ملحق ببحث الطلاق ـ الرجعة وزواج التحليل:
الرجعة:
أولاً ـ تعريف الرجعة ومشروعيتها وحكمها وركنها ونوعاها وأحكام الرجعية (1) :
تعريفها: الرجعة لغة: المرة من الرجوع، واصطلاحاً عند الحنفية: هي استدامة الملك القائم بلا عوض ما دامت في العدة، أي استدامة الزواج في أثناء عدة الطلاق الرجعي. والطلاق الرجعي كما تقدم: تطليق المدخول بها ما دون الثلاث بلا مال، بصريح الطلاق غير المقترن بعدد الثلاث، أو بعض الكنايات المخصوصة (وهي اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة) . وهذا يعني أن الرجعة تدل على بقاء الزواج بعد الطلاق الرجعي وأنها استدامة له، وليست إنشاء لعقد جديد، ولا إعادة للزواج السابق بعد زواله، وهذا يتفق مع مبدأ بقاء أحكام الزواج بعد الطلاق الرجعي، بدليل قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/2] سماه بعلاً، وهذا يقتضي بقاء الزوجية بينهما.
وعرفها الجمهور غير الحنفية بأنها: إعادة المطلَّقة طلاقاً غير بائن إلى الزواج في العدة بغير عقد. وهذا يعني أن الزواج ينتهي بالطلاق الرجعي، وأن الرجعة تعيده بعد زواله. وهو الراجح لدي، لاتفاقه مع مقتضى الطلاق الذي يحرم المرأة لغة وعرفاً.
مشروعيتها: الرجعة مشروعة لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة:228/2] أي في العدة، {إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/2] أي رجعة، كما قال الشافعي والعلماء. ولقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/2] والرد والإمساك مفسران بالرجعة.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فقال: راجع حفصة، فإنها صوامة قوَّامة، وإنها زوجتك في الجنة» (1) وقوله صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها» كما سبق.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق دون الثلاث له الرجعة في العدة.
وبناء عليه: إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها تطليقة رجعية أو تطليقتين، فله أن يراجعها في عدتها، سواء رضيت بذلك أم لم ترض؛ لأنها عند الحنفية باقية على الزوجية، بدليل جواز الظهار عليها، والإيلاء واللعان والتوارث، وإيقاع الطلاق الآخر ما دامت في العدة بالإجماع.
حكمتها: حكمة العدة تمكين النادم على الطلاق من إعادة الزوجة، وإصلاح سبب الخلاف، في فترة قريبة وهي العدة، فتكون العدة لإعطاء فرصة للزوج للنظر في أمر الزوجة، والتفكير في مصيرها، فهل من الخير والمصلحة عودة الحياة الزوجية، فيراجعها قبل انقضاء عدتها، أم أن الخير في الطلاق، فيتركها حتى تنتهي عدتها وتبين منه.
وركن الرجعة عند الحنفية: الصيغة أو الفعل فقط، وعند الجمهور: أركانها ثلاثة: مرتجع، وزوجة، وصيغة فقط عند الشافعية وكذا وطء عند الحنابلة، أو فعل أو نية عند المالكية.
__________
(1) الدر المختار: 727/2-738، فتح القدير: 160/3، اللباب: 53/3، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 604/2، 614، الشرح الكبير: 415/2، مغني المحتاج: 335/3، 340، المهذب: 102/2، كشاف القناع: 392/5-395، المغني: 273/7 ومابعدها، 279.
(2) رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن.(9/434)
نوعاها: الرجعة نوعان: رجعة من طلاق رجعي، ورجعة من طلاق بائن. أما الرجعة من الطلاق الرجعي فتكون بالقول اتفاقاً، وتكون بالفعل: وهوأن يستمتع بها بالوطء فما دونه. ولا يجب في الارتجاع من الطلاق الرجعي صداق ولا ولي ولا يتوقف على إذن المرأة ولا غيرها.
فإذا انقضت عدتها، صارت رجعتها كالرجعة من الطلاق البائن، ويحتاج في ذلك مايحتاج في إنشاء الزواج من إذن المرأة وبذل صداق لها وعقد وليها عند الجمهور المشترطين وجود الولي خلافاً للحنفية. ويجوز بالاتفاق عقد زواج جديد على المطلقة طلاقاً بائناً سواء في العدة أم بعدها.
أحكام المرأة الرجعية: تعود المرأة الرجعية بالرجعة إلى الزواج بكل ماله وما عليه، ويكون لها حكم الزوجات، وتخالفها في أشياء، ومما تخالف الزوجة مايأتي:
تحريم الاستمتاع بها عند الشافعية والمالكية: فيحرم الاستمتاع بالرجعية قبل المراجعة بوطء أم غيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع، فيحرمه الطلاق، لأنه ضده. وهذا هو الحق، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم.
فإن وطئ الزوج الرجعية فلا حد عليه، وإن كان عالماً بالتحريم، لاختلاف العلماء في إباحته. ولا يعزر إلا معتقد تحريمه إذا كان عالماً بالتحريم، لإقدامه على معصية عنده، بخلاف معتقد حله، والجاهل بتحريمه لعذر. ومثله المرأة. ويعد كالوطء في استحقاق التعزير سائر التمتعات.
ويجب عند الشافعية بوطء الرجعية مهر المثل إن لم يراجع، وكذا إن راجع على المذهب. ورأى المالكية: أنه ـ بالرغم من تحريم وطء الرجعية على المشهور ـ لا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة؛ لأنها زوجة ما دامت في العدة.(9/435)
وذهب الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب إلى أنه لا يحرم الاستمتاع بالرجعية، فيباح لزوجها وطؤها، ويباح له عند الحنابلة الخلوة بها والسفر بها، ولها أن تتزين له، وتسرف في الزينة؛ لأنها في حكم الزوجات، كما قبل الطلاق، لكن لا قسم لها عندهم، والسبب في إباحة الاستمتاع بها تسمية الزوج بعلاً في آية: {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/2] وأن له أن يطلِّق.
وأثبت الحنفية للرجعية القسم إن كان من قصده المراجعة، وإن لم يقصدها فلا قسم لها، لكن يندب عدم دخول الزوج عليها بلا إعلامها لتتأهب وإن قصد مراجعتها، وتكره الخلوة بها كراهة تنزيهية إن لم يكن من قصده الرجعة، وإلا فلا تكره.
والمرأة الرجعية مثل الزوجة اتفاقاً في لزوم النفقة والكسوة والسكنى، وفي صحة الإيلاء منها والظهار والطلاق واللعان والتوارث، فيرث كل منهما الآخر.
ومرض الموت والإحرام بحج أو عمرة لا يمنعان من الرجعة للمطلقة الرجعية، ويمنعان من رجعة البائن، كما يمنعان من إنشاء النكاح في رأي الجمهور غير الحنفية، الذين لايجيزون الزواج في أثناء الإحرام.
ثانياً ـ من له حق الرجعة وعدم قبول إسقاطه:
الرجعة حق الزوج ما دامت المطلقة في العدة، سواء رضيت بذلك أم لم ترض، لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/2] وهذا الحق للمرتجع أثبته الشرع له، فلا يقبل الإسقاط ولا التنازل عنه، فلو قال الزوج: طلقتك ولا رجعة لي عليك، أو أسقطت حقي في الرجعة، فإن حقه في الرجعة لا يسقط؛ لأن إسقاطه يعد تغييراً لما شرعه الله، ولا يملك أحد أن يغير ما شرعه الله، والله سبحانه رتب حق الرجعة على الطلاق الرجعي في آية: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] .(9/436)
ثالثاً ـ شروط صحة الرجعة:
يشترط في الرجعة ما يأتي (1) :
شرط المرتجع: يشترط في المرتجع أهلية الزواج بنفسه، بأن يكون عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالغاً عاقلاً مختاراً غير مرتد؛ لأن الرجعة كإنشاء النكاح، فلا تصح الرجعة في الردة والصبا والجنون والسكر، ولا من مكرَه، كما لا يصح الزواج فيها، ولأن طلاق الصبي غير لازم أو غير واقع. وأجاز الحنفية الرجعة للصبي لأن نكاحه صحيح يتوقف على إجازة وليه. وأجاز الحنابلة والشافعية الرجعة لولي المجنون؛ لأنها حق للمجنون يخشى فواته بانقضاء العدة، وأجاز الحنفية للمجنون والمعتوه والمكره الرجعة.
ولا يشترط في المرتجع بالاتفاق عدم الإحرام بحج أو عمرة، وعدم المرض؛ لأن كلاً من المحرم والمريض فيه أهلية النكاح، غير أنه طرأ عليهما ما يمنع من صحته، فيجوز لخمسة الرجعة ولا يجوز نكاحهم: وهم المحرم والمريض والسفيه والمفلس والعبد.
شرط ما تحصل به الرجعة: تحصل الرجعة من ناطق عند الشافعية بالقول فقط سواء أكان صريحاً أم كناية، أما الصريح فمثل: راجعتك ورجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك، وبمعنى هذه الألفاظ ونحوها من سائر اللغات، سواء أعرف العربية أم لا، وسواء أضاف الرجعة إليه أو إلى نكاحه، كقوله: إليّ أو إلى نكاحي أم لا، لكن يستحب ذلك. ولا بد من إضافة الرجعة إلى ظاهر كراجعت فلانة، أو مضمر كراجعتك، أو مشار إليه كراجعت هذه.
وأما الكناية في الأصح: فمثل قول المرتجع: تزوجتك أو نكحتك، ولا بد من أن يقول المرتجع في الكناية: رددتها إليّ أو إلى نكاحي، حتى يكون صريحاً، وهذا القول شرط.
__________
(1) البدائع: 183/3-186، الدر المختار: 728/2-732، الشرح الصغير: 605/2-608، الشرح الكبير: 615/2-618، القوانين الفقهية: ص 234، مغني المحتاج: 271/3، 335-337، المهذب: 102/2 وما بعدها، المغني: 274/7، 278، 280-285، 290، كشاف القناع: 393/5-396.(9/437)
وأما الفعل كوطء وغيره فلا تحصل به الرجعة عندهم؛ لأنه حرام، والحرام لاتصح الرجعة به، فلو وطئ الزوج رجعيته واستأنفت الأقراء من وقت الوطء، راجع فيما كان بقي من عدة الطلاق.
وتحصل الرجعة عند الجمهور بالقول أو بالفعل ومنه الخلوة، أما القول عند الحنفية: فهو إما صريح ولو من غير نية: وهو اللفظ الذي لا يحتمل معنى آخر غير الرجعة وإبقاء الزوجية، مثل راجعت زوجتي، أو رجعتك أو رددتك أو أمسكتك. وإما كناية بالنية أو دلالة الحال: وهو ما يحتمل الرجعة وغيرها، كقوله: أنت امرأتي أو أنت عندي الآن كما كنت. فالصريح لا حاجة فيه إلى النية، ولفظ الكناية يحتاج إلى النية أو دلالة الحال. ويشترط في (رددتك) الإضافة إليه أو إلى نكاحه فيقول: إلي أوإلى نكاحي، أو إلى عصمتي.
وأما الفعل، ولكن مع الكراهة التنزيهية: فهو كل ما يوجب حرمة المصاهرة كمس بشهوة ووطء ولو في الدبر على المعتمد، مع أنه حرام، وتقبيل بشهوة على أي موضع، ولو اختلاساً أو نائماً أو مكرهاً أو مجنوناً أو معتوهاً، سواء نوى المطلق الرجعة أم لا؛ لأن حصول هذا الفعل يدل بوضوح على رغبته في إمساك زوجته، ولأن الزوجية عند الحنفية باقية؛ لأن الله سمى المطلِّق بعلاً، والبعل هو الزوج.
وتحصل الرجعة بصدور أحد هذه الأفعال من الزوجة كالتقبيل بشهوة إن صدقها الزوج، أو ورثته بعد موته في وجود الشهوة، فإن أنكر لا تثبت الرجعة.
وتحصل الرجعة عند المالكية بالقول أو الفعل أو النية، وأما القول فهو إما صريح، كرجعت وارتجعت زوجتي، وراجعت، ورددتها لعصمتي أو نكاحي، أو غير صريح مثل مسَّكتها أو أمسكتها، إذ يحتمل: أمسكتها تعذيباً.
وأما الفعل فهو كوطء ومقدماته.
وأما النية: فهي حديث النفس بأن يقول في نفسه: راجعتها، لكن إذا حدث مجرد قصد أن يراجعها، فلا يكون رجعة اتفاقاً.(9/438)
ولا بد من أن ينوي الارتجاع مع القول، أو مع الفعل، خلافاً للحنفية كما تقدم؛ لأن تصرف الزوج يحتاج إلى دلالة قوية على رغبته في إعادة المطلقة، وهو يكون بالنية. وتحصل الرجعة بالقول الصريح ولو هزلاً؛ لأن الرجعة هزلها جد، لكن الرجعة في الهزل رجعة في الظاهر لعدم النية، فيلزمه الحاكم بالنفقة وسائر الحقوق، فلا يحل الاستمتاع بها، حتى ينوي الرجعة.
ولا صداق ولا حد في الوطء الخالي عن نية الرجعة، وإن كان الوطء حراماً؛ لأنها في حكم الزوجة ما دامت في العدة.
وتحصل الرجعة عند الحنابلة والأوزاعي بالقول الصريح، وبالوطء، سواء نوى به الرجعة أم لم ينو به الرجعة؛ لأن الطلاق سبب زوال الملك، والوطء من المالك يمنع زواله، كوطء البائع أمته المبيعة في مدة الخيار. ولا تحصل الرجعة بتقبيل المرأة، أو لمسها بشهوة، أو كشف فرجها والنظر إليه بشهوة أو غير شهوة، ولا بالخلوة بها والحديث معها؛ لأن المذكور كله ليس باستمتاع، أي ليس في معنى الوطء؛ إذ الوطء يدل على ارتجاعها دلالة ظاهرة؛ بخلاف ما ذكر، وهذا هو الراجح عندهم، ولا تحصل الرجعة أيضاً بإنكار الطلاق إذ لا يدل على الرجعة، ولا تحصل الرجعة بالكناية مثل تزوجتك أو نكحتك؛ لأن الرجعة استباحة بُضع (فرج) مقصود، فلا تحل بالكناية. وقال بعض الحنابلة: الخلوة في إثبات الرجعة كالوطء؛ لأن حكمها حكم الدخول في جميع أمورها عندهم.
والخلاصة: تحصل الرجعة بالقول الصريح اتفاقاً، أو بالكناية بشرط النية عند غير الحنابلة، واشترط المالكية النية في القول والفعل، وتحصل أيضاً عند غير الشافعية بالوطء، وكذا بكل ما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والمالكية، ولا تحصل بغير الوطء ولا بالكناية عند الحنابلة، ولا بأي فعل عند الشافعية. والراجح لدي قول المالكية لتوسطه وقوة حجته.(9/439)
شرط الزوجة المرتجعة (محل الرجعة) والطلاق الحاصل والعدة:
يشترط في الرجعة كون المرأة مدخولاً بها، لا بمجرد الخلوة، وأن تكون مطلَّقة طلاقاً رجعياً من نكاح صحيح؛ لأن النكاح الفاسد يفسخ سواء بعد الدخول أم قبله، ولأن المفسوخ نكاحها لا رجعة فيها؛ لأن الله تعالى أناطها بالطلاق فاختصت به، ولأن الطلاق البائن يزيل الزوجية في الحال بمجرد صدوره، فتملك المطلقة أمرها، وأن يكون الطلاق بلا عوض؛ لأن المطلقة بعوض قد ملكت نفسها، وأن تكون ممن لم يستوف عدد طلاقها؛ لأنه إذا استوفى عدد الطلاق وهو ثلاث، فلا سلطنة له عليها، وأن تكون قابلة للحل للمراجع، لا مرتدة، فلا تصح مراجعة المرتدة؛ لعدم حلها، ولا يصح مراجعة الكافرة التي أسلمت، واستمر زوجها في الكفر لعدم الحل. ويشترط أيضاً أن تكون باقية في العدة: فلا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة؛ لأن العدة إذا انقضت أصبح الطلاق بائناً، فتمتنع الرجعة.
شرط زمن الرجعة: يشترط أن تكون الرجعة منجزة، فلا يصح تعليقها بشرط مستقبل، مثل: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت، أو راجعتك إن قدم أبوك، أو راجعتك إن عاد أبي من السفر، ولا يصح أيضاً إضافتها إلى زمن مستقبل، مثل: راجعتك غداً أو أول الشهر القادم؛ لأن الرجعة عند الحنفية شبيهة بالزواج من حيث إنها استدامة له، فيشترط فيها التنجيز كالزواج، ولأنها عند الجمهور استباحة بضع مقصود، فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح. ويشترط ألا تكون مؤقتة بوقت، فإذا قال لها: راجعتك شهراً، لم تحصل الرجعة. ويصح تعليق الرجعة على أمر قد مضى، مثل: إن كنت فعلت كذا فإني أراجعك، وكان الفعل قد وقع فعلاً، أو على أمر متحقق الوجود في الحال، مثل: إن رضي أبي فقد راجعتك، وكان أبوه حاضراً في المجلس، فقال: رضيت. وإنما جاز التعليق في هاتين الحالتين؛ لأنه تنجيز في صورة التعليق.
والخلاصة: يشترط في الرجعة ما يلي:
1 - أهلية المرتجع عند المالكية والشافعية والحنابلة، أي بالبلوغ والعقل.
2 - أن يكون الطلاق رجعياً لا بائناً ولا بعوض.(9/440)
3 - أن تقع الرجعة في العدة، لا بعد انقضائها.
4 - أن تكون المرأة زوجة مطلقة معينة غير مبهمة، مدخولاً بها في نكاح صحيح قابلة للحل، فلا تصح رجعة غير مدخول بها ولا مفسوخ نكاحها ولا مرتدة ونحوها.
5 - أن تكون الرجعة منجزة غير مؤقتة بوقت، وغير معلقة بشرط ولا مضافة لزمن مستقبل.
ما لا يشترط في الرجعة: لا يشترط في الرجعة أمور أهمها ما يأتي (1) :
1 ً - رضا المرأة ونحوه من الشروط: لا يشترط بالاتفاق رضا المرأة في الرجعة، لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:228/2] فجعل الحق لهم، وقال سبحانه: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/2] فخاطب الأزواج بالأمر، ولم يجعل لهن اختياراً، ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية، فلم يعتبر رضاها في الرجعة، كالتي في عصمته تماماً.
ولا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة، والرجعة إمساك لها، واستبقاء لزواجها.
2 ً - إعلام المرأة بالرجعة: ولا يشترط أيضاً إعلام المرأة بالرجعة، فتصح الرجعة ولو لم تعلم بها الزوجة؛ لأن الرجعة حق خالص للزوج لا يتوقف على رضا المرأة كالطلاق، لكن يندب إعلام الزوجة بها، حتى لا تتزوج غيره بعد انقضاء العدة، وحتى لا تقع المنازعة بين الزوجين، إذا أثبت الزوج الرجعة بالبينة، حتى إنه إذا تزوجت بزوج آخر وأثبت زوجها الأول مراجعتها صحت الرجعة، وفسخ الزواج الثاني.
__________
(1) الدر المختار: 730/2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 252/2، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 616/2، مغني المحتاج: 336/3، المهذب: 102/2-103، المغني: 278/7، 282، كشاف القناع: 394/5، غاية المنتهى: 179/3، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223، المحلى: 266/10، مسألة 1975.(9/441)
3 - الإشهاد على الرجعة: ليس الإشهاد على الرجعة شرطاً لصحتها عند الجمهور وهم الحنفية، والمالكية في مشهور المذهب، والشافعية في الجديد، والحنابلة في أصح الروايتين عن أحمد، ولكن الإشهاد عليها مستحب احتياطاً، خوفاً من إنكار الزوجة لها بعد انقضاء العدة، وقطعاً للشك في حصولها، وابتعاداً عن الاتهام في العودة إلى معاشرة الزوجة، فيقول الزوج للشاهدين: اشهدا على أني راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجيتي، أوراجعتها لما وقع عليها من طلاقي ونحوه. فإن لم يُشهد على رجعتها، صحت الرجعة.
وقال الظاهرية: يجب الإشهاد على الرجعة وإلا لم تصح، لقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] والأمر للوجوب، ولأن الشهادة شرط في إنشاء الزواج بالاتفاق، فتكون شرطاً في استدامته بالرجعة.
وحمل الجمهور الأمر في هذه الآية على الندب والاستحباب، لأن قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] وارد عقب قوله: {فأمسكوهن بمعروف} [الطلاق:2/65] وأجمع العلماء على عدم وجوب الإشهاد على الطلاق، فتكون الرجعة مثله، ولأن النصوص القرآنية مطْلَقة كقوله تعالى: {فأمسكوهن} [البقرة:231/2] {وبعولتهن أحق بردهن} [البقرة:228/2] .
وروي أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بمراجعتها، ولم يأمره بالإشهاد على الرجعة، ولو كان شرطاً لأمره به. وسئل عمران بن حصين عن الرجل يطلِّق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلَّقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعُدْ (1) .
ولم يؤثر عن الصحابة اشتراط الشهادة لصحة الرجعة مع كثرة وقوعها منهم.
ولأن الرجعة حق للزوج لا يتوقف على رضا المرأة، فلا يحتاج إلى الإشهاد عليه كسائر حقوق الزوج.
ولأن الشهادة شرط لابتداء الزواج لخطورته، وليست شرطاً لبقائه، والرجعة إبقاء للزواج واستدامة له، فلا تكون شرطاً لصحتها.
__________
(1) رواه أبو داود، وابن ماجه ولم يقل: «ولا تعد» (نيل الأوطار: 253/6) .(9/442)
رابعاً ـ اختلاف الزوجين في الرجعة:
إذا توافق الزوجان على الرجعة في أثناء العدة، ثبتت وترتب عليها أثرها، وإن اختلف الزوجان: فإما أن يكون الخلاف في حصول الرجعة أو في صحتها (1) :
1 - إن اختلف الزوجان في حصول الرجعة: بأن ادعاها الزوج فقال: راجعتك وأنكرت المرأة، فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة، فالقول قول الزوج اتفاقاً؛ لأنه يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق.
وإن كان بعد انقضاء العدة: فإن أثبت الرجل دعواه بالبينة، أو صدقته المرأة في قوله: «قد كنت راجعتك في العدة» ثبتت الرجعة.
وإن عجز الرجل عن الإثبات، أو كذبته المرأة، فالقول قولها بيمينها، في رأي الأكثرين، على المفتى به عند الحنفية من قول الصاحبين، فإذا نكل المنكر حبس عندهما حتى يُقرّ أو يحلف؛ لأن النكول عن اليمين يعتبر عندهما إقراراً بالحق المدعى، والرجعة يصح الإقرار بها عندهما.
وفي رأي أبي حنيفة: لا يمين عليها.
ويقبل قولها لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة.
وإن اختلفا في الإصابة (الوطء) فقال الزوج: أصبتك، وأنكرت المرأة، فالقول أيضاً قولها بيمينها؛ لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة، فهي منكرة واليمين على من أنكر.
__________
(1) الدر المختار: 731/2-737، اللباب: 55/3-57، القوانين الفقهية: ص 234، الشرح الصغير: 611/2-613، مغني المحتاج: 338/3-342، المهذب: 103/2، المغني: 280/7، 285-291.(9/443)
2 - وإن اختلف الزوجان في صحة الرجعة: بأن قال الزوج: (قد راجعتك في العدة) فالرجعة صحيحة، فقالت الزوجة: الرجعة باطلة، لوقوعها بعد انقضاء العدة، أو قالت مجيبة له: (قد انقضت عدتي) وكانت العدة بالأقراء، فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكناً.
فإن كانت المدة بين الطلاق وبين الوقت الذي تدعي المرأة انقضاء العدة عنده كافية لانقضاء العدة، قبل قولها بيمينها حتى عند أبي حنيفة؛ لأن انقضاء العدة بالحيض لا يعرف إلا من جهتها.
وإن كانت المدة التي مضت لا تكفي لانقضاء العدة، بأن كانت أقل من أقل مدة تنتهي فيها العدة شرعاً، فلا يعتبر قولها، وتصح الرجعة، لظهور قرينة تكذب دعواها.
وأقل مدة تنقضي بها العدة بالحيضات وهي الأقراء عند الحنفية: ستون يوماً عند أبي حنيفة؛ لأن كل حيضة عشرة أيام في الأكثر، والحيضات ثلاث، فهي ثلاثون يوماً، يتخللها طهران وهما ثلاثون يوماً أيضاً؛ لأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، فيكون مجموع ذلك ستين يوماً، وهذا هو الراجح وهو الغالب بين النساء. وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات: تسعة وعشرون يوماً ولحظة، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر، ثم تحيض بعده يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض.(9/444)
وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء، أي الأطهار عندهم: شهر: ثلاثون يوماً، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر، وهي طاهرة، ثم تحيض وينقطع عنها الحيض قبل الفجر؛ لأن أقل الحيض عندهم يوم، أو بعض يوم بشرط أن يقول النساء: إنه حيض، ثم تطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض في ليلة السادس عشر، وينقطع قبل الفجر أيضاً، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار: الطهر الذي طلقها فيه، ثم الطهر الثاني في النصف الأول من الشهر، ثم الثالث في النصف الثاني من الشهر، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوماً.
وأقل مدة تنقضي بها العدة عند الشافعية: اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، ولا يقبل أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور عندهم أقل من ذلك، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر، وهي قرء عندهم، ثم تحيض يوماً وليلة أقل الحيض عندهم، ثم تطهر خمسة عشر يوماً أقل الطهر، وذلك قرء ثان، ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر خمسة عشر، وذلك قرء ثالث، ثم تحيض، وهذه الحيضة ليست من العدة، بل لاستيقان انقضائها، فذلك اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
مدة الاغتسال: ينتهي وقت الرجعة عند الحنفية إذا طهرت المرأة من الحيض الأخير لعشرة أيام، وإن لم تغتسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة. أما إن كان الحيض أقل من عشرة أيام، فلا تنقطع الرجعة حتى تغتسل؛ لأن عود الدم محتمل، أو يمضي عليها وقت صلاة فتصير ديناً في ذمتها، أو تتيمم للعذر وتصلي في الوقت ولو نفلاً استحساناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
ويرى أكثر الحنابلة أنه لا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض، للقول بانقضاء العدة.
هذا هو القسم الأول وهو أن تدعي المرأة انقضاء عدتها بالقروء.(9/445)
القسم الثاني ـ أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل:
إذا ادعت المرأة المطلَّقة انقضاء عدتها بوضع الحمل، فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد عقد الزوج؛ لأن أقل مدة الحمل هي ست أشهر، وأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق.
القسم الثالث ـ أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور:
إذا كانت المرأة صغيرة آيسة فعدتها بالأشهر الثلاثة، إذا ادعت انقضاء عدتها بالشهور، فلا يقبل قولها فيه، وإنما القول قول الزوج؛ لأن المعول على قوله في وقت الطلاق، فيكون القول قوله فيما ينبني عليه، إلا أن يدعي انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها، فيكون القول حينئذ قولها؛ لأنه يدعي ما يسقط النفقة، والأصل وجوبها، فلا يقبل قوله إلا ببينة. الرجعة في القانون: أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في أن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وبجواز الرجعة بالقول أو الفعل، وانقطاع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق، فنصت المادة (118) على ما يلي:
1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط.
2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي.(9/446)
زواج التحليل:
بينا أن حكم الطلاق الثلاث هو زوال الملك والحل زوالاً مؤقتاً، فتحرم المرأة على من طلقها تحريماً مؤقتاً، ولا يجوز له زواجها قبل التزوج بزوج آخر لقوله تعالى: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] سواء طلقها ثلاثاً متفرقات، أو جملة واحدة.
التحليل بزواج دائم: تنتهي الحرمة باتفاق الفقهاء إذا كان الزواج الثاني مؤبداً طبيعياً، قصد به دوام الزوجية والعشرة، وهو المقصود في القرآن الكريم: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] وذلك بشروط ثلاثة هي (1) :
الشرط الأول ـ أن تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] نفى الحل إلى غاية التزوج بزوج آخر. فلو وطئها إنسان بالزنا أو بشبهة، لم تبح؛ لأنه ليس بزوج.
الشرط الثاني ـ أن يكون النكاح الثاني صحيحاً: فإن كان فاسداً ودخل بها، لا تحل للأول؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة، ولقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح.
الشرط الثالث ـ أن يطأها الزوج الثاني في الفرج، فلو وطئها دونه أو في الدبر، لم يحلها لزوجها الأول؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علَّق الحل على ذوق العسيلة منهما، فقال لامرأة رفاعة القرظي: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (2) . ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج، وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، وذلك بشرط الانتشار؛ لأن الحكم يتعلق بذوق العسيلة، ولا تحصل من غير انتشار، وبشرط أن يكون الزوج الثاني ممن يمكن جماعه، لا طفلاً لا يتأتى منه الجماع.
فشرط الوطء: التقاء الختانين ولو من غير إنزال في رأي جماهير العلماء إلا الحسن البصري، فقال: لا تحل إلا بوطء بإنزال.
وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد، ويفسد الصوم، والحج، ويحل المطلقة، ويحصن الزوجة، ويوجب الصداق: هو التقاء الختانين.
وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي، يُحل الوطء المرأة، وإن وقع في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، سواء أكان الواطئ بالغاً عاقلاً أم صبياً مراهقاً (3) أم مجنوناً؛ لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. وكذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا طلقها زوجها ثلاثاً، ودخل بها الزوج الثاني، حلت للأول، لإطلاق قوله تعالى: {فإن طلقها فلا
__________
(1) البدائع: 187/3-189، اللباب: 58/3، بداية المجتهد: 86/2 وما بعدها، المهذب: 46/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 182/3 وما بعدها، المغني: 645/6-648، 275/7 ومابعدها، المحلى: 220/10، مسألة 1955، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223.
(2) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار: 253/6) .
(3) الصبي المراهق: هو الذي تتحرك آلته وتشتهي، وقدره بعض الحنفية بعشر سنين.(9/447)
تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] ولأن وطأها يتعلق به أحكام الوطء من المهر والتحريم، فصار كوطء البالغة.
واشترط المالكية والحنابلة شرطاً رابعاً: هوأن يكون الوطء حلالاً (مباحاً) وأن يكون الواطئ عند المالكية بالغاً، وعند الحنابلة: أون له اثنا عشر سنة؛ لأن الوطء غير المباح حرام لحق الله تعالى، فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدة، ولأن من دون البلوغ أو من دون سن الثانية عشرة لا يمكنه المجامعة.
فلا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عند مالك وابن القاسم وطء زوج ذمي لمسلم. ونص أحمد على أنه إذا كانت الزوجة ذمية، فوطئها زوجها الذمي، أحلها لمطلِّقها المسلم لأنه وطء من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء المسلم. وهذا رأي الشافعية والمالكية أيضاً. وأجاز الحنابلة للمجنون إحلال المطلقة ثلاثاً كما قال الحنفية؛ لظاهر الآية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] ولأنه وطء مباح من زوج في نكاح صحيح تام، فأشبه وطء العاقل.
الزواج بشرط التحليل (نكاح المحلِّل) : اتفق الفقهاء (1) أيضاً على أن الزواج بالمطلقة ثلاثاً بشرط صريح لعقد على أن يحلها الزوج الثاني لزوجها الأول لا يجوز، وهو حرام عند الجمهور، مكروه تحريماً عند الحنفية، لقول ابن مسعود: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له» (2) ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه عن ابن مسعود، ورواه الخمسة إلا النسائي عن علي (نيل الأوطار: 138/6) .(9/448)
له» (1) والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولا يطلق الزواج الشرعي على الزواج المنهي عنه.
وهذا هو نكاح المحلل: وهو أن يتزوج الرجل امرأة على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، وأن يتزوجها ليحلها للزوج الأول.
هذا النكاح فاسد عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأبي يوسف) ؛ للحديث السابق، ولأن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت، وشرط التوقيت في النكاح يفسده، والنكاح الفاسد لا يقع به التحليل، فهو نكاح إلى مدة أو فيه شرط يمنع بقاءه فأشبه نكاح المتعة. قال في المهذب: «لأنه نكاح شرط انقطاعه دون غايته، فشابه نكاح المتعة» ويؤيده قول عمر: والله لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما (2) .
وقال أبو حنيفة وزفر: هذا النكاح صحيح مكروه تحريماً، فإن وطئها الزوج الثاني حلت للأول بعد أن يطلقها وتنقضي عدتها، لأن شرط التحليل شرط فاسد، والزواج لا يفسد بالشروط الفاسدة، فيلغو الشرط، ويصح العقد؛ لإطلاق آية: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] دون تفرقة بين ما إذا شرط الإحلال أم لا، إلا أنه مكروه تحريماً؛ لأنه شرط ينافي المقصود من النكاح وهو السكن والتوالد والتعفف، وهو يتوقف على البقاء والدوام في الزوجية.
وقال محمد: النكاح الثاني صحيح، ولا تحل المطلقة للأول؛ لأن النكاح عقد مؤبد، فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل، فيبطل الشرط ويبقى النكاح صحيحاً، لكن لا يحصل به الغرض، كمن قتل مورثه فإنه يحرم الميراث. وهذا قول للشافعية فيمن تزوج امرأة على أنه إذا وطئها طلقها.
وأجاز الإمامية نكاح المحلل مطلقاً بشرط الوطء، وكون الزوج بالغاً، وكون العقد صحيحاً دائماً.
__________
(1) رواه ابن ماجه عن عقبة بن عامر (المرجع السابق) .
(2) رواه الأثرم عن قبيصة بن جابر.(9/449)
الزواج بقصد التحليل دون شرط:
ذهب المالكية والحنابلة (1) إلى أن الزواج بقصد التحليل بدون شرط في العقد باطل، بأن تواطأ العاقدان على شيء مما ذكر قبل العقد، ثم عقد الزواج بذلك القصد، بأن نواه الزوج في العقد، أو نوى التحليل من غير شرط، فيبطل العقد، ولا تحل به المرأة لزوجها الأول، عملاً بمبدأ سد الذرائع إلى الحرام، وبالحديث السابق: «لعن الله المحلل والمحلل له» .
وذهب الحنفية والشافعية والظاهرية والإمامية (2) : إلى أن الزواج بقصد التحليل من غير شرط في العقد صحيح، وتحل المرأة بوطء الزوج الثاني للزوج الأول؛ لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر، فوقع الزواج صحيحاً، لتوافر شرائط الصحة في العقد، وتحل للأول، كما لو نويا التوقيت وسائر المعاني الفاسدة.
وأرجح الرأي الأول، لقوة أدلة قائليه، ولأن هذا الفعل أشبه بالسفاح، بدليل ما روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر: «أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة، ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3) لكن خصص ابن حزم هذا في نكاح التحليل بشرط (4) .
__________
(1) بداية المجتهد: 87/2، المغني: 646/6 وما بعدها.
(2) البدائع: 187/3، مغني المحتاج: 183/3، المحلى: 220/10، مختصر فقه الإمامية: ص 223.
(3) نيل الأوطار: 139/6.
(4) المحلى: 223/10 وما بعدها.(9/450)
هدم الزواج الثاني طلاق الزوج السابق:
سبق الكلام في هذا الموضوع وأعيده هنا بتفصيل آخر (1) :
أـ اتفق الفقهاء على أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها، والبائن بينونة صغرى إذا عقد عليها زوجها عقداً جديداً قبل أن تتزوج بزوج آخر، تعود إليه بما بقي له من الطلقات الثلاث، واحدة أو اثنتين.
ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الزواج الثاني بعد الطلاق الثلاث، يهدم طلاق الزوج السابق، وتعود إليه بعد العقد الجديد بطلقات ثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث؛ لأنه مثبت لحل جديد كامل، ويزول الحل الأول بالطلاق الثلاث.
جـ ـ واختلف الفقهاء في أنه: هل يهدم الزواج الثاني ما دون الثلاث على رأيين:
قال المالكية والشافعية والحنابلة ومحمد وزفر من الحنفية: لا يهدم، يعني إذا تزوجت المطلقة قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول، ثم أعادها الزوج الأول بنكاح جديد، فتعود ببقية الثلاث، لما روي عن كبار الصحابة: عمر وعلي ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة، ولأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الطلقات الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث؛ لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى.
__________
(1) فتح القدير: 178/3، بداية المجتهد: 87/2 ومابعدها، الدر المختار: 746/2، القوانين الفقهية: ص226، مغني المحتاج: 293/3، المهذب: 105/2، المغني: 261/7، مختصر فقه الإمامية: ص 223.(9/451)
الفَصْلُ الثَّاني: الخُلْع
فيه خمسة مباحث:
المبحث الأول ـ معنى الخلع ومشروعيته وألفاظه وحكمه ووقته وأركانه:
الخُلْع لغة: النزع والإزالة، وعرفاً بضم الخاء: إزالة الزوجية. وفقهاً له تعاريف في اصطلاح كل مذهب، فعند الحنفية (1) : هو إزالة ملك النكاح المتوقفةُ على قبولها، بلفظ الخلع أو ما في معناه. فخرج بكلمة (ملك النكاح) : الخلع في النكاح الفاسد وبعد البينونة والردة، فإنه لغو، وخرج بكلمة (المتوقفة على قبولها) أي المرأة: ما إذا قال: خلعتك ولم يذكر المال، ناوياً به الطلاق، فإنه يقع بائناً غير مسقط للحق، لعدم توقفه على قبول المرأة، فدل القبول على أن الخلع يكون ببدل، ومتى كان على بدل مالي لزم قبولها. وخرج بقوله (بلفظ الخلع) الطلاق على مال، فإنه غير مسقط للحقوق. وأما قوله (أو ما في معناه) فيدخل فيه لفظ (المبارأة) ولفظ (البيع والشراء) فإنه مسقط للحقوق ومنها المهر. والخلاصة: أن التعريف خاص بالخلع المسقط للحقوق، والواقع عادة في مقابل مال تفتدي به المرأة نفسها، فإن خالعها وقع الطلاق تطليقة بائنة، ولزمها المال.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 766/2 وما بعدها، فتح القدير: 199/3، اللباب: 64/3.(9/452)
والخلع عند المالكية (1) : الطلاق بعوض، سواء أكان من الزوجة أم من غيرها من ولي أو غيره، أو هو بلفظ الخلع. وهو يدل على أن الخلع نوعان:
الأول ـ وهو الغالب ما كان في نظير عوض.
الثاني ـ ما وقع بلفظ الخلع، ولو لم يكن في نظير شيء، كأن يقول لها: خالعتك أو أنت مخالعة.
وبعبارة أخرى هو: أن تبذل المرأة أو غيرها للرجل مالاً على أن يطلقها، أو تسقط عنه حقاً لها عليه، فتقع به طلقة بائنة.
أي أنه عند المالكية يشمل الفرقة بعوض أو بدون عوض.
والخلع عند الشافعية (2) : هو فُرْقة بين الزوجين بعوض بلفظ طلاق أو خلع، كقول الرجل للمرأة: طلقتك أو خالعتك على كذا، فتقبل.
وهذا أنسب التعاريف لاتفاقه مع المقصود بالخلع هنا وفي مفاهيم الناس ومع القانون النافذ في مصر وسورية.
والحنابلة (3) قالوا: الخلع: فراق الزوج امرأته بعوض يأخذه منها أو من غيرها، بألفاظ مخصوصة. وفائدته: تخليصها من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها. ويصح الخلع عندهم في رواية على غير عوض، ولا شيء للزوج، كما قال المالكية، والراجح عند الحنابلة أن العوض ركن في الخلع فلا يصح تركه كالثمن في البيع، فإن خالعها بغير عوض لم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ الطلاق أو نيته، فيقع طلاقاً رجعياً.
مشروعيته: الخلع جائز لا بأس به عند أكثر العلماء (4) ، لحاجة الناس إليه بوقوع الشقاق والنزاع وعدم الوفاق بين الزوجين، فقد تبغض المرأة زوجها وتكره العيش معه لأسباب جسدية خَلْقية، أو خلُقية أو دينية، أو صحية لكبر أو ضعف أو نحو ذلك، وتخشى ألا تؤدي حق الله في طاعته، فشرع لها الإسلام في موازاة الطلاق الخاص بالرجل طريقاً للخلاص من الزوجية، لدفع الحرج عنها ورفع الضرر عنها، ببذل شيء من المال تفتدي به نفسها وتتخلص من الزواج، وتعوض الزوج ما أنفقه في سبيل الزواج بها. وقد حصر جمهور العلماء أخذ الفدية من مال الزوجة مقابل الطلاق في حال النشوز وفساد العشرة من قبل الزوجة.
ودل الكتاب والسنة على مشروعيته، أما الكتاب فقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/2] وقوله سبحانه: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] وقوله: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً} [النساء:128/4] .
__________
(1) الشرح الصغير: 517/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 232.
(2) مغني المحتاج: 262/3.
(3) كشاف القناع: 237/5، 244، المغني: 67/7.
(4) بداية المجتهد: 66/2، الدر المختار: 767/2، مغني المحتاج: 262/3، المغني: 51/7.(9/453)
وأما السنة: فحديث ابن عباس: «أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني ما أعيب عليه في خلُق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتردّين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة» (1) فهي لا تريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه، وإنما كرهت كفران العشير، والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلم أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب برد بستانه الذي أمهرها إياه، وهو أول خلع وقع في الإسلام، وفيه معنى المعاوضة.
وشذ أبو بكر بن عبد الله المزيني عن الجمهور، فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئاً، زاعماً أن قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:228/2] منسوخ بقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء:20/4] وهذا معناه عند الجمهور الأخذ بغير رضاها، وأما برضاها فجائز.
ألفاظ الخلع: للخلع عند الحنفية (2) ألفاظ خمسة: الخلع، والمبارأة، والطلاق، والمفارقة، والبيع والشراء، كأن يقول الرجل: خالعتك بكذا، أو بارأتك، أو فارقتك، أو طلقي نفسك على ألف، أو بعت نفسك أو طلاقك على كذا، وتقبل المرأة.
وذكر المالكية (3) له ألفاظاً أربعة: الخلع والمبارأة والصلح والفدية أو المفاداة، وكلها تؤول إلى معنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص عادة ببذلها له جميع ما أعطاها، والصلح ببعضه، والفدية بأكثره، والمبارأة بإسقاطها عنه حقاً لها عليه.
وذكر الشافعية والحنابلة (4) أن الخلع يصح بلفظ الطلاق الصريح أو الكناية مع النية، وباللغة
__________
(1) رواه البخاري والنسائي، ورواه ابن ماجه أيضاً (نيل الأوطار: 246/6) .
(2) الدر المختار: 770/2.
(3) بداية المجتهد: /66.
(4) مغني المحتاج: 262/3، 268، 269، المغني: 57/7 وما بعدها، غاية المنتهى: 103/3.(9/454)
غير العربية، ومن الكناية قوله: بعتك نفسك بكذا، فقالت: اشتريت، والصريح عند الشافعية لفظ الخلع والمفاداة، وعند الحنابلة لفظ الخلع والمفاداة والفسخ، والكناية عند الشافعية مثل لفظ الفسخ في الأصح، وكل كنايات الطلاق، والكناية عند الحنابلة: مثل بارأتك وأبرأتك وأبنتك.
حكمه الشرعي: يسن عند الحنابلة للرجل إجابة المرأة للخلع إن طلبته (1) ، لقصة امرأة ثابت ابن قيس المتقدمة، إلا أن يكون للزوج ميل ومحبة لها، فيستحب صبرها، وعدم افتدائها. ويكره الخلع للمرأة مع استقامة الحال , لحديث ثوبان: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس , فحرام عليها رائحة الجنة (2) » ولأنه عبث , فيكون مكروهاً. لكن يقع الخلع مع الكراهة للآية السابقة: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] .
وذكر الحنفية: أنه إن كان النشوز (النفرة والجفاء) من قبل الزوج، كره له أن يأخذ منها عوضاً؛ لأنه أوحشها بالاستبدال، فلا يزيد في وحشتها بأخذ المال. وإن كان النشوز من قبل الزوجة، كره له أن يأخذ منها عوضاً أكثر مما أعطاها من المهر، فإن فعل ذلك بأن أخذ أكثر مما أعطاها، جاز في القضاء؛ لإطلاق قوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:228/2] .
وذكر الحنابلة (3) أن الخلع باطل والعوض مردود والزوجية بحالها في حالة العضل أو الإكراه
__________
(1) كشاف القناع: 237/5.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي.
(3) كشاف القناع: 238/5، المغني: 53/7 وما بعدها.(9/455)
على الخلع، بأن ضارَّها بالضرب والتضييق عليها، أو منعها حقوقها من الق والنفقة ونحو ذلك، كما لو نقصها شيئاً من حقوقها ظلماً، لتفتدي نفسها، لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء:4/19] ، ولأن ما أكرهت على بذله من العوض مأخوذ بغير حق، فلم يستحق أخذه منها للنهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وذلك باسء لفظ الطلاق أونيته، فيقع رجعياً، ولم تبِن المرأة من زوجها لفساد العوض.
وكذلك قال الشافعية (1) : يجوز الخلع لما فيه من دفع الضرر عن المرأة غالباً، ولكنه مكروه لما فيه من قطع النكاح الذي هو مطلوب الشرع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وذلك إلا في حالتين:
الأولى ـ أن يخافا أو يخاف أحدهما ألا يقيما حدود الله، أي ما افترض الله في النكاح.
والثانية ـ أن يحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء لا بد له منه، أي كالأكل والشرب وقضاء الحاجة، فيخلعها، ثم يفعل الأمر المحلوف عليه، ثم يتزوجها فلا يحنث لانحلال اليمين بالفعلة الأولى، إذ لا يتناول إلا الفعلة الأولى، وقد حصلت.
والخلع عند المالكية على المشهور جائز مستوي الطرفين، وقيل: يكره، وهو قول ابن القصَّار، واشترطوا أن يكون خلع المرأة اختياراً منها وحباً في فراق الزوج من غير إكراه ولا ضرر منه، فإن انخرم أحد هذين الشرطين، نفذ الطلاق، ولم ينفذ الخلع (2) .
ومنع قوم الخلع مطلقاً. وقال الحسن البصري: لا يجوز حتى يراها تزني.
وقال داود الظاهري: لا يجوز إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله.
__________
(1) مغني المحتاج: 262/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 232، بداية المجتهد: 68/2، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 517/2.(9/456)
هل يحتاج الخلع إلى قاضٍ؟ لا يفتقر الخلع إلى حاكم، كما أبان الحنابلة (1) ، وهو رأي باقي الفقهاء، لقول عمر وعثمان رضي الله عنهما، ولأنه معاوضة، فلم يفتقر إلى القاضي كالبيع والنكاح، ولأنه قطع عقد بالتراضي، فأشبه الإقالة.
وقت الخلع: لا بأس بالخلع في الحيض، والطهر الذي أصابها فيه (2) ؛ لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل دفع الضرر الذي يلحق المرأة بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وهو أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، وهي قد رضيت به، مما يدل على رجحان مصلحتها، ولذا لم يسأل النبي صلّى الله عليه وسلم المختلعة عن حالها.
أركان الخلع: أركانه عند الجمهور غير الحنفية خمسة (3) : القابل، والموجب، والعوض، والمعوض، والصيغة. فالقابل: الملتزم بالعوض، والموجب: الزوج أو وليه أو وكيله، والعوض: الشيء المخالع به، والمعوض: بُضْع الزوجة، أي الاستمتاع بها، والصيغة: مثل خالعتك أو خلعتك على كذا.
وحقيقة الخلع أو تحقق معناه هو المتضمن لتلك الأركان، فلا بد له من هذه الأمور الخمسة (4) :
الأول ـ أن يصدر الإيجاب من الزوج أو وكيله أو وليه إن كان صغيراً أو سفيهاً غير رشيد.
الثاني ـ أن يكون ملك المتعة قائماً حتى يمكن إزالته، وذلك بقيام الزوجية حقيقة، أو حكماً كما هو حال المطلقة رجعياً ولا تزال في العدة. فإن لم تكن الزوجية قائمة حقيقة أو حكماً، لم يتحقق الخلع، فلا خلع في النكاح الفاسد؛ لأن الفاسد لا يفيد ملك المتعة، ولا خلع بعد الطلاق البائن أو انتهاء عدة الطلاق الرجعي.
__________
(1) المغني: 52/7.
(2) المرجع السابق، المهذب: 71/2.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 517/2، مغني المحتاج: 363/3، المغني: 67/7، كشاف القناع: 244/5.
(4) الأحوال الشخصية للأستاذ الشيخ عبد الرحمن تاج: ص 344.(9/457)
الثالث ـ البدل من جانب الزوجة أو غيرها: وهو كل ما يصلح أن يكون مهراً من مال أو منفعة تقوم بالمال، غير أنه ليس لبدل الخلع حد أدنى بخلاف المهر، فيتحقق الخلع بأي بدل كثير أو قليل. ويستحب ألا يأخذ الرجل أكثر مما أعطى المرأة من الصداق عند أكثر العلماء (1) .
ولا يلزم التصريح بالبدل، كما لا يلزم ذكر المهر في عقد الزواج، فالبدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال عند الحنفية والشافعية، فإذا قال الرجل: خالعتك، أو قال للمرأة: اختلعي مني، فقال: خالعتك، ولم يذكر أحدهما بدلاً، صح الخلع ولزم العوض. وقال المالكية وفي رواية عند الحنابلة: يقع الخلع بغير عوض. والراجح عند الحنابلة: أن العوض ركن في الخلع، فإن خالعها بغير عوض لم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق، فيكون طلاقاً رجعياً.
فإن استعمل الرجل أو المرأة لفظ المخالعة من غير قصد إلى الخلع بعوض، بل بقصد الطلاق المجرد، فيقع طلاق بائن، ولا يجب فيه مال على المرأة.
الرابع ـ الصيغة: وهي لفظ الخلع أو ما في معناه مما ذكر كالإبراء والمبارأة والفداء والافتداء، سواء أكان صريحاً أم كناية، فلا بد من صيغة معينة ومن لفظ الزوج، ولا يحصل بمجرد بذل المال؛ لأن الخلع الشرعي له آثار تختلف عن آثار الطلاق على مال. ولأنه تصرف في البضع (الاستمتاع بالمرأة) بعوض، فلم يصح بدون اللفظ كالنكاح والطلاق.
الخامس ـ قبول الزوجة: لأن الخلع من جانبها معاوضة، وكل معاوضة يلزم فيها قبول دافع العوض، ويلزم تحقق القبول في مجلس الإيجاب أو مجلس العلم به، فإذا قامت الزوجة من المجلس بعد سماع كلمةالمخالعة، أو بعد ما علمت بها من طريق الكتابة، فلا يصح قبولها بعدئذ.
ويشترط توافق القبول والإيجاب، فإن قال الزوج: طلقتك بألف، فقالت: بثمانمائة، أو قال: طلقتك ثلاثاً بألف، فقبلت طلقة واحدة بثلت ألف، لم ينعقد الخلع ويعد لغواً، وكذا يعد لغواً عند الشافعية (2) : إن قال: طلقتك بألف، فقالت: قبلت بألفين؛ لأنه يشترط عنده التطابق أو التوافق التام بين الإيجاب والقبول.
وهذا وقد اعتبر الحنفية ركن الخلع هو الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد على الطلاق بعوض، فلا تقع الفرقة ولا يستحق العوض بدون القبول (3) .
__________
(1) المغني: المكان السابق.
(2) مغني المحتاج: 269/3.
(3) البدائع: 145/3.(9/458)
المبحث الثاني ـ صفة الخلع وما يترتب عليها:
الخلع في رأي المالكية والشافعية والحنابلة (1) معاوضة، فلا يحتاج لصحته قبض العوض، فلو تم من قبل الزوج، فماتت المرأة أو فلَّست، أخذ العوض من تركتها وأتبعت به، ويجوز رد العوض فيه بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت فيه الرد بالعيب كالمبيع والمهر، ويصح الخلع منجزاً بلفظ المعاوضة، لما فيه من معنى المعاوضة، ويصح معلقاً على شرط لما فيه من معنى الطلاق، ويملك العوض بالعقد، ويضمن بالقبض، لكن فصل الحنابلة في الضمان، فقالوا: العوض في الخلع كالعوض في الصداق والبيع: إن كان مكيلاً أو موزوناً، لم يدخل في ضمان الزوج، ولم يملك التصرف فيه إلا بقبضه، وإن كان غيرهما دخل في ضمانه بمجرد الخلع وصح تصرفه فيه.
إلا أن الشافعية قالوا: الخلع معاوضة فيها شَوْب تعليق، لتوقف وقوع الطلاق فيه على قبول دفع المال من الزوجة.
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 518/2، 531، مغني المحتاج: 269/3، المهذب: 72/2-73، المغني: 58/7، 66.(9/459)
وذهب أبو حنيفة (1) إلى أن الخلع قبل قبول المرأة يمين من جانب الزوج فلا يصح الرجوع عنه؛ لأنه علق طلاقه على قبول المال، والتعليق يمين اصطلاحاً. ويعتبر معاوضة بمال من جانب الزوجة؛ لأنها التزمت بالمال في مقابل افتداء نفسها وخلاصها من الزوج، لكنها عند أبي حنيفة ليست معاوضة محضة، بل فيها شبه بالتبرعات؛ لأن بديل العوض ليس مالاً شرعاً، وإنما هو افتداء المرأة نفسها، فلا يكون الخلع معاوضة محضة. وقال الصاحبان: الخلع يمين بالنظر إلى الزوجين جميعاً.
ويترتب على اعتبار الخلع يميناً من جانب الزوج الآثار التالية:
1ً - لا يصح رجوع الزوج عنه قبل قبول المرأة.
2ً - لا يقتصر إيجاب الزوج على مجلسه، فلو قام من المجلس قبل قبول الزوجة لا يبطل إيجابه بهذا القيام.
3ً - لا يصح للزوج أن يشترط الخيار لنفسه في مدة معلومة؛ لأنه لا يملك الرجوع عن الخلع، لأنه يمين من جانبه، فإذا اشترط الخيار كان الشرط باطلاً، ولكن لا يبطل الخلع به.
4ً - يجوز للزوج أن يعلق الخلع بشرط، وأن يضيفه إلى زمن مستقبل، مثل: إذا قدم فلان فقد خالعتك على كذا، أو خالعتك على كذا غداً أورأس الشهر القادم، والقبول للزوجة عند تحقق الشرط، أو حلول الوقت المضاف إليه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 768/2-769، البدائع: 145/3.(9/460)
ومذهب الحنابلة (1) : لا يصح تعليق الخلع على شرط، ومذهب المالكية والشافعية: يجوز تعليق الخلع كأن يقول: متى ما أعطيتني فأنت طالق.
ويترتب على اعتبار الخلع معاوضة لها شبه بالتبرعات من جانب الزوجة ما يأتي:
1ً - يصح للزوجة رجوعها عن الإيجاب إذا ابتدأت الخلع قبل قبول الزوج.
2ً - يقتصر قبول الزوجة في المجلس إن كانت حاضرة فيه، وفي مجلس علمها بالخلع إن كانت غائبة عن مجلس الإيجاب كالبيع. ولا يشترط حضور المرأة في المجلس، بل يتوقف الإيجاب على ما وراء المجلس بعكس عقد الزواج، فلو كانت غائبة فبلغها الخبر، فلها القبول في مجلس علمها به؛ لأنه في جانبها معاوضة.
3ً- يجوز للزوجة أن تشترط الخيار لنفسها في مدة معلومة يكون لها فيها الحق في القبول أو الرد، إذا ابتدأت الخلع، كأن تقول لزوجها: خالعتك على ألف على أن لي الخيار ثلاثة أيام، فإذا قبل الزوج صح الشرط، ولها أن تقبل أو ترفض؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة، والمعاوضات يصح فيها اشتراط الخيار.
وقال الصاحبان والحنابلة (2) : لا يصح اشتراط الخيار للزوجة؛ لأن الفرقة عند الحنابلة وقعت بالتلفظ بالخلع، وما وقع لا سبيل إلى رفعه، ولأن الخلع يمين الصاحبين بالنظر إلى الزوجين جميعاً، وليس معاوضة من جانب الزوجة، وإذا اشترط صح الخلع وبطل الشرط؛ لأنه لا يفسد بالعوض الفاسد، فلا يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح.
4ً - لا يصح للزوجة تعليق الخلع ولا إضافته إلى زمن مستقبل؛ لأن الخلع من جانبها معاوضة وتمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق ولا الإضافة.
5ً - لا تلزم الزوجة ببدل الخلع إلاإذا كانت أهلاً للتبرع، بأن كانت بالغة عاقلة رشيدة؛ لأن الخلع وإن اعتبر معاوضة من جانب الزوجة، ففيه شبه بالتبرعات.
وأخذ القانون السوري برأي المالكية والشافعية، فأجاز لكل من الزوجين الرجوع عن الإيجاب في المخالعة قبل قبول الآخر، نصت المادة (96) على أنه: «لكل من الطرفين الرجوع عن إيجابه في المخالعة قبل قبول الآخر» .
__________
(1) كشاف القناع: 243/5.
(2) المرجع السابق، المغني: 60/7.(9/461)
المبحث الثالث ـ شروط الخلع:
يشترط في الخلع ما يأتي (1) :
1ً - أهلية الزوج لإيقاع الطلاق: بأن يكون بالغاً عاقلاً في رأي الجمهور، وأجاز الحنابلة أن يكون مميزاً يعقله، فكل من لا يصح طلاقه لا يصح خلعه كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن.
خلع السفيه: يصح الطلاق من كل مكلف (بالغ عاقل) ، رشيد (2) أو سفيه، حر أو عبد؛ لأن كل واحد منهم يصح طلاقه، فيصح خلعه، ولأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض، فبالعوض أولى. ولا يصح من غير الزوج أو وكيله.
خلع الولي: يصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة.
ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها، وهكذا كل من لا يجوز له أن يطلِّق على الصغير والمجنون لا يجوز أن يخالع عليهما، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» والخلع في معنى الطلاق.
وقال مالك: يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة؛ لأنه عنده يطلِّق على الابن، ويزوج الصغيرة.
__________
(1) البدائع: 147/3-149، الدر المختار ورد المحتار: 772/2-774، و 782-785، فتح القدير: 205/3-208، 218، اللباب: 65/3، الشرح الصغير: 519/2، 520، 524، 526-530، بداية المجتهد: 67/2-69، القوانين الفقهية: ص 232، مغني المحتاج: 263/3-267، غاية المنتهى: 103/3-105، كشاف القناع: 238/5-239، 244-251، المغني: 52/7-53، 61-66، 73، 83-89، الشرح الكبير مع الدسوقي: 348/2-350، المهذب: 71/2-74.
(2) الرشد عند الحنفية: كون الشخص مصلحاً في ماله، ولو كان فاسقاً، والحجر بالسفه يفتقر عند أبي يوسف إلى القضاء كالحجر بالدين.(9/462)
خلع المريض: يصح خلع المريض مرض الموت؛ لأنه لو طلق بغير عوض لصح، فلأن يصح بعوض أولى، ولأن الورثة لا يفوتهم بخلعه شيء. وعبر المالكية عن ذلك بقولهم: ونفذ خلع المريض مرضاً مخوفاً، إشارة إلى أنه لا يحرم ابتداء لما فيه من إخراج وارث. وترثه على المشهور زوجته المخالعة في مرضه إن مات منه ككل مطلَّقة بمرض موت مخوف، حتى ولو انتهت عدتها وتزوجت بغيره، ولا يرثها هو إن ماتت في مرضه قبله، ولو كانت مريضة حال الخلع أيضاً؛ لأنه هو الذي أسقط ما كان يستحقه.
التوكيل في الخلع: يصح لكل من الزوجين أو من أحدهما التوكيل في الخلع، وكل من صح خلعه لنفسه جاز توكيله ووكالته، حراً كان أو عبداً، ذكراً أو أنثى، مسلما ًأو كافراً، محجوراً عليه لسفه أو رشيداً؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يوجب الخلع، فصح أن يكون وكيلاً وموكِّلاً فيه كالحر الرشيد، ولأن الخلع عقد معاوضة كالبيع. وإذا نقص الوكيل عما عينه له الموكل، كأن قال له: وكلتك على أن تخالعها بعشرة، فخالعها بخمسة، أو نقص الوكيل عن خلع المثل إن أطلق الموكل ولم يعين له شيئاً، لم يلزم الموكل بالخلع.
وإذا وكلت الزوجة وكيلاً ليخالعها، وعينت له شيئاً، أو أطلقت العبارة، وزاد وكيلها على ما عينت، أو على خلع المثل أن أطلقت، فعليه الزيادة. ولا يطالب الوكيل بالخلع بالبدل إلا إذا ضمنه، ويرجع به على المرأة.
خلع الفضولي: أجاز الحنفية والحنابلة الخلع من الفضولي، فإذا خاطب الفضولي الزوج بالخلع، فإن أضاف البدل إلى نفسه على وجه يفيد ضمانه له أو ملكه إياه، كاخلعها بألف علي، أو على أني ضامن، أو على ألفي هذه، ففعل، صح، والبدل عليه، فإن استحق البدل لزم الفضولي قيمته، ولا يتوقف الخلع حينئذ علي قبول المرأة.
وإن لم يضمن الفضولي البدل وأرسل الكلام، فقال: على ألف، فإن قبلت المرأة، لزمها تسليمه، أو قيمته إن عجزت.
وإن أضاف الفضولي البدل إلى غيره كفرس فلان، اعتبر قبول فلان هذا.(9/463)
2ً - كون الزوجة محل الخلع وقابلته ممن عقد عليها عقد زواج صحيح، سواء أكانت مدخولاً بها، أم لا، ولو كانت مطلقة رجعياً ما دامت في العدة، وأن تكون ممن يصح تبرعها أو يطلق تصرفها في المال، بكونها مكلفة (بالغة عاقلة) غير محجور عليها، وأسباب الحجر خمسة: الرق والسفه والمرض والصبا والجنون، فلا يصح خلع الأمة إلا بإذن سيدها، ولا السفيهة اتفاقاً، ولا المريضة عند الشافعية والحنابلة لعدم صحة تصرفهما بالمال، ولا الصغيرة والمجنونة لانتفاء أهلية القبول. ولو اختلعت الأمة من زوجها على عوض بغير إذن سيدها، وقع الطلاق بائناً، ولا شيء عليها عند الحنفية والحنابلة والمالكية حتى تعتق.
وكذا عند الشافعية يطالبها بالعوض بعد العتق، لكن يستقر للزوج في ذمتها مهر المثل. وإذا كان الخلع بإذن السيد تعلق العوض في ذمته، كما لو أذن لعبده في الاستدانة.
وليس للأب وغيره من الأولياء خلع ابنته الصغيرة أو المجنونة أو السفيهة بشيء من مالها، ولا طلاقها بشيء من مالها؛ لأنه إنما يملك التصرف بما لها فيه حظ ومصلحة، وليس في هذا مصلحة، بل فيه إسقاط حقها الواجب لها.
وعلى هذا لا يصح خلع المحجور عليه لسفه أو صغر أو جنون لا بنفسها ولا بوليها ولا بإذنه، لأن الخلع تصرف في المال، وليست هي من أّهله، ولأنه ليس للولي الإذن في التبرعات، وهذا كالتبرع.
فإن خالع الزوج المحجور عليها بلفظ يكون طلاقاً، فهو طلاق رجعي، ولا يستحق عوضاً.
وقال الحنفية: يصح خلع المريضة، ولو اختلعت في مرضها فهو من الثلث؛ لأنها متبرعة في قبول المال، فيعتبر من الثلث، فإن ماتت في العدة، فله الأقل من بدل الخلع ومن ميراثه منها.(9/464)
وقال المالكية: يحرم اختلاع المريضة مرض الموت، فيحرم عليها أن تخالع، كما يحرم الخلع على الزوج لإعانته لها على الحرام. لكن ينفذ الطلاق، ولا توارث بينهما إن كان الزوج صحيحاً، ولو ماتت في عدتها. أما لو كان الزوج مريضاً وخالع زوجته، ومات في مرضه، فترثه زوجته المخالعة، حتى ولو انقضت عدتها وتزوجت بغيره. ولا يرثها هو إن ماتت في مرضه قبله، حتى ولو كانت مريضة حال الخلع؛ لأنه هو الذي أسقط ما كان يستحقه، ككل مطلقة بمرض موت مخوف، فإنها ترثه إن مات من ذلك المرض، دون أن يرثها.
وقال الشافعية: إن خالعت الزوجة في مرض موتها وماتت: فإن لم يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال، أي من جميع التركة، وإن زاد على مهر المثل، اعتبرت الزيادة من الثلث.
ويصح بالاتفاق خلع المحجور عليها لفلس، وبذلها للعوض صحيح؛ لأن لها ذمة يصح تصرفها، ويرجع عليها بالعوض إذا أيسرت وفك الحجر عنها، وليس للزوج مطالبتها في حال حجرها، كما لو استدانت منه أو باعها شيئاً في ذمتها.
3ً - أن يكون بدل الخلع مما يصلح أن يكون مهراً.
وهو عند الحنفية: أن يكون مالاً متقوماً موجوداً وقت الخلع معلوماً أو مجهولاً أو منفعة تقوم بالمال، فلا يصح خلع المسلمة على خمر أو خنزير أو ميتة أو دم، ويبطل العوض، ولا شيء للزوج، وتكون الفرقة طلاقاً بائناً؛ لأنه لما بطل العوض بقي لفظ الخلع، وهو كناية، وتقع الفرقة بالكنايات بينونة، أما لو كان الطلاق على مال، وبطل العوض كان طلاقاً رجعياً، لأنه بقي لفظ الطلاق، وهو صريح، والصريح طلاق رجعي.(9/465)
والبدل عند الجمهور: كل ما يصح تملكه، سواء أكان مالاً عيناً، أم ديناً، أم منفعة، تحرزاً من الخمر والخنزير وما أشبه ذلك. فإن خالعها بمحرم كخمر أو خنزير أو مغصوب أو مسروق، فلا شيء له عليها وبانت منه عند المالكية والحنابلة كما قرر الحنفية، ويكون كالخلع بلا عوض، لأنه قد رضي بالإسقاط بغير عوض، فلا يستحق عليها شيئاً. وذكر الشافعية: أنه لو خالع بمجهول أو حرام، بانت منه بمهر المثل؛ لأنه المراد عند فساد العوض. ولو خالع بما ليس بمال كالدم، وقع الطلاق رجعياً؛ لأنه لم يطمع في شيء. وأما خلع الكفار بعوض غير مال فهو صحيح كما في أنكحتهم.
الخلع بمعدوم أو بمجهول: يصح الخلع عند الجمهور غير الشافعية إذا كان عوض الخلع مشتملاً على غرر أو معدوم ينتظر وجوده كجنين في بطن حيوان تملكه الزوجة، أو كان مجهولاً كأحد فرسين، أو غيرموصوف من عرض أو حيوان وثمرة لم يبد صلاحها، وعبد آبق، وبعير شارد، أو مضافاً لأجل مجهول، خلافاً لمهر النكاح، فليس كل ما يصلح عوضاً في الخلع، يصلح عوضاً في النكاح؛ لأن الخلع مبني على التوسع والتسامح، فيتحمل جهالة ونحوها لا يتحملها النكاح، ويصح الخلع على ما لا يصح مهراً بجهالة أو غرر.
وفرَّع الحنفية على قولهم بجواز جهالة عوض الخلع ولو جهالة فاحشة ما يأتي:
أـ إن قالت الزوجة لزوجها: (خالعني على ما في يدي) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، فلا شيء له عليها؛ لأنها لم تغرَّه بتسمية المال.(9/466)
ب ـ وإن قالت له: (خالعني على ما في يدي من مال) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، ردت عليه مهرها؛ لأنها سمت مالاً لم يكن الزوج راضياً بالزوال إلا بالعوض، ولا وجه لإيجاب ما سمته المرأة من المال في يدها لجهالته، ولا لإيجاب مهر المثل؛ لأن البضع الذي يجب مهر المثل من أجله غير متقوم حالة الخروج من الملك بالخلع ونحوه، أما في حالة الدخول بعقد النكاح فهو متقوم، فتعين إيجاب ماقام به البضع على الزوج وهو المهر دفعاً للضرر عنه. جـ ـ وإن قالت له (خالعني على ما في يدي من دراهم) ولم يكن في يدها شيء، فخالعها، فعليها ثلاثة دراهم؛ لأنها سمت جمعاً من الدراهم، وأقل الجمع ثلاثة، ووافقهم الحنابلة (1) فيه.
د ـ وإن قالت له: (طلقني ثلاثاً بألف) فطلقها واحدة، فعليها ثلث الألف؛ لأن حرف الباء يَصْحَب الأعواض، والعوض ينقسم على المعوض، فهي لما طلبت الثلاث بألف، فقد طلبت كل واحدة بثلث الألف. والطلاق بائن لوجوب المال.
أما لو قالت: (طلقني ثلاثاً على ألف) فطلقها واحدة، فلا شيء عليها عند أبي حنيفة، وتقع طلقة رجعية؛ لأن كلمة (على) للشرط، والمشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط، بخلاف الباء، لأنه للعوض، وهذا هو الصحيح عند الحنفية. وقال الصاحبان والشافعية (2) : عليها ثلث الألف، وتقع طلقة بائنة؛ لأن كلمة (على) بمنزلة الباء في المعاوضات.
ولو قال الزوج لزوجته: (طلقي نفسك ثلاثاً بألف، أو على ألف) فطلقت نفسها واحدة، لم يقع عليها شيء؛ لأن الزوج مارضي بالبينونة إلا لتسلم له الألف كلها. وذلك بخلاف الحالة السابقة: (طلقني ثلاثاً بألف) ؛ لأنها لما رضيت بالبينونة بألف، كانت ببعضها أرضى.
وأما الشافعية فقالوا: يشترط في عوض الخلع شروط الثمن من كونه متمولاً، معلوماً، مقدوراً على تسليمه، فلو خالع بمجهول أو خمر معلومة، أو نحوها، مما لا يتملك، بانت بمهر المثل؛ لأنه المراد عند فساد العقد، كما تقدم.
__________
(1) المغني: 61/7.
(2) المهذب: 75/2.(9/467)
مجمل شروط الخلع في بعض المذاهب: ذهب المالكية (1) إلى أنه لا يجوز الخلع إلا بثلاثة شروط:
الأول ـ أن يكون المبذول للرجل مما يصح تملكه وبيعه تحرزاً من الخمر والخنزير ونحوهما. ويصح عندهم بالمجهول والغرر، كما أوضحت.
الثاني ـ ألا يجر إلى ما لا يجوز كالخلع على السلف أو التأخير بدين أو الوضع على التعجيل، وشبه ذلك من أنواع الربا المذكورة في بحث الربا، فلا يصح الخلع مقابل التأخير في وفاء دين عليه، وقد حل أجله؛ فإنه لا شيء له عليها؛ لأن تأخير الحالّ سلف (2) ، وقد جر لها نفعاً، وهو خلاص عصمتها منه، وتأخذ الدين منه حاّلاً.
ولا يصح أيضاً الخلع مقابل تعجيل دين مؤجل لها من بيع، ويبقى إلى أجله، وبانت منه؛ لأن التعجيل مقابل حل العصمة. فإن كان الدين من قرض، وجب عليها قبول التعجيل قبل الأجل، مثل الشيء المعين (العين) لأن الأجل في العين حق لمن هي عليه.
الثالث ـ أن يكون خلع المرأة اختياراً منها وحباً في فراق الزوج من غير إكراه ولا ضرر منه بها. فإن انخرم أحد هذين الشرطين نفذ الطلاق ولم ينفذ الخلع.
ومذهب الحنابلة (3) أن شروط الخلع تسع:
1 - بذل عوض. 2 - ممن يصح تبرعه، وزوج يصح طلاقه. 3 - غير هازلين. 4 - عدم عضلها إن بذلته. 5 - وقوعه بصيغته الصريحة أوالكناية، والأولى: خلعت وفسخت وفاديت، والثانية: بارأتك، وأبرأتك، وأبنتك. 6 - عدم نيته طلاقاً. 7 - تنجيز. 8 - وقوعه على جميع الزوجة. 9 - عدم الحيلة، فيحرم الخلع حيلة لإسقاط يمين الطلاق أو تعليقه ولا يصح.
شروط الخلع في القانون السوري:
نصت المادة (95) من هذا القانون على أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق والزوجة محلاً للطلاق:
«1ً - يشترط لصحة المخالعة أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق والمرأة محلاً له.
2ً - المرأة التي لم تبلغ سن الرشد إذا خولعت لا تلتزم ببدل الخلع إلا بموافقة ولي المال» . وهذه الفقرة الثانية هي من مذهب المالكية.
ونصت المادة (96) على صفة الخلع أخذاً بمذهبي المالكية والشافعية في كون الخلع معاوضة:
«لكل من الطرفين الرجوع عن إيجابه في المخالعة قبل قبول الآخر» ونصت المادة (97) على بدل الخلع: وهو كل ما جاز أن يكون مهراً بالاتفاق:
«كل ما صح التزامه شرعاً، صلح أن يكون بدلاً في الخلع» .
ونصت المادة (100) على حالة الخلع من غير بدل أخذاً بمذهبي المالكية والحنابلة:
«إذا صرح المتخالعان بنفي البدل، كانت المخالعة في حكم الطلاق المحض، وقع بها طلقة رجعية» .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 232، الشرح الصغير: 524/2.
(2) أي لأن من أخر ما عجل يعد سلفاً.
(3) غاية المنتهى: 103/3 وما بعدها، 110.(9/468)
المبحث الرابع ـ حكم أخذ بدل الخلع، والخلع في مقابل بعض المنافع والحقوق، والفرق بين الخلع والطلاق على مال:
يتبع بحث اشتراط بدل الخلع الكلام في مواضع ثلاثة: حكم أخذ بدل الخلع، والخلع في مقابل منفعة أو حق، والفرق بين الخلع والطلاق على مال.
حكم أخذ بدل الخلع:
بحث الفقهاء مبدأ مشروعية أخذ البدل في مقابل الخلع أو الطلاق على التفصيل التالي (1) :
1ً - إن كانت الزوجة كارهة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة، وخافت ألا تؤدي حقه، جاز للزوج مخالعتها وأخذ عوض في نظير طلاقها، لكن يكره عند الحنفية أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أتردين إليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال صلّى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا» (2) . وهذا قول عطاء وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب.
وأجاز الجمهور أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ما دام النشوز من جهتها، لكن لا يستحب له ذلك، لقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله، فلا جناح عليهما
__________
(1) البدائع: 150/3 وما بعدها، فتح القدير: 203/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 232، المهذب: 70/2 وما بعدها، المغني: 52/7-55، بداية المجتهد: 68/2.
(2) رواه أبو داود مرسلاً عن عطاء، وأخرجه الدارقطني عن أبي الزبير، وفي رواية ابن ماجه عن ابن عباس: «فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد» (نصب الراية 244/3، نيل الأوطار: 246/6) .(9/469)
فيما افتدت به} [البقرة:229/2] فإنه تعالى نفى الإثم في أخذ الرجل من الزوجة مقابل طلاقها، قليلاً كان أو كثيراً. والنهي عن الزيادة في حديث ثابت محمول على خلاف الأولى.
ويروى عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص (1) رأسها، كان ذلك جائزاً» وقالت الرُبيِّع بنت مُعَوِّذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه (2) . ولم يخالفه أحد من الصحابة، واشتهر هذا، فلم ينكر، فيكون إجماعاً، ولم يصح عن علي رضي الله عنه خلافه.
2ً - إن كان النفور والإعراض من جانب الزوج، يكره باتفاق العلماء، لقوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء:20/4] .
ومثل هذا: لو أكره الزوج الزوجة أو اضطرها إلى طلب الخلع، فضيق عليها، وعاشرها معاشرة سيئة ليحملها على الطلاق، فلا يحل له أخذ شيء منها عند الحنفية والحنابلة والشافعية لقوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:231/2] وقوله سبحانه: {ولا تعضُلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء:4/19] هذا يدل على تحريم المخالعة لغير حاجة، ولأنه إضرار بها، والضرر حرام، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» .
وكذلك قال المالكية: لا يحل له أخذ شيء من الزوجة في حالة الإضرار، ولو أخذ شيئاً وجب عليه أن يرده إليها.
__________
(1) العقاص: هو الخيط الذي تربط به المرأة أطراف شعرها.
(2) أخرجه ابن سعد.(9/470)
3ً - وإن كان الكره من الجانبين، وخشيا التقصير أو التفريط في حقوق الزوجية، جاز الخلع وجاز أخذ البدل اتفاقاً، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/2] .
الخلع في مقابل بعض المنافع والحقوق:
يصح أن يكون بدل الخلع من النقود، أو من المنافع المقومة بمال، كسكنى الدار وزراعة الأرض زمناً معلوماً، وكإرضاع ولدها أو حضانته أو الإنفاق عليه، أو من الحقوق كإسقاط نفقة العدة.
الخلع على الرضاع:
يصح الخلع على أن ترضع ولدها مدة الرضاع الواجب وهو سنتان؛ لأن الرضاع مما تصح المعاوضة عنه في غير الخلع، ففي الخلع أولى.
ويصح الخلع أيضاً عند الحنابلة (1) على إرضاع ولده مطلقاً دون تحديد مدة، وينصرف إلى ما بقي من الحولين؛ لأن الله تعالى قيَّد الرضاع بالحولين، فقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا رضاع بعد فصال» (2) .
فإن ماتت المرضعة أو جف لبنها، فعليها أجر المثل لما بقي من المدة. وكذا عند الحنابلة إن مات الولد، وينفسخ الاتفاق بتلفه، وقال الشافعي: لا ينفسخ الاتفاق، ويأتيها بصبي ترضعه مكانه؛ لأن الصبي مستوفى به، لا معقوداً عليه.
__________
(1) المغني: 64/7.
(2) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن جابر، وتتمته: «ولا يُتْم بعد احتلام» (نيل الأوطار: 315/6) .(9/471)
الخلع على الحضانة أو كفالة الولد مدة معلومة:
يصح الخلع أيضاً على أن تحضن ولده مدة معلومة بلا أجر، وقال الشافعي: لا يصح الاتفاق حتى يذكر مدة الرضاع وقدر الطعام وجنسه، وقدر الإدام وجنسه ويكون المبلغ معلوماً مضبوطاً بالصفة كالمسلم فيه (1) .
ومبنى الخلاف مسألة استئجار الأجير بطعامه وكسوته، الشافعية يوجبون تعيين الأجرة، لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يُبيِّن له أجره» (2) .
ولم يوجب الجمهور تعيين الأجر للعرف واستحسان المسلمين، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن موسى أجَر نفسه ثمانَ سنين أو عشر سنين على عِفَّة فرجه، وطعام بطنه» (3) .
فلو تركت المرأة الولد وهربت أو مات الولد أو ماتت هي، وجب عليها أجر المثل عن المدة الباقية.
الخلع على بقاء الولد إلى البلوغ: إذا خالعت المرأة زوجها على أن يبقى ابنه عندها إلى البلوغ صح الخلع ولم يصح الشرط عند الحنفية؛ لأن الحق في الابن بعد انتهاء مدة الحضانة للأب، لا للأم. أما إن خالعت على إبقاء ابنتها منه إلى البلوغ، فيصح الخلع والشرط، والفرق بين الحالتين: أن الابن أحوج لأبيه بعد الحضانة وأقدر على تربيته من الأم، والبنت أحوج إلى تدريب أمهاوتعليمها وأقدر على ذلك من الأب.
وأجاز المالكية اشتراط بقاء الابن مع الأم إلى البلوغ؛ لأن مدة حضانة الابن عندهم إلى البلوغ، والبنت إلى أن تتزوج ويدخل الزوج بها.
الخلع على إسقاط الحضانة: أما الخلع على إسقاط حق الحضانة: فيصح عند الحنفية، ولا يسقط حق الأم في الحضانة؛ لأن هذا الحق للولد، فلا تملك الأم التنازل عنه.
وأجاز المالكية في مشهور المذهب إسقاط الحضانة بالخلع وانتقالها إلى الأب بشرطين:
الأول ـ ألا يلحق الولد ضرر من مفارقة أمه.
