)
دليل من قال: المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير.
الدليل الأول:
(97) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس، عن ميمونة، أن رسول الله b سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: ألقوها وما حولها، فاطرحوه، وكلوا سمنكم (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي b أجابهم جواباً عاماً مطلقاً، بأن يلقوها وما حولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعاً، أو جامداً، وترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، مع أن الغالب في سمن الحجاز أن يكون ذائباً لشدة الحرارة، والغالب على السمن أنه لا يبلغ قلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أم كثيراً.
الدليل الثاني:
الفرق بين المائع النجس والمائع الطاهر صفات جعلت هذا نجساً، وهذا طاهراً، فإذا لم يظهر في المائع أثر النجاسة لافي اللون، ولافي الطعم، ولافي الرائحة، فكيف نحكم عليه بأنه نجس، وما الفرق إذاً بينه وبين المائع الطاهر.
الدليل الثالث:
أن في تنجيس المائعات حرجاً ومشقة، فهنالك القناطير المقنطرة من الدهون التي تكون في معاصر الزيتون وغيرها، ففي تنجيسها بوقوع قليل
_________
(1) صحيح البخاري (235) .(1/385)
النجاسة فيها حرج شديد.
وهذا القول هو الراجح، فلا يوجد دليل على نجاسة المائع بملاقاة النجاسة، لا دليل أثري، ولا دليل نظري، فالقول بنجاسة المائع مطلقاً فيه حرج ومشقة وإفساد للمال دون أن يكون هناك دليل يقضي بالنجاسة، والله أعلم.(1/386)
الفرع الأول
في الكلام على بئر المقبرة
كره الحنابلة الطهارة من بئر في المقبرة (1) .
تعليل الكراهة.
لعل تعليل الكراهة عندهم لكونه مظنة وصول شيء من النجاسة إلى ماء المقبرة.
والصحيح عدم الكراهة، والكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل، وحتى لو كان هذا الاحتمال قائماً فإن الشك في نجاسة الماء لا تجعل الطهارة منه مكروهة؛ لأن الأصل الطهارة، ولا ننتقل عنها إلا إذا تيقنا تغيره بالنجاسة، والحنابلة يقولون: إذا شك في نجاسة ماء أو غيره أو في طهارته بنى على اليقين، وهنا كرهوا الطهارة من هذا الماء، إلا أن يكون سبب الكراهة عندهم وجود الخلاف في طهوريته، إن كان ذلك كذلك فهو قول ضعيف أيضاً، وقد قدمت أن الخلاف ليس من الأدلة الشرعية حتى يعلل به الكراهة، والله أعلم.
_________
(1) المبدع (1/39) ، كشاف القناع (1/28) ، الإنصاف (1/29) ، مطالب أولي النهى (1/33) .(1/387)
الفرع الثاني
في الوضوء من بئر ثمود.
قيل: لا يجوز الوضوء من بئر ثمود إلا بئر الناقة، وهو مذهب الجمهور (1) ، واختيار ابن حزم (2) .
وقيل: يكره، وهو قول في مذهب الشافعية (3) .
وسبب المنع أو الكراهة حديث ابن عمر،
(98) فقد روى البخاري، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس ابن عياض، عن عبيد الله، عن نافع،
أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن الناس نزلوا مع رسول الله b أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله b أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (4) .
واختلفوا هل ماؤها طهور أو نجس على قولين:
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/34) ، مواهب الجليل (1/49) ، الخرشي (1/64) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/29) ، المجموع (1/137) ، مغني المحتاج (1/20) ، ودقائق أولى النهى (1/17) ، كشاف القناع (1/29،30) ، مطالب أولي النهى (1/32) ، وأما الحنفية فقد صرح ابن عابدين في حاشيته (1/133) بأنه لم يره لأحد من أئمتهم، قال: ينبغي كراهة التطهير أيضا أخذاً مما ذكرنا، وإن لم أره لأحد من أئمتنا بماء أو تراب من كل أرض غضب عليها، إلا بئر الناقة بأرض ثمود. اهـ
(2) المحلى (مسألة: 154) .
(3) المجموع (1/137) .
(4) صحيح البخاري (3379) ، صحيح مسلم (2981) .(1/388)
أحدها أنه نجس. قال في مواهب الجليل: قال القرطبي في شرح مسلم أمره - b - بإراقة ما سقوا وعلف العجين للدواب حكم على ذلك الماء بالنجاسة إذ ذلك حكم ما خالطته النجاسة، أو كان نجساً ولولا نجاسة الماء لما أتلف الطعام المحترم شرعا.
وأكثرهم على أنه ماء طهور، ولا يحكم بنجاسة الماء؛ لأن الحديث ليس فيه تعرض للنجاسة، وإنما هو ماء سخط وغضب، فلم يرووا عن النبي - عليه الصلاة والسلام- أنه أمرهم بغسل أوعيتهم وأيديهم منه وما أصاب ثيابهم، ولو وقع ذلك لنقل، على أنه لو نقل لما دل على النجاسة؛ لاحتمال أن يكون ذلك مبالغة في اجتناب ذلك الماء (1) .
وبناء على هذه العلة قاسوا عليه كل ماء في أرض مغضوب على أهلها، قال في مواهب الجليل: ويلحق بها كل ماء مغضوب عليه، كماء ديار قوم لوط، وماء ديار بابل لحديث أبي داود " أنها أرض ملعونة "، وماء بئر ذروان التي وضع فيها السحر للنبي - b - وماء بئر برهوت، وهي بئر باليمن لحديث ابن حبان شر بئر في الأرض برهوت. وبابل: هي المذكورة في سورة البقرة، وهي بالعراق، وبئر ذروان بفتح الذال المعجمة وسكون الراء هي بالمدينة، وبئر برهوت بفتح الموحدة وسكون الراء وهي بئر عميقة بحضرموت، لا يستطاع النزول إلى قعرها، والله أعلم (2) .
ولو تطهر، فقيل: يصح وضوؤه مع الأثم
وقيل: لا يصح، والعلة إما تعبدية، أو كالماء المغصوب عند من يمنع
_________
(1) من مواهب الجليل (1/49) بتصرف.
(2) المصدر السابق.(1/389)
الوضوء بالماء الطهور إذا كان كسبه محرماً (1) .
وقال ابن فرحون في الألغاز: فإن قلت: ماء كثير باق على أصل خلقته لا يجوز الوضوء ولا الانتفاع به؟ قلت: هو ماء الآبار التي في أرض ثمود (2) .
والراجح أن ماء بئر ثمود طهور، وليس بنجس، ولكن لا يتوضأ منه الإنسان لأن الرسول b أمر أن يهريقوا ما استقوا من بئرها لأنه ماء سخط وغضب، والله أعلم، ولو تطهر الإنسان منها ارتفع حدثه، والله أعلم.
_________
(1) حاشية الدسوقي (1/34) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/29) ، شرح منتهى الإرادات (1/17) .
(2) مواهب الجليل (1/49) .(1/390)
الفصل الرابع
في الماء المسخن(1/391)
[صفحة فارغة](1/392)
المبحث الأول
المسخن بنجاسة
اختلف العلماء في الماء المسخن بالنجاسة،
فقيل: طهور بلا كراهة، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) .
وقيل: يكره، وهو مذهب المالكية (3) .
وأما الحنابلة فجعلوا الماء المسخن بالنجس له ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يتحقق وصول شيء من الدخان أو الرماد إلى الماء.
فالمشهور من مذهب الحنابلة: أنه نجس سواء تغير أو لم يتغير. (4)
التعليل: لأنه ماء يسير لاقى نجاسة، والماء اليسير إذا لاقى نجاسة فإنه ينجس ولو لم يتغير. وحد اليسير هو أن يكون الماء دون القلتين أي أقل من خمس قرب تقريباً.
والصحيح هنا أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغيره فإنه طهور سواء كان يسيراً أو كثيراً، وسوف يأتي بسط الأقوال في هذه المسألة قريباً إن شاء الله.
مع أن هذا الماء في الحقيقة لم تقع فيه نجاسة وإنما وقع فيه دخان
_________
(1) جاء في حاشية ابن عابدين (1/80) قوله: " وكره أحمد المسخن بالنجاسة " اهـ فلو كان عند الحنفية مكروهاً لذكره، ولما نسبه إلى أحمد.
(2) روضة الطالبين (1/119) ، المجموع (1/137) ، أسنى المطالب (1/9) ، تحفة المحتاج (9/387) ، حاشية البجيرمي (1/80) .
(3) مواهب الجليل (1/80) .
(4) شرح منتهى الإرادات (1/16) ، والمغني (1/29) .(1/393)
النجاسة، والروث النجس إذا تحول إلى دخان أصبح له حكم الدخان، والدخان كله طاهر كما أنكم ترون نجاسة الخمرة وإذا تحولت بنفسها إلى خل طهرت، حتى لو قيل: إنه لا يسلم من صعود أجزاء لطيفة مع الدخان تقع في الماء.
فالجواب: أن هذه الأجزاء اللطيفة قد تحولت إلى رماد، فيكون لها حكم الرماد.
الحالة الثانية: أن يكون الحائل حصيناً بحيث يعلم أن الدخان لم ينفذ إلى الماء.
فالمشهور من المذهب أنه طهور مكروه.
طهور: لأنه لم يقع فيه شيء لا طاهر ولا نجس.
ومكروه: وللكراهة مأخذان عندهم:
أحدهما: استعمال النجاسة، فحرارة الماء كانت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه عندهم، وما ترتب على المكروه يكون مكروهاً.(1/394)
والثاني: احتمال وصول النجاسة.
الحالة الثالثة: أن يكون الحائل غير حصين، ولكنه لم يعلم وصول النجاسة إليه، فحكمه على المذهب: طهور مكروه.
طهور: لأن طهارة الماء متيقنة والنجاسة مشكوك فيها، ومكروه للتعليل السابق وهي أن حرارة الماء جاءت عن طريق استعمال النجاسة، واستعمال النجاسة مكروه فيكون ما ترتب على المكروه يكون مكروهاً (1) .
والصواب: مذهب الحنفية والشافعية أن الماء طهور بلا كراهة.
قال ابن تيمية: وأما المسخن بالنجاسة فليس بنجس بإتفاق الأئمة إذا لم يحصل له ما ينجسه وأما كراهته ففيها نزاع (2) . اهـ
وأين الدليل على كراهة استعمال النجاسة في أمر لا تتعدى فيه النجاسة إلى غيرها، والمشهور من مذهب الحنابلة والمالكية أن جلد الميتة عندهم لا يطهر بالدباغ، ومع ذلك يقولون بجواز الانتفاع به في يابس.
بل جاء الدليل على جواز الانتفاع بالنجاسة على وجه لا يتعدى كما في حديث جابر رضي الله عنه.
(99) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح،
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله b يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: رسول الله b عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه، ورواه مسلم (3) .
_________
(1) شرح منتهى الإرادات (1/16) ، الإنصاف (1/30) ، المحرر (1/2) ، كشاف القناع (1/27) ، مجموع الفتاوى (21/69) ، المغني (1/27) ، المبدع (1/39،40) .
(2) مجموع الفتاوى (21/69) .
(3) البخاري (2236) ، ومسلم (1581) .(1/395)
[صفحة فارغة](1/396)
المبحث الثاني
الماء المسخن بالشمس
لا أعلم أحداً قال إن الماء المسخن بالشمس ليس بطهور، ولكنهم اختلفوا هل يكره أم لا؟
فقيل: الماء المسخن بالشمس طهور غير مكروه،، وهو مذهب الحنابلة (1) ، واختاره بعض المالكية (2) ، ورجحه النووي من الشافعية، وهو مذهب الظاهرية.
وقيل: يكره، وهو مذهب الحنفية (3) ، والشافعية (4) ، والمالكية (5) ،إلا أنهم اشترطوا شروطاً للكراهة (6) .
_________
(1) دليل الطالب (1/3) ، شرح العمدة (1/81) ، الإنصاف (1/24) ، منار السبيل (1/17) ، كشاف القناع (1/26) ، الكافي (1/3) ، المبدع (1/37) .
(2) مواهب الجليل (1/78) .
(3) البحر الرائق (1/30) ، شرح فتح القدير (1/36) .
(4) قال الشافعي في الأم (1/16) : ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب. اهـ وانظر المجموع (1/133) ، أسنى المطالب (1/8) ، شرح البهجة (1/27) ، كفاية الأخيار (1/18) .
(5) منح الجليل (1/40) ، الخرشي (1/78) ، التاج والإكليل (1/78) .
(6) اشترط المالكية والشافعية شروطاً للكراهة، منها:
الأول: أن يكون الماء في الأواني المنطبعة كالنحاس والحديد والرصاص، وفي كتب المالكية كل الأواني التي تمتد تحت المطرقة غير النقدين؛ لأن الشمس إذا أثرت فيها خرجت منها زهومة تعلو على وجه الماء يتولد منها البرص، فلا يكره المشمس في الحياض والبرك.
الثاني: أن يكون في البلاد الحارة كالحجاز.
الثالث: اشترط بعض الشافعية قصد التشميس، فإن لم يقصد تشميسه فلا يؤثر، وليس هذا بشرط عند المالكية لأن العلة خوف البرص وهذا لا علاقة له بالنية.(1/397)
دليل من قال: يكره.
الدليل الأول:
(100) ما رواه الدارقطني، قال: نا الحسين بن إسماعيل وآخرون قالوا: حدثنا سعدان بن نصر، نا خالد بن إسماعيل المخزومي، نا هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل علي رسول الله b، وقد سخنت ماء في الشمس، فقال: لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص.
قال الدارقطني: غريب جداً، خالد بن إسماعيل متروك (1) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/38) ، ومن طريق سعدان بن نصر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/6) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/59) ، وأخرجه ابن عدي في الكامل (3/41،42) من طريق العلاء بن مسلمة، ثنا خالد بن إسماعيل به.
وفيه خالد بن إسماعيل، قال ابن عدي: يضع الحديث على ثقات المسلمين. الكامل (3/41) ، وهذا الإسناد مداره على هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ويرويه عن هشام أربعة هالكين:
الأول: خالد بن إسماعيل، كما في إسناد الباب.
الثاني: وهب بن وهب، كما في المجروحين لابن حبان (3/75) ، وهو كذاب، قال ابن حبان: كان ممن يضع الحديث على الثقات، كان إذا جنه الليل سهر عامة ليله يتذكر الحديث، ويضعه، ثم يكتبه، ويحدث به.
وقال ابن معين: كذاب. المرجع السابق.
الثالث: الهيثم بن عدي، كما في الموضوعات لابن الجوزي (2/79) ، التحقيق (1/59) .
الرابع: محمد بن مروان السدي، كما في مجمع البحرين في زوائد المعجمين (1/311) ، وهو متروك.
كل هؤلاء الهالكين رووه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
وجاء الحديث من غير طريق هشام، فقد رواه الدارقطني (1/38) من طريق عمرو بن محمد الأعشم، نا فليح، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: نهى رسول الله b أن يتوضأ بالماء المشمس، أو يغتسل به، وقال: إنه يورث البرص.
قال الدارقطني: عمرو بن محمد الأعشم منكر الحديث، ولم يروه عن فليح غيره، ولا يصح عن الزهري.
قال الذهبي عن حديث الحميراء: حديث موضوع. السير (2/168) .
وقال ابن القيم في المنار المنيف: ومنها أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام رسول الله b، ثم مثل بحديث عائشة في النهي عن الوضوء بالماء المشمس، وقال: كل حديث فيه يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق. المنار المنيف (ص: 60،61) .(1/398)
الدليل الثاني:
(101) ما رواه الإمام الشافعي في الأم، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير،
عن جابر، أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس، وقال: إنه يورث البرص (1) .
_________
(1) الأم (1/3) .(1/399)
[والحديث ضعيف جداً] (1) .
فالصحيح أن المسخن بالشمس طهور غير مكروه؛ لأن الكراهة حكم شرعي يقوم على دليل شرعي، أو نظر صحيح، ولا يوجد شئ من ذلك في هذه المسألة، ولو كان يورث البرص لكان التطهر منه محرماً وليس مكروهاً، لأن البرص علة ومرض، والإنسان الأبرص ليس سوي البدن، ويعتبر عيباً في المرأة والرجل يجب بيانه.
_________
(1) في إسناده: إبراهيم بن محمد بن يحيى،
قال فيه أحمد: كان قدرياً معتزلياً، جهمياً، كل بلاء فيه.
وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه كلهم يقولون: كذاب، أو نحو هذا.
وقال يحيى بن معين: كان فيه ثلاث خصال: كان كذاباً، وكان قدرياً، وكان رافضياً. تهذيب الكمال (2/184) .
ولا عبرة بتوثيق الشافعي رحمه الله؛ لأن الجرح إذا كان مفسراً كان مقدماً على التعديل، ولو كان من إمام واحد إذا لم يعرف أنه متشدد في الجرح، فكيف إذا اتفق الأئمة المعتبرون على تركه كالإمام أحمد والبخاري ويحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان والإمام مالك، مع أن في السند صدقه بن عبد الله، وهو ضعيف، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعن.(1/400)
الباب التاسع
في تطهير الماء المتنجس
تمهيد:
قبل أن نتكلم عن تطهير الماء المتنجس، ينبغي أن نعلم هل نجاسة الماء نجاسة عينية أم نجاسة حكمية.
الصحيح أن نجاسة الماء حكمية، فهو كالثوب النجس؛ لأنه يطهر غيره فنفسه من باب أولى.
وهذا اختيار ابن تيميه (1) ، وصوبه فى الانصاف (2) .
وقيل: إن نجاسته نجاسة عينية.
قال ابن مفلح فى الفروع: وهو ظاهر كلام الأصحاب وتعقبه المرداوي في تصحيح الفروع (3) .
وفي قوله إنها عينيه نظر، لأن الحنابلة قالوا: النجاسة العينية لايمكن تطهيرها، وهذا يمكن تطهيره (4) .
وقيل: نجاستة نجاسة مجاورة سريعة الإزالة، ولهذا يجوز
بيعه (5) .
_________
(1) الفروع (1/87) .
(2) الإنصاف (1/62،63) .
(3) الفروع (1/87) .
(4) تصحيح الفروع (1/87) .
(5) الإنصاف (1/63) .(1/401)
خلاف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس
اختلف العلماء في كيفية تطهير الماء المتنجس على أقوال، مع اتفاقهم على أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير، واختلفوا في القليل هل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، أو يشترط أن يتغير بها، وقد سبق تحرير الخلاف.
القول الأول: مذهب الحنفية.
فرق الحنفية بين ماء البئر وغيره من المياه، فمسائل البئر عندهم على خلاف القياس، بينما الجمهور لم يفرقوا بين ماء البئر وغيره من المياه.
فإذا وقعت في الأواني أو في الحوض الصغير نجاسة، فلهم في تطهير الماء بشرط زوال تغيره إن وجد ثلاثة أقوال:
قيل: إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه طهر، وإن قل إذا كان الخروج حال دخول الماء فيه؛ لأنه بمنزلة الجاري.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ما فيه.
وقيل: لا يطهر إلا بخروج ثلاثة أمثال ما كان فيه من الماء، وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة (1) .
تعليل الحنفية:
أن الماء النجس إذا دخل فيه ماء آخر، وخرج الماء منه، وكان خروج الماء حال دخول الماء الجديد فيه؛ أصبح بمنزلة الماء الجاري، والماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير.
القول الثاني: مذهب المالكية.
_________
(1) تبيين الحقائق (1/23) ، بدائع الصنائع (1/87) ، شرح فتح القدير (1/81) .(1/402)
قالوا: الماء المتغير بالنجاسة إما أن يزول تغيره بنفسه، أو بصب ماء مطلق عليه (1) ، أو بإضافة تراب ونحوه.
فإن تغير الماء بنفسه، فإما أن يكون الماء قليلاً أو كثيراً، ولم يجدوا فى ذلك حداً بين القليل والكثير، فالقليل أواني الوضوء ونحوها، والكثير ما عداها.
فإن كان قليلاً فهو نجس اتفاقاً عندهم.
وإن كان الماء الذى تغير بنفسه كثيراً فلأصحاب مالك فيه قولان:
الأول: أنه طهور؛ لأن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغير وقد زال والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كالخمر يتخلل، وقد رجح هذا ابن رشد.
وقيل: إنه نجس؛ لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق، وليس حاصلاً هنا فيستمر بقاء النجاسة.
ومع أنهم حكموا بنجاسته، إلا أنهم قيدوا الحكم بالنجاسة مع وجود غيره، أما إذا لم يوجد إلا هو فيستعمله بلا كراهة مراعاة للخلاف.
قلت: وهذا يدل على ضعف القول بنجاسته عندهم؛ لأنهم لو جزموا بالنجاسة لما صح استعماله مطلقاً، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لأنه إذا لم يوجد إلا ماء نجس صار الى التيمم، كما هو الحال إذا وجد ماء متغير بالنجاسة، فهذا الاستثناء دليل على ضعف القول بالنجاسة عندهم، والله أعلم.
وإن زال تغير الماء بالنجاسة بإضافة ماء مطلق، فهو طهور اتفاقاً عندهم،
_________
(1) وهذا القيد أخرج الماء النجس والماء الطاهر؛ لأنه ليس ماء مطلقاً عندهم.(1/403)
حتى ولو كان المضاف قليلاً، ولا يشترط أن يبلغ الماء قلتين عندهم فلا يشترطون إلا شرطين:
أحدهما: أن يكون الماء المضاف ماء مطلقاً أى ليس ماء نجساً ولا طاهراً.
الثاني: أن يزول تغيره بالإضافة.
وإن زال تغيره بإلقاء طين فينظر:
فإن لم يتغير الماء بالطين فقد طهر، وإن تغير الماء بما ألقي فيه
فالأظهر النجاسة عملاً بالاستصحاب (1) .
القول الثالث: مذهب الشافعية.
الشافعيه يفرقون بين الماء القليل والماء الكثير إذا لاقى نجاسة ولم يتغير، فينجس الأول عندهم دون الثانى، وعلى هذا يقسم الشافعية الماء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الماء أكثر من قلتين، فلا ينجس إلا بالتغير، وفى تطهيره ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يزول تغيره بنفسه؛ لأن الماء يطهر غيره، فكونه يطهر نفسه من باب أولى.
الحالة الثانية: أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه، سواء كان المضاف طاهراً أم نجساً، قليلاً أم كثيراً، صب عليه الماء أو نبع فيه، فإذا زال تغيره
_________
(1) انظر الخرشي (1/80، 81) ومنح الجليل (1/42،43) وشرح الزرقاني على مختصر خليل (1/20،21) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/46،47) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/41،42) .0(1/404)
طهر.
الحالة الثالثة: أن يزول تغيره بنزح بعضه فإنه يطهر، بشرط أن يكون الباقي بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف عند الشافعية.
القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون الماء قلتين، وهذا لا ينجس إلا بالتغير. وفى التطهير له حالتان:
الأولى: أن يزول تغيره بنفسه.
الثانية: أن يزول تغيره بإضافه ماء آخر عليه. ولو كان المضاف نجساً أو قليلاً.
القسم الثالث: أن يكون الماء المتنجس دون القلتين، وهذا الماء ينجس عندهم بمجرد ملاقاة النجاسة، ولو لم يتغير.
ففي تطهيره طريقة واحدة، وهي أن يزول تغيره بإضافة ماء آخر عليه حتى يبلغ قلتين، حتى ولو كان هذا الماء المضاف نجساً، ما دام أنه إذا بلغ قلتين فقد زال تغيره فإنه يطهر.
أما إذا أضيف إليه ماء دون القلتين ففيه وجهان عندهم:
الأول: قيل: يكون طاهراً غير مطهر.
لماذا كان طاهراً، وقد لاقى النجاسة، وهو قليل؟
قالوا: لأن الماء القليل إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، أما إذا ورد الماء على النجاسة كما هو الحال هنا فلا ينجس.
ولماذا إذا لا يكون طهوراً؟
قالوا: لأنه ماء استعمل فى إزالة النجاسة.(1/405)
الوجه الثاني: قالوا لا يطهر، لأنه ماء استعمل في إزالة النجاسة، هذه الطرق في تطهير الماء النجس بالماء عند الشافعية.
أما تطهيره بالتراب فقد وافقوا المالكيه.
قالوا: إذا طرح فيه تراب وزال تغيره.
فإما أن يكون الماء كدراً أو صافياً، فإن كان صافياً فقد طهر جزماً.
وإن كان الماء كدراً بما ألقي فيه.
فقيل: يطهر؛ لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر. وصحح الأكثرون أنه لا يطهر (1) .
القول الرابع: مذهب الحنابلة.
طريقة الحنابلة فى تطهير الماء المتنجس بالماء قريبة من تقسيم الشافعية إلا أنهم خالفوهم فى مواضع يسيرة.
فقسم الحنابلة الماء المتنجس أولاً إلى قسمين:
الأول: قسم تنجس ببول آدمي أو عذرته المائعه.
الثاني: وقسم تنجس بسائر النجاسات.
أما الماء الذي تنجس بغير بول آدمي وعذرته المائعة فإنه يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الماء دون القلتين. وفي هذه الحال إما أن تكون نجاسته بالتغير، أو بالملاقاة ولو لم يتغير.
_________
(1) المجموع (1/183-191) ، ومغني المحتاج (1/22،23) ، والحاوي (1/339) ، روضة الطالبين (1/20،21) ، منهاج الطالبين (1/3) ، شرح زبد ابن رسلان (1/28،29) ، المهذب (1/7) .(1/406)
فيشترط لتطهير الماء المتنجس بالملاقاة شرط واحد، هو أن تضيف إليه قلتين من الماء الطهور، وبالتالي يصبح طهوراً فإن أضفت إليه دون القلتين لم يطهر.
التعليل: لأن الماء القليل لا يدفع النجاسة عن نفسه فكيف يدفعها عن غيره لقوله b فى حديث ابن عمر: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) .
لوقال قائل: لنفرض أن الماء المتنجس بالملاقاة قلة واحدة فأضفت إليها قلة أخرى حتى أصبح الماء قلتين فهل يطهر؟
أكثر الأصحاب على أنه لا يطهر، وهو المشهور من المذهب، وحكى بعضهم وجهاً بالتطهير، وصوبه صاحب الإنصاف.
وإن كانت نجاسة الماء القليل بالتغير ففي هذه الحالة تضيف إليه قلتين من الماء الطهور ثم تنظر هل زال التغير أم بقي؟ فإن زال فقد طهر، وإن لم يزل فإنك تضيف إليه حتى يذهب تغيره.
أما إذا أضفت إليه دون القلتين فإن الماء يكون نجساً حتى ولو زال تغيره وهذا هو المذهب.
وقيل: إنه يكون طهوراً حتى على قواعد المذهب. أو القائلين بالنجاسة ولو لم يتغير. قالوا: لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا كانت واردة عليه وهنا قد ورد الماء على النجاسة.
ولو قلنا بنجاسة الماء هنا لقلنا بنجاسة الماء إذا صب على ثوب نجس إلا أن يكون قلتين، ولما كان الدلو مطهراً لبول الأعرابي، لأنه بالتأكيد ليس قلتين ولا حتى قلة. هذه الطريقة في تطهير الماء عند الأصحاب رحمهم الله إذا
_________
(1) سبق الكلام عليه، وأنه حديث صحيح.(1/407)
كان الماء أقل من قلتين.
الحالة الثانية: إذا كان الماء قلتين، فله طريقان:
الأول: أن تضيف إليه قلتين فأكثر حتى يذهب تغيره بالنجاسة، وقد علمت مما سبق لماذا يشترطون إضافة القلتين، ولم لا يعتبرون ما دون القلتين؟ فلا داعي لإعادته. وهذاالشرط خالفوا فيه الشافعية.
الأمر الثاني: هل يزول تغيره بنفسه، فالمشهور من المذهب أنه إذا زال تغيره بنفسه، وهو قلتان طهر، وفيه وجه آخر في المذهب أنه لا يطهر بناء على أن النجاسة في المذهب لا تطهر بالاستحالة، وهذا على رأي من يرى أن النجاسة نجاسة عينية وليست حكمية.
وقيل: إنه طاهر، لأنه لا يكون طهوراً وقد أزيلت به النجاسة، ولا يكون نجساً وهو ماء كثير غير متغير، قاسوه على الماء القليل إذا كان آخر غسلة زالت بها النجاسة.
الحالة الثالثة: إذا كان الماء أكثر من قلتين فلهم ثلاثة طرق:
الأولى: أن تضيف إليه قلتين بشرط أن يزول التغير وقد سبق لكم التعليل من اشتراط القلتين.
الثانية: أن يزول تغيره بنفسه، وهذا هو المشهور من المذهب وسبق لكم في المذهب ثلاثة أوجه.
الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعد النزح قلتين فأكثر غير متغير.
مثاله: عندنا ماء ثلاث قلال أو أربع... سقطت فيه ميته فغيرت رائحة الماء. فقام رجل فنزح منها ماء حتى ذهبت رائحة النجاسة. فهل يطهر الماء؟
الجواب: إن كان الماء الباقي قلتين فأكثر فقد طهر.(1/408)
وهذه هى الطريقة في تطهير الماء على المشهور من مذهب الامام أحمد رحمه الله.
وأما التراب ففيه وجهان:
الأول: أنه لا يطهر. قال في الانصاف: على الصحيح من المذهب لأن النجاسة عندهم لا تزال إلا بالماء المطلق.
قال ابن عقيل: التراب لا يطهر لأنه يستر النجاسة بخلاف الماء.
الثاني: يطهر بذلك، لأن علة نجاسته التغير، وقد زال فيزول الحكم بنجاسته كما لو زال بمكثه (1) .
القسم الثاني: من الماء النجس: أن يكون متنجساً ببول آدمي أو عذرته المائعة، فإن كانت النجاسة لم تغيره وكان لا يشق نزحه فتطهيره بإضافة ما يشق نزحه إليه وإن كان الماء يشق نزحه، وقد تغير بالنجاسة فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يضاف إليه ما يشق نزحه.
الثانية: أن يزول تغيره بنفسه.
الثالثة: أن ينزح منه فيبقى بعده قلتان غير متغيرتين (2) .
خلاصة ما سبق:
التطهير تارة يكون بالإضافة، وتارة يكون بنفسه، وتارة يكون بالنزح.
فإن كان التطهير بالإضافة، فيشترط له شروط:
_________
(1) المغني (1/52) ، المبدع (1/58) ، الإنصاف (1/66) ، المحرر (1/2،3) ، الكافي (1/10) ، كشاف القناع (1/38) .
(2) المبدع (1/56) ، وانظر المراجع السابقة.(1/409)
الأول: أن يكون الماء طهوراً، وهذا شرط عند المالكية، والحنابلة، وليس بشرط عند الشافعية، إذ لا مانع أن تضيف عندهم ماء نجساً إذا كان بإضافته سوف يزول تغير الماء بالنجاسة.
الثاني: أن يكون المضاف كثيراً _ قلتان فأكثر - وهذا شرط للحنابلة، وليس بشرط عند المالكية، والشافعية.
الثالث: أن يبلغ الماء قلتين بعد الإضافة. وليس بشرط عند المالكية، وأما الحنابلة فلا يكفي هذا عندهم لأنهم يشترطون أن يكون المضاف نفسه قلتين.
تطهير الماء بزوال تغيره بنفسه.
المالكية، والشافعية، والحنابلة يشترطون أن يكون الماء كثيراً، والمالكية لم أقف على حد لهم في القليل والكثير، بينما الحنابلة والشافعية يحدونه بالقلتين.
أما التغير بالنزح، فالشافعية والحنابلة يشترطون أن يبقى بعد النزح
ماء كثير غير متغير.
والصحيح: أنه متى زال تغير الماء على أي وجه، قليلاً كان أو كثيراً، حتى ولو كان عن طريق المعالجة كالتقطير مثلاً... فإنه يطهر؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ولا علة للتنجس إلا لكونه متغيراً بالنجاسة وقد زال، والله أعلم.(1/410)
باب الآنية
تمهيد:
تعريف الآنية:
الآنِيَةُ جَمْعُ إنَاءٍ وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، فَالإِنَاءُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ: آنِيَةٌ، وَالأَوَانِي: جَمْعُ الْجَمْعِ فَلا يُسْتَعْمَلُ فِي أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ إلا مَجَازًا (1) .
وقال في المغرب: الإناء: وعاء المال، والجمع القليل: آنية، والكثير: الأواني، ونظيره: سوار وأسورة وأساور (2) .
قال النووي: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْغَزَالِيِّ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الآنِيَةَ فِي الْمُفْرَدِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ , قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الإِنَاءِ آنِيَةٌ، وَجَمْعُ الآنِيَةِ الأَوَانِي، كَسِقَاءٍ وَأَسْقِيَةٍ وَأَسَاقٍ (3) .
وَأَصْلُ أَوَانِي أَأنِي بِهَمْزَتَيْن، ِ أُبْدِلَتْ ثَانِيَتُهُمَا وَاوًا كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، كَأَوَادِمَ فِي آدَمَ (4) .
قال في اللسان: والألف في آنية: مبدلة من الهمزة، وليست بمخففة عنها، لانقلابها في التكسير واواً (5) .
مناسبة ذكر باب الآنية في كتاب الطهارة.
بعض الفقهاء يذكر باب الآنية في كتاب الأطعمة والأشربة، فهو به أليق
_________
(1) مختار الصحاح (ص: 12) ، المجموع (1/267) .
(2) المغرب (ص: 47) .
(3) المجموع (1/267) .
(4) مطالب أولي النهى (1/55) .
(5) لسان العرب (14/48) .(1/411)
من باب الطهارة، والشافعية والحنابلة يذكرونه في باب الطهارة، ويرجع هذا والله أعلم إلى أن هناك بعض الأواني عندهم محرمة الاستعمال كأواني الذهب والفضة، وبعض الأواني نجسة، كالأواني من جلود الميتة فالدباغ عند الحنابلة لا يطهرها، ومثلها آنية بعض الكفار ممن يستعملون النجاسات، فلما كانت بعض الآنية محرمة، وبعضها نجسة، وربما تطهر منها المسلم، فهل يصح تطهره أم لا؟ لهذا السبب، والله أعلم، ناسب أن يتكلموا على باب الآنية في باب الطهارة.
وأما قول بعضهم: إن الماء سائل، يحتاج إلى ظرف، فلما تكلموا عن الماء، تكلموا عن ظرفه، فهذا قول ضعيف؛ لأن الطهارة بالماء ليس من شرطها كونه في ظرف، فقد يتوضأ الأنسان من الآبار والعيون، لكن التوجيه الأول أقوى، والله أعلم.(1/412)
الفصل الأول
في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة
اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الأواني الثمينة من غير الذهب والفضة كالياقوت والبلور والعقيق والزبرجد:
فقيل: يجوز الأكل والشرب والاستعمال والاتخاذ، وهو مذهب الحنفية (1) ، والقول المشهور عند المالكية (2) ،
والأصح عند الشافعية (3) ، والمشهور عند الحنابلة (4) .
وقيل: يكره استعمالها، وهو قول في مذهب المالكية (5) .
وقيل: يحرم الأكل والشرب والاستعمال في الأواني التي يكثر ثمنها،
_________
(1) البناية (1/82) ،.
(2) انظر الشرح الكبير للدسوقي (1/64) ، منح الجليل (1/59) ، الخرشي (1/100،101) . وقال ابن عبد البر في الكافي (ص: 19) : " كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة لنهي الرسول b عن اتخاذها ".
قلت: لم يأت نهي صريح من الرسول b عن الاتخاذ إنما نهى عن الأكل والشرب سواء قلنا: إن الرسول b نص على الأكل، أو لأن الأكل بمعنى الشرب، وما عداه مسكوت عنه، فهل يدخل قياساً أم لا؟ على خلاف سوف يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
(3) قال النووي في المجموع (1/308) : وهل يجوز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة كالياقوت والفيروز والعقيق والزمرد، وذكر أشياء، ثم قال: فيها قولان: أصحها باتفاق الأصحاب الجواز، وهو نصه في الأم، ومختصر المزني، وانظر الحاوي الكبير (1/78) ، ونهاية المحتاج (1/102) .
(4) الإنصاف (1/79) ، الفروع (1/69) ، الكافي في فقه أحمد (1/17) ، المبدع (1/65) ، المحرر (1/7) .
(5) مواهب الجليل (1/129) .(1/413)
لنفاسة جوهرها.
اختاره بعض المالكية (1) ، وحكي قولاً في مذهب الشافعية (2) .
وقيل: إن كان كثر ثمنها لحسن صناعتها، فاستعمالها حلال، وإن كان لنفاسة جوهرها، ففيها قولان: التحريم والإباحة. ذكر ذلك الماوردي من الشافعية (3) .
دليل من قال بجواز استعمال الأواني الثمينة.
الدليل الأول:
الأصل في الأشياء الإباحة، قال سبحانه وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (4) .
وقال سبحانه وتعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة
_________
(1) مواهب الجليل (1/129) ، حاشية الدسوقي (1/64) .
(2) المجموع (1/308) .
(3) قال الماوردي: أن يكون فاخراً ثميناً -يعني الأواني- فذلك ضربان:
أحدهما: أن تكون كثرة ثمنه لحسن صناعته، ولنفاسة جوهره كأواني الزجاج المحكم، والبلور المخروط، فاستعمالها حلال، لأن ما فيه من الصنعة ليس بمحرم، وهو قبل الصنعة ليس بمحرم.
والضرب الثاني: أن تكون كثرة ثمنه لنافسة جوهره، كالعقيق، والفيروزج، والياقوت، والزبرجد. ففيها قولان:
أحدهما: أن استعمالها حرام، لأن المباهاة بها أعظم والمفاخرة في استعمالها أكثر.
والقول الثاني: أن استعمالها حلال، لاختصاص خواص الناس بمعرفتها، وجهل أكثر العوام بها.
(4) البقرة: 29.(1/414)
والطيبات من الرزق} (1) .
وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (2) .
الدليل الثاني:
تخصيص النبي b المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما،
(102) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي b قال: دعوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (3) .
قال ابن حزم: فصح أن كل مسكوت عن ذكره بتحريم أو أمر فهو مباح (4) .
الدليل الثالث:
حكي الإجماع على جواز استعمال الأواني من غير الذهب والفضة، قال ابن جحر في الفتح: وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز، وتبعه الرافعي ومن بعده (5) .
_________
(1) الأعراف: 32.
(2) الأنعام: 119.
(3) صحيح البخاري (6744) ، مسلم (1337) .
(4) المحلى (2/224) .
(5) الفتح (10/100) .(1/415)
الدليل الرابع:
أن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس (1) .
الدليل الخامس:
ثبت أن النبي b توضأ من آنية مختلفة، فقد توضأ من آنية من حجارة، ومن تور من صفر، ومن الجلود، ومن قدح رحراح أي الواسع المنبسط، ومن قصعة ومن جفنة، قال صاحب كشاف القناع: فثبت الحكم فيها، لفعله b وفي معناها قياساً؛ لأنه مثلها (2) .
وإليك الأحاديث الدالة على ما ذكرنا، منها:
(103) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن منير، سمع عبد الله بن بكر، قال: حدثنا حميد، عن أنس قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله b بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم. قلنا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة. وأخرجه مسلم واللفظ للبخاري (3) .
(104) ومنها: ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: أتى رسول الله b فأخرجنا له ماء في تور من صفر، فتوضأ، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين مرتين، ومسح برأسه فأقبل به وأدبر،
_________
(1) شرح الزركشي (1/85) .
(2) كشاف القناع (1/50،51) .
(3) صحيح البخاري (195) ، ومسلم (2279) .(1/416)
وغسل رجليه، وأخرجه مسلم (1) .
(105) ومنها ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبي b دعا بإناء من ماء فأتي بقدح رحراح، فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، ورواه مسلم (2) .
(106) وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي b توضأ من شن معلق، وثبت أنه توضأ من قصعة وجفنة، وهذه الأحاديث سبق تخريجها في كتاب المياه بتفصيل مطول.
الدليل السادس:
قالوا: كون بعض الأواني من الجوهر أغلى ثمناً من الذهب والفضة لا يكفي في تحريمها، فإنه يحرم الحرير وإن قل ثمنه بخلاف غيره وإن بلغ ثمنه أضعاف ثمن الحرير، وكذلك يباح فص الخاتم جوهرة ولو بلغ ثمنها ما بلغ، ويحرم ذهباً ولو كان يسيراً.
دليل من قال يحرم استعمال الأواني الثمينة.
قالوا: إن علة المنع في استعمال أواني الذهب والفضة هي السرف والخيلاء، فيمنع في الأواني الثمينة للعلة ذاتها.
والجواب على ذلك بأن علة المنع في الذهب والفضة مختلف فيها كما سيأتي، والإسراف يختلف من بلد إلى بلد، ومن وقت لآخر، والتحريم ليس
_________
(1) صحيح البخاري (197) ، ومسلم (235) .
(2) صحيح البخاري (200) ، ومسلم (2279) .(1/417)
لذات الأواني، بخلاف الذهب والفضة.
كما أن التحريم للإسراف عام في كل شيء من المباحات، فمتى خرج المباح إلى الإسراف أصبح محرماً.
قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (1) .
جاء في سير أعلام النبلاء: " قال شهر بن حوشب: من ركب مشهوراً من الدواب، ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه، وإن كان كريماً.
قال الذهبي: من فعله ليعز الدين، ويرغم المنافقين، ويتواضع مع ذلك للمؤمنين، ويحمد رب العالمين فحسن.
ومن فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر، وادعى أنه ليس بمختال ولا تياه، فأعرض عنه؛ فإنه أحمق مغرور بنفسه (2) .
وكلام شهر وإن كان مليحاً لكن كلام الذهبي أملح، إلا إن كان يقصد شهر رحمه الله بالشهرة ما كان منهياً عنه لشهرته، فهذا باب آخر، والله أعلم.
دليل من قال يكره استعمالها.
قالوا: ما دام أن العلة في النهي هي السرف فلا يقتضي ذلك التحريم، وإنما ذلك فقط حقه أن يكون مكروهاً (3) .
قلت: العلة مختلف فيها كما سيأتي، ولو ثبت أن العلة هي السرف لم
_________
(1) الأعراف: 31.
(2) السير (4/375،376) .
(3) مواهب الجليل بتصرف يسير (1/129) .(1/418)
يمنع من التحريم، لأن الإسراف محرم.
قال تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (1) .
وقال سبحانه: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (2) .
فالراجح: جواز استعمال الأواني الثمينة إذا لم يصل إلى حد السرف.
_________
(1) الأعراف: 31.
(2) الإسراء: 27.(1/419)
[صفحة فارغة](1/420)
الفصل الثاني
في الأواني من الذهب والفضة(1/421)
[صفحة فارغة](1/422)
المبحث الأول
في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة
اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة:
فقيل: لا يجوز الأكل والشرب فيهما، وحكي إجماعاً، ولا يثبت الإجماع، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) والحنابلة (4) .
وقيل: النهي عن الأكل والشرب للكراهة، وليس للتحريم، وهو قول الشافعي في القديم وقد رجع عنه (5) ، كما أنه رواية عن الإمام أحمد (6) .
وقيل: يحرم الشرب خاصة دون الأكل، وهو مذهب داود الظاهري، ولعله لم يبلغه أحاديث النهي عن الأكل (7) .
_________
(1) فتح القدير (10/6) ، البحر الرائق (1/210) ، بريقة محمودية (4/ 102) ، حاشية ابن عابدين (6/ 341) ، الفتاوى الهندية (5ـ308) .
(2) التمهيد (16ـ104) ، الكافي (1ـ19) ، الفواكه الدواني (1/ 319) ، المنتقى (7ـ234،235) ، أحكام القرآن لابن العربي (4ـ96) .
(3) الأم (1ـ10) ، الأوسط (1ـ318) ،.
(4) الإنصاف (1/79) ، الفروع (1/69) ، الكافي في فقه أحمد (1/17) ، المبدع (1/65) ، المحرر (1/7) .
(5) المجموع (1ـ302،306) ، شرح النووي لصحيح مسلم (14ـ41) ، الفتح (10ـ97) .
(6) الإنصاف (1/80) .
(7) الفتح (10ـ97) ، نيل الأوطار (1ـ67) .(1/423)
دليل من قال بالتحريم.
الدليل الأول:
(107) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول:
حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي b يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (5426) ، مسلم (2067) . وانفرد مجاهد بذكر الأكل، وقد اختلف عليه في ذكره، وقد رواه الحكم بن عتيبة ويزيد بن زياد عن ابن أبي ليلى ولم يذكرا الأكل، ورواية الحكم في صحيح البخاري (5632) .
كما أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عكيم، عن حذيفة به، ولم يذكر الأكل، وقد قبل البخاري زيادة مجاهد، واعتبرها زيادة من ثقة، وإليك تخريج رواياتهم:
أما رواية مجاهد
فقد أخرجها الحميدي (440) والبخاري (5837) ومسلم (2067) ، والنسائي في الكبرى (9615) ، وفي الصغرى (5301) ، والمنتقى لابن الجارود (865) ، وأبو عوانة (5/223) ، والدارقطني (4/293) ، والبيهقي (1/27،28) و (2/422) ، من طريق ابن أبي نجيح.
وأخرجها أحمد (5/397،404) والدارمي (2130) ، والبخاري (5633) ومسلم (2067) ، والنسائي في الكبرى (6870) وأبو عوانة في مسنده (5/214) من طريق عبد الله بن عون.
وأخرجه البخاري (5426) ومسلم (2067) والنسائي في الكبرى (6631) وأبو عوانة في مسنده (5/214) ، والبيهقي (1/27) من طريق سيف بن سليمان.
وأخرجه أحمد (5/404) ، ومسلم (2067) ، والنسائي في الكبرى (6871) من طريق منصور.
وأخرجه ابن ماجه (3414) من طريق أبي بشر كلهم عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حذيفة مرفوعاً
واختلف على مجاهد فرواه عبد الله بن عون وأبو بشر بدون ذكر الأكل بالاقتصار على ذكر الشرب.
ورواه ابن أبي نجيح ومنصور وسيف عن مجاهد بذكر الأكل مع الشرب.
كما رواه البزار (7/287) ، وأبو نعيم في الحلية (5/58) ، والخطيب في تاريخه (11/421) والمحاملي في أمالية (317) من طريق محمد بن طلحة بن مصرف، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بالاقتصار على الشرب فقط.
وهو في صحيح ابن حبان (5343) من طريق شعبة عن الأعمش مختصراً.
ورواه البرزا أيضاً (2/287) من طريق علي بن عابس، عن الأعمش بذكر الشرب فقط، وعلي بن عابس ضعيف.
قال البزار: وحديث شعبة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة لا نعلم رواه عن شعبة إلا أبو قتيبة، والحديث يعرف من حديث محمد بن طلحة، وقد تابع محمد بن طلحة علي بن عابس.
وقد صوب الدارقطني رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة في علله (2/161) .
ورواه قتادة عن حذيفة ولم يسمع منه مقتصراً على ذكر الشرب فقط ذكره معمر بن راشد في الجامع الملحق بمصنف عبد الرزاق (11/67) كما أن رواية معمر عن قتادة فيها كلام؛ لأنه سمع منه في الصغر.
الطريق الثاني: عن الحكم عن ابن أبي ليلى به بدون ذكر الأكل.
أخرجه الطيالسي في مسنده (429) ، أحمد (5/385،400،396،398) ، والبخاري (5632) ، ومسلم (2067) ، وأبو داود (3723) ، وابن ماجه (3590) ، والترمذي (1878) ، وأبو عوانة في مسنده (5/222) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/245) ، والبيهقي في الشعب (6378) من طريق شعبة.
وأخرجه أحمد (5/390) من طريق عبد الملك بن أبي غنية.
وأخرجه أبو عوانة في مسنده (5/222) من طريق زيد بن أبي أنيسة ثلاثتهم، عن الحكم به.
الطريق الثالث: يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى به.
أخرجه أحمد في المسند (5/408) ، ومسلم (2067) وابن أبي شيبة في المصنف (5/103) رقم 24137، والنسائي في سننه (5301) .
وأما طريق عبد الله بن عكيم، فقد أخرجه الحميدي (400) ، ومسلم (2067) ، والنسائي (5301) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/27) عنه عن حذيفة، وليس فيه ذكر الأكل.(1/424)
الدليل الثاني:
(108) ما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك بن أنس، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق،
عن أم سلمة زوج النبي b أن رسول الله b قال: الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ورواه مسلم (1) .
حديث أم سلمة المتفق عليه ليس فيه ذكر الأكل، وجاء عند مسلم من طريق آخر إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وصرح البيهقي بأن ذكر الأكل والذهب ليس محفوظاً من حديث أم سلمة (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (5426) ، ومسلم (2065) .
(2) مدار هذا الإسناد على نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة، وقد رواه جماعة عن نافع بدون ذكر الأكل والذهب، مقتصرين على الشرب في آنية الفضة، وإليك بعض من وقفت عليهم:
الأول: مالك، كما في الموطأ (2/924) ، والبخاري (5634) ، ومسلم (2065) ، والبغوي في شرح السنة (11/368) ، وابن حبان (5342) ، والبيهقي في السنن (1/27) ، وفي المعرفة (1/250،251) .
الثاني: الليث بن سعد كما في مسند إسحاق بن راهوية (124) ، عند مسلم (2065) ، وابن ماجه (3413) ، والدارمي (2129) ، ومسند أبي عوانة (5/216) .
الثالث: جرير بن حازم كما عند أحمد (6/304) ، ومسند أبي عوانة (5/216) .
الرابع: أيوب السختياني كما في مسند أحمد (6/300) ، صحيح مسلم (2065) ، وسنن النسائي الكبرى (6873) ، ومسند أبي عوانة (5/215) ، والأوسط للطبراني (3753) .
الخامس: عبد الرحمن بن السراج كما في مسند أحمد (6/302) ، وصحيح مسلم (2065) ، والطبراني في الكبير (23/288) ، وفي الأوسط (3753) .
السادس: يحيى بن سعيد القطان كما في صحيح مسلم (2065) ، ومسند إسحاق بن راهوية (39) .
السابع: محمد بن بشر، كما في صحيح مسلم (2065) .
الثامن: موسى بن عقبة، كما في صحيح مسلم (2065) .
التاسع: صخر بن جويرية كما في مسند أبي داود الطيالسي (1601) ، ومسند أبي عوانة (5/217) ، ومسند أبي يعلى (6882) .
العاشر: إسماعيل بن أمية، كما في السنن الكبرى (6874) .
فهؤلاء عشرة رواة اتفقوا على الاقتصار على الشرب، وآنية الفضة، ليس في حديثهم ذكر للذهب، ولا للأكل لا يختلف عليهم في ذلك.
ورواه عبيد الله بن عمر، واختلف عليه فيه:
فرواه عنه علي بن مسهر كما في صحيح مسلم (2065) ، وابن أبي شيبة (5/103) رقم 24135.
وأبو أسامة كما في مصنف بن أبي شيبة (5/103) روياه بلفظ: إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم. وإن كانت رواية أبي أسامة ليست صريحة، إنما أحال على رواية علي بن مسهر، وقال: بمثله. فقد لا تكون المثلية المطابقة في كل حرف.
وأشار مسلم إلى تفرد ابن مسهر بهذا اللفظ، فقال: وليس في حديث أحد منهم ذكر الأكل والذهب إلا في حديث ابن مسهر. اهـ
وخالفهما يحيى بن سعيد فرواه عن عبيد الله بن عمر، عن نافع به مثل رواية الجماعة دون ذكر الأكل والذهب أخرجها أحمد (6/306) ، والنسائي في السنن الكبرى (6872) ، وأبو عوانة في مسنده (5/216) ، وابن حبان في صحيحه (5341) وابن عبد البر في التمهيد (16/102) .
وحكم البيهقي بشذوذ هذه الزيادة، فقال في السنن (1/27) : وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع، عن علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، زاد: إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، قال البيهقي: وذكر الأكل والذهب غير محفوظ في غير رواية علي بن مسهر، وقد رواه غير مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع دون ذكرهما، والله أعلم. اهـ
فهنا البيهقي يشير إلى أن الاختلاف من مسلم، وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق شيوخ مسلم ولم يذكر ما ذكره مسلم، وهذا الذي حمل البيهقي على أن يجعل الاختلاف من مسلم، فقد رواه البيهقي في سننه (4/145) من طريق محمد بن أيوب عن ابن أبي شيبة.
ومن طريق محمد بن إسحاق الثقفي عن الوليد بن شجاع، كلاهما (ابن أبي شيبة والوليد) روياه عن علي بن مسهر، به بدون ذكر الزيادة التي ذكرها مسلم من ذكر الذهب والأكل.
قال البيهقي عقبه: رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع. اهـ
قلت: قد نص مسلم على أن علي بن مسهر تفرد بالزيادة، فلا يلزم أن تكون الزيادة من الإمام مسلم رحمه الله، لكن علي بن مسهر كان قد كف بصره، فحصل منه بعض الغرائب، والله أعلم، فلا يمنع أن يحدث به على الوجه الصحيح، ثم يحدث به ويزيد فيه، ولا يكون الحمل على من رواه عنه.
كما اختلف على عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الراوي عن أم سلمة:
فرواه زيد بن عبد الله بن عمر عنه عن أم سلمة كما في الصحيحين بدون ذكر الأكل والذهب.
ورواه أبو عاصم عن عثمان بن مرة به كما في صحيح مسلم (2065) واختلف على أبي عاصم:
فرواه مسلم عن زيد بن يزيد: أبي معن الرقاشي، حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن مرة، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، عن أم سلمة بلفظ: من شرب في إناء من ذهب أو فضة فزاد ذكر الذهب، ولم يذكر الأكل.
ورواه أبو يعلى (6939) عن سليمان بن عبد الجبار، عن أبي عاصم به كرواية الجماعة، وهي أولى أن تكون محفوظة، والله أعلم.(1/426)
ومع أن كلام البيهقي هو ما تقتضيه قواعد هذا الفن، وهو الحق؛ إلا أنه لما نص على الشرب دخل في ذلك الأكل، ألا ترى أن النهي عن البول في الماء الراكد كان الغائط أحرى أن ينهى عنه في ذلك، كيف وقد ورد النهي عن الأكل في حديث حذيفة من طريق مجاهد.
قال النووي في المجموع: وإذا حرم الشرب فالأكل أولى؛ لأنه أطول مدة وأبلغ في السرف (1) .
الدليل الثالث:
(109) ما أخرجه البخاري، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن الأشعث بن سليم عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله b بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإجابة الداعي وإفشاء السلام ونصر المظلوم وإبرار المقسم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب في الفضة أو قال آنية الفضة وعن المياثر والقسي وعن لبس الحرير والديباج والإستبرق.
_________
(1) المجموع (1/306) .(1/429)
ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (1) .
دليل من قال إن النهي عن الأكل والشرب للكراهة.
الأول: قالوا: إن علة الكراهة للتزهيد فيها، بدليل قول الرسول b: فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.
وأجيب: بقوله b: فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو وعيد شديد، ولا يكون إلا على محرم.
ثانياً: إنه إنما نهى عنه للسرف والخيلاء، والتشبه بالأعاجم، وهذا لا يوجب التحريم، كما قالوا: إنما عنى الرسول b بالحديث المشركين والكفار من ملوك فارس والروم وغيرهم من الذين يشربون في آنية الفضة، فأخبر عنهم، وحذرنا أن نفعل مثل فعلهم ونتشبه بهم (2) .
وأجيب:
بأن الإسراف حرام، ويكفي قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} (3) .
وقوله: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (4) .
ومثله الخيلاء، والتشبه بالكفار جاء في أحاديث الصحيحين ما يقتضي أنه من الكبائر، وليس هذا موضع ذكرها.
والحديث لم يكن يخبر عن حال الكفار، بل قصد الرسول b نهي أمته عن الشرب في آنية الفضة، فمن شرب فيها بعد علمه بالنهي فقد استحق
_________
(1) البخاري (5635) ، صحيح مسلم (2066) .
(2) الاستذكار (26/268) ، المجموع (1/302) .
(3) الأعراف: 31.
(4) الإسراء: 27.(1/430)
الوعيد المذكور في الآية، والله أعلم.
دليل من قال: يحرم الشرب خاصة.
هذا مذهب داود الظاهري، والأحاديث التي وردت في النهي عن الأكل والشرب جاءت من حديث حذيفة، على خلاف هل الأكل محفوظ في الحديث أم لا؟ وقد اعتبر البخاري زيادة مجاهد زيادة من ثقة، وقد سبق البحث عنها.
وأما حديث أم سلمة فالنهي فيه عن الشرب، ولا يثبت فيه زيادة النهي عن الأكل، ولا شك أن من منع الشرب فقط أن قوله: ظاهرية بحتة، لم ينظر إلى علة النهي، والماء مطعوم، وكونه سائلاً لا يخرجه عن ذلك، ولا فرق في الحكم بينه وبين الأكل، بل إن الأكل أولى بالنهي من الشرب، وقد تقدم مثل هذا الكلام، والله أعلم.
وبناء على ذلك فالراجح ثبوت النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة، والأكل مقيس عليه.(1/431)
المبحث الثاني
في استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب
اختلف العلماء في حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، كالادهان، والاكتحال، والتطيب، والوضوء، واتخاذ الأقلام، وأدوات المكتب، ونحوها من الذهب والفضة.
فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: يكره، ولا يحرم، وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة (5) .
وقيل: لا يحرم إلا استعمالها في الأكل والشرب خاصة، وهو
_________
(1) البناية (11/79،82) ، تبيين الحقائق (6/10) ، شرح فتح القدير (10/5) ، العناية شرح الهداية (10/5) مطبوع بهامش فتح القدير، البحر الرائق (8/210) .
(2) المنتقى شرح الموطأ (4/258) ، و (7/236) ، أحكام القرآن لابن العربي (4/96) ، التاج والإكليل (1/184) ، الخرشي (1/100) ، حاشية الدسوقي (1/64) .
(3) قال في النووي في المجموع (1/305) : استعمال الإناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور. وانظر متن الغاية والتقريب (ص: 28) ، أسنى المطالب (1/27) ، تحفة المحتاج (1/118) .
(4) الإنصاف (1/80) ، المبدع (1/66) ، الفروع (1/97) ، كشاف القناع (1/51) .
(5) قال في الفروع (1/97) : حكى ابن عقيل في الفصول أن أبا الحسن التميمي قال: إذا اتخذ مسعطا، أو قنديلا، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة، ذهبا أو فضة كره ولم يحرم. اهـ(1/432)
اختيار اليمانيين: الصنعاني (1) ، والشوكاني (2) .
دليل من قال: لا يجوز.
الدليل الأول:
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما حرم الأكل والشرب لأنه نوع من الاستعمال والانتفاع بها، وذكر الأكل والشرب لا يدل على التخصيص؛ لأنه خرج مخرج الغالب.
قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (3) .
وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (4) .
مع أن المحرم أعم من مجرد الأكل، فكذلك الحال بالنسبة للذهب والفضة (5) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن العلة في تحريم الشرب منها موجود في الاستعمال، لما يتضمنه من الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (6) .
_________
(1) سبل السلام (1/63) .
(2) نيل الأوطار (1/67) .
(3) النساء: 10.
(4) آل عمران: 130.
(5) الأوسط (1/318) ، المجموع (1/306) .
(6) المغني (1/102) . قلت: اختلف في علة النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة إلى أقوال:
فقيل: العلة كونها ذهباً وفضة، ويؤيده قوله b هي لهم، وإنها لهم...الخ
وقيل: لكونهما أثمان الأشياء، وقيم المتلفات، فلو أبيح استعمالهما لأفضى ذلك إلى قلتهما بأيدي الناس، فتفوت الحكمة التي وضعت لأجلها من قيام مصالح بني آدم، وذكر الغزالي مثالاً له بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لإظهار العدل بين الناس، فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل، فكذلك في اتخاذ الأواني من النقدين حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس. وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية.
ويرد على هذا القول جواز اتخاذ الحلي للنساء من النقدين، وجعلهما سبائك ونحوها مما ليس بآنية ولا نقد.
وقيل: علة التحريم هي السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
ويجاب عنه: بجواز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة، وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة، ولم يمنعها إلا من شذ، وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الإجماع على الجواز (وإن كان الخلاف محفوظاً وقد أشرت إلى الخلاف فيما سبق)
كما أن كسر قلوب الفقراء لا ضابط له، فإن قلوبهم تنكسر بالدور الواسعة، والحدائق الجميلة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، والأطعمة اللذيذة، وغير ذلك من المباحات.
وقيل: العلة التشبه بالكفار. قال الحافظ: وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله، ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك. اهـ
وفي نظر الحافظ نظر، فإن التشبه بالكفار كبيرة من كبائر الذنوب، والحديث قد نص على هذه العلة، فقال: فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.
وقيل: إن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة والحالة المنافية للعبودية منافاة ظاهرة، ولهذا علل النبي b بأنها للكفار في الدنيا؛ إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا، وإنما يستعملها من خرج من عبوديته ورضي بالدينا وعاجلها، وهذه العلة والتي قبلها قريبتان.
وقيل: العلة التشبه بأهل الجنة، قال تعالى: {يطاف عليهم بآنية من فضة} انظر فتح الباري (10/100) ، وزاد المعاد (3/178) ، نيل الأوطار (1/67) .(1/433)
الدليل الثالث:
الإجماع على تحريمها استعماله، وقد نقل الإجماع طائفة من العلماء:
منهم ابن عبد البر، قال في التمهيد: والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب، كما لا يجيزون ذلك من الفضة (1) . اهـ
وقال في الاستذكار: واختلف العلماء في جواز اتخاذ أواني الفضة بعد إجماعهم على أنه لا يجوز استعمالها لشرب ولا غيره (2) .اهـ
وكذلك نقل الإجماع النووي، قال في المجموع: قال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة، إلا ما حكي عن داود، وإلا قول الشافعي في القديم (3) .
وقال ابن قدامة في المغني: ولا خلاف بين أصحابنا في أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا أعلم فيه خلافاً (4) .
وممن نقل الإجماع ابن مفلح الصغير (5) ، والخطيب في مغني المحتاج (6) ، فهؤلاء جماعة من العلماء منهم المالكي والشافعي والحنبلي نقلوا الإجماع على تحريم الاستعمال.
قلت: دعوى الإجماع فيه تساهل، والصحيح أن الخلاف محفوظ.
_________
(1) التمهيد (16/105) .
(2) الاستذكار (26/270) .
(3) المجموع (1/306) .
(4) المغني (1/101) .
(5) المبدع (1/66) .
(6) مغني المحتاج (1/29) .(1/435)
قال ابن حجر فيما نقله عن القرطبي: في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة فأباحت ذلك مطلقاً، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب... الخ كلامه رحمه الله (1) .
ونص ابن مفلح الكبير في الفروع أن التحريم هو قول الجمهور، مما يدل على أنه لا إجماع في الباب (2) .
وقال الشوكاني: وأما حكاية النووي للإجماع على تحريم الاستعمال، فلا تتم مع مخالفة داود الظاهري والشافعي وبعض أصحابه، وقد اقتصر الإمام المهدي في البحر على نسبة ذلك إلى أكثر الأمة، على أنه لا يخفى على المنصف ما حجية الإجماع من النزاع، والاشكالات التي لا مخلص منها (3) . اهـ
وبهذا يتبين أن دعوى الإجماع غير دقيقة.
دليل من قال: لا يحرم إلا الأكل والشرب خاصة.
الدليل الأول:
الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الاستعمال، فتخصيص النبي b للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان الاستعمال حراماً لكان الرسول b أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب،
_________
(1) الفتح (1/100) .
(2) الفروع (1/97) .
(3) النيل (1/67) .(1/436)
فلما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما.
الدليل الثاني:
قياس الاستعمال على الأكل والشرب قياس مع الفارق، فإن علة النهي عن الأكل والشرب هي التشبه بأهل الجنة، قال تعالى: {ويطاف عليهم بآنية من فضة} (1) ، وذلك مناط معتبر بالشرع (2) .
(110) وقد روى أحمد، قال: حدثنا يحيى بن واضح وهو أبو تميلة، عن عبد الله بن مسلم، عن عبد الله بن بريدة،
عن أبيه قال: رأى رسول الله b في يد رجل خاتماً من ذهب، فقال: ما لك ولحلي أهل الجنة؟ قال: فجاء، وقد لبس خاتماً من صفر، فقال: أجد منك ريح أهل الأصنام؟ قال: فمم أتخذه يا رسول الله؟ قال: من فضة (3) .
[في إسناده لين] (4) .
_________
(1) الإنسان: 15.
(2) النيل (1/67) .
(3) مسند أحمد (5/359) .
(4) في إسناده عبد الله بن مسلم:
قال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به. الجرح والتعديل (5/165) .
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف. الثقات (7/49) .
وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث.
وفي التقريب: صدوق يهم.
واختلف فيه على عبد الله بن مسلم، فرواه عنه يحيى بن واضح كما في مسند أحمد (5/259) ، والترمذي (1785) بزيادة: ثم جاءه وعليه خاتم من ذهب، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة.
ورواه زيد بن الحباب عن عبد الله بن مسلم، واختلف على زيد:
فرواه الحسن بن علي كما في سنن أبي داود (4223) ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، كما في سنن أبي داود (4223) ، وشعب الإيمان للبيهقي (6350) .
ومحمد بن العلاء الهمذاني كما في صحيح ابن حبان (5488) .
وأحمد بن سليمان، كما في سنن النسائي (5195) كلهم رووه عن زيد بن الحباب، عن عبد الله بن مسلم به بدون ذكر زيادة: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة ".
وخالفهم محمد بن حميد، كما في سنن الترمذي (1785) فروى الحديث عن زيد بإثبات تلك الزيادة.
وعلى هذا فيحيى بن واضح لم يختلف عليه في إثبات تلك الزيادة، كما في مسند أحمد والترمذي. ويحيى بن واضح روى له الجماعة، وفي التقريب: ثقة. بينما قال الحافظ عن زيد بن الحباب: صدوق يخطئ في حديث الثوري، روى له مسلم وأصحاب السنن، ولكن كما سبق أن قلت: بأن مدار الإسناد على عبد الله بن مسلم، وقد علمت ما فيه.
والحديث ذكره الزيلعي في نصب الراية (4/234) ، وسكت عليه وقال: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي في مسانيدهم، ولم أجده في مسند أبي يعلى المطبوع.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو.
وفي الفتح قال الحافظ عند شرحه لحديث (5871) : في سنده أبو طيبة: عبد الله بن مسلم المروزي، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف. فإن كان محفوظاً حمل المنع على ما كان حديداً صرفاً. وقال التيفاشي في كتاب الأحجار: خاتم الفولاذ، مطردة للشيطان، إذا لوي عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم، ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة، وقوله: التمس ولو خاتماً من حديد، فاستدل به على جواز لبس الخاتم الحديد، ولا حجة فيه؛ لأنه لا يلزم من الاتخاذ جواز اللبس. انظر العلل المتناهية (2/206) .
وحديث عبد الله بن عمرو الذي أشار إليه الترمذي قد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1021) ، من طريق سليمان بن بلال. والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/261) من طريق أبي غسان كلاهما عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. ولكن ليس فيه موضع الشاهد، وهو قوله: " مالي أرى عليك حلية أهل الجنة ".(1/437)
(111) وقد يستدل لهم بما أخرجه النسائي، قال: أخبرنا وهب(1/438)
بن بيان، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أنبأنا عمرو بن الحارث، أن أبا عشانة، وهو المعافري، حدثه
أنه سمع عقبة بن عامر يخبر أن رسول الله b كان يمنع أهله الحلية والحرير، يقول: إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها، فلا تلبسوها (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
لكن لا دليل فيه، ولعل المنع هنا من باب الزهد، لا من باب التحريم؛ لأن الحرير وكذا الذهب لا يحرمان على النساء، بل يباحان.
وقد أشير إلى الاختلاف في علة النهي عن آنية الذهب والفضة، فارجع إليه، والجزم بأن العلة هي النهي عن التشبه بأهل الجنة فيه شيء، والتشبه بأهل الجنة ليست نقيصة، وقد أذن للمرأة بلباس الحرير والذهب، كما أن الذهب والفضة الموجودان في الجنة غير الموجودين في الدنيا، وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء.
_________
(1) سنن النسائي (5136) .
(2) والحديث قد أخرجه الطبراني في الكبير (17/302) والحاكم (4/191) ، وابن حبان (5486) وابن حزم في المحلى (10/84) من طرق عن ابن وهب به.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والحق أن أبا عشانة لم يخرج له في الصحيحين، وإنما روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال في التقريب: ثقة، واسمه: حي بن يؤمن.
قال ابن حزم رحمه الله: أبو عشانة غير مشهور في النقل، ثم لو صح لكان عاماً للرجال والنساء، يخصه الخبر الذي فيه: إن الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها. اهـ
وكلامه حق إلا ما قاله في حق أبي عشانة فإنه ثقة.(1/439)
الدليل الثاني:
(112) استدل الشوكاني بما رواه أحمد، قال: ثنا أبو عامر، ثنا زهير، عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع ابن عياش مولى عبلة بنت طلق الغفاري،
عن أبي هريرة، عن النبي b قال: من أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقا من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره بسوار من ذهب، ومن أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ولكن عليكم بالفضة العبوا بها لعباً (1) .
[في إسناده ضعف] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (2/334) .
(2) في إسناده: أسيد بن أبي أسيد البراد.
ذكره البخاري، ولم يذكر فيه شيئاً. التاريخ الكبير (2/13) .
وذكره ابن حبان في الثقات. (6/71) .
قال الدارقطني: يعتبر به. تهذيب التهذيب (1/300) .
وروى الترمذي (3575) حديث أسيد بن أبي أسيد، عن معاذ بن عبد الله، عن أبيه، في قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثاً حين يصبح وحين يمسي، وقال: حديث حسين صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال الذهبي في الكاشف (428) والحافظ في التقريب: صدوق.
ولعلهما اعتمدا على تصحيح الترمذي حديثه، لكن تصحيح الترمذي معارض بكلام الدارقطني، فإنه قال عنه: يعتبر به، وهذا عبارة تليين، وليست عبارة تمتين، كما أن أسيد بن أبي أسيد لا يحتمل تفرده بمثل هذا، فالحديث إذا كان أصلاً في الباب احتجنا إلى راو يكون ضابطاً، ولا يكفي في مثل هذا أن يقال في الراوي: يعتبر به، والله أعلم.
والحديث قد اختلف في إسناده على أسيد بن أبي أسيد:
فرواه زهير بن محمد كما في مسند أحمد (2/334) ، والدراوردي، كما في المسند (2/378) وسنن أبي داود (4236) ، والبيهقي (4/140) كلاهما عن أسيد بن أبي أسيد، عن نافع بن عياش، عن أبي هريرة.
ورواه عبد الله بن دينار، وهو ضعيف، كما في المسند (4/414) عن أسيد بن أبي أسيد، عن ابن أبي موسى، عن أبيه، أو عن ابن أبي قتادة، عن أبيه.
وأخرجه أحمد (2/440) والنسائي (5142) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (4813) من طريق مطرف بن طريف، عن أبي الجهم، عن أبي زيد، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وأبو زيد صاحب أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/372) .
وقال الذهبي: لا يدرى من هو، تفرد عنه أبو الجهم، شيخ مطرف بن طريف بحديث تحريم حلية الذهب على المرأة. ميزان الاعتدال (10219) .
وقال الحافظ: خرج أحمد من طريق شعبة عن أبي زيد مولى الحسن بن علي عن أبي هريرة حديثا غير هذا فكأنه هو ورواية شعبة عنه مما يقوي أمره. تهذيب التهذيب (12/114) .
وليس في مسند أحمد ما قاله الحافظ، وإنما الذي في المسند (2/301) من طريق شعبة، عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي، قال سمعت أبا هريرة.
ولذا قال الحافظ في التقريب: مجهول.
ولا يعتبر بهذا الطريق ليقوي الطريق الآخر؛ لأن الاعتبار بالمتابعات والشواهد ليس مطلقاً، وإنما بشرط ألا يخالف، فكيف إذا خالف الإجماع، فإباحة الذهب للنساء مطلقاً قد حكى فيه الإجماع الجصاص في أحكام القرآن (4/477) ، والقرطبي في التفسير (16/71-72) ، والنووي في المجموع (4/442) ، وابن حجر في الفتح (10/317) ، وغيرهم.
وجاء الحديث من مسند سهل بن سعد، إلا أنه ضعيف جداً، فلا يفرح به، فقد روى الطبراني في الكبير (5811) عن إسحاق بن داود الصواف التستري، عن محمد بن سنان القزاز، عن إسحاق بن إدريس، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعاً، بلفظ: من أحب أن يسور ولده بسوارين من نار، فليسوره بسوار من ذهب، ولكن الورق والفضة العبوا بها كيف شئتم.
ففي إسناده محمد بن سنان القزاز، جاء في ترجمته:
قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبى بالبصرة، وكان مستوراً في ذلك الوقت، واتيته أنا ببغداد، وسألت عنه عبد الرحمن بن خراش، فقال: هو كذاب. الجرح والتعديل (7/279) .
وذكره ابن حبان في الثقات (9/133) .
وقال الذهبي: رماه بالكذب أبو داود وابن خراش. المغني في الضعفاء (2/589) .
وذكر مثل هذا في الميزان، وزاد: وأما الدارقطني فمشاه، وقال: لا بأس به. (6757) .
وقال عبد الرحمن بن يوسف: ليس عندي بثقة. تهذيب التهذيب (9/183) .
وقال الآجري: سمعته -يعني أبا داود- يتكلم في محمد بن سنان، يطلق فيه الكذب. المرجع السابق.
وفي التقريب: ضعيف.
وفي إسناده أيضاً: إسحاق بن إدريس البصري، قال البخاري: تركه الناس. التاريخ الكبير (1/382) . وقال أيضاً: سكتوا عنه. التاريخ الأوسط (2/318) .
وقال ابن معين: ليس بشيء، يضع الأحاديث. الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (1/99) .
وقال النسائي: متروك الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث، ضعيف الحديث، روى عن سويد بن إبراهيم وأبى معاوية أحاديث منكرة. الجرح والتعديل (2/213) .
وقال الدارقطني: متروك الحديث. لسان الميزان (1/352) .
وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ضعيف.(1/440)
الدليل الثالث:
(113) ما أخرجه البخاري من طرق عن ابن موهب، قال:
أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيها شعر من شعر النبي b وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة، فاطلعت في الجلجل، فرأيت شعرات حمراً (1) .
_________
(1) البخاري (5896) .(1/442)
قال ابن حجر في الفتح: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين بلفظ: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر... الخ الحديث (1) .
فإن قيل: هذا موقوف على أم سلمة، فلا حجة في فعل الصحابي رضي الله عنه.
فالجواب: ممكن أن يقال: كون الصحابة يرسلون إليها إذا أصاب الإنسان عين أو شيء دليل على اطلاعهم على هذا، وإقرارهم له، والله أعلم.
الدليل الرابع:
لوكانت الآنية حراماً مطلقاً لأمر النبي b بتكسير الأواني كما بعث النبي b علي بن أبي طالب ألا يدع صورة إلا طمسها حين كانت الصورة محرمة مطلقاً.
(114) أخرجه مسلم من طريق سفيان بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل،
عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله b... وذكر الحديث.
(115) وقد جاء في حديث حذيفة في الصحيحين أنه استسقى، فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين - كأنه يقول: لم أفعل هذا ولكني سمعت النبي b يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها،
_________
(1) الفتح (10/365) .(1/443)
فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (1) .
ففي هذا الحديث دليل على اقتناء حذيفة للإناء، ولو كان منكراً لكسره رضي الله عنه، والذي أميل إليه أن الاستعمال في غير الأكل والشرب غير محرم، وإن كان الاحتياط تركه، والله أعلم.
_________
(1) سبق تخريجه.(1/444)
المبحث الثالث
في الطهارة في آنية الذهب والفضة
الخلاف في هذه المسألة إنما يجري على قول من يقول بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، أما من يقصر التحريم على الأكل والشرب، فإنه يصحح الطهارة منها بلا إثم، وهذا واضح.
وقد اختلف القائلون بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة هل تصح الطهارة منها وفيها مع الإثم أم لا على أقوال:
فقيل: تصح الطهارة منها وبها، وهذا مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ،
والمشهور من مذهب الحنابلة (4) .
_________
(1) بريقة محمودية (4/102) ، بل ذهب الحنفية إلى أبعد من هذا، فقالوا كما في البحر الرائق (8/211) : إن الأواني الكبيرة المصوغة من الذهب والفضة لأجل أكل الطعام إنما يحرم استعمالها إذا أكل منها باليد أو الملعقة، وأما إذا أخذ منها، ووضع على موضع مباح، فأكل منه لم يحرم؛ لانتفاء ابتداء الاستعمال منها، وكذا الأواني الصغيرة المصنوعة لأجل الإدهان ونحوه إنما يحرم استعمالها إذا أخذت وصب منها الدهن على الرأس؛ لأنها صنعت لأجل الإدهان منها بذلك الوجه، وأما إذا أدخل يده، وأخذ الدهن، وصبه على الرأس من اليد، فلا يكره؛ لانتفاء ابتداء الاستعمال منها. كما نسب هذا القول مذهباً لأبي حنيفة كل من النووي في المجموع (1/307) ، وابن قدامة في المغني (1/103) ، وابن المنذر في الأوسط (1/318) .
(2) مواهب الجليل (1/506) ، مختصر خليل (1/100) ، وقال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 19) : ومن توضأ فيهما أجزأه وضوؤه، وكان عاصياً باستعمالها، وقد قيل: لا يجزؤه الوضوء فيهما، وفي في أحدهما، والأول أشهر.
(3) قال الشافعي في الأم (1/23) : لا أكره إناء توضئ فيه من حجارة ولا حديد ولا نحاس ولا شيء غير ذوات الأرواح إلا آنية الذهب والفضة فإني أكره الوضوء فيهما. اهـ
وقال النووي في المجموع (1/307) : لو توضأ أو اغتسل من إناء الذهب صح وضوءه وغسله بلا خلاف، نص عليه الشافعي -رحمه الله- في الأم، واتفق الأصحاب عليه. اهـ
(4) المغني (1/58) ، الفروع (1/98) ، كشاف القناع (1/52) ، الإنصاف (1/81) ، شرح الزركشي (1/161) ، المبدع (1/67) .(1/445)
وقيل: لا تصح الطهارة، وهو قول ضعيف في مذهب المالكية (1) ، ووجه في مذهب أحمد (2) ، ورجحه داود الظاهري (3) ، ونُسِبَ هذا القول لابن تيمية (4) ، وصححه ابن عقيل من الحنابلة (5) .
وقيل: يعيد الوضوء في الوقت، ولا يعيد إذا خرج الوقت، وهو قول في مذهب المالكية (6) .
دليل من قال: تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة.
الدليل الأول:
الأحاديث نص في تحريم الأكل والشرب، والأصل فيما عداهما الحل، فلا يحرم شيء حتى يأتي دليل صحيح صريح بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة، فتخصيص النبي b للأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز، ولو كان مطلق الاستعمال حراماً لكان الرسول b أبلغ الناس، ولما خص الأكل والشرب، فما خصهما بالذكر قصرنا التحريم عليهما.
وقد سقت الأدلة الكثيرة على جواز استعمال آنية الذهب والفضة في
_________
(1) الفواكه الدواني (2/319) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 19) .
(2) المغني (1/58) ، الإنصاف (1/81) ، شرح الزركشي (1/161) ، المبدع (1/67) .
(3) المحلى (1/208،426) ، ونسب هذا القول مذهباً لداود الظاهري كل من النووي في المجموع (1/307) ، والحطاب في مواهب الجليل (1/506) .
(4) الذي رجحه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (1/438) صحة الطهارة من آنية الذهب والفضة، وقال عن هذا القول بأنه أفقه.
(5) الإنصاف (1/81) ، الفروع (1/98) .
(6) الفواكه الدواني (2/319) .(1/446)
غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة، فكل دليل سقته هناك يصلح أن يكون دليلاً هنا، والله أعلم.
الدليل الثاني:
أن حقيقة الوضوء: هو جريان الماء على الأعضاء، وليس في ذلك معصية، وإنما المعصية في استعمال الإناء.
قال ابن تيمية: التحريم إذا كان في ركن العبادة وشرطها أثر فيها، كما كان في الصلاة في اللباس أو البقعة، وأما إذا كان في أجنبي عنها لم يؤثر، والإناء في الطهارة أجنبي عنها، فلهذا لم يؤثر فيها، والله أعلم (1) .
الدليل الثالث:
قالوا: إنه لو أكل أو شرب في إناء الذهب والفضة، لم يكن المأكول والمشروب حراماً، فكذلك الطهارة؛ لأن المنع إنما هو لأجل الظرف، دون ما فيه.
قال الشافعي: لا أزعم أن الماء الذي شرب ولا الطعام الذي أكل فيها محرم عليه، وكان الفعل من الشرب فيها معصية. فإن قيل: فكيف ينهى عنها ولا يحرم الماء فيها؟ قيل له - إن شاء الله - إن رسول الله b إنما نهى عن الفعل فيها، لا عن تبرها، وقد فرضت فيها الزكاة، وتمولها المسلمون، ولو كانت نجساً لم يتمولها أحد، ولم يحل بيعها ولا شراؤها (2) .
وقد يتعقب هذا الاستدلال:
بأن يقال: إن التحريم هنا لنفس الأكل والشرب، ولكن لعارض: وهو
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/438) .
(2) الأم (1/23) .(1/447)
كونهما في إناء محرم، بدليل قوله b: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم. ولا يكون هذا إلا لمحرم، وإنما يجرجر في بطنه الأكل والشرب دون الإناء، ومثله: مالك المعصوم إذا غصبه آخر، فإنه يحرم عليه لهذا العارض، كما في قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم ناراً} وإن كان المأكول ليس محرماً لذاته، وإنما هو لعارض.
الدليل الرابع:
أن الوضوء من آنية الذهب والفضة إنما يقع ذلك بعد رفع الماء من الإناء، وفصله عنه، فأشبه ما لو غرف بآنية الفضة في إناء آخر، ثم توضأ منه.
وتعقب هذا:
بأن النبي b جعل الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم، وهو حين انصباب الماء في بطنه يكون قد انفصل عن الإناء.
دليل من قال لا تصح الطهارة من آنية الذهب والفضة.
الدليل الأول:
لما حرم استعمال الإناء، وكان في الشرب والتطهر منه معصية الله تعالى -التي هي استعمال الإناء المحرم- صار فاعل ذلك مجرجراً في بطنه نار جهنم بالنص، وكان في حال وضوئه وغسله عاصياً لله تعالى بذلك التطهر نفسه، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض.
وأجيب:
بأن هذا الكلام إنما يلتزمه من يرى تحريم استعمال آنية الذهب والفضة(1/448)
في غير الأكل والشرب، وقد بينت أن الراجح جواز استعمالهما في غير الأكل والشرب، وعلى التنزل بأن الاستعمال محرم، فإن هناك فرقاً بين التحريم والصحة، فقد يحرم الشيء ويكون صحيحاً، فلا تلازم بين التحريم والصحة، وقد قدمت بأن الفعل المحرم إذا كان في ركن العبادة أو شرطها أثر فيها، وأما إذا كان في أجنبي عنها، لم يؤثر فيها، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قالوا: القياس على الصلاة في الدار المغصوبة، والحج من مال حرام، فكما أنه لا تصح الصلاة في الدار المغصوبة، ولا يصح الحج من مال حرام، فكذلك الطهارة في آنية الذهب والفضة.
وتعقب من وجهين:
الأول: لا نسلم عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة، وكذلك الحج من مال حرام، والقول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة هو قول الجمهور، بل إن أصحاب القول الأول عكسوا هذا الدليل، فاستدلوا على صحة الصلاة بالأرض المغصوبة على صحة الطهارة من آنية الذهب والفضة (1) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/307) : نقلوا الإجماع على صحة الصلاة في الدار المغصوبة قبل مخالفة أحمد رحمه الله.
وانتقد ابن تيمية رحمه الله نقل الإجماع، وذكر في أكثر من موضع أن أول من نقل الإجماع في ذلك أبو بكر الباقلاني. وقال عنه في الفتاوى الكبرى (6/581) : بأنه في أكثر من موضع يدعي إجماعات لا حقيقة لها، كدعواه إجماع السلف على صحة الصلاة في الدار المغصوبة، بكونهم لم يأمروا الأمراء الظلمة بالإعادة، ولعله لا يقدر أن ينقل عن أربعة من السلف أنهم استفتوا في إعادة الظلمة ما صلوه في مكان مغصوب، فأفتوهم بإجزاء الصلاة. اهـ(1/449)
الوجه الثاني:
أن هناك فرقاً بين الصلاة في الأرض المغصوبة، والوضوء من آنية الذهب والفضة، فالقيام والركوع والسجود في الدار المغصوبة محرم، وهي أمثال الصلاة، وأمثال الوضوء من الغسل والمسح ليست محرمة، كما أن المكان شرط في الصلاة لا يمكن وجودها إلا به، والإناء ليس بشرط، أشبه ما لو صلى، وفي يده خاتم ذهب (1) .
دليل من قال يعيد الطهارة ما دام في الوقت.
ظاهر أن قول المالكية في هذه المسألة وفي ما شابهها ممن يطلبون الإعادة في الوقت، فإذا خرج الوقت لم يطلب منه الإعادة أنهم لا يرون وجوب الإعادة؛ لأن الذمة لو كانت مشغولة في وجوب الإعادة لم يكن هناك فرق بين الوقت وبين خارج الوقت.
وقد قال بعضهم عن أصحاب مالك: إن كل موضع يقول فيه مالك: إنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب (2) .
إلا أن يستدل في قصة المسيء صلاته، فإنه قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فطلب منه الإعادة في الوقت، ولم يطلب منه إعادة كل ما صلى.
فإن كانت الإعادة مستحبة، كان أدلة القول لا تخرج عن أدلة من يرى وجوب الإعادة، إلا أنه حمل الأمر على الاستحباب وغيره حملها على الوجوب.
_________
(1) الشرح الكبير (1/88) ، المبدع (1/67) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (5/205) .(1/450)
الراجح من الخلاف:
بعد استعراض أدلة كل فريق الذي يظهر لي أن القول بصحة الطهارة أرجح لقوة أدلته، وأن الصحة والتحريم على القول بتحريم الطهارة من آنية الذهب والفضة غير متلازمين، فقد يحرم الشيء ويصح، وقد يكون محرماً باطلاً، والنهي لم يكن عائداً للوضوء، وإنما هو لأمر خارج، والله أعلم.(1/451)
[صفحة فارغة](1/452)
المبحث الرابع
في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة
فرق بين هذه المسألة والتي قبلها؛ لأن الاستعمال يعني التلبس بالانتفاع، بينما الاتخاذ يعني أن يقتنيه دون أن ينتفع به، كأن يتخذه إما للزينة أو لغيرها.