الثاني ـ أن يكون الأب قادراً على حضانة الولد.
لكن المفتى به عند المالكية: أن الحضانه لا تنتقل بإسقاط الأم إلى الأب، ولكنها تنتقل إلى من يلي
__________
(1) المغني: 65/7.
(2) رواه أحمد (نيل الأوطار: 292/5) .
(3) رواه أحمد وابن ماجه عن عُتْبة بن النُّدَّر (نيل الأوطار: 292/5) .(9/472)
الأم في حق الحضانة (1) .
الخلع على نفقة الصغير:
يرى الحنفية والمالكية (2) أنه لو خالع الزوج امرأته على أن تنفق على ابنه الصغير مدة معلومة، صح الخلع: ولزمها الإنفاق في تلك المدة، فإن امتنعت، أو ماتت، أو مات الولد قبل انتهاء المدة، وجب عليها نفقة المثل في باقي المدة، وتؤخذ من تركتها في موتها.
وإن أعسرت أنفق الزوج عليها، ويرجع بالنفقة إن أيسرت. لكن قال المالكية: إن خالعها على أن تتحمل نفقة نفسهامدة حملها، لا تسقط في الأصح نفقة الحمل.
الخلع مقابل الإبراء من نفقة العدة:
يصح الخلع في مقابل إبراء المرأة زوجها من نفقة العدة، ويبرأ الزوج منها (3) ، وإن كان الساقط مجهولاً.
ويصح الخلع في مقابل إسقاط حق السكنى مدة العدة، ولا يسقط حقها؛ لأن سكنى المعتدة في بيت الزوجية واجب شرعي، لا تملك الزوجة إسقاطه، ولا تملك الزوجة أن تعفيه منه لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/65] ، لكن إذا التزمت المرأة أن تدفع أجرة البيت من مالها، فيصح لها أن تعفي الزوج من هذه الأجرة.
موقف القانون السوري من الخلع على المنافع أو الحقوق:
نصت المادة (102) على إعفاء الزوج من أجرة الرضاع كما بينت عند الفقهاء:
1 - إذا اشترط في المخالعة إعفاء الزوج من أجرة رضاع الولد، أو اشترط إمساكها له مدة معلومة، وإنفاقها عليه، فتزوجت أو تركت الولد أو ماتت أو مات الولد، يرجع الزوج بما يعادل أجرة رضاع الولد أو نفقته عن المدة الباقية.
2 - إذا كانت الأم معسرة وقت المخالعة، أوأعسرت فيما بعد، يجبر الأب على نفقة الولد، وتكون ديناً له على الأم.
ونصت المادة (103) على عدم سقوط حق الحضانة بالخلع عملاً بمذهب الحنفية:
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير: 349/2، الشرح الصغير: 522/2.
(2) الشرح الصغير: 521/2.
(3) البدائع: 152/3.(9/473)
إذا اشترط الرجل في المخالعة إمساك الولد عنده مدة الحضانة، صحت المخالعة، وبطل الشرط، وكان لحاضنته الشرعية أخذه منه، ويلزم أبوه بنفقته وأجرة حضانته إن كان فقيراً.
ونصت المادة (101) على عدم إسقاط نفقة العدة إلا بالنص الصريح في الخلع:
نفقة العدة لا تسقط، ولا يبرأ الز وج المخالع منها إلا إذا نص عليها صراحة في عقد الخالعة.
ونصت المادة (104) على عدم التقاص بين نفقة الولد ودين الأب:
لا يجري التقاص بين نفقة الولد المستحقة على أبيه ودين الأب على حاضنته.
الفرق بين الخلع والطلاق على المال عند الحنفية:
الخلع والطلاق على مال وإن زال بكل منهما ملك الزواج، وعلى الرغم من أن كل واحد طلاق بعوض، يختلفان من وجوه ثلاثة هي (1) :
الأول ـ لو كان الخلع على عوض باطل شرعاً، بأن وقع على ما ليس بمال متقوم، كخلع المسلمة على خمر أو خنزير أو ميتة، فلا شيء للزوج، ويقع الطلاق بائناً.
أما إذا بطل العوض في الطلاق على مال، بأن سميا ما ليس بمال متقوم، فإن الطلاق يقع رجعياً.
وذلك لأن الخلع كناية عند الحنفية، والكنايات توقع الفرقة بائنة. وأما الطلاق على مال فهو صريح، ويقع بائناً إذا صح العوض شرعاً، فإذا لم يصح فكأنه لم يكن، فبقي صريح الطلاق، فيكون رجعياً، وحينئذ يعمل كل من لفظي الخلع والطلاق المجردين عمله، فلفظ الخلع يكون كناية عن الطلاق، ولفظ الطلاق من أنواع الصريح الذي يقع به طلاق رجعي.
الثاني ـ يسقط بالخلع في رأي أبي حنيفة كل الحقوق الواجبة بسبب الزواج لأحد الزوجين على الآخر، كالمهر والنفقة الماضية المتجمدة أثناء الزواج، لكن لا تسقط نفقة العدة؛ لأنها لم تكن واجبة قبل الخلع، فلا يتصور إسقاطها بالخلع.
__________
(1) البدائع: 151/3-152، فتح القدير: 205/3، الكتاب مع اللباب: 65/3، 67، الفتاوى الهندية: 450/1.(9/474)
أما الطلاق على مال: فلا يسقط به شيء من حقوق الزوجين، ويجب به فقط المال المتفق عليه.
الثالث ـ الخلع مختلف في كونه طلاقاً بائناً أم فسخاً بين الفقهاء، فهو عند الجمهور (الحنفيةوالمالكية، والشافعية في أظهر القولين، وفي رواية عن أحمد) طلاق بائن يحتسب من عدد الطلقات. وفي رواية أخرى عن أحمد: أنه فسخ، فلا ينقص من عدد الطلقات. والمعتمد عند الحنابلة: أن الخلع فسخ بائن، لا ينقص به عدد الطلاق، ولو لم ينو خلعاً (1) .
أما الطلاق على مال: فلا خلاف في كونه طلاقاً بائناً ينقص به عدد الطلقات.
__________
(1) المعتمد في فقه الإمام أحمد: 248/2.(9/475)
المبحث الخامس ـ آثار الخلع (أحكامه) :
يترتب على الخلع الآثار التالية (1) :
1 - يقع به طلقة بائنة، ولو بدون عوض أو نية في رأي الحنفية والمالكية، والشافعية في الراجح، وأحمد في رواية عنه لقوله تعالى: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/2] وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولو لم يكن بائناً لملك الرجل الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.
وفي رواية أخرى عن أحمد هي الراجحة في المذهب أن الخلع فسخ، وهو رأي ابن عباس وطاوس، وعكرمة وإسحاق وأبي ثور؛ لأن الله تعالى قال: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] ثم قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة:229/2] ثم قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] فذكر الحق تعالى تطليقتين، والخلع، وتطليقة بعدها، فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً بأن يكون الطلاق الذي لا تحل فيه المرأة المطلقة إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته، فكانت فسخاً كسائر الفسوخ.
والمعتمد لدى الحنابلة هو التفصيل: وهو أن الخلع طلاق بائن، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما أو بكنايات الطلاق، ونوى به الطلاق؛ لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقاً.
والخلع فسخ لا ينقص به عدد الطلاق حيث وقع بصيغته (2) ، ولم ينو به طلاقاً، بأن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أوالمفاداة، ولا ينوي به الطلاق، فيكون فسخاً لا ينقص به عدد الطلاق.
والمبارأة: مثل أن يقول الرجل لزوجته: برئت من نكاحك على ألف، فقبلت، وهي كناية يقع بها الخلع بالنية عند الحنابلة، وأما عند الحنفية فهي كالخلع يقع بها الطلاق البائن بلا نية.
فإن طلق الرجل زوجته وأعطى لها مالاً من عنده، فليس بخلع، بل هو رجعي على المعتمد لدى المالكية؛ لأنه بمنزلة من طلق، وأعطى لزوجته المتعة.
2 ً - لا يتوقف الخلع على قضاء القاضي، كما هو حكم كل طلاق يكون من الزوج.
3 ً - لا يبطل الخلع بالشروط الفاسدة: إذا خالع الزوج على شرط إبقاء الطفل عنده قبل انتهاء مدة الحضانة، أو خالعت الزوجة زوجها على شرط ترك ابنها عندها بعد انتهاء زمن الحضانة، أو أن يكون لها حضانة الطفل ولو تزوجت بغير قريب محرم من الطفل، فالشرط باطل في كل ما ذكر، وينفذ الخلع.
4 ً - يلزم الزوجة أداء بدل الخلع المتفق عليه، سواء أكان هو المهر أم بعضه أم شيئاً آخر سواه؛ لأن الزوج علق طلاقها على قبول البدل، وقد رضيت به، فيكون لازماً في ذمتها باتفاق الفقهاء.
5 ً - يسقط بالخلع في رأي أبي حنيفة كل الحقوق والديون التي تكون لكل
__________
(1) البدائع: 144/3، 151، فتح القدير: 215/3، الدر المختار: 778/2، اللباب: 66/3، الشرح الصغير: 518/2، 526، 532، بداية المجتهد: 69/2، مغني المحتاج: 268/3، 271، 277، المهذب: 72/2، المغني: 56/7-59، غاية المنتهى: 101/3، كشاف القناع: 241/5.
(2) صيغة الخلع عندهم نوعان: صريحة: وهي لفظ خلعت وفسخت وفاديت، وكناية: وهي لفظ بارأتك وأبرأتك وأبنتك.(9/476)
واحد من الزوجين في ذمة الآخر والتي تتعلق بالزواج الذي وقع الخلع منه كالمهر والنفقة الماضية المتجمدة؛ لأن المقصود منه قطع الخصومة والمنازعة بين الزوجين.
أما الديون أو الحقوق التي لأحد الزوجين على الآخر، والتي لا تتعلق بموضوع الزواج، كالقرض والوديعة والرهن وثمن المبيع ونحوها، فلا تسقط بالاتفاق. وكذا لا تسقط نفقةالعدة إلا بالنص على إسقاطها؛ لأنها تجب عند الخلع.
وقال الجمهور (بقية المذاهب) ومحمد: لا يسقط بالخلع شيء من حقوق الزوجية إلا إذا نص على إسقاطه، سواء بلفظ الخلع أوا لمبارأة، فهو تماماً كالطلاق على مال، يقع به الطلاق بائناً، ويجب فقط البدل المتفق عليه؛ لأن الحقوق لا تسقط إلا بما يدل على سقوطها قطعاً، وليس في الخلع دلالة على إسقاط الحقوق الثابتة؛ لأنه معاوضة من جانب الزوجة، والمعاوضات لا أثر لها في غير ما تراضى عليه الطرفان. وهذا هو الراجح المتفق مع العدالة؛ لأن الحق لا يسقط إلا بالإسقاط صراحة أو دلالة.
6 ً - هل يرتدف على المختلعة طلاق؟ قال أبو حنيفة: يرتدف، سواء أكان على الفور أم على التراخي. وفي رأي الجمهور: لا يرتدف، إلا أن الإمام مالك قال: لا يرتدف، إلا إذا كان الكلام متصلاً. وقال الشافعي وأحمد: لا يرتدف، وإن كان الكلام متصلاً، فالمختلعة لا يلحقها طلاق بحال.
استدل أبو حنيفة بأثر: «المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة» .
واستدل الجمهور بقول ابن عباس وابن الزبير: إن المختلعة لا يلحقها طلاق، ولأنها لا تحل للزوج إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه كالمطلقة قبل الدخول أو المنقضية عدتها. وسبب الخلاف بين الرأيين أن العدة عند أبي حنيفة من أحكام النكاح، ولذا لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها، فيرتدف الطلاق عنده. وعند الجمهور: من أحكام الطلاق، فلا يرتدف.(9/477)
7 ً - لا رجعة في رأي أكثر العلماء على المختلعة في العدة، سواء أكان الخلع فسخاً أم طلاقاً، لقوله تعالى: {فيما افتدت به} [البقرة:229/2] وإنما يكون فداء إذا خرجت به عن قبضة الرجل وسلطانه، وإذا كانت له الرجعة فهي تحت حكمه، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جاز ارتجاعها لعاد الضرر.
وحكي عن الزهري وسعيد بن المسيب أنهما قالا: الزوج بالخيار بين إمساك العوض ولا رجعة له، وبين رده وله الرجعة.
وأجمع أكثر العلماء على أن للرجل أن يتزوج المختلعة برضاها في عدتها. وقال بعض المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة.
8 ً - الاختلاف في الخلع أو عوضه: إذا ادعت الزوجة خلعاً، فأنكره الزوج ولا بيِّنة له، صدّق بيمينه، إذ الأصل بقاء النكاح وعدم الخلع، والبينة عند الشافعية: شهادة رجلين.
وإن قال الزوج: طلقتك بكذا كألف، فقالت: بل طلقتني مجاناً أو لم تطلقني، بانت بقوله ولا عوض للزوج عليها إن حلفت على نفيه، أما البينونة فلإقراره، وأما عدم العوض فلأن الأصل براءة ذمتها، لكن لها النفقة والكسوة والسكنى في العدة.
وإن اختلف الزوجان في جنس العوض، هل هو دراهم أو دنانير أو في صفته كصحاح أو مكسرة، أو في قدر العوض، كأن قال: بألف، فقالت: بل بخمسمائة، أو في عدد الطلاق الذي وقع به الخلع، كقولها: سألتك ثلاث طلقات بألف، فقال: بل واحدة بألف، ولا بينة لواحد منهما: فقال مالك: القول قول الزوجة إن لم يكن هناك بيِّنة؛ لأنها مدعى عليها وهو مدع، وهو موافق لمذهب الحنفية، عملاً بالقاعدة الشرعية: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» .
وقال الشافعي: يتحالفان كما في البيع، ويكون على الزوجة مهر المثل؛ لأنه المردّ عند الاختلاف، لأن اختلافهما يشبه اختلاف المتبايعين.
آثار الخلع في القانون: أخذ القانون السوري بمذهب أبي حنيفة في أن الخلع يسقط حقوق كل من الزوج والزوجة تجاه الآخر من مهر ونفقة زوجية، حتى ولو لم يتفق الزوجان على بدل، وذلك في المادتين التاليتين:
(م 98) - إذا كانت المخالعة على مال غير المهر، لزم أداؤه، وبرئت ذمة المتخالعين من كل حق بالمهر والنفقة الزوجية.
(م 99) - إذا لم يسم المتخالعان شيئاً وقت المخالعة، برئ كل منهما من حقوق الآخر بالمهر والنفقة الزوجية.(9/478)
الفَصْلُ الثَّالث: التَّفريق القضائيّ
ويشتمل على عشرة مباحث:
الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق.
الثاني ـ للعيب أو العلل الجنسية.
الثالث ـ للضرر وسوء العشرة أو للشقاق بين الزوجين.
الرابع ـ طلاق التعسف.
الخامس ـ للغيبة.
السادس ـ للحبس.
السابع ـ التفريق بسبب الإيلاء.
الثامن ـ التفريق بسبب اللعان.
التاسع ـ التفريق بسبب الظهار.
العاشر ـ التفريق بسب الردة أو إسلام أحد الزوجين.
ويلاحظ أن التفريق يختلف عن الطلاق بأن الطلاق يقع باختيار الزوج وإرادته، أما التفريق فيقع بحكم القاضي، لتمكين المرأة من إنهاء الرابطة الزوجية جبراً عن الزوج، إذا لم تفلح الوسائل الاختيارية من طلاق أو خلع. وأخذ القانون في مصر وسورية أحكام أربع حالات للتفريق في الأكثر من مذهبي المالكية والحنابلة.
والتفريق القضائي قد يكون طلاقاً: وهو التفريق بسبب عدم الإنفاق أو الإيلاء أو للعلل أو للشقاق بين الزوجين أو للغيبة أو للحبس أو للتعسف، وقد يكون فسخاً للعقد من أصله كما هو حال التفريق في العقد الفاسد، كالتفريق بسبب الردة وإسلام أحد الزوجين.
والفرق بين الطلاق والفسخ في رأي الحنفية:
أن الطلاق: هو إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة من المهر ونحوه، ويحتسب من الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على امرأته، وهو لا يكون إلا في العقد الصحيح.
وأما الفسخ: فهو نقض العقد من أصله أو منع استمراره، ولا يحتسب من عدد الطلاق، ويكون غالباً في العقد الفاسد أو غير اللازم.
وللإمام مالك (1) قولان في الفرق بين الفسخ والطلاق:
القول الأول ـ الفرقة طلاق لا فسخ في النكاح المختلف فيه بين المذاهب والخلاف مشهور، مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها، ونكاح المحرم بحج أو عمرة.
القول الثاني ـ الاعتبار في ذلك بالسبب الموجب للتفريق، فإن كان من الشرع، لا برغبة الزوجين، كان فسخاً، مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح في العدة. وإن كان السبب هورغبة الزوجين، مثل الرد بالعيب، كان طلاقاً.
__________
(1) بداية المجتهد: 70/2.(9/479)
المبحث الأول ـ التفريق لعدم الإنفاق:
أخذ القانون في مصر وسورية بجواز التفريق القضائي بين الزوجين، عملاً بمذهب الجمهور غير الحنفية، فنصت المادة الرابعة من القانون المصري رقم (25) لسنة (1920) على حق التفريق بين الزوجة وزوجها، لعدم إنفاقه عليها، إذا طلبت الزوجة التفريق بالضرورة، سواء أكان عدم الإنفاق عليها بسبب إعساره، أم كان تعنتاً منه وظلماً. ويطلقها القاضي عليه وهو حاضر في البلد غير غائب، متى امتنع من تطليقها بنفسه، ولم يكن له مال ظاهر يمكن أن تفرض فيه نفقتها.
ونص القانون السوري على أحكام التفريق لعدم الإنفاق فيما يلي:
(م 110) - «1 - يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته، ولم يكن له مال ظاهر، ولم يثبت عجزه عن النفقة.
2 - إن ثبت عجزه أو كان غائباً، أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق، فرق القاضي بينهما» .
(م 111) : تفريق القاضي لعدم الإنفاق يقع رجعياً، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره، ويستعد للإنفاق.
التفريق لعدم الإنفاق في هذين القانونين طلاق رجعي إذا كان بعد الدخول، فللزوج أن يراجع زوجته إذا أثبت يساره وقدرته على الإنفاق.(9/480)
وخلاصة الأحكام الواردة في القانونين بالنسبة لعدم الإنفاق ما يلي: أـ إن كان للزوج مال ظاهر، نفذ الحكم عليه بالنفقة في ماله، من غير حاجة إلى التفريق.
ب ـ وإن لم يكن له مال ظاهر: فإن كان حاضراً ولم يثبت عجزه عن الإنفاق وأصر على الامتناع، فرق القاضي بينهما في الحال.
وإن أثبت عجزه عن الإنفاق، أمهله القاضي مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر في القانون السوري، وشهراً في القانون المصري، فإن مضت المدة ولم ينفق، فرق القاضي بينهما.
وأما إن كان غائباً وليس له مال ظاهر، فيجب إعذاره وإمهاله إلى مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن مضت المدة ولم ينفق على الزوجة فرق القاضي بينهما.
وهذه الأحكام مأخوذة من الفقه المالكي.
أراء الفقهاء في التفريق لعدم الإنفاق:
للفقهاء رأيان: رأي الحنفية، ورأي الجمهور (1) :
أولاً ـ رأي الحنفية: لا يجوز في مذهب الحنفية والإمامية التفريق لعدم الإنفاق؛ لأن الزوج إما معسر أو موسر. فإن كان معسراً فلا ظلم منه بعدم الإنفاق، والله تعالى يقول: {لينفق ذو سعة من سعته، ومَنْ قُدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً} [الطلاق:7/65] وإذا لم يكن ظالماً فلا نظلمه بإيقاع الطلاق عليه.
وإن كان موسراً فهو ظالم بعدم الإنفاق، ولكن دفع ظلمه لا يتعين بالتفريق، بل بوسائل أخرى كبيع ماله جبراً عنه للإنفاق على زوجته، وحبسه لإرغامه على الإنفاق. ويجاب بأنه قد يتعين التفريق لعدم الإنفاق لدفع الضرر عن الزوجة.
__________
(1) الدر المختار: 903/2، الشرح الصغير: 745/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 442/3-446، المغني: 573/7-577، بداية المجتهد: 51/2، القوانين الفقهية: ص 215، مختصر فقه الإمامية: ص 204، الدسوقي مع الشرح الكبير: 418/2.(9/481)
ويؤكده أنه لم يؤثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه مكن امرأة قط من الفسخ بسبب إعسار زوجها، ولا أعلمها بأن الفسخ حق لها. ويجاب بأن التفريق بسبب الإعسار مرهون بطلب المرأة، ولم تطلب الصحابيات التفريق.
ثانياً ـ رأي الجمهور: أجاز الأئمة الثلاثة التفريق لعدم الإنفاق لما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} [البقرة:231/2] وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها. وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] وليس من الإمساك بالمعروف أن يمتنع عن الإنفاق عليها.
2 - قال أبو الزناد: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ماينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت له: سنَّة؟ قال: سنَّة. وقول سعيد: سنَّة، يعني سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
3 - كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن يأخذوهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى.
4 - إن عدم الإنفاق أشد ضرراً على المرأة من سبب العجز عن الاتصال الجنسي، فيكون لها الحق في طلب التفريق بسبب الإعسار أو العجز عن الإنفاق من باب أولى. والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم، ودفعاً للضرر عن المرأة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
نوع الفرقة بسبب العجز عن النفقة:
الفرقة عند المالكية: طلاق رجعي، وللزوج رجعة المرأة إن أيسر في عدتها؛ لأنه تفريق لامتناعه عن الواجب عليه لها، فأشبه تفريقه بين المولي في الإيلاء وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق.
وذكر الشافعية والحنابلة أن الفرقة لأجل النفقة لا تجوز إلا بحكم الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعُنَّة، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة ذلك؛ لأنه لحقِّها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة، فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة للزوج فيه.(9/482)
المبحث الثاني - التفريق بالعيوب أو بالعلل:
أولاً ـ أنواع العيوب:
تنقسم العيوب من حيث المنع من الدخول وعدمه إلى قسمين:
1 - عيوب جنسية تمنع من الدخول كالجَبّ والعُنَّة والخصاء في الرجل، والرتَق والقَرَن في المرأة.
2 - عيوب لا تمنع من الدخول، ولكنها أمراض منفرة بحيث لا يمكن المقام معها إلا بضرر كالجذام والجنون والبرص والسل والزهري.
وتنقسم العيوب بين الزوجين إلى أقسام ثلاثة: 1 - ما يختص بالرجل من داء الفرج: وهو الجب (قطع الذكر) والعنة (العجز عن الجماع بسبب صغر الذكر ونحوه) والخصاء (استئصال أو قطع الخصيتين) والاعتراض: وهو حالة الرجل الذي لا يقدر على الوطء لعارض كمرض أو كبر.
2 - ما يختص بالمرأة من داء الفرج: وهو الرَّتَق (كون الفرج مسدوداً ملتصقاً بلحم من أصل الخلقة لا مسلك للذكر فيه) ، والقَرَن (عظم أو غدة تمنع ولوج الذكر) والعفَل (رغوة تمنع لذة الوطء) وبخر الفرج (رائحة منتنة تثور في الوطء) والإفضاء أو انخراق ما بين السبيلين (أي القبل والدبر) من المرأة، وانخراق ما بين مخرج بول ومني وهو الفتق؛ لأنه يمنع لذة الوطء وفائدته، ونحوها.
3 - ما يشترك فيه الرجال والنساء: وهو الجنون والجذام والبرص، واستطلاق بول، واستطلاق غائط، وباسور (نتوء ظاهر في المقعدة كالعدس أو الحمص) وناسور (نتوء داخل المقعدة أو قروح غائرة في المقعدة يسيل منها صديد) ومن هذه العيوب كون أحد الزوجين خنثى غير مشكل، أما الخنثى المشكل فلا يصح نكاحه حتى يتضح، ونحوها.
فهذه العيوب: منها ما يخشى تعدي أذاه، ومنها ما فيه تنفير ونقص، ومنها ما تتعدى نجاسته.(9/483)
ثانياً ـ التفريق بسبب العيوب في القانون:
نص القانون المصري رقم (25 لسنة 1920) في المواد (9، 10، 11) على جواز التفريق بسبب عيوب الزوج: وهي الجب والعنة والخصاء، وهي العيوب الثلاثة المتفق على التفريق بها، والجنون والجذام والبرص، ونحوها من كل (عيب مستحكم لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل) سواء أكان ذلك العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به.
والفرقة بالعيب طلاق بائن، ويستعان بأهل الخبرة في العيوب التي يطلب الفسخ من أجلها.
ونص القانون السوري على التفريق للعلل الجنسية فقط دون العلل المنفرة أو الضارة أخذاً برأي أبي حنيفة وأبي يوسف، مع إضافة عيب الجنون، خلافاً لجمهور العلماء، وذلك فيما يأتي:
(م 105) ـ للزوجة طلب التفريق بينهما وبين زوجها في الحالتين التاليتين:
1ً - إذا كان فيه إحدى العلل المانعة من الدخول، بشرط سلامتها هي منها.
2ً - إذا جن الزوج بعد العقد.
(م 106) -1 - يسقط حق المرأة في طلب التفريق بسبب العلل المبينة في المادة السابقة إذا علمت بها قبل العقد أو رضيت بها بعده.
2 - على أن حق التفريق بسبب العنة لا يسقط بحال.
(م 107) - إذا كانت العلل المذكورة في المادة 105 غير قابلة للزوال يفرق القاضي بين الزوجين في الحال، وإن كان زوالها ممكناً يؤجل الدعوى مدة مناسبة لا تتجاوز السنة، فإذا لم تزل العلة فرق بينهما.
(م 108) - التفريق للعلة طلاق بائن.(9/484)
ثالثاً ـ آراء الفقهاء في التفريق للعيب:
للفقهاء رأيان في جواز التفريق للعيب: رأي الظاهرية، ورأي أكثر العلماء: أما الظاهرية (1) : فقالوا: لا يجوز التفريق بأي عيب كان، سواء أكان في الزوج أم في الزوجة، ولا مانع من تطليق الزوج للزوجة إن شاء، إذ لم يصح في الفسخ للعيب دليل في القرآن أو السنة أو الأثر عن الصحابة أو القياس والمعقول.
وأما أكثر الفقهاء (2) فأجازوا التفريق بسبب العيب، لكنهم اختلفوا في موضعين: هل يثبت الحق لكل من الزوجين أو للزوجة فقط، وما هي العيوب التي يثبت بها حق طلب التفريق.
الأول ـ ثبوت حق التفريق بالعيب للزوجين أو للزوجة فقط:
يثبت حق التفريق بالعيب عند الحنفية للزوجة فقط، لا للزوج؛ لأن الزوج يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق، أما الزوجة فلا يمكنها دفع الضرر عن نفسها إلا بإعطائها الحق في طلب التفريق؛ لأنها لا تملك الطلاق.
وأجاز الأئمة الثلاثة طلب التفريق بالعيب لكل من الزوجين؛ لأن كلاً منهما يتضرر بهذه العيوب، أما اللجوء إلى الطلاق فيؤدي إلى الإلزام بكل المهر بعد الدخول وبنصفه قبل الدخول. وفي التفريق بسبب العيب يعفى الرجل من نصف المهر قبل الدخول، وبعد الدخول لها المسمى بالاتفاق، لكن يرجع الزوج عند المالكية والحنابلة والشافعية بالمهر بعد الدخول على ولي الزوجة كالأب والأخ لتدليسه بكتمان العيب، ولا سكنى لها ولا نفقة.
الثاني ـ العيوب التي تجيز التفريق:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة والإمامية على التفريق بعيبين: وهما الجب والعنة، واختلفوا في عيوب أخرى على آراء أربعة:
الأول ـ رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: لا فسخ إلا بالعيوب الثلاثة التناسيلة وهي (الجب والعنة والخصاء) إن كانت في الرجل؛ لأنها عيوب غير قابلة للزوال، فالضرر فيها دائم، ولا يتحقق معها المقصود الأصلي من الزواج وهو التوالد والتناسل والإعفاف عن المعاصي، فكان لابد من التفريق.
__________
(1) المحلى: 72/10، مسألة 1899.
(2) فتح القدير: 262/3-268، مختصر الطحاوي: ص 182، البحر الرائق: 135/3،اللباب: 24/3-26، القوانين الفقهية: ص 214 وما بعدها، بداية المجتهد: 50/2، الشرح الصغير: 467/2-478، مغني المحتاج: 202/3-209، كشاف القناع: 115/5-124، المغني: 650/6-657، 667-678، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 210.(9/485)
أما العيوب الأخرى من جنون أو جذام أو برص أو رتق أو قرن، فلا فسخ للزواج بسببها إن كان بالزوجة، ولا إن كانت بالزوج، ولا خيار للآخر بها. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال محمد: للزوجة الخيار أو الفسخ إن كانت هذه العيوب بالزوج، ولاخيار للزوج إن كانت بالزوجة، وبه يتفق الحنفية على أنه لا خيار للزوج في فسخ الزواج بسبب عيوب الزوجة مطلقاً، واختلفوا في الخيار بعيوب الزوج.
الثاني ـ رأي مالك والشافعي: يفسخ النكاح من أي واحد من الزوجين إذا وجد في الآخر عيباً من العيوب التناسلية (الجنسية) أو العيوب المنفرة من جنون أو جذام أو برص.
والعيوب عند الشافعية سبعة وهي: الجب والعنة، والجنون والجذام والبرص، والرتَق والقَرَن، ويمكن أن يكون في كل من الزوجين خمسة، الأولان في الرجل والأخيران في المرأة، والثلاثة الوسطى مشتركة بينهما. ولا فسخ بالبخر، والصنان، والاستحاضة (1) ، والقروح السيالة، والعمى، والزمانة، والبله، والخصاء، والإفضاء، ولا بكونه يتغوط عند الجماع؛ لأن هذه الأمور لا تفوِّت مقصود النكاح.
والعيوب عند المالكية ثلاثة عشر عيباً:
أربعة مشتركة بين الرجل والمرأة: الجنون والجذام والبرص والعَذيْطَة (خروج الغائط أو البول عند الجماع) ويقال للمرأة عِذيوطة، وللرجل عِذْيوط.
وأربعة تختص بالرجل: وهي الخصاء، والجَبّ، والعُنَّة، والاعتراض (عدم القدرة على الاتصال الجنسي لمرض أو نحوه) .
وخمسة تختص بالمرأة: وهي الرتق، والقرن، والبخر (نتن الفرج) والعَفَل (غدة تمنع ولوج الذكر أو رغوة تمنع لذة الوطء) والإفضاء (اختلاط القُبُل أي مسلك الذكر بمجرى البول أو الغائط) .
وليس من العيوب: القرع ولا السواد، ولا إن وجدها مفتضة من الزنا على المشهور، وليس منها العمى، والعور، والعرج، والزمانة، ولا نحوها من العاهات، إلا إن اشترط السلامة منها.
والعيوب عند الإمامية أحد عشر: أربعة في الرجل: وهي الجنون والخصاء والعنة والجب، وسبعة في المرأة: وهي الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعمى والإقعاد.
__________
(1) الاستحاضة: استمرار نزول الدم على المرأة بدون انقطاع، ويسمى بالنزيف الدموي.(9/486)
الثالث ـ رأي أحمد: يفسخ النكاح بالعيوب التناسلية (أو الجنسية) أو العيوب المنفرة، أو العيوب المستعصية كالسل والسيلان أو الزهري ونحوها مما يعرف عن طريق أهل الخبرة.
والعيوب عندهم ثمانية:
ثلاثة يشترك فيها الزوجان: وهي الجنون والجذام والبرص.
واثنان يختص بهما الرجل: وهما الجب والعنة.
وثلاثة تختص بالمرأة: وهي الفتق (اختلاط مجرى البول والمني) والقرن والعفل.
والقاضي أبو يعلى جعل القرن والعفل شيئاً واحداً فتكون العيوب سبعة.
قال أبو الخطاب: ويتخرج على ذلك من به الباسور والناسور والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها تثير نفرة، وتتعدى نجاستها. ورجح الحنابلة أنه يثبت الخيار للرجل بقروح سيالة في فرج المرأة وبباسور وناسور ونحوهما.
وليس من العيوب المجوزة للفسخ: القرع والعمى والعرج وقطع اليدين والرجلين؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع، ولا يخشى تعديه.
الرابع ـ رأي الزهري وشريح وأبي ثور، واختاره ابن القيم (1) : يجوز طلب التفريق من كل عيب منفر بأحد الزوجين، سواء أكان مستحكماً، أم لم يكن كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أوإحداهما؛ لأن العقد قد تم على أساس السلامة من العيوب، فإذا انتفت السلامة فقد ثبت الخيار. ولما روى أبو عبيد عن سليمان بن يسار: «أن ابن سندر تزوج امرأة وهو خصي، فقال له عمر: أعلمتها؟ قال: لا، قال: أعلمها، ثم خيرها» .
والراجح لدي رأي الحنابلة؛ لعدم تحديد العيوب، ولأنهم قصروا جواز الفسخ على العيب الذي لا تتم معه مقاصد الزواج على وجه الكمال، وهذا هو المتفق مع مقتضى عقد الزواج.
__________
(1) زاد المعاد: 30/4 وما بعدها.(9/487)
قيود الفرقة بالعيب:
اتفق الفقهاء على أن الفرقة بالعيب تحتاج إلى حكم القاضي وادعاء صاحب المصلحة؛ لأن التفريق بالعيب أمر مجتهد فيه ومختلف فيه بين الفقهاء، فيحتاج إلى قضاء القاضي لرفع الخلاف، ولأن الزوجين يختلفان في ادعاء وجود العيب وعدم وجوده، وفي أنه يجوز التفريق به أو لا يجوز، وقضاء الحاكم يقطع دابر الخلاف. والقول قول منكر العلم بالعيب مع يمينه في عدم علمه بالعيب؛ لأنه الأصل.
وإذا تبين أن الزوج مجبوب، فرَّق القاضي بين الزوجين في الحال ولم يؤجله؛ لعدم الفائدة في التأجيل. أما العنِّين والخصي فيؤجله الحاكم سنة من تاريخ الخصومة، أي الدعوى والترافع عند الحنفية والحنابلة، لاحتمال أن تثبت قدرته على الجماع في أثناء السنة على مرور الفصول، والتأجيل سنة مروي عن عمر وعلي وابن مسعود. وتبدأ السنة عند الشافعية والمالكية من وقت القضاء بالتأجيل، عملاً بقضاء عمر الذي رواه الشافعي والبيهقي.
فإذا ادعى الزوج أثناء السنة حدوث الجماع:
ففي رأي الحنفية والحنابلة: إن كانت المرأة ثيباً، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الظاهر يشهد له؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، والقول لمن يشهد له الظاهر بيمينه. فإن حلف رفضت دعوى الزوجة، وإن امتنع عن الحلف، خيرها القاضي بين البقاء معه على هذه الحال وبين الفرقة، فإن اختارت الفرقة فرق بينهما. وإن كانت بكراً عذراء نظر إليها النساء، ويقبل قول امرأة واحدة والأولى عندالحنفية إراءتها لامرأتين، فإذا قالتا: هي بكر، بقي التأجيل لنهاية السنة لظهور كذبه، وإن قالتا: هي ثيب، حلّف الزوج فإن حلف لاحق لها، وإن نكل بقي التأجيل سنة، فإن شهدت النساء، وإلا فالقول قولها.(9/488)
وقال المالكية: إن ادعى الوطء في مدة السنة، صدق الزوج بيمينه، وإن نكل عن اليمين حَلَفت الزوجة: إنه لم يطأ، وفرق بينهما قبل تمام السنة إن شاءت.
أما إن كان العيب غير الجب أو العنة أو الخصاء، ففي رأي المالكية: إن كان العي لا يرجى زواله بالعلاج، فرق القاضي بين الزوجين في الحال. وإن كان يرجى زواله بالعلاج، أجل القاضي التفريق لمدة سنة إن كان العيب من العيوب المشتركة بين الرجل والمرأة كالجنون والجذام والبرص.
وإن كان من العيوب الخاصة بالمرأة فيؤجل التفريق بالاجتهاد حسبما تقتضي حالة العلاج من العيب. وإن ادعت المرأة أنها برئت من عيبها صدقت بيمينها.
وتثبت العُنَّة عند الشافعية بإقرار الزوج عند الحاكم، أو ببينة تقام عند الحاكم على إقراره، أو بيمين المرأة المردودة عليها بعد إنكار الزوج العنة ونكوله عن اليمين في الأصح. وإذا ثبتت العنة ضرب القاضي له سنة كما فعل عمر رضي الله عنه، بطلب الزوجة؛ لأن الحق لها، فإذا مضت السنة رفعته إلى القاضي، فإن قال: وطِئت حُلِّف، فإن نكل عن اليمين حُلِّفت، فإن حَلَفت أو أقر هو بذلك، استقلت بالفسخ، كما يستقل بالفسخ من وجد بالمبيع عيباً.
شروط التفريق بالعيب:
اشترط الفقهاء شرطين لثبوت الحق في طلب التفريق بالعيب وهما:
1ً - ألا يكون طالب التفريق عالماً بالعيب وقت العقد أو قبله: فإن علم به في العقد، وعقد الزواج، لم يحق له طلب التفريق؛ لأن قبوله التعاقد مع علمه بالعيب رضا منه بالعيب.
2ً - ألا يرضى بالعيب بعد العقد حال اطلاعه عليه: فإن كان طالب التفريق جاهلاً بالعيب، ثم علم به بعد إبرام العقد ورضي به، سقط حقه في طلب التفريق.(9/489)
وإن لم يرض بالعيب، فخيار العيب ثابت عند الشافعية على الفور، وعند الحنابلة على التراخي، فلا يسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا به إما صراحة، كأن يقول: رضيت، أو دلالة كالاستمتاع من الزوج والتمكين من المرأة؛ لأنه خيار لطالب التفريق لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كخيار القصاص، وخيار العيب في المبيع. ومتى زال العيب قبل التفريق فلا فرقة، لزوال سببها، كالمبيع يزول عيبه.
واشترط القانون السوري كما لاحظنا في المواد السابقة شروطاً ثلاثة أخرى من مذهب الحنفية:
1 - أن تطلب الزوجة التفريق فيما يحق لها، وإلا لم يفرق بينهما.
2- أن تكون الزوجة خالية من العلل الجنسية كالرتق والقرن.
3 - أن يكون الزوج صحيحاً: فإن كان مريضاً ينتظر شفاؤه، ثم يمهل سنة في العنين والخصي.
العيب الحادث بعد الزواج:
إذا كان العيب قديماً موجوداً قبل الزواج، فلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة في جواز التفريق به، بالشروط السابقة. أما إذا حدث العيب بأحد الزوجين، فاختلف الفقهاء في جواز التفريق:
قال الحنفية: إذا جُنَّ الرجل أو أصبح عنيناً بعد الزواج، وكان قد دخل بالمرأة، ولو مرة واحدة، لا يحق لها طلب الفسخ، لسقوط حقها بالمرة الواحدة قضاء، وما زاد عليه فهو مستحق ديانة لا قضاء.
وفرق المالكية بين عيب الزوج وبين عيب الزوجة، فقالوا: إن كان العيب بالزوجة فليس للزوج الخيار أو طلب التفريق بهذا العيب، لأنه مصيبة نزلت به، وعيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد، فأشبه العيب الحادثة بالمبيع. وإن كان العيب الحادث بالزوج، فللزوجة الحق في طلب التفريق إن كان العيب جنوناً أو جذاماً أو برصاً، لشدة التأذي بها، وعدم الصبر عليها، وليس لها الحق في طلب التفريق بالعيوب التناسلية الأخرى من جب أو عنة أو خصاء.(9/490)
وأطلق الشافعية والحنابلة القول بجواز التفريق بالعيب الحادث بعد الزواج كالعيب القائم قبله، لحصول الضرر به كالعيب المقارن للعقد، ولأنه لا خلاص للمرأة إلا بطلب التفريق بخلاف الرجل.
لكن استثنى الشافعية طروء العنة بعد الدخول، فإنها لا تجيز طلب الفسخ، لحصول مقصود النكاح، واستيفائها حقها منه بمرة واحدة.
نوع الفرقة بسبب العيب:
للفقهاء رأيان: قال الحنفية والمالكية: هذه الفرقة طلاق بائن ينقص عدد الطلاق؛ لأن فعل القاضي يضاف إلى الزوج، فكأنه طلقها بنفسه، ولأنها فرقة بعد زواج صحيح، والفرقة بعد الزواج الصحيح عند المالكية تكون طلاقاً لا فسخاً. وإنما جعل الطلاق بائناً فلرفع الضرر عن المرأة، إذ لو جاز للزوج مراجعتها قبل انقضاء العدة، عاد الضرر ثانياً.
وقال الشافعية والحنابلة: الفرقة بالعيب فسخ لا طلاق، والفسخ لا ينقص عدد الطلاق، وللزوج إعادة الزوجة بنكاح جديد بولي وشاهدي عدل ومهر؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة إما بطلبها التفريق أو بسبب عيب فيها، والفرقة إذا كانت من جهة الزوجة تكون فسخاً لا طلاقاً.
أثر التفريق بالعيب على المهر:
عرفنا أن الحنفية لا يجيزون التفريق إلا بالعيوب التناسلية في الرجل، فإن كان التفريق قبل الدخول والخلوة، فللزوجة نصف المهر؛ لأن الفرقة بسبب الزوج، وإن كان التفريق بعد الدخول أو بعد الخلوة، فتجب العدة على المرأة إذا أقر الزوج أنه لم يصل إليها، ويجب لها المهر كله إن دخل بها أو خلا بها خلوة صحيحة؛ لأن خلوة العنين صحيحة تجب بها العدة (1) . وإن تزوجها بعدئذ أو تزوجته وهي تعلم أنه عنين فلا خيار لها. وإن كان عنيناً، وهي رتقاء لم يكن لها خيار كما تقدم في شروط التفريق.(9/491)
وقال المالكية: إن كانت التفريق قبل الدخول ولو وقع بلفظ طلاق، فلا شيء للمرأة من المهر؛ لأن العيب إن كان بالرجل، فقد اختارت فراقه قبل قضاء مأربها، وكانت راضية بسقوط حقها في المهر، وإن كان العيب بالمرأة فتكون غارّة للرجل مدلسة عليه.
وإن كان التفريق بعد الدخول، استحقت المهر المسمى كله، إن كان العيب في الزوج؛ لأنه يكون غارّاً للزوجة ومدلساً عليها، ثم إنه قد دخل بها، والدخول بالمرأة يوجب المهر كله. وإن كان العيب في الزوجة استحقت المهر كله بسبب الدخول، لكن يرجع الزوج بالمهر على وليها كأب وأخ وابن لتدليسه بالكتمان إن كان قريباً لا يخفى عليه حالها، وكان العيب ظاهراً كالجذام والبرص. أما إن كان الولي بعيداً كالعم والقاضي، أو كان العيب خفياً، فيرجع الزوج على الزوجة لا على الولي؛ لأن التغرير والتدليس منها وحدها.
وقال الشافعية: الفسخ بالعيب قبل الدخول يسقط المهر، وإن كان بعد الدخول، وكان العيب مقارناً للعقد أو حادثاً بين العقد والوطء، وجهله الواطئ، فلها في الأصح مهر المثل. وإن حدث العيب بعد العقد والوطء، فلها في الأصح المهر المسمى كله.
ولا يرجع الزوج بالمهر الذي غرمه على من غره من ولي أو زوجة بالعيب المقارن في المذهب الجديد (2) ، لاستيفائه منفعة البضع المتقوم عليه بالعقد. أما العيب الحادث بعد العقد إذا فسخ به، فلا يرجع بالمهر جزماً لانتفاء التدليس.
وقال الحنابلة: إن حدث الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة على الرجل، سواء أكان من جهة الزوج أم من جهة الزوجة، كما قال الشافعية وغيرهم.
وإن حدث الفسخ بعد الدخول وجهل العيب، فلها المهر المسمى، لوجوبه بالعقد واستقراره بالدخول، ثم يرجع بالمهر على من غرَّه من امرأة عاقلة وولي ووكيل. لقول عمر رضي الله عنه: «أيما رجل تزوج بامرأة بها جنون أو جذام أو برص، فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها» ولأنه غرَّه في النكاح بما يثبت به الخيار فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية أمة.
__________
(1) وقال الصاحبان: لها نصف المهر في حال الخلوة كأنه لم يخل بها.
(2) وهو رأي أبي حنيفة رحمه الله أيضاً.(9/492)
ملحق بهذا البحث ـ خيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب:
إذا غرر الزوج بصفة في زوجته، مثل كونها بكراً أو مسلمة أو حرة أو ذات نسب ونحو ذلك، فبان خلافه، فهل له فسخ الزواج؟! وهذا ما يعرف بخيار الغرور أو خيار فوات الوصف المرغوب.
اختلف الفقهاء فيه على آراء (1) ، الغالب فيها ثبوت الخيار وهو رأي الجمهور غير الحنفية:
ذهب الحنفية والجعفرية والزيدية إلى أنه إذا اشترط أحد الزوجين في صاحبه صفة مرغوباً فيها، فبان على خلافه، لم يكن له الخيار في الفرقة، فإذا كان قد سمى لها مهراً أكثر من مهر مثلها بسبب هذا الشرط، كأن يشترط بكارتها أو تحصيلها شهادة معينة، فلم يتحقق ذلك، لم يلزم الزوج بأكثر من مهر مثلها. قال ابن الهمام في فتح القدير: «وفي النكاح لو شرط وصفاً مرغوباً فيه كالعُذْرة والجمال والرشاقة وصغر السن، فظهرت ثيباً عجوزاً شمطاء ذات شق مائل، ولعاب سائل، وأنف هائل، وعقل زائل، لا خيار له في فسخ النكاح به» .
وخالفهم المالكية فقرروا أن العاقد إذا قال للرجل: زوجتك هذه مسلمة فإذا هي كتابية، أو هذه حرة فإذا هي أمة، أو هذه بكر فإذا هي ثيب، أو اشترط أحد الزوجين وصفاً مرغوباً في الآخر كصغر السن والجمال، فبان خلافه، انعقد الزواج، وله الخيار بين الرضا والرد.
وفصل الشافعية فقالوا: لو تزوج رجل امرأة وشُرط في العقد إسلام
__________
(1) المهذب: 70/2، غاية المنتهى: 99/3-100.(9/493)
الزوجة، أو شرط في أحد الزوجين نسب أو حرية أوغيرهما مما لا يمنع عدم توافره صحة الزواج من صفات الكمال، كبكارة وشباب، أو من صفات النقص كضد ذلك، أو ما يتوسط بين صفتي الكمال كطول وبياض وسمرة، فبان خلافه، فالأظهر صحة النكاح؛ لأن الخُلْف في الشرط لا يوجب فساد البيع مع تأثره بالشروط الفاسدة، فالنكاح أولى بعدم الفساد.
ثم إن بان الموصوف بالشرط خيراً مما شُرط فيه فلا خيار، وإن بان دونه، فلمن شرط له: الخيار، للخُلْف.
أما لو ظن الرجل، بلا شرط، أن المرأة مسلمة، فبانت كتابية، أو حرة فبانت أمة، وهي تحل له، فلا خيار له فيهما في الأظهر؛ لأن الظن لا يثبت الخيار لتقصيره بترك البحث أو الاشتراط. وكذا لو أذنت المرأة لوليها في تزويجها بمن ظنته كفئاً لها، فبان فسقه أو دناءة نسبه أو حرفته، فلا خيار لها ولا لوليها؛ لأن التقصير منها ومنه، حيث لم يبحثا ولم يشرطا، لكن لو بان الزوج معيباً أو عبداً وهي حرة فلها الخيار.
وفصل الحنابلة تفصيلاً آخر فقالوا: إن غرَّ الرجل المرأة بما يخل بأمر الكفاءة كالحرية أو النسب الأدنى، فلها الخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن اختارت الإمضاء فلأوليائها الاعتراض لعدم الكفاءة. وإن لم يعتبر الوصف في الكفاءة كالفقه والجمال ونحوهما، فلا خيار لها؛ لأن ذلك مما لا يعتبر في الكفاءة، فلا يؤثر اشتراطه.
أما إن شرط الرجل كون المرأة مسلمة فبانت كافرة، فله الخيار، لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد. وإن شرط الرجل كونها بكراً فبانت ثيباً فعن أحمد كلام يحتمل أمرين: أحدهما ـ لا خيار له، والثاني ـ له الخيار، لأنه شرط صفة مقصودة. وإذا تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة، فبان خلافه، ثبت له الخيار.(9/494)
المبحث الثالث ـ التفريق للشقاق أو للضرر وسوء العشرة:
المقصود بالشقاق والضرر: الشقاق هو النزاع الشديد بسبب الطعن في الكرامة. والضرر: هو إيذاء الزوج لزوجته بالقول أو بالفعل، كالشتم المقذع والتقبيح المخل بالكرامة، والضرب المبرِّح، والحمل على فعل ما حرم الله، والإعراض والهجر من غير سبب يبيحه، ونحوه.
رأي الفقهاء في التفريق للشقاق:
لم يجز الحنفية والشافعية والحنابلة (1) التفريق للشقاق أو للضرر مهما كان شديداً؛ لأن دفع الضرر عن الزوجة يمكن بغير الطلاق، عن طريق رفع الأمر إلى القاضي، والحكم على الرجل بالتأديب حتى يرجع عن الإضرار بها.
وأجاز المالكية (2) التفريق للشقاق أو للضرر، منعاً للنزاع، وحتى لا تصبح الحياة الزوجية جحيماً وبلاء، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» . وبناء عليه ترفع المرأة أمرها للقاضي، فإن أثبتت الضرر أو صحة دعواها، طلقها منه، وإن عجزت عن إثبات الضرر رفضت دعواها، فإن كررت الادعاء بعث القاضي حكمين: حكماً من أهلها وحكماً من أهل الزوج، لفعل الأصلح من جمع وصلح أو تفريق بعوض أو دونه، لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/4] .
واتفق الفقهاء على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، واتفقوا على أن قولهما في الجمع بين الزوجين نافذ بغير توكيل من الزوجين.
__________
(1) بداية المجتهد: 97/2 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 281/2، 285، القوانين الفقهية: ص 215، مغني المحتاج: 207/2-209، المغني: 524/6-527، بداية المجتهد: 50/2.(9/495)
واختلف الفقهاء في تفريق الحكمين بين الزوجين إذا اتفقا عليه، هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إليه؟ فقال الجمهور؛ يعمل الحكم بتوكيل من الزوج، فليس للحكمين أن يفرقا بين الزوجين إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق؛ لأن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. لأن الطلاق إلى الزوج شرعاً، وبذل المال إلى الزوجة، فلا يجوز إلا بإذنهما.
وقال المالكية: ينفذ قول الحكمين في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما فيهما، بدليل ما رواه مالك عن علي بن أبي طالب أنه قا ل في الحكمين: «إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع» فالإمام مالك يشبّه الحكمين بالسلطان، والسلطان يُطلِّق في رأيه بالضرر إذا تبين، وقد سماهما الله حكمين في قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/4] ولم يعتبر رضا الزوجين.
شروط الحكمين:
يشترط في الحكمين: أن يكونا رجلين عدلين خبيرين بما يطلب منهما في هذه المهمة، ويستحب أن يكونا من أهل الزوجين، حكماً من أهله وحكماً من أهلها بنص الآية السابقة، فإن لم يكونا من أهلهما بعث القاضي رجلين أجنبيين، ويستحسن أن يكونا من جيران الزوجين ممن لهما خبرة بحال الزوجين، وقدرة على الإصلاح بينهما.
نوع الفرقة للشقاق:
الطلاق الذي يوقعه القاضي للشقاق طلاق بائن؛ لأن الضرر لا يزول إلا به؛ لأنه إذا كان الطلاق رجعياً تمكن الزوج من مراجعة المرأة في العدة، والعودة إلى الضرر.
موقف القانون: أخذ القانونان في مصر وسورية بمذهب المالكية فأجاز كلاهما التفريق للشقاق والضرر.(9/496)
ونص القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) في المواد (6-11) والقانون السوري في المواد (112-115) على أحكام التفريق للشقاق، وهي أحكام متفق عليها في القانونين، إلا أن القانون المصري لم يذهب إلى التفريق بسبب إساءة الزوجة، وأخذ القانون السوري بمذهب المالكية في أن التفريق يكون بسبب الضرر من أحد الزوجين. وعدَّل القانون السوري سنة (1975) المادة (3/112) ، فلم يحكم بالتفريق في الحال، وإنما يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر إذا لم يثبُت الضرر أملاً بالمصالحة.
وأذكر بإيجاز مضمون مواد القانون السوري:
إذا ادعى أحد الزوجين إضرار الآخر به، جاز له طلب التفريق من القاضي (1/112) ، وإذا ثبت الإضرار، وعجز القاضي عن الإصلاح فرق بينهما، وذلك بطلقة بائنة (م 2/112) وإذا لم يثبت الضرر يؤجل القاضي المحاكمة مدة لا تقل عن شهر. فإن أصر المدعي على الشكوى بعث القاضي حكمين من أهل الزوجين، وإلا ممن يرى القاضي فيه قدرة على الإصلاح بينهما، وحلفهما يميناً على أن يقوما بمهمتهما بعدل وأمانة (م 3/112) . وعلى الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين، ثم يجمعانهما في مجلس تحت إشراف القاضي (م 1/113) ، ولا يؤثر في التحكيم تخلف أحد الزوجين عن الحضور بعد تبليغه (م 2/113) .وعمل الحكمين أولاً هو محاولة الإصلاح بين الزوجين، فإذا عجزا عنه وكانت الإساءة أو أكثرها من الزوج قررا التفريق بطلقة بائنة (م 1/114) . وإذا كانت الإساءة من الزوجة أو مشتركة بين الزوجين قررا التفريق على تمام المهر أو على جزء منه بحسب مدى الإساءة (م 2/114) .
وللحكمين تقرير التفريق مع عدم الإساءة من أحد الزوجين على براءة ذمة الزوج من بعض حقوق الزوجة إذا رضيت بذلك، واستحكم الشقاق بينهما (م 3/114) .
وإذا اختلف الحكمان حكَّم القاضي غيرهما، أو ضم إليهما ثالثاً مرجحاً، وحلفه اليمين، كمايحلف الحكمان على أداء مهمتهما بعدل وأمانة (م 4/114) .
ولا يملك الحكمان التفريق، وإنما يرفعان تقريرهما إلى القاضي ولو كان غير معلل، ويفوض الأمر إلى القاضي بالحكم بمقتضاه أو رفض التقرير، وتعيين حكمين آخرين للمرة الأخيرة (م 115) .
ويلاحظ أن مهمة الحكمين هي الإصلاح أولاً، ثم رفع تقرير إلى القاضي بالتفريق، احتياطاً في أمر الطلاق. لكن المقرر في المذهب المالكي كما تقدم أن الحكمين يوقعان الطلاق بناء على التفويض الكامل من القاضي. فإذا قيد القاضي صلاحية الحكمين برفع تقرير كما ذهب القانون، لم يكن في الأمر مخالفة للمالكية.(9/497)
المبحث الرابع ـ طلاق التعسف:
التعسف: هو إساءة استعمال الحق بحيث يؤدي إلى ضرر بالغير، وذكر القانون السوري (م 116، 117) حالتين للتعسف في استعمال الطلاق وهما: الطلاق في مرض الموت أي طلاق الفارّ، والطلاق بغير سبب معقول (1) .
أولاً ـ الطلاق في مرض الموت أو طلاق الفرار:
تبين سابقاً أنه إذا طلق الزوج زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته، أو ما في حكمه كإشراف سفينة على الغرق، فينفذ الطلاق باتفاق الفقهاء، ولا ترث المرأة عند الشافعية، ولو أراد الفرار من توريثها ومات الزوج في أثناء العدة؛ لأن الطلاق البائن يقطع الزوجية.
وأخذ القانون السوري والمصري برأي الجمهور (غير الشافعية) في توريث المرأة في طلاق الفارّ إذا مات الزوج وهي في العدة. وترث أيضاً عند الحنابلة ولو مات بعد انقضاء العدة ما لم تتزوج، وترث عند المالكية ولو تزوجت بآخر.
ونص القانون السوري على ما سبق في المادة (116) الآتية:
من باشر سبباً من أسباب البينونة في مرض موته أو في حالة يغلب في مثلها الهلاك طائعاً، بلا رضا زوجته، ومات في ذلك المرض أو في تلك الحالة، والمرأة في العدة، فإنها ترث منه بشرط أن تستمر أهليتها للإرث من وقت الإبانة إلى الموت.
__________
(1) طلاق التعسف وإن وقع بإرادة الزوج، لا بالتفريق القضائي، فللقاضي دور الإشراف والرقابة والتحقق من كونه تعسفاً.(9/498)
والسبب في تقرير الإرث على الرغم من الطلاق: هو معاملة الزوج بنقيض مقصوده، فإنه أراد إبطال حق الزوجة في الميراث، فيرد عليه قصده، ما دامت العدة باقية، لبقاء آثار الزوجية.
فإن دلت القرائن على أنه لم يرد حرمانها من الإرث، كأن يكون الطلاق بطلبها أو عن طريق المخالعة، فلا ترث في عدة الطلاق البائن، وترث في عدة الطلاق الرجعي.
ويشترط لإرث المرأة في طلاق الفارّ: أن تكون مستحقة للإرث منذ الطلاق حتى وفاة الزوج، فإن كانت غير مستحقة للإرث وقت الطلاق كأن كانت كتابية، أو غير مستحقة للإرث وقت وفاة الزوج، كأن كانت مسلمة عند الطلاق، ثم ارتدت عند الوفاة، فلا ترث.
ثانياً ـ الطلاق بغير سبب معقول:
نص القانون السوري (م 117 معدلة) على ما يلي:
إذا طلق الرجل زوجته، وتبين للقاضي أن الزوج متعسف في طلاقها دون ما سبب معقول، وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة، جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حاله ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة، وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرياً بحسب مقتضى الحال.
وقد تضمن هذا التعديل عام (1975) أمرين: الأول ـ عدم تقييد الزوجة بكونها فقيرة. والثاني ـ جعل التعويض مقدراً بنفقة ثلاث سنوات، بدلاً من سنة في الماضي. ومستند هذا الحكم الجديد: هو العمل بمبدأ السياسة الشرعية العادلة التي تمنع ظلم المرأة وتعريضها للفاقة والحرمان بسبب تعنت الزوج.
وربما يستند هذا الحكم إلى المتعة المعطاة للمطلقة والتي أوجبها بعض الفقهاء، واستحبها بعضهم، ورغب فيها القرآن وجعلها بالمعروف، فيترك تقديرها للقاضي بحسب العرف.(9/499)
المبحث الخامس ـ التفريق للغيبة:
أولاً ـ آراء الفقهاء:
للفقهاء رأيان في التفريق بين الزوجين إذا غاب الزوج عن زوجته، وتضررت من غيبته، وخشيت على نفسها الفتنة:
قال الحنفية والشافعية (1) : ليس للزوجة الحق في طلب التفريق بسبب غيبة الزوج عنها، وإن طالت غيبته، لعدم قيام الدليل الشرعي على حق التفريق، ولأن سبب التفريق لم يتحقق. فإن كان موضعه معلوماً بعث الحاكم لحاكم بلده، فيلزم بدفع النفقة.
ورأى المالكية والحنابلة (2) جواز التفريق للغيبة إذا طالت، وتضررت الزوجة بها، ولو ترك لها الزوج مالاً تنفق منه أثناء الغياب؛ لأن الزوجة تتضرر من الغيبة ضرراً بالغاً، والضرر يدفع بقدر الإمكان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا.
. لكن اختلف هؤلاء في نوع الغيبة ومدتها وفي التفريق حالاً، وفي نوع الفرقة:
ففي رأي المالكية: لا فرق في نوع الغيبة بين أن تكون بعذر كطلب العلم والتجارة أم بغير عذر. وجعلوا حد الغيبة الطويلة سنة فأكثر على المعتمد، وفي قول: ثلاث سنوات. ويفرق القاضي في الحال بمجرد طلب الزوجة إن كان مكان الزوج مجهولاً، وينذره إما بالحضور أو الطلاق أو إرسال النفقة، ويحدد له مدة بحسب ما يرى إن كان مكان الزوج معلوماً. ويكون الطلاق بائناً؛ لأن كل فرقة يوقعها القاضي تكون طلاقاً بائناً إلا الفرقة بسبب الإيلاء وعدم الإنفاق.
وفي رأي الحنابلة: تجوز الفرقة للغيبة إلاإذا كانت لعذر، وحد الغيبة ستة أشهر فأكثر، عملاً بتوقيت عمر رضي الله عنه للناس في مغازيهم، ويفرق القاضي في الحال متى أثبتت الزوجة ما تدعيه. والفرقة تكون فسخاً لا طلاقاً، فلا تنقص عدد الطلقات؛ لأنها فرقة من جهة الزوجة، والفرقة من جهة الزوجة تكون عندهم فسخاً.
ولا تكون هذه الفرقة إلا بحكم القاضي، ولا يجوز له التفريق إلا بطلب المرأة؛ لأنه لحقها، فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة.
__________
(1) الدر المختار: 903/2، مغني المحتاج: 442/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 216، الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه: 746/2، كشاف القناع: 124/5، المغني: 588/7 وما بعدها، 576 وما بعدها(9/500)
ثانياً ـ موقف القانون من التفريق للغيبة:
نص القانون المصري لعام 1929 (م 12، 13) على جواز التفريق للغيبة لمدة سنة فأكثر بلا عذر مقبول، بعد إنذار الزوجة بتطليقها عليه إن لم يحضر أو ينقلها إليه، أو يطلقها، وتكون الفرقة طلاقاً بائناً، أخذاً برأي المالكية.
ونص القانون السوري على التفريق للغيبة في المادة (109) التالية: 1 - إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه.
2 - هذا التفريق طلاق رجعي، فإذا رجع الغائب، أو أطلق السجين، والمرأة في العدة، حق له مراجعتها.
دل النص على أنه يشترط للتفريق ما يلي:
1ً - أن تمضي سنة فأكثر على الغياب.
2ً - أن يكون الغياب لغير عذر مقبول. فإن كان لعذر مقبول لم يحق لها طلب التفريق، كالغياب في الجهاد أو الجندية الإجبارية أو لطلب العلم.
والتفريق للغيبة بطلب الزوجة يكون في الحال إن كان مكان الزوج غير معلوم. أما إن كان مكانه معلوماً، فيطلب القاضي منه أن يحضر لأخذ زوجته إليه، ويحدد له أجلاً معيناً، فإن لم يفعل فرق القاضي بينهما. والتفريق طلاق رجعي، وهذا مخالف لمذهب المالكية في أنه طلاق بائن، ولمذهب الحنابلة في أنه فسخ.(9/501)
المبحث السادس ـ التفريق للحبس:
لم يجز جمهور الفقهاء غيرالمالكية التفريق لحبس الزوج أو أسره أو اعتقاله، لعدم وجود دليل شرعي بذلك. ولاتعد غيبة المسجون ونحوه عند الحنابلة غيبة بعذر. أما المالكية (1) فأجازوا طلب التفريق للغيبة سنة فأكثر، سواء أكانت بعذر أم بدون عذر، كما تقدم. فإذا كانت مدةا لحبس سنة فأكثر جاز لزوجته طلب التفريق، ويفرق القاضي بينهما، بدون كتابة إلى الزوج أو إنظار. وتكون الفرقة طلاقاً بائناً.
ونص القانون المصري لسنة 1929 (م 14) على حق المرأة في طلب التفريق بعد مضي سنة من حبس زوجها الذي صدر في حقه عقوبة حبس مدة ثلاث سنين فأكثر، والطلاق بائن، كما هو رأي المالكية.
أما القانون السوري فذكر في المادة (109) السابقة هذا الحق كالتفريق للغيبة على السواء.
المبحث السابع ـ التفريق بالإيلاء:
لم يتعرض قانون الأحوال الشخصية السوري لحالتين من حالات انحلال الزواج وهما الإيلاء والظهار، كما لم يتعرض للعان.
أولاً ـ تاريخ الإيلاء ومعناه وألفاظه:
الإيلاء لغة: الحلف، وهو يمين، وكان هو والظهار طلاقاً في الجاهلية، وكان يستخدمه العرب بقصد الإضرار بالزوجة، عن طريق الحلف بترك قربانها السنة فأكثر، ثم يكرر الحلف بانتهاءالمدة، ثم جاء الشرع فغيَّر حكمه، وجعله يميناً ينتهي بمدة أقصاها أربعة أشهر، فإن عاد حنث في يمينه، ولزمته كفارة اليمين إن حلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته التي يحلف بها. قال ابن عباس (2) «كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقَّته الله أربعة أشهر» فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر، فليس بإيلاء، أي أن الشرع أقره طلاقاً وزاد فيه الأجل.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 519/2.
(2) البدائع: 171/2 وما بعدها.(9/502)
والأصل في تنظيم يمين الإيلاء وحكمه قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/2-227] .
وعدِّي الإيلاء في الآية بمن، والأصل أن يعدى بعلى، لأن كلمة (يؤلون) ضُمِّنت معنى: يعتزلون أو معنى البعد، كأنه قال: يؤلون مبعدين أنفسهم من نسائهم. والفيء: الرجوع لغة، والمراد به فقهاً: الجماع، بالاتفاق.
والإيلاء: حرام عند الجمهور للإيذاء، ولأنه يمين على ترك واجب، مكروه تحريماً عند الحنفية.
والإيلاء شرعاً: الحلف ـ بالله تعالى أو بصفة من صفاته أو بنذر أو تعليق طلاق ـ على ترك قربان زوجته مدة مخصوصة. وهذا تعريف الحنفية (1) فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون، ويصح عندهم إيلاء الكافر؛ لأنه من أهل الطلاق. وعرفه المالكية (2) بأنه حلف زوج مسلم مكلف ممكن الوطء بما يدل على ترك وطء زوجته غير المرضع أكثر من أربعة أشهر، سواء أكان الحلف بالله أم بصفة من صفاته، أم بالطلاق، أم بمشي إلى مكة، أم بالتزام قربة.
يتبين من التعريف أن الإيلاء يختص عند المالكية بالزوج المسلم لا الكافر، وبالمكلف (البالغ العاقل) لا الصبي والمجنون، وبالممكن وطؤه ولو سكراناً، لا المجبوب والخصي، والشيخ الفاني، فلا ينعقد لهم إيلاء، كما لا إيلاء من المرضع، لما في ترك وطئها من إصلاح الولد، ولا إيلاء فيما دون الأربعة أشهر.
__________
(1) الدر المختار: 749/2، اللباب: 59/3، البدائع: 161/3.
(2) الشرح الصغير: 619/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 426/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص241.(9/503)
وعرفه الشافعية (1) : بأنه حلف زوج يصح طلاقه على الامتناع من وطء زوجته مطلقاً، أو فوق أربعة أشهر، سواء في المذهب الجديد أكان حلفاً بالله أم بصفة من صفاته، أم باليمين بالطلاق مثل: إن وطئتك فأنت أو ضَرتك طالق؛ لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح به الإيلاء، كاليمين بالله عز وجل، أم بنذر مثل: إن وطئتك فلله علي صلاة أو صوم أو حج. وذلك وفاقاً للمالكية. فلا يصح إيلاء من الصبي والمجنون والمكره لعدم صحة طلاقهم، ولا يصح أيضاً إيلاء عنِّين ومجبوب؛ لأنه وإن صح طلاقهما لا يصح إيلاؤهما؛ لأنه لا يتحقق منها قصد الإيذاء بالامتناع عن الجماع.
وعرفه الحنابلة (2) : بأنه حلف زوج يمكنه الجماع، بالله تعالى أو بصفة من صفاته، على ترك وطء امرأته الممكن جماعها، ولو كان الحلف قبل الدخول، مطلقاً أو أكثر من أربعة أشهر أو ينويها. فلا يصح إيلاء عنين ومجبوب لعدم إمكان الجماع، ولا الحلف بالطلاق ونحوه ولا بنذر، ولا إيلاء من رتقاء ونحوها.
وعلى هذا يصح الإيلاء من الكافر في مذهبي الشافعية والحنابلة كالحنفية.
ألفاظ الإيلاء:
الإيلاء إما بلفظ صريح وإما بلفظ كناية يدل على الامتناع من الجماع (3) .
__________
(1) مغني المحتاج: 343/3-344، المهذب: 105/2.
(2) كشاف القناع: 406/5.
(3) الدر المختار: 752/2-760، البدائع: 162/3، اللباب: 62/3، 63، الشرح الصغير: 620/2-623، الشرح الكبير: 428/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 345/3 وما بعدها، المغني: 315/7 ومابعدها، كشاف القناع: 408/5 وما بعدها.(9/504)
من الألفاظ الصريحة عند الحنفية والمالكية: قول الزوج لزوجته: والله لا أقربك أو لا أجامعك أو لا أطؤك أو لا أغتسل منك من جنابة، ونحوه من كل ما ينعقد به اليمين، أو قوله: (والله لا أقربك أربعة أشهر) حتى ولو كان الكلام موجهاً لحائض، لتعيين المدة. أو قوله عند الجمهور غير الحنابلة: إن قربتك فعلي حج أو نحوه مما يشق فعله، أما ما لا يشق فعله مثل: (فعلي صلاة ركعتين) فليس بمولٍ عند الحنفية لعدم مشقتهما، بخلاف قوله: فعلي مئة ركعة، فإنه يكون مولياً. أو قوله عند غير الحنابلة: إن قربتك فأنت طالق. وعلى هذا فالصريح عند الحنفية لفظان: الجماع وما في معناه من التعبير بالنون والكاف (1) ، وما يجري مجرى الصريح ألفاظ ثلاثة: القربان والمباضعة والوطء.
وصريح الإيلاء عند الشافعية: الحلف على ترك الوطء أو الجماع أو افتضاض البكر ونحو ذلك، والصريح عند الحنابلة: ثلاثة ألفاظ وهي قوله: والله لا آتيك، ولا أدخل ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك، ولا افتضضتك للبكر خاصة. وعندهم ألفاظ عشرة صريحة في الحكم أو القضاء، ويدين فيها ما نواه عندهم فيما بينه وبين الله تعالى: وهي لا وطئتك، ولا جامعتك، ولا أصبتك، ولا باشرتك، ولا مسستك، ولا قربتك، ولا أتيتك، ولا باضعتك، ولا باعلتك، ولا اغتسلت منك، فهذه صريحة قضاء لأنها تستعمل عرفاً في الوطء.
والجديد عند الشافعية: أن الحلف بألفاظ الملامسة والمباضعة والمباشرة والإتيان والغشيان والقِرْبان والإفضاء والمس والدخول ونحوها كنايات تفتقر لنية الوطء؛ لأن لها حقائق غيرالوطء، ولم تشتهر اشتهار ألفاظ الوطء والجماع والإيلاج وافتضاض البكر.
__________
(1) لا حياء في الدين أي في بيان أحكامه للناس فيما يصدر عنهم عادة.(9/505)
وأصل حكم الإيلاء: قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/2-227] .
ومن ألفاظ الكناية التي تحتاج إلى نية عند الحنفية: أن يحلف بقوله: لا أمسك، لا آتيك، لا أغشاك؛ لا أقرب فراشك، لا أدخل عليك. ولو قال: «أنت علي حرام» فهو إيلاء إن نوى التحريم، أو لم ينو شيئاً، وظهار إن نواه، فإن نوى الكذب فهو إيلاء قضاء؛ لأن تحريم الحلال يمين، وهدر باطل ديانة.
وألفاظ الكناية التي لا تكون إيلاء إلا بالنية عند الحنابلة هي ما عدا الألفاظ السابقة الصريحة في حكم الصريح، كقول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء، لا قربت فراشك، لا آويت معك، لا نمت عندك، لأسوأنك، لأغيظنك، لتطولن غيبتي عنك، لا مسّ جلدي جلدك ونحوها، فإن أراد بها الجماع واعترف بذلك، كان مولياً، وإلا فلا؛ لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها، ولم يرد النص باستعمالها فيه، إلا أن هذه الألفاظ نوعان: نوع منها يفتقر إلى نية الجماع والمدة معاً: وهي لأسوأنك، ولأغيظنك، ولتطولن غيبتي عنك، فلا يكون مولياً حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر. وباقي الألفاظ يكون مولياً بنية ترك الجماع فقط.
لغة الإيلاء: يصح الإيلاء بكل لغة عربية وعجمية (1) ، سواء أكان المولي ممن يحسن العربية أم ممن لا يحسنها، فيصح من عجمي بالعربية، ومن عربي بالعجمية إن عرف المعنى كما في الطلاق وغيره؛ لأن اليمين تنعقد بغير العربية، وتجب بها الكفارة، والمولي: هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته، الممتنع من ذلك بيمينه.
__________
(1) المغني: 317/7، مغني المحتاج: 343/3.(9/506)
ثانياً ـ أركان الإيلاء وشروطه:
ركن الإيلاء عند الحنفية: هو الحلف على ترك قربان امرأته مدة، ولو ذمياً، أو هو الصيغة التي ينعقد بها، من الألفاظ الصريحة أو الكناية المتقدمة، وما عداها فهو من شروط الإيلاء، وينعقد الإيلاء ككل الأيمان سواء في حالة الرضا أو الغضب.
وأما عند الجمهور فللإيلاء أركان أربعة: هي الحالف، والمحلوف به، والمحلوف عليه، والمدة (1) .
1 - الحالف: هو المولي وهو عند المالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ يتصور منه الوقاع، حراً كان أو عبداً، صحيحاً كان أو مريضاً، فلا يصح إيلاء الذمي.
وهو عند الحنفية: كل زوج له أهلية الطلاق، وهو كل عاقل بالغ، مالك النكاح، وأضافه إلى الملك، أو هو الذي لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء شاق يلزمه. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل الطلاق، ويصح إيلاء الذمي الكافر؛ لأن الكافر من أهل الطلاق، ويصح إيلاء العبد بما لا يتعلق بالمال، مثل إن قربتك فعلي صوم أو حج أو عمرة، أو امرأتي طالق، أو والله لا أقربك، فإن حنث لزمه الكفارة بالصوم. أما ما يتعلق بالمال مثل إن قربتك فعلي عتق رقبة، أو أن أتصدق بكذا، فلا يصح؛ لأنه ليس من أهل ملك المال. ولا يصح الإيلاء لو قال لامرأة أجنبية، أو لمن أبانها بثلاث أو بطلاق بائن: «والله لا أقربك» لأنه غير مالك النكاح، لكن إن أضاف ذلك إلى الملك بأن قال للأجنبية أو المبانة منه: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، كان مولياً.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 241، مغني المحتاج: 343/3، المهذب: 105/2، الشرح الكبير: 426/2، المغني: 298/7، 314، كشاف القناع: 406/5 ومابعدها، غاية المنتهى: 188/3، الدر المختار: 750/2-752، البدائع: 171/3-175.(9/507)
والمولي عند الشافعية: كل زوج يصح طلاقه أو هو كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء. فلا يصح إيلاء الصبي والمجنون والمكره، والمجبوب والأشل، ولا يصح الإيلاء على المذهب من رتقاء أو قرناء؛ لأنه لا يتحقق منه قصد الإيذاء والإضرار، لامتناع الأمر في نفسه.
ويصح إيلاء المريض والمحبوس والحر والعبد، والمسلم والكافر والخصي والسكران المتعدي بسكره؛ لأنه يصح طلاقه في الجملة.
والحالف المولي عند الحنابلة: هو كل زوج يمكنه الجماع، يحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته على ترك وطء امرأته الممكن جماعها أكثر من أربعة أشهر. فلا يصح إيلاء عاجز عن وطء مثل عنِّين ومجبوب وأشل، ولا بنذر أو طلاق ونحوه، ولا من امرأة رتقاء ونحوها، ولا يصح من صبي مميز أو مجنون أو مغمى عليه، ويصح الإيلاء من كافر وعبد وغضبان وسكران ومريض مرجو برؤه، ومن لم يدخل بزوجته.
وبه يتبين أن الجمهور يجيزون إيلاء الكافر، والمالكية لا يجيزونه.
2 - المحلوف به: هو الله تعالى وصفاته بالاتفاق، وكذا عند الجمهور غير الحنابلة: كل يمين يلزم عنها حكم كالطلاق والعتق والنذر لصيام أو صلاة أو حج وغير ذلك. وخص الحنابلة المحلوف به بالله تعالى أو صفة من صفاته، لا بطلاق أو نذر ونحوهما.
ورأى المالكية والحنابلة: أن من ترك الوطء بغير يمين، لزمه حكم الإيلاء إذا قصد الإضرار، فيحدد له مدة أربعة أشهر، ثم يحكم له بحكم الإيلاء؛ لأنه تارك لوطئها ضرراً بها، فأشبه المولي. وكذلك من ظاهر من زوجته، ولم يكفِّر كفارة الظهار، تضرب له مدة الإيلاء ضرراً بها، فأشبه المولي، ويثبت له حكمه، لقصده الإضرار بها أيضاً.(9/508)
3 - المحلوف عليه: هو الجماع، بكل لفظ يقتضي ذلك، مثل: لا جامعتك ولا اغتسلت منك، ولا دنوت منك، وشبه ذلك من الألفاظ الصريحة والكناية المتقدمة.
4 - المدة: وهي في رأي الجمهور غير الحنفية أن يحلف الزوج ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر. وفي رأي الحنفية: أقل المدة أربعة أشهر فأكثر. فلو حلف على ثلاثة أشهر أوأربعة لم يكن مولياً عند الجمهور، ويكون مولياً عند الحنفية في أربعة أشهر، وليس مولياً في أقل من أربعة أشهر.
وسبب اختلافهم يرجع إلى اختلافهم في الفيء: وهو الرجوع إلى قربان الزوجة، هل يكون قبل مضي الأربعة أشهر أو يكون بعد مضيها؟ فالحنفية قالوا: يكون الفيء قبل مضيها، فتكون مدة الإيلاء أربعة أشهر، والجمهور قالوا: الفيء بعد مضيها، فتكون مدة الإيلاء أزيد من أربعة أشهر.
شروط الإيلاء:
شروط الإيلاء عند الحنفية (1) ستة وهي ما يأتي:
1ً - محلية المرأة بكونها زوجة، ولو حكماً كالمعتدة من طلاق رجعي، وقت تنجيز الإيلاء، فإن كانت المرأة بائنة من زوجها بثلاث أو بلفظ بائن لم يصح الإيلاء منها.
2ً - وأهلية الزوج للطلاق: فصح إيلاء الذمي بغير ما هو قربة محضة من نحو حج وصوم. وفائدة تصحيح إيلاء الذمي، وإن لم تلزمه الكفارة بالحنث: هي وقوع الطلاق بترك قربان المرأة في مدة الإيلاء.
3ً - ألا يقيد بمكان: لأنه يمكن قربان المرأة في غيره.
4ً - ألا يجمع بين الزوجة وغيرها كأجنبية؛ لأنه يمكنه قربان امرأته وحدها بلا لزوم شيء.
5ً - أن يكون المنع من القربان فقط.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 750/2 وما بعدها، البدائع: 170/3-173.(9/509)
6ً - ترك الفيء أي الجماع في المدة المقررة وهي أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل عزم الطلاق شرطاً لوقوعه بقوله: {فإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} [البقرة:227/2] وكلمة (إن) للشرط، وعزم الطلاق: ترك الفيء في المدة. ودليلهم على أن المدة هي أربعة أشهر: أن الفيئة تكون في مدة الأربعة أشهر، لا بعدها.
وذكر الحنابلة وبقية المذاهب أربعة شروط للإيلاء هي ما يأتي (1) :
1ً - أن يحلف الزوج بالله عز وجل أو بصفة من صفاته كالرحمن ورب العالمين ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر أو يحلف عند المالكية والشافعية والحنفية على ترك الوطء بطلاق أو عتاق أو نذر صدقة المال أو الحج أو الظهار، لما قال ابن عباس: «كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء» ولأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلف بالله، ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف، فيكون مولياً لتحقق المنع باليمين، وهو ذكر الشرط والجزاء.
ولا يكون الحلف بالطلاق والعتاق إيلاء على الرواية المشهورة عند الحنابلة؛ لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم، بدليل قراءة أبيّ وابن عباس: «للذين يقسمون» مكان (يؤلون) وفسر ابن عباس: (يؤلون) بقوله: (يحلفون بالله) والتعليق بشرط ليس بقسم، فلا يكون إيلاء، وإنما يسمى حلفاً تجوزاً لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم: وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر، ويحمل الكلام عند إطلاقه على الحقيقة لا على المجاز.
__________
(1) الشرح الصغير: 619/2-625، القوانين الفقهية: ص 241، المهذب: 105/2 ومابعدها، المغني: 298/7، 300، 311-315، كشاف القناع: 407/5-410، 416، بداية المجتهد: 100/2، اللباب: 61/3، الدر المختار: 757/2، البدائع: 171/3، مغني المحتاج: 344/3.(9/510)
وإن قال: (إن وطئتك فلله علي صوم أو حج أو عمرة) يكون إيلاء عند الجمهور، وقيده الحنفية بفعل فيه مشقة، لا بصلاة نحو ركعتين، فليس بمولٍ لعدم مشقتهما. والتزام صلاة مئة ركعة يجعله مولياً.
ولا إيلاء أيضاً عند الحنابلة إن حلف على ترك الوطء بنذر أو صدقة مال أو حج أو ظهار أو تحريم مباح ونحوه، فلا يكون الزوج مولياً؛ لأنه لم يحلف بالله تعالى، فأشبه ما لو حلف بالكعبة.
2ً - أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر؛ لأن الله تعالى جعل للحالف تربص أو انتظار أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص؛ لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه، فدل على أنه لايصير بما دون تلك المدة مولياً، ولأن الضرر لا يتحقق بترك الوطء فيما دون أربعة أشهر، بدليل ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل: «كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقيل: شهرين وفي الثالث: يقل الصبر، وفي الرابع: ينفذ الصبر» فإذا نفذ صبرها طالبت، فلا بد من الزيادة على ذلك، ويكفي زيادة لحظة.
3ً - أن يحلف الزوج على ترك الوطء في القُبُل (أو الفرج) : فإن ترك الوطء بغير يمين ولا قصد إضرار، لم يكن مولياً لظاهر الآية: {للذين يؤلون ... } [البقرة:226/2] وإن قال: لا وطئتك في الدبر، لم يكن مولياً؛ لأنه لم يترك الوطء الواجب عليه، ولا تتضرر المرأة بتركه، وإنما هو وطء محرم، وقد أكد منع نفسه منه بيمينه.
وكذا إن قال: (والله، لا وطئتك دون الفرج) لم يكن مولياً؛ لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب في الفيئة، ولا ضرر على المرأة في تركه.
4ً - أن يكون المحلوف عليها امرأته، لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/2] ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه، فلا يكون مولياً منها، كالأجنبية. وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها، لم يكن مولياً؛ لأنه إذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصداً الإضرار، فأشبه الممتنع بغير يمين.(9/511)
ويصح الإيلاء بالاتفاق من المطلقة الرجعية في العدة؛ لأنها في حكم الزوجة يلحقها الطلاق، فيلحقها الإيلاء.
ولا يصح من المطلقة البائنة، لانقطاع الزوجية.
ويصح الإيلاء من كل زوجة، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، لعموم قوله سبحانه: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/2] ولأن كل واحدة منهن زوجة، فصح الإيلاء منها كالحرة المسلمة. ويصح الإيلاء قبل الدخول وبعده، لعموم الآية، ولتوافر المعنى؛ لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه، فأشبه ما بعد الدخول. ويصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة، إلا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون؛ لأنهما ليسا من أهل المطالبة.
ولا يصح الإيلاء من الرتقاء والقرناء؛ لأن الوطء متعذر دائماً، فلم تنعقد اليمين على تركه، كما لو حلف عى ألا يصعد السماء.
أما الحالف فقد عرفنا شرطه: فهو أن يكون زوجاً عاقلاً بالغاً قادراً على الوطء، ومسلماً عند المالكية. فلا يصح إيلاء غير الزوج، ولا إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن القلم مرفوع عنهما وليسا مكلفين، ولا إيلاء المجبوب والأشل، للعجز عن الوطء وتعذره منه قبل اليمين، ولا تتضرر المرأة بيمينه، ويصح عند الحنفية والشافعية والحنابلة إيلاء المسلم والكافر والحر والعبد، والسليم والخصي، والمريض الذي يرجى برؤه، والمحبوس والسكران، لقدرتهم على الوطء، فصح من كل منهم الامتناع عنه ولعموم آية الإيلاء، ولا يصح الإيلاء عند المالكية من الكافر؛ لأنه ليس أهلاً للكفارة عن اليمين، ولأنه ليس أهلاً للمغفرة والرحمة بالفيئة المصرح عنها في الآية: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/2] فإن الكافر لا تحصل له مغفرة ولا رحمة بالفيئة.
ويصح الإيلاء في حال الرضا والغضب، فلا يشترط في الإيلاء كونه في حال الغضب، ولا قصد الإضرار، لعموم آية الإيلاء، ولأن الإيلاء كالطلاق والظهار وسائر الأيمان، سواء في الغضب والرضا، ولأن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضا، فكذلك في الإيلاء.(9/512)
ثالثاً ـ حكم الإيلاء:
ليمين الإيلاء عند الحنفية حكم أخروي، وحكم دنيوي (1) :
أما الحكم الأخروي: فهو الإثم إن لم يفئ إليها، لقوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} [البقرة:226/2] لأن الإيلاء مكروه تحريماً عندهم.
وأما الحكم الدنيوي: فيتعلق بالإيلاء حكمان: حكم الحنث، وحكم البر.
أما حكم الحنث: فهو لزوم الكفارة أو الجزاء المعلق إن حنث في يمينه، فإن وطئها في مدة الأربعة الأشهر، حنث في يمينه، لفعله المحلوف عليه، ويختلف حكم الحنث باختلاف المحلوف به: فإن كان الحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته مثل: (والله لا أقربك) ، فتجب عليه كفارة اليمين كسائر الأيمان، وهي إطعام عشرة مساكين يوماً واحداً، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، بالنسبة للموسر، فإن لم يجد شيئاً من ذلك، بأن كان معسراً، وجب عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. وإذا لزمته الكفارة سقط الإيلاء.
وإن كان الحلف بالشرط والجزاء مثل: (إن قربتك فعلي حج، أو أنت طالق) فيلزمه الجزاء المعلَّق إن حنث، أي يلزمه المحلوف به كسائر الأيمان المعلقة بالشرط والجزاء.
وأما حكم البر: بأن لم يطأ الزوجة المحلوف عليها أو لم يقربها، فهو وقوع طلقة بائنة، بدون حاجة لرفع الأمر إلى القاضي، بمجرد مضي المدة من غير فيء، أي لم يرجع إلى ما حلف عليه، جزاء على ظلمه، ورحمة على المرأة ونظراً لمصلحتها بتخليصها منه، لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر.
__________
(1) البدائع: 175/3-177، الدر المختار ورد المحتار: 749/2-750، اللباب: 60/3.(9/513)
ودليلهم على كونه طلاقاً بائناً: هو العمل برأي جماعة من الصحابة وهم عثمان وعلي والعبادلة الثلاثة (ابن مسعود وابن عباس وابن عمر) وزيد بن ثابت فإنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ولأن دفع الظلم عن المرأة لا يكون إلا بالبائن، لتتخلص منه، فتتمكن من الزواج بآخر.
وقدر هذا الطلاق عند الحنفية ما عدا زفر (1) : أن الطلاق يتبع المدة، لا اليمين فيكون واحداً باتحاد المدة، ويتعدد بتعددها. وعلى هذا: إذا قال الرجل لامرأته: «والله لا أقربك، أو لا أقربك أربعة أشهر» فإن كان حلف على مدة الإيلاء فقط أربعة أشهر، فقد سقطت اليمين؛ لأنها كانت مؤقتة بوقت، فترتفع بمضيه.
وإن كان حلف على الأبد، فاليمين باقية بعد البينونة لعدم الحنث، فإن عاد إليها فتزوجها ثانياً، عاد الإيلاء؛ لأن زوال الملك بعد اليمين لا يبطلها، فإن وطئها حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء؛ لأنه يرتفع بالحنث، وإن لم يطأها وقعت بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى؛ لأن بالتزوج ثبت حقها، فيتحقق الظلم، فيعتبر ابتداء هذا الإيلاء من وقت التزوج. فإن عاد إليها وتزوجها ثالثاً عاد الإيلاء ووقع بمضي أربعة أشهر أخرى تطليقة أخرى لبقاء طلاق ذلك الملك ببقاء المحلية. فإن عاد إليها وتزوجها رابعاً بعد حلها بتزوج زوج آخر، لم يقع بالإيلاء طلاق، لزوال طلاق ذلك الملك بزوال المحلية، ولكن اليمين باقية لعدم الحنث، فإن وطئها كفَّر عن يمينه لوجود الحنث.
ودليل جمهور الحنفية: أن سبب اعتبار الإيلاء يميناً هو منع حق المرأة في الجماع في المدة، والمنع يتحد باتحاد المدة فيتحد الظلم فيتحد الطلاق، ويتعدد بتعدد المدة فيتعدد الظلم، فيتعدد الطلاق، وأما الكفارة فتجب لهتك حرمة اسم الله عز وجل، والهتك يتحد ويتعدد بحسب اتحاد الاسم وتعدده.
__________
(1) رأي زفر: أن الطلاق يتبع اليمين، فيتعدد بتعدد اليمين، ويتحد باتحادها؛ لأن وقوع الطلاق ولزوم الكفارة حكم الإيلاء، والإيلاء يمين، فيدور الحكم مع اليمين، فيتحد باتحادها، ويتعدد بتعددها؛ لأن الحكم يدور مع سببه.(9/514)
والفيء عند الحنفية (1) : نوعان: فعل وقول:
أما الفعل: فهو الجماع في الفرج، فلو جامعها فيما دون الفرج، أو قبَّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، لم يكن ذلك فيئاً؛ لأن حقها في الجماع في الفرج، فصار ظالماً بمنعه، فلا يندفع الظلم إلا به.
وأما القول: فصورته أن يقول لها: فئت إليك، أو راجعتك، أو ما أشبه ذلك.
ويشترط لصحته شروط ثلاثة:
أحدها ـ العجز عن الجماع: فلا يصح الفيء بالقول مع القدرة على الجماع؛ لأن القول بدل عن الجماع، كالتيمم مع الوضوء.
والعجز نوعان: حقيقي وحكمي، أما الحقيقي: فنحو أن يكون أحد الزوجين مريضاً مرضاً يتعذر معه الجماع، أو كانت المرأة صغيرة لا يجامع مثلها، أو رتقاء، أو يكون الزوج مجبوباً، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها مدة الإيلاء، أو تكون ناشزة محتجبة في مكان لا يعرفه، أو يكون محبوساً لا يقدر أن يدخل بها.
وأما الحكمي أو الشرعي: فمثل أن يكون محرماً وقت الإيلاء، وبينه وبين الحج أربعة أشهر.
والثاني ـ دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي مدة الإيلاء: فلو قدر على الجماع في أثناء المدة، بطل الفيء بالقول، وانتقل إلى الفيء بالجماع. وكذا إن صح من مرضه في المدة بطل الفيء باللسان وصار فيئه بالجماع؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود، فيبطل الخلف، كالمتيمم إذا قدر على الماء في الصلاة.
__________
(1) البدائع: 173/3 وما بعدها.(9/515)
الثالث ـ قيام ملك النكاح وقت الفيء بالقول: وهو أن تكون المرأة في حال الفي إليها زوجته غير بائنة منه، فإن كانت بائنة منه، ففاء بلسانه، لم يكن ذلك فيئاً، ويبقى الإيلاء. وهذا بخلاف الفيء بالجماع، فإنه يصح بعد زوال الملك وثبوت البينونة، فلا يبقى الإيلاء ويبطل؛ لأنه حنث بالوطء، فانحلت اليمين وبطلت.
شرط الفيء بنوعيه: يشترط أن يكون الفيء قبل مضي الأربعة الأشهر، فإن فاء في المدة حنث بيمينه، ولزمته الكفارة، وسقط الإيلاء، وإن لم يفيء حتى مضت أربعة أشهر، بانت منه بتطليقة (1) .
الاختلاف في الفيء: إذا اختلف الزوج والمرأة في الفيء مع بقاء المدة، بأن ادعى الزوج الفيء، وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج؛ لأن المدة إذا كانت باقية، فالزوج يملك الفيء فيها، وقد ادعى الفيء في وقت يملك إنشاءه فيه، فكان الظاهر شاهداً له، فكان القول قوله.
وإن اختلفا بعد مضي المدة، فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعي الفيء في وقت لا يملك إنشاء الفيء فيه، فكان الظاهر شاهداً عليه للمرأة، فكان القول قولها (2) .
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 60/3.
(2) البدائع: 173/3.(9/516)
حكم الفيء عند الجمهور غير الحنفية (1) :
الكلام فيه يشمل أمرين:
الأول ـ مدة الإمهال بلا قاض: إذا آلى الزوج من زوجته، لم يطالب بشيء من وطء وغيره قبل أربعة أشهر، لقوله عز وجل: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} [البقرة:226/2] .
وابتداء المدة من حين اليمين؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم تفتقر إلى تحديد كمدة العنة التي يحددها القاضي.
فإن وطئها فقد أوفاها حقها قبل انتهاء المدة، وخرج من الإيلاء، وإن وطئها بعد المدة قبل مطالبة المرأة أو بعدها، خرج من الإيلاء أيضاً؛ لأنه فعل ما حلف عليه.
وإن لم يطأ، رفعت الزوجة الأمر إلى القاضي إن شاءت، وحينئذ يأمره القاضي بالفيئة إلى الوطء، فإن أبى، طلق القاضي عليه، ويقع الطلاق رجعياً.
أي أن الطلاق الواجب على المولي عند الجمهور رجعي، سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه؛ لأنه طلاق لامرأة مدخول بها من غير عوض، ولا استيفاء عدد، فكان رجعياً كالطلاق في غير الإيلاء، بخلاف فرقة العنة فإنها فسخ لعيب، ولأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع فيحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن.
وأما عند الحنفية فقد تقدم أنه طلاق بائن؛ لأنها فرقة لرفع الضرر، فكان بائناً كفرقة العنة.
والفيئة: الجماع المعروف أو الوطء باتفاق العلماء، وأدنى الوطء تغييب الحشفة في الفرج إن كانت ثيباً، وافتضاض البكارة إن كانت بكراً.
فلو وطئ دون الفرج لم يكن فيئة؛ لأنه ليس بمحلوف على تركه، ولا يزول الضرر على المرأة بفعله. ولا بد من أن يكون الواطئ عالماً عامداً عاقلاً مختاراً، فإن وطئ ناسياً أو مكرهاً أو مجنوناً لم يحنث وبقي الإيلاء، وإن وطئها وطئاً حراماً مثل إن وطئها حائضاً أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض أو كان محرماً أو صائماً أو مظاهراً، حنث وخرج من الإيلاء عند الشافعية والحنابلة، بل حتى لو كان الوطء في الدبر عند الشافعية لحصول المقصود. وقال المالكية والحنفية: إن شرط الوطء الكافي أن يكون حلالاً، فلا يكفي الحرام كما في الحيض والإحرام، ويطالب بالفيئة بعد زوال المانع، وإن حنث بالحرام فيلزمه الكفارة ولا تنحل يمين الإيلاء.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 241 وما بعدها، بداية المجتهد: 99/2-103، الشرح الصغير: 629/2-631، مغني المحتاج: 348/3-351، المهذب: 108/2-111، المغني: 318/7-337.(9/517)
وإذا فاء لزمته الكفارة ـ كفارة اليمين ـ لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ... } [المائدة:89/5] وإن كان الإيلاء بتعليق طلاق، وقع بنفس الوطء؛ لأنه معلق بصفة وقد وجدت. وإن كان على نذر صدقة أو صوم أو صلاة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات، فيلزمه الوفاء به بالوطء، ويخير عند الشافعية والحنابلة بين الوفاء به وبين كفارة يمين؛ لأنه نذر لجاج وغضب.
الثاني ـ الفيئة حالة العجز عن الجماع:
أـ إن كان المانع من جهة المرأة يمنع الوطء منعاً شرعياً كحيض ونفاس، أو حسياً كمرض لا يمكن معه الوطء، فلا يطالب الزوج بالفيئة؛ لأن الوطء متعذر من جهتها، فكيف تطلبه أو تطلب ما يقوم مقامه وهو الطلاق، ولأن المطالبة تكون بالمستحق، وهي لاتستحق الوطء حينئذ.
ب ـ وإن كان المانع من الوطء من جهة الزوج مانعاً طبيعياً وهو حبس أو مرض يمنع الوطء، أو يخاف منه زيادة العلة أو بطء البرء، أو مانعاً شرعياً كإحرام بحج أو عمرة، أو كان مغلوباً على عقله بجنون أو إغماء، لم يطالب بالوطء، لأن المجنون والمغمى عليه لا يصلح للخطاب ولا يصح منه الجواب، وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر، ثم يطالب حينئذ. وكذا لا يطالب المحبوس والمريض والمحرم بالوطء بالفعل لتعذره، إنما يطالب بالفيء بالقول، أي بالوعد بالوطء إذا زال مانع المرض أو السجن أو الإحرام أو نحوها، أو بالطلاق إن لم يفئ، بأن يقول: إذا قدرت فئت، أو طلقت؛ لأن بهذا القول يندفع الأذى الموجه للمرأة الذي حصل باللسان.
لكن المذهب عند الشافعية أنه إذا كان في الزوج مانع شرعي كإحرام وظهار قبل التفكير، وصوم واجب، فيطالب بالطلاق؛ لأنه هو الذي يمكنه، ولا يطالب بالفيئة لحرمة الوطء، ويحرم عليها تمكينه.(9/518)
وإذا انقضت مدة الأربعة أشهر، فادعى أنه عاجز عن الوطء: فإن كان قد وطئها مرة، لم تسمع دعواه العنة، كما لا تسمع دعواها عليه، ويطالب بالفيئة أو بالطلاق كغيره. وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة، تسمع دعواه ويقبل قوله؛ لأن التعيين من العيوب التي لا يقف عليها غيره، فيقبل قوله مع اليمين. وللمرأة أن تطالب الحاكم بأن يضرب له مدة العنة وهي سنة، بشرط أن يفيء فيئة أهل الأعذار وهو الوعد بالوطءعند القدرة على الجماع، فيقول: متى قدرت جامعتها. يتبين من هذا أن الجمهور يتفقون مع الحنفية في أن الفيء يكون بالجماع أو بالقول عند العجز عن الجماع.
اختلاف الزوجين في الإيلاء أو في انقضاء مدته أو في حدوث الفيئة:
إذا اختلف الزوجان في الإيلاء أو في انقضاء مدته: بأنه ادعته عليه، فأنكر فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدمه، والأصل عدم انقضاء المدة.
وإن اختلفا في الفيئة، فقال الزوج: قد أصبتها، وأنكرت الزوجة:
فإن كانت ثيباً، كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي رفعه بما يلزم به الزوج، وهو يدعي ما يوافق الأصل ويبقيه، فكان القول قوله، كما لو ادعى الوطء في العنة كما سبق.
فإن نكل عن اليمين، حلفت الزوجة أنه لم يفء، وبقيت على حقها من الطلب بأن يفيء أو يطلق، فإن لم تحلف بقيت زوجة كما لو حلف.
وأما إن كانت بكراً، واختلفا في الإصابة، أريت النساء الثقات، فإن شهدن بثيوبتها، فالقول قول الزوج بيمينه، وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها بيمينها؛ لأنه لو وطئها زالت بكارتها.
وهذا متفق عليه بين الجمهور والحنفية.(9/519)
الطلاق في مدة الإيلاء: إن طلق المولي، فقد سقط حكم الإيلاء، وبقيت اليمين. فإن عاد فتزوجها عاد عند الجمهور غير الحنفية حكم الإيلاء من حين تزوجها، واستؤنفت المدة حينئذ، أي تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون، عمل بها، وإن كان أكثر من أربعة أشهر، تربص أربعة أشهر، ثم قيل له عند انقضائها: إما أن يفيء أو يطلِّق، فإن لم يطلق طلّق الحاكم عليه تطليقة، وتكون رجعية.
وقد بينت أن الإيلاء يعود عند الحنفية إن كان الطلاق أقل من ثلاث، وإن استوفى عدد الطلاق لم يعد الإيلاء.
ولا يطلق الحاكم عليه سوى تطليقة عند المالكية والشافعية؛ لأن إيفاء الحق يحصل بها، فلم يملك زيادة عليها، كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع عن إيفائه.
وأجاز الحنابلة للقاضي أن يطلق على الزوج ثلاثاً؛ لأن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معاً، قام القاضي مقامه، فإنه يملك من الطلاق ما يملكه المولي، ويكون الأمروالخبرة إليه، إن شاء طلق واحدة، وإن شاء اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء فسخ؛ لأن القاضي قام مقام المولي، فملك من الطلاق ما يملكه المولي، كما لو وكله في الطلاق، وليس ذلك زيادة على حقها، فإن حقها الفرقة، غير أنها تتنوع.
والراجح هو الرأي الأول؛ لأن الحاجة كالضرورة تقدر بقدرها، وتتحقق حاجة المرأة بالطلقة الواحدة.
العدة بعد الإيلاء: اتفقت المذاهب الأربعة على أن الزوجة المولى منها تلزمها العدة بعد الفرقة؛ لأنها مطلقة، فوجب أن تعتد كسائر المطلَّقات. وقال جابر بن زيد وهو مروي عن ابن عباس: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيضات؛ لأن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة. وسبب الخلاف: أن العدة اشتملت على مصلحة وجانب تعبدي، فمن لحظ المصلحة لم ير عليها عدة،، ومن لحظ جانب التعبد، أوجب عليها العدة.(9/520)
خلاصة الخلاف بين الحنفية والجمهور في حكم الإيلاء:
اختلف الجمهور مع الحنفية في أمرين:
الأول ـ أن الفيء عند الجمهور يكون قبل مضي المدة، ويكون بعدها. وعند الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة. وعليه إن حصل الفيء قبل مضي المدة، زال الإيلاء ولزم الحانث كفارة اليمين بالاتفاق. وإن لم يحصل الفيء بعد مضي المدة، رفعت الزوجة الأمر للقاضي، والقاضي يخير الزوج بين أمرين: الفيء أو الطلاق، فإن فعل، وإلا طلق عليه القاضي، ويكون الطلاق رجعياً لا بائناً، وعند الحنفية: الطلاق بائن.
ويجري العمل في مصر وسورية على رأي الجمهور.
الثاني ـ أن الطلاق عند الجمهور لا يقع بمجرد مضي المدة، وإنما يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه.
ويرى الحنفية: أنه بمجردمضي مدة الأربعة الأشهر، تطلق الزوجة طلقة بائنة.
وسبب الخلاف: تفسير المقصود من قوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:226/2-227] المعنى عند الحنفية: فإن فاؤوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في أيمانهم، كان ذلك عزماً منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. فتكون النتيجة: إذا مضت الأربعة أشهر بدون فيئة، وقع الطلاق.
والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاؤوا بعد مضي المدة، فإن الله غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين وعزم الظلم للمرأة، وإن عزموا الطلاق بعد انقضاء المدة، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شر، فيجازيهم عليه. والنتيجة: أن مضي الأجل لا يقع به طلاق، وإنما يعرض الأمر على الحاكم، فإما فاء وإما طلق.
الحنفية نظروا لقوله تعالى: {وإن عزموا الطلاق} [البقرة:227/2] بترك الفيئة، والجمهور نظروا لقوله تعالى: {فإن فاؤوا} [البقرة:226/2] بعد انقضاء المدة، والراجح لدي رأي الجمهور إذ لو وقع الطلاق بانقضاء المدة، لما كان هناك حاجة إلى العزم عليه بعد وقوعه، ولأن في إعطاء المهلة للرجل لمراجعة نفسه، وإدراك خطئه، خيراً من إيقاع الطلاق وإنهاء الزواج.(9/521)
المبحث الثامن ـ التفريق باللعان:
فيه ثمانية مطالب هي ما يأتي:
تعريف اللعان وسببه، ومشروعيته، أركانه وشروطه، وشروط المتلاعنين، كيفيته ودور القاضي في اللعان، ما يجب عند نكول أحد الزوجين أو رجوعه، هل اللعان شهادات أو أيمان؟، آثار اللعان، ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به، حكم اللعان قبل التفريق.
المطلب الأول ـ تعريف اللعان وسببه:
تعريف اللعان: اللعان لغة: مصدر لاعن كقاتل، من اللعن: وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وسمي به ما يحصل بين الزوجين؛ لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً، أو لأن الرجل هو الذي يلعن نفسه، وأطلق في جانب المرأة من مجاز التغليب، فسمي لعاناً لأنه قول الرجل وهو الذي بدئ به في الآية.
وعرفه الحنفية والحنابلة (1) بأنه: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن من جهة الزوج وبالغضب من جهة الزوجة، قائمة مقام حد القذف في حق الزوج، ومقام حد الزنا في حق الزوجة. لكن يصح اللعان في النكاح الفاسد في رأي الحنابلة، ولا يصح في رأي الحنفية، كما سيأتي.
__________
(1) الدر المختار: 805/2، اللباب: 74/3، كشاف القناع: 450/5.(9/522)
وعرفه المالكية (1) بأنه: حلف زوج مسلم مكلف على رؤية زنا زوجته، أو على نفي حملها منه، وحلف زوجة على تكذيبه أربعة أيمان، بصيغة: «أشهد بالله لرأيتها تزني ونحوه» وبحضور حاكم، سواء صح النكاح أو فسد. فلا يصح حلف غير زوج كأجنبي، ولا كافر، ولا صبي أو مجنون، ويكون الحلف بإشراف حاكم يشهد التلاعن، ويحكم بالتفريق، أو يحد من نكل، سواء صح الزواج بين الزوجين، أوفسد لثبوت النسب بالزواج الفاسد.
وعرفه الشافعية (2) بأنه: كلمات معلومة، جعلت حجة للمضطر إلى قذف من لطخ فراشه وألحق العار به، أو إلى نفي ولد.
وسبب اللعان أمران (3) :
أحدهما ـ قذف الرجل زوجته قذفاً يوجب حد الزنا لو قذف أجنبية. وهو عند المالكية: ادعاء رؤية الزنى بشرط ألا يطأها بعد الرؤية، فإن ادعى الزنى دون الرؤية، حد للقذف، ولم يجز اللعان على المشهور عندهم خلافاً لغيرهم.
والثاني ـ نفي الحمل أو الولد، ولو من وطء شبهة أو نكاح فاسد.
واشترط المالكية لنفي الحمل: أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلحق به الولد، وأن يدعي الاستبراء (4) بحيضة واحدة، وأن ينفيه قبل وضعه، فإن سكت حتى وضعته حد، ولم يلاعن.
أما القذف: فعلى النحو الذي بان في حد القذف يكون إما باللفظ الصريح بالزنا، كقول الشخص: يا زاني أو يا زانية، أو بما يجري مجرى الصريح وهو نفي النسب عن إنسان من أبيه المعروف، كأن يقول: (لست بابن فلان) .
أو بلفظ كناية عند الشافعية، كأن يقول: (زنأت في الجبل أو السلَّم أو نحوه) ؛ لأن الزنأ في الجبل ونحوه هو الصعود فيه، فإن نوى به القذف كان قذفاً. وهذا من الألفاظ الصريحة عند الحنفية.
__________
(1) الشرح الصغير: 657/2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 633/1.
(2) مغني المحتاج: 367/3.
(3) القوانين الفقهية: ص 244، البدائع: 239/3، مغني المحتاج: 367/3، 382، المغني: 392/7، 423.
(4) الاستبراء: طلب براءة الرحم، وله أسباب، منها الزنا أو سوء الظن، ففي الزنا تستبرأ المرأة بثلاث حيضات، وفي سوء الظن إن كانت المستبرأة في سن الحيض: فاستبراؤها بحيضة، وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل، وإن كانت صغيرة أو يائسة فتستبرأ عند الشافعي بشهر، وعند المالكية بثلاثة أشهر.(9/523)
أو بالتعريض، مثل: يا حلال ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، وهو قذف إن نوى به القذف عند الشافعية، وإن أفهم تعريضه القذف بالزنا عند المالكية، وليس بقذف عند الحنفية وفي الظاهر عند الحنابلة.
ويثبت القذف كما هو مبين في حد القذف إما بالبينة، أو الإقرار.
وأما نفي الولد: فهو أن يحضر الرجل عند الحاكم، ويذكر أن هذا الولد أو الحمل الموجود ليس مني. واختلف الفقهاء في وقت النفي وفي نفي الحمل:
قال أبو حنيفة (1) : إذا نفى الرجل ولد امرأته عقيب الولادة، أو في المدة التي تقبل فيها التهنئة وهي سبعة أيام عادة، أو التي تشترى فيها آلة الولادة، صح نفيه، ولاعن به؛ لأنه بالنفي صار قاذفاً. أما إن نفاه بعدئذ فلا ينتفي ويثبت نسب الولد، لوجود الاعتراف منه دلالة: وهو السكوت وقبول التهنئة، والسكوت يعتبر هنا رضا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال الصاحبان: يصح نفي الولد في مدةالنفاس؛ لأنه أثر الولادة.
واشترط المالكية (2) شرطين لصحة اللعان ولنفي الولد، وهما كما تقدم:
1ً - أن يدعي الزوج أنه لم يطأ زوجته لأمد يلتحق به الولد، أو أنه وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء.
2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه؛ فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حد ولم يلاعن، أي أنه يشترط لصحة اللعان التعجيل بعد العلم بالحمل أو الولد، فلو أخر بلا عذر لم يصح.
وأجاز الشافعية (3) نفي حمل، وانتظار وضعه، أما نفي الحمل: فلما ثبت في الصحيحين: «أن هلال بن أمية لاعن عن الحمل» ، وأما انتظار الوضع فلكي يلاعن عن يقين.
__________
(1) فتح القدير: 260/3 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 79/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 244، الشرح الصغير: 660/2-663.
(3) مغني المحتاج: 380/3، المهذب: 122/2.(9/524)
والنفي لنسب ولد يكون على الفور في الأظهر الجديد؛ لأنه شرع لدفع ضرر محقق، فكان على الفور مثل الرد بالعيب وخيار الشفعة، لكن إن سكت عن النفي لعذر كأن بلغه الخبر ليلاً فأخر حتى يصبح أو كان جائعاًً فأكل، أو عارياً فلبس، صح تأخيره النفي للعذر.
ولم يجز الحنابلة (1) كالحنفية نفي الحمل قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه؛ لأن الحمل غير متيقن، يجوز أن يكون انتفاخاً أو ريحاً. واشترطوا كالشافعية أن يكون النفي عقب الولادة، فإذا ولدت المرأة ولداً فسكت عن نفيه مع إمكانه، لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعدئذ.
والحاصل أن للفقهاء رأيين في نفي الحمل: رأي الحنفية والحنابلة بعدم الجواز لاحتمال كونه غير حمل، ورأي المالكية والشافعية بالجواز، محتجين بحديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها، فنفاه عنه النبي صلّى الله عليه وسلم، وألحقه بالأول، ولا خفاء بأنه كان حملاً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا» ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولأنه يصح استلحاق الحمل، فكان نفيه كنفي الولد بعد وضعه. قال ابن قدامة: وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث، وما خالف الحديث لا يعبأ به كائناً ما كان.
وشرط اللعان: التعجيل عند الجمهور بعد علم الزوج بالحمل أو الولد، وأجاز أبو حنيفة اللعان عقب الولادة أو بعدها بسبعة أيام.
__________
(1) المغني: 423/7-424.(9/525)
المطلب الثاني ـ مشروعية اللعان:
شرع اللعان بين الزوجين بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين،
والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/24-8] .
وسبب نزولها: ما أخرجه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية (1) قذف زوجته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك! فقال: يا نبي الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق، يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يكرّر ذلك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبياً، إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت الآيات» (2) .
فكان أول لعان في الإسلام: ما حدث بين هلال بين أمية وزوجته، وهذا رأي الجمهور، وقد حكى الماوردي عن أكثر العلماء أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر. وروى الجماعة إلا الترمذي عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لعويمر العجلاني: «قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها، فتلاعنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3) . وهذا رأي النووي في شرح مسلم أن السبب في نزول آية اللعان: قصة عويمر العجلاني.
يختلف بهذا حكم الزوجين عن الأجانب في حال القذف، فإن قذف إنسان غيره، أو اتهم رجل امرأة ليست زوجة له بالزنا، وكانت عفيفة، ولم يأت بأربعة يشهدون بصحة اتهامه، فإنه يحد حد القذف وهو ثمانون جلدة، زجراً له ولأمثاله عن ارتكاب هذه المعصية، ودفعاً للعار عن المقذوف.
__________
(1) هو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، كما جاء في رواية ابن عباس عند أبي داود.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 272/6) .
(3) نيل الأوطار: 268/6.(9/526)
أما إن اتهم الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم يأت بأربعة يشهدون على ادعائه، فلا يحد حد القذف، وإنما يشرع في حقه اللعان. هذا.. وقد اتفقت الروايات في بيان أسباب نزول آيات اللعان على أمور ثلاثة (1) :
أولها ـ أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.
والثاني ـ أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات..} [النور:4/24] وهي آية القذف: أن حكم من رمى المرأة الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء.
والثالث ـ أن آيات اللعان نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه مضطراً.
ومقتضى مشروعية اللعان: جواز الدعاء باللعن على كاذب معين، كجواز الدعاء باللعن على الظالم لقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود:18/11] .
__________
(1) مذكرة آيات الأحكام بالأزهر الشريف: 135/3.(9/527)
المطلب الثالث ـ أركان اللعان وشروطه وشروط المتلاعنين:
ركن اللعان عند الحنفية (1) واحد وهو اللفظ، وهو: شهادات مؤكدات باليمين واللعن من كلا الزوجين.
وقال الجمهور (2) : أركان اللعان أربعة: وهي الملاعن، والملاعنة، وسببه، ولفظه.
شروط اللعان: وأما شروطه فنوعان: شروط وجوب اللعان، وشروط صحة إجراء اللعان.
أولاً ـ شروط وجوب اللعان: هي عند الحنفية ثلاثة (3) :
1ً - قيام الزوجية مع امرأة ولو غير مدخول بها، وكذا ولوفي أثناء العدة من طلاق رجعي، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/24] فلا لعان بين غير الزوجين أو بقذف امرأة أجنبية، فإن قذفها ثم تزوجها فعليه حد القذف ولا يلاعن؛ لأنه وجب في حال كونها أجنبية، ولا لعان بقذف زوجة صارت ميتة؛ لأن الميتة لم تبق زوجة، ولأنه لا يتأتى اللعان منها، ولا لعان بقذف المرأة المبانة، ويحد زوجها الأصلي كالأجنبي. وهذا شرط متفق عليه فإنه عند الجمهور يصح اللعان منها، وبه يصح اللعان عند الجمهور من غير زوج في حالتين: البائن لنفي الولد، والموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة. ولو ارتد زوج بعد وطء فقذف وأسلم في العدة، لاعن. ولو لاعن ثم أسلم في العدة صح لعانه، لتبين وقوعه في صلب النكاح.
2ً - كون النكاح صحيحاً لافاسداً: فلا لعان بقذف المنكوحة بنكاح فاسد؛ لأنها أجنبية. وخالفهم بقية الأئمة (4) ، أجازوا اللعان من امرأة نكحها نكاحاً فاسداً لثبوت النسب به، كالزواج بلا ولي أو بدون شهود، ثم قذفها، لكن جواز اللعان في هذه الحالة مقيد بما إذا وجد بينهما ولد يريد الزوج نفيه، فإن لم يكن بينهما ولد، حد الزوج ولا لعان بينهما.
__________
(1) الدر المختار: 806/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 243 وما بعدها.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 805/2 وما بعدها، البدائع: 241/3، فتح القدير: 259/3، اللباب: 75/3، 78.
(4) الشرح الصغير: 658/2، مغني المحتاج: 378/3 وما بعدها، غاية المنتهى: 201/3، المغني: 398/7، 400....(9/528)
3ً - كون الزوج أهلاً للشهادة على المسلم، بأن يكون طرفا اللعان زوجين حرين عاقلين بالغين مسلمين ناطقين غير محدودين في قذف، فلا لعان بين كافرين ولا من أحدهما عبد أو صبي أو مجنون أو محدود في قذف أو كافر، أو أخرس للشبهة. ويصح بين الأعميين والفاسقين؛ لأنهما أهل لأداء الشهادة، لكن لا تقبل شهادتهما للفسق ولعدم قدرة الأعمى على التمييز، والحاصل أن الحنفية اشترطوا أهلية الشهادة في الزوج؛ لأن كلمات اللعان شهادات، واشترطوا أيضاً أن تكون الزوجة ممن يحد قاذفها؛ لأن اللعان بدل عن حد القذف في الأجنبية. ولم يشترط الجمهور هذين الشرطين.
لكن اشترط المالكية (1) الإسلام في الزوج فقط لا في الزوجة، فإن الذمية تلاعن لرفع العار عنها، وقالوا: يشترط في المتلاعنين كونهما بالغين عاقلين، سواء أكانا حرين أم مملوكين، عدلين أم فاسقين. ويقع اللعان في حال العصمة اتفاقاً، وفي العدة من الطلاق الرجعي والبائن خلافاً للحنفية، وبعد العدة في نفي الحمل إلى أقصى مدة الحمل. ويقع اللعان من الزوجين في النكاح الصحيح والفاسد.
ولم يشترط الشافعية والحنابلة (2) الإسلام في المتلاعنين، وقالوا: يصح اللعان من كل زوج يصح طلاقه، بأن يكون الزوجان مكلفين أي بالغين عاقلين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان أحدهما كذلك. ويصح اللعان أيضاً من الحر والعبد والرشيد والسفيه والسكران ومن الناطق والأخرس والخرساء المعلومي الإشارة عند الشافعية، ومن المطلّق رجعياً، ويصح من الزوج للمطلقة بائناً لنفي الولد، وكذا عند الحنابلة إذا لم يكن هناك ولد.
ويصح عندهم لعان الموطوءة بنكاح فاسد أو شبهة كأن ظنها زوجته ثم قذفها، ولاعن لنفي النسب، كما تقدم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 243، بداية المجتهد: 117/2.
(2) مغني المحتاج: 378/3 ومابعدها، المهذب: 124/2، المغني: 394/7-402(9/529)
ولا يصح اللعان بالاتفاق من صبي ومجنون، فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما؛ لأن اللعان قول تحصل به الفرقة، ولا يصح من غير مكلف كالطلاق أو اليمين. ولا لعان بين غير الزوجين، فإذا قذف الشخص أجنبية محصنة (عفيفة) حُدّ حد القذف ولم يلاعن.
ولا فرق بين كون الزوجة مدخولاً بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/24] فإن كانت غير مدخول بها، فلها نصف الصداق؛ لأنها فرقة من جهة الزوج. ويلاعن الأخرس أو معتقل اللسان عند الحنابلة، ولا تلاعن الخرساء عند الحنابلة؛ لأنه لا تعلم مطالبتها، واتفقوا على أنه لا يصح اللعان من الأخرس والخرساء غير معلومي الإشارة والكتابة.
والخلاصة: أن الحنفية اشترطوا في المتلاعنين الإسلام والنطق والحرية والعدالة، وكون اللعان في حال قيام الزوجية حقيقة أو حكماً كالرجعية لا البائنة، وخالفهم الجمهور فيما شرطوه، إلا أن المالكية شرطوا إسلام الزوج فقط، واتفقوا على اشتراط التكليف: البلوغ والعقل. ويصح اللعان من الأخرس عند الجمهور غير الحنفية. وذكر الحنابلة والشافعية شروطاً ثلاثة للعان هي (1) :
1ً - كونه بين زوجين، ولو قبل دخول، كما تقدم.
2ً - سبق قذف الزوجة بزنا، ولو في دبر: مثل قوله: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين. وهذا متفق عليه كما تقدم في سبب اللعان. وللرجل قذف زوجته إن علم زناها، أو ظنه ظناً مؤكداً كشيوع زناها بفلان مع قرينة بأن رآهما في خلوة.
3ً - أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان، فإن صدقته ولو مرة، أو عفت الزوجة عن الحد أو التعزير، أو سكتت، أو ثبت زناها بأربعة سواه، فلا لعان ويلحقه النسب. وكذا لا لعان عند الحنابلة من الخرساء
لغة اللعان: يصح اللعان عند الجمهور غير الحنابلة بالعربية وبالعجمية (هي ما عدا العربية من اللغات) ؛ لأن اللعان يمين أو شهادة، وهما في اللغات سواء، ويراعي الأعجمي الملاعن ترجمة الشهادة واللعن والغضب (2) .
وقال الحنابلة (3) إذا كان الزوجان يعرفان العربية، لم يجز أن يلتعنا بغيرها؛ لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية.
__________
(1) غاية المنتهى: 201/3-202، مغني المحتاج: 367/3، 373، المهذب: 119/2، كشاف القناع: 456/5-463.
(2) مغني المحتاج: 376/3، المهذب: 124/2.
(3) المغني: 438/7.(9/530)
ثانياً ـ شروط صحة إجراء اللعان في ذاته:
ذكر الحنابلة شروطاً ستة في إجراء اللعان، بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه، وهي ما يأتي (1) :
1ً - أن يكون بحضور القاضي أو نائبه، وهذا متفق عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما» ولأنه يمين في دعوى، فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوى. وهذا يتطلب رفع الأمر إلى الحاكم من أحد الزوجين، فإن تراضى الزوجان بغير الحاكم بإجراء اللعان بينهما لم يصح ذلك؛ لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد، فلم يجز بغير الحاكم كالحد.
2ً - أن يكون بعد طلب القاضي: بأن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل أن يلقيه القاضي عليه، لم يصح، كما لو حلف قبل أن يحلفه القاضي. وهذا متفق عليه أيضاً.
3ً - استكمال لفظات اللعان الخمسة: فإن نقص منها لفظة، لم يصح. وهذا متفق عليه.
__________
(1) المغني: 434/7-438، المهذب: 125/2-126، مغني المحتاج: 376/3-378، الشرح الصغير: 658/2، 663-665، الدر المختار: 807/2 وما بعدها، البدائع: 237/3.(9/531)
4ً - أن يأتي كل من الزوجين بصورة اللعان، كما حددها القرآن. واختلف الفقهاء في إبدال لفظة بمعناها، كأن يبدل بقوله: إني لمن الصادقين قوله: (لقد زنت) ، أو يقول بدل {إنه لمن الكاذبين} [النور:8/24] : (لقد كذب) ، والظاهر عند الحنابلة أنه يجوز هذا الإبدال؛ لأن معناهما واحد.
أما إن أبدل بلفظة (أشهد) لفظا من ألفاظ اليمين، فقال: أحلف أو أقسم أو أولي، فلا يعتد به عند الشافعية والحنابلة على الصحيح؛ لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة، لم يقم غيره مقامه، كالشهادات في الحقوق، ولأن اللعان يقصد فيه التغليظ، واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ، فلم يجز تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام: أشهد. والظاهر أن هذا رأي المالكية والحنفية أيضاً.
5ً - الترتيب بين ألفاظ اللعان، وأن يبدأ الرجل بالحلف على المرأة، ثم تحلف المرأة، فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل، لم يعتد به. وهذا متفق عليه؛ لأن اللعان على رأي الحنفية شهادة، والمرأة بشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا يصح قبل وجود شهادته.
6ً - الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضراً، وتسميته ونسبته إن كان غائباً. وهذا متفق عليه بين الفقهاء، ولا يشترط عند الشافعية والحنابلة: حضور الزوجين معاً، بل لو كان أحدهما غائباً عن صاحبه جاز، كأن يلاعن الرجل في المسجد، والمرأة على باب المسجد، لعدم إمكان دخولها.(9/532)
هذا وقد اشترط المالكية حضور جماعة للعان، أقلها أربعة عدول. وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه على حداثة منهم، فدل على أنه حضره جمع كثير من الناس؛ لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعاً للرجال، ولأن اللعان بني على التغليظ، مبالغة في الردع به والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في الردع. ويستحب ألا ينقصوا عن أربعة؛ لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة.
واشترط المالكية أيضاً لصحة اللعان: عدم وطء الزوجة مطلقاً بعد رؤيتها تزني، أو بعد علمه بحمل من غيره، أو وضع، فإن وطئ المرأة الملاعنة بعد علمه بحمل من غيره أو وضع، أو رؤية لها تزني، امتنع اللعان لها ولا يمكَّن منه.
واشترطوا أيضاً تعجيل اللعان بعد علمه بالحمل أو الولد: فإن أخر لعانها ولو يوماً بلا عذر بعد علمه بالحمل أو الوضع أو رؤية الزنا، امتنع لعانه لها ولا يمكَّن منه أيضاً. واشترطوا أيضاً لفظ (أشهد) في الأربع مرات منه أو منها، واللعن منه في الخامسة، والغضب منها في الخامسة، كما ورد في النص القرآني في أيمان اللعان.
ويلاعن الزوج إن رأى زوجته يقيناً تزني، والرؤية من البصير كرؤية المِرْوَد في المُكحلة، وأما الأعمى فيعتمد على حِس أو جَسّ أو إخبار يفيده المطلوب ولو من امرأة.
شروط نفي الولد:
اشترط الحنفية (1) ستة شروط لنفي الولد وعدم لحوق النسب وهي ما يأتي:
1ً - حكم القاضي بالتفريق بين الزوجين: لأن الزواج قبل التفريق قائم، فلا يجب النفي.
2ً - أن يكون نفي الولد في رأي أبي حنيفة بعد الولادة مباشرة أو بعدها بيوم أو يومين أو نحوهما إلى سبعة أيام مدة التهنئة بالمولود عادة، فإن نفاه بعدئذ لا ينتفي.
وقال الصاحبان: يتقدر نفي الولد بأكثر مدة النفاس وهي أربعون يوماً.
وشرط الجمهور الفور في النفي، فإن أخر بلا عذر، لم يصح النفي، كما تقدم.
__________
(1) البدائع: 246/3-248، حاشية ابن عابدين: 811/2، اللباب: 79/3.(9/533)
3ً - ألا يتقدم منه إقرار بالولد ولو دلالة أو ضمناً، كقبوله التهنئة بالمولود مع عدم الرد.
4ً - توافر حياة الولد وقت التفريق القضائي، أي أن يكون الولد حياً وقت التفريق.
5ً - ألا تلد بعد التفريق ولداً آخر من بطن واحد: فلو ولدت المرأة ولداً، فنفاه عنه، ولاعن الحاكم بينهما، وفرق، وألزم الولد أمه، أو لزمها بنفس التفريق، ثم ولدت ولداً آخر من الغد، لزمه الولدان جميعاً، لثبوت نسب الولد الثاني الذي لم يشمله اللعان؛ لأن حكم اللعان قد بطل بالفرقة، فيثبت نسب الولد الثاني، ثم يثبت نسب الولد الأول.
6ً - ألا يكون محكوماً بثبوت نسب الولد شرعاً: كأن ولدت المرأة ولداً، فانقلب على رضيع، فمات الرضيع، وقضي بديته على عاقلة (عصبة) الأب، ثم نفى الأب نسبه، فيلاعن القاضي بينهما، ولا يقطع نسب الولد؛ لأن القضاء بالدية على عاقلة قضاء بكون الولد منه، ولا ينقطع النسب بعده.
وقد سبق إيراد شرطين لنفي الحمل عند المالكية (1) وهما تفصيلاً مايأتي:
1ً - أن يدعي أنه لم يطأ الزوجة أصلاً بعد العقد، أو لأمد يلحق به، أو أنه وطئها ولكنه استبرأها بحيضة واحدة؛ فإن لم يطأها أصلاً بعد العقد، أو وطئها وأتت بالولد بعد الوطء في مدة لا يلتحق الولد فيها بالزوج، إما لقصر المدة كأن تلد ولداً كاملاً بعد شهر أو شهرين أو خمسة بعد الدخول أو الوطء؛ لأن أقل الحمل شرعاً ستة أشهر، وإما لطول المدة كخمس سنين؛ لأن أقصى مدة الحمل أربع سنين بعد الوطء، ففي هاتين الحالتين يعتمد على ذلك، ويعلم أن الولد ليس من الزوج قطعاً ويلاعن لنفيه.
__________
(1) الشرح الصغير: 660/2-664، القوانين الفقهية: ص 244.(9/534)
وكذلك يلاعن لنفي الولد لو وطئها واستبرأها بحيضة واحدة بعد الوطء، ثم أتت بولد بعد ستة أشهر من يوم الاستبراء بالحيضة، إذ هو ليس منه قطعاً.
2ً - أن ينفي الولد قبل وضعه: فإن سكت ولو يوماً بلا عذر حتى وضعته، حدّ الزوج ولم يلاعن.
أما الشافعية (1) فأجازوا نفي الولد أثناء الحمل أو بعد الولادة مباشرة، فإن أخر بلا عذر أو قبل التهنئة بالمولود، سقط حقه في النفي؛ لأن التأخر يتضمن الإقرار به. فإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، فإن كان في موضع قريب منها كدار أو محلة لم يقبل قوله؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفي عليه كالبلد الكبير، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ظاهر.
وقالوا: لا يصح نفي أحد توأمين، فإن أتت المرأة بولدين توأمين، فنفى أحدهما وأقر بالآخر، أو ترك نفيه من غير عذر، لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن يجتمع في الرحم ولدان من ماء رجلين، فإذا اشتمل الرحم على المني، انسد فمه، فلا يتأتى منه قبول مني آخر، فلا يجوز أن يلحق أحد الولدين دون الآخر.
ويلزم الزوج نفي ولد أتت به زوجته وعلم أنه ليس منه، بأن وطئها وولدته لدون ستة أشهر من الدخول، أو فوق أربع سنين، فلو ولدته فيما بين ستة أشهر من الدخول وأربع سنين منه، ولم يستبرئها بعد الدخول بحيضة، حرم نفي الولد باللعان رعاية للزوجية (2) ، وإن ولدته بعد ستة أشهر من الاستبراء بحيضة، ولستة أشهر فأكثر من الزنا، حل نفي الولد باللعان في الأصح، ولكن الأولى ألا ينفيه؛ لأن الحامل قد ترى الدم.
__________
(1) مغني المحتاج: 373/3، 381، 383، المهذب: 122/2-123.
(2) لما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الخلائق» .(9/535)
وقال الحنابلة (1) : يشترط لنفي الولد باللعان ما يأتي:
1ً - ألا يتقدمه إقرار به، أو بتوأمه، أو ما يدل عليه، كما لو نفى أحد التوأمين وسكت عن الآخر. وهذا موافق للشافعية.
2ً - أن يعجل نفي الولد بعد الولادة: فإن هنئ به فسكت أو أمَّن على الدعاء، أو أخر نفيه مع إمكانه، رجاء موته، بلا عذر، نحو جوع وعطش ونوم، سقط حقه في النفي.
فإن قال: لم أعلم بالولد، أو أخر النفي لعذر كحبس ومرض وغيبة وحفظ مال، لم يسقط نفيه. وهذا موافق للشافعية أيضاً.
3ً - أن يذكر نفي الولد في لعان كل من الزوجين؛ لأنهما متحالفان على شيء فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في اليمين، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عن الزوج.
ويكفي عند الشافعية ذكر الولد في لعان الرجل، ولا تحتاج المرأة إلى ذكره؛ لأنها لا تنفيه.
وذكْر الولد في ظاهر كلام الخرقي وهو الراجح لدى الحنابلة: أن يقول الزوج في لعانه: (وما هذا الولد ولدي) وتقول المرأة: (وهذا الولد ولده) . وقال القاضي أبو يعلى والشافعية: يشترط أن يقول الزوج: (هذا الولد من زنا، وليس هو مني) ؛ لأنه قد يريد بقوله: (ليس هو مني) يعني خُلقاً وخَلْقاً، فكان لا بد من ذكره للتأكيد.
4ً - أن يوجد اللعان من كلا الزوجين. وهذا قول أكثر العلماء. وقال الشافعي: ينتفي الولد بلعان الزوج وحده؛ لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه، لا بيمين المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول من ينفيه، وإنما لعانها لدرء الحد عنها. ورد الجمهور بأن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما.
5ً - أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعاً.
6ً - أن يبدأ بلعان الزوج قبل لعان المرأة، وقال المالكية والحنفية: إن فعل العكس أخطأ السنة، والفرقة جائزة، وينتفي الولد عنه.
__________
(1) المغني: 416/7-417، 439، غاية المنتهى: 304/3.(9/536)
المطلب الرابع ـ كيفية اللعان ودور القاضي فيه:
كيفية اللعان أو صفته أو ألفاظه: اتفق الفقهاء (1) على كيفية اللعان أو صفته (أي ماهيته) على النحو التالي:
إذا قذف الزوج زوجته بالزنا أو نفى نسب ولدها منه، ولم تكن له بينة، ولم تصدقه الزوجة، وطلبت إقامة حد القذف عليه، أمره القاضي باللعان، بأن يبتدئ القاضي بالزوج، فيقول أمامه أربع مرات: (أشهد بالله، إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا أو نفي الولد) بأن يحدد المقصود بالإشارة إليها إن كانت حاضرة، أو بالتسمية بأن يقول: (فيما رميت به فلانة زوجتي من الزنا) ، ثم يقول في الخامسة: (لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا أو نفي الولد) ويشير الزوج إليها في جميع ما ذكر.
__________
(1) اللباب: 76/3، رد المحتار: 810/2، الشرح الصغير: 664/2، القوانين الفقهية: ص 244، بداية المجتهد: 118/2، مغني المحتاج: 374/3 وما بعدها، المهذب: 126/2، غاية المنتهى: 199/3، المغني: 436/7.(9/537)
ثم تقول المرأة أربع مرات أيضاً: (أشهد بالله، إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وتقول في الخامسة: (أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا أو نفي الولد) وإنما خص الغضب وهو أشد من اللعن (1) في جانب المرأة؛ لأن النساء يتجاسرن باللعن، فإنهن يستعملن اللعن في كلامهن كثيراً، كما ورد في الحديث، فاختير الغضب لتتقي ولا تقدم عليه، ولأن جريمتها وهي الزنا أعظم من جريمة الرجل وهي القذف. وإنما وجب البدء بالرجل في اللعان؛ لأنه المدعي، وفي الدعاوى يبدأ بالمدعي.
ودليل هذه الكيفية قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة ُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور:6/24-9] .
وثبت في السنة النبوية الصحيحة تأكيد هذه الكيفية بأحاديث، منها حديث ابن عمر: قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة، كيف يصنع؟ إن تكلم، تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يُجبْه، فلما كان بعد ذلك، أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليتُ به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/24] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما كذبتُ عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب.
__________
(1) الغضب: هو السخط وإنزال العذاب بالمغضوب عليه.(9/538)
وأما اللعن فهو الطرد من الرحمة، ولا يلزم منه التعذيب. بدأ الرجل، فشهد أربع شهادات بالله، إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما (1) .
وبداءة الزوج باللعان هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجزئ أن تبدأ المرأة باللعان، وقال الكاساني في البدائع: ينبغي أن تعيد، لأن اللعان شهادة المرأة، وشهادتها تقدح في شهادة الزوج، فلا تصح إلا بعد وجود شهادته.
مندوبات اللعان ودور القاضي فيه: يسن للقاضي ما يأتي (2) :
1ً - أن يعظ المتلاعنين قبل اللعان، ويخوفهما بعذاب الله في الآخرة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع ابن عمر وزوجته في الحديث السابق، وقال عليه الصلاة والسلام لهلال: «اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» ويقرأ عليهما: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} الآية [آل عمران:3/77] ويقول لهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «حسابكما على الله، يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تاب» .
2ً - لا يحكم القاضي في اللعان حتى يثبت عنده نكاح الزوجين.
3ً - أن يتلاعن الزوجان قائمين، ليراهما الناس، ويشتهر أمرهما، فيقوم الرجل عند لعانه، والمرأة جالسة، ثم تقوم عند لعانها، ويقعد الرجل، ويتكلم المتلاعنان بألفاظ اللعان، وهي أربع شهادات.
4ً - أن يحضر جماعة من المسلمين اللعان، وأقلها أربعة عدول، وأوجبه المالكية.
5ً - أن يغلظ اللعان في الزمان والمكان في رأي المالكية والشافعية، والحنابلة على الراجح، بأن يكون بعد صلاة، لما فيه من الردع والرهبة، أو بعد صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى على الراجح، أو بعد صلاة عصر الجمعة؛ لأن ساعة الإجابة فيه، كما رواه أبو داود والنسائي
__________
(1) حديث متفق عليه بين أحمد والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عمر (نيل الأوطار: 267/6) .
(2) القوانين الفقهية: ص 244 وما بعدها، الشرح الصغير: 665/2-667، مغني المحتاج: 376/3-378، المغني: 434/7-437، غاية المنتهى: 300/3، كشاف القناع: 454/5-455.(9/539)
وصححه (1) ، ولأن اليمين الفاجرة بعد العصر أغلظ عقوبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم، وعدَّ منهم رجلاً حلف يميناً كاذبة بعد العصر، يقتطع بها مال امرئ مسلم» (2) .
ويكون لعان المسلم في المسجد؛ لأنه أشرف الأماكن، وأوجبه المالكية فيه؛ لأن فيه تأثيراً في الزجر عن اليمين الفاجرة.
وأشرف الأماكن هو في مكة: بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين مقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، ويسمى ما بينهما بالحطيم، وفي المدينة: عند المنبر مما يلي القبر الشريف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على منبري هذا يميناً آثمة، تبوأ مقعده من النار» (3) وقوله: «لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة يميناً آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار» (4) .
واللعان في بيت المقدس في المسجد عند الصخرة المشرفة؛ لأنها أشرف بِقاعه؛ لأنها قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعند ابن حبان: «أنها من الجنة» .
واللعان في غير المساجد الثلاثة يكون عند منبر الجامع؛ لأنه المعظم منه.
وتلاعن امرأة حائض أو نفساء أو متحيرة مسلمة عند باب المسجد الجامع.
ويلاعن ذمي أو كتابي في بِيعة (وهي معبد النصارى) وفي كنيسة (وهي معبد اليهود) (5) ؛ لأن معابدهم كالمساجد عندنا، ويلاعن مجوسي في بيت نار، لأنهم يعظمونه، والمقصود الزجر عن الكذب، فيحضره القاضي رعاية لاعتقادهم لشبهة الكتاب التي يدعونها. ولا يلاعن في بيت أصنام وثني؛ لأنه لا حرمة له، واعتقادهم فيه غير شرعي.
ولا يغلظ اللعان في رأي القاضي أبي يعلى من الحنابلة، والحنفية بمكان ولا زمان؛ لأن الله تعالى أطلق الأمر به، ولم يقيده بزمن ولا مكان، فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الرجل بإحضار امرأته، ولم يخصه بزمن، ولو خصه به لنقل ولم يهمل.
__________
(1) وروى مسلم: أنها من مجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وصوبه النووي.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(3) رواه النسائي، وصححه ابن حبان.
(4) رواه ابن ماجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
(5) وتسمى البيعة أيضاَ كنيسة، بل هو العرف اليوم.(9/540)
المطلب الخامس ـ ما يجب عند نكول أحد الزوجين عن اللعان أو رجوعه عنه:
قد يمتنع أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه من القاضي، وقد يرجع عنه ويُكذب نفسه، فماذا يفعل القاضي؟
أما في حال نكول أحد الزوجين عن اللعان بعد طلبه منه، فقد اختلف الفقهاء في حكمه على رأيين (1) :
أـ ذهب الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه، فيحد حد القذف. وإن امتنعت الزوجة عن اللعان حبست حتى تلاعن أو تصدق الزوج فيما ادعاه عليها، فإن صدقته خلي سبيلها من غير حد؛ لأن قوله: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/24] أي الحبس عندهم وعند الحنابلة.
ب ـ وذهب الجمهور غير الحنفية: إلى أنه إن امتنع الزوج عن اللعان أو امتنعت الزوجة حُدّ حد القذف؛ لأن اللعان بدل عن حد الزنا، لقوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/24] أي العذاب الدنيوي وهو الحد عندهم، فلا يندرئ الحد عن الزوجة مثلاً إلا بلعانها.
إلا أن الحنابلة وافقوا الحنفية فيما إذا امتنعت الزوجة عن اللعان أخذاً بمدلول الآية السابقة: {ويدرأ عنها العذاب} [النور:8/24] فإن لم تلاعن وجب ألا يدرأ عنها العذاب، فتحبس حتى تقر بالزنا أربع مرات أو تلاعن.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في حال امتناع الزوج عن اللعان: هو اختلافهم في الموجَب الأصلي لقذف الزوجة، أهو اللعان أم الحد؟ قرر الحنفية بأن الموجب الأصلي هو اللعان، واللعان واجب، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله}
__________
(1) الدر المختار: 808/2، اللباب: 75/3، البدائع: 238/3، بداية المجتهد: 119/2، القوانين الفقهية: ص 245، مغني المحتاج: 371/3، 382، المهذب: 119/2، المغني: 392/7، 397، 404، غاية المنتهى: 202/3، كشاف القناع: 463/5.(9/541)
[النور:6/24] أي فليشهد أحدهم أربع شهادات بالله، فإنه تعالى جعل موجب قذف الزوجات هو اللعان، فمن أوجب الحد فقد خالف النص، فصارت آية حد القذف بالنسبة للزوجات منسوخة في حق الأزواج، وأصبح الواجب بقذف الزوجة هو اللعان، فإذا امتنع عنه حبس حتى يلاعن، كالمدين إذا امتنع عن إيفاء دينه، فإنه يحبس حتى يوفي ما عليه.
وقرر الجمهور: أن الموجب الأصلي هو حد القذف، واللعان مسقط له، لعموم قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/24] فإنه عام في الأجنبي والزوج، ويجب الحد على كل قاذف، سواء أكان زوجاً أم غيره، ثم جعل الالتعان للزوج مقام الشهود الأربعة الذين يثبت بشهادتهم الزنا، فوجب عليه إذا امتنع عن اللعان الموجب الأصلي وهو حد القذف.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية لما قذف زوجته بالزنا: «البينة أو حد في ظهرك» .
ورأي الجمهور أرجح لقوة أدلتهم من القرآن والسنة. وبناء عليه إذا قذف الزوج زوجته المحصنة (العفيفة) وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، ورد شهادته، إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء، أو امتنع عن اللعان، لزمه ذلك كله.(9/542)
وقد يجب على الزوج في حال امتناعه عن اللعان التعزير فقط، كما في حال قذف غير المحصنة كالمرأة الكتابية، والأمَة، والمجنونة، والطفلة، فإنه يجب عليه التعزير به، لإلحاقه العار بها بالقذف، ولا يحد لهن حداً كاملاً لنقصانهن بما ذكر، ولا يتعلق به فسق، ولا رد شهادة؛ لأن القذف لهؤلاء لا يوجب الحد. وله أن يلاعن لدرء التعزير عنه؛ لأنه تعزير قذف. وبه تكون القاعدة: كل موضع لا لعان فيه، فالنسب لاحق بالزوج، ويجب بالقذف موجبه من الحد أو التعزير، إلا أن يكون القاذف صغيراً أو مجنوناً، فلا تعزير أو ضرب فيه، ولا لعان بالاتفاق.
رجوع الزوج عن اللعان: إذا أكذب الزوج نفسه بعد اللعان، فاتفق أئمة المذاهب الأربعة (1) على أنه يحد حد القذف، ويكون للزوجة الحق في مطالبة القاضي بالحد، سواء كذَّب نفسه قبل لعانها أو بعده؛ لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج، فإذا أكذب نفسه، بأن قال: كذبتُ عليها، فقد زاد في هتك حرمتها، وكرر قذفها، فلا أقل من أن يجب عليه الحد الذي كان واجباً بالقذف المجرد.
فإن عاد عن إكذاب نفسه، وقال: لي بينة أقيمها بزناها أو أراد إسقاط الحد عنه باللعان، لم يسمع منه؛ لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله، وقد أقر بكذب نفسه، فلا يسمع منه خلافه.
وهذا كله فيما إذا كانت المقذوفة محصنة (عفيفة) فإن كانت غير محصنة، فعليه التعزير.
وإن أكذب الملاعن نفسه قبل لعان المرأة، حد حد القذف، وبقيت الزوجية، فتبقى له زوجة، لكن لا تبقى زوجة بعد لعانها.
ومتى أكذب نافي الولد نفسه بعد نفيه الولد، وبعد اللعان، لحقه نسب الولد، حياً كان الولد، أو ميتاً، غنياً كان الولد أو فقيراً؛ لأن اللعان يمين أو شهادة (بيّنة) فإذا أقر بما يخالفها أخذ بإقراره، وسقط حكم اللعان، ثم إن النسب يحتاط لثبوته قدر الإمكان، ويتم التوارث بين الأب والولد؛ لأن الإرث تابع للنسب، وقد ثبت فتبعه الإرث.
__________
(1) الدر المختار: 812/2، الكتاب مع اللباب: 75/3، بداية المجتهد: 120/2، القوانين الفقهية: ص245، مغني المحتاج: 380/3، غاية المنتهى: 202/3، 204، كشاف القناع: 468/5.(9/543)
المطلب السادس ـ هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟
تبين في بحث شروط المتلاعنين أن الحنفية قالوا: إنما يجوز اللعان لمن كان من أهل الشهادة، فلا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين، وتشترط في المتلاعنين: الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والنطق وعدم الحد في القذف.
وقال الجمهور: يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين أم عدلين أم فاسقين أم محدودين في قذف أم كان أحدهما بتلك الصفة، أم كان من الأخرس.
ومنشأ الخلاف في محدود القذف والأخرس والكافر هو: هل ألفاظ اللعان شهادات أو أيمان؟
رأى الحنفية (1) : أن اللعان شهادات مؤكدة بالأيمان مقرونة باللعن وبالغضب، وإنه في جانب الزوج قائم مقام حد القذف، وفي جانب الزوجة قائم مقام حد الزنا. ودليلهم آية اللعان: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور:6/24] سمى الأزواج شهداء، وسمى اللعان شهادة في النص: {فشهادة أحدهم} [النور:6/24] وجعل عددها كعدد شهادات الزنا. وإذا كان اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة على المسلم.
وقال الجمهور (2) : سميت ألفاظ اللعان شهادات، وهي في الحقيقة أيمان، واللعان يمين، وإن كان يسمى شهادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في قصة لعان هلال بن أمية: «
__________
(1) البدائع: 241/3 وما بعدها، اللباب: 75/3، 78.
(2) بداية المجتهد: 118/2، مغني المحتاج: 374/3، المغني: 392/7 وما بعدها.(9/544)
لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» (1) ولأنه لا بد في اللعان من ذكر اسم الله تعالى وذكر جواب القسم، ولو كان شهادة لما احتاج إليه، ولأنه يستوي فيه الرجل والمرأة، ولو كان شهادة لكانت المرأة على النصف من الرجل فيه، ولأنه يجب تكراره أربعاً، والمعهود في الشهادة عدم التكرار، أما اليمين فتتكرر كما في أيمان القسامة، ولأن اللعان يكون من الطرفين، والشهادة لا تكون إلا من طرف واحد وهو المدعي.
أما تسمية اللعان شهادة، فلقول الملاعن في يمينه: (أشهد بالله) فسمي اللعان شهادة وإن كان يميناً، فقد يعبر عن الشهادة باليمين كما في قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد} [المنافقون:1/63] ثم قال: {اتخذوا أيمانهم جُنَّة} [المنافقون:2/63] وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، ولو كان شهادة لما جاز لعانه.
وإذا كان اللعان يميناً، فلا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة، وتفرع عن الخلاف اختلافهم في الأخرس، فقال الجمهور: يلاعن الأخرس إذا فهم عنه. وقال الحنفية: لا يلاعن؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.
والراجح لدي رأي الجمهور لقوة أدلتهم من السنة والمعقول، ولأن اللعان شرع للحاجة، والحاجة تتسع لأناس ولو لم يكونوا أهلاً للشهادة. وهذا هو أيضاً رأي العترة (آل البيت) .
__________
(1) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 274/6) .(9/545)
المطلب السابع ـ أحكام أوآثار اللعان:
يترتب على اللعان بين الزوجين أمام القاضي الآثار التالية (1) :
1ً - سقوط حد القذف أو التعزير عن الزوج، وسقوط حد الزنا عن الزوجة. فإن لم يلاعن الرجل وجب عليه عند غيرالحنفية حد القذف إن كانت الزوجة الملاعنة محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، وإن لم تلاعن المرأة وجب عليها عند الشافعية والمالكية حد الزنا من جلد البكر ورجم المحصنة (المتزوجة) .
2ً - تحريم الوطء والاستمتاع بعد التلاعن من كلا الزوجين، ولو قبل تفريق القاضي، لحديث: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (2) .
3ً - وجوب التفريق بينهما: لا تتم الفرقة عند الحنفية إلا بتفريق القاضي، لقول ابن عباس في قصة هلال بن أمية: «ففرَّق النبي صلّى الله عليه وسلم بينهما» (3) وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله، فلو مات أحدهما قبل التفريق ورثه الآخر، ولو طلقها الزوج وقع طلاقه.
وقال المالكية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عن أحمد: تقع الفرقة باللعان دون حكم حاكم؛ لأن سبب الفرقة وهو اللعان قد وجد، فتقع الفرقة به من غير حاجة إلى تفريق القاضي، ولقول عمر رضي الله عنه: «المتلاعنان يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبداً» .
وقال الشافعي رحمه الله: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة؛ لأنها فرقة حاصلة بالقول، فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق. قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم أحداً وافق الشافعي على هذا القول.
4ً - هذه الفرقة طلاق بائن عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنها بتفريق القاضي كما في التفريق بسبب العنة، وكل فرقة من القاضي تكون طلاقاً بائناً، لكن لا تعود المرأة إلى الزوجية إلا في حالتين:
__________
(1) البدائع: 244/3-248، فتح القدير: 253/3 وما بعدها، الدر المختار: 806/2 ومابعدها، اللباب: 77/3-78، القوانين الفقهية: ص 244 وما بعدها، بداية المجتهد: 120/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 668/2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 637/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 376/3، 380، المهذب: 127/2، المغني: 410/7-416، غاية المنتهى: 203/3.
(2) رواه الدارقطني عن ابن عباس، ورواه أبو داود عن سهل بن سعد (نيل الأوطار: 271/6) .
(3) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 274/6) .(9/546)
أـ أن يكذِّب الرجل نفسه، ولو دلالة كأن مات الولد المنفي، فادعى الزوج نسبه؛ لأن هذا يعتبر رجوعاً عن الشهادة، والشهادة لا حكم لها بعد الرجوع عنها، ويحد حينئذ حد القذف، ويثبت نسب الولد منه إن كان. وكذلك تعود المرأة إلى الزوجية إن صدقته، أي المرأة.
ب ـ أن يخرج أحد الزوجين عن أهلية الشهادة؛ إذ به ينتفي سبب التفريق، فلو زنت المرأة أو قذفت غيرها، فحدت، جاز لزوجها أن يتزوجها، لانتفاء أهلية اللعان من جانبها.
وإذا كان الطلاق بائناً وجب للمرأة النفقة والسكنى في عدتها، ويثبت نسب ولدها إلى سنتين إن كانت معتدة، وإن لم تكن معتدة فإلى ستة أشهر.
وقال الجمهور وأبو يوسف: فرقة اللعان فسخ كفرقة الرضاع، وتوجب تحريماً مؤبداً، فلا يعود المتلاعنان إلى الزوجية بعدها أبداً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» ، ولأن اللعان ليس طلاقاً، فكان فسخاً كسائر ما ينفسخ به الزواج، ولأن اللعان قد وجب وهو سبب التفريق، وأما تكذيب الرجل نفسه أو خروج أحد المتلاعنين عن أهلية الشهادة، فلا ينفي وجود سبب التفريق، بل هو باق، فيبقى حكمه. ورأى الشافعي: أن الفرقة تحصل بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة. فإن كان كاذباً، أو أكذب نفسه، فلا يفيده ذلك عود النكاح، ولا رفع تأبيد الحرمة؛ لأنهما حق له وقد بطلا باللعان، فلا يتمكن من عودهما، بخلاف الحد ولحوق النسب، فإنهما يعودان لأنهما حق عليه.
5ً - انتفاء نسب الولد عن الرجل، وإلحاقه بأمه إذا كان اللعان لنفي النسب. ويترتب على نفي النسب عدم التوارث، وعدم إلزام النفقة، سواء نفقة الآباء على الأبناء أو نفقة الأبناء على الآباء.
وتظل بعض الأحكام بالنسبة للولد: وهي عدم جواز شهادة الولد لأصله الملاعن أو الأصل لفرعه، وعدم القصاص من الرجل بقتل الولد المنفي، وعدم صحة إلحاق نسب الولد المنفي بالغير، لاحتمال أن يكذب الرجل نفسه فيعود نسبه منه، وبقاء المحرمية، فلا يجوز أن يزوج الرجل بنته لمن نفى نسبه منه؛ لأنه يحتمل كونه ابناً له.(9/547)
المطلب الثامن ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه وما يبطل به حكم اللعان قبل التفريق:
أولاً ـ ما يسقط اللعان بعد وجوبه: قرر الحنفية (1) : أن اللعان يسقط بما يأتي:
1ً - طروء عدم أهلية اللعان أو ما يمنع وجوب اللعان من أصله: كل ما يمنع وجوب اللعان إذا طرأ بعد وجوبه يسقط، مثل الجنون أو الردة، أو الخرس، أوقذف إنسان آخر فحد حد القذف، أو وطء المرأة وطئاً حراماً كالزنا والوطء بشبهة. ففي هذه الحالات لا يجب الحد، وإذا وجب سقط بهذه العوارض لانتفاء أهلية اللعان؛ لأن اللعان شهادة، ولا بد من بقاء صفة الشهادة إلى إصدار الحكم.
2ً - البينونة بالطلاق أو الفسخ أو الموت: إذا طلق الزوج امرأته بعد القذف، أو فسخ الزواج بسبب فاسخ، أو مات أحد الزوجين، سقط اللعان والحد، أما سقوط اللعان فلزوال الزوجية، وقيام الزوجية شرط إ جراء اللعان كما تقدم، وأما عدم وجوب الحد، فلأن القذف أوجب اللعان، فلم يوجب الحد.
أما لو طلَّق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً، فلا يسقط اللعان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يبطل الزوجية.
3ً - موت شاهد القذف أو غيبته: يسقط اللعان بموت شاهد القذف وغيبته، إذ لو مات أو غاب لا يقضى بشهادته.
4ً - تكذيب الزوج نفسه أو تصديقها الزوج في القذف: لو أكذب الزوج نفسه سقط اللعان، لتعذر الإتيان به، إذ من المحال أن يؤمر أن يشهد بالله إنه لمن الصادقين، وهو يقول: إنه كاذب، ويجب عليه حد القذف، لأن القذف صحيح.
__________
(1) البدائع: 243/3 وما بعدها، الدر المختار: 809/2.(9/548)
ولو صدقت المرأة الزوج في القذف يسقط اللعان أيضاً لتعذر الإتيان به؛ لأنها أكذبت نفسها في الإنكار، لكن لا حد عليها؛ لأن اللعان لو وجب لا يثبت الزنا عليها، فلا تزول عفتها باللعان، فلا تحد حد الزنا هنا بالأولى لسقوط اللعان.
وذكر الحنابلة (1) ثلاث حالات لسقوط اللعان:
1ً - طروء عارض من عوارض الأهلية: كالجنون، والزنا، وخرس المرأة.
2ً - تصديق المرأة زوجها في القذف أو عفوها، أو سكوتها. وسبب هاتين الحالتين اشتراطهم: أن تكذبه ويستمر التكذيب إلى انقضاء اللعان.
3ً - موت الزوج قبل اللعان أو قبل إتمام اللعان، فإذا قذف الزوج امرأته ثم مات قبل لعانهما أو قبل إتمام لعانه، سقط اللعان، ولحقه الولد، وورثته المرأة بالاتفاق؛ لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه. وكذلك يسقط اللعان عندهم إن مات الزوج بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها.
وقال الشافعي: تبين المرأة بلعان الزوج، وإن لم تلاعن الزوجة أو كان كاذباً، ويسقط التوارث، وينتفي الولد، ويلزم المرأة الحد إلا أن تلاعن.
ثانياً ـ ما يبطل به حكم اللعان بعد وجوده قبل التفريق:
رأى الحنفية (2) : أن كل ما يسقط اللعان بعد وجوبه، يبطل به حكم اللعان (أي أثره) بعد وجوده، قبل التفريق مثل جنون أحد الزوجين أو كليهما بعد اللعان قبل التفريق، أو خرسه أو خرسهما، أو ردته أو ردتهما، أو صيرورة أحدهما محدوداً في قذف، أو صيرورة المرأة موطوءة وطئاً حراماً، وإكذاب أحدهما نفسه حتى لا يفرق الحاكم بينهما ويبقيان على زواجهما.
وذلك لأن الأصل عندهم أن بقاء الزوجين على حال اللعان من الأهلية، شرط بقاء حكم اللعان؛ لأن اللعان عندهم شهادة، ولا بد من بقاء الشاهد على صفة الشهادة إلى وقت إصدار الحكم القضائي، فإذا زالت صفة الشهادة بهذه العوارض، فلا يجوز للقاضي التفريق.
__________
(1) غاية المنتهى: 202/3، كشاف القناع: 451/5، المغني: 406/7.
(2) البدائع: 248/3 وما بعدها، الدر المختار: 812/2.(9/549)
المبحث التاسع ـ التفريق بسبب الظهار:
فيه خمسة مطالب:
الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً.
الثاني ـ ركن الظهار وشروطه.
الثالث ـ أثر الظهار أو ما يحرم على المظاهر.
الرابع ـ كفارة الظهار.
الخامس ـ انتهاء حكم الظهار.
المطلب الأول ـ تعريف الظهار وحكمه الشرعي وأحواله تنجيزاً وإضافة وتعليقاً وتأقيتاً:
الظهار شبيه بالإيلاء في أن كلاً منها يمين تمنع الوطء، ويرفع منعه الكفارة، وهو شبيه أيضاً باللعان على رأي الجمهور في أنه يمين لا شهادة. وكان الأولى ذكر الظهار عقب الإيلاء كما فعل فقهاؤنا، لكني أخرته إلى ما بعد اللعان لتوقف اللعان على التفريق القضائي الذي هو عنوان الفصل، وأما الظهار فيأتي التفريق فيه فقط إذا امتنع الزوج عن التكفير.
والظهار لغة: مصدر مأخوذ من الظهر، مشتق من قول الرجل إذا ظاهر امرأته: (أنت علي كظهر أمي) ، وكان طلاقاً في الجاهلية، ويقال: كانوا في الجاهلية إذا كره أحدهم امرأته، ولم يرد أن تتزوج بغيره، آلى منها أو ظاهر، فتبقى لا ذات زوج ولا خلية عن الأزواج تستطيع أن تنكح غير زوجها الأول، فغيَّر الشارع حكمه إلى تحريم الزوجة بعد العود (العزم على الوطء) ولزوم الكفارة. والظهار شرعاً: هو أن يشبه الرجل زوجته بامرأة محرمة عليه على التأبيد، أو بجزء منها يحرم عليه النظر إلىه كالظهر والبطن والفخذ، كأن يقول لها: أنت علي كظهر أمي أو أختي، أو بحذف كلمة (علي) .(9/550)
وتعريفات فقهاء المذاهب متقاربة، وهي ما يأتي، عرفه الحنفية بقولهم (1) : تشبيه المسلم زوجته، أو ما يعبر به عنها من أعضائها، أو جزءاً شائعاً منها، بمحرَّمة عليه تأبيداً. فلا ظهار لذمي عندهم، ويشمل الظهار الزوجة الكتابية والصغيرة والمجنونة، ويمكن تشبيه الزوجة، أو ما يعبر به عنها كالرأس والرقبة، أو تشبيهه جزءاً شائعاً من الزوجة كقوله: نصفك ونحوه، والمشبه به إما جملة القريبة المحرم مثل: أنت علي كأمي، أو عضو يحرم النظر إليه من أعضاء محرمة عليه نسباً أو مصاهرة أو رضاعاً كالظهر وغيره. وإنما خص هذا اليمين باسم الظهار تغليباً للظهر؛ لأنه كان الأصل في استعمالهم.