وقد اختلف العلماء في حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة:
فقيل: يحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة، وهو مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: لا يحرم، وهو مذهب الحنفية (4) ، وقول في مذهب المالكية (5) ، الشافعية (6) ، والحنابلة (7) .
_________
(1) أحكام القرآن (4/97) ، مواهب الجليل (1/28) ، الخرشي (1/100) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/61) ، التاج والإكليل (1/183،184) ، حاشية الدسوقي (1/64) ، المنتقى للباجي (7/236) ، الاستذكار (26/270) .
(2) أسنى المطالب (1/27) ، كفاية الأخيار (1/33) ، المجموع (1/308) ، حواشي الشرواني (4/239) .
(3) مطالب أولي النهى (1/55) ، كشاف القناع (1/51) ، الإنصاف (1/79) ، الكافي (1/17) ، الفروع (1/97) .
(4) حاشية ابن عابدين (6/342) ، البناية (11/79) ، تكملة فتح القدير (10/5) ، تبيين الحقائق (6/12) .
(5) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/61) ، التاج والإكليل (1/183،184) .
(6) انظر المجموع (1/308) ، وذكر أن بعض أصحاب الشافعي حكاه قولين، ومنهم من حكاه وجهين.
(7) الإنصاف (1/80) ، الفروع (1/97) .(1/453)
وقيل: يكره، اختاره بعض الحنابلة (1) .
دليل من قال بتحريم الاتخاذ.
الدليل الأول:
قالوا: إن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه (2) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن الاتخاذ ذريعة إلى الاستعمال، وسد الذريعة واجب (3) .
قال ابن عبد البر: " معلوم أن من اتخذها لا يسلم من بيعها أو استعمالها، لأنها ليست مأكولة ولا مشروب، فلا فائدة فيها غير استعمالها... الخ (4) .
_________
(1) حكى ابن عقيل في الفصول عن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مسعطاً، أو قنديلاً، أو نعلين، أو مجمرة، أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم... الخ، انظر الفروع (1/97) ، الإنصاف (1/80) .
(2) ذكر هذه القاعدة ابن قدامة في الكافي (1/17) ، والنووي في المجموع (1/308) ، وانظر كفاية الأخيار (1/33) .
(3) حاشية الدسوقي (1/64) ، بل ذهبت الشافعية والمالكية إلى أنه لا ضمان على من كسرها.
قال الخرشي في حاشيته (1/100) : ولا ضمان على من كسره وأتلفه، إذا لم يتلف من العين شيئاً على الأصح، ويجوز على ما في المدونة بيعها، لأن عينها تملك إجماعاً ".
وقال في كفاية الأخيار وهو من الشافعية: (1/34) " لو كسر شخص هذه الأواني فلا أرش عليه ".
(4) الاستذكار (26/270) .(1/454)
الدليل الثالث:
قالوا: إن العلة في تحريم الاستعمال هو أتسرف والخيلاء، وهي موجودة في الاتخاذ (1) .
الدليل الرابع:
قوله b: فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة، مفهومه أنها ليست لكم في الدنيا، وهو دليل على تحريم الاتخاذ والاستعمال (2) .
دليل من قال بجواز الاتخاذ,
الدليل الأول:
أن الخبر إنما ورد بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب فلا يتعداه إلى غيره.
الدليل الثاني
كل دليل استدلوا به على جواز الاستعمال، فقد استدلوا به على جواز الاتخاذ، لأنه لا يمكن أن يستعملها إلا وقد اتخذها.
الدليل الثالث:
جاء في الصحيحين أن الصحابي حذيفة رضي الله عنه اقتنى الآنية مع كونه يرى تحريم الشرب فيها،
(116) فقد روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سيف بن أبي سليمان، قال: سمعت مجاهداً يقول:
_________
(1) المجموع (1/308) .
(2) المنتقى للباجي (7/236) .(1/455)
حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي b يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. ورواه مسلم (1) .
الدليل الرابع:
قالوا: يجوز اتخاذ أواني الذهب والفضة قياساً على جواز اتخاذ ثياب الحرير، فإنها مع كونها يحرم استعمالها للرجال، فإنه يجوز للرجل أن يتخذها، ويتاجر فيها (2) .
وأجاب المانعون:
بأن ثياب الحرير لا تحرم مطلقاً فإنها تباح للنساء، بينما آنية الذهب والفضة تحرم على الرجال والنساء، وإنما أبيح التحلي في حق المرأة لحاجتها إلى التزين للزوج والتجمل له، وهذا مقصور على الحلى، فتختص الإباحة به. وقد نقل النووي الإجماع على تحريم آنية الذهب والفضة على الجنسين: الرجل والمرأة (3) .
دليل من قال بالكراهة.
حملوا أدلة من قال بالمنع أن المنع لكراهة التنزيه، وأن العلة عندهم ما
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) المغني (1/59) .
(3) المجموع (1/306) ، مجموع الفتاوى (21/84) .(1/456)
دامت من أجل السرف والخيلاء فلا تصل للتحريم. وقد رددت هذا القول عند ذكر الخلاف باستعمال أواني الذهب والفضة.
الراجح من هذا الخلاف: أن من قصر التحريم على الأكل والشرب فهو أسعد بالنص، والدليل على جواز الاتخاذ أقوى من دليل جواز الاستعمال، ذلك أن الأكل والشرب قد يقال: إنه نوع من الاستعمال، وإن كان النص على الأكل والشرب أخص من تحريم الاستعمال، وقد رأيت في نهاية هذا البحث أن أختمه بكلام نفيس لابن تيمية رحمه الله، حيث قال:
" إذا كان تحريم الذهب والحرير على الرجال يقتضي شمول التحريم لأبعاض ذلك: بقي اتخاذ اليسير لحاجة أو مطلقاً، فاتخاذ اليسير فيه تفصيل، ولهذا تنازع العلماء في جواز اتخاذ الآنية بدون استعمالها، فرخص فيه أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد في قول، وإن كان المشهور عنهما تحريمه، إذ الأصل أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي.
وأما إذا كانت الفضة التابعة كثيرة ففيها أيضاً قولان في مذهب الشافعي وأحمد، وفي تحديد الفرق بين الكثير واليسير، والترخيص في لبس خاتم الفضة أو تحلية السلاح من الفضة، وهذا فيه إباحة يسير الفضة مفرداً، لكن في اللباس والتحلي، وذلك يباح منه مالا يباح في باب الآنية، كما تقدم التنبيه على ذلك، ولهذا غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، حيث حكى قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر عبدالعزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي كعلم الذهب ونحوه.
وفي يسير الذهب في (باب اللباس) عن أحمد أقوال:(1/457)
أحدها: الرخصة مطلقاً، لحديث معاوية: نهى عن الذهب إلا مقطعاً (1) .
_________
(1) هذا الحديث رواه عن معاوية جماعة، منهم:
أبو قلابة، ولم يسمع من معاوية، فهو منقطع.
ورواه قتادة ومطر بن طهمان عن أبي الشيخ الهنائي عن معاوية.
وتابعهما بيهس بن فهدان على اختلاف عليه كما سيأتي.
ورواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي الشيخ الهنائي، عن أخيه حمان وقيل: أبو حمان، عن معاوية، فأدخل بين أبي الشيخ ومعاوية أخاه حمان، وهو مجهول.
قال النسائي: قتادة أحسن من يحيى بن أبي كثير، وحديثه أولى بالصواب، انظر السنن الكبرى للنسائي (4960) .
وكذا رجح الدارقطني رواية قتادة، فقد ذكر ابن القيم في تهذيب السنن (5/152) قوله: قال الدارقطني: القول قول من لم يدخل بين أبي الشيخ ومعاوية فيه أحداً- يعني: قتادة ومطرفاً وبيهس بن فهدان. اهـ كلام ابن القيم.
وجاء في العلل لابن أبي حاتم (1/484) : سألت أبي عن حديث رواه معمر، عن قتاده، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية، قال: نهى رسول الله b عن الذهب إلا مقطعاً، وعن ركوب النمور؟ قال: رواه يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ، عن أخيه حمان، عن معاوية، عن النبي b قال: أدخل اخاه، وهو مجهول، فأفسد الحديث.
فإن رجحنا رواية قتادة كما قال النسائي والدارقطني، فقتادة مدلس، وقد عنعن، لكن متابعة مطر بن طهمان وبيهس بن فهدان تقوي طريق قتادة، فيكون الحديث حسناً لغيره.
وإن رجحنا طريق يحيى بن أبي كثير، ففيه بين أبي الشيخ ومعاوية رجل ضعيف، وهو أخو أبي الشيخ، مع العلم أن رواية يحيى بن أبي كثير فيها اضطراب كثير، فلعل الراجح هو رواية قتادة، عن أبي الشيخ.
وأبو شيخ الهنائي قد ذكره البخاري في التاريخ الكبير (3/130) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/401) وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه شيئاً.
وقال ابن سعد: أبو شيخ الهنائي من الأزد، وكان ثقة، وله أحاديث. الطبقات الكبرى (7/155) .
وذكره ابن حبان في الثقات. الثقات (4/192)
وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/407) .
وقال الذهبي: تابعي كبير صدوق. المغني في الضعفاء (1/126) ، بينما قال في الكاشف (6682) : ثقة.
وقال الحافظ في التقريب: ثقة. وإليك تخريج الحديث:
أما رواية قتادة، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية فقد رواه عن قتادة معمر، وهشام، وهمام، وسعيد بن أبي عروبة ومحمد بن عبيد الله العرزمي على النحو التالي.
فرواية معمر أخرجها عبدالرزاق (19927) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي b: تعلمون أن رسول الله b نهى عن جلود النمور أن تركب عليها؟. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة؟ -يعني: متعة الحج - قالوا: اللهم لا. قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (4/95) وليس عنده قوله: " قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا.
ورواه الطبراني أيضاً في الكبير (19/) رقم 824 من طريق عبد الرزاق.
ورواية معمر عن قتادة متكلم فيها، لكن ذلك قد زال بكثرة المتابعات من أصحاب قتادة.
وأما رواية همام، فأخرجها أحمد أيضاً (4/92) قال: ثنا عفان، ثنا همام، ثنا قتادة به،
وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب (419) حدثني أبو الوليد، حدثني همام به.
وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3250) .
والطبراني في المعجم الكبير (19/353) رقم 825 من طريق حجاج بن المنهال، ثنا همام به.
وأما رواية سعيد بن أبي عروبة فأخرجها أحمد (4/99) عن محمد بن جعفر، ثنا سعيد عن قتادة به، وأخرجه النسائي في الكبرى (9453) ، وفي الصغرى (5151) من طريق ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (19/353) رقم 826 من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة به. ويزيد بن زريع قد سمع من سعيد قبل اختلاطه.
وأما رواية هشام عن قتادة فأخرجها الطبراني في الكبير (19/353) رقم 827، والبيهقي في السنن الكبرى (5/19) .
وأما رواية محمد بن عبيد الله العرزمي عن قتادة، فأخرجها الطبراني في الكبير (19/354) رقم 828. والعرزمي ضعيف جداً.
وقد تابع قتادة متابعة تامة مطر بن طهمان، وبيهس بن فهدان عند النسائي.
فقد أخرج النسائي في السنن الكبرى (9454) ، وفي الصغرى (5152) قال: أخبرنا أحمد بن حرب. قال: أنبأنا أسباط، عن مغيرة، عن مطر، عن أبي شيخ الهنائي به...
ومطر بن طهمان ضعيف.
وأحمد بن حرب صدوق، وكذلك المغيرة بن مسلم _قاله الحافظ في ترجمتهما في التقريب.
وأما متابعة بيهس بن فهدان فقد أخرجها أحمد (4/98) ، قال: ثنا وكيع، حدثني بيهس بن فهدان، عن أبي شيخ الهنائي، عن معاوية.
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (9461) ، وفي الصغرى (5159) قال: أخبرنا إسحاق بن ابراهيم قال: أنبأنا النضر بن شميل. قال حدثنا بيهس بن فهدان قال: حدثنا أبو شيخ الهنائي به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (19/354) رقم 829 من طريق عثمان بن عمر، ثنا بيهس بن فهدان به.
وبيهس بن فهدان، قال فيه يحيى بن معين: ثقة. انظر الجرح والتعديل (2/430) ، وباقي رجال الإسناد ثقات.
واختلف على بيهس فيه، فرواه وكيع والنضر بن شميل، وعثمان بن عمر كما سبق. وخالفهم علي بن غراب، فأخرجه النسائي (1/5160) . قال: أخبرني زياد بن أيوب، قال حدثنا علي بن غراب، قال حدثنا بيهس بن فهدان قال: أنبأنا أبو شيخ قال: سمعت ابن عمر قال: نهى رسول الله b عن لبس الذهب إلا مقطعاً.
قال النسائي: حديث النضر _يعني عن بيهس_ أشبه بالصواب. أهـ
قلت: علي بن غراب قال فيه الحافظ في التقريب (4783) : " صدوق، وكان يدلس، ويتشيع، وأفرط ابن حبان في تضعيفه، وجاء في الجرح والتعديل (6/200) : عن عبدالله بن أحمد قال: سألت أبي عن علي بن غراب المحاربي فقال: سمعت منه مجلساً واحداً وكان يدلس، وما أراه إلا كان صدوقاً.
وقال فيه ابن نمير: علي بن غراب يعرفونه بالسماع، وله أحاديث منكرة ".
وقال فيه يحيى بن معين: صدوق.
وجعله الحافظ في المرتبة الثالثة من المدلسين، وهو هنا قد صرح بالسماع، لكن النضر بن شميل لا يقارن أبداً بعلي بن غراب لو انفرد كيف وقد توبع النضر بن شميل كما سبق. فإسناد علي بن غراب إسناد شاذ.
والحديث قد اختلف فيه على أبي الشيخ فيه. فتارة يرويه عن معاوية مباشرة كما سبق، وتارة يرويه عن أبي حمان عن معاوية كما في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي الشيخ.
ورواية يحيى بن أبي كثير قد اختلف عليه فيها:
فرواه النسائي في السنن الكبرى (9455) وفي الصغرى (5153) من طريق علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي شيخ الهنائي، عن أبي حمان، عن معاوية.
وقيل: عن حمان بدون كلمة أبي.
ورواه النسائي في الكبرى (9456) وفي الصغرى (5154) والطبراني في الكبير (19/355) رقم 831 من طريق حرب بن شداد، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ عن أخيه حمان، عن معاوية به.
ورواه الأوزاعي، واختلف عليه أيضاً:
فرواه النسائي في السنن الكبرى (9460) من طريق يحيى بن حمزة، قال: حدثني عبد الله الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني حمان.
ورواه النسائي في الكبرى (9457) وفي الصغرى (5155) والطبراني في الكبير (19/354) رقم: 830 من طريق شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو شيخ الهنائي، قال حدثني حمان.
ورواه النسائي في الكبرى (9458) وفي الصغرى (5156) من طريق عمارة بن بشر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو إسحاق، قال: حدثني حمان به.
وأخرجه النسائي أيضاً في الكبرى (9459) وفي الصغرى (5157) من طريق عقبة، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى، قال: حدثني أبو إسحاق، قال: حدثني ابن حمان.. وذكر الحديث.
ورجح النسائي في الاختلاف على الأوزاعي طريق عمارة فقال: (8 / 163) قال أبو عبد الرحمن: عمارة أحفظ من يحيى، وحديثه أولى بالصواب. يعني: يحيى بن حمزة.
ولفظ حديث حمان عن معاوية يختلف عن لفظ أبي شيخ الهنائي عن معاوية السابق. فلفظ حديث حمان ليس فيه الاستثناء إلا مقطعاً ".
وهاك روايات الحديث عند النسائي، جاء عنده (5153) : أن معاوية عام حج، جمع نفراً من أصحاب رسول الله b في الكعبة، فقال لهم: أنشدكم الله أَنَهَىَ رسول الله b عن لبس الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد.
وفي رواية (5154) : مثله إلا أنه قال: عن لبوس الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد.
وفي رواية (5155) : ألم تسمعوا رسول الله b ينهى عن الذهب. قالوا: نعم. قال: وأنا أشهد.
وحمان هذا يقال له: حمان، ويقال له: أبو حمان، ويقال حمران: أخو أبي شيخ الهنائي.
روى عنه اثنان: أبو إسحاق السبيعي، وأخوه أبو شيخ الهنائي، ولم يوثقه إلا ابن حبان.
قال عنه الحافظ في التقريب (1511) : مستور. وسبق لنا كلام أبي حاتم في العلل أنه مجهول.
وأما رواية أبي قلابة عن معاوية.
فأخرجها أحمد (4/93) ثنا إسماعيل، ثنا خالد الحذاء، عن ميمون القناد، عن أبي قلابة، عن معاوية بن أبي سفيان به.
وأخرجه أبو داود (4239) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (3/277) من طريق حميد بن مسعدة، ثنا إسماعيل به.
وأخرجه النسائي في الكبرى (9452) وفي الصغرى (5150) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد، قال: حدثنا خالد به.
واختلف على خالد الحذاء، فرواه إسماعيل بن علية وعبد الوهاب بن عبد المجيد، عن خالد، عن ميمون، عن أبي قلابة.
وخالفهما سفيان بن حبيب فرواه عن خالد، عن أبي قلابة بدون ذكر ميمون كما في سنن النسائي (5149) .
قال أبو داود: أبو قلابة لم يلق معاوية، ومثله قال أبو حاتم الرازي. وميمون القناد: هذا مجهول الحال ليس له في أبي داود والنسائي إلا هذا الحديث، روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان. قال عنه أحمد بن حنبل: ميمون القناد قد روى هذا الحديث، وليس بمعروف.
وقال عنه في التقريب: مقبول. أي حيث توبع، وقال الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي داود (6/128) : " وقال البخاري: ميمون القناد عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة مراسيل " _انظر ترجمته في تهذيب الكمال (8/177) _، فهذان انقطاعان في الحديث.
فالخلاصة: حديث قتادة عن أبي الشيخ الهنائي عن معاوية ليس فيه إلا عنعنة قتادة، وتزول بالمتابعة فقد تابعه في الرواية عن أبي الشيخ الهنائي كل من مطر بن طهمان، وبيهس بن فهدان.
ومتابعة أبي قلابة وإن كان فيها انقطاع إلا أنها صالحة في المتابعات.
أما الحديث من طريق حمان أو أبي حمان فإن إسناده مضطرب اضطراباً لا يصلح الاحتجاج به. والله أعلم.
والمقصود بالنهي عن الذهب هو في حق الرجال خاصة، ولذلك ذكر معه الحرير، وهو مباح في حق النساء، وقد نقل الإجماع غير واحد على جواز لبس الذهب للنساء، منهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/64) .(1/458)
والثاني: الرخصة في السلاح فقط.
والثالث: في السيف خاصة.
وفيه وجه بتحريمه مطلقاً، لحديث أسماء: لا يباح من الذهب ولا خريصة (1) .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/453) حدثنا محمد بن عبيد، ثنا داود يعني: ابن يزيد الأودي، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله b: لا يصلح شئ من الذهب ولا بصيصة.
دراسة الاسناد:
محمد بن عبيد
قال صالح بن احمد بن محمد بن حنبل: سألت أبى عن يعلى ومحمد ابني عبيد، فقال: كان محمد يخطىء ولايرجع عن خطئه، وكان يظهر السنة. الجرح والتعديل (8/10) .
وقال أحمد بن حنبل: محمد بن عبيد الطنافسي كان رجلاً صدوقاً، وكان يعلى أثبت منه. المرجع السابق.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: محمد بن عبيد الطنافسي؟ فقال: ثقة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: صدوق ليس به بأس. المرجع السابق.
وقد وثقه أحمد كما في بحر الدم (916) .
وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وكان صاحب سنة وجماعة. الطبقات الكبرى (6/397) .
وقال الدارقطني ثقة. سير أعلام النبلاء (9/436) .
وفي التقريب: ثقة يحفظ.
الثاني: داود بن يزيد الأودي.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: داود بن يزيد يحدث عن الشعبي ضعيف الحديث. الجرح والتعديل (3/427) .
وقال أحمد أيضاً: داود الأودي واه. ضعفاء العقيلي (2/40) .
قال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: داود بن يزيد الاودي: ليس حديثه بشيء. الجرح والتعديل (3/427) .
قال أبو حاتم الرازي: داود الاودي ليس بقوي يتكلمون فيه، وهو أحب إلي من عيسى الحناط. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ولداود الأودي أحاديث غير ما ذكرت صالحة، ولم أر في أحاديثه منكراً يجاوز الحد إذا روى عنه ثقة، وداود وإن كان ليس بالقوي في الحديث فإنه يكتب حديثه ويقبل إذا روى عنه ثقة. الكامل (3/79) .
الثالث: شهر بن حوشب. مختلف فيه، والأكثر على ضعفه. وفي التقريب: صدوق كثير الإرسال والأوهام. وقد سبق أن حررت كلام العلماء فيه في كتابي الحيض والنفاس.
فالسند ضعيف.
واختلف على شهر بن حوشب، فرواه داود بن يزيد الأودي، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد.
ورواه عبد الجليل القيسي عن شهر به بلفظ: من تحلى وزن عين جرادة من ذهب أو خز بصيصة كوي بها يوم القيامة إلا أنه ذكر فيه قصة، وجعلها متعلقة بخالة أسماء، وليست بأسماء.
فقد رواه أحمد (6/459، 460) حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أنا عبد الجليل القيسي، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد كانت تخدم النبي b قالت: بينما أنا عنده إذ جاءته خالتي، قالت: فجعلت تساءله، وعليها سواران من ذهب، فقال لها النبي b: أيسرك أن عليك سواران من نار، قالت: ياخالتي إنما يعني سواريك هذين، قالت: فألقتهما. قالت: يانبي الله إنهن إذا لم يتحلين صلفن عند أزواجهن، فضحك رسول الله b، وقال: أما تستطيع إحداكن أن تجعل طوقاً من فضة، وجمانة من فضة، ثم تخلقه بزعفران فيكون كأنه من ذهب، فإنه من تحلى وزن عين جرادة من ذهب أو خز بصيصة كوي بها يوم القيامة.
ورواه عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر، فخالفه في المتن، فلم يحرم الرسول b عليه الذهب، وإنما طلب منها أداء زكاته. فقد روى الإمام أحمد (6/461) حدثنا علي بن عاصم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي b وعليها سواران من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاته؟ فقلنا: لا. فقال: أما تخافان أن يسوركما الله بسوارين من نار.
وهذا إسناد ضعيف فيه علي بن عاصم متكلم فيه.
ورواه قتادة، عن شهر، واختلف عليه، فرواه هشام، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري مرسلاً.
أخرجه أحمد (4/227) قال: ثنا عبد الصمد، ثنا هشام، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله b قال: من تحلى أو حلى بخز بصيصه من ذهب كوي بها يوم القيامة.
وهذا مرسل، ورجاله ثقات.
ورواه همام، عن قتادة، عن شهر، عن أسماء.
أخرجه أحمد (6/460) قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أسماء قالت: انطلقت مع خالتي إلى النبي ص وفي يدها سواران من ذهب، أو قالت: قلبان من ذهب، فقال لي: أيسرك أن يجعل في يدك سواران من نار، فقلت لها: يا خالتي أما تسمعين ما يقول؟. قالت: وما يقول؟. قلت: يقول: أيسرك أن يجعل في يدك سواران من نار، أو قال: قلبان من نار. قالت: فانتزعتهما فرمت بهما فلم أدر أي الناس أخذهما.
وهشام أثبت من همام في قتادة. بل قال شعبة: هشام أثبت مني في قتادة، لكن همام قد توبع في جعله من مسند أسماء.
ورواه ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب به. عند ابن حزم في المحلى (10/83) وليث بن أبي سليم: ضعيف.
وتابع شهراً محمود بن عمرو الأنصاري عن أسماء، ولكن لم يذكر فيه قصة السوارين، فقد أخرج الحديث أحمد في المسند (6/455،457) من ثلاثة طرق عن هشام،
وأخرجه النسائي (5139) من طريق معاذ بن هشام، عن هشام.
وأخرجه الطبراني في الكبير (24/186) رقم 469 من طريق أبي عاصم، عن هشام به.
وأخرجه أحمد (6/460) ، وأبو داود (4238) من طريقين عن أبان بن يزيد العطار، كلاهما (هشام وأبان) عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمود بن عمرو، عن أسماء بلفظ: أيما امرأة تحلت قلادة من ذهب جعل في عنقها مثلها من النار يوم القيامة، أيما امرأة جعلت في أذنها خرصة من ذهب جعل في أذنها مثلها من النار يوم القيامة.
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/141) من طريق همام، عن يحيى به.
قال المنذري في الترغيب (1/313) رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد.
والحديث في إسناده: محمود بن عمرو ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (8/290) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/434) .
وقال ابن حزم: ضعيف. المحلى (10/83) .
وقال أبو الحسن بن القطان: مجهول الحال. تهذيب التهذيب (10/58) .
وقال الذهبي: فيه جهالة. ميزان الاعتدال (8375) .
هذا فيما يتعلق بتخريج الحديث.
وقد قال ابن القيم في تهذيب السنن (6/128) : " وقد روي في حديث آخر احتج به أحمد: " من تحلى بخريصة كوي بها يوم القيامة " فقال الأثرم: فقلت: أي شيء خريصة؟ قال: شيء صغير مثل الشعيرة. وقال غيره: من عين الجرادة.
وسمعت شيخ الإسلام يقول: حديث معاوية في إباحة الذهب مقطعاً هو من التابع غير المفرد كالزر والعلم ونحوه، وحديث الخريصة هو في المفرد كالخاتم وغيره.(1/463)
والخريصة: عين الجرادة، لكن هذا يحمل على الذهب المفرد دون التابع، ولا ريب أن هذا محرم عند الأئمة الأربعة، لأنه قد ثبت عن النبي b أنه نهى عن خاتم الذهب، وإن كان قد لبسه من الصحابة من لم يبلغهم النهي.
ولهذا فرق أحمد وغيره بين يسير الحرير مفرداً كالتكة فنهى عنه، وبين يسير غيره تبعاً كالعلم، إذ الاستثناء وقع في هذا النوع فقط.
فكما يفرق في الرخصة بين اليسير والكثير، فيفرق بين التابع والمفرد، ويحمل حديث معاوية إلا مقطعاً " على التابع لغيره، وإذا كانت الفضة قد رخص منها في باب اللباس والتحلي من اليسير، وإن كان مفرداً، فالذين رخصوا في اليسير أوالكثير التابع في الآنية ألحقوها بالحرير الذي أبيح يسيره تبعاً للرجال في الفضة التي أبيح يسيرها مفرداً أولاً. ولهذا أبيح -في أحد قولي العلماء-، وهو إحدى الروايتين عن أحمد -حلية المنطقة من الفضة وما يشبه ذلك من لباس الحرب كالخوذة، والجوشن، والران، وحمائل السيف.
وأما تحلية السيف بالفضة فليس فيه خلاف.
والذين منعوا قالوا: الرخصة وقعت في باب اللباس دون باب الآنية، وباب اللباس أوسع كما تقدم.(1/467)
وقد يقال: إن هذا أقوى، إذ لا أثر في هذه الرخصة والقياس كما ترى.
وأما المضبب بالذهب، فهذا داخل في النهي، سواء كان قليلاً أو كثيراً. والخلاف المذكور في الفضة منتف هنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه (1) .
فمن خلال هذا الكلام لابن تيمية يتبين لنا ما يلي:
التفريق في الذهب والفضة بين المفرد والتابع. فيحرم مفرد الذهب ولو يسيراً، ويباح التابع في اللباس.
والتفريق بينهما في باب الآنية، وباب اللباس. فباب اللباس أوسع من باب الآنية.
كما أنه يدل على إباحة الخاتم من الفضة، وكذلك تحلية السيف، والذي يظهر لي أن الفضة الأصل فيها الحل إلا ما دل عليه الدليل كالنهي عن الأكل والشرب فيها، ولذلك اتخذ الرسول b خاتماً من ورق، فالفرق بين الذهب والفضة ظاهر من حيث الأدلة، والله أعلم.
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/86-88) .(1/468)
الفصل الثالث
في الأواني المضببة بالذهب والفضة(1/469)
[صفحة فارغة](1/470)
المبحث الأول
في تضبيب الأواني بالذهب
تعريف الضبة:
جاء في المطلع على أبواب المقنع: المضبب: هو الذي عمل فيه ضبة.
قال الجوهري: هي حديدة عريضة يضبب بها الباب - يريد والله أعلم- أنها في الأصل كذلك، ثم تستعمل من غير الحديد، وفي غير الباب. اهـ (1) .
وجاء في المغني في الإنباء: المضبب من الأقداح: هو الذي أصابه صدع: أي شق، فسويت له كتيفة عريضة من الفضة أو غيرها، وأحكم الصدع بها، فالكتفية يقال لها: ضبة، وجمعها: ضبات اهـ (2) .
وفي تحرير ألفاظ التنبية: الضبة: قطعة تسمر بها في الإناء ونحوه (3) .
وإذا عرفنا التضبيب بقي علينا أن نعرف حكم التضبيب بالذهب والفضة.
فأما المضبب بالذهب فقد اختلف العلماء في حكم الأكل والشرب في الإناء المضبب بالذهب،
فقيل: يجوز الأكل والشرب بالإناء المضبب بالذهب، وهو قول أبي
_________
(1) المطلع على أبواب المقنع (ص:9) .
(2) المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (1/23) .
(3) تحرير الفاظ التنبيه (ص: 33) .(1/471)
حنيفة، ومحمد (1) ، والقاضي أبي بكر من المالكية (2) ، والخرسانيين من الشافعية، ونقله الرافعي عن معظم أصحاب الشافعي (3) ، واختاره أبو بكر من الحنابلة (4) ، وهو مذهب ابن حزم (5) .
وقيل: يكره، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية (6) ، واختاره بعض المالكية (7) .
_________
(1) بدائع الصنائع (5/132) ، البحر الرائق (8/211) ، شرح فتح القدير (4/79) ، الفتاوى الهندية (5/334) ، حاشية ابن عابدين (6/355) ، الاختيار لتعليل المختار (4/160) .
(2) مواهب الجليل (1/129) .
(3) اختار الخرسانيون من الشافعية أن التضبيب بالذهب كالتضبيب بالفضة يباح بشروط معينة، بأن تكون الضبة يسيرة، وأن تكون لحاجة، وسوف نأتي على تفصيل هذه الشروط في بحث التضبيب بالفضة، انظر المجموع (1/312) .
(4) المغني (1/59) ، وخَطَّأ ابن تيمية نسبة هذا القول لأبي بكر، فقال في مجموع الفتاوى (21/82) : " غلط بعض الفقهاء من أصحاب أحمد؛ حيث حكى قولاً بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر بن عبد العزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي، كعلم الذهب ونحوه ".
(5) المحلى إلا أن ابن حزم أباح استعماله للنساء خاصة دون الرجال، لأن استعمال الذهب للرجل لا يجوز، وأما إن كان مضبباً بالفضة جاز استعماله للرجال والنساء؛ لأن استعمال الفضة للرجال جائز، انظر المحلى (6/99) ، و (1/427) .
(6) بدائع الصنائع (5/132) ، الفتاوى الهندية (5/334) .
(7) قال صاحب مواهب الجليل (1/129) : " قال مالك في العتبية: لا يعجبني أن يشرب في إناء مضبب، ولا ينظر في مرآة فيها حلقة، وهو يحتمل التحريم والكراهة، قال ابن عبد السلام: وظاهره الكراهة، وهو الذي عزاه المازري للمذهب، وكذا بعض من تكلم على الخلاف. قال في الإكمال عن المازري: والمذهب عندنا كراهة الشرب في الإناء المضبب، كما كره النظر في مرآة فيها حلقة فضة. قال القاضي عبد الوهاب: ويجوز عندنا استعمال المضبب إذا كان يسيراً. قال بعض شيوخنا: وعلة مجرد السرف لا تقتضي التحريم كأواني البلور التي لها الثمن الكثير والياقوت؛ فإن استعمالها عندنا جائز غير حرام، لكنه مكروه للسرف انتهى. وانظر الخرشي (1/101) ، الشرح الصغير (1/62) .(1/472)
وقيل: يحرم التضبيب بالذهب مطلقا، سواء كثرت الضبة أو قلت، لحاجة أو لزينة، في موضع الاستعمال أو في غيره.
وهو المشهور من مذهب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
وقيل: يباح الإناء المضبب بالذهب للنساء دون الرجال، وهو اختيار ابن حزم رحمه الله (4) .
وقيل: يباح التضبيب بالذهب بشرط أن يكون يسيراً، حكاه صاحب الإنصاف عن ابن تيمية، والمعروف عنه المنع (5) .
_________
(1) المنتقى للباجي (7/236) ، أحكام القرآن لابن العربي (4/97) ، التاج والإكليل (1/185-186) ، الخرشي (1/100،101) ، مواهب الجليل (1/129) ، حاشية الدسوقي (1/64) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/62) ، منح الجليل (1/59) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/118) ، المجموع (1/311،312) ، روضة الطالبين (1/46) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/32) ، أسنى المطالب (1/27) ، نهاية المحتاج (1/105) .
(3) كشاف القناع (1/51) ، مطالب أولي النهى (1/57) ، المغني (1/59) ، المبدع (1/66) ، الفروع (1/69) ، الإنصاف (1/79) .
(4) المحلى (1/427) .
(5) الإنصاف (1/83) ، والمعروف عن ابن تيمية المنع؛ فإنه قال في مجموع الفتاوى (21/82) : وأما المضبب بالذهب فهذا داخل في النهي، سواء كان قليلاً أو كثيراً، والخلاف المذكور في الفضة منتف هاهنا، لكن في يسير الذهب في الآنية وجه للرخصة فيه. اهـ(1/473)
دليل من قال: يباح المضبب بالذهب.
الدليل الأول:
قالوا: إن المحرم هو آنية الذهب والفضة، والمضبب بالذهب ليس إناء من ذهب، فلم يقع عليه النهي، والأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، والقدر الموجود من الذهب في الإناء هو تابع، وليس بمتبوع، ولذلك لا يجوز لبس الحرير للرجل، وأبيح له لبسه إذا كان تابعاً كما لو كان يسيراً أو كان معلماً بقدر أربعة أصابع فما دون.
الدليل الثاني:
لما استوت الفضة بالذهب في التحريم في باب الآنية، فيحرم إناء الفضة كما يحرم إناء الذهب، فكذلك ينبغي أن يستويا في الضبة، فإذا كانت الضبة من الفضة جائزة، فكذلك الضبة من الذهب.
وأجيب:
بأنه لا يصح القياس على الفضة؛ لأن باب الفضة أوسع، ولذلك أبيح منه الخاتم وقبيعة السيف.
دليل من قال: يحرم التضبيب بالذهب.
قالوا: الأصل أن الضبة محرمة مطلقاً سواء كانت من ذهب أو فضة، جاء الدليل في جواز التضبيب بالفضة، فبقي الذهب على أصله في التحريم.
الدليل الثاني:
قالوا: إذا استعمل جزءاً من الإناء فقد استعمله كله، فيكون مستعملاً(1/474)
للذهب المحرم (1) .
دليل من قال: يكره التضبيب.
قالوا: إن العلة في تحريم الإناء هي الإسراف والخيلاء، وهذه العلة لا تقتضي التحريم، وإنما تقتضي الكراهة.
وقد أجيب على هذا التعليل في المسألة السابقة.
دليل من قال: يحرم على الرجال خاصة.
قال: إن تحريم المضبب من الذهب على الرجال دون النساء، ليس لأنه إناء من ذهب، وإلا لحرم على الرجال والنساء، فالمضبب بالذهب غير إناء الذهب، ولكن لأن الذهب يحرم استعماله مطلقاً على الرجال دون النساء، وإذا كان الذهب حراماً على الرجال، حرم المضبب بالذهب. والله أعلم.
_________
(1) المجموع بتصرف (1/312) .(1/475)
[صفحة فارغة](1/476)
المبحث الثاني
خلاف العلماء في التضبيب بالفضة
ذهب الجمهور من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) إلى جواز التضبيب بالفضة على خلاف بينهم في شروط جواز ذلك (4) .
_________
(1) البحر الرائق (8/212) ، حاشية ابن عابدين (6/344) ، شرح فتح القدير (4/79) ، الفتاوى الهندية (5/334) ، تحفة الفقهاء (3/355) ،
(2) روضة الطالبين (1/45) ، إعانة الطالبين (2/155) ، المهذب (1/12) ، الإقناع للشربيني (1/33) ، حواشي الشرواني (1/122) ، شرح زبد بن رسلان - الأنصاري (ص:35) .
(3) المبدع (1/67) ، الإنصاف (1/83) ، كشاف القناع (1/52) .
(4) فالحنفية لم يشترطوا إلا أن يتقي موضع الضبة.
وأما الشافعية والحنابلة فاشترطوا للإباحة شروطاً:
فتباح عندهم بلا كراهة إن كانت ضبة يسيرة لحاجة.
وإن كانت كثيرة لحاجة فلا تباح على المشهور من مذهب الحنابلة، وتكره عند الشافعية.
وإن كانت يسيرة لزينة فعند الشافعية مكروهة، وعند الحنابلة أوجه: التحريم والكراهة والإباحة.
واختار الإباحة جماعة منهم: القاضي، وابن عقيل، وابن قدامة، وابن تيمية.
وإن كانت الضبة كثيرة لغير حاجة فتحرم عند الشافعية والحنابلة.
ومعنى الحاجة:
قال ابن قدامة في المغني (1/59) : أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. اهـ
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/81) : ليس المراد أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة، والضرورة تبيح الذهب والفضة مفرداً وتبعاً، حتى لو احتاج إلى شد أسنانه بالذهب، أو اتخذ أنفاً من ذهب ونحو ذلك جاز، كما جاءت به السنة، مع أنه ذهب، ومع أنه مفرد. اهـ(1/477)
وقيل: لا يجوز التضبيب بالفضة مطلقاً، سواء كانت الضبة يسيرة أم لا، وسواء ألجأت إلى ذلك حاجة أم لا، وسواء كانت الضبة في مضوع الاستعمال أم لا، وهذا القول هو الأصح من قولي مالك (1) ، ورواية عن أحمد (2) ..
قال الخطابي: منعه مطلقاً جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الليث (3) ، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهما (4) .
وقيل: يكره، وهو قول في مذهب المالكية (5) .
دليل من قال بالجواز.
(117) قال البخاري: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن عاصم، عن ابن سيرين،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن قدح النبي b انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة. قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه (6) .
_________
(1) التمهيد (16/111،108) ، الفواكه الدواني (2/309،319) ، مواهب الجليل (1/129) .
(2) الإنصاف (1/83) .
(3) الفتح (10/104) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (5/104) ، وسيأتي ذكره وتخريجه عند الكلام على الأدلة.
(5) الفواكه الدواني (2/309) .
(6) صحيح البخاري (3109) .(1/478)
الدليل الثاني:
من النظر، قالوا: إن الرسول b نهى عن آنية الفضة، والمضبب بالفضة ليس إناء فضة فلا يدخل في النهي، والأصل الحل حتى يرد دليل صحيح صريح على تحريم المضبب، ولا دليل.
الدليل الثالث:
(118) ما رواه الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدثنا بابويه بن خالد الأيلي، ثنا عمر بن يحيى الأيلي، ثنا معاوية بن عبد الكريم الضال، ثنا محمد بن سيرين، عن أخته،
عن أم عطية قالت: نهانا رسول الله b عن لبس الذهب وتفضيض الأقداح، فكلمه النساء في لبس الذهب فأبى علينا، ورخص لنا في تفضيض الأقداح (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المعجم الكبير (25/68) رقم 167.
(2) في إسناده عمر بن يحيى الأيلي، جاء في لسان الميزان (4/338) ، ذكره ابن عدي، فأخرج في ترجمة جارية بن هرم، قال: حدثنا ابن ناجية، ومحمد بن موسى الأيلي قالا: حدثناعمر بن يحيى الأيلي، حدثنا جارية بن هرم، عن عبدالله بن بسر، عن أبي كبشة، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رفعه: من كذب عليَّ... الحديث، وأشار إلى أن عمر بن يحيى سرقه من يحيى بن بسطام، وانظر كلام ابن عدي في الكامل (2/175) .
وقال الهيثمي في المجمع (5/149) فيه عمر بن يحيى لم أعرفه.
والحديث قد أخرجه الطبراني في الأوسط (3/330) رقم 3311.(1/479)
دليل من قال بالتحريم.
الدليل الأول:
(119) ما رواه الدارقطني، قال: نا عبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي، نا أبو يحيى بن أبي ميسرة، نا يحيى بن محمد الجاري، نا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه،
عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله b قال: من شرب من إناء ذهب أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (1) .
[إسناده ضعيف، وزيادة أو إناء فيه شيء من ذلك زيادة منكرة] (2) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/40) .
(2) وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (1/45) من طريق الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي وعبد الله بن محمد بن إسحاق الفاكهي بمكة قالا: ثنا أبو يحيى بن أبي مسرة به.
والحديث في إسناده يحيى بن محمد الجاري وزكريا بن إبراهيم بن مطيع ووالده.
أما يحيى بن محمد الجاري فذكره ابن حبان في الثقات، وقال يغرب. الثقات (9/259،260) .
وقال البخاري: يتكلمون فيه. الكامل لابن عدي (7/226) ، المغني في الضعفاء (2/743) ، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/202) .
وقال ابن عدي: وللجاري غير ما ذكرت وليس بحديثه باس. الكامل (7/226) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (4/428) .
وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ.
وأما زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، فجاء في ترجمته:
قال ابن القطان: حديث ابن عمر لا يصح، وزكريا هو وأبوه لا يعرف لهما حال. تنقيح التحقيق (1/321) .
وقال ابن عبد الهادي: زكريا بن مطيع غير معروف. التنقيح (1/320) .
وقال الذهبي: هذا حديث منكر، أخرجه الدارقطني، وزكريا ليس بالمشهور. الميزان (9625) .
قال الحافظ عن الحديث: معلول بجهالة حال إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وولده، وقال البيهقي: الصواب ما رواه عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً أنه كان لا يشرب في قدح فيه ضبة فضة. فتح الباري (10/101) .
وضعف ابن تيمية هذا الحديث كما في مجموع الفتاوى (21/85) .(1/480)
الدليل الثاني:
(120) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثالث:
(121) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب بن عطاء، أنا سعيد، عن ابن سيرين،
عن عمرة، أنها قالت: كنا مع عائشة رضي الله عنها فما زلنا بها حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض.
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (5/104) .
(2) رجاله كلهم ثقات، وأخرجه البيهقي (1/29) من طريق الحسين بن علي بن عفان، ثنا عبد الله بن نمير به. وصحح النووي إسناده في المجموع (1/313) كما صححه الحافظ في التلخيص (1/54) .(1/481)
قال عبد الوهاب: قال سعيد هو ابن أبي عروبة: حملناه على الحلقة ونحوها (1) .
[في إسناده يحيى بن أبي طالب مختلف فيه، وقد توبع] (2) .
_________
(1) سنن البيهقي (1/29) .
(2) في إسناده يحيى بن أبي طالب، مختلف فيه، جاء في ترجمته:
قال الدارقطني: لا بأس به عندي، لم يطعن فيه أحد بحجة. تاريخ بغداد (14/220) .
وقال الحافظ: وثقه الدارقطني، وهو من أخبر الناس به. لسان الميزان (6/262) .
وقال أبو حاتم: محله الصدق. الجرح والتعديل (9/134) .
وقال موسى بن هارون: أشهد أنه يكذب. تاريخ بغداد (14/220) ، قال ابن حجر: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث. قلت: هو جرح، ومن كذب في كلامه فقد اتهم.
وقال أبو عبيد الآجري: خط أبو داود على حديث يحيى بن أبي طالب. تاريخ بغداد (14/220) .
وقال أبو أحمد محمد بن إسحاق الحافظ: ليس بالمتين. المرجع السابق.
وقال مسلمة بن قاسم: ليس به باس، تكلم الناس به. انظر اللسان (9229) .
وعبد الوهاب بن عطاء صدوق، وهو من أصحاب سعيد القدماء، وقد روى عنه قبل الاختلاط على الصحيح.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف (5/105) ، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن محمد، عن أم عمرو بنت عمر قالت: كانت عائشة تنهانا أن نتحلى الذهب، أو نضبب الآنية، أو نحلقها بالفضة، فما برحنا حتى رخصت لنا وأذنت لنا أن نتحلى الذهب، وما أذنت لنا، ولا رخصت لنا أن نحلق الآنية أو نضببها بالفضة.
ولم أقف على أم عمرو بنت عمر، إلا أن تكون أبو عمرو مولى عائشة، كما ذكره ابن عبد البر في التمهيد (16/109،110) قال: روى ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي عمرو مولى عائشة، قال: أبت عائشة أن ترخص لنا في تفضيض الآنية.
فإن كان أبو عمرو فهو ثقة، ويكون إسناد ابن أبي شيبة صحيحاً، وإن كانت غيره، فينظر في أم عمرو هذه، وبقية رجال الإسنادثقات، والله أعلم.(1/482)
جواب المانعين من التضبيب عن أدلة القول الأول.
أما الجواب عن حديث أنس رضي الله عنه في البخاري، أن قدح النبي b انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلةً من فضة، فالفاعل هو أنس رضي الله عنه، وفعله هذا معارض برأي غيره من الصحابة كابن عمر وغيره ممن قدمنا كما في الرواية الأخرى عند البخاري،
(122) قال البخاري، حدثنا الحسن بن مدرك، قال: حدثني يحيى بن حماد، أخبرنا أبو عوانة،
عن عاصم الأحول، قال: رأيت قدح النبي b عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار، قال: قال أنس: لقد سقيت رسول الله b في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله b، فتركه (1) .
ورواه البيهقي من طريق أبي حمزة السكري، عن عاصم بن سليمان، عن ابن سيرين، عن أنس، وفيه: ثم إن قدح النبي b انصدع فجعلت مكان الشعب سلسلة من فضة (2) . ورجاله ثقات.
قال الباجي: يحتمل أن يكون أنس سلسله بفضة بعد زمان رسول الله b، وبعد وفاة أبي طلحة الذي منعه من ذلك.
وجزم بذلك ابن الصلاح، قال رحمه الله: فاتخذ يوهم أن النبي b هو
_________
(1) صحيح البخاري.
(2) سنن البيهقي (1/29،30) .(1/483)
المتخذ: وليس كذلك بل أنس هو المتخذ. ففي رواية قال أنس. فجعلت مكان الشعب سلسلة (1) .
تعقب ذلك ابن حجر في تلخيص الحبير، فقال: فيه نظر؛ لأن في الخبر عند البخاري عن عاصم قال: وقال ابن سيرين إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة، فقال أبوطلحة: لا تغيرن شيئاً صنعه رسول الله b: فهذا يدل على أنه لم يغير فيه شيئاً. اهـ (2) .
قلت: يحتمل أن يكون الشعب في الحلقة، فأراد أنس أن يغيرها بأن يجعلها من ذهب أو فضة، فنهاه أبو طلحة، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، وأبقى على حلقة الحديد، ويحتمل أن يكون الشعب في الإناء في غير مكان الحلقة، ويكون الخلاف مع أبي طلحة في الحلقة، ولم يغيرها أنس، أما التضبيب فلم يكن بينهم خلاف، وفرق بين تضبيب الحلقة أو الإناء، وبين أن تكون الحلقة كلها من الذهب أو الفضة الخالص، وعلى كلا الاحتمالين يترجح أن يكون الفاعل هو أنس رضي الله عنه، وإذا كانت الرواية الأولى في البخاري والتي بلفظ " أن قدح النبي b انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، تحتمل أن يكون الفاعل النبي b، وتحتمل أن يكون الفاعل أنساً، فإن الرواية الأخرى صريحة بأن الفاعل هو أنس، وينبغي أن يحمل المتشابه على المحكم. والله أعلم.
ومع أنه لا دلالة في حديث أنس كما بينت، إلا أن الراجح أن التضبيب بالفضة جائز، لأن الرسول b إنما نهى عن الشرب في آنية الفضة، ولا يقال للإناء إذا ضبب بالفضة: إنه إناء من فضة، فلا يدخل في النهي، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (1/313) ..
(2) تلخيص الحبير (1/52) .(1/484)
الفصل الرابع
في آنية الكفار
اختلف الفقهاء في حكم آنية الكفار ومثلها ثيابهم، هل يحكم بطهارتها بناء على أن أصلها الطهارة، أو يحكم بنجاستها بناء على أن الظاهر منهم عدم توقيهم النجاسة، اختلف الفقهاء في ذلك:
فقيل: يكره استعمال أواني المشركين وثيابهم قبل غسلها، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يجب غسل ما استعملوه من الآنية والثياب، ولا يجب غسل ما صنعوه ولم يستعملوه، وهو مذهب مالك (2) .
_________
(1) البحر الرائق (8/232) ، والمبسوط (1/97) ، وتارة يعبر الحنفية بقولهم: ولا بأس بالأكل في أنية المجوس، وغسلها أفضل، انظر المبسوط (24/27) ، وعمدة القارئ (21/96) .
(2) الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 187) ، التاج والإكليل (1/121) ، مختصر خليل (ص: 11) ، مواهب الجليل (1/121) .
وجاء في البيان والتحصيل (1/50،51) : وسئل- يعني: مالكاً- عن الرجل يشتري من النصراني الخفين أيلبسهما؟ قال: لا حتى يغسله. قيل له: فما ينسجون، فإنه يبلون الخمر، ويحركونه بأيديهم، ويسقون به الثياب قبل أن تنسج، وهم أهل نجاسة؟ قال: لا بأس بذلك، ولم يزل الناس يلبسونها قديماً. وانظر الخرشي (1/97) ، والشرح الكبير (1/61) .
وفي حاشية الدسوقي: يجب الغسل عند مالك في الحالات التالية:
الأولى: إذا جزم بعدم الطهارة.
الثانية: إذا ظن عدم الطهارة.
الثالثة: ذا شك في الطهارة.
ففي هذه الحالات الثلاث يجب غسلها عند مالك، ولا يجب غسلها في حالاتين:
الأولى: إذا تحققت طهارة الثياب والأواني.
الثانية: إذا ظن طهارتها. انظر حاشية الدسوقي (1/61) بتصرف يسير.(1/485)
وقيل: إن تيقن طهارتها لم يكره له استعمالها، وإن لم يتيقن طهارتها كره له استعمالها مطلقاً حتى يغسلها، سواء كان الكافر كتابياً أو غيره، وسواء كان يتدين باستعمال النجاسة أم لا، وهو مذهب الشافعية (1) .
وقيل: يباح استعمالها حتى يعلم نجاستها، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يجب غسل أواني من لا تحل ذبيحته من المشركين كالمجوس والوثنيين، ونحوهم، بخلاف أهل الكتاب وهو قول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل من قال بالكراهة.
(123) استدل بما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، قال: أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس،
عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي الذي
_________
(1) المهذب (1/12) ، المجموع (1/319،320) ، تحفة المحتاج (1/127) ، مغني المحتاج (1/31) ، قال النووي في المجموع (1/320) : " وإذا تطهر من إناء كافر، ولم يعلم طهارته ولا نجاسته، فإن كان من قوم لا يتدينون باستعمال النجاسة صحت طهارته بلا خلاف، وإن كان من قوم يتقربون باستعمال النجاسة فوجهان: الصحيح منهما باتفاق الأصحاب في الطريقتين أنه تصح طهارته، وهو نصه في الأم.
ثم قال: والوجه الثاني: لا تصح طهارته، وهو قول أبي إسحاق، وصححه المتولي. اهـ
(2) المغني (1/62) ، الإنصاف (1/85) ، المحرر (1/7) ، المبدع (1/69) ، الكافي (1/18) ، كشاف القناع (1/53) .
(3) المغني (1/62) ، الإنصاف (1/85) ، المحرر (1/7) .(1/486)
ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل (1) .
وجه الاستدلال من الحديث:
قالوا: نهى عن استعمالها مع وجود غيرها، وهذا مطلق سواء تيقنا طهارتها، أم لا، والأصل في النهي أنه للمنع، لكن لما قال سبحانه وتعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (2) ، ومعلوم أن طعامهم مصنوع بأيديهم ومياههم، وفي أوانيهم، فدل ذلك على طهارة ذلك كله، وأكل النبي b طعام أهل الكتاب، في أحاديث صحيحة، فدل على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم.
دليل المالكية على التفريق بين ما استعملوه وبين ما نسجوه.
استدلو بحديث أبي ثعلبة المتقدم على وجوب غسل ما استعملوه، فإن النبي b أمر بغسلها، والأصل في الأمر الوجوب.
ولأن الغالب على آنية الكفار وثيابهم النجاسة، لأنهم يطبخون فيها لحوم الخنزير ويأكلون فيها الميتة، وإذا تعارض الأصل (وهي كونها طاهرة) مع الغالب وهو استعمال النجاسة فيها، قدم الغالب على الأصل، فكل ما
_________
(1) صحيح البخاري (5478) ، ومسلم (1930) .
(2) المائدة: 5.(1/487)
غلب على ظننا نجاسته حكمنا بنجاسته.
ووجه التفريق عند المالكية بين ما استعلموه وبين ما نسجوه، أن ما نسجوا يتقون فيه بعض التوقي، لئلا يفسد عليهم، بخلاف ما لبسوه.
وأجاب ابن العربي على ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصيبون من آنية المشركين وأسقيتهم، فلا يعيب ذلك عليهم، قال: إن صح فمحمول على أنهم كانوا يستعملون ذلك بشرطه، وهو الغسل، أو يكون محمولاً على استعمال الأواني التي لا يطبخ فيها. اهـ (1) .
دليل من قال: يباح استعمال آنية المشركين.
الدليل الأول:
(124) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان- يعني: ابن المغيرة- حدثنا حميد بن هلال،
عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر قال: فالتزمته. فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله b متبسماً. ورواه البخاري وهذا اللفظ لمسلم (2) .
فالجراب آنية من آنياتهم، ولو كان غسل الإناء واجباً لنجاسته لتنجس الظرف وما فيه.
الدليل الثاني:
(125) ما أخرجه البخاري بسنده من حديث أبي هريرة، في قصة
_________
(1) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي (7/298) .
(2) صحيح مسلم (1772) ، البخاري (5508) .(1/488)
وضع اليهود السم للرسول b، وفيه: قال رسول الله b: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم؟ قالوا: نعم. قال: هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي b كان يأكل من طعامهم في آنيتهم.
الدليل الثالث:
(126) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن عطاء،
عن جابر، قال: كنا نغزو مع رسول الله b فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها، فلا يعاب علينا (2) .
[إسناده حسن والحديث صحيح لغيره] (3) .
_________
(1) البخاري (3169) .
(2) مسند أحمد (3/379) .
(3) رجاله ثقات إلا برد بن سنان فإنه صدوق، جاء في ترجمته:
قال إسحاق بن منصور الكوسج عن يحيى بن معين أنه قال: برد أبو العلاء ثقة. الجرح والتعديل (2/422) .
وقال ابن معين أيضاً في رواية الدوري: ليس بحديثه بأس. تهذيب التهذيب (1/375) .
وقال أبو حاتم الرازي: كان صدوقاً، وكان قدرياً. الجرح والتعديل (2/422) .
وقال أبو زرعة: لا بأس به بصرى. المرجع السابق.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبى عن برد بن سنان فقال: صالح الحديث. المرجع السابق.
وقال دحيم وابن خراش والنسائي: ثقة. تهذيب التهذيب (1/375) .
وقال النسائي مرة: ليس به بأس. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان ردئ الحفظ. مشاهير علماء الأمصار (1228) .
وقال الدارمي عن علي بن المديني: برد بن سنان ضعيف. تهذيب التهذيب (1/375) .
وفي التقريب: صدوق رمي بالقدر.
وقد توبع برد بن سنان تابعه سليمان بن موسى كما سيأتي بيانه في التخريج إن شاء الله تعالى.
تخريج الحديث:
الحديث رواه أبو داود (3838) ومن طريقه أخرجه البيهقي (10/11) قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا عبد الأعلى به.
وأخرجه البيهقي (1/32) من طريق علي بن المديني، نا عبد الأعلى به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/127) رقم 24386، وأبو داود (3838) والطبراني في مسند الشاميين (374) من طريق إسماعيل بن عياش به.
وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل بلده مقبولة، وبرد بن سنان شامي من بلد إسماعيل.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين أيضاً (375) من طريق العلاء بن برد بن سنان، عن أبيه به.
وقد تابع سليمان بن موسى برد بن سنان، فأخرجه أحمد (3/327) حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نصيب مع النبي b في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية، فنقسمها، وكلها ميتة.
ورواه أحمد (3/343) عن حسن بن محمد، وأخرجه (3/389) عن سريج.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الأثار (1/473) من طريق إسماعيل بن مالك أبي غسان، ثلاثتهم عن محمد بن راشد به.
وسليمان بن موسى فيه كلام لا ينزله عن رتبة الصدق، وقد حررت الكلام فيه في كتاب الحيض والنفاس، فالحديث صحيح لغيره إن شاء الله تعالى.(1/489)
الدليل الثالث:
(127) ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وقد(1/490)
جاء فيه أن النبي وأصحابه شربوا من مزادة امرأة مشركة، وأن أحد الصحابة كان مجنباً فاغتسل من ذلك الماء. والحديث في صحيح مسلم دون قصة اغتسال الجنب (1) .
الدليل الرابع:
(128) ما رواه الشافعي في الأم، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،
أن عمر بن الخطاب توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية (2) .
[رجاله ثقات إلا أن ابن عيينة لم يسمعه من زيد بن أسلم] (3) .
_________
(1) البخاري (3571) ، صحيح مسلم (682) .
(2) الأم (1/8) ، ومن طريق الشافعي رواه ابن المنذر في الأوسط (1/314) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/32) .
ورواه عبد الرزاق في المصنف (254) عن ابن عيينة به مطولاً.
(3) فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى (1/32) والصغرى (1/166) من طريق سعدان بن نصر، ثنا سفيان، قال: حدثونا عن زيد بن أسلم ولم أسمعه، عن أبيه، عن عمر، فذكره في حديث.
وقد ذكره البخاري معلقاً في كتاب الوضوء بصيغة الجزم، قال: توضأ عمر بالحميم ومن بيت نصرانية. قال الحافظ في الفتح (1/299) : وهذا الأثر وصله الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه به. ولفظ الشافعي توضأ من ماء في جرة نصرانية، ولم يسمعه ابن عيينة من زيد بن أسلم، فقد رواه البيهقي من طريق سعدان بن نصر عنه، قال: حدثونا عن زيد بن أسلم فذكره مطولاً، ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عنه بإثبات الواسطه، فقال: عن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه به، وأولاد زيد هم: عبد الله وأسامة وعبد الرحمن، وأوثقهم وأكبرهم عبد الله، وأظنه هو الذي سمع ابن عيينة منه ذلك، ولهذا جزم به البخاري، والله أعلم.(1/491)
الدليل الخامس:
قالوا: الأصل في أواني المشركين الطهارة والحل حتى يقوم دليل على المنع أو على النجاسة، ولم يقم دليل على ذلك، ولا يحكم بنجاستها بمجرد الشك، والشك لا يقضي على اليقين.
لكن يشكل على هذا القول حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه حيث نهاهم عنها مع وجود غيرها، فإن لم يوجد إلا هي أذن لهم باستعمالها بعد غسلها.
وأجابوا عن ذلك بوجهين:
الأول: أن الغسل هو من باب الاحتياط والاستحباب.
الثاني: أن حديث أبي ثعلبة الخشني في قوم كانوا يأكلون في آنيتهم الميتة والخنزير، ويشربون فيها الخمر، ولذا أمر بغسلها إن لم يوجد غيرها، أما من يعلم أنهم لا يأكلون فيها الميتة ولا يشربون فيها الخمر فآنيتهم كآنية المسلمين،
(129) ويدل على هذا ما رواه أبو داود الطيالسي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة،
أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إنى بأرضٍ أهلها أهل الكتاب، يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدورهم؟ فقال: دعوها ما وجدتم منها بداً، فإذا لم تجدوا منها بداً فارحضوها بالماء، أو قال: اغسلوها ثم اطبخوا فيها وكلوا. قال: وأحسبنه قال: واشربوا (1) .
[أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني، واختلف في ذكر زيادة لحم
_________
(1) سنن أبي داود الطيالسي (1014) .(1/492)
الخنزير وشرب الخمر، والحديث في الصحيحين وليس فيه هذه الزيادة] (1) .
_________
(1) زيادة: وهم يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر اختلف في ذكرها على النحو التالي:
فجاء ذكرها من طريق معمر كما في مصنف عبد الرزاق (8503) وأحمد (4/193) .
ومن طريق حماد بن زيد كما في مسند أبي دواد الطيالسي (1014) ، والمستدرك للحاكم (502) ، كلاهما عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة. وهذا سند منقطع، أبو قلابة لم يسمع من أيوب.
ورواه شعبة، عن أيوب، واختلف على شعبة:
فرواه محمد بن جعفر كما في مسند أحمد (4/193) .
والنضر بن شميل كما في مسند ابن الجعد (1193) .
وأبو داود الطيالسي كما في مسند ابن الجعد أيضاً (1194) .
وعمر بن مرزوق كما في مستدرك الحاكم (1/143) أربعتهم رووه عن شعبة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة بدون ذكر الخنزير والخمر.
وخالفهم سلم بن قتيبة كما في سنن الترمذي (1560، 1796) فرواه عن شعبة، عن أيوب به. بذكر لحم الخنزير وشرب الخمر.
وسلم بن قتيبة صدوق، إلا أن له أوهاماً، قال أبو حاتم الرازي: ليس به بأس كثير الوهم، يكتب حديثه.
وقال يحيى بن سعيد القطان: ليس أبو قتيبة من الجمال التي تحمل المحامل.
ولو خالف سلم بن قتيبة محمد بن جعفر لرد عليه، لأن محمد بن جعفر من أثبت الناس في شعبة، فكيف وقد خالف مع محمد بن جعفر جماعة من الرواة رووه عن شعبة بدون ذكر لحم الخنزير وشرب الخمر، كما أن رواية محمد بن جعفر وأصحابه عن شعبة موافقة لرواية الصحيحين من طريق أبي إدريس عن أبي ثعلبة.
ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب به. أخرجه الطبراني في الكبير (22/230) رقم 604، قال: حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بشر ثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب به. وفيه زيادة أن أبا ثعلبة طلب من الرسول أن يكتب له أرضاً بالشام، لم يظهر عليها رسول الله b حينئذٍ، وليس في هذه الرواية ذكر لحم الخنزير والخمر، فهي موافقة لرواية محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أيوب.
ورواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن أبي ثعلبة، كما في مسند أحمد (4/195) ، وسنن الترمذي (1797) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2631) ، والمستدرك (505) ، والطبراني في المعجم الكبير (22/217) رقم 580، فوصله حماد بن سلمة، فزاد في الإسناد أبا أسماء الرحبي، وليس فيها الزيادة المذكورة، إلا أن رواية حماد بن زيد، ومعمر، وشعبة، عن أيوب بدون ذكر أبي أسماء الرحبي، فالرواية المنقطعة أرجح منها، خاصة وأن رواية حماد بن سلمة عن أيوب فيها كلام، وحماد بن زيد وحده مقدم على حماد بن سلمة، فكيف وقد اتفق حماد بن زيد وشعبة، ومعمر على عدم ذكر أبي أسماء الرحبي.
ورواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، واختلف على خالد:
فرواه الطبراني (22/218) رقم 581 من طريق محمد بن عيسى الطباع وسريج بن يونس.
والحاكم (506) ومن طريقه البيهقي (1/33) من طريق يحيى بن يحيى ثلاثتهم عن هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ثعلبة. وقد صرح هشيم بالتحديث في طريق الطبراني، فزاد في الإسناد أبا أسماء كرواية حماد بن سلمة.
وخالف سفيان هشيماً فرواه الطبراني (22/230) رقم 630 من طريق محمد بن يوسف الفريابي والحاكم (504) من طريق أبي أحمد كلاهما عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة الخشني، بدون ذكر أبي أسماء. ومع الاختلاف على خالد في إسناده فإنه لم يذكر في كلا الطريقين زيادة لحم الخنزير وشرب الخمر، فلفظه موافق لرواية الصحيحين.
ورواه النضر بن معبد أبو قحذم، عن أبي قلابة، فخالف فيه جميع من سبق، فقد أخرجه الطبراني في الكبير (22/227) رقم 599 قال: حدثنا أحمد بن زهير التستري، ثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير، ثنا يحيى بن السكن، ثنا أبو قحذم، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، أن أبا ثعلبة الخشني أتى رسول الله b فقال: يا رسول الله إنا بأرض أهلها أهل كتاب، يأكلون لحوم الخنازير ويشربون الخمر، فكيف تأمرنا في آنيتهم وقدورهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فخذوها وإلا فارحضوها بالماء، ثم كلوا فيها.
فجعل أبو قحذم الواسطة بين أبي قلابة وبين أبي ثعلبة جعل أبا الأشعث الصنعاني، وأبو قحذم ضعيف، قال فيه النسائي: ليس بثقة. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، انظر لسان الميزان (6/165) .
هذا فيما يتعلق بطريق أبي قلابة، عن أبي ثعلبة. فإن رجحنا الرواية المتصلة، والتي فيها رواية أبي أسماء الرحبي، فليس فيها زيادة أكل الخنزير، وشرب الخمر.
وإن رجحنا الرواية المنقطعة، وهي رواية شعبة ومعمر، وحماد بن زيد، والتي لم تذكر أبا أسماء الرحبي، فهي مع كونها منقطعة، فقد اختلف في الحديث على أيوب في ذكرها، وأولاها بالتقديم رواية شعبة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة، أولاً: لإمامة شعبة.
وثانياً: لموفقتها رواية الصحيحين في عدم ذكر لحم الخنزير وشرب الخمر.
وقد روي الحديث من غير طريق أبي قلابة، فمن ذلك طريق مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة رواه أبو داود (3839) ، ومن طريقه البيهقي (1/33) حدثنا نصر بن عاصم،
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (783) من طريق محمود بن خالد، كلاهما عن محمد بن شعيب، عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة. بذكر الخنزير والخمر.
وأخرجه الطبراني في الكبير (22/219) رقم 584، قال: حدثنا إبراهيم بن دحيم الدمشقي، حدثني أبي، ثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء بن زبر به. بذكر الخنزير والخمر.
ونصر بن عاصم فيه ضعف، لكنه قد توبع، كما أن الوليد بن مسلم قد عنعن.
وأما طريق عمير بن هانئ، فأخرجه الطبراني في الكبير (22/223) رقم 592 من طريق إبراهيم بن دحيم.
وأخرجه البيهقي (1/33) ، و (10/10) من طريق أبي بكر محمد بن إسماعيل، كلاهما عن دحيم الدمشقي، عن محمد بن شعيب، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر، عن عمير بن هانئ، عن أبي ثعلبة الخشني.
وإبراهيم بن دحيم لم أقف له على ترجمة، وقد توبع كما في سند البيهقي، وباقي رجاله ثقات، وقد جاء في هذا الطريق النص على لحم الخنزير وشرب الخمر.
كما روي من طريق عروة بن رويم، أخرجه ابن ماجه (2831) والطبراني في الكبير (22/226) رقم 597 من طريق أبي فروة يزيد بن سنان، حدثني عروة بن رويم اللخمي، عن أبي ثعلبة الخشني به. وليس فيه زيادة الخنزير والخمر. وهذا سند ضعيف، فيه أبو فروة يزيد بن سنان، كما أن عروة لم يلق أبا ثعلبة، انظر الجرح والتعديل (3/396) .
ورواه أبو رجاء العطاردي، عن أبي ثعلبة، رواه الطبراني في الكبير (22/228) رقم 600 من طريق محمد بن الفرح، مولى بني هاشم، ثنا علي بن غراب، ثنا علي بن منصور، حدثني أبو رجاء العطاردي، عن أبي ثعلبة الخشني. وفيه النص على لحم الخنزير، وشرب الخمر، ولم أقف على ترجمة محمد بن الفرح، وعلي بن منصور.
هذا ما وقفت عليه من طرق حديث أبي ثعلبة الخشني في زيادة أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، وقد تبين لي أنها وردت في أكثر من طريق إلا أن هذه الطرق لا تسلم من اختلاف في إيرادها من عدمه، والله أعلم.(1/493)
دليل من فرق بين أهل الكتاب وغيرهم.
قالوا: إن غير أهل الكتاب ذبيحتهم ميتة، فهم يطبخونها في آنيتهم، فتتنجس، بخلاف أهل الكتاب فإن ذبيحتهم طاهرة إذا كانت مما يحل أكله.
وهذا القول ضعيف أيضاً، فإن النبي b وأصحابه شربوا من آنية مزادة امرأة مشركة كما سبق تخريجه من حديث عمران بن حصين، وكانوا يساكنون المشركين الوثنيين في مكة كثيراً، وربما كان المسلم يعيش بين أبوين كافرين، وكان يدعو بعضهم بعضاً إلى الطعام، ولم ينقل أنهم كانوا يدعون ذلك، ويتحاشونه، ولو وجد لنقل، والله أعلم.
الراجح من الخلاف:
الذي ظهر لي من الأدلة أن حديث أبي ثعلبة الخشني فيه النهي عن استعمالها، والأمر بغسلها إذا لم يوجد غيرها، وكان من الممكن حمل النهي(1/496)
على ظاهره، وأنه للتحريم لولا الأحاديث الكثيرة من فعله b وفعل أصحابه من أكلهم في آنية أهل الكتاب، وتطهرهم منها، مما يجعل النهي ليس على ظاهره، وإنما يحمل على الكراهة، وأن الأمر بغسلها لم يكن للوجوب، وهذا يجري على القاعدة الفقهية النافعة: بأن النبي b إذا أمر بشي، ثم تركه، ولم يأت دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن الأمر لم يكن للوجوب، وإنما هو للندب، وإذا نهى عن شيء ثم فعله، ولم يكن فيه دليل يدل على الخصوصية، دل ذلك على أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة، والله أعلم.(1/497)
[صفحة فارغة](1/498)
الفصل الخامس
في الأواني المتخذة من الميتة(1/499)
[صفحة فارغة](1/500)
المبحث الأول
في الأواني المتخذة من جلود الميتة
الأواني من الجلود كانت معروفةً عند الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا خاصة في بعض المجتمعات الإسلامية، والكلام في جواز الانتفاع من أواني الجلود مبني على خلاف في الدباغ، هل يطهر أم لا؟ وإذا كان لا يطهر، فهل يباح استعماله مع نجاسته، أم لا؟ فكان علينا -حتى نتصور حكم المسألة- أن نبين هل الدباغ يطهر جلود الميتة أم لا؟، وهل يباح الانتفاع به قبل أو بعد الدبغ أم لا؟ فأقول:
اختلف العلماء في حكم هذه المسألة:
فقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود، إلا جلد الإنسان والخنزير، وهو مذهب الحنفية (1) .
وقيل: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، وقبل الدبغ لا ينتفع بالجلد مطلقاً، وهو مذهب مالك (2) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (3) .
وأما بعد الدبغ فيباح استعماله في يابس عندهما، وفي الماء عند
_________
(1) الهداية شرح البداية (1/21) ، البحر الرائق (1/105) ، بدائع الصنائع (1/85) ، تبيين الحقائق (1/24) ، حاشية ابن عابدين (1/203) ، المبسوط (1/202) ، حاشية الطحطاوي (1/111) ، بد.
(2) حاشية الدسوقي (1/54،55) ، التاج والإكليل (1/101) ، مواهب الجيل (1/101) ، البيان والتحصيل (1/100) ، التمهيد (4/156،157) و (1/162) ، الكافي (ص: 189) .
(3) المبدع (1/70) ، شرح العمدة (1/122) ، كشاف القناع (1/54) ، الإنصاف (1/86) ، الإقناع (1/13) ، الفروع (1/72) ، الكافي (1/19) ، المغني (1/53) .(1/501)
المالكية (1) .
وقيل: الدباغ يطهر جميع جلود الميتة بما في ذلك جلود ما لا يؤكل لحمه، إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعية (2) .
وقيل: الدباغ لا يطهر إلا ما تحله الذكاة، وهو رواية عن مالك (3) ، واختاره أبو ثور (4) ، ورجحه بعض الحنابلة كالمجد وابن رزين وابن عبد القوي (5) ، وابن تيمية (6) .
وقيل: الدباغ يطهر كل حيوان طاهر في الحياة، وهو رواية عن أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو رواية ثانية عن ابن تيمية (7) .
وقيل: الدباغ يطهر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، وهو
_________
(1) والفرق بين الماء وبين غيره من السوائل كالعسل واللبن والسمن، قالوا: إن الماء له قوة الدفع عن نفسه لطهوريته، فلا يضره إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة، بخلاف غيره.
(2) الأم (1/9) ، حلية العلماء (1/93) ، الإقناع للشربيني (1/28) ، الوسيط (1/129) ، روضة الطالبين (1/41) ، المجموع (1/275) .
(3) جاء في البيان والتحصيل (1/101) : وسئل مالك: أترى ما دبغ من جلود الدواب طاهراً؟ فقال: ألا يقال هذا في جلود الأنعام، فأما جلود ما لا يؤكل لحمه فكيف يكون طاهراً إذا دبغ، وهو مما لا ذكاة فيه، ولا يؤكل لحمه. اهـ ونقل ابن عبد البر هذا الكلام في الاستذكار (15/326) . وقال في التمهيد (4/182) : وقالت طائفة من أهل العلم لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل الدباغ ولا بعده، مذبوحة كانت أو ميتة، وممن قال هذا القول: الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق، وأبو ثور، ويزيد بن هارون. اهـ
(4) الاستذكار (15/326) .
(5) الإنصاف (1/87) .
(6) مجموع الفتاوى (21/95) .
(7) الإنصاف (1/86) .(1/502)
مذهب الظاهرية (1) .
فتلخص لنا من هذا الخلاف ما يلي:
قيل: الدباغ لا يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر مطلقاً.
وقيل: يطهر جميع الجلود إلا الكلب والخنزير والإنسان.
وقيل: يطهر ما تحله الذكاة.
وقيل: يطهر ما كان طاهراً في الحياة، وإن كان محرماً أكله.
وأما الانتفاع بالجلود، فقيل:
يباح الانتفاع بالجلود مطلقا، سواء دبغت أم لا (2) .
وقيل: يباح الانتفاع بها بشرط الدبغ.
وقيل: يباح الانتفاع بها في يابس وقيل: في يابس وماء.
وهاك دليل كل قول من هذه الأقوال:
دليل من قال الدباغ لا يطهر وينتفع به بعد الدبغ في يابس أو ماء.
قولهم مركب من ثلاث مسائل، لكل مسألة لهم فيها دليل، منها نجاسة
_________
(1) المحلى (1/118) ، وذكره مذهباً لداود الظاهري ابن رشد في البيان والتحصيل (3/357) ، وعون المعبود (11/179) .
(2) هذا القول يراه الإمام الزهري رحمه الله، كما في مصنف عبد الرزاق (1/62) ، ومسند أحمد (1/365) ، وأبو داود (4122) ، مجموع الفتاوى (21/101) ، وحكاه ابن تيمية عن بعض السلف.(1/503)
جلد الميتة ولو دبغ، وأن الدباغ لا يطهر، وأنه يباح الانتفاع به في يابس أو ماء.
فأما دليلهم على نجاسة جلد الميتة ولو دبغ، فقالوا: إن الجلد جزء من الميتة، وقد قال سبحانه وتعالى: {حرمت عليكم الميتة} (1) ، فلم يطهر بالدباغ كاللحم.
ولأن الجلد حرم بالموت فكان نجساً، كما كان قبل الدبغ.
والجواب أن يقال:
أولاً: أنتم لا تقولون بنجاسة شعر الميتة إذا جز، وهو جزء من الميتة، وسبب النجاسة في الميتة هو احتقان الدم فيها واحتباسه، ولذلك مالا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، والجلد إذا دبغ فالدباغ ينشف رطوبته ويجففه، فالميتة ثلاثة أقسام:
منها ما هو طاهر مطلقاً كالشعر إذا جز، سواء جز في حال الحياة، أو بعد الموت.
ومنها ما لا يطهر بحال كاللحم، والدم المسفوح.
ومنه ما يحكم بنجاسته ما دام متصلاً برطوبة النجاسة ودمها، فإذا دبغ قطعت عنه هذه النجاسات، فأصبح طاهراً. ونجاسة الجلد قبل الدباغ كنجاسة الثوب، فإذا دبغ قطعت عنه النجاسة (2) .
(130) وأما دليلهم على تحريم الانتفاع به قبل الدبغ، فهو ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي
_________
(1) المائدة: 3.
(2) مجموع الفتاوى بتصرف (21/90-102) .(1/504)
ليلى،
عن عبد الله بن عكيم، قال: أتانا كتاب النبي b، وأنا غلام، أن لا تنتفعوا بإهاب ميتة، ولا عصب (1) .
[رجاله ثقات إلا أن عبد الله بن عكيم لم يثبت له سماع من النبي b فهو مرسل، وقد اختلف في إسناده اختلافاً كثيراً] (2) .
_________
(1) المصنف (5/206) .
(2) الحديث في إسناده اختلاف كثير، فرواه الحكم بن عتيبة، واختلف عليه:
فقيل: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم مرسلا.
وقيل: عن الحكم عن عبد الله بن عكيم.
وقيل: عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم.
وتارة يحدث به عبد الله بن عكيم مباشرة، وتارة يرويه عبد الله بن عكيم، عن مشايخ من جهينة.
ورواه القاسم بن مخيمرة، واختلف عليه أيضاً:
فقيل: عن القاسم، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
وقيل: عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وكما اختلفوا في إسناده، اختلفوا في متنه:
فقيل: قبل وفاته بشهر.
وقيل: قبل وفاته بشهر أو شهرين على الشك.
وقيل: قبل وفاته بأربعين يوماً.
وقيل: قبل وفاته بثلاثة أيام. وهاك تفصيل ما أجمل من هذه الاختلافات:
أما حديث الباب: الحكم بن عتيبة، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم
فقد أخرجه أحمد (4/310،311) والمصنف (5/206) رقم 25278 وابن ماجه (3613) عن غندر.
وأخرجه أحمد (4/311) من طريق وكيع.
وأخرجه الطحاوي (1/468) من طريق أبي عامر، ووهب بن جرير.
وأخرجه ابن حبان (1278) من طريق النضر بن شميل، كلهم، عن شعبة به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (5/206) رقم 25276، والنسائي في الكبرى (4576) ، والصغرى (4250) وابن ماجه (3613) من طريق منصور.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/206) رقم 25277، وعنه ابن ماجه (3613) وأخرجه الترمذي (1729) ، والمحاملي في أماليه (78) من طريق الشيباني.
وأخرجه ابن حبان (1277) والطبراني في الأوسط (7/330) رقم 7642 من طريق أبان بن تغلب.
وأخرجه الترمذي (1729) من طريق الأعمش.
وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/439) من طريق أبي إسحاق السبيعي.
وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (488) والطبراني في الأوسط (1/251) رقم 822 من طريق أشعث بن سوار الأجلح.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (2/320) رقم 210 من طريق خالد بن كثير الهمداني، و (3/40) رقم 2407 من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عثمان.
وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/214) رقم 1050 من طريق حمزة الزيات، ثمانيتهم عن الحكم به.
هذا فيما يتعلق بطريق الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم.
وأما طريق الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم، فقد أخرجه أبو داود (4128) ومن طريقه البيهقي (1/15) قال: حدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم، قال: حدثنا الثقفي، عن خالد، عن الحكم بن عتيبة، أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم، رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي، فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم، أن رسول الله b كتب إلى جهينة قبل موته بشهر، أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.
واختلف على الثقفي، فرواه أبو داود كما سبق، عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن رجال مجهولين، عن عبد الله بن عكيم.
ورواه أحمد (4/310) عن الثقفي، عن خالد، عن الحكم، عن عبد الله بن عكيم، دون واسطة بين الحكم وعبد الله بن عكيم.
فصار الحكم تارة يحدث به عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم كما هي رواية الأكثر.
وتارة يحدث به الحكم عن رجال مجهولين عن عبد الله بن عكيم.
وتارة يحدث به عن عبد الله بن عكيم مباشرة دون واسطة.
وأرجحها عندي رواية شعبة والأعمش ومنصور والشيباني وأبي إسحاق ومن وافقهم عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، عن النبي b مرسلاً.
كما أن هناك اختلافاً آخر، فروي الحديث عن عبد الله بن عكيم كما سبق، وروي عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة، فقد روى الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/468) من طريق محمد بن المبارك، قال: ثنا صدقة بن خالد، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، قال: حدثني أشياخ من جهينة، قالوا: أتانا كتاب رسول الله b أو قرئ علينا كتاب رسول الله b أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء.
واختلف على صدقة بن خالد، فرواه محمد بن المبارك، عن صدقة، عن يزيد بن أبي مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
ورواه هشام بن عمار كما في صحيح ابن حبان (1279) عن صدقة، عن يزيد، عن القاسم، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، فيكون بين القاسم وبين ابن عكيم رجلان، بينما رواية الطحاوي يرويه القاسم عن عبد الله بن عكيم مباشرة، وهذا اختلاف ثالث في السند يضاف إلى ما سبق. ورواية هشام بن عمار أرجح لموافقتها رواية الحفاظ مثل شعبة والأعمش والشيباني وغيرهم، وفيها إرسال كما بينته سابقاً.
وأخرجه أحمد (4/310) ، والنسائي في الكبرى (4577) ، وفي الصغرى (4251) من طريق شريك، عن هلال الوزان، عن عبد الله بن عكيم، وفيه كتب رسول الله b إلى جهينة... الحديث. وهذا الإسناد قد تفرد به شريك، عن هلال، وشريك سيء الحفظ.
وقد ضعف الحديث بعض العلماء.
قال الترمذي (4/194) : سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل موته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي b، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم، فقال: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
وجاء في التمهيد (4/164) : قال داود بن علي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فضعفه، وقال: ليس بشيء، إنما يقول: حدثني الأشياخ.
وبعد أن ساق ابن عبد البر الاختلاف في إسناده، قال: وهذا اضطراب كما ترى يوجب التوقف عن العمل بمثل هذا الخبر. المرجع السابق.
وقال النووي: حديث ابن عكيم أعل بأمور ثلاثة:
أحدها: الاضطراب في إسناده.
الثاني: الاضطراب في متنه، فروي قبل موته بثلاثة أيام، وروي بشهرين، وروي بأربعين يوماً.
الثالث: الاختلاف في صحبته، قال البيهقي وغيره: لا صحبة له، فهو مرسل. انظر نصب الراية (1/121) .
وصحح الحديث بعض العلماء، قال ابن حبان رحمه الله (4/96) : هذه اللفظة: " حدثنا مشيخة لنا من جهينة " أوهمت عالماً من الناس أن الخبر ليس بمتصل، وهذا مما نقول في كتابنا: إن الصحابي قد يشهد النبي b، ويسمع منه شيئاً، ثم يسمع ذلك الشيء عن من هو أعظم خطراً منه عن النبي b، فمرة يخبر عما شاهد، وأخرى يروي عمن سمع، ألا ترى أن ابن عمر شهد سؤال جبريل رسول الله b عن الإيمان، وسمعه من عمر بن الخطاب؟ فمرة أخبر بما شاهد، ومرة روى عن أبيه ما سمع، فكذلك عبدالله بن عكيم، شهد كتاب المصطفى b حيث قرئ عليهم في جهينة، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك، فأدى مرة ما شهد، وأخرى ما سمع، من غير أن يكون في الخبر انقطاع. اهـ
قلت: لا يقال مثل ذلك إلا بقرينة، كما لو حدث راو الحديث عن شيخين، فإنه يحكم باضطراب روايته إلا إن جاءت قرينة تدل على أنه سمع منهما، كما لو جمعهما جميعاً في إسناد واحد، والله أعلم.
وقال ابن حجر: أعله بعضم بالإنقطاع، وهو مردود، وبعضهم بكونه كتاباً، وليس بعلة قادحة، وبعضهم بأن ابن أبي ليلى راويه عن ابن عكيم لم يسمعه منه لما وقع عند أبي داود عنه أنه انطلق، وناس معه إلى عبدالله بن عكيم، قال: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني، فهذا يقتضي أن في السند من لم يسم، ولكن صح تصريح عبدالرحمن بن أبي ليلى بسماعه من ابن عكيم، فلا أثر لهذه العلة أيضاً. اهـ
قلت: وهم الحافظ هنا رحمه الله، حيث تصور أن ابن ليلى هو الذي سمعه من رجال مجهولين، والصحيح أن هذا وقع مع الحكم بن عتيبة، وليس في سند أبي داود الذي أشار إليه الحافظ ذكر لعبدالرحمن بن أبي ليلى حيث ساق أبو داود (4128) إسناده إلى الحكم بن عتيبة قال: أنه انطلق هو وناس معه إلى عبدالله بن عكيم رجل من جهينة، قال الحكم: فدخلوا وقعدت على الباب، فخرجوا إلي فأخبروني أن عبدالله بن عكيم أخبرهم.
وسبب وهم الحافظ، والله أعلم أنه تابع ابن دقيق العيد، فقد قال ابن دقيق الكلام نفسه كما في نصب الراية، فتبعه الحافظ دون أن ينظر في إسناد أبي داود عليهم رحمة الله جميعاً.
وقد يجيب غير الحافظ بأن الحكم صرح بسماعه من عبدالرحمن فلا أثر لهذه العلة، والجواب أن الحكم قد اختلف عليه في إسناده اختلافاً كثيراً كما بينت سابقاً، فتارة يحدث به عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عبدالله بن عكيم، وتارة يحدث به عن رجال مجهولين، عن عبدالله بن عكيم، وتارية يحدث به عن عبدالله بن عكيم مباشرة.، فهذا اختلاف بين، كما أنه ليس الاختلاف الوحيد في السند، فارجع إلى طرق الحديث السابقة يتبين لك ما ذكرت، والله أعلم.(1/505)
وأجيب:
أولاً: ضعف حديث عبد الله بن عكيم.
ثانيا: لو صح الحديث، فلا حجة فيه؛ لأن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ.
قال أبو داود: قال النضر بن شميل، وإنما يسمى إهاباً ما لم يدبغ (1) .