فلو شبه زوجته بمن تحرم عليه مؤقتاً، لم يكن ظهاراً، مثل: أنت علي كظهر أختك أو عمتك، فإن الأخت والعمة تحرمان حرمة مؤقتة، أو قال: كمطلقتي ثلاثاً، فإنها تحرم حتى تنكح زوجاً غيره، أو كالمجوسية لجواز إسلامها، وكذا لو شبهها بجزء لا يحرم النظر إليه كالوجه والرأس، لا يكون ظهاراً.
ولو شبهها بشيء يحرم عليه من غير النساء كالخمر والخنزير، لم يكن ظهاراً، ويرجع فيه إلى نيته، فإن قصد به طلاقاً، كان طلاقاً بائناً، وإن قصد التحريم أو لم يقصد شيئاً كان إيلاء.
ولو شبهها بفرج أبيه أو قريبه كان مظاهراً. لكن لو قالت: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن المظاهر به ليس من جنس النساء.
__________
(1) الدر المختار: 790/2، فتح القدير: 225/3، اللباب: 67/3، البدائع: 233/3.(9/551)
وعرفه المالكية (1) بقولهم: الظهار: تشبيه المسلم المكلف من تحل من زوجة أو أمة أو جزأها بمحرَّمة عليه أو بظهر أجنبية، وإن تعليقاً أو مقيداً بوقت. فلا ظهار لكافر، ولا لصبي ومجنون ومكره، ويتحقق الظهار بتشبيه الزوجة، مثل أنت أمي، أو جزء منها كيدها ورجلها، ولا ظهار في قوله: أنت علي كظهر زوجتي النفساء أوالمُحْرِمة بحج؛ لأن التحريم لها عليه ليس أصالة، فالظهار: تشبيه الزوجة بالمحرمة عليه أصالة، أو المحرمة عليه وقت اليمين مثل ظهر أجنبية. وبه يتفق الحنفية والمالكية في عدم صحة ظهار الكافر، ويختلفون في تشبيه الزوجة بظهر امرأة أجنبية. فلا ينعقد عند الحنفية؛ لأن التحريم مؤقت، وينعقد بنية الظهار عند المالكية، لأن التحريم الحالي أصيل.
والظهار المعلق بشرط عندهم مثل: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي. أما إن علقه بأمر محقق نحو: إن جاء رمضان فأنت علي كظهر أمي أو فلانة الأجنبية، أو إن طلعت الشمس في غد فأنت علي كظهر أمي، تنجز من الآن، ومنع منها حتى يكفِّر.
وإن قيد الظهار بوقت، مثل: أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم أوالشهر، انعقد مؤبداً، ولا ينحل إلا بالكفارة.
وعرفه الشافعية (2) بأنه: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلالاً على التأبيد. فلا يصح من صبي ومجنون ومغمى عليه ولا من مكره، ويصح من ذمي لعموم آية الظهار، ولا يصح تشبيه الزوجة بغير محرَّمة على التأبيد، ولو شبهها بأجنبية ومطلقة، وأخت زوجة، وأب للمظاهر، وملاعنة له ومجوسية ومرتدة،
__________
(1) الشرح الصغير: 634/2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 599/1.
(2) مغني المحتاج: 352/3-354.(9/552)
فكلامه لغو؛ لأن الثلاثة الأولى لا يشبهن الأم في التحريم المؤبد، ولأن الأب أو غيره من الرجال كالابن والغلام ليس محلاً للاستمتاع، وأما الملاعنة أو المجوسية أو المرتدة وإن كان تحريمها مؤبداً، فليس التحريم بسبب القرابة المحرمية، فهم كالحنفية في التشبيه بالمحرمة تأبيداً. والأظهر أن قوله: كيدها أو بطنها أو صدرها ظهار، وكذا كعينها إن قصد ظهاراً، وإن قصد كرامة فلا يعد ظهاراً، وكذلك قوله: رأسك أو ظهرك أو يد ك علي كظهر أمي: ظهار في الأظهر. ومثله الرجل أو الجلد أو البدن أو الشعر ونحو ذلك.
وعرفه الحنابلة (1) بقولهم: أن يشبه الزوج امرأته أو عضواً منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد، كأمه وأخته من نسب أو رضاع، أو حماته، أو يشبهها بظهر من تحرم عليه تحريماً مؤقتاً كأخت امرأ ته وعمتها وخالتها، أو يشبهها برجل كأبيه أو زيد، أو بعضو منه كظهره أو رأسه، ولو بغير عربية، أو اعتقد الحل، أي حل المشبه بها من أم وأخت كمجوسي قال لزوجته: أنت علي كظهر أختي، وهو يعتقد حل أخته، فلا أثر لاعتقاده ذلك، ويكون مظاهر.
فهم كالشافعية يجيزون ظهار الكافر، ولكن يخالفونهم في جواز تشبيه الزوجة بالمحرمة تحريماً مؤقتاً، أو بمن لا يحل الاستمتاع به، وأجازوا كالمالكية الظهار من الأجنبية.
حكمه الشرعي: الظهار محرَّم (2) ، لقول الله تعالى: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} [المجادلة:2/58] ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم، قال تعالى: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة:2/58] وقال تعالى: {وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} [الأحزاب:4/33] .
__________
(1) كشاف القناع: 425/5، غاية المنتهى: 190/3.
(2) المقدمات الممهدات: 600/1، المهذب: 111/2 وما بعدها، المغني: 337/7، البدائع: 229/3.(9/553)
أحوال الظهار في العادة: يصح الظهار بالاتفاق منجزاً، كقوله: أنت علي كظهر أمي، ويكون الظهار عند أكثر الفقهاء من الزوج لا من الزوجة (1) ، فلو ظاهرت المرأة من زوجها كان ظهارها عند الحنفية لغواً، فلا حرمة عليها ولا كفارة. وكذلك قال بقية المذاهب: ليس ذلك بظهار، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون منكم من نسائهم} [المجادلة:2/58] فخص الأزواج بالظهار، ولأنه قول يوجب تحريماً على الزوجة يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجل كالطلاق، ولأن حل الاستمتاع بالمرأة حق للرجل، فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه.
لكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية عنه: عليها كفارة اليمين، قال ابن قدامة: وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله؛ لأنه ليس بظهار، ومجرد القول من المنكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب. وفي رواية ثالثة: ليس عليها كفارة، وهو قول بقية الأئمة، لأنه قول منكر وزور، وليس بظهار، فلم يوجب كفارة كالسب والقذف.
الظهار المعلق: أجاز الحنفية (2) إضافة الظهار إلى ملك أو سبب الملك، مثال الأول: أن يقول لأجنبية: إن صرت زوجة لي فأنت علي كظهر أمي.
ومثال الثاني: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، وأجازوا إضافته إلى وقت مثل: أنت علي كظهر أمي في رأس شهر كذا، لقيام الملك، وتعليقه أثناء الزواج مثل: إن دخلت الدار أو إن كلمت فلاناً، فأنت علي كظهر أمي لوجود الملك وقت اليمين. لكن تعليق الظهار بمشيئة الله تبطله.
__________
(1) الدر المختار: 791/2، المغني: 384/7 وما بعدها، بداية المجتهد: 108/2.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 791/2، البدائع: 232/3.(9/554)
وكذلك أجاز الحنابلة (1) تعليق الظهار على الزواج أو الظهار من الأجنبية، سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال: كل النساء علي كظهر أمي، وسواء أوقعه مطلقاً أم علقه على التزويج، فقال: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي، ومتى تزوج التي ظاهر منها، لم يطأها حتى يكفِّر. وأجازوا أيضاً تعليق الظهار بشرط، مثل إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، أو إن شاء زيدّ فأنت علي كظهر أمي، فمتى دخلت الدار أو متى شاء زيد، صار مظاهراً، وإلا فلا.
ودليلهم ما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة، فهي علي كظهر أمي، فتزوجها، قال: «عليه كفارة الظهار» ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى.
وقد بان سابقاً أن المالكية (2) أجازوا تعليق الظهار، نحو: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، وإن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي.
وأجاز الشافعية (3) أيضاً تعليق الظهار بشرط وبمشيئة زيد مثلاً؛ لأنه يتعلق به التحريم كالطلاق والكفارة، وكل منهما يجوز تعليقه. وتعليق الظهار مثل: إذا جاء زيد، أو إذا طلعت الشمس فأنت علي كظهر أمي. فإذا وجد الشرط صار مظاهراً لوجود المعلق عليه. ومن أمثلته أن يقول: «إن ظاهرت من زوجتي الأخرى، فأنت علي كظهر أمي» وهما في عصمته، فظاهر من الأخرى، صار مظاهراً منهما، عملاً بموجب التنجيز والتعليق.
والخلاصة: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز تعليق الظهار على شرط، وقرر الجمهور غير الشافعية أنه يجوز تعليق الظهار على التزوج بامرأة معينة، وكذا عند الحنفية والمالكية والحنابلة: لو قال: «كل النساء علي كظهر أمي» لأنه عقد على شرط الملك، فأشبه ذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم. ولا يجوز عند الشافعية تعليق الظهار على ملك الزواج، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما يرويه أبو داود والترمذي: «لا طلاق إلا فيما يملك، ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك» والظهار شبيه بالطلاق.
__________
(1) المغني: 350/7، 354.
(2) الشرح الصغير: 635/2، بداية المجتهد: 107/2.
(3) مغني المحتاج: 354/3.(9/555)
الظهار المؤقت: ذكر فقهاء المذاهب الأربعة (1) : أنه يصح الظهار مؤقتاً، مثل أن يقول: أنت علي كظهر أمي شهراً أو يوماً، أو حتى ينسلخ شهر رمضان، لكن يصح مؤبداً عند المالكية وفي قول عند الشافعية، فلا ينحل إلا بالكفارة، أي فيسقط التأقيت ويكون ظهاراً؛ لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة، فإذا وقَّته لم يتوقت كالطلاق. وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إذا مضى الوقت، زال الظهار، وحلت المرأة بلا كفارة، فإن وطئها في المدة لزمته الكفارة، لحديث سَلَمة ابن صَخْر، وقوله: «تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر ر مضان، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر، فأمره بالكفارة» (2) ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة، فصح مؤقتاً بالإيلاء. ويختلف الظهار عن الطلاق في أن الظهار يزيل الملك، ويوقع تحريماً يرفعه التكفير، فجاز تأقيته.
وعبارة الحنفية: لو قيد الظهار بوقت سقط بمضيه، لكن لو أراد قربانها داخل الوقت لايجوز بلا كفارة.
__________
(1) الدر المختار: 793/2، البدائع: 235/3، الشرح الصغير: 636/2، المهذب: 113/2-114، المغني: 349/7، مغني المحتاج: 357/3.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، عن سلمة بن صخر (نيل الأوطار: 258/6) .(9/556)
المطلب الثاني ـ ركن الظهر وشروطه:
ركن الظهار عند الحنفية (1) : هو اللفظ الدال على الظهار، والأصل فيه قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ويلحق به قوله: أنت علي كبطن أمي، أو فخذ أمي، أو فرج أمي.
وقال الجمهور غير الحنفية (2) : للظهار أركان أربعة: وهي المظاهر، والمظاهر منها، واللفظ أو الصيغة، والمشبه به.
والمظاهر: هو الزوج.
والمظاهر منه: هو الزوجة، مسلمة كانت أو كتابية.
واللفظ أو الصيغة: ما يصدر عن الزوج من ألفاظ صريحة أو كناية. والصريح: ما تضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كظهر أمي، والكناية: ما لم تتضمن ذكر الظهر، كقوله: أنت علي كأمي أو كفخذها أو بعض أعضائها، ويصدق في الكناية ديانة أنه أراد به الطلاق، دون الصريح. وينوي في الكناية ما يريد.
والمشبه به: هو من حرم وطؤه وهو الأم ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
__________
(1) البدائع: 229/3. (2) القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الكبير: 440/2، المقدمات الممهدات: 599/1 وما بعدها، الشرح الصغير: 637/2، مغني المحتاج: 352/3. المغني: 338/7 ومابعدها.(9/557)
شروط المظاهر: المظاهر عند الحنفية والمالكية: هو كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يلزم ظهار الذمي.
وعند الشافعية والحنابلة: هو كل زوج صح طلاقه، وهو البالغ العاقل سواء أكان مسلماً أم كافراً، حراً أم عبداً.
وظهار السكران صحيح كطلاقه بالاتفاق. ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وبه تكون شروط المظاهر (1) :
1ً - أن يكون عاقلاً: فلا يصح ظهار المجنون والصبي غير المميز، والمعتوه والمدهوش والمغمى عليه والنائم، كما لا يصح طلاقهم؛ لأنه يترتب عليه التحريم، وهؤلاء ليسوا أهلاً لخطاب التحريم.
2ً - أن يكون بالغاً: فلا يصح ظهار الصبي وإن كان عاقلاً مميزاً؛ لأن الظهار من التصرفات الضارة المحضة، فلا يملكه الصبي، كما لا يملك الطلاق وغيره مما يضر بمصلحته.
3ً - أن يكون مسلماً في رأي الحنفية والمالكية: فلا يصح ظهار الذمي عندهم؛ لأن حكم الظهار تحريم مؤقت يزول بالكفارة، والكافر ليس أهلاً للكفارة التي هي قربة إلى الله تعالى، فلا يكون من أهل الظهار.
ولا يشترط كونه مسلماً في رأي الشافعية والحنابلة، لعموم آية الظهار: {والذين يظاهرون من نسائهم} [المجادلة:3/58] من غير تفريق بين مسلم وكافر، ولأن الكافر مخاطب بفروع الشريعة، وأّهل للكفارة بغير الصوم من إطعام وإعتاق رقبة، ولأنه أهل للطلاق، فيكون أهلاً للظهار، فإن كان المظاهر كافراً، كفر بالعتق أو الطعام؛ لأنه يصح منه ما ذكر في غير الكفارة، فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم، لعدم صحته منه.
والخلاصة: يشترط عند الفريق الأول شرطان في المظاهر وهما الإسلام والتكليف، وشرط واحد عند الفريق الثاني وهو التكليف.
وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط عند الجمهور غير الحنفية، ويدخل عندهم شرط التكليف، فلا يصح ظهار المكره، وليس شرطاً عند الحنفية، فيصح ظهار المكره والمخطئ، كما يصح طلاقهما.
__________
(1) البدائع: 230/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/2، مغني المحتاج: 352/3 وما بعدها، المغني: 338/7 وما بعدها، 382، كشاف القناع: 429/5، المهذب: 118/2.(9/558)
شروط المظاهر منها: المظاهر منها: هي امرأة المظاهر، مسلمة أو كتابية، كبيرة أو صغيرة، وشروطها ما يلي (1) :
1ً - أن تكون زوجته: وهي أن تكون مملوكة له بملك النكاح، فلا يصح الظهار من الأجنبية، لعدم الملك، لقوله تعالى: {من نسائهم} [المجادلة:3/58] .
لكن يصح الظهار عند الجمهور غير الشافعية معلقاً بالملك، كأن يقول لامرأة: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو يقول: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي.
ظهار المرأة: لم يجز أكثر العلماء ظهار المرأة من الرجل تشبيهاً للظهار بالطلاق، ويكون لغواً لا كفارة فيه، ولكن أوجب عليها الإمام أحمد في رواية راجحة عنه كفارة الظهار؛ لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية: كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه، كما تقدم.
الظهار من الجماعة: لو قال الزوج بلفظ واحد لأربع من نسائه: (أنتن علي كظهر أمي) كان مظاهراً من جماعتهن، وعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد لكل امرأة كفارة؛ لأنه وجد الظهار والعود (العزم على الوطء) في حق كل امرأة منهن، فوجب عليه عن كل واحدة كفارة، كما لو أفردها به.
وقال المالكية والحنابلة: ليس عليه إلا كفارة واحدة، عملاً بقول عمر وعلي رضي الله عنهما، ولأن الظهاركلمة تجب بمخالفتها الكفارة، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى.
2ً - قيام ملك النكاح من كل وجه: فيصح الظهار من الزوجة ولو كانت في أثناء العدة من طلاق رجعي، ولا يصح الظهار من المطلقة ثلاثاً، ولا المبانة ولا المختلعة وإن كانت في العدة، بخلاف الطلاق؛ لأن المختلعة والمبانة يلحقها عند الحنفية صريح الطلاق؛ لأن الظهار تحريم، وقد ثبتت الحرمة بالإبانة والخلع، وتحريم المحرَّم محال، ولأنه لا يفيد إلا ما أفاده سابقه، فيكون عبثاً.
__________
(1) البدائع: 232/3-234، فتح القدير: 232/3، اللباب: 69/3، الدر المختار: 791/2، 795، بداية المجتهد: 107/2 وما بعدها، 112، القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/2، المهذب: 113/2 وما بعدها، مغنى المحتاج: 354/3، 358، المغني: 339/7، 354، 357، 384.(9/559)
3ً - أن يكون الظهار عند الحنفية مضافاً إلى بدن الزوجة، أو عضو منها يعبر به عن جميع البدن، أو جزء شائع منها، فلو أضافه إليها مثل: أنت علي كظهر أمي، أو إلى عضو يعبر به عن الجميع مثل: رأسك أو وجهك أو رقبتك أو فرجك علي كظهر أمي، أو إلى جزء شائع مثل: ثلثك أو ربعك أو نصفك ونحو ذلك كظهر أمي، كان مظاهراً.
أما لو قال: يدك أو رجلك أو أصبعك، لا يصير مظاهراً عندهم. ويصير مظاهراً عند بقية المذاهب؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر.
شروط المشبه به: المشبه به: هي الأم، ويلحق به كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وقد اختلفت الآراء الفقهية سعة وضيقاً في تحديد المشبه به. فقال الحنفية (1) : يشترط في المظاهر به أو المشبه به ما يأتي:
1ً - أن يكون امرأة يحرم نكاحها عليه على التأبيد، سواء أكان التحريم بالنسب كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة، أم بالرضاع، أم بالمصاهرة كامرأة أبيه، أو زوجة ابنه، وأم امرأته (حماته) .
2ً - أن يكون عضواً لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن والفخذ والفرج، فلو شبهها برأس أمه أو بوجهها أو يدها أو رِجْلها، لا يصير مظاهراً؛ لأن هذه الأعضاء من أمه يحل له النظر إليها.
3ً - أن يكون من جنس النساء: فلو قال الزوج لامرأته: أنت علي كظهر أبي أو ابني، لا يصح؛ لأن الشرع إنما ورد فيما إذا كان المظاهر به امرأة. وعليه، لا يصح الظهار إذا شبه الرجل امرأته بامرأة محرمة عليه في الحال، وتحل له في حال أخرى، كأخت امرأته أو امرأة لها زوج، أو مجوسية، أو مرتدة؛ لأنها غير محرمة عليه أو على التأبيد.
وذهب المالكية (2) إلى أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي (ذكر أو أنثى) أو غيره أي كالبهيمة.
__________
(1) البدائع: 233/3-234.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير: 439/2 وما بعدها، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 637/2، بداية المجتهد: 104/2، القوانين الفقهية: ص 244.(9/560)
فيصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها ولو حكماً كالشعر والريق بالأم، وما يلحق بها من كل محرم على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة. وخرج بقوله (أصالة) من يحرم وطؤها لعارض كالحيض أو النفاس، فلا ينعقد الظهار بقوله لإحدى زوجتيه: (أنت علي كظهر زوجتي النفساء أو الحائض أو المُحْرِمة بحج أوالمطلقة طلاقاً رجعياً) .
ويصح الظهار أيضاً بتشبيه الزوجة أيضاً بتشبيه الزوجة بجزء المحرَّمة على التأبيد، مثل: أنت علي كيد أمي أو يد خالتي.
وكذا يصح الظهار عندهم إذا شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد.
ورأى الشافعية (1) أن المشبه به فقط: كل من حرم وطؤه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة إلا مرضعة المظاهر وزوجة الابن؛ لأنهما كانتا حلالاً له في وقت، فيحتمل إرادته.
وأوسع المذاهب في صحة الظهار بالمشبه به هم الحنابلة (2) ، فإنه يشمل ما يأتي من الأصناف، سواء أكان التشبيه بكل المشبه به أم بعضو منه كاليد والوجه والأذن.
1ً - كل محرَّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات، وهذا متفق عليه، والأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، وحلائل الأبناء والآباء وأمهات النساء، والربائب اللاتي دخل بأمهن.
2ً - كل محرَّم من النساء تحريماً مؤقتاً كأخت امرأته وعمتها، أو الأجنبية، لأنه شبه زوجته بمحرمة، فأشبه ما لو شبهها بالأم.
3ً - كل محرَّم من الرجال، أو البهائم، أو الأموات ونحوهم، فيصح الظهار لو شبه زوجته بظهر أبيه، أو بظهر غيره من الرجال، أو قال: أنت علي كظهر البهيمة، أو أنت علي كالميتة والدم، عملاً بما روي عن جابر بن زيد.
وخالفهم فيما ذكر أكثر العلماء، فلا يكون التشبيه بمن ذكر ظهاراً؛ لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، كما لو قال: أنتِ علي مثل مال زيد.
هذا ويكره أن يدعو الزوج زوجته بذي رحم، مثل يا أخت أو يا أم ونحوهما، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه فيما رواه أبو داود.
__________
(1) مغني المحتاج: /3 353-354.
(2) المغني: 340/7 ومابعدها، كشاف القناع: 425/5-428، غاية المنتهى: 190/3 ومابعدها.(9/561)
شروط الصيغة: الصيغة التي ينعقد الظهار بها إما لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، أو كناية يحتاج إلى نية. واختلف الفقهاء في بيان الألفاظ الصريحة والكناية.
قال الحنفية (1) : الصريح: هو ما كان بلفظ لا يحتمل معنى آخر غير الظهار، بأن يقول الرجل لزوجته، (أنت علي كظهر أمي) أو (بطنك أو فخذك أو فرجك ... إلخ) أو (نصفك ونحوه من الجزء الشائع كظهر أمي) يكون مظاهراً ولو بلا نية، لأنه صريح. ومثله: (أنت علي حرام كظهر أمي) ثبت الظهار لا غير لأنه صريح.
والكناية: ما كان بلفظ يحتمل الظهار وغيره، ويكون ظهاراً بالنية، مثل (أنت علي مثل أمي) يرجع إلى نيته، فإن قال: أردت الكرامة، فهو كما قال، وإن قال: أردت الظهار، فهو ظهار، وإن قال: أردت الطلاق، فهو طلاق بائن، وإن لم يكن له نية فليس بشيء عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لاحتمال إرادة الكرامة.
ومثل: (أنت علي حرام كأمي) يعتبر ما نواه من ظهر أو طلاق. ولا يقبل منه إرادة الكرامة، لوجود لفظ التحريم، وإن لم ينو شيئاً ثبت الأدنى وهو الظهار في الأصح، لعدم إزالته ملك النكاح وإن طال.
__________
(1) فتح القدير: 228/3-231، البدائع: 231/3-232، الدر المختار: 792/2-794، اللباب: 68/3 وما بعدها.(9/562)
وصريح الظهار عند المالكية (1) : هو ما تضمن ذكر الظهر في مؤبد التحريم، أو هو اللفظ الدال على الظهار بالوضع الشرعي بلا احتمال غيره بلفظ (ظهر) امرأة مؤبدة التحريم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا بد في الصريح من الأمرين: ذِكْر الظهر، وذِكْر مؤبدة التحريم، مثل: (أنت علي كظهر أمي أو أختي من الرضاع، أو كظهر أمك) .
ولا ينصرف صريح الظهار للطلاق إن نواه به؛ لأن صريح كل نوع لا ينصرف لغيره، ولا يعتبر منه الطلاق إن نوى بالظهار طلاقاً، لا في الفتوى ولا القضاء على المشهور من المذهب.
والكناية عندهم: هي ما سقط منه أحد اللفظين: لفظ الظهر: ولفظ مؤبد التحريم، مثال الأول: (أنت كأمي) أو (أنت أمي) بحذف أداة التشبيه، ومثال الثاني: (أنت كظهر رجل: خالد أو بكر أو كظهر أبي أو ابني، أو أجنبية (2) يحل وطؤها في المستقبل بزواج) مثل: أنت علي كظهر فلانة، وليست محرماً ولا زوجة له.
ومن الكناية: أن يعبر بجزء من الزوجة أو من المشبه به، مثل: يدك أو رأسك أو شعرك كأمي، أو كيد أمي أو رأسها أو شعرها. وينوي الظهار في النوعين.
فإن نوى الظهار في نوعي الكناية الظاهرة، وهما إسقاط لفظ الظهر، أو إسقاط مؤبدة التحريم، انعقد ظهاراً. وإن نوى الطلاق وقع به البينونة الكبرى: وهي الطلاق الثلاث، سواء في الزوجة المدخول بها وغيرها، لكن إن نوى الأقل من الثلاث في غير المدخول بها، لزمه فيها ما نواه، بخلاف المدخول بها، فإنه يلزمه فيها البينونة الكبرى، ولا يقبل منه نية الأقل.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 242، الشرح الصغير: 637/2-640، الشرح الكبير: 442/2، بداية المجتهد: 104/2، المقدمات الممهدات: 599/1.
(2) المراد بالأجنبية: غير القريبة المحرم، وغير الزوجة.(9/563)
ومذهب الشافعية (1) : أن الصريح: ما تضمن ذكر الظهر أو عضو لا يذكر في معرض التكريم، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي أو مني أو معي أو عندي كظهر أمي) وكذا إن قال: (أنت كظهر أمي) بحذف الصلة أي (علي) ونحوه، يكون صريحاً على الصحيح، ومن الصريح قوله: (جسمك أو بدنك أو نفسك كبدن أمي أو جسمها أو جملتها) لتضمنه الظهر. ومنه: (أنت علي كيد أمي أو بطنها أو صدرها، ونحوها) من الأعضاء التي لا تذكر في معرض الكرامة والإعزاز مما سوى الظهر؛ لأنه عضو يحرم التلذذ به، فكان كالظهر.
ومن الصريح: ذكر جزء شائع مثل نصفك أو ربعك، ومنه ذكر أحد الأعضاء مثل: رأسك أو ظهرك أو يدك أو رجلك، أو بدنك أو جلدك أو شعرك أو نحو ذلك.
والكناية: أن يذكر عضواً يحتمل الكرامة، مثل أنت علي كعين أو رأس أمي ونحوه. أو أنت كأمي أو روحها أو وجهها، فإن قصد ظهاراً، أي نوى أنها كظهر أمه في التحريم فهو ظهار، وإن قصد كرامة ولم يقصد شيئاً، فلا يكون ظهاراً؛ لأن هذه الألفاظ تستعمل في الكرامة والإعزاز.
ولا يكون الظهار بلفظ الطلاق، ولا الطلاق بلفظ الظهار، فإن قال الرجل لامرأته: (أنت طالق) ونوى به الظهار، لم يكن ظهاراً. وإن قال: أنت علي كظهر أمي» ونوى به الطلاق، لم يكن طلاقاً؛ لأن كل واحد منهما صريح في موجبه في الزوجية، فلا ينصرف عن موجبه بالنية، كما تقدم عند المالكية.
ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، وقع الطلاق، بقوله: (أنت طالق) ويلغى قوله: (كظهر أمي) .
وإن قال: (أنت علي حرام كظهر أمي) ولم ينو شيئاً، فهو ظهار؛ لأنه أتى بصريحه، وأكده بلفظ التحريم. فإن نوى به الطلاق كان طلاقاً في الصحيح.
__________
(1) مغني المحتاج: 353/3، المهذب: 112/2.(9/564)
والصريح عند الحنابلة (1) : ما تضمن ذكر الظهر أو الحرمة، فإذا قال الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي أو كظهر امرأة أجنبية، أو أنت علي حرام، أو حرم عضواً من أعضائها، كان مظاهراً.
فإن شبَّه زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد، فقال: أنت علي كظهر أمي أو أختي أوغيرهما، فهذا ظهار إجماعاً.
وكذا إن شبهها بمن تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته، كان ظهاراً في المذاهب الأربعة وأكثر العلماء.
أو شبهها بالأقارب المحرمات من جهة الرضاع أو من جهة المصاهرة كالأمهات المرضعات وحلائل الآباء والأبناء، كان ظهاراً في رأي الأكثرين.
وأما الكناية عند الحنابلة فهو استعمال ألفاظ الكرامة والتوقير، كما قال الشافعية، فإن قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإن نوى به الظهار فهو ظهار، وهو رأي الأكثرين، وإن نوى به الكرامة والتوقير أو أنها مثله في الكبر أو الصفة، فليس بظهار، والقول قوله في تحديد نيته. وإن لم ينو شيئاً وأطلق فالأظهر عندهم أنه ليس بظهار حتى ينويه، وهو موافق لقول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق.
وإن قال: (أنت علي حرام) فإن نوى به الظهار، فهو ظهار، وهذا موافق لقول أبي حنيفة والشافعي. ولو قال: (أنت حرام إن شاء الله) فلا ظهار.
وإن قال: (أنت علي كظهر أمي حرام) فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره، سواء نوى الطلاق أو لم ينوه، وهذا متفق عليه؛ لأنه صرّح بالظهار، وبينه بقوله: (حرام) .
__________
(1) المغني: 340/7-346، كشاف القناع: 426/5-428.(9/565)
ولو قال: (أنت طالق كظهر أمي) طلقت كما قال الشافعية، وسقط قوله: (كظهر أمي) لأنه أتى بصريح الطلاق أولاً، وجعل قوله «كظهر أمي» صفة له. فإن نوى بقوله (كظهر أمي) تأكيد الطلاق لم يكن ظهاراً، كما لو أطلق. وإن نوى به الظهار، وكان الطلاق بائناً، فهو كالظهار من الأجنبية؛ لأنه أتى به بعد بينونتها بالطلاق، وإن كان رجعياً كان ظهاراً صحيحاً، كما قال الشافعية.
وإن قال: (أنت علي حرام) ونوى الطلاق والظهار معاً، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهاراً وطلاقاً، والظهار أولى بهذا اللفظ، فينصرف إليه.
وإن قال: (الحل علي حرام) أو (ما أحل الله علي حرام) أو (ما انقلب إليه حرام) وله امرأة، فهو مظاهر في الصور الثلاث، لأن لفظه يقتضي العموم، فيتناول المرأة بعمومه. وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها، فهو آكد.
ولا يكون مظاهراً إن قال: كشعر أمي أو سنها أوظفرها؛ لأنها ليست من أعضاء الأم الثابتة. أو قال: (أنا مظاهر، أو علي الظهار، أو علي الحرام، أو الحرام لازم لي) ولا نية له؛ لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار. وإن نوى به الظهار، أو اقترنت به قرينة تدل على إرادته الظهار، مثل أن يعلقه على شرط، فيقول: (علي الحرام إن كلمتك) احتمل أن يكون ظهاراً، كما يصح طلاق الكناية بالنية، ويحتمل ألا يثبت به الظهار؛ لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه وهو المظاهرة، وهذا ليس بصريح فيه، ولأنه يمين موجبة للكفارة، فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى.(9/566)
المطلب الثالث ـ أثر الظهار أو أحكامه، أو ما يحرم على المظاهر:
يترتب على الظهار الأحكام التالية (1) :
1ً - تحريم الوطء بالاتفاق قبل التكفير، وكذا عند الجمهور غير الشافعية: تحريم جميع أنواع الاستمتاع غير الجماع كاللمس والتقبيل والنظر بلذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها لسائر بدنها ومحاسنها، والمباشرة فيما دون الفرج، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] أي فليحرروا رقبة، كما في آية {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/2] أي ليرضعن، وآية {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة:228/2] أي ليتربصن، ولأن القول الذي حرم الوطء، حرم مقدماته ودواعيه كيلا يقع فيه كالطلاق والإحرام. ويستمر التحريم إلى أن يكفر كفارة الظهار؛ لأن ظهاره جناية؛ لأنه منكر من القول وزور، فيناسب مجازاة الجناية بالحرمة، وارتفاعها بالكفارة.
فإن وطئ الرجل المظاهر امرأ ته قبل أن يكفر، استغفر الله تعالى من ارتكاب هذا المأثم، ولا شيء عليه غيرالكفارة الأولى، ولا يعود إلى الاستمتاع بالمظاهر
__________
(1) البدائع: 234/3 وما بعدها، فتح القدير: 226/3 وما بعدها، الدر المختار: 792/2 وما بعدها، اللباب: 67/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242، بداية المجتهد: 108/2، الشرح الصغير: 641/2، المهذب: 114/2، المغني: 347/7 وما بعدها، 383، كشاف القناع: 431/5 وما بعدها.(9/567)
منها حتى يكفر، لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي واقع في ظهاره قبل الكفارة: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وفي رواية «فاعتزلها حتى تكفر» (1) وعن سَلَمة بن صخر عن النبي صلّى الله عليه وسلم في المظاهريُواقع قبل أن يكفِّر، قال: «كفارة واحدة» (2) .
والعَوْد الذي تجب به الكفارة في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} [المجادلة:3/58] : أن يعزم المظاهر على وطئها، أي المظاهر منها، أي أن الكفارة تجب عليه إذا قصد وطأها بعد الظهار. فإن رضي أن تكون محرَّمة عليه، ولم يعزم على وطئها لا تجب الكفارة عليه، ويجبر على التكفير دفعاً للضرر عنها.
ومذهب الشافعية: يحرم بالظهار الوطء فقط دون مقدماته ودواعيه حتى يكفِّر المظاهر؛ لأنه وطء يتعلق بتحريم مال، فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض.
2ً - للمرأة أن تطالب المظاهر بالوطء، لتعلق حقها به، وعليها أن تمنعه من الاستمتاع حتى يكفّر عن الظهار، وعلى القاضي إلزامه بالتكفير، دفعاً للضرر عنها، والإلزام يكون بحبس أو ضرب إلى أن يكفر أو يطلّق.
فإن ادعى أنه كفَّر عن ظهاره، صدِّق في دعواه ما لم يكون معروفاً بالكذب.
هل يعود الظهار بعد الطلاق بالعودة إلى الزوجية؟
إذا طلَّق الرجل امرأته بعد الظهار قبل أن يكفِّر عن ظهاره، ثم راجعها هل يعود عليها الظهار، فلا يحل له المسيس (الوطء وتوابعه) حتى يكفِّر؟
ذكر ابن رشد (3) خلافاً في المسألة، فعند مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها، فعليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأحمد: الظهار راجع عليها، سواء نكحها بعد الثلاث أو بعد طلقة واحدة.
وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق، ثم يطلق، ثم يراجع، هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟
وسبب الخلاف: هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن الطلاق البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم. ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم.
__________
(1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس (نصب الراية: 246/3، نيل الأوطار: 271/6) .
(2) رواه ابن ماجه والترمذي عن سلمة (نيل الأوطار: 261/6) .
(3) بداية المجتهد: 109/2، المغني: 351/7 وما بعدها، مغني المحتاج: 357/3، البدائع: 235/3.(9/568)
هل يدخل الإيلاء على الظهار؟
ذكر ابن رشد (1) أيضاً خلافاً في هذه المسألة على ثلاثة آراء: فقال الجمهور غير مالك: لا يتداخل حكم الإيلاء مع حكم الظهار، سواء أكان الزوج مضاراً أم لم يكن، أي لا يدخل عليه.
وقال مالك: يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضاراً.
وقال سفيان الثوري: يدخل الإيلاء على الظهار مطلقاً، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر، ولو من غير مضارة.
وسبب الخلاف: مراعاة المعنى أو اعتبار الظاهر، فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان. ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر.
__________
(1) بداية المجتهد: 109/2.(9/569)
المطلب الرابع ـ كفارة الظهار:
يتناول الكلام عن كفارة الظهار المسائل الآتية:
أولاً ـ مشروعية الكفارة: شرعت كفارة الظهار بالكتاب والسنة (1) :
أما الكتاب: فقول تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ... } [المجادلة:3/58-4] .
وأما السنة: فروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يجادلني فيه، ويقول: اتقي الله، فإنه ابنُ عمك، فما برح حتى نزل القرآن: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة:1/58] إلى الفرض (2) ، فقال: يعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت يا رسول الله، إنه شيخ كبير، ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً، قالت: ما عنده من شيء يتصدَّق به، قال: فأُتي بعَرَق من تمر، قالت: يا رسول الله، فإني سأعينه بعَرَق آخر، قال: قد أحسَنت، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك. والعَرَق: ستون صاعاً (3) .
ثانياً ـ متى تجب كفارة الظهار؟
يرى أكثر الفقهاء أن كفارة الظهار لا تجب قبل العود، فلو مات أحد المظاهرين أو فارق المظاهر زوجته قبل العود، فلا كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] وهو نص في وجوب تعلق الكفارة بالعود. ومن طريق القياس: إن الظهار يشبه كفارة اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار، والكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا يحنث بغير الحنث
__________
(1) بداية المجتهد: 103/2، المغني: 109/7.
(2) الفرض: يقصد به آيتي الظهار 3 و 4 من سورة المجادلة.
(3) رواه أبو داود، ولأحمد معناه، لكنه لم يذكر قدر العَرَق (نيل الأوطار: 262/6) .(9/570)
كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود.
واختلفوا في تفسير العود على آراء ثلاثة (1) :
قال الحنفية: والمالكية على المشهور: العود: العزم على الوطء أو إرادة الوطء.
ورأى الحنابلة أن العود: هو الوطء في الفرج، لقوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] أوجب الكفارة عقب العود، وهو يقتضي تعلقها به، ولا تجب قبله، إلا أن الكفارة شرط لحل الوطء، فيؤمر بها من أراده ليستحله بها، كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حلها، ولأن العود في القول هو فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة: هو استرجاع ما وهب. والعود هنا هو فعل ما حلف على تركه وهو الجماع.
وذهب الشافعية إلى أن العود في الظهار: هو إمساكها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه؛ لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها، فإمساكها عود فيما قال، ولأن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها زوجة، فإذا أمسكها زوجة فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عاد له، وعاد فيه: أي خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم: عاد في هبته.
وهذا في الظهار المؤبد أو المطلق، وفي غير الرجعية؛ لأنه في الظهار المؤقت إنما يصير عائداً بالوطء في المدة، لا بالإمساك. والعود في الرجعية: إنما هو بالرجعة. ومحل العود بالإمساك بعد ظهاره زمن إمكان فرقة: هو إذا لم يتصل بالظهار فرقة بسبب من الأسباب، فلو اتصل بالظهار فُرْقة بموت منهما أو من أحدهما، أو فسخ للنكاح، أو فُرْقة بسب طلاق بائن، أو رجعي ولم يراجع، أو جُن الزوج عقب ظهاره، فلا عود ولا كفارة في جميع ذلك، لتعذر الفراق في حالتي الطلاق والجنون، وفوات الإمساك في الموت، وانتفائه في الفسخ.
__________
(1) البدائع: 235/3، اللباب: 68/3، بداية المجتهد: 104/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص243، الشرح الصغير: 643/2، مغني المحتاج: 355/3-357، المهذب: 113/2، المغني: 351/7 وما بعدها، كشاف القناع: 432/5 وما بعدها.(9/571)
ثالثاً ـ تعدد الكفارة بتعدد المظاهر منهن أو بتعدد الظهار:
إذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له، فعليه عند الحنفية والشافعية في الجديد (1) كما تقدم أربع كفارات، سواء ظاهر منهن بأقوال مختلفة، أو بقول واحد؛ لأن الظهار وإن كان بكلمة واحدة، فإنه يتناول كل واحدة من النساء وحدها، فصار مظاهراً من كل واحدة منهن، وبما أن الظهار تحريم لا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا تعدد التحريم تتعدد الكفارة.
وليس عليه أكثر من كفارة واحدة، أو يجزئ واحدة إذا كان مظاهراً بكلمة واحدة عند المالكية والحنابلة (2) ؛ لأن الظهار كالإيلاء في التحريم، وفي الإيلاء لا يجب إلا كفارة واحدة، ولأنه كاليمين بالله تعالى، والحنث باليمين على أمر متعدد لا يوجب إلا كفارة واحدة، ولأن الكفارة تمحو إثم الحنث، والكفارة الواحدة تحقق المراد. أما إن ظاهر من نسائه بكلمات فقال لكل واحدة: أنت علي كظهر أمي، فإن كل كلمة تقضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها، فتتعدد الكفارة بتعدد الظهار من كل امرأة؛ لأنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة، فكان لكل واحدة كفارة، كما لو كفر ثم ظاهر.
والراجح لدي هو الرأي الأول؛ لأن محل الظهار تعدد، فتتعدد الكفارة.
وأما تعدد الكفارة بتعدد الظهار، كأن ظاهر من زوجته مراراً، فاختلف فيه الفقهاء أيضاً (3) :
فرأى الحنفية: إن كرر الظهار في مجلس واحد، فكفارته واحدة، وإن كان في مجالس فكفارات، كبقية الأيمان، ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فإذا نوى الاستئناف، تعلق بكل مرة حكم حالها كالطلاق.
ورأى المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب والأوزاعي: إذا ظاهرالرجل من زوجته مراراً فلم يكفر، فكفارة واحدة؛ لأن المرأة قد حرمت بالقول الأول، فلم يزد القول الثاني في تحريمها، ولأن الظهار لفظ يتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى.
وذهب الشافعي في الجديد: إلى أن من حلف أيماناً كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين، فكفارة واحدة، وإن نوى الاستئناف فكفارتان في الأظهر.
__________
(1) البدائع: 234/3، مغني المحتاج: 358/3.
(2) بداية المجتهد: 112/2 وما بعدها، المغني: 357/7.
(3) بداية المجتهد:113/2، المغني: 386/7، مغني المحتاج: 358/3.(9/572)
رابعاً ـ أنواع الكفارة وترتيبها:
الكفارة كما دل القرآن والسنة النبوية فيما سبق أنواع ثلاثة:
1ً - عتق رقبة سالمة من العيوب، صغيرة أم كبيرة، ذكر أم أنثى.
2ً - صيام شهرين متتابعين.
3ً - إطعام ستين مسكيناً، يوماً واحداً، غداء وعشاء عند الحنفية.
وهي واجبة على الترتيب، فالإعتاق أولاً، فإن لم يكن بأن عجز عنه فالصيام، فإن لم يكن بسبب العجز عنه فالإطعام، والمعتبر في العجز عند الجمهور: وقت الأداء. وعند الحنابلة وقت الحنث.
أما إعتاق الرقبة (1) : فهي الواجب الأول على المظاهر القادر على الإعتاق لا يجزئه غيره بالاتفاق، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا: فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته في الحديث المتقدم: «يعتق رقبة، قلت: لا يجد، قال: فيصوم» وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك. فمن وجد رقبة يستغني عنها، أو وجد ثمنها فاضلاً عن حاجته، ووجدها به، لم يجزئه إلا الإعتاق.
واتفق الفقهاء أيضاً على أنه لا يجزئه رقبة سالمة من العيوب الضارة بالعمل ضرراً بيِّناً؛ لأن المقصود تمليك العبد منافع نفسه، وتمكينه من التصرف لنفسه، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضرراً واضحاً، فلا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين، لفوات جنس المنفعة، فيكون المعتق هالكاً حكماً، إذ لا يتهيأ له كثير من العمل مع تلف هذه الأعضاء. ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً؛ لأنه وجد فيه المعنيان: ذهاب منفعة الجنس، وحصول الضرر بالعمل.
__________
(1) الدر المختار: 796/2 وما بعدها، فتح القدير: 233/3-236، اللباب: 70/3، الشرح الصغير: 645/2-649، بداية المجتهد: 110/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 243، مغني المحتاج: 360/3 وما بعدها، المهذب: 114/2 وما بعدها، المغني: 359/7-362، كشاف القناع: 438/5-442.(9/573)
ويجزئ عند الحنفية: المقطوع إحدى اليدين والرجلين، والمقطوع الأذنين والأنف، والأصم إن سمع الصياح، والأعور والأعمش والخصي والمجبوب، لأنه ليس بفائت جنس المنفعة، وإنما يخل بكمالها وهو لا يمنع الانتفاع به. ولا يجوز مقطوع إبهام اليدين؛ لأن قوة البطش بهما، ولايجزئ عندهم الأخرس، والأصم الذي لا يسمع الصياح؛ لزوال جنس المنفعة، فأشبه زائل العقل.
ولا يجزئ عند الجمهور غير الحنفية المقطوع إحدى اليدين أو الرجلين، إلا أن الشافعية أجازوا فاقد إحدى اليدين، لا فاقد رِجْل.
ولا يجزئ عند المالكية مقطوع أصبع فأكثر، أو أذن، ولا الأعمى، ويجزئ الأعور، ولا يجزئ الأبكم (الأخرس) ولا الأصم، ولا المجنون، ولا المريض المشرف على الهلاك بسبب جذام وبرص وعرج وهرم شديدين.
ولا يجزئ عند الشافعية المريض الزمِن، وفاقد رجل، أو خِنصر وبِنصر من يد، أو أنملتين من غيرهما؛ لأن فقدهما مضر، وأنملة إبهام، لأن فقدهما يضر، لتعطل منفعتها فأشبه قطعها، ولا يجزئ هَرِم عاجز، ومن أكثر وقته مجنون ومريض لا يرجى برء علته. ويجزئ عندهم صغير، وأقرع، وأعرج يمكنه متابعة المشي، وأعور، وأصم، وأخرس، وأخشم (فاقد الشم) وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه، ولا يجزئ عتق عبد مغصوب؛ لأنه ممنوع من التصرف في نفسه، فهو كالمريض الزمِن.(9/574)
ولا يجزئ عند الحنابلة مقطوع اليد أو الرجل، ولا أشلها، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى؛ لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء. ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة؛ لأن نفع اليدين يزول أكثره بقطعهما. وإن قطعت كل واحدة من يد، جاز؛ لأن نفع الكفين باق. وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، فهم كالشافعية فيما عدا مقطوع اليد. ويجزئ عندهم الأعور اتفاقاً مع غيرهم، ويجزئ مقطوع الأنف والأصم إذا فهم الإشارة، ويجزئ الأخرس إذا فهمت إشارته وفهم بالإشارة. ويجزئ المريض بمرض يرجى برؤه، ولا يجزئ غير مرجو البرء، ولا يجزئ عتق المغصوب؛ لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه، ولا يجزئ غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره؛ لأنه لا يعلم حياته، فلا يعلم صحة عتقه.
واختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في الرقبة على قولين:
يرى الحنفية: أنه لا يشترط إيمان الرقبة في كفارة الظهار وكذا في كفارة اليمين، فيصح إعتاق الكافر أو مباح الدم، عملاً بإطلاق النص القرآني: {فتحرير رقبة} [المجادلة:3/58] .
ويرى الجمهور: أنه يشترط إيمان الرقبة في هذه الكفارة وفي كفارة اليمين، فيجب أن تكون مسلمة، ولا يجزئ الكافر؛ لأنه تكفير بعتق، فلم يجز إلا مؤمنة مثل كفارة القتل، والمطلق يحمل على المقيد قياساً إذا وجد المعنى فيه، ولأنه إذا كان لا يجوز إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً، وقيدنا النص القرآني بهذا القيد،، فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى.
وسبب الخلاف: قضية حمل المطلق على المقيد، فإن القرآن قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل، وأطلقها في كفارة الظهار، فيجب عند الجمهور صرف المطلق إلى المقيد. ولا يجب عند الحنفية، ويعمل بكل نص على حدة، حتى لا يزاد على النص ما ليس منه.(9/575)
وأما صيام شهرين متتابعين:
فقد أجمع أهل العلم (1) على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة بأن عجز عن ثمنها، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل، وقدر على الصوم: أن فرضه صيام شهرين متتابعين، ولو ثمانية وخمسين يوماً بالهلال، وإلا فستين يوماً، لقول الله تعالى: {فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/58] .
ولحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر، قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم لمن واقع امرأته بعد الظهار وعجز عن الإعتاق: «فصم شهرين متتابعين» .
ورأى الحنفية والمالكية: أنه متى وجد رقبة، لزمه إعتاقها، ولم يجز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان محتاجاً إليها لخدمة، أو محتاجاً إلى ثمنها لقضاء دين؛ لأنه واجد حقيقة.
وخالفهم الشافعية والحنابلة: فأجازوا له الانتقال إلى الصيام إن كان محتاجاً للرقبة لخدمة أو قضاء دين أو نفقة أو أثاث لا بد منه، أو لم يجد رقبة يشتريها؛ لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم. ويعتبر اليسار الذي يلزم به الإعتاق في أظهر الأقوال عند الشافعيةوالمالكية: هو وقت الأداء والإخراج، لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها، فاعتبر حال أدائها كالصوم والتيمم والقيام والقعود في الصلاة. والمعتبر عند الحنابلة: وقت وجوب الكفارة.
التتابع في الصوم: أجمع أهل العلم أيضاً على وجوب التتابع في صيام كفارة الظهار، للنص القرآني، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر وأفطر: أن عليه استئناف الشهرين، لورود لفظ الكتاب والسنة به.
__________
(1) الدر المختار: 801/2-804، اللباب: 73/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 243، الشرح الصغير:654/2وما بعدها، بداية المجتهد: 112/2، مغني المحتاج: 366/3، المهذب: 117/2، المغني: 362/7-368-377، غاية المنتهى: 197/3 وما بعدها، كشاف القناع: 445/5-448.(9/576)
ومعنى التتابع: الموالاة بين صيام أيام الشهرين، فلا يفطر فيها، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يحتاج التتابع عند الجمهور إلى نية، ويكفي فعله؛ لأنه شرط، وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية، وإنما تجب النية لأفعال العبادة. وقال المالكية: لابد من نية التتابع ونية الكفارة.
فإن بدأ الصيام في أثناء شهر، حسب الشهر الذي بعده عند الشافعية والمالكية والحنابلة بالأهلّة. وأما عند الحنفية: إن لم يكن صومه في أول الشهر برؤية الهلال بأن غم أو صام في أثناء شهر، فإنه يصوم ستين يوماً.
ولتحقيق التتابع قال الحنفية: ويختار صوم شهرين متتابعين ليس فيهما شهر رمضان، ولا يوم الفطر، ولا يوم النحر، ولا أيام التشريق.
فإن جامع الرجل المرأة التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلاً عامداً، أو نهاراً ناسياً، استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل التماسّ، وهذا الشرط يزول بالجماع، في خلال الصوم، فيستأنف. ولا يستأنف في الإطعام إن وطئها في خلاله، لإطلاق النص في الإطعام، وتقييده بكونه {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] في تحرير الرقبة والصيام.
واتفق الحنفية على أن المظاهر إن أفطر يوماً من الشهرين بعذر إلا الحيض، كسفر ومرض ونفاس، بخلاف الحيض لتعذر الخلو عنه، أو بغير عذر، استأنف فبدأ الصوم من جديد أيضاً، لفوات التتابع وهو قادر عليه.
ومذهب المالكية قريب من رأي الحنفية: إن قطع التتابع ولو في اليوم الأخير من الشهر، وجب الاستئناف. وينقطع تتابع الصوم بوطء المظاهر امرأته المظاهر منها ليلاً أو نهاراً، ناسياً أو عامداً، كما يبطل الإطعام بوطء المظاهر منها في أثنائه، ولو لم يبق عليه إلا مدّ واحد، فإنه يبطل ويبتدئه، وهذا بخلاف رأي الحنفية.(9/577)
وينقطع التتابع بالفطرفي السفر من غير ضرورة، وبمجيء العيد في أثناء الشهرين إن علم أنه يأتي في أثناء صومه، أما إن جهل إتيان العيد في أثناء صومه، فلا يبطل التتابع، وصام بعد العيد بيومين، بناء على المعتمد عندهم: أن المسلم لا يصوم يوم العيد وما بعده فقط، وكذا لا ينقطع التتابع إذا جهل وقت مجيء رمضان.
ولا ينقطع التتابع بالمرض، وبالفطر سهواً، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل فأكل أو شرب، وبحيض أو نفاس.
وينقطع التتابع لدى الشافعيةمثل المالكية بإفطار يوم بلا عذر، أوبعذر كمرض مسوغ للفطر في المذهب الجديد، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض، أو نفاس على الصحيح، أو جنون على المذهب. ويلاحظ أن طروّ الحيض والنفاس إنما يتصور في كفارة قتل لا ظهار، إذ لا يجب على النساء. وإن جامع المظاهر بالليل قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل التتابع بالجماع؛ لأن جماعه لم يؤثر في صوم رمضان، فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل.
وأيسر المذاهب وأولاها مذهب الحنابلة القائلين: إن أفطر في الشهرين بعذر بنى على ما مضى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ من جديد.
فينقطع التتابع بفطر بلا عذر، أو لجهل، أو لأنه نسي وجوب التتابع، أو ظن أنه أتم الشهر، فبان بخلافه، أو صام أثناء الشهرين تطوعاً، أو قضاء عن رمضان، أو صام عن نذر أو كفارة أخرى؛ لأنه قطعه بشيء يمكنه التحرز منه، فأشبه ما لو أفطر من غير عذر. وينقطع التتابع أيضاً إذا وطئ المظاهر منها ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً، فيفسد ما مضى من صيامه، وابتدأ صوم الشهرين، لكن لو وطئ في أثناء الإطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه، كما قال الحنفية والشافعية.(9/578)
ولا ينقطع التتابع بصوم رمضان، أو فطر واجب كعيد وحيض ونفاس وجنون، ومرض مخوف، وحامل ومرضع أفطرتا خوفاً على أنفسهما، أو فطر لعذر يبيحه كمرض وسفر غير مخوف، وحامل ومرضع لضرر ولدها، ومكره ومخطئ، كمن ظن أن الفجر لم يطلع أو الشمس لم تغرب، فبان بخلافه.
والخلاصة: أنه ينقطع التتابع بوطء المظاهر امرأته قبل إتمام الصيام ناسياً في النهار أو متعمداً في الليل في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الشرط في الصوم أن يكون قبل المسيس، وأن يكون خالياً عنه بالضرورة بالنص القرآني؛ ولا ينقطع التتابع بالوطء نهاراً ناسياً، أو عمداً في الليل في رأي الشافعية والحنابلة، فلا يوجب الاستئناف، بسبب العذر.
وإما إطعام ستين مسكيناً:
فقد أجمع أهل العلم (1) على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة، ولم يستطع الصيام: أن فرضه إطعام ستين مسكيناً، على ما أمر الله تعالى في كتابه، وجاء في سنة نبيه صلّى الله عليه وسلم، سواء عجز عن الصيام لهرم أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو لحوق مشقة شديدة، أو لشبق فلا يصبر فيه عن الجماع، فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصيام قالت امرأته: «يا رسول الله، إنه شيخ كبير،
__________
(1) الدر المختار: 801/2-804،اللباب: 73/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 243، الشرح الصغير:654/2ومابعدها، بداية المجتهد: 112/2، مغني المحتاج: 366/3، المهذب: 117/2، المغني: 368/7-376، غاية المنتهى: 197/3 ومابعدها، كشاف القناع: 445/5-448.(9/579)
ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً» ولما أمَر سلمة بن صخر بالصيام قال: «وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم» فنقله إلى الإطعام لما أخبر أن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام، وقيس على هذين ما يشبههما في معناهما. ولا يجوز أن ينتقل عن الصوم لأجل السفر؛ لأن السفر لا يعجزه عن الصيام، وله نهاية ينتهي إليها، وهو من أفعاله الاختيارية.
والمرض الذي يبيح الانتقال عن الصيام إلى الإطعام: هو عند الجمهور الذي لا يرجى برؤه. وعند الحنابلة: هو الذي لا يرجى برؤه أو مرجو الزوال، لدخوله في قوله تعالى: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً} [المجادة:4/58] ولأنه لا يعلم أن له نهاية، فأشبه الشبق.
ما يتعلق بالإطعام: قدر الطعام، وكيفيته، وجنس الطعام، ومستحقه:
قدر الطعام:
للفقهاء آراء ثلاثة في مقدار الطعام في الكفارات كلها وهي ما يأتي:
1 ً - رأي الحنفية: يعطى لكل مسكين مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع من تمر أو شعير، كالفطرة قدراً ومصرفاً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث سَلَمَة ابن صخر: «فأطعم وَسْقاً من تمر» (1) وفي رواية «فأطعم عَرَقاً من تمر ستين مسكيناً} والعَرَق والوسق: ستون صاعاً، كما في رواية أبي داود: «والعَرَق: ستون صاعاً» والصاع (2751 غم) .
2 ً - رأي المالكية: يملِّك المكفِّر ستين مسكيناً، لكل واحد مد وثلثان بمده صلّى الله عليه وسلم، من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.(9/580)
اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعاً لا كيلاً، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين.
3 ً - رأي الشافعية والحنابلة: إن قدر الطعام في الكفارات كلها وفي فدية الصوم والفطرة مُدّ من قمح لكل مسكين، أو نصف صاع من تمر أو شعير، لما روى أبو داود بإسناده عن أوس بن الصامت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطاه ـ يعني المظاهر ـ خمسة عشر صاعاً من شعير: إطعامَ ستين مسكيناً» لكنه حديث مرسل عن عطاء عن أوس. أما المد: فهو (675) غم.
كيفية الإطعام:
للفقهاء رأيان:
1 ً - مذهب الحنفية: الضابط عندهم أن ما شرع بلفظ (إطعام وطعام) جاز فيه الإباحة، وما شرع بلفظ (إيتاء وأداء) شرع فيه التمليك. وبناء عليه يكون الإطعام في الكفارات إما بالتمليك، أو بالإباحة غداء وعشاء، أو غداء وقيمة عشاء أو بالعكس بشرط إدام مع خبز شعير وذرة، لا مع خبز قمح، فيجوز الجمع بين الإباحة والتمليك؛ لأنه جمع بين شيئين جائزين على الانفراد، سواء أكلوا قليلاً أو كثيراً. فإن أعطى مسكيناً واحداً ستين يوماً أجزاه، وإن أعطاه في يوم واحد، لم يُجْزه إلا عن يومه.
ويجوز عندهم (1) دفع القيمة في الزكاة، والعُشْر، والخَراج، والفِطْرة، والنَّذْر، والكفارة غير الإعتاق. وتعتبر القيمة يوم الوجوب عند الإمام أبي حنيفة، وقال الصاحبان: يوم الأداء. وفي السوائم: يوم الأداء باتفاقهم، ويقوَّم في البلد الذي فيه المال، أما في المفازة فيقومَّ في أقرب الأمصار إليه.
وسبب جواز دفع القيمة: أن المقصود سد الخلَّة ودفع الحاجة، ويوجد ذلك في القيمة.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 147/1، 73/3.(9/581)
2 ً - مذهب الجمهور: الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة، ولا يجزئ الغداء والعشاء بالقدر الواجب أو أقل أو أكثر، إلا أن المالكية قالوا: يجزئ الغداء والعشاء إن تحقق بلوغهما مداً وثلثين، كما تقدم.
ودليلهم أن المنقول عن الصحابة إعطاء المساكين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لكعب في فدية الأذى بالحج: (أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين) ولأنه مال وجب للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة.
ويشترط العدد عند الفقهاء لآية الظهار، فلو أطعم ثلاثين مسكيناً طعام ستين لم يجزه. وقال الشافعية والحنابلة: لو أعطى مسكيناً مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه؛ لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب، فأجزأ، كما لو دفع إليه المدّين في يومين. واشترط الحنفية أن يكون الإعطاء متكرراً، فلو أطعم ستين مسكيناً كل واحد صاعاً من قمح بدفعة واحدة عن ظهارين، صح عن ظهار واحد، فإن كان بدفعات جاز عن الظهارين؛ لأنه في المرة الثانية كمسكين آخر.
ولا تجزئ القيمة عندهم (أي الجمهور) في الكفارة، عملاً بالنصوص الآمرة بالإطعام.
وقد عرفنا أنه لا يجب التتابع في الإطعام عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلو وطئ في أثناء الإطعام، لم تلزمه إعادة ما مضى منه؛ لأنه وطئ في أثناء مالا يشترط التتابع فيه، فلم يوجب الاستئناف كوطء غير المظاهر منها، أو كالوطء في كفارة اليمين، فيختلف الإطعام عن الصيام. وسوَّى المالكية بين الإطعام والصيام، فاشترطوا التتابع فيهما، فلو وطئ في أثناء كفارة الظهار بهما، وجب الاستئناف فيهما.(9/582)
جنس الطعام:
المجزئ في الإطعام عند الجمهور غير المالكية: ما يجزئ في الفطرة: وهو البُرّ والشعير ودقيقهما والتمر والزبيب، سواء أكان قوت المظاهر أم لم يكن، ولا يجزئ عند الحنابلة في الراجح غير ما ذكر، ولو كان قوت بلده، إلا إذا عدمت تلك الأقوات فيجوز إخراج نحو ذرة ودخن، ولا يجزئ أن يغدي المساكين ويعيشهم أو يدفع لهم القيمة؛ لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأصناف على ما جاء في الأحاديث السابقة، فلم يجز غيرها، كما لو لم يكن قوت بلده.
ويجب عند الشافعية على المذهب الإطعام من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة؛ لأن الأبدان بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلد المظاهر، لأن المعتبر في الزكاة بماله، ولقوله تعالى: {فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/5] والأوسط: الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله: قوت البلد.
وأوجب المالكية الإطعام من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أوذرة أو غيرهما. فإن اقتاتوا غير البُرّ (القمح) فما يعدله شبعاً لا كيلاً. ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مداً وثلثين.
والواجب عند الحنفية ما يجب في الفطرة: وهو البر أو التمر أو الشعير، ودقيق كل واحد كأصله كيلاً، أي نصف صاع في دقيق الحنطة، وصاع في دقيق الشعير، وقيل: المعتبر في الدقيق القيمة لا الكيل. ويجوز إخراج القيمة من غير هذه الأصناف، كما تقدم.
مستحق الإطعام:
مستحق الكفارة: هو مستحق الزكاة عند الجمهور من المساكين والفقراء، لقوله تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/58] فلا يجوز دفعها لكافر، وإنما يشترط أن يكون مسلماً، كالزكاة، ويجوز صرفها إلى الصغير والكبير ولو لم يأكل الطعام عند الحنابلة؛ لأنه مسلم محتاج أشبه الكبير، لكن يقبضها ولي الصغير؛ لأن الصغير لا يصح منه القبض.
ومستحق كفارة الظهار في رأي الحنفية: هو مستحق الفطرة، فلا يجوز إطعام أصله وفرعه وأحد الزوجين، ويجوز إطعام الذمي، لا الحربي ولو مستأمناً.(9/583)
خامساً ـ شرط الكفارة:
اتفق فقهاء المذاهب (1) على أن النية شرط لصحة الكفارة، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام الواجب عليه عن الكفارة، أي بنية مقارنة للتكفير أو قبله بيسير، لأن الكفارة حق مالي يجب تطهيراً، كالزكاة، والأعمال بالنيات.
سادساً ـ من وطئ قبل أن يكفر:
اتفق الفقهاء على أن من وطئ قبل أن يكفر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، فلا تسقط بعدئذ بموت ولا طلاق ولا غيره، إلا بعد الطلاق الثلاث عند المالكية كما سبق، ويظل تحريم زوجته عليه باقياً حتى يكفر. لكن اختلفوا في تأثير الوطء أثناء التكفير، فأطلق المالكية (2) القول في أنواع الكفارة، فمن وطئ قبل أن يكفر عن ظهاره، سواء بالعتق أو بالصوم أو بالإطعام، وسواء أكان الوطء ليلاً أم نهاراً، عامداً أم ناسياً، ولو في أثناء الإطعام، ولو لم يبق عليه إلا مد واحد، فإنه يحرم ويبطل ويبتدئ الكفارة من جديد. وأما وطء الزوجة غير المظاهر منها فلا يضر في صيام إن وقع ليلاً، ولا في إطعام وعتق.
ورأى الشافعية (3) أن المظاهر إن جامع أثناء الصيام ليلاً قبل أن يكفر أثم؛ لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام؛ لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى.
وفصل الحنفية والحنابلة (4) في الأمر، فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم، أي ابتدأ صيام الشهرين من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة مامضى، وسبب التفرقة بين الصوم والإطعام: إطلاق النص القرآني في الإطعام: {فإطعام ستين مسكيناً} [المجادلة:4/58] دون تقييده بكونه قبل التماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التماس في قوله سبحانه في الحالتين: {من قبل أن يتماسا} [المجادلة:4/58] .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 796/2، الشرح الصغير: 650/2، مغني المحتاج: 359/3، المهذب: 118/2، المغني: 387/7.
(2) الشرح الصغير: 651/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 242.
(3) المهذب: 117/2.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 800/2 وما بعدها، المغني: 367/7، 383.(9/584)
المطلب الخامس ـ انتهاء حكم الظهار:
الظهار إما مؤقت أو مطلق مؤبد، ويختلف حكم انتهاء أحدهما عن الآخر (1) :
أـ إن كان الظهار مؤقتاً، كأن يقول الرجل لزوجته: (أنت علي كظهر أمي يوماً أو شهراً أو سنة) ينتهي بانتهاء الوقت بدون كفارة عند الجمهور؛ لأن الظهار كاليمين يتوقت، وينتهي بانتهاء أجله، بعكس الطلاق لا يحله شيء فلا يتوقت. وقال المالكية: يبطل التأقيت ويتأبد الظهار، ولا ينحل إلا بالكفارة، قياساً على الطلاق، وإذا كان تحريم الطلاق لا يحتمل التأقيت، فكذا تحريم الظهار مثله.
ب ـ وإن كان الظهار مؤبداً أو مطلقاً: فينتهي حكم الظهار أو يبطل بالاتفاق بموت أحد الزوجين، لزوال محل حكم الظهار، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله.
ولا يبطل حكم الظهار عند الجمهور غير المالكية بالطلاق الرجعي أو البائن أو الثلاث، ولا بالردة عن الإسلام في قول أبي حنيفة، حتى لو تزوجت بزوج آخر، ثم عادت إلى الأول، فلا يحل له وطؤها بدون تقديم الكفارة؛ لأن الظهار قد انعقد موجباً حكمه وهو الحرمة، فيبقى على ما انعقد عليه، وهو ثبوت حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة.
أما عدم المطالبة بالكفارة فيتم بالموت أو بالفراق عند الجمهور غير الشافعية (2) ، فلو مات أحد المظاهرين، أو فارق الزوج زوجته قبل العود، فلا كفارة عليه، لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:3/58] فأوجب الكفارة بأمرين: ظهار وعود، فلا تثبت بأحدهما، ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين، فلا تجب الكفارة قبل الحنث كسائر الأيمان، والحنث فيها هو العود (أي العزم على الوطء) .
وقال الشافعي: متى أمسك الرجل المظاهر منها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه، فلم يطلقها، فعليه الكفارة؛ لأن ذلك هو العود عنده.
__________
(1) البدائع: 235/3.
(2) المغني: 351/7 وما بعدها.(9/585)
المبحث العاشر ـ التفريق بسبب الردة أو إسلام أحد الزوجين:
أثر الارتداد:
1ًـ إذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام، وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق، عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا حاجة لتفريق القاضي، وإنما ينفسخ الزواج بينهما فسخاً، والمشهور عند المالكية وعلى الراجح عندهم أن فرقة الردة طلاق.
وقال الشافعية والحنابلة: يتوقف فسخ النكاح على انقضاء العدة، فإن أسلم المرتدقبل انقضائها فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت بانت المرأة منذ اختلف الدينان. ورأى الجعفرية أن الردة من أحد الزوجين قبل الدخول تفسخ الزواج في الحال. وتتوقف على انقضاء العدة بعد الدخول.
فإن كان الزوج هو المرتد، وكان قد دخل بزوجته، فلها كمال المهر؛ لأنه قد استقر بالدخول. وإن كان لم يدخل بها بعدُ، فلها نصف المهر؛ لأنها فرقة حصلت من الزوج قبل الدخول، وهي فُرقة تنصِّف المهر.(9/586)
وإن كانت المرأة هي المرتدة، وكانت الردة قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنها منعت المعقود عليه بالارتداد، فصارت كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض. وإن كانت الردة بعد الدخول بها، فلها المهر كاملاً؛ لأن الدخول في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقر (مهر) .
2ً ـ وإن ارتد الزوجان معاً، أو لم يعلم سبق أحدهما، ثم عادا إلى الإسلام معاًً، فهما على نكاحهما استحساناً، لعدم اختلاف دينهما (1) .
3ً ـ ولا يجوز أن يتزوج المرتد مسلمة ولا كافرة ولا مرتدة؛ لأنه مستحق للقتل. وكذلك المرتدة لا يجوز أن يتزوجها مسلم ولا كافر ولا مرتد لأنها عند الحنفية محبوسة للتأمل (2) .
أثر الإسلام:
1ً ـ إذا أسلمت المرأة، وزوجها كافر، عَرَض عليه القاضي الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته، لعدم طروء ما ينافي بقاء الزواج. وإن أبى عن الإسلام، فرَّق القاضي بينهما، لعدم جواز بقاء المسلمة عند الكافر. وكان التفريق طلاقاً بائناً عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: هي فُرْقة بغير طلاق (3) .
2ً ـ وإن أسلم الزوج المتزوج مجوسية، عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته، وإن أبت عن الإسلام فرَّق القاضي بينهما، لأن نكاح المجوسية حرام مطلقاً، ولم تكن هذه الفرقة طلاقاً؛ لأن الفرقة بسبب من قبلها، والمرأة ليست بأهل للطلاق.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 28/3، المغني: 639/6، القوانين الفقهية: ص 196، شرح الرسالة: 46/2-47، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 203.
(2) الكتاب، المرجع السابق: 29/3، فتح القدير: 505/2.
(3) الكتاب مع اللباب: 26/3، فتح القدير: 507/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 196، شرح الرسالة: 46/2-47.(9/587)
فإن كان الزوج قد دخل بها، فلها المهر المسمى، لتأكده بالدخول، فلا يسقط بعد الفرقة، وإن لم يكن دخل بها، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول بها (1) .
3ً ـ وإذا أسلمت المرأة في دار الحرب، لم تقع الفُرْقة عليها حتى تنقضي عدتها بأن تحيض ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تضع حملها إن كانت حاملاً، وتلك عدتها؛ لأن إسلام زوجها مرجو، والعرض عليه متعذر، فنزِّل منزلة الطلاق الرجعي، فإذا انقضت عدتها، بانت من زوجها (2) .
أما إذا خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام من دار الحرب مسلماً، فتقع الفرقة بينهما عند الحنفية (3) ، لاختلاف الدارين حقيقة وحكماً، وتباين الدارين ينافي انتظام المصالح الزوجية، كما تتنافى بسبب قيام القرابة المَحْرمية.
وخالفهم الجمهور، فلم يحكموا بوقوع الفرقة لتباين الدارين؛ لأن أثر التباين في انقطاع الولاية (أي سقوط مالكيته عن نفسه وماله) لا في إحداث الفرقة كالحربي المستأمن الذي دخل دارنا بأمان، والمسلم المستأمن إذا دخل دار الحرب بأمان، لا تقع فرقة في زواجهما.
4ً ـ وإذا أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما؛ لأنه يصح الزواج بينهما ابتداء من الأصل، فيكون بقاء الزواج بينهما أولى.
__________
(1) اللباب: 26/3. (2) اللباب، المرجع السابق: 27/3، فتح القدير: 508/2 وما بعدها.
(3) المبسوط: 50/5، البحر الرائق: 313/3.(9/588)
الفَصْلٌ الرّابع: العِدَّة والاستبراء
العدة: يشتمل بحث العدة على المباحث الخمسة التالية:
الأول ـ تعريف العدة وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها.
الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها.
الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها.
الرابع ـ وقت ابتداء العدة، وما يعرف به انقضاؤها.
الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها.
المبحث الأول ـ تعريف العدة، وحكمها الشرعي، وحكمتها، وسبب وجوبها، وركنها:
معنى العدة: العِدَّة بكسر العين جمع عِدَد، وهي لغة: الإحصاء، مأخوذة من العَدَد لاشتمالها على عدد الأقراء أو الأشهر غالباً، يقال: عددت الشيء عِدَّة: أحصيته إحصاء. وتطلق أيضاً على المعدود، يقال: عدة المرأة: أيام أقرائها. واصطلاحاً في رأي الحنفية (1) : مدة محددة شرعاً لانقضاء ما بقي من آثار الزواج. وبعبارة أخرى: تربص (أي انتظار) يلزم المرأة عند زوال النكاح أو شبهته. وبنوا على تعريفهم القول بتداخل العدتين سواء أكانتا من جنس واحد أم من جنسين ولو من رجلين، ومثال الجنس الواحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تفرقا حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين يتداخلان. ومثال الجنسين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، تداخلت العدتان، وتعتد المرأة بثلاث حيضات من عدة الوطء.
وفي رأي الجمهور (2) : العدة: مدة تتربص فيها المرأة، لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو لتفجعها على زوجها. فهي نفس التربص، فلا تتداخل العدتان من شخصين، وتمضي المرأة في العدة الأولى حتى نهايتها، ثم تبدأ بالعدة الأخرى، وتتداخل العدتان من شخص واحد ولو من جنسين.
ويمكن تعريف العدة بتعريف أوضح: هي مدة حددها الشارع بعد الفرقة، يجب على المرأة الانتظار فيها بدون زواج حتى تنقضي المدة.
فلا عدة على المزني بها في رأي الحنفية والشافعية خلافاً للمالكية والحنابلة.
ولا عدة على المرأة قبل الدخول اتفاقاً، لقوله تعالى: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/33] . وعلى المدخول بها عدة إجماعاً، سواء أكان سبب الفرقة طلاقاً أم فسخاً أم وفاة، وسواء أكان الدخول بعد عقد فاسد أم صحيح أم بشبهة، وتجب أيضاً عند الجمهور غير الشافعية إذا طلق الرجل المرأة بعد الخلوة بها.
وتكون القاعدة: كل طلاق أو فسخ وجب فيه جميع الصداق وجبت العدة، وحيث سقط الصداق كله أو لم يجب إلا نصفه، سقطت العدة. ومن أمثلة الفسخ: الفسخ بسبب الرضاع أو العيب أو العتق أو اللعان أو اختلاف الدين.
__________
(1) البدائع: 190/3، الدر المختار: 823/2، اللباب: 80/3.
(2) الشرح الصغير: 671/2، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 384/3، كشاف القناع: 476/5، غاية المنتهى: 209/3، بداية المجتهد: 88/2.(9/589)
حكمها الشرعي: العدة واجبة شرعاً على المرأة بالكتاب والسنة والإجماع (1) :
أما الكتاب: فقوله تعالى عدة الطلاق: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/2] وفي عدة الوفاة: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/2] وفي عدة الصغيرة والآيسة والحامل: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] وآي أخرى.
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحدُّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» (2) ، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تعتد عند ابن أم مكتوم (3) . وأحاديث أخرى.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب العدة، في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها.
__________
(1) المغني: 448/7.
(2) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة، وفي لفظ آخر عندهما: «لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (نيل الأوطار: 292/6) والإحداد: منع المعتدة نفسها الزينة وبدنها الطيب، ومنع الخطَّاب خطبتها.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، ومسلم بمعناه عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة (نيل الأوطار: 302/6) .(9/590)
هل على الرجل عدة؟ ليس على الرجل عدة بالمعنى الاصطلاحي، فيجوز له بعد الفرقة مباشرة أن يتزوج بزوجة أخرى، مالم يوجد مانع شرعي، كالتزوج بمن لا يحل له الجمع بين زوجته الأولى وبين قريباتها المحارم كالأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت ولو من زواج فاسد أو في شبهة عقد. وتزوج امرأة خامسة في أثناء عدة المرأة الرابعة التي فارقها حتى تنقضي عدتها، ونكاح المطلقة ثلاثاً قبل التحليل (1) .
عدة المرأة غير المسلمة: اختلف الفقهاء في وجوب العدة على غير المسلمة على رأيين:
قال أبو حنيفة: لا تجب العدة على المرأة غير المسلمة ذمية كانت أو حربية إذا كان معتقد أهل دينها أنه لا عدة عليها إلا إذا كانت كتابية زوجة لمسلم، فتجب عليها العدة بالفراق، رعاية لحق الزوج؛ لأن العدة تجب حقاً لله تعالى، ولحق الزوج، والكتابية مخاطبة بحقوق العباد، فتجب عليها العدة، وتجبر عليها لأجل حق الزوج والولد، منعاً من اختلاط الأنساب.
وإن جاء الزوج مسلماً، وترك امرأته في دار الحرب، فلا عدة عليها باتفاق الحنفية؛ إذ لا حق لأحد الزوجين على الآخر في حال اختلاف الدارين، ولأن أحكام الإسلام تطبق على أهل الذمة، لا على الحربيين.
وقال الجمهور ومنهم الصاحبان: تجب العدة على الذمية، سواء أكانت زوجة لمسلم أم لذمي، لعموم الآيات الآمرة بالعدة.
__________
(1) رد المحتار: 823/2-824.(9/591)
وحكمة العدة: إما التعرف على براءة الرحم، أو التعبد، أو التفجع على الزوج، أو إعطاء الفرصة الكافية للزوج بعد الطلاق ليعود لزوجته المطلقة. ففي الطلاق البائن، والتفريق لفساد الزواج أو الوطء بشبهة يقصد من العدة استبراء رحم المرأة للتأكد من عدم وجود حمل من الرجل، منعاً من اختلاط الأنساب، وصون النسب. فإذا كان الحمل موجوداً تنتهي العدة بوضع الحمل لتحقق الهدف المقصود من العدة. وإذا لم يتأكد من الحمل بعد الدخول بالمرأة، وجب الانتظار للتعرف على براءة الرحم، حتى بعد الوفاة. ومن المقاصد أيضاً: إظهار الأسف على نعمة الزواج، وصون سمعة المرأة وكرامتها حتى لا تكون محلاً للتحدث عنها بخروجها من البيت غادية رائحة بمجرد الفراق، وإن أمكن معرفة براءة الرحم بمجرد الحيضة الأولى.
وفي الطلاق الرجعي: يقصد بالعدة تمكين الرجل من العود إلى مطلقته خلال العدة، بعد زوال عاصفة الغضب، وهدوء النفس، والتفكير بمتاعب ومخاطر ووحشات الفراق. وذلك حرصاً من الإسلام على إبقاء الرابطة الزوجية، وتنويهاً بتعظيم شأن الزواج، فكما أنه لا ينعقد إلا بالشهود، لا ينحل إلا بانتظار طويل الأمد.
وفي فرقة الوفاة: يراد من العدة تذكر نعمة الزواج، ورعاية حق الزوج وأقاربه، وإظهار التأثر لفقده، وإبداء وفاء الزوجة لزوجها، وصون سمعتها وحفظ كرامتها، حتى لا يتحدث الناس بأمرها، ونقد تهاونها، والتحدث عن خروجها وزينتها، خصوصاً من أقارب زوجها. قال الشافعية والحنابلة (1) : المقصود الأعظم من العدة حفظ حق الزوج دون معرفة البراءة، ولهذا اعتبرت عدة الوفاة بالأشهر، ووجبت العدة على المتوفى عنها زوجها التي لم يدخل بها تعبداً، مراعاة لحق الزوج.
وهذه المعاني تنطبق على المرأة، حتى ولو كانت كبيرة السن لا ترجو زواجاً آخر، بالإضافة لتحقيق معنى التعبد في العدة.
__________
(1) مغني المحتاج: 395/3، كشاف القناع: 476/5.(9/592)
سبب وجوب العدة:
تجب العدة في الجملة بأحد أمرين: طلاق أو موت. والفسخ كالطلاق (1) . وذلك بعد الدخول (الوطء) من زواج صحيح أو فاسد أو شبهة بالاتفاق، أو بعد استدخال ذكر زائد، أو أشل، أو إدخال مني الزوج؛ لأنه أقرب إلى العلوق من مجرد الإيلاج ولاحتياجها لتعرف براءة الرحم، أو بعد خلوة صحيحة عند الجمهور غير الشافعية. وتجب العدة أيضاً عند المالكية والحنابلة بعد الزنا كالموطوءة بشبهة. وبناء عليه تجب العدة بأحد الأسباب التالية:
1ً - تجب العدة بالفرقة بعد الدخول من زواج صحيح أو فاسد، أو بعد الخلوة الصحيحة في رأي الجمهور غير الشافعية، سواء أكانت الفرقة في حال الحياة بسبب طلاق أو فسخ، أم بسبب الوفاة.
فإن كان الزواج فاسداً كزواج الخامسة أو المعتدة، فلا تجب العدة إلا بالدخول الحقيقي، ولا تجب عند الجمهور بالخلوة. وأوجب المالكية العدة بالخلوة بعد زواج فاسد، كما تجب بالدخول الحقيقي؛ لأن الخلوة مظنّة الوقاع.
ودليل الجمهور على وجوب العدة بالخلوة: ما رواه أحمد والأثرم عن زرارة ابن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد وجب المهر، ووجبت العدة» .
ولا تجب العدة بالخلوة المجردة عن الوطء عند الشافعية في الجديد، لمفهوم الآية السابقة: {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/33] .
__________
(1) البدائع: 191/3-192، الدر المختار: 824/2 وما بعدها، 846، الشرح الصغير: 671/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 384/3، 395، المهذب: 142/2، 145، المغني: 449/7 وما بعدها، كشاف القناع: 476/5 ومابعدها.(9/593)
2 - وتجب العدة أيضاً بالاتفاق بالتفريق للوطء بشبهة، كالموطوءة في زواج فاسد؛ لأن وطء الشبهة والزواج الفاسد كالوطء في الزواج الصحيح في شغل الرحم ولحوق النسب بالواطئ، فكان مثله فيما تحصل به براءة الرحم، كيلا تختلط الأنساب والمياه. ومثال الوطء بشبهة: أن تزف امرأة إلى غير زوجها، وتقول النساء للرجل: إنها زوجتك، فيدخل بها بناء على قولهن، ثم يتبين أنها ليست زوجته.
ولا فرق في وجوب العدة بأحد السببين السابقين بين أن تكون الفرقة بسبب طلاق أو فسخ، فكل فرقة بين زوجين عدتها عدة الطلاق، سواء أكانت بخلع أم لعان أم رضاع أم فسخ بعيب أم إعسار أم اعتاق أم اختلاف دين أم غيره عند أكثر العلماء.
ولا فرق أيضاً بين أن يكون الوطء حلالاً، أم حراماً كوطء حائض ومحرمة بحج أو عمرة، ولا بين أن يكون الوطء في قُبل، أو دبر على الأصح لدى الشافعية، والحكم واحد سواء أكان الواطئ عاقلاً أم لا، مختاراً أم لا، لفَّ على ذكره خرقة أو كيساً أم لا، بالغاً أم صبياً.
ولا عدة قبل الدخول بنص القرآن كما أوضحت.
3 - وتجب العدة كذلك بالاتفاق بعد وفاة الزوج في العقد الصحيح، ولو قبل الدخول أو الوطء أو كانت الزوجة صغيرة، أو زوجة صبي ولو رضيعاً أو زوجة ممسوح، لإطلاق الآيات القرآنية مثل: {والذين يتوفون منكم، ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/2] .
4 - وأوجب المالكية والحنابلة خلافاً لغيرهم العدة على المزني بها كالموطوءة بشبهة؛ لأنه وطء يقتضي شغل الرحم، فوجبت العدة منه كوطء الشبهة.
ولم يوجبها غير هؤلاء؛ لأن العدة لحفظ النسب، ولا يلحق الزاني نسب بالزنا.
ركن العدة: أوضح الحنفية (1) ركن العدة بأنه التزام المرأة بحرمات ثابتة بسبب العدة يحرم عليها مخالفتها، كحرمة التزوج بزوج آخر، وحرمة الخروج من بيت الزوجية الذي طلِّقت فيه، وصحة الطلاق في العدة، وحرمة التزوج بأخت المطلقة ونحوها.
__________
(1) الدر المختار: 825/2.(9/594)
المبحث الثاني ـ أنواع العدة ومقاديرها:
العدة ثلاثة أنواع (1) : عدة بالأقراء، وعدة بالأشهر، وعدة بوضع الحمل. والمعتدات ستة أنواع (2) :
الحامل، والمتوفى عنها زوجها، وذات الأقراء المفارقة في الحياة، ومن لم تحض لصغر أو إياس وكانت المفارقة في الحياة، ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه، وامرأة المفقود. وعدة الطلاق ثلاثة أنواع (3) :
ثلاثة قروء لمن تحيض، وضع حمل الحامل، ثلاثة أشهر لليائس والصغيرة.
المقصود بالقروء: القرء لغة مشترك بين الطهر والحيض، ويجمع على أقرء وقروء وأقرء، وللفقهاء رأيان في تفسير القروء (4) :
يرى الحنفية والحنابلة: أن المراد بالقرء: الحيض؛ لأن الحيض مُعَرِّف لبراءة الرحم، وهو المقصود من العدة، فالذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر، ولقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/65] فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فدل على أن الأصل الحيض، كما قال تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} [المائدة:6/5] .
ولأن المعهود في الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض، قال النبي صلّى الله عليه وسلم للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» (5) وهوعليه الصلاة والسلام المعبر عن الله، وبلغة قومه نزل القرآن، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش: «انظري، فإذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا مرَّ قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» (6) .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» (7) ، فإذا اعتبرت عدة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك.
__________
(1) البدائع: 191/3 وما بعدها.
(2) كشاف القناع: 478/5-487، غاية المنتهى: 209/3-212.
(3) القوانين الفقهية: ص 235.
(4) الكتاب للقدوري مع اللباب: 80/3، القوانين الفقهية: ص 235، مغني المحتاج: 385/3، المغني: 452/7 ومابعدها.
(5) رواه أبو داود والنسائي وروى ابن ماجه عن عائشة قالت: «أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض» وقال عليه الصلاة والسلام: «تجلس أيام أقرائها» (انظر نيل الأوطار: 290/6 ومابعدها) .
(6) رواه النسائي، وفيه منكر الحديث، ورواه أيضاً ابن ماجه وأبو بكر الخلال في جامعه.
(7) رواه أبو داود وغيره.(9/595)
ولأن ظاهر قوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/2] وجوب التربص ثلاثة كاملة، ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة، لأنه
يكتفي بطهرين وبعض الثالث، فيخالف ظاهر النص. ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة، فيوافق ظاهر النص، فيكون أولى من مخالفته.
ولأن العدة استبراء، فكانت بالحيض، كاستبراء الأمة، لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل، والذي يدل عليه هو الحيض، فوجب أن يكون الاستبراء به.
ويرى المالكية والشافعية: أن القرء هو الطهر؛ لأنه تعالى أثبت التاء في العدد «ثلاثة» ، فدل على أن المعدود مذكر، وهو الطهر، لا الحيضة. ولأن قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] أي في وقت عدتهن، لكن الطلاق في الحيض محرَّم كما تقدم في بحث الطلاق البدعي، فيصرف الإذن إلى زمن الطهر. وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن.
ولأن القرء مشتق من الجمع، فأصل القرء الاجتماع، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في الرحم، وأما الحيض فيخرج من الرحم. وما وافق الاشتقاق كان اعتباره أولى من مخالفته.
وفائدة الخلاف: أنه إذا طلقها في طهر، انتهت عدتها في رأي الفريق الثاني بمجيء الحيضة الثالثة؛ لأنها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثالثة في رأي الفريق الأول، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: «يحل لزوجها الرجعة إليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة» مما يؤيد رأي الفريق الأول.
والراجح لدي هو الرأي الأول، لاتفاقه مع الواقع والمقصود من العدة، فالنساء تنتظر عادة مجيء الحيض ثلاث مرات، فيتقرر انقضاء العدة، ولا تعرف براءة الرحم إلا بالحيض، فإذا حاضت المرأة تبين أنها غير حامل، وإذا استمر الطهر تبين غالباً وجود الحمل. وقد روى النيسابوري عن الإمام أحمد: «كنت أقول: إنه الأطهار، وأنا أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض» ورجوعه عن رأي سابق يكون عادة لمسوغات أو مرجحات أقوى.(9/596)
أسباب وشروط كل نوع من أنواع العدة (1) :
عرفنا أن العدة أنواع ثلاثة: عدة الأقراء، وعدة الأشهر، وعدة الحبل.
أولاً ـ عدة الأقراء: لها أسباب أهمها ثلاثة:
1ً - الفرقة في الزواج الصحيح، سواء أكانت بطلاق أم بغير طلاق. وتجب هذه العدة لاستبراء الرحم، وتعرف براءته من الشغل بالولد.
وشرط وجوبها: الدخول بالمرأة أو ما يجري مجرى الدخول وهو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية في الزواج الصحيح دون الفاسد عند الحنفية والحنابلة، وفي الفاسد أيضاً عند المالكية، فلا تجب هذه العدة بدون الدخول والخلوة الصحيحة.
2ً - الفرقة في الزواج الفاسد بتفريق القاضي، أو بالمتاركة. وشرطها الدخول عند الجمهور غير المالكية، وتجب العدة أيضاً عند المالكية بالخلوة بعد زواج فاسد.
3ً - الوطء بشبهة العقد: بأن زفت إلى الرجل غير امرأته، فوطئها؛ لأن الشبهة تقوم مقام الحقيقة في حال الاحتياط، وإيجاب العدة من باب الاحتياط.
ثانياً ـ عدة الأشهر: نوعان: نوع يجب بدلاً عن الحيض، ونوع يجب أصلاً بنفسه. أما العدة التي تجب بدلاً عن الحيض بالأشهر: فهي عدة الصغيرة، والآيسة، والمرأة التي لم تحض أصلاً، بعد الطلاق. وسبب وجوبها: الطلاق لمعرفة أثر الدخول، وهو سبب وجوب عدة الأقراء المتقدمة.
وشرط وجوبها شيئان:
أحدهما ـ الصغر أو الكبر أو فقد الحيض أصلاً.
والثاني ـ الدخول، أو الخلوة الصحيحة عند غير الشافعية، في النكاح الصحيح، وكذا في النكاح الفاسد عند المالكية.
وأما عدة الأشهر الأصلية بنفسها: فهي عدة الوفاة. وسبب وجوبها الوفاة، إظهاراً للحزن بفوات نعمة الزواج، وشرط وجوبها: الزواج الصحيح فقط، فتجب هذه العدة على المتوفى عنها زوجها، سواء أكانت مدخولاً بها أم غير مدخول بها، وسواء أكانت ممن تحيض أم ممن لا تحيض.
__________
(1) البدائع: 191/3-193، مغني المحتاج: 388/3.(9/597)
ثالثاً ـ عدة الحبل: هي مدة الحمل، وسبب وجوبها: الفرقة أو الوفاة، حتى لا تختلط الأنساب وتشتبه المياه، فلا يسقي رجل ماءه زرع غيره.
وشرط وجوبها: أن يكون الحمل من الزواج الصحيح أو الفاسد؛ لأن الوطء في النكاح الفاسد يوجب العدة. ولا تجب هذه العدة عند الحنفية والشافعية على الحامل بالزنا؛ لأن الزنا لا يوجب العدة، إلا أنه إذا تزوج رجل امرأة، وهي حامل من الزنا، جاز النكاح عند أبي حنيفة ومحمد، لكن لا يجوز له أن يطأها ما لم تضع، لئلا يصير ساقياً ماءه زرع غيره.
وأجاز الشافعية نكاح الحامل من زنا ووطأها، إذ لا حرمة له.
مقادير عِدَد المعتدات:
1 ً - عدة الحامل: تجب بسبب الموت أو الطلاق، وتنتهي بوضع الحمل اتفاقاً (1) ؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] أي انقضاء أجلهن أن يضعن حملهن؛ ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل ـ كما هو واضح ـ إلا بوضع الحمل. فإذا كانت المرأة حاملاً، ثم طلقت أو مات عنها زوجها انتهت عدتها بوضع الحمل، ولو بعد الوفاة بزمن قليل، بدليل أن «سبيعة بنت الحارث توفي عنها زوجها وهي حبلى، فوضعت بعد نحو عشر ليال من وفاة زوجها، ثم جاءت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: انكحي. وفي رواية: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» (2) .
__________
(1) البدائع: 192/3، الدر المختار ورد المحتار: 831/2 وما بعدها، فتح القدير: 273/3 وما بعدها، 281 وما بعدها، اللباب: 80/3-83، الشرح الصغير: 671/2 وما بعدها، 381-383، القوانين الفقهية: ص 236، 238، مغني المحتاج: 388/3 وما بعدها، 396، المهذب: 142/2، كشاف القناع: 478/5-480، المغني: 468/7، 473-478، غاية المنتهى: 209/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 96/2.
(2) رواه الجماعة إلا أبا داود وابن ماجه عن أم سلمة (نيل الأوطار: 286/6-287) .(9/598)
وعلى هذا تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] قال ابن مسعود: «من شاء باهلته ـ لاعنته ـ أن سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية التي في سورة البقرة» (3) وفي رواية البزار: «من شاء حالفته أن: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] نزلت بعد آية المتوفى، فإذا وضعت المتوفى عنها حملها، فقد حلت. وقرأ: {والذين يتوفون منكم ويذر ون أزواجاً} [البقرة:234/2] » .
وانتهاء العدة بوضع الحمل له شرطان:
__________
(1) رواه البخاري. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ: «من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر» وسورة النساء القصرى هي سورة الطلاق وفيها آية عدة الحامل، وسورة النساء الطولى هي سورة البقرة وفيها آية عدة الوفاة (نصب الراية: 256/3) .(9/599)
الأول ـ عند الجمهور غير الحنفية: وضع جميع حملها، أو انفصاله كله، فلا تنقضي بوضع أحد التوأمين ولا بانفصال بعض الولد. وتنقضي عند المالكية ولو وضعت علقة وهو دم متجمع، ولا بد عند الحنابلة والشافعية من أن يكون الحمل الذي تنقضي به العدة: هو ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان من الرأس واليد والرجل، أو يكون مضغة شهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية لخلقة آدمي أو أصل آدمي، لعموم قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] .
وقال الحنفية: الحمل: اسم لجميع ما في البطن، فلو ولدت وفي بطنها آخر تنقضي العدة بالآخر، كما قرر الجمهور، لكن خالفوهم فقالوا: يكفي خروج أكثر الولد، وإذا أسقطت المرأة سِقْطاً، واستبان بعض خلقه، انقضت به العدة؛ لأنه ولد، وإلا فلا.
الثاني ـ أن يكون الحمل منسوباً إلى صاحب العدة، ولو احتمالاً كمنفي بلعان؛ لأنه لا ينافي إمكان كونه منه، بدليل أنه لو استلحقه به لحقه، فإن لم يمكن نسبته إلى صاحب العدة، كولد الزنا المنفي قطعاً، فلا تنقضي به العدة.
وأقل مدة الحمل بالاتفاق: ستة أشهر، وغالبها تسعة، وأكثرها عند الحنفية سنتان، وعند الشافعية والحنابلة: أربع سنين، وعند المالكية في المشهور: خمس سنين. ودليلهم على أقل مدة الحمل: المفهوم من مجموع آيتين وهما قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/46] .
وأما غالب مدة الحمل، فلأن غالب النساء يحملن كذلك، وهذا أمر معروف بين الناس.(9/600)
وأما أكثر مدة الحمل فيعتمد فيها الاستقراء وتتبع أحوال النساء؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الموجود، وقال الشافعية والحنابلة: وقد وجد أربع سنين، روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم، قلت لمالك بن أنس عن حديث عائشة قالت: «لا تزيد المرأة في حملها على سنتين، فقال: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدقٍ، وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة» وقال الشافعي: «بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين» وقال أحمد: «نساء بني عجلان تحمل أربع سنين» فلو طلقها الرجل أو مات عنها، فلم تتزوج حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين، لحقه الولد، وانقضت عدتها به.
وأقل ما يتبين به خلق الولد: (81) واحد وثمانون يوماً في رأي الشافعية والحنابلة، لحديث ابن مسعود عند الشيخين: «إن أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علَقة مثلَ ذلك، ثم يكون مُضْغة مثلَ ذلك» فالعدة في رأي الشافعية والحنابلة: لا تنقضي بما دون المضغة، فوجب أن تكون بعد الثمانين.
ونصت المادة (124) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة الحامل تستمر إلى وضع حملها أو إسقاطه مستبيناً بعض الأعضاء» .
التحول لعدة الحمل: لو ظهر في أثناء عدة الأقراء أو الأشهر حمل للزوج، اعتدت المرأة بوضعه.
المرتابة بالحمل: إذا ارتابت المعتدة من طلاق أو وفاة بأن ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما، وشكَّت: هل هو حمل أو لا، أو ارتابت بعد انقضاء العدة بالأقراء أو الأشهر، تربصت (أي مكثت) إلى منتهى أمد الحمل عند المالكية، فلا يحل لها أن تتزوج قبله. وعليها أن تصبر عند الشافعية والحنابلة عن الزواج حتى تزول الريبة، للاحتياط، ولخبر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .(9/601)
ولا تحل للأزواج عند المالكية حتى يمضي أقصى أمد الحمل، وإن تزوجت بعد انقضاء العدة بزوج آخر قبل زوال الريبة. والمذهب لدى الشافعية عدم إبطال النكاح في الحال؛ لأنا حكمنا بانقضاء العدة ظاهراً، فلا نبطله بالشك، فإن علم ما يقتضي البطلان بأن ولدت لدون ستة أشهر من وقت النكاح الثاني، حكمنا ببطلانه، لتبين فساده. ولدى الحنابلة في إبطال هذا النكاح وجهان: أحدهما ـ كالشافعية، والثاني ـ يحل لها النكاح ويصح؛ لأننا حكمنا بانقضاء العدة، وحل النكاح، وسقوط النفقة والسكنى، فلا يجوز زوال ماحكم به بالشك الطارئ، ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود.
عدة زوجة الصغير بعد وفاته: إذا مات الصغير الذي لا يتأتى منه الإحبال، عن امرأته، وبها حبل محقق بأن تضع لدون ستة أشهر من موته، فعدتها عند أبي حنيفة ومحمد أن تضع حملها، لإطلاق قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4/65] وإن حدث الحَبَل بعد الموت، فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأن هذه عدتها التي وجبت عليها عند الموت، فلا تتغير بعده. ولكن لايثبت نسب الولد في هاتين الحالتين؛ لأن الصبي لا ماء له، فلا يتصور منه العلوق. وقال الشافعية وأبو يوسف: عدتها بالأشهر أي أربعة أشهر وعشر، لا بوضع الحمل؛ لأن الولد منفي عنه يقيناً لعدم إنزاله. ومثله ممسوح إذ لا يلحقه على المذهب لدى الشافعية (1) .
__________
(1) البدائع: 192/3، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 830/2، اللباب: 81/3، القوانين الفقهية: ص 238، الشرح الصغير: 682/2، مغني المحتاج: 395/3، المهذب: 145/2، كشاف القناع: 480/5، غاية المنتهى: 210/3، المغني: 470/7.(9/602)
2 ً - عدة المتوفى عنها زوجها: عرفنا أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً، تنتهي عدتها بوضع الحمل، ولو كانت الولادة بعد الوفاة بزمن قريب أو بعيد.
فإن كانت حائلاً غير حامل، كانت عدتها بالاتفاق أربعة أشهر قمرية وعشرة أيام بلياليها من تاريخ الوفاة، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً، يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة:234/2] حزناً على نعمة الزواج كما بينت، سواء أكان الزوج قد دخل بها، أم لم يدخل، وسواء أكانت صغيرة أم كبيرة، أم في سن من تحيض، لإطلاق الآية، ولم تخصص بالمدخول بها؛ لأن النص القرآني استثنى غير المدخول بها إذا كانت مطلَّقة في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/33] .
ونصت المادة (123) من القانون السوري على هذه العدة: «عدة المتوفى عنها زوجها أربعةأشهر وعشرة أيام» .
لكن شرط وجوب العدة بالأشهر الأربعة والعشر للمتوفى عنها: النكاح الصحيح فقط، وبقاء النكاح صحيحاً إلى الموت مطلقاً، سواء وطئت أم لا، وسواء أكانت صغيرة أم كتابية تحت مسلم.
فإذا كان الزواج فاسداً، فإن عدتها عند الحنفية والحنابلة ثلاث حيضات إن كانت من ذوات الحيض، وثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن القصد من إطالة مدة العدة وهو إظهار الأسف على نعمة الزواج، لايتحقق إلا إذا كان الزواج صحيحاً.
فإن لم تكن من ذوات الحيض وهي مطلَّقة، فإنها تعتد بثلاثة أشهر، كما سأبين.(9/603)
3 ً - عدة المطلَّقة:
إن كانت المرأة حاملاً، فإن عدتها تكون بوضع الحمل، كما سبق بيانه.
وإن لم تكن حاملاً فعدتها بالاتفاق إن كانت من ذوات الحيض سواء من طلاق أو فسخ: ثلاثة قروء (1) (حيضات عند الحنفية والحنابلة، وأطهار عند المالكية والشافعية) لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/2] فإنه أوجب على المطلَّقة الانتظار مدة ثلاثة قروء.
والقروء عند الحنفية والحنابلة: ثلاث حيضات كوامل، لعدم تجزؤ الحيضة، وإذا طلق الرجل امرأته لم تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق، ولا تحل لغيره إذا انقطع دم الحيضة الأخيرة حتى تغتسل في رأي الحنابلة.
وأما عند المالكية والشافعية فقد لا تكون القروء ثلاثة كاملة، فإذا طلقت المرأة في طهر، كانت بقية الطهر قرءاً كاملاً، ولو كانت لحظة، فتعتد به، ثم بقرءين بعده، فذلك ثلاثة قروء، فمن طلقت طاهراً انقضت عدتها ببدء الحيضة الثالثة، ومن طلقت حائضاً، انتهت عدتها بدخول الحيضة الرابعة بعد الحيضة التي طلقت فيها.
والأظهر لدى الشافعية عدم احتساب طهر من لم تحض قرءاً إذا طلقت فيه، فمن طلقت في طهر وكانت لم تحض أصلاً، ثم حاضت في أثناء عدتها بالأشهر، فلا يحتسب ذلك الطهر الذي طلقت فيه.
وإن لم تكن المرأة من ذوات الحيض لصغر أو كبر سن بأن بلغت سن اليأس، أو لكونها لا تحيض أصلاً بعد بلوغها خمس عشرة سنة، فإن عدتها تكون بثلاثة أشهر لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/65] .
__________
(1) البدائع: 191/3 ومابعدها، الدر المختار: 825/2-828، فتح القدير: 269/3-272، اللباب: 80/3، 83، الشرح الصغير: 672/2-674، القوانين الفقهية: ص 235، بداية المجتهد: 88/2 وما بعدها، 96، المهذب: 143/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 384/3 وما بعدها، 387، كشاف القناع: 482/5-485، المغني: 449/7، 456-462، 467-468، غاية المنتهى: 211/3 وما بعدها.(9/604)
4 ً - عدة من لم تحض لصغر أو كبر سن بسبب بلوغ سن اليأس، ومن لم تحض أصلاً، وبعبارة أخرى: عدة الصغيرة والآيسة، والمرأة التي لم تحض: ثلاثة أشهر (1) ، للآية السابقة: {واللائي يئسن من المحيض ... } [الطلاق:4/65] .
سن اليأس: أما تحديد سن اليأس: وهي السن التي إذا بلغتها المرأة لا تحيض فيها، فمختلف في تقديره بين الفقهاء (2) .
يرى الحنابلة: أن حد الإياس خمسون سنة، لقول عائشة: «لن ترى في بطنها ولداً بعد خمسين سنة» .
ورأي الحنفية في المفتى به: أن الإياس يكون بخمس وخمسين.
وقال الشافعية: إن أقصى سن اليأس اثنان وستون سنة.
وذهب المالكية إلى أن سن اليأس تقدر بسبعين سنة، فما تراه المرأة بعد هذه السن لا يعتبر حيضاً قطعاً.
سن الحيض: وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين؛ لأن المرجع فيه إلى الموجود، وقد وجد من تحيض لتسع.
سن البلوغ: وسن البلوغ في الغالب إذا لم تحض المرأة باتفاق المذاهب خمس عشرة سنة.
موقف القانون من النوعين الأخيرين ومن ممتدة الطهر: نص القانون السوري م (121) على ما يأتي: عدة المرأة غير الحامل للطلاق أو الفسخ كما يلي:
1 - ثلاث حيضات كاملات لمن تحيض، ولا تسمع دعوى المرأة بانقضائها قبل مضي ثلاثة أشهر على الطلاق أو الفسخ.
2 - سنة كاملة لممتدة الطهر التي لم يجئها الحيض، أو جاءها ثم انقطع ولم تبلغ سن اليأس.
3 - ثلاثة أشهر للآيسة.
ونصت المادة (122) على العدة في الزواج الفاسد: العدة في الزواج الفاسد بعد الدخول تجري عليها أحكام المادة السابقة.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) كشاف القناع: 484/5، الدر المختار: 835/2، الشرح الصغير: 672/2، مغني المحتاج: 387/3، المغني: 460/7.(9/605)
5 ً - عدة المرتابة (ممتدة الطهر) والمستحاضة:
النساء في سن الحيض ثلاثة أصناف: معتادة، ومرتابة، ومستحاضة (1) :
فأما المعتادة: فتعتد بثلاثة قروء على حسب عادتها، كما تبين في النوع الثالث.
وأما المرتابة بالحيض أو ممتدة الطهر: وهي التي ارتفع حيضها، ولم تدر سببه من حمل أو رضاع أو مرض. فحكمها عند الحنفية والشافعية: أنها تبقى أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن من لا تحيض، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنها لما رأت الحيض، صارت من ذوات الحيض، فلا تعتد بغيره، ولما روى البيهقي عن عثمان أنه حكم بذلك في المرضع.
وعند المالكية والحنابلة: عدتها سنة بعد انقطاع الحيض، بأن تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالباً، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فيكمل لها سنة، ثم تحل، وذلك إذا انقطع الحيض عند المالكية بسبب المرض أو بسبب غير معروف. لما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال في رجل طلق امرأته، فحاضت حيضة أو حيضتين، فارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل، فتعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة (2) ؛ ولأن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم وخلوه من الحمل، وتتحقق هذه المعرفة بمضي هذه المدة، فيكتفى بها.
فإن انقطع الحيض بسبب الرضاع، فإن عدتها عند المالكية تنقضي بمضي سنة بعد انتهاء زمن الرضاع وهو سنتان. فإن رأت الحيض ولو في آخر يوم من السنة انتظرت الحيضة الثالثة.
__________
(1) الدر المختار: 828/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 235-236، الشرح الصغير: 675/2 ومابعدها، 681، المغني: 766/7-768، كشاف القناع: 485/5 ومابعدها، غاية المنتهى: 212/3، مغني المحتاج: 385/3، 387.
(2) رواه الشافعي بإسناد جيد من حديث سعيد بن المسيب عن عمر، قال الشافعي: «هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر، علمناه» .(9/606)
ورأي الحنابلة والمالكية هو الراجح، وأخذ به القانون السوري في المادة السابقة (121) لما فيه من الرفق بالناس، وعدم تطويل العدة على المرأة. أما القانون المصري رقم (25) لعام (1929) فلم يتعرض لانتهاء عدة ممتدة الطهر ولا لبقائها، ولا لحل تزوجها برجل آخر أو عدم حله، وإنما نص على أنه: «لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد على سنة من تاريخ الطلاق» وحدد السنة بـ (365) يوماً.
وأما المستحاضة أو ممتدة الدم: وهي المتحيرة التي نسيت عادتها فالمفتى به عند الحنفية: أنها تنقضي عدتها بسبعة أشهر، بأن يقدر طهرها بشهرين، فتكون أطهارها ستة أشهر، وتقدر ثلاث حيضات بشهر احتياطاً. وقيل: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر. وأما إذا استمر بها الدم، وكانت تعلم عادتها، فإنها ترد إلى عادتها.
ورأى الحنابلة والشافعية: أن عدة المستحاضة الناسية لوقت حيض والمبتدأة كالآيسة: ثلاثة أشهر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر حَمْنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة من كل شهر، بدليل أنها تترك فيها الصلاة ونحوها. فإن كانت لها عادة أو تمييز عملت به، كما تعمل به في الصلاة والصوم.
وذهب المالكية إلى أن المستحاضة غير المميزة بين دم الحيض والاستحاضة كالمرتابة، تمكث سنة كاملة، تقيم تسعة أشهر استبراء لزوال الريبة؛ لأنها مدة الحمل غالباً، وثلاثة أشهر عدة، وتحل للأزواج، فتكون عدة المستحاضة غير المميزة، ومن تأخر عنها الحيض، لا لعلة، أو لعلة غير رضاع: سنة كاملة. أما المميزة المستحاضة ومن تأخر حيضها لرضاع فتعتد بالأقراء.(9/607)
6 ً - عدة المفقود زوجها:
المفقود: هو الغائب الذي لم يُدْر: أحي هو فيتوقع قدومه، أم ميت أودع القبر، كالذي يفقد من بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يفقد في مفازة أي مهلكة، أو يفقد بسبب حرب أو غرق مركبة ونحوه. وحكم عدة زوجته بحسب حكم حاله عند الفقهاء (1) .
قال الحنفية: هو حي في حق نفسه، فلا يورث ماله، ولا تبين منه امرأته، فلا تعتد زوجته حتى يتحقق موته، استصحاباً لحال الحياة السابق. أما المنعي إليها زوجها أو التي أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات، أو طلقها ثلاثاً أو أتاها منه كتاب على يد ثقة بالطلاق، فلا بأس أن تعتد وتتزوج.
وقال الشافعية في الجديد الصحيح مثل الحنفية: ليس لامرأته أن تفسخ النكاح، لأنه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله، لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته. فلا تعتد زوجته ولا تتزوج حتى يتحقق موته أو طلاقه، عملاً بمبدأ الاستصحاب، وبقول علي رضي الله عنه: «تصبر حتى يعلم موته» .
وقال المالكية والحنابلة: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشرة أيام، لما روي عن عمررضي الله عنه: «أن رجلاً غاب عن امرأته، وفقد، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: تربصي أربع سنين ففعلت، ثم أتته، فقال: تربصي أربعة أشهر وعشراً، ففعلت، ثم أتته فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاؤوا به فقال: طلقها، ففعل، فقال عمر: تزوجي من شئت» (2) .
__________
(1) الشرح الصغير: 693/2 وما بعدها، بداية المجتهد: 52/2، المهذب: 146/2، كشاف القناع: 487/5 وما بعدها، غاية المنتهى: 212/3، المغني: 488/7-496، الدر المختار: 160/3، وانظر: 847/2، مغني المحتاج: 397/3.
(2) رواه الأثرم والجوزجاني والدارقطني.(9/608)
المبحث الثالث ـ تحول العدة أو انتقالها وتغيرها:
قد يطرأ على المعتدة بالأشهر أو بالأقراء ما يوجب تغير نوع العدة، فيجب عليها الاعتداد بمقتضى الأمر الطارئ، وهذه هي الحالات التي تقتضي تحول العدة (1) :
أولاً ـ تحول العدة من الأشهر إلى الأقراء:
إذا طلقت الصغيرة أو من بلغت سن اليأس، فشرعت في العدة بالشهور، ثم حاضت قبل انتهاء العدة، لزمها الانتقال إلى الأقراء، وبطل ما مضى من عدتها، ولا تنتهي عدتها إلا بثلاث حيضات كوامل عند الحنفية والحنابلة، وبثلاثة أطهار عند المالكية والشافعية؛ لأن الشهور بدل عن الأقراء، فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها، كالقدرة على الوضوء في حق المتيمم ونحوها. والآيسة لما رأت الدم تبين أنها أخطأت الظن.
فإن انقضت عدتها بالشهور، ثم حاضت، لم يلزمها استئناف العدة بالأقراء؛ لأن هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة، وقد حصل المقصود بالبدل، فلا يبطل حكمه بالقدرة على الأصل، كمن صلى بالتيمم، ثم قدر على الماء بعد انتهاء وقت الصلاة، فلا يجب عليه الوضوء وإعادة الصلاة.
ثانياً ـ تحول العدة من الأقراء إلى الأشهر أو وضع الحمل:
إذا شرعت المطلقة في العدة بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج، بناء على رأي المالكية والشافعية بأن الحامل قد ترى الدم، سقط حكم الأقراء، وتعتد بوضع الحمل؛ لأن الأقراء دليل على براءة الرحم في الظاهر، والحمل دليل على شغل الرحم قطعاً، فيسقط الظاهر بالقطع.
وإذا طلقت المرأة التي كانت تحيض، فحاضت مرة أو مرتين، ثم أيست، انتقلت عدتها من الحيض إلى الأشهر، ولا تعتد بالأشهر عند الحنفية إلا بعد بلوغها سن اليأس (وهو 55 سنة) ، فإذا بلغت سن اليأس، استأنفت العدة بالأشهر الثلاثة التي هي عدة الآيسة.
__________
(1) البدائع: 200/3 وما بعدها، الدر المختار: 826/2، 832-834، فتح القدير: 275/3، 277، 279، اللباب: 81/3، الشرح الصغير: 682/2، 714 وما بعدها، المهذب: 143/2 وما بعدها، كشاف القناع: 480/5، مغني المحتاج: 389/3، 396 وما بعدها، المغني: 463/7-467، 471 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 237.(9/609)
وقال المالكية والحنابلة: تعتد سنة، تسعة أشهر منها من وقت الطلاق تنتظر فيها لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، ثم تعتد بعد ذلك عدة الآيسات: ثلاثة أشهر، عملاً بقول عمر رضي الله عنه. وهذا هو المعقول، دفعاً للحرج والمشقة.
وقال الشافعية في الجديد كالحنفية: تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس، فتعتد حينئذ بثلاثة أشهر؛ لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس، فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولأنها ترجو عود الدم، فلم تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض.
ثالثاً ـ الانتقال إلى عدة وفاة:
إذا مات الرجل في أثناء عدة زوجته التي طلقها طلاقاً رجعياً، انتقلت بالإجماع من عدتها بالأقراء أو الأشهر إلى عدة وفاة: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء أكان الطلاق في حال الصحة أم في حال مرض الموت؛ لأن المطلقة رجعياً تعد زوجة ما دامت في العدة، وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة، فتلغو أحكام الرجعة، وسقطت بقية عدة الطلاق، فتسقط نفقتها، وتثبت أحكام عدة الوفاة من إحداد وغيره. ونصت المادة (1/127) من القانون السوري على هذا: «إذا توفي الزوج، وكانت المرأة في عدة الطلاق الرجعي، تنتقل إلى عدة الوفاة، ولا يحسب ما مضى» .
أما إن مات الرجل في أثناء عدة زوجته من طلاق بائن، فلا تنتقل إلى عدة الوفاة، بل تتم عدة الطلاق البائن؛ لأنها ليست بزوجة، فتكمل عدة الطلاق، ولا حداد عليها، ولها النفقة إن كانت حاملاً.(9/610)
رابعاً ـ العدة بأبعد الأجلين ـ عدة طلاق الفارّ:
للفقهاء مذهبان:
مذهب أبي حنيفة ومحمد وأحمد: إن كان الطلاق فراراً من إرث الزوجة بأن طلق في مرض الموت بقصد حرمانها من الميراث، ثم مات وهي في العدة، فإنها تنتقل من عدة الطلاق، إلى العدة بأبعد الأجلين من عدة الوفاة وعدة الطلاق احتياطاً، بأن تتربص أربعة أشهر وعشراً من وقت الموت، فإن لم تر فيها حيضاً تعتد بعدها بثلاث حيضات في رأي الحنفية والحنابلة. وإن امتد طهرها تبقى عدتها حتى تبلغ سن اليأس؛ لأن المرأة لما ورثت من زوجها، اعتبر الزواج قائماً حكماً وقت الوفاة، فتجب عليها عدة الوفاة، وبما أن الطلاق بائن فلا تعد زوجيتها قائمة، ولا تجب عليها عدة الوفاة، وإنما عدة الطلاق، فمراعاة لهذين الاعتبارين تتداخل العدتان، وتعتد بهما معاً.
وأخذ القانون السوري (م 2/127) بهذا الرأي: «إذا توفي وهي في عدة البينونة، تعتد بأبعد الأجلين من عدة الوفاة أو البينونة» لكن كان ينبغي تقييد لفظ البينونة بكونها في حالة طلاق الفرار. أما في غير تلك الحالة فلا تنتقل العدة؛ لأن الزوجية غير قائمة بعد طلاق بائن. ومذهب مالك والشافعي وأبي يوسف: أن زوجة الفارّ لا تعتد بأطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وإنما تكمل عدة الطلاق؛ لأن زوجها مات وليست زوجة له؛ لأنها بائن من النكاح، فلا تكون منكوحة. واعتبار الزواج قائماً وقت الوفاة في رأي مالك إنما هو في حق الإرث فقط، لا في حق العدة؛ لأن ما ثبت على خلاف الأصل لا يتوسع فيه. وهذا عندي هو الراجح.
ويتصور اعتداد المرأة بأبعد الأجلين لدى الشافعية فيما لو طلق الرجل إحدى امرأتيه طلاقاً بائناً، ومات قبل بيان أو تعيين المطلَّقة، فإن كل واحدة تعتد بالأكثر من عدة وفاة وثلاثة من أقرائها؛ لأن كل واحدة وجب عليها عدة بالطلاق، واشتبهت عليها بعدة أخرى بالوفاة، فوجب أن تأتي بأبعد الأجلين لتخرج عما عليها بيقين، كمن أشكلت عليه صلاة من صلاتين، يلزمه أن يأتي بهما.
وتعتد المرأة بأقصى الأجلين عند المالكية كما بان في حالة الانتقال إلى عدة وفاة، كأن يموت زوج الرجعية في عدتها.(9/611)
المبحث الرابع ـ وقت ابتداء العدة وما يعرف به انقضاؤها:
ابتداء العدة: فصَّل الحنفية مبدأ العدة على النحو التالي (1) :
1 ـ إن كان الزواج صحيحاً: فمبدأ العدة بعد الطلاق أو الفسخ أو الموت، فابتداء العدة في الطلاق ونحوه عقيب الطلاق، وفي الوفاة عقيب الوفاة بالاتفاق بين الفقهاء، وتنقضي العدة وإن جهلت المرأة بالطلاق أو الوفاة؛ لأنها أجل، فلا يشترط العلم بمضي الأجل، سواء اعترف الرجل بالطلاق أو أنكر، فلو طلق الرجل امرأته ثم أنكره، وأقيمت عليه بيِّنة وقضى القاضي بالفرقة، كأن ادعته عليه في شوال، وقضى به القاضي في المحرَّم، فالعدة من وقت الطلاق، لا من وقت القضاء.
وتنقضي العدة، وإن لم تعلم المرأة بالطلاق أو الوفاة، فلو طلق الرجل امرأته الحامل أو مات عنها، ولم يبلغها الخبر حتى وضعت، انقضت عدتها بالاتفاق.
2 ـ وإن كان الزواج فاسداً: فمبدأ العدة بعد أو عقيب التفريق من القاضي بين الزوجين، أو بعد المتاركة وإظهار عزم الواطئ على ترك وطئها، بأن يقول بلسانه: تركت وطأها، أو تركتها، أو خليت سبيلها، ونحوه، ومنه الطلاق وإنكار الزواج إذا كان بحضرتها، وإلا فلا يعد الإنكار متاركة.
ونص القانون السوري (م 125) على ابتداء العدة في الزواج الصحيح والفاسد: «تبدأ العدة من تاريخ الطلاق أو الوفاة أو الفسخ، أو التفريق القضائي أو المفارقة في النكاح الفاسد» .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 839/2-842، البدائع: 190/3، فتح القدير: 286/3، الكتاب وشرحه اللباب: 84/3، مغني المحتاج: 390/3، 395، القوانين الفقهية: ص 235، 238، غاية المنتهى: 210/3 وما بعدها.(9/612)
3 - وإن كان الوطء بشبهة: فقال ابن عابدين (1) :لم أر من صرح بمبدأ العدة في الوطء بشبهة بلا عقد، وينبغي أن يكون من آخر الوطآت عند زوال الشبهة، بأن علم أنها غير زوجته، وأنها لا تحل؛ إذ لا عقد هنا، فلم يبق سبب للعدة سوى الوطء المذكور.
وهذا الرأي حق، فإن بدء العدة ببدء السبب الذي أدى إليها، والوقاع في حالة الوطء بشبهة هو سبب هذه العدة، فتبتدئ منه.
تداخل العدتين: إذا تجدد سبب العدة في أثناء عدة سابقة، فهل تتداخل العدتان أم تكمل العدة السابقة، وتستأنف بعدئذ عدة أخرى؟
يرى الحنفية (2) : أنه إذا وجبت عدتان تداخلتا، سواء أكانتا من جنس واحد، أم من جنسين، ومن رجل واحد أم من رجلين، مثال الجنس الواحد ومن رجل واحد: إذا تزوجت المطلقة في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تتاركا، حتى وجبت عليها عدة أخرى، فإن العدتين تتداخلان. ومثال الجنسين ومن رجلين: المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة، فعليها عدة أخرى، وتتداخل العدتان.
وذلك لأن العدة عندهم هي أجل حدد لانقضاء ما بقي من آثار الزواج، بخلاف الجمهور الذي يجعلون العدة هي فعل التربص.
ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف أنه إذا طلق الرجل زوجته التي دخل بها طلاقاً بائناً بينونة صغرى، ثم تزوجها قبل انقضاء عدتها، وطلقها قبل أن يدخل بها، وجب عليها أن تبدأ عدة جديدة، ولا تبني على ما سبق من العدة الأولى؛ لأنها بالعقد عادت إلى حالها الأول، وهي كانت مدخولاً بها، فإذا طلقها كان طلاقاً بعد الدخول حكماً، فيجب عليها عدة مستقلة، ولها مهر كامل. ولم يوجب مالك ومحمد عليها عدة جديدة، بل تكمل عدتها الأولى، ويجب لها نصف المهر المسمى.
وقال الجمهور (3) : إذا كانت العدتان لشخص واحد ومن جنس واحد، تداخلتا، كأن طلق رجل زوجته، ثم يطؤها في عدة أقراء أو أشهر، جاهلاً كون
__________
(1) رد المحتار: 841/2.
(2) البدائع: 190/2، الدر المختار: 837/2 وما بعدها، فتح القدير والعناية: 283/3، 286.
(3) القوانين الفقهية: ص 237، الشرح الصغير: 715/2، مغني المحتاج: 391/3-393، المهذب: 151/2، المغني: 481/7، 486، غاية المنتهى: 215/3، كشاف القناع: 492/5.(9/613)
الطلاق بائناً، أو عالماً أنها رجعية، تداخلت العدتان، فتبتدئ عدة بأقراء أو أشهر من فراغ الوطء، ويدخل فيها بقية عدة الطلاق؛ لأن مقصود عدة الطلاق والوطء واحد، فلا معنى للتعدد، وتكون تلك البقية واقعة عن الجهتين.
وكذلك تتداخل العدتان إن لم تتفقا وكانتا من جنسين، بأن كانت إحداهما حَمْلاً، والأخرى أقراء، بأن طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل وضع الحمل، أو طلقها وهي غير حامل ثم وطئها في أثناء الأقراء، فأحبلها، فتنقضي العدتان بوضع الحمل على الجهتين، سواء رأت الدم مع الحمل أو لا. وللزوج في عدة طلاق رجعي أن يراجع قبل وضع الحمل.
أما إن كانت العدتان من شخصين: بأن كانت في عدة زوج أو في عدة وطء شبهة، ثم وطئت بشبهة أو نكاح فاسد، والواطئ غير صاحب العدة الأولى، أو كانت زوجة معتدة عن شبهة، فطلقت بعد وطء الشبهة، فلا تداخل، عملاً بأثر عن عمر وعلي رواه الشافعي رضي الله عنهم أجمعين. فإن وجد حمل اعتدت بوضعه أولاً، وإن لم يكن حمل، أتمت عدة الطلاق ولو كان الوطء بشبهة سابقاً للطلاق، لقوة عدة الطلاق بسبب استنادها إلى عقد جائز وسبب مسوغ، ثم تستأنف العدة الأخرى.
ولو تزوجت المطلَّقة في عدتها من الطلاق، فدخل بها الثاني، ثم فرق بينهما لبطلان الزواج، اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الثاني.
أما عند الحنفية فتعتد من الثاني بعد مفارقته، وتكون عدة الأقراء من الثاني عن بقية عدة الأول وعدة الثاني؛ لأن القصد معرفة براءة الرحم، وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعاً.
وإن كانت حاملاً فوضع الحمل يجزي عن العدتين اتفاقاً كما تقدم.(9/614)
ما يعرف به انقضاء العدة:
إذا حدث اختلاف في انقضاء العدة مع زوج المرأة الذي طلقها، فمن الذي يصدق، المرأة أم الزوج؟
يعرف انقضاء العدة إما بالقول وإما بالفعل (1) :
أما الفعل: فنحو أن تتزوج بزوج آخر، بعد ما مضت مدة تنقضي في مثلها العدة، فلو قالت المرأة بعد الزواج: لم تنقض عدتي، لم تصدق، لا في حق الزوج الأول، ولا في حق الزوج الثاني، ويكون زواج الزوج الثاني جائزاً؛ لأن إقدامها على التزوج بعد مضي مدة يحتمل انقضاء العدة في مثلها دليل الانقضاء.
وأما القول: فهو إخبار المعتدة بانقضاء العدة في مدة يحتمل الانقضاء في مثلها، فإن قالت: مضت عدتي، والمدة تحتمله، وكذبها الزوج، قبل قولها بيمينها، وإن لم تحتمله المدة، لا يقبل قولها؛ لأن الأمين إنما يصدق فيما لا يخالف الظاهر.
وإذا قال الزوج: أخبرتني امرأة سابقاً أن عدتها قد انقضت، فإن كانت في مدة لا تنقضي في مثلها، لا يقبل قوله ولا قولها، إلا إذا تبين ما هو محتمل من إسقاط سِقْط مستبين الخلق، فحينئذ يقبل قولها. وإن كانت في مدة تحتمل الانقضاء فكذبته المرأة، يعمل بخبرها بقدر الإمكان، فيعمل بخبره في حقه وحق الشرع، فله أن يتزوج بأختها؛ لأنه أمر ديني قبل قوله فيه، ويعمل بخبرها في حقها، فتستحق النفقة والسكنى.
وأما أقل المدة التي تصدق فيها المعتدة لانقضاء عدتها، فعلى التفصيل التالي في رأي الحنفية:
__________
(1) البدائع: 198/3-200، الدر المختار ورد المحتار: 842/2، 848، غاية المنتهى: 223/3.(9/615)
أـ إن كانت من ذوات الأشهر: فإنها لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر في عدة الطلاق. وفي عدة الوفاة لا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر.
ب ـ وإن كانت من ذوات الأقراء (الحيضات) : فإن كانت معتدة من وفاة، فلا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر. وإن كانت معتدة من طلاق: فإن أخبرت بانقضاء عدتها في مدة تنقضي في مثلها العدة، يقبل قولها. وإن أخبرت في مدة لا تنقضي في مثلها العدة، لا يقبل قولها، إلا إذا فسرت ذلك، بأن قالت: أسقطت سقطاً مستبين الخلق أو بعضه، فيقبل قولها؛ لأنها أمينة في إخبارها عن انقضاء عدتها، فإن الله تعالى ائتمنها في ذلك بقوله عز وجل: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة:228/2] قيل في التفسير: إنه الحيض والحبل. والقول قول الأمين بيمينه.
فإذا أخبرت بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها، يقبل قولها، ولا يقبل إذا كانت المدة مما لا تنقضي العدة في مثلها؛ لأن قول الأمين إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر، والظاهر هنا يكذبها.
وأما أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء:
فقال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة ستون يوماً، عملاً بالوسط في مدة الحيض وهو خمسة أيام، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوماً، والأطهار خمسة وأربعين يوماً على أن يبدأ بالطهر، فيكون المجموع ستين يوماً.
وقال الصاحبان: تسعة وثلاثون يوماً، عملاً بأقل الحيض وهو ثلاثة أيام، فتكون الحيضات تسعة أيام على أن يبدأ بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، ثم بالطهر خمسة عشر يوماً، ثم بالحيض ثلاثة أيام، فذلك تسعة وثلاثون يوماً. وقد بينت سابقاً آراء المذاهب الأخرى في مبحث اختلاف الزوجين في الرجعة.(9/616)
المبحث الخامس ـ أحكام العِدَد أو حقوق المعتدة وواجباتها:
يتعلق بالمعتدة الأحكام التالية (1) :
أولاً ـ تحريم الخطبة: لا يجوز للأجنبي خطبة المعتدة صراحة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها؛ لأن المطلقة طلاقاً رجعياً في حكم الزوجة، فلا يجوز خطبتها، ولبقاء بعض آثار الزواج في المطلقة ثلاثاً أو بائناً أو متوفى عنها زوجها.
ولا يجوز أيضاً التعريض بالخطبة في عدة الطلاق، ويجوز في عدة الوفاة؛ لقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء} [البقرة:235/2] إلى أن قال: {ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/2] ولأنه في عدة الطلاق لايجوز للمعتدة الخروج من منزلها أصلاً ليلاً ولا نهاراً، ويجوز للمتوفى عنها عند الحنفية الخروج نهاراً، ولأن إثارة العداوة بالتعريض لزوجها الأول يتصور في المطلقة لا المتوفى عنها. وقد ذكرت الحكم تفصيلاً في بحث الخطبة.
ثانياً ـ تحريم الزواج:
لا يجوز للأجنبي إجماعاً نكاح المعتدة، لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:2/235] أي لا تعقدوا عقد النكاح حتى تنقضي العدة التي كتبها الله على المعتدة، ولبقاء الزوجية في الطلاق الرجعي، وبعض آثار الزواج في الطلاق الثالث والبائن. وإذا تزوجت فالنكاح باطل، لأنها ممنوعة من الزواج لحق الزوج الأول، فكان نكاحاً باطلاً كما لو تزوجت وهي في نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها.
ويجوز لصاحب العدة أن يتزوج المعتدة؛ لأن الإلزام بالعدة إنما شرع مراعاة لحق الزوج، فلا يجوز أن يمنع حقه، فالعدة لحفظ مائه وصيانة نسبه، ولا يصان ماؤه عن بعضه، ولا يحفظ نسبه عنه، فإذا انقضت العدة جاز لأي شخص أن يتزوجها.
__________
(1) البدائع: 204/3-220، البحر الرائق: 162/4، اللباب: 85/3-89، الدر المختار ورد المحتار: 840/2، 848-856، فتح القدير: 291/3-299، 339، 342، القوانين الفقهية: ص 238 وما بعدها، الشرح الصغير: 679/2-687، 740 وما بعدها، مغني المحتاج: 390/3-407، 440، 441، المهذب: 146/2-149، 164، المغني: 480/7-483، 517 وما بعدها، 522-530، 606-608، غاية المنتهى: 217/3-219، كشاف القناع: 496/5، بداية المجتهد: 94/2 وما بعدها.(9/617)
والقاعدة عند المالكية: كل نكاح فسخ بعد الدخول اضطراراً، فلا يجوز للزوج أن يتزوج المرأة في عدتها منه، وكل نكاح فسخ اختياراً من أحد الزوجين، حيث لهما الخيار، جاز أن يتزوجها في عدتها منه (1) .
ثالثاً ـ حرمة الخروج من البيت:
للفقهاء آراء متقاربة في مسألة خروج المعتدة من البيت، الحنفية: فرقوا بين المطلقة والمتوفى عنها، فقالوا: يحرم على المطلقة البالغة العاقلة الحرة المسلمة المعتدة من زواج صحيح الخروج ليلاً ونهاراً، سواء أكان الطلاق بائناً أم ثلاثاً أم رجعياً، لقوله تعالى في الطلاق الرجعي: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/65] بأن تزني فتخرج لإقامة الحد
عليها، ويرى أبو حنيفة أن الفاحشة هي نفس الخروج، وقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} [الطلاق:6/65] والأمر بالإسكان نهي عن الإخراج والخروج. وأما في الطلاق الثلاث أو البائن، فلعموم النهي عن الخروج، ومساس الحاجة إلى الحفاظ على الأنساب وعدم اختلاط المياه.
وأما المتوفى عنها: فلا تخرج ليلاً، ولا بأس أن تخرج نهاراً في حوائجها؛ لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه؛ لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى، بل نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، ولا تخرج بالليل، لعدم الحاجة إلى الخروج بالليل، بخلاف المطلَّقة، فإن نفقتها على الزوج، فلا تحتاج إلى الخروج.
وليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أو رجعي أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر ولو إلى حج فريضة إذا كانت معتدة من نكاح صحيح. ولا يجوز للزوج أن يسافر بها لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن} [الطلاق:1/65] والمذهب أن للزوج ضرب المرأة المفارقة على الخروج من منزله بلا إذن، إلا إن احتاجت إلى الاستفتاء في حادثة، ولم يرض الزوج أن يستفتي لها، وهو غير عالم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 211.(9/618)
ويجوز للمعتدة من نكاح فاسد أن تخرج؛ لأن أحكام العدة مرتبة على أحكام النكاح الصحيح. ويجوز أيضاً للصغيرة والمجنونة أن تخرج من منزلها إذا لم يكن في الفرقة رجعة، سواء أذن الزوج لها أم لم يأذن؛ إذ أن حق الله في العدة لا يجب عل الصغير والمجنون، ولأنه لا ولد من الصغيرة، فلم يبق للزوج حق. ولكن يجوز للزوج منع المجنونة من الخروج حفاظاً على مائه وتحصينه من الاختلاط. وإن كانت الفرقة رجعية فلا يجوز للصغيرة الخروج بغير إذن الزوج؛ لأنها زوجته. هذا كله في حال الاختيار، أما في حال الضرورة فلكل معتدة الخروج، فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها، بأن خافت سقوط منزلها، أو خافت على متاعها، أو لا تجد أجرة البيت الذي تستأجره في عدة الوفاة، فلا بأس عندئذ أن تخرج. وتنتقل المعتدة المطلقة في البادية مع أهل الكلأ في محفة أو خيمة مع زوجها إن تضررت في المكان الذي طلقها فيه، وإن لم تتضرر فلا تنتقل من مكانها.
وأجاز المالكية والحنابلة للمعتدة الخروج لضرورة أو عذر، كأن خافت هدماً أو غرقاً أوعدواً أو لصوصاً أو غلاء كرائها أو نحوه، كما قرر الحنفية، وأجازوا أيضاً للمعتدة مطلقاً الخروج في حوائجها نهاراً، سواء أكانت مطلَّقة أم متوفى عنها، لما روى جابر قال: «طُلِّقت خالتي ثلاثاً، فخرجت تجذّ نخلها، فلقيها رجل، فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تتصدقي منه، أو تفعلي خيراً» (1) ، وروى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تحدثن عند إحداكن، حتى إذا أردتن النوم، فلتؤب كل واحدة إلى بيتها» .
__________
(1) رواه النسائي وأبو داود.(9/619)
وليس للمعتدة المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ ولا تبيت إلا في دارها؛ لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار، فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش، وشراء ما يحتاج إليه.
وإن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين والحد، وكانت ذات خِدْر (أي ستر) بعث إليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها. وإن كانت بَرْزَة (هي الظاهرة غير المستترة) جاز إحضارها لاستيفائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها.
ولم يجز الشافعية للمعتدة مطلقاً، سواء أكانت رجعية أم مبتوتة أم متوفى عنها زوجها، الخروج من موضع العدة إلا لعذر، لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/65] وعن فُرَيعة بنت مالك قالت: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني في دار وحشة، أفأنتقل إلى دار أهلي، فأعتد عندهم؟ فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: «فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» (1) .
ورأي الشافعية والحنابلة أن منزل البدوية وبيتها من شعر كمنزل حضرية في لزوم الموضع الذي مات زوجها وهي فيه، فلو ارتحل في أثنائها كل الحي انتقلت معهم للضرورة. وإن ارتحل بعض الحي، بقيت مع الباقين إن كان فيهم قوة، لكن لو ارتحل أهلها لها أن ترتحل معهم؛ لأن مفارقة الأهل عسرة موحشة.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن فريعة (نيل الأوطار: 298/6) والدار الوحشة: أصله المكان القفر من الأنيس، وأوحش النزل: خلا من السكَّان.(9/620)
رابعاً ـ السكنى في بيت الزوجية والنفقة:
هذا حق للمرأة واجب على الزوج، أما سكنى المعتدة أي معتدة في بيت الزوجية، فواجبة لقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/65] والبيت المضاف للمرأة هو البيت الذي تسكنه عند الفرقة، سواء أكانت مطلقة أم متوفى عنها. لكن قال الحنفية: يجوز بقاء المطلقة رجعياً مع الزوج في دار واحدة، وله إن قصد مراجعتها أن يستمتع بها بعد الطلاق؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم عندهم على الراجح المطلقة على من طلقها، ويكون استمتاعه بها رجعة، وله حينئذ إذا قصد مراجعتها أن يدخل عليها بلا إذنها.
أما في الطلاق البائن أو الثلاث: فلا بد من ساتر حاجز بين الرجل والمطلقة، فإن كان المسكن متسعاً استقلت المرأة بحجرة فيه، ولا يجوز للمطلق أن ينظر إليها ولا أن يقيم معها في تلك الحجرة. وإن كان المسكن ضيقاً ليس فيه إلا حجرة واحدة، وجب على الرجل المطلِّق أن يخرج من المسكن، وتبقى المطلقة فيه حتى تنقضي العدة؛ لأن بقاء المرأة في منزل الزوجية الذي كانت تسكن فيه وقت الطلاق واجب شرعاً، ولئلا تقع الخلوة بالأجنبية.
ولا عبرة بالعرف القائم الآن من خروج المطلقة من بيت الزوجية فهو عرف مصادم للنص القرآني السابق: {لا تخرجوهن من بيوتهن} [الطلاق:1/65] .
ولكن يعد ضيق المنزل وفسق الزوج عذراً يجيز في رأي الحنفية للمطلقة أو المتوفى عنها الخروج من البيت، وتعيين الموضع الذي تنتقل إليه في عدة الطلاق إلى الزوج، وأما في عدة الوفاة فإن التعيين يكون إليها؛ لأنها هي صاحبة الرأي المطلق في أمر السكنى، حتى إن أجرة المنزل إن كان بأجر تكون عليها.(9/621)
وكذلك يعد إيذاؤها الجيران عذراً عند الحنابلة يبيح انتقالها لدار أخرى.
ولا تخرج المعتدة إلى صحن الدار التي فيها منازل الأجانب عنها، لأنه كالخروج إلى الشارع. فإن لم يكن في الدار منازل للأجانب، بل بيوت أو غرف، جاز لها الخروج إلى صحن الدار، ولا تصير به خارجة عن الدار، ولها أن تبيت في أي غرفة شاءت منها.
وذكر الشافعية (1) : أن الرجل إذا عاشر المعتدة كزوج، بخلوة ولو بدخول دار هي فيها، ونوم ولو في الليل فقط وأكل ونحو ذلك، بلا وطء لها، في عدة أقراء أو أشهر، فالأصح أنها إن كانت بائناً انقضت عدتها بما ذكر؛ لأن مخالطتها محرَّمة ووطؤها زنا لا حرمة له، ولا أثر للحرام في الحكم الشرعي، كالمزني بها لا يترتب على الزنا حكم شرعي من أحكام الزواج، وأما إن كانت رجعية، فلا تنقضي عدتها؛ لأن الشبهة قائمة؛ لأن العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة. لكن لا يضر دخول دار هي فيها بلا خلوة.
وأما نفقة المعتدة: فواجبة على الزوج حسب التفصيل الآتي:
1ً - إن كانت المعتدة مطلقة طلاقاً رجعياً: وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة من طعام وكسوة وسكنى، بالاتفاق؛ لأن المعتدة تعد زوجة ما دامت في العدة.
2ً - وإن كانت معتدة من طلاق بائن:
فإن كانت حاملاً، وجبت لها النفقة بأنواعها المختلفة بالاتفاق، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل، فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/65] .
وإن كانت غير حامل: وجبت لها النفقة بأنواعها أيضاً عند الحنفية، بسب احتباسها في العدة لحق الزوج.
__________
(1) مغني المحتاج: 393/3 وما بعدها.(9/622)
ولا تجب لها النفقة في رأي الحنابلة؛ لأن فاطمة بنت قيس طلَّقها زوجها البتة، فلم يجعل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، وإنما قال: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» (1) .
وتجب لها السكنى فقط في رأي المالكية والشافعية، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم} [الطلاق:6/65] فإنه أوجب لها السكنى مطلقاً، سواء أكانت حاملاً أم غير حامل. ولا تجب لها نفقة الطعام والكسوة لمفهوم قوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/65] فدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة لغير الحامل.
3ً - وإن كانت معتدة من وفاة: فلا نفقة لها بالاتفاق، لانتهاء الزوجية بالموت، لكن أوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، أو مستأجَراً ودفع أجرته قبل الوفاة، وإلا فلا.
4ً - وإن كانت معتدة من زواج فاسد أو شبهة: فلا نفقة لها عند الجمهور، إذ لا نفقة لها في الزواج الفاسد، فلا نفقة لها في أثناء العدة منه.
وأوجب المالكية لها إن كانت حاملاً النفقة على الواطئ؛ لأنها محتبسة بسببه، فإن كانت غير حامل أو فسخ نكاحها بلعان، فيجب لها السكنى فقط في المحل الذي كانت فيه.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار: 305/6) .(9/623)
خامساً ـ الإحداد أو الحداد:
الإحداد أو الحداد في اللغة: الامتناع من الزينة، واصطلاحاً: ترك الطيب والزينة والكحل والدهن المطيب وغير المطيب. وهو خاص بالبدن، فلا مانع من تجميل فراش وبساط وستور، وأثاث بيت وجلوس امرأة على حرير.
ويباح للمرأة الحداد على قريب كأب وأم وأخ ثلاثة أيام فقط، ويحرم إحداد فوق ثلاث على ميت غير زوج، للحديث الصحيح المتقدم: «لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (1) وللزوج منع زوجته من الحداد على الأقرباء؛ لأن الزينة حقه.
ومدة الحداد على الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام.
والإحداد على الزوج خاص في رأي الحنفية بالمرأة البالغة المسلمة ولو أمة، فلا إحداد على صغيرة وذمية؛ لأنهما غير مكلفين. ولا إحداد على أم الولد؛ لأنها ليست زوجة.
ويشمل الحداد عند الجمهور كل زوجة بنكاح صحيح، صغيرة أو كبيرة، أو مجنونة، مسلمة أو كتابية، وكذا الأمة الزوجة في رأي الحنابلة، ولا يجب الإحداد على الإماء في رأي المالكية والشافعية؛ لأنهن لسن زوجات، وأما الصغيرة والذمية فلأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا، وإنما يفترقان في الإثم، فكذلك الإحداد، ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة، فكذلك فيما عليها.
ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها، والأمة التي يطؤها سيدها، والموطوءة بشبهة والمزني بها والمنكوحة نكاحاً فاسداً؛ لأن نص الحديث السابق خص الحداد بالزواج، ولأن ذات النكاح الفاسد ليست زوجة على الحقيقة.
والإحداد واجب شرعاً على الزوجات. واتفق الفقهاء على عدم وجوب الحداد على الرجعية؛ لأنها في حكم الزوجة، لها أن تتزين لزوجها، وتستشرف له ليرغب فيها ويعيدها إلى ما كانت عليه من الزوجية.
واتفقوا أيضاً على وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها، للحديث السابق: «أن أم حبيبة رضي الله عنها لما بلغها موت أبيها أبي سفيان، انتظرت ثلاثة أيام، ثم دعت بطيب، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول على المنبر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» .
وأوجب الحنفية الحداد أيضاً على المبتوتة أو المطلقة طلاقاً بائناً؛ لأنه حق الشرع، وإظهاراً للتأسف على فوات نعمة الزواج، كالمتوفى عنها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة (نيل الأوطار: 292/6) .(9/624)
ولم يوجبه الجمهور عليها، وإنما يستحب فقط؛ لأن الزوج آذاها بالطلاق البائن، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه، ولأنها معتدة من طلاق كالرجعية، وإنما يستحب لها الحداد لئلا تدعو الزينة إلى الفساد.
ويكون الإحداد بترك التجميل، وهو أن تجتنب ما يلي:
1ً - الزينة بحلي ولو خاتم من ذهب أو فضة، أو حرير مطلقاً ولو كان أسود. وأجاز بعض الشافعية كابن حجر التحلي بالذهب والفضة، وأجاز الحنابلة لبس الحرير الأبيض؛ لأنه مألوف.
2ً - الطيب في البدن والامتشاط، لا في الثياب، لما فيه من الترفه واجتذاب الأنظار، ومنعها المالكية من الاتجار في الطيب وعمله.
3ً - الدهن المطيب وغير المطيب؛ لأن فيه زينة الشعر، ولا يخلو الدهن عن نوع طيب.
4ً - الكحل، لما فيه من زينة العين. وأجاز فقهاء المذاهب كلهم الكحل لضرورة أو حاجة ليلاً لا نهاراً.
5ً - الحناء وكل أنواع الخضاب والصباغ، لما روت أم سلمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب، كما سيأتي.
6ً - لبس الثوب المطيب والمصبوغ بالأحمر أو الأصفر.
ودليل ذلك حديث أم سَلَمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المتوفى عنها زوجها: لا تَلْبَس المُعَصْفر من الثياب، ولا الممشَّقة (1) ، ولا الحُلِي، ولا تختضب، ولا تكتحل» (2) وفي رواية أخرى: «ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب» وعن أم عطية قالت: «كنا نُنهى أن نحدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهروعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلْبَس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصْب» (3) .
ويجوز للمرأة فعل شيء مما سبق للضرورة؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات.
ويباح لها لبس الأسود في المذاهب الأربعة. ولم يجز الظاهرية (4) الكحل ولو لضروة، ولا الأسود؛ لأنه كالأحمر والأصفر، ولم يجز المالكية لبس الأسود إذا كان يتزين به في قوم.
__________
(1) الممشقة: المصبوغة بالمَشْق وهو المَغْرة أي الطين الأحمر يصبغ به.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أم سلمة (نيل الأوطار: 296/6) .
(3) رواه البخاري ومسلم عن أم عطية (نيل الأوطار: 295/6) وثوب العصب: نوع من برود اليمين يعصب غزله أي يجمع، ثم يشد، ثم يصبغ معصوباً، فيصبح موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم ينصبغ، وإنما ينصبغ السَدى دون اللُّحمة، والسدى: ما مُدّ من خيوط الثوب، وضده اللحمة: وهو ما نسج عرضاً.
(4) المحلى: 335/10، مسألة 2000.(9/625)
ويباح لها عند الجمهور دخول الحمام المنزلي وغسل الرأس بالصابون ونحوه، ولم يجز المالكية لها دخول الحمام إلا لضرورة.
ولها قص الأظافر ونتف إبط وحلق عانة (استحداد) وإتباع دم الحيض بطيب.
فإن تركت المتوفى عنها الحداد عصت الله تعالى إن علمت حرمة الترك، ويعصي ولي الصغيرة والمجنونة في رأي غير الحنفية إن لم يمنعها، وتنقضي عدتها بمضي الزمان مع العصيان، كما لو فارقت المنزل.
سادساً ـ ثبوت نسب الولد المولود في العدة:
يثبت نسب ولد المطلَّقة الرجعية من الزوج في رأي الحنفية إذا جاءت بالولد لسنتين أو أكثر، ولو طالت المدة، لاحتمال امتداد طهرها، وعلوقها في العدة، ما لم تقر بانقضاء عدتها، وكانت المدة تحتمله.
ويثبت نسب ولد المبتوتة بلا دعوى، ما لم تقر بانقضاء العدة إذا جاءت به لأقل من سنتين؛ لأنه يحتمل أن يكون الولد قائماً وقت الطلاق، والحمل عندهم لا يبقى أكثر من سنتين. فإن جاءت به لتمام سنتين من يوم الفرقة، لم يثبت نسبه من الزوج؛ لأنه حادث بعد الطلاق، فلا يكون منه؛ لأن وطأها حرام، إلا أن يدعيه الزوج؛ لأنه التزمه، وله وجه بأن وطئها بشبهة في العدة.
ويثبت نسب الولد المتوفى عنها زوجها، ولو غير مدخول بها، إذا لم تقر بانقضاء عدتها، ما بين الوفاة وبين سنتين.
وإذا اعترفت المعتدة مطلقاً (أي معتدة) بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، ثبت نسبه، لظهور كذبها بيقين، فبطل الإقرار. وإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، لم يثبت نسبه؛ لأنه علم بالإقرار أنه حدث بعده؛ لأنها أمينة في الإخبار، وقول الأمين مقبول إلا إذا تحقق كذبه.
وتنطبق هذه الأحكام في المذاهب الأخرى، بملاحظة أن أقصى مدة الحمل عند الشافعية والحنابلة أربع سنين، وعند المالكية: خمس سنين.(9/626)
سابعاً ـ ثبوت الإرث في العدة:
إذا مات أحد الزوجين قبل انقضاء عدة المطلقة طلاقاً رجعياً، ورثه الآخر لا خلاف، سواء أكان الطلاق في حال المرض أم في حال الصحة؛ لبقاء الزوجية حكماً، فتكون سبباً لاستحقاق الإرث من الجانبين.
فإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال الصحة، فمات أحد الزوجين في العدة لم يرثه الآخر.
وإن كان الطلاق بائناً أو ثلاثاً في حال المرض، فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع، وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عند الجمهور عملاً بما روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبي بن كعب، ومعاملة للمطلّق بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار، وقد تقدم بيانه. ولا ترث عند الشافعية، لزوال النكاح بالإبانة أو الثلاث، فلا يثبت الإرث.
ثامناً ـ لحوق الطلاق في العدة:
إن طلق الرجل زوجته طلقة فقط، فاعتدت منه، ثم طلقها طلقة ثانية وثالثة، فيلحقها الطلاق إلى انقضاء العدة. وقد سبق بيانه في بحث الطلاق الرجعي والبائن.(9/627)
الاستبراء:
معناه: لغة طلب البراءة. وشرعاً: تربص الأمَة الرقيقة مدة بسبب ملك اليمين حدوثاً أو زوالاً أو بشبهة، أو تربص المزني بها، لمعرفة براءة الرحم، أو للتعبد (1) .
حكمه: يجب الاستبراء بالاتفاق، منعاً من اختلاط المياه واشتباه الأنساب، حتى لو أنكره شخص، كفر في رأي بعضهم للإجماع على وجوبه (2) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم في سبي أوطاس (3) : «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غيرُ حامل حتى تحيض حيضة» (4) وقوله عليه السلام: «لا يقعن رجل على امرأة، وحملُها لغيره» (5) وقوله أيضاً: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقي ماءَه ولدَ غيره» (6) وزاد أبو داود في روايته: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها» .
أسبابه: ذكر الفقهاء أسباباً للاستبراء هي ما يأتي:
رأي الحنفية (7) : يجب الاستبراء بملك الاستمتاع بالأمة ملك اليمين، بأي نوع من أنواع الملك كشراء، وإرث، وسبي، ودفع بدل جناية، وفسخ بيع بعد القبض ونحوها كهبة ورجوع عنها، وصدقة، ووصية، وبدل خلع أو صلح أو كتابة أو عتق أو إجارة.
ولا بأس بحيلة إسقاط الاستبراء إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها بأن يعقد عليها عقد زواج ويقبضها ثم يشتريها، فتحل له للحال.
وذكر الشافعية (8) سببين للاستبراء: وهما - كما قرر الحنفية - ملك وزوال ملك، ثم قالوا: قد يجب بسبب آخر، كأن يطأ رجل أمة غيره ظاناً أنها أمته، أي الوطء بشبهة.
__________
(1) الدر المختار: 264/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 408/3، الشرح الصغير: 677/2، 701، كشاف القناع: 503/5 ومابعدها.
(2) حاشية ابن عابدين: 264/5.
(3) أوطاس: واد في ديار هوازن، قال ابن حجر: والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين.
(4) رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار: 305/6) .
(5) رواه أحمد عن أبي هريرة.
(6) رواه أحمد والترمذي وأبو داود عن رويفع بن ثابت (انظر الحديثين في نيل الأوطار: 306/6) .
(7) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 265/5، 267.
(8) مغني المحتاج: 408/3-410، المهذب: 153/2.(9/628)
أما الملك: فهو ملك أمة بشراء، أو هبة، أو سبي بعد القسمة، أو رد بعيب، أو تحالف أو إقالة، أو قبول وصية أو غيرها كفسخ بفلس ورجوع في هبة. ويجب استبراء مكاتبة لم تستطع أداء أقساط الكتابة، لعود ملك التمتع بعد زواله، واستبراء مرتدة في الأصح، لزوال ملك الاستمتاع ثم إعادته، ويجب استبراؤها ولو منتقلة من ملك صبي أو امرأة.
وأما زوال الملك: فهو زوال الاستمتاع عن الأمة الموطوءة أو المستولدة، بعتق أو موت السيد.
وإن ملك شخص أمة مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج، لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال. فإن زالت الزوجية أو العدة أو الردة، وجب الاستبراء في الأظهر.
وأما الحنابلة (1) فذكروا ثلاثة أسباب للاستبراء: هي ملك وإزالة ملك وعتق، وإيضاحها فيما يأتي:
1ً - إذا ملك ولو طفلة أمة ببيع أو هبة أو إرث أو سبي أو وصية أو غنيمة أو غيرها مما ذكر في المذهبين السابقين، فلا يحل له وطؤها ولا الاستمتاع بها إلا بالاستبراء بحيضة إذا كانت تحيض، أو بوضع الحمل إذا كانت حاملاً.
2ً - إن وطئ أمته ثم أراد تزويجها أو بيعها، لم يجز له ذلك حتى يستبرئها كما سبق في الحالة الأولى.
3ً - إذا أعتق أم ولده أو أعتق أمته التي كان يصيبها قبل استبرائها أو مات عنها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها موطوءة له وطأ له حرمة، فلزمها استعلام براءة رحمها، كالموطوءة بشبهة.
__________
(1) كشاف القناع: 507/5-509.(9/629)
وأما مذهب المالكية (1) فقد حدد أربعة أسباب للاستبراء وهي:
1ً- حصول ملك الأمة بشراء أو إرث أو هبة أو غنيمة أو غيرها، ولو من صبي أو امرأة، كما سبق في المذاهب الأخرى. ويجب الاستبراء على كل من المتملك الذي صارت إليه، وعلى البائع، وإن اتفقا على استبراء واحد، جاز. ورأى بقية الأئمة أن الاستبراء على المشتري خاصة. وهذا سبب متفق عليه.
ويجب الاستبراء بشروط أربعة في رأي المالكية وهي:
أولاً ـ إن لم تعلم براءتها: فإن علمت براءتها من الحمل كمودعة عنده أو مرهونة أو مبيعة بالخيار تحت يده، وحاضت زمن ذلك، ولم تخرج ولم يدخل عليها سيدها، ثم اشتراها فلا استبراء عليها.
ثانياً ـ ولم تكن مباحة الوطء حال حصول الملك، كزوجته التي يشتريها مثلاً، فلا استبراء عليه، وهذا متفق عليه بين المذاهب.
ثالثاً ـ ولم يحرم وطؤها في المستقبل، كعمته وخالته من نسب أو رضاع، وكأم زوجته، فلا استبراء عليها لعدم حل وطئها.
رابعاً ـ وأطاقت الوطء: فلا استبراء لصغيرة كبنت خمس سنين، لعدم إمكانه عادة.
2ً - زوال الملك بعتق أو بموت السيد أو بغيرهما. وهذا متفق عليه.
3ً - الزنى: إذا زنت الحرة طائعة أو مكرهة، استبرئت عند المالكية والحنابلة بثلاث حيضات، والأمة بحيضة، والحامل منها بوضع حملها.
4ً - سوء الظن: من تطرق إليها سوء الظن من خروج في الطرقات وغيرها، وجب استبراؤها في المشهور. فإن كانت في سن الحيض فاستبراؤها بحيضة، وإن لم تحض فتسعة أشهر، وإن كانت صغيرة أو يائسة فثلاثة أشهر، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: شهر، وإن كانت حاملاً فوضع الحمل.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 240، الشرح الصغير: 701/2-704.(9/630)
نوع الاستبراء ومدته:
لا يجوز في الاستبراء (1) الوطء ولا غيره من الاستمتاع كتقبيل ونظر بشهوة. وأجاز الشافعية الاستمتاع بغير الوطء في المسبية التي وقعت في سهمه من الغنيمة، لمفهوم الخبر السابق: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» .
واتفق الفقهاء عملاً بهذا الحديث على أن استبراء من تحيض بحيضة، والحامل بوضع الحمل. واختلفوا فيمن لا تحيض وهي صغيرة وآيسة ومنقطعة حيض (2) :
مذهب الحنفية والشافعية: تستبرأ بشهر؛ لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلَّقة، فكذلك في الاستبراء.
ومذهب المالكية، والحنابلة في المشهور عن أحمد كما في المغني: تستبرأ الصغيرة والآيسة بثلاثة أشهر؛ لأن كل شهر قائم مقام قرء، وتستبرأ الآيسة الحرة بثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء. وجاء في كشاف القناع أن من لا تحيض تستبرأ بشهر.
أما من تأخر حيضها عن عادتها ولو لرضاع أو مرض أو استحيضت ولم تميز الحيض من غيره، فتستبرأ بثلاثة أشهر أيضاً في رأي المالكية، وبعشرة أشهر في رأي الحنابلة: تسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة إن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه. وإن علمت سبب رفع الحيض من مرض أو رضاع أو نفاس، ولم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض، فتستبرئ نفسها بحيضة، إلا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها استبراء الآيسات بثلاثة أشهر. وإن ارتابت الأمة المستبرأة بنفسها فهي كالحرة المستريبة، تستبرأ بسنة كاملة.
وهل هناك عدة بسبب الزنا أو بعد زواج باطل؟
إذا زنت الزوجة أو تزوج رجل امرأة زواجاً متفقاً على بطلانه كأن يتزوج محرمة أو معتدة يعلم حالها أو زوجة يعلم أنها زوجة غيره ثم دخل بها.
فإن حملت المرأة في هذه الحالة، فلا يحل لزوجها أن يقربها حتى تضع الحمل باتفاق المذاهب.
وأما إن لم يكن هناك حمل: فلا تجب العدة عند الحنفية والشافعية في الزنا ولا في الزواج الباطل؛ لأنه في حكم الزنا، واستحسن الإمام محمد بن الحسن استبراءها بحيضة.
__________
(1) الدر المختار: 265/5، القوانين الفقهية: ص 240، مغني المحتاج: 412/3، كشاف القناع: 504/5.
(2) الرد المختار: 265/5، القوانين الفقهية: ص 240، الشرح الصغير: 705/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 411/3، كشاف القناع: 511/5، المغني: 499/7، 502-504، المهذب: 154/2.(9/631)
ويجب عند المالكية والحنابلة استبراؤها بثلاث حيضات منذ وطئها الرجل، سواء فارقها أو مات عنها، ويحرم على زوجها أن يقربها في مدة الاستبراء.
أما إذا تزوجها الرجل، وهو لا يعلم بأنها زوجة غيره، ودخل بها، ثم فرق بينهما، وجب عليها العدة بالاتفاق؛ لأن العقد يكون فاسداً، والعقد الفاسد تجب العدة فيه بالدخول اتفاقاً.