وقال البيهقي: وهو محمول عندنا على ما قبل الدبغ... الخ (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (4218) .
(2) سنن البيهقي (1/15) .(1/509)
وقال ابن حبان: ومعنى خبر عبد الله بن عكيم: " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " يريد به قبل الدباغ، والدليل على صحته قوله b: أيما إهاب دبغ فقد طهر (1) .
وقال ابن حجر: وأقوى ما تمسك به من لم يأخذ بظاهره معارضة الأحاديث الصحيحة له، وأنها عن سماع، وهذا عن كتابة، وأنها أصح مخارج. وأقوى من ذلك: الجمع بين الحديثين بحمل الإهاب على الجلد قبل الدباغ، وأنه بعد الدباغ لا يسمى إهاباً، وإنما يسمى قربة وغير ذلك، وقد نقل ذلك عن أئمة اللغة كالنضر بن شميل، وهذه طريقة ابن شاهين، وابن عبدالبر، والبيهقي، وأبعد من جمع بينهما بحمل النهي على جلد الكلب والخنزير لكونهما لا يدبغان، وكذا من حمل النهي على باطن الجلد، والإذن على ظاهره " اهـ.
وقول الحنابلة: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ لما قبله، فهذا أيضاً قول فيه ضعف:
أولاً: مبني على الحكم بتأخره، وهذا غير مقطوع به، وكونه جاء في حديث عبد الله بن عكيم قبل وفاته بشهر أو بشهرين ليس جزماً بالتأخير؛ لأنه قد يكون قوله " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " قبل موته بيوم أو يومين (2) .
ثانياً: لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع، وهذا الجمع غير متعذر،
_________
(1) صحيح ابن حبان (4/96) .
(2) قال ابن عبد البر في التمهيد (4/165) : وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله b بشهر، كما جاء في الخبر، فممكن أن تكون قصة ميمونة (وسماع ابن عباس منه قوله: إيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موت رسول الله b بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم.(1/510)
كما سبق في حمل الإهاب على الجلد قبل الدبغ.
ثالثاً: أن القول بالنسخ إبطال لإحد الدليلين، وعمل بدليل واحد، قد يكون الصواب خلافه، بينما الجمع يقتضي العمل بالدليلين معاً دون مناقضة بينهما.
وذهب ابن تيمية إلى أنه ناسخ لإباحة الانتفاع قبل الدبغ، وليس ناسخاً للانتفاع مطلقاً، قال ابن تيمية رحمه الله:
" ثبت في الصحيحين عن النبي b أنه قال: إنما حرم من الميتة أكلها، ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ، وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم: كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فإن الرخصة متقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ كما ذهب إليه طائفة من السلف، فرفع النهي عما أرخص فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط، ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد أن الدباغ مطهر لجلود الميتة (1) .
وأما دليلهم على جواز الانتفاع بعد الدبغ في يابس وماء.
الدليل الأول:
(131) ما رواه مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أمه،
عن عائشة زوج النبي b أن رسول الله b أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (2) .
_________
(1) الفتاوى الكبرى (1/42) .
(2) الموطأ (2/498) .(1/511)
[إسناده ضعيف] (1) .
ولو صح الحديث لكان فيه دليل على إطلاق الانتفاع، وليس مقصوراً على اليابس والماء.
الدليل الثاني:
(132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر جميعا، عن ابن عيينة، قال يحيى: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله b، فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به. فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها. قال أبو بكر وابن أبي عمر في حديثهما عن ميمونة رضي الله عنها (2) .
_________
(1) في إسناه أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، لم يرو عنها إلا ابنها محمد، ولم يوثقها إلا ابن حبان، فهي مجهولة، وقال عنها الحافظ في التقريب: مقبولة، أي: إن توبعت، وإلا ففيها لين، وجاء في العلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/192) : قلت لأبي ما تقول في هذا الحديث؟ قال فيه أمه، من أمه؟ كأنه أنكره من أجل أمه. ونقله الزيلعي في نصب الراية (1/117) .
والحديث مداره على مالك، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في مسنده (1/10) ، وفي الأم (1/9) وعبد الرزاق (191) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/162) رقم 24777، وأحمد (6/73،104،148،153) ، وأبو داود (4124) ، والنسائي في السنن الكبرى (4578) ، والصغرى (4252) ، وابن ماجه (3612) ، والدارمي (1987) ، وابن حبان (1286) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/17) . وذكره ابن عبد البر في التمهيد (4/176) .
(2) صحيح مسلم (363) .(1/512)
وجه الاستدلال:
قوله: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به. فجعل الانتفاع مرتباً على الدباغ، فدل على أن الانتفاع قبل الدبغ، لا يجوز.
وأجيب:
بأن لفظ فدبغتموه غير محفوظ، وسوف يأتي بيان ذلك في أدلة من قال بإباحة الانتفاع مطلقاً بالجلد، سواء دبغ أم لا.
الدليل الثالث:
(133) ما رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا أبو عوانة، عن سماك، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: ثَمَّ يا رسول الله ماتت فلانة- يعني الشاة- فقال: فلولا أخذتم مسكها، فقالت: ينفذ مسك شاة قد ماتت، فقال لها رسول الله b: إنما قال الله عز وجل {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} (1) فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه، فتنتفعوا به، فأرسلت إليها، فسلخت مسكها، فدبغته، فأخذت منه قربة حتى تخرقت عندها (2) .
[إسناده ضعيف رواية سماك عن عكرمة مضطربة] (3) .
_________
(1) الأنعام: 145.
(2) مسند أحمد (1/327) .
(3) سبق لنا كلام أهل العلم في رواية سماك عن عكرمة في باب المياه، وقد خالف سماك غيره في هذا الحديث في سنده ومتنه.
أما الإسناد فالحديث في صحيح البخاري (6686) والنسائي (4240) من طريق الشعبي،
وفي مسند أحمد (6/429) والمصنف لابن أبي شيبة (5/162) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن عكرمة، عن ابن عباس، عن سودة، فجعل الشعبي وإسماعيل الحديث من مسند سودة، وجعل سماك الحديث من مسند ابن عباس.
وأما المتن، فلفظهما، قالت سودة: ماتت لنا شاة، فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً. اهـ
وهذا اللفظ ليس فيه أن الرسول b أمر بدبغه كشرط للانتفاع به، وإنما أمر فعلته سودة من قبل نفسها، بخلاف لفظ سماك، عن عكرمة، والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أبو يعلى (2334،2364) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/471) ، وفي المشكل (4/261) ، وابن حبان (1281) ، والطبراني (11765) ، والبيهقي (1/18) من طريق أبي عوانة به.
وأخرجه الطحاوي (1/471) ، وابن حبان (1280) والطبراني (11766) من طريق أبي الأحوص، عن سماك به.
وقد ذكره الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (5532) ، وسكت عليه. وعلى التسليم بضعفه، فإن شاهد صالح في ذكر الدباغ.
وقد رواه أبو بشر جعفر بن إياس، عن عكرمة، عن النبي b مرسلاً، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/162) ، قال: حدثنا هشيم، قال: أنبأنا أبو بشر، عن عكرمة، أن رسول الله b مر بشاة لسودة بنت زمعة، فقال: ألا تنتفعوا بإهابها، فإن دباغها طهورها.(1/513)
دليل من قال الدباغ يطهر جميع الجلود.
الدليل الأول:
(134) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، أن عبد الرحمن بن وعلة أخبره،(1/514)
عن عبد الله بن عباس قال: سمعت رسول الله b يقول: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
[صححه مسلم، وضعفه الإمام أحمد] (1) .
_________
(1) مسلم (366) ، وهذا الإسناد مداره على زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، عن ابن عباس رضي الله عنهما جميعاً،
رواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر.
ورواه سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم بلفظ: أيما إهاب دبغ فقد طهر.
ورواه مالك، وعبد العزيز بن محمد، وسفيان الثوري باللفظين معاً، وإليك تخريج رواياتهم.
أما رواية سليمان بن بلال، فأخرجه مسلم في صحيحه كما في حديث الباب، والبيهقي (1/20) .
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم بلفظ: أيما إهاب دبغ، فقد أخرجها الشافعي في مسنده (1/10) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/162) رقم 24771، أحمد (1/219) ، والحميدي في مسنده (486) ، والترمذي (1728) ، وابن ماجه (3609) ، والنسائي في الكبرى (4567) والصغرى (4241) ، وأبو يعلى في مسنده (2385) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/469) ، والمنتقى (61،874) ، وابن حبان (1287،1288) ، والبيهقي (1/16) .
وأما رواية مالك، عن زيد بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، فأخرجها مالك في الموطأ (2/498) ، والشافعي في مسنده (1/10) ، والدراقطني (1/46) .
وأما رواية مالك باللفظ الثاني: أيما إهاب دبغ، فأخرجها ابن حبان في صحيحه (1287) .
ورواية سفيان الثوري، عن زيد بن أسلم، بلفظ: أيما إهاب دبغ، أخرجها عبد الرزاق في المصنف (190) ، وأحمد (1/270،343) ، والدرامي (1985) ، وأبو عوانة (1/212) ، والطبراني في الأوسط (7289) ، وفي الصغير (1/399) ، وأبو نعيم في الحلية (10/218) ، والخطيب في تاريخه (10/338) .
وأما رواية سفيان الثوري بلفظ: إذا دبغ الإهاب، فهي في سنن أبي داود (4123) .
ورواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن زيد بن أسلم، بلفظ: إذا دبغ الإهاب فقد طهر، أخرجها الدراقطني في سننه 1/46) ، ورواه الترمذي (1728) من طريق عبد العزيز أيضاً بلفظ: أيما إهاب دبغ، مقروناً برواية ابن عيينة.
ورواه غير زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن وعلة، فقد رواه مسلم (366) من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله، قال: رأيت على بن وعلة السبئي فرواً، فمسسته، فقال: مالك تمسه؟ قد سألت عبد الله بن عباس قلت: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس، نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودك، فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله b عن ذلك، فقال: دباغه طهوره.
ومن طريق أبي الخير رواه النسائي (4242) ، وأبو عوانة في مسنده (1/212) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/470) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/17) .
والحديث مداره على عبد الرحمن بن وعلة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الدباغ لم يصح فيه شيء، وكان الإمام أحمد ومالك يريان أن الدباغ لا يطهر، وذكر ابن تيمية حجتهم في مجمع الفتاوى (21/91) وانتقد حديث سفيان بن عينية، عن الزهري بذكر الدباغ، وسيأتي تفصيل ذلك، ثم قال: وتكلم في ابن وعلة. اهـ
وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الرحمن بن وعلة قوله: ذكره أحمد، فضعفه في حديث الدباغ. (6/263) .
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/17) : " ومما قد يسمى صحيحاً ما يصححه بعض علماء الحديث، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه، فيقولون: هو ضعيف ليس بصحيح، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه، ونازعه في صحتها غيره من أهل العلم، إما مثله أو دونه أو فوقه، فهذا لا يجزم بصدقه إلا بدليل، مثل حديث ابن وعلة، عن ابن عباس، أن رسول الله b قال: أيما إهاب دبغ فقد طهر، فإن هذا مما انفرد به مسلم، عن البخاري، وقد ضعفه الإمام أحمد وغيره، وقد رواه مسلم. اهـ
وابن وعلة قد وثقه يحيى بن معين والنسائي، وقال أبو حاتم الرازي: شيخ، وقال الحافظ في التقريب: صدوق.(1/515)
فجعل الدباغ شرطاً لطهارة عينه، فإذا دبغ كان طاهراً، وإذا كان طاهراً كان الانتفاع به مباحاً، وقوله: إذا دبغ الإهاب أو إيما إهاب دبغ دليل على العموم، فلا يستثنى منه شيء حتى إهاب الكلب والخنزير.
قال ابن عبد البر: المقصود بهذا الحديث مالم يكن طاهراً من الأهب، كجلود الميتات، وما لا تعمل فيه الذكاة من السباع عند من حرمها؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير، ومستحيل أن يقال في الجلد الطاهر: إنه إذا دبغ فقد طهر، وهذا يكاد علمه يكون ضرورة، وفي قوله b: أيما إهاب دبغ فقد طهر: نص ودليل: فالنص طهارة الإهاب بالدباغ، والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهراً، فهو نجس، والنجس رجس محرم، فبهذا علمنا أن المقصود بذلك القول جلود الميتة.
وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا الحديث معارضاً لرواية من روى في هذه الشاة الميتة: إنما حرم أكلها، ومبيناً لمراد الله تعالى في قوله عز وجل: {حرمت عليكم الميتة} (1) .
وبطل بنص هذا الحديث قول من قال: إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة وإن لم يدبغ، يستمتع به، وينتفع (2) .
الدليل الثاني:
(135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أخيه،
_________
(1) البقرة:.
(2) التمهيد (4/153) .(1/517)
عن ابن عباس قال: أراد النبي b أن يتوضأ من سقاء، فقيل له: إنه ميتة، فقال: دباغه يذهب خبثه أو رجسه أو نجسه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثالث:
(136) ما رواه الدارقطني، قال: نا محمد بن مخلد وآخرون، قالوا:
_________
(1) المسند (1/314) .
(2) في إسناده أخو سالم بن أبي الجعد، وقد ذكر المزي في تهذيب الكمال ثلاثة إخوة لسالم، وهم عبد الله وعبيد، وزياد، وزاد ابن سعد في طبقاته (6/291) اثنين آخرين، وهم عمران بن أبي الجعد، ومسلم بن أبي الجعد، وكلهم لم أقف على سماعهم عن ابن عباس، قال ابن سعد: كان منهم اثنان يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان يريان رأي الخوارج، فكان أبو هم يقول: أي بني لقد خالف الله بينكم. اهـ
ولولا أن سالم بن أبي الجعد قال: عن أخيه، لما أشكل الأمر؛ لأن سالماً قد سمع من ابن عباس، فلا أدري أي الستة هو؟ لكن جاء في سنن البيهقي 1/15) قال رحمه الله: وسألت أحمد بن علي الأصبهاني، عن أخي سالم هذا، فقال: اسمه: عبد الله بن أبي الجعد. اهـ
ولم أجد في ترجمة عبد الله بن أبي الجعد أنه يروي عن ابن عباس، ولم أجد في تلاميذ ابن عباس عبد الله بن أبي الجعد، وقد ذكر المزي والحافظ في التهذيب وغيرهما أن عبد الله بن أبي الجعد يروي عن ثوبان مولى رسول الله b، فإن كان عبد الله كما ذكر البيهقي، فإن فيه ليناً، فلم يوثقه إلا ابن حبان كما في الثقات.
وقال ابن القطان: مجهول الحال.
وقال الذهبي: فيه جهالة.
وصحح حديثه ابن خزيمة والحاكم والبيهقي، وذكره الزيلعي في نصب الراية (1/117) ، ونقل تصحيح الحاكم والبيهقي، ولم يتعقبهما.
والحديث رواه ابن خزيمة (114) والحاكم (1/161) من طريق يحيى بن آدم.
ورواه البيهقي (1/17) من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن مسعر به.(1/518)
حدثنا إبراهيم بن الهيثم، نا علي بن عياش، نا محمد بن مطرف، نا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن عائشة، عن النبي b قال: طهور كل أديم دباغه.
قال الدارقطني: إسناد حسن كلهم ثقات (1) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/49) ، والحديث أخرجه البيهقي (1/21) وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/415) من طريق أبي بكر محمد بن عبد الله الشافعي، عن إبراهيم بن الهيثم به، وقال: رواته كلهم ثقات.
وقال الذهبي: هذا حديث نظيف الإسناد، غريب، لم أجده في الكتب الستة. سير أعلام النبلاء (10/340) .
وفي إسناده إبراهيم بن الهيثم، جاء في ترجمته:
قال ابن عدي: حدث ببغداد بحديث الغار، عن الهيثم بن جميل، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس، عن النبي b، فكذبه فيه الناس وواجهوه به، وبلغني أن أول من انكر عليه في المجلس أحمد بن هارون البرديجي. وقال حاجب بن مالك بن أركين: سمعت محمد بن عوف يقول: ما سمع من الهيثم بن جميل حديث الغار إلا أنا والحسن بن منصور البالسي. قال ابن عدي: إبراهيم بن الهيثم أحاديثه مستقيمة سوى هذا الحديث الواحد الذي أنكروه عليه، وقد فتشت عن حديثه الكثير فلم أر له منكراً يكون من جهته، إلا أن يكون من جهة من روى عنه. الكامل (1/274) .
ونقل الخطيب البغدادي كلام ابن عدي، وتعقبه بقوله: قد روى حديث الغار عن الهيثم جماعة، وإبراهيم بن الهيثم عندنا ثقة ثبت، لا يختلف شيوخنا فيه، وما حكاه ابن عدي من الإنكار عليه لم أر أحداً من علمائنا يعرفه، ولو ثبت لم يؤثر قدحاً فيه؛ لأن جماعة من المتقدمين أنكر عليهم بعض رواياتهم، ولم يمنع ذلك من الاحتجاج بهم، ثم ذكر بعض الأمثلة. تاريخ بغداد (6/206) .
قال الذهبي: قد تابعه على حديث الغار ثقتان. ميزان الاعتدال (1/73) .
وقال الدارقطني: ثقة. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (8/88) .(1/519)
فقوله: " كل أديم " نص على العموم.
الدليل الرابع:
(137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن غيلان، قال: حدثنا رشدين بن سعد، قال: حدثني عمرو بن الحارث، أن كثير بن فرقد حدثه، أن عبد الله بن مالك بن حذافة حدثه، عن أمه العالية بنت سميع أو سبيع- الشك من عبد الله-
أن ميمونة زوج النبي b قالت: مر رسول الله b برجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله b: لو أخذتم إهابها. قالوا: إنها ميتة. قال رسول الله b: يطهرها الماء والقرظ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (6/333) .
(2) في إسناده عبد الله بن مالك بن حذافة، لم يرو عنه سوى كثير بن فرقد، وذكره البخاري وابن أبي حاتم، وسكتا عليه، فلم يذكرا فيه جرحاً. التاريخ الكبير (5/203) ، الجرح والتعديل (5/171) .
ولم يوثقه إلا ابن حبان، حيث ذكره في الثقات (7/17) .
وقال الذهبي: فيه جهالة. الميزان (2/499) .
وفي التقريب: مقبول. وهذه عبارة تليين خاصة إذا تفرد.
وفي إسناده أيضاً: العالية بنت سبيع، لم يرو عنها سوى ابنها عبد الله بن مالك، وهو مجهول العين، ولم يوثقها أحد سوى العجلي، قال: مدنية تابعية ثقة. ثقات العجلي (2/455) .
وقد ذكره الحافظ في التلخيص، وسكت عليه (1/80) ح 43، ونقل عن ابن السكن والحاكم تصحيحه، ولم يتعقبه.
والحديث رواه أبو داود (4126) والنسائي في السنن الكبرى (4574) ، وفي الصغرى (4248) وابن حبان (1291) ، والدارقطني (1/45) ، وابن عبد البر في التمهيد (4/158،159) من طريق عمرو بن الحارث.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7086) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/470) والطبراني في المعجم الأوسط (8696) ، والكبير (24/14) رقم 24، والأوسط لابن المنذر (2/261) ، والدراقطني (1/45) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/19) ، والمزي في تهذيب الكمال (15/506) من طريق الليث بن سعد، كلاهما عن كثير بن فرقد به.
وجاء ذكر القرض في حديث عند الدراقطني (1/41) من طريق يحيى بن أيوب، عن يونس وعقيل جيمعاً، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي b مر بشاة ميتة، فقال: هلا انتفعتم بإهابها، قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها، أو ليس في الماء والقرض ما يطهرها.
وذكر القرض في هذا الطريق شاذ؛ فإن كل من رواه عن الزهري لم يذكروا فيه ذكر القرض، مثل مالك ومعمر وسفيان ويونس بن يزيد، وصالح بن كيسان وغيرهم، وقد سبق تخريج طرقهم، والخطأ فيه من يحيى بن أيوب، الراوي عن يونس، لأن الشيخين البخاري ومسلماً قد رويا الحديث من طريق يونس، وليس فيه ذكر القرض، ويحيى بن أيوب قال عنه أحمد: سيء الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم الرازي: محله الصدق، يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يحيى بن معين: صالح، وقال مرة: ثقة. وفي التقريب: صدوق ربما أخطأ، والله أعلم.(1/520)
الدليل الخامس:
(138) ما رواه الدارقطني، قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن عقيل بن خويلد نا، حفص بن عبد الله، نا إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن نافع،
عن ابن عمر، قال: قال رسول b: أيما اهاب دبغ فقد طهر.(1/521)
قال الدراقطني: إسناد حسن (1) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/48) ، قال الحافظ في التلخيص (1/46) : رواه الدراقطني بإسناد على شرط الصحة، وقال - يعني الدارقطني: إنه حسن. اهـ
وأخشى أن يكون الحديث غير محفوظ، فإن هذا الإسناد وإن كان إسناداً حسناً، إلا أن علته التفرد، قال الذهبي في ميزان الاعتدال (3/649) في ترجمة شيخ الدارقطني محمد بن عقيل، قال: شيخ نيسابور، معروف لا بأس به، إلا أنه تفرد بهذا، وذكر هذا الحديث: أبما إهاب دبغ.
وقد قال ابن حبان في الثقات عنه: ربما أخطأ حدث بالعراق بمقدار عشرة أحاديث مقلوبة.
وإعلال الذهبي الحديث بتفرد محمد بن عقيل فيه، وإن كان صدوقاً يجري على قاعدة المتقدمين رحمهم الله، فقد قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/582) : " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه أنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، إلا أن يكون ممن كثر حفظه، واشتهرت عدالته، وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون تفرد الثقات الكبار أيضاً، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه. اهـ
وأما تحسين الدارقطني له على إمامته، فإن نفس الدارقطني في سننه ليس من الدقة كما هو الشأن في علله رحمه الله، وكم من حديث حسنه في سننه وأعله في علله، والله أعلم.
ولا يفرح بمتابعة القاسم بن عبد الله فقد رواه الدارقطني في سننه (1/48) من طريقه، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي b مر على شاة، فقال: ما هذه؟ قالوا: ميتة، قال النبي b: ادبغوا إهابها؛ فإن دباغه طهور. قال الدراقطني: القاسم ضعيف.
قلت: بل هو أشد من ذلك، قال أحمد: كذاب كان يضع الحديث ترك الناس حديثه. الجرح والتعديل (7/111) .
وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: ضعيف لا يساوى شيئاً، متروك الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال يحيى بن معين: ضعيف ليس بشيء. المرجع السابق.(1/522)
الدليل السادس:
(139) ما رواه الدراقطني، من طريق فرج بن فضالة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة،
عن أم سلمة، أنها كانت لها شاة تحتلبها، ففقدها النبي b فقال: ما فعلت الشاة؟ قالوا: ماتت. قال: أفلا انتفعتم بإهابها؟ قلنا: إنها ميتة. فقال النبي b: إن دباغها يحل كما يحل خل الخمر.
قال الدراقطني: تفرد به فرج بن فضالة وهو ضعيف (1) .
الدليل السابع:
(140) وروى الدارقطني، من طريق الواقدي، نا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء الخرساني، عن سعيد بن المسيب،
عن زيد بن ثابت، عن النبي b: قال: دباغ جلود الميتة طهورها (2) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/49) .
وقد قال البخاري عن فرج بن فضالة: منكر الحديث. ضعفاء العقيلي (3/462) .
وقال عمرو بن علي: كان عبد الرحمن بن مهدى لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة. الجرح والتعديل (7/85) .
قلت: هذا الحديث من حديثه عن يحيى بن سعيد.
وقال ابن عدي: حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، لا يرويه عن يحيى غير فرج، وله عن يحيى وغيره مناكير، وقد ذكرت رواية شعبة عن فرج بن فضالة حديث عوف بن مالك، وله غير ما أمليت أحاديث صالحة، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل (6/28) .
(2) سنن الدراقطني (1/48) ، وفيه الوقدي، وهو متروك، كما أن في إسناده عطاء الخرساني، مختلف فيه.(1/523)
[ضعيف جداً] .
الدليل الثامن:
من النظر، قال الطحاوي: رأينا الأصل المجتمع عليه، أن العصير لا بأس بشربه، والانتفاع به، ما لم يحدث فيه صفات الخمر، فإذا حدثت فيه صفات الخمر حرم بذلك، ثم لا يزال حراماً كذلك حتى تحدث فيه صفات الخل، فإذا حدثت فيه صفات الخل حل، فكان يحل بحدوث الصفة ويحرم لحدوث صفة غيرها، وإن كان بدناً واحداً، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك جلد الميتة، يحرم بحدوث صفة الموت فيه، ويحل بحدوث صفة الأمتعة فيه من الثياب وغيرها فيه، وإذا دبغ فصار كالجلود والأمتعة فقد حدثت فيه صفة الحلال، فالنظر على ما ذكرنا أن يحل أيضا بحدوث تلك الصفة فيه.
وحجة أخرى أن قد رأينا أصحاب رسول الله b لما أسلموا لم يأمرهم رسول الله b بطرح نعالهم وخفافهم وأنطاعهم التي كانوا اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة، أو من ذبيحة، فذبيحتهم حينئذ إنما كانت ذبيحة أهل الأوثان، فهي في حرمتها على أهل الإسلام كحرمة الميتة، فلما لم يأمرهم رسول الله b بطرح ذلك، وترك الانتفاع به، ثبت أن ذلك كان قد خرج من حكم الميتة ونجاستها بالدباغ إلى حكم سائر الأمتعة وطهارتها، وكذلك كانوا مع رسول الله b إذا افتتحوا بلدان المشركين لا يأمرهم بأن يتحاموا خفافهم ونعالهم وأنطاعهم وسائر جلودهم، فلا يأخذوا من ذلك شيئاً، بل كان لا يمنعهم شيئاً من ذلك، فذلك دليل أيضا على طهارة الجلود بالدباغ (1) .
_________
(1) شرح معاني الآثار (1/472) .(1/524)
دليل من استثنى جلد الكلب والخنزير.
أخذ الحنفية والشافعية بعموم حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر (1) ،وعموم حديث عائشة أن رسول الله b أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت (2) ، قال الشافعي: وجلود ما لا يؤكل لحمه من السباع قياساً عليها إلا جلد الكلب والخنزير فإنه لا يطهر بالدباغ؛ لأن النجاسة فيهما وهما حيان قائمة، وإنما يطهر بالدباغ ما لم يكن نجسا حياً (3) .
وقالوا: إن العموم في قوله b: أيما إهاب دبغ، أراد بهذا العموم الجلود المعهود الانتفاع بها، وأما جلد الخنزير فلم يدخل في هذا المعنى؛ لأنه لم يدخل في السؤال؛ لأنه غير معهود الانتفاع بجلده (4) .
إلا أن الحنفية يرون طهارة جلد الكلب بالدباغ، لأنهم لم يستثنوا إلا الخنزير، فجلد الخنزير عندهم ليست نجاسته لما فيه من الدم والرطوبة، بل هو نجس العين، وبالتالي لا يمكن تطهيره بخلاف الكلب.
واستثنى الحنفية جلد الإنسان، وعللوا ذلك بكونه لا يجوز الانتفاع به لاحترامه.
دليل من قال بجواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ.
الدليل الأول:
قالوا: لم يصح في الدباغ شيء (5) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) الأم (1/22) .
(4) التمهيد (4/178) .
(5) مجموع الفتاوى (21/91) .(1/525)
وأجيب: بأن هذا لو سُلِّم في بعضها، لم يُسَلَّم في المجموع.
الدليل الثاني:
(141) ما رواه البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول b قال: إنما حرم أكلها، فجعل تحريم الميتة في الأكل خاصة، هذا من وجه، ومن وجه آخر، أنه حضهم على الانتفاع بجلدها، ولم يشترط الدباغ، فلو كان الدباغ شرطاً لذكره.
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد، وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه، لا لكونه شرطاً في الحل (2) .
(142) وأما ما رواه مسلم من طريق ابن عيينة، عن ابن شهاب به، بلفظ: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (1492) ، صحيح مسلم (363) .
(2) مجموع الفتاوى (21/94) ، ثم ذهب إلى أن هذا كان رخصة، ثم نسخ بحديث عبد الله بن عكيم، وكنت قد ذهبت إلى ضعف حديث عبد الله بن عكيم في ما سبق.
(3) مسلم (363) .(1/526)
فالجواب: أن يقال: انفرد ابن عيينة بذكر الدباغ في هذا الحديث، وهو غير محفوظ (1) .
_________
(1) الحديث مداره على الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، واختلف على الزهري فيه:
فرواه ابن عيينة، عن الزهري بذكر الدباغ.
ورواه جماعة من أصحاب الزهري، عنه، بدون ذكر الدباغ، وهاك بعض من وقفت عليهم:
الأول: الإمام مالك رحمه الله، وهو من أجل من روى عن الزهري، وروايته في الموطأ (2/498) ، ومن طريقه رواه أحمد (1/327) ، والنسائي في الكبرى (4561) ، وفي المجتبى (4235) .
الثاني: يونس بن يزيد، كما في صحيح البخاري (1421) ، ومسلم (363) ، وصحيح ابن حبان (1284) ، والبيهقي في السنن (1/20،23) .
الثالث: صالح بن كيسان، كما في مسند أحمد (1/262) ، وصحيح البخاري (2221) ، ومسلم (363) وأبي عوانة (1/210) ،.
الرابع: معمر، كما في مصنف عبد الرزاق (184،185) ، وأحمد (1/365) ، وأبي عوانة (1/210) ، وابن المنذر في الأوسط (832) ، وأبي داود (4121) ، والطبراني في المعجم الكبير (23/428) رقم 1038.
الخامس: الأوزاعي، كما في مسند أحمد (1/329) ، ومسند أبي يعلى (2419) ، وابن حبان (1282) والطبراني في الكبير (23/428) رقم 1039.
السادس: حفص بن الوليد، كما في سنن النسائي الكبرى (4562) ، والصغرى (4236) وحفص روى عنه جماعة، ولم يوثقه إلا ابن حبان، وفي التقريب صدوق.
السابع: عقيل، فقد قال أبو داود في إثر حديث (4122) لم يذكر الأوزاعي ويونس وعقيل في حديث الزهري ذكر الدباغ، وقد وقفت على ورواية عقيل وفيها ذكر الدباغ، فلعل عقيلاً روى الحديث عن الزهري بالوجهين، والله أعلم، فقد أخرجها الدارقطني (1/41) ومن طريقه البيهقي في السنن (1/20) وزاد: أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها؟، وفي رواية: أو ليس في الماء والدباغ ما يطهرها، والزيادة غير محفوظة كما سيأتي
الثامن: إسحاق بن راشد، كما في معجم الطبراني (23/428) رقم 1040.
فهؤلاء ثمانية رواة لم يذكروا لفظ الدباغ، وفيهم من يعد من أجل من روى عن الزهري، كمالك ومعمر ويونس، والأوزاعي، فهذا أولاً.
وثانياً: مما يؤيد أن الدباغ ليس محفوظاً في الحديث، أن الزهري الذي مدار الحديث عليه ينكر الدباغ، ويفتي بجواز الانتفاع به، ولو لم يدبغ، والحديث حديثه، ومداره عليه، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف (1/62) عن معمر، كان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: يستمتع به على كل حال. وأخرجه أحمد (1/365) ، وأبو داود (4122) من طريق عبد الرزاق به.
ثالثاً: طعن الإمام أحمد في زيادة ابن عيينة بذكر الدباغ، فقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (21/101) : ليس في صحيح البخاري ذكر الدباغ، ولم يذكره عامة أصحاب الزهري عنه، لكن ذكره ابن عيينة، ورواه مسلم في صحيحه، وقد طعن الإمام أحمد في ذلك، وأشار إلى غلط ابن عيينة فيه، وذكر أن الزهري وغيره كانوا يبيحون الانتفاع بجلود الميتة بلا دباغ لأجل هذا الحديث.
رابعاً: أنه قد اختلف فيه على سفيان بن عينية، فرواه قتيبة بن سعيد كما في سنن النسائي الكبرى (4560) ، والصغرى (4234) ، ويحيى بن حسان عند الدارمي (1988) كلاهما عن سفيان، عن الزهري به، وليس فيه ذكر الدباغ كرواية الجماعة.
وكان ابن عيينة ربما روجع في زيادة الدباغ، فيصرح بأنه حفظها، فقد أخرج الحميدي في مسنده (315) : قيل لسفيان فإن معمراً لا يقول فيه: فدبغوه، ويقول: كان الزهري ينكر الدباغ؟ فقال سفيان: لكني قد حفظته.
كما أن هناك اختلافاً آخر على ابن عيينة، لم يذكره أصحاب الزهري ممن رووا الحديث، فكان ابن عيينة تارة يجعله من مسند ابن عباس، وتارة يجعله من مسند ميمونة.
فرواه جماعة عن سفيان، من مسند ميمونة، وهم:
الأول: أبو بكر بن أبي شيبة كما في مسلم (363) وابن ماجه (3610) .
الثاني: ابن أبي عمر، كما في مسلم (363) ، وابن حبان (1285) .
الثالث: أبو خيثمة، كما في مسند أبي يعلى (7179) ، وابن حبان (1289) .
الرابع: أحمد بن حنبل، كما في المسند (6/329) .
الخامس والسادس: مسدد ووهب بن كيسان، كما في سنن أبي داود (4120) .
السابع: قتيبة بن سعيد، كما عند النسائي (4234) .
الثامن: سعيد بن نصر، كما في سنن البيهقي (1/15،16) .
التاسع: الحميدي، كما في مسنده (315) ، فكل هؤلاء رووه عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة.
وخالفهم جماعة رووه عن سفيان به، وجعلوه من مسند ابن عباس، كرواية الجماعة عن الزهري، وهم:
الأول: يحيى بن يحيى كما في مسلم (363) .
الثاني: عمرو الناقد، كما في مسلم (363) .
الثالث: عثمان بن أبي شيبة، كما في سنن أبي داود (4120) .
الرابع: ابن أبي خلف، كما في سنن أبي داود (4210) .
الخامس: الحسن بن محمد الزعفراني، عند البيهقي (1/15) .
والظاهر أن الخطأ من سفيان بن عيينة في الوجهين: أعني ذكر الدباغ، وجعله من مسند ميمونة قد اختلط عليه حديثه عن الزهري، بحديثه عن عمرو بن دينار، فقد أخرج مسلم في صحيحه (363) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله b مر بشاة مطروحة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال النبي b: ألا أخذوا إهابها، فدبغوه، فانتفعوا به.
واختلف على عمرو بن دينار، فرواه عنه سفيان ابن عيينة كما سبق عند مسلم، ورواه ابن جريج، عن عمرو بن دينار به إلا أنه جعله من مسند ميمونة، ولم يذكر الدباغ، رواه مسلم (364) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أخبرني عطاء منذ حين، قال: أخبرني ابن عباس، أن ميمونة أخبرته، أن داجنة كانت لبعض نساء رسول الله b فماتت، فقال رسول الله b: ألا أخذتم إهابها، فاستمتعتم به. والله أعلم.
ورواه مسلم (365) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي b مر بشاة لميمونة، فقال: ألا انتفعتم بإهابها. اهـ ولم يذكر الدباغ، وجعله من مسند ابن عباس.(1/527)
دليل من قال: الدباغ لا يطهر إلا ما تطهره الذكاة.
الدليل الأول:
(143) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة،
عن سلمة، أن النبي b أتى على بيت قدامه قربة معلقة، فسأل النبي b الشراب، فقالوا: إنها ميتة، فقال: دباغها ذكاتها (1) .
[إسناده ضعيف والحديث روي بلفظين: أحدهما هذا وبلفظ: دباغها طهورها، وعلى اللفظ الثاني ليس فيه دليل لهذا القول] (2) .
_________
(1) المسند (5/6) .
(2) في إسناده جون بن قتادة، جاء في ترجته:
قال أحمد بن حنبل: لا أعرفه. الجرح والتعديل (2/542) .
وقال أيضاً: لا يعرف. قيل له: يروى غير هذا الحديث، فقال: لا، يعني: حديث الدباغ، تهذيب الكمال (5/165) .
وقال الترمذي: لا أعرف لجون بن قتادة غير هذا الحديث، ولا أدري من هو؟ علل الترمذي الكبير (520) .
وقال علي بن المديني: جون معروف، وجون لم يرو عنه غير الحسن، إلا أنه معروف، وقال في موضع آخر: الذي روى عنهم الحسن من المجهولين، فذكرهم، وذكر فيهم جون بن قتادة.
وذكره ابن حبان في الثقات. (4/119) .
وذهب ابن حزم إلى أن جون بن قتادة صحابي، وقد تعقبه الحافظ في التهذيب (2/105) .
وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح. اهـ والصحيح أن إسناده ضعيف لما علمت من حال جون بن قتادة.
[تخريج الحديث]
الحديث يرويه جماعة عن قتادة، منهم هشام وشعبة وهمام وغيرهم.
أما طريق هشام الدستوائي، فأخرجه أبو داود الطيالسي (1243) حدثنا هشام به، بلفظ: دباغ الأديم ذكاته.
ورواه أحمد (3/476) ، (5/7) عن عبد الصمد، ثنا هشام به.
ورواه النسائي في السنن الكبرى (4569) ، والصغرى (4243) ، وسنن الدارقطني (1/45) ، والحاكم (7217) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه هشام به. بلفظ: ذكاتها دباغها. وهما بمعنى واحد.
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/163) عن أبي خالد، وليس بالأحمر، عن هشام به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/471) من طريق أبي عمر الحوضي حفص بن عمر، ثنا هشام به. بلفظ: ذكاتها دباغها.
وذكره البخاري في التاريخ الكبير (4/71) قال: قال حفص بن عمر، حدثنا هشام به.
وأخرجه أحمد (5/7) ثنا عمرو بن الهيثم وأبو داود وعبد الصمد المعنى، قالوا: أخبرنا هشام به، بلفظ: دباغها ذكاتها.
وأخرجه أحمد (3/476) عن عمرو بن الهيثم، ثنا هشام به، بالشك: دباغها طهورها أو ذكاتها. انفرد بالشك هنا عمرو بن الهيثم، وليس بمحفوظ.
وأخرجه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (166) من طريق داود بن أمية، ثنا معاذ بن هشام به، بلفظ: دباغها ذكاتها وطهورها. والجمع بين ذكاتها وطهورها غير محفوظ، حيث لم يتابع عليه داود بن أمية، وقد رواه جمع عن معاذ بن هشام، ولم يذكروا ما ذكره داود.
وأما طريق همام، عن قتادة:
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/163) وابن حبان كما في الموارد (124) من طريق عبيد الله بن موسى، حدثنا همام به. بلفظ: ذكاة الأديم دباغه.
وأخرجه أحمد (3/476) ثنا عبد الصمد ثنا همام به.
وأخرجه أحمد (5/6) ثنا عفان، ثنا همام به، ومن طريق عفان أخرجه الدارقطني (1/46) ، والبيهقي (1/21) .
وأخرجه أحمد (5/6) حدثنا بهز، ثنا همام به.
ورواه أبو داود (4125) ومن طريقه البيهقي (1/17) حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل، ثنا همام به، بلفظ: دباغها طهورها.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/46) رقم 6340 من طريق أبي الوليد الطيالسي، وحفص بن عمر الحوضي قالا: حدثنا همام به، بلفظ: ذكاة الأديم دباغه.
فيكون على هذا روي عن همام بلفظين:
الأول: ذكاة الأديم دباغه، وهذا موافق للفظ هشام الدستوائي، وقد رواه عن همام بهذا اللفظ كل من عبيد الله بن موسى، وعفان وبهز وعبد الصمد وأبي الوليد الطيالسي.
والثاني: دباغه طهوره. وقد رواه عن همام بهذا اللفظ حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل، على أن حفصاً روي عنه باللفظ الأول كما في معجم الطبراني (7/46) .
وممكن أن يكون الراجح من لفظي همام، ذكاة الأديم دباغه، لكثرة من رواه عنه بهذا اللفظ، ولموافقته لفظ رواية هشام عن قتادة، لكن جاء أيضاً لفظ: دباغه طهوره من طريق شعبة عن قتادة، وجاء من طريق عمران القطان ومنصور بن زاذان عن الحسن، فيكون الحديث روي باللفظين:
دباغها ذكاتها. ودباغها طهورها.
وهل بين اللفظين اختلاف؟ الجواب نعم، أما على لفظ ذكاة الأديم دباغه. فإن الدباغ ينزل منزلة الذكاة، فما تحله الذكاة يطهره الدباغ، وما لا تحله الذكاة كالحمار والسباع لا يطهره الدباغ.
وأما على لفظ: دباغه طهوره، فهو يوافق حديث: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فإن الدباغ يطهر كل إهاب، سواء كانت تحله الذكاة أم لا، والله أعلم.
الطريق الثالث: شعبة، عن قتادة.
أخرجه الدراقطني (1/46) وابن عدي في الكامل (2/178) من طريق بكر بن بكار، ثنا شعبة، عن قتادة به، بلفظ: دباغها طهورها.
وبكر بن بكار ضعيف، قال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
وقال ابن حبان: ثقة ربما يخطئ.
وقال أبو عاصم النبيل: ثقة. انظر الجرح والتعديل (2/382) ، وسير أعلام النبلاء (9/583) ، وميزان الاعتدال (1/343) ومع ضعفه فإنه قد توبع، تابعه أسود بن عامر، وهو ثقة، فقد أخرجه أحمد (5/6) ثنا أسود بن عامر، ثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن رجل قد سماه، عن سلمة به، بلفظ: " الأديم طهوره دباغه". ولفظ شعبة ليس فيه ذكر للذكاة، فهي توافق رواية من رواه عن همام بلفظ: دباغه طهوره.
والرجل المبهم في طريق شعبة هو جون بن قتادة كما في الروايات الأخرى.
وتابع عمران القطان قتادة، كما في المعجم الكبير (7/46) رقم 6341 بلفظ: دباغ الأديم طهوره.
وعمران القطان:
قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (478) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف. ضعفاء العقيلي (3/300) .
وقال أيضاً: ليس بالقوي. الجرح والتعديل (6/297) .
وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: عمران القطان له أحاديث غير ما ذكرت عن قتادة وعن غيره، وهو ممن يكتب حديثه. الكامل (5/87) .
وقال العجلي: بصري ثقة. معرفة الثقات (2/189) .
وفي التقريب: صدوق يهم.
واختلف على الحسن، فرواه قتادة وعمران القطان، عن الحسن، عن جون، عن سلمة بن المحبق.
ورواه منصور بن زاذان عن الحسن، عن جون، عن النبي b، فقد أخرجه الترمذي في العلل الكبير (519) حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا هشيم، أخبرنا منصور، وهو ابن زاذان، عن الحسن، قال: حدثنا جون بن قتادة التميمي، قال: خرجنا مع النبي b في بعض أسفاره، فقال: إن دباغ الميتة طهورها.
وأخرجه ابن حزم في المحلى (1/120) من طريق محمد بن حاتم، حدثنا هشيم به.
وقال المزي في تهذيب الكمال (5/163) : هكذا رواه أحمد بن منيع وشجاع بن مخلد ويحيى بن أيوب المقابري، عن هشيم من دون ذكر سلمة بن المحبق فيه، وذلك معدود في أوهام هشيم. قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة: ورواه الحسن بن عرفة وعمرو بن زرارة وغيرهما، عن هشيم، عن منصور ويونس بن عبيد وغيرهما، عن الحسن، عن سلمة بن المحبق من غير ذكر جون فيه، ورواه قتادة عن الحسن، عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق، وهو الصحيح. انتهى ما حكاه بن مندة. اهـ
وقال ابن حجر في الإصابة (1/556) : وقال أبو نعيم: قد رواه زكريا بن يحيى بن زحمويه، عن هشيم، فذكر سلمة بن المحبق في الإسناد، ثم ساقه من طريقه كذلك، وقال: جوده زحمويه، والراوي عنه أسلم بن سهيل الواسطي من كبار الحفاظ العلماء من أهل واسط، فتبين أن الواهم هشيم بالإجماع. ثم نقل تصويب المزي لكلام بن منده، وأن الوهم فيه من هشيم، وأن رواية زحمويه شاذة. قال ابن حجر: ويحتمل أن يكون هشيم حدث به على الوهم مراراً، وعلى الصواب مرة. اهـ
ورواية الحسن عن سلمة بن المحبق قد أخرجها أحمد في مسنده (5/6) حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سلمة بن المحبق، بلفظ: ذكاة الأديم دباغه. ولم يسمع الحسن من سلمة بن المحبق رضي الله عنه، انظر التاريخ الكبير (4/71) ، وتحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل (ص: 75) .(1/530)
الدليل الثاني:
(144) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا عمي، قال: حدثنا شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود،
عن عائشة، قالت: سئل رسول الله b عن جلود الميتة، فقال: دباغها ذكاتها (1) .
_________
(1) سنن النسائي (4245) .(1/534)
[إسناده ضعيف، واختلف في لفظه ووقفه ورفعه] (1) .
_________
(1) جاء الحديث من طريق الأعمش، واختلف عليه فيه:
فرواه النسائي (4245) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة مرفوعاً. بلفظ: دباغها ذكاتها.
ورواه حجاج بن محمد، واختلف عليه:
فأخرجه النسائي (4246) عن أيوب بن محمد الوزان.
والدارقطني (1/44) من طريق عبد الرحمن بن يونس السراج، كلاهما عن حجاج بن محمد، عن شريك به. بلفظ: ذكاة الميتة دباغها.
ورواه أحمد (6/154) عن حجاج بن محمد، عن شريك، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن عائشة، مرفوعاً، بلفظ: دباغها طهوره.
ورواه أحمد (6/154) والنسائي (4244) من طريق الحسين بن محمد، عن شريك، عن الأعمش، عن عمارة به.
ففي هذا الطريق مخالفتان:
الأولى في الإسناد: وهي ذكر عمارة بن عمير.
الثانية في المتن: ففي رواية عمارة بن عمير دباغها طهورها، وفي رواية إبراهيم، عن الأسود: دباغها ذكاتها.
وهذا الاختلاف من قبل شريك، فإنه سيء الحفظ، والراجح والله أعلم أن الحديث حديث إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، لأن شريكاً توبع في هذا الطريق، ولم يتابع في ذكر عمارة بن عمير، فقد أخرجه النسائي (4247) من طريق مالك بن إسماعيل.
وأخرجه الطحاوي (1/470) من طريق أبي غسان، كلاهما، عن إسرائيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة مرفوعاً. هذا بالنسبة للطريق المرفوع.
ورواه الطحاوي (1/470) وابن المنذر في الأوسط (2/267) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن الأسود به، موقوفاً عليها. بلفظ: لعل دباغها يكون طهورها، وهذا اللفظ ليس فيه دليل لهذا القول، لأنه لم يجعل الدباغ بمنزلة الذكاة.
ورواه الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عائشة، موقوفاً عليها، ذكره الدارقطني في العلل (5/ الورقة: 61) وإبراهيم لم يسمع من عائشة، بل سمعه من الأسود، وهو كثير الإرسال.
ورواه الطحاوي (4/470) من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، قال: حدثنا أصحابنا عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي b مرفوعاً، وهذا معضل.
وأخرجه الدارقطني (1/49) والبيهقي (1/21) من طريق عطاء بن يسار، عن عائشة، بلفظ: طهور كل أديم دباغه، وحسن الدارقطني إسناده. وقال البيهقي (1/21) رواته كلهم ثقات، وصححه ابن حزم كما في المحلى (1/122) .
وجاء من طريق القاسم، عن عائشة مرفوعاً، بلفظ: دباغ الأديم طهوره، أخرجه الطبراني في الصغير (1/189،190) من طريق الهيثم بن جميل، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم به.
قال الطبراني لم يروه عن عبد الرحمن إلا محمد، تفرد به الهيثم.
فتبين لي من هذا العرض الاختلاف في متنه، فجاء الحديث بلفظ: ذكاة الميتة دباغها.
وجاء بلفظ: دباغها طهورها، وقد بينا الفرق بين اللفظين في الحديث الذي قبل هذا. هذا من جهة الاختلاف في المتن.
واختلف في رفعه ووقفه، فأيهما أرجح الموقوف أم المرفوع؟ اختلف العلماء في ذلك:
فرجح البخاري رواية الوقف، جاء في العلل الكبير للترمذي (521) قال الترمذي: سألت محمداً عن حديث إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، عن النبي b دباغ الميتة طهورها. فقال: الصحيح عن عائشة موقوف. اهـ
ورجح الدارقطني في العلل الرفع، فقال (5/الورقة: 61) بعد أن ساق الاختلاف فيه على الأعمش، وأشبهها بالصواب قول إسرائيل ومن تابعه، عن الأعمش. اهـ(1/535)
وجه الاستدلال من الحديثين:
أن الرسول b عبر بالذكاة، فقال b: دباغها ذكاتها، ومعلوم أن الذكاة لا تطهر إلا ما يباح أكله، أما ما لا يباح أكله فلا تطهره الذكاة، ولو ذكي فهي ميتة، فجلد ما يحرم أكله ولو كان طاهراً في الحياة لا يطهر بالدباغ؛ لأن ما كان طاهراً في الحياة إنما كان طاهراً لمشقة التحرز منه، وهذه(1/536)
العلة تنتفي بالموت.
قال أبو ثور: لا أعلم خلافاً أنه لا يتوضأ في جلد الخنزير وإن دبغ، فلما كان الخنزير حراماً لا يحل أكله، وإن ذكي، وكانت السباع لا يحل أكلها وإن ذكيت، كان حراماً أن ينتفع بجلودها وإن دبغت قياساً على ما أجمعوا عليه من الخنزير إذا كانت العلة واحدة. اهـ (1) .
الدليل الثالث:
(145) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد وابن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح بن أسامة،
عن أبيه، أن رسول الله b نهى عن جلود السباع (2) .
[حديث صحيح إن شاء الله تعالى] (3) .
_________
(1) الاستذكار (15/326) .
(2) المسند (5/74) .
(3) الحديث يرويه قتادة عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً، رواه سعيد بن أبي عروبة، وهو من أثبت الناس في قتادة، وتابعه شعبة، عن قتادة، ولم يختلف فيه على قتادة، ويرويه يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي b مرسلاً، رواه عن يزيد شعبة ومعمر، وقتادة أحفظ من يزيد الرشك.
وقد قيل: عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه موصولاً، والمحفوظ إرساله من طريق يزيد الرشك، وهاك بيان ذلك:
أما طريق قتادة، فقد رواه سعيد بن أبي عروبة وشعبة وهشام الدستوائي، وهاك بيانها:
الطريق الأول: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
رواه أحمد (5/75) وأبو داود (4132) ، والنسائي في السنن الكبرى (4579) وفي الصغرى (4253) وابن الجارود في المنتقى (875) والدرامي (1984) والطبراني في المعجم الكبير (1/191) رقم 508 والمقدسي في الأحاديث المختارة (1395) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/314) رقم 36417، والترمذي (1770) والدارمي (1983) ، والطبراني في الكبير (1/191) رقم 508 من طريق ابن المبارك.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/314) رقم 36417، والطبراني في الكبير (1/191) رقم 508، والبيهقي في السنن الكبرى (1/18) من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه أحمد (5/74) ، وأبو داود (4132) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن علية.
وأخرجه أحمد (5/74) ثنا محمد بن جعفر.
وأخرجه الترمذي (1770) من طريق محمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد.
ورواه الحاكم في المستدرك وصححه (507) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً.
الطريق الثاني: هشام، عن قتادة.
رواه معاذ بن هشام، عن أبيه، واختلف على معاذ:
فرواه البزار في مسنده (2333) أخبرنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، عن النبي b. بمثل رواية سعيد بن أبي عروبة.
ورواه الترمذي (1771) حدثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي المليح، أنه كره جلود السباع. هكذا رواه محمد بن بشار مقطوعاً على أبي المليح.
الطريق الثالث: شعبة، عن قتادة.
أخرجه البزار (2332) حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، بمثل رواية سعيد بن أبي عروبة.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/192) رقم 509 من طريق ابن المبارك، عن شعبة به.
ورواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن النبي b مرسلاً.
وهذا الاختلاف من شعبة ليس اضطراباً، بل هو دليل على حفظه، فالحديث يرويه قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه مرفوعاً. رواه عنه سعيد بن أبي عروبة، وتابعه شعبة وهشام.
ويرويه يزيد الرشك، عن أبي المليح مرسلاً. وقتادة مقدم على يزيد الرشك. قال أبو حاتم في الجرح والتعديل (7/135) : قتادة أحب إلي من يزيد الرشك. اهـ
وقال أحمد: صالح الحديث، يروي عنه شعبة. الجرح والتعديل (9/297) .
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري عنه: صالح. المرجع السابق.
وقال في رواية بن أبي خيثمة: ليس به بأس. المرجع السابق.
ووثقه أبو حاتم الرازي وأبو زرعة. المرجع السابق، فمثله لا يقارب قتادة.
وقد رجح الترمذي رواية يزيد الرشك، قال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال: عن أبي المليح، عن أبيه، غير سعيد بن أبي عروبة. ثم أخرج الترمذي طريق يزيد الرشك المرسل، وقال: وهذا أصح. اهـ
فإذا علمنا أن هشام الدستوائي وشعبة قد تابعا سعيد بن أبي عروبة في روايته عن قتادة، عن أبي المليح، عن أبيه، تكون رواية قتادة الموصولة أرجح من رواية يزيد الرشك المرسلة، والله أعلم.
وهاك تخريج طريق يزيد الرشك.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/314) رقم 36421 حدثنا ابن علية، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، قال: نهى رسول الله b عن جلود السباع أن تفترش.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (215) عن معمر، عن يزيد الرشك به.
وقد أخرجه الطبراني (1/192) رقم510 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، أراه عن أبيه.
وأخرجه الترمذي (1771) من طريق محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن يزيد الرشك به، مرسلاً.
واختلف على شعبة:
فرواه البيهقي (1/21) من طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه، موصولاً.
قال البيهقي: ووراه غيره، عن شعبة، عن يزيد، أبي المليح، مرسلاً، دون ذكر أبيه. اهـ ومحمد بن جعفر من أثبت أصحاب شعبة، وقد رواه عن شعبة مرسلاً.
قلت: ورواه البزار (2331) عن أحمد بن السخت، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا يزيد الرشك، عن أبي المليح، عن أبيه. ولم أقف على ترجمة أحمد بن السخت، والمعروف من رواية إسماعيل بن علية، عن يزيد الرشك أنها مرسلة كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والبزار (2330) عن مؤمل بن هشام، أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، والله أعلم.
فالذي يتبين لي أن الراجح من رواية يزيد الرشك كونها مرسلة، وهي لا تعل رواية قتادة، لكون قتادة أحفظ من يزيد الرشك، ولم يختلف عليه كما اختلف على الرشك، والله أعلم.(1/537)
الدليل الثاني:
(146) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي
أن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي b: تعلمون أن رسول الله b نهى عن جلود النمور أن تركب عليها؟. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً. قالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة؟ -يعني: متعة الحج - قالوا: اللهم لا. قال: بلى إنه في هذا الحديث. قالوا: لا (1) .
[حسن لغيره إن شاء الله تعالى] (2) .
الدليل الثالث:
(147) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حيوة بن شريح وأحمد بن عبد الملك،
_________
(1) المصنف (19927) .
(2) سبق الكلام عليه عند الكلام على حكم اتخاذ أواني الذهب والفضة، والله أعلم.(1/540)
قالا: حدثنا بقية، حدثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان،
عن المقدام بن معدي كرب، قال: نهى رسول الله b عن الحرير والذهب، وعن مياثر النمور (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الرابع:
(148) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن زرارة،
عن أبي هريرة، عن النبي b قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر (3) .
_________
(1) المسند (4/131،132) .
(2) فيه بقية بن الوليد، وقد عنعن، وإن صرح بالتحديث من شيخه، فإن هذا لا يكفي؛ لأنه متهم بتدليس التسوية، وباقي رجاله ثقات.
[تخريج الحديث]
والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/267) رقم 630 من طريق أبي زرعة الدمشقي، عن حيوة به. مختصراً، بلفظ: نهى عن ركوب على جلود السباع.
وأخرجه أبو داود (4131) ، والنسائي في الكبرى (4580،4581) وفي الصغرى (4245) ، والبيهقي (1/21) (3/274) عن عمرو بن عثمان، حدثنا بقية به.
وذكر فيه أبو داود والبيهقي (4131) قصة في ذكر وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1127) من طريق يحيى بن يحيى، ثنا بقية به.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (20/269) رقم 636 من طريق محمد بن مصفى، ثنا بقية به.
(3) سنن أبي داود (4130) ، وفي إسناده عمران بن دوار، ضعفه النسائي ويحبى بن معين، ومشاه أحمد، وسبقت ترجمته، وفي صحيح مسلم (2113) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً: لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس.(1/541)
الدليل الخامس:
استدلوا بقول النضر بن شميل: إن الإهاب: جلد ما يؤكل لحمه من الإنعام، وأما ما لا يؤكل لحمه فإنما هو جلد ومسك
وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر بن شميل هذا، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهاباً، واحتجت بقول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم (1) .
الدليل السادس:
قالوا: إن الرسول b إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان مما يؤكل لحمه؛ لأن الخطاب الوارد في ذلك إنما خرج على شاة ماتت لبعض أزواج النبي b، فدخل في ذلك كل ما يؤكل لحمه، وما لم يؤكل لحمه فداخل في عموم تحريم الميتة، واستدلوا بقول أكثر العلماء في المنع من جلد الميتة بعد الدباغ، بأن الذكاة غير عاملة فيه، قالوا: فكذلك السباع لا تعمل فيها الذكاة لنهي رسول الله b عن أكلها، ولا يعمل فيها الدباغ؛ لأنها ميتة، لم يصح خصوص شيء منها (2) .
الراجح:
الذي يظهر لي والله أعلم أن الدباغ يطهر كل إهاب، لأن قوله b إذا دبغ الإهاب فقد طهر يعم كل إهاب، فكل إهاب داخل تحت هذا الخطاب
_________
(1) التمهيد (4/170) .
(2) التمهيد (4/182) .(1/542)
إلا أن يصح إجماع في شيء من ذلك، فيخرج من الجملة، ولم يثبت عندي حديث: "دباغها ذكاتها"، وأما النهي عن جلود السباع فليست العلة فيه كون الدباغ لا يطهره، وإنما كونه من جلود السباع، ولذلك لو كان من جلد حيوان نجس من غير السباع لم يكن داخلاً في النهي عن جلود السباع، فالنهي عن جلود السباع أخص من النهي عن جلود غيرها من الحيوانات النجسة، ولا يستدل بالأخص على الأعم، والله أعلم.(1/543)
[صفحة فارغة](1/544)
المبحث الثاني
في الآنية المتخذة من عظام الميتة وقرنها وحافرها
الآنية المتخذة من عظم حيوان مأكول اللحم مذكى يحل استعمالها إجماعاً، كما أن الآنية المتخذة من عظم الآدمي لا تجوز، ولو من كافر لكرامة المؤمن، وتحريم المثلة في الكافر (1) .
وأما الآنية المتخذة من عظام حيوان غير مذكى، سواء كان مأكول اللحم أم غير مأكول اللحم فإن الخلاف فيها مبني على الخلاف في طهارة عظام الميتة، فمن كان يرى طهارة عظام الميتة مطلقاً لا يرى بأساً من اتخاذ الأواني منها، ومن يرى نجاستها يمنع من ذلك، والخلاف فيها على النحو التالي:
فقيل: يجوز اتخاذ الآنية من عظام الميتة، وبيعها، وهو مذهب الحنفية (2) ، ورجحه ابن تيمية (3) .
وقيل: لا يجوز، وهو المشهور من مذهب المالكية (4) ، والشافعية (5) ،
_________
(1) انظر غمز عيون البصائر (4/214) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/52) ، تحفة المحتاج (1/117) ، كشاف القناع (1/51) ، المحلى (1/426) .
(2) البحر الرائق (1/112) ، تبيين الحقائق (1/26) ، بدائع الصنائع (1/63) ، الهداية شرح البداية (3/46) ، الجامع الصغير (ص: 329) ، أحكام القرآن للجصاص (1/170) و (3/33) .
(3) الفتاوى الكبرى (1/267) .
(4) المنتقى (3/136) ، حاشية الدسوقي (1/53،54) ، الخرشي (1/89) ، مختصر خليل (ص:7) ، حاشية العدوي (1/585) ، الفواكه الدواني (2/287) ، التمهيد (9/52) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/50) .
(5) قال الشافعي في الأم (1/23) : " ولا يتوضأ ولا يشرب في عظم ميتة، ولا عظم ذكي لا يؤكل لحمه، مثل عظم الفيل والأسد وما أشبهه؛ لأن الدباغ والغسل لا يطهران العظم. اهـ وانظر المجموع (1/291) ، وقد نص النووي رحمه الله أن استعمال عظام الميتة في شيء يابس يكره، ولا يحرم؛ لأن النجاسة هنا لا تتعدى، قال رحمه الله (1/198) : العاج المتخذ من عظم الفيل نجس عندنا كنجاسة غيره من العظام، لا يجوز استعماله في شيء رطب، فإن استعمل فيه نجسه، قال أصحابنا: ويكره استعماله في الأشياء اليابسة لمباشرة النجاسة، ولا يحرم؛ لأنه لا يتنجس به، ولو اتخذ مشطاً من عظم الفيل فاستعمله في رأسه أو لحيته، فإن كانت رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره، وإلا فلا، ولكنه يكره ولا يحرم، هذا هو المشهور للأصحاب. ورأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه قال: ينبغي أن يحرم، وهذا غريب ضعيف. قلت (القائل النووي) : وينبغي أن يكون الحكم هكذا في استعمال ما يصنع ببعض بلاد حوران من أحشاء للغنم على هيئة الأقداح والقصاع ونحوها، لا يجوز استعماله في رطب، ويجوز في يابس مع الكراهة، قال الروياني: ولو جعل الدهن في عظم الفيل للاستصباح أو غيره من الاستعمال في غير البدن فالصحيح جوازه، وهذا هو الخلاف في جواز الاستصباح بزيت نجس؛ لأنه ينجس بوضعه في العظم..هذا تفصيل مذهبنا في عظم الفيل، وإنما أفردته عن العظام كما أفرده الشافعي ثم الأصحاب، قالوا: وإنما أفرده لكثرة استعمال الناس له، ولاختلاف العلماء فيه، فإن أبا حنيفة قال بطهارته بناء على أصله في كل العظام، وقال مالك في رواية: إن ذكي فطاهر وإلا فنجس، بناء على رواية له أن الفيل مأكول، قال إبراهيم النخعي: إنه نجس لكن يطهر بخرطه، وقد قدمنا دليل نجاسة جميع العظام وهذا منها، ومذهب النخعي ضعيف بين الضعف. والله أعلم. وانظر في مذهب الشافعية: حاشية البجيرمي (1/35) ، وحاشية الشرواني (1/117) ، روضة الطالبين (1/43،44) .(1/545)
والحنابلة (1) .
وقيل: لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها، وهو اختيار ابن حزم (2) .
_________
(1) مختصر الخرقي (ص: 16) ، المغني (1/56) ، دليل الطالب (ص: 5) ، المبدع (1/74،76) ، كشاف القناع (1/56) ، الإنصاف (1/92) ، الكافي (1/20) .
(2) قال في المحلى (1/132) : وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي، والحي مباح ملكه وبيعه إلا ما منع من ذلك نص، وكل ذلك من الميتة ميتة، وقد صح تحريم النبي b بيع الميتة، وبعض الميتة ميتة، فلا يحل بيع شيء من ذلك، والانتفاع بكل ذلك جائز، لقوله عليه السلام: {إنما حرم أكلها} فأباح ما عدا ذلك إلا ما حرم باسمه من بيعها والادهان بشحومها، ومن عصبها ولحمها. اهـ(1/546)
وقال بعضهم: إن العظام نجسة، تطهر بالدباغ، ودباغها غليها، اختاره بعض المالكية (1) .
دليل الحنفية على طهارة عظم الميتة.
الدليل الأول:
قالوا: إن علة نجاسة الميتة، إنما هو لاحتباس الدم فيها، فما لا نفس له سائلة، ليس فيه دم سائل، فإذا مات لم يكن فيه دم يحتبس فيه، فلا ينجس، فالعظم ونحوه أولى بعدم التنجس من هذا، فإن العظم ليس فيه دم سائل، ولا كان متحركاً بالإرادة إلا على وجه التبع، فإذا كان الحيوان الكامل الإحساس، المتحرك بالإرادة، لا ينجس لكونه ليس فيه دم سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل.
والذي يوضح هذا أكثر أن الله سبحانه وتعالى حرم علينا الدم المسفوح، قال سبحانه وتعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} الآية (2) .
وعفا عن غير الدم المسفوح، مع أنه من جنس الدم، والله سبحانه وتعالى حرم ما مات حتف أنفه، أو بسبب غير جارح محدد، فحرم المنخنقة
_________
(1) المنتقى شرح الموطا (3/136،137) .
(2) الأنعام: 145.(1/547)
والموقوذة والمتردية والنطيحة، والفرق بينهما إنما هو في سفح الدم، فدل على أن سبب التنجس هو احتقان الدم واحتباسه، وإذا كان كذلك فالعظم والقرن والظلف والظفر وغير ذلك ليس فيه دم مسفوح، ولا يعارض هذا بتحريم تذكية المرتد والمجوسي، ولو سفح الدم؛ لأن التحريم تارة يكون لاحتقان الدم، كما هو الحال في المتردية والنطيحة، وما صيد بعرض المعراض، وتارة تكون لفساد التذكية، كذكاة المجوسي والمشرك (1) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن هذه الأشياء ليست بميتة، فليست داخلة في عموم تحريم الميتة؛ لأن الميتة من الحيوان في عرف الشارع اسم لما زالت حياته، ولا حياة في هذه الأشياء.
فإن قيل: إنها داخلة في الميتة؛ لأنها تحس وتتألم.
قيل لهم: أنتم لم تأخذوا في عموم اللفظ، فإن ما لا نفس له سائلة كالذباب والعقرب لا ينجس عند جماهير العلماء، مع أنه ميتة (2) .
الدليل الثالث:
أن طهارة العظم أولى من طهارة الجلد بالدباغ، فهذا الجلد، جزء من الميتة، فيه الدم كسائر أجزائها، والنبي b جعل الدباغ طهارة له؛ لأن الدباغ ينشف رطوبته، فدل على أن سبب التنجس هو الرطوبات، والعظم ليس فيه رطوبة سائلة، وما كان فيه منها يجف وييبس، كما أن العظم يبقى ويحفظ
_________
(1) انظر مجموع الفتاوى (21/99-100) بتصرف يسير.
(2) المرجع السابق.(1/548)
أكثر من الجلد، فهو أولى بالطهارة من الجلد (1) .
الدليل الرابع:
أن طهارة العظم هو المعروف عن سلف هذه الأمة، فقد ذكر البخاري، عن الزهري معلقاً بصيغة الجزم. قال البخاري: قال الزهري في عظام الموتى- نحو الفيل وغيره- أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، لا يرون به بأساً (2) .
الدليل الخامس:
(149) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جحادة، حدثني حميد الشامي، عن سليمان المنبهي،
عن ثوبان مولى رسول الله b قال: كان رسول الله b إذا سافر آخر عهده بإنسان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، قال: فقدم من غزاة له، فأتاها فإذا هو يمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما، فبكى الصبيان فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله b، وهما يبكيان، فأخذه رسول الله b منهما، فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة، واشتر لفاطمة قلادة من عصب، وسوارين من عاج؛ فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا
_________
(1) المرجع السابق.
(2) فتح الباري (1/408) .(1/549)
طيباتهم في حياتهم الدنيا (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
دليل من قال بنجاسة العظم.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (3) ، والعظم جزء من الميتة.
_________
(1) المسند (5/275)
(2) الحديث أخرجه أبو داود (4213) ومن طريقه البيهقي (1/26) وأخرجه الروياني في مسنده (655) ، والطبراني في المعجم الكبير (2/103) ، وابن عدي في الكامل (2/270) ، والمزي في تهذيب الكمال (7/413) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1336) كلهم من طريق عبد الوارث به.
وفي إسناده حميد الشامي، جاء في ترجمته:
قال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: فحميد الشامي، كيف حديثه الذي يروي حديث ثوبان، عن سليمان المنبهي؟ قال: ما اعرفهما. الكامل لابن عدي (2/270) .
قال أبو طالب: سألت احمد بن حنبل، عن حديث عبد الوارث، عن محمد بن جحادة، عن حميد الشامي، فقال: نعم. قلت: من هو حميد؟ قال: لا اعرفه. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: وحميد الشامي هذا إنما انكر عليه هذا الحديث، وهو حديثه، ولم اعلم له غيره. المرجع السابق.
وفي التقريب: مجهول.
وسليمان المنبهي، قال ابن معين: لا أعرفه، كما نقلت عنه في ترجمة حميد الشامي.
وذكره البخاري وسكت عليه. التاريخ الكبير (4/36) .
وذكره ابن حبان في الثقات.
وفي التقريب: مجهول، فالحديث رواية مجهول عن مثله.
(3) المائدة: 3.(1/550)
الدليل الثاني:
(150) قال الشافعي: روى عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يكره أن يدهن في مدهن من عظام الفيل؛ لأنه ميتة (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثالث:
قالوا: إن العظام تحلها الحياة، فتنجس بالموت، قال تعالى: {قال من يحيى العظام وهي رميم} (3) ، ولأن دليل الحياة: الإحساس والألم، والألم في العظام أشد من الألم في اللحم، فالضرس يألم، ويحس ببرد الماء وحرارته، وما يحله الموت ينجس به كاللحم (4) .
دليل ابن حزم على تحريم البيع وجواز الانتفاع.
أما الدليل على تحريم البيع،
(151) فقد روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح،
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله b يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله b عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه (5) .
فحرم البيع وأباح الانتفاع، ولم يكن الانتفاع بكون الميتة يطلى بها
_________
(1) الأم (1/23) .
(2) علقه الشافعي هنا، وأسقط شيخه، وقد رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، عن عبد الله بن دينار به، كما في سنن البيهقي (1/26) وإبراهيم متروك.
(3) يس: 78.
(4) المغني (1/57) الانتصار في المسائل الكبار (1/210) .
(5) صحيح البخاري (2236) ومسلم (1581) .(1/551)
السفن ويستصبح بها الناس مسوغاً لإباحة البيع.
والدليل على جواز الانتفاع من عظم الميتة قول الرسول b عن الميتة: إنما حرم أكلها،
(152) فقد روى البخاري، قال: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها، ورواه مسلم (1) .
فلا يمنع هذا من الانتفاع بعظم الميتة.
الراجح: بعد استعراض الأقوال وأدلتها الذي يظهر لي أن مذهب الحنفية أرجح في هذه المسألة، وأن العظام كلها طاهرة، لأن الأصل في الأعيان الطهاة، ولعدم وجود ما يقتضي نجاستها،
وأما من اشترط غلي العظام فالظاهر أن الغلي ليس مقصوداً لذاته، بل المراد أي عمل يزيل رطوبة النجاسة ولحمها من العظام، فهو لا يخرج عن مذهب الحنفية، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (1492) ، صحيح مسلم (363) .(1/552)
الفصل السابع
في الأنية المتخذة من شعر الميتة ووبرها وصوفها
يعمل بعض الأواني من الشعر والوبروالصوف، كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (1) .
فإذا كان هذا الشعر والوبر قد جز من حيوان طاهر، وهو حي، فإنه طاهر بالإجماع (2) ، أما إذا كان الشعر والوبر والصوف من حيوان ميت، فقد اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: إذا جز الشعر من الحيوان فهو طاهر، سواء كان من حيوان طاهر أم نجس، وهو مذهب الحنفية (3) ، والمالكية (4) ، ورواية عن أحمد (5) ، إلا أن
_________
(1) النحل: 80.
(2) نقل الإجماع على ذلك النووي في المجموع (1/296) ، وابن رشد في بداية المجتهد (2/183) ، وابن تيمية في الفتاوى (21/98) .
(3) أحكام القرآن للجصاص (1/170،171) ، تبيين الحقائق (1/26) ، العناية شريح الهداية (1/96) ، الجوهرة النيرة (1/16) ، شرح فتح القدير (1/96) ، الفتاوى الهندية (1/24) ، مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر (1/32،33) ، حاشية ابن عابدين (1/206) .
(4) المنتقى (1/180) ، تفسير القرطبي (2/219) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/150) ، مواهب الجليل (1/89) ، حاشية العدوي (1/584) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/50،51) ، هذا قولهم في الشعر والوبر والصوف، وأما الريش من الميتة، فقد ذكر ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة مذهب المالكية، فقال: (ص: 189) : لا يجوز الانتفاع بريش الميتة"، وكذلك ذكر ابن الجلاب في التفريع (1/408) ، واستثنى الباجي في المنتقى (3/137) الريش الذي لا سنخ له، مثل الزغب ونحوه.
(5) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/263) ، مجموع الفتاوى (21/617) .(1/553)
الحنفية استثنوا شعر الخنزير فقط.
وقيل: إن كان الحيوان طاهراً في الحياة، ولو كان غير مأكول، فشعره طاهر، وإذا كان الحيوان نجساً، فالشعر تبع له، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (1) .
وقيل: إن الشعر والوبر والصوف من الميتة نجس إلا شعر الآدمي، وهو المشهور مذهب الشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
وقيل: صوف الميتة وشعرها ووبرها نجس قبل الدباغ حلال بعده، وهو اختيار ابن حزم (4) .
واشترط من قال بطهارته أن يجز.
قال ابن نجيم: شعر الميتة إنما يكون طاهراً إذا كان محلوقاً، أو مجزوزاً، وإن كان منتوفاً فهو نجس (5) .
وقال الدردير: والمقصود بالجز: ما يقابل النتف، فيشمل الحلق والإزالة بالنورة، فلو جزت بعد النتف، فالأصل الذي فيه أجزاء الجلد نجس، والباقي طاهر (6) .
_________
(1) الإنصاف (1/92) ، المبدع (1/76) ، الفروع (1/78) ، الكافي (1/20) ، كشاف القناع (1/57) ، مجموع الفتاوى (21/617) ، المغني (1/60) .
(2) المجموع (1/291) ، المهذب (1/11) ، حلية العلماء (1/96) ، روضة الطالبين (1/15،43) .
(3) الإنصاف (1/92) ، الفروع (1/77،78) .
(4) المحلى (1/128) .
(5) البحر الرائق (1/113) .
(6) الشرح الكبير (1/49) .(1/554)
دليل من قال بطهارة شعر الميتة.
الدليل الأول:
قال تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} (1) .
والدفء: ما يتدفأ به من شعرها ووبرها وصوفها، وذلك يقتضي إباحة الجميع من الميتة والحي (2) .
الدليل الثاني:
قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (3) .
وجه الاستدلال:
أن الآية حكمت على جميع الصوف والوبر والشعر بالإباحة من غير فرق بين المذكى منه وبين الميتة، ومن استثنى صوف الميتة ووبرها وشعرها فعليه الدليل.
الدليل الثالث:
أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، فمن منع أو حكم بالنجاسة، فعليه الدليل.
الدليل الرابع:
ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس، وفيه قال رسول الله عن
_________
(1) النحل: 5.
(2) أحكام القرآن للجصاص (1/171) .
(3) النحل: 80.(1/555)
الميتة: إنما حرم أكلها. (1) ، وقد سبق الحديث بتمامه.
الدليل الخامس:
دل الإجماع على طهارة الشعر المأخوذ من الحيوان قبل موته، فلا ننتقل إلى نجاسته إلا بدليل.
أو يقال: القياس على الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة، فإذا كان الشعر المأخوذ من الحيوان حال الحياة طاهراً، كان الشعر بعد الموت طاهراً.
قال ابن تيمية: اتفق العلماء على أن الشعر والصوف إذا جز من الحيوان كان طاهراً، فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة (2) .
(153) فقد روى أحمد، قال: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن -يعني: ابن عبد الله بن دينار- عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن أبي واقد الليثي قال: لما قدم رسول الله b المدينة، والناس يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فقال رسول الله b: ما قطع من البهيمة وهي حية، فهي ميتة (3) .
[الراجح أنه مرسل] (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (1492) ، صحيح مسلم (363) .
(2) مجموع الفتاوى (21/98) .
(3) المسند (5/218) .
(4) الحديث فيه اختلاف كثير، والحديث مداره على زيد بن أسلم، فروي عنه تارة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، وجاء موصولاً ومرسلاً، والراجح فيه رواية ابن مهدي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن النبي b، وتابعه معمر، عن زيد بن أسلم، وهاك بيان هذا الاختلاف:
الحديث رواه أحمد (5/18) ، وأبو داود (2858) ، والترمذي (1480) ،، وابن الجعد في مسنده (2952) ، والدارمي (2018) ، وأبو يعلى في مسنده (1450) ، وابن الجارود في المنتقى (876) ، والطبراني في المعجم الكبير (3/248) رقم: 3304، والدارقطني (4/292) ، والحاكم في المستدرك (7597) ، وابن المنذر في الأوسط (2/273) ، والبيهقي (9/245) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي مرفوعاً.
وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، فيه ضعف.
جاء في ترجمته:
قال الدوري، عن يحيى بن معين أنه قال: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار في حديثه ضعف وقد حدث عنه يحيى القطان. الجرح والتعديل (5/254) .
وقال عمرو بن على الصيرفي: لم اسمع عبد الرحمن بن مهدى يحدث عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار بشيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: فيه لين يكتب حديثه، ولا يحتج به. المرجع السابق.
واختلف على زيد بن أسلم، فرواه عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي كما سبق.
وتابعه عبد الله بن جعفر المديني كما في المستدرك (4/123،124) ، وعبد الله ضعيف.
ورواه ابن ماجه (3216) ، والدارقطني (4/292) ، والحاكم (4/124) من طريق معن بن عيسى، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعاً.
وهشام بن سعد، وإن كان قد ضعف، إلا أن أبا داود قال فيه: من أثبت الناس في زيد بن أسلم. انظر تهذيب الكمال (3/207) . وفي التقريب: صدوق له أوهام.
وتابعه عاصم بن عمر، فقد أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (1857) ، وابن عدي في الكامل (5/230) من طريق عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مرفوعاً.
قال الهيثمي: وسند هذا صحيح.
والحق أن عاصم بن عمر ضعيف، وقد ضعفه به الحافظ في التلخيص (1/29) .
ورواه سليمان بن بلال، واختلف عليه فيه:
فرواه الحاكم في المستدرك (4/267) من طريق عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وتابعه مسور بن الصلت، عند الحاكم أيضاً (4/138) . وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثقة، أخرج له البخاري.
ورواه عبد الرحمن بن مهدي كما في المستدرك أيضاً (4/138) عن زيد بن أسلم، عن النبي b مرسلاً.
وتابعه معمر، كما في المصنف (4/494) رقم 8611، فرواه عن زيد بن أسلم به.
وقد رجح الدراقطني الرواية المرسلة، قال الحافظ كما في تلخيص الحبير (1/28،29) : ذكر الدارقطني علته، ثم قال: والمرسل أصح.
ولا شك أن رواية عبد الرحمن بن مهدي مقدمة على غيرها، وقد توبع فيه، ولولا هذه الرواية لقلت: إن الحديث مضطرب لكثرة الاختلاف في إسناده، فأنت ترى أنه جاء مرة من مسند أبي واقد، ومرة من مسند ابن عمر، ومرة من مسند أبي سعيد، ومرة موصولاً ومرة مرسلاً، والمخرج واحد.
ورجح الإمام البخاري رحمه الله كونه محفوظاً من حديث أبي واقد الليثي، جاء في كتاب العلل الكبير للترمذي (437) قال الترمذي: سألت محمداً عن هذا الحديث، فقلت له: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم.
والحديث له شاهد من حديث تميم الدراي، أخرجه ابن ماجه (3217) ، قال: 3217 حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش ثنا أبو بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن تميم الداري، قال: قال رسول الله b: يكون في آخر الزمان قوم يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أذناب الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت.
وأخرجه الطبراني في الكبير (2/57) رقم 1276، وابن عدي في الكامل (3/325) من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي بكر الهذلي به.
وفيه شهر بن حوشب، الأكثر على ضعفه، كما أن شهراً لم يسمع من تميم الداري، انظر جامع التحصيل (ص: 197) ، وضعفه الحافظ في التلخيص (1/29) ، وأبو بكر الهذلي متروك.
وله شاهد آخر، عن مجاهد، فقد أخرج عبد الرزاق (8612) عن ابن مجاهد، عن أبيه، قال: كان أهل الجاهلية يقطعون أليات الغنم، وذكره بمثله.
وهذا سند ضعيف أيضاً، فيه ابن مجاهد عبد الوهاب، جاء في ترجمته:
قال مهران بن أبى عمر العطار الرازي: كنت مع سفيان الثوري في مسجد الحرام، فمر عبد الوهاب بن مجاهد، فقال سفيان: هذا كذاب. الجرح والتعديل (6/69) .
وقال أحمد بن حنبل: عبد الوهاب بن مجاهد لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال العباس بن محمدالدوري: سئل يحيى بن معين عن عبد الوهاب بن مجاهد، فقال: ضعيف. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. المرجع السابق.(1/556)
فلو كان الشعر جزءاً من الحيوان، لما جاز أخذه من الحيوان الحي، وكان نجساً حكمه حكم ميتته، فلما جاز أخذه علم أنه ليس جزءاً من الحيوان، وأنه طاهر مطلقاً في حياة الحيوان وبعد موته، والله أعلم.
الدليل السادس:
هناك بعض الأحاديث الضعيفة التي يستدلون بها أذكرها للتنبيه عليها، تحذيراً منها، وإلا فالأدلة السابقة كافية، منها:
(154) ما رواه الدراقطني، من طريق عبد الجبار بن مسلم، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس، قال: إنما حرم رسول الله b من الميتة لحمها، وأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به (1) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/47،48) .(1/559)
[إسناده ضعيف، ومتنه منكر] (1) .
(155) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق أبي بكر الهذلي، أن الزهري حدثهم، عن عبيد الله بن عبد الله،
عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله b قال: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما علي طاعم يطعمه} ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها، فأما الجلد والقرن والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال؛ لأنه لا يذكى.
قال الدراقطني: أبو بكر الهذلي متروك (2) .
(156) ومنها ما رواه الدراقطني، من طريق يوسف بن السفر، نا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سمعت أم سلمة زوج النبي b تقول: سمعت رسول الله b يقول: لا بأس بمسك
_________
(1) في إسناده عبد الجبار بن مسلم، ذكره ابن حبان في الثقات (7/136) .
وقال الدراقطني: ضعيف. سنن الدراقطني (1/48) .
وقال الذهبي: لا أعرفه. ميزان الاعتدال (2/534) .
وجاء في لسان الميزان (3/389) : قال تمام: لم يسند عبد الجبار بن مسلم إلا هذا الحديث. فقال الحافظ: ولم يرو عنه غير الوليد. وقال يعقوب بن سفيان في تاريخه: سألت هشام بن عمار عنه، فقال: كان يركب الخيل ويتنزه ويتصيد. قال الحافظ: وهذا الوصف من رواية أخيه عنه يرفع جهالة عينه. اهـ
فالحديث منكر؛ لأن عبد الجبار مع كونه ضعيفاً، خالف كل من روى هذا الحديث عن الزهري، كالإمام مالك ويونس وابن عقيل وصالح بن كيسان وغيرهم، حيث رووا هذا الحديث، ولم يذكروا الجلد والشعر وما ذكره معهما.
(2) سنن الدراقطني (1/48) .(1/560)
الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء.
قال الدراقطني: يوسف بن السفر متروك، ولم يأت به غيره (1) .
دليل من قال بنجاسة الشعر ونحوه.
استدلوا بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (2) ، وهو عام للشعر وغيره، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه.
وأجيب بجوابين:
الأول: أن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (3) ، لا يدخل فيها الشعور وما أشبهها؛ وذلك لأن الميت ضد الحي، والحياة نوعان:
حياة الحيوان: وحياة النبات.
فحياة الحيوان: خاصتها الحس والحركة الإرادية.
وحياة النبات: خاصتها النمو والاغتذاء. وقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} الأية (4) ، إنما هو بما فارقته الحياة الحيوانية دون النباتية، فإن الشجر والزرع إذا يبس لم ينجس باتفاق المسلمين. وقد قال تعالى {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} الأية (5) .
وقال: {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} الآية (6) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/47) .
(2) المائدة: 3.
(3) انظر الإحالة السابقة.
(4) المائدة: 3.
(5) النحل: 65.
(6) الحديد: 17.(1/561)
وإنما الميتة المحرمة: ما فارقها الحس والحركة الإرادية. وإذا كان كذلك فالشعر حياته من جنس حياة النبات، لا من جنس حياة الحيوان، فإنه ينمو ويتغذى ويطول كالزرع. وليس فيه حس، ولا يتحرك بإرادته، فلا تحله الحياة الحيوانية حتى يموت بمفارقتها. فلا وجه لتنجيسه. وأيضاً لو كان الشعر جزءاً من الحيوان لما أبيح أخذه في حال الحياة... الخ (1) .
الجواب الثاني:
قالوا: إن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} (2) عام، وقوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} (3) خاص في بعضها، وهو الشعر والصوف، والوبر. والخاص مقدم على العام (4) .
دليل ابن حزم على طهارة الشعر بالدبغ.
استدل ابن حزم على ذلك بقوله: إن النبي b قد علم أن على جلود
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/97،98) .
(2) المائدة: 3.
(3) النحل: 80.
(4) ودفعه النووي بقوله في المجموع (1/292) : أن كل واحدة من الآيتين، فيها عموم وخصوص، فإن تلك الآية أيضاً عامة في الحيوان الحي والميت، وهذه خاصة بتحريم الميتة، فكل آية عامة من وجه، خاصة من وجه، فتساويتا من حيث العموم والخصوص، وكان التمسك بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} أولى؛ لأنها وردت لبيان المحرم، وأن الميتة محرمة علينا، ووردت الأخرى للامتنان بما أحل لنا.
وأجاب بعضهم عن قوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} بأنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي، أو أخذ في حياته كما هو المعهود، وأجاب الماوردي بجواب آخر مفاده: أن من للتبعيض، والمراد بالبعض الطاهر وهو ما ذكرناه.(1/562)
الميتة الشعر والريش والصوف، فلم يأمر بإزالة ذلك، ولا أباح استعمال شيء من ذلك قبل الدبغ، وكل ذلك قبل الدبغ بعض الميتة، فهو حرام، وكل ذلك بعد الدبغ طاهر ليس ميتة، فهو حلال، حاشا أكله، إلا ان ابن حزم استثنى شعر الخنزير، فلا يطهر عنده بالدبغ، وإن طهر جلده بذلك (1) .