انتهى الجزء التاسع
ويتبعه الجزء العاشر
تتمة الأحوال الشخصية (الحقوق المالية - الوصايا والوقف والمواريث)(9/632)
....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
..........................................الجزء العاشر....................................
البَابُ الثَّالث: حقوق الأولاد
يشتمل على خمسة فصول:
الأول ـ النسب.
الثاني ـ الرضاع.
الثالث ـ الحضانة.
الرابع ـ الولاية.
الخامس ـ النفقات ـ نفقة الأولاد والزوجة وغيرهم.
والكلام فيها لأن بناء الأسرة بناء قوياً لا يتم إلا بثبوت نسب الأولاد من آبائهم، حتى يحفظوا من الضياع، وبإرضاعهم؛ لأن الرضاع أول مقومات الحياة الأولى، وبحضانتهم لحاجتهم الشديدة إلى رعايتهم في سن الضعف والطفولة، وبالولاية عليهم في النفس والمال إن كان لهم مال، لاحتياجهم إلى من يرعى شؤونهم في التربية والتعليم، وحفظ أموالهم واستثمارها، وبالإنفاق عليهم قبل البلوغ بسبب عجزهم.
وأبحث هذه الفصول تباعاً فيما يأتي:
الفَصْلُ الأوَّل: النَّسَب
يشتمل على تمهيد ومبحثين:
الأول ـ في أسباب ثبوت النسب، والثاني ـ في طرق إثبات النسب:
تمهيد ـ عناية الشرع بالنسب وتحريم التبني والإلحاق من طريق غير مشروع:
النسب أقوى الدعائم التي تقوم عليها الأسرة، ويرتبط به أفرادها برباط دائم من الصلة تقوم على أساس وحدة الدم والجزئية والبغيضة، فالولد جزء من أبيه، والأب بعض من ولده. ورابطة النسب هي نسيج الأسرة الذي لا تنفصم عراه، وهو نعمة عظمى أنعمها الله على الإنسان، إذ لولاها لتفككت أواصر الأسرة، وذابت الصلات بينها، ولما بقي أثر من حنان وعطف ورحمة بين أفرادها، لذا أمتن الله عز وجل على الإنسان بالنسب، فقال سبحانه: {وهو الذي خلق من الماء بشراً، فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً} . [الفرقان:54/25] . ورعاية النسب أحد مقاصد الشريعة الخمسة.
ومنع الشرع الآباء من إنكار نسب الأولاد، وحرم على النساء نسبة ولد إلى غير أبيه الحقيقي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم (1) ،
__________
(1) أي أنها أتت بولد زنا.(10/1)
فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة» (1) .
ومنع الشرع أيضاً الأبناء من انتسابهم إلى غير آبائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «من ادعى إلي غير أبيه وهو يعلم، فالجنة عليه حرام (2) » وقال أيضاً: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (3) .
وحرمت الشريعة نظام التبني وأبطلته بعد أن كان في الجاهلية وصدر الإسلام، وقد تبنى النبي صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل النبوة، وكان يدعى «زيد بن محمد» إلى أن نزل قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم، فإخوانكم في الدين ومواليكم} (4) .ذكرالقرطبي في تفسيره: أنه أجمع أهل التفسيرعلىأن ههذه الآية ننزلت في زيد بن حارثة. وروىالأئمةأن ابن عمرقال: «ماكنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} » [الأحزاب:5/33] أي أعدل وأحق عند الله.
فالعدل يقضي والحق يوجب نسبة الابن إلى أبيه الحقيقي، لا لأبيه المزور، والإسلام دين الحق والعدل، والعنصر الغريب عن الأسرة ذكراً أو أنثى لا ينسجم معها قطعاً في خلق ولا دين، وقد تقع مفاسد ومنكرات عليه أو منه، لإحساسه
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة، وهو صحيح.
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة، وهو صحيح.
(3) رواه أبو داود عن أنس.
(4) الأحزاب: 5،4.(10/2)
بأنه أجنبي، فمن تبنى لقيطاً أو مجهول النسب دون أن يدعي أنه ولده، لم يكن ولده حقيقة، فلا يثبت التوارث بينهما، ولا تجري عليه أحكام التحريم بالقرابة. ومن كان له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن جهل أبوه دعي مولىً وأخاً في الدين، منعاً من تغيير الحقائق، وحفظاً لحقوق الآباء والأولاد من الضياع أو الانتقاص، وتوفيراً لوحدة الانسجام في الأسرة، فكثيراً ما أساء الولد المتبنى للزوجين وأقاربهما في العرض والمال.
لكن لم يمنع الإسلام تربية ولد لقيط وتعليمه، ثم حجبه عن الأسرة بعد البلوغ أو قبله بقليل، وإنما فتح باب الإحسان إليه على أوسع نطاق، وعدّ ذلك اتفاقاً للنفس من الهلاك، وإحياء لنفس بشرية، ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
ونسب الولد من أمه ثابت في كل حالات الولادة شرعية أو غيرشرعية، أم نسب الولد من أبيه، فلا يثبت إلا من طريق الزواج الصحيح أو الفاسد، أو الوطء بشبهة، أو الإقرار بالنسب، وأبطل الإسلام ما كان في الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق الزنا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (1) ومعناه أن الولد يلحق الأب الذي له زوجية صحيحة، علماً بأن الفراش هو المرأة في رأي الأكثر، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وأما الزنا فلا يصلح سبباً لإثبات النسب، وإنما يستحق الزاني العاهر الرجم أو الطرد بالحجارة.
وقد دل ظاهر الحديث على أن الولد إنما يلحق بالأب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد إمكان الوطء في الزواج الصحيح أو الفاسد. وهو رأي الجمهور. وروي عن أبي حنيفة أنه يثبت بمجرد العقد؛ لأن مجرد المظنة كافية. ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لا بد من إمكان الوطء (2) .
__________
(1) رواه الجماعة إلا الترمذي، والجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة (نيل الأوطار: 279/6) .
(2) نيل الأوطار: 279/6 وما بعدها، بداية المجتهد: 352/2، البدائع: 212/3، فتح القدير: 300/3.(10/3)
المبحث الأول ـ أسباب ثبوت النسب:
لا بد قبل بيان أسباب ثبوت النسب من توضيح أمور ثلاثة:
الأول ـ مدة الحمل.
الثاني ـ الخلاف في الولادة وتعيين المولود.
الثالث ـ إثبات نسب الولد بالقيافة.
مدة الحمل:
لا يثبت نسب الحمل بصفة عامة إلا إذا أتى في فترة واقعة بين أقل الحمل وأكثرها، كما أبنا سابقاً في بحث العدة وغيرها.
أما أقل الحمل: فقد اتفق الفقهاء (1) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من وقت الدخول وإمكان الوطء في رأي الجمهور، ومن وقت عقد الزواج في رأي أبي حنيفة، لأن المرأة هي فراش للزوج ويلحقه الولد لعموم الحديث المتقدم «الولد للفراش» . ودليل الجمهور: أن المرأة ليست بفراش إلا بإمكان الوطء، وهو مع الدخول.
ودليل إجماع العلماء على أقل مدة الحمل: العمل بمجموع آيتين في القرآن الكريم هما: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف:15/46] {وفصاله في عامين} [لقمان:14/31] فالآية الأولى حددت الحمل والفصال، أي الفطام بثلاثين شهراً، وحددت الآية الثانية الفصال بعامين، فبإسقاط مدة العامين للفصال تكون مدة الحمل ستة أشهر، والواقع والطب يؤيدان ذلك.
وروي أن رجلاً تزوج، فولدت امرأته لستة أشهر من وقت الزواج، فرفع الأمر إلى عثمان رضي الله عنه، فهمَّ برجمها، فقال ابن عباس: «أما إنها لو خاصمتكم إلى كتاب الله لخصمتكم ـ أي غلبتكم ـ قال الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وقال: {وفصاله في عامين} ، فلم يبق
__________
(2) بداية المجتهد: 352/2.(10/4)
للحمل إلا ستة أشهر، فأخذ عثمان بقوله، ودرأ عنها الحد (1) .
وأما أكثر مدة الحمل: ففيه للعلماء أقوال (2) أشهرها ما يأتي:
1ً - سنتان وهو رأي الحنفية، لقول عائشة رضي الله عنها: «لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين، ولو بفلكة مغزل» (3) فإن ولد الحمل لسنتين من يوم موت الزوج أو طلاقه، ثبت نسبه من أبيه المطلّق أو الميت.
2ً - أربع سنين، وهو رأي الشافعية والحنابلة؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين؛ لأن نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، كما قال الإمامان أحمد والشافعي، وكما ذكر سابقاً.
فإذا ولدت المرأة لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه، ولم تكن تزوجت، ولا وطئت، ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل، فإن الولد لا حق بالزوج، وعدتها منقضية بوضعه.
وإن أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ، أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية، لم يلحقه ولدها؛ لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح، والبينونة منه.
3ً - خمس سنين: وهو المشهور عن المالكية والليث بن سعد وعباد بن العوام، قال مالك: بلغني عن امرأة حملت سبع سنين.
4ً - سنة قمرية: هو رأي محمد بن عبد الحكم من المالكية.
5ً - تسعة أشهر قمرية: وهو رأي ابن حزم الظاهري، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. ويظهر أن الأقوال الثلاثة الأولى روعي فيها إخبار بعض النساء، اللاتي ترين أن انتفاخ البطن علامة الحمل. لذا قال ابن رشد: «وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب بالمعتاد، لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلاً» .
__________
(1) البدائع: 211/3.
(2) الدر المختار: 857/2، فتح القدير: 310/3، الكتاب مع اللباب: 87/3، بداية المجتهد: 352/2، مغني المحتاج: 390/3، المغني: 477/7 وما بعدها، المحلى: 385/10، مسألة: 2011.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي في سننيهما.(10/5)
وقد رئي في القوانين المعمول بها الاعتماد على رأي الأطباء، فاعتبر أقصى مدة الحمل سنة شمسية (365 يوماً) ليشمل كل الحالات النادرة. نصت المادة (128) من القانون السوري على أن: «أقل مدة الحمل مائة وثمانون يوماً، وأكثرها سنة شمسية» وكو أقل الحمل (180) يوماً هو رأي الجمهور، وخالفهم المالكية فقد روها بـ (175) يوماً؛ لأن الأشهر الهلالية قد يتوالى منها ثلاثة أشهر بمقدار (29) يوماً، ويجوز أن يليهما شهران ناقصان أيضاً، فتكون أيام الأشهر الستة (175) يوماً. ونصت المادة (15) من القانون المصري رقم (25 لسنة 1929) على أنه: «لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينهما وبين زوجها من حين العقد، ولا لولد زوجة به بعد سنة من غيبتة الزوج عنها، ولا لولد المطلَّقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة» .
وأخذ بهذا التقرير في كل من تونس والمغرب وغيرهما.
الخلاف في الولادة وتعيين المولود:
قد يقع اختلاف بين الزوجين في ولادة المعتدة أو في تعيين المولود أثناء المدة التي يثبت فيها النسب (1) .
أما الخلاف في ولادة المعتدة: فهو أن تدعي المعتدة ولادة ولد خلال المدة التي يثبت فيها النسب، وينكر الزوج قائلاً: إنها لم تلد، وهذا الولد لقيط، فلا يثبت نسبه منه عند أبي حنيفة إلا إذا شهد بولادتها رجلان، أو رجل وامرأتان؛ لأن عدتها انقضت بإقرارها بوضع الحمل، فاحتيج إلى إثبات النسب، بنحو مستقل في القضاء، ولا يثبت إلا بحجة كاملة.
__________
(1) فتح القدير: 306/3-309.(10/6)
وقال الصاحبان: يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة، لأن الفراش: وهو تعين المرأة لماء الزوج، بحيث يثبت منه نسب كل ولد تلده، قائم بقيام العدة، وقيام الفواش ملزم للنسب، فلا حاجة لإثباته، وإنما الحاجة إلى تعيين الولد، وهو يحصل بشهادة امرأة واحدة، كما في حال قيام الزواج أو ظهور الحبل أو إقرار الزوج به. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر؛ لأن المرأة ما دامت في العدة فإن سبب ثبوت النسب قائم.
واتفق الإمام أبو حنيفة وصاحباه على أنه إذا كان هناك حبل ظاهر، أو اعتراف من الزوج بالولد أو الحبل، أو كان الزوج قائماً، فيثبت النسب من الزوج بلا شهادة، والقول قول المرأة في الولادة بيمينها.
وأما الاختلاف بين الزوجين في تعيين المولود: فهو أن يعترف الزوج بالولادة، ولكنه ينكر شخص المولود، بأن يقول: إنها ولدت بنتاً، وهذا الولد غلام. فيتعين المولود بشهادة امرأة واحدة باتفاق الحنفية وهو رأي الحنابلة أيضاً، لما رواه الدارقطني عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجازشهادة القابلة» ، ولما رواه ابن أبي شيبة وعد الرزاق عن الزهري قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادات النساء وعيوبهن» (1) .
وقال المالكية: تعيين المولود كالولادة لا يثبت إلا بشهادة امرأتين.
ورأى الشافعية: أن أمور النساء لا يكفي فيها أقل من أربع نسوة، لأن الله عز وجل جعل مكان الرجل الواحد شهادة امرأتين.
__________
(1) نصب الراية: 264/3.(10/7)
إثبات نسب الولد بالقيافة:
إذا تزوجت المعتدة بزوج آخر في أثناء عدتها من زوج سابق، وأت بولد يمكن أن يكون منهما، فمن الذي يلحق به؟
وإذا ادعى رجلان أو ثلاثة لقيطاً، فمن الذي يحكم له به؟ هل يمكن إثبات نسب الولد في هاتين الحالتين بالقيافة أو بالقافة؟ والقيافة: تتبع الأثر، والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه الناس.
اختلف الفقهاء على رأيين في الاعتماد على القافة (1) :
فرأى الحنفية: أن الأصل ألا يحكم لأحد المتنازعين في الولد، إلا أن يكون هناك فراش (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولد للفراش» فإن عدم الفراش أو اشتركا في الفراش، كان الولد بينهما، ولا يعمل بقول القائف، بل يحكم بالولد الذي ادعاه اثنان لهما جميعاً.
ورأي الجمهور وهم (مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي) : أنه يحكم بالقيافة، بدليل قول عائشة: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً، تبرُق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مُجَزِّزاً (3) نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» (4) ففيه دليل على ثبوت العمل بالقافة.
وأثبت عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس بن مالك الحكم بالقافة، فكان عمر يليط (5) أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ـ أي بمن ادعاهم في الإسلام ـ فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفاً، فنظر إليه، فقال القائف: لقد اشتركا فيها، فضربه عمر بالدِّرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين، يأتي في إبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يُظن، ونظن أنه قد استمر
__________
(1) بداية المجتهد: 352/2 وما بعدها، المغني: 483/7، نيل الأوطار: 282/6 وما بعدها.
(2) اختلف في معنى الفراش، فذهب الأكثر إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش، وقيل: إنه اسم للزوج، وفي القاموس: إن الفراش زوجة الرجل.
(3) تبرق أسارير وجهه: أطلق على ما يظهر على وجه من سره، وسمي هذ الرجل القائف مجززاً لأنه جزّ نواصي قوم، وهو مُجَزز المدلجي.
(4) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار: 282/6) .
(5) ألاط فلاناً بفلان: ألحقه به.(10/8)
بها حمل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماً، ثم خلف هذا عليها، تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: والِ أيهما شئت (1) قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع.
أسباب ثبوت النسب من الأب:
سبب ثبوت نسب الولد من أمه: هو الولادة، شرعية كانت أم غير شرعية، كما قدمنا، وأما أسباب ثبوت النسب من الأب فهي:
1 - الزواج الصحيح.
2 - الزواج الفاسد:
3 - الوطء بشبهة.
ونبين كل سبب على حدة فيما يأتي:
أولاً ـ الزواج الصحيح:
اتفق الفقهاء على أن الولد الذي تأتي به المرأة المتزوجة زواجاً صحيحاً ينسب إلى زوجها، للحديث المتقدم: «الولد للفراش» ، والمراد بالفراش: المرأة التي يستفرشها الرجل ويستمتع بها. وذلك بالشروط الآتية (2) :
الشرط الأول ـ أن يكون الزوج ممن يتصور منه الحمل عادة، بأن يكون بالغاً في رأي المالكية والشافعية، ومثله في رأي الحنفية والحنابلة المراهق: وهو عند الحنفية من بلغ اثنتي عشرة سنة، وعند الحنابلة: من بلغ عشر سنوات، فلا يثبت النسب من الصغير غير البالغ، حتى ولو ولدته أمه لأكثر من ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج. ولا يثبت النسب في رأي المالكية من المجبوب الممسوح: وهو الذي قطع عضوه التناسلي وأنثياه. أما الخصي: وهو من قطعت أنثياه أو اليسرى فقط، فيرجع في شأنه للأطباء المختصين، فإن قالوا: يولد له، ثبت النسب منه، وإن قالوا: لا يولد له لا يثبت النسب منه.
__________
(1) رواه مالك عن سليمان بن يسار.
(2) البدائع: 211/3 وما بعدها، الدر المختار: 857/2 وما بعدها، فتح القدير: 301/3، المغني: 428/7 وما بعدها.(10/9)
ويثبت النسب في رأي الشافعية والحنابلة (1) من المجبوب الذي بقي أنثياه فقط، ومن الخصي الذي سُلَّت خصيتاه وبقي ذكره، ولا يثبت من الممسوح المقطوع جميع ذكره وأنثييه.
الشرط الثاني ـ أن يلد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج في رأي الحنفية، ومن إمكان الوطء بعد الزواج في رأي الجمهور، فإن ولد لأقل من الحد الأدنى لمدة الحمل وهي ستة أشهر، لا يثبت نسبه من الزوج اتفاقاً، وكان دليلاً على أن الحمل به حدث قبل الزواج، إلا إذا ادعاه الزوج، ويحمل ادعاؤه على أن المرأة حملت به قبل العقد عليها، إما بناء على عقد آخر، وإما بناء على عقد فاسد أو وطء بشبهة، مراعاة لمصلحة الولد، وستراً للأعراض بقدر الإمكان.
الشرط الثالث ـ إمكان تلاقي الزوجين بعد العقد: وهذا شرط متفق عليه، وإنما الخلاف في المراد به أهو الإمكان والتصور العقلي، أو الإمكان الفعلي والعادي؟
قال الحنفية: الحق أن التصور والإمكان العقلي شرط، فمتى أمكن التقاء الزوجين عقلاً ثبت نسب الولد من الزوج إن ولدته الزوجة لستة أشهر من تاريخ العقد، حتى ولو لم يثبت التلاقي حساً. فلو تزوج مشرقي مغربية، ولم يلتقيا في الظاهر مدة سنة، فولدت ولداً لستة أشهر من تاريخ الزواج، ثبت النسب، لاحتمال تلاقيهما من باب الكرامة، وكرامات الأولياء حق، فتظهر الكرامة بقطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، ويكون الزوج من أهل الخطوة الذين تطوى لهم المسافات البعيدة. وفي رأيي أن هذا التعليل غير مقبول عادة، والصحيح أن الحنفية يثبتون النسب من تاريخ العقد، عملاً بحديث «الولد للفراش» وإن لم يتحقق إمكان الوطء أو الدخول. وفي هذا احتياط للولد وعدم ضياعه وستر على العِرْض، ومنع من وقوع مشكلة اللقطاء، فألحق الولد بمن له زوجية صحيحة. فإن تيقين الزوج أن الولد ليس منه فله أن ينفيه باللعان.
__________
(1) مغني المحتاج: 396/3، المغني: 430/7.(10/10)
ورفض الأئمة الثلاثة هذا المنطق، وقالوا: يشترط إمكان التلاقي بالفعل أو الحس والعادة، وإمكان الوطء والدخول، لأن الإمكان العقلي نادر ولا يصح أن يكون له دور في نطاق العقود الظاهرة، والأحكام إنما تنبني على الكثير الغالب والظاهر المشاهد، لا القليل النادر، أو الخفي غير المحتمل عادة، فلو تأكد عدم اللقاء بين الزوجين فعلاً، لم يثبت نسب الولد من الزوج، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد غيبة امتدت إلى أكثر من أقصى مدة الحمل، لذا أخذت القوانين بهذا الرأي، وهو الصحيح لاتفاقه مع قواعد الشريعة والعقل.
وفائدة الخلاف: أن الولد لا ينتفي نسبه في رأي الحنفية إلا باللعان، وينتفي بدون لعان في رأي الجمهور، لعدم إمكان التلاقي بين الزوجين عادة.
موقف القانون من هذا السبب: نص القانون السوري م (129) على مايلي:
1 - ولد كل زوجة في النكاح الصحيح ينسب إلى زوجها بالشرطين التاليين:
أـ أن يمضي على عقد الزواج أقل مدة الحمل.
ب ـ ألا يثبت عدم التلاقي بين الزوجين بصورة محسوسة، كما لو كان أحد الزوجين سجيناً أو غائباً في بلد بعيد أكثر من مدة الحمل.
2 - إذا انتفى أحد هذين الشرطين لا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا أقر به أوادعاه.
3 - إذا توافر هذان الشرطان لا ينفى نسب المولود عن الزوج إلا باللعان.
وقضى القانون المصري رقم (25) لسنة 1929 في المادة (15) بمنع القضاة من سماع دعوى نسب الولد في حالة الإنكار إذا ثبت عدم التلاقي بين الزوجين وزوجته من حين العقد إلى الولادة، كما قضى بمنعهم من سماع مثل هذه الدعوى إذا أتت الزوجة بالولد بعد سنة من غيبة الزوج عنها.(10/11)
وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج صحيح:
الفرقة إما أن تكون قبل الدخول أو بعد الدخول:
أـ إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول والخلوة، ثم ولدت ولداً بعد الطلاق، فإن أتت به قبل مضي ستة أشهر من تاريخ الطلاق، ثبت نسبه من الزوج، للتيقن بأنها حملت به قبل الفرقة.
وإن أتت به بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الطلاق، فلا يثبت نسبه من الزوج، إذ لا نتيقن بحدوث الحمل قبل حصول الفرقة. ب ـ وإذا طلق الرجل زوجته بعد الدخول أو الخلوة، سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً، أو مات عنها:
فإن أتت المرأة بولد بعد الطلاق أو الوفاة، ثبت نسبه من الزوج، إذا ولدته قبل مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة. وأقصى مدة الحمل هي كما تقدم أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وسنتان في رأي الحنفية، وخمس سنوات في المشهور لدى المالكية.
أما إن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل من يوم الطلاق أو الوفاة فلا يثبت نسبه من الزوج المطلق أو المتوفى. وهذا رأي الجمهور.
وفصَّل الحنفية بين الطلاق الرجعي والطلاق البائن، فقالوا:
أـ إن كان الطلاق رجعياً، ولم تقر المرأة بانقضاء عدتها، ثبت نسب الولد من الزوج، سواء أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو بعد مضي سنتين أو أكثر؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم المرأة على زوجها، فيجوز له الاستمتاع بها، ويكون ذلك رجعة.
فإن أقرت بانقضاء العدة، وكانت المدة تحتمل انقضاءها، بأن كانت ستين يوماً في رأي أبي حنيفة، وتسعة وثلاثين يوماً في رأي الصاحبين، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا كانت المدة بين الإقرار والولادة أقل من ستة أشهر لتبين كذبها أو خطئها في إقرارها. فإن كانت ستة أشهر فأكثر، فلا يثبت نسبه من الزوج إلا إذا ادعاه.(10/12)
ب ـ وإن كان الطلاق بائناً أو كانت الفرقة بسبب وفاة الزوج، ولم تقر بانقضاء العدة، فلا يثبت نسب الولد إلا إذا أتت به قبل مضي سنتين من تاريخ الطلاق أو الوفاة؛ لأن أقصى مدة الحمل عندهم سنتان. فإن أتت به في هذه المدة، وكان هناك احتمال بأنها حملت به بعد مضي هذه المدة، لم يكن هناك احتمال بأنها حملت به قبل الطلاق أو الوفاة.
أما إن أقرت بانقضاء العدة، والمدة تحتمل انتهاء العدة فيها، فلا يثبت نسب الولد من الزوج إلا إذا جاء به قبل مضي ستة أشهر من وقت الإقرار، وكانت المدة بين الطلاق والولادة أقل من سنتين.
موقف القانون: أخذ القانون السوري بهذا التفصيل من حيث المبدأ في المادتين (130، 131) لبيان نسب الولد بعد الفرقة أو وفاة الزوج. فقرر أنه إذا ولدت المطلقة من طلاق رجعي أو بائن أو المتوفى عنها زوجها، فإما أن تكون أقرت بانقضاء عدتها أو لم تقر.
أـ فإذا كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، ثم جاءت بولد، يثبت نسبه من الزوج إذا ولد لأقل من ستة أشهر، أي (180) يوماً من وقت الإقرار بانقضاء العدة، وأقل من سنة شمسية من وقت الطلاق أو الموت، لتبين كذبها في الإقرار بانقضاء العدة (م131) .
ب ـ وإن لم تكن أقرت بانقضاء العدة، ثبت نسب ولدها من زوجها إذا ولدته خلال سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة. ولا يثبت إذا ولدته لأكثر من سنة إلا إذا ادعاه زوج المطلَّقة، أو ادعاه ورثة المتوفى (م130) .
وهذا هو نفس المقرر في القانون المصري رقم (25) لسنة 1929.
__________
(1) الدر المختار: 857/2.(10/13)
ثانياً ـ الزواج الفاسد:
الزواج الفاسد في إثبات النسب كالزواج الصحيح (1) ؛ لأن النسب يحتاط في إثباته إحياء للولد ومحافظة عليه. ويشترط لثبوت النسب بالزواج الفاسد ثلاثة شروط:
1ً - أن يكون الرجل ممن يتصور منه الحمل: بأن يكون بالغاً عند المالكية والشافعية، أو بالغاً أو مراهقاً عند الحنفية والحنابلة.
2ً - تحقق الدخول بالمرأة أو الخلوة بها في رأي المالكية: فإن لم يحصل الدخول أو الخلوة بعد زواج فاسد، لم يثبت نسب الولد، والخلوة في الزواج الفاسد كالخلوة في الزواج الصحيح، لإمكان الوطء في كل منهما.
واشترط الحنفية حصول الدخول فقط، أما الخلوة فلا تكفي في ثبوت النسب بالزواج الفاسد؛ لأنه لا يحل فيها الوطء بين الرجل والمرأة.
3ً - أن تلد المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة عند المالكية، ومن تاريخ الدخول عند الحنفية. فلو ولدت المرأة ولداً قبل مضي ستة أشهر من الدخول والخلوة عند الأولين لا يثبت نسبه من الرجل؛ لأنه يدل على وجوده قبل ذلك وأنه من رجل آخر. وإذا ولدته المرأة بعد ستة أشهر أو أكثر من تاريخ الدخول أو الخلوة، ثبت نسبه من الرجل.
ولا ينتفي نسبه عن الرجل إلا باللعان في رأي المالكية والشافعية والحنابلة (1) . ولا ينتفي نسبه ولو باللعان في رأي الحنفية؛ لأن اللعان لا يصح عند الحنفية إلا بعد زواج صحيح، والزواج هنا فاسد.
والمقرر عند المالكية: أن كل نكاح يدرأ فيه الحد، فالولد لاحق بالواطئ، وحيث وجب الحد لا يلحق النسب (2) .
وقت ثبوت النسب بعد الفرقة من زواج فاسد:
إذا حدثت الفرقة بعد زواج فاسد بالمتاركة أو تفريق القاضي بعد الدخول، أو الخلوة في رأي المالكية، ثم ولدت المرأة قبل مضي أقصى مدة الحمل من تاريخ الفرقة، ثبت نسبه من الرجل. وإن ولدته بعد مضي أقصى مدة الحمل، لا يثبت نسبه منه. وأقصى مدة الحمل كما سبق هي أربع سنين في رأي الشافعية والحنابلة، وخمس سنين في رأي المالكية، وسنتان في رأي الحنفية، وسنة شمسية لدى القانونيين والأطباء.
موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب في الزواج الفاسد في المادة (132) التالية، أخذاً بالمذهب الحنفي:
1 - المولود من زواج فاسد بعد الدخول إذا ولد لمئة وثمانين يوماً فأكثر من تاريخ الدخول، ثبت نسبه من الزوج.
2 - إذا كانت ولادته بعد متاركة أو تفريق، لا يثبت نسبه إلا إذا جاءت به خلال سنة من تاريخ المتاركة أو التفريق.
__________
(1) المغني: 400/7.
(2) القوانين الفقهية: ص 211.(10/14)
ثالثاً ـ الوطء بشبهة:
الوطء بشبهة: هو الاتصال الجنسي غير الزنا، وليس بناء على عقد زواج صحيح أو فاسد، مثل المرأة المزفوفة إلى بيت زوجها دون رؤية سابقة، وقيل: إنها زوجته، فيدخل بها. ومثل وطء امرأة يجدها الرجل على فراشه، فيظنها زوجته. ومثل وطء المطلقة طلاقاً ثلاثاً أثناء العدة، على اعتقاد أنها تحل له.
فإن أتت المرأة بولد بعد مضي ستة أشهر أو أكثر من وقت الوطء، ثبت نسبه من الواطئ لتأكد أن الحمل منه. وإن أتت به قبل مضي ستة أشهر لا يثبت النسب منه، لتأكد أن الحمل حدث قبل ذلك، إلا أنه إذا ادعاه ثبت نسبه منه، إذ قد يكون وطئها قبل ذلك بشبهة أخرى (1) .
وإذا ترك الرجل الموطوءة عن شبهة، ثبت النسب من الواطئ، كما يثبت بعد الفرقة من زواج فاسد.
أما إن حدث الوطء بغير شبهة وإنما بالزنا، فلا يثبت نسب الولد من الزاني، للحديث المتقدم، «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ولأن الزنا محظور شرعاً، فلا يكون سبباً لنعمة النسب.
موقف القانون: نص القانون السوري على ثبوت النسب بالدخول بشبهة في المادة (133) التالية:
1 ـ الموطوءة بشبهة إذا جاءت بولد ما بين أقل مدة الحمل وأكثرها، يثبت نسبه من الواطئ.
2 - متى ثبت النسب ولو بنكاح فاسد أو بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع النكاح في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة والإرث.
آثار النسب: أوضحت الفقرة الثانية من هذه المادة آثار ثبوت النسب، فإذا ثبت النسب، ولو من نكاح فاسد أو وطء بشبهة، ترتب عليه جميع نتائج القرابة، فيمنع الزواج في الدرجات الممنوعة، وتستحق به نفقة القرابة، ويستحق به الإرث. وكان ينبغي إفراد هذه الفقرة بمادة مستقلة، لشمولها جميع أسباب ثبوت النسب من زواج صحيح أو فاسد أو بشبهة.
__________
(1) المغني: 431/7 وما بعدها.(10/15)
المبحث الثاني ـ طرق إثبات النسب:
يثبت النسب بأحد طرق ثلاثة وهي (1) :
1ً - الزواج الصحيح أو الفاسد.
2ً - الإقرار بالنسب.
3ً - البينة.
الطريق الأول ـ الزواج الصحيح أو الفاسد:
الزواج الصحيح أو الفاسد سبب لإثبات النسب، وطريق لثبوته في الواقع، متى ثبت الزواج ولو كان فاسداً، أو كان زواجاً عرفياً، أي منعقداً بطريق عقد خاص دون تسجيل في سجلات الزواج الرسمية، يثبت به نسب كل ما تأتي به المرأة من أولاد.
الطريق الثاني ـ الإقرار بالنسب أوادعاء الولد:
الإقرار بالنسب نوعان: إقرار على نفس المقر، وإقرار محمول على غير المقر.
أما الإقرار بالنسب على نفس المقر: فهو أن الأب بالولد أو الابن بالوالد، كأن يقول: هذا ابني، أو هذا أبي، أو هذه أمي. ويصح هذا الإقرار من الرجل ولو في مرض الموت، بشروط أربعة متفق على أغلبها بين المذاهب، وهي ما يأتي، وقد ذكرتها في بحث الإقرار، وأعيدها هنا:
__________
(1) البدائع: 215/3-218، 228/7، الشرح الكبير معد الدسوقي: 412/3-414، الخرشي: 316/4، مغني المحتاج: 259/2، المغني: 184/5.(10/16)
1 ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: بأن لا يكون معروف النسب من أب آخر، فإن كان ثابت النسب من أب معروف غير المقر، كان هذا الإقرار باطلاً؛ لأن الشرع قاض بثبوت النسب من ذلك الأب، ومتى تأكد ثبوت النسب من شخص، لا يقبل الانتقال منه إلى غيره، فقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه.
ومجهول النسب عند بعض الحنفية: هو الذي لا يعلم له أب في البلد الذي ولد فيه. وهذا هو الظاهر الآن مع سهولة المواصلات والبحث عن بلد الميلاد.
واستثنى العلماء من هذا الشرط ولد اللعان، فإنه لا يصح ادعاؤه بالنسب وإلحاقه بغير الأب الملاعن، لاحتمال أن يرجع الملاعن ويكذب نفسه فيما ادعاه من أن الولد ليس منه.
2ً - أن يصدقه الحس: بأن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، بأن يكون ممن يولد مثل المقر به لمثل المقر، وذلك في سن تسمح بأن يكون ابناً للمقر. فلو كان المقر ببنوته أكبر من المقر أو مساوياً له في السن أو مقارباً، بحيث لا يمكن أن يكون ابناً للمقر عادة، لم يصح إقراره؛ لأن الحس أو الواقع يكذبه في هذا الإقرار، فمن قال لغلام: هذا ابني، وكان سن الغلام عشر سنوات، وسن المقر عشرين سنة، لم يعتبر هذا الإقرار عند الحنفية؛ لأن الغلام لا يولد له في رأيهم قبل بلوغ سن الثانية عشرة.
وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره، لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر.(10/17)
3ً - أن يصدقه المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق، بأن يكون بالغاً عاقلاً عند الجمهور، ومميزاً عند الحنفية؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، فلا تتعداه إلى غيره إلا ببينة، أو تصديق من الغير. فإن كان المقر به صغيراً أو مجنوناً، فلا يشترط تصديقهما؛ لأنهما ليسا بأهل للإقرار أو التصديق.
وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق منه، إذا لم يقم دليل على كذب المقر.
4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير: سواء كذبه المقر له أو صدقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أو دعوى، وشهادة الفرد فيما لا يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة.
وبناء عليه إذا كان المقر ببنوة الغلام زوجة أو معتدة، فيشترط مع ما ذكر أن يوافق زوجها على الاعتراف ببنوته له أيضاً، أوأن تثبت ولادتها له من ذلك الزوج؛ لأن فيه تحميل النسب على الغير، فلا يقبل إلا بتصديقه أو ببينة.
ويبطل الإقرار إن صرح المقر في إقراره بأن الولد ابنه من الزنا؛ لأن الزنا لا يصلح سبباً لإثبات النسب، إذ النسب نعمة فلا تنال بالمحظور.
فإذا استوفى الإقرار بالبنوة أو الأبوة هذه الشروط، صح وثبت به نسب المقر له من المقر، وترتب عليه الإرث الشرعي. وإذا صح الإقرار لا يملك المقر الرجوع فيه بعدئذ؛ لأن النسب إذا ثبت لا يبطل بالرجوع.(10/18)
وقد اشترط الحنفية لصحة الإقرار بالنسب أيضاً حياة الولد، فلو أقر شخص بأن فلاناً ابنه، وكان المقر له بالبنوة ميتاً، لم يصح هذا الإقرار، ولا يثبت به النسب؛ إذ لا حاجة بعد الوفاة لإثبات النسب؛ لأنه لا يحتاج الميت إلى تكريم ولا تشريف. لكن استثنى الحنفية منه ما إذا كان للابن المتوفى أولاد، فإن الإقرار بنسبه بعد وفاته، يكون صحيحاً، رعاية لمصلحة هؤلاء الأولاد؛ لأنه يحتاجون إلى ثبوت نسب أبيهم، وفي ثبوت نسبه شرف لهم وتكريم.
ولم يشترط المالكية حياة الولد المقر به؛ لأن النسب حق للولد على أبيه، فلا يتوقف إثباته على حياة الولد، كما لا يتوقف على تصديقه، إلا أن الأب لا يرث الابن الذي استلحقه إلا إذا كان له ولد، أو كان المال قليلاً، حتى لا يتهم الأب بأن إقراره لأجل أخذ المال الكثير.
والشروط السابقة تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير، ما عدا الشرط الأخير.
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة، وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو كان مجنوناً، لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره.(10/19)
وأما الإقرار بنسب محمول على الغير:
فهو الإقرار بما يتفرع عن أصل النسب، كأن يقر إنسان فيقول: هذا أخي، أوهذا عمي، أو هذا جدي، أو هذا ابن ابني.
ويصح بالشروط السابقة، ويزاد عليها شرط آخر، وهو تصديق الغير، فإذا قال إنسان: هذا أخي، يشترط لثبوت نسبه عندا لحنفية أن يصدقه أبوه فيه، أو تقوم البينة على صحة الإقرار، أو يصدقه اثنان من الورثة إن كان الغير ميتاً؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر، لولايته على نفسه دون غيره. فإن لم يصدقه الغير أو لم يصدقه اثنان من الورثة، أو لم تقم بينة على صحة الإقرار، يعامل المقر بمقتضى إقراره في حق نفسه، فتجب عليه نفقة المقر له إن كان عاجزاً فقيراً، وكان المقر موسراً، ويشارك المقر له المقر في حصته التي يرثها من تركة أبيه. هذا رأي الحنفية.
وقال المالكية: يأخذ المقر له بالأخوة المقدار الذي نقص من حصة المقر بسبب إقراره.
فإذا أقر ولد بأخوة آخر، وأنكره الولد الآخر، أخذ المنكر نصف التركة، وشارك المقر له في النصف الآخر عند الحنفية. وأما عند المالكية فيأخذ المنكر نصيبه كاملاً، ويأخذ المقر له ما نقص من نصيب المقر على فرض أن التركة توزع على ثلاثة.
فلو كانت التركة (12) ديناراً مثلاً، أخذ المقر له على رأي الحنفية (3) دنانير كنصيب المقر، وعلى رأي المالكية أخذ دينارين ويكون للمنكر (6) ، وللمقر (4) لأن التركة توزع على ثلاثة، ففي حال عدم وجود المقر له يكون للمقر (6) ، وفي حال وجوده يكون له (4) ، فما نقص من نصيبه وهو (2) يأخذه المقر له.
وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث. وإن لم يصدقه الغير، ومات المقر، ورث منه المقر له، كباقي ورثته.
موقف القانون: نص القانون السوري على الإقرار بالنسب.
نصت المادة (1/134) على شرط كون المقر به مجهول النسب وشرط تصديق الحس، ونصها: الإقرار بالبنوة ولو في مرض الموت لمجهول النسب، يثبت به النسب من المقر إذا كان فرق السن بينهما يحتمل هذه البنوة.
والفقرة الثانية من هذه المادة نصت على حالة إقرار الزوجة:
2 - إذا كان المقر امرأة متزوجة أو معتدة، لا يثبت نسب الولد من زوجها إلا بمصادقته أو بالبينة.
ونصت المادة (135) على شرط تصديق الغير وشرط تصديق الحس أيضاً: إقرار مجهول النسب بالأبوة أو بالأمومة يثبت به النسب إذا صادقه المقر له، وكان فرق السن بينهما يحتمل ذلك.
ونصت المادة (136) على حالة الإقرار بنسب محمول على الغير: الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة لا يسري على غير المقر إلا بتصديقه.(10/20)
نوع البينة في إثبات النسب على الغير:
إثبات النسب على الغير كهذا أخي أو عمي قد يكون بالبينة، وهي عند أبي حنيفة ومحمد: إقرار رجلين أو رجل وامرأتين، كالشهادة.
ويرى مالك: أنه لا يثبت النسب على الغير إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، حتى ولو كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة. الفرق بين الإقرار بالنسب وبين التبني:
ليس الإقرار بالنسب هو التبني المعروف؛ لأن الإقرار لا ينشئ النسب وإنما هو طريق لإثباته وظهوره. أما التبني فهو تصرف منشئ لنسب. ولأن البنوة التي تثبت بالتبني تتحقق ولو كان للمتبنى أب معروف، أما البنوة التي تثبت بالإقرار فلا تتحقق إلا إذا لم يكن للولد أب معروف.(10/21)
الطريق الثالث ـ البينة:
البينة حجة متعدية لا يقتصر أثرها على المدعى عليه، بل يثبت في حقه وحق غيره، أما الإقرار فهو كما عرفنا حجة قاصرة على المقر لاتتعداه إلى غيره. وثبوت النسب بالبينة أقوى من الإقرار؛ لأن البينة أقوى الأدلة اليوم؛ لأن النسب وإن ظهر بالإقرار لكنه غير مؤكد، فاحتمل البطلان بالبينة.
ونوع البينة التي يثبت بها النسب كما سبق: هي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عند أبي حنيفة ومحمد. وشهادة رجلين فقط عند المالكية، وجميع الورثة عند الشافعية والحنابلة وأبي يوسف.
والشهادة تكون بمعاينة المشهود به أو سماعه، فإذا رأى الشاهد أو سمعه بنفسه، جاز له أن يشهد، وإذا لم يره أو يسمعه بنفسه، لا يحل له أن يشهد، لقوله صلّى الله عليه وسلم لشاهد: «ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد أو دع» (1) .
الشهادة بالتسامع لإثبات النسب:
التسامع: استفاضة الخبر واشتهاره بين الناس، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على جواز إثبات النسب بشهادة السماع، كما هو الشأن في الزواج أو الزفاف والدخول بالزوجة، والرضاع والولادة والوفاة (2) .
ودليلهم: أن هذه الأمور لا يطلع عليها إلا خواص الناس، فإذا لم تجز فيها الشهادة بالسماع، أدى إلى الحرج، وتعطيل الأحكام المترتبة عليها كالإرث وحرمة الزواج.
لكن اختلف الفقهاء في بيان المراد من التسامع، فقال أبو حنيفة: هو أن تتواتر به الأخبار ليحصل للسامع نوع من اليقين.
وقال الصاحبان: هو أن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو عدل وامرأتان واختار قولهما بعض الفقهاء، بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم ير المشهود به، أو يسمعه بنفسه. ويكفي الشاهد أن يقول: أشهد بكذا، ولا يقول: سمعت.
وتوسط المالكية فقالوا: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، بأن ينتشر المسموع به بين الناس العدول وغيرهم. واشترطوا أن يقول الشهود: سمعنا كذا، ونحوه.
وقال الشافعية في الأرجح، والحنابلة في الأصح مثل قول أبي حنيفة: شرط التسامع سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب، بحيث يحصل به العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا يكفي الشاهد بالاستفاضة أن يقول: سمعت الناس يقولون كذا، وإن كانت شهادته مبنية عليها، بل يقول: أشهد أنه له، أو أنه ابنه مثلاً؛ لأنه قد يعلم خلاف ما سمع من الناس.
__________
(1) رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو حديث واهٍ (سبل السلام: 130/4) .
(2) المبسوط: 111/16، البدائع: 266/6، الدسوقي: 198/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 448/4 ومابعدها، المغني: 161/9 ومابعدها.(10/22)
الفَصْلُ الثَّاني: الرّضاع
آثرت هنا بحث كل ما يتعلق بالرضاع من أحكام؛ لأن الباحث يرتاح له، فأوضحت حق الولد في الرضاع وما يستتبعه من أحكام، وهذا ما يتعلق بهذا الباب المخصص لحقوق الأولاد، ثم بحثت تأثير الرضاع في تحريم الزواج بسبب القرابة الناشئة عنه، وما يستلزمه من طرق إثبات الرضاع. فكان هذا الفصل مشتملاً على مباحث ثلاثة:
الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع.
الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم للزواج.
الثالث ـ ما يثبت به الرضاع.
علماً بأن أركان الرضاع في اصطلاح الجمهور غير الحنفية ثلاثة: وهي مرضع، ولبن، ورضيع.
المبحث الأول ـ حق الولد الصغير في الرضاع:
فيه مطالب أربعة عن وجوب الإرضاع على الأم، واستحقاق أجرة الرضاع، وتقديم الأم على المتبرعة بالرضاع، والمكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة.
المطلب الأول ـ هل يجب الإرضاع على الأم؟
اتفق فقهاء الإسلام على أن الرضاع واجب على الأم ديانة تسأل عنه أمام الله تعالى حفاظاً على حياة الولد، سواء أكانت متزوجة بأبي الرضيع، أم مطلَّقة منه وانتهت عدتها. واختلفوا في وجوبه عليها قضاء، أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا؟(10/23)
قال المالكية بالوجوب قضاء، فتجبر عليه، وقال الجمهور بأنه مندوب لا تجبر عليه، ولها أن تمتنع إلا عند الضرورة (1) ، ورضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه، سواء كانت من مرتبة أدنى أو شريفة، وسواء أكانت في حال الزوجية أم مطلقة. وجاء في المقدمات الممهدات لابن رشد المالكي: ويستحب للأم أن ترضع ولدها.
ومنشأ الخلاف: كيفية فهم المراد من قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة ... } إلىقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلَّمتم ما آتيتم بالمعروف} [سورة البقرة: 233/2] .
ذهب المالكية: إلى أنه يجب على الأم إذا كانت زوجة أو معتدة من طلاق رجعي إرضاع ولدها، فلو امتنعت من إرضاعه بدون عذر، أجبرها القاضي، إلا المرأة الشريفة لثراء أو حسب فلا يجب عليها الإرضاع إن قبل الولد الرضاع من غيرها، فهم فهموا من الآية أنها أمر لكل والدة زوجة أو غيرها بالرضاع، وهو حق عليها، واستثنوا الشريفة بالعرف القائم على المصلحة. ولا يجب الإرضاع أيضاً على المطلقة طلاقاً بائناً، لقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] فإن هذه الآية واردة في المطلقات طلاقاً بائناً.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 204/1-206، 1828/4، أحكام القرآن للجصاص: 403/1 ومابعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 929/2 ومابعدها، تفسير القرآن لابن كثير: 283/1، فتح القدير: 345/3، المغني: 627/7، البدائع: 40/4، القوانين الفقهية: ص 222، بداية المجتهد: 56/2، الشرح الصغير: 754/2، مغني المحتاج: 449/3.(10/24)
وقالوا: إن معنى قوله تعالى: {لاتضارّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده} [البقرة:233/2] أن الأم لا تأبى أن ترضعه إضراراً بأبيه، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من إرضاعه. وذلك كله عند الطلاق؛ لأن ذكر النهي عن الضرر جاء عند ذكر الطلاق، ولأن النفقة واجبة للمطلقة الرجعية لأجل بقاء النكاح في العدة، ولا تستوجب الأم زيادة على النفقة لأجل رضاعه. أما البائن فيجب لها أجر الرضاع بنص الآية السابقة.
وورد في صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق عليَّ وإلا طلقني، ويقول لك العبد: أطعمني واستعملني، ويقول لك ابنك: أنفق علي، إلى من تكلني؟!» .
وذهب الجمهور إلى أن الآية أمر ندب وإرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن، إلا إذا لم يقبل الولد ثدي غير الأم، بدليل قوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطلاق:6/65] وإنما ندب للأم إرضاع ولدها، لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر، ولأن الرضاع حق للأم، كما هو حق للوليد، ولا يجبر أحد على استيفاء حقه، إلا إذا وجد ما يستدعي الإجبار.
ويفهم منه أن الفقهاء اتفقوا على وجوب الإرضاع على الأم في ثلاث حالات وهي:
1ً - ألا يقبل الطفل الرضاع إلا من ثدي أمه، فيجب عندئذ إرضاعه إنقاذاً له من الهلاك، لتعين الأم، كما تجبر المرضعة على استدامة الإجارة بعد مضي مدتها، إذا لم يقبل ثدي غيرها.
2ً - ألا توجد مرضعة أخرى سواها، فيلزمها الإرضاع حفاظاً على حياته.
3ً - إذا عدم الأب لاختصاصها به، أو لم يوجد لأبيه ولا للولد مال لاستئجار مرضعة، فيجب عليها إرضاعه، لئلا يموت.
وأوجب الشافعية على الأم إرضاع اللَّبَأ: وهو اللبن النازل أول الولادة؛ لأن الولد لا يعيش بدونه غالباً، وغيرها لا يغني.(10/25)
استئجار المرضع: إذا امتنعت الأم عن الإرضاع في غير هذه الحالات، وجب على الأب أن يستأجر مرضعة وتسمى (ظئراً) لإرضاعه، محافظة على حياة الولد، وعلى الظئر المستأجرة أن ترضعه عند أمه؛ لأن الحضانة حق لها، وامتناعها عن الإرضاع لا يسقط حقها في الحضانة، لأن كلاً منهما حق مستقل عن الآخر.
فإن لم يستأجر الأب مرضعة، كان للأم أن تطالبه قضاء بدفع أجرة الرضاع، لتستأجر هي من ترضعه.
ولا يستأجر الأب ولو من مال الصغير أم الرضيع في حال الزوجية أو العدة من طلاق رجعي، ويجوز استئجارها إذا كانت بائناً في الأصح لدى الحنفية؛ لأن الأب في حال الزوجية والعدة قائم بنفقة الزوجة، ولا يجتمع عليه واجبان، وفي أخذها الأجرة من مال الصغير أخذ للأجرة على الواجب عليها ديانة، وهو الرضاع، أما بعد البينونة فلا تجبر الأم على إرضاع الولد قضاء، فساغ لها أخذ الأجرة على الرضاع في رواية صحيحة عند الحنفية وهي المعتمدة كما ذكر ابن عابدين، وفي رواية أخرى رجحها صاحب الهداية: لا أجرة لها؛ لأن لها النفقة في العدة.
المطلب الثاني ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع، ومدة الاستحقاق وبدء الاستحقاق:
أولاً ـ حالة استحقاق الأم أجرة الرضاع:
إذا أرضعت الأم ولدها بنفسها أو بإجبارها على الرضاع قضاء، فهل تستحق أجرة على الرضاع؟ في الأمر تفصيل وهو ما يأتي (1) :
1 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع عند الحنفية والشافعية والحنابلة في حال الزوجية أو أثناء العدة من الطلاق الرجعي؛ لأن الزوج مكلف بالإنفاق عليها، فلا تستحق نفقة أخرى مقابل الرضاع، حتى لا يجتمع عليه واجبان: النفقة والأجرة في آن واحد، وهو غير جائز لكفاية النفقة الواجبة على الزوج.
ووافق المالكية على هذا الرأي إذا كان الرضاع واجباً على الأم، وهو الحالة الغالبة، أما إن كان الرضاع غير واجب على الأم كالشريفة القدر، فإنها تستحق الأجرة على الرضاع.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 929/2 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: 1828/4 ومابعدها، أحكام القرآن للجصاص: 463/3، فتح القدير: 345/3، بداية المجتهد: 56/2.(10/26)
2 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع بالاتفاق بعد انتهاء الزوجية والعدة، أو في عدة الوفاة، لقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] فهي واردة في المطلَّقات، ولأنه لا نفقة للأم بعد الزوجية وفي عدة الوفاة.
3 - تستحق الأم الأجرة على الرضاع في عدة الطلاق البائن في الأصح عند بعض الحنفية، لأنها كالأجنبية، وكذا عند المالكية، لقوله تعالى: {فإن أرضعن
لكم، فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] فقد أوجب تعالى للمطلقات بائناً الأجرة على الرضاع، حتى لو كانت حاملاً ولها النفقة؛ لأن كلاً من النفقة وأجرة الرضاع وجب بدليل خاص به، فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر. وهذا هو المقرر في القانون السوري كما سأبين.
وذكر بعض الحنفية أن المفتى به عدم الفرق بين عدة الرجعي والبائن، فلا تستحق الأم أجرة الرضاع في الحالتين لوجوب النفقة لها مطلقاً، وهذا هو المعمول به في محاكم مصر.
والحاصل: أن المدار في استحقاق الأم أجرة الرضاع وعدم استحقاقها على وجوب الرضاع وعدم وجوبه عليها في رأي المالكية، وعلى وجوب النفقة للأم وعدم وجوبها لها في رأي الحنفية.
ثانياً ـ مدة الاستحقاق:
اتفق الفقهاء على أن مدة استحقاق الأجرة على الرضاع هي سنتان فقط، فمتى أتم الطفل حولين كاملين، لم يكن للمرضع الأم الحق في المطالبة بأجرة الرضاع (1) ، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/2] د لت الآية على أن الأب يلزم بنفقة الرضاع في مدة سنتين فقط.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 931/2، أحكام القرآن للجصاص: 404/1.(10/27)
ثالثاً ـ بدء الاستحقاق:
تستحق المرضع غير الأم المسماة ظئراً وكذا الأم بعد انتهاء الزوجية الأجرة على الرضاع من تاريخ العقد؛ لأنها مستأجرة للرضاع، فلا تستحق الأجرة إلا من يوم العقد.
وأما الأم المرضع في حال قيام الزوجية أو أثناء العدة من طلاق رجعي، فتستحق الأجرة بالإرضاع في المدة مطلقاً بلا عقد إجارة، في رأي المالكية، وأما في رأي الحنفية على الراجح فمن تاريخ قيامها بالإرضاع. وقيل عند الحنفية: من وقت طلبها الأجر. ولا تسقط الأجرة بموت الأب، بل تكون دائنة له أسوة بغرمائه، فليست الأجرة نفقة وإنما هي دين يستحق في التركة، إذ لو كانت نفقة لسقطت بموته، كما تسقط بالموت نفقة الزوجة والقريب ولو بعدا لقضاء، ما لم تكن مستدانة بأمر القاضي (1) . وإذا لم يكن للرضيع أب وجبت الأجرة على من يلي الأب في الإنفاق عليه.
المطلب الثالث ـ التفضيل بين الأم والمتبرعة بالرضاع:
اتفق الفقهاء على أن الأم تقدم في الإرضاع إذا أرضعت ولدها بدون أجر، أو لم تطلب زيادة على ما تأخذه الأجنبية ولو دون أجر المثل، أو لم توجد مرضعة إلا بأجر، رعاية لمصلحة الصغير بسبب كون الأم أكثر حناناً وشفقة عليه من غيرها، ولأن في منع الأم من إرضاع ولدها إضراراً بها، وهو لا يجوز، لقوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233/2] دل النص على أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين (2) .
فإن وجدت متبرعة بالإرضاع، وطلبت الأم الأجر، أو وجدت مرضعة بأجر أقل مما تأخذه الأم، كانت الأم عند المالكية والحنابلة هي الأحق من غيرها بأجر المثل، لإطلاق الآية السابقة: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/2] وآية:
__________
(1) ابن عابدين، المكان السابق.
(2) الجصاص، المكان السابق.(10/28)
{والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/2] ولأنها أحنى وأشفق على الولد من الأجنبية، ولبنها أمرأ من لبن غيرها.
وتقدم الأجنبية في رأي الحنفية والشافعية في الأظهر (1) حينئذ، سواء أكان الأب موسراً أم معسراً؛ رفقاً بالأب ودفعاً للضرر عنه، لقوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده} [البقرة:233/2] أي بإلزامه لها أكثر من أجرة الأجنبية، وقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} [البقرة:233/2] .
ويقال للأم حينئذ: إما أن ترضعيه متبرعة، أو بمثل الأجرة التي تطالب بها غيرك، وإما أن تسلميه لها.
وإذا سلمته الأم لأجنبية بقي لها حق الحضانة، فإما أن ترضعه المرضعة عند الأم، وإما أن ترضعه في بيتها، ثم ترده إلى الأم.
المطلب الرابع ـ المكلف بأجرة الرضاع ومقدار الأجرة:
الأب: هو المكلف بأجرة الرضاع؛ لأنه هو الملزم بالنفقة على الولد، وتكون أجرة الرضاع على من تجب عليه النفقة، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] .
وعلى الأب خمس نفقات للولد الصغير: أجرة الرضاع، وأجرة الحضانة، ونفقة المعيشة من صابون ودهن وفرش وغطاء، وأجرة مسكن الحضانة الذي تحضنه فيه الأم، وأجرة خادم له إن احتاج إليه.
وتلزم الأب نفقة الصغير وإن خالفه في دينه، كما تجب نفقة الزوجة على الزوج، وإن خالفته في دينه، للآيات السابقة، وكما سأبين.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 930/2، فتح القدير: 345/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 450/3، المغني: 627/7 وما بعدها.(10/29)
لكن إلزام الأب بالنفقة بأنواعها إذا لم يكن للصغير مال، فإن كان له مال، فالأصل أن نفقة الإنسان في مال نفسه، صغيراً كان أو كبيراً (1) . فإن كان الأب فقيراً ولم يكن للصغير مال أجبرت الأم في رأي الحنفية على إرضاعه، وتكون الأجرة ديناً على الأب يطالب بها عند يساره. وتجبر الأم على الرضاع في رأي المالكية وليس لها الرجوع بالأجرة على الأب إذا أيسر.
واجب المرضع: وأما المرضع فلا تكلف بشيء سوى الإرضاع، وما يوجبه عليها العرف كإصلاح طعام الولد وحفظه وغسله وغسل ثيابه؛ لأن خدمة الصغير واجب عليها؛ لأن العرف معتبر فيما لا نص فيه. فإن أرضعته بلبن شاة فلا أجر لها؛ لأنها لم تأت بالعمل الواجب عليها، وهو الإرضاع، وهذا العقد إيجار، وليس بإرضاع، وهو غير ما وقع عليه عقد الإجارة (2) .
مقدار الأجرة: الأجرة التي تستحقها الأم هي أجرة المثل: وهي التي تقبل امرأة أخرى أن ترضع الولد في مقابلها. وتقديرها متروك للقاضي، فلو طلبت الأم أكثر من أجر المثل لا تجاب إلى طلبها.
موقف القانون السوري من أجرة الرضاع:
نصت المادة (1/152) على المكلف بأجرة الرضاع، ولكن في سن الرضاع، لا بعد الفطام:
1 - أجرة رضاع الولد، سواء أكان الرضاع طبيعياً أم اصطناعياً على المكلف بنفقته، ويعتبر ذلك في مقابل غذائه.
ونصت الفقرة الثانية من هذه المادة على حالة عدم استحقاق الأم أجرة الرضاع:
2 - لا تستحق الأم أجرة الرضاع حال قيام الزوجية، أو في عدة الطلاق الرجعي.
والمعنى بالمفهوم أنها تستحق أجرة الرضاع بعد انتهاء الزوجية وانقضاء العدة مطلقاً، وفي عدة الطلاق البائن، وفي عدة الوفاة.
__________
(1) فتح القدير: 346/3، حاشية ابن عابدين: 931/2.
(2) تبيين الحقائق: 129/5، البدائع: 41/4.
ونصت المادة (153) على الأخذ برأي الحنفية، ولكن في حالة إعسار الأب فقط بتقديم المتبرعة بالرضاع على الأم، وهو المعقول، ونص المادة هو: «المتبرعة أحق بالإرضاع إن طلبت الأم أجرة، وكان الأب معسراً، على أن يكون الإرضاع في بيت الأم» .
ولكن في الحضانة تقدم الأم إذا كان الأب موسراً، ولو طلبت أجراً أكثر، وسبب التفريق بين الحضانة والرضاع: أن الرضاع أمر مادي يقصد به التغذية ونمو الجسد، أما الحضانة فتتطلب حناناً وشفقة، والأم أحن وأشفق من غيرها.(10/30)
المبحث الثاني ـ شروط الرضاع المحرِّم للزواج عند الفقهاء:
اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط الستة الآتية (1) :
1ً - أن يكون لبن امرأة آدمية، سواء أكانت عند الجمهور بكراً أم متزوجة أم بغير زوج: فلا تحريم بتناول غير اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم أو قيح، ولا بلبن الرجل أو الخنثى المشكل أو البهيمة، فلو رضع صغيران من شاة مثلاً، لم يثبت بينهما أخوة، فيحل زواجهما؛ لأن الأخوة فرع الأمومة، فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. واشترط الحنابلة أن يكون بلبن امرأة ثار لها لبن من الحمل، فلو طلق رجل زوجته وهي ترضع من لبن ولده، فتزوجت بصبي رضيع، فأرضعته، حرمت عليه؛ لأن الرضيع يصير ابناً للرجل الذي ثار اللبن بوطئه.
واشترط الشافعية في المرأة أن تكون حيَّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها، بلغت تسع سنين قمرية تقريباً، وإن لم يحكم ببلوغها بذلك، فلا تحريم برضاع المرأة الميتة والصغيرة، أي أن لبن الميتة والصغيرة لا يحرم. لكن لو حلبت المرأة لبنها قبل موتها، وشربه الطفل بعد موتها، حرم في الأصح، لانفصاله منها، وهو حلال محترم.
ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، فلبن الميتة، والصغيرة التي لم تطق الوطء، إن قدر أن بها لبناً، يحرِّم؛ لأنه ينبت اللحم، ولأن اللبن لا يموت.
__________
(1) البدائع: 5/4-13، القوانين الفقهية: ص 206 وما بعدها، مغني المحتاج: 414/3-419، كشاف القناع: 515/5 ومابعدها، الشرح الصغير: 719/2-721، المغني: 537/7-547، بداية المجتهد: 34/2-39.(10/31)
2- أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع، سواء بالامتصاص من الثدي، أم بشربه من الإناء أو الزجاجة. وهذا شرط عند الحنفية، فإن لم يتحقق
من الوصول إلى المعدة بأن التقم الثدي، ولم يعلم أرضع أم لا، فلا يثبت التحريم، للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع، والأحكام لا تثبت بالشك.
واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقاً أو ظناً أو شكاً إلى الجوف من الفم برضاع الصغير، فيثبت التحريم ولو مع الشك، عملاً بالاحتياط، ولا يثبت التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط. واشترط الشافعية والحنابلة وجود خمس رضعات متفرقات، والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف، ولايشترط كونها مشبعة، ولا بد من وصول اللبن إلى الجوف.
3 - أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف: فقد اتفق أئمة المذاهب على أن التحريم يحصل بالوجور (وهو صب اللبن في الحلق) لحصول التغذية به كالارتضاع، وبالسَّعُوط (وهو صب اللبن في الأنف ليصل الدماغ) لحصول التغذي به؛ لأن الدماغ جوف له كالمعدة، بل لا يشترط التغذي بما وصل من منفذ عال، بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم.
ولا يحصل التحريم عند الحنفية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة في منصوص أحمد بالحقنة، أو بتقطير اللبن في العين أو الأذن أو الجرح في الجسم؛ لأن هذا ليس برضاع ولا في معناه، فلم يجز إثبات حكمه فيه، ولانتفاء التغذي.
وقال المالكية: يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء، لا مجرد وصول اللبن للجوف عن طريق الحقنة. وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال، فلا يشترط فيه الغذاء، وما وصل من منفذ سفلي ونحوه فيشترط فيه التغذي.(10/32)
4ً - ألا يخلط اللبن بغيره: وهذا شرط عند الحنفية والمالكية. فإن خلط بمائع آخر، فالعبرة عند الحنفية والمالكية للغالب، فإن غلب اللبن حرَّم، وإن غلب غير اللبن عليه، حتى لم يبق له عند المالكية طعم ولا أثر مع الطعام ونحوه، فلا يحرم؛ لأن الحكم للأغلب، ولأنه بالخلط يزول الاسم والمعنى المراد به، وهو التغذي، فلا يثبت به الحرمة. ولافرق عند المالكية بين الخلط بالمائع أو بالطعام.
واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب (المختلط بغيره) كاللبن الخالص الذي لا يخالطه سواه، سواء شيب بطعام أوشراب أو غيره، لوصول اللبن إلى الجوف، وحصوله في بطنه.
ورأى أبو حنيفة خلافاً للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام لا يحرم عنده بحال سواء أكان غالباً أم مغلوباً؛ لأن الطعام وإن كان أقل من اللبن، فإنه يسلب قوة اللبن ويضعفه، فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي، فكان اللبن مغلوباً معنى، وإن كان غالباً صورة.
وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى: فالحكم للغالب عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن تساويا ثبت التحريم من المرأتين جميعاً للاختلاط.
وقال المالكية ومحمد وزفر: يثبت التحريم من المرأتين جميعاً، سواء تساوى مقدار اللبنين أوغلب أحدهما الآخر، وهذا هو الراجح لدي؛ لأن اللبنين من جنس واحد، والجنس لا يغلب الجنس.
5 - أن يكون الرضاع في حال الصغر باتفاق المذاهب الأربعة: فلا يحرم رضاع الكبير: وهو من تجاوز السنتين.
وقال داود الظاهري: إن رضاع الكبير يحرم، وكانت عائشة ترى أن رضاعة الكبير تحرم، لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: «يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً، فكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فُضْلى (1) ، وقد
__________
(1) فضْلى وفضلاً: أي متبذلة في ثياب مهنتي.(10/33)
أنزل الله فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليه» (1) ، فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها، وبناء عليه كانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها، ويدخل عليها، وإن كان كبيراً خمس رضعات (2) .
واستدل الجمهور على اشتراط كون الرضاع في حال الصغر بما يأتي:
أولاً ـ بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/2] فإنه تعالى جعل تمام الرضاعة في الحولين، فأفهم أن الحكم بعد الحولين بخلافه. وقال تعالى: {وفصاله في عامين} [لقمان:14/31] أي فطامه، فدل على أن أكثر مدة الرضاع المعتبرة شرعاً سنتان.
ثانياً ـ بخبر: «لا رضاع إلا ماكان في الحولين» (3) وخبر: «لا يحرِّم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» (4) وخبر «لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام» (5) . وقال الشافعي رضي الله عنه عن حديث سهلة: إنه رخصة خاصة بسالم، وكذلك قال الحنابلة وغيرهم، جمعاً بين الأدلة.
ثبت عن عائشة أنها قالت: «دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي رجل، فقال: من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، قال: يا عائشة، انظُرن من إخوانكُنّ، فإنما
__________
(1) رواه أحمد ومسلم عن زينب بنت أم سلمة (نيل الأوطار: 313/6) .
(2) قيل: إن هذا رخصة لسهلة، وما روي عن عائشة لا يتفق مع نزاهتها ومكانتها الدينية التي تأبى عليها أساليب الاحتيال، أو أنها تحلب الحليب من ثديها ثم تعطيه له.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عباس (نيل الأوطار: 315/6) .
(4) رواه الترمذي وصححه عن أم سلمة (المرجع السابق) .
(5) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن جابر (المرجع السابق) .(10/34)
الرضاعة من المجاعة» (1) وعن ابن مسعود: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» (2) .
والتزم الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بظاهر هذه الأدلة، فشرطوا أن يكون الرضاع في مدة الحولين الأولين من العمر، بالأشهر القمرية، ولو بعد الفطام؛ لأن حديث «فإنما الرضاعة من المجاعة» يراد به الرضاع الذي يكون في سن المجاعة، كيفما كان الطفل، وهو سن الرضاع، فلو ارتضع الطفل بعدهما بلحظة، ولو بعد فطامه، لم يثبت التحريم؛ لأن شرطه وهو كونه في الحولين لم يوجد، وإن حصل الرضاع في أثناء الحولين، ولو بعد الفطام، ثبت به التحريم؛ لأن الرضاع في وقته عرف محرِّماً في الشرع. ويكون انتهاء الحولين من تمام انفصال الرضيع، فإن ارتضع قبل تمامه لم يؤثر. هذا الرأي هو الراجح لقوة الأدلة التي استندوا إليها.
وأضاف الإمام مالك مدة شهرين على الحولين؛ لأن الطفل قد يحتاج إلى هذه المدة لتحويل غذائه إلى الطعام. لكن إن فطم الولد عن اللبن، واستغنى بالطعام استغناء بيِّناً ولو في الحولين، أو لم يوجد له مرضع في الحولين، فاستغنى بالطعام أكثر من يومين وما أشبههما، فأرضعته امرأة، فلا يحرم، لأن مفهوم الحديث: «فإنما الرضاعة من المجاعة» يدل على أن الطفل غير مفطوم، فإن فطم في بعض الحولين، لم يكن رضاعاً من المجاعة.
وأضاف الإمام أبو حنيفة أيضاً مدة نصف سنة على الحولين، فتكون مدة الرضاعة عنده ثلاثين شهراً، لاحتياج الطفل إلى هذه المدة للتدرج من اللبن إلى الطعام المعتاد، لكن إن استغنى بالفطام عن اللبن استغناء تاماً، لم يكن ذلك
__________
(1) رواه الجماعة إلا الترمذي عن عائشة (المرجع السابق: ص 316) .
(2) نيل الأوطار: 316/6، سبل السلام: 214/3.(10/35)
رضاعاً؛ لأنه لا رضاع بعد الفطام، وإن فطم الطفل فأكل أكلاً ضعيفاً لا يستغنى به عن الرضاع، ثم عاد فأرضع، كما يرضع أولاً في الثلاثين شهراً، فهو رضاع محرم، كما يحرم رضاع الصغير الذي لم يفطم، ويحمل الحديث السابق: «لا رضاع بعد فصال» على الفصال المعتاد المتعارف. واستدل للإمامين مالك وأبي حنيفة بقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة} .. {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما} [البقرة:2 /233] فالآية في نهايتها تدل على أن للوالدين الخيار في فطم الطفل عند تمام الحولين. والتحديد بالحولين في مقدم الآية إنما هو لبيان المدة التي يجوز فيها للأم المطلَّقة أن تأخذ فيها أجراً على الرضاع.
وأجيب عنه بأن الفطام الذي يحتاج إلى المشاورة والتراضي بين الوالدين هو الذي يكون قبل تمام الحولين، فإن استمر الرضاع بعد الحولين لضعف الطفل، فلا مانع منه للحاجة، ولكن لا يترتب عليه أحكامه من التحريم وأخذ الأم المطلقة أجراً عليه.(10/36)
6 - أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعداً: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة، والمعتبر في الرضعة العرف، فلو انقطع الطفل عن الرضاع إعراضاً عن الثدي تعدد الرضاع، عملاً بالعرف، ولو انقطع للتنفس أو الاستراحة أو الملل أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو من امرأة إلى أخرى أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراء ما جمعه من اللبن في فمه، وعاد في الحال، فلا تعدد، بل الكل رضعة واحدة. وإن رضع أقل من خمس رضعات فلا تحريم، وإن شك في عدد الرضعات بني على اليقين؛ لأن الأصل عدم وجود الرضاع المحرم، لكن في حالة الشك الترك أولى، لأنه من الشبهات. واستدلوا بأدلة ثلاثة: أولها ـ ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن» (1) أي يتلى حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه. لكن قيل عنه: إنه مضطرب.
ثانيها ـ إن علة التحريم بالرضاع هي شبهة الجزئية التي تحدث باللبن الذي ينبت اللحم وينشز العظم، أي ينميه ويزيده، وهذا لا يتحقق إلا برضاع يوم كامل على الأقل، وهو خمس رضعات متفرقات.
ثالثها ـ حديث «لا تحرم المصة والمصتان» وفي رواية «لا تحرم المصة والمصتان، ولا الإملاجة والإملاجتان» (2) .
وقال المالكية والحنفية: الرضاع المحرم يكون بالقليل والكثير، ولو بالمصة الواحدة، للأدلة الثلاثة التالية:
أولها ـ عموم قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النساء:23/4] فإنه علَّق التحريم بالإرضاع من غير تقدير بقدر معين، فيعمل به على إطلاقه.
ثانيها ـ حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (3) فإنه ربط التحريم بمجرد الرضاع، ويؤكده آثار عن بعض الصحابة، روي عن علي وابن مسعود وابن عباس أنهم قالوا: قليل الرضاع وكثيره سواء.
ثالثها ـ إن الرضاع فعل يتعلق به التحريم، فيستوي قليله وكثيره؛ لأن شأن الشارع إناطة الحكم بالحقيقة مجردة عن شرط التكرار والكثرة، وتتحقق جزئية الرضيع من المرضعة بالقليل والكثير.
ويعمل بهذا الرأي في مصر وليبيا، ويعمل في سورية بالرأي الأول، وهو الراجح، لما فيه من توسعة وتيسير على الناس.
__________
(1) نصب الراية: 218/3.
(2) روى مسلم الحديث الأول، وروى ابن حبان في صحيحه الحديث الثاني عن عائشة (نصب الراية: 317/3) . سبل السلام: 213/3) .
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ومن حديث عائشة، ورواه أحمد والترمذي وصححه عن الإمام علي رضي الله عنه بلفظ «إن الله حرَّم من الرضاع ما حَرَّم من النسب» (نصب الراية: 218/3، نيل الأوطار: 217/6-218) .(10/37)
المبحث الثالث ـ ما يثبت به الرضاع:
يثبت الإرضاع بأحد أمرين: الإقرار والبينة (1) .
1 - أما الإقرار: فهو عند الحنفية اعتراف الرجل والمرأة معاً أو أحدهما بوجود الرضاع المحرم بينهما.
فإذا أقر الرجل والمرأة بالرضاع قبل الزواج، بأن اعترفا بأنهما أخوان من الرضاع، فلا يحل لهما الإقدام على الزواج، وإن تزوجا كان العقد فاسداً، ولم يجب للمرأة شيء من المهر.
وإن كان الإقرار بعد الزواج وجب عليهما الافتراق، فإن لم يفترقا اختياراً، فرق القاضي بينهما جبراً؛ لأنه تبين فساد العقد، ويجب للمرأة الأقل من المسمى ومهر المثل.
ب ـ وإذا كان الإقرار من جانب الرجل وحده، كأن يقول: هي أختي أو أمي أو بنتي في الرضاع: فإن كان الإقرار قبل الزواج، فلا يحل له التزوج بها. وإن كان بعد الزواج، وجب عليه أن يفارق المرأة، فإن لم يفارقها اختياراً، وجب على
__________
(1) البدائع: 14/4، القوانين الفقهية: ص 207، مغني المحتاج: 423/3-425، المغني: 558/7-562، الشرح الصغير: 725/2-727.(10/38)
القاضي أن يفرق بينهما جبراً، ويكون للمرأة في التفريق قبل الدخول نصف المهر المسمى، وبعد الدخول يكون لها جميع المهر المسمى، ولها النفقة والسكنى في العدة؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر لايتعداه إلى غيره إلا إذا صدقه الغير، أو ثبتت بالبينة صحة الإقرار، ولكن لا يبطل حقها بالمهر والنفقة والسكنى.
جـ ـ وإذا كان الإقرار من جانب المرأة وحدها: فإن كان قبل الزواج، فلا يحل لها أن تتزوجه، ولكن يحل له أن يتزوجها إذا وقع في قلبه كذبها على المفتى به؛ لأن الطلاق له لا لها، والإقرار حجة قاصرة على المقر، ويحتمل أن يكون إقرارها لغرض خفي في نفسها.
وإن كان الإقرار منها بعد الزواج، فلا يؤثر الإقرار على صحة الزواج إلا إذا صدقها الزوج فيه.
ويجوز للمقر الرجوع عن إقراره مالم يشهد على إقراره، سواء قبل الزوج أم بعده، بأن يقول: كنت واهماً أو ناسياً، لاحتمال أنه أقر بناء على إخبار غيره، ثم تبين له كذبه. فإن أشهد على إقراره، لم يقبل منه الرجوع بعدئذ، لوجود التناقض بين إقراره ورجوعه.
ويثبت الرضاع عند المالكية بإقرار الزوجين معاً، أو باعتراف أبويهما، أوباعتراف الزوج المكلف وحده ولو بعد العقد؛ لأن المكلف يؤخذ بإقراره، أو باعتراف الزوجة فقط إذا كانت بالغاً قبل العقد عليها، لا إن أقرت بعده، ويفسخ الزواج بينهما في كل هذه الأحوال.
فإن حصل الفسخ قبل الدخول بها فلا شيء لها، إلا أن يقر الزوج فقط بعد العقد، فأنكرت، فلها نصف المهر (1) .
__________
(1) هذه إحدى المسائل الثلاث المستثنيات من قاعدة، كل عقد فسخ قبل الدخول، لا شيء فيه إلا نكاح الدرهمين، وفرقة المتلاعنين، وفسخ المتراضعين.(10/39)
وإن حدث الفسخ بعد الدخول بها، فلها المهر المسمى جميعه، إلا إذا علمت المرأة بالرضاع قبل الدخول، ولم يعلم هو، فلها ربع دينار بالدخول. وليس لها نفقة ولا سكن.
ويقبل إقرار أحد أبوي صغير، بأن أقر أبوه أو أمه بالرضاع قبل العقد عليه فقط، فلا يصح العقد بعد الإقرار.
ولا يصح الرجوع عن الإقرار، سواء أصر المقر على إقراره أم لم يصر.
ويشترط لصحة الإقرار عند الشافعية رجلان، فلا يثبت بإقرار غيرهما، لاطلاع الرجال عليه غالباً.
ولو قال الرجل: هند بنتي أو أختي برضاع، أو قالت المرأة: هو أخي، حرم تناكحهما، لأنه يؤاخذ كل منهما بإقراره.
ولو قال زوجان: بيننا رضاع محرِّم، فرِّق بينهما، وسقط المهر المسمى، ووجب مهر المثل إن حدث الوطء.
وإن ادعى الزوج رضاعاً محرِّماً، فأنكرت زوجته ذلك؛ انفسخ النكاح وفرق بينهما، ولها إن وطئ المهر المسمى إن كان صحيحاً، وإلا فمهر المثل، لاستقراره بالدخول. فإن لم يطأ فلها نصف المهر، لورود الفرقة منه، ولا يقبل قوله عليها، وله تحليفها قبل الدخول، وكذا بعد الدخول إن كان المسمى أكثر من مهر المثل. وإن نكلت عن اليمين حلف الزوج ولزمه مهر المثل فقط بعد الوطء، ولا شيء لها عليه قبله.
وإن ادعت الزوجة الرضاع، فأنكر الزوج ذلك، صدق بيمينه إن زوِّجت برضاها، وإلا بأن زوجت بغيررضاها، فالأصح تصديقها بيمينها. ولها في الحالين مهر مثلها إن وطئت جاهلة بالرضاع. وقال الحنابلة: إن أقر الزوج قبل الدخول بالرضاع المحرِّم، بأن قال: هي أختي من الرضاعة، انفسخ النكاح، كما قال الشافعية. فإن صدقته المرأة فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر.
وإن أقرت المرأة بأن زوجها أخوها من الرضاع، فكذبها، لم يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها لاتستحقه.
وإن كان بعد الدخول، فأقرت بعلمها بالرضاع وبتحريمها عليه، فلا مهر لها أيضاً، لإقرارها بأنها زانية مطاوعة.
وإن أنكرت شيئاً من ذلك، فلها المهر؛ لأنه وطء بشبهة، وهي زوجته في ظاهر الحكم؛ لأن قولها عليه غير مقبول.(10/40)
2 - وأما البينة: فهي الشهادة، وهي الإخبار في مجلس القضاء بحق الشخص على الغير.
وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على ثبوت الرضاع بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين من أهل العدالة.
واختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة رجل واحد، أو امرأة واحدة، أو أربع من النساء.
فقال الحنفية: لا تقبل هذه الشهادات، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين» وكان قوله بمحضر من الصحابة، ولم ينكر أحد، فكان هذا إجماعاً، ولأن الرضاع مما يطلع عليه الرجال، فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد، كالشهادة في الدخول. وقال المالكية: لا يثبت الرضاع قبل العقد بشهادة امرأة فقط ولو فشا منها أومن غيرها الرضاع، إلا أم الصغير، فتقبل شهادتها، مع الفشو، ولا يصح العقد معه.
ويثبت الرضاع بشهادة رجل وامرأة أو بشهادة امرأتين إن فشا الرضاع منهما أو من غيرهما بين الناس، قبل العقد. ولا تشترط مع الفشو عدالة على الأرجح. وإنما اشترط لقبول هذه الشهادة: الإظهار قبل الزواج، لإبعاد التهمة عن الشاهد بهذه الشهادة.
وقال الشافعية: يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة، لاختصاص النساء بالاطلاع عليه غالباً كالولادة، ولا يثبت بدون أربع نسوة، إذ كل امرأتين بمثابة رجل.
وتقبل شهادة المرضعة مع غيرها، إن لم تطلب أجرة عن رضاعها، ولا ذكرت فعلها، بل شهدت أن بينهما رضاعاً محرِّماً؛ لأنها لا تريد بهذه الشهادة نفعاً ولا تدفع ضرراً. أما إذا طلبت الأجرة فلا تقبل شهادتها؛ لأنها متهمة.
وتقبل شهادة أم الزوجة وبنتها مع غيرهما حسبة بلا تقدم دعوى، ومن المتفق عليه أن الرضاع مما تقبل فيه شهادة الحسبة، فلا تتوقف على الدعوى، لأنه يتضمن الحرمة، وهي من حقوق الله تعالى، كما تقبل الشهادة على الطلاق حسبة دون تقدم دعوى.(10/41)
الفَصْلُ الثَّالث: الحَضانة أو كَفالة الطّفل
يتضمن ستة مباحث هي:
الأول ـ معنى الحضانة وحكمها وصاحب الحق فيها.
الثاني ـ ترتيب درجات الحواضن أو مستحقي الحضانة من النساء والرجال.
الثالث ـ شروط استحقاق الحضانة أو شروط المحضون والحاضنة.
الرابع ـ أجرة الحضانة وتوابعها من السكنى والخدمة.
الخامس ـ مكان الحضانة والانتقال بالصغير إلى بلد آخر، وحق غير الحاضنة بزيارته.
السادس ـ مدة الحضانة، وما يترتب على انتهائها من ضم الولد لأبيه.
وبحثها يأتي تباعاً على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ معنى الحضانة وحكمها وصاحب الحق فيها:
معنى الحضانة: الحضانة لغة مأخوذة من الحِِضن: وهو الجنب، وهي الضم إلى الجنب. وشرعاً: هي تربية الولد لمن له حق الحضانة. أو هي تربية وحفظ من لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه، كطفل وكبير مجنون. وذلك برعاية شؤونه وتدبير طعامه وملبسه ونومه، وتنظيفه(10/42)
وغسله وغسل ثيابه في سن معينة ونحوها (1) .
والحضانة نوع ولاية وسلطنة، لكن الإناث أليق بها؛ لأنهن أشفق وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال. فإذا بلغ الطفل سناً معينة، كان الحق في تربيته للرجل؛ لأنه أقدر على حمايته وصيانته وتربيته من النساء.
وحكمها: أنها واجبة؛ لأن المحضون يهلك بتركها، فوجب حفظه من الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك (2) .
وتتطلب الحضانة الحكمة واليقظة والانتباه والصبر والخلق الجم، حتى إنه يكره للإنسان أن يدعو على ولد أثناء تربيته، كما يكره أن يدعو على نفسه وخادمه وماله (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب له» (4) ، وروى أبو موسى عن ابن عباس: «أن أوس بن عبادة الأنصاري دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي بنات، وأنا أدعو عليهن بالموت، فقال: يا ابن ساعدة، لا تدعو عليهن، فإن البركة في البنات، هن المجملات عند النعمة، والمعينات عند المصيبة، والممرضات عند الشدة، ثقلهن على الأرض، ورزقهن على الله» (5) .
__________
(1) البدائع: 40/4، الشرح الصغير: 756/2، مغني المحتاج: 452/3، كشاف القناع: 576/5. (2) المغني: 612/7، غاية المنتهى: 249/3، كشاف القناع: 576/5.
(3) مغني المحتاج: 464/3.
(4) رواه مسلم في كتابه، وأبو داود عن جابر بن عبد الله.
(5) ذكره في مغني المحتاج: 464/3.(10/43)
وأما صاحب الحق في الحضانة: فمختلف فيه بين الفقهاء (1) ، فقيل: إن الحضانة حق للحاضن، وهو رأي الحنفية، والمالكية على المشهور وغيرهم؛ لأن له أن يسقط حقه ولو بغير عوض، ولو كانت الحضانة حقاً لغيره لما سقطت بإسقاطه.
وقيل: إنها حق للمحضون، فلو أسقطها هو سقطت.
والظاهر لدى العلماء المحققين أن الحضانة تتعلق بها ثلاثة حقوق معاً: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن أمكن التوفيق بين هذه الحقوق وجب المصير إليه، وإن تعارضت، قدم حق المحضون على غيره. وتفرع عن ذلك الأحكام الآتية (2) :
1ً - تجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعينت عليها، بأن لم يوجد غيرها.
2ً - لا تجبر الحاضنة على الحضانة إذا لم تتعين عليها؛ لأن الحضانة حقها، ولا ضرر على الصغير لوجود غيرها من المحارم.
3ً - إذا اختلعت المرأة من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج، فالخلع عند الحنفية صحيح والشرط باطل؛ لأن هذا حق الولد، أن يكون عند أمه ما دام محتاجاً إليها.
4ً - لا يصح للأب أن يأخذ الطفل من صاحبة الحق في الحضانة، ويعطيه لغيرها إلا لمسوغ شرعي.
5ً - إذا كانت المرضعة غير الحاضنة للولد، فعليها إرضاعه عندها كما تقدم؛ حتى لا يفوت حقها في الحضانة.
المبحث الثاني ـ ترتيب درجات الحواضن أو مستحقي الحضانة:
قدم الفقهاء الحواضن بعضهن على بعض بحسب مصلحة المحضون، فجعلوا الإناث أليق بالحضانة؛ لأنهن أشفق، وأهدى إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال، كما تقدم، ثم قدموا في الجنس الواحد من كان أشفق وأقرب، ثم الرجال العصبات المحارم، واختلفوا أحياناً في ترتيب الدرجات بحسب ملاحظة المصلحة، على النحو التالي علماً بأن مستحقي الحضانة إما إناث فقط، وإما ذكور فقط، وإما الفريقان، وذلك في سن معينة، فإذا انتهت تلك السن، كان الرجال أقدر على تربية الطفل من النساء (3) .
أولاً ـ من النساء:
1 - الأم أحق بحضانة الولد بعد الفرقة بطلاق أو وفاة بالإجماع لوفور شفقتها، إلا أن تكون مرتدة أو فاجرة فجوراً يضيع الولد به كزنا وغناء وسرقة ونياحة، أو غير مأمونة، بأن تخرج كل وقت، وتترك الولد ضائعاً.
ودليل تقديم الأم من السنة: ما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 871/2، 875، القوانين الفقهية: ص 225، الشرح الصغير: 763/2.
(2) الأحوال الشخصية للأستاذ الشيخ عبد الرحمن تاج: ص 457، وللأستاذ الشيخ زكي الدين شعبان: ص 614.
(3) البدائع: 41/4-44، الدر المختار: 871/2 وما بعدها، 877 وما بعدها، فتح القدير: 313/3-318، الكتاب مع اللباب: 101/3-103، القوانين الفقهية: ص 224، الشرح الصغير: 756/2 وما بعدها، المهذب: 169/2-171، مغني المحتاج: 452/3-454، كشاف القناع: 576/5 وما بعدها، غاية المنتهى: 249/3، المغني: 613/7، 619-624.(10/44)
وحِجري له حواء (1) ، وإن أباه طلّقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «من فرَّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (3) .
وروي أن عمر بن الخطاب طلَّق زوجته أم عاصم، ثم أتى عليها وفي حِجرها عاصم، فأراد أن يأخذه منها، فتجاذباه بينهما حتى بكى الغلام، فانطلق إلى أبي بكر رضي الله عنهم، فقال له أبو بكر: «مسحها وحجرها وريحها خير له منك، حتى يشب الصبي فيختار لنفسه» (4) .
2 - ثم أم الأم (الجدة الأم) لمشاركتها الأم في الإرث والولادة، ثم عند الحنفية، والشافعية في الجديد: أم الأب، لمشاركتها أم الأم في المعنى السابق، ثم أم أبي الأب، ثم أم أبي الجد للمعنى نفسه. وأخَّر المالكية أم الأب بعد الخالة وعمة الأم.
وقدم الحنابلة الأب ثم أمهاته بعد الجدة لأم، ثم الجد، ثم أمهاته.
3 - ثم الأخت عند الحنفية والشافعية والحنابلة ـ أخت المحضون الشقيقة، ثم عند الحنفية والحنابلة والمالكية الأخت لأم؛ لأن الحق من قبلها، ثم الأخت لأب، وعكس الشافعية فقدموا في الأصح الأخت لأب على الأخت لأم، لاشتراكها مع المحضون في النسب، ولقوة إرثها، فإنها قد تصير عصبة، ثم بنات الأخت الشقيقة، ثم لأم.
__________
(1) الحواء: المكان الذي يضم الشيء ويجمعه.
(2) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصحح إسناده.
(3) رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي أيوب وهو صحيح.
(4) رواه ابن أبي شيبة.(10/45)
والسبب في تقديم الأخوات عند الجمهور هؤلاء على الخالات والعمات: أنهن أقرب، وأنهن أولاد الأبوين، لذا قدمن في الميراث.
وقدم المالكية الخالة، ثم الجدة لأب وإن علت، ثم أبو المحضون على الأخت ـ أخت المحضون.
4 - ثم الخالة عند الحنفية والشافعية والحنابلة ـ خالة المحضون الشقيقة، ثم عند الحنفية والحنابلة والمالكية خالة لأم، ثم خالة لأب؛ لأن الشأن أن من كان من جهة الأم أشفق ممن كان من جهة الأب فقط. والأصح عند الشافعية تقديم خالة لأب، وعمة لأب على من كان من جهة الأم، لقوة الجهة كالأخت.
وقدم المالكية كما سبق الخالة ثم الجدة لأب وإن علت على الأخت.
5 - ثم بنات الأخت، ثم بنات الأخ في رأي الحنفية والشافعية، فالصحيح عندهم أن الخالة أولى من بنات الأخت أو الأخ؛ لأن بنت الأخ تدلي بقرابة الذكر، والخالة تدلي بقرابة الأم، فكانت الخالة أولى. وبنت الأخ أولى من العمة؛ لأن بنت الأخ أقرب، لأنها ولد الأب، والعمة ولد الجد، فكانت بنت الأخ أقرب، فكانت أولى، وذلك كما يقدم ابن الأخ في الميراث على العم.
ورأى المالكية والحنابلة أن العمة مقدمة على ابنة الأخ.
6 - ثم العمة اتفاقاً ـ عمةالمحضون، ثم عمة أبيه وهي أخت جد المحضون.
والحاصل أن ترتيب الحواضن من النساء في المذاهب كما يأتي:
أـ الحنفية: الأم، ثم أم الأم ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات، ثم بنات الأخت ثم بنات الأخ، ثم العمات، ثم العصبات بترتيب الإرث. ب ـ المالكية: الأم، ثم الجدة لأم، ثم الخالة، ثم الجدة لأب وإن علت، ثم الأخت، ثم العمة، ثم ابنة الأخ، ثم للوصي، ثم للأفضل من العصبة كما سيأتي:
جـ ـ الشافعية: الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الأخوات، ثم الخالات ثم بنات الأخ وبنات الأخت، ثم العمات، ثم لكل ذي محرم وارث من العصبات على ترتيب الإرث، فهم كالحنفية.(10/46)
د ـ الحنابلة: الأم، ثم أم الأم، ثم أم الأب، ثم الجد ثم أمهاته، ثم أخت لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، ثم خالة لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم عمة، ثم خالة أم، ثم خالة أب، ثم عمته، ثم بنت أخ، ثم بنت عم أب، ثم باقي العصبة الأقرب فالأقرب.
موقف القانون: أخذ القانون السوري (م 1/139) برأي الحنفية:
1 - حق الحضانة للأم فلأمها وإن علت، فلأم الأب وإن علت، فللأخت الشقيقة، فللأخت لأم، فللأخت لأب، فلبنت الشقيقة، فبنت الأخت لأم، فبنت الأخت لأب، فللخالات، فللعمات بهذا الترتيب، ثم للعصبات من الذكور على ترتيب الإرث.
ثانياً ـ من الرجال:
إن لم يكن للمحضون أحد من النساء المذكورات، انتقلت الحضانة إلى الرجال على ترتيب العصبات الوارثين المحارم: الآباء والأجداد وإن علوا، ثم الإخوة وأبناؤهم وإن نزلوا، فالأعمام ثم بنوهم عند الحنفية وغيرهم على الصحيح عند الشافعية. ولكن لا تسلم مشتهاة لذكر وارث غير محرم للمحضون كابن العم، فلا حق له في حضانة البنت المشتهاة اتفاقاً تحرزاً من الفتنة، وله حضانة الطفل.
ثم إذا لم يكن للصغير عصبة من الرجال، انتقلت الحضانة عند الحنفية لذوي أرحام، فتكون للأخ لأم، ثم لابنه، ثم للعم لأم، ثم للخال الشقيق ثم لأم؛ لأن لهؤلاء ولاية في النكاح، فيكون لهم حق الحضانة. لكن لم يأخذ قانوننا السوري بهذا الرأي، واقتصر على العصبات دون ذوي الأرحام.
ورأى الحنفية أنه إذا اجتمع اثنان في درجة واحدة من القرابة كعمين، قدم الأورع، ثم الأسن غير الفاسق والمعتوه وابن عم لفتاة مشتهاة وهو غير مأمون.
وقال المالكية: إن لم يكن واحد من الإناث السابقات تنتقل الحضانة للوصي، ثم للأخ الشقيق أو لأم أو لأب، ثم للجد لأب الأقرب فالأقرب ثم ابن الأخ المحضون، ثم العم فابنه. ولا حضانة لجد لأم ولا خال، ثم المولى الأعلى: وهو من أعتق المحضون، فعصبته نسباً، فمواليه، فالأسفل: وهو من أعتقه والد المحضون.(10/47)
ويقدم في المتساوين درجة كأختين وخالتين وعمتين بالصيانة والشفقة، فإن تساويا فالأسن.
وقال الشافعية: إن استوى اثنان في القرابة والإدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أوا لعمتين، أقرع بينهما؛ لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فوجب التقديم بالقرعة.
والأصح أنه إن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء، وللمحضون أقارب من رجال ذوي الأرحام ومن يدلي بهم، كالخال وأبي أم، فلا حضانة لهم، لفقد الإرث والمحرمية، أو لضعف القرابة، فلا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم، والخال، والعم من الأم؛ لأن الحضانة لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال، وهذا لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال.
ورأى الحنابلة كالحنفية أن الحضانة عند فقد العصبات تثبت لذوي الأرحام الذكور والإناث، وأولاهم أبو أم، فأمهاته، فأخ لأم، فخال، ثم الحاكم يسلم المحضون لثقة يختاره.
تعدد أصحاب الحق: تبين مما اتفقت عليه المذاهب أنه إذا تعدد مستحقو الحضانة من درجة واحدة كإخوة أو أعمام، كان أولاهم بها أصلحهم للحضانة قدرة وخلقاً، فإن تساووا قدّم أكبرهم سناً، وقد نصت المادة (140) من القانون السوري على أنه: إذا تعدد أصحاب حق الحضانة، فللقاضي حق اختيار الأصلح.
مهمة الحاضنة والأب: على الأب رعاية المحضون وتأديبه وتعليمه العلم أو الحرفة، أما الأنثى فلا تؤجر في عمل أو خدمة؛ لأن المستأجر يخلو بها، وذلك سيء في الشرع (1) .
وللحاضنة أماً أو غيرها قبض نفقة المحضون وكسوته وما يحتاج إليه من أبيه في أوقات منتظمة يومياً أوأسبوعياً أو شهرياً، بحسب اجتهاد الحاكم ومراعاة حال الأب. وليس للأب أن يقول للحاضنة: ابعثيه ليأكل عندي، ثم يعود لكِ، لما فيه من الضرر بالطفل، والإخلال بصيانته، وليس لها موافقته على طلبه (2) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 883/2.
(2) الشرح الصغير: 764/2.(10/48)
المبحث الثالث ـ شروط استحقاق الحضانة، أو شروط المحضون والحاضنة:
شروط المحضون: المحضون: هو من لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه كطفل، وكبير مجنون أو معتوه، فلا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه. أما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه، وهو الذي يختار الإقامة عند من شاء من أبويه. فإن كان البالغ رجلاً، فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عن أبويه، ويستحب ألا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره عنهما. وإن كان أنثى لم يكن لها الانفراد، ولأبيها منعها منه؛ لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يؤذيها ويلحق العار بها وبأهلها، وإن لم يكن لها أب، فلوليها وأهلها منعها من الانفراد (1) .
شروط الحواضن: أنواع ثلاثة: شروط عامة في النساء والرجال، وشروط خاصة بالنساء، وشروط خاصة بالرجال، وبعضها متفق عليه كالحرية والعقل والبلوغ والقدرة والأمانة وعدم كون الأنثى متزوجة بأجنبي عن الصغير، وكون الحاضن ذات رحم من الصغير، وبعضها مختلف فيه كالرشد والإسلام (2) .
النوع الأول ـ الشروط العامة في النساء والرجال:
يشترط في الحاضن من النساء والرجال ما يأتي:
1ً - البلوغ: فلا حضانة للصغير ولو كان مميزاً؛ لأنه عاجز عن رعاية شؤون نفسه.
2ً - العقل: فلا حضانة للمجنون والمعتوه؛ لأنهما في حاجة إلى من يرعى شؤونهما، فلا يحسن الواحد منهما القيام بمصالحه، فضلاً عن غيره.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 225، المهذب: 169/2، مغني المحتاج: 452/3، كشاف القناع: 576/5، 581، المغني: 614/7.
(2) البدائع: 41/4-42، الدر المختار وابن عابدين: 871/2-874، 879، 880، الشرح الصغير: 758/2-762، مغني المحتاج: 454/3-456، 259، غاية المنتهى: 249/3 وما بعدها، كشاف القناع: 579/5 وما بعدها، المهذب: 169/2، بداية المجتهد: 56/2.(10/49)
واشترط المالكية الرشد، فلا حضانة لسفيه مبذر، لئلا يتلف مال المحضون أو ينفق عليه منه ما لا يليق.
وشرطوا أيضاً مع الحنابلة عدم المرض المنفر كالجذام والبرص، فلا حضانة لمن به شيء من المنفرات.
3ً - القدرة على تربية المحضون: وهي الاستطاعة على صون الصغير في خلقه وصحته، فلا حضانة للعاجز لكبر سن أو مرض أو شغل. فالمرأة المحترفة أو العاملة إن كان عملها يمنعها من تربية الصغير والعناية بأمره، لا تكون أهلاً للحضانة. وإن كان عملها لا يحول دون رعاية الصغير وتدبير شؤونه، لا يسقط حقها في الحضانة. وقد جرى العمل في مصر على أن الطبيبات والمعلمات ونحوهن، لا يسقط حقهن في الحضانة؛ لأن الواحدة منهن تستطيع إدارة أمر الطفل بنفسها وبالتعاون مع قريبتها أو النائبة عنها.
وقد نصت المادة (137) من القانون السوري على الشروط السابقة: يشترط لأهلية الحضانة البلوغ والعقل والقدرة على صيانة الولد صحة وخلقاً.
ونص القانون السوري (م 2/139) على أنه: لا يسقط حق الحاضنة بحضانة أولادها بسبب عملها إذا كانت تؤمن رعايتهم والعناية بهم بطريقة مقبولة.
ويعد الأعمى عاجزاً عن الحضانة لعدم تحقق المقصود به.
4ً - الأمانة على الأخلاق: فلا حضانة لغير أمين على تربية الولد وتقويم أخلاقه، كالفاسق رجلاً أو امرأة من سكير أو مشتهر بالزنا أو اللهو الحرام. لكن قيد ابن عابدين الفسق المانع من حضانة الأم بكونه فسقاً يضيع به الولد، فيكون لها حق الحضانة ولو كانت معروفة بالفجور، ما لم يصبح الولد في سن يعقل فيها فجور أمه، فينتزع منها، صوناً لأخلاقه من الفساد؛ لأنها غير أمينة. أما الرجل الفاسق العصبة فلا حضانة له.
واشترط المالكية أمن المكان: فلا حضانة لمن بيته مأوى للفساق، أو بجوارهم بحيث يخاف على البنت المشتهاة منهم الفساد، أوسرقة مال المحضون أو غصبه.(10/50)
5ً - الإسلام شرط عند الشافعية والحنابلة: فلا حضانة لكافر على مسلم؛ إذ لا ولاية له عليه، ولأنه ربما فتنه عن دينه. ولم يشترط الحنفية والمالكية إسلام الحاضنة، فيصح كون الحاضنة كتابية أو غير كتابية، سواء أكانت أماً أم غيرها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه المسلم وأمه المشركة، فمال إلى الأم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اهده، فعدل إلى أبيه» (1) ، ولأن مناط الحضانة الشفقة وهي لا تختلف باختلاف الدين.
لكن اختلف هؤلاء في مدة بقاء المحضون عند الحاضنة غير المسلمة:
فقال الحنفية: إنه يبقى عندها إلى أن يعقل الأديان، ببلوغه سن السابعة، أو يتضح أن في بقائه معها خطراً على دينه، بأن بدأت تعلمه أمور دينها أو تذهب به إلى معابدها، أو تعودِّه على شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر.
وقال المالكية: إنه يبقى مع الحاضنة إلى انتهاء مدة الحضانة شرعاً، ولكنها تمنع من تغذيته بالخمر ولحم الخنزير، فإن خشينا أن تفعل الحرام أعطي حق الرقابة إلى أحد المسلمين، ليحفظ الولد من الفساد.
واختلفوا أيضاً في إسلام الحاضن:
رأى الحنفية: أنه يشترط إسلام الحاضن واتحاد الدين، بخلاف الحاضنة؛ لأن الحضانة نوع من الولاية على النفس، ولا ولاية مع اختلاف الدين، ولأن حق الحضانة عندهم مبني على الميراث، ولا ميراث بالتعصيب للرجال مع اختلاف الدين، فلو كان الطفل مسيحياً أو يهودياً، وله أخوان، أحدهما مسلم والآخر غير مسلم، كان حق الحضانة لغير المسلم.
ورأى المالكية: أنه لا يشترط إسلام الحاضن أيضاً كالحاضنة؛ لأن حق الحضانة للرجل لا يثبت عندهم إلا إذا كان عنده من النساء من يصلح للحضانة كزوجة أو أم أو خالة أو عمة، فالحضانة في الحقيقة حق للمرأة.
__________
(1) رواه أبو داود وغيره، وأجيب عنه من قبل الفريق الأول بأنه منسوخ أو محمول على أنه صلّى الله عليه وسلم عرف أنه يستجاب دعاؤه، وأنه يختار الأب المسلم. وقصده بتخييره استمالة قلب أمه.(10/51)
النوع الثاني ـ شروط أخرى في النساء:
يشترط في المرأة أيضاً ما يأتي:
1ً - ألا تكون متزوجة بأجنبي عن الصغير أو بقريب غير محرم منه: وهو متفق عليه للحديث السابق: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ولأنه يعامل الصغير بقسوة وكراهية، ولأنها مشغولة عنه بحق الزوج.
فإن كانت متزوجة بقريب محرم للمحضون كعمه وابن عمه وابن أخيه، فلا يسقط حقها في الحضانة، لأن من تزوجته له حق في الحضانة، وشفقته تحمله على رعايته، فيتعاونان على كفالته. وقد نصت المادة (138) من القانون السوري على ذلك: زواج الحاضنة بغير قريب محرم من المحضون يسقط حضانتها.
2ً - أن تكون ذات رحم محرم من الصغير كأمه وأخته وجدته: فلا حضانة لبنات العم أوالعمة، ولا لبنات الخال أو الخالة بالنسبة إلى الصبي، لعدم المحرمية، ولهن عند الحنفية الحق في حضانة الأنثى.
3ً - ألا تكون قد امتنعت من حضانته مجاناً والأب معسر لا يستطيع دفع أجرة الحضانة. فإن كان الأب معسراً وقبلت قريبة أخرى تربيته مجاناً، سقط حق الأولى في الحضانة. وهذا شرط عند الحنفية.
4ً - ألا تقيم الحاضنة بالصغير في بيت يبغضه ويكرهه، ولو كان قريباً له؛ لأن سكناها مع المبغض يعرضه للأذى والضياع. فلا حضانة للجدة إذا سكنت مع بنتها أم الطفل إذا تزوجت، إلا إذا انفردت بالسكنى عنها. وهذا شرط عند المالكية، واشترطوا أيضاً ألا يسافر ولي المحضون أو الحاضنة ستة برُد فأكثر، فإن أراد أحدهما السفر أخذ المحضون من حاضنته، كما سيأتي، إلا أن تسافر معه.
وشرط الشافعية والحنابلة أنه إذا كان المحضون رضيعاً: أن ترضعه الحاضنة، فإن لم يكن لها لبن، أو امتنعت من الإرضاع، فلا حضانة لها؛ لأن في تكليف الأب استئجار مرضعة تترك منزلها، وتنتقل إلى مسكن الحاضنة عسراً عليه، فلا يكلف ذلك.(10/52)
النوع الثالث - شروط خاصة بالرجال:
يشترط في الرجل الحاضن أيضاً مايأتي:
1ً - أن يكون مَحْرماً للمحضون إذا كان أنثى مشتهاة: وهي التي حدد الحنابلة والحنفية سنها بسبع، حذراً من الخلوة بها، لانتفاء المحرمية بينهما، وإن لم تبلغ حد الشهوة أعطيت له بالاتفاق؛ لأنه لا فتنة. فلا يكون لابن العم حضانة ابنة عمه المشتهاة. وأجاز الحنفية إذا لم يكن للبنت عصبة غير ابن عمها إبقاءها عنده بأمر القاضي إذا كان مأموناً عليها، ولا يخشى عليها الفتنة منه.
وكذلك أجاز الحنابلة تسليمها لغير محرم ثقة إذا تعذر غيره. وأجاز الشافعية تسليمها لغير محرم إن رافقته بنته أو نحوها كأخته الثقة، وتسلم لها لا له، إن لم تكن في رحله، كما لو كان في الحضر، أما لو كانت بنته أو نحوها في رحله، فإنها تسلم إليه، فتؤمن الخلوة.
2ً - أن يكون عند الحاضن من أب أو غيره من يصلح للحضانة من النساء كزوجة أو أم أو خالة أو عمة؛ إذ لا قدرة ولا صبر للرجال على أحوال الأطفال كما للنساء. فإن لم يكن عند الرجل من يحضن من النساء فلا حق له في الحضانة. وهذا شرط عند المالكية.
واشترط المالكية أيضاً ألا يسافر عن المحضون ولي المحضون أو تسافر الحاضنة سفر نُقْلة، ستة بُرُد (1) فأكثر، فإن أراد الولي أو الحاضنة السفر المذكور، كان له أخذ المحضون من حاضنته إلا أن تسافر معه، بشرط كون السفر لموضع مأمون وأمن الطريق، وهو شرط يقيد شروط الحضانة للنساء.
__________
(1) البريد العربي: 12 ميلاً أو أربعة فراسخ، وتساوي 22176 م، والميل 1848 م، والستة برد 133 كم.(10/53)
ما يتبع شروط الحضانة من أمور:
أولاً ـ سقوط الحضانة: تسقط الحضانة بأربعة أسباب عند المالكية، وافقهم في أغلبها غيرهم.
1ً - سفر الحاضن سفر نقلة وانقطاع إلى مكان بعيد، وهو مقدار ستة بُرُد فأكثر، كما تقدم، فلو سافر ولي المحضون أو سافرت الحاضنة ستة برد فأكثر لا أقل منها، فللولي أخذ المحضون، وتسقط حضانة الحاضنة إلا أن تسافر معه. وقال الحنفية: يسقط الحق في الحضانة إذا سافرت الأم المطلقة إلى بلد بعيد لا يستطيع فيه الأب زيارة ولده في نهار يرجع فيه إلى بيته ويبيت فيه، وأما غير الأم فتسقط حضانتها بمجرد الانتقال. وقال الشافعية: يسقط الحق بالحضانة بالسفر لمكان مخوف أو بقصد النقلة، سواء أكان طويلاً أم قصيراً. وقال الحنابلة: يسقط الحق بالحضانة بالسفر لبلد يبعد بمقدار مسافة القصر فأكثر.
2ً - ضرر في بدن الحاضن كالجنون والجذام والبرص. وافقهم فيه الحنابلة.
3ً - الفسق أو قلة دينه من الحضانة، بأن كان غير مأمون على الولد؛ لعدم تحقق المصلحة المقصودة من الحضانة، وهذا متفق عليه. وقد نصت المادة (3/147) على أنه: «إذا ثبت أن الولي ـ ولو أباً ـ غير مأمون على الصغير أو الصغيرة، يسلمان إلى من يليه في الولاية، وذلك دون إخلال بحكم الفقرة الأولى من هذه المادة» .
وأما نص الفقرة الأولى من هذه المادة فهو: «إذا كان الولي غير الأب، فللقاضي وضع الولد ذكراً أو أنثى عند الأصلح من الأم أو الولي أو من يقوم مقامهما، حتى تتزوج البنت أو تبلغ أو يبلغ الصبي سن الرشد» .
4ً - تزوج الحاضنة ودخولها، إلا أن تكون جدة الطفل زوجاً لجده أو تتزوج الأم عماً له، فلا تسقط؛ لأن الجد أو العم مَحْرم للصغير. وهذا متفق عليه، كما تقدم. وكذا تسقط الحضانة عند الشافعية والحنابلة بالكفر، كما تسقط بالاتفاق بالجنون أو العته (1) .
ثانياً ـ عودة الحق في الحضانة:
إذا سقطت الحضانة لمانع من الموانع، ثم زال المانع، فهل تعود الحضانة؟ للفقهاء رأيان (2) :
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 224، الشرح الصغير: 759/2 وما بعدها، المقدمات الممهدات: 569/1 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 880/2، 884، مغني المحتاج: 456/3-458، كشاف القناع: 579/5 وما بعدها، المغني: 618/7.
(2) الدر المختار: 880/2، الشرح الصغير: 763/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 456/3، كشاف القناع: 580/5.(10/54)
قال المالكية في المشهور: إذا سقطت حضانة الحاضنة لعذر كمرض وخوف مكان، وسفر ولي بالمحضون سفر نقلة، وسفرها لأداء فريضة الحج، ثم زال العذر بشفائها من المرض، وتحقق الأمن، والعودة من السفر الاضطراري، عادت الحضانة إليها؛ لأن المانع من الحضانة هو العذر الاضطراري، وقد زال، وإذا زال المانع عاد الممنوع.
أما إن تزوجت الحاضنة بأجنبي غير محرم ودخل بها، أو سافرت باختيارها لا لعذر، ثم تأيمت بأن فارقها الزوج بطلاق أو فسخ نكاح أو وفاة، أو عادت من السفر الاختياري، فلا تعود إليها الحضانة بعد زوال المانع؛ لأن سقوط الحضانة كان باختيارها، فلا تعذر.
وقال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) : إذا سقطت الحضانة لمانع، ثم زال المانع، عادت الحضانة إلى صاحبها، سواء أكان اضطرارياً كالمرض، أم
اختيارياً كالزواج والسفر والفسق، لزوال المانع. لكن ذلك عند الحنفية في الحال بالنسبة للبائن ولو قبل انقضاء العدة، أما الرجعية فلا بد من انقضاء العدة فيها.
وذكر الشافعية أن المطلَّقة تستحق الحضانة في الحال قبل انقضاء العدة على المذهب، بشرط رضا الزوج بدخول المحضون بيته إن كان له، فإن لم يرض لم تستحق.
وقرر الحنابلة استحقاق المطلقة الحضانة، ولو كان الطلاق رجعياً، ولو لم تنقض العدة.
وقد نصت المادة (141) من القانون السوري على أنه: «يعود حق الحضانة إذا زال سبب سقوطه» .(10/55)
ثالثاً ـ هل تجبر الأم على الحضانة؟
هذا بحث مفرع عن الحضانة، هل هي حق الحاضنة أو حق الولد (1) ؟
المفتى به عند الحنفية أن الأم وغيرها لا تجبر على الحضانة إذا امتنعت، كما لا تجبر على الإرضاع، إلا إذا تعينت لهما، بأن لم يأخذ ثدي غيرها أو لم يكن للأب ولا للصغير مال، أو لم يوجد غيرها للحضانة. وهذا قول الشافعية والحنابلة، والمالكية أيضاً على المشهور عندهم، وبناء عليه: للأم إسقاط حقها في الحضانة، وإذا أرادت العود لا حق لها عند المالكية.
وتجبر الأم إذا لم يكن للصغير ذو رحم محرم، كيلا يضيع الولد.
وقيل: إنها تجبر على الحضانة مطلقاً، ولهذا لاتملك إسقاطها بالخلع، فلو خالعت الزوج على أن تترك له حق الحضانة، أو اشترط الزوج ترك الولد عنده، فالخلع صحيح عند الحنفية والشرط باطل، ولحاضنته أخذها منه، وهذا ما نصت عليه المادة (103) من القانون السوري، كما تقدم في بحث الخلع.
رابعاً ـ سكوت صاحب الحق في الحضانة عن طلبها:
قال المالكية (2) : إذا سكت صاحب الحق في الحضانة عن طلبها، يسقط حقه بالشروط الآتية:
1ً - أن يعلم بحقه في الحضانة: فإن كان لا يعلم بحقه وسكت عن طلب الحضانة لا يسقط حقه، مهما طالت مدة سكوته.
2ً - أن يعلم أن سكوته يسقط حقه في الحضانة: فإن كان يجهل ذلك فلا يبطل حقه فيها بالسكوت؛ لأن هذا أمر فرعي يعذر الناس بجهله.
3ً - أن تمضي سنة من تاريخ علمه باستحقاقه الحضانة: فلو مضى على علمه أقل من سنة وهو ساكت، ثم طلبها قبل مضي العام، قضي له باستحقاقها.
فإذا تزوجت الحاضنة بأجنبي ودخل بها، ولم يعلم بالزواج من انتقلت الحضانة له حتى فارقها زوجها بطلاق أو وفاة، استمرت الحضانة لها. وكذا إن علم بزواجها وسكت عن أخذ الولد عاماً، حتى فارقها زوجها، لم ينزعه منها، وبقي معها؛ لأن سكوته حتى مضت سنة، يسقط حقه بطلب الحضانة.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 875/2، الشرح الصغير: 763/2، مغني المحتاج: 456/3، المغني: 615/7 وما بعدها.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 763/2 وما بعدها.(10/56)
المبحث الرابع ـ أجرة الحضانة وتوابعها من السكنى والخدمة:
هل تجب الأجرة على الحضانة؟ للفقهاء رأيان (1) :
ليس للحاضن أجرة على الحضانة في رأي الجمهور غير الحنفية، سواء أكانت الحاضن أماً أم غيرها؛ لأن الأم تستحق النفقة إن كانت زوجة، وغير الأم نفقتها على غيرها وهو الأب. لكن إن احتاج المحضون إلى خدمة كطبخ طعامه وغسل ثيابه، فللحاضن الأجرة.
وقال الحنفية: لا تستحق الحاضنة أجرة على الحضانة إذا كانت زوجة أو معتدة لأبي المحضون في أثناء العدة، سواء عدة الطلاق الرجعي أو البائن في الأوجه، كما لا تستحق أجراً على الإرضاع، لوجوبهما عليها ديانة، ولأنها تستحق النفقة في أثناء الزوجية والعدة، وتلك النفقة كافية للحضانة.
أما بعد انقضاء العدة فتستحق أجرة الحضانة؛ لأنها أجرة على عمل.
وتستحق الحاضنة غير الزوجة أجرة الحضانة، مقابل قيامها بعمل من الأعمال، وتلك الأجرة غير أجرة الرضاع، ونفقة الولد، فهي ثلاثة واجبات.
وقد أخذ القانون السوري (م 143) برأي الحنفية، ونص هذه المادة: لا تستحق الأم أجرة للحضانة في حال قيام الزوجية أو في عدة الطلاق.
التفضيل بين الأم والمتبرعة بالحضانة:
يرى الحنفية (2) : أن المتبرعة بالرضاع تقدم على الأم، إذا لم ترض بالإرضاع بلا أجر، أما المتبرعة بالحضانة: فإن كانت غير محرم للصغير، فلا تقدم على صاحبة الحق في الحضانة، وإن كانت محرماً للصغير فتقدم المتبرعة إذا كانت الأجرة في مال الصغير أو كان الأب معسراً، ولا تقدم في غير هاتين الحالتين.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 876/2، الشرح الصغير: 765/2، الفتاوى الهندية: 484/1.
(2) الدر المختار: 873/2.(10/57)
وسبب التفرقة: أن المقصود من الرضاع التغذية، وهي تتحقق من غير المحارم كالمحارم، أما الحضانة فيقصد بها تربية الصغير وتعهده بالرعاية والعناية، وهذه أمور تحتاج إلى الشفقة والحنان، وتكون القريبة أشفق من البعيدة.
وإذا لم يوجد أحد يرضى بالحضانة مجاناً وكان الأب معسراً، ولم يكن للصغير مال، فإن الأم ومن يليها في استحقاق الحضانة تجبر على الحضانة، وتكون أجرتها ديناً على الأب إلى وقت اليسار، ولا يسقط هذا الدين إلا بالأداء أو بالإبراء.
أجرة مسكن الحضانة وأجرة الخادم:
اتفق الحنفية على المختار، والمالكية على المشهور (1) على وجوب أجرة مسكن الحضانة للحاضن والمحضون إذا لم يكن لهما مسكن؛ لأن أجرة المسكن من النفقة الواجبة للصغير، فتجب على من تجب عليه نفقته، باجتهاد القاضي أو غيره بحسب حال الأب.
وكذلك اتفقوا على وجوب أجرة للخادم إذا احتاج الصغير إلى خادم؛ لأنه من لوازم المعيشة. والظاهر أن المذاهب الأخرى متفقة مع هذا الرأي.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 877/2، الشرح الصغير: 764/2، القوانين الفقهية: ص 225، مغني المحتاج: 452/3، كشاف القناع: 576/5، الشرح الكبير مع الدسوقي: 533/2.(10/58)
المكلف بنفقة الحضانة: يرى جمهور الفقهاء أن مؤنة (نفقة) الحضانة تكون في مال المحضون، فإن لم يكن له مال، فعلى الأب أو من تلزمه نفقته؛ لأنها من أسباب الكفاية والحفظ والإنجاء من المهالك. وإذا وجبت أجرة الحضانة فتكون ديناً لا يسقط بمضي المدة ولا بموت المكلف بها، أو موت المحضون، أو موت الحاضنة.
والمشهور عند المالكية: أن كراء المسكن للحاضنة والمحضونين على والدهم (1) .
موقف القانون: نصت المادة (142) على المكلف بنفقة الحضانة: «أجرة الحضانة على المكلف بنفقة الصغير، وتقدر بحسب حال المكلف بها» . ونصت المادة (44) على حالة إعسار المكلف بالنفقة وتبرع أحد المحارم بالحضانة: «إذا كان المكلف بأجرة الحضانة معسراً عاجزاً عنها وتبرع بحضانة الصغير أحد محارمه، خيرت الحاضنة بين إمساكه بلا أجرة، أو تسليمه لمن تبرع» .
بدء استحقاق نفقات الحضانة:
يبدأ استحقاق نفقة الحضانة من أجرة ومسكن وخادم في رأي الحنفية كما يبدأ استحقاق أجرة الرضاع وقياساً عليها (2) ، فإن كان هناك اتفاق على الحضانة بأجر معين، أو حكم قضائي بالأجر، استحقت الحاضنة الأجر من تاريخ الاتفاق أو الحكم.
وإذا لم يوجد اتفاق على الأجر، ولا حكم به، فإن كانت الحاضنة غير الأم، فلا تستحق أجرة على الحضانة إلا من تاريخ الاتفاق أو الحكم.
وإن كانت الحاضنة هي الأم، استحقت الأجرة من وقت قيامها بالحضانة بعد انقضاء العدة من غير توقف على تراض أو قضاء. وقيل: من يوم الاتفاق أو الحكم. وقد أخذ القضاء المصري بالتفرقة بين الأم وبين غيرها في الإرضاع والحضانة.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية ابن عابدين: 931/2.(10/59)
المبحث الخامس ـ مكان الحضانة والانتقال بالصغير إلى بلد آخر، وحق زيارته:
مكان الحضانة: هو مكان الزوجين إذا كانت الزوجية بينهما قائمة. وللفقهاء آراء متقاربة في تحديد مواطن الحضانة وما يترتب عليه (1) . أما الحنفية ففصلوا القول كما يأتي:
أـ إذا كانت الأم هي الحاضنة في حال قيام الزوجية، أو أثناء العدة من طلاق أو وفاة، فمكان الحضانة: هو المكان الذي تقيم فيه مع الزوج، ولا يجوز لها الانتقال به إلا بإذن الزوج؛ لأن الزوجة ملزمة بمتابعة زوجها والإقامة معه حيث يقيم، والمعتدة يلزمها البقاء في مسكن الزوجية، سواء مع الولد أو بدونه، لقوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق:1/65] .
ب ـ أما الأم المطلَّقة بعد انتهاء العدة: فمكان حضانتها هو أيضاً مكان إقامة الزوج، ولا يجوز لها الخروج من بلدة إلى أخرى بينهما تفاوت بحيث لا يمكن الوالد أن يبصر ولده، ثم يرجع في نهاره، إلا إذا انتقلت به إلى وطنها، وكان قد تزوجها (أي عقد عليها عقد الزواج) فيه. فإذا توافر هذان الشرطان: الوطن وكونه مكان العقد، جاز للأم الانتقال بالمحضون إليه، وإلا لم يجز، ويسقط حقها في الحضانة.
جـ ـ وأما الحاضنة الأخرى غير الأم كالجدة أو الأخت أو الخالة أو العمة، فلا يجوز لها الانتقال بالمحضون إلى غير بلد أبيه إلا بإذنه ورضاه، حتى لا يتضرر الولد، فلو انتقلت إلى بلد آخر بغير إذن الأب، سقط حقها في الحضانة.
وقال المالكية: مكان الحضانة للمطلقة بعد انقضاء العدة هو مكان إقامة والد المحضون. فليس لها السفر سفر نُقْلة وانقطاع من بلد إلى بلد ستة بُرُد (133 كم) فأكثر، فإن سافرت إلى مكان يبعد هذه المسافة عن بلد إقامة الأب، سقط حقها في الحضانة لاحتياج المحضون إلى رعاية الولي. ولا يسقط حقها في الحضانة بسفر التجارة والزيارة والحج ونحوه.
__________
(1) الفتاوى الهندية: 484/1، الدر المختار: 884/2، الكتاب مع اللباب: 104/3، فتح القدير: 319/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 224، الشرح الصغير: 762/2، المهذب: 172/2، مغني المحتاج: 458/3 وما بعدها، غاية المنتهى: 250/3، المغني: 618/7، كشاف القناع: 581/5 وما بعدها.(10/60)
وذهب الشافعية إلى أنه إن كان السفر من أحد الزوجين المفترقين بالطلاق سفر حاجة كتجارة وحج، كان الولد المميز وغيره مع المقيم حتى يعود. وإن كان السفر من أحد الزوجين سفر نُقْلة، كان الأب أولى من الأم بالحضانة، بشرط أمن الطريق وأمن البلد المقصود بالسفر، حفظاً للنسب، فإنه يحفظه الآباء، أو رعاية لمصلحة التأديب والتعليم وسهولة الإنفاق.
فإن كان السفر مخوفاً، أو البلد الذي يسافر إليه مخوفاً، فالمقيم أحق بالحضانة للولد.
وقرر الحنابلة أنه متى أراد أحد الأبوين الانتقال بالمحضون إلى بلد آمن، مسافة القصر فأكثر، ليسكنه، فتسقط حضانة الحاضنة، ويكون الأب أحق، ما لم يرد بنقلته مضارتها، فإن أراد بنقلته مضارة الأم، لم يسقط حقها في الحضانة.
انتقال الأب أو من يقوم مقامه إلى بلد آخر:
رأى الحنفية (1) : أنه ليس للأب أو الولي مطلقاً إخراج المحضون من بلد أمه بلا رضاها ما بقيت حضانتها، فلو انتقل إلى بلد آخر غير بلد الحاضنة فليس له أخذ الولد معه ما دامت حضانتها قائمة، ولا يسقط حقها في الحضانة بانتقاله، سواء أكان البلد قريباً أم بعيداً، وسواء أكان السفر بقصد الإقامة أم التجارة أم الزيارة؛ لأن الحضانة حق الحاضنة، ولا يملك الولي إسقاط هذا الحق.
وسوّى المالكية (2) بين الحاضنة والولي في إسقاط حضانتها إذا سافر أحدهما إلى بلد آخر مسافة ستة بُرُد فأكثر بقصد الإقامة، فإذا سافر الولي، سواء أكان ولي مال كالأب والوصي أم ولي عصوبة كالعم، على المحضون ولو رضيعاً، سفراً بقصد التوطن والإقامة، لمسافة تبعد عن بلد الحاضنة ستة برد فأكثر، كان له أخذ الولد من حاضنته، بشرط أمن الطريق وأمن المكان المقصود، ويسقط حقها في الحضانة، إلا إذا سافرت مع الولي، فلا تسقط حينئذ حضانتها بانتقاله.
ودليلهم: أن حق الولي في الحضانة أقوى من حق الحاضنة؛ لأن التربية الروحية مقدمة على التربية البدنية، والولي أقدر من الحاضنة على تلك التربية.
وفرق الشافعية (3) بين سفر الحاجة وبين سفر النقلة، فإن أراد الولي أو الحاضنة سفر حاجة،
__________
(1) الدر المختار: 885/2.
(2) الشرح الصغير: 761/2 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 458/3 وما بعدها.(10/61)
كان الولد المميز وغيره مع المقيم حتى يعود المسافر منهما، لما في السفر من الخطر والضرر.
وإن أراد أحدهما سفر نُقْلة، فالأب أولى، بشرط أمن طريقه وأمن البلد المقصود له، كما قرر المالكية، وإن يكن هناك أمن، فيقرّ عند أمه، وليس لوليه أن يخرجه إلى دار الحرب.
والحنابلة (1) كالشافعية: فإنهم قالوا كما تقدم: متى أراد أحد الأبوين النقلة إلى بلد مسافة قصر فأكثر، وكان البلد والطريق آمناً، والقصد هو السكنى، فالأب أحق بالحضانة، سواء أكان المقيم هو الأب، أم المنتقل؛ لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولد في بلد الأب، ضاع.
والخلاصة: أن سفر الولي لا يسقط حق الحضانة للحاضنة في رأي الحنفية، ويسقطها في رأي الجمهور.
زيارة الولد:
حق الرؤية أو الزيارة لأحد الأبوين غير الحاضن مقرر شرعاً باتفاق الفقهاء، لصلةالرحم، ولكنهم ذكروا آراء مختلفة نسبياً، بحسب تقدير المصلحة لكل من الولد والوالد الذي يكون ولده في حضانة غيره.
قال الحنفية (2) : إذا كان الولد عند الحاضنة، فلأبيه حق رؤيته، بأن تخرج الصغير إلى مكان يمكن الأب أن يراه فيه كل يوم. وإذا كان الولد عند أبيه لسقوط حق الأم في الحضانة، أو لانتهاء مدة الحضانة، فلأمه رؤيته، بأن يخرجه إلى مكان يمكنها أن تبصر ولدها، كل يوم. والحد الأقصى كل أسبوع مرة كحق المرأة في زيارة أبويها، والخالة مثل الأم، ولكن كما جرى القضاء في مصر، تكون زيارتها كل شهر مرة.
__________
(1) كشاف القناع: 581/5.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 885/2.(10/62)
وقال المالكية (1) : للأم أن ترى أولادها الصغار كل يوم مرة، وأولادها الكبار كل أسبوع مرة. والأب مثل الأم في الرؤية قبل بلوغ سن التعليم، وأما بعد بلوغ سن التربية والتعليم، فله مطالعة ولده من آن لآخر، أي الاطلاع عليه.
ويرى الشافعية (2) : أن المميز إن اختار أباه بعد تخييره في سن التمييز، لم يمنعه زيارة أمه. ويمنع الأب الأنثى من زيارة أمها إذا اختارته لتألف الصيانة وعدم البروز للناس. والأم أولى منها بالخروج لزيارتها لسنها وخبرتها.
ولا يمنع الأب أم المحضون من زيارته، ذكراً أو أنثى؛ لأن في المنع قطعاً للرحم، لكن لا تطيل المكث، ويمكنها من الدخول، فإن بخل بدخولها إلى منزله، أخرجه إليها.
والزيارة مرة في أيام، أي في يومين فأكثر، لا في كل يوم، إلا إذا كان منزلها قريباً، فلا بأس بدخولها منزل الأب كل يوم.
فإن مرض المحضون، فالأم أولى بتمريضه، ذكراً أو أنثى؛ لأنها أهدى إليه، وأصبر عليه من الأب ونحوه. والتمريض يكون في بيت الأب إن رضي به، وإن لم يرض يكون التمريض في بيتها. ويجب الاحتراز في الحالين من الخلوة بها.
والحنابلة (3) كالشافعية قالوا: إن اختار المميز أباه، كان عنده ليلاً ونهاراً، ولا يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع هي من تمريضه. وإن اختارها كان عندها ليلاً، وعند أبيه نهاراً ليؤدبه ويعلمه.
وأما البنت فتكون عند أبيها بعد إتمام سن السابعة إلى الزفاف، ولا يمنع أحد الأبوين من زيارتها عند الآخر؛ لأن فيه حملاً على قطيعة الرحم، ولكن من غير أن يخلو الزوج بالأم، ولا يطيل المقام؛ لأن الأم صارت بالبينونة أجنبية منه، والورع إذا زارت ابنتها: تحري أوقات خروج أبيها إلى معاشه، لئلا يسمع كلامها، والكلام وإن كان غير عورة، لكن يحرم التلذذ بسماعه.
وإن مرضت البنت، فالأم أحق بتمريضها في بيت الأب، لحاجتها إليه.
والأم تزور ابنتها، والغلام يزور أمه على ما جرت به العادة، كاليوم في الأسبوع.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 512/2، الشرح الصغير: 737/2.
(2) مغني المحتاج: 257/3.
(3) غاية المنتهى: 251/3-252، كشاف القناع: 583/5 وما بعدها، المغني: 617/7.(10/63)
المبحث السادس ـ مدة الحضانة وما يترتب على انتهائها من ضم الولد لأبيه:
اتفق الفقهاء على أن الحضانة تبدأ منذ ولادة الطفل إلى سن التمييز، واختلفوا في بقائها بعد سن التمييز.
قال الحنفية (1) : الحاضنة أماً أوغيرها أحق بالغلام حتى يستغني عن خدمة النساء، ويستقل بنفسه في الأكل والشرب واللبس والاستنجاء، وقدِّر زمن استقلاله بسبع سنين؛ لأنه الغالب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع» والأمر بها لا يكون إلا بعد القدرة على الطهارة. وقيل: بتسع سنين.
والأم والجدة أحق بالفتاة الصغيرة حتى تبلغ بالحيض أو الإنزال أو السن؛ لأنها بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء، والمرأة على ذلك أقدر، وأما بعد البلوغ فتحتاج إلى التحصين والحفظ، والأب فيه أقوى وأهدى. وبلوغ الصغيرة إما بتسع سنين أو بإحدى عشرة سنة.
__________
(1) البدائع: 42/4-44، الدر المختار: 881/2.(10/64)
والسبب في اختلاف الغلام والفتاة: هو أن القياس أو الأصل أن تتوقت الحضانة بالبلوغ فيهما جميعاً، لكن ترك القياس أو الأصل في الغلام بإجماع الصحابة؛ لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قضى بعاصم بن عمر لأمه ما لم يشبّ عاصم، أو تتزوج أمه. فبقي الحكم في الفتاة على أصل القياس؛ ولأن الغلام إذا استنغنى يحتاج إلى التأديب والتخلق بأخلاق الرجال واكتساب العلوم، والأب على ذلك أقدر وأقوم. والفتاة أحوج إلى تعلم آداب النساء والتخلق بأخلاقهن وخدمة البيت، والأم أقدر على ذلك بعدما تبلغ أو تحيض، فإذا بلغت احتاجت إلى الحماية والصيانة والحفظ عمن يطمع بها، والرجال على ما ذكر أقدر.
وقال المالكية (1) : تستمر الحضانة في الغلام إلى البلوغ، على المشهور، ولو مجنوناً أو مريضاً، وفي الأنثى إلى الزواج ودخول الزوج بها، ولو كانت الأم كافرة. وهذا في الأم المطلقة أو من مات زوجها. وأما من في عصمة زوجها فهي حق للزوجين جميعاً.
ولا يخير الولد في رأي الحنفية والمالكية؛ لأنه لا قول له، ولا يعرف حظه، وقد يختار من يلعب عنده.
وقال الشافعية (2) : إن افترق الزوجان ولهما ولد مميز (3) ذكر أو أنثى، وله سبع أو ثمان سنين، وصلح الزوجان للحضانة، حتى لو فضَل أحدهما الآخر ديناً أو مالاً أو محبة، وتنازعا في الحضانة، خيِّر بينهما، وكان عند من اختار منهما؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه
__________
(1) الشرح الصغير: 755/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 224 وما بعدها.
(2) المهذب: 171/2، مغني المحتاج: 456/3.
(3) سن التمييز غالباً سبع سنين أو ثمان تقريباً، وقد يتقدم على السبع وقد يتأخر عن الثمان، والحكم مداره عليه لا على السن(10/65)
وأمه» (1) والغلامة كالغلام في الانتساب، ولأن القصد من الحضانة حفظ الولد، والمميز أعرف بحظه ومصلحته، فيرجع إليه.
والولد يتخير، ولو أسقط أحد الزوجين حقه قبل التخيير.
ولو اختار الولد أحد الأبوين، فامتنع من كفالته، كفله الآخر، فإن رجع الممتنع أعيد التخيير. وإن امتنع الأبوان وبعدهما مستحقان للحضانة كجد وجدة خيْر بينهما، وإلا أجبر بالحضانة من تلزمه نفقته؛ لأنها من جملة الكفالة. وإن صلح أحد الأبوين للحضانة دون الآخر بسبب جنون أو كفر أو رق أو فسق، أو زواج الأنثى أجنبياً، فالحق للآخر فقط، ولا تخيير لوجود المانع. فإن عاد صلاح الآخر عاد التخيير.
ويخير الولد أيضاً بين أم وجد، وكذا أخ أو عم أو أب مع أخت أو خالة في الأصح، فإن اختار أحدهما، ثم اختار الآخر، حوّل إليه؛ لأنه قد يظهر له الأمر، بخلاف ما ظنه، أويتغير حال من اختاره أولاً، ولأن الولد قد يقصد مراعاة الجانبين.
وقال الحنابلة (2) : إذا بلغ الغلام غير المعتوه سبع سنين، خير بين أبويه، إذا تنازعا فيه، كما قال الشافعية، فكان مع من اختار منهما. ومتى اختار أحدهما، فسلم إليه، ثم اختار الآخر، رد إليه. ويخير الغلام بين أمه وعصبته؛ لأن علياً رضي الله عنه خيّر عمارة الجرمي بين أمه وعمه، ولأنه عصبة، فأشبه الأب.
وإنما يخير الغلام بشرطين:
أحدهما ـ أن يكون الأبوان وغيرهما من أهل الحضانة: فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة، كان كالمعدوم، ويتعين الآخر.
الثاني ـ ألا يكون الغلام معتوهاً: فإن كان معتوهاً كان عندالأم، ولم يخير؛ لأن المعتوه بمنزلة الطفل، وإن كان كبيراً، لذا كانت الأم أحق بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه.
أما الفتاة إذا بلغت سبع سنين، فالأب أحق بها، ولا تخير عندهم خلافاً للشافعية؛ لأن غرض الحضانة الحظ والمصلحة، والحظ للفتاة بعد السبع في الوجود عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى حفظ، والأب أولى به، فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها.
لكن إذا كانت البنت عند الأم أو عند الأب، فإنها تكون عنده ليلاً ونهاراً؛ لأن تأديبها وتخريجها في جوف البيت، كتعليمها الغزل والطبخ وغيرهما.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه عن أبي هريرة.
(2) المغني: 614/7-617، غاية المنتهى: 251/3 وما بعدها، كشاف القناع: 582/5 وما بعدها.(10/66)
موقف القانون: قرر القانون المصري رقم (25) لسنة (1929) أن حق الحضانة ينتهي عند بلوغ الصغير سبع سنين، وبلوغ الصغيرة تسعاً. وكان هذا هو المقرر في القانون السوري، ثم عدل الحكم سنة (1975) ، فنصت المادة (146) على أنه: تنتهي مدة الحضانة بإكمال الغلام التاسعة من عمره، والبنت الحادية عشرة.
مايترتب على انتهاء مدة الحضانة من ضم الولد لأبيه أو جده:
إذا انتهت مرحلةالحضانة، ضم الولد إلى الولي على النفس من أب أوجد، لا لغيرهما. ويظل للأب الحق في إمساك الصبي حتى يبلغ، فيخير بين أن ينفرد بالسكنى أو يسكن مع أي أبويه شاء، إلا إذا بلغ سفيهاً غير مأمون على نفسه، فيضمه الأب إليه، لدفع فتنة أو عار، ولتأديبه إذا وقع منه شيء. ولا يلزم الأب بالنفقة على الولد بعد البلوغ إلا أن يتبرع. فإن بلغ معتوهاً، كان عند الأم، سواء أكان ابناً أم بنتاً.
وأما الفتاة: فيضمها الأب أو الجد إذا كانت بكراً، وكذا إذا كانت ثيباً يخشى عليه الفتنة. فإن كان لا يخشى عليها، وكانت ذا خلق مستقيم وعقل سليم، وصارت مسنة بلغت سن الأربعين، فلها أن تنفرد بالسكنى حيث شاءت. ولا يلزم الأب بالإنفاق على الفتاة إذا رفضت السكنى معه أو متابعته بغير حق (1) .
والخلاصة: إذا بلغ الولد أو البنت بكراً أو ثيباً، وكانا غير مأمونين، فلا خيار لهم بالانفراد بالسكنى، بل يضمهم الأب إليه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 882/2 وما بعدها.(10/67)
الفَصْل الرّابع: الولاية
الولاية: هي تدبير الكبير الراشد شؤون القاصر الشخصية والمالية. والقاصر: من لم يستكمل أهلية الأداء، سواء أكان فاقداً لها كغير المميز أم ناقصها كالمميز.
وعرفها الحنفية بأنها: تنفيذ القول على الغير شاء أو أبى (1) .
وقد عرفنا في بحث الزواج أن الولي ركن من أركان العقد عند غير الحنفية، وهو شرط صحة نكاح صغير ومجنون ورقيق في مذهب الحنفية.
وعرفنا في بحث النظريات الفقهية أن الولاية نوعان: ولاية على النفس وولاية على المال. والولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية من صيانة وحفظ وتأديب وتعليم وتطبيب وتزويج ونحو ذلك.
والولاية على المال: هي الإشراف على شؤون القاصر المالية من استثمار وتصرفات كالبيع والإجارة والرهن وغيرها.
وينقسم هذا الفصل إلى مبحثين بحسب نوع هاتين الولايتين أذكرهما بإجمال.
__________
(1) الدر المختار: 406/2.(10/68)
المبحث الأول ـ الولاية على النفس:
أولاً ـ الولي على النفس وصلاحياته:
الولي على النفس في مذهب الحنفية (1) : هو الابن ثم الأب ثم الجد أبو الأب، ثم الأخ، ثم العم، أي أن الولاية على النفس تثبت عندهم على القاصر للعصبات بحسب ترتيب الإرث: البنوة، فالأبوة، فالأخوة، فالعمومة. ويقدم الشقيق على من كان لأب فقط. فإن لم يوجد أحد من العصبات انتقلت ولاية النفس إلى الأم ثم باقي ذوي الأرحام.
وأما في مذهب المالكية فتثبت هذه الولاية على الترتيب التالي (2) : البنوة، ثم الأبوة ثم الوصاية ثم الأخوة ثم الجدودة ثم العمومة. فالولي على النفس عندهم: هو الابن وابنه، ثم الأب ثم وصيه، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، ثم الجد أبو الأب، ثم العم وابنه. ويقدم الشقيق منهما على غير الشقيق، ثم القاضي في عصرنا.
ويجبر الولي على أخذ القاصر بعد انتهاء الحضانة؛ لأن الولاية على النفس حق من حقوق المولى عليه.
وصلاحيات ولي النفس: هي التأديب والتهذيب، ورعاية الصحة، والنمو الجسمي، والتعليم والتثقيف في المدارس، والإشراف على الزواج. وإذا كان القاصر أنثى وجب حمايتها وصيانتها، ولا يجوز للولي تسليمها إلى من يعلِّمها صناعة أو حرفة تختلط فيها بالرجال.
ثانياً ـ شروط الولي على النفس:
يشترط في الولي على النفس (3) : البلوغ والعقل (التكليف) والقدرة على تربية الولد، والأمانة على أخلاقه، والإسلام في حق المولى عليه المسلم أو المسلمة.
فلا ولاية لغير بالغ، ولا لغير عاقل، ولا لسفيه مبذر؛ لأن هؤلاء في حاجة إلى من يتولى شؤونهم، ولا ولاية لفاسق ماجن لا يبالي بما يفعل لأنه يضر بأخلاق القاصر وبماله. ولا ولاية لمهمل للولد كأن يتركه مريضاً، دون أن يحاول علاجه مع قدرته عليه، أو كأن يحرمه التعليم مع صلاحية الولد؛ لأن ذلك ضار بمصلحة القاصر.
وتنتقل الولاية حينئذ إلى الأصلح على وفق الترتيب المتقدم.
موقف القانون: نصت المادة (170) من القانون السوري على ولاية الأب والجد ولاية نفس ومال، وعلى صلاحيات الولي، وعلى ما يسقط ولايته:
1 - للأب ثم للجد العصبي ولاية على نفس القاصر وماله، وهما ملتزمان بالقيام عليه.
2 - لغيرهما من الأقارب بحسب الترتيب المبين في المادة (21) ولاية على نفسه دون ماله.
وأما نص المادة (21) فهو: الولي في الزواج هو العصبة بنفسه على ترتيب الإرث، بشرط أن يكون مَحْرماً.
ونصت المادة (1/22) على أنه: يشترط أن يكون الولي عاقلاً بالغاً.
3 - يدخل في الولاية النفسية: سلطة التأديب والتطبيب والتعليم والتوجيه إلى حرفة اكتسابية، والموافقة على التزويج، وسائر أمور العناية بشخص القاصر.
4 - يعتبر امتناع الولي عن إتمام تعليم الصغير حتى نهاية المرحلة الإلزامية سبباً لإسقاط ولايته، وتعتبر معارضة الحاضنة أو تقصيرها في تنفيذ ذلك سبباً مسقطاً لحضانتها.
__________
(1) الدر المختار: 427/2 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 198، شرح الرسالة: 31/2-32 ويلاحظ أن الولاية الإجبارية في عقد الزواج يقدم فيها الأب على الابن عند المالكية، أما الولاية الاختيارية فيقدم فيها الابن على الأب.
(3) الدر المختار: 406/2، 428 وما بعدها.(10/69)
ثالثاً ـ انتهاء الولاية على النفس:
تنتهي الولاية على النفس في رأي الحنفية في حق الغلام ببلوغه خمس عشرة سنة، أو بظهور علامة من علامات البلوغ الطبيعية، وكان عاقلاً مأموناً على نفسه. وإلا بقي في ولاية الولي.
وأما في حق الأنثى، فتنتهي هذه المرحلة بزواجها، فإن تزوجت صار حق إمساكها لزوجها، وإن لم تتزوج بقيت في ولاية غيرها إلى أن تصير مسنّة مأمونة على نفسها، فحينئذ يجوز لها أن تنفرد بالسكنى، أو تقيم مع أمها. ولم يحدد الحنفية هذه السن، والظاهر من كلامهم أن تصير عجوزاً لا يرغب فيها الرجال.
ولكن القضاء في مصر وسورية أجاز للأنثى إذا بلغت سن الرشد (21 سنة في مصر، و18 سنة في سورية) أن تنفرد بالسكنى عن ولي النفس، إذا كانت مأمونة على نفسها، ولا يخشى عليها الفتنة.
وأما في مذهب المالكية: فتنتهي الولاية على النفس بزوال سببها، وسببها الصغر وما في معناه: وهو الجنون والعته والمرض. وأما الأنثى فلا تنتهي الولاية النفسية عليها إلا بدخول الزوج بها، كما بان في بحث الحضانة.(10/70)
المبحث الثاني ـ الولاية على المال:
أولاً ـ الولي على المال:
إذا كان للقاصر مال، كان للأب الولاية على ماله حفظاً واستثماراً باتفاق المذاهب الأربعة، ثم اختلفوا فيمن تثبت له الولاية على مال القاصر بعد موت أبيه.
قال الحنفية: تثبت هذه الولاية للأب ثم لوصيه، ثم للجد أبي الأب ثم لوصيه، ثم للقاضي فوصيه.
وقال المالكية والحنابلة: تثبت هذه الولاية للأب ثم لوصيه، ثم للقاضي أو من يقيمه، ثم لجماعة المسلمين إن لم يوجد قاضٍ.
وقال الشافعية: تثبت هذه الولاية للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه. وبه يتبين أنهم خالفوا المذاهب الأخرى في تقديم الجد على وصي الأب؛ لأن الجد كالأب عند عدمه، لوفور شفقته مثل الأب، ولذا تثبت له ولاية التزويج.
ولا تثبت ولاية المال لغير هؤلاء كالأخ والعم والأم إلا بوصاية من قبل الأب أو القاضي.
وتستمر هذه الولاية حتى يبلغ القاصر سن الرشد. فإذا بلغ رشيداً، ثم طرأ عليه الجنون أو العته مثلاً، فهل تعود الولاية عليه؟
قال المالكية والحنابلة: لا تعود الولاية لمن كانت له، وإنما تكون للقاضي؛ لأن الولاية سقطت بالبلوغ عاقلاً، والساقط لا يعود. وقال الحنفية والشافعية في الأرجح عندهم: تعود الولاية لمن كانت له قبل البلوغ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا وجدت علة الولاية وجدت الولاية.
فإن كان الطارئ هو السفه: فإن الولاية على السفيه تكون في رأي الجمهور للقاضي أو من يعينه؛ لأن المقصود هو المحافظة على ماله، والنظر في مصالح الناس من صلاحيات القاضي.
حكم القانون: أخذ القانون المصري (م 1) رقم (119) لسنة (1952) والقانون السوري برأي الحنفية في ترتيب درجات الأولياء على المال، فنصت المادة (1/172) من القانون السوري على أنه: للأب والجد العصبي عند عدمه دون غيرهما ولاية على مال القاصر حفظاً وتصرفاً واستثماراً. وهذا يوافق المادة الأولى من القانون المصري.
ونصت المادة (176) من هذا القانون على تنصيب الأوصياء:
1 - يجوز للأب وللجد عند فقدان الأب أن يقيم وصياً مختاراً لولده القاصر أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه.
2 - وتعرض الوصاية بعد الوفاة على المحكمة لتثبيتها.
3 - إن الوصاية في أموال القاصرين بعد وفاة الأب هي للوصي الذي اختاره الأب، وإن لم يكن قريباً لهم، على أن تعرض الوصاية على القاضي لتثبيتها فيما إذا كانت مستوفية لشروطها الشرعية. وهذا يوافق المادة (28) من القانون المصري.
ونصت المادة (177) منه على وصي المحكمة: إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار، تعين المحكمة وصياً. وهي تطابق المادة (29) من القانون المصري.(10/71)
ثانياً ـ شروط الولي على المال:
يشترط لثبوت الولاية على المال ما يشترط لثبوت الولاية على النفس وهو ما يأتي (1) :
1ً - أن يكون الولي كامل الأهلية، وذلك بالبلوغ والعقل والحرية؛ لأن فاقد الأهلية أو ناقصها ليس أهلاً للولاية على مال نفسه، فلا يكون أهلاً للولاية على مال غيره.
2ً - ألا يكون سفيهاً مبذراً محجوراً عليه: لأنه لا يلي أمور نفسه، فلا يلي أمور غيره.
3ً - أن يكون متحد الدين مع القاصر، فلو كان الأب غير مسلم فلا يلي أمور ابنه المسلم.
ثالثاً ـ تصرفات الولي على المال:
تصرف الولي في مال القاصر مقيد بالمصلحة للمولى عليه، فلا يجوز له مباشرة التصرفات الضارة ضرراً محضاً كهبة شيء من مال المولى عليه أو التصدق به أو البيع والشراء بغبن فاحش، ويكون تصرفه باطلاً. وله مباشرة التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول الهبة والصدقة والوصية، وكذا التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والشركة والقسمة. ودليل هذا المبدأ قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه} [الإسراء:34/17] .
تصرفات الأب: الأب المبذر ليس له ولاية على مال القاصر، وعليه تسليم المال إلى وصي يختاره. فإن كان غير مبذر، فله الولاية على مال القاصر، وله في رأي الحنفية والمالكية بيع مال القاصر والشراء له، سواء أكان المال منقولاً أم عقاراً، ما دام العقد بمثل الثمن أو بغبن يسير: وهو ما يتغابن فيه الناس عادة. ولا ينفذ على القاصر البيع أوالشراء بغبن فاحش: وهو ما لا يتغابن فيه الناس عادة. لكن المفتى به لدى الحنفية أن الشراء ينفذ على الولي، لإمكان نفاذه عليه، بعكس البيع فلا ينفذ؛ لأن فيه ضرراً ظاهراً على المولى عليه.
__________
(1) الدر المختار: 406/2، 428 وما بعدها.(10/72)
وله أن يبيع مال نفسه لولده الصغير ونحوه، وأن يشتري مال ولده لنفسه بمثل الثمن أو بغبن يسير، ويتولى الأب طرفي العقد، وتكون عبارته قائمة مقام الإيجاب والقبول، استثناء من مبدأ تعدد العاقد في العقود المالية، نظراً لوفور شفقة الأب على ولده.
وليس للأب أن يتبرع بشيء من مال الصغير ونحوه؛ لأن التبرع تصرف ضار ضرراً محضاً، فلا يملكه الولي ولو كان أباً.
وليس له أيضاً أن يقرض مال الصغير للغير، ولا أن يقترض لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل استثمار المال.
ويجوز للأب في رأي أبي حنيفة ومحمد أن يرهن شيئاً من مال ولده في دين نفسه، قياساً على ما له من إيداع مال ولده. ولا يجوز هذا الرهن في رأي أبي يوسف وزفر؛ لأن في الرهن تعطيلاً لمنفعة المال، إذ يبقى محبوساً إلى سداد الدين.
حكم القانون: منع القانون المصري رقم (119) لسنة (1952) في المادة الخامسة منه تبرع الولي بشيء من مال القاصر، إلا لأداء واجب إنساني أو عائلي بإذن المحكمة. وهذا الاستثناء مخالف لرأي الفقهاء. ومنعت المادة السادسة منه التصرف في عقار القاصر ببيع أو إجارة لنفسه أو لزوجه أو لأقاربه أو لأقاربها إلى الدرجة الرابعة إلا إذا أذنت المحكمة بذلك، رعاية لمصلحة الصغير. ومنعت هذه المادة أيضاً أخذاً برأي أبي يوسف وزفر رهن مال الصغير في دين على الولي نفسه؛ لأن الرهن يفضي غالباً إلى استيفاء الدين من مال المرهون.
ومنعت المادة السابعة الأب من التصرف في عقار القاصر أو محله التجاري أو أوراقه المالية إذا زادت قيمتها على ثلاثمائة جنيه إلا بإذن المحكمة، رعاية لمصالح المولى عليه.(10/73)
ومنعت المادة التاسعة الولي من إقراض مال القاصر واقتراضه إلا بإذن المحكمة، كما منعته المادة العاشرة من إيجار عقار القاصر لمدة تتجاوز بلوغه سن الرشد إلا بإذن المحكمة. وكذلك منعته المادة الحادية عشرة من الاستمرار في تجارة آلت للقاصر إلا بإذن المحكمة وفي حدود هذا الإذن. وهذا من قبيل الاحتياط لمصلحة القاصر.
وأجازت المادة الرابعة عشرة للأب وحده أن يتعاقد مع نفسه بالنيابة عن القاصر، سواء أكان ذلك لحسابه هو أم لحساب شخص آخر إلا إذا نص القانون على غير ذلك.
ونصت المادة الثالثة على أنه «لا يدخل في الولاية مايؤول للقاصر من مال بطريق التبرع إذا اشترط المتبرع ذلك» .
وتتفق هذه الأحكام غالباً مع المقرر في القانون السوري، فنصت المادة (2/172) على أنه: «لا ينزع مال القاصر من يد الأب أو الجد العصبي ما لم تثبت خيانته أو سوء تصرفاته فيه، وليس لأحدهما التبرع بمال القاصر أو بمنافعه أصلاً، ولا يبيع عقاره أو رهنه إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ» وهذا من قبيل الاحتياط في صيانة مال القاصر؛ لأن الضرر في بيع عقاره أكثر من الضرر في بيع ماله المنقول غالباً.
ونصت المادة (171) على مضمون المادة الثالثة في القانون المصري: «إذا اشترط المتبرع بمال للقاصر عدم تصرف وليه به، تعين المحكمة وصياً خاصاً على هذا المال» .
ونصت المادة (173) على أحوال نزع الولاية المالية من الأب والجد أو الحد منها: «إذا أصبحت أموال القاصر في خطر بسبب سوء تصرف الولي أو لأي سبب آخر، وخيف عليها منه، فللمحكمة أن تنزع ولايته أو تحد منها، ويجوز للقاضي أن يعهد إلى حاضنة القاصر ببعض أعمال الولي الشرعي المالية إذا تحقق له أن مصلحة القصار تقضي بذلك، وبعد سماع أقوال الولي» .
وخصصت المادة (174) لأحوال إيقاف الولاية: «تقف الولاية إذا اعتبر الولي مفقوداً، أو حجر عليه أو اعتقل، وتعرضت باعتقاله مصلحة القاصر للضياع، ويعين للقاصر وصي مؤقت إذا لم يكن له ولي آخر» .
الولي الخاص: ونصت المادة (175) على حالة تعيين ولي خاص: «تعين المحكمة ولياً خاصاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة وليه، أو عند تعارض مصالح القاصرين بعضها مع بعض» .(10/74)
رابعاً ـ شروط الوصي المختار ـ وصي الأب وتصرفاته:
الوصي نوعان:
1ً - الوصي المختار: هو الذي يعينه الأب أو الجد للإشراف على أموال أولاده أو أحفاده.
2ً - وصي القاضي: هو الذي يعينه القاضي للإشراف على التركة والأولاد.
وشروط الوصي أربعة:
1ً - البلوغ: وهو شرط في سائر التصرفات، فلا تثبت الولاية للصبي؛ لأنه قاصر النظر لا يهتدي إلى وجوه المصلحة أو المنفعة.
2ً - العقل: وهو شرط أيضاً في سائر التصرفات، فلا تثبت الولاية للمجنون ونحوه؛ لأنه لا يهتدي إلى حسن التصرف في حق نفسه، فلا يلي شؤون غيره.
أما اشتراط الفقهاء الحرية فلم يعد له معنى اليوم لإلغاء الرق.
3ً - الإسلام في حق المولى عليه المسلم: فلا ولاية لكافر على مسلم؛ لأن الإيصاء كالولاية، ولاولاية لغير المسلم على المسلم.
4ً - العدالة: فلا ولاية لفاسق؛ لأن الإشراف على مصالح الغير يتطلب استقامة ونزاهة وورعاً. والعدالة: اجتناب المعاصي الكبائر كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، وعدم الإصرار على الصغائر كإدمان التلصص على النساء. فإذا فقد شرط من هذه الشروط، صح الإيصاء عند الحنفية على المعتمد، ويعزله القاضي ويعين غيره.(10/75)
ويصح الإيصاء للمرأة في رأي أكثرية العلماء؛ لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، ولأنه تصح شهادتها وتصرفاتها المالية كالرجل، فتجوز وصايتها. ويصح الإيصاء للأعمى في رأي الجمهور؛ لأنه خبير يحسن التصرف كالمبصر، ولأنه تصح شهادته وولايته في الزواج وعلى أولاده الصغار، فصح الإيصاء إليه.
حكم القانون: نصت المادة (27) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 على شروط الوصي ومن ليس أهلاً للوصاية، وهو نص المادة (178) من القانون السوري الآتية:
1 - يجب أن يكون الوصي عدلاً، قادراً على القيام بالوصاية، ذا أهلية كاملة، وأن يكون من ملةالقاصر.
2 - لا يجوز أن يكون وصياً:
أـ المحكوم عليه في جريمة سرقة أو إساءة الائتمان أو تزوير أو في جريمة من الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة.
ب ـ المحكوم بإفلاسه إلى أن يعاد إليه اعتباره.
جـ ـ من قرر الأب أو الجد عند عدمه حرمانه من التعيين قبل وفاته إذا ثبت ذلك ببينة خطية.
د ـ من كان بينه هو أو أحد أصوله أو فروعه أو زوجه وبين القاصر نزاع قضائي أو خلاف عائلي يخشى منه على مصلحة القاصر.
وهذ تفصيل مترتب على ما اشترطه الفقهاء.
الوصي المؤقت: نصت المادة (179) على حالة تعيين وصي مؤقت تشبه حالة تعيين ولي خاص في المادة (175) السابقة، ونصها هو ما يأتي: ينصب القاصي وصياً خاصاً مؤقتاً عند تعارض مصلحة القاصر مع مصلحة الوصي أو زوجه أو أحد أصوله أو فروعه، أو من يمثلهم الوصي، إن لم يبلغ هذا التعارض النزاع المنصوص عليه في المادة السابقة (أي المادة 178) .
ونصت المادة (188) على حالة أخرى لتعيين وصي مؤقت:
1 - إذا رأت المحكمة كفَّ يد الوصي، عينت وصياً مؤقتاً لإدارة أموال القاصر إلى حين زوال سبب الكف أو تعيين وصي جديد.
2 - تسري على الوصي المؤقت أحكام الوصاية الواردة في هذا القانون.(10/76)
وأما تصرفات الوصي المختار، فهي ما يأتي:
يملك وصي الأب أو الجد ما يملكه الأب إلا فيما يأتي بسبب عدم توافر الشفقة الكائنة عند الأب:
1ً - بيع العقار: لا يملك الوصي المختار بيع عقار القاصر إلا إذا كان هناك مسوغ شرعي، كأن يكون بيع العقار خيراً للصغير، وذلك فيما يأتي:
أـ بيع العقار بضعف قيمته فأكثر، فيستطيع الوصي شراء عقار أنفع مما باعه.
ب ـ أن تزيد ضريبة العقار ومصاريفه على غلاته.
جـ ـ أن يتعين بيع العقار لصرف ثمنه في نفقة القاصر.
2ً - بيع الوصي مال نفسه لليتيم أو شراء ماله لنفسه: لا يجوز للوصي المختار بيع ماله للقاصر أو شراء مال القاصر لنفسه إلا إذا كان في البيع والشراء منفعة ظاهرة. وتتحقق هذه المنفعة في رأي أبي حنيفة بأن يبيع العقار للقاصر بنصف القيمة، ويشتري منه العقار بضعف قيمته. وفي غير العقار: أن يبيع له ما يساوي (15 بعشرة) ، ويشتري ما يساوي عشرة بخمسة عشر.
وقال الصاحبان والأئمة الآخرون: لا يجوز للوصي أن يبيع أو يشتري من مال الصغير مطلقاً.
وأما في القانون: فقد نصت المادة (38) من القانون المصري رقم (119) لسنة 1952 على منع الوصي من التبرع بمال القاصر إلا لأداء واجب إنساني أوعائلي وبإذن المحكمة. وهذا نفس المقرر بالنسبة للأب. ونصت المادة (180) سوري على أن: تبرع الوصي من مال القاصر باطل. ومنعت المادة (39) مصري و (182) سوري من طائفة من التصرفات إلا بإذن المحكمة وهي ما يأتي على الترتيب في القانون السوري:
أـ التصرف في أموال القاصر بالبيع أو الشراء أو المقايضة أو الشركة أو الإقراض أو الرهن أو أي نوع آخر من أنواع التصرفت الناقلة للملكية أو المترتبة لحق عيني.
ب ـ تحويل الديون التي تكون للقاصر وقبول الحوالة عليه.
جـ ـ استثمار الأموال وتصفيتها واقتراض المال للقاصر.