الراجح من هذه الأقوال:
بعد استعراضنا لأدلة كل قول، يترجح لي أن رأي الحنفية والمالكية أقوى من حيث الدليل، وأن الشعر لا تدخله الحياة الحيوانية، والحياة النباتية لا تكفي لتنجيسه إذا فارقها، وأنه لافرق بين شعر الحيوان الطاهر بالحياة والحيوان النجس، ومن اشتثنى شعر الكلب أو الخنزير إن كان في ذلك إجماع فالدليل الإجماع، وإن لم يصح في المسألة إجماع فلا فرق بين شعره وشعر غيره، وبهذا يتبن لنا أن الميتة ثلاثة أقسام:
نجس مطلقاً لا يطهر بحال، وهو اللحم والدم.
وطاهر مطلقاً، وهو الشعر والوبر والصوف إذا جز جزاً.
وطاهر بشرط الدباغ، وهو الجلد.
وبهذا التقسيم يتبين لنا أن الأواني المصنوعة من الشعر أواني طاهرة، والله أعلم.
_________
(1) المحلى (1/123،124) .(1/563)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن من كمال هذه الشريعة ربطها الأمور الجبلية بأنواع من العبادات. فالناظر في الآداب الإسلامية، ومنها آداب الخلاء يلحظ كمال هذه الشريعة وشمولها، بحيث جعلت المسلم في كل أحواله مرتبطاً بعبادة الله سبحانه وتعالى، فالبول والغائط من الأمور الجبلية، ولكن الشارع فتح لعباده في هذا الأمر الجبلي أبواباً من العبادات، ولولا ذلك لكان التقرب بها بدعة، وهكذا سائر الأمور الجبلية، فالأكل والشرب مجبول عليهما الإنسان، ولكن ما يميز المسلم أن جعل من هذا الأمر الذي لا بد منه صفات تجعله مرتبطاً بالله، فالتسمية في أوله، والأكل في اليمين، ومما يلي الإنسان، والحمد في آخره، ونحو ذلك من العبادات التي هي مصداق لقوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} (1) .
وقوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (2) .
وهكذا البول والغائط ترتبط فيه مجموعة من العبادات تبدأ قبل الدخول في الأماكن المخصصة، وحال قضاء الحاجة، وتنتهي بعد الفراغ من حاجته، ومن هذه الآداب ما هو واجب يأثم الإنسان بتركه، ومنها ما هو مندوب، ومنها ما هو مكروه.
وقد قال بعض الكفار ساخراً من تعاليم الإسلام، بأنه يعلم حتى آداب
_________
(1) الأنعام: 162.
(2) الأنعام: 38.(2/3)
الخلاء، فأجابه الصحابي سلمان جواب العزيز بدينه،
(157-1) فقد روى مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (1) .
قال الطيبي جواب سلمان من باب أسلوب الحكيم؛ لأن المشرك لما استهزأ كان من حقه أن يهدد أو يسكت عن جوابه، لكن ما التفت سلمان إلى استهزائه، وأخرج الجواب مخرج المرشد الذي يرشد السائل المجد يعني ليس هذا مكان الاستهزاء، بل هو جد وحق، فالواجب عليك ترك العناد والرجوع اليه (2) .
فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدين العظيم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
خطة البحث في هذا الكتاب:
خطة البحث مكونة من أبواب وفصول ومباحث وفروع على غرار البحوث السابقة على النحو التالي.
التمهيد: في التعريف اللغوي.
الباب الأول: في حكم الاستنجاء
الفصل الأول: خلاف العلماء في حكم الاستنجاء.
_________
(1) صحيح مسلم (262) .
(2) حاشية السندي على سنن النسائي (1/39) .(2/4)
الفصل الثاني: هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي.
الفصل الثالث: في العاجز عن الاستنجاء.
الباب الثاني: في آداب الخلاء.
الفصل الأول: في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة.
المبحث الأول: حكم التسمية عند الدخول.
المبحث الثاني: في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث
الفرع الأول: هذه الآداب خاصة في المكان المعد أم في كل مكان
الفرع الثاني: متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء
الفرع الثالث: إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟
المبحث الثالث: استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء.
المبحث الرابع: في استحباب تقديم الرجل اليسرى عند الدخول والعكس عند الخروج.
المبحث الخامس: في الاعتماء على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة.
المبحث السادس: في الكلام أثناء قضاء الحاجة.
الفرع الأول: في ذكر الله تعالى داخل الخلاء.
الفرع الثاني: في الكلام في الخلاء.
المبحث السابع: في اللبث على الحاجة فوق الحاجة.
المبحث الثامن: في استحباب تغطية الرأس.
المبحث التاسع: في مسح الذكر عند الفراغ من البول.
المبحث العاشر: في نتر الذكر.
المبحث الحادي عشر: في استحباب قول غفرانك(2/5)
فرع: مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة.
المبحث الثاني عشر: استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء.
المبحث الثالث عشر: في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره.
المبحث الرابع عشر: في البول واقفاً.
الفصل الثاني: في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان
المبحث الأول: في طلب المكان الرخو.
المبحث الثاني: في استحباب الاستتار
الفرع الأول: استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء.
الفرع الثاني: في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة.
الفرع الثالث: في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض.
الفرع الرابع: إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إلى عورته.
المبحث الثالث: في حكم استقبال الريح حال البول.
المبحث الرابع: في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط.
المبحث الخامس: في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء.
المبحث السادس: في استقبال النيرين (الشمس والقمر) .
المبحث السابع: في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة.
المبحث الثامن: في البول في المسجد.
المبحث التاسع: في البول في الشق ونحوه.(2/6)
المبحث العاشر: في البول على القبر.
المبحث الحادي عشر: في البول في الإناء
المبحث الثاني عشر: في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء.
الباب الثالث: في صفة الاستنجاء والاستجمار.
الفصل الأول: في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار.
الفصل الثاني: حكم النية للاستنجاء.
الفصل الثالث: يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر.
الفصل الرابع: هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين
الفصل الخامس: في صفة الإنقاء.
المبحث الأول: في صفة الإنقاء بالحجر.
المبحث الثاني: في صفة الإنقاء بالماء.
الفصل السادس: قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار.
فرع: ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء.
الفصل السابع: القول في قطع الاستنجاء على وتر
الفصل الثامن: في صفة المسح بالأحجار.
الفصل التاسع: لايباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول.
المبحث الأول: هل يكره مس الذكر مطلقاً، أو حال البول فقط؟
المبحث الثاني: إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟.
المبحث الثالث: اشكال وجوابه.(2/7)
المبحث الرابع: حكم مس الدبر.
المبحث الخامس: حكم مس فرج المرأة.
الفصل العاشر: الشك بعد الفراغ من الاستنجاء.
الفصل الحادي عشر: نضح الماء على الفرج والسروايل.
الباب الرابع: في الاستجمار.
الفصل الأول: خلاف العلماء في جواز الاستجمار.
الفصل الثاني: في شروط الاستتجمار.
الشرط الأول: في اشتراط ثلاثة أحجار.
مبحث: في الاكتفاء بحجر واحد له ثلاث شعب.
الشرط الثاني: أن تكون الأحجار ونحوها طاهرة.
الشرط الثالث: أن يكون المستنجى به غير عظم وروث.
مبحث: النهي عن العظام والروث للكراهة أو للتحريم.
الشرط الرابع: في اشتراط أن يكون المستجمر به من الأحجار.
الشرط الخامس: أن يكون الحجر ونحوه منقياً.
خلاف العلماء في الاستنجاء بالزجاج.
مبحث: إذا استنجى بزجاج فهل يجزئه الاستجمار أو يتعين الماء؟
الشرط السادس: هل يشترط أن يكون جامداً.
الشرط السابع: ألا يكون المستجمر به حممة.
الشرط الثامن: أن يكون المستجمر به غير محترم.
المبحث الأول: الاستنجاء بالكتب الشرعية.
المبحث الثاني: الاستنجاء بما هو طعام للأدمي وغيره.(2/8)
المبحث الثالث: ألا يكون المستنجى به حيواناً.
الفرع الأول: الاستنجاء بشيء من الحيوان متصلاً به.
الفرع الثاني: الاستنجاء بجلد الحيوان المنفصل.
فرع: ما منع الاستنجاء به لحرمته لا يجوز البول عليه.
الباب الخامس: في ما يستنجى منه.
الفصل الأول: في الاستنجاء من البول والغائط.
الفصل الثاني: في الاستنجاء من المذي
الفصل الثالث: في الاستنجاء من الودي
الفصل الرابع: في الاستنجاء من المني
الفصل الخامس: في الإستنجاء من الحدث الدائم
المبحث الأول: هل يعتبر الخروج الدائم للنجاسة حدثاً أم يعفى عنه.
المبحث الثاني: في وجوب غسل فرج من به حدث دائم عند الوضوء.
المبحث الثالث: شد عصابة الفرج عند الوضوء.
الفصل السادس: في الاستنجاء من البعر الناشف والحصاة
الفصل السابع: في الاستنجاء من الريح
الباب السادس: في الاستنجاء بالماء
الفصل الأول: خلاف العلماء في الاستنجاء بالماء
الفصل الثاني: أيهما أفضل الاستنجاء أم الاستجمار
الفصل الثالث: في الجمع بين الحجارة والماء وأيهما يقدم(2/9)
الفصل الرابع: متى يتعين الاستنجاء بالماء
المبحث الأول: إذا تجاوز الخارج موضع العادة
المبحث الثاني: إذا استجمر بمنهي عنه ثم استجمر بعده بمباح فهل يتعين الماء؟
المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من المذي.
المبحث الثالث: يتعين الماء في الاستنجاء من الدم والقيح.
المبحث الرابع: هل يتعين الماء في بول المرأة.
المبحث الخامس: هل يتعين الماء إذا عرق فسال أثر الاستجمار.
المبحث السادس: هل يتعين الماء إذا خرج البول والغائط من غير السبيلين.
الباب السابع: حكم الترتيب بين الاستنجاء والوضوء.
هذا ما وفقت لجمعه ودراسته، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً إليه، سبباً في مغفرته ورضوانه، مبعداً لي عن سخطه وغضبه، وأن يرزق هذا البحث وغيره القبول والانتفاع من إخواني طلبة العلم، وأن يغفر لي تقصيري وجهلي وتفريطي وإسرافي في أمري، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه
أبو عمر دبيان بن محمد بن دبيان الدبيان
السعودية منطقة القصيم
مدينة بريدة في 14/2/1421هـ(2/10)
تمهيد
في التعريف اللغوي
الاستنجاء ومثله الاستجمار والاستبراء والاستنقاء كلها ألفاظ لها علاقة في كتابنا، ولذا يحسن بي قبل أن ندخل في تفاصيل أحكام هذه العبادة أن نقدم تعريفها اللغوي، وقد قيل: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
تعريف الاستنجاء.
الاستنجاء: من نجا ينجو نجواً. يقال: نجا الشجرة ينجوها نجواً: إذا قطعها من أصولها.
قال شمر: وأرى الاستنجاء في الوضوء من هذا لقطعه العذرة بالماء.
ونجا فلان ينجو نجواً: إذا أحدث من ريح أو غائط، يقال: ما نجا منذ أيام: أي ما أتى الغائط.
النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط.
وفي الصحاح: استنجى مسح موضع النجو أو غسله. قال: وقدم المسح على الغسل؛ لأنه هو المعروفكان في بدء الإسلام، وإنما التطهر بالماء زيادة على أصل الحاجة.
واستنجى: تحرى إزالة النجو أو طلب نجوة: أي قطعة مدر لإزالة الأذى، كقولهم: استجمر: إذا طلب جماراً أو حجراً.
وقال ابن الأثير: الاستنجاء استخراج النجو من البطن، أو إزالته عن بدنه بالغسل والمسح. أو من نجوت الشجرة وأنجيتها: إذا قطعتها، كأنه قطع الأذى عن نفسه، أو من النجوة للمرتفع من الأرض، كأنه يطلبها ليجلس(2/11)
عليها (1) .
تعريف الاستجمار.
الاستجمار: مأخوذ من الجمار: هي الصغار من الأحجار، جمع جمرة، ومنها سموا المواضع التي ترمى جماراً وجمرات لما بينهما من الملابسة.
واستجمر: أي استنجى بالجمار: وهي الأحجار الصغار (2) .
وفي اللسان: قيل: الاستجمار هو الاستنجاء، واستجمر واستنجى واحد (3) .
قلت: جاء هذا في حديث سلمان رضي الله عنه في مسلم:
لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (4) .
تعريف الاستطابة.
الاستطابة: تطلق كناية على الاستنجاء. وسمي بها من الطيب؛ لأنه يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء: أي يطهره، ويقال منه: استطاب الرجل فهو مستطيب، وأطاب نفسه فهو مطيب، والمطيب، والمستطيب: المستنجي، مشتق من الطيب، وروي عن النبي أنه نهى أن يستطيب الرجل بيمينه. الاستطابة والإطابة كناية عن الاستنجاء (5) .
_________
(1) لسان الميزان (15/306) .
(2) تاج العروس (6/213) ، المغرب (ص: 88،89) .
(3) اللسان (4/147) .
(4) مسلم (262) .
(5) اللسان (1/567) .(2/12)
(158-2) وقد روى أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (1) .
تعريف الاستبراء.
الاستبراء في اللغة: طلب البراءة.
والاستبراء في الطهارة: طلب البراءة من البول: وهو أن يستفرغ بقية البول، وينقي موضعه ومجراه حتى يبرئهما منه، أي يبينه عنهما كما يبرأ من الدين والمرض. والاستبراء: استنقاء الذكر عن البول. واستبرأ الذكر: طلب براءته من بقية بول فيه بتحريكه ونتره وما أشبه ذلك (2) .
تعريف الاستنقاء.
الاستنقاء: طلب النقاوة، وهي النظافة، ونقاه: أي نظفه.
وقال في المغرب: الاستنقاء: المبالغة في تنقية البدن (3) .
قلت: ومنه تنقيته من البول والغائط، وقد جاء في حديث حمنة بنت جحش مرفوعاً: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت
_________
(1) المسند (6/133) ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.
(2) اللسان (1/33) ، التوقيف على مهمات التعريف (ص: 54) ، النهاية في غريب الحديث (1/112) .
(3) المغرب (ص: 474) .(2/13)
فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلةً. الحديث (1) .
وأما المعنى الاصطلاحي لهذه الألفاظ، فلا يخرج عن المعنى اللغوي، ولذلك تعمدت ألا أذكر تعريفها الاصطلاحي.
_________
(1) سنن أبي داود (287) ، والحديث فيه ضعف، وقد خرجته في مسألة شد العصابة على الفرج عند الوضوء.(2/14)
الباب الأول
في حكم الاستنجاء(2/15)
[صفحة فارغة](2/16)
الفصل الأول
خلاف العلماء في حكم الاستنجاء
اختلف العلماء في حكم الاستنجاء، هل هو واجب أم سنة؟
فقيل: إنه سنة (1) ، وهو مذهب الحنفية (2) ، وقول في مذهب المالكية (3) .
وقيل: إن الاستنجاء واجب، وهو قول في مذهب المالكية (4) ، ومذهب الشافعية (5) ، والحنابلة (6) .
_________
(1) فلو ترك الاستنجاء لجازت صلاته ولكن مع الكراهة عند الحنفية، ومالك يستحب له الإعادة ما دام في الوقت
(2) انظر في مذهب الحنفية بدائع الصنائع (1/18) ، البناية على الهداية (1/757،758) ، شرح فتح القدير (1/187) ، تبيين الحقائق (1/76،77) ، حاشية ابن عابدين (1/335) ..
(3) انظر في مذهب المالكية: التمهيد كما في فتح البر (3/91) ، المنتقى شرح الموطأ (1/69) ، مواهب الجليل (1/132) ، الفواكه الدواني (1/131) ، أحكام القرآن لابن العربي (2/585) .
(4) الخلاف في المسألة عند المالكية يرجع إلى الخلاف في حكم إزالة النجاسة عن البدن والثوب هل يجب إزالتها أم يسن، على قولين في مذهبهم، أحدهما أنه سنة من سنن الصلاة، سواء كان قادراً على إزالتها أو غير قادر، وسواء كان ذاكراً لها، أو غير ذاكر.
وقيل: إنه واجب مع ذكر النجاسة، والقدرة على إزالتها. انظر كفاية الطالب (1/131) ، التاج والإكليل (1/131) ، مواهب الجليل (1/47) .
(5) المجموع (2/111) ، روضة الطالبين (1/65) ، المهذب (1/27) ، حلية العلماء (1/161) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، متن أبي شجاع (ص:17) .
(6) المغني (1/100) ، شرح العمدة (1/160) ، المحرر (1/10) ، الإنصاف (1/113) ، الكافي (1/51) .(2/17)
دليل من قال: الاستنجاء سنة.
الدليل الأول:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (1) الآية.
قال الجصاص في بيان وجه الدلالة:
حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا:
أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء، وإباحة الصلاة به، وموجب الاستنجاء فرضاً مانع ما أباحته الآية، وذلك يوجب النسخ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر، وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء. ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها ثابتة الحكم، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا.
والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (2) ، إلى آخرها؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط، وذلك كناية عن قضاء الحاجة، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء، فدل ذلك على أنه غير فرض.
وأجيب:
بأن الذي يقوم إلى الصلاة لا يجب عليه الاستنجاء، فالاستنجاء واجب في حال خروج النجاسة من المخرج، لا في حال الوضوء، فلو قلنا بوجوب
_________
(1) المائدة: 6.
(2) نفس السورة، ونفس الآية.(2/18)
الاستنجاء عند كل وضوء لصح لكم الاستدلال، فالآية دليل على أن الاستنجاء ليس من أعمال الوضوء، وهذا لا نخالف فيه.
ومثله يقال في قوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (1) .
الدليل الثاني:
(159-3) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (2) .
[إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (3) .
_________
(1) المائدة: 6.
(2) المسند (2/371) .
(3) في الإسناد حصين الحبراني:
ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (3/6) .
وقال أبو زرعة: شيخ. الجرح والتعديل (3/199) .
وذكره ابن حبان في الثقات. ثقات ابن حبان (6/211) .
وقال الذهبي: لا يعرف في زمن التابعين. ميزان الإعتدال (1/555) ، لسان الميزان (7/200) .
وقال الحافظ في التقريب: مجهول.
وفي الإسناد أيضاً: أبو سعيد الحبراني:
ذكره ابن حبان في الثقات (3/271) ، وقال: له صحبة.
قال أبو زرعة: لا أعرفه. الجرح والتعديل (9/378) .
وقال العجلي: تابعي، ثقة. ثقات العجلي (2/404) .
وقل الحافظ: مجهول. لسان الميزان (7/466) .
وخطأ الحافظ في التهذيب من ادعى أنه صحابي، وقال: هما اثنان: الأنماري، والحبراني، فأبو سعيد الحبراني تابعي قطعاً.
ومع أن الحافظ ضعف الحديث في التلخيص (1/180) وقال: " حصين الحبراني: مجهول ". إلا أنه سها في الفتح (1/348) ، فقال: إسناده حسن ".
وقال النووي في المجموع (2/92) : " وأما حديث أبي هريرة فحسن، رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود، وابن ماجه بأسانيد حسنة!! ".
[تخريج الحديث] :
الحديث مداره على ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعيد، وقيل سعد الخير، عن أبي هريرة.
أخرجه أبو داود (35) والطحاوي (1/121) ، والبيهقي (1/94) من طريق عيسى بن يونس عن ثور به. إلا أن البيهقي اقتصر على آخره: " من أتى الغائط فليستتر... الخ الحديث.
أخرجه الدارمي (662) ، والطحاوي (1/122) وابن حبان (1410) من طريق عاصم، عن ثور به. ولم يذكر ابن حبان قوله في الحديث: "ومن تخلل.. ومن لاك ".
وأخرجه ابن ماجه (337،338) عن محمد بن بشار، وعبد الرحمن بن عمر (رستة) ، كلاهما، عن عبد الملك بن الصباح، عن ثور به. وأعاده في الطب (3498) عن رستة وحده.
وفي رواية أحمد، والبيهقي، والطحاوي، قالوا: أبو سعد الخير.
وفي رواية أبي داود، وإحدى روايتي الطحاوي، وإحدى روايتي ابن ماجه، قالوا: أبو سعيد.(2/19)
وجه الاستدلال:(2/20)
قال في نصب الراية: الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنه نفى الحرج في تركه، ولو كان فرضاً لكان في تركه حرج.
الثاني: أنه قال: من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومثال هذا لا يقال في المفروض، وإنما يقال هذا في المندوب إليه والمستحب.
والجواب على هذا الدليل من وجهين:
الأول: أن نفي الحرج لا يرجع إلى الاستنجاء، وإنما إلى الايتار، لأنه أقرب مذكور، وهو صفة في الاستنجاء، وسوف يأتي حكم الإيتار فيه.
الثاني: أن الحديث ضعيف، يرويه مجهول عن مثله، وسبق بيانه في التخريج.
الدليل الثالث:
قالوا: إن الفقهاء متفقون على العفو عن النجاسة اليسيرة، وهذا منها.
والجواب على هذا:
أننا وإن سلمنا أن يسير النجاسات معفو عنها في الجملة، فإننا لا نسلم أن أثر الاستنجاء من البول والغائط من اليسير المعفو عنه، وإنما يعفى عن يسير النجاسة في حالتين:
الأولى: أن يلحق في الاحتراز منها مشقة عظيمة، ولذلك حكم الهرة بأنه طاهرة لمشقة الاحتراز منها.
الثاني: أن لا يمكن إزالتها، كالأثر المتبقي في الاستجمار، فإنه لا يمكن إزالته إلا بالماء، وطهارة من به سلس بول، والمستحاضة ونحو ذلك.
وطهارة الاستنجاء لا تلحق مشقة بالاحتراز منها، ويمكن إزالتها بيسر(2/21)
وسهولة، وكان البول والغائط من الأمور الجبلية التي كانت تتكرر في عهد الصحابة، ولم ينقل في السنة أن الصحابة كانوا يتركون الاستنجاء للعفو عنها، والله أعلم.
الدليل الرابع:
قالوا: إن الاستنجاء لا يجب بالماء مع وجوده، والقدرة عليه، ومن غير ضرورة توجب تركه، فإذا لم يجب الاستنجاء بالماء، وهو آلة التطهير، فكيف يجب بالحجارة أو غيرها من المخففات، وهي ليست مطهرة (1) .
وأجيب:
كون الاستنجاء بالماء ليس واجباً بعينه، لا يعني سقوط الاستنجاء، كما هو الحال في التخيير بين خصال كفارة الأيمان، {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} (2) فلا يقال: كون الإطعام ليس واجباً يدل على أن كفارة الأيمان ليست واجبة، فالواجب في الاستنجاء أحد أمرين إما الماء أو الحجارة أو ما يقوم مقامهما.
دليل من قال بوجوب الاستنجاء
الدليل الأول:
(160-4) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا
_________
(1) تبيين الحقائق (1/77) ، أحكام القرآن للجصاص (1/359) .
(2) المائدة: 89.(2/22)
يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (1) .
[إسناده حسن] (2) .
وجه الاستدلال:
قوله: " وكان يأمرنا بثلاثة أحجار" والأصل في الأمر الوجوب.
_________
(1) المسند (2/250) .
(2) رجاله كلهم ثقات إلا ابن عجلان فإنه صدوق.
والحديث مداره على ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
والحديث قد أخرجه الشافعي (1/28) ، والحميدي (988) ، وأحمد (2/247) ، وابن ماجه (313) ، وأبو عوانة (1/200) ، والطحاوي (1/123) ، والبيهقي (1/102) ، من طريق سفيان بن عيينة.
وأخرجه أحمد كما في حديث الباب، والنسائي (41) ، وابن خزيمة (80) ، وابن حبان (1440) ، والبيهقي (1/91،122) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه أبو داود (8) ، والدرامي (674) من طريق ابن المبارك.
وأخرجه أبو عوانة مختصراً (1/200) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/121) من طريق صفوان بن عيسى.
وأخرجه ابن حبان (1431) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/121) من طريق وهيب.
والبيهقي (1/91) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، كلهم عن القعقاع بن حكيم به.
وأخرجه البيهقي (1/102) من طريق أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن محمد بن عجلان به.
وأخرجه مسلم مختصراً (256) وأبو عوانة (1/200) من طريق عمر بن عبد الوهاب الرياحي، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن سهيل بن أبي صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.(2/23)
الدليل الثاني:
(161-5) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (1) .
[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (2) .
_________
(1) المسند (6/133) .
(2) رجاله كلهم ثقات إلا مسلم بن قرط، ذكره البخاري في التاريخ الكبير وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (7/271) ، الجرح والتعديل (8/192) .
وذكره ابن حبان في الثقات (7/447) .
وقال الذهبي: لا يعرف. الميزان (8509) .
وفي التقريب: مقبول. قلت: لعله أكبر من هذا، فليس له إلا هذا الحديث عند أحمد وأبي داود والنسائي والدارمي، وقد حسن إسناده الدراقطني في السنن (1/54،55) ، وتصحيح الإسناد أدل على التوثيق من تصحيح الحديث؛ لأنه لا يلزم من تصحيح الحديث أن يكون الإسناد صحيحاً، وقد أشار شارح سنن الدراقطني أن الدارقطني صححه في العلل، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
رواه أحمد كما في حديث الباب، والنسائي في السنن الكبرى (42) ، وفي المجتبى (44) وأبو يعلى في مسنده (4376) ، والدارقطني (1/54) وابن عبد البر في التمهيد (22/311) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم.
وأخرجه أحمد (6/108) وأبو داود (40) والدارمي (670) والبيهقي (1/103) ، وابن عبد البر في التمهيد (22/310) من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، كلاهما عن أبي حازم به.
وأخرجه الطحاوي (1/121) من طريق عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني هشام بن سعد، عن أبي حازم به.
ويشهد له حديث أبي هريرة المتقدم وحديث سلمان الآتي وغيرهما.(2/24)
الدليل الثالث:
(162-6) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح
وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (1) .
وجه الدلالة:
أننا إذا كنا نهينا أن نستنجي بحجر واحد أو حجرين، فما بالك بمن ترك الاستنجاء بالكلية، فهذا أولى بالنهي، والأصل في النهي التحريم.
الدليل الرابع:
معلوم أن البول والغائط نجسان بالإجماع، وقد كلف الإنسان بإزالة النجاسة عند فعل عبادة تشترط لها الطهارة، منها حديث أسماء في غسل دم الحيض، وهو في الصحيحين، ومنها حديث أنس في بول الأعرابي، وهو متفق عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة، فنحتاج إلى دليل على جواز الصلاة،
_________
(1) مسلم (262) .(2/25)
والإنسان لم يقم بالاستنجاء من البول والغائط، ولا دليل.
الدليل الخامس:
(163-7) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: مر النبي b بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي b: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (1) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث وإن لم يكن صريحاً في وجوب الاستنجاء، لكنه صريح في وجوب إزالة النجاسة من البول، فيبقى الحديث شاملاً لكل بول، سواء كان الأثر المتبقي بعد البول، أو البول نفسه، فمن لم يوجب قطع نجاسة البول بعد الفراغ منه فعليه الدليل.
وأخرت هذا الدليل لأن دلالته ليست صريحة.
الراجح من الخلاف:
لا شك أن قول الشافعية والحنابلة في وجوب الاستنجاء أقوى من حيث الأدلة، وهو الذي يليق بدين الإسلام دين الطهارة والنظافة، وقد جعل الطهور شطر الإيمان، في الحديث الصحيح.
_________
(1) صحيح البخاري (216) ، ومسلم (292) .(2/26)
الفصل الثاني
هل الاستنجاء على الفور أم على التراخي
لما كان الاستنجاء هو من باب إزالة النجاسة، وإزالة النجاسة واجبة للصلاة صرح الشافعية بأن الاستجمار لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره حتى يريد الطهارة أو الصلاة (1) ، ويستحب تعجيله.
الدليل بأن الاستنجاء على التراخي:
قياس إزالة النجاسة على بقية شروط الصلاة، فإذا دخل وقت الصلاة وجب الاستنجاء وجوباً موسعاً بسعة الوقت، ومضيقاً بضيقه كبقية الشروط (2) .
والدليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها على الفور
(164-8) ما رواه البخاري في صحيحه: وقال أحمد بن شبيب، حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني حمزة بن عبد الله،
عن أبيه قال كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله b فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك (3) .
واستدل به أبو داود في السنن على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف، لقوله " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " فإذا نفي الرش كان
_________
(1) المجموع (1/146) ، إعانة الطالبين (1/107) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، حواشي الشرواني (1/174) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 52) ، مغني المحتاج (1/43) ، أسنى المطالب (1/50) .
(2) حاشية البجيرمي على الخطيب (1/181) .
(3) صحيح البخاري (174) .(2/27)
نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك
والدليل على استحباب تعجيل إزالة النجاسة.
حديث أنس في تطهير بول الأعرابي، فقد بادر النبي b في إهراق الماء على بوله،
(165-9) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال حدثنا همام، أخبرنا إسحاق،
عن أنس بن مالك أن النبي b رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه، ورواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (219) ، وصحيح مسلم (284) .(2/28)
الفصل الثالث
في العاجز عن الاستنجاء
إذا عجز الإنسان عن الاستنجاء، فمن يرى أن الاستنجاء سنة فهذا واضح أنه لا يجب عليه شيء، لأنه لو تركه مع القدرة لم يأثم، فكيف إذا تركه مع عدم القدرة عليه، وأما من يرى وجوب الاستنجاء مطلقاً أو يراه واجباً إذا تجاوز المخرج المعتاد فهل ينجيه غيره أم لا؟
فقيل: يسقط عنه الاستنجاء، وهو مذهب الحنفية (1) ، واختيار الشوكاني (2) .
وقيل: إن أمكنه الاستنجاء بمن يجوز له النظر من زوجة أو أمة لزمه، وإلا سقط عنه، وهذا مذهب الحنابلة (3) ، ومثله مذهب المالكية في الرجل إلا أنهم قالوا في المرأة: لا يجوز أن توكل غيرها بغسله من جارية أو غيرها لكن إن تطوع زوجها بغسله عنها فبها ونعمت، ولا يجب عليه ذلك، وإن أبى فلها أن تصلي بالنجاسة، ولا تكشف عورتها لإحد (4) .
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31) ، وفي الفتاوى النهدية (1/50) : المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج، وعجزت عن الوضوء، ولها ابنة أو أخت توضئها، ويسقط عنها الاستنجاء. كذا في فتاوى قاضي خان..
(2) السيل الجرار (1/332) .
(3) كشاف القناع (1/61) .
(4) مواهب الجليل (1/313) ، الفواكه الدواني (1/132) .(2/29)
دليل من قال بسقوط الاستنجاء عند العجز.
(166-10) ما رواه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، عن النبي b، قال: دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. ورواه مسلم (1) .
دليل من قال: يلزمه إن كان عنده أمة أو زوجة متطوعة.
لما كان كشف العورة للأمة والزوجة مباحاً، كان مباشرة الزوجة والأمة للاستنجاء مباحاً أيضاً.
والحقيفة أن الخلاف يرجع إلى حكم كشف العورة للحاجة، والذي أراه أن كشف العورة للحاجة جائز للأجنبي.
أولاً: لأن كشف العورة محرم لغيره، وما كان محرماً لغيره أباحته الحاجة وذلك كإباحة العرايا، وإباحة كشف العورة للتداوي.
فجاز بيع العرايا مع أنه وقوع في ربا الفضل، لمجرد الحاجة إلى أكل الرطب تفكهاً، وقلنا: إنه من باب التفكه لأن الإنسان يملك تمراً، لكن ليس عنده رطب، فإذا كان الشرع نظر إلى حاجة هذا الشخص في التفكه، فكونه يباح له أن يتخلص من النجاسات بواسطة شخص آخر أولى، خاصة أن بقاء النجاسة على البدن يؤذي الرجل كما يؤذي من
_________
(1) صحيح البخاري (7288) ، ومسلم (1337) .(2/30)
يجالسه للرائحة الكريهة التي تنبعث منه.
ومثله التداوي فإنه لا يعتبر ضرورة بل يعتبر حاجة بدليل أنه يجوز تركه، ولم يرشد الرسول b الأمة السوداء إليه
(167-11) فقد روى البخاري رحمه الله قال: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عمران أبي بكر، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح قال:
قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي b فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك. فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها. ورواه مسلم (1) .
فأرشدها إلى الصبر، ولو كان التداوي لازماً لأرشدها إليه.
(168-12) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، حدثنا حصين بن نمير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي b يوماً، فقال: عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون
_________
(1) صحيح البخاري (5652) ، صحيح مسلم (2576) .(2/31)
ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي b فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي b فقال: هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون... ورواه مسلم بنحوه الحديث (1) .
فقوله: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية.
ومع ذلك أجاز الفقهاء كشف العورة للتداوي، مع أنه حاجة وليس ثمت ضرورة، مع أننا في الاستنجاء لا نحتاج إلى كشف العورة، وإنما يحتاج من ينجي غيره إلى مباشرة العورة بحائل فقط دون النظر إليها. وإذا كان الميت في غسله ينجى فالحي أولى بالاستنجاء من الميت لما يلي:
أولاً: أن بقاء النجاسة على الحي يؤذيه أذى شديداً، وإيذاء الحي أشد من إيذاء الميت، ويجب إزالة كل أذى عنه متى ما كان مستطيعاً.
ثانياً: أن بقاء النجاسة على غيره يؤذي غيره ممن يخالطه، ولا بد للإنسان من المخالطة.
ثالثاً: أن هذا المريض مكلف بأداء الصلاة، ويجب لها الطهارة متى كان مقتدراً بنفسه أو بغيره، وبقاؤه على حالته تلك يوجب له من الحرج والألم النفسي ما لم يعلم قدره إلا الله، فمن أجل هذا وغيره يجب تطهيره من النجاسة وتنقيته منها متى كان ذلك بالإمكان، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (5752) ، وصحيح مسلم (220) .(2/32)
الباب الثاني
في آداب الخلاء(2/33)
[صفحة فارغة](2/34)
الفصل الأول
في آداب تتعلق بالدخول والخروج وقضاء الحاجة.(2/35)
[صفحة فارغة](2/36)
المبحث الأول
حكم التسمية عند الدخول.
ذهب الفقهاء إلى مشروعية التسمية عند دخول الخلاء (1) .
وقيل: لا تشرع التسمية مطلقاً، وهو قول في مذهب المالكية (2) .
وقيل: لا تشرع عند الدخول، وتشرع عند الخروج، وهو قول في مذهب المالكية (3) .
دليل من قال بمشروعية التسمية.
الدليل الأول: الإجماع.
وممن حكى الإجماع على مشروعية التسمية عند دخول الخلاء النووي، قال: وهذا الأدب -يعني: قول بسم الله- متفق على استحبابه، ويستوي فيه الصحراء والبنيان (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: الجوهرة النيرة (1/5) ، شرح فتح القدير (1/24) ، درر الحكام (1/50) ، البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى النهدية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/344) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/106) ، حاشية الصاوي (1/89) ، منح الجليل (1/99) ، الشرح الكبير (1/106) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (1/88) ، المنثور في القواعد الفقهية (1/298) ، أسنى المطالب (1/45،48) ، نهاية المحتاج (1/142) ، حاشية الجمل (1/91) .
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/110) ، الفروع (1/113) ، الإنصاف (1/96) ، كشاف القناع (1/58) ، مطالب أولي النهى (1/64) .
(2) الخرشي (1/143) .
(3) الخرشي (1/143) .
(4) المجموع (1/88) .(2/37)
الدليل الثاني:
(169-13) قال الحافظ ابن حجر: روى العمري، من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صهيب،
عن أنس، عن رسول الله b: إذا دخلتم الخلاء، فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث.
[ذكر التسمية في الحديث شاذ] (1) .
_________
(1) قال الحافظ: إسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية. قلت: هذه الزيادة شاذة، فقد رواه جماعة عن عبد العزيز بن صهيب، دون ذكر التسمية، منهم:
الأول: شعبة، كما في مسند أحمد (3/282) ، والبخاري (142) ، والترمذي (5) ، وابن الجارود في المنتقى (28) ، ومسند أبي يعلى (3914) ، ومسند أبي عوانة (1/216) ، وشرح السنة للبغوي (186) .
الثاني: حماد بن زيد، كما في سنن أبي داود (4) ، والترمذي (6) ، والدرامي (699) ، ومسند ابن الجعد (1427) ، والبيهقي (1/95) .
الثالث: هشيم بن بشير، كما في مصنف ابن أبي شيبة (1/11) ، وأحمد (3/99) ، ومسند ابن الجعد (1426) ، ومسلم (375) ، وأبي يعلى (3902) ، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (824) ، وابن حبان (1407) .
الرابع: إسماعيل بن علية، كما في المسند (3/101) ، ومسلم (375) ، والنسائي في السنن الكبرى (19) ، والمجتبى (19) ، وابن ماجه (298) ، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (825) .
الخامس: حماد بن سلمة، كما في مسند أبي يعلى (3914) ، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (824) ، وصحيح ابن حبان (1407) .
السادس: عبد الوارث، كما في سنن النسائي الكبرى (7664،9902) ، وعمل اليوم والليلة (74) ، وسنن البيهقي (1/95) .
السابع: زكريا بن يحيى بن عمارة، كما في مسند ابن الجعد (1427) ، وأبي يعلى (3931) .
الثامن: حماد بن واقد، كما في مسند ابن الجعد (1427) .
التاسع: سعيد بن زيد، كما في الأدب المفرد (692) .
فهذا شعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم وإسماعيل بن علية وعبد الوارث بن سعيد وزكريا بن يحيى وحماد بن واقد وسعيد بن زيد تسعة رواة، رووه عن ابن صهيب، فلم يذكروا البسملة، وخالفهم عبد العزيز بن المختار، فزادها، ولا شك أنهم أكثر عدداً، ومنهم من هو مقدم على عبد العزيز بن المختار في الحفظ لو أنفرد كشعبة، فما بالك بهذا العدد.(2/38)
الدليل الثالث:
(170-14) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن أبي معشر، هو نجيح، عن عبد الله بن أبي طلحة،
عن أنس، أن النبي b كان إذا دخل الكنيف، قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (1) .
[سنده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/11) .
(2) في إسناده أبو معشر، ضعيف سيء الحفظ، وقد تغير حفظه، وفي إسناده اختلاف، فقد ذكره ابن أبي حاتم في العلل (1/64) حدثنا أبو زرعة، عن محمد بن المنكدر، عن أبي معشر به، وقال: قال أبي في كتابه: عن أبي معشر، عن حفص، عن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، عن النبي b.
وقال صاحب منتقى الأخبار أبو البركات (1/97) : ولسعيد بن منصور في سننه كان يقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. فينظر في طريق سعيد بن منصور، هل هو طريق متابع، أو أنه لا يخرج عما ذكر، فلعله يكون طريقاً مستقلاً صحيحاً فيكون دليلاً على مشروعية هذا الذكر عند دخول الخلاء، والله أعلم.(2/39)
الدليل الثالث:
(171-15) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان، حدثنا خلاد الصفار، عن الحكم بن عبد الله النصري، عن أبي إسحق، عن أبي جحيفة،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله b قال: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: بسم الله.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بذاك القوي (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الترمذي (606) .
(2) ورواه ابن ماجه (297) حدثنا محمد بن حميد به. وفي إسناده شيخ الترمذي وابن ماجه: محمد بن حميد الرازي، جاء في ترجمته:
قال البخاري: فيه نظر. التاريخ الكبير (1/69) .
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين، عن محمد بن حميد الرازي، فقال: ثقة، ليس به بأس، رازي كيس. الجرح والتعديل (7/232) .
وقال ابن الجنيد: سمعت يحيى بن معين يقول: ابن حميد ثقة، وهذه الأحاديث التي يحدث بها ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: سألني يحيى بن معين، عن ابن حميد من قبل أن يظهر منه ما ظهر، فقال أي شيء تنقمون عليه؟ فقلت: يكون في كتابه الشيء، فنقول ليس هذا هكذا، إنما هو كذا وكذا، فيأخذ القلم فيغيره على ما نقول. قال: بئس هذه الخصلة، قدم علينا بغداد، فأخذنا منه كتاب يعقوب القمى، ففرقنا الأوراق بيننا، ومعنا أحمد بن حنبل، فسمعناه ولم نر الا خيراً. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: وتكثر أحاديث ابن حميد التي أنكرت عليه إن ذكرناها، على أن أحمد ابن حنبل قد أثنى عليه خيراً لصلابته في السنة. الكامل (6/274) .
وقال أبو القاسم ابن أخي أبي زرعة -يعنى الرازي- سألت أبا زرعة، عن محمد بن حميد، فأومأ بأصبعه إلى فمه. فقلت له: كان يكذب، فقال برأسه: نعم. قلت له: كان قد شاخ لعله، كان يعمل عليه، ويدلس عليه. فقال: لا يا بني كان يتعمد. تاريخ بغداد (2/259) .
وكان أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه، لكن لما قال له أبو زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة: قد صح عنه أنه يكذب، صار إذا ذكر عنده ابن حميد، نفض يده. المجروحين (2/304) .
واتهمه بالكذب النسائي، وقال مرة: ليس بشيء. تهذي التهذيب (9/114) .
وقال صالح بن محمد: كنا نتهم ابن حميد. سير أعلام النبلاء (11/504) .
وقال أبو علي النيسابوري: قلت لابن خزيمة: لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد، فإن أحمد بن حنبل قد أحسن الثناء عليه؟ قال: إنه لو عرفه كما عرفناه لما أثنى عليه أصلاً. المرجع السابق.
وقال أبو أحمد العسال: سمعت فضلك يقول: دخلت على ابن حميد، وهو يركب الأسانيد على المتون. المرجع السابق.
قال الذهبي: آفته هذا الفعل، وإلا فما أعتقد فيه أنه يضع متنا، وهذا معنى قولهم: فلان سرق الحديث.
قال يعقوب بن إسحاق الفقيه: سمعت صالح بن محمد الأسدي يقول: ما رأيت أحذق بالكذب من سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد. المرجع السابق.
كما أن الحديث فيه علتان أخريان:
الأولى: عنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلس مكثر، وقد تغير بآخرة.
الثانية: الحكم بن عبد الله النصري.
ذكره البخاري وابن أبي حاتم، فلم يذكرا فيه شيئاً. التاريخ الكبير (2/337) ، الجرح والتعديل (3/120) .
ولم يوثقه إلا ابن حبان، الثقات (6/186) .
وفي التقريب: مقبول، وهذه عبارة تليين من الحافظ، وليست عبارة تمتين.
فهذا إسناد ضعيف جداً؛ لأن ابن حميد، وإن كان ابن معين حسن الرأي فيه، فقد جرح جرحاً مفسراً، فقد اتهمه بالكذب أبو زرعة والنسائي وابن وارة ويعقوب بن إسحاق وغيرهم، وهؤلاء لا يتهمونه بالكذب إلا وقد ثبت عندهم ذلك، فالحديث من مسند علي لا يعتبر به، والله أعلم.
والحديث له شواهد لا تخلو من ضعف، منها:
الشاهد الأول: حديث أنس.
أخرج تمام في الفوائد (ق270/1) من طريق بشر بن معاذ العقدي، ثنا محمد بن خلف الكرماني، ثنا عاصم الأحول، عن أنس به.
ومحمد بن خلف لم أقف عليه، وقد خولف، فقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/93) رقم 29735 حدثنا ابن فضيل، حدثنا عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: كان يقال: إن من ستر ما بين عورات بني آدم، وبين أعين الجن والشياطين إذا دخل الكنيف، أن يقول أحدكم إذا وضع ثيابه: بسم الله.
وهذا إسناد حسن إلا أن بكر بن عبد الله المزني تابعي، ولم ينسبه إلى النبي b.
ورواه زيد العمي، عن أنس، فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (3/198) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق سعيد بن مسلمة، ثنا الأعمش، عن زيد العمي، عن أنس.
وهذا الإسناد له أكثر من علة:
الأولى: ضعف زيد العمي.
الثانية: رواية زيد العمي، عن أنس مرسلة.
الثالثة: سعيد بن مسلمة، مجروح، قال فيه البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، ضعيف الحديث، منكر الحديث.
العلة الرابعة: الاختلاف على زيد العمي، فرواه محمد بن الفضل، عن زيد العمي، عن أبي سعيد الخدري، فجعله من مسند أبي سعيد، وهذا شديد الضعف؛ لأن محمد بن الفضل، قال فيه أحمد: حديثه ليس بشيء، وقال مرة: كذاب.
وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذاب. انظر الإرواء (1/89-90) .
هذا في ما يتعلق بحديث أنس، فحديث فيه أربع علل، كيف أعتبر به؟ وحديث أنس في الصحيحين وليست فيه هذه الزيادة.
الشاهد الثاني: حديث ابن مسعود.
رواه أبو بكر بن النقور، في الفوائد (1/155-156) من طريق محمد بن حفص بن عمر الضرير، ثنا محمد بن معاذ، ثنا يحيى بن سعيد، ثنا الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود.
ومحمد بن حفص الضرير صدوق يهم كما في التقريب، وقد ينسب إلى جده أحياناً، فيقال: محمد بن عباد.
الشاهد الثالث: معاوية بن حيدة.
رواه أبو بكر بن النقور معلقاً، عن مكي بن إبراهيم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده.
وهذا حديث ضعيف، لم أقف على من وصله، ومن طوي من الإسناد قد يكون ضعيفاً، وقد يكون ضعيفاً جداً، وما دام الأمر كذلك لا أستطيع أن أجزم، فأعتبر به، وبالتالي لا أرى في التسمية حديثاً صحيحاً، ولا ما يعتبر به بالمجموع خاصة أن حديث الصحيحين ليس فيه ذكر البسملة، والله أعلم.(2/40)
[صفحة فارغة](2/44)
المبحث الثاني
في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث(2/45)
[صفحة فارغة](2/46)
المبحث الثاني
في استحباب التعوذ من الخبث والخبائث
يستحب أن يقول قبل الدخول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث (1) .
الدليل على المشروعية.
(172-16) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال:
سمعت أنسا يقول كان النبي b إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (1) .
الدليل الثاني:
الإجماع على مشروعية هذا الذكر، نقل الإجماع جماعة منهم النووي في المجموع (2) ، وابن قاسم في حاشيته على الروض (3) ، وغيرهم.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: وهذا الأدب مجمع على
_________
(1) شرح فتح القدير (1/24) ، درر الحكام (1/50) ، البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى النهدية (1/6) ، حاشية ابن عابدين (1/344) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، حاشية الصاوي (1/89) ، منح الجليل (1/99) ، الشرح الكبير (1/106) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 23) ، المجموع (2/88) ، (1/298) ، أسنى المطالب (1/45،48) ، نهاية المحتاج (1/142) ، حاشية الجمل (1/91) ، المغني (1/110) ، الفروع (1/113) ، الإنصاف (1/96) ، كشاف القناع (1/58) ، مطالب أولي النهى (1/64) .
(1) صحيح البخاري (142) ، مسلم (375) ، وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه.
(2) المجموع (2/88) .
(3) حاشية ابن قاسم (1/118) .(2/47)
استحبابه، ولا فرق فيه بين البنيان والصحراء (1) .
قال أحمد: ما دخلت قط المتوضأ، ولم أقلها إلا أصابني ما أكره (2) .
قال الخطابي: الخبُث بضم الباء: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم. اهـ
وقيل: الخبث: الشر والمكروه، والخبائث: الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر وأهله.
وقال ابن العربي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام، فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. اهـ
وقال الخطابي: عامة أصحاب الحديث يقولون الخبْث ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة الباء (3) .
وجاء في عون المعبود: قال ابن سيد الناس: وهذا الذي أنكره الخطابي هو الذي حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام، وحسبك به جلالة، وقال القاضي عياض: أكثر روايات الشيوخ بالإسكان. وقال القرطبي: رويناه بالضم والإسكان (4) .
وقال ابن دقيق العيد: ذكر الخطابي في أغاليط المحدثين روايتهم له بإسكان الباء. ولا ينبغي أن يعد هذا غلطا؛ لأن فُعُل - بضم الفاء والعين- يخفف عينه قياسا. فلا يتعين أن يكون المراد بالخبث -بسكون الباء- ما لا
_________
(1) شرح النووي (4/71) .
(2) المغني (1/110) .
(3) معالم السنن (1/16) مع تهذيب السنن لابن القيم.
(4) عون المعبود (1/12) .(2/48)
يناسب المعنى، بل يجوز أن يكون - وهو ساكن الباء - بمعناه، وهو مضموم الباء. نعم من حمله - وهو ساكن الباء - على ما لا يناسب، فهو غالط في الحمل على هذا المعنى، لا في اللفظ (1) .
وقال الحافظ: يجوز إسكان الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه، ككتب، ورسل (2) . اهـ
وقال ابن تيمية: قال أبو عبيد وابن الأنباري وغيرهما، قالوا: هو الشر والخبائث الشياطين، فكأنه استعاذ من الشر، ومن أهل الشر.
وقال الخطابي: إنما هو الخبُث: جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة استعاذ من ذكرانهم وإناثهم.
قال ابن تيمية: والأول أقوى لأن: فعيل: اذا كان صفة جمع على فعلاء، مثله: ظريف: ظرفاء، وكريم: وكرماء، وإنما يجمع على فُعُل إذا كان اسماً مثل، رغيف: ورغُف ونذير ونُذُر، ولأنه أكثر (3) .
_________
(1) إحكام الأحكام (1/94) .
(2) فتح الباري عند شرح حديث (142) .
(3) شرح العمدة (1/138،139) .(2/49)
[صفحة فارغة](2/50)
الفرع الأول
هل هذه الآداب خاصة في الأماكن المعدة أم في كل مكان
هل الاستعاذة من الخبث والخبائث لا تشرع إلا في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، أو تشرع في كل مكان؟ اختلف في ذلك:
فقيل: يشرع في البنيان وفي الصحراء،، لكن إن كان المكان معداً لقضاء الحاجة قال الذكر قبل دخوله المكان، وإن كان في الصحراء قال الذكر قبل أن يشمر ثوبه. قال الحافظ: وهذا مذهب الجمهور (1) .
وقيل: إن هذا الذكر خاص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة (2) .
_________
(1) انظر فتح الباري عند شرح حديث (142) ، وانظر مواهب الجليل (1/271) ، الخرشي (1/143) ، المجموع (1/88) ، وحاشيتا قليوبي وعميرة (1/47) ، حاشية البجيرمي (1/58) .
(2) ذكره الحافظ في الفتح، وصحح خلافه، انظر فتح الباري عند الكلام على حديث (142) .
وقال ابن دقيق العيد في شرحه لحديث أنس: إذا دخل: يحتمل أن يراد به: إذا أراد الدخول. كما في قوله سبحانه {فإذا قرأت القرآن} .
ويحتمل أن يراد به: ابتداء الدخول، وذكر الله تعالى مستحب في ابتداء قضاء الحاجة. فإن كان المحل الذي تقضى فيه الحاجة غير معد لذلك - كالصحراء مثلا - جاز ذكر الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان معدا لذلك -كالكنف- ففي جواز الذكر فيه خلاف بين الفقهاء. فمن كرهه، هو محتاج إلى أن يؤول قوله:"إذا دخل" بمعنى: إذا أراد؛ لأن لفظة: "دخل" أقوى في الدلالة على الكنف المبنية منها على المكان البراح؛ أو لأنه قد تبين في حديث آخر المراد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل:...الحديث ". وأما من أجاز ذكر الله تعالى في هذا المكان: فلا يحتاج إلى هذا التأويل. ويحمل: " دخل " على حقيقتها. اهـ نقلاً من إحكام الأحكام (1/94) .(2/51)
دليل من قال: الذكر خاص بالحشوش
(173-17) ما رواه أحمد، قال: حدثنا أسباط، حدثنا سعيد وعبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن القاسم الشيباني،
عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله b: إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أراد أحدكم أن يدخل، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (1) .
[رجاله ثقات، واختلف في إسناده] (2) .
_________
(1) المسند (1/373) .
(2) اختلف فيه على قتادة:
فرواه الطيالسي (679) ، وأبو داود (6) ، وابن ماجه (296) ، وابن خزيمة (69) ، والحاكم في المستدرك (1/187) من طريق شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن زيد بن أرقم. ورجاله ثقات، وقد صرح قتادة بالتحديث.
ورواه ابن أبي شيبة (1/11) حدثنا عبدة بن سليمان.
وأحمد (4/373) ثنا أسباط وعبد الوهاب بن عطاء.
وابن ماجه (296) من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى
وأخرجه الحاكم (1/187) من طريق يزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء، كلهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن قاسم الشيباني، عن زيد بن أرقم. وقاسم الشيباني، صدوق يغرب، كذا في التقريب.
وعبدة بن سليمان ويزيد بن زريع وعبد الوهاب بن عطاء كلهم ممن سمع من ابن أبي عروبة قبل اختلاطه، انظر الكواكب النيرات (ص: 190) .
والظاهر أنه لهذا الاختلاف تجنبه الشيخان، فلم يخرجاه، وإنما أخرجا حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، وسبق تخريجه.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: حديث زيد بن أرقم، عن النبي b في دخول الخلاء قد اختلفوا فيه، فأما سعيد بن أبي عروبة، فإنه يقول: عن قتادة، عن القاسم بن عوف، عن زيد، عن النبي b، وحديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أشبه عندي. اهـ
وقال الحاكم: وكلا الإسنادين على شرط الصحيح، ولم يخرجاه بهذا اللفظ.(2/52)
وجه الاستدلال:
أن الرسول b أمر بالاستعاذة، ثم علل الأمر بأن هذه الحشوش محتضرة، فظاهره أن غيرها ليس مثلها مما لم يكن معداً لقضاء الحاجة، فوجود الشياطين في هذه الحشوش أكثر من وجودهم في غيرها.
دليل من قال الذكر ليس خاصاً في البنيان
(174-18) ما رواه البخاري، رحمه الله: قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال:
سمعت أنسا يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. ورواه مسلم أيضاً (1) .
فالخلاء: هو الموضع الذي يخلو الإنسان بنفسه لقضاء الحاجة، ولا يشترط أن يكون معداً لقضاء الحاجة، كما أطلق الغائط على المكان المنخفض من الأرض، في قوله b: إذا أتيتم الغائط.
قال ابن حجر: هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك، لكونها يحضرها الشياطين، كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا جانب البيت؟ الأصح الثاني (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (142) ، مسلم (375) ، وقد سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه.
(2) فتح الباري عند الكلام على حديث (142) .(2/53)
والذي تميل إليه نفسي أن هذا الذكر لا يختص في الأماكن المعدة لقضاء الحاجة، خاصة أن حديث زيد بن أرقم قد تكلم فيه، وحديث أنس أصح منه، وهو مطلق في أماكن الخلاء.(2/54)
الفرع الثاني
متى يقال الذكر الوراد في دخول الخلاء
الخلاف في هذه المسألة ترجع إلى الخلاف في مسألة أخرى، وهي ذكر الله في الخلاء، فمن منعه طلب أن يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء، ومن أجاز ذكر الله في الخلاء لم يمنع، وسوف نأتي على تفصيل هذه المسألة في مبحث مستقل إن شاء الله، والخلاف في هذه المسألة على خمسة أقوال:
قيل: يقول هذا الذكر قبل دخول الخلاء إن كان المكان معداً لذلك، وإلا قاله في أول الشروع كتشمير ثيابه، وهذا مذهب الجهمور من الحنفية والشافعية والحنابلة.
وقيل: يقوله قبل الدخول إن كان المكان معداً لذلك، وإن كان في مكان لم يعد لذلك فإنه يقول هذا الذكر ما لم يجلس لقضاء الحاجة. وهو قول في مذهب المالكية.
وقيل: يقوله: ما لم يكشف عورته. وهو قول في مذهب المالكية.
وقيل: يقوله ما لم يخرج منه الحدث، وهو قول في مذهب المالكية.
وقيل: يقوله مطلقاً، ولو خرج منه الحدث، هو قول في مذهب المالكية أيضاً.
وسوف نأتي على ذكر أدلة المسألة، وعزو الأقوالا إلى كتب المذاهب في مسألة ذكر الله في الخلاء إن شاء الله تعالى.(2/55)
[صفحة فارغة](2/56)
الفرع الثالث
إذا دخل الخلاء بطفل فهل يعيذ الطفل بالذكر الوارد؟
قال الرملي: إذا دخل الخلاء بطفل لقضاء حاجة الطفل فهل يسن له أن يقول على وجه النيابة عن الطفل: بسم الله اللهم إني أعوذ بك، أو يقول: اللهم إنه يعوذ بك، أو لا يسن قول شيء من ذلك؟
قال الرملي: فيه نظر، ولا يبعد أن يقول ذلك ويقول إنه يعوذ بك (1) .
والذي يظهر لي أن الجواب مبني على مسألة هل التعوذ من أجل دخول هذه الأماكن المحتضرة من الشياطين، أو من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة، أو منهما جميعاً؟
فإن كان من أجل قضاء الحاجة وكشف العورة تعوذ للطفل فقط، وإن كان من أجل أن هذه الحشوش محتضرة، تكثر فيها الشياطين، فيتعوذ له وللطفل، فيقول: اللهم إنا نعوذ بك، أو يتعوذ عن نفسه، ويتعوذ للطفل بقوله: اللهم أني أعيذه بك من الخبث والخبائث، ونحو ذلك،
وتعويذ الطفل بالأذكار المشروعة وارد في الشرع.
(175-19) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي b يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ
_________
(1) نهاية المحتاج (1/142) ، ونقله الجمل في حاشيته (1/91) ، وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب (1/189) .(2/57)
بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة (1) . والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (3371) .(2/58)
المبحث الثالث
استحباب لبس الحذاء عند الدخول للخلاء
استحب بعض فقهاء الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، لبس الحذاء عند دخول الخلاء.
دليل الاستحباب:
(176-20) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبدالله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله b إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (3) .
[إسناده ضعيف مع إرساله] (4) .
قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه وهذا منها (5) .
قلت: لنا غنية في العمل بالحديث الصحيح عن الضعيف، ثم العمل بالمرسل عند الشافعية يعمل فيه بشروط لم تتوفر في هذا المرسل، منها أن يكون رجاله ثقات، وأن يعتضد، وهذا إسناده ضعيف، ولم يعتضد.
_________
(1) قال النووي في المجموع (2/109) : ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافياً، ذكره جماعة منهم أبو العباس بن سريج في كتاب الأقسام. وانظر أسنى المطالب (1/45) ، تحفة المحتاج (1/173) .
(2) انظر المغني (1/109) ، الفروع (1/114) ، كشاف القناع (1/59) .
(3) سنن البيهقي (1/96) .
(4) سبق تخريجه في المسألة التي قبل هذه.
(5) المجموع (2/110) .(2/59)
الدليل الثاني:
من النظر، قالوا: إن لبس الحذاء يقي الرجل من النجاسة، فإذا دخل حافياً قد تتنجس رجلاه، وقد يكون المحل غير طاهر، فقد يدخله الصغير الذي لا يتوقى عن نشر النجاسة في الأرض، فلبس الحذاء فيه حماية للقدم من التلوث بالنجاسة، وقد يصيب الإنسان شيء من الوسواس، هل تنجست قدماه أم لا؟ وقطع وسواس الشيطان مطلوب.
قلت: هذا التعليل ظاهر، لكن ما دام أن المسألة لم يثبت فيها نص، فلو عبر بكلمة: ينبغي أو الأولى أو أي عبارة أخرى لا تكون مشتملة على ألفاظ شرعية من الاستحباب أو الكراهة ونحوها لكن أفضل، والله أعلم.(2/60)
المبحث الرابع
في استحباب تقديم الرجل اليسرى
عند الدخول والعكس عند الخروج
استحب الفقهاء تقديم الرجل اليسرى عند دخول الخلاء، وتقديم الرجل اليمنى عند الخروج (1) .
دليل المشروعية:
أولاً: الإجماع.
قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (2) . ونقل الإجماع أيضاً ابن قاسم في حاشتيه (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية درر الحكام (1/50) ، البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى الهندية (1/50) ، حاشية ابن عابدين (1/345) .
وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/271) ، التاج والإكليل (1/278) ، حاشية الدسوقي (1/108) ، مختصر خليل (ص:15) ، التمهيد (18/181) ، الخرشي (1/145) .
وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/26) ، التنبيه (ص: 17) ، روضة الطالبين (1/66) ، المجموع (2/91) ، أسنى المطالب (1/45) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/43) ، تحفة المحتاج (1/157،158) .
وانظر في مذهب الحنابلة المغني (1/110) ، أخصر المختصرات (ص:90) ، الكافي في فقه أحمد (1/49) ، المبدع (1/80) ، كشاف القناع (1/59) ، الفروع (1/83) ، المحرر (1/8) ، عمدة الفقه (ص:6) .
(2) المجموع (2/91) .
(3) الروض (1/122) .(2/61)
الدليل الثاني:
جاءت نصوص كثيرة أن ما كان من باب التكريم قدم فيه اليمين، وما كان ضده قدم فيه اليسار، ومن هذه النصوص.
(177-21) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة أنها قالت:
كانت يد رسول الله B اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى.
قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه
[الراجح في الحديث أن إسناده منقطع] (1) .
_________
(1) دراسة الإسناد:
عبد الوهاب بن عطاء، وإن كان في التقريب: صدوق ربما وهم، إلا أنه من أصحاب سعيد المكثرين عنه، وممن سمع من سعيد قبل اختلاطه.
قال الأثرم عن أحمد: كان عالماً بعطاء.
وأخرج مسلم حديث سعيد من طريق عبد الوهاب بن عطاء. فهذا دليل على أنه ثقة فيه.
وقال ابن عدي: أرواهم عنه ـ أي عن سعيد عبد الأعلى السامي، والبعض منها عن شعيب، وعبدة بن سليمان، وعبد الوهاب الخفاف.
وقال الذهبي: روى الخفاف كل مصنفات سعيد بن أبي عروبة. الميزان (2/153) .
وباقي الإسناد رجاله كلهم ثقات.
تخريج الحديث:
الحديث رواه أيضاً أبو داود (34) حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/113) من طريق عبد الله بن محمد بن الحسن بن الشرقي، ثنا محمد بن بزيع به. ورواه البيهقي في شعب الإيمان (5/77) رقم 5840، من طريق يحيى بن جعفر، أنا عبد الوهاب به.
بيان الاختلاف على سعيد بن أبي عروبة.
رواه عبد الوهاب،، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود، عن عائشة على الاتصال كما سبق.
وخالف محمد بن جعفر وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ثلاثتهم خالفوا عبدالوهاب، فرووه عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة. وإبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة. وإليك تخريج رواياتهم
فقد رواه أحمد (6/265) ثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن عائشة، قالت: كانت يد رسول الله b اليسرى لخلائه، وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه.
ورواه إسحاق بن راهوية (1639) أخبرنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة به.
وأخرجه أبو داود (33) حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثني عيسى بن يونس عن ابن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة به. ومن طريق أبي داود أخرجه الحاكم في المستدرك (1/113) .
وتابعهم مغيرة بن مقسم، فقد رواه أحمد (6/170) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: كان رسول الله b يفرغ يمينه لمطعمه ولحاجته، ويفرغ شماله للاستنجاء ولما هناك.
وهذا إسناد حسن، وعنعنة مغيرة زالت بالمتابعة، فقد تابعه ثلاثة حفاظ كما سبق.
وعيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان كلاهما رويا عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط.
بل قال يحيى بن معين: أثبت الناس سماعاً منه ـ يعني من سعيد بن أبي عروبة ـ عبدة بن سليمان. علوم الحديث (ص: 353) .
واختلف في سماع محمد بن جعفر هل سمع من سعيد قبل اختلاطه أم بعد؟
فذهب عبد الرحمن بن مهدي كما في شرح علل الترمذي أن محمد بن جعفر سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط.
وخالفه عمرو بن الفلاس، فقال: سمعت غندراً يقول: ما أتيت شعبة حتى فرغت من سعيد، يعني أنه سمع منه قديماً، وأياً كان فقد تابعه عيسى بن يونس، وعبدة بن سليمان، ومغيرة بن مقسم.
ورواه ابن أبي عدي، وخالف فيه جميع من سبق. فروه أحمد (6/265) قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن رجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن عائشة.
فزاد ابن أبي عدي رجلاً بين سعيد بن أبي عروبة، وبين أبي معشر. وقد قال أحمد: ابن أبي عدي جاء إلى ابن أبي عروبة بآخرة. يعني: وهو مختلط. نقله محقق كتاب الكواكب النيرات (ص: 211) من شرح علل الترمذي (ل 327) (ل 328) .
فالراجح أن الحديث من رواية إبراهيم، عن عائشة، ولم يسمع منها، وذكر الأسود شاذ في الحديث. والله أعلم.(2/62)
(178-22) ومنها: ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن المسيب،
عن حفصة زوج النبي b، قالت: كان رسول الله b إذا أخذ مضجعه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وكانت يمينه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك، وكان يصوم الاثنين والخميس (1) .
[إسناده مضطرب] (2) .
_________
(1) المسند (6/287) .
(2) ورواه عبد بن حميد، كما في المنتخب (1545) حدثني ابن أبي شيبة، ثنا حسين بن علي، عن زائدة به.
وهذا إسناد منقطع، لأن المسيب بن رافع لم يسمع من حفصة.
وقد اختلف على عاصم بن بهدلة، فرواه حسين بن علي، عن عاصم بن بهدلة، عن المسيب، عن حفصة كما تقدم على الانقطاع.
ورواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدله، عن سواء الخزاعي، عن حفصة كما في مسند أحمد (6/287) قال: ثنا أبو كامل، قال: ثنا حماد يعنى بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن سواء الخزاعي، عن حفصة زوج النبي b أن النبي b كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الإثنين ويوم الخميس، ويوم الإثنين من الجمعة الأخرى.
ورواه أبو أيوب الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، عن حفصة، فجعل بين المسيب، وحفصة الحارثة بن وهب الخزاعي.
رواه أبو داود (32) ، قال: حدثنا محمد بن آدم بن سليمان المصيصي، حدثنا ابن أبي زائدة، قال حدثني أبو أيوب يعني الإفريقي، عن عاصم، عن المسيب بن رافع ومعبد، عن حارثة بن وهب الخزاعي،
قال: حدثتني حفصة زوج النبي b أن النبي b كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك.
وأخرجه أبو يعلى (7042) وابن حبان (5227) من طريق عبد الله بن عامر بن زرارة الكوفي، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبي أيوب به.
وأخرجه أبو يعلى أيضاً (7060) من طريق معلى بن منصور، حدثنا ابن أبي زائدة به. وأخرجه الطبراني في الكبير (23/203) رقم 346 من طريق سهل بن عثمان، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به. والحديث ضعيف، لاضطراب إسناده. والله أعلم.(2/64)
(179-23) ومنها: ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه قال: قال رسول الله b: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء. رواه مسلم، ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (1) .
_________
(1) مسلم (267) ، ولفظ البخاري (154) : " إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه، وسوف يأتي مزيد بحث في مسألة الاستنجاء باليمين إن شاء الله تعالى.(2/65)
فالحديث ظاهر في إكرام اليمين، واختصاص اليسرى بالأذى.
(180-24) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله b قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، ليكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع (1) .
وهذا الحديث أيضاً ظاهر في إكرام اليمين.
ومنها حديث تقديم الرجل اليمنى في دخول المسجد، واليسرى في خروجه،
(181-25) أخرجه الحاكم، قال: حدثنا أبو حفص عمر بن جعفر المفيد المصري، ثنا أبو خليفة القاضي، ثنا أبو الوليد الطيالسي، ثنا شداد أبو طلحة، قال: سمعت معاوية بن قرة يحدث عن أنس بن مالك،
أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى.
[إسناده صحيح] (2) .
قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب تقديم اليمنى في كل ما هو من باب التكريم كالوضوء، والغسل ولبس الثوب، والنعل
_________
(1) صحيح البخاري (5856) ، ومسلم (2097) إلا قوله: لتكن اليمنى أولهما تنزع.. الخ.
(2) رجاله ثقات، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بشداد بن سعيد أبي طلحة الراسبي ولم يخرجاه، وأقره الذهبي، وصححه النووي في المجموع (2/419) .(2/66)
والخف، والسروايل، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس والسلام من الصلاة، والخروج من الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، والأخذ والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه.
ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والاستنجاء، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف والسروايل والثوب والنعل، وفعل المستقذارت، وأشباه ذلك.
وقال ابن تيمية: قد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك.
وتقدم اليسرى في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد، والذي يختص بإحداهما إن كان بالكرامة كان باليمين، كالأكل والشرب والمصافحة، ومناولة الكتب، وتناولها، ونحو ذلك.
وإن كان ضد ذلك كان باليسرى، كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك. اهـ
ولو قيل: إن الأمور ثلاثة:
ما كان ظاهراً أنه من باب التكريم، فتقدم فيه اليمنى.
وما كان ظاهراً أنه من باب الأذى، فتقدم فيه اليسرى.
وما لا يمكن إلحاقه في أحد منهما، فالأصل فيه اليمين،
(182-26) لما رواه البخاري، قال: حدثنا حفص بن عمر، قال:(2/67)
حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي، عن مسروق،
عن عائشة قالت: كان النبي b يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، في شأنه كله. ورواه مسلم بنحوه (1) .
_________
(1) صحيح البخاري (168) ، ومسلم (268) .
والحديث مداره على الأشعث بن سليم، سمعت أبي يحدث عن مسروق، عن عائشة مرفوعاً.
وقد رواه جماعة عن الأشعث بن سليم على اختلاف في ألفاظهم، من تقديم وتأخير، وزيادة ونقص.
فأحدها لفظ البخاري الذي قدمناه في الباب: " كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ".
اللفظ الثاني:
ما رواه أحمد (6/94) من طريق بهز.
والبخاري (426) من طريق سليمان بن حرب، كلاهما عن شعبة به، بلفظ:
" كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره، وترجله، وتنعله ".
وهو عند مسلم (67-268) دون قوله: " ما استطاع " مع تقديم وتأخير.
اللفظ الثالث:
بزيادة: الواو في قوله: " وفي شأنه كله " بلفظ: " كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله ".
قال الحافظ في الفتح (168) : " للأثر من الرواة بغير واو، وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو، وهي التي اعتمدها صاحب العمدة " اهـ.
وهل بين هذه الألفاظ من اختلاف؟
فالجواب: أما على إثبات الواو، فإن الحديث ظاهره، أن التيامن سنة في جميع الأشياء، لا يختص بشيء دون شيء، ولفظ: " كل " صريح في العموم، خاصة وأنه جاء توكيداً بكلمة: " شأنه " المفردة المضافة الدالة على العموم بذاته، فكيف بعد توكيده بكلمة: "كل " إلا أن هذا العموم قد خص منه ما جاء في حديث عائشة أيضاً: " كان يد رسول - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره ولحاجته، وكانت اليسرى لخلائه، وما كان من أذى " ـ قلت: سنده صحيح ـ فهذا نص أن الأذى والخلاء له اليسرى.
وأما على الرواية بدون واو فليس فيها هذا العموم، قال صاحب الفتح (168) : وأما على إسقاطها فقوله: " في شأنه كله " متعلق بـ يعجبه، لا بالتيمن. أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله.. الخ أي لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً ولا في فراغه، ولا شغله، ونحو ذلك".
وجاء في بعض ألفاظ الحديث من دون قوله: " في شأنه كله " فقد رواه أحمد (6/147) عن محمد بن جعفر، ورواه أيضاً (6/202) عن يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه البخاري (5926) عن أبي الوليد، ومن طريق عبدالله بن المبارك (5380) كلهم عن شعبة به بدون قوله " في شأنه كله ".
ورواه مسلم (268) والترمذي (608) من طريق أبي الأحوص عن أشعث به. بدون ذكرها، والراجح والله أعلم أنها محفوظة، لأن محمد بن جعفر، وعبدان قد صرحا في آخر الحديث عن شعبة بأن أشعث كان قد قال بواسط: " في شأنه كله " فبين شعبة أن كلمة " في شأنه كله " ثبتت في السماع القديم، والسماع القديم مقدم على غيره.(2/68)
لكان هذا القول أقرب إلى الصواب، وأوفق بالدليل، والله أعلم.(2/69)
[صفحة فارغة](2/70)
المبحث الخامس
في الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة
استحب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، الاعتماد على الرجل اليسرى حال قضاء الحاجة.
وقيل: لا يستحب، اختاره بعض المحققين (5) ، وهو الراجح.
دليل من قال بالاستحباب.
الدليل الأول: من الأثر.
(183-27) ما رواه البيهقي من طريق زمعة (6) ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رجل من بني مدلج، عن أبيه، قال:
قدم علينا سراقة بن جعشم فقال: علمنا رسول الله b إذا دخل
_________
(1) تبيين الحقائق (1/77) ، نور الإيضاح (ص: 16) ، البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى النهدية (1/50) ، حاشية ابن عابدين (1/345) .
(2) التاج والإكليل (1/387) ، الخرشي (1/141) ، حاشية الدسوقي (1/105) ، الشرح الصغير (1/87) .
(3) المجموع (2/104) ، أسنى المطالب (1/45) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/43،44) ، حاشية البجيرمي (1/52) ، شرح زبد بن رسلان (ص:54) ، فتح الوهاب (1/20) ، روضة الطالبين (1/65) .
(4) الفروع (1/114) ، كشاف القناع (1/60) ، مطالب أولي النهى (1/65) ، أخصر المختصرات (1/90) ، زاد المستقنع (ص: 23) ، المبدع (1/81) ، شرح العمدة (1/141) ، المحرر (1/9) ، عمدة الفقه (ص: 6) .
(5) منهم الشوكاني كما في السيل الجرار (1/64) .
(6) في المطبوع ربيعة، وهو خطأ.(2/71)
أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى، وينصب اليمنى (1) .
[إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل] (2) .
الدليل الثاني: من النظر.
قالوا: الاعتماد على اليسرى أسهل في خروج الحدث، وحكمة ذلك: أن المعدة في الشق الأيمن، فإذا اعتمد على ذلك صار المحل كالمزلق لخروج الحدث، فهي شبه الإناء الملآن الذي أقعد على جنبه للتفريغ منه، بخلاف ما إذا أقعد معتدلاً.
ويجاب: بأن هذا الكلام غير دقيق، والمرجع فيه إلى الطب، وليس لنظر الفقهاء، والغائط لا يخرج من المعدة مباشرة إلى الخارج حتى يقال: إن المعدة في الشق الأيمن، ويكون الاعتماد على اليسرى من أجل إفراغها من الفضلات، والله أعلم.
الدليل الثالث:
أن في الاعتماد على اليسرى إكراماً لليمين.
_________
(1) سنن البيهقي (1/96) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة وابن منيع في مسنديهما كما في المطالب العالية (47) ، والطبراني في الكبير (7/160) رقم 6605 من طريق زمعة بن صالح به، والحديث ضعيف، فيه ثلاث علل:
الأولى: ضعف زمعة بن صالح.
الثانية: جهالة محمد بن عبد الرحمن.
الثالثة: فيه رجلان مبهمان، المدلجي وأبوه.
قال الحازمي: لا نعلم في الباب غيره، وفي إسناده من لا يعرف. تلخيص الحبير (1/89) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/206) : وفيه رجل لم يسم.(2/72)
ويجاب عنه: لو كان ذلك من باب إكرام اليمين لجاء الأمر به، أو فعله من الرسول b فلما لم ينقل الأمر به، ولا فعله، وكان يتكرر من الرسول b ومن صحابته علم أنه غير مشروع، والله أعلم.
دليل من قال: لا يشرع.
قالوا: لم يرد في هذه المسألة شيء يثبت به حكم الندب، وما ورد في ذلك فليس بصحيح، ولا حسن، ولا ضعيف خفيف الضعف، وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به حجة لا يجوز.
الراجح عدم المشروعية، لأن الدليل الوارد فيه لا يثبت، والأصل عدم المشروعية حتى يثبت فيه دليل صحيح.(2/73)
[صفحة فارغة](2/74)
المبحث السادس
في الكلام أثناء قضاء الحاجة(2/75)
[صفحة فارغة](2/76)
الفرع الأول
في ذكر الله تعالى داخل الخلاء
اختلف العلماء في ذكر الله داخل الخلاء، كأن يجيب المؤذن، أو يحمد الله إذا عطس، ومنه دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله، كورقة كتب فيها اسم من أسماء الله، وكالدراهم المنقوش فيها ذكر الله، ونحو ذلك على قولين:
فقيل: يكره أن يذكر الله داخل الخلاء، وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، ومذهب الشافعية (3) والحنابلة (4) .
وهذا المذهب منسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما (5) .
وقيل: لا مانع من ذكر الله داخل الكنيف، فإذا عطس فليحمد الله ولو كان على حاجته، وهو قول مالك (6) ، ورجحه القرطبي
_________
(1) مراقي الفلاح (ص: 23) ، البحر الرائق (1/256) ، حاشية ابن عابدين (1/109) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 33) .
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/90،91) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، الخرشي (1/145) .
(3) المجموع (2/103،104) ، المهذب (1/26) ، روضة الطالبين (1/66) .
(4) المبدع (1/79) ، الفروع (1/83) ، شرح العمدة (1/140) ، المحرر (1/9) ، عمدة الفقه (ص: 6) ، الكافي (1/51) .
(5) الأوسط لابن المنذر (1/339) .
(6) التاج والإكليل (1/392) ، الفواكه الدواني (2/348،349) .
وفي مواهب الجليل (1/275) : روى عن مالك في العتبية: لا بأس أن يستنجي بالخاتم فيه ذكر الله. اهـ وأنكرها بعض أصحاب الإمام مالك، ظناً منهم أن ذلك يستلزم أن يتلطخ اسم الله الكريم بالنجاسة، ولا يلزم من الاستنجاء باليد تلطخ اسم الله الكريم بالنجاسات.
وجاء في البيان والتحصيل (1/71) : " وسألت مالكاً عن لبس الخاتم فيه ذكر الله، أيلبس في الشمال، وهو يستنجي به؟ قال مالك: أرجو أن يكون خفيفاً.
قال محمد بن رشد: قوله: أرجو أن يكون خفيفاً يدل على أنه عنده مكروه، وأن نزعه أحسن. الخ كلامه.
وقال في نفس الكتاب (1/127) : وسئل أينزع الخاتم الذي فيه ذكر الله منقوش عند الاستنجاء؟ فقال: إن نزعه فحسن، وما سمعت أحداً نزع خاتمه عند الاستنجاء. قيل له: فإن استنجى، وهو في يده فلا بأس به؟ قال: نعم. اهـ
وذكر الحافظ في الفتح أن مالك يرى جواز ذكر الله تعالى في الخلاء.(2/77)
من المالكية (1) .
وهذا المذهب منسوب إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، والنخعي، وابن سيرين والشعبي (2) .
ونقل الإجماع على جواز ذكر الله في القلب حال قضاء الحاجة (3) .
دليل من قال يكره ذكر الله تعالى حال قضاء الحاجة.
الدليل الأول:
أن الرسول b كان يتعوذ قبل دخول الخلاء، ولو كان الأمر غير مكروه لكان التعوذ مصاحباً للفعل عند الشروع في قضاء الحاجة، فلما قدمه على سببه علم كراهيته له فيه.
(184-28) فقد روى البخاري في الأدب المفرد، قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، قال:
_________
(1) تفسير القرطبي (4/311) .
(2) انظر المرجع السابق، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي (4/65) ، وفتح الباري (ح142) .
(3) حاشية العدوي على الخرشي (1/145) .(2/78)
حدثني أنس، قال: كان النبي b إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعو بك من الخبث والخبائث (1) .
[انفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل سعيد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، والحديث في الصحيحين، من طرق عن عبد العزيز بن صهيب، بلفظ: إذا دخل الخلاء، ولم يقل: إذا أراد أن يدخل] (2) .
_________
(1) الأدب المفرد (692) .
(2) وسعيد بن زيد لا تحتمل مخالفته، وقد رواه البخاري (142) من طريق شعبة.
ورواه مسلم (375) من طريق حماد بن زيد وهشيم وإسماعيل بن علية، أربعتهم عن عبد العزيز بن صهيب به، بلفظ: كان إذا دخل الخلاء وقيل: الكنيف. وسعيد بن زيد لم يتابع على قوله: إذا أراد أن يدخل، وليس بالقوي حتى يقبل تفرده، فقد جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: ليس بقوي. قيل: يحتج بحديثه؟ قال: يكتب حديثه الجرح والتعديل (4/21) .
وقال الدوري: عن يحيى بن معين: ثقة. تاريخ ابن معين (2/199) .
وقال النسائي: ليس بقوي. الضعفاء والمتروكين (275) .
وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: كان يحيى بن سعيد يقول: ليس بشيء. سؤالات الآجري (355) .
وضعفه الدارقطني. تهذيب التهذيب (4/29) .
وقال الجوزجاني: سمعتهم يضعفون أحاديثه فليس بحجة بحال. أحوال الرجال (183) .
وقال ابن حبان: كان صدوقاً حافظاً، ممن كان يخطئ في الأخبار، ويهم في الآثار حتى لا يحتج به إذا انفرد. المجروحين (1/320) .
وقال البزار: لين. وقال في موضع آخر: لم يكن له حفظ.
وقال البخاري: قال مسلم: حدثنا سعيد بن زيد أبو الحسن صدوق حافظ. التاريخ الكبير (3/472) .
وقال سليمان بن حرب: حدثنا سعيد بن زيد، وكان ثقة. الجرح والتعديل (4/21) .
وقال العجلي: ثقة. معرفة الثقات (1/399) .
وفي التقريب: صدوق له أوهام.(2/79)
وقد يقال: إن هذه الرواية ليست معارضة لرواية الصحيحين، بل هي مبينة لها؛ فتكون معنى: إذا دخل الخلاء: أي إذا أراد أن يدخل؛ لأن إذا تأتي قبلية، وبعدية، ومصاحبة بحسب القرائن (1) .
الدليل الثاني:
(185-29) ما رواه مسلم، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع،
عن ابن عمر، أن رجلا مرَّ، ورسول الله b يبول، فسلم، فلم يرد عليه (2) .
_________
(1) فقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} : أي إذا أردت أن تقرأ.
ومثله: إذا دخل الخلاء: أي إذا أراد أن يدخل.
وأما البعدية: فقوله في الحديث: إذا كبر الإمام فكبروا.
وأما المصاحبة، فقوله في الحديث: إذا أمن الإمام فأمنوا. أي معه، كما تفيده رواية: وإذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين.
ومثله قوله تعالى: {إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} ، والله أعلم.
(2) صحيح مسلم (375) .
والحديث مداره على نافع، عن ابن عمر، يرويه عن نافع ثقتان:
الأول: الضحاك بن عثمان، كما في رواية مسلم المذكورة في الباب، أخرجها ابن أبي شيبة (5/247) رقم 25736، وأبو داود (16) ، والترمذي (90،2720) ، والنسائي (37) ، وابن ماجه (353) ، وأبو عوانة (1/215) ، وأبو نعيم في مستخرجه على مسلم (815) ، والطحاوي (1/85) ، وبن الجارود في المنتقى (38) ، وبن خزيمة (73) ، والبيهقي (1/138) .
الثاني: يزيد بن الهاد، عن نافع به، وزاد ذكر التيمم لرد السلام، فقد أخرجه أبو داود (331) حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا عبد الله بن يحيى البرلسي، حدثنا حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، أن نافعاً حدثه عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه رسول الله b حتى أقبل على الحائط، فوضع يده على الحائط، ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد رسول الله b على الرجل السلام.
وأخرجه البيهقي (1/206) من طريق أبي داود. وجعفر بن مسافر في التقريب: صدوق ربما وهم، لكن قد تابعه ثقة، فقد أخرجه الدراقطني (1/206) من طريق الحسن بن عبد العزيز الجردي، أخبرنا عبد الله بن يحيى المعافري، نا حيوة بن شريح به. وهذا إسناد حسن.
والتيمم لرد السلام له شاهد من حديث أبي الجهيم الأنصاري في الصحيحين، فقد روى البخاري رحمه الله (337) ، قال: حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال سمعت عميرا مولى ابن عباس قال أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي b حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم الأنصاري: أقبل النبي b من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي b حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وأخرجه مسلم (369) .
كما أن له شاهداً من حديث المهاجر بن قنفذ وغيره وسنأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى.(2/80)
وأجيب:
بأنه يحتمل أنه لم يرد عليه؛ لأنه على غير طهر، كما جاء في بعض الأحاديث.
(186-30) فقد روى أبو داود، قال: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حضين بن المنذر أبي ساسان،
عن المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي b وهو يبول، فسلم عليه، فلم(2/81)
يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه، فقال: إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر، أو قال: على طهارة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (17) .
(2) اختلف في لفظه: هل قال: أتيت النبي b وهو يبول، أو قال: وهو يتوضأ، وعلى اللفظ الثاني ليس فيه موضع شاهد لمسألتنا.
والحديث رواه شعبة، كما عند الحاكم (592) .
وهشام الدستوائي كما في سنن الدارمي (2641) ، والأوسط لابن المنذر (1/133) ، والطبراني في الكبير (20/329) رقم 780.
ومعاذ بن معاذ، كما في سنن النسائي الكبرى (37) ، والصغرى (38) . ثلاثتهم عن قتادة به، بلفظ: أنه سلم على النبي b وهو يبول، وأنه تيمم لرد السلام.
ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، واختلف على سعيد:
فرواه روح بن عبادة كما في مسند أحمد (5/80) ، وسنن ابن ماجه (350) .
وعبد الوهاب بن عطاء، كما في شرح معاني الآثار (1/85) .
ويزيد بن زريع، كما في معجم الطبراني في الكبير (20/329) رقم 781، ثلاثتهم رووه عن سعيد، بلفظ: أنه سلم على رسول الله b، وهو يتوضأ.
وخالفهم عبد الأعلى، كما في سنن أبي داود (17) ، وصحيح ابن حبان (806) فرواه عن سعيد بن أبي عروبة به، بلفظ شعبة وهشام الدستوائي ومعاذ بن معاذ.
وأرى أن لفظ شعبة ومن معه أولى بالحفظ من لفظ سعيد؛ لأن سعيداً واحد، وقد اختلف عليه، وهؤلاء جماعة، وقد جاء الحديث من غير طريق قتادة، وفيه ذكر البول، فقد رواه ابن أبي شيبة (5/247) رقم 25735 حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن، عن المهاجر، أنه سلم على النبي b وهو يبول، فلم يرد عليه حتى فرغ.
وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات إلا زيد بن الحباب فإنه صدوق، إلا أن الحسن قد دلسه عن المهاجر، ولم يسمعه منه إنما سمعه من حضين كما في طريق قتادة.
ورواه أحمد (5/81) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/85) من طريق حميد بن أبي حميد الطويل، عن الحسن، عن المهاجر، بلفظ: أن النبي b كان يبول، أو قد بال، فسلمت عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد علي. اهـ
والشك هنا لا يقضي على يقين طريق قتادة، فالذي يظهر لي أن السلام على النبي b وهو ييول، وقد ذكره ثلاثة حفاظ من أصحاب قتادة: هم شعبة وهشام، ومعاذ بن معاذ، والله أعلم.(2/82)
فالحديث ظاهر بأنه لم يترك السلام بناء على أنه في الخلاء، وأن ذكر الله مكروه في هذا المكان، وإنما ترك السلام؛ لأنه ليس على طهارة؛ لأنه لو سلم بعد الفراغ من البول لم يرد عليه أيضاً؛ لأنه يصدق عليه أنه ليس على طهارة.
الدليل الثالث:
(187-31) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عيسى بن يونس، عن هاشم بن البريد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
عن جابر بن عبد الله، أن رجلا مر على النبي b، وهو يبول، فسلم عليه، فقال له رسول الله b: إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي؛ فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (352) .
(2) في إسناده سويد بن سعيد، قال الحافظ: وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه، فقد ضعفه الأئمة، واعتذر مسلم عن تخريج حديثه، بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره، وقد كان مسلم لقيه، وسمع منه قبل أن يعمى، ويتلقن ما ليس من حديثه، وإنما كثرت المناكير في روايته بعد عماه. النكت (1/411) .
وقال ابن حجر أيضاً: فليس ما ينفرد به على هذا صحيحاً. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، وأفحش ابن معين فيه القول. اهـ
وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه.
قال ابن حبان: كان عبد الله من سادات المسلمين من فقهاء أهل البيت وقرائهم إلا أنه كان رديء الحفظ، كان يحدث على التوهم فيجيء بالخبر على غير سننه فلما كثر ذلك في أخباره وجب مجانبتها والاحتجاج بضدها. المجروحين (2/3) .
قال أبو معمر القطيعي: كان ابن عيينة لا يحمد حفظ ابن عقيل.
قال سفيان كان ابن عقيل في حفظه شيء فكرهت أن ألقيه. كما في رواية الحميدي عنه الجرح والتعديل (5/154)
وقال يعقوب: ابن عقيل صدوق، وفي حديثه ضعف شديد جداً وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم، فذكره فيهم.
وقال ابن المديني عن ابن عيينة رأيته يحدث نفسه فحملته على أنه قد تغير. تهذيب التهذيب (6/13) . تهذيب الكمال (16/78) .
سئل يحيى بن معين عن عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال: ليس بذاك. كما في رواية أبي بكر ابن أبى خيثمة.
قال مسلم بن الحجاج: قلت ليحيى بن معين: عبد الله بن محمد بن عقيل أحب إليك أو عاصم ابن عبيد الله؟ فقال: ما أحب واحداً منهما في الحديث.
وقال أيضاً: عبدالله بن محمد بن عقيل ضعيف في كل أمره. كما في رواية الدوري عنه. الجرح والتعديل (5/153) . تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبى عن عبد الله بن محمد بن عقيل؟ فقال: لين الحديث ليس بالقوي، ولا ممن يحتج بحديثه يكتب حديثه وهو أحب الى من تمام بن نجيح. الجرح والتعديل (5/153) .
وقال ابن المديني: كان ضعيفاً. كما في رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة. تهذيب الكمال (16/78) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال: أحمد منكر الحديث. كما في رواية حنبل عنه. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق.
وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. المرجع السابق.
وقال الخطيب: كان سيء الحفظ. المرجع السابق
وقال عبد الرحمن بن الحكم بن بشير بن سليمان: خير فاضل، ووصفه بالعبادة، وقال: إن كانوا يقولون فيه شيء ففي حفظه. الضعفاء الكبير ـ العقيلي (2/298) .
وقال أبو أحمد الحاكم: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يحتجان بحديثه، وليس بذاك المتين المعتمد. تهذيب الكمال (16/78) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد ابن إسماعيل يقول: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل، قال: محمد ابن إسماعيل: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي (1/9) .
وقال ابن عدي: روى عنه جماعة من المعروفين الثقات، وهو خير من ابن سمعان ويكتب حديثه. الكامل (4/127) ، تهذيب التهذيب (6/13) .
وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه. قال الحافظ: وهذا إفراط. تهذيب التهذيب (6/13)
ولا أعلم أين ذكر ذلك ابن عبد البر، والموجود في التمهيد (20/125) : " ليس بالحافظ ". فعلى هذا الأكثر على تضعيفه، فابن عيينة، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، وابن حبان، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي، وابن المديني، والنسائي، والخطيب، كل هؤلاء تكلموا في حفظ ابن عقيل، ومن رفعه لم يرفعه إلى درجة الضبط، بل قال: مقارب الحديث، والله أعلم.(2/83)
الدليل الرابع:
(188-32) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا نصر بن علي، عن أبي علي الحنفي، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس قال: كان النبي b إذا دخل الخلاء وضع خاتمه (1) .
[الحديث معلول] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (19) .
(2) الحديث أعله جماعة بأن من رواية همام عن ابن جريج، ولم يخرج الشيخان رواية همام عن ابن جريج، وأنه وهم في لفظه، وأن ابن جريج لم يسمعه من الزهري، وإنما سمعه من زياد بن سعد، عن الزهري، بلفظ آخر:
قال أبو داود: هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس أن النبي b اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه. والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام.
ونقل البيهقي كلام أبي داود، وأقره، وقال: هذا هو المشهور عن ابن جريج، دون حديث همام. سنن البيهقي (1/95) .
وقال النسائي: هذا حديث غير محفوظ. تلخيص الحبير (1/107،108) .
وحكم الدارقطني بشذوذه. المرجع السابق، وانظر الجامع الصغير للسيوطي (1/132) .
وضعفه النووي، وقال: ضعفه أبو داود والنسائي والبيهقي والجمهور. وقول الترمذي: إنه حسن مردود عليه. الخلاصة (329) .
ومثل به العراقي في ألفتيه وشرحها للحديث المنكر. الجامع الصغير للسيوطي (1/132) .
وقال الحافظ: حديث معلول. كما في بلوغ المرام.
وقواه بعضهم، فقال الترمذي: حسن غريب. سنن الترمذي (1746) .
وقال المنذري: الصواب عندي تصحيحه، فإن رواته ثقات أثبات!! وتبعه على ذلك أبو الفتح القشيري (ابن دقيق العيد) في آخر الاقتراح". تلخيص الحبير.
وقال ابن التركماني متعقباً تضعيف البيهقي: همام ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وقال أحمد: ثبت في كل المشايخ، واحتج به الشيخان، وحديثه هذا قال فيه الترمذي: صحيح. والحديثان مختلفان متناً وسنداً؛ لأن الأول رواه ابن جريج بلا واسطة، والثاني بواسطة، فانتقال الذهن من الحديث الذي زعم البيهقي أنه المشهور، إلى حديث وضع الخاتم -مع اختلافهما- لا يكون إلا عن غفلة شديدة، وحال همام لا يحتمل مثل ذلك".
وقال أيضاً: وقول البيهقي: هذا شاهد ضعيف فيه نظر؛ إذ ليس في سنده من تكلم فيه فيما علمت... وذكر الدارقطني في كتاب العلل أن يحيى الضريس رواه عن ابن جريج كرواية همام، فهذه متابعة ثانية، وابن الضريس ثقة، فتبين بذلك أن الحديث ليس له علة، وأن الأمر فيه كما ذكره الترمذي من الحسن والصحة. اهـ
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أبو داود (19) من طريق أبي علي الحنفي.
وأخرجه الترمذي (1746) في السنن، وفي الشمائل (88) من طريق سعيد بن عامر.
وأخرجه الترمذي (1746) والبيهقي في السنن (1/94) من طريق حجاج بن منهال.
وأخرجه ابن ماجه (303) من طريق أبي بكر الحنفي.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (3543) وابن حبان (1413) ، والحاكم (670) ، والبيهقي (1/94،95) من طريق هدبة، كلهم عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس.
وأخرجه الحاكم (671) ، والبيهقي (1/95) والبغوي في شرح السنة (189) من طريق يحيى بن المتوكل، عن ابن جريج به. بلفظ: أن رسول الله b لبس خاتماً، نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء وضعه. وهذه متابعة لهمام في رفعه.
وهذه المتابعة لا ترفع الإعلال المتقدم من أن ابن جريج لم يسمعه من أنس. وحديث أنس في الصحيحين أن رسول الله b اتخذ خاتماً من فضة، ونقش فيه محمد رسول الله. ولم يذكر ما ذكره ابن جريج من كونه إذا دخل الخلاء وضع خاتمه. رواه البخاري (65) ومسلم (2092) من طريق شعبة، عن قتادة.
ووراه البخاري (5877) ومسلم (2092) من طريق عبد العزيز بن صهيب.
ورواه البخاري (5870) من طريق حميد بن أبي حميد، ثلاثتهم عن أنس، ولم يذكروا ما ذكره ابن جريج عن الزهري.
بل إن يونس بن يزيد رواه عن الزهري عن أنس في صحيح مسلم (2094) وسنن النسائي (5196،5197) ولم يذكر ما ذكره ابن جريج عن الزهري.
ولفظ النسائي: أن النبي b اتخذ خاتماً من ورق، وفصه حبشي، ونقش فيه محمد رسول الله.
ولفظ مسلم: كان خاتم رسول الله b من ورق، وفصه حبشي. والله أعلم.(2/85)
الدليل الخامس:
من النظر، قالوا: إن في ذلك تكريماً لاسم الله سبحانه وتعالى، وتكريم(2/87)
اسماء الله تعالى، وإبعادها عن الأماكن الخبيثة، وصونها عن ذلك من تعظيم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يستحب له أن لا يذكر الله تعالى إلا على طهارة، كما تقدم من حديث ابن عمر تعظيماً لله سبحانه، وهي طهارة من الحدث، فتعظيم الله عن نجاسة الخبث من باب أولى.
الدليل السادس:
إذا كان الإنسان مأموراً أن لا يقرأ القرآن، وهو راكع أو ساجد، وشرع في حال القيام، وإن كان الركوع والسجود شرفاً للعبد، لكونه عبداً، لكنه لا يليق بالله سبحانه وتعالى الذي هو صفته، فكونه يعظم أسماء الله عن ذكرها في مكان الخلاء من باب أولى. وهذا الدليل قلته تفقهاً، والله أعلم.
الدليل السابع:
(189-33) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زمعة، عن سلمة بن وهرام،
عن عكرمة، قال: كان ابن عباس إذا دخل الخلاء ناولني خاتمه.
[إسناده ضعيف فيه زمعة بن صالح، وقد توبع] (1) .
_________
(1) المصنف (1/106) .
وقد روى ابن المنذر في الأوسط (1/340) من طريق قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: يكره أن يذكر الله، وهو جالس على الخلاء، والرجل يواقع امرأته؛ لأنه ذو الجلال يجل عن ذلك.
والإسناد فيه قابوس بن أبي ظبيان، فيه ضعف، فلعل أحد الطريقين يقوي الأخر.
وإن كان هناك فرق بين حال البول والغائط، وحال الجماع، وإن كان يجمع بينهما كشف العورات، فالبول والغائط لم يجعلهما الله صفة لأهل الجنة، بخلاف الجماع، بل إن ذكر الله حال الجماع فيه محمدة؛ لأن حال الجماع تكون مدعاة للانشغال عن ذكر الله، وسبباً في اللهو والنسيان، فإذا تذكر الله في تلك الحال، كان ذكره محموداً، والله أعلم.(2/88)
دليل من قال: يذكر الله حتى في الخلاء.
الدليل الأول:
(190-34) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى قالا: حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن البهي، عن عروة،
عن عائشة قالت كان النبي b يذكر الله على كل أحيانه (1) .
وجه الاستدلال:
قوله b في الحديث:: " كل " وكل من ألفاظ العموم. وقوله: " أحيانه" أي أوقاته، وهي نكرة مضافة، فتعم كل وقت، ومنه حال قضاء الحاجة.
وأجيب:
بأن المقصود يذكر الله متطهراً ومحدثاً، وجنباً، وفي حال القعود والمشي، والقيام والاضطجاع، وليس المقصود أنه يذكر الله حال قضاء الحاجة، فهذه الحال مخصوصة من الحديث.
الدليل الثاني:
قالوا: لا يوجد نص صريح في النهي عن ذكر الله، وقد شرع الله لنا ذكره في كل حال، وأمرنا أن نذكره ذكراً كثيراً، وحذر من نسيان ذكره، فلا نترك هذه النصوص إلا لنص صريح لا نزاع فيه، وما ذكرتموه لا يكفي لمعارضة ما ذكر:
_________
(1) صحيح مسلم (373) .(2/89)
فقولكم: إن الرسول b كان يقول الذكر قبل دخول الخلاء، إذا سلم ذلك فيكون دليلاً على استحباب هذا الذكر قبل الدخول، ولا يلزم منه كراهية ذكره بعد الدخول؛ لأن ترك المستحب لا يلزم منه ارتكاب المكروه، مع أن رواية الأكثر للحديث كان يقول إذا دخل الخلاء، وتفرد بقوله: إذا أراد أن يدخل راو ليس بالقوي.
وأما حديث تركه رد السلام على من سلم عليه، فقد سبق الجواب عليه، ولا نجتهد العلة وقد نص عليها: " إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر"
وأما حديث وضع الخاتم، فقد علمتم أنه معلول.
وأما قولكم: إن فيه تكريماً لذكر الله، فنحن لا نذكر الله إلا تكريماً وتعظيماً له.
وأما النهي عن قراءة القرآن حال الركوع والسجود، فكون العلة هي تعظيم القرآن حال الخضوع والذل، فهي علة مستنبطة، فقد تكون هي العلة، وقد تكون غيرها، فلا تخصص الأحاديث المطلقة الآمرة بذكر الله على كل حال، وعلى فرض أن تكون هي العلة، فلا يستوي كلام الله الذي هو صفته بسائر الأذكار الذي هو من كلام المخلوقين، فالفرق بين كلام الله وبين سائر الأذكاركالفرق بين الخالق والمخلوق. فتبين بهذا أنه لا يقوم دليل يخصص الآيات والأحاديث الآمرة بذكر الله تعالى، والله أعلم.
الدليل الثالث:
(191-35) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب،(2/90)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي b: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً. وأخرجه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب التسمية على كل حال، وعند الوقاع.
قال الحافظ: فيه إشارة إلى تضعيف ما ورد من كراهية ذكر الله في حالين: الخلاء والوقاع (2) .اهـ
فإذا كان الإنسان يذكر الله حال كشف العورة في الجماع، فلا مانع من ذكر الله حال البول والغائط، والله أعلم.
الدليل الرابع:
كان رسول الله b يقرأ القرآن، ورأسه في حجر عائشة، وهي حائض، فإذا كان قربه من النجاسة لا يمنعه أن يقرأ القرآن، لم يمنع حال قضاء الحاجة.
(192-36) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة قالت: كان النبي b يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض، ورواه مسلم بنحوه (3) .
_________
(1) صحيح البخاري (6388) ، ومسلم (1434) .
(2) فتح الباري (1/242) .
(3) صحيح البخاري (7549) ، ومسلم (301) .(2/91)
الدليل الخامس:
الراجح من أقوال أهل العلم أن الحائض تقرأ القرآن، مع أن حدثها مستمر، ودم الحيض بمنزلة البول، بجامع أن كلا منهما نجس، ومنتن الرائحة، ومن مخرج واحد، ومع ذلك قد تقرأ القرآن ودمها يسيل، فما المانع أن تذكر الله بغير القرآن إذا احتاجت إلى ذلك حال قضاء الحاجة.
الدليل السادس:
كان معروفاً ذكر الله في حال الخلاء عن بعض السلف، وهذا يذكر للاستئناس، وليس ذكره من باب الاحتجاج
(193-37) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد -يعني: ابن سيرين- سئل عن الرجل يعطس في الخلاء؟ قال: لا أعلم به بأساً بذكر الله عز وجل (1) .
[وسنده صحيح] .
(194-38) وروى أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، قال: يحمد الله فإنه يصعد (2) .
[وسنده صحيح] .
(195-39) وروى ابن أبي شيبة أيضاً، قال: حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي في الرجل يعطس على الخلاء، قال: يحمد الله (3) .
_________
(1) المصنف (1/108) .
(2) المرجع السابق (1/108) .
(3) المصنف (1/108) .(2/92)
[رجاله ثقات] (1) .
فهؤلاء ثلاثة من التابعين يرون أنه لا بأس بذكر الله في الخلاء.
فالراجح من الخلاف: جواز ذكر الله تعالى ولو كان على حاجته، فإذا عطس فلا يمنع أن يحمد الله، وإذا سمع المؤذن فلا مانع من إجابته، ولم أقف على دليل صحيح صريح يمنع من ذكر الله حال قضاء الحاجة، والله أعلم.
_________
(1) إن سلم من تغير حصين، وقد أخرج مسلم لحصين من رواية ابن إدريس، ولم أقف على من نص على أن رواية ابن إدريس قبل أو بعد تغي حصين، فالظاهر أن الإسناد صحيح إن شاء الله تعالى.(2/93)
مسألة: لو توضأ في الخلاء هل يأتي بالبسملة أم لا؟
أما من يرى وجوب التسمية في الوضوء، وكذلك يرى إجابة المؤذن فإنه يفعل ذلك ولو كان في الخلاء؛ لأن المكروه تبيحه الحاجة، فلا يبقى مكروهاً مع الحاجة، فما بالك بالواجب.
وأما من يرى سنية التسمة وإجابة المؤذن، فهنا تعارض الأمر والنهي على القول بكراهة ذلك، فهل يقدم الأمر، أو يقدم النهي؟
(196-40) فالظاهر تقديم النهي؛ لما رواه البخاري، قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة عن النبي b قال: دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ورواه مسلم (1) .
فالأمر يتعلق بالاستطاعة، والنهي حتم تركه.
وسوف نأتي على حكم التسمية في الوضوء في باب سنن الوضوء، والأقوال فيها ثلاثة:
فقيل: تجب التسمية.
وقيل: بل هي من سنن الوضوء.
وقيل: لا تشرع.
ومع ذلك لا يبنغي أن يعطى حكماً عاماً، بل يرجع إلى طبيعة الخلاف، فليس كل خلاف يكون الراجح قوياً، والمرجوح ضعيفاً، ففي بعض المسائل تتجاذب الأقوال، فيكون أحدها قوياً، والآخر أقوى منه، وليست المقابلة بين
_________
(1) صحيح البخاري (7288) ، مسلم (1337) .(2/94)
ضعيف وقوي، والخلاف في التسمية ليس كالخلاف في إجابة المؤذن، وهكذا، وسوف نأتي في سنن الوضوء على أدلة حكم التسمية في الوضوء، وما فيه من آثار إن شاء الله تعالى.(2/95)
[صفحة فارغة](2/96)
الفرع الثاني
في الكلام في الخلاء
الكلام في الخلاء إن كان في ذكر الله تعالى، فقد سبق بحثه، وإن كان كلاماً غير ذلك، فقد اختلف فيه:
فقيل: يكره إلا لحاجة، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا يتنحنح (2) .
وقيل: يحرم، اختاره ابن عبيدان من الحنابلة (3) .
وقيل: يحرم إن كان الكلام من رجلين يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما (4) .
وقيل: لا يكره، وهو الراجح.
وظاهر كلامهم أن الكراهة لا تختص بحال قضاء الحاجة، بل ما دام في
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية (ص: 22) ، شرح فتح القدير (1/213) ، درر الحكام (1/49) ، الفتاوى النهدية (1/50) .
وفي مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/397) ،
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/103) ، أسنى المطالب (1/46) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/46) ، فتاوى الرملي (1/34) ،
وفي مذهب الحنابلة: الفروع (1/114) ، كشاف القناع (1/64) .
(2) البحر الرائق (1/256) .
(3) الإنصاف (1/96) ،.
(4) قال في مراقي الفلاح (ص: 22) : " ولا يتكلم إلا لضرورة". وهذا الاستثناء ظاهره يدل على التحريم، وليس على الكراهة، لكن جاء في حاشية ابن عابدين (1/343) ما ظاهره أن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف حديث أبي سعيد الآتي: " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط... الحديث.(2/97)
المكان المعد لقضاء الحاجة.
واختار بعضهم أن الكراهة تختص بقاضي الحاجة دون المكان (1) .
دليل الكراهة.
(197-41) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن عياض، قال:
حدثني أبو سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله b قال: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفان عورتهما، يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك (2) .
[إسناده ضعيف، وفيه اضطراب] (3) .
_________
(1) أسنى المطالب (1/46) .
(2) المسند (3/36) .
(3) ضعيف، أولاً: لأن في إسناده هلال بن عياض، تفرد بالرواية عنه يحيى بن أبي كثير.
قال الذهبي: لا يعرف، كما في ميزان الاعتدال.
وفي التقريب: مجهول.
ثانياً: أنه من رواية عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، وفيها اضطراب.
ضعف حديثه عن يحيى كل من يحيى بن سعيد القطان، وأحمد والبخاري وأبو حاتم الرازي وابن حبان وغيرهم، انظر الجرح والتعديل (7/10) ، الثقات (5/233) ، ميزان الاعتدال (5719) .
ثالثاً: الاختلاف في إسناده. فقد قال الدارقطني في العلل (3- ورقة 238) : يرويه يحيى بن أبي كثير، واختلف عنه، فرواه عكرمة بن عمار، واختلف عن عكرمة أيضاً: فرواه الثوري، عن عكرمة، عن يحيى، عن عياض بن هلال، عن أبي سعيد، وكذلك قال عبد الملك بن الصباح، عن عكرمة.
وقال عبيد بن عقيل: عن عكرمة بن عمار، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال أبان العطار، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه.
وقال مسكين بن بكير: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله.
وقال غير مسكين: عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، مرسلاً.
وأشبهها بالصواب: حديث عياض بن هلال، عن أبي سعيد.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (15) ، والنسائي في الكبرى (33) ، والبيهقي في السنن (1/99،100) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.
وأخرجه ابن ماجه (342) عن عبد الله بن رجاء.
وأخرجه ابن ماجه (342) ، وابن خزيمة بعد ح (71) والحاكم في المستدرك (560) والبيهقي في السنن (1/100) من طريق سلم بن إبراهيم الوراق.
وأخرجه النسائي في الكبرى (32) ، وابن ماجه (342) ، والحاكم في المستدرك (559) من طريق سفيان، ثلاثتهم عن عكرمة بن عمار به.
وخالف الأوزاعي عكرمة بن عمار، وهو أوثق منه فقد رواه الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رسول الله مرسلاً. أخرجه الحاكم (560) ومن طريقه البيهقي (1/100) من طريق الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن رسول الله b. وهذا السند حسن إن سلم من عنعنة الوليد بن مسلم، فإنه يسوي حديث الأوزاعي.
وفي العلل لابن أبي حاتم (1/41) قال أبي: الصحيح في هذا المعنى حديث الأوزاعي، وحديث عكرمة وهم.
واختلف على عكرمة بن عمار: فرواه عبد الرحمن بن مهدي وسلم بن إبراهيم وسفيان الثوري، عن عكرمة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال، عن أبي سعيد.
ورواه الطبراني كما في مجمع البحرين (344) من طريق عبيد بن عقيل، ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح، من حديث يحيى بن أبي كثير، عن عياض بن هلال الأنصار، وإنما أهملاه لخلاف بين أصحاب يحيى بن أبي كثير فيه، فقال بعضهم: هلال بن عياض، وقد حكم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل في التاريخ، أنه عياض بن هلال الأنصاري، سمع أبا سعيد، سمع منه يحيى بن أبي كثير. قاله هشام ومعمر وعلي بن المبارك وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير.
ومع أن الذهبي أقر الحاكم في تصحيحه في التلخيص، إلا أنه في الميزان حكم على عياض بن هلال بأنه لا يعرف، ونقل عن يحيى القطان وأحمد والبخاري بأن أحاديث عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير ضعاف، وليست بصحاح. والله أعلم.(2/98)
والحديث لو صح لدل على التحريم، وليس على الكراهة، لكن قالوا: إن التحريم خاص بمن جمع كل أوصاف الحديث، رجلان يمشيان إلى الغائط كاشفين عن عورتيهما، يتكلمان، فمن فعل بعض موجبات المقت، فقد ارتكب مكروهاً.
قال الشوكاني: القرينة الصارفة إلى معنى الكراهة الإجماع على أن هذا الكلام غير محرم في هذه الحالة (1) .
دليل من قال: يكره التنحنح.
لا أعلم له دليلاً، والتنحنح ليس كلاماً، فلو تنحنح الإنسان، وهو في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان متعمداً.
وقد نص الشافعية على أنه لا يكره التنحنح.
قال في تحفة المحتاج: والأقرب أن مثل التنحنح عند طرق باب الخلاء من الغير ليعلم هل فيه أحد أم لا؟ لا يسمى كلاماً، وبتقديره فهو لحاجة، وهي دفع دخول الغير عليه (2) . اهـ
_________
(1) نيل الأوطار (1/100) .
(2) تحفة المحتاج (1/171) .(2/100)
دليل من قال: لا يكره.
حجته أن الكراهة حكم شرعي، يفتقر إلى دليل شرعي، ولا دليل على الكراهة، والأصل في مثل هذا الإباحة حتى يثبت النهي من الشارع، ولم يثبت نهي، والله أعلم.(2/101)
[صفحة فارغة](2/102)
المبحث السابع
في اللبث على الحاجة فوق الحاجة
استحب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، أن لا يطيل القعود فوق الحاجة.
وفي مذهب الحنابلة ثلاثة أقوال:
التحريم، وهو أشهرها (3) .
والكراهة، والجواز بلا كراهة (4) .
دليل من منع المكث فوق الحاجة.
الأول: قالوا: إن فيه كشفاً للعورة بلا حاجة.
الثاني: ما يروى عن لقمان الحكيم.
(198-42) ذكره ابن المنذر بلا إسناد، قال: وروينا عن لقمان أنه قال لمولاه: إن طول القعود على الخلاء يجمع منه الكبد، ويأخذ منه الناسور (5) .
_________
(1) قال في البحر الرائق (1/256) : ولا يطيل القعود على البول والغائط؛ لأنه يورث الباسور، أو وجع الكبد. اهـ وانظر حاشية ابن عابدين (1/345) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (1/36) .
(2) تحفة المحتاج (1/173) ، المجموع (2/105) ، المنهج القويم (1/77) ، حواشي الشرواني (1/173) ، أسنى المطالب (1/46) .
(3) قال في كشاف القناع (1/63) : ويحرم لبثه في الخلاء فوق حاجته. وانظر مطالب أولى النهى (1/70،71) .
(4) الإنصاف (1/96،97) ، تصحيح الفروع (1/114،115) .
(5) الأوسط (1/340) .(2/103)
الثالث: الإجماع، قال النووي في المجموع: وهذا الأدب -يعني: عدم إطالة القعود- مستحب بالاتفاق (1) .
وقال ابن قاسم رحمه الله في حاشيته: قد حكي الإجماع على تحريمه.
قلت: وفي ذلك نظر، فلعله يعني الإجماع الذي نقله النووي، فإنه ينقل كثيراً من إجماعات النووي، وهو إجماع على الاستحباب، لا على التحريم، وقد ذكرنا وجهاً في مذهب أحمد أنه يجوز بلا كراهة (2) .
هذا غاية ما يمكن أن يستدل به لهذا القول.
ويمكن مناقشة هذا القول بما يلي:
أما قولهم بأنه كشف للعورة بلا حاجة، فقد سبق تفصيل ذلك في مسألة: رفع الثوب قبل الدنو من الأرض، فارجع إليها إن شئت.
وأما الاستدلال بما يروى عن لقمان الحكيم، فهذا لا أصل له. قال الشوكاني: ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم، أنه يورث الباسور، فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية، ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم (3) .
وأما قولهم: إنه يدمي الكبد، ويورث الناسور، فإن ذلك مرجعه إلى الطب، فإذا أخبر طبيب ثقة، ولو كافراً بأن هذا يحصل منه ذلك، تركناه، وأما قبل فلا. والعجب من الحنابلة كيف يعتبر رفع الثوب قبل دنوه من
_________
(1) المجموع (2/105) .
(2) انظر تصحيح الفروع (1/114) .
(3) السيل الجرار (1/71) .(2/104)
الأرض مكروهاً فقط مع أنه كشف للعورة بلا حاجة، ويعتبر إطالة مكثه من المحرمات، مع أنه قد يقال: إن إطالة اللبث في الخلاء تبع لأمر مباح، بخلاف من فعل ذلك ابتداء من غير حاجة، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، فقد يتسامح في إطالة المكث، ما لايتسامح في كشفه لعورته قبل دنوه من الأرض، والله أعلم.
(199-43) وأما ما رواه الترمذي في سننه، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نيزك البغدادي، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو محياة، عن ليث، عن نافع،
عن ابن عمر، أن رسول الله b قال: إياكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم.
قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو محياة اسمه يحيى بن يعلى (1) .
[إسناده ضعيف] .
فالراجح: أن القول بالتحريم قول ضعيف، وأما الكراهة فيتجه إلا أنه مبني على مسألة حكم كشف العورة والإنسان خالياً، فإن كان ذلك مباحاً فهو مباح، وإلا كان مكروهاً، ولا يتجاوز به الكراهة.
_________
(1) سنن الترمذي (2800) .(2/105)
[صفحة فارغة](2/106)
المبحث الثامن
في استحباب تغطية الرأس حال قضاء الحاجة
استحب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، تغطية الرأس عند قضاء الحاجة.
دليل الاستحباب.
(200-44) ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبدالله، عن حبيب بن صالح، قال: كان رسول الله b إذا دخل الخلاء لبس حذاءه، وغطى رأسه (5) .
[إسناده ضعيف مع إرساله] (6) .
_________
(1) البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى الهندية (1/50) .
(2) مواهب الجليل (1/270) ، التاج والإكليل (1/270) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، والشرح الكبير (1/106) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/89) ، مختصر خليل (ص:14) .
(3) قال النووي في المجموع (2/109) : قال إمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون: يستحب أن لا يدخل الخلاء مكشوف الرأس، قال بعض أصحابنا فإن لم يجد شيئاً وضع كمه على رأسه. اهـ
(4) المبدع (1/82) ، الإنصاف (1/97) .
(5) سنن البيهقي (1/96) .
(6) في إسناده أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، جاء في ترجمته:
قال يحيى بن معين: شامي ضعيف الحديث، ليس بشيء. الكامل (2/36) .
وقال عيسى بن يونس: لو أردت أبا بكر بن أبي مريم على أن يجمع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً لفعل، يعني: راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحبيب بن عبيد. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: ولأبي بكر بن أبي مريم غير ما ذكرت من الحديث، والغالب على حديثه الغرائب، وقل ما يوافقه عليه الثقات، وأحاديثه صالحة، وهو ممن لا يحتج بحديثه، ولكن يكتب حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، طَرَقَهُ لصوص، فأخذوا متاعه، فاختلط.
وفي التقريب: ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط.
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/383) من طريق ابن المبارك، عن أبي بكر بن عبد الله به.(2/107)
الدليل الثاني:
(201-45) ما رواه ابن عدي، من طريق محمد بن يونس، ثنا خالد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة قالت: كان رسول الله b إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه (1) .
[موضوع] (2) .
الدليل الثالث:
(202-46) ٍما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن المبارك، عن
_________
(1) الكامل (6/293) .
(2) فيه محمد بن يونس الكديمي متهم بالوضع.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبى وعرض عليه شيء من حديثه، فقال: ليس هذا حديث أهل الصدق. الجرح والتعديل (8/122) .
وقال ابن عدي: اتهم بوضع الحديث وبسرقته، وادعى رؤية قوم لم يرهم، ورواية عن قوم لا يعرفون، وترك عامة مشايخنا الرواية عنه، ومن حدث عنه نسبه إلى جده موسى بأن لا يعرف. الكامل (6/292) .
وقال ابن حبان: كان يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث. المجروحين (2/312) .(2/108)
يونس، عن الزهري، قال: أخبرني عروة، عن أبيه
أن أبا بكر الصديق قال وهو يخطب الناس: يا معشر المسلمين استحيوا من الله، فوالذي نفسي بيده إني لأظل حين أذهب إلى الغائط في الفضاء مغطى رأسي استحياء من ربي (1) .
[رجاله ثقات] .
وقال البيهقي: وروي عن أبي بكر، وهو عنه صحيح (2) .
(203-47) ومن الآثار، روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية،
عن ابن طاوس، قال: أمرني أبي إذا دخلت الخلاء أن أقنع رأسي. قلت: لما أمرك بذلك؟ قال: لا أدري (3) .
[رجاله ثقات] .
الدليل الرابع:
ذكر بعض الفقهاء جملة من التعاليل لاستحباب تغطية الرأس عند دخول الخلاء، فقالوا منها:
يغطي رأسه حياء من الله سبحانه وتعالى.
ومنها: أنه أجمع لمسام البدن، وأسرع لخروج الفضلات!!
ولأنه قد يصل إلى شعره ريح الخلاء فيعلق به (4) .
وقال الحطاب: إن كشف الرأس حال قضاء الحاجة يصيبه مرض يقال
_________
(1) المصنف (1/100) رقم 1127.
(2) سنن البيهقي (1/96) .
(3) المصنف (1/101) رقم 1135.
(4) الجامع الصغير للسيوطي (1/135) ، فيض القدير (5/128) .(2/109)
له: اللوى يمنع الخارج!! (1)
والذي صح من هذه التعليلات ما ذكره الصديق رضي الله عنه: وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى.
ولولا ما صح عن الصديق رضي الله عنه لقلت: في استحباب هذا نظر؛ لأن العورة وهي العورة يباح للإنسان إذا أراد الاغتسال أن يغتسل وهو عريان، وإن كان الستر أفضل، كما فعله موسى عليه الصلاة والسلام وأيوب، وهذا ثابت عنهما، فكيف بتغطية الرأس، ولو كان المغطى الوجه لكان له مناسبة،
(204-48) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، قال حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه،
عن أبي هريرة عن النبي b قال: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى b يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، فقال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضرباً بالحجر، ورواه مسلم (2) .
(205-49) وروى البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام،
_________
(1) مواهب الجليل (1/142) .
(2) صحيح البخاري (278) ، وصحيح مسلم (339) .(2/110)
عن أبي هريرة عن النبي b قال: بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى. قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك (1) .
ومع ذلك يكفي في الاستحباب ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فينبغي تعظيم ما يروى عن صحابة رسول الله b لمنزلتهم عند الله سبحانه، وصحبتهم لرسول الله b وجهادهم في نشر الدين والعلم، وهذا من آحادهم، فكيف إذا كان هذا عن خليفة رسول الله b ومن له سنة متبعة، فلا يعظم صحابة رسول الله إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.
_________
(1) صحيح البخاري (7493) .(2/111)
[صفحة فارغة](2/112)
المبحث التاسع
في مسح الذكر عند الفراغ من البول
سلت الذكر عند الفراغ من البول، ويسميه بعض الفقهاء الاستبراء: وهو طلب البراءة من البول وذلك باستخراج ما في المخرج منه، وهو خاص بالبول دون الغائط (1) ، وقد اختلف الفقهاء في حكمه:
فقيل: يجب سلت الذكر، وهو مذهب الحنفية (2) ، والمالكية (3) .
وقيل: يستحب، وهو مذهب الشافعية (4) ، والحنابلة (5) .
وقيل: يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان من طبعه وعادته أنه لا يطهر إلا بالاستبراء فعله، ومن غلب على ظنه أنه طهر، استنجى، ولو لم يستبرئ، اختاره بعض الحنفية (6) .
_________
(1) قال الدسوقي في حاشتيه (1/110) : قوله: مع سلت ذكر، هذا خاص بالبول، وأما الغائط فيكفي في تفريغ منه الاحساس بأنه لم يبق شيء مما هو بصدد الخروج. اهـ
(2) مراقي الفلاح (ص: 17) ، حاشية ابن عابدين (1/344) ، الدر المختار (1/345،346) ، نور الإيضاح (1/14) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 28،29) .
(3) القوانين الفقهية (ص: 42) ، التاج والإكليل (1/407،408) ، مواهب الجليل (1/182) ، منح الجليل (1/104) .
(4) أسنى المطالب (1/49) ، شرح البهجة (1/141) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/47) ، تحفة المحتاج (1/171) ، نهاية المحتاج (1/141) ، حاشية الجمل (1/91) .
(5) الإنصاف (1/102) ، مطالب أولى النهى (1/72) ، المبدع (1/87) ، الفروع (1/89) ، شرح العمدة (1/150) ، المحرر (1/9) ، عمدة الفقه (ص: 6) ، كشاف القناع (1/65) .
(6) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (1/67) .(2/113)
وقيل: يكره، اختاره بعض المحققين كابن تيمية (1) ، وهو الراجح.
دليل من قال بوجوب الاستبراء بسلت ونحوه.
(206-50) ما رواه النسائي، قال: أخبرنا محمد بن قدامة، قال حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: مر رسول الله b بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال رسول الله b: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى كان أحدهما لا يستبرئ من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث (2) .
وجه الاستدلال:
قالوا: الاستبراء: طلب البراءة من البول، وذلك باستفراغ ما في المخرج منه، كما يقال: براءة الرحم: خلوه من الحمل. فالبراءة من البول: خلو الذكر منه، وذلك بسلته.
وأجيب:
بأن رواية الأكثر: لا يستتر. وفي رواية لمسلم: لا يستنزه، وهي بمعنى: لا يستتر (3) .
_________
(1) الإنصاف (1/102) ، شرح العمدة (1/151) .
(2) النسائي (2068) .
(3) قال الحافظ في الفتح (1/318) : قوله لا يستتر كذا في أكثر الروايات.
وفي رواية ابن عساكر: " يستبرىء " بموحدة ساكنة: من الاستبراء.
ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش " يستنزه " بنون ساكنة بعدها زاى ثم هاء.
فعلى رواية الأكثر: معنى الاستتار: أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة -يعني: لا يتحفظ منه- فتوافق رواية " لا يستنزه"؛ لأنها من التنزه: وهو الابعاد.
وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج، من طريق وكيع، عن الأعمش: كان لا يتوقى. وهي مفسرة للمراد.(2/114)
ثم لوكان الاستبراء: هو سلت الذكر لنقل عن الرسول b فعله، فلم يكن رسول الله b يسلت ذكره، ولا يتنحنح، ولا يمشي خطوات قبل الاستنجاء، وكل ذلك من فعل أهل الوسوسة، ومن تلاعب الشيطان ببني آدم، ولم ينقل عن الصحابة فعل ذلك، ولو فعلوه لنقل عنهم، والله أعلم.
الدليل الثاني:
قال محمد عليش: إن الاستبراء شرط مطلق في صحة الوضوء إجماعاً، وعلل ذلك: بأن الباقي من البول في المخرج خارج حكماً، فهو مناف للوضوء، وشرط صحة الوضوء عدم المنافي (1) .
والصحيح أن البول في الذكر ليس في حكم الخارج، ولا ينقض الوضوء إلا بخروجه من الذكر، ومشاهدته، وإذا كان كذلك لم يجب الاستبراء منه، بل نقل ابن تيمية اتفاق العلماء على أنه لا يجب إخرج البول الواقف (2) .
والغريب أن الذين قالوا بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية هم الذين يقولون: إن الاستنجاء كله ليس بواجب، فلو ترك النجاسة على مخرجيه لم يجب عليه غسلها، فهلا قالوا ذلك في سلت الذكر.
دليل من قال بالسنية.
(207-51) ممكن أن يستدل له بما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه قال: قال رسول الله b: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه، وإذا تمسح أحدكم فلا
_________
(1) منح الجليل (1/104) .
(2) مجموع الفتاوى (21/106) .(2/115)
يتمسح بيمينه، وأخرجه مسلم بنحوه (1) .
فقوله: لا يسمح ذكره بيمينه، مفهومه أنه يمسح ذكره بشماله، ولا يقصد فيه الاستنجاء؛ لأنه قال بعده: ولا يتمسح بيمينه.
دليل من قال: لا يشرع.
أولاً: أنه لم يرد عن النبي b، ولا أرشد إليه، {وما كان ربك نسياً} (2) .
ثانياً: لأنه مضر بالصحة، يورث السلس، وما كان كذلك يحرم فعله.
ثالثاً: ولأن ذلك قد ينتهي به إلى الوسواس والعياذ بالله، والوسواس غلو في الطهارة وتعد وظلم، مع ما يحمل الإنسان من تفويت للواجبات، وأحياناً في الوقوع في المحرمات.
رابعاً: اعتبره ابن تيمية من البدع، قال في مجموع الفتاوى: " سلت البول بدعة، لم يشرع ذلك رسول الله b والحديث المروي في ذلك ضعيف لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، وإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع، إن تركته قر، وإن حلبته در، وكلما فتح الإنسان ذكره فقد يخرج منه، ولو تركه لم يخرج منه، وقد يخيل إليه أنه خرج منه شيء، ولم يخرج، والبول يكون واقفاً في رأس الإحليل لا يقطر، فإذا عصر الذكر أو الفرج أو الثقب بحجر أو أصبع أو غيره خرجت الرطوبة، فهذا أيضاً بدعة، وذلك أن البول الواقف لا يحتاج إلى إخراج باتفاق العلماء، لا بحجر ولا أصبع، ولا غير ذلك، بل كلما أخرجه جاء غيره؛ فإنه يرشح دائماً (3) . اهـ
_________
(1) البخاري (5630) ، ومسلم (267) .
(2) مريم: 64.
(3) مجمع الفتاوى (21/106) .(2/116)
وجه من قال يفعله من يحتاج إليه.
نقل النووي عن إمام الحرمين قوله: إن المختار أن هذا يختلف باختلاف الناس، والمقصود أن يظن أنه لم يبق في مجرى البول شيء يخاف خروجه، فمن الناس من يحصل له هذا المقصود بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكراره، ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من يحتاج إلى مشي خطوات، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة (1) . اهـ
قلت: إذا كان البائل يحتاج إلى شيء من ذلك فهذا دليل مرض، لا صحة؛ لأنه خلاف الطبيعة، فينبغي له طلب العلاج، والحمد لله على العافية.
الراجح: أنه لا يشرع له شيء من ذلك لعدم وجود دليل يدل على المشروعية، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/106) .(2/117)
[صفحة فارغة](2/118)
المبحث العاشر
في نتر الذكر
تعريف النتر:
قال في المصباح المنير: نترته نتراً من باب: قَتَلَ: جذبته في شدة، والنترة المرة، والجمع نترات، مثل سجدة وسجدات (1) .
وفي اللسان: النَّتْر: الجذب بجفاء، واستنتر الرجل بوله: اجتذبه واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء (2) .
ومنه نترني فلان بكلامه: إذا شدده لك وغلظه، واستنتر: طلب النتر، وحرص عليه، واهتم به (3) .
وحكم النتر يرجع إلى حكم الاستبراء من البول، فالقائلون بوجوب الاستبراء كالحنفية والمالكية يرون أن على البائل أن يستبرئ من بوله، سواء كان عن طريق النتر أو النحنحة أو المشي خطوات، أو عن طريق مسح الذكر، فلو توقف الاستبراء على النتر كان واجباً عندهم (4) . وقد تكلمت في مسألة سابقة عن حكم الاستبراء بمسح الذكر من أصله إلى رأسه.
_________
(1) المصباح المنير (ص: 593) .
(2) اللسان (5/190) .
(3) الفائق في غريب الحديث (3/406) .
(4) انظر مواهب الجليل (1/282) ، حاشية الدسوقي (1/110) ، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل (1/147) : السلت والنتر واجبان، قال الحطاب: وهو الذي يقتضيه كلام غير واحد من أهل المذهب، وانظر حاشية العدوي (1/219) ، الفواكه الدواني (1/133) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/94،95) .(2/119)
بينما الشافعية والحنابلة يرون استحباب النتر (1) .
وقيل: لا يشرع النتر، اختاره ابن تيمية رحمه الله (2) .
دليل من قال إن النتر مشروع.
الدليل الأول:
وجوب الاستبراء من البول، وقد سبق ذكر الأدلة عليه في مسألة مستقلة. وأجيب عليها، ويزاد: بأن الرسول b كان من أكمل الناس طهارة واستتاراً من البول، فإن كان هذا الاستبراء الذي يذكرونه من النتر والنحنحة، والمشي، والقيام والقعود الخ إن كان فعله b فأين الدليل، وإن لم يفعله لم يكن هذا بياناً للاستتار من البول المذكور في حديث صاحب القبرين المعذبين، وفيه: "كان أحدهما لا يستتر من بوله". فلم يرشد الشرع إلا بالاستنجاء إما بماء أو بأحجار، هذا هو حقيقة الاستبراء.
الدليل الثاني:
قالوا: إن التوقي من البول والاحتراز منه واجب إجماعاً، وفي النتر تحقيق لذلك.
والجواب: أن الذي أوجب الاحتراز من البول والتوقي منه لم يفعله، ولو
_________
(1) المجموع (2/106) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/47) ، تحفة المحتاج (1/171) ، إعانة الطالبين (1/112) ، روضة الطالبين (1/66) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 55) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الإنصاف (1/102) ، أخصر المختصرات (ص: 90) ، شرح العمدة (1/151) ، المبدع (1/87) ، عمدة الفقه (ص: 6) ، شرح منتهى الإرادت (1/37) .
(2) الفتاوى الكبرى (5/301) ، وشرح منتهى الإرادات (1/37) ، الإنصاف (1/102) .(2/120)
كان خيراً لفعله، ولو فعله لنقل إلينا.
الدليل الثالث:
(208-52) ما رواه أحمد، قال: حدثنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عيسى بن يزداد،
عن أبيه فساءة، قال: قال رسول الله b: إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
دليل من قال لا يشرع النتر.
الأدلة التي استدل بها من يقول: لا يشرع سلت الذكر، يستدل بها هنا
_________
(1) المسند (4/347) .
(2) الحديث له علتان:
الأولى: جهالة عيسى بن يزداد.
الثاني: كونه مرسلاً.
قال يحيى بن معين عن عيسى بن يزداد: لا يعرف. الجرح والتعديل (6/291) .
وقال أبو حاتم الرازي: لا يصح حديثه، وليس لأبيه صحبة، ومن الناس من يدخله في المسند على المجاز، وهو وأبوه مجهولان. المرجع السابق.
وقال البخاري: عيسى بن يزداد، عن أبيه، مرسل، لا يصح. التاريخ الكبير (6/391) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/216) .
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن أبي شيبة (1/149) ، وأحمد (4/347) وابن ماجه (326) ، وأبو داود في المراسيل (4) من طريق زمعة بن صالح.
وأخرجه أحمد (4/347) ، والعقيلي في الضعفاء (3/381،382) ، والبيهقي (1/113) من طريق زكريا بن إسحاق، كلاهما عن عيسى بن يزداد به.(2/121)
على عدم مشروعية النتر، فلو كان النتر مشروعاً، لفعله خير الخلق، ولو فعله لنقل إلينا، هذا مع ما فيه من كونه مضراً للذكر، جالباً للوسوسة.
قال ابن تيمية: التنحنح بعد البول والمشي، والطفر إلى فوق، والصعود في السلم، والتعلق في الحبل، وتفتيش الذكر بإسالته وغير ذلك كل ذلك بدعة، ليس بواجب ولا مستحب عند أئمة المسلمين، بل وكذلك نتر الذكر بدعة على الصحيح، لم يشرع ذلك رسول الله b، وكذلك سلت البول بدعة لم يشرع ذلك رسول الله b، والحديث المروي في ذلك ضعيف، لا أصل له، والبول يخرج بطبعه، فإذا فرغ انقطع بطبعه، وهو كما قيل: كالضرع إن تركته قر، وإن حلبته در (1) .
_________
(1) مجموع الفتاوى (21/106،107) .(2/122)
المبحث الحادي عشر
في استحباب قول غفرانك
استحب الفقهاء أن يقول: إذا خرج من الخلاء غفرانك (1) .
والدليل على هذا:
(209-53) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه قال:
حدثتني عائشة أن النبي b كان إذا خرج من الغائط قال غفرانك (2) .
[حديث حسن] (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: حاشية ابن عابدين (1/345) .
وانظر في مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/391) ، الخرشي (1/143) ، الفوكه الدواني (2/333) ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/106) ، حاشية الصاوي (1/90) ، منح الجليل (1/99) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/90) ، شرح البهجة - الأنصاري- (1/115) ، تحفة المحتاج (1/173) ، نهاية المحتاج (1/143) ،
وانظر في مذهب الحنابلة: المغني (1/110) ، الفروع (1/117) ، كشاف القناع (1/67) ، مطالب أولي النهى (1/65) ، المبدع (1/82) ، دليل الطالب (ص: 7) ، شرح العمدة (1/139) ، حاشية الطحطاوي (ص: 36) .
(2) المسند (6/155) .
(3) في إسناده يوسف بن أبي بردة،
ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (9/226) .
ذكره ابن حبان في الثقات. (7/638) .
وقال العجلي: كوفي ثقة. معرفة الثقات (2/375) .
وقال الذهبي: ثقة. الكاشف (6427) .
وذكر الشوكاني وأحمد شاكر أن أبا حاتم صحح حديثه هذا. سنن الترمذي (1/12) ، ونيل الأوطار (1/88) .
والموجود في العلل (1/43) قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: أصح حديث في هذا الباب حديث عائشة، يعني: حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، عن عائشة. اهـ
فإن كان الشوكاني وأحمد شاكر أخذا ذلك من هذه العبارة، فهي ليست صريحة في التصحيح، لأن قوله: أصح حديث في هذا الباب، لا يلزم منها تصحيح الحديث، إلا أن يكون للشيخ أحمد شاكر والشوكاني مصدر آخر غير هذا.
كما صحح حديثه ابن حبان وابن خزيمة، حيث خرجاه في صحيحيهما، كما سيأتي بيانه في تخريج الحديث.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، يوسف بن أبي بردة من ثقات آل أبي موسى، ولم نجد أحداً يطعن فيه، وقد ذكر سماع أبيه من عائشة.
وفي التقريب: مقبول، يقصد بشرط المتابعة، والذي يظهر لي والعلم عند الله أن يوسف أرفع من حكم الحافظ، وحديثه إن لم يكن من قبيل الحديث الصحيح، فهو من قبيل الحديث الحسن لذاته، وقد قال الترمذي: حديث حسن غريب كما في السنن (7) والله أعلم.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أحمد (6/155) ، وأبو داود (30) وابن الجارود (42) ، والبغوي في شرح السنة (188) من طريق هاشم بن القاسم.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/11) وابن خزيمة (90) ، والبيهقي في السنن (1/97) من طريق يحيى بن أبي بكير.
وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/386) والترمذي (7) والدارمي (680) من طريق مالك بن إسماعيل.
وأخرجه الحاكم (1/158) ، والبيهقي في السنن (1/97) من طريق عبيد الله بن موسى.
وأخرجه البيهقي (1/97) من طريق طلق بن غنام وأبي النضر. كلهم رووه عن إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة به.(2/123)
مبحث
مناسبة طلب المغفرة بعد قضاء الحاجة
ذكر النووي وجهين:
أحدهما: أنه استغفر من ترك ذكر الله تعالى، حال لبثه على الخلاء، وكان لا يهجر ذكر الله تعالى إلا عند الحاجة (1) .اهـ
وقد تعقبه بعضهم: بأنه امتنع عن ذكر الله بأمر الله، فهو محمود في ذلك غير مذموم، ومن فعل فعلاً محموداً كان المناسب له الشكر، وليس الاستغفار.
وممكن أن يقال: إن المرأة ناقصة عن الرجل في دينها، وقد فسره النبي b بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها تركت الصلاة اتباعاً للشرع، وهي محمودة في تركها للصلاة، ولو فعلت لكانت مستحقة للذم. والذي يترجح لي أن المرأة لا تثاب على تركها للصلاة؛ لأنها ليست مكلفة في الصلاة حال حيضها، ثم تركت الصلاة لوجود عذر، وإنما هي ليست مخاطبة بالصلاة حال الحيض، بخلاف من كان من عادته فعل شيء، وكان مخاطباً به مطلوباً منه فعله، ثم تركه لعذر، فإنه يكتب له، وقد بحثت هذه المسألة في كتابي الحيض والنفاس، وذكرت أقوال أهل العلم فيها، والله أعلم.
الوجه الثاني:
قال النووي: إنه استغفر خوفاً من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى التي أنعمها عليه، فقد أطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروجه، فرأى شكره قاصراً
_________
(1) المجموع (2/90) .(2/125)
عن بلوغ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار (1) . اهـ
الوجه الثالث: قال ابن القيم: في هذا من السر -والله أعلم- أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه، والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه، فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب، فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه، ويخففه، وأسرار كلماته وأدعيته فوق ما يخطر بالبال (2) . اهـ
فيكون بذهاب الأذى الحسي، تذكر الأذى المعنوي: وهو الذنوب، فسأل الله المغفرة.
الوجه الرابع: يذكره بعض الفقهاء، وليس له أصل.
قال الخرشي: لما كان خروج الأخبثين بسبب خطيئة آدم، ومخالفة الأمر حيث جعل مكثه في الأرض، وما تنال ذريته فيها عظة للعباد، وتذكرة لما تئول إليه المعاصي، فقد روي: " أنه حين وجد من نفسه ريح الغائط، قال: أي رب، ما هذا؟ فقال تعالى: هذا ريح خطيئتك، فكان نبينا b، يقول: حين خروجه من الخلاء: غفرانك، التفاتاً إلى هذا الأصل، وتذكيراً لأمته بهذه العظة (3) .
ولا يبعد أن يكون هذا التعليل من الإسرائيليات، خاصة أن النصارى هم الذين يرون أن بني آدم يحملون خطيئة أبيهم، فيحتاجون إلى الاستغفار عن ذنب لم يعملوه، والله أعلم.
_________
(1) المصدر السابق.
(2) إغاثة اللهفان (1/58،59) .
(3) الخرشي (1/143) .(2/126)
المبحث الثاني عشر
استحباب الحمد بعد الخروج من الخلاء
استحب الفقهاء أن يقول بعد خروجه من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (1) .
دليل الاستحباب.
الدليل الأول:
(210-54) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا هارون بن إسحق، حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن إسمعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة،
عن أنس بن مالك قال كان النبي b إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/256) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/50) .
وانظر في مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/270) ، الشرح الكبير (1/106) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 24) ، منح الجليل (1/99) .
وانظر في مذهب الشافعية: المهذب (1/26) ، إعانة الطالبين (1/112) ، الإقناع للشربيني (1/59) ، روضة الطالبين (1/66) ، شرح زبد بن رسلان (1/54) ،.
وانظر في مذهب الحنابلة: دليل الطالب (ص: 7) ، الفروع (1/87) ، المحرر (1/9) ، الكافي في فقه أحمد (1/49) ، والمبدع (1/82) ، كشاف القناع (1/67) .
(2) سنن ابن ماجه (301) .
(3) فيه علتان:
الأولى: إسماعيل بن مسلم المكي، متفق على ضعفه، قاله في الزوائد.
وقال البخاري: تركه ابن المبارك، وربما روى عنه، وتركه يحيى وابن مهدي. التاريخ الكبير (1/372) .
العلة الثانية: عنعنة عبد الرحمن المحاربي، وهو مدلس.(2/127)
الدليل الثاني:
(211-55) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي علي،
أن أبا ذر كان يقول إذا خرج من الخلاء: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني (1) .
[موقوف، وإسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/12) رقم 10.
(2) فيه أبو علي الأزدي، اسمه: عبيد بن علي، ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (5/455) .
وفي التقريب: مقبول، وباقي رجال إسناده ثقات.
وقد رواه المزي في التحفة (9/195) من طريق ابن مهدي ومحمد بن بشر، كلاهما عن سفيان به.
ورواه شعبة، واختلف عليه فيه:
فرواه النسائي في اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف (9/194،195) من طريق يحيى بن بكير، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن أبي ذر كان النبي b إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني.
وخالف يحيى من هو أوثق منه لا سيما في شعبة، فرواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، قال: سمعت رجلاً يرفع الحديث إلى أبي ذر قوله. نقلاً من التحفة.
ومحمد بن جعفر من أثبت الناس في شعبة.
وفي العلل لابن أبي حاتم (1/27) رواه شعبة، عن منصور، عن الفيض بن أبي حثمة، عن أبي ذر.
فصار شعبة تارة يرويه عن منصور عن أبي الفيض، وقيل: الفيض بن أبي حثمة.
وتارة يروية عن منصور، عن رجل يرفع الحديث إلى أبي ذر.
ويرويه سفيان، عن منصور، عن أبي علي الأزدي: واسمه عبيد بن علي.
جاء في العلل لابن أبي حاتم (1/27) سألت أبي عن حديث رواه شعبة، عن منصور، عن الفيض بن أبي حثمة، عن أبي ذر، أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي عافاني وأذهب عني الأذى.
فقال أبو زرعة: وهم شعبة في هذا الحديث، ورواه الثوري فقال: عن منصور، عن أبي علي عبيد بن علي، عن أبي ذر، وهذا هو الصحيح وكان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال. وقال أبي: كذا قال سفيان، وكذا قال شعبة، والله أعلم أيهما الصحيح، والثوري أحفظ، وشعبة ربما أخطأ في أسماء الرجال، ولا يدرى هذا منه أم لا؟ اهـ
وقال الدارقطني في العلل (6/235) : يرويه شعبة واختلف عنه، فرواه عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن سهل بن أبي حثمة وأبي ذر، عن النبي b، وليس هذا القول بمحفوظ، وغيره يرويه عن شعبة، عن منصور، عن رجل يقال له الفيض، عن ابن أبي حثمة، عن أبي ذر موقوفاً، وهو أصح.
وقد رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (539) من حديث شعبة، عن منصور، عن أبي الفيض، عن سهل بن أبي خيثمة، عن أبي ذر مرفوعاً. اهـ وقد سبق النقل من علل الدارقطني: عن سهل بن أبي خيثمة وأبي ذر.
فإن رجحنا رواية سفيان، كانت علة الحديث أبا علي الأزدي، مع كونها موقوفة على أبي ذر. وإن رجحنا رواية شعبة، فإن شعبة قد اختلف عليه في الإسناد اختلافاً يرد حديثه، وقد رجح الدارقطني الرواية الموقوفة، والله أعلم.(2/128)
الدليل الثالث:
(212-56) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدة، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان حذيفة إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله... وذكر الحديث (1) .
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (1/12) رقم 11.(2/129)
[ضعيف جداً] (1) .
الدليل الرابع:
(213-57) روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا هريم، عن ليث، عن المنهال بن عمرو، قال:
كان أبو الدرداء إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أماط عني الأذى وعافاني (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) في إسناده جويبر بن سعيد،
قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء، ضعيف ما أقربه من عبيدة الضبي ومحمد بن سالم وجابر الجعفي. الجرح والتعديل (2/540) .
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: جويبر بن سعيد كان خراسانياً ليس بالقوي. المرجع السابق.
قال فيه النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين (140) .
وقال في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (2/106) .
وقال الدارقطني وعلي بن الجنيد: متروك. الكامل (2/122) ، ميزان الاعتدال (ت1595) .
وقال ابن عدي: والضعف على حديثه ورواياته بين. الكامل (2/121،122) .
وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألته -يعني أباه- عن جويبر فضعفه جداً. تهذيب التهذيب (2/106) .
وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال الحاكم أبو عبد الله: أنا أبرأ إلى الله من عهدته. المرجع السابق.
وفي التقريب: ضعيف جداً.
(2) المصنف (1/12) رقم 13.
(3) فيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف قد تغير، كما أن المنهال بن عمرو لم يدرك أبا الدرداء.(2/130)
فصار الحديث يروى من حديث أنس مرفوعاً، وهو ضعيف، ومن حديث أبي ذر، الصواب موقوف من قوله، وفيه ضعف، وعن حذيفة، وهو ضعيف جداً، وعن أبي الدرداء موقوفاً عليه، وهو ضعيف، وعليه فلا يثبت في الباب شيء، والله أعلم.
قال أبو حاتم الرازي: أصح حديث في هذا الباب -يعني في باب الدعاء عند الخروج من الخلاء -حديث عائشة (1) . اهـ والذي فيه قول: غفرانك- وسبق الكلام عليه
وقال الترمذي: لا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة (2) .
وضعف الحديث النووي في الخلاصة (3) .
وقال في مصباح الزجاجة: هذا حديث ضعيف ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي b شيء (4) .
_________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/43) .
(2) سنن الترمذي (7) .
(3) الخلاصة (1/171) ..
(4) مصباح الزجاجة (1/44) .(2/131)
[صفحة فارغة](2/132)
الفصل الثالث عشر
في استحباب تنظيف اليد بعد غسل دبره
يستحب له أن يدلك يده في الأرض أو بغيرها من المطهرات بعد غسل دبره لقطع الرائحة عنها، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
وقيل: يجب غسلها، وهو قول في مذهب الحنفية (5) .
وهل يشترط ذهاب الرائحة، على قولين في مذهب الحنفية (6) .
_________
(1) البحر الرائق (1/253) ، حاشية ابن عابدين (1/345) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31) ، الفتاوى الهندية (1/6) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/50) ، بدائع الصنائع (1/20) ، بل إن الحنفية استحبوا أيضاً غسل اليد قبل الاستنجاء كما استحبوه بعد الاستنجاء، انظر الإحالات السابقة.
(2) حاشية الدسوقي (1/105) ، التاج والإكليل (1/269) ، الفواكه الدواني (1/132) ، مواهب الجليل (1/269) .
قال في الشرح الصغير (1/96) : وندب بعد فراغه من الاستنجاء أن يغسل يده التي لاقى بها الأذى حال الاستنجاء بتراب ونحوه، كأشنان وغاسول وصابون. اهـ
(3) قال في المجموع (2/129) : السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر، ذكره البغوي والروياني وآخرون. الخ كلامه رحمه الله، وانظر حواشي الشرواني (1/184) ، شرح زبد بن رسلان (ص: 53) ، مغني المحتاج (1/46) ، أسنى المطالب (1/53) .
(4) شرح العمدة (1/94) ، كشاف القناع (1/66) ، المغني (1/103) ، مطالب أولي النهى (1/73) .
(5) قال في حاشية ابن عابدين (1/345) : قيل: يجب غسلها -يعني اليد- لأنها تتنجس بالاستنجاء، وقيل: يسن وهذا هو الصحيح. اهـ
(6) جاء في حاشية ابن عابدين (1/345) : قال في السراج: وهل يشترط فيه ذهاب الرائحة؟ قال بعضهم: نعم. فعلى هذا لا يقدر بالمرات، بل يستعمل الماء حتى تذهب العين والرائحة. وقال بعضهم: لا يشترط، بل يستعمل حتى يغلب على ظنه أنه قد طهر، وقدروه بالثلاث. اهـ
والظاهر أن الفرق بين القولين: أنه على الأول يلزمه شم يده حتى يعلم زوال الرائحة،
وعلى الثاني لا يلزمه بل يكفي غلبة الظن. اهـ نقلاً من حاشية ابن عابدين.
وقال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31) : يغسل حتى يقطع الرائحة الكريهة: أي عن المحل وعن أصبعه التي استنجى بها؛ لأن الرائحة أثر النجاسة، فلا طهارة مع بقائها، والناس عنه غافلون. اهـ(2/133)
دليل الاستحباب.
الدليل الأول:
(214-58) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس،
عن ميمونة أن النبي b اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط ثم غسلها ثم توضأ وضوءه للصلاة فلما فرغ من غسله غسل رجليه (1) .
ولفظ مسلم: " ثم أدخل يده في الإناء، أفرغ بها على فرجه، وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكاً شديداً، ثم توضأ وضوءه للصلاة (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (260) .
(2) صحيح مسلم (317) .(2/134)
الدليل الثاني:
(215-59) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حجاج، قال: أخبرنا شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة،
عن أبي هريرة قال: كان النبي b إذا دخل الخلاء دعا بماء، فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (2/454) .
(2) الحديث أخرجه أحمد (2/213) وأبو داود (45) ، وابن ماجه (358) ، والنسائي (50) ، وابن حبان (1405) والبيهقي (1/106،107) من طريق شريك به.
واختلف على إبراهيم بن جرير:
فرواه عنه شريك، عن إبراهيم بن جرير، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة كما سبق.
ورواه أبان بن عبد الله البجلي، واختلف عليه:
فرواه الدارمي (679) عن محمد بن يوسف.
والنسائي (51) من طريق شعيب بن حرب.
وابن ماجه (359) وابن خزيمة (89) من طريق أبي نعيم.
والبيهقي (1/107) من طريق محمد بن عبد الله أبي عثمان الكوفي، أربعتهم عن أبان، عن إبراهيم بن جرير، عن أبيه جرير، فجعله أبان من مسند جرير، ولفظه: كنت مع النبي b، فأتى الخلاء، فقضى الحاجة، ثم قال: يا جرير هات طهوراً، فأتيته بالماء، فاستنجى بالماء، وقال بيده، فدلك بها الأرض. قال النسائي: هذا أشبه بالصواب من حديث شريك.
وإبراهيم بن جرير لم يسمع من أبيه، فهو منقطع.
وخالفهم جماعة رووه عن أبان، عن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة.
ورواه محمد بن عبد الله بن الزبير كما في مسند أحمد (2/358) والبيهقي (1/107) .
وأبو داود الطيالسي كما في مسند أبي يعلى (6136) .
ومحمد بن يوسف كما في سنن الدارمي (678) . ثلاثتهم رووه عن أبان، عن مولى لأبي هريرة، عن أبي هريرة بنحوه.
ومولى أبي هريرة هذا لم أعرفه، وقد جاء في سند البيهقي، قال: وأظنه قال: أبو وهب. اهـ
وأبو وهب ذكره البخاري في الكنى (751) ولم يذكر في الرواة عنه سوى حميد بن سعيد، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً.
فهذا الاختلاف على أبان مما يضعف روايته، فإن رجحنا رواية شريك، فإنه هو علة الحديث؛ لأنه سيء الحفظ.
وإن رجحنا رواية أبان بن عبد الله فإن فيه ضعفاً، فهو من مسند جرير فيها انقطاع، ومن مسند أبي هريرة، فيها رجل مجهول، فالحديث ضعيف على أية حال، والله أعلم.(2/135)
والدليل الأول كاف في الاستدلال، وهذا الأدب ظاهر أثراً ونظراً، وهو شاهد على أن الدين الإسلامي ولله الحمد لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما قد يحتاجها الإنسان إلا وقد أرشد إليها، فأين هذا من الديانات التي تدين بالقذارة والنجاسة، وصدق الله {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (1) .
وخير الهدي هدي محمد b، فلا تجد خيراً في أي نحلة أو ملة إلا وتجد في هذه الشريعة ما هو أكمل وأتم، فلله الحمد على إكمال دينه، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (2) .
رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً وبمحمد b نبيناً.
_________
(1) الأنعام: 38.
(2) المائدة: 3.(2/136)
المبحث الرابع عشر
في البول واقفاً
اختلف الفقهاء في البول، والإنسان قائم:
فقيل: يكره من غير عذر، وهو مذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، ورواية عن أحمد (3) .
وقيل: لا بأس به إن أمن التلوث والناظر، وهو نص المدونة (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) .
واستحب بعض المالكية البول جالساً، وهو نص خليل في مختصره (6) ،
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/344) ، البحر الرائق (1/256) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 35) ، الفتاوى الهندية (5/379) ، بريقة محمودية (4/116) .
(2) قال في المهذب (1/26) : ويكره أن يبول قائماً من غير عذر. اهـ
وقال في المجموع (2/100) : يكره البول قائماً بلا عذر كراهة تنزيه، ولا يكره للعذر، هذا مذهبنا. اهـ
وانظر إعانة الطالبين (1/112) ، الإقناع للشربيني (1/58) ، روضة الطالبين (1/66) ، أسنى المطالب (1/49) .
(3) الإنصاف (1/99) .
(4) قال في المدونة (1/131) : وقال مالك في الرجل يبول قائما قال: إن كان في موضع رمل أو ما أشبه ذلك لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس بذلك، وإن كان في موضع صفا يتطاير عليه فأكره له ذلك، وليبل جالساً.
(5) قال في الفروع (1/117) : ولا يكره البول قائماً وفاقاً لمالك. اهـ وانظر الإنصاف (1/99) ، شرح العمدة (1/147) ، كشاف القناع (1/65) ، دليل الطالب (ص: 7) ، منار السبيل (1/26) .
(6) قال في مختصره (ص:14) : ندب لقاضي الحاجة جلوس. اهـ ومقتضى ذلك أنه لا يكره؛ لأنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه، وهذا ما صرح به الخرشي (1/141) قال: ويجوز له القيام إذا أمن الاطلاع.
ونص عليه الباجي في المنتقى حيث أجاز البول واقفاً، وقال عن الجلوس بأنه أفضل، قال في المنتقى (1/129) : البول على قدر الموضع الذي يبال فيه، فإن كان موضعاً طاهراً دمثاً ليناً يؤمن فيه تطاير البول على البائل جاز أن يبال فيه قائماً؛ لأن البائل حينئذ يأمن تطاير البول عليه، ويجوز أن يبول قاعداً؛ لأنه يأمن على ثوبه من الموضع. والبول قاعدا أفضل وأولى؛ لأنه أستر للبائل. اهـ وانظر التاج والإكليل (1/385-387) ، حاشية الدسوقي (1/104) .(2/137)
ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.
فإن كان البول واقفاً من عذر جاز بالاتفاق (1) .
الدليل الأول:
لم يأت نهي من الشارع عن البول واقفاً، والأصل الإباحة حتى يأتي دليل يدل على المنع.
الدليل الثاني:
(216-60) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل،
عن حذيفة قال أتى النبي b سباطة قوم، فبال قائماً، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ (2) .
الدليل الثالث:
(217-61) ما رواه أحمد، قال: أبي ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا
_________
(1) لم أقف على أحد منع البول قائماً لعذر، فهذا الشافعية والحنفية كرهوا البول قائماً وقيدوا الكراهة من غير عذر، انظر ما تقدم من مراجعهم.
(2) صحيح البخاري (224) ومسلم (273) وزاد: ومسح على خفيه.(2/138)
عاصم بن بهدلة وحماد، عن أبي وائل،
عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله b أتى على سباطة بني فلان، فبال قائماً. قال حماد بن أبي سليمان: ففحج رجليه (1) .
[المحفوظ حديث أبي وائل، عن حذيفة، وحديث أبي وائل عن المغيرة وهم، والله أعلم] (2) .
_________
(1) المسند (4/246) .
(2) الحديث رواه عاصم بن بهدلة وحماد بن أبي سليمان، عن أبي وائل عن المغيرة.
وخالفهما الأعمش ومنصور، والشعبي فرووه عن أبي وائل، عن حذيفة، وهو الصواب.
قال الترمذي في سننه (1/20) : حديث أبي وائل عن حذيفة أصح.
وقال الدارقطني في العلل (7/95) إن عاصماً وحماداً وهما فيه على أبي وائل، وقال: رواه الأعمش ومنصور، عن أبي وائل، عن حذيفة، عن النبي b، وهو الصواب. اهـ
وكذا قال البيهقي في سننه الكبرى (1/101) .
وقال ابن حجر في الفتح (1/329) : قال الترمذي: حديث أبي وائل، عن حذيفة أصح -يعني من حديثه عن المغيرة- وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين، لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله: عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما، فيصح القولان معاً، لكن من حيث الترجيح؛ رواية الأعمش ومنصور أصح من رواية عاصم وحماد، لكونهما في حفظهما مقال. اهـ
قلت: حديث حذيفة في الصحيحين، وسبق تخريجه.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في إسناد الباب عن عفان.
وأخرجه عبد بن حميد كما في المنتخب (396) ، وابن خزيمة (63) عن يونس بن محمد
والطبراني في الكبير (20/405) رقم 966 من طريق حجاج بن منهال وأسد بن موسى، أربعتهم، عن حماد بن سلمة به.
وأخرجه ابن ماجه (306) والبيهقي في السنن الكبرى (1/101) والطبراني في الكبير (20/406) رقم 969، من طريق شعبة.
وأخرجه عبد بن حميد (399) والبزار في البحر الزخار (2891) من طريق أبي بكر بن عياش.
والطبراني في الكبير (20/405) رقم 966 من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن عاصم به.(2/139)
الدليل الرابع:
(218-62) من الآثار، ما رواه ابن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، قال:
رأيت علياً بال قائماً، ثم توضأ، ومسح على نعليه، ثم أقام المؤذن، فخلعهما (1) .
[رجاله ثقات] (2) .
_________
(1) المصنف (1/173) .
(2) أبو ظبيان اسمه: حصين بن جندب، من رجال الجماعة، وقد وثقه ابن معين والنسائي وأبو زرعة، والدارقطني وغيرهم.
ورواه عبد الرزاق (784) عن الثوري، عن الأعمش به.
وأخرجه البيهقي (1/288) من طريق ابن نمير، عن الأعمش به مطولاً، ولفظه: رأيت علي بن أبي طالب بالرحبة بال قائماً حتى أدعى، فأتى بكوز من ماء، فغسل يديه، واستنشق، وتمضمض، وغسل وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ثم أخذ كفاً من ماء، فوضعه على رأسه حتى رأيت الماء ينحدر على لحيته، ثم مسح على نعليه، ثم أقيمت الصلاة، فخلع نعليه، ثم تقدم، فأم الناس. قال ابن نمير: قال الأعمش: فحدثت إبراهيم، قال: إذا رأيت أبا ظبيان فأخبرني، فرأيت أبا ظبيان قائماً في الكناسة، فقلت: هذا أبو ظبيان، فأتاه، فسأله عن الحديث.
ورواه عبد الرزاق (783) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن أبي ظبيان به.
واختلف في سماع أبي ظبيان من علي، قال في التهذيب: لا يثبت له سماع من علي. وسئل الدارقطني: ألقي أبو ظبيان علياً؟ قال: نعم. اهـ
وهنا أبو ظبيان يقول: رأيت علياً. وقال الحافظ في التهذيب (226) : قد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم، ولم يثبت في النهي عنه شيء. اهـ(2/140)
الدليل الخامس:
(219-63) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن زيد، قال: رأيت عمر بال قائماً.
[إسناده صحيح] (1) .
دليل من قال يكره البول قائماً.
(220-64) ما رواه أحمد، قال: وكيع، عن سفيان، عن المقدام بن شريح بن هانئ، عن أبيه،
قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله b بال قائماً فلا تصدقه، ما بال رسول الله b قائماً منذ أنزل عليه القرآن (2) .
[إسناده صحيح] (3) .
_________
(1) المصنف (1/115) ورجاله ثقات.
(2) المسند (6/192) .
(3) الحديث رواه أحمد أيضاً (6/213) ، وإسحاق بن راهوية في مسنده (1570) عن وكيع،
وأخرجه أحمد (6/213) عن عبد الرحمن بن مهدي.
وأخرجه أبو عوانة في مسنده (1/198) من طريق قبيصة.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/267) والحاكم في المستدرك (644) والبيهقي في سننه الكبرى (1/101) من طريق أبي نعيم، أربعتهم عن سفيان به.
وأخرجه الحاكم (660) والبيهقي (1/101،102) من طريق إسرائيل، عن المقدام به.
وأخرجه الطيالسي (1515) ، وابن أبي شيبة (1/116) ، والترمذي (12) ، والنسائي (29) ، وابن ماجه (307) من طريق شريك، عن المقدام به. وشريك سيء الحفظ، لكنه قد توبع.
وزعم أبو عوانة في مسنده (1/198) أن هذا الحديث ناسخ لحديث حذيفة رضي الله عنه!!(2/141)
فقالوا: إن قول عائشة هذا ناسخ لحديث حذيفة.
وأجيب عنه.
قال الحافظ: الصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن (1) .
الدليل الثاني:
(221-65) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن نافع،
عن ابن عمر، عن عمر قال: رآني رسول الله b وأنا أبول قائماً، فقال: يا عمر لا تبل قائماً، فما بلت قائماً بعد (2) .
[إسناده ضعيف جداً، ومتنه منكر] (3) .
_________
(1) فتح الباري (ح 226) .
(2) سنن ابن ماجه (308) .
(3) في إسناده عبد الكربم بن أبي أمية، وهو متروك، وقد خالف فيه عبيد الله بن عمر، فقد رواه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: ما بلت قائماً منذ أسلمت،
وهذا إسناد في غاية الصحة، إلا أنه موقوف على عمر، أخرجه ابن أبي شيبة (1/116) حدثنا ابن إدريس وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر به.
قال الترمذي (12) : وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أيوب السختياني، وتكلم فيه، وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكر حديث ابن أبي شيبة الموقوف، وقال: وهذا أصح.
وأخرجه أبو عوانة (4/25) من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج به، وفيه زيادة النهي عن الحلف بغير الله.
وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/340) ، والحاكم (661) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/102) من طريق عبد الرزاق به.
واختلف على ابن جريج، فرواه عبد الرزاق، عنه، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر مرفوعاً.
وأخرجه ابن حبان (1423) من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن نافع به، فأسقط من إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق، فصار ظاهر الإسناد الصحة.
وقد قال ابن حبان: أخاف أن ابن جريج لم يسمع من نافع هذا الخبر. اهـ
وخوفه متحقق، وقد قال في مصباح الزجاجة (1/45) : هذا إسناد ضعيف عبد الكريم متفق على تضعيفه وقد تفرد بهذا الخبر، وعارضه خبر عبد الله بن عمر العمري الثقة المأمون المجمع على ثقته، ولا يغتر بتصحيح ابن حبان هذا الخبر من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر؛ فإنه قال بعده: أخاف أن يكون ابن جريج لم يسمعه من نافع، وقد صح ظنه، فإن ابن جريج سمعه من ابن أبي المخارق كما ثبت في رواية ابن ماجة هذه. اهـ(2/142)
ويعارضه ما تقدم عن عمر في أدلة القول الأول أن زيد بن وهب الجهني، قال: رأيت عمر بال قائماً.(2/143)
الدليل الثالث:
(222-66) ما رواه البخاري في التاريخ الكبير (1) ، والبزار (2) ، والطبراني في الأوسط (3) ، من طريق سعيد بن عبيد الله بن جبير، حدثنا عبد الله بن بريدة،
عن أبيه، قال: قال رسول الله b ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده.
قال البزار: لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، إلا سعيد، ورواه عن سعيد عبد الله بن داود وعبد الواحد بن واصل.
[ضعفه الترمذي وغيره] (4) .
_________
(1) (3/496) .
(2) كما في كشف الأستار (547) .
(3) (6/129) رقم 5998.
(4) قال الترمذي (1/18) : حديث بريدة هذا غير محفوظ. فاعترض عليه العيني في شرح البخاري (3/135) وقال: في قول الترمذي هذا نظر؛ لأن البزار أخرجه بسند صحيح.
قال العلامة المباركفوري: الترمذي من أئمة هذا الشأن، فقوله: حديث بريدة هذا غير محفوظ يعتمد عليه. وأما إخراج البزار حديثه بسند ظاهره الصحة فلا ينافي كونه غير محفوظ. اهـ
ونقل هذا أحمد شاكر في تحقيقه لسنن الترمذي (1/18) .
وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (74) رجاله ثقات إلا أنه معلول.
قلت: القول بأن إسناده صحيح فيه نظر، فإن سعيد بن عبد الله هو ابن جبير، قال عنه الدارقطني في سؤالات الحاكم (334) : ليس بالقوي يحدث بأحاديث يسندها، وغيره يوقفها. اهـ
وفي التقريب: صدوق ربما وهم، وهذا من أو هامه، فإنه خالفه من هو أوثق منه، فقد رواه ابن أبي شيبة (1/116) حدثنا وكيع، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة قال: كان يقال: من الجفاء أن يبول قائماً، ولم يرفعه.
ورواه البيهقي (2/285) من طريق جعفر بن عون، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن بريدة، عن ابن مسعود موقوفاً عليه.(2/144)
الدليل الرابع:
(223-67) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال: قال عبد الله: من الجفاء أن يبول قائماً (1) .
[المسيب لم يسمع من ابن مسعود] (2) .
الدليل الخامس:
(224-68) ما رواه البيهقي من طريق عدي بن الفضل، عن علي، عن الحكم، عن أبي نضرة،
عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله b أن يبول الرجل قائماً (3) .
[ضعيف جداً] (4) .
وأجابوا عن كون الرسول b بال قائماً بعدة أجوبة منها:
_________
(1) المصنف (1/116) رقم 1326.
(2) قال أحمد: لم يسمع من ابن مسعود شيئاً. جامع التحصيل (ص: 281) .
(3) سنن البيهقي (1/102) .
(4) فيه عدي بن الفضل، ضعف البيهقي الحديث بسببه، وفي التقريب: عدي بن الفضل التيمي متروك.(2/145)
الأول: أنه كان به b وجع الصلب، وأن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب، ولا دليل على هذا.
الثاني: أنه فعل ذلك لوجع في مأبضه،
(225-69) فقد أخرج الحاكم، ومن طريقه البيهقي من طريق حماد بن غسان الجعفي، ثنا معن بن عيسى، نا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة، أن النبي b بال قائماً من جرح كان بمأبضه.
[إسناده ضعيف] (1) .
الثالث: قالوا: إنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود، فاحتاج إلى القيام، وقد يكون خشي أن يرتد عليه بوله خاصة أنه بال على سباطة القوم.
الرابع: قالوا: إنما بال قائماً؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح، ففعل ذلك لكونه قريباً من الديار.
(226-70) ويؤيده ما رواه ابن المنذر، من طريق سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (2) .
[رجاله ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر] .
فالوجوه المتقدمة كلها ضعيفة، والصواب أنه فعل ذلك لبيان الجواز، بل إن العرب كانت تعد البول قاعداً من شأن المرأة.
_________
(1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح، تفرد به حماد بن غسان، ورواته كلهم ثقات. قال الذهبي: حماد ضعفه الدارقطني قاله في التلخيص، وقاله في الميزان (1/599) .
وقال في الفتح: لو صح لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي.
(2) الأوسط (1/116) .(2/146)
(227-71) فقد روى أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال:
كنت أنا وعمرو بن العاص جالسين، قال: فخرج علينا رسول الله b ومعه درقة أو شبهها، فاستتر بها، فبال جالساً. قال: فقلنا: أيبول كما تبول المرأة؟! قال: فجاءنا، فقال: أو ما علمتم ما أصاب صاحب بني إسرائيل؟ كان الرجل منهم إذا أصابه شيء من البول، قرضه، فنهاهم عن ذلك، فعذب في قبره (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
قال السيوطي: قال الشيخ ولي الدين العراقي: هل المراد التشبه بها في الستر أو الجلوس أو فيهما؟
محتمل، وفهم النووي الأول، فقال في شرح أبي داود: معناه أنهم كرهوا ذلك، وزعموا أن شهامة الرجال لا تقتضي الستر على ما كانوا عليه في الجاهلية.
_________
(1) المسند (4/196) .
(2) الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/115) ، وأبو يعلى (932) ، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (5/52) ، والنسائي في الكبرى (26) ، وفي المجتبى (30) وابن ماجه (346) ، وابن حبان (3127) ، والحاكم (657) من طريق أبي معاوية به.
وأخرجه الحميدي (882) عن سفيان.
وأبو داود (22) من طريق عبد الواحد بن زياد.
وأخرجه ابن الجارود (131) وابن المنذر في الأوسط (1/137) ، والبيهقي (1/101) من طريق يعلى بن عبيد.
وأخرجه البيهقي (1/104) من طريق عبيد الله بن موسى، أربعتهم عن الأعمش به.(2/147)
قال الشيخ ولي الدين: ويؤيد الثاني رواية البغوي في معجمه، فإن لفظها، فقال بعضنا لبعض: يبول رسول الله b كما تبول المرأة، وهو قاعد. وفي معجم الطبراني: " يبول رسول الله b وهو جالس كما تبول المرأة " وفي سنن بن ماجة: قال أحمد بن عبد الرحمن المخزومي: كان من شأن العرب البول قائماً، ألا تراه في حديث عبد الرحمن بن حسنة يقول يقعد ويبول (1) .
الراجح من الخلاف:
جواز البول واقفاً بشرطه، وهو الأمن من الناظر.
وأما الأمن من التلوث فليس بشرط؛ لأن التلوث بالنجاسة ليس محرماً، وإنما يشترط أن يتخلى من النجاسة عند إرادة العبادة التي من شرطها الطهارة كالصلاة، والله أعلم.
_________
(1) شرح السيوطي للنسائي (1/28) .(2/148)
المبحث السادس عشر
استحباب أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه
استحب المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، أن يهيء ما يستجمر به قبل جلوسه.
دليل الاستحباب.
الدليل الأول:
(228-72) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة، أن رسول الله b قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (4) .
[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (5) .
الدليل الثاني:
(229-73) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل،
_________
(1) مواهب الجليل (1/269) ، التاج والإكليل (1/269) ، مختصر خليل (ص: 14) ، حاشية الدسوقي (1/105) ، الخرشي (1/142) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، منح الجليل (1/98) ، حاشية الصاوي (1/96) .
(2) المجموع (2/109) ، تحفة المحتاج (1/166) ، شرح البهجة (1/114) ، روضة الطالبين (1/65) ، مغني المحتاج (1/40) .
(3) كشاف القناع (1/60) ، مطالب أولي النهى (1/67) .
(4) المسند (6/133) .
(5) سبق تخريجه في مسألة حكم الاستنجاء.(2/149)
قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين،
عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله b حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (1) .
[إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (2) .
قال النووي: النُبَل بضم النون وفتح الموحدة: هي الحجارة الصغيرة (3) .
الدليل الثالث:
من النظر، قالوا: لأنه إذا لم يعد الأحجار أو الماء، وتحرك لتحصيل المزيل ربما انتشرت النجاسة فلا يكفيه إلا الماء، وربما تلوثت ثيابه بالنجاسة، فكان الأفضل أن يعدها قبل جلوسه ليزيلها مباشرة.
_________
(1) الأوسط (5198) .
(2) انظر تخريجه في مسألة البول في الطريق والظل النافع.
(3) المجموع (2/109) .(2/150)
الفصل الثاني
في آداب قضاء الحاجة المتعلقة بالمكان(2/151)
[صفحة فارغة](2/152)
المبحث الأول
في طلب المكان الرخو
يستحب أن يطلب لبوله موضعاً رخواً، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
دليل المشروعية.
الدليل الأول: الإجماع.
قال النووي: وهذا الأدب متفق على استحبابه (2) .
الدليل الثاني:
أن طلب المكان الرخو مشروع حتى يأمن التلوث بالبول، حتى لا يرتد عليه رشاش من بوله.
(230-74) فقد روى البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: مر النبي b بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي b: يعذبان، وما
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: الفتاوى النهدية (1/50) .
وفي مذهب المالكية: الشرح الكبير (1/107) ، المنتقى شرح الموطأ (1/129) ، والتاج والإكليل (1/402) ، مواهب الجليل (1/268) ، الخرشي (1/145) ، الشرح الصغير (1/88) ، منح الجليل (1/100) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/98) ، المهذب (1/26) ، المنهج القويم (1/76) ، الإقناع للشربيني (1/58) ، حواشي الشرواني (1/169) ، أسنى المطالب (1/48) .
وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/60) ، مطالب أولي النهى (1/66) ، المغني (1/108) ، المبدع (1/82) ، المحرر (1/9) ، الكافي (1/50) ،.
(2) المجموع (2/98) .(2/153)
يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (1) .
قال الشوكاني: إن كان البول في الصلب مما يتأثر عنه عود شيء منه إلى البائل، فتجنب ذلك واجب؛ لأن التلوث به حرام، وما يتسبب عن الحرام حرام (2) .
الدليل الثالث:
(231-75) ما رواه أحمد، قال: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، حدثنا أبو التياح، عن شيخ لهم،
عن أبي موسى، قال: مال رسول الله b إلى دمث إلى جنب حائط، فبال قال: شعبة فقلت لأبى التياح جالساً قال لا أدري قال فقال رسول الله b: إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم البول قرضوه بالمقاريض، فإذا بال أحدكم فليرتد لبوله (3) .
[إسناده ضعيف] (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (216) ، ومسلم (292) .
(2) السيل الجرار (1/66) .
(3) المسند (4/399) .
(4) إسناده ضعيف لإبهام شيخ أبي التياح.
والحديث أخرجه الطيالسي (519) ، ومن طريقه الحاكم في المستدرك (5964) .
وأخرجه البيهقي (1/93،94) من طريق وهب بن جرير.
وأخرجه أحمد (4/396) حدثنا محمد بن جعفر.
وأخرجه أبو داود (3) ومن طريقه البيهقي (1/93،94) من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/329) من طريق المقرئ، كلهم عن شعبة به.
والحديث صححه الحاكم، وضعفه ابن المنذر في الأوسط (1/329) .(2/154)
الدليل الرابع:
(232-76) روى الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، ثناسعيد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه،
عن أبي هريرة، قال: كان النبي b يتبوأ لبوله كما يتبوأ لمنزله (1) .
[إسناده ضعيف] .
قال السيوطي: يتبوأ بالهمز لبوله كما يتبوأ لمنزله: أي يطلب موضعاً يصلح كما يطلب موضعاً يصلح للسكنى، يقال: تبوأ منزلاً: أي اتخذه، فالمراد: اتخاذ محل يصلح للبول فيه. قال الحافظ العراقي: واستعمال هذه اللفظة على جهة التأكيد، والمراد: أنه يبالغ في طلب ما يصلح لذلك، ولو قصر زمنه، كما يبالغ في استصلاح المنزل الذي يراد للدوام، وفيه أنه يندب لقاضي الحاجة أن يتحرى أرضاً لينة من نحو تراب أو رمل، لئلا يعود عليه الرشاش،
_________
(1) ورواه ابن عدي في الكامل (3/377) من طريق أبي عاصم.
ورواه الحارث بن أسامة كما في المطالب العالية (35) من طريق يحيى بن إسحاق.
كلاهما عن سعيد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، قال: وذكره، ولم يذكر أبا هريرة.
ورواه سعيد بن يعقوب الأصبهاني في كتابه في الصحابة كما في المطالب العالية (1/154) من طريق وكيع، عن سعيد بن زيد، عن واصل مولى بن عينة، عن عبيد بن صيفي، عن أبيه مرفوعاً.
قال الهيثمي في المجمع (1/204) : رواه الطبراني في الأوسط، وهو من رواية يحيى بن عبيد بن دجي، عن أبيه، ولم أر من ذكرهما، وبقية رجاله موثقون. وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (495) .(2/155)
فينجسه، فإذا لم يجد إلا صلبة لينها بنحو عود، والله أعلم (1) .
الدليل الخامس:
(233-77) روى الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا الحكم بن موسى، نا الوليد-هو ابن مسلم- عن الوليد بن سليمان بن أبي السائب،
عن طلحة بن أبي قنان، قال: إن رسول الله b كان إذا أراد أن يبول فوافى عزازاً من الأرض أخذ عوداً فنكت به في الأرض حتى يثير التراب، ثم يبول فيه (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
الدليل السادس:
(234-78) ما رواه ابن عدي في الكامل (4) ، وابن حبان في المجروحين (5) ، من طريق عمر بن هارون البلخي، عن الأوزاعي، عن يحيى
_________
(1) الجامع الصغير (495) .
(2) المطالب العالية (36) .
(3) الحديث له أكثر من علة:
منها: الإرسال، فقد نص البخاري في التاريخ الكبير بأن رواية طلحة، عن النبي b مرسلة. التاريخ الكبير (4/347) .
ومنها عنعنة الوليد بن مسلم، وبه أعله البوصيري في الإتحاف (1/356) .
ومنها جهالة طلحة بن أبي قنان، قال ابن القطان كما في فيض القدير (5/94) : لم يذكر عبد الحق لهذا علة إلا الإرسال وطلحة هذا لا يعرف بغير هذا. اهـ
والحديث ذكره أبو داود في المراسيل في أول حديث فيه (ص: 73) بنحوه.
(4) الكامل (5/31) .
(5) المجروحين (2/91) .(2/156)
بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه، قال: كان النبي b يتبوأ للبول، كما يتبوأ الرجل لنفسه منزلاً.
[إسناده ضعيف جداً] (1) .
_________
(1) فيه عمر بن هارون البلخي، وهو متروك.(2/157)
[صفحة فارغة](2/158)
المبحث الثاني
في استحباب الاستتار(2/159)
[صفحة فارغة](2/160)
الفرع الأول
استحباب الابتعاد عن أعين الناس إن كان في الفضاء
ذكر المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، إلى أنه يندب لقاضي الحاجة إذا كان في الفضاء التباعد عن الناس.
دليل المشروعية.
الدليل الأول:
(235-79) ما رواه البخاري، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق،
عن مغيرة بن شعبة، قال: كنت مع النبي b في سفر، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة، فأخذتها، فانطلق رسول الله b حتى توارى عني، فقضى حاجته. الحديث، ورواه مسلم (4) .
الدليل الثاني:
(236-80) ما رواه مسلم، قال: حدثنا شيبان بن فروخ وعبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، قالا: حدثنا مهدي -وهو ابن ميمون- حدثنا
_________
(1) مواهب الجليل (1/275) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، التاج والإكليل (1/275) ، مختصر خليل (ص:15) ، الشرح الكبير (1/106) ، الشرح الصغير (1/91) .
(2) المجموع (2/92) ، المهذب (1/26) ، التنبيه (ص: 17) ، أسنى المطالب (1/45) ، الإقناع للشربيني (1/58) ، روضة الطالبين (1/66) ، شرح البهجة (1/114) .
(3) كشاف القناع (1/60) ، الروض المربع (1/35) ، مطالب أولي النهى (1/66) ، أخصر المختصرات (ص: 90) ، الفروع (1/82) ، شرح العمدة (1/143) ، المحرر (1/9) .
(4) صحيح البخاري (363) ، مسلم (274) .(2/161)
محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي،
عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله b ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله b لحاجته هدف، أو حائش نخل (1) .
الدليل الثالث:
(237-81) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة،
عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول الله b في بعض أسفاره، وكان إذا ذهب أبعد في المذهب، فذهب لحاجته وقال يا مغيرة اتبعني بماء فذكر الحديث.. (2) .
[إسناده حسن، والحديث صحيح] (3) .
_________
(1) مسلم (342) .
(2) المسند (4/248) .
(3) رجاله ثقات إلا محمد بن عمرو، وهو صدوق.
والحديث أخرجه الدارمي (660) ، والطبراني في الكبير (20/437) رقم 1064، وابن المنذر في الأوسط (1/321) من طريق يعلى بن عبيد به.
وأخرجه أبو داود (1) والطبراني في الكبير (20/436) رقم 1062من طريق الدراوردي.
وأخرجه الترمذي (20) من طريق عبد الوهاب الثقفي.
وأخرجه النسائي (17) والطبراني في الكبير (20/436) رقم 1063، وابن خزيمة (50) ، والحاكم في المستدرك (488) من طريق إسماعيل: هو ابن جعفر بن أبي كثير القارئ.
وابن ماجه (331) والطبراني في الكبير (20/437) رقم 1065من طريق إسماعيل بن علية.
وأخرجه البيهقي (1/93) من طريق يزيد بن هارون. كلهم من طريق محمد بن عمرو به.
وأخرجه الدارمي (661) قال: أخبرنا أبو نعيم، حدثنا جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب، عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي b إذا تبرز تباعد.
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن المنذر في الأوسط (1/321) . وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، وجرير بن حازم أخرج له الجماعة، وإنما ضعفه ابن معين وأحمد وابن عدي في قتادة خاصة، وإذا حدث من حفظه ربما وهم، والحديث قد جاء في الصحيحين بنحوه، وسبق تخريجه.(2/162)
الدليل الرابع:
(238-82) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عفان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي جعفر الخطمي، قال: حدثنا عمارة بن خزيمة والحارث بن فضيل،
عن عبد الرحمن بن أبي قراد قال: خرجت مع النبي b حاجاً، فرأيته خرج من الخلاء، فاتبعته بالإداوة أو القدح، فجلست له بالطريق، وكان إذا أتى حاجته أبعد (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (3/443) .
(2) رجاله كلهم ثقات، وقد قال الحافظ في أبي جعفر عمير بن يزيد: صدوق، والحق أنه ثقة، فقد وثقه يحيى بن معين. الجرح والتعديل (6/379) .
وقال النسائي أيضاً: ثقة. تهذيب التهذيب () وحسبك بهما.
كما وثقه ابن نمير والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. معرفة الثقات (2/192) ، ثقات ابن حبان (7/272) ، تهذيب التهذيب (8/134) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان أبو جعفر وأبوه وجده قوماً يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض. تهذيب التهذيب (8/134) .
وقال الطبراني في الأوسط: ثقة. المرجع السابق.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/100) رقم 1129 وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/224) ، والنسائي (16) ، وفي الكبرى (17) ، وابن ماجه (334) وابن خزيمة (51) من طرق عن يحيى بن سعيد القطان به.
وفي العلل لابن أبي حاتم (1/57) سئل أبو زرعة عن حديث رواه يحيى بن سعيد القطان، عن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة والحارث بن فضيل، عن عبد الرحمن بن قراد، عن النبي b في الوضوء، ورواه غندر، عن شعبة، عن أبي جعفر المديني، عن عمارة بن عثمان بن حنيف، قال: حدثني القيس أنه كان مع النبي b فأتى بماء فغسل يده مرة، وغل وجهه وذراعيه مرة، وغسل رجليه مرة بيديه كلتيهما. فقال أبو زرعة: الصحيح حديث يحيى بن سعيد القطان. اهـ
قلت: حديث شعبة الذي أشار إليه ابن أبي حاتم أخرجه أحمد (5/368) ، والنسائي (113) .(2/163)
الدليل الخامس:
(239-83) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا عيسى بن يونس، أخبرنا إسمعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير،
عن جابر بن عبد الله أن النبي b كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (2) .
(2) الحديث فيه علتان:
الأولى: فيه إسماعيل بن عبد الملك.
قال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبى الصفيراء. الجرح والتعديل (2/186) .
وقال عمرو بن على: رأيت عبد الرحمن -يعنى بن مهدى- وذكر إسماعيل بن عبد الملك، وكان قد حمل عن سفيان عنه، فقال: اضرب على حديثه. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، وليس حده الترك. قيل: يكون مثل أشعث بن السوار في الضعف؟ فقال: نعم. المرجع السابق.
وقال ابن حبان: كان سيء الحفظ، ردئ الفهم، يقلب ما يروي. المجروحين (1/121) .
وفي التقريب: صدوق كثير الوهم.
العلة الثانية: عنعنة أبي الزبير عند من يعتبره مدلساً.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/321) وعبد بن حميد في مسنده (1053) ، والدارمي في المقدمة (17) وابن عبد البر في التمهيد (1/223) من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن عبد الملك به، مطولاً، وفيه قصة اجتماع الشجرتين ليستتر رسول الله b بهما، وفيه أيضاً أن امرأة عرضت صبياً على رسول b وكان فيه مس من شيطان، فأخرجه منه رسول الله b.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/101) ومن طريقه ابن ماجه (335) مختصراً، بلفظ: كان رسول الله b لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى.(2/164)
الدليل السادس:
(240-84) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن يونس بن خباب،
عن يعلى بن مرة أن النبي b كان إذا ذهب إلى الغائط أبعد (1) .
[إسناده فيه ضعف] (2) .
_________
(1) سنن ابن ماجه (333) .
(2) فيه يونس بن خباب، جاء في ترجمته:
قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما تعجبنا الرواية عن يونس بن خباب. الجرح والتعديل (9/238) .
وقال يحيى بن سعيد أيضاً: كان كذاباً. ميزان الاعتدال (9911) .
وقرئ على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: يونس بن خباب رجل سوء. الجرح والتعديل (9/238) .
وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: يونس بن خباب لا شيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: مضطرب الحديث ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال الجوزجاني: كذاب مفتر. أحوال الرجال (22) .
وقال العجلي: كوفى، أظنه قال: شيعى خبيث يقال: إنه كان يقول عثمان قتل ابنتى النبي b. معرفة الثقات (2/377) .
وقال الدراقطني كان رجل سوء، فيه شيعية مفرطة، كان يسب عثمان، وحين سمعه عباد بن عوام يتهم عثمان بقتل ابنتي رسول الله b؟ قال له: قتل واحدة فلم زوجه الأخرى؟!! الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (3/224) .
قال في مصباح الزجاجة (1/49) : إسناده ضعيف، لضعف يونس بن خباب.(2/165)
الدليل السابع:
(241-85) ما رواه أبو يعلى في مسنده، قال: حدثني أبو بكر الرمادي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع -يعني: ابن عمر- عن عمرو بن دينار،
عن ابن عمر قال: كان النبي b يذهب لحاجته إلى المغمس. قال نافع: نحو ميلين عن مكة (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) مسند أبي يعلى (5626) .
(2) الحديث أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (2/609) حدثنا عمر بن الخطاب.
وأخرجه الطبراني (12/451) رقم 13638، حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح ويحيى بن أيوب العلاف المصريان، كلهم عن سعيد بن أبي مريم به.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/203) : رواه أبو يعلى، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات من أهل الصحيح.(2/166)
الدليل الثامن:
(242-86) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة،
عن أنس، قال: كان رسول الله b إذا انطلق لحاجته تباعد حتى لا يكاد يرى (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) مسند أبي يعلى (3664) .
(2) في إسناده يوسف بن عطية، جاء في ترجمته:
قال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (8/387) ، والأوسط (2/223) .
قال يحيى بن معين كما في رواية الدوري عنه: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/226) .
وقال عمرو بن علي: كثير الوهم والخطأ. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبى وأبا زرعة عن يوسف بن عطية أبى سهل الصفار فقال: ضعيف الحديث، زاد أبو حاتم: منكر الحديث. المرجع السابق.
وقال العجلي: ضعيف الحديث. معرفة الثقات (2/375) .
وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين (617) ، والكامل (7/153) .
وقال أبو داود: ليس بشيء. تهذيب التهذيب (11/367) .
وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابع عليه. الكامل (7/153) .
وقال الذهبي: مجمع على ضعفه. ميزان الاعتدال (9885) .
وفي التقريب: متروك.
والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين (1253) من طريق سعيد بن منصور، ثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أنس بن مالك أن رسول الله b أمر الفضل بن عباس أن يعد له طهوراً، فانطلق رسول الله b لحاجته، وكان إذا كانت له حاجة تباعد حتى لا يكاد يرى، فلما قضى رسول الله b حاجته أقبل راجعاً، فمر بامرأة عند قبر ميت لها، وهي تعدد وتعول، فقام رسول الله b عليها، وهي لا تعرفه، فقال لها: اتقي الله واصبري. قالت: يا عبد الله إذهب لحاجتك. فقال لها ثلاثاً، ثم انصرف، فجاء، فأخذ المطهرة من الفضل، فقام الفضل، فأتى المرأة، فقال لها: ما قال لك رسول الله b؟ فقامت، فقالت: يا ويلها! هذا رسول الله، ولم أعرفه، فسعت حتى لحقته على باب المسجد، فقالت: يا رسول الله، والله ما عرفتك. فقال لها رسول الله b: الصبر عند الصدمة الأولى، قالها ثلاثاً.
وهذه الزيادة من تخليط يوسف بن عطية، وحديث أنس في البخاري (1283) ، ومسلم (926) ، وليس فيه زيادة: "أن رسول الله b أمر الفضل بن عباس أن يعد له طهوراً، فانطلق رسول الله b لحاجته، وكان إذا كانت له حاجة تباعد حتى لا يكاد يرى" فهي زيادة منكرة.
وذكره البوصيري في الإتحاف (640) ، وقال: هذا إسناد ضعيف: عطاء بن أبي ميمونة ضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والبخاري وأبو داود والنسائي، والعجلي وابن المديني، والدارقطني وغيرهم. اهـ
قلت: ينبغي أن تكون علته يوسف بن عطية، فإن عطاء بن أبي ميمونة قد وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة والنسائي، وقال أبو حاتم: صالح لا يحتج بحديثه، وكان قدرياً. وقال ابن عدي: في بعض أحاديثه بعض ما ينكر عليه. ووثقه يعقوب بن سفيان، واحتج به الجماعة سوى الترمذي، وليس له في البخاري سوى حديثه عن أنس في الاستنجاء، وفي التقريب: ثقة. فأقل أحواله أن يكون حسناً.
وقد خولف فيه يوسف بن عطية، فقد أخرج الشيخان البخاري (150) ، ومسلم (271) من طريق شعبة.
وأخرجه البخاري (217) ، ومسلم (271) من طريق روح بن القاسم.
وأخرجه مسلم (270) من طريق خالد الحذاء، كلهم رووه عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، كان النبي b إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به.
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (238) من طريق الأعمش، عن أنس أن النبي b كان إذا أراد حاجة أبعد. والأعمش لم يسمع من أنس.
وأخرجه ابن ماجه (332) قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عمرو بن عبيد، عن عمر [وفي المطبوع محمد، وهو خطأ والتصحيح من تحفة الأشراف (1/288) ] بن المثنى، عن عطاء الخراساني، عن أنس قال: كنت مع النبي b في سفر، فتنحى لحاجته، ثم جاء، فدعا بوضوء، فتوضأ.
وهذا إسناد ضعيف جداً، فيه عمرو بن عبيد التيمي.
حدث أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يونس قال: كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث. الجرح والتعديل (6/246) .
وقال الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: عمرو بن عبيد ليس بشيء. المرجع السابق.
وقال عمرو بن على: كان متروك الحديث، صاحب بدعة. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: كان متروك الحديث. المرجع السابق.
وفي التقريب: اتهمه جماعة، مع أنه كان عابداً.
وفيه أيضاً: عمر بن المثنى قال عنه الحافظ في التقريب: مستور.(2/167)
الدليل التاسع:
(243-87) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب(2/169)
بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (1) .
[إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (2) .
ولو كان الحديث صحيحاً لكان الاستتار واجباً؛ فإذا كان تركه يفضي إلى أن يتلاعب بمقاعد بني آدم، كيف يكون الاستتار مستحباً.
الدليل العاشر:
(245-89) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا هاشم بن مرثد، ثنا آدم، نا حبان بن علي، نا سعد بن طريف الإسكاف، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال كان رسول الله b إذا أراد الحاجة أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثم توضأ، ولبس أحد خفيه، فجاء طائر أخضر، فأخذ الخف الآخر، فارتفع به، ثم ألقاه، فخرج منه أسود سابح، فقال رسول الله b: هذه كرامة أكرمني الله بها، ثم قال رسول الله b: اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع (3) .
[إسناده ضعيف جداً] (4) .
هذه الأدلة من السنة، وقد كان يكفي ذكر الصحيح عن الضعيف، لكن أردت أن أستوعب تخريج الأحاديث لمن أراد أن ينظر في صحتها، والله أعلم.
_________
(1) المسند (2/371) .
(2) وسبق تخريجه في حكم الاستنجاء.
(3) المعجم الأوسط (9304) .
(4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/203) فيه سعد بن طريف متهم بالوضع.(2/170)
الدليل الحادي عشر:
استدلوا على مشروعية الإبعاد في الفضاء بالإجماع.
قال النووي: وهذان الأدبان -يعني: البعد والاستتار- متفق على استحبابهما (1) .
وابتعاد الإنسان هل يشرع للبول والغائط، أو للغائط فقط؟ فقد يقال يشرع للغائط فقط،
(246-90) لما أخرج مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبو خيثمة، عن الأعمش، عن شقيق،
عن حذيفة قال: كنت مع النبي b فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه. وأخرجه البخاري (2) .
فهنا بال الرسول b وأمر حذيفة أن يكون قريباً منه:
فقيل: فعله لبيان الجواز.
وقيل: استدناه ليستتر به عن أعين الناس، واستدبره حذيفة،
(247-91) فقد روى الطبراني من حديث عصمة بن مالك، قال: خرج علينا رسول الله b في بعض سكك المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: يا حذيفة استرني، وسكت عليه الحافظ في الفتح.
وقيل: فعله؛ لأنه في البول خاصة، وهو أخف من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشف، ولم يقترن به من الرائحة. ولإن الغرض من الإبعاد هو التستر،
_________
(1) المجموع (2/92) .
(2) البخاري (224) ، ومسلم (273) .(2/171)
وهو حاصل لمن بال قائماً بإرخاء ذيله، ودنوه من الساتر.
وقيل: فعله؛ لأنه بال قائماً، ولو بال قاعداً لتباعد، فلا بأس لمن بال قائماً أن يبول بقرب الناس؛ لأن البول قائماً أحصن للدبر (1) ، وقد روي عن عمر، ولا أظنه يصح.
(248-92) فقد روى ابن المنذر، حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن مطرف، عن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال:
قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر (2) .
[ورجاله كلهم ثقات إلا أن سعيد بن عمرو بن سعيد لم يدرك عمر] .
(249-93) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن إدريس وابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر،
عن عمر: مابلت قائماً منذ أسلمت (3) .
[إسناده صحيح] .
_________
(1) انظر فتح الباري حديث (225) ، والأوسط (1/222) .
(2) الأوسط (1/322) ، والأثر أخرجه البيهقي (1/102) من طريق إسحاق به.
(3) المصنف (1/116) .(2/172)
الفرع الثاني
في وجوب ستر العورة عن الناس عند قضاء الحاجة
يجب ستر العورة عن الناس (1) .
أدلة وجوب ستر العورة
والدليل على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (2) .
(250-94) ومن السنة: ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن بهز قال: حدثني أبي،
عن جدي قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال قلت يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يراها أحد فلا
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (2/185) ، شرح معاني الآثار (1/476) ، المبسوط (10/155) ، العناية شرح الهداية (10/28) ، درر الحكام (1/313،314) ، واعتبر الزيلعي النظر إلى عورة الغير موجباً للفسق انظر تبيين الحقائق (3/194) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/736) ، والخرشي (1/246) ، حاشية العدوي (2/456) ، المنتقى شرح الموطأ (2/2) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/237) ، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/115) ، وطرح التثريب (2/227) و (6/103) ، وحاشيتا قليوبي وعميرة (4/320) .
وانظر في مذهب الحنابلة: الفتاوى الكبرى (1/284،300) ، الإنصاف (8/28) ، كشاف القناع (1/265) .
(2) النور: 30.(2/173)
يرينها قلت فإذا كان أحدنا خاليا قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه.
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز فذكر مثله قال فالله عز وجل أحق أن يستحيا منه ووضع يده على فرجه (1) .
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) المسند (5/3،4) .
(2) [تخريج الحديث] .
الحديث مداره على بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وهذا الإسناد إسناد حسن لذاته.
أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (4017) ، والترمذي (2769) ، والنسائي في الكبرى (8972) ، والروياني في مسنده (911) من طريق يحيى بن سعيد القطان.
وأخرجه أحمد كما في حديث الباب، والبيهقي (1/199) و (2/225) ، والروياني في مسنده (928) من طريق إسماعيل بن علية.
وأخرجه عبد الرزاق (1106) ، ومن طريقه أحمد (5/4) ، والطبراني في الكبير (19/414) رقم 996. عن معمر.
وأخرجه أحمد (5/4) ، والطبراني في الكبير (19/412) رقم 991. من طريق حماد بن زيد.
وأخرجه الترمذي (2794) ، والروياني في مسنده (928) ، والبيهقي (1/199) و (2/225) من طريق معاذ بن معاذ.
وأخرجه الترمذي (2794) ، وابن ماجه (1920) ، والحاكم (7358) ، والطبراني في الكبير (19/413) رقم 994 من طريق يزيد بن هارون.
وأخرجه البيهقي (7/94) من طريق سفيان.
وأخرجه أبو داود (4017) من طريق مسلمة بن قعنب.
وأخرجه ابن ماجه (1920) من طريق حماد بن أسامة.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/413) رقم 992. من طريق حماد بن سلمة.
وأخرجه أيضاً (19/413) رقم 993. من طريق عيد بن الفضل.
وأخرجه أيضاً (19/413) رقم 995. من طريق النضر بن شميل.
وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (863) والطبراني في الكبير (19/413) رقم 995 من طريق عيسى بن يونس. كلهم رووه عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعاً.
ورواه البخاري تعليقاً، ذكره قبل حديث (278) جازماً به. قال الحافظ في الفتح: الإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم به البخاري. وصححه الشوكاني في السيل الجرار (1/68) .(2/174)
الدليل الثاني:
(251-95) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، عن الضحاك بن عثمان قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري،
عن أبيه، أن رسول الله b قال: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد (1) .
الدليل الثالث: من الإجماع.
قال النووي: ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع (2) .
ونقل الإجماع معه جماعة (3) .
_________
(1) صحيح مسلم (338) .
(2) المجموع (3/171) .
(3) انظر موسوعة الإجماع (2/844) .(2/175)
[صفحة فارغة](2/176)
الفرع الثالث
في رفع الثوب قبل الدنو من الأرض
استحب الفقهاء أن لا يرفع ثوبه قبل الدنو من الأرض، وبعضهم عبر بكراهة رفع الثوب. وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
وقيل: يحرم، وهي رواية عن الإمام أحمد (2) .
وقيل: يجوز بلا كراهة، يعني: ولم يكن ثم ناظر ينظر إلى عورته (3) .
قال الطيبي: يستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن رفع الثوب فيه كشف العورة، وهو لا يجوز إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض (4) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/256) ، الفتاوى الهندية (1/50) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 36) .
وفي مذهب المالكية: التاج والإكليل (1/269) ، مواهب الجليل (1/269) ، الخرشي (1/142) ، حاشية الدسوقي (1/105) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/98) ، المهذب (1/26) ، روضة الطالبين (1/66) ، المنهج القويم (ص: 76) ،.
وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/108) ، الفروع (1/115،116) ، الإنصاف (1/95) ، المبدع (1/80) ، شرح العمدة (1/401) ، الكافي (1/50) ، كشاف القناع (1/61) .
(2) الفروع (1/116) .
(3) اختارها ابن تميم من الحنابلة، انظر الفروع (1/116) .
(4) شرح المشكاة () وهذا الكلام حسن، إلا أنه جعل كشف العورة لا يجوز مطلقاً حتى ولو لم يكن هناك ناظر، وهي مسألة خلافية.(2/177)
دليل من قال: يستحب أن لا يرفع ثوبه من الأرض.
الدليل الأول:
الإجماع، قال النووي: هذا الأدب مستحب بالاتفاق.
الدليل الثاني:
(252-96) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن رجل،
عن ابن عمر أن النبي b كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل الثالث:
(253-97) ما رواه الطبراني، من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي، ثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل،
_________
(1) سنن أبي داود (14) .
(2) ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي (1/96) . وفيه رجل مبهم، واختلف على الأعمش، فرواه وكيع، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر.
ورواه أبو داود (14) والترمذي (14) والدارمي (666) من طريق عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس بنحوه، ولم يسمع الأعمش من أنس.
قال أبو داود في سننه بعد أن ساق حديث الباب: ورواه عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أنس بن مالك، وهو ضعيف.
وفي علل الترمذي (ص: 25) ذكر الحديث من مسند أنس ومن مسند ابن عمر، ثم قال: فسألت محمداً عن هذا الحديث أيهما أصح؟ - يعني: مسند أنس أم مسند ابن عمر- فقال: كلاهما مرسل، ولم يقل أيهما أصح. اهـ(2/178)
عن جابر، أن النبي b كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (1) .
[موضوع] (2) .
دليل من قال: يحرم كشف ثوبه قبل دنوه من الأرض.
الدليل الأول:
قال دلت السنة على تحريم كشف العورة، ولو كان الإنسان خالياً.
(254-98) لما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وإسماعيل بن إبراهيم عن بهز قال حدثني أبي،
عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك. قال قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها. قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه (3) .
[إسناده حسن] (4)
_________
(1) مجمع البحرين (343) .
(2) ورواه ابن عدي في الكامل (2/364) من طريق الحسين بن عبيد الله العجلي به.
وفيه الحسين بن عبيد الله العجلي.
قال الدارقطني: كان يضع الحديث. ميزان الاعتدال (2024) .
وقال ابن عدي: يشبه أن يكون ممن يضع الحديث. الكامل (2/364) .
(3) المسند (5/3،4) .
(4) سبق بحثه.(2/179)
وجه الاستدلال:
قال ابن حجر: ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقاً. اهـ
قلت: لأن وجوب ستر العورة عن الناس لا ينازع فيه أحد، فإذا كان الله أحق أن يستحيا منه من الناس، كان ستر العورة خالياً أولى بالمنع هذا ما يفيده قوله: " فالله أحق" كما استدل به في قوله: " اقضوا الله فالله أحق بالقضاء"
(255-99) فقد روى البخاري، قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير،
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رجل النبي b فقال له: إن أختي قد نذرت أن تحج، وإنها ماتت فقال النبي b: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء (1) .
وكونه ثبت عن موسى وأيوب عليهما السلام اغتسالهما عريانين، فهذا في شريعتهما، وقد جاء في شريعتنا ما يدل على وجوب ستر العورة خالياً.
قال الشوكاني: أصل ستر العورة الوجوب، فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة، كما يكون عند خروج الحاجة، فالاستتار قبل حالة الخروج واجب، فيكشف عورته حالا الانحطاط لخروج الخارج، لا حال كونه قائماً، ولا حال كونه ماشياً إلى قضاء الحاجة (2) . اهـ
_________
(1) صحيح البخاري (6699) .
(2) السيل الجرار (1/64) .(2/180)
وممكن أن يجاب.
بأن يقال: قوله: فالله أحق بالقضاء، هذا التعبير لا يدل على الوجوب، فالصيام عن الميت، ووفاء نذره لا يجب على غير الميت، ولكن القضاء عنه من الوفاء له والبر به، لكن الأصل في العبادة أنها واجبة على الإنسان نفسه، لكن إن تطوع أحد من الورثة كان محسناً، فلا يدل تعبير " فالله أحق " على وجوب قضاء العبادة عن الميت، وبالتالي لا يدل على وجوب ستر العورة والإنسان خالياً، والله أعلم.(2/181)
[صفحة فارغة](2/182)
الفرع الخامس:
إذا اضطر إلى كشف العورة أمام الغير لقضاء الحاجة
إذا لم يتمكن الإنسان من قضاء الحاجة إلا بالنظر إليه، فعل ذلك بعد أن يأمرهم بكف أبصارهم، وبالانكار عليهم إن لم يفعلوا؛ لأن كشف العورة محرم لغيره (1) ، فتبيحه مجرد الحاجة، فكيف وهو هنا مضطر إلى كشفها، ولذلك يجوز كشف عورته للتداوي مع أن التداوي ليس بواجب، ولو تركه لا يلام.
وأما الاستنجاء فيتركه، ولا يجب عليه فعله مع النظر إليه؛ لأن إزالة النجاسة ليست واجبة على الفور، ويحاول تخفيفها وتقليلها بنحو حجر ونحوه من تحت ساتر ما أمكن (2) ، والله أعلم.
_________
(1) المحرمات قسمان: محرم لذاته لا تبيحه إلا الضرورة، كأكل الميتة.
ومحرم لغيره تبيحه مجرد الحاجة، ويذكر العلماء له أمثلة، منها ربا الفضل، فقد أبيحت العرايا، مع أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز؛ لأن الرطب ينقص إذا جف، وأبيح لمجرد حاجة التفكه؛ لأن الرجل عنده تمر، ولكن ليس معه نقود يشتري رطباً، فأباح الشرع له بيع الرطب بالتمر بشروط معروفة ليس هذا مجال ذكرها.
وأباح الشرع لبس ثوب الحرير للرجل إذا كان للتداوي من حكة ونحوها.
(2) حاشية ابن عابدين (1/549) ، مراقي الفلاح (ص: 20) .(2/183)
[صفحة فارغة](2/184)
المبحث الثالث
في كراهية استقبال الريح
يكره استقبال الريح حال البول، وهو مذهب الجمهور (1) .
دليل الكراهة.
الدليل الأول:
(256-100) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا روح، قال: ثنا سعيد بن كثير بن عفير، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن الأعرج،
عن أبي هريرة عن رسول الله b قال: إذا خرج أحدكم لغائط أو بول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح (2) .
[زيادة ولا يستقبل الريح زيادة منكرة انفرد بها ابن لهيعة، وحديث أبي هريرة في صحيح مسلم وليس فيه هذه الزيادة] (3) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: البحر الرائق (1/256) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 34) .
وانظر في مذهب المالكية: حاشية الدسوقي (1/1/107) ، التاج والإكليل (1/275،276) ، مواهب الجليل (1/276) ، مختصر خليل (ص: 15) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/91) .
وانظر في مذهب الشافعية: المجموع (2/109) ، أسنى المطالب (1/49) ، شرح البهجة للأنصاري (1/121) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/45) ، تحفة المحتاج (1/169) ، زبد بن رسلان (ص: 53) .
وانظر في مذهب الحنابلة: دليل الطالب (ص: 7) ، الإنصاف (1/100) ، منار السبيل (1/25) ، المغني (1/107) ، شرح منتهى الإرادت (1/34) .
(2) شرح معاني الآثار (4/233) .
(3) حديث أبي هريرة في مسلم (265) من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ: إذا جلس أحدكم على حاجته، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. اهـ(2/185)
الدليل الثاني:
(257-101) ما رواه الدارقطني من طريق مبشر بن عبيد، حدثني الحجاج بن أرطاة، عن هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم مر سراقة بن مالك المدلجي على رسول الله b فسأله عن التغوط، فأمره أن يتنكب القبلة ولا يستقبلها ولا يستدبرها، ولا يستقبل الريح، وأن يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب.
قال الدارقطني: لم يروه إلا مبشر بن عبيد، وهو متروك الحديث (1) .
وجاء من مسند سراقة مرفوعاً، والراجح وقفه (2) .
الدليل الثالث:
(258-102) ما رواه ابن عدي، من طريق يوسف بن السفر بن الفيض أبو الفيض، ثنا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله b يكره البول في الهواء.
_________
(1) سنن الدراقطني (1/56) .
(2) قال ابن أبي حاتم في العلل (1/36) : سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، عن سراقة بن مالك، عن النبي b: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، واتقوا مجالس اللعن والظل، وقارعة الطريق، واستمخروا الريح، واستنشبوا على سوقكم، وأعدوا النبل.
قال أبي: أن مايروونه موقوف وأسنده عبد الرزاق بآخرة. اهـ
وانظر الكلام على طرق الحديث وتخريجه في مسألة النهي عن البول في الطريق والظل النافع، والله أعلم.(2/186)
حكم عليه ابن عدي بالوضع (1) .
الدليل الرابع:
(259-103) قال الحافظ: روى ابن قانع عن الحضرمي رفعه: إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ببوله، فترده عليه.
قال الحافظ: وإسناده ضعيف جداً (2) .
الدليل الخامس:
من النظر أن في استقبال الريح قد يتلوث بالنجاسة بأن ترد عليه بوله.
هذا ما وقفت عليه مما ورد في الباب، والمعتمد في الكراهة التعليل، وإلا فالدليل لا يثبت فيه شيء، والله أعلم.
_________
(1) الكامل (7/163) ، ومن طريق ابن عدي أخرجه البيهقي في السنن (1/98) .
قال ابن عدي: وهذه الأحاديث، عن يحيى، عن أبى سلمة مع غيرها بهذا الإسناد يرويها كلها يوسف بن السفر، وهي موضوعة كلها. اهـ
وقال الحافظ في التلخيص (1/107) : وفي إسناده يوسف بن السفر، وهو ضعيف. اهـ
قلت: لا يكفي قول الحافظ بأنه ضعيف، فقد قال الجوزجاني عن يوسف: كان يكذب. أحوال الرجال (285) .
وقال دحيم: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/223) .
وقال أبو زرعة: ذاهب الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث جداً. المرجع السابق.
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الأوسط (2/223) .
وقال النسائي: ليس بثقة. لسان الميزان (6/322) .
وقال الدارقطني: متروك الحديث يكذب. المرجع السابق.
(2) تلخيص الحبير (1/107) .(2/187)
[صفحة فارغة](2/188)
المبحث الرابع
في حكم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط
اختلف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة إلى سبعة أقوال،
فقيل: يحرم مطلقاً، وهو المشهور من مذهب الحنفية (1) ، ورجحه من المالكية ابن العربي (2) ، ورواية في مذهب أحمد (3) ، واختاره ابن حزم (4) .
وهو قول أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة، وابن مسعود، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والثوري، وأبي ثور، وعطاء، والأوزاعي وغيرهم.
وقيل: يجوز مطلقاً، وهو قول عائشة رضي الله عنها، وعروة، وربيعة، وداود (5) .
وقيل: يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء، ويجوز في البنيان ونحوه، وهو مذهب المالكية (6) ،والشافعية (7) ،
_________
(1) شرح معاني الآثار (4/236) ، حاشية ابن عابدين (1/341) ، البحر الرائق (1/256) ، نور الإيضاح (ص: 16) ، مراقي الفلاح (ص: 22) .
(2) عارضة الأحوذي (1/27) .
(3) تصحيح الفروع (1/111) .
(4) المحلى (1/189،190) .
(5) المنتقى شرح الموطأ (1/336) .
(6) المدونة (1/117) ، المنتقى شرح الموطأ (1/336) ، مواهب الجليل (1/279) ، التمهيد (1/309) ، التاج والإكليل (1/403) ، الخرشي (1/146) ، حاشية الدسوقي (1/108) .
(7) الأم (1/176) ، المجموع (1/92) ، اختلاف الحديث (ص: 227) ، حلية العلماء (1/159) ، متن أبي شجاع (ص: 18) ، الإقناع للشربيني (1/56) ، روضة الطالبين (1/65) .(2/189)
والحنابلة (1) ، ونسبه الحافظ في الفتح إلى الجمهور، واختاره البخاري في صحيحه، قال ابن حجر: وهو أعدل الأقوال.
وقيل: يكره استقبال القبلة واستدبارها، وهو الراجح.
وقيل: يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، ويحل الاستدبار فيهما، وهو رواية عن أبي حنيفة، وأحمد (2) .
وقيل: يجوز الاستدبار في البنيان فقط، وهو وجه في مذهب الحنابلة (3) .
وقيل: إن التحريم مختص بأهل المدينة، ومن كان على سمتها، وأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقاً، وهذا أضعف الأقوال، والله أعلم.
دليل من قال بالتحريم مطلقاً في الصحراء والبنيان.
الدليل الأول:
(260-104) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي،
عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي b قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب:
_________
(1) المغني (1/107) ، الفروع (1/82) ، الإنصاف (1/100) ، كشاف القناع (1/64) ، الكافي (1/50) .
(2) الإنصاف (1/101) .
(3) الإنصاف (1/101) .(2/190)
فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال من الحديث:
أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها مطلق، فيشمل ما إذا كان في الصحراء أو في البنيان، وهذا هو الذي فهمه أبو أيوب راو الحديث رضي الله عنه، فإنه كان ينحرف عن القبلة في المرحاض، وهو بنيان، ويستغفر الله؛ لأنه اعتبر ذلك ذنباً ممن فعله، ومشروع للمسلم أن يستغفر الله إذا رأى كثرة المعاصي حتى لا تشمله عقوبة عامة، وغضب من الله {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (2) .
الدليل الثاني:
(261-105) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن خراش، حدثنا عمر بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد -يعني: ابن زريع- حدثنا روح، عن سهيل، عن القعقاع، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة عن رسول الله b قال إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها (3) .
ولم يستثن الحديث من ذلك شيئاً، فوجب أن يشمل الصحراء والبنيان.
الدليل الثالث:
(262-106) ما رواه مسلم من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن
_________
(1) صحيح البخاري (394) ، ومسلم (264) .
(2) الأنفال: 33.
(3) صحيح مسلم (265) .(2/191)
عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان، قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء، حتى الخراءة؟! قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (1) .
الدليل الرابع:
(263-107) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، عن إبراهيم بن طهمان، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: من لم يستقبل القبلة، ولم يستدبرها في الغائط كتب له حسنة، ومحي عنه سيئة.
قال الطبراني: لم يروه عن يحيى إلا حسين، ولا عنه إلا إبراهيم، ولا عنه إلا القاسم، تفرد به أحمد
[إسناده حسن] (2) .
_________
(1) صحيح مسلم (262) .
(2) مجمع البحرين (342) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/206) : رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، إلا شيخ الطبراني وشيخ شيخه، وهما ثقتان.
وإليك تراجم إسناده:
شيخ الطبراني: هو أحمد بن محمد بن صدقة، ثقة حافظ. انظر تاريخ بغداد (5/40) ، والتذكرة (745) .
الثاني: أحمد بن حرب الموصلي. روى له النسائي، وقال عنه: لا بأس به.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أدركته، ولم أكتب عنه. الجرح والتعديل (2/49) .
وفي التقريب: صدوق.
الثالث: القاسم بن يزيد الجرمي.
قال أحمد: ما علمت إلا خيراً.
وقال أبو حاتم: صالح، وهو ثقة.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما خالف. (9/16)
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، ثقة.
وقال أحمد بن أبي رافع: حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، وكان من خير أهل زمانه.
وقال أبو زكريا يزيد بن محمد الأزدي: كان فاضلاً ورعاً حسناً من المعدودين في أصحاب سفيان.
وإبراهيم بن طهمان ومن فوقه على شرط الشيخين. فالسند حسن إن شاء الله تعالى، وما أشار إليه الطبراني من التفرد، هو علة لو كان تفرد بشيء لا يحتمل تفردهم به، أما كون التفرد من قبيل أنه حسنة، فإنه معلوم من الشرع أن ما يأمر الله به من الطاعات، ففعله يكتب حسنة، فالحديث لم ينفرد بشيء يوجب رده، والله أعلم.(2/192)
الدليل الخامس:
(264-108) ما رواه البزار في مسنده، قال: حدثنا الحسن بن يحيى وإبراهيم بن عبد الله قالا: نا مسدد، قال: نا حصين بن نمير قال: نا سفيان بن حسين، عن الحكم، عن إبراهيم،
عن علقمة قال: قال رجل من المشركين لعبد الله: إني لأحسب صاحبكم قد علمكم كل شيء، حتى علمكم كيف تأتون الخلاء. قال: إن كنت مستهزئاً، فقد علمنا أن لا نستقبل القبلة بفروجنا، وأحسبه قال: ولا نستنجي بأيماننا، ولا نستنجي بالرجيع، ولا نستنجي بالعظم، ولا نستنجي بدون ثلاثة أحجار (1) .
_________
(1) مسند البزار (1492)
دراسة الإسناد:
حصين بن نمير، قال أبو زرعة: ثقة. الجرح والتعديل (3/197) .
وقال أبو حاتم: صالح، ليس به بأس. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (8/208) .
وروى عباس الدوري عن ابن معين قال: ليس بشيء. وروى إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح ذكره النباتي. ميزان الاعتدال (2101) .
وفي التقريب: لا بأس به.
روى له البخاري حديثاً واحداً (3410) : عرضت علي الأمم. الحديث، وقد تابعه عليه جماعة.
الثاني: سفيان بن حسين الواسطي.
قال أحمد بن حنبل في رواية المروذي: ليس هو بذاك، في حديثه عن الزهري شيء.
وقال المروذي في رواية أخرى: سألته عن سفيان بن حسين، كيف هو؟ قال: ليس بذاك، وضعفه. بحر الدم (ص: 179) .
وقال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، هو نحو محمد بن إسحاق، وهو أحب إلي من سليمان بن كثير. الجرح والتعديل (4/227) .
وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: ليس به بأس، وليس من أكابر أصحاب الزهرى.
وقال ابن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول سفيان بن حسين الواسطي، ثقة، وكان يؤدب المهدي، وهو صالح، حديثه عن الزهرى قط ليس بذاك، إنما سمع من الزهرى بالموسم. المرجع السابق.
قال عثمان بن أبي شيبة: كان ثقة، ولكنه كان مضطرباً في الحديث.
وقال محمد بن سعد: ثقة يخطىء في حديثه كثيراً.
وقال يعقوب بن شيبة: صدوق ثقة، وفي حديثه ضعف، وقد حمل الناس عنه.
وقال النسائي: ليس به بأس إلا في الزهري.
وقال أبو أحمد بن عدي: هو في الزهري صالح الحديث، وفي الزهري يروي أشياء خالف الناس.
وقال ابن خراش: لين الحديث. نقلاً من تهذيب الكمال (11/141) .
والحكم ومن فوقه رجال ثقات مشهورون.
وقد اختلف فيه على الأعمش.
فرواه مسلم من طريق أبي معاوية والثوري ووكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن يزيد، عن سلمان.
وخالفهم سفيان بن حسين، فرواه، عن الحكم، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، ويغلب على ظني أن سفيان أخطأ فيه، ولذلك قال البزار بعد أن ساق الحديث: قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم إلا سفيان بن حسين، ولا نعلم رواه عن حصين بن نمير إلا مسدد، وإنما يعرف هذا الحديث من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان. ورواه منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن بعض أصحاب النبي b.
وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/205) : رواه البزار، ورجاله موثوقون.(2/193)
الدليل الخامس:
(265-109) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث -يعني: ابن سعد، عن يزيد -يعني: ابن أبي حبيب- أنه سمع عبد الله بن الحارث الزبيدي يقول: أنا أول من سمع النبي b يقول: لا يبولُ أحدكم مستقبل القبلة، وأنا أول من حدث الناس بذلك (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) المسند (4/190) .
(2) الحديث رجاله ثقات، وقد أخرجه ابن أبي شيبة (1/139) رقم 1609 وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2485) عن شبابة.
وأخرجه أحمد (4/191) حدثنا حجاج بن محمد.
وأخرجه ابن ماجه (317) حدثنا محمد بن رمح المصري.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/232) من طريق ابن وهب.
والطبراني في الأوسط (6/313) رقم 6500 من طريق رشدين بن سعد كلهم عن الليث بن سعد به.
وأخرجه أحمد (4/190) وعبد بن حميد (487) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/232) من طريق عبد الحميد بن جعفر، حدثني يزيد بن حبيب به. وهذه متابعة تامة لليث بن سعد.
وأخرجه أحمد (4/190) من طريق ابن لهيعة.
وابن حبان (1419) من طريق غوث بن سليمان بن زياد، كلاهما عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث به.(2/195)
الدليل السادس.
أن العلة في النهي تكريم القبلة، ولذلك قال: لا تستقبلوا القبلة. وهذا موجود في الصحاري والبنيان، ولو كان مجرد الحائل كافياً لجاز في الصحاري لوجود الجبال والأشجار بيننا وبين الكعبة، وأما جهة القبلة فلا حائل بيننا وبينها.
قال ابن العربي: ظاهر الأحاديث يقتضي أن الحرمة إنما هي للقبلة، لقوله: " لا تستقبلوا القبلة " فذكرها بلفظها، فأضاف الاحترام لها. اهـ
(266-110) على أن الدارقطني روى في سننه، قال: نا محمد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، نا عبد الرزاق، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، قال:
سمعت طاووساً قال: قال رسول الله b إذا أتى أحدكم البراز، فليكرم قبلة الله، فلا يستقبلها، ولا يستدبرها، ثم ليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب، ثم ليقل: الحمد لله الذي أخرج ما يؤذيني، وأمسك ما ينفعني (1) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/57) ، ومن طريقه رواه البيهقي (1/111) .(2/196)
[إسناده ضعيف، ورفعه منكر، والصواب وقفه على طاووس] (1) .
دليل من قال بالجواز مطلقاً.
الدليل الأول:
الأصل الحل، فلا يجوز المنع إلا بدليل لا معارض له، وقد نظرنا في الأدلة فإذا هي متعارضة، فلم يجب العمل بشيء منها، فرجعنا إلى الأصل، وهو الحل (2) .
الدليل الثاني:
(267-111) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد بن جبر،
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كان رسول الله b قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (3) .
_________
(1) زمعة بن صالح ضعيف، وقد خالفه سفيان بن عيينة، فرواه الدارقطني (1/58) من طريق سفيان بن عيينة، عن سلمة بن وهرام، أنه سمع طاووس يقول: نحوه، ولم يرفعه. قال: قلت لسفيان: أكان زمعة بن صالح يرفعه؟ قال: نعم. فسألت سلمة عنه، فلم يعرفه. يعني: لم يعرف رفعه.
وروي موصولاً عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي b، رواه الدارقطني، وقال: لم يسنده إلا الحسن المضري، وهو كذاب متروك.
فصار الراجح عن طاووس من قوله؛ لأن سفيان أرجح من زمعة.
(2) التمهيد (3/109) .
(3) المسند (3/360) .(2/197)
[إسناده حسن] (1) .
_________
(1) إسناده حسن، رجاله ثقات إلا محمد بن إسحاق، وهو صدوق، وقد صرح بالتحديث، وأما أبان بن صالح، فقد قال المزي في الأطراف: أبان بن صالح ضعيف.
قلت: تابع المزي رحمه الله ابن عبد البر وابن حزم، فقد قال ابن عبد البر كما جاء في التهذيب: أبان بن صالح ضعيف.
وقال ابن حزم: ليس بالمشهور، فتعقبهما الحافظ في التهذيب، وقال: هذه غفلة منهما، وخطأ تواردا عليه، فلم يضعف أبان أحد قبلهما، وقد جاء في التهذيب: قال ابن معين والعجلي ويعقوب بن أبي شيبة، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة.
وقال النسائي: لا بأس به. انظر الجرح والتعديل (2/297) ، معرفة الثقات (1/198) ، الثقات (6/67) ، تهذيب الكمال (2/9) .
وفي حاشية سبط ابن العجمي على الكاشف، ذكر عن العراقي أنه وهم المزي في تضعيفه لأبان.
وفي التقريب: وثقه الأئمة، ووهم ابن حزم فجهله، وابن عبد البر فضعفه. اهـ
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وابن الجارود (31) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/234) ، وابن حبان (1420) ، والدارقطني (1/58،95) ، والحاكم (552) ، والبيهقي (1/92) من طريق إبراهيم بن سعد.
وأخرجه أبو داود (13) ، وابن ماجه (325) ، والترمذي (9) ، وابن خزيمة (58) من طريق جرير بن حازم.
قال الترمذي: حديث جابر حديث حسن غريب.
واختلف على جابر، فروي عنه كما سبق من مسنده.
ورواه أحمد (5/300) ثنا حسن بن موسى وموسى بن داود.
ورواه الترمذي (10) حدثنا قتيبة.
ورواه الطبراني في الأوسط (1/61) من طريق سعيد بن أبي مريم.
كلهم عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة، أنه رأى رسول الله b يبول مستقبل القبلة. فجعله ابن لهيعة من مسند أبي قتادة.
قال الترمذي: وحديث جابر، عن النبي b أصح من حديث ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه.
وقال الطبراني: لا يروى عن أبي قتادة إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة.
ورواه أحمد (3/12) حدثنا موسى بن داود
ووراه أيضاً (3/15) حدثنا حسن بن موسى.
ورواه ابن ماجه (320) من طريق مروان بن محمد، كلاهما عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، حدثني أبو سعيد الخدري، أنه شهد على رسول الله b أنه زجر أن تستقبل القبلة لبول. ولفظ ابن ماجه بغائط أو ببول.(2/198)
ولا يعتبر هذا الحديث مخالفاً لحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة حتى يضعف لذلك، بل هو موافق لها في كونه نهى عن استقبال القبلة أولاً، ولكنه زاد أن الرسول b رآه يفعل ذلك، ومخرج الحديث ليس واحداً حتى يقال بشذوذه، فلا أجد مناصاً من قبوله.
وقد أجيب عنه بأجوبة منها:
أولاً: أنه حكاية فعل للرسول b، فلا يقدم على القول، ولا يعارضه أيضاً، فيحتمل أن يكون خاصاً بالنبي b، والقول تشريع للأمة.
وهذا الاحتمال ضعيف؛ لأن الأصل التأسي بالنبي b {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (1) ، حتى يأتي دليل صحيح صريح بأن ذلك خاص بالنبي b.
وقيل: يحتمل أن فعله لبيان الجواز، ولبيان أن النهي ليس للتحريم، وإنما هو للكراهة فقط. وهذا هو الذي يتمشى مع القواعد.
_________
(1) الأحزاب: 21.(2/199)
وقيل: يحتمل أن كان يبول إلى ساتر، ولا يتعين الساتر أن يكون بناء؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله b لمبالغته في التستر، ولا فرق في الساتر بين الجدار والدابة وكثيب الرمل، ونحوها.
الدليل الثالث:
(268-112) ما رواه أحمد، قال: ثنا وكيع، ثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك،
عن عائشة قالت: قال رسول الله b: قد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المسند (6/137) .
(2) الحديث فيه أكثر من علة:
الأولى: خالد بن أبي الصلت.
قال البخاري: خالد بن أبي الصلت عامل عمر بن عبد العزيز، عن عمر بن عبد العزيز وعراك مرسل. التاريخ الكبير (3/155) .
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (3/336) .
وقال أحمد: ليس معروفاً. تهذيب التهذيب (3/84) .
وقال ابن حبان: من متقني أهل المدينة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز عليها. مشاهير علماء الأمصار (1032) .
وقال الذهبي: لا يكاد يعرف. ميزان الاعتدال (2435) .
وقال ابن حزم: مجهول. فتعقبه ابن مفوز، فقال: هو مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم، ولكن حديثه معلول. تهذيب التهذيب (3/84) .
وقال ابن عبد البر: ليس خالد بن أبي الصلت بمجهول، لأنه يروي عنه خالد الحذاء والمبارك بن فضالة، وواصل مولى ابن عيينة، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز، فكيف يقال فيه: مجهول؟
قلت: إن انتفت عنه جهالة العين، فهو مستور إذ لم يوثقه أحد، ولذلك قال في التقريب: مقبول.
العلة الثانية: الاختلاف في سماع عراك من عائشة.
فقد جزم الإمام أحمد بأن عراكاً لم يسمع من عائشة، فجاء في المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 162،163) : قال أحمد بن هانئ سمعت أبا عبد الله وذكر حديث خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة، عن النبي b حولوا مقعدتي... الحديث فقال: مرسل. فقلت له: عراك بن مالك، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها، فأنكره، وقال: عراك من أين سمع عائشة، ماله ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ ". اهـ
الثالثة: أن في إسناده اختلافاً كثيراً، والصواب وقفه، كما رجحه البخاري وغيره.
قال البخاري: قال موسى، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت: كنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال عراك بن مالك: سمعت عائشة قالت، قال النبي b: حولوا مقعدي إلى القبلة بفرجه.
وقال موسى: حدثنا وهيب، عن خالد، عن رجل، أن عراكاً حدث عن عمرة، عن عائشة، عن النبي b.
وقال ابن بكير: حدثني بكر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك، عن عروة، أن عائشة كانت تنكر قولهم لا تستقبل القبلة. قال البخاري: وهذا أصح. التاريخ الكبير (3/155) .
وفي علل الترمذي (ص: 24) : هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها. اهـ
وقال أبو حاتم الرازي: لم أزل اقفو أثر هذا الحديث حتى كتبت بمصر عن اسحاق بن بكر بن مضر أو غيره، عن بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة موقوف، وهذا أشبه. العلل لابن أبي حاتم (ح50) .
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (1541) ، وأحمد كما في حديث الباب، وأيضاً (6/219،227،239) ، وابن أبي شيبة (1/140) رقم 1613، وإسحاق بن راهوية (1095) ، وابن ماجه (324) ، والبخاري في التاريخ الكبير (3/155) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/234) ، والدراقطني (1/59،60) ، وابن المنذر في الأوسط (1/326) من طريق حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة به.
ورواه أحمد (6/184) ، وإسحاق بن راهوية (1096) ، والدارقطني (1/59) والبيهقي (1/92) من طريق علي بن عاصم، عن خالد الحذاء به.
وقيل: عن خالد الحذاء، عن عراك، دون ذكر خالد بن أبي الصلت.
رواه إسحاق بن راهوية (1094) والدراقطني (1/59) من طريق أبي عوانة، والقاسم بن مطيب، ويحيى بن مطر فرقهم، عن خالد الحذاء، عن عراك، عن عائشة.
وقيل: عن خالد الحذاء، عن رجل، عن عراك، عن عائشة.
رواه ابن أبي شيبة (1/140) وأحمد (6/183) ، وإسحاق بن راهوية في مسنده (1093) ، والدارقطني (1/60) من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن خالد به، بنحوه.
وقيل: عن عراك، عن عروة، عن عائشة موقوفاً عليها.
ساقه البخاري في التاريخ الكبير (3/155) ، وابن أبي حاتم في العلل (ح 50) ، وذكرنا تصويب البخاري وأبي حاتم الرازي لهذا الطريق على غيره، وأن المعروف أن الحديث موقوف على عائشة، والله أعلم.
والغريب مع هذا الاختلاف الكبير في إسناده مما يجعل الباحث يميل إلى اضطرابه لولا أن البخاري وأبا حاتم رجحا وقفه على عائشة، تجد النووي يقول في شرحه لصحيح مسلم بأن إسناده حسن.
ويقول الكناني في مصباح الزجاجة (1/47) : وهذا الذي علل به البخاري ليس بقادح، فالإسناد الأول حسن رجاله ثقات معروفون، وقد أخطأ من زعم أن خالد بن أبي الصلت مجهول، أقوى ما علل به هذا الخبر أن عراكاً لم يسمع من عائشة، نقلوه عن الإمام أحمد، وقد ثبت سماعه منها عند مسلم، رواه الدارقطني في سننه من هذا الوجه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه كما رواه ابن ماجه عنه. اهـ(2/200)
قال ابن حزم: حديث عائشة ساقط؛ لأن روايه خالد الحذاء، وهوثقة، عن خالد بن أبي الصلت، وهو مجهول. ثم قال: ولو صح لما كان لهم فيه(2/202)
حجة، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله b ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط، ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك، هذا ما لا يظنه مسلم، ولا ذو عقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، فلو صح لكان منسوخاً بلا شك.
الدليل الثالث:
(269-113) استدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان،
عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إن ناساً يقولون إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله b على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (1) .
وجه الاستدلال:
أن النبي b نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، فكون الرسول b استدبر القبلة في حديث ابن عمر، وحديث جابر دليل على جواز استقبالها، فهذا دليل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار منسوخ، وأن الاستقبال والاستدبار كلاهما جائز.
ونوزع هذا الاستدلال بما يلي:
أما القائلون بتحريم الاستقبال والاستدبار، فأجابوا عن حديث ابن
_________
(1) صحيح البخاري (148) ، ومسلم (266) .(2/203)
عمر بما يلي:
يحتمل أن يكون فعل ابن عمر قبل النهي عن استدبار القبلة، لأنه على البراءة الأصلية.
قال ابن حزم: " ليس فيه -يعني: حديث ابن عمر- أن ذلك كان بعد النهي، وإذا لم يكن ذلك فيه، فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي b عن ذلك، وهذا ما لا شك فيه، فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعاً بنهي النبي b عن ذلك، هذا يعلم ضرورة، ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون، وأخذ المتيقن نسخه، وترك المتيقن أنه ناسخ، وقد رجحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ، لحكم منسوخ، فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخاً، والمنسوخ ناسخاً، ولا يبين ذلك تبياناً لا إشكال فيه، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلاً غير بين، ناقصاً غير كامل، وهذا باطل، قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (1) وقال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} (2) . انتهى كلام ابن حزم (3) .
وقالوا أيضاً: إن حديث ابن عمر فعل، وأحاديث النهي قول، والقول مقدم على الفعل؛ لأن الفعل قد يكون فعله معذوراً أو ناسياً بخلاف القول، وقد يكون الفعل خاصاً بالنبي b.
_________
(1) المائدة: 3.
(2) النحل: 44.
(3) المحلى (1/191) .(2/204)
والجواب:
أن الأصل عدم العذر والنسيان، وكونه خاصاً بالنبي b سبق الجواب عليه.
وقالوا أيضاً: إننا لو أخذنا به لكان ليس فيه إلا جواز الاستدبار، وليس فيه جواز الاستقبال. وهذا القول بناء على أن حديث جابر لم يثبت عندهم، أو لم يطلعوا عليه، وسبق لنا أنه حديث حسن إن شاء الله تعالى.
أما القائلون بالتفريق بين الصحراء وغيرها، فأجابوا عن حديث ابن عمر:
بأن حديث ابن عمر دليل على جواز ذلك في البنيان، وأن المنع مختص بالصحراء؛ لأننا لما رأينا رسول الله b استقبل القبلة واستدبرها، واستحال أن يأتي رسول الله b ما نهى عنه، علمنا أن الحال التي استقبل فيها القبلة واستدبرها غير الحال التي نهى عنها، فأنزلنا النهي عن ذلك في الصحاري، والرخصة في البيوت؛ لأن حديث ابن عمر في البيوت، ولم يصح لنا أن يجعل أحد الخبرين ناسخاً للآخر؛ لأن الناسخ يحتاج إلى تاريخ، أو دليل لا معارض له، ولا سبيل إلى القول بالنسخ ما وجد إلى استعمال الدليلين، والقول بالنسخ إبطال لأحدهما (1) .
دليل من فرق بين الصحراء والبنيان.
الدليل الأول:
حملوا حديث أبي أيوب الأنصاري: أن النبي b قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. ورواه
_________
(1) التمهيد بتصرف (3/106) .(2/205)
مسلم (1) .
ومثله حديث سلمان وابن مسعود وأبي هريرة حملوا هذه الأحاديث على الصحراء.
وحملوا حديث ابن عمر رضي الله عنهما: لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا، فرأيت رسول الله b على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته. الحديث (2) .
على جواز استدبار القبلة إذا كان ذلك في البنيان.
وحملوا حديث جابر رضي الله عنه: كان رسول الله b قد نهانا عن أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة (3) .
حملوا هذا الحديث على جواز الاستقبال إذا كان هناك ساتر من جدار أو غيره، مع أن حديث جابر ليس فيه ذكر الساتر، لكن قالوا: هو المعهود من حاله b لمبالغته في التستر حال قضاء الحاجة.
قال الحافظ ابن حجر: دل حديث ابن عمر على جواز استدبار القبلة في الأبنية، وحديث جابر على جواز استقبالها، ولولا ذلك لكان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر إلا جواز الاستدبار فقط، ولا يلحق به الاستقبال قياساً؛ لأنه لا يصح إلحاقه به، لكونه فوقه (4) .
_________
(1) صحيح البخاري (394) ، ومسلم (264) .
(2) صحيح البخاري (148) ، ومسلم (266) .
(3) المسند (3/360) .
(4) الفتح (ح 144) .(2/206)
الدليل الثاني:
(270-114) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا صفوان بن عيسى، عن الحسن بن ذكوان، عن مروان الأصفر، قال:
رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (1) .
[إسناده فيه لين] (2) .
_________
(1) سنن أبي داود (11) .
(2) في إسناده الحسن بن ذكوان، مختلف فيه:
ذكر إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: الحسن بن ذكوان ضعيف. الجرح والتعديل (3/13) .
وقال أبو حاتم الرازي: الحسن بن ذكوان ضعيف الحديث، ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: للحسن بن ذكوان أحاديث غير ما ذكرت، وليس بالكثير، وفي بعض ما ذكرت لا يرويه غيره، على أن يحيى القطان وابن المبارك قد رويا عنه كما ذكرته، وناهيك للحسن بن ذكوان من الجلالة أن يرويا عنه، وأرجوا أنه لا بأس به. الكامل (2/317) .
قلت: رواية يحيى بن سعيد القطان عنه ليست دليلاً على توثيقه، فقد قال على بن المديني: حدث يحيى بن سعيد، عن الحسن بن ذكوان، ولم يكن عنده بالقوي. الضعفاء الكبير (2/223) ، الكامل (2/317) .
وقال أحمد: أحاديثه أباطيل. تهذيب الكمال (2/241) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وذكره ابن حبان في الثقات (6/163) .
وقال ابن جحر: الحسن بن ذكوان مختلف في الاحتجاج به، وله في صحيح البخاري حديث واحد، وأشار ابن صاعد الى أنه كان مدلساً. طبقات المدلسين (70) .
وفي التقريب: صدوق يخطئ، ورمي بالقدر، وكان يدلس.
وقال في مقدمة الفتح (ص: 560) : ضعفه أحمد وابن معين، وأبو حاتم والنسائي وابن المديني، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأورد له حديثين عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي. وقال: إنه دلسها، وإنما سمعها من عمر بن خالد الواسطي، وهو متروك. اهـ
قلت: فهذا أحد أسباب تضعفيه.
وقال الآجري، عن أبي داود: إنه كان قدرياً. فهذا سبب آخر أيضاً. روى له البخاري حديثاً واحداً في الرقاق من رواية يحيى بن سعيد القطان، عنه، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين، يخرج قوم من النار بشفاعة محمد b. ولهذا الحديث شواهد كثيرة، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن الجارود في المنتقى (32) ، وابن خزيمة (60) ، والدارقطني (1/58) ، والحاكم في المستدرك (551) ، والسنن الصغرى للبيهقي (1/62) ، والسنن الكبرى له (1/92) من طريق صفوان بن عيسى به.
قال الدراقطني في سننه (1/58) : هذا صحيح، كلهم ثقات، مع أنه قال في العلل: ضعيف. كما نقل ذلك بشار عواد في تحقيقه البديع لتهذيب المزي (6/147) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وقد علمت أن البخاري خرج له حديثاً واحداً له شواهد كثيرة.(2/207)
وجه الاستدلال:
قالوا: إن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا في الفضاء، يدل على أنه علم ذلك من رسول الله b، فيكون له حكم الرفع.
وأجيب:
هذا القول من ابن عمر يحتمل أن يكون قال ذلك فهماً منه للفعل الذي شاهده من النبي b ورواه، فكأنه لما رأى النبي b في بيت حفصة مستدبراً(2/208)
للقبلة، فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا للاستدلال به، خاصة وقد عارضه غيره من الصحابة، منهم أبو أيوب، فلا يكون حجة، وقد خالف الصحابي صحابي آخر، هذا على التسليم بأن قول ابن عمر: إنما نهي عن هذا بالفضاء صحيح، ومع تضعيفه يكون لا حاجة إلى هذا التوجيه، والله أعلم.
الدليل الثالث:
من النظر، قالوا: إن التكريم وإن كان لجهة القبلة، فإن التفريق بين البنيان والصحراء له حظ من النظر، وذلك أن الأمكنة المعدة لقضاء الحاجة تكون مأوى للشياطين، فليست صالحة لكونها قبلة؛ ولأن الحديث يقول: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة. وحقيقة الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض في الفضاء، وهذه حقيقته اللغوية، فلا يدخل فيه البنيان أصلاً، وإن كان قد صار يطلق على كل مكان أعد لذلك مجازاً، فيختص النهي به؛ إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. قال الحافظ: وهذا الجواب للإسماعيلي، وهو أقواها.
وقالوا أيضاً: إن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية، فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفاً (1) .
الدليل الرابع:
(271-115) ما رواه الدراقطني (2) من طريق موسى بن وارد.
ورواه البيهقي (3) من طريق يعقوب بن كعب الحلبي، كلاهما عن حاتم
_________
(1) الفتح (ح 144) .
(2) سنن الدراقطني (1/61) .
(3) سنن البيهقي (1/93) .(2/209)
بن إسماعيل، عن عيسى بن أبي عيسى، قال:
قلت للشعبي: عجبت لقول أبي هريرة، ونافع عن ابن عمر. قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة: لا تستقبلوا القبلة ولا تسدبروها. وقال نافع، عن ابن عمر: رأيت النبي b ذهب مذهباً مواجه القبلة. فقال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء. إن لله تعالى خلقاً من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم، ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي يتخذونها للنتن،، فإنه لا قبلة لها.
[إسناده ضعيف جداً] (1) .
ومع ضعفه، فإن متنه منكر؛ فإنه علله بوجود المصلين في الصحراء، لا تكريماً للقبلة، وقد رده ابن العربي من خمسة أوجه:
الأول: أنه موقوف على الشعبي.
الثاني: أنه إخبار عن غيب، فلا يثبت إلا عن الشارع.
الثالث: أنه لو كان لحرمة المصلين ما جاز التشريق والتغريب؛ لأن العورة لا تخفى معه أيضاً عن المصلين، وهذا يعرف باختبار المعاينة.
الرابع: أن النهي علل بحرمة القبلة، لقوله: لا تستقبلوا القبلة، فذكرها بلفظها، وأضاف الاحترام لها.
الخامس: أن الاسناد فيه رجل متروك (2) .
_________
(1) فيه عيسى بن أبي عيسى الحناط، وفي البيهقي: الخياط، قال الحافظ عنه في التقريب: متروك.
(2) انظر شرح ابن العربي (1/25) .(2/210)
وقال النووي: قول المصنف: ولأن في الصحراء خلقاً من الملائكة والجن يصلون. هكذا قال أصحابنا واعتمدوه، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف، عن الشعبي التابعي من قوله. وهو تعليل ضعيف؛ فإنه لو قعد قريباً من حائط، واستقبله، ووراءه فضاء واسع، جاز بلا شك، صرح به إمام الحرمين والبغوي وغيرهما، ويدل على ما قدمناه عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته، وبال إليها، فهذا يبطل هذا التعليل، فإنه لو كان صحيحاً لم يجز في هذه الصورة، فإنه مستدبر الفضاء الذي فيه المصلون، ولكن التعليل الصحيح أن جهة القبلة معظمة، فوجب صيانتها في الصحراء، ورخص فيها بالنباء للمشقة (1) . اهـ
قلت: الأحاديث القولية مطلقة، تشمل الاستقبال والاستدبار، والصحراء والبنيان، وكون الرسول b فعل ذلك في البنيان، هل ورد أن الرسول b بين أنه إنما خالف النهي؛ لأنه كان في البنيان، أم أن كونه في البنيان وقع اتفاقاً، وإلا فهو وصف غير مؤثر في الحكم؟ الذي يترجح لي الثاني. ولو كان البنيان مؤثراً لما أطلق الرسول b النهي في أحاديث كثيرة منها حديث أبي أيوب، وسلمان وابن مسعود وأبي هريرة، وغيرها.
والذي يؤيد ذلك حديث جابر، فإن الراوي لم يذكر أنه كان في البنيان، ولم يذكر أن الرسول b عمد إلى ساتر، فاعتماد أن البنيان مؤثر في الحكم، ويلحق به الساتر علة مظنونة مستنبطة، قد تكون علة مؤثرة، وقد لا تكون، وفهم جابر رضي الله عنه في حديثه قد بين أن الرسول b نهى عن استقبال القبلة، ثم وقع منه مخالفة لما نهى، وهو واضح أن النهي كان مطلقاً، وأن الرسول b قد خالف ذلك بعد أن نهى، واعتبار أن الفعل يكون
_________
(1) المجموع (2/97) .(2/211)
ناسخاً للقول ضعيف أيضاً، فالراجح عندي القول بالكراهة، وانظر وجهه في الكلام الآتي.
دليل من قال بكراهة الاستقبال والاستدبار.
قالوا: إن الرسول b إذا نهى عن شيء، فالأصل فيه التحريم، وإذا خالف النهي انتقل من التحريم إلى الكراهة.
وأن الرسول b إذا أمر بشيء اقتضى الوجوب، فإذا خالف ذلك الأمر انتقل الأمر إلى الاستحباب، فالرسول b نهى عن الاستقبال والاستدبار مطلقاً، ثم خالف ذلك في الاستدبار كما في حديث ابن عمر، وخالف ذلك في الاستقبال كما في حديث جابر، فانتقل النهي من التحريم إلى الكراهة، والله أعلم.
دليل من قال يحرم الاستقبال مطلقاً ويحل الاستدبار مطلقاً.
وأما الذين قالوا بتحريم الاستقبال في الصحراء والبنيان، وجواز الاستدبار فيهما فاستدلوا بتحريم الاستقبال بحديث أبي أيوب وسلمان وغيرهما. وقد تقدم ذكر الأحاديث.
واستدلوا بجواز الاستدبار مطلقاً بحديث ابن عمر: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي.. الحديث. ومنعنا الاستقبال مطلقاً؛ لأنه لم يقم دليل على جوازه (1) ، ولا يصح قياس الاستقبال على الاستدبار لعدم مساواة الفرع بالأصل، لكون الاستقبال أشد قبحاً من الاستدبار.
_________
(1) إما لأنهم لم يطلعوا على حديث جابر، أو لم يصححوه.(2/212)
دليل من قال بجواز الاستدبار في البنيان فقط.
تمسك هذا القائل بظاهر حديث ابن عمر، فإنه b استدبر القبلة في البنيان، فيخصص النهي عن استدبار القبلة، ويبقى النهي عن الاستقبال مطلقاً بلا مخصص، شاملاً للصحراء والبنيان، والله أعلم.
دليل من قال: يحرم حتى في القبلة المنسوخة.
الدليل الأول:
(272-116) ما رواه ابن أبي شيبة، من طريق سليمان بن بلال، ووهيب، فرقهما، قالا: حدثنا عمرو بن يحيى المازني، عن أبي زيد،
عن معقل الأسدي، وقد صحب النبي b قال: نهى رسول الله b أن نستقبل القبلتين بعائط أو بول (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/139) رقم 1603،1610.
(2) فيه أبو زيد مولى بني ثعلبة، لم يرو عنه إلا عمرو بن يحيى المازني، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول.
والحديث رواه سليمان بن بلال، واختلف عليه، فرواه ابن أبي شيبة (1/139) ومن طريقه ابن ماجه (319) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1057) حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: نهى رسول الله b أن يستقبل القبلتين بغائط أو بول.
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/233) من طريق الحماني، ثنا سليمان بن بلال به، بلفظ: أن نستقبل القبلة بغائط أو بول.
والحماني وإن كان مجروحاً إلا أنه قد توبع، فقد تابعه عبد العزيز بن محمد، وعبد العزيز بن المختار،
فرواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1058) حدثنا يعقوب بن حميد، نا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ الحماني بإفراد القبلة.
وكذلك رواه ابن قانع في معجم الصحابة (3/77،78) من طريق عبد العزيز بن المختار، حدثني عمرو بن يحيى المازني به، بإفراد القبلة.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/140) ، والبخاري في التاريخ الكبير (7/391) ، وأبو داود (10) ، وابن قانع في معجم الصحابة (3/78) والبيهقي (1/91) ، وابن عبد البر في التمهيد (1/304،305) من طريق وهيب.
وأخرجه أحمد (4/210) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/233) وابن قانع في معجم الصحابة (3/78) ، والطبراني في الكبير (20/234) رقم 550 من طريق داود العطار، كلاهما عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: القبلتين.
ورواه أحمد (6/406) والطبراني في المعجم الكبير (20/234) رقم 549 من طريق ابن جريج، عن عمرو بن يحيى المازني به، بلفظ: القبلتين. وسواء كان الراجح فيه لفظ إفراد القبلة، أو ذكر بلفظ: النهي عن القبلتين، فإن مداره على أبي زيد، وهو مجهول.(2/213)
وقد نقل الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة، والله أعلم.
وفي هذا الإجماع نظر، فقد خالف فيه ابن سيرين وإبراهيم النخعي، نقله عنهما الحافظ في الفتح (1) .
(273-117) وقد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون،
عن ابن سيرين، قال: كانوا يكرهون أن يستقبلوا واحدة من القبلتين (2) .
_________
(1) فتح الباري (ح 144) .
(2) المصنف (1/139) .(2/214)
[رجاله ثقات] .
وقول التابعي: كانوا يكرهون يقصد به الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل الصحابة كانوا يكرهون ذلك؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبار الكعبة، فالعلة استدبار القبلة، لا استقبال بيت المقدس، فقد ثبت أن الرسول b استقبل بيت المقدس حال قضاء الحاجة، كما في حديث ابن عمر، وقد تقدم.
دليل من قال: التحريم خاص بأهل المدينة ومن على سمتها.
وهذا القول هو أضعف الأقوال، وقد أخذوه من عموم قوله b: " ولكن شرقوا أو غربوا" قاله أبو عوانة، صاحب المزني، وهذه ظاهرية بحتة، ولا يوجد حكم يخص به أهل المدينة دون غيرهم، والعلة تكريم القبلة، وهم وغيرهم سواء في ذلك.
بقي أن نشير قبل ختام هذا البحث أن القائلين بالتفريق بين الصحراء والبنيان لا فرق عندهم في الساتر بين الجدار والدابة والوهدة، وكثيب الرمل، ونحو ذلك، ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة فهل يحصل به الستر، وجهان عند الشافعية والحنابلة، الصحيح منهما عندهما الاكتفاء بذلك حيث أمن التنجس؛ لأن المقصود أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بسوأته، وهذا المقصود يحصل بالذيل، وبه قال المالكية (1) .
وإذا قلنا: إن الساتر مؤثر في جواز الاستقبال والاستدبار حال قضاء الحاجة، ومعلوم أن الفضاء فيه جبال وأشجار وغيرها، فهل يشترط مسافة
_________
(1) حاشية العدوي على الخرشي (1/147) ، المجموع (2/93) ، تصحيح الفروع (1/112) ، كشاف القناع (1/65) .(2/215)
معينة من الساتر حتى يكون مؤثراً، أو يكفي وجود الساتر ولو بعد من الإنسان، وهل يشترط في الساتر قدراً معيناً في ارتفاعه، أو لا يشترط.
أما القائلون بالتحريم مطلقاً كالحنفية فلا يحتاجون إلى هذا التفصيل.
وأما القائلون بالتفريق بين الصحراء والبنيان، فهم يفصلون في ذلك:
قال ابن ناجي من المالكية: لم أقف عندنا على مقدار السترة (1) .
وأما الشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، فقالوا: إن كان قضاء الحاجة في بيت بني لذلك كالمرحاض ونحوه، فلا يشترط أن يكون قريباً من الساتر، وإن كان في غيره، فقالوا: يشترط أن يكون بينه وبين الساتر نحو ثلاثة أذرع، فما دونها، وأن يكون ارتفاع الساتر مرتفعاً قدر مؤخرة الرحل، فإن زاد ما بينهما على ثلاثة أذرع، أو قصر الحائل عن مؤخرة الرحل، فهو حرام. وإنما اعتبروا في المسافة ثلاثة أذرع كسترة الصلاة، واعتبروا مؤخرة الرحل في الارتفاع من أجل أن تستر أسفله ليحصل المقصود.
وكل هذه الشروط تدل على أن اشتراط الساتر فيه ضعف، لأن كل هذه المقادير تحتاج إلى توقيف، ولا توقيف هنا.
وهذا التفصيل لا يلزمنا إذا رجحنا القول بكراهة استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، في الصحراء والبنيان، والله أعلم.
_________
(1) حاشية العدوي على الخرشي (1/147) ، وقد نص الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير (1/94) بقوله: ويكفي أن يكون طوله ثلثي ذراع، وقربه منه ثلاثة أذرع فأقل، وعرضه منه مقدار ما يواري عورته. اهـ
(2) المجموع (2/93) .
(3) كشاف القناع (1/65) .(2/216)
المبحث الخامس
في حكم استقبال القبلة واستدبارها حال الاستنجاء
اختلف العلماء في استقبال القبلة واستدبارها عند الاستنجاء:
فقيل: يكره الاستقبال والاستدبار، وهو المشهور من مذهب الحنفية (1) .
وقيل: يكره الاستقبال فقط، وهو المشهور من مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: لا يكره الاستقبال والاستدبار حال الاستنجاء، ومثله الجماع، وخروج الريح، وهو المشهور من مذهب الشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) .
وقال المراداوي من الحنابلة: ويتوجه التحريم (5) .
ولم أقف على نص في مذهب المالكية إلا أن تكون مقيسة على الجماع، وهم قد نصوا على تحريم الوطء في الفضاء مستقبلاً القبلة أو مستدبرها (6) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/655) ، البحر الرائق (1/54) ، بدائع الصنائع (5/126) ، الهداية شرح البداية (1/65) .
(2) جاء في الفروع (1/112) : ويكره استقبالها في فضاء باستنجاء. وانظر الإنصاف (1/102) .
(3) المجموع (2/94) ،.
(4) الإنصاف (1/102) .
(5) الإنصاف (1/102) .
(6) جاء في المدونة (1/117) : أيجامع الرجل امرأته مستقبل القبلة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ عن مالك فيه شيئاً، وأرى أنه لا بأس به؛ لأنه لا يرى بالمراحيض بأساً في المدائن والقرى، وإن كانت مستقبلة القبلة. الخ
ونص المالكية على تحريم الوطء في الفضاء مستقبلاً القبلة أو مستدبرها، انظر حاشية الدسوقي (1/108،109) ، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/93) ، الخرشي (1/146) ، مواهب الجليل (1/280) ، المنتقى شرح الموطأ (1/336،337) .(2/217)
ويرجع اختلافهم إلى اختلافهم في علة المنع من استقبال القبلة بالبول والغائط، هل هو للخارج النجس، أو لكشف العورة ونحوها؟ فمن علل بالأول أباح الاستنجاء، ومن علل بالثاني منعه، والله أعلم.
والصحيح جواز الاستنجاء مستقبل القبلة، لعدم وجود الدليل المقتضي للتحريم، أو الكراهة، {وما كان ربك نسياً} (1) .
ولأن الأصل في الأشياء الحل. فلا نحرم ولا نكره شيئاً إلا بنص.
وتكريم القبلة في مثل هذا الأمر يحتاج إلى توقيف، نعم جاء النص فيه بالبول والغائط، فلا يتعداه إلى غيره، ولو كان الانحراف عن القبلة من شرع الله حال الاستنجاء أو الوطء لجاء النص فيه من الشرع لحاجة الناس إليه، بل قد بالغ الحنفية حتى كرهوا مد الرجل إلى القبلة في النوم وغيره عامداً، وهذا تكلف لا يعرف عن السلف رحمهم الله (2) .
_________
(1) مريم: 64.
(2) حاشية ابن عابدين (1/655) .(2/218)
المبحث السادس
في استقبال النيرين (الشمس والقمر)
كره جمهور الفقهاء من الحنفية (1) ، وقول في مذهب المالكية (2) ، وعليه جمهور الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، استقبال عين الشمس والقمر (5) ،.
وقيل: يكره استقبالهما واستدبارهما، اختاره بعض الحنفية. (6) ، وبعض الشافعية (7) .
وقيل: لا يكره مطلقاً الاستقبال والاستدبار، اختاره بعض المالكية (8) ، وبعض
_________
(1) البحر الرائق (1/256) ، مراقي الفلاح (ص: 23) ، حاشية ابن عابدين (1/342) ، الفتاوى الهندية (1/320) ، نور الإيضاح (ص: 16) ،.
(2) التاج والإكليل (1/407) ،.
(3) أسنى المطالب (1/46) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/44) ،.
(4) المغني (1/107) ، مطالب أولي النهي (1/67) ، كشاف القناع (1/61) ، الإنصاف (1/100) .
(5) قال في مراقي الفلاح (ص: 23) : " ويكره استقبال عين الشمس والقمر. اهـ وفي حاشية ابن عابدين (1/342) : " والذي يظهر أن المراد استقبال عينهما مطلقاً، لا جهتهما، ولا ضوئهما، وأنه لو كان ساتر يمنع عن العين، ولو سحاباً فلا كراهة، وأن الكراهة إذا لم يكونا في كبد السماء، وإلا فلا استقبال للعين. اهـ
(6) حاشية ابن عابدين (1/342) إلا أن الطحطاوي في حاشيته على مراقي الفلاح (ص:34) أشار إلى أن الاستدبار لا يكره.
(7) أسنى المطالب (1/46) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/44) ، المجموع (2/110) .
(8) الشرح الكبير (1/109) ، منح الجليل (1/103،104) ، وجاء في مواهب الجليل (1/281) : قال في التوضيح عن ابن هارون: إنه يجوز عندنا استقبال الشمس والقمر لعدم ورود النهي. وقال في المدخل في آداب الاستنجاء: لا يستقبل الشمس والقمر؛ فإنه ورد أنهما يلعنانه، فأتى كلامه أنه في المذهب، فإنه قال قبل ذلك: وقد ذكر علماؤنا آداب التصرف في ذلك. انتهى ثم قال: تنبيه علم من كلام صاحب المدخل أن المنهي عنه في القمرين إنما هو استقبالهما، لا استدبارهما، وصرح بذلك الدميري من الشافعية، وعد ابن يعلى في منسكه في الآداب أن لا يستقبل الشمس ولا يستدبرها. انتهى وقال المواق الجزولي في آداب الأحداث: لا يستقبل الشمس ولا القمر ولا يستدبرهما. وقال ابن هارون: لا يكره ذلك. اهـ نقلاً من مواهب الجليل.(2/219)
الشافعية (1) ، وبعض الحنابلة (2) ، ورجحه الشوكاني (3) .
دليل من قال بالكراهة.
(274-118) ما رواه الحكيم الترمذي في كتاب المناهي، كما في تلخيص الحبير، من طريق عباد بن كثير، عن عثمان الأعرج، عن الحسن،
قال: حدثني سبعة من أصحاب النبي b منهم أبو هريرة وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث أن النبي b نهى أن يبال في المغتسل، ونهى عن البول في الماء الراكد، ونهى عن البول في المشارع، ونهى أن يبول الرجل، وفرجه باد إلى الشمس والقمر... وذكر حديثاً طويلاً في نحو خمسة أوراق (4) .
[قال الحافظ: وهو حديث باطل لا أصل له، بل هو من اختلاق عباد] (5) .
الدليل الثاني:
أوردوا تعاليل فيها نظر كثير، فقالوا: كره؛ لأن معهما ملائكة؛ ولأن
_________
(1) رجح النووي في المجموع عدم الكراهة (2/110) .
(2) الإنصاف (1/100) .
(3) السيل الجرار (1/70) .
(4) تلخيص الحبير (1/180) .
(5) وقال النووي في المجموع (2/110) : ضعيف، بل باطل.(2/220)
أسماء الله مكتوبة عليهما، ولأنهما يلعنانه؛ ولأن نورهما من نور الله، وقيل: لشرفهما بالقسم بهما، فأشبهتا الكعبة (1) .
أما قولهم: إن معهما ملائكة، فلا يقتضي ذلك كراهة؛ لأن كثيراً من مخلوقات الله قد وكل فيها ملائكة كالسحاب، والجبال وغيرهما، فهل يكره استقبال الغيم مثلا؟
وأما القول بأن أسماء الله مكتوبة عليهما، فهذا يحتاج إلى توقيف، فأين الدليل عليه؟
وكذلك يقال عن قولهم: بأنهما يلعنان من يستقبلهما.
وأما قولهم بأن فيهما من نور الله، فلا شك أن نورهما نور مخلوق، وليس المقصود بنور الله الذي هو صفته، وإذا كان كذلك فلا يقتضي هذا التعليل كراهة، ولو أخذنا بهذا التعليل لكره استقبال ضوئهما، بحيث لا يستقبل ضوء الشمس والقمر حال البول، وأنتم إنما كرهتم استقبال عينهما.
وأما قولهم: إن الله قد أقسم بهما، فقد أقسم الله بالنجوم أيضاً، وأقسم بالضحى، وأقسم بالليل، فلا تقضى فيها الحاجات إذاً، فهذه التعاليل هالكة.
دليل من قال: لا يكره استقبال الشمس والقمر.
الدليل الأول:
عدم الدليل على الكراهة، والكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي.
الدليل الثاني:
(275-119) ما رواه البخاري، قال: حدثنا علي بن عبد الله، قال:
_________
(1) كشاف القناع (1/61) ، نيل الأوطار (1/110) ، حاشية ابن قاسم (1/134) .(2/221)
حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي،
عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي b قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشأم، فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة، فننحرف، ونستغفر الله تعالى، ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " ولكن شرقوا أو غربوا " فيه الإذن باستقبال الشرق أوالغرب واستدبارهما، فلا بد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو الغرب، والله أعلم.
فالراجح: جواز استقبال النيرين. قال ابن القيم: لم ينقل عنه b في ذلك كلمة واحدة، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، ولا مرسل، ولا متصل، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع (2) .
وقال الشوكاني: وأما استقبال النيرين فهذه من غرائب أهل الفروع، فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف، وما روي في ذلك فهذا كذب على رسول الله b، ومن رواية الكذابين، وإن كان ذلك بالقياس على القبلة، فقد اتسع الخرق على الراقع، ويقال لهذا القائس: ما هكذا تورد يا سعد الإبل.. وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين، فإن الأصل باطل، فكيف بالفرع، وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء، فإن لها شرفاً عظيماً، لكونها مستقر الملائكة، ثم يلحق الأرض؛ لأنه مكان العبادات والطاعات، ومستقر عباد الله الصالحين، فحينئذ تضيق على قاضي
_________
(1) صحيح البخاري (394) ، صحيح مسلم (264) .
(2) مفتاح دار السعادة (2/205) .(2/222)
الحاجة الأرض بما رحبت، ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة، وسبحان الله ما يفعل التساهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكى لها تارة، ويضحك منها أخرى (1) .
_________
(1) نيل الأوطار (1/70) .(2/223)
[صفحة فارغة](2/224)
المبحث السابع
في البول في الطريق والظل النافع وتحت شجرة مثمرة
اختلف العلماء في حكم البول في الطريق والظل النافع:
فقيل: يكره البول فيها، وهذا مذهب الحنفية (1) ، واختاره بعض المالكية (2) ، وعليه أكثر أصحاب الشافعية (3) ، ورواية في مذهب أحمد (4) .
وقيل: يستحب اتقاء هذه الأماكن. اختارها من المالكية الخرشي (5) .
وقيل: يحرم البول فيها، اختاره بعض المالكية (6) ، ورجحه النووي من الشافعية (7) ، وهو رواية في مذهب أحمد، جزم بها في
_________
(1) البحر الرائق (1/256) ، حاشية ابن عابدين (1/343) ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 35) .
(2) جاء في مواهب الجليل (1/276) : قال في النوادر: ويكره أن يتغوط في ظل الجدار، والشجر وقارعة الطريق وضفة الماء وقربه. اهـ
وانظر التاج والإكليل (1/402-403) ،
(3) روضة الطالبين (1/66) ، اختلاف الحديث (ص: 107) ، نهاية المحتاج (1/140،141) ، المهذب (1/26) ، إعانة الطالبين (1/110) .
(4) الفروع (1/116) ، الإنصاف (1/97،98) .
(5) اعتبر الخرشي اتقاء الطريق والظل النافع من الآداب المستحبة (1/144) ، ولا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.
(6) نقل العدوي في حاشيته على الخرشي (1/145) : عن عياض القول بالتحريم، ونقل عن علي الأجهوري أنه قال: وظاهر الحديث التحريم، وينبغي الرجوع إليه، إذ فاعل المكروه لا يلعن. اهـ
(7) قال النووي في المجموع (1/102) : وظاهر كلام المصنف والأصحاب أن فعل هذه الملاعن أو بعضها مكروه كراهة تنزيه، لا تحريم، وينبغي أن يكون محرماً لهذه الأحاديث، ولما فيه من إيذاء المسلمين، وفي كلام الخطابي إشارة إلى تحريمه. اهـ(2/225)
المغني وغيره (1) .
أدلة القائلين بالتحريم.
الدليل الأول:
من الكتاب، قوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (2) .
ولا شك أن الذي يتغوط في طريق الناس، وفي ظلهم ومجالسهم أنه قد آذى المؤمنين بذلك.
الدليل الثاني:
(276-120) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعاً، عن إسمعيل بن جعفر -قال ابن أيوب- حدثنا إسمعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه،
عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم (3) .
الدليل الثالث:
(277-121) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا إسحق بن سويد الرملي
_________
(1) المغني (1/108) ، والمبدع (1/83) ، الفروع (1/116) ، الإنصاف (1/97،98) ، تصحيح الفروع (1/116) .
(2) النساء: 20.
(3) صحيح مسلم (269) .(2/226)
وعمر بن الخطاب أبو حفص وحديثه أتم، أن سعيد بن الحكم حدثهم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، حدثني حيوة بن شريح، أن أبا سعيد الحميري حدثه،
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله b: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
ومعنى قوله: " اتقوا اللاعنين، أو الملاعن " يحتمل أن يكون المعنى: أي الملعون فاعلهما. فيكون المراد من اسم الفاعل اسم المفعول.
ويحتمل أن يكون المعنى: أي الجالبين للعن، أي الباعثين للناس عليه، فإنه سبب للعن من فعله في هذه المواضع، وهذا المعنى يرجع إلى الأول؛ لأن المسلمين لا يلعنون ولا ينبغي لهم أن يلعنوا أحداً إلا لشخص مستحق للعن، ولو كان غير مستحق لنهى الشرع عن لعنه، فبأي المعنيين حملناه، فإنه دليل
_________
(1) سنن أبي داود (26) .
(2) فيه أبو سعيد الحميري، لم يرو عنه إلا حيوة بن شريح، ولم يوثقه أحد، وفي التقريب: مجهول، وروايته عن معاذ بن جبل مرسلة.
والحديث أخرجه ابن ماجه (328) من طريق عبد الله بن وهب.
وأخرجه الطبراني (20/123) رقم 247، والحاكم (594) ، والبيهقي (1/97) من طريق سعيد بن أبي مريم، كلاهما عن نافع بن يزيد به.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه.
وصححه ابن السكن كما في تلخيص الحبير (1/184) ، وتعقبه الحافظ، فقال: فيه نظر؛ لأن أبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد. قاله ابن القطان. اهـ
وقال في مصباح الزجاجة (1/48) : هذا إسناد ضعيف، فيه أبو سعيد الحميري المصري، قال ابن القطان: مجهول. وقال أبو داود والترمذي وغيرهما: روايته عن معاذ مرسلة.(2/227)
على أن صاحبه ملعون، والعياذ بالله، وهذا دليل على أن فعله محرم، وليس مكروهاً كما قيل، أو أن اتقاءه مستحب على قول.
الدليل الرابع:
(278-122) ما رواه أحمد، قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن هشام، عن الحسن،
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله b: إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب أسنانها، ولا تجاوزوا المنازل، وإذا سرتم في الجدب فاستجدوا، وعليكم بالدلج؛ فإن الأرض تطوى بالليل، وإذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان، وإياكم والصلاة على جواد الطريق، والنزول عليها؛ فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة فإنها الملاعن (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) مسند أحمد (3/305) .
(2) الحديث له علتان:
الأولى: الانقطاع، فإن الحسن لم يسمع من جابر.
قال علي بن المديني: لم يسمع من جابر. تهذيب التهذيب (2/231) .
وقال أبو زرعة: لم يلق جابراً.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: حدثنا جابر، وأنا أنكر هذا، وإنما الحسن عن جابر كتاب، معن أدرك جابراً. اهـ
العلة الثانية: هشام بن حسان ضعيف في الحسن، قال في التقريب: روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/213) رواه أبو يعلى رجاله رجال الصحيح.
وقال الحافظ في التلخيص (158) : إسناده حسن.
[تخريج الحديث] .
الحديث رواه ابن أبي شيبة (2/169) رقم 7746 حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا هشام بن حسان به مختصراً، بلفظ: لا تصلوا على جواد الطريق، ولا تنزلوا عليها؛ فإنه مأوى الحيات والسباع.
وأخرجه أحمد (3/381) ، وأبو يعلى (2219) من طريق يزيد بن هارون به، مطولاً.
وأخرجه ابن خزيمة (2549) من طريق يحيى بن اليمان، ثنا هشام به. وقال: كان علي بن عبد الله ينكر أن يكون الحسن سمع من جابر. اهـ
وأخرجه ابن ماجه (329) ، وابن خزيمة (2548) من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، قال: قال سالم: سمعت الحسن يقول: حدثنا جابر بن عبد الله، فذكره بنحوه.
وهذا الحديث من هذا الطريق له علتان أيضاً:
الأولى: ضعف سالم هذا. قال في مصباح الزجاجة (1/49) : وهذا إسناد ضعيف، وسالم هذا: هو ابن عبد الخياط البصري، ضعفه ابن معين والنسائي وأبو حاتم وابن حبان والدارقطني. اهـ
العلة الثانية: زهير بن محمد، جاء في التقريب: ثقة، إلا أن رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة، فضعف بسببها.
كأن زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر.
وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه، فكثر غلطه.
قلت: والراوي عنه عمرو بن أبي سلمة، شامي من أهل دمشق، ضعفه يحيى بن معين، وقال العقيلي: في حديثه وهم، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وفي التقريب صدوق له أوهام.(2/228)
الدليل الخامس:
(279-123) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني ابن هبيرة، قال: أخبرني من سمع ابن عباس يقول:(2/229)
سمعت رسول الله b: يقول اتقوا الملاعن الثلاث. قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: أن يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه، أو في طريق، أو في نقع ماء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
قال في فيض القدير: نقع ماء: أي ماء ناقع: أي مجتمع ومستنقع الماء (3) .
الدليل السادس:
(280-124) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن حبان بن بكر الباهلي البصري ببغداد، ثنا كامل بن طلحة الجحدري، ثنا محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن سيرين، قال:
قال رجل لأبي هريرة: قد أفتيتنا في كل شيء، يوشك أن تفتينا في الخرء. فقال: سمعت رسول الله b يقول: من سل سخيمته على طريق
_________
(1) المسند (1/299) .
(2) فيه راو مبهم، كما أن فيه ابن لهيعة، وإن كان الراوي عنه ابن المبارك، إلا أن الراجح فيه ضعفه مطلقاً، ورواية العبادلة عنه أعدل من غيرها، وقد سبق أن كثيراً من أئمة الحديث يضعفونه مطلقاً قبل احتراق كتبه، وبعدها، من رواية العبادلة ومن رواية غيرهم في كتابي أحكام المسح على الحائل، فانظره إن شئت.
قال مغلطاي: هو مرسل؛ لأنه أبهم الراوي فيه عن ابن عباس، وابن لهيعة مختلف فيه، لكن ذلك لا يقدح في إيراده شاهداً لما قبله؛ لأن الشواهد لا يعتبر لها شرط الصحيح من كل وجه. انتهى نقلاً من فيض القدير (1/137) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/204) : رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، ورجل لم يسم. اهـ
(3) فيض القدير (1/137) .(2/230)
عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
الدليل السابع:
(281-125) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا ابن لهيعة، عن قرة، عن ابن شهاب، عن سالم،
عن أبيه، أن النبي b نهى أن يصلى على قارعة الطريق، أو يضرب الخلاء عليها، أو يبال فيها (3) .
_________
(1) مجمع البحرين (350) .
(2) في إسناده محمد بن عمرو الأنصاري، جاء في ترجمته:
قال علي بن المديني: سألت يحيى يعنى ابن سعيد القطان، عن محمد بن عمرو الأنصاري، قلت: روى عن حفصة؟ فضعف الشيخ جداً. قلت: ماله؟ قال: روى عن القاسم عن عائشة في الكبش الأقرن، وعن القاسم عن عائشة في الصلاة الوسطى، وروى عن الحسن أوابد. الجرح والتعديل (8/32) .
وقال يحيى بن معين: محمد بن عمرو بن عبيد الأنصاري ضعيف. المرجع السابق.
وقال أحمد بن حنبل: كان يحيى بن سعيد يضعفه جداً. المرجع السابق.
وقال ابن نمير: أبو سهل محمد بن عمرو بصرى ليس يسوى شيئاً. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: عزيز الحديث، وأحاديثه إفرادات، ويكتب حديثه في جملة الضعفاء. الكامل (6/225) .
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (6/225) ، والعقيلي في الضعفاء (4/110) ، والحاكم (665) والبيهقي (1/98) .
قال العقيلي: لا يتابع عليه.
(3) رواه ابن ماجه (330) .(2/231)
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) في إسناده ابن لهيعة، وقد سبق أن حررت في كتاب المسح على الحائل أنه ضعيف مطلقاً.
وفيه أيضاً: قرة بن عبد الرحمن، جاء في ترجمته:
قال ابن حنبل: قرة بن عبد الرحمن، صاحب الزهري، منكر الحديث جداً. الجرح والتعديل (7/131) .
وقال ابن أبى خيثمة: سئل يحيى بن معين، عن قرة بن عبد الرحمن فقال: ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي.
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن قرة بن حيوئيل فقال: الأحاديث التي يرويها مناكير. المرجع السابق.
وقال العجلي: يكتب حديثه. معرفة الثقات (2/217) .
وقال يزيد بن السمط: أعلم الناس بالزهرى قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل. فتعقبه ابن حبان، فقال: هذا الذي قاله يزيد بن السمط ليس بشيء يحكم به على الإطلاق، وكيف يكون قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهرى وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً؟ بل أتقن الناس في الزهرى مالك ومعمر والزبيدي ويونس وعقيل وابن عيينة، هؤلاء الستة أهل الحفظ والإتقان والضبط والمذاكرة، وبهم يعتبر حديث الزهرى إذا خالف بعض أصحاب الزهرى بعضاً في شيء يرويه. الثقات (7/343) .
وفي التقريب: صدوق له مناكير.
وقال في مصباح الزجاجة (1/49) : هذا الحديث ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة، وشيخه، ولكن للمتن شواهد صحيحة. اهـ
[تخريج الحديث] .
والحديث أخرجه ابن ماجه كما في حديث الباب من طريق الذهلي.
وأخرجه الطبراني في الكبير (12/281) رقم 1320 من طريق روح بن الفرج، كلاهما عن قرة بن عبد الرحمن به.
واختلف على قرة، فرواه ابن لهيعة عنه كما سبق.
ورواه ابن عدي في الكامل (3/151) من طريق رشدين بن سعد، حدثني قرة وعقيل، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. ورشدين بن سعد، ضعيف، وقد قدم أحمد ابن لهيعة عليه، انظر الجرح والتعديل (3/513) .
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/407) من طريق أيوب بن سويد الرملي، عن يونس، عن الزهري وحده به. وأيوب بن سويد الرملي ضعيف.(2/232)
الدليل الثامن:
(282-126) ما رواه الطبراني من طريق شعيب بن بيان، ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي الطفيل،
عن حذيفة بن أسيد، أن النبي b قال: من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم (1) .
[إسناده فيه لين] (2) .
_________
(1) المعجم الكبير (3/179) رقم 3050.
(2) شعيب بن بيان، قال العقيلي: بصرى يحدث عن الثقات بالمناكير وكاد أن يغلب على حديثه الوهم. ضعفاء العقيلي (2/183) .
وقال الجوزجاني: له مناكير. المغني في الضعفاء (2773) .
وقال الذهبي: صدوق. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق يخطئ.
وأما عمران القطان، فذكره ابن حبان في الثقات (7/243) .
قال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. الجرح والتعديل (6/297) .
وقال ابن معين: ليس بالقوي. المرجع السابق.
وقال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (478) ، والكامل (5/88) .
وذكره العقيلي في الضعفاء (3/300) .
وذكره يحيى بن سعيد القطان، فأحسن الثناء عليه. المرجع السابق.
وقال ابن شاهين: من أخص الناس بقتادة. تاريخ أسماء الثقات (1111) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/204) : رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/81) : إسناده حسن. اهـ
واختلف على أبي الطفيل، فرواه قتادة كما سبق.
ورواه ابن عدي في الكامل (3/213) من طريق زكريا بن حكيم الحبطي، ثنا عطاء بن السائب، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر مرفوعاً: من آذى المسلمين في طرقهم أصابته لعنتهم.
وزكريا بن حكيم ضعيف جداً، والله أعلم.(2/233)
الدليل التاسع:
(283-127) ما رواه الطبراني من طريق فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران،
عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله b أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة، ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
الدليل العاشر:
(284-128) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل، قال: حدثنا مخلد بن خالد، قال: حدثنا ابراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن سماك بن الفضل،
_________
(1) الأوسط (3/36) رقم 2392.
(2) فيه فرات بن السائب، وهو متروك.
ومن طريق فرات بن السائب أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/93) ، والعقيلي في الضعفاء (3/458) ، وابن عدي في الكامل (6/24) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/204) رواه الطبراني في الأوسط، وفي الكبير الشطر الأخير. وفيه فرات بن السائب، وهو متروك الحديث. اهـ(2/234)
عن أبي رشدين،
عن سراقة بن مالك بن جعشم، أنه كان إذا جاء من عند رسول الله b حدث قومه وعلمهم، فقال له رجل يوماً- وهو كأنه يلعب- ما بقي لسراقة إلا أن يعلمكم كيف التغوط؟ فقال سراقة: إذا ذهبتم الى الغائط فاتقوا المجالس على الظل، والطريق، خذوا النبل واستنشبوا على سوقكم، واستجمروا وتراً (1) .
[إسناده ضعيف مع أنه موقوف] (2) .
_________
(1) الأوسط (5198) .
(2) في إسناده أبو رشدين الجندي، واسمه زياد، ذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (3/550) .
وقال البخاري: وروى معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، قال سراقة في الغائط. قال أبو عبد الله: لم أجده في العتيق. التاريخ الكبير (3/353) .
واختلف على معمر، فرواه عنه رباح بن زيد القرشي، كما في حديث الباب موقوفاً على سراقة.
وخالفه عبد الرزاق، فرواه عن معمر به، مرفوعاً. والمعروف وقفه.
قال ابن أبي حاتم في العلل (1/36) : سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل، عن أبي رشدين الجندي، عن سراقة بن مالك، عن النبي b. وذكر الحديث بطوله. قال أبي: إن مايروونه موقوف، وأسنده عبد الرزاق بآخرة. اهـ
قلت: عبد الرزاق قد عمي في آخر عمره، فتغير.
وقال الحافظ في التلخيص (1/189) : حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن الأصح وقفه، وكذا هو عند عبد الرزاق في مصنفه، فإذا كان موقوفاً في مصنف عبد الرزاق كان هذا دليلاً على أنه قد اختلف على عبد الرزاق في رفعه ووقفه، فيكون الوقف هو القديم. ولم أقف عليه في مصنف عبد الرزاق، والله أعلم.(2/235)
الدليل الحادي عشر:
(285-129) ما رواه الخطيب في تاريخه، من طريق داود بن عبد الجبار، حدثنا سلمة بن المجنون، قال:
سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله b: من تغوط على ضفة نهر يتوضأ منه ويشرب، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1) .
[ضعيف جداً] (2) .
الدليل الثاني عشر:
(286-130) حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: اتقوا الملاعن.
[رجح الدراقطني وقفه] (3) .
_________
(1) تاريخ بغداد (8/356) .
(2) في إسناده داود بن عبد الجبار المؤذن، وهو متروك، وقد كذبه ابن معين.
وفيه سلمة بن المجنون: أبو شرعة، وهو مجهول.
(3) ذكره الدارقطني في العلل (4/378،379) رقم 641، وفيه: سئل عن حديث قيس بن سعد، عن النبي b: اتقوا الملاعن.
فقال: يرويه بيان بن بشر وإسماعيل بن أبي خالد، فرواه شعبة عن بيان، واختلف عنه، فرفعه بن حميد الرازي، عن أبي داود، عن شعبة.
ورواه أبو عباد يحيى بن عباد، عن شعبة، عن بيان، فقال: أظنه رفعه.
ورواه غيرهما عن شعبة موقوفاً، وكذلك رواه أبو الأحوص وخالد الواسطي، عن بيان.
وأما إسماعيل بن أبي خالد، فرواه عن قيس موقوفاً على سعد. والموقوف، هو المحفوظ.
حدثنا ابن مخلد، ثنا محمد بن سعيد بن غالب، ثنا أبو عباد يحيى بن عباد، ثنا شعبة، عن بيان، عن قيس، عن سعد، أظنه رفعه: قال إياكم والملاعن: أن يلقي أحدكم أذاه في الطريق فلا يمر به أحد إلا قال: من فعل هذا لعنه الله. اهـ(2/236)
هذه الأدلة من السنة، وإن كان في بعضها ضعف، إلا أن أكثرها من الضعف المنجبر، وقد كان يكفي في الاستدلال حديث أبي هريرة في مسلم، إلا أن الكتاب كان من شرطه أن يأتي على أغلب الأحاديث الواردة في الباب، الصحيح منها والسقيم. والله أعلم.
تنبيهات على هذه المسألة:
التنبيه الأول:
الطريق إذا لم تكن مطروقة فلا بأس بالتبول فيها، لقوله b: " في طريق الناس " أي الذي يحتاجون إليه بطرقه.
وفي حديث أبي هريرة: " من سل سخيمته في طريق عامرة من طرق المسلمين " وسبق تخريجه.
وفي حديث حذيفة: " من آذى المسلمين في طرقهم ".
والطريق المهجور لا يؤذي المسلمين، فالحكم يدور مع علته.
التنبيه الثاني:
الظل الذي لا ينتفع به فلا بأس بالتبول فيه، فالمراد هنا بالظل: هو الظل الذي اتخذه الناس مقيلاً ومنزلاً ينزلونه، وليس كل ظل يحرم قضاء الحاجة تحته، ولأنه ثبت عن النبي b كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن جعفر: كان أحب ما استتر به النبي b لحاجته هدف أو حائش نخل.
وقال ابن خزيمة في تفسير قوله: هدف أو حائش نخل، فقال: الهدف: هو الحائط. والحائش من النخل: هو النخلات المجتمعات، وإنما سمي البستان(2/237)
حائشاً لكثرة أشجاره، ولا يكاد الهدف يكون إلا وله ظل إلا وقت استواء الشمس، فأما الحائش من النخل فلا يكون وقت من الأوقات بالنهار إلا ولها ظل، والنبي b قد كان يستحب أن أن يستتر الإنسان في الغائط بالهدف والحائش، وإن كان لهما ظل انتهى (1) .
ولقوله في حديث أبي هريرة: " قيل: وما اللعنان يا رسول الله: قال الذي يتبول في طريق الناس أو في ظلهم "
فحين أضاف الظل إليهم علم أنه الظل الذي يستظلون به، أما الظل الذي لا يستظلون به، فليس هو من ظلهم، والله أعلم.
التنبيه الثالث:
ذكر بعض الفقهاء من الحنفية والمالكية بأنه يلحق بالظل في الصيف محل الاجتماع في الشمس في الشتاء.
وهذا قياس جلي؛ لأن العلة ليست من أجل الظل أو من أجل الشمس، إنما العلة أذية المؤمنين في أماكن اجتماعهم، ويدخل فيه محل مدارسهم، وأماكن بيعهم، ونحوها (2) .
قال ابن عابدين: ينبغي تقييده بما إذا لم يكن محلاً للاجتماع على محرم، أو مكروه، وإلا فقد يقال بطلب ذلك لدفعهم عنه.
قلت: قد يقول قائل: إن النهي مطلق، فيدخل حتى هذا في النهي عن البول، وقد يقال: بأن ذلك يغتفر؛ لأنه من باب إزالة المنكر، كما أن هجر
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/37) .
(2) انظر حاشية ابن عابدين (1/343) وحاشية العدوي على الخرشي (1/145) .(2/238)
المسلم محرم، ويغتفر إذا كان ذلك رادعاً له أو لغيره عن بدعة ونحوها، لكن ينبغي ألا يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه أن الفعل يحقق المصلحة منه، ولا يحملهم على منكر أكبر منه، وأن النصيحة لا تجدي في تغيير المنكر، ولا يفعل ذلك إلا إذا كان ما يفعل في تلك الأماكن محرماً، وليس مكروهاً، والله أعلم.
التنبيه الخامس:
اشتملت الأحاديث على النهي عن الموارد. والمقصود بالموارد، قال الخطابي: هي طرق الماء، واحده: مورد (1) .
وفي فيض القدير: المراد بها: مناهل الماء، أو الأمكنة التي يأتي إليها الناس، ورجح الأول بموافقته لقوله في الحديث: " أو نقع ماء " والحديث يفسر بعضه بعضاً، وإرادة طرق الماء بعيدة هنا. والله أعلم (2) .
أو يكون مقصوده النهي عن البول في الماء الراكد، وقد ذكرنا أحاديث النهي عنه في مباحث المياه، وذكرنا حكم البول في الماء الراكد،
فقيل: يحرم البول في الماء القليل مطلقاً؛ لأنه ينجسه ويتلفه على نفسه وعلى غيره. ولأن الأصل في النهي التحريم.
وقد اختار هذا بعض الحنفية وبعض المالكية، والنووي من الشافعية.
وقيل: يكره مطلقاً، كما هو مذهب الشافعية.
وفرق الحنابلة بين البول والتغوط، فحرموا التغوط فيه، وكرهوا البول، والله أعلم (3) .
_________
(1) معالم السنن (1/19) .
(2) فيض القدير (1/136) .
(3) انظر حاشية ابن عابدين (1/342) ، وحاشية العدوي على الخرشي (1/144) ، المجموع (2/108،109) .(2/239)
التنبيه السادس:
قوله: " اتقوا اللاعنين " وقوله: " اتقوا الملاعن " قال النووي في الأذكار: ظاهر هذه الأحاديث تدل على جواز لعن العاصي مع التعيين، أي أنه لو لم يجز لعنه كانت اللعنة على لاعنه، والمشهور حرمة لعن المعين. وأجاب الزين العراقي: بأنه قد يقال: إن ذلك من خصائص المصطفى b لقوله: اللهم إني اتخذ عهداً عندك أيما مسلم سببته أو لعنته. الحديث. والله أعلم (1) .
التنبيه السابع:
قيد جمهور الفقهاء بأن تكون الشجرة لها ثمرة.
قال النووي: وإنما لم يقولوا بتحريم ذلك؛ لأن تنجس الثمار به غير متيقن (2) .
وفي حاشية ابن عابدين: ذكر العلة، فقال: خوفاً من إتلاف الثمر، وتنجسه، والمتبادر أن المراد وقت الثمرة، ويلحق به ما قبله بحيث لا يأمن زوال النجاسة بمطر أو نحوه كجفاف أرض من بول، ويدخل فيه الثمر المأكول وغيره، ولو مشموماً لاحترام الكل، والانتفاع به (3) .
قال النووي: وهذ الذي ذكره - يعني: من كراهية البول في مساقط الثمار- متفق عليه، ولا فرق بين الشجر المباح (غير المملوك) والذي يملكه،
_________
(1) نقلاً من فيض القدير (1/137) .
(2) المجموع (2/103) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/343) .(2/240)
ولا بين وقت الثمر، وغير وقته؛ لأن الموضع يصير نجساً، فمتى وقع الثمر تنجس، وسواء البول والغائط، وإنما ذكروا البول تنبيهاً للأعلى على الأدنى (1) .اهـ
قلت: قد يأتي إلى الشجرة صاحبها لسقي أو تقليم أو غيره، ولو لم يكن تحتها ثمرة، فيتأذى من النجاسة، ويدخل في عموم النهي عن أذية المؤمنين.
وقيل: بتحريم ذلك، وهي رواية في مذهب أحمد بشرط أن يكون عليها ثمرة مقصودة، فإن لم يكن عليها ثمرة، ولم يكن لها ظلاً مقصوداً لم يحرم، والله أعلم.
_________
(1) المجموع (2/102) .(2/241)
[صفحة فارغة](2/242)
المبحث الثامن
في البول في المسجد
يحرم البول في المسجد.
وهل يحرم إذا بال في إناء في المسجد؟ فيه خلاف:
فقيل: يحرم، وهو مذهب الحنفية (1) ، وظاهر مذهب المالكية (2) ، وقول في مذهب الشافعية (3) ، ومذهب الحنابلة (4) .
وقيل: يجوز، اختاره بعض الشافعية (5) .
دليل من قال يحرم البول في المسجد.
الدليل الأول:
(287-131) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود،
_________
(1) الدر المختار (1/656) ،.
(2) قال في الشرح الكبير (4/70) وجاز إعداد إناء لبول أو غائط إن خاف بالخروج سبعاً. اهـ فكونه قيد البول في الإناء بالخوف من السبع، ظاهره أنه يجوز للضرورة، ويحرم بدونها.
(3) قال في المجموع (2/108) : يحرم البول في المسجد في غير إناء، وأما الإناء ففيه احتمالان لابن الصباغ، ذكرهما في باب الاعتكاف، أحدهما: الجواز، كالفصد والحجامة في الإناء
والثاني: التحريم؛ لأن البول مستقبح، فينزه المسجد منه، ورجحه النووي.
وانظر حلية العلماء (3/189) ، المنهج القويم (ص: 77) ، روضة الطالبين (1/66) .
(4) قال في كشاف القناع (1/107) : ويحرم فيه -أي في المسجد- الاستنجاء والريح والبول ولو بقارورة؛ لأن هواء المسجد كقراره". وانظر الفروع (3/130) .
(5) انظر المراجع السابقة.(2/243)
أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي b: دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين (1) .
وجه الاستدلال:
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: تعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وأن الاحتراز من النجاسة كان مقرراً في نفوس الصحابة، ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته b قبل استئذانه، ولما تقرر عندهم أيضا من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم ينكر النبي b على الصحابة، ولم يقل لهم: لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما. وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء (2) .
الدليل الثاني:
(288-132) ما رواه مسلم، قال: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا إسحق بن أبي طلحة،
حدثني أنس بن مالك -وهو عم إسحق- قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله b إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله b: مه مه. قال: قال رسول الله b: لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله b دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا
_________
(1) صحيح البخاري (220) .
(2) فتح الباري (1/325) .(2/244)
تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله b قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء، فشنه عليه. ورواه البخاري دون قوله: إن هذه المساجد... الخ (1) .
فقوله: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر.
نص على شيئين: النجاسات، وذلك مثل البول، فتنزه المساجد عن سائر النجاسات.
والقذر: أي ما يستقذر، وإن لم يكن نجساً، كالمخاط والبصاق والرائحة الكريهة كالثوم والبصل، ونحوهما، فينزه المسجد عنها، وإن لم تكن من النجاسات.
الدليل الثالث:
(289-133) ما رواه البخاري، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة، قال:
سمعت أنس بن مالك قال: قال النبي b: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها. ورواه مسلم (2) .
فإذا نزه المسجد من البصاق، وهو طاهر، فتنزيه المسجد من النجاسات أولى.
الدليل الرابع:
(290-134) ما رواه البخاري، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى،
_________
(1) صحيح مسلم (285) ، صحيح البخاري (219، 220،6025) .
(2) صحيح البخاري (415) ، وصحيح مسلم (552) .(2/245)
عن عبيد الله قال: حدثني نافع،
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي b قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا، ورواه مسلم (1) .
دليل من قال: يجوز البول في إناء في المسجد.
(291-135) ما رواه أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ابن لهيعة، قال: كتب إلي موسى بن عقبة يخبرني عن بسر بن سعيد،
عن زيد بن ثابت أن رسول الله b احتجم في المسجد. قلت لابن لهيعة: في مسجد بيته؟ قال: لا، في مسجد الرسول b (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
قال النووي: فيه احتمالان لابن الصباغ، أحدهما: الجواز؛ كالفصد والحجامة (4) .
قلت: إن كان تجويز الحجامة على حديث ابن لهيعة فهو ضعيف.
أولاً: ابن لهيعة لا يحتمل تفرده بمثل هذا الحكم.
ثانياً: قد وهم فيه ابن لهيعة، كما ذكره مسلم في كتابه القيم التمييز، قال رحمه الله: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والاسناد جميعاً، وابن لهيعة المصحِّف في متنه المغفل في إسناده، وإنما الحديث أن النبي b احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها، وسنذكر صحة
_________
(1) صحيح البخاري (853) ، مسلم (561) .
(2) المسند (5/185) .
(3) في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(4) المجموع (2/108) .(2/246)
الرواية في ذلك إن شاء الله، ثم ساق بإسناده إلى موسى بن عقبة، قال: سمعت أبا النضر يحدث، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبي b اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله b فيها ليالي حتى اجتمع اليه أناس، ثم فقدوا صوته ليلة وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح بأن يخرج اليهم، وساقه (1) .
ثالثاً: لو تنزلنا، وقلنا بصحة الحديث، فإنه لا يصح القياس، فالبول غير الدم، فإن قلنا بنجاسته، وهو قول ضعيف، فإن الدم يعفى عن يسيره، والبول لا يعفى عن يسيره، وإن قلنا بطهارة الدم، وهو الصحيح، فإنه لا مجال لقياس النجس على الطاهر، وليس هذا موضع بحث طهارة الدم، لكن أسوق فيه ما وقع من حدوثه في المسجد.
(292-136) فقد روى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا زكرياء بن يحيى، قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام، عن أبيه،
عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل، فضرب النبي b خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات فيها، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (2) .
_________
(1) التمييز (ص: 187) .
(2) صحيح البخاري (463) ، ومسلم (1769) .(2/247)
[صفحة فارغة](2/248)
المبحث التاسع
في البول في الشق ونحوه
كره الفقهاء البول في الشق ونحوه كالجحر: وهو ما يحفره الهوام والسباع لأنفسها. وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) .
دليل الكراهة.
الدليل الأول:
الإجماع. قال النووي: وهذا الذي قاله المصنف من الكراهة -يعني: من البول في الثقب ونحوه- متفق عليه، وهي كراهة تنزيه (2) .
الدليل الثاني:
(293-137) ما رواه أحمد، قال: حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة،
عن عبد الله بن سرجس، أن النبي b قال: لا يبولن أحدكم في الجحر. الحديث وفيه: قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: مراقي الفلاح (ص: 23) ،
وفي مذهب المالكية: الخرشي (1/144) ، الشرح الكبير (1/106) ، مختصر خليل (ص: 15) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، التاج والإكليل (1/398،399) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/100،101) ، أسنى المطالب (1/148،149) ، المهذب (1/26) ، الإقناع للماوردي (1/25) ، روضة الطالبين (1/65) ، التنبيه (ص:17) .
وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/108) ، الفروع (1/116) ، الإنصاف (1/97) ، المبدع (1/83) ، المحرر (1/9) ، الكافي (1/51) ، كشاف القناع (1/62) .
(2) المجموع (2/101) .(2/249)
يقال: إنها مساكن الجن (1) .
[إسناده صحيح، إن سلم من عنعنة قتادة] (2) .
_________
(1) المسند (5/82) .
(2) اختلف العلماء في سماع قتادة من عبد الله بن سرجس:
فأثتب سماعه منه علي بن المديني، كما في تلخيص الحبير (1/106) .
وأبو حاتم الرازي، كما في المراسيل لابنه (ص: 75) .
وأحمد بن حنبل، في رواية ابنه عبد الله.
وروى ابن أبي حاتم في المراسيل (ص: 168) عن حرب بن إسماعيل، عن أحمد: ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي b إلا عن أنس. قيل: فابن سرجس؟ فكأنه لم يره سماعاً. اهـ
وهذا تشكيك منه، وليس بجزم، وقد جزم في رواية عبد الله بالسماع، كما جزم غيره من العلماء.
واختلف قول الحاكم فيه، ففي المتسدرك لم يستبعد سماعه منه، وفي التهذيب، ذكر الحاكم بأنه لم يسمع من صحابي غير أنس.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وأبو داود (29) ، والنسائي في الكبرى (30) ، وفي المجتبى (34) ، وابن الجارود في المنتقى (34) ، والحاكم (666) ، والروياني في مسنده (1451) ، والبيهقي (1/9) ، والبغوي في شرح السنة (192) ، والمقدسي في الأحاديث المختارة (9/402) من طريق معاذ بن هشام به.
والحديث سكت عليه أبو داود والمنذري، وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بجيمع رواته، ولعل متوهماً يتوهم أن قتادة لم يذكر سماعاً، وليس هذا بمستبعد، فقد سمع قتادة من جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتج مسلم بحديث عاصم، عن عبد الله بن سرجس، وهو من ساكني البصرة. اهـ
قلت: لم يذكر لنا الحاكم جماعة الصحابة الذين روى عنهم قتادة، والمعلوم أنه لم يرو إلا عن أنس، واختلف في سماعه من عبد الله بن سرجس، فإذا كان عاصم بن سليمان الأحول قد شاركه في الرواية عن أنس وعن عبد الله بن سرجس، فكيف يكون روى عن جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، إلا إن كان مقصود الحاكم بأنه يرسل عنهم، فإذا كان كذلك فأي فائدة تذكر في روايته عنهم، والله أعلم.(2/250)
وما يقال: إنها مساكن الجن، هذا قول قتادة، ليس قولاً مرفوعاً، وقد ساقه بصيغة: يقال إنها مساكن الجن. وهذا لا يقبل إلا بتوقيف.
(294-138) وقد روى الطبراني، قال: حدثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: بينا سعد يبول قائماً إذ اتكأ، فمات قتلته الجن فقالوا:
نحن قتلنا سيد الخزر... ج، سعد بن عبادة
رميناه بسهمين... فلم يخطىء فؤاده (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المعجم الكبير للطبراني (6/رقم5359) .
(2) ابن سيرين لم يدرك سعد بن عبادة، قاله الهيمثي في مجمع الزوائد (1/206) .
والحديث أخرجه الحارث بن أبي أسامة، كما في بغية الباحث (63) قال: حدثنا أبو عاصم به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/116) رقم 1322 حدثنا أبو أسامة وابن إدريس، عن ابن عون، عن ابن سيرين أن سعد بن عبادة بال قائماً. اهـ
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/617) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن ابن سيرين به بنحوه.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (5102) من طريق بكار بن محمد، ثنا ابن عون به، بلفظ: أن سعد بن عبادة أتى سباطة قوم، فخر ميتاً، فقالت الجن: وذكر البيتين.
وقد تابع محمد بن سيرين كل من قتادة، وعبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، وعطاء بن أبي رباح، وأبو رجاء العطاري.
أما متابعة قتادة، فأخرجها عبد الرزاق في مصنفه (3/597) ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبراني في الكبير (6/رقم 5360) والحاكم في المستدرك (5103) ، وهذا الإسناد فيه انقطاع أيضاً، فإن قتادة لم يدرك سعد بن عبادة. وقد قدمنا عن الأئمة أن قتادة لا يروي عن صحابي إلا عن أنس، واختلف في سماعه من عبد الله بن سرجس، وانظر جامع التحصيل (ص: 254) .
وأما متابعة عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، فأخرجها ابن سعد في الطبقات (3/617) ، و (7/390) من طريق الواقدي، قال: أخبرنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، فذكر بمعناه، وسياقه أطول. والواقدي متروك، فلا يفرح بها، ويحيى قال فيه أبو حاتم: لا أعرفه. الجرح والتعديل (9/171) .
وأما متابعة عطاء بن أبي رباح، فقد ذكره ابن عبد البر معلقاً في الاستيعاب، المطبوع بهامش الإصابة (2/40) قال: روى ابن جريج، عن عطاء، فذكره... وهذا ضعيف؛ لإنقطاعه.
وأما متابعة أبي رجاء العطاردي، فذكره الذهبي في السير (1/278) قال الأصمعي: حدثنا سلمة بن بلال، عن أبي رجاء، فذكره مختصراً. ولم أقف على ترجمة سلمة بن بلال، والإسناد معلق، ولم يذكر الذهبي إسناده إلى الأصمعي لينظر فيه. هذا ما وقفت عليه في طرق الحديث، وكلها لا تخلو من ضعف، والله أعلم.(2/251)
وقال بعضهم: لعله أراد صغار الحيات، فإنها يقال لها جن، وجنان، وأحدها جانٌّ.
الدليل الثالث:
من النظر، فإنه ينهى عن البول في الجحر؛ لإن في ذلك مفسدتين:
الأولى: أن هذه الهوام قد تخرج من جحرها، فيفزع منها، فيتلوث بالنجاسة.
الثانية: أن في ذلك اعتداء على هذه الهوام، وإفساد لمساكنها، دون أن(2/252)
تؤذيه، وقد علم أن الحشرات والهوام أقسام:
منها ما أمرنا بقتله ابتداء، لكونه معتدياً بطبعه، كالحية والعقرب.
ومنها: ما نهينا عن قتله كالنملة والنحلة.
ومنها ما سكت عنه، فهذا النوع لا يعتدى عليه إلا إذا اعتدى أو آذى، ولذا جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين: " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه... الحديث. مع أن غمسه قد يكون سبباً في هلاكه أحياناً كما لو كان الشراب حاراً، أو دهناً، أو نحوهما، ولكنه حين اعتدى وسقط في الإناء أمرنا بذلك، ولم يأت نص بقتله ابتداء.(2/253)
[صفحة فارغة](2/254)
المبحث العاشر
في البول على القبر
اختلف العلماء في البول على القبر:
فقيل: يكره البول على القبر، وهو مذهب الحنفية، ولعلها كراهة تحريم (1) ، وقول في مذهب الحنابلة (2) .
وقيل: يحرم البول على القبر، وهو مذهب الجمهور (3) .
وأما البول بقربه، فقيل: يكره البول بقربه (4) .
وقيل: لا يكره، وهو رواية عن أحمد (5) .
_________
(1) قال ابن نجيم في البحر الرائق (2/109) : " وفي المجتبى: ويكره أن يطأ القبر أو يجلس أو ينام عليه أو يقضي عليه حاجة من بول أو غائط. اهـ
وانظر الكتاب نفسه (1/256) ، وتحفة الفقهاء (1/257) ، وشرح معاني الآثار (1/516،517) .
(2) الإنصاف (1/100) قال المرادوي: لو قيل بالتحريم لكان أولى، وكأنه لا يعلم أن هناك قولاً بالتحريم، بل قال المؤلف نفسه في الكتاب نفسه (2/550) : لا يجوز التخلي عليه، على الصحيح من المذهب، وقال في نهاية الأزجي: يكره التخلي. قال المرداوي: فلعله أراد بالكراهة التحريم، وإلا فبعيد جداً، ويكره التخلي بينها، وكرهه الإمام أحمد، زاد حرب: كراهية شديدة، وقال في الفصول: حرمته ثابتة، ولهذا يمنع من جميع ما يؤذي الحي أن ينال به، كتقريب النجاسة منه. انتهى.
(3) الأم (1/277،278) ، مواهب الجليل (2/253) ، حاشية الدسوقي (1/428) ، التاج والإكليل (1/252) ، المنتقى للباجي (2/24) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/46،400) ، المجموع (2/108) ، روضة الطالبين (1/66) ، المغني (2/192) ، الفروع (2/236) ، المحلى (5/141) .
(4) انظر المراجع السابقة.
(5) الإنصاف (1/99) .(2/255)
دليل من قال: يحرم البول عليه.
(295-139) ما رواه مسلم، قال: وحدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سهيل، عن أبيه،
عن أبي هريرة قال قال رسول الله b لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (1) .
وجه الاستدلال:
إذا كان الجلوس على القبر محرماً، فالبول والتغوط عليه أشد حرمة، مع أن أبا حنيفة (2) ومالكاً (3) فسرا الجلوس على القبر كناية عن الجلوس عليه لقضاء الحاجة، فيكون الاستدلال إما بالقياس الجلي، وإما بالنص حسب تفسير المالكية، وإن كان تفسير المالكية فيه ضعف (4) .
_________
(1) مسلم (971) .
(2) شرح معاني الآثار للطحاوي (1/516) .
(3) المنتقى للباجي (2/24) .
(4) فقد رد ابن حزم على الحنفية والمالكية الذين حملوا النهي عن الجلوس على القبر، بأنه كناية عن الجلوس للغائط، فقال في المحلى (5/136) : وهذا باطل بحت لوجوه:
أولها: أنه دعوى بلا برهان، وصرف لكلام رسول الله b عن وجهه، وهذا عظيم جداً.
وثانيها: أن لفظ الخبر مانع من ذلك قطعاً بقوله عليه السلام: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن القعود للغائط لا يكون هكذا ألبتة، وما عهدنا قط أحداً يقعد على ثيابه للغائط إلا من لا صحة لدماغه.
وثالثها: أن الرواة لهذا الخبر لم يتعدوا به وجهه من الجلوس المعهود، وما علمنا قط في اللغة جلس فلان بمعنى تغوط، فظهر فساد هذا القول ولله تعالى الحمد. اهـ
وقال ابن قدامة في المغني (2/192) : ذكر لأحمد أن مالكاً يتأول حديث النبي b أنه نهى أن يجلس على القبور: أي للخلاء، فقال: ليس هذا بشيء، ولم يعجبه رأي مالك. اهـ(2/256)
دليل من قال: يكره البول بقربه.
قالوا: إن هذا قد يؤذي الإحياء ممن يأتي لزيارة القبور، وأذية المؤمنين لا تجوز، وإذا كان قد ثبت النهي عن البول في طرق المسلمين وظلهم، فإنه البول بالقرب من القبر في معنى المنهي عنه، بجامع الأذية في الكل.
التعليل الثاني:
أن حرمة الميت كحرمة الحي، قال في الفصول: وحرمته -يعني الميت-باقية ولهذا يمنع من جميع ما يؤذي الحي أن يناله به، كتقريب النجاسة منه (1) .
دليل من قال: لا يكره البول بقرب القبر.
(296-140) روى ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، ثنا المحاربي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني،
عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله b: لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق (2) .
[المحفوظ فيه وقفه على عقبة] (3) .
_________
(1) الفروع (2/236) .
(2) سنن ابن ماجه (1567) .
(3) فقد رواه ابن أبي شيبة (3/26) حدثنا شبابة، عن ليث بن سعد به، موقوفاً على عقبة، والمحاربي مدلس، ولعل ذكره قضاء الحاجة في السوق، وفي مسند ابن أبي شيبة: والناس ينظرون إلا أن يبين أن الوطء على القبر أشد حرمة، والله أعلم.(2/257)
[صفحة فارغة](2/258)
المبحث الحادي عشر
في البول في الإناء
يجوز البول في إناء، وهو مذهب الشافعية (1) ، واختاره ابن قدامة في المغني (2) .
وقيل: يكره إن كان بلا حاجة، وهو مذهب الحنابلة (3) .
وخص المالكية الكراهة بالآنية النفيسة كالذهب والفضة (4) .
دليل من جوز البول في إناء.
الدليل الأول:
الأصل الجواز، وقد حكى الشوكاني في جوازه الإجماع.
قال الشوكاني: جواز إعداد الآنية للبول فيها بالليل، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً (5) .
_________
(1) قال النووي في المجموع (1/108) : قال أصحابنا لا بأس بالبول في إناء. اهـ
وانظر حلية العلماء (3/189) ، روضة الطالبين (1/66) ، بل قال في شرح البجيرمي على الخطيب (1/191) : ويندب اتخاذ إناء للبول فيه ليلاً للاتباع؛ ولأن دخول الحش يخشى منه ليلاً. اهـ
(2) قال ابن قدامة في المغني (1/110) ولا بأس أن يبول في الإناء.
(3) الإنصاف (1/99) ، الفروع (1/85) ، منار السبيل (1/26) ، كشاف القناع (1/62) ، مطالب أولي النهى (1/68) .
(4) قال في مواهب الجليل (1/277) : قال في المدخل: يكره البول في أواني النفيسة؛ للسرف، وكذلك يحرم في أواني الذهب والفضة؛ لحرمة اتخاذها واستعمالها. اهـ
(5) نيل الآوطار (1/115) .(2/259)
الدليل الثاني:
(297-141) ما رواه النسائي، قال: خبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أزهر، أنبأنا ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود،
عن عائشة قالت: يقولون إن النبي b أوصى إلى علي، لقد دعا بالطست؛ ليبول فيها، فانخنثت نفسه وما أشعر، فإلي من أوصى؟ (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثالث:
(298-142) ما رواه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عيسى، ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة،
عن أمها أنها قالت: كان للنبي b قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل (3) .
_________
(1) سنن النسائي (33) .
(2) والحديث أخرجه البيهقي (1/99) من طريق العباس بن محمد الدوري، ثنا أزهر به.
وقد أخرجه البخاي (4459) حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أزهر به. وفيه: فدعا بالطست، فانخنث، فمات. فلم تذكر البول.
وأخرجه البخاري (2741) ومسلم (1636) من طريق إسماعيل بن علية، عن ابن عون به، بلفظ: فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري. الحديث. ولم تذكر البول.
فهل يحمل المجمل في هذه الرواية على الصريح في رواية النسائي، وأن الطست إنما دعا به للبول فيه، فيه احتمال. قال النووي في المجموع (2/108) : وهو محمول على الرواية الصحيحة الصريحة في البول. اهـ
(3) سنن أبي داود (24) .(2/260)
[إسناده فيه لين] (1) .
دليل من قيده بالحاجة.
لعلهم رأوا أن ذلك كان في وقت قبل أن تنتشر الحشوش في البيوت في المدينة، وكان الخروج لقضاء الحاجة ليلاً فيه مشقة، أو رأوا أن في ذلك نجاسة للآنية، فيقيد بالحاجة، أو رأوا أن الأدلة الدالة على الجواز تشعر بقيد الحاجة؛ لأنها إما بوقت مرض النبي b أو في وقت الليل، وكلها تدل على وجود الحاجة إلى هذا الفعل، فقيدوه بالحاجة، والله أعلم.
دليل من خص الكراهة بالآنية النفيسة.
دليله أن البول في الآنية الثمينة يدل على السرف والخيلاء، وهذا منهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة، وليس النهي عائداً إلى ذات البول، وإنما ما يكون فيه من إسراف وخيلاء، ولا شك أن من يبول في آنية الذهب والفضة أنه مسرف، مع ما قد يقال: إن البول في آنية الذهب والفضة يدخل في الاستعمال، وقد حررت الخلاف في حكم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب في مسألة مستقلة من هذا الكتاب.
والقول الأول أقوى، وهو الراجح أن البول في الإناء جائز، والأصل الحل، والله أعلم.
_________
(1) في إسناده حكيمة بنت أميمة، لم يرو عنها إلا ابن جريج، ولم يوثقها إلا ابن حبان. الثقات (4/195) ، وقال الذهبي في الميزان: غير معروفة. وفي التقريب: لا تعرف.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه النسائي في الكبرى (34) ، وفي الصغرى (32) ، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (3342) ، والطبراني في المعجم الكبير (24/205) ، وابن حبان في صحيحه (1426) ، والحاكم في المستدرك (593) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/99) من طريق حجاج بن محمد به.(2/261)
[صفحة فارغة](2/262)
المبحث الثاني عشر
في التحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء
استحب الجمهور أن يتحول عن موضع قضاء الحاجة عند الاستنجاء (1) ، بشرطين:
الأول: أن يكون الاستنجاء بالماء، فإن كان الاستنجاء بالحجارة، فلا يشرع له التحول؛ لأن التحول قد يزيده تلوثاً.
الثاني: عند خوف التلوث، فإن أمن التلوث لم يشرع له الانتقال، كما في المرحاض؛ لأن التلوث فيه مأمون.
دليل الاستحباب.
الدليل الأول:
(299-143) روى الإمام أحمد في مسنده، قال: حدثنا يونس وعفان، قالا: ثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي،
عن حميد الحميري، قال: لقيت رجلاً صحب النبي b أربع سنين،
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/344) ، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (35) ، ومواهب الجليل (1/276) ، وقال النووي في المجموع (2/107) : واتفق أصحابنا على أن المستحب أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة، لئلا يترشش عليه، وهذا في غير الأخلية المتخذة لذلك. أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه؛ لأنه لا يترشش عليه؛ ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة، وقول المصنف والأصحاب: لا يستنجي بالماء في موضعه، احتراز من الاستنجاء بالأحجار، فإن شرطه أن لا ينتقل عن موضعه كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. وانظر تحفة المحتاج (1/170،171) ، روضة الطالبين (1/65) ، نهاية المحتاج (1/141) ، وانظر المغني (1/109) ، كشاف القناع (1/63) ، الروض المربع (1/36) ، زاد المستقنع (ص: 23) .(2/263)
كما صحبه أبوهريرة أربع سنين قال: نهانا رسول الله b "أن يمتشط أحدنا كل يوم، وأن يبول في مغتسله. الحديث (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
الدليل الثاني:
(300-144) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، أخبرني أشعث، عن الحسن،
عن عبد الله بن مغفل، قال: قال رسول الله b: لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه (3) .
[اختلف في وقفه ورفعه، والحسن قد سمع من عبد الله بن مغفل] (4) .
_________
(1) مسند أحمد (4/111) .
(2) وسبق الكلام عليه في باب المياه.
(3) المسند (5/56) .
(4) الحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف (978) ، ومن طريقه أخرجه أحمد كما في حديث الباب، وعبد بن حميد (505) ، وأبو داود (27) ، وابن ماجه (304) ، وابن الجارود (35) ، والبيهقي (1/98) .
وأخرجه أحمد (5/56) ، والبخاري في التاريخ الكبير (1/429) ، والترمذي (21) ، والنسائي (36) وابن حبان (1255) ، والحاكم (595) من طريق ابن المبارك، أخبرنا معمر، حدثني أشعث به، بلفظ: نهى رسول الله b أن يبول الرجل في مستحمه، فإن عامة الوسواس منه.
ورواه قتادة، واختلف عليه فيه:
فرواه ابن أبي شيبة (1/106) رقم 1201، والبخاري في التاريخ الكبير (6/431) ، والعقيلي في الضعفاء (1/29) ، والبيهقي (1/98) من طريق شعبة، عن قتادة، عن عقبة بن صهبان، عن ابن مغفل، أنه سئل عن الرجل يبول في مغتسله. قال: يخاف منه الوسواس. وهذا موقوف، ورجاله ثقات.
ورواه الحاكم (663) ، وعنه البيهقي (1/98) من طريق يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عقبة بن صهبان، عن عبد الله بن مغفل، قال: نهي أو زجر أن يبال في المغتسل.
ويزيد بن زريع سمع منه سعيد قبل اختلاطه، فهنا اختلف شعبة وسعيد بن أبي عروبة في لفظه، ولفظ سعيد بن أبي عروبة له حكم الرفع، ولفظ شعبة صريح بالوقف، وشعبة إمام.
ورواه البيهقي (1/98) من طريق يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا قتادة، عن سعيد، عن الحسن بن أبي الحسن، عن عبد الله بن مغفل، أنه كان يكره البول في المغتسل، وقال: إن منه الوسواس.
وهذا موقوف أيضاً، إلا أن إسناده ضعيف، فيه يزيد بن إبراهيم التستري، وإن كان ثقة ثبتاً إلا أن روايته عن قتادة فيها لين، وسعيد لم ينسب، فلم يتبين لي من هو؟(2/264)
قال الخطابي: المستحم: المغتسل، ويسمى مستحماً باسم الحميم، وهو الماء الحار الذي يغتسل به، وإنما نهي عن ذلك إذا لم يكن المكان جدداً صلباً، أو لم يكن مسلك ينفذ فيه البول، ويسيل فيه الماء، فيوهم المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه، فيورثه الوسواس (1) .
_________
(1) معالم السنن (1/31) .(2/265)
[صفحة فارغة](2/266)
الباب الثالث
في صفة الاستنجاء والاستجمار(2/267)
[صفحة فارغة](2/268)
الفصل الأول
في التسمية عند الاستنجاء والاستجمار
لم أقف على كلام لأحد من أهل أنه أستحب للإنسان أن يسمي إذا أراد الشروع في الاستنجاء أو الاستجمار.
وقد ذكرنا الخلاف في مشروعية التسمية عند إرادة الدخول لمكان الخلاء في فصل مستقل، فلعلهم رأوا أن التسمية السابقة لدخول الخلاء إنما هي للبول والغائط والاستنجاء منهما، خاصة إذا علمنا أن الجمهور يكرهون ذكر الله في الخلاء، كما أني لا أعلم دليلاً من السنة أن الرسول b كان يسمي عند مباشرته للاستنجاء، فنستطيع أن نقول: بأن التسمية عند البدء بالاستنجاء أو الاستجمار غير مشروعة، فلا قائل بها فقهاً، ولم يرد فيها أثر منقول فيما أعلم، والله أعلم.
(301-145) ولا يستدل للتسمية للاستنجاء بما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله b: كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله، فهو أبتر أو قال: أقطع (1) .
[فإن إسناده ضعيف ومتنه مضطرب] (2) .
_________
(1) المسند (2/359) .
(2) أما ضعف إسناده ففيه قرة بن عبد الرحمن، وفي التقريب يقال: اسمه يحيى.
قال أحمد: منكر الحديث جداً. الكامل (6/53) ، لسان الميزان (7/492) .
وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث، كما في رواية ابن أبي خيثمة. الجرح والتعديل (7/131) ، تهذيب التهذيب (8/333) .
وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير. الجرح والتعديل (7/131) .
وقال النسائي: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/333) .
وذكره ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (526) .
وذكره في الثقات. ثقات ابن حبان (7/382) ورد قول ابن السمط أن قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وقال: كيف يكون أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثاً.
قلت ما نسبه ابن حبان من قول ابن السمط إنما هو من قول الأوزاعي. انظر الجرح والتعديل (7/131) ، وتهذيب التهذيب (8/333) .
وقال الآجري عن أبي داود: في حديثه نكارة. تهذيب التهذيب (8/333) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. الضعفاء الكبير (3/485)
وفي التقريب: صدوق له مناكير.
وقد اضطرب إسناده ومتنه.
أما اضطراب الإسناد فقيل فيه كما في إسناد الباب:
الأوزاعي عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقيل: الأوزاعي، عن الزهري به، سقط منه قرة.
وقيل: الأوزاعي، عن يحيى (قرة بن عبد الرحمن) عن أبي سلمة به، سقط منه الزهري.
وقيل: عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
وأما اضطراب المتن، فقيل:
" كل أمر لا يفتح بذكر الله.. "
وقيل: " لا يبدأ فيه بحمد الله.. ".
وقيل: " لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ".
وقيل: " لا يبدأ بحمد الله والصلاة عليَّ ـ أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فزاد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ?. وإليك تفصيل ما أجمل من الإسناد والمتن:
أما رواية: [لا يبدأ فيه بذكر الله]
فرواها ابن المبارك كما عند أحمد (2/359) ، وموسى بن أعين كما في سنن الدارقطني (1/129) كلاهما عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأما رواية: [لا يبدأ فيه بحمد الله] :
فرواها جماعة
الأول: الوليد بن مسلم، كما في سنن أبي داود (4840) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (494) ، والدارقطني (1/229) .
الثاني: عبيد الله بن موسى، كما في سنن ابن ماجه (1849) .
الثالث: عبد الحميد بن أبي العشرين، كما في صحيح أبن حبان رقم (1) .
الرابع: شعيب بن إسحاق، كما في صحيح ابن حبان رقم (2) .
الخامس: أبو المغيرة: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني كما في سنن البيهقي (3/208،209) خمستهم رووه عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة به، فتبين أن أكثر الرواة يروونه بلفظ " الحمد " وليس فيها شاهد على مسألتنا، ولذا قال الحافظ في الفتح (8/220) في تفسير قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} في الكلام على حديث هرقل، قال: وصححه ابن حبان وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته، فالمشهور فيه بلفظ: حمد الله. اهـ
وأما الرواية بلفظ:] لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم [
فقد رواه الخطيب في الجامع (1210) من طريق مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري به.
وهذا الطريق كما أن فيه مخالفة في المتن، فيه مخالفة في الإسناد، حيث أسقط من سنده قرة بن عبد الرحمن.
وأما رواية:] لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ [:
فقد أخرجها الخليلي في الإرشاد (1/449) من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة به.
قال المناوي في فيض القدير (5/14) : " وقال الرهاوي غريب تفرد بذكر الصلاة. فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جداً، لا يعتبر بروايته ولا بزيادته ".
قال الدارقطني: يضع الحديث، كذاب متروك. الضعفاء والمتروكين له (85) . الكشف الحثيث (142) ، اللسان (1/1/406) .
وقال الخليلي: ليس بالمشهور، كان يكون في دار المهدي. يقال: إنه كان يعلم ولد المهدي، وهو من جملة الحواشي، ويشحن هذا التفسير بأحاديث مسندة يرويها عن شيوخه عن ثور بن يزيد، وعن يونس الأيلي أحاديث لا يتابع عليها. الإرشاد (1/391) .
] وأما رواية الزهري عن النبي b مرسلاً [
فأخرجها النسائي (496) في عمل اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مرسلاً، وأخرجه (495) عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد ابن عبدالعزيز، عن الزهري به.(2/269)
ومع ضعف الحديث فإن هناك عبادات لا تشرع فيها التسمية، منها الأذان، والدخول في الصلاة، فلا يقال: إن التسمية مشروعة في كل شيء، والاستنجاء شيء، لأننا نقول: إن الاستنجاء يتكرر من النبي b كثيراً، فهل نقل من فعله أنه كان يسمي، أو نقل من قوله: أن الإنسان يسمي إذا شرع في الاستنجاء، وإذ لم يوجد تكون التسمية في الاستنجاء بدعة، والله أعلم.(2/272)
الفصل الثاني
حكم النية للاستنجاء
اتفق الجمهور على أن الطهارة من الخبث لا تشترط له نية، ومنه الاستنجاء (1) ، وخالف أكثر المالكية فاشترطوا النية في الاستنجاء من المذي خاصة، وهو المعتمد في المذهب (2) .
وقال القرافي: تشترط النية في إزالة كل النجاسات، وهو خلاف شاذ (3) .
دليل الجمهور على عدم اشتراط النية.
الدليل الأول: الإجماع.
_________
(1) أما الحنفية فإنهم لا يشترطون النية لا في طهارة الحدث، ولا في طهارة الخبث، انظر في كتب الحنفية شرح فتح القدير (1/32) ، البناية في شرح الهداية (1/173) ، تبيين الحقائق (1/5) ، البحر الرائق (1/24) ، بدائع الصنائع (1/19) ، مراقي الفلاح (ص:29) ، أحكام القرآن للجصاص (3/337) .
وفي مذهب الشافعي انظر المهذب (1/14) ، والمجموع (1/354) ،
وفي مذهب الحنابلة مطالب أولي النهي (1/105) ، انظر المبدع (1/117) .
(2) قال في حاشية الدسوقي (1/112) : واعلم أن غسل الذكر من المذي وقع فيه خلاف، قيل: إنه معلل بقطع المادة، وإزالة النجاسة.
وقيل: إنه تعبد، والمعتمد الثاني. (أي كونه تعبداً) ثم قال: ويتفرع أيضاً، هل تجب النية في غسله أو لا تجب، فعلى القول بالتعبد تجب، وعلى القول بأنه معلل لا تجب، والمعتمد وجوبها. اهـ
وأما في غير المذي فقد صرحوا بأن الاستنجاء يجزئ بلا نية، جاء في التاج والإكليل (1/229) : قال ابن أبي زيد في الاستنجاء: ويجزئ فعله بغير نية، وكذلك غسل الثوب النجس. اهـ وانظر مواهب الجليل (1/160) .
(3) مواهب الجليل (1/160) .(2/273)
حكى الإجماع على أن طهارة الخبث لا تجتاج إلى نية جماعة، منهم القرطبي في تفسيره (1) ، وابن بشير وابن عبد السلام من المالكية (2) ، والبغوي، وصاحب الحاوي من الشافعية (3) .
الدليل الثاني:
قالوا: إن الطهارة من الخبث من باب التروك، وهو لا يحتاج إلى نية كترك الزنا والخمر، فلو أن المطر نزل على ثوب نجس، فزالت النجاسة طهر الثوب ولو لم ينو؛ لأن النجاسة عين خبيثة متى زالت زال حكمها.
دليل المالكية على اشتراط النية.
(302-146) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن،
عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي b لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك (4) .
فقوله b: اغسل ذكرك، حقيقة في جميع الذكر، فهو مفرد مضاف، فيعم جميع الذكر، فيغسل مخرج الذكر من أجل النجاسة، أما بقية الذكر فالراجح عندهم أن غسله تعبدي غير معقول المعنى، وهذا سبب اشتراط النية.
وقال بعضهم: إن غَسْل الذكر إنما هو من أجل قطع مادة المذي، فهو
_________
(1) تفسير القرطبي (5/213) ،.
(2) مواهب الجليل (1/160) .
(3) المجموع (1/354) .
(4) صحيح البخاري (269) ، ومسلم (303) .(2/274)
كغسل النجاسات، لا يفتقر إلى نية، والمعتمد القول الأول (1) .
والراجح قول الجمهور، وأن طهارة الخبث لا تفتقر إلى نية، وسوف يأتي بحث مستقل هل يغسل الذكر كله، أو يغسل رأس الحشفة منه، أو يغسل الذكر كله مع الإنثيين في الاستنجاء من المذي، وكلها أقوال فقهية للأئمة، رجحت منها أن غسل الذكر كله لا يجب، وإنما الواجب غسل رأس الحشفة، وبالتالي يكون قول المالكية قولاً مرجوحاً، لأنه بني على قول مرجوح، وهو وجوب غسل جميع الذكر، والله أعلم.
_________
(1) قال القاضي أبو الوليد كما في المنتقى للباجي (1/50) : الصحيح عندي أنه يفتقر إلى النية لأنها طهارة تتعدى محل وجوبها. وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/285) ، الخرشي (1/149) ، حاشية الدسوقي (1/112) ، فتح البر بترتيب التمهيد (3/323) .(2/275)
[صفحة فارغة](2/276)
الفصل الثالث
يبدأ الرجل بالقبل قبل الدبر
اختلف الفقهاء أيهما أفضل يبدأ في الاستنجاء بالقبل أم بالدبر:
فقيل: يبدأ بالدبر قبل القبل، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله (1) .
وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد من الحنفية (2) ،
وقيل: يبدأ بالقبل قبل الدبر إلا إن كان القبل يقطر عند ملاقاة الماء لدبره، اختاره بعض المالكية (3) .
وقيل: يستحب إن كان يستنجي بالماء تقديم القبل على الدبر، وإن كان بالحجر قدم الدبر على القبل، اختاره بعض الشافعية (4) .
وقيل: يبدأ ذكر وبكر بقبل، والثيب تخير بأيهما تبدأ، وهو مذهب الحنابلة (5) .
_________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31) .
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 31) ، ولم يذكر غيره ابن عابدين في حاشيته (1/345) .
(3) الشرح الكبير (1/106) ، حاشية الدسوقي (1/106) ، الفواكه الدواني (1/132) ، الخرشي (1/142) ، حاشية العدوي (1/173،174) ، حاشية الصاوي (1/97) .
(4) المنهج القويم (ص: 83) ، إعانة الطالبين (1/108) ، حاشية البجيرمي (1/63) ، حاشيتا قليبوبي وعميرة (1/48) ، مغني المحتاج (1/46) ، وأطلق النووي في كتابيه المجموع (1/127) ، وروضة الطالبين (1/71) تقديم القبل على الدبر مطلقاً، ولم يفصل إن كان المستنجى به ماء أو حجراً.
(5) كشاف القناع (1/65) ، الفروع (1/89) ، وقال في الإنصاف (1/107) : يبدأ الرجل والبكر بالقبل على الصحيح من المذهب. اهـ(2/277)
وقيل: إن المرأة تتخير مطلقاً بكراً كانت أو ثيباً، وهو وجه في مذهب الحنابلة (1) .
هذه هي الأقوال في المسألة، ولا أعلم أن هناك نصاً في استحباب تقديم القبل أو العكس، وإنما المسألة مبنية على تعاليل استنبطها بعض القوم، ورأى أنها كافية في الاستحباب، فمن استحب تقديم القبل على الدبر، قال: من أجل أن يأمن التلوث عند الاستنجاء بالدبر، لأن يده قد تمس ذكره، فتتنجس يده.
ومن استحب تقديم الدبر على القبل، قال: لأنه إذا قام بدلك دبره وما حوله قطر البول كما هو مشاهد، فلا تكون هناك فائدة في تقديم القبل، وهذا اختيار أبي حنيفة، وهو الذي جعل المالكية يستحبون تقديم القبل على الدبر إلا في رجل يعرف من نفسه أنه إذا مس الماء الدبر قطر بوله.
وأما من فرق بين البكر والثيب، رأى أن البكر يخرج بولها فوق الفرج، والعذرة تمنع نزول البول فيه، فأشبهت الرجل من هذا الوجه بخلاف الثيب، والصحيح أن المرأة ليست كالرجل، فإن ذكر الرجل يتدلى وقد يلوث اليد إذا لم يبدأ بالقبل قبل الدبر بخلاف المرأة.
وبهذه التعليلات نعرف أنها كلها مبنية على استحسان ليس أكثر، وليس في المسألة نص، والأمر واسع، ولو كان هناك صفة مشروعة لجاء الشرع بها {وما كان ربك نسياً} (2) والله أعلم.
_________
(1) شرح العمدة (1/156) ، الإنصاف (1/107) .
(2) مريم: 64.(2/278)
الفصل الرابع
هل يكفي في الاستنجاء غلبة الظن أم لا بد من اليقين
اختلف الفقهاء في هذا،
فقيل: يكفي فيه غلبة الظن، وهو مذهب الجمهور (1) .
وقيل: لا بد من اليقين، وهو قول في مذهب الحنفية (2) ، وقول في مذهب الحنابلة (3) .
دليل من قال: يكفي غلبة الظن.
الدليل الأول:
(303-147) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه،
عن عائشة قالت كان رسول الله b إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره حتى إذا ظن
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: الهداية شرح البداية (1/137) ، وحاشية ابن عابدين (1/345) .
وفي مذهب المالكية: الفواكه الدواني (1/132) ، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني (1/43) .
وفي مذهب الشافعية: الإقناع للشربيني (1/155) ، روضة الطالبين (1/72) ، إعانة الطالبين (1/107) ، مغني المحتاج (1/46) .
وفي مذهب الحنابلة: كشاف القناع (1/70) ، الإنصاف (1/110) ، المبدع (1/95) ، الفروع (1/120) .
(2) حاشية ابن عابدين (1/345) .
(3) الإنصاف (1/110) .(2/279)
أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده، وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله b وسلم من إناء واحد، نغرف منه جميعاً، ورواه مسلم، واللفظ للبخاري (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: " حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته " وغسل الجنابة إحدى الطهارتين، لأن الطهارة إما عن حدث، وإما عن خبث، فإذا جاز الاكتفاء بالظن في طهارة الحدث، جاز في طهارة الخبث.
ويناقش هذا الاستدلال:
أولاً: يحتمل أن يكون الظن هنا، بمعنى العلم، فيكون معناه: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته: أي حتى إذا علم. وإطلاق الظن على العلم كثير في اللغة العربية، قال تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (2) ، وقال: {وظنوا أنهم مواقعوها} (3) ، وقد يطلق العلم على الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} (4) ، فالعلم هنا متعذر؛ لأن الإيمان أمر قلبي، لكن يراد به غلبة الظن.
ثانياً: على التسليم أن الظن في الحديث على بابه، فلم يكتف بالظن، ألا ترى أنه حين ظن أنه أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، فيحصل العلم بتعميم الماء، والله أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري (273) ، ومسلم (316) .
(2) الحاقة: 20.
(3) الكهف: 53.
(4) الممتحنة: 10.(2/280)
الدليل الثاني:
جاء العمل بالظن في كثير من العبادات، والطهارة من الاستنجاء مقيسة عليها.
(304-148) منها ما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال:
قال عبد الله: صلى النبي b -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى، كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
قوله: فليتحر الصواب. فالتحري عمل بالظن، وإذا جاز العمل بالظن في الصلاة وهي مقصودة، جاز العمل بالظن في الطهارة لها، والله أعلم.
(305-149) ومنها: ما رواه البخاري، قال: حدثني عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة،
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد النبي b في يوم غيم ثم طلعت الشمس (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (401) ، مسلم (572) .
(2) صحيح البخاري (1959) .(2/281)
ولو أمروا بالقضاء لنقل، فإذا جاز التحري بدخول وقت الصلاة، جاز التحري للطهارة لها.
الدليل الثالث:
قالوا: إن طلب اليقين في مثل هذه الأشياء يكون فيه حرج ومشقة، والحرج مدفوع عن هذه الأمة، قال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) ، وقال سبحانه {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (2) .
دليل من قال: لا بد من اليقين.
الدليل الأول:
قالوا: إن النجاسة متيقنة، ولا يطهر المحل بمجرد غلبة الظن، فلا بد من اليقين أن المحل قد طهر، وإنما يكتفى بغلبة الظن إذا تعذر اليقين، واليقين هنا غير متعذر.
الدليل الثاني:
(306-150) ربما يستدل بعضهم بما رواه البخاري، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: مر النبي b بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي b: يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة. الحديث ورواه مسلم بنحوه (3) .
_________
(1) الحج: 78.
(2) المائدة: 6.
(3) صحيح البخاري (216) ، ومسلم (292) .(2/282)
ويجاب بأن الحديث ليس في رجل يستنجي، ويعمل بغلبة ظنه، وإنما رجل لا يستنزه من بوله، ولا يقوم بما أوجب الله عليه من الطهارة، والتحرز من البول، والله أعلم.(2/283)
[صفحة فارغة](2/284)
الفصل الخامس
في صفة الإنقاء(2/285)
[صفحة فارغة](2/286)
المبحث الأول:
في صفة الإنقاء بالحجر
اختلف العلماء في صفة الإنقاء بالحجر على قولين:
فقيل: بقاء أثر لا يزيله إلا الماء، وهو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: خروج الحجر الأخير لا أثر به إلا يسيراً، وهو قول في مذهب الحنابلة (3) ،
ورجحه ابن تيمية (4) .
والثاني أقوى؛ والقول الأول فيه حرج ومشقة، والحرج مرفوع عن هذه الإمة إن شاء الله، والنجاسة اليسيرة معفو عنها إجماعاً كما سيأتي بحثه
_________
(1) قال في الأم (1/37) : فإن امتسح بثلاثة أحجار، فعلم أنه أبقى أثراً لم يجزه، إلا أن يأتي من الامتساح على ما يرى أنه لم يبق أثراً قائماً، فأما أثر لاصق لا يخرجه إلا الماء فليس عليه إنقاؤه؛ لأنه لو جهد لم ينقه بغير ماء. اهـ وانظر أسنى المطالب (1/51) ، شرح البهجة (1/122) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/50) ، تحفة المحتاج (1/182) ،
(2) قال في كشاف القناع (1/69) : والإنقاء بأحجار ونحوها كخشب وخرق: إزالة العين الخارجة من السبيلين حتى لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء، والإنقاء بالماء: خشونة المحل، وعوده كما كان، لزوال لزوجة النجاسة وآثارها. اهـ وانظر المبدع (1/94) ، دليل الطالب (ص: 6) ، الفروع (1/90) ، الإنصاف (1/110) ، شرح منتهى الإرادات (1/39) ، مطالب أولي النهى (1/76) .
(3) قال في الإنصاف (1/110) : حد الإنقاء بالأحجار: بقاء أثر لا يزيله إلا الماء، جزم به في التلخيص، والرعاية والزركشي، وقدمه في الفروع.
وقال المصنف -يعني ابن قدامة- والشارح وابن عبيدان وغيرهم: هو إزالة عين النجاسة وبلتها، بحيث يخرج الحجر نقياً ليس عليه أثر إلا شيئا يسيراً. فلو بقي ما يزول بالخرق لا بالحجر أزيل على ظاهر الأول، لا الثاني. اهـ وانظر المبدع (1/94) .
(4) انظر الفروع (1/90) .(2/287)
إن شاء الله في فصل لا حق، وقد اختار الحنفية والمالكية أن الاستنجاء كله ليس بواجب ما دام أن النجاسة لم تتجاوز الموضع المعتاد، فما بالك بالأثر اليسير جداً يبقى على المحل.(2/288)
المبحث الثاني
في صفة الإنقاء بالماء
اختلف الفقهاء في صفة الإنقاء بالماء،
فقيل: لا يعتبر عدد معين، بل المطلوب أن يعود المحل كما كان، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، والشافعية (3) ، وقول في مذهب الحنابلة (4) ،
وقيل: المطلوب غسل المحل سبع غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (5) .
وقيل: ثلاث غسلات، وهو قول في مذهب الحنابلة (6) ، والراجح الأول.
_________
(1) بدائع الصنائع (1/21) ، الهداية في شرح البداية (1/37) ، البحر الرائق (1/253) ، وسوف يأتي أن الحنفية لا يرون العدد في الاستجمار بالحجارة فضلاً أن يروا العدد في الماء.
(2) يرى المالكية أن العدد غير معتبر في الاستنجاء سواء كان بحجر أم بماء، انظر المنتقى (1/68) ، شرح الزرقاني على موطأ مالك (1/72) ، التاج والإكليل (1/270) ، التمهيد (11/17) ، الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17) ، مواهب الجليل (1/290) ، بداية المجتهد (1/62) ، وسوف يأتي أدلتهم في الإكتفاء بحجر واحد في الشرط الأول من شروط الاستجمار، فانظره غير مأمور.
(3) قال الشافعي في الأم (1/22) : وإذا استنجى بالماء فلا عدد في الاستنجاء إلا أن يبلغ من ذلك ما يرى أنه قد أنقى كل ما هنالك، ولا أحسب ذلك يكون إلا في أكثر من ثلاث مرات، وثلاث فأكثر. اهـ
(4) المغني (1/106) ، المبدع (1/238) ، شرح العمدة (1/90) ، الإنصاف (1/313) ، الكافي (1/91) .
(5) قال ابن تيمية في شرح العمدة (1/91) : وهي اختيار أكثر أصحابنا، وانظر المغني (1/106) ، الإنصاف (1/313) ، دليل الطالب (ص: 20) ، المحرر (1/4) ، منار السبيل (1/57) ، الكافي في فقه أحمد (1/91) .
(6) انظر المراجع السابقة.(2/289)
دليل من قال: لا يشترط في الاستنجاء عدد معين.
الدليل الأول:
قالوا: القياس على الطهارة من دم الحيض، فإذا كان دم الحيض لا يشترط لطهارته عدد معين، فكذلك البول والغائط.
(307-151) فقد روى البخاري، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثتني فاطمة عن أسماء، قالت: جاءت امرأة إلى النبي b، فقالت:
أرأيت إحدانا تحيض في الثوب، كيف تصنع. قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه. ورواه مسلم (1) .
وجه الاستدلال:
فهنا الرسول b لم يذكر عدداً في غسل نجاسة دم الحيض، والمقام مقام بيان، وجواب عن سؤال كيف يطهر الثوب، وقد أرشد الرسول b إلى حته، وقرصه، وغسله، مع أن الحت ليس بواجب مع الغسل، فيبعد أن ينص على ما ليس بواجب، ويهمل ما هو واجب، فدل على أن تكرار الغسل ليس بواجب.
الدليل الثاني:
(308-152) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:
جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي b، فقالت: يا رسول الله
_________
(1) البخاري (227) ، ومسلم (291) .(2/290)
إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة، فقال رسول الله b: لا إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي
قال وقال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (1) .
وجه الاستدلال:
أن الرسول b أمرها بغسل الدم، بقوله b: " فاغسلي عنك الدم، ثم صلي ". ولو كان العدد معتبراً لبينه النبي b وقد علم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة كما هو مقرر في أصول الفقه.
الدليل الثالث:
(309-153) ما رواه أحمد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني ثابت أبو المقدام، قال: حدثني عدى بن دينار، قال:
سمعت أم قيس بنت محصن قالت: سألت رسول الله b عن الثوب يصيبه دم الحيض. قال: حكيه بضلع، واغسليه بالماء والند وسدر.
[إسناده صحيح] (2) .
_________
(1) رواه البخاري (228) ، ورواه مسلم (333) دون قوله وقال أبي... الخ وسيأتي الكلام عليه في الاستحاضة إن شاء الله تعالى.
(2) المسند (6/355) . أبو المقدام اسمه: ثابت بن هرمز.
وثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين كما في الجرح والتعديل (2/459) ، وتهذيب الكمال (4/380) .
ووثقه أبو داود، ويعقوب بن سفيان وابن المديني وأحمد بن صالح كما في تهذيب التهذيب (2/15) .
ووثقه الذهبي انظر الكاشف (700) . وليس له إلا هذا الحديث، وقد صححه ابن حبان، وابن خزيمة، وفي التهذيب: صححه ابن القطان، وقال عقبه: لا أعلم له علة، وثابت ثقة، ولا أعلم أحداً ضعفه غير الدارقطني.
قلت: كلام ابن القطان في بيان الوهم والإيهام ليس فيه تضعيف الدارقطني، فأخشى أن يكون هذا وهماً من ابن حجر، أو يكون في نسخة أخرى غير المطبوعة، ولم أقف على تضعيف الدارقطني في غيره من الكتب. وإليك كلام ابن القطان، قال في بيان الوهم والإيهام (5/281) : " وهذا في غاية الصحة، فإن أبا المقدام: ثابت بن هرمز الحداد، والد عمرو بن أبي المقدام، ثقة، قاله أحمد بن حنبل، وابن معين، والنسائي، ولا أعلم أحداً ضعفه ". اهـ
وعدي بن دينار. وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر تهذيب التهذيب (7/151) . وباقي رجاله ثقات مشهورون.
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه أحمد (6/356) ، والبخاري في التاريخ الكبير (7/44) ، وأبو داود (363) ، والنسائي في المجتبى (292، 395) ، وابن ماجه (628) ، وابن حبان (1392) ، وابن خزيمة (277) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/407) . وحسنه الحافظ في الفتح في شرحه لحديث (229) ، وصححه ابن القطان كما نقلنا كلامه آنفاً.(2/291)
وجه الاستدلال:
الاستدلال بهذا الحديث كالاستدلال بالذي قبله، وقد ذكر السدر مع كونه ليس وجباً، فكيف يترك ذكر العدد لو كان العدد واجباً.
الدليل الرابع:
من النظر، قالوا: النجاسة عين محسوسة، ووجوب غسلها معلل ببقائها، فإذا زالت من الغسلة الأولى ارتفع حكمها.
دليل من قال: يجب غسل النجاسة في الاستنجاء سبع مرات.
قال ابن قدامة: روي عن ابن عمر أنه قال: أمرنا بغسل الأنجاس(2/292)
سبعاٌ (1) .
والجواب على هذا من وجهين.
الأول: أن هذا الأثر لا يعرف مسنداً في كتب الحديث، إنما ذكره الحنابلة في كتبهم الفقهية، فلا حجة فيه.
الثاني: على فرض صحته قد روي ما يدل على أنه منسوخ.
(310-154) فقد روى أحمد، قال: ثنا حسين بن محمد، ثنا أيوب بن جابر، عن عبد الله ـ يعنى بن عصمة ـ عن ابن عمر قال:
كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرار، والغسل من البول سبع مرار، فلم يزل رسول الله b يسأل حتى
جعلت الصلاة خمساً، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول
مرة (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) المغني (1/75) .
(2) المسند (2/109) .
(3) فيه أيوب بن جابر.
ضعفه أبو حاتم الرازي، وابن المديني، ويحيى بن معين، وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. انظر الجرح والتعديل (2/242) .
وضعفه النسائي. انظر الضعفاء والمتروكين (ص: 5) .
وضعفه الذهبي انظر الكاشف (512) .
وقال معاوية بن صالح: ليس بشيء. انظر تهذيب التهذيب (1/349) .
وذكره ابن حبان في المجروحين (1/167) ، وقال: يخطئ. حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه.
وفي الإسناد: عبد الله بن عصم. وقيل: عصمة. مختلف فيه.
قال أبو زرعة: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: شيخ. كما في الجرح والتعديل (5/126) . وقال: مثله الذهبي في الكاشف.
واضطرب قول ابن حبان فيه، فذكره في المجروحين (2/5) ، وقال: منكر الحديث جداً على قلة روايته، يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة. ثم رجع ابن حبان وذكره في الثقات (5/57) ، وقال: يخطئ كثيراً.
وفي التقريب: صدوق يخطئ، أفرط ابن حبان فيه وتناقض.
[تخريج الحديث] .
أخرجه أبو داود (247) ، والبيهقي في السنن (1/179، 244) ، والمعجم الصغير للطبراني (1/123) ح 182 من طرق عن أيوب بن جابر به.(2/293)
الدليل الثاني:
قالوا: ثبت الأمر بغسل نجاسة الكلب سبعاً، وغيرها من النجاسات قياساً عليه.
والدليل على وجوب غسل نجاسة الكلب سبعاً.
(311-155) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إن رسول الله b، قال:
إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. ورواه مسلم (1) .
وأجيب:
بأن نجاسة الكلب مغلظة لا يمكن قياس النجاسة العادية على النجاسة المغلظة، أرأيت نجاسة دم الحيض مع أنه مجمع على نجاسته كما قدمنا إلا أنه لم يرد فيه تكرار الغسل، ولم يرد ذكر التراب في تطهير شيء من النجاسات إلا نجاسة الكلب، والرواية التي فيها ذكر التراب رواها مسلم في صحيحة،
_________
(1) البخاري (172) ، ومسلم (279) .(2/294)
(312-156) قال مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b:
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب (1) .
دليل من قال: يشترط ثلاث غسلات.
الدليل الأول:
(313-157) روى مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح
وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (2) .
وجه الاستدلال:
قالوا: إذا كان الاستجمار لا بد فيه من ثلاثة أحجار، فكذلك الاستنجاء بالماء لا بد فيه من ثلاث غسلات.
_________
(1) صحيح مسلم (279) .
(2) مسلم (262) .(2/295)
وأجيب:
بأن هناك فرقاً بين الماء والأحجار، فالأحجار لا تزيل النجاسة بالكلية، ولذلك اشترط العدد بخلاف الماء فإنه يزيل عين النجاسة حتى لا يبقي لها أثراً.
الدليل الثاني:
(314-158) ما رواه مسلم، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر البكراوي، قالا: حدثنا بشر بن المفضل، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق،
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده. وهو في البخاري دون قوله: ثلاثاً (1) .
وجه الاستدلال:
إذا كان النبي b أمر القائم من نوم الليل أن يغسل يده ثلاثاً معللاً بتوهم النجاسة، فوجوب الثلاث مع تحققها أولى.
وأجيب:
بأنه قد تقدم الخلاف في العلة من أمر القائم بغسل يده ثلاثاً من نوم الليل، وأن هناك خلافاً هل غسل اليد تعبدي أو معقول المعنى، وهل هو للوجوب أم للاستحباب؟ ولو كان غسلها من أجل النجاسة لكفى غسلها مرة واحدة، ولن تكون أكثر نجاسة من دم الحيض، ومع ذلك لم يطلب تكرار الغسل.
الراجح: القول بأن الاستنجاء في الماء ليس فيه عدد معين، وإنما يغسل حتى يغلب على ظنه أن المحل رجع كما كان قبل البول والغائط، والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم (278) ، وانظر صحيح البخاري (162) .(2/296)
الفصل السادس
قول العلماء في الأثر المتبقي بعد الاستجمار
أثر الاستنجاء قيل: نجس، معفو عن يسيره.
وقيل: طاهر (1) . وحكي الإجماع على أنه معفو عنه.
قال ابن قدامة: وقد عفي عن النجاسات المغلظة لأجل محلها في ثلاثة مواضع:
أحدها: محل الاستنجاء، فعفي فيه عن أثر الاستجمار بعد الإنقاء واستيفاء العدد بغير خلاف نعلمه.
واختلف أصحابنا في طهارته، فذهب أبو عبد الله بن حامد وأبو حفص بن المسلمة إلى طهارته، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، ولو كان نجساً لنجسه.
ثم قال: وقال أصحابنا المتأخرون: لا يطهر المحل، بل هو نجس. اهـ أي نجس معفو عنه (2) .
وقال البهوتي: وأثر الاستجمار نجس؛ لأنه بقية الخارج من السبيل، يعفى عن يسيره بعد الإنقاء واستيفاء العدد، بغير خلاف نعلمه (3) .
الدليل على أن الاستنجاء مطهر.
(315-159) ما رواه الدارقطني، من طريق يعقوب بن حميد
_________
(1) الإنصاف (1/109) ، المغني (1/411) .
(2) المغني (1/411) .
(3) كشاف القناع (1/192) .(2/297)
بن كاسب، نا سلمة بن رجاء، عن الحسن بن فرات القزاز، عن أبيه، عن أبي حازم الأشجعي،
عن أبي هريرة، قال: إن النبي b نهى أن يستنجى بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الدراقطني (1/56) .
(2) دراسة الإسناد:
يعقوب بن حميد بن كاسب، جاء في ترجمته:
قال النسائي: ليس بشيء. الضعفاء والمتروكين (616) .
وقال في موضع آخر: ليس بثقة. تهذيب التهذيب (11/336) .
وقال البخاري: لم يزل خيراً، هو في الأصل صدوق. المرجع السابق.
وقال العباس بن محمد الدوري: سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (9/206) .
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول، وذكر ابن كاسب فقال: ليس بثقة. قلت: من أين قلت: ذاك؟ قال: لأنه محدود. قلت: أليس هو في سماعه ثقة؟ قال: بلى. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: هو ضعيف الحديث. المرجع السابق.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن يعقوب بن كاسب؟ فحرك رأسه. قلت: كان صدوقا في الحديث؟ قال: لهذا شروط وقال في حديث رواه يعقوب: قلبي لايسكن على ابن كاسب. المرجع السابق.
وقال العقيلي: حدثنا زكريا بن يحيى الحلواني، قال: رأيت أبا داود السجستاني صاحب أحمد بن حنبل قد ظاهر بحديث ابن كاسب، وجعله وقايات على ظهور ركبته، فسألته عنه، فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. ضعفاء العقيلي (4/446) .
وقال الذهبي: وكان من علماء الحديث، لكن له مناكير وغرائب. الميزان (9810) .
وفي التقريب: صدوق ربما وهم. قلت: لو قال: له أوهام لكان أقرب، فقد جرحه أبو داود والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم.
ـ سلمة بن رجاء، جاء في ترجمته:
قال النسائي: كوفي ضعيف. الضعفاء والمتروكين (242) .
قرئ على العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن سلمة بن رجاء، فقال: ليس بشيء. الجرح والتعديل (4/160) .
وقال أبو حاتم الرازي: ما بحديثه بأس. المرجع السابق.
وقال أبو زرعة: كوفى صدوق. المرجع السابق.
وذكره العقيلي في الضعفاء (2/149) .
وذكر ابن عدي هذا الحديث من غرائب سلمة بن رجاء، وقال: لا أعلم رواه عن فرات القزاز غير ابنه الحسن، وعن الحسن سلمة بن رجاء، وعن سلمة ابن كاسب، ولسلمة بن رجاء غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أفراد وغرائب، ويحدث عن قوم بأحاديث لا يتابع عليه. الكامل (3/331) .
وقال الدارقطني: ينفرد عن الثقات بأحاديث. تهذيب التهذيب (4/127) .
وفي التقريب: صدوق يغرب.
ـ الحسن بن فرات القزاز، جاء في ترجمته،
قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: الحسن بن فرات القزاز ثقة. الجرح والتعديل (3/32) .
ذكره ابن حبان في الثقات (6/165) .
وقال أبو حاتم منكر: الحديث نقله عنه ابنه في مقدمة الجرح والتعديل.
وفي التقريب: صدوق يهم.
وقد بين الدارقطني أن الوهم من الحسن بن الفرات، حيث انفرد بزيادة: إنهما لا يطهران، وقد رواه من هو أوثق منه عن أبيه، ولم يقل: إنهما لا يطهران.
فقد رواه الدراقطني كما في العلل (8/239) من طريق نصر بن حماد، ثنا شعبة، عن فرات، عن أبي حازم به، بلفظ: نهى أن يستنجى بعظم أو روث.
قال الدارقطني: وزاد الحسن بن فرات، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هريرة في آخره، وقال: إنهما لا يطهران.
ونصر بن حماد فيه ضعف.(2/298)
الدليل الثاني:
أن النجاسة تزال بأي مزيل، ولا يتعين الماء في إزالتها، فكيف زالت زال حكمها، فإذا استنجى الإنسان، وأزال عين النجاسة فقد طهر المحل، والدليل على أن الماء لا يتعين في إزالة النجاسة أحاديث كثيرة في تطهير ذيل المرأة بالتراب، وتطهير النعل بدلكه في التراب،
(316-160) فقد روى أحمد، قال: ثنا أبو كامل، ثنا زهير -يعنى ابن معاوية- ثنا عبد الله بن عيسى، عن موسى بن عبد الله، قال: وكان رجل صدق، عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت:
يا رسول الله إن لنا طريقاً إلى المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى. قال: فهذه بهذه (1) .
[إسناده صحيح] (2) .
(317-161) ومنها ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد، أنا حماد بن سلمة، عن أبي نعامة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله b صلى، فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت
_________
(1) المسند (6/435) .
(2) انظر تخريجه في مسألة الاستنجاء من المذي.(2/300)
فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعله فلينظر فيها فإن رأى بها خبثاً فليمسه بالأرض ثم ليصل فيهما (1) .
[الحديث إسناده صحيح] (2) .
(318-162) ومنها ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:
قالت عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم، قالت بريقها فقصعته بظفرها (3) .
فإذا كانت النعل تطهر بالتراب، وكان التراب لها طهوراً، وكان ذيل المرأة يطهره ما بعده من التراب الطيب، وكان الريق ربما طهر الثوب يصيبه شيء من دم الحيض، فكذلك مكان البول والغائط يطهره الأحجار ونحوها، والله أعلم.
_________
(1) المسند (3/20، 92) .
(2) انظر تخريجه في مسألة: الاستنجاء من المذي.
(3) صحيح البخاري (312) .(2/301)
فرع
ما تطاير من الماء وقت الاستنجاء
جاء في المعيار المعرب: وسئل أبو حفص عما تطاير في الثوب وقت الاستنجاء؟
فأجاب: إن كان أول شروعه فهو نجس، وإن كان مما بعده فهو طاهر.
قلت: ينبغي أن يفصل إن كان يسيراً جداً فهو من المعفو عنه؛ لأن المشقة قد تلحق به، وقد حكي الإجماع في العفو عن أثر الاستجمار مع بقاء قدر من النجاسة لا يزيلها إلا الماء، وإن كان كثيراً عرفاً كان التفصيل الذي ذكره جيداً (1) .
_________
(1) المعيار المعرب (1/14) ، وانظر النوازل الكبرى للوازاني (1/24) .(2/302)
الفصل السابع
القول في قطع الاستنجاء على وتر
استحب الفقهاء قطع الاستنجاء على وتر، على خلاف بينهم هل يتحقق الوتر بحجر واحد، أم يتحقق الوتر بعد المسحات الثلاث بحسب اختلافهم في وجوب الاستنجاء:
فمن يرى أن الاستنجاء سنة، كما هو المشهور من مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) ، أو يرى أن الاستنجاء واجب، ولكن لا يشترط ثلاثة أحجار، بل المقصود الإنقاء ولو بحجر واحد، فيرى أن تحقيق السنة في قطعه على وتر يتحقق ولو بحجر واحد إذا أنقى (3) .
_________
(1) انظر العزو إلى كتبهم في مسألة: حكم الاستنجاء.
(2) انظر العزو إلى كتبهم في مسألة: حكم الاستنجاء.
(3) انظر مذهب الحنفية في استحباب قطعه على وتر شرح معاني الآثار (1/121-123) .
وقال ابن عبد البر في التمهيد (11/17) : ويجوز عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار إذا ذهب النجس؛ لأن الوتر يقع على الواحد فما فوقه، والوتر عندهم مستحب وليس بواجب، وإذا كان الإستنجاء عندهم ليس بواجب، فالوتر فيه أحرى بأن لا يكون واجباً. اهـ
وقال الزرقاني في شرحه (1/72) : ذهب مالك وأبو حنيفة وداود ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط، لا شرط، ولا يخالفه حديث سلمان عند مسلم مرفوعاً: " لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار؛ لحمله على الكمال، وكذا أمره لابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، لا أنه شرط كما قال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث؛ لتصريحه في هذه الرواية - يعني: من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج- بأن الأمر ليس للوجوب، وبه حصل الجمع بين الأدلة، وحمله على الزائد على الثلاثة إن لم تنق تحكم. اهـ وانظر المنتقى للباجي (1/68) .(2/303)
وأما من يرى وجوب الثلاث مسحات أو ثلاثة أحجار، فيكون قطعه على وتر بعدها مستحباً، كما لو أنقى بأربعة أحجار، يستحب له حجر خامس، أو أنقى بستة أحجار يستحب له حجر سابع، أما لو أنقى بثلاث أو خمس، فلا يستحب له الزيادة، وهذا مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
وقيل: يجب الوتر في الاستنجاء بالحجارة مطلقاً، اختاره بعض الشافعية (3) ، وهو رأي ابن حزم (4) .
دليل استحباب قطع الاستنجاء على وتر.
(319-163) ما رواه البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج،
عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه، ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده. ورواه مسلم (5) .
_________
(1) شرح النووي على مسلم (3/126) ، شرح زبد ابن رسلان (1/52) ، أسنى المطالب (1/52) ، المنهج القويم (1/82) ، الإقناع للشربيني (1/54) ، المجموع (2/112) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/50) ، تحفة المحتاج (1/182) .
(2) كشاف القناع (1/70) ، المبدع (1/95) ، المغني (1/102) ،.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/126) ، طرح التثريب (2/55) .
(4) المحلى (1/108) مسألة: 122.
(5) صحيح البخاري (162) ، وصحيح مسلم (237) .(2/304)
الدليل الثاني:
(320-164) ما رواه مسلم، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، قال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير،
أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله b: إذا استجمر أحدكم فليوتر (1) .
الدليل الثالث:
(321-165) ما روه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قال: قال رسول الله b: من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر (2) .
الدليل الرابع:
(322-166) ما رواه ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن منصور، عن هلال بن يساف،
عن سلمة بن قيس، قال: قال رسول الله b: إذا توضأت فانتثر، وإذا استجمرت فأوتر (3)
[إسناده صحيح] (4) .
_________
(1) صحيح مسلم (239) .
(2) صحيح مسلم (237) .
(3) المصنف (1/32) رقم 273، ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه ابن ماجه (406) .
(4) رجاله ثقات، وقد أخرجه أحمد (4/339) والحميدي (856) والطبراني (7/38) رقم: 6313 عن سفيان بن عيينة.
وأخرجه أحمد أيضاً (4/339،340) والطبراني (7/37) رقم 6303، وابن حبان (1436) من طريق الثوري.
وأخرجه أحمد (4/340) والطبراني (7/37) رقم 6306من طريق معمر.
وأخرجه النسائي في الكبرى (44) من طريق حماد.
وأخرجه الترمذي (27) من طريق حماد بن زيد وجرير.
وأخرجه الطيالسي (1274) ، والطحاوي (1/121) والطبراني (7/37) رقم 6308 من طريق شعبة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (6309) من طريق زائدة.
وأخرجه أيضاً (6310) من طريق قيس بن الربيع.
وأخرجه أيضاً (6311) من طريق أبي عوانة، كلهم عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس به.(2/305)
الدليل الخامس:
(323-167) ما رواه أحمد، قال: حدثنا حسن ويحيى بن إسحاق، قالا: حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس،
عن أبي هريرة أن رسول الله b قال: إذا اكتحل أحدكم فليكتحل وتراً، وإذا استجمر فليستجمر وتراً (1) .
[إسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة] (2) .
_________
(1) المسند (2/351) .
(2) وقد أخرجه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (2/99) من طريق ابن وهب، أخبرني أبن لهيعة، أنا أبا يونس حدثه، فذكره دون موضع الشاهد: وهو الاستجمار.
وابن وهب وإن كانت روايته عن ابن لهيعة أعدل من غيرها إلا أن ابن لهيعة ضعيف في كل أمره على الصحيح، وقد حررت الأقوال فيه في مسألة تغيير الشيب بالسواد، فانظره غير مأمور.
ورواه أحمد (4/156) حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة، حدثنا الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عقبة بن عامر، قال: نهى رسول الله b عن الكي، وكان يكره شرب الحميم، وكان إذا اكتحل اكتحل وتراً، وإذا استجمر استجمر وتراً.
وأخرجه الطبراني في الكبير (17/338) رقم 932،933 من طريق سعيد بن أبي مريم، والقعنبي فرقهما، عن ابن لهيعة به.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/321) من طريق عمرو بن خالد، عن ابن لهيعة به، واقتصر على النهي عن الكي.
ورواه أحمد (4/156) حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، قال: أخبرني عبد الرحمن بن جبير، أنه سمع عقبة بن عامر، فذكره، فاستبدل ابن لهيعة الحارث بن يزيد بعبد الله بن هبيرة، وهذا من سوء حفظه رحمه الله.
وله طريق آخر إلى أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضاً، رواه أحمد (2/371) من طريق ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b: " من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج. وسبق تخريجه في مسألة حكم الاستنجاء فليراجع.(2/306)
الدليل السادس:
(324-168) ما رواه ابن خزيمة، قال: أخبرنا أبو غسان مالك بن سعد القيسي، نا روح -يعني: ابن عبادة- ثنا أبو عامر الخزاز، عن عطاء،
عن أبي هريرة، أن النبي b قال: إذا استجمر أحدكم فليوتر، فإن الله وتر يحب الوتر، أما ترى السموات سبعاً، والأرض سبعاً، والطواف سبعاً... وذكر أشياء (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (77) .
(2) في إسناده أبو عامر الخزاز، جاء في ترجمته:
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن صالح بن رستم، فقال: صالح الحديث. الجرح والتعديل (4/403) .
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين أنه قال: صالح بن رستم لا شيء. المرجع السابق.
وقال أبو حاتم الرازي: شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به، هو صالح، وهو أشبه من ابنه عامر. المرجع السابق.
وقال أبو داود الطيالسي: سمعت أبا عامر الخزاز صالح بن رستم، وكان ثقة. المرجع السابق.
ووثقه أبو داود السجستاني. تهذيب التهذيب (4/342) .
وقال العجلي: جائز الحديث. ثقات العجلي (1/463) .
وقال ابن حبان: من الحفاظ الذين كانوا يخطئون. مشاهير علماء الأمصار (1190) .
وذكره ابن حبان أيضاً في الثقات (6/457) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. (2/203) .
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (4/342) .
وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. المرجع السابق.
وفي التقريب: صدوق كثير الخطأ.
وقد رواه الطبراني في الأوسط (7/249) من طريق إبراهيم بن بسطام الزعفراني.
وأخرجه ابن حبان (1437) والبزار (239) من طريق محمد بن معمر.
وأخرجه الحاكم (561) ، ومن طريقه البيهقي (1/104) من طريق الحارث بن أبي أسامة، كلهم عن روح بن عبادة به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه الألفاظ، وإنما اتفقا على: " ومن استجمر فليوتر" فقط.
فتعقبه الذهبي بقوله: منكر، والحارث ليس بعمدة.
قلت: لم ينفرد به الحارث، بل رواه محمد بن معمر وأبو غسان وإبراهيم بن بسطام كلهم رووه عن روح بن عبادة، لكن لا يحتمل أبو عامر الخزاز، فإنه كما قال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، والله أعلم.(2/307)
الدليل السابع:
(325-169) ما رواه أبو يعلى، قال: حدثنا الأخنسي أحمد بن عمران، حدثنا محمد بن فضيل وسمعته يقول: حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص،
عن عبد الله، عن رسول الله b قال: إن الله وتر يحب الوتر، فإذا استجمرت فأوتر (1) .
[إسناده ضعيف جداً] (2) .
_________
(1) مسند أبي يعلى (5270) .
(2) في إسناده أحمد بن عمران، وقال بعضهم: محمد بن عمران الأخنسي.
قال البخاري: محمد بن عمران الأخنسي، كان ببغداد يتكلمون فيه، منكر الحديث عن أبي بكر بن عياش. التاريخ الكبير (1/202) .
وقال ابن حبان: حدثنا عنه أبو يعلى مستقيم الحديث. الثقات (8/13) .
وقال أبو زرعة: كتبت عنه ببغداد، وكان كوفياً، وتركوه. الجرح والتعديل (2/64)
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لم أكتب عنه، وقد أدركته. قلت: وما حاله؟ قال: شيخ. المرجع السابق.
وقال ابن عدي: محمد هذا لم يبلغني معرفته، وإنما أعرف أحمد بن عمران الأخنسي كوفي، وأحمد بن عمران ثقة. الكامل (6/277) .
وذكره العقيلي في الضعفاء. (1/126) .
وفي إسناده أيضاً: إبراهيم الهجري، جاء في ترجمته:
قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين (6) .
وكان ابن عيينة يضعفه. التاريخ الكبير (1/326) .
وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث. الطبقات الكبرى (6/341) .
وقرئ على العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين قال: إبراهيم الهجري ليس بشيء. الجرح والتعديل (2/131) .
وقال أبو حاتم الرازي: إبراهيم الهجري ليس بقوي لين الحديث. المرجع السابق.
وقال الحميدي: قال سفيان: كان الهجري رفاعاً، وكان يرفع عامة هذه الأحاديث، فلما حدث بحديث أن يعبد الأصنام، قلت: أما هذا فنعم، وقلت له: لا ترفع تلك الأحاديث. ضعفاء العقيلي (1/65) .
وقال سفيان بن عيينة أيضاً: أتيت إبراهيم الهجري، فدفع إلي عامة حديثه، فرحمت الشيخ، فأصلحت له كتابه، فقلت: هذا عن عبد الله، وهذا عن النبي b، وهذا عن عمر. الكامل (1/211) .
ومعنى هذا أن حديث الهجري من رواية سفيان صالحة، ولذلك كان ابن مهدي يحدث عن سفيان، عنه. ولا يحدث يحيى عن الهجري. انظر المرجع السابق.
وفي التقريب: لين الحديث، رفع موقوفات.
وقال أبو أحمد بن عدي: أحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/211) : فيه أحمد بن عمران الأخنسي متروك.(2/309)
دليل من قال: إن الإيتار واجب.
استدل بحديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: ومن استجمر فليوتر.
وبحديث جابر عند مسلم: إذا استجمر أحدكم فليوتر. وسبق تخريجهما في أدلة القول الأول.
وجه الاستدلال:
قالوا: قول الرسول b فليوتر أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ولا يوجد صارف يمنع من حمله على الوجوب.
والشافعية والحنابلة حملوا الأمر بالإيتار إن كان في الثلاث مسحات، فالأصل فيها الوجوب، وما زاد حملوه على الاستحباب، وأخذاو من مفهوم حديث سلمان في مسلم: ونهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار. مفهومه:(2/310)
الاكتفاء بثلاثة فما زاد، ومما زاد الأربعة والستة ونحوها.
دليل من قال: يحصل الإيتار ولو بحجر واحد.
(326-170) استدلوا بما رواه أحمد، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ثور بن يزيد، عن حصين الحبراني، عن أبي سعد،
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله b:" من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج عليه. ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أكل فما تخلل فليلفظ، ومن أكل بلسانه فليبتلع، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج (1) .
[إسناده ضعيف، يرويه مجهول، عن مجهول] (2) .
قالوا: فالمعتبر بالاستجمار: هو الإنقاء، دون العدد، فإن حصل بحجر واحد كفاه، وتحقق له سنة الإيتار.
ورد عليهم:
أولاً: أن هذا الحديث ضعيف، لا يرد الأحاديث الصحيحة كحديث سلمان، وحديث أبي هريرة، وحديث عائشة وغيرها.
_________
(1) المسند (2/371) .
(2) سبق تخريجه في حكم الاستنجاء.(2/311)
ثانياً: لو ثبت أن الحديث صحيح، فلا بد من الجمع بينه وبين الأحاديث التي تنهى عن الاستنجاء دون ثلاثة أحجار، فيحمل الإيتار بما زاد على الثلاثة.
ثالثاً: إذا كان المقصود هو الإنقاء كما تقولون، فإنه معلوم أن الإنقاء لا يحصل بحجر واحد غالباً، هذا من جهة.
ولو كفى الإنقاء لم يكن لإشتراط العدد معنى في حديث سلمان وحديث أبي هريرة وحديث عائشة وغيرها، فإنا نعلم أن الإنقاء قد يحصل بواحد، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن الماء يزيل العين والأثر، فدلالته قطعية، فلم يحتج إلى الاستظهار بالعدد، وأما الحجر فلا يزيل الأثر، وإنما يفيد الطهارة ظاهراً لا قطعاً، فاشترط فيه العدد.
(327-171) رابعاً: يرد عليهم بما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان،
عن جابر قال: قال رسول الله b: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (1) .
[إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، وقد رواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (2) .
وسوف يأتي مزيد بحث في الكلام على مسألة هل يشترط ثلاثة أحجار، أم يكفي حجر واحد؟
وإنما الكلام في مسألتنا هنا هل قطع الاستنجاء على وتر تتحقق السنة
_________
(1) المسند (3/400) .
(2) انظر تخريجه في خلاف العلماء في جواز الاستجمار.(2/312)
فيه بالحجر الواحد، أم تتحقق فيما زاد على الثلاث، والله أعلم.
كما أن الكلام في قطعه بالأحجار، أم الماء فالصحيح أنه لا يشرع فيه الإينار لعدم الدليل وقد تقدم الكلام عليه في الفصل الذي قبل هذا، والله الموفق.(2/313)
[صفحة فارغة](2/314)
الفصل الثامن
في صفة المسح بالأحجار
اختلف الفقهاء في صفة المسح بالأحجار:
فقيل: لا كيفية له، فكيف حصل الإنقاء أجزأ. رجحه السرخسي من الحنفية، ومال إليه ابن نجيم، وهو المنصوص عليه في السراج الوهاج والمجتبى (1) ، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .وهو الراجح.
وقيل: كيفية الاستنجاء أن يمسح بالحجر الأول من جهة المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف الى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف إذا كانت الخصية مدلاة، وإن كانت غير مدلاة يبتدىء من خلف الى قدام، والمرأة تبتدىء من قدام الى خلف خشية تلويث فرجها، وهو قول في مذهب الحنفية (3) .
وقيل: كيفيته في المقعد في الصيف للرجل إدبار الحجر الأول والثالث، وفي الشتاء العكس، اختاره بعض الحنفية (4) .
_________
(1) قال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 30) : قال السرخسي: لا كيفية له، والقصد الإنقاء كما في السراج، قال ابن أمير حاج: وهو الأوجه في الكل. اهـ ونقل في البحر الرائق (1/252) المجتبى ما نصه: أن المقصود الإنقاء، فيختار ما هو الأبلغ والأسلم عن زيادة التلويث. وانظر حاشية ابن عابدين (1/337) .
(2) الإنصاف (1/112) .
(3) نور الإيضاح (ص: 14،15) .
(4) حاشية ابن عابدين (1/337) ، ولعل التفريق بين الشتاء والصيف لتدلي الخصية، فيرجع إلى القول الثاني في مذهب الحنفية.(2/315)
وقيل: يعم بكل حجر موضع النجو، وهو مذهب المالكية (1) ، والحنابلة (2) .
وفي مذهب الشافعية ثلاثة أوجه:
فقيل: يمر حجراً من مقدم الصفحة اليمنى ويديره عليها، ثم على اليسرى حتى يصل الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الحجر الثاني من أول الصفحة اليسرى إلى آخرها، ثم على اليمنى حتى يصل موضع ابتدائه، ثم يمر بالثالث على المسربة، وهو الراجح في مذهب الشافعية (3) ، وذكره بعض الحنفية (4) ، واختاره القاضي من الحنابلة (5) .
الوجه الثاني: أن يمسح بحجر الصفحة اليمنى وحدها، ثم بحجر اليسرى وحدها، وبالثالث المسربة (6) ، واختاره بعض الحنابلة (7) .
والوجه الثالث: يضع حجراً على مقدم المسربة ويمره إلى آخرها، ثم حجراً على مؤخرة المسربة ويمره إلى أولها، ثم يحلق بالثالث، حكاه البغوي
_________
(1) المنتقى للباجي (1/68) ، الفواكه الدواني (1/133) ، حاشية العدوي (1/223) .
(2) قال في كشاف القناع (1/69) بثلاثة أحجار -يعني الاستجمار- تعم كل مسحة المسربة والصفحتين. أهـ
(3) قال النووي في المجموع (2/123،124) واتفق الأصحاب على أن الصحيح هو الوجه الأول؛ لأنه يعم المحل بكل حجر.
(4) الجوهرة النيرة (1/40) إلا أنه قال: ثم يمر الثالث على الصفحتين.
(5) الإنصاف (1/112) إلا أنه قال: ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين.
(6) وهو قول أبي إسحاق المروزي من الشافعية انظر المجموع (2/124) .
(7) قال في الإنصاف (1/112) : قال المصنف -يعني ابن قدامة-: ويحتمل أن يجزئه لكل جهة مسحة لظاهر الخبر.(2/316)
قال النووي: وهو غريب.
واختلف الشافعية في هذا الخلاف، هل هو على الوجوب أو الاستحباب على قولين (1) .
وقيل: يكفي لكل جهة مسحها ثلاثا بحجر، والوسط مسحه ثلاثاً بحجر، وهو قول في مذهب الحنابلة (2) .
دليل من قال: لا كيفية للاستنجاء.
الدليل الأول:
قال: إن استحباب كيفية معينة تحتاج إلى توقيف من كتاب أو سنة أو إجماع أو قول صاحب، ولم يصح دليل في المسألة.
الدليل الثاني:
قالوا: إن المطلوب في الاستنجاء هو الإنقاء وإزالة النجاسة فكيف زالت النجاسة حصل المقصود، فلا يتكلف صفة معينة.
دليل من قال: يمسح بالأول من المقدم إلى خلف، وبالثاني من خلف إلى قدام، وبالثالث من قدام الى خلف.
علل هذا الاستحباب بأنه إذا بدأ من جهة الخلف في أول مرة ربما لوث
_________
(1) الأول: قال النووي في المجموع (2/124) : الصحيح أنه خلاف في الأفضل وأن الجميع جائز. وبهذا قطع العراقيون والبغوي وآخرون من الخراسانيين، وحكاه الرافعي عن معظم الأصحاب.
الثاني: حكى الخراسانيون وجهاً أنه خلاف في الوجوب، فصاحب الوجه الأول لا يجيز الكيفية الثانية وصاحب الثاني لا يجيز الأولى، وهذا قول الشيخ أبي محمد الجويني والغزالي.
(2) الإنصاف (1/112) .(2/317)
الخصية بالنجاسة، فتنتشر النجاسة إلى غير موضعها المعتاد، ثم لا تكفي إزالتها بالأحجار في حقه، ولكن إذا بدأ من جهة المقدم أمن تلوث الخصية بالنجاسة، ولذلك قال: إذا كانت الخصية غير مدلاة بدأ من جهة الخلف.
وهذا التعليل لا يكفي في استحباب هذه الصفة في الاستنجاء، بل إن التعليل السابق أقوى، وأن المقصود من الاستجمار هو إزالة النجاسة، فكيف زالت حصل مقصود الشارع من مشروعية الاستجمار.
دليل من طلب تعميم المحل بكل حجر
قالوا: إن المطلوب أن يعم المحل بكل حجر حتى يصدق عليه أنه مسح المحل ثلاث مسحات، فإذا لم تعم كل مسحة المحل كله لم تكن مسحة، بل كانت بعضها.
دليل من فرق الأحجار بين الصفحتين والمسربة.
(328-172) ما رواه الدارقطني، قال: نا علي بن أحمد بن الهيثم العسكري، نا علي بن حرب، نا عتيق بن يعقوب الزبيري، نا أبي بن العباس بن سهل بن سعد، عن أبيه،
عن جده سهل بن سعد أن النبي b سئل عن الاستطابة؟ فقال: أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجراً للمسربة (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) سنن الدارقطني (1/56) .
(2) شيخ الدارقطني لم أقف عليه.
عتيق بن يعقوب الزبيري، جاء في ترجمته:
قال أبو زرعة: بلغني أن عتيق بن يعقوب الزبيري حفظ الموطأ في حياة مالك. الجرح والتعديل (7/46) .
وذكره ابن حبان في الثقات (8/527) .
ووثقه الدارقطني. لسان الميزان (4/129) .
ـ أبي بن العباس بن سهل، جاء في ترجمته:
قال البخاري: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (1/163) .
وقال أحمد: منكر الحديث. بحر الدم (49) .
وقال يحيي بن معين: ضعيف. تهذيب الكمال (2/260) .
قال النسائي: ليس بالقوي. الكامل (1/420) .
وقال ابن عدي: ولأبي غير ما ذكرت من الحديث يسير، وهو يكتب حديثه، وهو فرد في المتون والأسانيد. المرجع السابق.
وذكره ابن أبي حاتم، وسكت عليه. الجرح والتعديل (2/290) .
وقواه الدارقطني. انظر من تكلم فيه وهو موثق (12) .
وفي التقريب: فيه ضعف.
فالحديث ضعيف، ولا يحتمل تفرد أبي بن عباس بهذا الحديث، قال العقيلي: روى الاستنجاء بثلاثة أحجار عن النبي b جماعة منهم أبو هريرة وسلمان وخزيمة بن ثابت، وعائشة، والسائب بن خلاد الجهني وأبو أيوب، ولم يأت أحد منهم بهذا اللفظ، ولأبي أحاديث لا يتابع منها على شيء.
قلت: والعجيب أن الإمام الدارقطني: قال: إسناد حسن، ولعله لا يقصد الحسن الاصطلاحي عند المتأخرين، وإن كان نَفَسَ الدارقطني في سننه يختلف اختلافاً كثيراً عنه في علله، بل كم من حديث حكم بصحته في سننه، أعله في علله، فينظر سبب التفاوت الكبير بين الكتابين من النقاد.
[تخريج الحديث]
الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (1/420) ، والطبراني في الكبير (5697) ، والروياني في مسنده (1108) ، والبيهقي في سننه (2/114) ، والعقيلي في الضعفاء (1/16) من طريق عتيق بن يعقوب به.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/211) : رواه الطبراني في الكبير، وفيه عتيق بن يعقوب الزبيري، يقال: إنه حفظ الموطأ في حياة مالك. اهـ
وينبغي أن يقول فيه: فيه أبي بن عباس، وقد تكلموا فيه.(2/318)
والراجح أن الاستجمار لم يرد له في الشرع صفة معينة، بل المطلوب أمران:
الأول: الإنقاء، وهو إزالة عين النجاسة، على الصفة المطلوبة التي قدمناها في صفة الإنقاء.
الثاني: استعمال ثلاثة أحجار، بحيث لا يكتفي بحجر واحد، وكيف استعمل هذه الأحجار أجزأه، والكلام على استحباب صفة معينة يحتاج إلى توقيف، ولا توقيف في المسألة، والله أعلم.(2/320)
الفصل التاسع
لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس الذكر بها حال البول(2/321)
[صفحة فارغة](2/322)
الفصل التاسع
لا يباشر الاستنجاء بيده اليمنى ولا يمس ذكره بها
كره الفقهاء مس الفرج باليمين حال البول، واستنجاؤه واستجماره بها، وهو مذهب الأئمة (1) .
وقيل: يحرم الاستنجاء باليمين، رجحه ابن نجيم من الحنفية (2) ، واختاره ابن حزم (3) ، ورجحه الشوكاني (4) .
وقيل: يكره مس الذكر باليمين، ويحرم الاستنجاء بها (5) .
_________
(1) انظر في مذهب الحنفية: بدائع الصنائع (1/119) ، شرح فتح القدير (1/216) ، العناية شرح الهداية (1/216) ، الفتاوى الهندية (1/50) ، حاشية ابن عابدين (1/339) .
وفي مذهب المالكية: مواهب الجليل (1/290) ، القوانين الفقهية (ص:29) ، التاج والإكليل (1/388) ، الخرشي (1/141) ، حاشية الصاوي (1/95) .
وفي مذهب الشافعية: المجموع (2/125) ، روضة الطالبين (1/70) ، أسنى المطالب (1/53) ، المهذب (1/28) ، حلية العلماء (1/163) ، حواشي الشرواني (1/184) ، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/50) ، تحفة المحتاج (1/184،185) .
وفي مذهب الحنابلة: المغني (1/103) ، شرح العمدة (1/152) ، المحرر (1/10) ، الكافي (1/54) ، كشاف القناع (1/61) ، الفتاوى الكبرى (1/340) ، الفروع (1/120) .
(2) البحر الرائق (1/255) .
(3) المحلى (1/108) ، والعجبيب أن ابن حزم أباح للمرأة أن تمس فرجها باليمين حال البول، وحرم ذلك على الرجل، اتباعاً للظاهر، وجموداً عليه. انظر المحلى (1/318) .
وقد قال بالتحريم غير ابن حزم، قال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة (ص: 17) : "ولا يجوز لأحد أن يستنجي بيمينه".اهـ
(4) نيل الأوطار (1/106) .
(5) الفروع (1/93) ، ونسبه ابن حجر في الفتح (ح 153) لبعض الحنابلة، وذهب إليه بعض الشافعية، قال في المهذب (2/125) : " ولا يجوز أن يستنجي بيمينه". ونسبه النووي إلى سليم الرازي في الكفاية والمتولي، والشيخ نصر وأبي حامد. راجع المجموع (2/125) .(2/323)
دليل من قال: يحرم الاستنجاء باليمين
قال: ورد النهي عن الاستنجاء باليمين في أحاديث كثيرة، والأصل في النهي التحريم. ومن تلك الأحاديث مايلي:
الدليل الأول:
(329-173) ما رواه البخاري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه، عن النبي b قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه مسلم (1) .
الدليل الثاني:
(330-174) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح
وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (2) .
_________
(1) صحيح البخاري (154) ، مسلم (267) .
(2) مسلم (262) .(2/324)
الدليل الثالث:
(331-175) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله b: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (1) .
[إسناده حسن] (2) .
الدليل الرابع:
(332-176) روى أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن الأسود،
عن عائشة أنها قالت: كانت يد رسول الله b اليمنى لطهوره ولطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى.
قال أحمد: وحدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن رجل عن أبي معشر عن إبراهيم عن عائشة نحوه
[الحديث الراجح فيه أن إسناده منقطع] (3) .
فهذه الأحاديث فيها النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين، وأخذ بظاهرها ابن حزم فقال بتحريم الاستنجاء باليمين.
_________
(1) المسند (2/250) .
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر تخريجه في رقم (311) من سنن الفطرة من أحكام الطهارة.(2/325)
دليل من قال: يكره الاستنجاء باليمين.
حملوا النهي في الأحاديث السابقة على الكراهة، والقرينة الصارفة عندهم أن ذلك أدب من الآداب، فلا يصل النهي فيها للتحريم، فيحتمل أن تكون الحكمة من النهي كون اليد اليمنى معدة للأكل بها، فلو استنجى بها لأمكن أن يتذكر ذلك عند الأكل فيتأذى بذلك، والله أعلم.
دليل من حرم مس الذكر باليمين وكره الاستنجاء بها.
قالوا: ثبت النهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين كما في حديث أبي قتادة المتقدم، لكن قالوا: إن الاستنجاء باليمين أقبح من مس الذكر حال البول؛ لأن في الأولى مباشرة إزالة النجاسة من طريق اليد اليمنى، وفي الثاني مسه فقط دون الاستنجاء، والذكر في نفسه طاهر، وليس بنجس، لهذا حملنا النهي على الأصل في إزالة النجاسة باليمين، وأنه للتحريم، وحملنا النهي على الكراهة في مس الذكر، لأنه بضعة من الإنسان، والله أعلم.
القول بالتحريم قول قوي؛ لأن الصارف ليس واضحاً؛ نعم يتساهل الفقهاء بالصارف لو وجد، ويصرفون اللفظ من الوجوب للندب، ومن التحريم للكراهة لأدنى صارف، لكن لم يظهر لي حكمة كونه أدباً من الآداب أن نحمله على الكراهة، ولا يخفى أن هذا الصارف ليس نصاً منصوصاً عليه، إنما هو شيء انقدح في النفس، وهي علة مستنبطة، فلا بد من حمله على الكراهة من قرينة جلية تكون سبباً في نقله من أصله الذي هو التحريم إلى الكراهة، والله أعلم.(2/326)
المبحث الأول
هل يكره مس الذكر باليمين مطلقاً أو حال البول فقط
فقيل: يكره مس الذكر باليمين مطلقاً حال البول وغيره (1) .
وقيل: يكره حال البول فقط، وهو الظاهر (2) .
دليل من قال: يكره حال البول.
استدلوا بأدلة منها:
الدليل الأول:
(333-177) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه قال: قال رسول الله b: لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه، وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء، ورواه البخاري بنحوه (3) .
وفي رواية للبخاري: إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه. وتقدم تخريجها.
فقوله: وهو يبول: أي حالة كونه يبول، فلا يتعدى النهي إلى غيرها؛
_________
(1) وهو ظاهر عبارة أحمد، قال في الفروع (1/124) : " أكره أن يمس فرجه بيمينه، فظاهره مطلقاً، وذكر صاحب المحرر، وهو ظاهر كلام الشيخ، وحمله أبو البركات ابن منجا على وقت الحاجة، لسياقه فيها، وترجم الخلال رواية صالح كذلك". اهـ
(2) فتح الباري (ح 154) .
(3) صحيح البخاري (154) ، مسلم (267) .(2/327)
لأن الأصل الحل، فلا يكره شيء، ولا يحرم إلا بيقين.
الدليل الثاني:
(334-178) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق،
عن أبيه قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسول الله b، فبايعناه وصلينا معه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الذكر في الصلاة؟ فقال: وهل هو إلا بضعة أو مضغة منك (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
_________
(1) المصنف (1/152) .
(2) في إسناده قيس بن طلق، جاء في ترجمته:
قال أحمد: غيره أثبت منه. وهذه العبارة من عبارات الجرح، بخلاف ما إذا قال: فلان أثبت منه، وذكر اسمه، فيحتمل أن يكون كل واحد منهما ثبتاً، وأحدهما أثبت من الآخر.
وقال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره.
وقال الدارقطني: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث محمد بن جابر، فقالا: قيس بن طلق ليس ممن تقوم حجة، ووهناه، ولم يثبتاه.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. تهذيب التهذيب (8/356) .
واختلف قول ابن معين فيه، فقد ضعفه في رواية كما نقل ذلك سبط ابن العجمي في حاشتيه على الكاشف، وذكر ذلك الحافظ الذهبي في الميزان.
وأما ما أخرجه الحاكم (1/139) ومن طريقه البيهقي (1/135) عن عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، ثنا رجاء بن مرجي الحافظ، قال: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحي بن معين، فتناظروا في مس الذكر، فذكر قصة، وفيها: ثم قال يحيى: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يحتج بحديثه... الخ المناظرة.
ففي إسناده عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي، قال عنه في الميزان (2/524) : لقيه أحمد بن عدي، واتهمه في الكذب في روايته عن علي بن حجر ونحوه. وضعفها ابن التركماني في الجوهر النقي (1/135) . والمعتمد في تضعيف يحيى بن معين ما ذكره الذهبي وسبط ابن العجمي، لا هذه الرواية.
ووثقه يحيى بن معين في رواية، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، قلت: عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق؟ قال شيوخ يمامية ثقات. الجرح والتعديل (7/100) .
وذكره ابن حبان في الثقات (5/313) .
وقال العجلي: يمامي تابعي ثقة. معرفة الثقات (2/220) .
ولا شك أن الإمام أحمد وأبا حاتم وأبا زرعة والدارقطني والشافعي أولى من ابن حبان والعجلي.
وأما يحيى بن معين فليس قبول توثيقه بأولى من قبول تضعيفه، فيتقابلان ويتساقطان.
وأما ابن حجر، فقال في التقريب: صدوق، ومعلوم أن الحافظ رحمه الله وإن كان قد أعطي اعتدالاً وسبراً للرجال، إلا أن عمدته كلام المتقدمين، وقد علمت أقوالهم فيه، ولا أعلم أحداً تابع قيس بن طلق في حديثه عن أبيه، والمتقدمون يعلون الحديث بالتفرد، ولو كان من ثقة، فكيف إذا كان متكلماً فيه من الإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والدراقطني والشافعي، فلا شك في تضعيف حديثه، والله أعلم.
[تخريج الحديث] .
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة كما في حديث الباب، وأخرجه أبو داود (182) ، والترمذي (85) ، والنسائي في الكبرى (162) ، والمجتبى (165) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1675) ، وابن الجارود في المنتقى (21) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/75،76) ، وابن حبان (1119،1120) ، والطبراني في الكبير (8243) ، والدارقطني (1/149) ، والبيهقي في السنن (1/134) من طريق عبد الله بن بدر به.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (426) ، وأحمد (4/23) ، وابن ماجه (483) ، وابن الجارود في المنتقى (20) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/75) ، والدارقطني (1/149) ، وأبو نعيم في الحلية (7/103) من طريق محمد بن جابر، عن قيس بن طلق به.
ومحمد بن جابر متكلم فيه، قد تغير بآخرة، قال الحافظ: صدوق، ذهبت كتبه، فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمي، فصار يلقن.
وأخرجه الطيالسي (1096) ، وأحمد (4/22) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/75،76) ، والحازمي في الاعتبار (ص: 82) من طريق أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق به.
وأيو بن عتبة، وإن كان متكلماً فيه إلا أن سليمابن داود بن شعبة اليمامي، قال: وقع أيوب بن عتبة إلى البصرة، وليس معه كتب، فحدث من حفظه، وكان لا يحفظ، فأما حديث اليمامة ما حدث به، فهو مستقيم.
وقد ضعفه كل من يحيىبن معين وعلي بن المديني، وعمرو بن علي، ومسلم بن الحجاج، والبخاري، والنسائي، وابن حجر وغيرهم.
وله شاهد من حديث أبي أمامة إلا أن ضعفه شديد، فلا يصلح في الشواهد، أخرجه ابن ماجه (484 (من طريق جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: سئل رسول الله b عن مس الذكر، فقال: إنما هو جزء منك. اهـ وجعفر بن الزبير متروك الحديث.
وله شاهد ثان، وهو ضعيف جداً أيضاً، أخرجه الدراقطني (1/149) من طريق الفضل بن المختار، عن الصلت بن دينار، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب وعن عبيد الله بن موهب، عن عصمة بن مالك الخطمي، وكان من أصحاب النبي b أن رجلاً قال: يا رسول الله احتككت في الصلاة، فأصابت يدي فرجي، وذكر الحديث.
وفي الإسناد الفضل بن المختار، قال أبو حاتم: هو مجهول، وأحاديثه منكرة، يحدث بالأباطيل. وذكر له في لسان الميزان حديثاً، وقال: هذا يشبه أن يكون موضوعاً.(2/328)
وجه الاستدلال:
قوله: إنما هو بعضة منك: دل على جواز مسه بكل حال، خرجت حالة البول بحديث أبي قتادة المتفق عليه، وبقي ما عداها على الإباحة.
دليل من قال يكره مس الذكر مطلقاً.
قالوا: إذا نهي عن مس الذكر حال البول، مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، فيكون النهي في غيرها مع عدم الحاجة من باب أولى.(2/330)
والراجح القول بجواز مس الذكر في غير حالة البول، ولا يمكن القياس على النهي عن مسه حال البول؛ لأن الشارع حريص على عدم ملابسة النجاسة، أما إذا انقطع البول فلا فرق بين الذكر وغيره من الأعضاء، ولا يقاس الأخف على الأغلظ، ولو كان مسه منهياً عنه مطلقاً لجاءت النصوص الواضحة التي تنهى عن مسه مطلقاً، والإنسان قد لا ينفك عن الحاجة إلى مسه، فالقول بالمنع مع عدم قيام الدليل المانع فيه حرج وكلفة بلا دليل واضح، والله أعلم.(2/331)
[صفحة فارغة](2/332)
المبحث الثاني
إذا استنجى بيمينه هل يجزئه ذلك؟
أما القائلون بالكراهة، فظاهر أنه يجزئ بلا إثم.
وأما القائلون بالتحريم، فقد اختلفوا:
فقيل: يجزئ مع الإثم (1) .
وقيل: لا يجزئ، وهو اختيار ابن حزم (2) .
دليل من قال: لا يجزئ.
قال: إذا صححنا الفعل المحرم نكون بذلك قد رتبنا على الفعل المحرم أثراً صحيحاً، وهذا فيه مضادة لله ولرسوله b، ولأن تصحيح الفعل المحرم فيه تشجيع على فعله، بخلاف ما إذا جعل لغواً، فهذا يحمله على تركه.
(335-179) وقد روى مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعاً، عن أبي عامر، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن، فأوصى بثلث كل مسكن منها، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله b قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد (3) .
وروى البخاري القدر المرفوع منه معلقاً (4) .
_________
(1) الفروع (1/93) .
(2) المحلى (1/108) .
(3) صحيح مسلم (1718) .
(4) باب (34) البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع.(2/333)
وجه الاستدلال:
قال ابن القيم: وقوله: " فهو رد " الرد: فَعْل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده، وعدم اعتباره في حكم المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً، إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً (1) .
دليل من قال يجزئ مع الإثم.
قالوا: إن التحريم والصحة غير متلازمين، فتلقي الجلب منهي عنه، وإذا تُلُقِيَ كان البيع صحيحاً، وللبائع الخيار إذا أتى السوق، فثبوت الخيار فرع عن صحة البيع، ومثله الصلاة في الأرض المغصوبة، والصلاة في الثوب المسروق الصحيح صحة الصلاة مع الإثم، والله أعلم.
ومن النظر: قالوا: لا يمكن أن نحكم بنجاسة المحل، مع زوال النجاسة، فالحكم مرتبط بعلته، فإذا ذهبت النجاسة طهر المحل.
ولأن القاعدة الشرعية: أن العبادة الواقعة على وجه محرم:
إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة، كصوم يوم العيد، لم تصح العبادة.
وإن كان التحريم عائداً إلى شرطها على وجه يختص بها كالصلاة بالثوب النجس على القول بأن الطهارة من النجاسة شرط، لم تصح إلا لعاجز
_________
(1) تهذيب السنن (3/99) .(2/334)
أو عادم.
وإن كان التحريم عائداً إلى شرط العبادة، ولكن لا يختص بها، ففيها روايتان:
فقيل: يصح، وهو الأرجح.
وقيل: لا يصح، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.
وإن كان التحريم عائداً على أمر خارج لا يتعلق بشرطها، كالوضوء من الإناء المحرم، فالراجح صحة العبادة، وعليه الأكثر (1) .
وهنا المنع ليس عائداً على شرط العبادة التي هي الطهارة، وإنما عائد على أمر خارج، وهو الاستنجاء باليمين، فيصح الاستنجاء مع الإثم، والله أعلم.
_________
(1) انظر بتصرف القاعدة التاسعة من قواعد ابن رجب الفقهية (ص: 12) ، وفي مسألة اعتبار الطهارة من النجاسة شرطاً لصحة الصلاة خلاف بين أهل العلم، وإن كنت أميل إلى مذهب المالكية، وأنها الطهارة منها واجبة، وليست شرطاً، وهذا مذهب الشوكاني رحمه الله تعالى.(2/335)
[صفحة فارغة](2/336)
المبحث الثالث
إشكال وجوابه
نهي عن الاستنجاء باليمين، وعن مس الذكر بها، فإن استنجى باليد اليسرى، لزم منه مس الذكر باليمين، وهو منهي عنه، وإن استنجى باليمين وقع في النهي، فما المخرج من ذلك؟
قال النووي: الصحيح الذي قاله الجمهور أنه يأخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، ويحرك اليسار دون اليمين، فإن حرك اليمين، أو حركهما كان مستنجياً باليمين، مرتكباً لكراهة التنزيه (1) . اهـ
وقال الخطابي في معالم السنن: الصواب في مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن مكانه بأدنى حركة تصيبه، أو بالجدار، أو بالموضع الناتئ من وجه الأرض، أو بنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى الاستنجاء بالحجارةوالنبل ونحوها، فالوجه أن يتأتى بأن يلصق مقعدته إلى الأرض، ويمسك الممسوح بين عقبيه، ويتناول عضوه بشماله، فيمسحه به، وينزه عنه يمينه (2) .اهـ
وتعقبه ابن حجر، فقال: وأثار الخطابي هنا بحثاً، وبالغ في التبجح به، وقال عن رأي الخطابي: بأنه هذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب
_________
(1) ونسب ابن حجر في الفتح (ح153) هذا القول إلى إمام الحرمين، ومن بعده كالغزالي في الوسيط، والبغوي في التهذيب. قال ابن حجر: ومن ادعى في هذه الحالة أنه يكون مستجمراً بيمينه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حال الاستنجاء. اهـ
(2) معالم السنن (1/21) .(2/337)
الأوقات (1) .
وذكر النووي قولاً ثالثاً، ونسبه لبعض أصحابهم: بأنه يأخذ الذكر بيمينه، والحجر بيساره، ويحرك اليسار، لئلا يستنجي باليمين. حكاه صاحب الحاوي وغيره.
قال النووي: وهذا غلط؛ فإنه منهي عن مس الذكر باليمين.
_________
(1) فتح الباري (ح 153) .(2/338)
المبحث الرابع
حكم مس الدبر
المس وإن كان منصوصاً على الذكر، لكن يلحق به الدبر قياساً، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له.
وقال ابن حزم: بأن النهي عن الاستنجاء باليمين خاص بالدبر، ويرى أن مسح البول باليمين جائز.
وتعليل ابن حزم: بأنه لم ينه عنه، وإنما نهي عن الاستنجاء باليمين، ومسح البول لا يسمى استنجاء.
وهذا القول ضعيف جداً؛ لأنه إذا نهي عن مس الذكر، وهو يبول، فنهيه عن مباشرة البول من باب أولى، ثم هل يسلم له بأن مسح البول لا تسمى استنجاء؟
فإذا نظرنا إلى أصل النجو في اللغة وجدنا أن من معانيه القطع، من قولهم: نجوت الشجرة: إذا قطعتها. وفي الاستنجاء من البول ونحوه قطع له، والمسح الذي لم يره ابن حزم استنجاء هو بحد ذاته قطع وإزالة للنجاسة، فاتضح أن مسح البول يمكن أن يسمى استنجاء، والله أعلم.(2/339)
[صفحة فارغة](2/340)
المبحث الخامس
حكم مس فرج المرأة
التنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبين، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خصه الدليل.
وقال ابن حزم: ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز (1) .
ودليل ابن حزم.
أخذ ابن حزم رحمه الله بالظاهر، وأن المنهي عنه هو مس الذكر، لا مس فرج المرأة، وكل ما لا نص في تحريمه، فهو مباح بقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} (2) .
وبحديث: " دعوني ما تركتكم ".
ولكن يقال: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (3) .
_________
(1) المحلى (1/318) .
(2) الأنعام: 119.
(3) النساء: 83.(2/341)
[صفحة فارغة](2/342)
الفصل العاشر
الشك بعد الفراغ من الاستنجاء
لو شك بعد الاستنجاء هل غسل ذكره أم لا، وهل مسح ثنتين أم ثلاثاً لم تلزمه إعادته كما لو شك بعد الوضوء (1) .
وقد نص الفقهاء على أن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر فيها (2) .
_________
(1) فتح المعين (1/107) ، وانظر إعانة الطالبين (1/112) .
(2) قال ابن قدامة في المغني (3/187) : وإن شك بعد الفراغ منه - أي من الطواف- لم يلزمه شيء. اهـ
وقال أيضاً (1/80) : وإن شك في النية في أثناء الطهارة لزمه استئنافها؛ لأنها عبادة شك في شرطها وهو فيها، فلم تصح كالصلاة، إلا أن النية إنما هي القصد، ولا يعتبر مقارنتها، فمهما علم أنه جاء ليتوضأ وأراد فعل الوضوء مقارنا له أو سابقا عليه قريبا منه فقد وجدت النية، وإن شك في وجود ذلك في أثناء الطهارة لم يصح ما فعله منها، وهكذا إن شك في غسل عضو أو مسح رأسه، كان حكمه حكم من لم يأت به؛ لأن الأصل عدمه، إلا أن يكون ذلك وهما كالوسواس، فلا يلتفت إليه. وإن شك في شيء من ذلك بعد فراغه من الطهارة لم يلتفت إلى شكه؛ لأنه شك في العبادة بعد فراغه منها، أشبه الشك في شرط الصلاة. الخ كلامه رحمه الله.
وقال الدسوقي في حاشتيه (1/124) : إذا شك بعد الفراغ من الصلاة فلا شيء عليه إلا إذا تبين له الحدث. اهـ
وقال في المنثور (2/257) : الشك بعد الفراغ من العبادة قال ابن القطان فى المطارحات: فرق الإمام الشافعى بين الشك فى الفعل، وبين الشك بعد الفعل، فلم يوجب إعادة الثاني؛ لأنه يؤدى إلى المشقة، فإن المصلى لو كلف أن يكون ذاكراً لما صلى لتعذر عليه ذلك، ولم يطقه أحد فسومح فيه. اهـ(2/343)
[صفحة فارغة](2/344)
الفصل الحادي عشر
نضح الماء على الفرج والسراويل
إذا فرغ من الاستنجاء بالماء استحب له أن ينضح فرجه أو سراويله بشيء من الماء، إن كان الشيطان يريبه كثيراً، وهو مذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) .
وقيل: يستحب مطلقاً، وهو مذهب الشافعية (3) ، والحنابلة (4) ، قطعاً للوسواس.
_________
(1) قال في البحر الرائق (1/253) : ولو عرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إليه، بل ينضح... فرجه بماء أو سراويله حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه. اهـ وانظر بدائع الصنائع (1/33) ، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (ص: 29) ، وفي الفتاوى الهندية (1/49) : ولو عرض له الشيطان كثيراً لا يلتفت إلى ذلك كما في الصلاة، وينضح فرجه بماء حتى لو رأى بللا حمله على بلة الماء. هكذا في الظهيرية. اهـ
(2) قال في التاج والإكليل (1/282) : وسئل ابن رشد عن الرجل يخرج من بيت الماء، وقد استنجى بالماء، ثم توضأ فيكون في الصلاة أو سائراً إليها، فيجد نقطة هابطة، فيفتش عليها، فتارة يجدها وتارة لا يجدها. فأجاب: لا شيء عليه إذا استنكحه ذلك ودين الله يسر. وسئل ربيعة عن الرجل يمسح ذكره من البول ثم يتوضأ فيجد البلل فقال: لا بأس به قد بلغ محنته، وأدى فريضته. وسئل سليمان بن يسار عن البلل يجده قال: انضح ما تحت ثوبك بالماء واله عنه، قال القاسم بن محمد: إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء. اهـ
(3) قال في المجموع (2/130) : يستحب أن يأخذ حفنة من ماء، فينضح بها فرجه، وداخل سراويله أو إزاره بعد الاستنجاء دفعا للوسواس، ذكره الروياني وغيره. وجاء به الحديث الصحيح في خصال الفطرة وهو الانتضاح، والله أعلم. وانظر طرح التثريب (2/85،86) ، أسنى المطالب (1/53) .
(4) الفروع (1/122) ، الإنصاف (1/109) ، المغني (1/103) .(2/345)
وقيل: لا ينتضح في الاستنجاء كما لا ينتضح في الاستجمار، وهو رواية عن أحمد (1) .
دليل من قال: ينضح فرجه.
الدليل الأول:
(336-180) ما رواه أحمد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن أبي الحكم أو الحكم بن سفيان الثقفي قال: رأيت رسول الله b بال، ثم توضأ، ونضح فرجه. قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، قال: قال شريك: سألت أهل الحكم بن سفيان فذكروا أنه لم يدرك النبي b (2) .
[اختلف في إسناده، وهل هو متصل أم منقطع] (3) .
_________
(1) الفروع (1/122) ، الإنصاف (1/109) .
(2) المسند (3/410) .
(3) اختلف في إسناده على هذا الوجه.
فقيل: عن منصور، عن الحكم بن سفيان أو أبي الحكم بن سفيان، عن النبي b.
أخرجه أحمد كما في حديث الباب، والطبراني في الكبير (3184) من طريق جرير.
وأخرجه الطبراني في الكبير (3/216) رقم 3177، من طريق شعبة
وأخرجه الطبراني أيضاً (3179) من طريق أبي عوانة كلاهما عن منصور به.
واختلف على شعبة، فقيل: هذا، وقيل: عن الحكم أو أبي الحكم عن أبيه عن رسول الله b زيادة أبيه، وسيأتي تخريجها.
وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، أو سفيان بن الحكم، عن النبي b.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (586،587) ومن طريقه عبد بن حميد كما في المنتخب (486) والطبراني في الكبير (3174) عن معمر
وأخرجه أحمد (4/179،212) والطبراني (6392) والحاكم (608) من طريق الثوري.
وأخرجه الطبراني أيضاً (3181) من طريق مفضل بن مهلهل،
وأخرجه ابن قانع في معجم الصحابة (1/206) من طريق زائدة أربعتهم عن منصور عن مجاهد به.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/155) ومن طريقه ابن ماجه (461) ، والطبراني في الكبير (3180) ، و (3182) من طريق زكريا بن أبي زائدة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (3175) وابن قانع في معجم الصحابة (1/206) من طريق سلام بن أبي مطيع.
وأخرجه أيضاً (3183) من طريق قيس بن الربيع. ثلاثتهم عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن النبي b ولم يشك.
وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم، أو أبي الحكم، عن أبيه عن النبي b. فزاد كلمة عن أبيه.
رواه أبو داود الطيالسي (1268) ومن طريقه البيهقي (1/161)
وأخرجه البيهقي في السنن (1/161) من طريق حفص بن عمر كلاهما عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد به.
وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن أبيه عن النبي b.
وأخرجه النسائي في الكبرى (135) ، وفي المجتبى (134) من طريق شعبة.
والطبراني في الكبير (3178) من طريق وهيب، كلاهما عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، عن أبيه به.
وقيل: عن منصور، عن مجاهد، عن الحكم أو ابن الحكم، عن أبيه.
أخرجه أبو داود (167) من طريق زائدة، عن منصور، عن مجاهد به.
وقيل: عن مجاهد، عن رجل من ثقيف، عن أبيه.
أخرجه الحاكم (609) ومن طريقه البيهقي (1/161) من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به.
وعندي أن هذا الاختلاف يرجع إلى اختلافين:
هل هو عن الحكم بن سفيان، عن النبي b.
أو عن الحكم بن سفيان، عن أبيه.
وعلى تقدير أن يكون عن الحكم، عن النبي b هل سمع الحكم بن سفيان من النبي b فيكون متصلاً، أو لم يسمع فيكون منقطعاً.
وأما بقية الاختلافات هل هو الحكم بن سفيان أو سفيان بن الحكم، أو أبي الحكم فإنما اختلاف في اسمه، وهو لا يؤثر إذا كانت عينة معروفة.
واختلف في الراجح من هذين الاختلافين: فقد ذكر هذه الطرق ابن أبي حاتم في العلل (1/46) وصحح أبو زرعة: أنه عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان، وله صحبة.
ورجح أبو حاتم أنه عن الحكم بن سفيان عن أبيه. اهـ
وقال الترمذي على إثر حديث رقم (50) : وفي الباب عن أبي الحكم بن سفيان، وقال بعضهم: سفيان بن الحكم أو الحكم بن سفيان، واضطربوا في هذا الحديث. اهـ كلام الترمذي
وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 166) : الحكم بن سفيان، وقيل: ابن أبي سفيان، وقيل: سفيان بن الحكم، ويقال أيضا: أبو الحكم، وقيل: غير ذلك الثقفي له في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة أن النبي b بال ثم توضأ ونضح فرجه، وفي بعضها يقول: رأيت النبي b وفي رواية: عن الحكم بن سفيان، عن أبيه، وفيه اختلاف كثير. قال شريك النخعي: سألت أهل الحكم بن سفيان فذكروا أنه لم يدرك النبي b، وأما بن عبد البر فصحح صحبته وسماعه، والله أعلم. اهـ
وقال البخاري في التاريخ الكبير (2/329) : وقال بعض ولد الحكم بن سفيان لم يدرك الحكم النبي b. اهـ
ولاشك أن أهل الرجل أعلم به، خاصة أن مثلهم حريص على مثل هذا الشرف العظيم، فكونهم ينفون سماع سفيان بن الحكم من النبي b دليل على عدم سماعه، ولو سمع لكان أهله أعلم به من الناس، والله أعلم.(2/346)
وعلى تقدير صحته فليس فيه دليل؛ لأنه يحتمل أن يكون النضح هنا بمعنى الغسل، فيكون إشارة إلى الاستنجاء، كما قال في المذي: توضأ وانضح فرجك كما هو في مسلم سواء بسواء.(2/348)
الدليل الثاني:
(337-181) رواه أحمد، قال: ثنا عفان، ثنا: حماد، ثنا علي بن زيد، عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر،
عن عمار بن ياسر، أن رسول الله b قال: إن من الفطرة - أو الفطرة - المضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وتقليم الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط والاستحداد والاختتان والانتضاح.
[ضعيف] (1) .
الدليل الثالث:
(338-182) ما رواه الترمذي، قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي وأحمد بن أبي عبيد الله السليمي البصري، قالا: حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة، عن الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج،
عن أبي هريرة أن النبي b قال: جاءني جبريل، فقال: يا محمد إذا توضأت فانتضح (2) .
[إسناده ضعيف] (3) .
_________
(1) المسند (4/264) وسيأتي تخريجه في كتاب السواك.
(2) سنن الترمذي (50) وقال بعده الترمذي: هذا حديث غريب، قال وسمعت محمدا يقول الحسن بن علي الهاشمي منكر الحديث.
(3) ورواه ابن ماجه (463) وابن عدي في الكامل (2/321) والعقيلي في الضعفاء (1/234) والمجروحين لابن حبان (1/235) وابن الجوزي في العلل المتناهية (586) من طريق سلم بن قتيبة به.
وفي إسناده الحسن بن علي الهاشمي، جاء في ترجمته:
قال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، منكر الحديث، ضعيف الحديث، روى ثلاثة أحاديث أربعة أحاديث أو نحو ذلك مناكير. الجرح والتعديل (3/20) .
وقال البخاري: منكر الحديث. التاريخ الكبير (2/298) .
وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير، فلا يحتج به إلا بما يوافق الثقات. المجروحين (1/234) .
وقال ابن عدي: حديثه قليل، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. الكامل (2/321) .(2/349)
الدليل الرابع:
(339-183) ما رواه أحمد، قال: حدثنا هيثم -قال عبد الله: وسمعته أنا من الهيثم بن خارجة- حدثنا رشدين بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
عن أسامة بن زيد عن النبي b أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي b فعلمه الوضوء، فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء فرش بها نحو الفرج، قال فكان النبي b يرش بعد وضوئه.
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) في إسناده رشدين بن سعد، وستأتي ترجمته وافية في باب تغيير الشيب بالسواد من كتاب سنن الفطرة، فانظره غير مأمور.
وأخرجه الدارقطني (1/111) من طريق رشدين بن سعد، عن عقيل وقرة، عن ابن شهاب به.
وأخرجه الدراقطني (1/11) ، والبيهقي (1/161) من طريق ابن لهيعة، أخبرني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد بن حارثة، عن أبيه. فجعله من مسند زيد بن حارثة.
وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.
ورواه الطبراني في الأوسط (4/174) من طريق سعيد بن شرحبيل، قال: نا الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب به.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الليث إلا سعيد بن شرحبيل، والمشهور من حديث ابن لهيعة.(2/350)
الدليل الخامس:
(340-184) ما رواه أبو داود، قال: أخبرنا قبيصة، أنبأ سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن ابن عباس أن النبي b توضأ مرة مرة، ونضح فرجه.
[إسناده ضعيف] (1) .
_________
(1) انفرد قبيصة عن سفيان بزيادة: ونضح على فرجه، ولم يذكرها أحد غيره، فذكر النضح غير محفوظ بهذا الحديث، خاصة وأن رواية قبيصة عن سفيان متكلم فيها، وهذا الحديث قد اتفق رواته على أن الوضوء فيه مرة مرة، سواء ذكروه بهذا اللفظ المختصر، أو ذكروه على سبيل التفصيل بأن ذكروا غسل الوجه مرة وغسل اليدين مرة وغسل الرجلين مرة وهكذا، وكلا الروايتين في البخاري، والذي ساقه مختصراً لم يتعرض لذكر أعضاء الوضوء بما فيها الرجلان، والذين ذكروه مفصلاً اختلفوا في الرجلين، فبعضهم يذكر غسل الرجلين فقط، وبعضهم يذكر رش الرجلين، وبعضهم يذكر مسح القدمين وفيها النعلان، وقد خرجت هذه الروايات بشيء من التفصيل، وبيان الراجح منها في كتاب المسح على الحائل انظر (ح 37) فمن أراد أن ينظر إلى الكلام على ألفاظه فلينظره مشكوراً، والذي أنا بصدده الآن بيان من خالف قبيصة بن عقبة بعدم التعرض للنضح، فقد رواه جماعة عن سفيان، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، منهم:
الأول: محمد بن يوسف، كما عند البخاري (157) ، ولفظه: أن النبي b توضأ مرة مرة.
الثاني: يحيى بن سعيد، أخرجه أبو داود (138) والنسائي (80) ، والترمذي (42) وابن ماجه (411) ، وابن حبان (1195) ولفظه أيضاً كلفظ محمد بن يوسف (توضأ مرة مرة) .
الثالث: وكيع، كما عند الترمذي (42) بالوضوء مرة مرة.
الرابع: أبو عاصم النبيل كما عند الدارمي (696) والطحاوي (1/29) بذكر الوضوء مرة مرة.
الخامس: أبو شهاب الحناط، كما عند أبي عبيد في كتاب الطهور (103) .
السادس: المؤمل بن إسماعيل، كما عند البغوي في شرح السنة (226) .
السابع: عبد الرزاق كما في المصنف (128) ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (1/365) .
الثامن: زيد بن الحباب كما في سنن البيهقي (1/286) .
التاسع: رواد بن الجراح كما في الكامل لابن عدي (3/177) .
فهؤلاء تسعة رواة رووه عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، ومنهم من يقدم وحده على قبيصة كالقطان ووكيع.
كما رواه عن زيد بن أسلم ثمانية رواة، ولم يذكروا ما ذكره قبيصة، وإليك بيان رواياتهم:
الأول: ابن عجلان عند ابن أبي شيبة (1/17) رقم 64، وأبي يعلى (2486) ، والنسائي (103) ، وابن ماجه (439) ، وابن خزيمة (148) ، وابن حبان (1078،1086) ، والبيهقي (1/55،73) وغيرهم.
الثاني: سليمان بن بلال عند البخاري (140) ، وأحمد (1/286) والبيهقي (1/72)
الثالث: هشام بن سعد عند أبي داود (137) والحاكم (1/147) ، والبيهقي (1/73) وفي المعرفة (1/222) .
الرابع: الدراوردي، كما في الطهور لأبي عبيد (105) ، والنسائي (101) ، وابن ماجه (403) ، والدارمي (697) ، ومسند أبي يعلى (2670،2672) ، والطحاوي (1/32،35) والبيهقي (1/50) ، وابن حبان (1076) .
الخامس: محمد بن جعفر بن كثير عند البيهقي (1/73) .
السادس: ورقاء بن عمر، كما عند البيهقي (1/67،73) .
السابع: أبو بكر بن محمد عند عبد الرزاق (129) .
الثامن: معمر، عند عبد الرزاق على إثر ح (783) .
فكل هؤلاء لم يذكروا ما ذكره قبيصة، وبالتالي لا يشك الباحث بخطأ قبيصة، وأن الحديث ليس فيه ذكر النضح، خاصة إذا علمنا أن رواية قبيصة عن سفيان قد تكلم فيها، والله أعلم.(2/351)
الدليل السادس:
(341-185) ما رواه ابن ماجه، قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير،
عن جابر قال توضأ رسول الله b، فنضح فرجه (1) .
[إسناده ضعيف] (2) .
دليل من قال: لا ينضح فرجه.
الدليل الأول:
القياس على الاستجمار، كما أن الاستجمار لا ينضح الإنسان فرجه، فكذلك الاستنجاء بالماء.
الدليل الثاني:
أن الأحاديث الصحيحة في وضوء رسول الله b في الصحيحين وغيرها من حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد وغيرهما لم تذكر
_________
(1) سنن ابن ماجه (464) .
(2) في إسناده ابن أبي ليلى، سيء الحفظ، والله أعلم، وفي إسناده أيضاً قيس بن الربيع مختلف فيه، قال عمرو بن على: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن قيس بن الربيع، وكان عبد الرحمن حدثنا عنه قبل ذلك، ثم تركه. الجرح والتعديل (7/96) .
وفي التقريب: صدوق، تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وانظر ترجمته وافية في باب دفن الظفر والشعر من باب سنن الفطرة من كتابي هذا، والله الموفق.(2/353)
النضح، وهي مقدمة على غيرها.
الدليل الثالث:
أن أحاديث النضح في الوضوء لا تخلو من مقال، وبالتالي لو كان النضح ثابتاً لجاء فيه حديث صحيح، ولا أرى في مثل هذه المسألة التي تتكرر أن يتساهل فيها فيصحح النضح بالشواهد، بل كون الأحاديث التي جاءت فيها كلها ضعيفة دليل على ضعف القول.
دليل من قال: ينضح إن كان الشيطان يريبه كثيراً.
رأى أن هذا من العلاج للوسواس، وأن فيه نوعاً من قطع الوسوسة، حتى إذا رابه شيء قال: هذا من الماء، والقول به كعلاج لقطع الوسواس جيد، ومجرب، ولكن لا يقال: إنه سنة، وإنما يفعله لعارض، وإن كان العبد يقدر على دفع الوسوسة بدونه فهو أحب إلي، ومتى ما فتح الإنسان باباً للشيطان أفسد عليه عبادته إما بغلو وإما بتقصير، والله المستعان وحده على شر الشيطان وشركه.(2/354)
الباب الرابع
في الاستجمار(2/355)
[صفحة فارغة](2/356)
الفصل الأول
خلاف العلماء في جواز الاستجمار
اختلف العلماء في جواز الاستجمار بالحجارة:
فقيل: يجوز الاستجمار بالحجارة، ولو مع وجود الماء والقدرة عليه، وهو مذهب الأئمة الأربعة (1) ،مع أن الحجر قد لا ينقي المحل، فلا بد أن يبقى به أثر لا يزيله إلا الماء، وهذا من تيسير الشريعة، ومن التخفيف الذي وضعه الله سبحانه وتعالى عن عباده، خاصة أن الإنسان قد يحتاج إلى البول والغائط في مكان لا يوجد فيه ماء، فكان من سعة الله على عبادة أن يسر لهم إزالتها بأي مزيل من أجحار ونحوها.
وقيل: لا يجوز الاستجمار بالحجارة إلا لمن عدم الماء، وادعى أن العمل بالاستجمار قد ترك العمل به، اختاره ابن حبيب من المالكية (2) .
_________
(1) حاشية ابن عابدين (1/336) ، البحر الرائق (1/253) ، حاشية الطحطاوي (ص: 31) ، الفتاوى الهندية (1/48) ، درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/48) .
وانظر في مذهب المالكية مواهب الجليل (1/286) ، القوانين الفقهية (ص: 29) ، شرح الزرقاني (1/93) ، التاج والإكليل (1/286) ، الشرح الكبير (1/113) ، مختصر خليل (ص: 15) .
وانظر في مذهب الشافعية: الأم (1/22) ، المهذب (1/27) ، الإقناع للشربيني (1/53) ، روضة الطالبين (1/65) ، المجموع (2/119) .
وانظر في الفقه الحنبلي: الفروع (1/89) ، الإنصاف (1/109) ، المبدع (1/91) ، المحرر (1/10) ، عمدة الفقه (ص: 6) ، الكافي (1/52) .
(2) قال ابن رشد في البيان والتحصيل (17/485) : قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء -يعني: بالحجارة- إلا لمن عدم الماء؛ لأنه أمر قد ترك، وجرى العمل بخلافه، على ما قاله ابن هرمز. اهـ
وقال القرطبي في المفهم (1/520) : وقد شذ ابن حبيب من أصحابنا، فقال: لا يجوز استعمال الأحجار مع وجود الماء، وهذا ليس بشيء؛ إذ قد صح في البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي b استعمل الحجارة مع وجود الماء في الإداوة مع أبي هريرة يتبعه بها. اهـ(2/357)
الأدلة على جواز الاستجمار بالحجارة.
الدليل الأول:
(341-185) ما رواه أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا محمد بن عجلان، حدثني القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا تستقبلوها ولا تستدبروها، ولا يستنجي بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة (1) .
[إسناده حسن] (2) .
الدليل الثاني:
(342-186) ما رواه أحمد، قال: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن مسلم بن قرط، عن عروة بن الزبير،
عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن، فإنهن تجزئ عنه (3) .
_________
(1) المسند (2/250) .
(2) رجاله كلهم ثقات إلا ابن عجلان، فإنه صدوق، وسبق تخريجه في حكم الاستنجاء.
(3) المسند (6/133) .(2/358)
[إسناده أرجو أن يكون حسناً] (1) .
الدليل الثالث:
(343-187) ما رواه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن الأعمش ح
وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد،
عن سلمان قال: قيل له: قد علمكم نبيكم b كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم (2) .
الدليل الرابع:
(344-188) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي شعيب الحضرمي،
عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله b: إذا تغوط أحدكم فليتمسح بثلاثة أحجار، فإن ذلك كافيه (3) .
[إسناده فيه لين إلا أنه صالح في الشواهد] (4) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) مسلم (262) .
(3) مجمع البحرين (354) .
(4) دراسة الإسناد:
في إسناده بكر بن سهل الدمياطي،
ضعفه النسائي كما في المغني في الضعفاء (978) .
وجاء في لسان الميزان: حمل الناس عنه وهو مقارب الحال، قال النسائي: ضعيف.
وقال البيهقي في الزهد: أخبرنا الحاكم وجماعة قالوا حدثنا الأصم ثنا بكر بن سهل ثنا عبد الله بن محمد بن رمح بن المهاجر، أنا بن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من معمر عمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين لين الله عليه حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته، وتجاوز عن سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع في أهل بيته ومن وضعه ما حكاه أبو بكر القتات مسند أصبهان، أنه سمع أبا الحسن بن شنبوذ المقري، قال: سمعت بكر بن سهل الدمياطي: يقول هجرت أي بكرت يوم الجمعة، فقرأت إلى العصر، ثمان ختمات فأسمع إلي هذا وتعجب. انتهى
وقد ذكره ابن يونس في تاريخ مصر وسمي جده نافعاً، ولم يذكر فيه جرحاً.
وقال مسلمة بن قاسم: تكلم الناس فيه، ووضعوه من أجل الحديث الذي حدث به، عن سعيد بن كثير، عن حيي بن أيوب، عن مجمع بن كعب، عن مسلمة بن مخلد رفعه: اعروا النساء يلزمن الحجال. قال الحافظ: والحديث الذي أورده المصنف لم ينفرد به، بل رواه أبو بكر المقري في فوائده، عن أبي عروبة الحسين بن محمد الحراني، عن مخلد بن مالك الحراني، عن الصنعاني، وهو حفص بن ميسرة به أملاه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في المجلس التاسع والسبعين من أماليه وقال: إنه حديث حسن، وإما حديث مسلمة فأخرجه الطبراني عنه. لسان الميزان (1/61) .
والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (4/174) رقم 4055، وفي الأوسط (3/280) رقم 3146، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/211) : رجاله موثوقون إلا أبا شعيب صاحب أبي أيوب لم أر فيه تعديلاً ولا تجريحاً. اهـ
وعلى كل حال فالحديث صالح في الشواهد، والجهالة في التابعين أخف من الجهالة في من دونهم عد ما انتشر علم الجرح والتعديل، واستقرت قواعده، وكان له أئمته المعروفون.(2/359)
الدليل الخامس:
(345-189) ما أخرجه الطبراني، كما في مجمع البحرين، قال: حدثنا أحمد، ثنا محمد بن يحيى النيسابوري، ثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: أخبرني ابن خلاد،
أنا أباه سمع من النبي b يقول: إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات.
[إسناده حسن لولا أن فيه يحيى بن علي بن عبد الحميد لم أقف له على ترجمة] (1) .
الدليل السادس:
(346-190) ما رواه أحمد، قال: ثنا علي بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان،
عن جابر قال: قال رسول الله b: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً (2) .
[إسناده حسن إن كان أبو سفيان سمعه من جابر، ورواه أبو الزبير عن جابر في مسلم، ولم يقل: ثلاثاً] (3) .
_________
(1) يحيى بن علي بن عبد الحميد الكناني ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وسكت عليه، فلم يذكر فيه شيئاً. الجرح والتعديل (9/175) .
وكذلك ذكره البخاري، وسكت عليه. التاريخ الكبير (8/297) .
(2) المسند (3/400) .
(3) قال وكيع، عن شعبة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وفي رواية إنما هو كتاب.
وقال أبو خيثمة، عن سفيان بن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة.
وقال شعبة: سمع أبو سفيان من جابر أربعة أحاديث، قال: ويقال إن أبا سفيان أخذ صحيفة جابر وصحيفة سليمان اليشكري. جامع التحصيل (ص: 202) .
قلت: ولعلها هي الأحاديث التي أخرجها البخاري عنه في صحيحه مقروناً بغيره.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/143) حدثنا أبو معاوية.
وأخرجه ابن خزيمة (76) من طريق جرير وعيسى بن يونس، وسفيان الثوري.
وأخرجه البيهقي (1/103) من طريق جابر، كلهم عن الأعمش به.
وتابع أبو الزبير طلحة بن نافع، فأخرجه عبد الرزاق (9804) ، ومن طريقه أحمد (3/294) ومسلم (239) ، وأبو عوانة (1/219) حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا استجمر أحدكم فليوتر. ولم يقل أبو الزبير ثلاثاً.
وأخرجه أحمد (3/336) من طريق ابن لهيعة، حدثنا أبو الزبير به، بلفظ: إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات. وهذا إسناد فيه ابن لهيعة.(2/361)
الدليل السابع:
(347-191) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة،
عن خزيمة بن ثابت، قال: قال رسول الله b: الاستطابة بثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع (1) .
[إسناده فيه لين] (2) .
_________
(1) المصنف (1/142) رقم 1652.
(2) في إسناده عمرو بن خزيمة،
ذكره ابن حبان في الثقات (7/220) .
وسكت عليه البخاري وابن أبي حاتم، فلم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. التاريخ الكبير (6/327) ، الجرح والتعديل (6/229) .
وفي التقريب: مقبول: أي حيث يتابع، ولم أعلم أحداً تابعه في هذا الإسناد.
[تخريج الحديث]
أخرجه أحمد (5/213) من طريق محمد بن بشر.
وأخرجه ابن ماجه (315) من طريق وكيع.
أخرجه الدارمي (671) من طريق علي بن مسهر.
وأخرجه الطحاوي (1/121) من طريق عبد الرحمن بن سليمان، كلهم من طريق هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة به.
واختلف على هشام.
فرواه عنه من سبق: ابن نمير وعبدة ووكيع، عن هشام، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت.
ورواه سفيان بن عيينة، عن هشام، واختلف على سفيان،
فرواه ابن ماجه (315) حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا هشام به، كرواية الجماعة.
وواه الشافعي في مسنده (ص: 13) عن سفيان بن عيينة، أخبرني هشام بن عروة، قال: أخبرني أبو وجزة، عن عمران بن حدير، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه به.
ووراه الحميدي في مسنده (432) بمثل طريق الشافعي، إلا أنه سقط منه عمران بن حدير.
ووراه أبو معاوية، واختلف عليه:
فرواه أبو داود (41) ومن طريقه البيهقي (1/103) حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، ثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، مثل حديث الجماعة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (4/86) رقم 3723 من طريق عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهوية كلاهما عن أبي معاوية، عن هشام، عن عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة به. فجعلوا بين هشام وبين عمرو بن خزيمة عبد الرحمن بن سعد.
وأخرجه أحمد (5/315) عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني رجل، عن عمارة بن خزيمة به. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن فيه مبهماً.
وأخرجه الطبراني في الكبير (4/87) رقم 3729 من طريق هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة به.
وساق الترمذي الاختلاف في إسناده، ثم قال: سألت محمداً عن هذا الحديث؟ فقال: الصحيح ما روى عبدة ووكيع، وحديث مالك عن هشام بن عروة عن النبي b صحيح أيضاً. اهـ
وفي العلل لابن أبي حاتم (1/54) : سئل أبو زرعة عن اختلاف الرواة في خبر هشام بن عروة في الاستنجاء، رواه وكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه خزيمة، عن النبي b قال: ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع، ومنهم من يقول: عن هشام بن عروة، عن من حدثه، عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه عن النبي b فقال أبو زرعة: الحديث حديث وكيع وعبدة. اهـ(2/362)
الدليل الثامن:
ما ثبت من فعله b أنه اكتفى بالحجارة في الاستنجاء، من ذلك:
(348-192) ما رواه البخاري رحمه الله، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل/ حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: أخبرني جدي،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه كان يحمل مع النبي b إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة. فقال: ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً (1) .
_________
(1) صحيح البخاري () .(2/364)
الدليل التاسع:
(349-193) ما رواه البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي b الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة وقال: هذا ركس (1) .
فلجميع هذه النصوص يجزم المسلم أن الحجارة تكفي في إزالة النجاسة من البول والغائط، وللاستجمار بالحجارة شروط، سوف نذكرها، ونذكر كلام أهل العلم حولها إن شاء الله تعالى في المباحث التالية.
دليل من قال: الاستجمار لا يجزي إلا لمن عدم الماء.
لا أعلم له دليلاً من السنة على أن الاستنجاء بالحجارة مشروط بعدم القدرة على الماء، وأحاديث الاستجمار مطلقة، وليست مقيدة.
قال ابن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفى في استنجائه بالأحجار دون الماء، فصلى أن صلاته تامة، ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره، لما جاء أن النبي عليه السلام سئل عن الاستطابة، فقال: أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار إلا أن الماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن (2) .
_________
(1) .
(2) البيان والتحصيل (17/484) .(2/365)