د ـ إيجار عقار القاصر لمدة أكثر من ثلاث سنوات في الأراضي الزراعية أو أكثر من سنة في المباني.
هـ ـ إيجار عقار القاصر لمدة تمتد إلى سنة بعد بلوغه سن الرشد.(10/77)
وـ قبول التبرعات المقيدة بشرط أو رفضها. ز ـ الإنفاق من مال القاصر على من تجب عليه نفقتهم إلا إذا كانت النفقة محكوماً بها حكماً مبرماً.
ح ـ الصلح والتحكيم.
ط ـ الوفاء بالالتزامات التي تكون على التركة أو القاصر ما لم يكن قد صدر بها حكم مبرم.
ي ـ رفع الدعاوى إلا ما يكون في تأخيره ضرر للقاصر أو ضياع حق له.
ك ـ التنازع عن الدعاوى وإسقاط حقه في طرق المراجعة القانونية.
ل ـ التعاقد مع المحامين للخصومة عن القاصر.
م ـ تبديل التأمينات أو تعديلها.
ن ـ استئجار أموال القاصر أو إيجارها لنفسه أو لزوجه أو لأحد أقاربه أو أصهاره حتى الدرجة الرابعة أو لمن يكون الوصي نائباً عنه.
س ـ ما يصرف في تزويج القاصر.
ع ـ إصلاح عقار القاصر وترميمه وتبديل معالمه أوإنشاء بناء عليه أو هدمه أو غرس أغراس ونحو ذلك، ويتضمن الإذن في هذه الحالة تحديد مدى التصرف وخطة العمل.
ونصت المادة (181) على أن إجراء القسمة بالتراضي مع باقي الشركاء لا ينفذ إلا بتصديق القاضي.
وهذه القيود لا مانع منها شرعاً؛ لأن المقصود منها رعاية مصلحة القاصر والمحافظة على ماله، وهو مايريده الفقهاء.(10/78)
خامساًً ـ القاضي ووصيه وتصرفاته:
إذا لم يوجد أب ولا جد ولا وصيهما، انتقلت الولاية للقاضي، لما له من الولاية العامة، فله أن يتصرف بنفسه في أموال القاصر بما فيه المصلحة. لكن العمل جرى على أن القاضي لا يشرف بنفسه على أموال الصغار، بل يعين وصياً من قبله يسمى (وصي القاضي) أو (الوصي المعين) .
ويتصرف وصي القاضي كما يتصرف الوصي المختار، يتصرف في كل ما كان نافعاً للقاصر، ويعمل على حفظ ماله وتنميته، ويختلف عن الوصي المختار في حالات (1) :
1 - ليس لوصي القاضي أن يشتري شيئاً لنفسه من مال القاصر ولا أن يبيع شيئاً. أما الوصي المختار فله ذلك إذا كان في تصرفه منفعة ظاهرة للقاصر، كما تقدم.
2 - وصي القاضي يقبل التخصيص، أما الوصي المختار فلا يقبل التخصيص على رأي أبي حنيفة.
3 - ليس لوصي القاضي أن يبيع مال القاصر لمن لا تقبل شهادته للوصي كأبيه أو ابنه، ولا أن يشتري منه شيئاً للقاصر، أما الوصي المختار فله أن يفعل ذلك.
4 - للقاضي سؤال وصيه عن مقدار التركة، وليس للوصي المختار ذلك.
5 - إذا أوصى وصي القاضي لآخر على تركته، لم يكن وصياً على التركتين، بخلاف الوصي المختار.
ليس لوصي القاضي الموكل بالخصومة في عقار القاصر قبضه إلا بإذن من القاضي، أو بتوكيل سابق فيه. أما الوصي المختار فيملك القبض من غير إذن.
7 - ليس لوصي القاضي إيجار القاصر، أما الوصي المختار فله ذلك.
حكم القانون: لم يفرق القانون المصري والسوري بين الوصي المختار وبين وصي القاضي في كل الحالات. وأخضع تصرفات الوصي لإشراف المحكمة، كما تقدم.
سادساً ـ انتهاء الولاية والوصاية:
تنتهي الولاية على المال بزوال سببها وهو الصغر وبلوغه سن الرشد المالي. ويعرف الرشد عن طريق الاختبار والتجربة، فإذا تبين بالتجربة رشده، سلِّمت إليه أمواله وزالت الولاية عنه.
أما القانون المصري والسوري فقد حددا للرشد سناً معينة، وهي (21) سنة في مصر، و (18) سنة في سورية. نصت المادة (18) من قانون الولاية على المال في مصر على أنه تزول الولاية أو الوصاية على الصغير ببلوغه إحدى وعشرين سنة إلا إذا حكمت المحكمة قبل هذه السن باستمرار الولاية.
ونصت المادة (47) على انتهاء الوصاية بأحد الأمور الآتية:
1 - بلوغ القاصر إحدى وعشرين سنة إلا إذا تقرر استمرار الوصاية عليه.
2 - عودة الولاية للولي، وذلك إذا سلبت المحكمة الولاية من الولي وعينت وصياً على القاصر، ثم زال سبب سلب الولاية، فأمرت المحكمة بإعادتها.
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية للأستاذ مصطفى السباعي: 62/2 ومابعدها.(10/79)
3 - عزل القاضي أو قبول استقالته. 4 - فقد الوصي أهليته، أو ثبوت غيبته أو موته أو موت القاصر، وذلك إذا صدر قرار من المحكمة بذلك إلا في حالة العته أو الجنون، فإنه تسري أحكام القانون المدني.
وعلى الوصي إذا انتهت الوصاية أن يسلم خلال ثلاثين يوماً بعد انتهائها جميع أموال القاصر التي في عهدته.
وحددت المادة (46) من القانون المدني السوري لسنة (1949) سن الرشد بتمام ثماني عشرة سنة شمسية كاملة.
ونصت المادة (189) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يلي: تنتهي مهمة الوصي في الأحوال التالية:
أـ بموت القاصر.
ب ـ ببلوغه ثماني عشرة سنة إلا إذا قررت المحكمة قبل بلوغه هذه السن استمرار الوصاية عليه، أو بلغها معتوهاً أو مجنوناً.
جـ ـ بعودة الولاية للأب أو للجد.
د ـ بانتهاء العمل الذي أقيم الوصي الخاص لمباشرته أو انقضاء المدة التي حدد بها تعيين الوصي المؤقت.
هـ ـ بقبول استقالته.
وـ بزوال أهليته.
ز ـ بفقده.
ح ـ بعزله. ونصت المادة (191) على ما يلي كما هو المقرر في القانون المصري:
1 - على الوصي الذي انتهت وصايته أن يسلم في خلال ثلاثين يوماً من انتهائها الأموال التي في عهدته، ويقدم عنها حساباً مؤيداً بالمستندات إلى من يخلفه، أو إلى القاصر الذي بلغ سن الرشد، أو إلى ورثته إن توفي. وعليه أيضاً أن يقدم صورة عن الحساب إلى المحكمة، وإلى الناظر إن وجد.
2 - إذا توفي الوصي أو حجر عليه أوفقد، فعلى ورثته أو من يمثله تسليم أموال القاصر وتقديم الحساب.
3 - يباشر مدير الأيتام صلاحية الوصي بما يحقق مصلحة القاصر، إلى أن يعين الوصي الخلف للوصي الذي انتهت وصايته لأي سبب كان.(10/80)
الفَصْلُ الخامِس: النَّفَقَات
................................نفقة الزوجة والأقارب..................................
أوضحت في هذا الفصل نفقة الزوجة مع نفقة الأقارب، جمعاً لمسائل البحث، وتسهيلاً على الباحث. وقد تضمن تمهيداً يشمل مبادئ عامة عن النفقات، وأربعة مباحث:
الأول ـ نفقة الزوجة.
الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع.
الثالث ـ نفقة الأصول، أو الآباء والأجداد والأمهات.
الرابع ـ نفقة الأقارب: الحواشي وذوي الأرحام.
علماً بأن واجب الإنفاق يشمل أيضاً كل ما يتبع الإنسان من الرقيق، والحيوان والنبات والزرع، والدور والأراضي، منعاً من الضياع والتلف، وإضاعة المال حرام. لكن كره الجمهور ترك الزرع والشجر بدون سقي وتعهد، والدور والأراضي بدون إصلاح وتعمير، إلا إذا كان ذلك وقفاً أو لقاصر أو مشتركاً فيجب الإنفاق عليه.
أما نفقة الحيوان: فيجب على المالك إطعام بهائمه ولو مرضت، وسقيها وريها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عُذّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل حشاش الأرض» (1) . ويحرم عليه أن يحملها ما لا تطيق؛ لأن الشارع منع تكليف العبد ما لا يطيق، فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولأن فيه تعذيباً للحيوان الذي له حرمة في نفسه، وإضراراً به (2) .
ويحرم أن يحلب من لبنها ما يضر بولدها؛ لأنه غذاء للولد، فلا يجوز منعه، ولأن كفايته واجبة على مالكه. ويسن أن يقلم أظفاره لئلا يؤذيها عند الحلب. كما يجب إبقاء شيء من العسل في الخلية بقدر حاجة النحل إذا لم يكفه غيره.
وإن امتنع المالك من الإنفاق على بهيمة، أجبر عليه عند الجمهور قضاء وديانة، كما يجبر على نفقة زوجته. وإن لم يكن له مال أكري عليه إن أمكن كراؤه، فإن لم يمكن بيع عليه. وقال الحنفية: لا يجبر قضاء على نفقة البهائم، في ظاهر الرواية، ولكنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى أي ديانة أن ينفق عليها. ولا يجبر أيضاً على نفقة الجمادات كالدور والعقار ولا يفتى أيضاً بالوجوب، لكن يكره له تحريماً تضييع المال.
__________
(1) متفق عليه عن ابن عمر مرفوعاً.
(2) المهذب: 168/2 وما بعدها، كشاف القناع: 573/5 وما بعدها، البدائع: 40/4، القوانين الفقهية: ص 223.(10/81)
ويحرم وسم في الوجه وضرب عليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لعن من وسم أو ضرب الوجه، ونهى عنه، كما يحرم ضرب وجه الآدمي، بل الحرمة أشد؛ لأنه أعظم حرمة. ويحرم على المالك التحريش بين الديكة أو الثيران أو غيرها، لما فيه من تعذيبها. ويحرم عليه ـ كما تقدم ـ تكليف الدابة ما لا تطيق من ثقل الحمل أو إدامة السير أو نحوهما.
ويحرم لعن الدابة، لما روى أحمد ومسلم عن عمران: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة، فقال: خذوا ما عليها، ودعوها مكانها ملعونة، فكأني أراها الآن تمشي في الناس، ما يَعرِض لها حد» ، ولهما من حديث أبي بَرْزة: «لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة» وكذلك يحرم لعن الإنسان.
ولا يجوز قتل البهيمة ولا ذبحها للإراحة؛ لأنها مال ما دامت حية، وذبحها إتلاف لها، وقد نهي عن إتلاف المال، وكذلك يحرم قتل الآدمي المتألم بالأمراض الصعبة أو المصلوب بنحو حديد؛ لأنه معصوم ما دام حياً. ويحسن قتل ما يباح قتله من الحيوانات المؤذية كالكلب العضوض.(10/82)
مبادئ عامة في النفقات:
1 - معنى النفقة وأسبابها: النفقة مشتقة من الإنفاق: وهو الإخراج، ولا يستعمل إلا في الخير. وجمعها نفقات. وهي لغة: ما ينفقه الإنسان على عياله. وهي في الأصل: الدراهم من الأموال. وشرعاً: هي كفاية من يمونه من الطعام والكسوة والسكنى (1) . وعرفاً هي الطعام. والطعام: يشمل الخبز والأُدم والشرب. والكسوة: السترة والغطاء. والسكنى: تشمل البيت ومتاعه ومرافقه من ثمن الماء ودهن المصباح وآلة التنظيف والخدمة ونحوها بحسب العرف.
والنفقة قسمان (2) :
1ً - نفقة تجب للإنسان على نفسه إذا قدر عليها، وعليه أن يقدمها على نفقة غيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» (3) أي بمن تجب عليك نفقته.
2ً - ونفقة تجب على الإنسان لغيره. وأسباب وجوبه ثلاثة: الزوجية، والقرابة الخاصة، والمِلْك (4) .
2 - الحقوق الواجبة بالزوجية: وهي سبعة (5) :
الطعام، والإدام، والكسوة، وآلة التنظيف، ومتاع البيت، والسكنى، وخادم إن كانت الزوجة ممن تخدم. وسأبين في المبحث الأول كل واجب من هذه الواجبات.
3 - القرابة الموجبة للنفقة:
للمذاهب آراء أربعة تتفاوت فيما بينها ضيقاً واتساعاً في تحديد مدى القرابة الموجبة للنفقة، فأضيقها مذهب المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنفية، ثم الحنابلة (6) .
أـ مذهب المالكية: أن النفقة الواجبة هي للأبوين والأبناء مباشرة فحسب دون غيرهم، فتجب النفقة للأب والأم، وللولد ذكراً أو أنثى، ولا تجب للجد والجدة، ولا لولد الولد، لقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/17]
__________
(1) الدر المختار: 886/2.
(2) مغني المحتاج: 425/3.
(3) هذا مركب من حديثين، فالشق الأول رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها..» والشق الثاني أخرجه البخاري عن أبي هريرة بلفظ «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» (نيل الأوطار: 321/6، 324) .
(4) الدر المختار، ومغني المحتاج: المكان السابق.
(5) مغني المحتاج: 426/3، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها.
(6) القوانين الفقهية: ص 222، المهذب: 156/2، اللباب: 105/3، المغني: 582/7-586، فتح القدير: 350/3.(10/83)
وقوله سبحانه: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/31] وقوله صلّى الله عليه وسلم لمن جاء يشكو أباه الذي يريد أن يجتاح (1) ماله: «أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً» (2) .
ودليل وجوب نفقة الولد مادام صغيراً لم يبلغ على أبيه: قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] وقوله صلّى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (3) . فالنفقة واجبة للوالد والولد فقط.
ب ـ مذهب الشافعية: أن القرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الأولاد وإن سفلوا، للآيات والأحاديث السابقة؛ لأن اسم الوالدين يقع على الأجداد والجدات مع الآباء، لقوله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78/22] فسمى الله تعالى إبراهيم أباً وهو جد، ولأن الجد كالأب، والجدة كالأم في أحكام الولادة من رد الشهادة وإيجاب النفقة وغيرهما. واسم الولد يقع على ولد الولد، لقوله عز وجل: {يا بني آدم} [الأعراف:31/7] .
ولا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهما؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين، وأما من سواهم فلا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة. فالنفقة واجبة للأصول والفروع فقط.
__________
(1) الاجتياح: الاستئصال، ومنه الجائحة للشدة المجتاحة للمال.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه أحمد عن عائشة ورواه الخمسة وعائشة بدون الشق الأول، ورواه ابن ماجه عن جابر بلفظ: «أنت ومالك لأبيك» قال ابن رسلان: اللام للإباحة، لا للتمليك، فإن مال الولد له، وزكاته عليه، وهو موروث عنه (نيل الأوطار: 11/6-12) .
(3) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي عن عائشة (نيل الأوطار: 323/6) .(10/84)
جـ ـ مذهب الحنفية: تجب النفقة للقرابة المحرمة للزواج، أي لكل ذي رحم محرم، ولا تجب لقريب غير محرم من الإنسان، لقوله تعالى: {واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى} [النساء:36/4] وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه} [الإسراء:26/17] وما روي عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، من أبرُّ؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أمَّك، قال: «قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: أمَّك، قال: قلت: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب» (1) العبارة الأخيرة دليل على وجوب نفقة الأقارب على الأقارب، سواء أكانوا وارثين أم لا.
لكن قيد الحنفية القرابة بالمحرمية في قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] عملاً بما جاء في قراءة ابن مسعود: (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك) ولأن صلة القرابة القريبة واجبة دون البعيدة. فالنفقة واجبة للأصول والفروع والحواشي ذوي الأرحام.
د ـ مذهب الحنابلة: تجب النفقة لكل قريب وارث بالفرض أو التعصيب من الأصول والفروع والحواشي كالإخوة والأعمام وأبنائهم، وكذا من ذوي الأرحام إذا كانوا من عمود النسب كأب الأم. وابن البنت، سواء أكانوا وارثين أم محجوبين. أما من كان من غير عمود النسب كالخالة والعمة، فلا نفقة له على قريبه؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث كسائر المسلمين.
فهم لم يشترطوا المحرمية كما اشترطها الحنفية، فيستحق ابن العم النفقة على ابن عمه؛ لأنه وارث، ولا يستحقها عند الحنفية؛ لأنه غير محرم.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (نيل الأوطار: 327/6) .(10/85)
ودليلهم قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال المورث من سائر الناس، فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثاً لعدم القرابة، لم تجب عليه النفقة لذلك.
يظهر من هذه المذاهب أن الفقهاء أجمعوا على وجوب النفقة للآباء والأمهات والأولاد والزوجات في حالة العجز والإعسار، وكان المنفق موسراً. فإن كان الأب معسراً والأم موسرة، تؤمر بالإنفاق، وتكون النفقة ديناً على الأب (1) .
وقال ابن حزم الظاهري (2) : إن عجز الزوج عن نفقة نفسه، وامرأته غنية، كلفت النفقة عليه، ولا ترجع عليه بشيء مما أنفقته إن أيسر، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضارّ والدة بولدها، ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] قال علي رضي الله عنه: الزوجة وارثة، فعليها نفقته بنص القرآن.
4 - مبدأ كفاية النفقة للقريب والزوجة:
اتفق الفقهاء (3) على أن نفقة الأقارب والزوجات تجب بقدر الكفاية من الخبز والأدم والكسوة والسكن على حسب حال المنفق وبقدر العادة أو عوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، والحاجة تندفع بالكفاية، كنفقة الزوجة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية. فإن احتاج القريب أو الزوجة إلى خادم فعلى المنفق إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته.
__________
(1) الدر المختار: 925/2.
(2) المحلى: 114/10، مسألة 1930.
(3) البدائع: 36/4، 38، حاشية ابن عابدين: 924/2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 167/2، مغني المحتاج: 448/3، المغني: 595/7.(10/86)
5 - شروط وجوب النفقة:
يشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط (1) :
أولاً ـ أن يكون القريب فقيراً لا مال له ولا قدرة له على الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة المرضية، ويستثنى الأبوان فتجب لهما النفقة ولو مع القدرة على الكسب بالصحة والقوة. فإن كان القريب موسراً بمال أو كسب يستغني به غير الوالدين، فلا نفقة له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة. والراجح عند المالكية أن النفقة للوالدين على الولد لا تجب إذا قدر على الكسب وتركاه.
ثانياً ـ أن يكون الملزم بالنفقة موسراً مالكاً نفقة فاضلة عن نفسه إما من ماله وإما من كسبه، فيلزم القادر على التكسب أن يعمل للإنفاق على قريبه الفقير. ويستثنى الأب، فنفقة أولاد هـ واجبة عليه ولو كان معسراً. وكذلك الزوج، فنفقة زوجته واجبة عليه ولو كان معسراً. وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه ولو قدر على التكسب.
ودليل اشتراط هذا الشرط حديث: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وحديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر؟ قال:
__________
(1) فتح القدير: 347/3، الدر المختار: 923/2-925، القوانين الفقهية: ص 222، المهذب: 166/2، المغني: 584/7، 586، 589، مغني المحتاج: 446/3-448، كشاف القناع: 558/5-660، الشرح الصغير: 750/2 وما بعدها.(10/87)
تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر به» (1) .
ثالثاً ـ أن يكون المنفق قريباً للمنفق عليه ذا رحم محرم منه، مستحقاً للإرث منه في مذهب الحنفية. أما في رأي الحنابلة فيشترط أن يكون المنفق وارثاً لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] . وأما عند المالكية فأن يكون أباً أو ابناً، وعند الشافعية أن يكون من الأصول أو الفروع، كما أبنت في بحث المبدأ الثالث. وينفق الأب على ولده مادام يتعلم، ولو بعد البلوغ، كما سيأتي.
شرط اتحاد الدين:
اتفق الفقهاء على وجوب النفقة للزوجة مع اختلاف الدين ما لم تكن ناشزة أو مرتدة، واختلفوا في شرط اتحاد الدين للإنفاق على القريب (2) :
فلم يشترط المالكية والشافعية اتفاق الدين في وجوب النفقة، بل ينفق المسلم على الكافر، والكافر على المسلم، لعموم الأدلة الموجبة للنفقة، وقياساً على نفقة الزوجة، ولوجود الموجب وهو البعضية، أي كون القريب بعضاً من قريبه. وللحنابلة روايتان:
إحداهما ـ تجب النفقة مع اختلاف الدين كالرأي المتقدم.
والثانية وهي المعتمدة ـ لا تجب النفقة مع اختلاف الدين؛ لأنها مواساة على البر والصلة ولعدم الإرث، وتفارق نفقة الزوجات؛ لأنها عوض يجب مع الإعسار، فلم يمنعها اختلاف الدين كالصداق والأجرة.
ولم يشترط الحنفية اتحاد الدين في نفقة الأصول (وهم الآباء والأجداد وإن علوا) ونفقة الفروع (وهم الأولاد وأولاد الأولاد وإن نزلوا) ونفقة الزوجة، واشترطوا اتحاد الدين في غير هذه الفئات الثلاث، لعدم أهلية الإرث بين المسلم وغير المسلم.
__________
(1) انظر الأحاديث في نيل الأوطار: 321/6.
(2) البدائع: 36/4، الكتاب مع اللباب: 104/3 وما بعدها، فتح القدير: 347/3 وما بعدها، 352، القوانين الفقهية: ص 223، مغني المحتاج: 447/3، المهذب: 160/2 وما بعدها، المغني: 585/7.(10/88)
فعلى الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا كانوا فقراء، وإن خالفوه في دينه، أما الأبوان فلقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/31] وليس من المعروف أن يعيش الولد في نعم الله تعالى، ويترك والديه يموتان جوعاً. وأما الأجداد والجدات، فلأنهم من الآباء والأمهات، فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه.
ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة والأبوين والأجداد والجدات، والولد وولد الولد؛ لأن نفقة الزوجة واجبة في مقابل الاحتباس، وأما غيرها من نفقة الأصول والفروع فلثبوت الجزئية بين المنفق والمنفق عليه، وجزء المرء في معنى نفسه. فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر لا تمتنع نفقة جزئه، إلا أنهم إذا كانوا حربيين لا تجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا نهينا عن برّ من يقاتلنا في الدين. والخلاصة: أن مذهب الحنفية المعتدل أوجب النفقة للأصول والفروع دون غيرهم من الأقرباء بسبب الجزئية وهي لا تختلف باختلاف الدين. ولا تجب لغيرهم مع اختلاف الدين، لعدم وجود الإرث بين الأقارب حينئذ.
حد اليسار والإعسار:
تجب النفقة على الموسر لقريبه، واليسار عند الحنفية على الأرجح المفتى به (1) : هو يسار الفطرة: وهو أن يملك ما يحرم عليه به أخذ الزكاة وهو نصاب ولو غير نام، فاضل عن حوائجه الأصلية. ونصاب الزكاة هو عشرون مثقالاً أو ديناراً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة. فمن وجبت عليه الزكاة بملك نصابها وجب عليه الإنفاق على قريبه بشرط أن يكون المال فاضلاً عن نفقته ونفقة عائلته وحوائجه الضرورية.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 931/2، البدائع: 35/4.(10/89)
وأطلق الجمهور (1) غير الحنفية القول بأنه يجب الإنفاق على القريب بفاضل عن قوته وقوت عياله في يومه وليلته التي تليه، سواء فَضََل ذلك بكسب أم لا. وهذا هو قول محمد بن الحسن واختاره الكمال بن الهمام وغيره من الحنفية، وهو الأولى مراعاة لدخل الموظفين والحرفيين، فمن اكتسب شيئاً في يومه، وأنفق منه ما يحتاجه في يومه، وزاد عنه شيء، وجب أن يدفعه للقريب المعسر.
وأما حد الإعسار أوا لمعسر الذي يستحق النفقة، فقيه رأيان (2) :
الأول ـ هو الذي يحل له أخذ الصدقة ولاتجب عليه الزكاة.
والثاني ـ إنه هو المحتاج. والمعسر في عبارة غير الحنفية: هو الفقير الذي لا مال له، والرأيان متقاربان.
واختلف الحنفية (3) فيمن يملك منزلاً أو له خادم، هل يستحق النفقة على قريبه الموسر على روايتين:
الأولى ـ إنه لا يستحق النفقة على قريبه الموسر؛ لأن النفقة لا تجب لغير المحتاج، ومثل هؤلاء غير محتاجين؛ لأنه يمكنه بيع بعض المنزل أو كله، ويكتري منزلاً، فيسكن بالكراء، أو يبيع الخادم إذا كان رقيقاً كما كان في الماضي.
والثانية ـ إنه يستحق؛ لأن بيع المنزل لا يقع إلا نادراً، ولا يمكن لكل أحد السكنى بالكراء أو بالمنزل المشترك. قال الكاساني: وهذا هو الصواب.
العجز عن الكسب والقدرة عليه:
اتفق الفقهاء (4) على وجوب النفقة لقريب فقير عاجز عن الكسب، والعجز عن الكسب: ألا يستطيع الإنسان اكتساب معيشته بالوسائل المشروعة المعتادة اللائقة به، وله صفات هي:
أن يكون أنثى مطلقاً أو مريضاً زَمِناً (5) ، أو صغيراً، أو مجنوناً أو معتوهاً، أو مصاباً بآفة تحول دون العمل كالعمى والشلل، أو عاطلاً عن العمل فلا يجد عملاً بسب انتشار البطالة.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 750/2، مغني المحتاج: 447/3، المغني: 584/7.
(2) البدائع: 34/4، القوانين الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 448/3، كشاف القناع: 559/5.
(3) البدائع: 34/4.
(4) الدر المختار: 923/2-925، 938 وما بعدها، فتح القدير: 347/3 ومابعدها، اللباب: 104/3، الشرح الصغير: 751/2، القوانين الفقهية: ص 222 وما بعدها، مغني المحتاج: 443/3، 448، المغني: 584/7، 586، كشا ف القناع: 559/5، بجيرمي الخطيب: 67/4.
(5) الزمن: هو المريض بمرض يدوم زماناً طويلاً.(10/90)
فإن كان قادراً على الكسب، فلا نفقة له بالاتفاق؛ لأن القدرة على الكسب غنى، لكن باستثناء الأبوين، فتجب لهما النفقة في رأي الحنفية والشافعية مع القدرة على الكسب؛ لأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف، وليس منها تكليفه الكسب مع كبر السن، كما يجب له الإعفاف (تزويج الأب) ويمتنع القصاص منه. والراجح لدى المالكية والحنابلة أن النفقة لا تجب على الولد لوالديه إذا قدرا على الكسب وتركاه.
ويجب في رأي الجمهور على الزوج لزوجته، وعلى الإنسان لقريبه التكسب ليؤدي النفقة الواجبة عليه؛ لأن القدرة على الكسب كالقدرة على المال، إذا وجد عملاً مباحاً يليق به، ولخبر: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (1) ، وينبني عليه أنه يحرم عليه الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، ولأنه يلزمه إحياء نفسه بالكسب، فكذا يلزمه إحياء بعضه وهو القريب.
وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه، ولو قدر على التكسب. ويجبر الوالدان على الكسب إذا قدرا عليه، على الأرجح.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.(10/91)
واستثنى الحنفية والشافعية أيضاً: طلبة العلم الذين لايتفرغون للكسب، فتجب نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب؛ لأن طلب العلم فريضة كفائية، والتفرغ له شرط، فلو ألزم طلبة العلم بالاكتساب لتعطلت مصالح الأمة. واستثنى الحنفية الأخرق: وهو الذي لا يحسن الكسب، وهو في الحقيقة ملحق بالعاجز عن العمل.
واستثنى الحنفية كذلك أبناء الكرام الذين يلحقهم العار بالتكسب، أو لا
يستأجرهم الناس عادة، فهم عاجزون، فتجب نفقتهم ولو مع القدرة على الكسب.
والخلاصة: أن النفقة لا تجب لذي مال إلا للزوجة، ولا للقادر على الكسب الذي يكفيه ما عدا الأب.
6 - النفقة بسبب الحاجة:
لا تجب النفقة على الغير إلا بسب الحاجة، فمن كان ذا مال فنفقته في ماله، سواء أكان صغيراً أم كبيراً، إلا الزوجة فإن نفقتها تجب على الزوج ولو كانت موسرة؛ لأن نفقتها لم تجب للحاجة، وإنما بسبب احتباسها لحق الزوج.
7 - استقلال الأب بنفقة أولاده:
لا يشارك الأبَ أحد في الإنفاق على أولاده، كما لا يشاركه أحد في نفقة الزوجة؛ لأنهم جزء منه، وإحياؤهم واجب كإحياء نفسه، ولأن نسبهم لاحق به، فيكون عليه غرم النفقة، ولقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فجعل النفقة على أبيهم دونها (1) .
8 - استقلال الولد بنفقة أبويه:
لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد؛ لأنه أقرب الناس إليهما (2) . فإن تعدد الأولاد الموسرون، وزعت النفقة في رأي المالكية على الراجح بقدر اليسار حيث
__________
(1) المغني: 587/7، الدر المختار: 926/2.
(2) اللباب: 105/3، فتح القدير: 343/3 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 927/2.(10/92)
تفاوتوا فيه. وقيل: توزع على حسب الرؤوس فالذكر كالأنثى، وقيل: توزع بحسب قواعد الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: توزع النفقة على قدر الميراث، فلو كان الرجل مريضاً زمناً وله أولاد، فعليهم نفقة أبيهم على قدر ميراثهم، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] وترتيب الحكم على مشتق وهو اسم الفاعل هنا، يدل علِى أن المشتق منه علة الحكم، فيثبت الحكم بقدر علته (1) . ونص الحنابلة على أن الحجب عن الميراث في عمودي النسب لا يسقط النفقة عنه.
9 - هل الإعفاف أو التزويج من النفقة الواجبة؟
يرى جمهور الفقهاء وفي رواية عند الحنفية (2) : أن الولد يلزمه تزويج أو إعفاف أبيه المعسر ولو كان كافراً معصوماً، وكذا على المشهور عند الشافعية. وعند الحنابلة وبعض الحنفية إعفاف الأجداد من الجهتين جهة الأب وجهة الأم؛ لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والسكنى، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وهو لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها، فالزواج مما تدعو الحاجة إليه ويتضرر الأب بفقده، فلزم ابنه تزويجه كالنفقة. والرواية الراجحة عند الحنفية عدم وجوب إعفاف الأب؛ لأنه من الكماليات.
وإذا اجتمع أب وجد أو جدان، ولم يمكن الولد إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب، ويقدم الجد من جهة الأب على الجد من جهة الأم؛ لأن الأول عصبة، والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب، فيقدم في الإنفاق والاستحقاق.
__________
(1) الشرح الصغير: 752/2، القوانين الفقهية: ص 223، فتح القدير: 348/3 وما بعدها، 351، مغني المحتاج: 211/3، المغني: 589/7، 592.
(2) الشرح الصغير: 752/2، مغني المحتاج: 211/3، المهذب: 167/2، غاية المنتهى: 244/3، المغني: 587/7-589، الدر المختار: 927/2.(10/93)
ولا يلزم الأب في المذهبين الحنفي والشافعي في تزويج ابنه الفقير. وأوجب الحنابلة على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجاً إلى إعفافه؛ لأنه تلزمه نفقته، فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه، كما يلزم الولد إعفاف أبيه. وكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛ لأنه لايتمكن من الإعفاف إلا بها.
والإعفاف: يكون بإعطاء مهر المثل، ويكون تعيين الزوجة إلى الزوج، ولا يجوز للولد أن يزوج أباه قبيحة ولا عجوزاً؛ لأن الإعفاف لا يحصل بواحدة منهما.
وذكر الحنابلة أن الابن يلزمه إعفاف أمّ بتزويجها كالأب.
نفقة زوجة الأب:
يلزم الابن أيضاً نفقة زوجة أبيه في رأي الحنابلة والشافعية والمالكية وفي رواية عند الحنفية، فكل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته، كما تقدم.
وأما الرواية الأخرى عند الحنفية فلا تجب نفقة زوجة الأب إلا إذا كان الأب مريضاً أو به زمانة (أي مرض مزمن) ، قال في الذخيرة: المذهب عدم وجوب نفقة امرأة الأب (1) ، وهو المعمول به في مصر.
ولا يلزم الابن عند الحنفية في الرواية الأولى نفقة أكثر من زوجة واحدة للأب، وهو مذهب المالكية والحنابلة إن حصل الإعفاف بها وإلا تعدّت النفقة لمن يعف.
__________
(1) الشرح الصغير: 752/2، المغني: 587/7-589، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 927/2، القوانين الفقهية: ص 223.(10/94)
نفقة زوجة الابن:
المذهب عند الحنفية (1) : عدم وجوب النفقة على الأب لزوجة الابن، ولو كان صغيراً أو كبيراً غائباً، إلا إذا ضمنها، ويستدين الأب على ابنه، ثم يرجع عليه إذا أيسر.
وقال الحنابلة والشافعية كما تقدم: كل من لزمه إعفافه، لزمته نفقة زوجته؛ لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بها.
وأما المالكية فقالوا: إذا كان الزوج معسراً سقطت نفقة الزوجة عنه ما دام معسراً.
10 - هل تتوقف النفقة على القضاء؟
قال الحنفية (2) : تجب نفقة الأصول والفروع من غير حاجة إلى قضاء القاضي، إلا أنه إذا كان للصغير مال غائب وأراد الأب أن يرجع عليه، فليس له الرجوع إلا بالقضاء أو بالإشهاد بأن يشهد أنه أنفق ليرجع عليه بعد أن نوى بقلبه، فلو أنفق بغير إذن القاضي وبغير إشهاد فليس له الرجوع قضاء، وله أن يرجع ديانة فيما بينه وبين الله تعالى.
وأما نفقة غير الأصول والفروع، فلا تثبت إلا بالقضاء أو بالتراضي، وسبب التفرقة بين الحالتين: أن نفقة الأصول والفروع تجب باتفاق الفقهاء، فلا تحتاج في وجوبها إلى قضاء القاضي. أما نفقة الأقارب الآخرين، فمختلف في وجوبها بين الفقهاء، فتحتاج إلى ما يقويها وهو قضاء القاضي.
11 - سقوط النفقة:
النفقة إما للزوجة وإما للأقارب، فمتى تسقط كل واحدة منها؟
سقوط نفقة الزوجة: تسقط نفقة الزوجة في الحالات التالية (3) :
1) ـ مضي الزمان من غير فرض القاضي أو التراضي: فتسقط عند الحنفية بمضي المدة بعد الوجوب قبل صيرورتها ديناً في الذمة، ولا تسقط بمضي المدة بعد القضاء به، وتصير ديناً. والحالات الأخرى تسقط فيها النفقة بعد صيرورتها ديناً في الذمة. وقال المالكية وباقي المذاهب: لا تسقط النفقة بمضي الزمان، وترجع الزوجة على زوجها بالنفقة المتجمدة، وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإنها تسقط بمضي المدة؛ لأنه إذا مضى زمنها استغني عنها.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 887/2، 927 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 338/3، البدائع: 22/4، 35، الدر المختار: 906/2.
(3) البدائع: 22/4، 29 وما بعدها، فتح القدير: 332/3 وما بعدها، 342، الدر المختار: 889/2-892، 899، القوانين الفقهية: ص 223، الشرح الصغير: 740/2، بداية المجتهد: 54/2، مغني المحتاج: 436/3-438، المهذب: 160/2، المغني: 578/7، 604، 611 وما بعدها، غاية المنتهى: 238/3 وما بعدها، كشاف القناع: 548/5-551، الشرح الكبير والدسوقي: 517/2.(10/95)
2) ـ الإبراء من النفقة الماضية: تسقط النفقة الماضية بالإبراء أو الهبة ويكون الإبراء إسقاطاً لدين واجب. ولكن قال الحنفية: لا يصح الإبراء أو الهبة عن النفقة المستقبلة؛ لأن نفقة الزوجة تجب شيئاً فشيئاً على حسب حدوث الزمان، فكان الإبراء منها إسقاطاً لواجب قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب أيضاً، وهو حق الاحتباس.
3) ـ موت أحد الزوجين: لو مات الرجل قبل إعطاء النفقة، لم يكن للمرأة أن تأخذها من ماله. ولو ماتت المرأة لم يكن لورثتها أن يأخذوا نفقتها. فإن كان
الزوج أسلفها نفقتها وكسوتها، ثم مات قبل مضي الوقت الذي أسلفها عنه، لم ترجع ورثته عليها بشيء في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذا لو ماتت هي لم يرجع الزوج في تركتها في رأيهما.
4) ـ النشوز: هو معصية المرأة لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له عقد الزواج. والنفقة تسقط بنشوز المرأة، ولو بمنع لمس بلا عذر بها، إلحاقاً لمقدمات الوطء بالوطء؛ لأن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع، فإذا امتنعت فلا نفقة للناشز. وقال الحنفية: النفقة التي تسقط بالنشوز أو الموت هي النفقة المفروضة، لا المستدانة في الأصح.
فإن وجد عذر لوجود قروح قرب فرجها، أو التهابات حادة، فلا تسقط نفقتها. ومن الأعذار: مرض يضر معه الوطء، وعَبَالة زوج، أي كبر آلته بحيث لا تحتملها الزوجة.(10/96)
أما خروج المرأة من بيت الزوج بلا إذنه، أو سفرها بلا إذنه، أو إحرامها بالحج بغير إذنه، فهو نشوز، إلا للضرورة أو العذر، كأن يشرف البيت على انهدام، أو تخرج لبيت أبيها لزيارة أو عيادة، فيعد خروجها عذراً، وليس نشوزاً.
وأما سفر المرأة بإذن الزوج: فقد فصل فيه الشافعية فقالوا: إن كان السفر مع الزوج أو لحاجته، فلا تسقط نفقتها به، وإن كان لحاجتها فتسقط في الأظهر.
ولا يعد نشوزاً عرفاً في رأي الشافعية خروج المرأة في غيبة زوجها لزيارة أقاربها أو جيرانها أو عيادتهم أو تعزيتهم، فلا تسقط نفقتها؛ لأن خروجها لا على وجه النشوز.
وكذا قال الحنابلة: لا نفقة لمن سافرت بلا إذن زوج لحاجتها، أو لنزهة، أولزيارة ولو بإذن الزوج، أو لتغريب في حد أو تعزير، أو لحبس ولو ظلماً، أو صامت للكفارة أو قضاء رمضان ووقته متسع، أو صامت أو حجت نفلاً أو نذراً معيناً في وقته بلا إذنه. ولا تسقط عندهم وعند المالكية لو أحرمت بحج فرض.
ووافق الحنفية الحنابلة في أن حبس المرأة ولو ظلماً يسقط النفقة، إلا إذا حبسها الزوج بدين له، فلها النفقة في الأصح. ووافق الحنفية الشافعية في أن الحج مع غير الزوج ولو فرضاً، يسقط النفقة، لفوات الاحتباس.
وقال المالكية: إن حبست ظلماً فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأن منعه من الاستمتاع ليس من جهتها.
وإن منعت المرأة نفسها عن الزوج بالصوم، فإن كان بصوم تطوع، فالصحيح لدى الشافعية أن نفقتها تسقط؛ لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب، فسقطت نفقتها كالناشزة، وإن منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته، لم تسقط نفقتها؛ لأن ما استحق بالشرع لا حقَّ للزوج في زمانه.(10/97)
وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها؛ لأنها منعت حقه، وهو على الفور بما هو ليس فورياً. وكذا تسقط نفقتها بنذر معين بعد الزواج إن كان بغير إذن الزوج. والاعتكاف مثل الصوم: إن كان باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها.
وإن منعت المرأة نفسها بالصلاة: فإن كانت بالصلوات الخمس، أو السنن الراتبة، لم تسقط نفقتها؛ لأن ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه. وإن كان بقضاء فوائت، سقطت نفقتها؛ لأنها على التراخي، وحقه على الفور.
وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها، ثم أطاعت وعدلت عن النشوز، والزوج حاضر، عادت نفقتها، لزوال المسقط لها، ووجود التمكين المقتضي لها. وإن كان الزوج غائباً، لم تعد نفقتها في رأي الشافعية والحنابلة، لعدم تحقق التسليم والتسلم، إذ لا يحصلان مع الغيبة. وقال الحنفية: تعود نفقتها بعد عدولها عن النشوز ولو في غيبة الزوج.
5) ـ الردة: إذا ارتدت المرأة، سقطت نفقتها، لخروجها عن الإسلام، وامتناع الاستمتاع بسبب الردة. فإذا عادت إلى الإسلام، عادت نفقتها بمجرد عودها عند الشافعية والحنابلة. والفرق بين النشوز والردة: أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة، وقد زالت بالإسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين، وهو لا يزول بالعود إلى الطاعة، وإنما بالتمكين الفعلي، ولا يحصل المقصود في غيبة الزوج.
6) ـ كل فُرْقة جاءت من قبل المرأة بمعصية، مثل ردتها أو إبائها الإسلام إذا أسلم الزوج وظلت وثنية أو مجوسية، أو تمكينها ابن الزوج من نفسها، ففي هذه الحالات تسقط نفقتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية، فصارت كالناشزة، ويظل لها حق السكنى في بيت الزوجية؛ لأن القرار فيه حق عليها، فلا يسقط بمعصيتها.
فإن حدثت الفرقة بغير معصية كخيار البلوغ وعدم الكفاءة ووطء ابن الزوج لها مكرهة، فلا تسقط نفقتها؛ لأنها حسبت نفسها بحق لها أو بعذر عذرت شرعاً فيه.(10/98)
ولا تسقط نفقتها بفرقة جاءت من قبل الزوج مطلقاً، سواء أكانت بغير معصية، مثل الفرقة بطلاقه أو لعانه أو عنّته أو جبه، بعد الخلوة في رأي الحنفية، أو بمعصية مثل الفرقة بتقبيله بنت زوجته أوإيلائه مع عدم فيئه حتى مضت أربعة أشهر، أو إبائه الإسلام إذا أسلمت هي، أو ارتد هو، فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم؛ لأن بمعصيته لا تُحرم زوجته النفقة.
والخلاصة: أن الحنفية قالوا: لا نفقة لإحدى عشرة امرأة (1) : وهي مرتدة، ومقبِّلة ابن الزوج، ومعتدة موت، ومنكوحة بنكاح فاسد أو في أثناء العدة منه، وموطوءة بشبهة، وصغيرة لا توطأ، وخارجة من بيت الزوج بغير حق وهي الناشزة، ومحبوسة ولو ظلماً، ومريضة لم تزف إلى بيت زوجها أي لا يمكنها الانتقال معه أصلاً وإن لم تمنع نفسها، لعدم التسليم تقديراً، ومغصوبة كرهاً وهي من أخذها رجل وذهب بها، وحاجَّة ولو فرضاً وحدها ولو مع محرم لا مع الزوج لفوات الاحتباس. فإن حجت مع الزوج وخرج معها لأجلها، فعليه نفقة الحضر فقط، لا نفقة السفر وأجوره، أما لو أخرجها معه فيلزمه جميع نفقات السفر.
وإذا فرضت النفقة على الزوج قضاء أو رضاء أصبحت ديناً صحيحاً ثابتاً في ذمته لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، وهذا ما نصت عليه المادة (79) من القانون السوري: «النفقة المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء» .
سقوط نفقة الأقارب:
تسقط نفقة الأقارب للولد والوالدين وذي الأرحام في رأي الحنفية والشافعية والحنابلة (2) ، بمضي المدة، فإذا قضى القاضي بالنفقة للأقارب، فمضت مدة شهر فأكثر، فلم يقبض القريب ولا استدان عليه حتى مضت المدة، سقطت في رأي الحنفية. فمضي المدة يسقط النفقة إلا أن يأذن القاضي بالاستدانة على المنفق عليه؛
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 889/2-892.
(2) البدائع: 38/4، فتح القدير: 354/3، الكتاب مع اللباب: 109/3، الدر المختار: 925/2، 943 وما بعدها، المهذب: 167/2.(10/99)
لأن نفقة الأقرباء تجب سداً للحاجة، فلا تجب للموسرين، فإذا مضت المدة ولم يقبضها المستحق، دل على أنه غير محتاج إليها، بخلاف نفقة الزوجة فإنها لا تسقط بمضي المدة بعد القضاء بها؛ لأنها تجب جزاء الاحتباس، لا للحاجة، وتجب ولو كانت الزوجة موسرة. فإن أذن القاضي بالاستدانة على المفروض عليه، لا تسقط؛ لأنها تصير ديناً في ذمته، فلا يسقط بمضي المدة.
واستثنى الزيلعي نفقة الصغير كالزوجة، فإنها لا تسقط بمضي المدة، وتكون ديناً في ذمة المحكوم عليه، نظراً لعجز الصغير والرأفة به.
وقال المالكية (1) : تسقط نفقة الأبوين أو الأولاد بمرور الزمن إلا أن يفرضها القاضي، فحينئذ تثبت.
ويلاحظ أن القريب المنفق عليه إذا اكتسب لم تعد النفقة واجبة على قريبة، إلا إذا لم يكتسب ما يكفيه، فحينئذ تكمل له النفقة.
والخلاصة: أن نفقة القريب فيما دون شهر، ونفقة الزوجة، والصغير لا تسقط بمضي الزمان، وإنما تصير ديناً بالقضاء. وكذا لا تسقط نفقة القريب غير الزوجة إذا استدان بأمر القاضي.
12 - جزاء الامتناع عن النفقة:
ذكر الحنفية (2) : أنه إذا امتنع القريب من الإنفاق على قريبة المستحق، وأصر على الامتناع مع قدرته ويساره، فإنه يحبس ولو كان أباً، للضرورة؛ لأن في الامتناع عن النفقة إهلاكاً للقريب، وفي الحبس حمل على الإنفاق لحفظ حياة الإنسان، وهو أمر واجب شرعاً، ويتحمل الأب وغيره من باب أولى هذا القدر من الأذى لهذه الضرورة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 223.
(2) البدائع: 38/4، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 945/2.(10/100)
13 - تعدد مستحقي النفقة:
إذا تعدد مستحقو النفقة ولم يكن لهم إلا قريب واحد، فإن استطاع أن ينفق عليهم جميعاً وجب عليه الإنفاق، وإن لم يستطع بدأ بنفسه ثم بولده الصغير أو الأنثى أو العاجز، ثم بزوجته ـ وقال الحنابلة: تقدم الزوجة على الولد، ويقدَّم الأب على الأم لفضيلته، وانفراده بالولاية، واستحقاق الأخذ من ماله. وقال ابن قدامة. الأولى التسوية بينهما. وقيل عند الشافعية: يقدم الأب، وقيل: الأم والأب سواء (1) .
ودليل هذا الترتيب: الأحاديث المتقدمة، حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» (2) ، أي وزعه في الناس كيف شئت.
وحديث أبي هريرة: «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر؟ قال: أنت أبصر به» (3) .
__________
(1) الدر المختار: 927/2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 166/2-167، المغني: 593/7، كشاف القناع: 561/5.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 321/6) .
(3) رواه أحمد والنسائي (المرجع السابق) .(10/101)
وحديث أبي هريرة أيضاً: «قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (1) ، وفي رواية لمسلم: «من أبر» .
14 - متى تجب النفقة على بيت المال أو الدولة؟
إذا لم يكن للقريب المعسر أحد من الأقارب الموسرين، كانت نفقته في بيت المال «خزينة الدولة» ولا يطالب بتكفف الناس؛ لأن من وظائف بيت المال في الإسلام أن يتحمل حاجة المحتاجين وينفق عليهم بقدر حاجاتهم. قال الكاساني (2) في بيان ما يوضع في بيت المال من الأموال وبيان مصارفها: يوضع في بيت المال أربعة أنواع: أحدها ـ زكاة السوائم والعشور وما أخذه العشار من تجار المسلمين إذا مروا عليهم. والثاني ـ خمس الغنائم والمعادن والركاز. والثالث ـ خراج الأراضي وجزية الرؤوس.. وما أخذه العشار من تجار أهل الذمة والمستأمنين من أهل الحرب. والرابع ـ ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم يترك وارثاً أصلاً، أو ترك زوجاً أو زوجة.
وأما النوع الرابع: فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم، وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته (أي دفع غرامة جنايته) وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته، ونحوهم، وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها.
هذه مبادئ النفقة، وأذكر عقبها ما يترتب عليها من تفريعات وتفصيلات في المباحث الأربعة التالية:
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
(2) البدائع: 68/2 وما بعدها.(10/102)
المبحث الأول ـ نفقة الزوجة:
نفقة الزوجة حق أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها بسبب عقد الزواج، والكلام عنها في مطالب أربعة هي:
الأول ـ معنى النفقة وأنواعها ووجوبها ومن تجب عليه وسبب وجوبها.
الثاني ـ شروط وجوبها.
الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها، والحكم القضائي بها.
الرابع ـ أحكام النفقة (الامتناع عن الإنفاق، وإعسار الزوج، نفقة زوجة الغائب، متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟ نفقة المعتدة، تعجيل النفقة، الإبراء عنها، المقاصة بدين النفقة، الكفالة بالنفقة أو ضمانها، الصلح عن النفقة) .
المطلب الأول ـ معنى النفقة وأنواعها، ووجوبها، ومن تجب عليه، وسبب وجوبها:
معنى النفقة: بيّنت سابقاً أن النفقة لغة: هي ما ينفقه الإنسان على عياله. وهي شرعاً: الطعام والكسوة والسكنى، وعرفاً في إطلاق الفقهاء: هي الطعام فقط، ولذا يعطفون عليه الكسوة والسكنى، والعطف يقتضي المغايرة (1) .
وجوبها: اتفق الفقهاء (2) على وجوب النفقة للزوجة مسلمة كانت أو كافرة بنكاح صحيح، فإذا تبين فساد الزواج وبطلانه رجع الزوج على المرأة بما أخذته من النفقة، وثبت وجوبها بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 886/2.
(2) المرجع السابق، البدائع: 15/4، فتح القدير: 321/3، بداية المجتهد: 53/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 426/3، المغني: 563/7.(10/103)
أما القرآن: فقول الله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه (1) ، فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/65] وقوله تعالى: {وعلى المولود له: رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وقوله سبحانه: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/65] أي على قدر ما يجده أحدكم من السعة والمقدرة. والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأن المرأة لا تحصل النفقة إلا بالخروج والاكتساب.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث حجة الوداع عن جابر: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان (2) عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (3) ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال: «ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» (4) .
وجاءت هند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (5) وفيه دلالة على وجوب النفقة الزوجية، وأنها مقدرة بكفايتها كما بينا، وأن نفقة ولده عليه دونها وهي مقدرة بكفايتهم، وأن النفقة بالمعروف، وأن لها أن تأخذ نفقتها بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه.
وأما الإجماع: فاتفق العلماء على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن. ولا نفقة عند الحنفية للصغيرة التي لا يستمتع بها؛ لأن امتناع الاستمتاع لمعنى فيها.
وأما المعقول: فهو أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان عليه أن ينفق عليها، وعليه كفايتها، لأن الغرم بالغنم والخراج بالضمان، فالنفقة جزاء الاحتباس، فمن احتبس لمنفعة غيره كالموظف والجندي، وجبت نفقته في مال الغير.
__________
(1) أي من ضيق عليه.
(2) أي كأسيرات.
(3) رواه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (نصب الراية: 48/3-50) .
(4) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5) رواه الجماعة إلا الترمذي عن عائشة (نيل الأوطار: 323/6) .(10/104)
من تجب عليه: اتفق الفقهاء (1) أيضاً على أن النفقة تجب على الزوج الحر الحاضر، فإذا سلمت المرأة نفسها إلى الزوج على النحو الواجب عليها، فلها عليه جميع ما تحتاجه من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن.
سبب وجوبها: للعلماء رأيان (2) فيه، فقال الحنفية: سبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح للزوج عليها، ورتبوا عليه ألا نفقة على مسلم في نكاح فاسد، لانعدام سبب الوجوب وهو حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب الزواج؛ لأن حق الحبس لا يثبت في الزواج الفاسد.
وعلى الزوج النفقة في أثناء عدة المرأة بسبب الفرقة الحاصلة بطلاق أو بغير طلاق رجعي أو بائن، حامل أو غير حامل، من قبل الزوج أو من قبل المرأة إلا إذا كانت الفرقة من قبلها بسبب محظور استحساناً، لقيام حق الحبس بعد زواج صحيح.
وقال الجمهور غير الحنفية: سبب وجوب النفقة: هو الزوجية وهو كونها زوجة للرجل، ورتبوا عليه أنه تجب النفقة للمطلقة طلاقاً رجعياً، أو بائناً وهي حامل، لبقاء حق الزوج، أما المبتوتة إذا كانت حاملاً، فلها عند المالكية والشافعية السكنى، ولا نفقة لها لزوال النكاح بالإبانة، وكان ينبغي ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى لها، لكن ترك القياس بالنص القرآني: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/65] والتزم الحنابلة بالقياس وبحديث فاطمة بنت قيس في أنه لا نفقة لها ولا سكنى.
__________
(1) بداية المجتهد: 55/2، المغني: 564/7.
(2) البدائع: 16/4، فتح القدير: 321/3، الشرح الصغير: 729/2، مغني المحتاج: 425/3، المغني: 564/7.(10/105)
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة:
أذكر هنا شروط وجوب النفقة عند الجمهور ثم عند المالكية. أما شروطها عند الجمهور (1) ، فهي أربعة:
1ً - أن تمكِّن المرأة نفسها لزوجها تمكيناً تاماً: إما بتسليم نفسها أوبإظهار استعدادها لتسليم نفسها إلى الزوج بحيث لا تمتنع عند الطلب، سواء دخل الزوج بها بالفعل أم لم يدخل، دعته الزوجة أو وليها إلى الدخول بها أم لم تدعه. واشترط المالكية لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول.
فإن ظلت في بيت أهلها برضاه واختياره وجبت نفقتها عليه.
وإن منعت المرأة نفسها أو منعت وليها، أو تساكتا بعد العقد، فلم تبذل ولم يطلب، فلا نفقة لها، وإن أقاما زمناً، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين، ولم ينفق إلا بعد دخوله.
وإن كان الامتناع من تسليم نفسها بحق، فلها النفقة، كالامتناع لتسليم المهر المعجل أو الحالّ، أو لتهيئة مسكن لائق شرعاً. وأضاف الشافعية: أن يريد الزوج سفراً طويلاً.
2ً - أن تكون الزوجة كبيرة يمكن وطؤها: فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها؛ لأن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع، ولا يتصور الوجوب مع تعذر الاستمتاع، فلم تجب نفقتها. ويوافق المالكية رأي الجمهور في هذا الشرط.
3ً - أن يكون الزواج صحيحاً: فإن كان الزواج فاسداً، فلا نفقة على الزوج؛ لأن العقد الفاسد يجب فسخه، ولا يمكن اعتبار الزوجة محبوسة لحق الزوج، ولأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته، وهذا متفق عليه.
4ً - ألا يفوت حق الزوج في احتباس الزوجة بدون مسوغ شرعي، أو بسبب ليس من جهته: فإن فات حقه بغير مسوغ شرعي كالنشوز، أو بسبب من جهته، فإن الزوجة تستحق النفقة. وهذا متفق عليه أيضاً، إلا أن المالكية يقولون بوجوب النفقة إذا كان فوات الاحتباس بأمر لا دخل لها فيه.
وقد بان سابقاً أن نفقة الزوجة واجبة ولو مع اختلاف الدين.
حكم القانون: أخذ القانون السوري بهذه الأحكام، فنص على ما يلي:
(م 72 ـ 1) ـ تجب النفقة للزوجة على الزوج ولو مع اختلاف الدين من حين العقد الصحيح، ولو كانت مقيمة في بيت أهلها إلا إذا طالبها الزوج بالنقلة وامتنعت بغير حق.
2 - يعتبر امتناعها بحق ما دام الزوج لم يدفع معجل المهر أو لم يهيء المسكن الشرعي.
(م 73) - يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها.
__________
(1) البدائع: 18/4 ومابعدها، فتح القدير: 324/3، الدر المختار: 886/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 435/3 ومابعدها، المهذب: 159/2 ومابعدها، المغني: 601/7-603، كشاف القناع: 545/5، 548.(10/106)
(م 74) - إذا نشزت المرأة، فلا نفقة لها مدة النشوز.
(م 75) - الناشز: هي التي تترك دار الزوجية بلا مسوغ شرعي، أو تمنع زوجها من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقل إلى بيت آخر.
شروط وجوب النفقة عند المالكية:
اشترط المالكية (1) لوجوب النفقة شروطاً قبل الدخول، وشروطاً بعد الدخول.
أما شروط وجوب النفقة الزوجية قبل الدخول، فهي أربعة:
1ً - التمكين من الدخول: بأن تدعو المرأة زوجها بعد العقد إلى الدخول بها، أو يدعوه وليها المجبر أو وكيلها، فإن لم تحصل هذه الدعوة، أو امتنعت من الدخول لغير عذر، فلا نفقة لها.
2ً - أن تكون الزوجة مطيقة الوطء: فإن كانت الزوجة صغيرة لا تصلح للدخول بها فلا نفقة لها، فإن دخل بها وكان بالغاً، لزمته النفقة. وإن كان بها مانع كرتق فلا نفقة لها إلا أن يتلذذ بها عالماً العيب.
3ً - أن يكون الزوج بالغاً: فلو كان الزوج صغيراً ولم يدخل، فلا نفقه لها، وإن دخل فلها النفقة. وأوجب الجمهور النفقة على الصبي لامرأته الكبيرة؛ لأنها سلمت نفسها تسليماً صحيحاً، كما لو كان الزوج كبيراً.
4ً - ألا يكون أحد الزوجين مشرفاً على الموت عند الدعوة إلى الدخول: فإن كان في حالة النزع، فلا نفقة للزوجة، لعدم القدرة على الاستمتاع بها. فإن دخل ولو حال الإشراف على الهلاك فعليه النفقة.
وأما شروط وجوب النفقة بعد الدخول، فهي اثنان:
1ً - أن يكون الزوج موسراً: وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، فلو كان معسراً لا نفقة عليه مدة إعساره، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/65] فالمعسر لا يكلف إذن بالإنفاق.
2ً - ألا تفوِّت الزوجة على زوجها حق الاحتباس بدون مسوغ شرعي: فلو فوتت ذلك بالنشوز، أي الخروج عن طاعة الزوج، فلا نفقة لها.
والخلاصة: أن المدخول بها تجب لها النفقة مطلقاً، وإن لم تكن الزوجة مطيقة الوطء، ولا الزوج بالغاً. وأما قبل الدخول فلا نفقة لغير ممكِّنة من نفسها، أو لم يحصل منها أو من وليها دعوة للدخول، أو حصل قبل مضي زمن يتجهز فيه كل منهما للدخول، ولا لغير مطيقة الوطء، ولا مطيقة بها ما نع كرتق إلا أن يتلذذ بها بغير الوطء حالة كونه عالماً بالمانع منه.
__________
(1) الشرح الصغير: 729/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها، الشرح الكبير والدسوقي: 508/2 وما بعدها.(10/107)
مايترتب على شروط وجوب النفقة من مسائل
المسألة الأولى ـ الزوجة الناشزة (1) :
عرفنا سابقاً أن النشوز يسقط النفقة؛ لأن احتباس الزوجة في بيت الزوجية واجب، فإذا خرجت الزوجة من بيت زوجها بغير مسوغ شرعي، سقطت نفقتها. والمسوغ الشرعي مثل عدم دفع المهر المعجل لها أوعدم تهيئة المسكن الشرعي الصالح عادة للسكنى.
وتكون ناشزة أيضاً إذا منعت زوجها من الدخول إلى بيتها، ولم تكن قد طلبت نقلها إلى بيت آخر. وقد أخذ القانون السوري بهذه الأحكام كما تقدم.
المسألة الثانية ـ الزوجة العاملة أو الموظفة:
إذا عملت الزوجة نهاراً أو ليلاً خارج المنزل كالطبيبة والمعلمة والمحامية والممرضة والصانعة، فالمقرر في القانونين المصري والسوري أنه إذا رضي الزوج بخروجها ولم يمنعها من العمل، وجبت لها النفقة؛ لأن احتباس الزوجة حق للزوج، فله أن يتنازل عنه.
وإن لم يرض بعملها، ونهاها عن العمل، فخرجت من أجله، سقط حقها في النفقة؛ لأن الاحتباس في هذه الحالة ناقص غير كامل، فلو سلمت المرأة نفسها بالليل دون النهار أو عكسه؛ فلا نفقة لنقص التسليم (2) .
نصت المادة (73) من القانون السوري على ذلك: يسقط حق الزوجة في النفقة إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها.
__________
(1) الناشزة في اللغة: هي العاصية على الزوج المبغضة له، وفي الشرع: هي الخارجة من بيت الزوج بغير حق.
(2) الدر المختار: 891/2.(10/108)
فإن رضي الزوج بعمل الزوجة أولاً ثم منعها من الخروج، سقط حقها في النفقة أيضاً؛ لأن خروجها نشوز مسقط للنفقة. لكن جرى العمل في القضاء المصري على استحقاقها النفقة؛ لأن إقدام الزوج على الزواج بها وهو يعلم أن لهاعملاً خارجياً، ولم يشترط عليها ترك العمل، يعد رضا منه بسقوط حقه في الاحتباس الكامل.
أما لو اشترطت الزوجة حين العقد البقاء في عملها، فهذا الشرط فاسد ملغي عند الحنفية، والعقد صحيح، وللزوج أن يمنعها من العمل، فإن استمرت فيه، سقط حقها في النفقة.
وصحح المالكية هذا الشرط ولكنه مكروه لا يلزم الوفاء به، ولكن يستحب، فله أن يمنع الزوجة من العمل، فإن رفضت الاستجابة لمطلبه كانت ناشزة، يسقط حقها في النفقة.
وصحح الحنابلة أيضاً هذا الشرط وأوجبوا الوفاء به، فلا يكون للزوج أن يمنع المرأة من العمل، ولو منعها لا تكون ناشزة.
وقواعد الشافعية تأبى مثل هذا الشرط؛ لأن المذهب الجديد أن النفقة الزوجية تجب بالتمكين التام، لا العقد، وأن الخروج من بيت الزوج بلا إذن منه، نشوز منها، سواء أكان الخروج لعبادة كحج أم لا، ويسقط النشوز نفقتها لمخالفتها الواجب عليها، وأنها لو مكنت من الوطء ومنعت بقية الاستمتاعات، كان ذلك نشوزاً. هذا.. وللزوجة أن تعمل في البيت عملاً لا يضعفها ولا ينقص جمالها، وللزوج أن يمنعها مما يضرها، ولكن لا تسقط نفقتها إذا خالفته، بل له أن يؤدبها، لعصيانها أمره.(10/109)
المسألة الثالثة ـ الزوجة المريضة:
تجب النفقة اتفاقاً (1) للزوجة المريضة، سواء مرضت عنده بعد الزفاف، أم كانت مريضة حين الزفاف، لتحقق شرط النفقة وهو التسليم أو التمكين التام، ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض، ولأن المرض أمر طارئ لا دخل للزوجة فيه، فهو كالحيض والنفاس، وليس من حسن العشرة أن يكون هذا الأمر الطارئ مسقطاً للنفقة.
ولا تسقط نفقتها حتى وإن كانت تمرَّض في بيت أهلها، إلا إذا طلب الزوج منها أن تعود إلى بيته، وكانت تستطيع العودة ولو محمولة، فامتنعت؛ لأنها بامتناعها تصبح ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق.
نفقات العلاج: قرر فقهاء المذاهب الأربعة (2) أن الزوج لا يجب عليه أجور التداوي للمرأة المريضة من أجرة طبيب وحاجم وفاصد وثمن دواء، وإنما تكون النفقة في مالها إن كان لها مال، وإن لم يكن لها مال، وجبت النفقة على من تلزمه نفقتها؛ لأن التداوي لحفظ أصل الجسم، فلا يجب على مستحق المنفعة، كعمارة الدار المستأجرة، تجب على المالك لا على المستأجر، وكما لا تجب الفاكهة لغير أدم.
ويظهر لدي أن المداواة لم تكن في الماضي حاجة أساسية، فلا يحتاج الإنسان غالباً إلى العلاج؛ لأنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية، فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم. أما الآن فقد أصبحت الحاجة إلى العلاج كالحاجة إلى الطعام والغذاء، بل أهم؛ لأن المريض يفضل غالباً ما يتداوى به على كل شيء، وهل يمكنه تناول الطعام وهو يشكو ويتوجع من الآلام والأوجاع التي تبرح به وتجهده وتهدده بالموت؟! لذا فإني أرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من النفقات الضرورية، ومثل وجوب نفقة الدواء اللازم للولد على الوالد بالإجماع، وهل من حسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته حال الصحة، ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟!.وأخذ القانون المصري (م100) لسنة 1985م برأي في الفقه المالكي أن النفقة الواجبة للزوجة تشمل الغذاء والكسوة والمسكن ومصاريف العلاج وغير ذلك بمايقضي به الشرع وأخذت المحاكم بهذا.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 889/2، المغني: 601/7، تكملة المجموع: 81/17.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 889/2، الشرح الكبير والدسوقي: 511/2، مغني المحتاج: 431/3، كشاف القناع: 536/5، الشرح الصغير: 732/2.(10/110)
المسألة الرابعة ـ الامتناع من الدخول أو الانتقال لبيت الزوج لعذر:
إذا امتنعت الزوجة من الدخول بها، أو الانتقال إلى دار الزوج لعذر فلها النفقة (1) ،كأن تمتنع حتى تقبض معجل مهرها، أو لعدم صلاحية المسكن للسكنى بسبب خلل فيه أو لنقص المرافق الضرورية له، أو للتأذي فيه من جار أو شيء مخيف، أو وجود أهل لا تحب مساكنتهم أو ضَرة تخشى شرها، أو لأن الزوج غير أمين عليها.
أما إن امتنعت الزوجة من الانتقال إلى بيت الزوج بغير عذر، أو منعت الزوج من الدخول في بيتها الذي يقيمان فيه من غير طلب سابق بالانتقال إلى منزل آخر، فلا نفقة لها؛ لأنها تعد بامتناعها ناشزة، أي خارجة عن طاعة الزوج بغير حق، والناشزة لا تستحق النفقة مدة نشوزها، فإن عادت وجبت نفقتها من حين العودة.
المسألة الخامسة ـ حبس الزوجة:
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنه إذا حبست الزوجة، سقطت نفقتها؛ لأن فوات حق الاحتباس للزوج كان بسبب منها. أما إن حبست ظلماً أو خطفت بواسطة رجل، فتسقط نفقتها أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لفوات حق الاحتباس بسبب لا دخل للزوج فيه. وقال المالكية (2) : لا تسقط نفقتها بالحبس ظلماً وبخطفها من رجل؛ لأن فوات حق الاحتباس ليس من جهتها، ولا دخل لها فيه.
المسألة السادسة ـ سفر الزوجة:
اتفق الفقهاء (3) على أنه إذا سافرت الزوجةمع غير زوجها لحج أو غيره قبل الدخول، فلا نفقة لها، لفوات الاحتباس في بيت الزوج. وكذا إن سافرت وحدها بدون محرم بعد الدخول، لا نفقة لها، لفوات الاحتباس بسبب من جهتها، ولعصيانها بهذا السفر بدون محرم.
أما إن سافرت مع مَحْرم لأداء فريضة الحج، فلا يسقط حقها في النفقة ولو بغير إذنه عند المالكية والحنابلة وأبي يوسف؛ لأنه سفر لأداء فريضة دينية، فيكون
__________
(1) الدر المختار: 888/2.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 517/2.
(3) الدر المختار: 892/2، مغني المحتاج: 437/3-439، كشاف القناع: 550/5، الشرح الكبير مع الدسوقي: 517/2.(10/111)
فوات الاحتباس بمسوغ شرعي، لكن النفقة الواجبة عند أبي يوسف والحنابلة هي نفقة الإقامة لا السفر، وعند المالكية: يجب لها الأقل من نفقتي الإقامة والسفر.
وتسقط نفقتها ولو بإذن الزوج عند جمهور الحنفية، والشافعية في الأظهر، لمخالفتها الواجب عليها وانتفاء التمكين، وفوات الاحتباس من جهتها، سواء سافرت لحج الفريضة أم لعمل آخر، كطلب العلم أم لحاجتها.
وإن سافرت لحج النفل سقطت نفقتها عند الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال المالكية: إن سافرت بإذن الزوج، فلا يسقط حقها في النفقة؛ لأنها لا تعد ناشزة، وإن سافرت بدون إذنه، سقط حقها في النفقة؛ لأنها تعد ناشزة.
المسألة السابعة ـ انتقال الزوج إلى بلد آخر:
قال الحنفية (1) : للزوج السفر بزوجته إلى بلد آخر لغرض صحيح، كالتوظف في بلد غير بلده أو استثمار ماله، إذا أوفاها مهرها كله معجله ومؤجله، وكان مأموناً عليها، ولم يقصد الإضرار بها، فإن امتنعت من السفر معه حينئذ، سقط حقها في النفقة واعتبرت ناشزة. فإن لم يؤدها مهرها، أو لم يكن مأموناً عليها أو قصد إضرارها، فلها الحق في الامتناع من السفر معه، ولا تعد ناشزة، لقوله تعالى: {ولا تضارّوهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق:6/65] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» .
وقال المالكية (2) : للزوج الانتقال بزوجته إذا أوفاها عاجل مهرها، وإن لم يكن دخل بها بالشروط التالية:
1ً - أن يكون الزوج مأموناً.
2ً - وأن يكون الطريق إلى البلد مأموناً.
3ً - وأن يكون البلد قريباً بحيث لا ينقطع خبر أهلها عنها ولا خبرها عن أهلها.
__________
(1) الدر المختار: 495/2.
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 761/2 وما بعدها.(10/112)
المسألة الثامنة ـ حبس الزوج أو مرضه:
تستحق الزوجة النفقة بالاتفاق إذا حبس زوجها بجريمة اقترفها أو بدين لزوجته، أو ظلماً، أو مرض مرضاً مانعاً من الجماع، أو كان به عيب يحول دون الاستمتاع كالجب (قطع العضو) والعُنَّة (العجز الجنسي) والخصاء (نزع الخصيتين) ؛ لأن فوات الاحتباس بسبب من جهته لا من جهة الزوجة.
وكذلك تستحق النفقة عند المالكية (1) إذا علم الزوج في زوجته بعيب يمنع الوطء كالرتَق (التحام محل الوطء) والقرَن (غدة تمنع الجماع) ، واستمتع بها بغير الوطء.
المطلب الثالث ـ كيفية تقدير النفقة بأنواعها والحكم القضائي بها:
تشمل النفقة الزوجية ما يأتي:
1ً - الطعام والشراب والإدام.
2ً - الكسوة.
3ً - المسكن.
4ً - الخدمة إن لزمتها أو كانت ممن تخدم.
5ً - آلة التنظيف ومتاع البيت.
وقد نصت المادة (71) من القانون السوري على أنواع النفقة وتقديرها آخذة بوجوب نفقات التطبيب والعلاج:
1 - النفقة الزوجية تشمل الطعام والكسوة والسكنى والتطبيب بالقدر المعروف، وخدمة الزوجة التي يكون لأمثالها خادم.
2 - يلزم الزوج بدفع النفقة إلى زوجته إذا امتنع عن الإنفاق عليها أو ثبت تقصيره.
الواجب الأول ـ الطعام وتوابعه:
قرر الفقهاء (2) أنه يجب للزوجة الطعام والشراب والإدام، وما يتبعها من ماء وخل وزيت ودهن للأكل وحطب ووقود ونحوها، ولا تجب الفاكهة.
ما تقدر به نفقة الطعام: قال الجمهور غير الشافعية: تقدر بالكفاية، أي بما يكفي الزوجة من الطعام كنفقة الأقارب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير، وإنما باجتهادها في التقدير، ولأن الله تعالى قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «ولهن عليكم رزقهن
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 508/2.
(2) البدائع: 23/4-25، فتح القدير: 322/3 وما بعدها، الدر المختار: 886/2، 894-899، 905، القوانين الفقهية: ص 221 وما بعدها، الشرح الصغير: 731/2 وما بعدها، 739، بداية المجتهد: 54/2، مغني المحتاج: 426/3-429، المهذب: 161/2-162، المغني: 564/7-567، 571، كشاف القناع: 533/5 ومابعدها.(10/113)
وكسوتهن بالمعروف» وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف، وكل هذه الأدلة صريحة في إيجاب قدر الكفاية. ولا يصح تقدير النفقة بالكفارة؛ لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار، وإنما اعتبر الشرع الكفارة بالنفقة في الجنس دون القدر، بدليل عدم وجوب الأدم فيها.
وإذا قام الزوج بتولي الإنفاق على الزوجة، فليس لها أن تطلب منه تقديراً معيناً لتنفق هي بنفسها، فإن ثبت تقصيره، رفع الأمر إلى القاضي ليفرض عليه النفقة، ويرجع في تقدير الواجب إليه إن لم يتراض الزوجان على شيء.
ولا يشترط فيها الحَب، وإنما يصح أن تكون أصنافاً من الطعام بحسب العرب كالخبز والإدام.
ويجب في النفقة تسليم الطعام، وتضمن النفقة المقدرة باليوم أو الشهر أو غيرهما بالقبض من الزوجة، وأجاز الحنفية والمالكية دفع الثمن أو النقود عنه، لتنفق على نفسها، وهو ما يجري عليه القضاء الآن، لأنه أضبط وأيسر. وقال الحنابلة: لا يملك الحاكم فرض غير واجب القوت الغالب في البلد كدراهم مثلاً إلا باتفاق الزوجين.
وتقدر نفقة الطعام بحسب الأعراف والعادات في كل بلد، أو بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال، من رخص وغلاء، وشباب وهرم، وشتاء وصيف.
وإذا قدر القاضي النفقة، ثم تغير حال الزوج يساراً أو إعساراً، زاد القاضي نفقة اليسار في المستقبل، أو نقصها.(10/114)
وقال الشافعية: تقدر نفقة الطعام من الحب بمقادير معينة بحسب حال الزوج يساراً أو إعساراً؛ لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الشخص الواحد مدّ (1) من الحبوب، والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/5] فاعتبروا النفقة بالكفارة بجامع أن كلاً منهما مال يجب بالشرع، ويستقر في الذمة.
فعلى الزوج الموسر لزوجته كل يوم مدان من الطعام، وعلى المعسر مُدّ، وعلى المتوسط مدّ ونصف، واحتجوا لهذا التفاوت بقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق:7/65] وأكثر ما وجب في الكفارة لكل مسكين مدان، وهو في كفارة الأذى من إزالة شعر أوظفر في الحج، وأقل ما وجب له مُدّ في نحو كفارة الظهار، فأوجبوا على الموسر الأكثر وهو مدّان؛ لأنه قدر الموسع، وعلى المعسر الأقل وهو مد؛ لأن المد الواحد يكتفي به الزهيد، ويتقنع به الرغيب، وعلى المتوسط ما بينهما دفعاً للضرر عنه.
والراجح لدي هو رأي الجمهور، بدليل ما قال الأذرعي الشافعي: لا أعرف لإمامنا رضي الله عنه سلفاً في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب أنها بالمعروف تأسياً واتباعاً.
وأما الأدم عند الشافعية فيجب أدم غالب كزيت وسمن وجبن وتمر وخل، وفاكهة لمن اعتادتها، ولحم بحسب يسار الزوج وإعساره كعادة البلد وتقدير القاضي.
__________
(1) الأصح أن المد بتقدير الشافعية (171 و 7/3 درهم) مئة وواحد وسبعون درهماً وثلاثة أسباع الدرهم، والمد يساوي 675 غراماً، والدرهم العربي (975.2) غم.(10/115)
حال من تقدر به نفقة الطعام: للفقهاء رأيان في كيفية تقدير نفقة الطعام.
أـ ذهب المالكية والحنابلة: إلى أنه تقدر بحسب حال الزوجين يساراً وإعساراً، ومراعاة منصب المرأة وحال البلاد، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7/65] وللحديث السابق: «خذي ما يكفيك» وذلك عند الحنابلة وقت عقد الزواج، واعتبار حال الزوجين للجمع بين الأدلة، ورعاية لكل من الجانبين، وهو الأولى؛ لأن الآية راعت حال الزوج، والحديث راعى كفاية الزوجة بالمعروف. فإن كانا موسرين فالواجب نفقة اليسار، وإن كانا معسرين فالواجب نفقة الإعسار، وإن تفاوت حالهما فالواجب نفقة الوسط بين الموسرين والمعسرين.
قال المالكية: والوسط من النفقة بالأندلس: رطل ونصف في اليوم من قمح أو شعير أو ذرة أو قطنية على حسب الحال.
ب ـ وذهب الحنفية والشافعية: إلى أنه تقدر نفقة الطعام والكسوة بحسب حال الزوج يساراً وإعساراً، للآية السابقة: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/65] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون، ولا تضربوهن ولا تقبِّحوهن» (1) ، ولأن النفقة واجبة على الزوج، وقد رضيت الزوجة بحاله، ويقصد من كلمة «المعروف» في حديث هند تحديد الواجب على الزوج.
وهذا القول هو الراجح لدي، عملاً بما نصت عليه الآية صراحة، وهو ما أخذت به القوانين في سورية ومصر، وفيه مرونة وعدالة؛ لأن القاضي له تعديل النفقة إذا تغيرت أحوال الزوج من الإعسار إلى اليسار وبالعكس.
__________
(1) رواه أبو داود عن معاوية القشيري (نيل الأوطار: 322/6) .(10/116)
المدة التي تقدر بها نفقة الطعام: تقدر نفقة الطعام في رأي الحنفية والمالكية (1) بحسب ما يناسب الزوج من الأصلح والأيسرفي الدفع يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً، فالعامل المحترف تقدر نفقته باليومية أو بالأسبوع، والموظف بالشهر، والأغنياء أصحاب الثروة بالسنة، وتدفع النفقة مساء كل يوم لليوم التالي، أو في نهاية الأسبوع كالصناع الذين لا يقبضون أجرهم إلا في آخر الأسبوع، أو في بدء الشهر أو آخره بحسب قبض الرواتب الوظيفية، أو سنة بسنة للأثرياء.
وقال الشافعية والحنابلة: تدفع النفقة بطلوع شمس كل يوم؛ لأنه أول وقت الحاجة، فإن اتفق الزوجان على التعجيل أو التأجيل جاز.
الواجب الثاني ـ الكسوة:
أجمع العلماء (2) على أنه تجب على الزوج لزوجته كسوتها؛ لأنها لا بد منها على الدوام، ولقوله عز وجل: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وقوله عليه الصلاة والسلام لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» والكسوة بالمعروف: هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه.
وهي مقدرة بالاتفاق حتى عند الشافعية بكفاية الزوجة؛ للإجماع على أنه لا يكفي ما ينطلق عليه الاسم، وليست مقدرة بالشرع، وتقدر باجتهاد الحاكم،
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين: 894/2، الشرح الصغير: 738/2.
(2) البدائع: 23/4 وما بعدها، الدر المختار: 893/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 429/3، 433 وما بعدها، المغني: 568/7، الشرح الصغير: 738/2، المهذب: 162/2، كشاف القناع: 534/5، المغني: 572/7.(10/117)
فيفرض لها على قدر كفايتها، على قدر يسرهما وعسرهما، وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة، فللموسرة ثياب رفيعة من حرير وكتان جيد، وللمعسرة ثياب غليظة من قطن وكتان، وللمتوسطة ما بينهما.
وأقل ما يجب من الكسوة قميص (ثوب مخيط يستر جميع البدن) وسراويل (وهو ثوب مخيط يستر أسفل البدن ويصون العورة) وخمار أو مقنعة (وهو ما يغطى به الرأس) ومداس أو مِكْعَب (وهو مداس الرجل من نعل أو غيره) .
ويجب لها الكسوة في كل سنة مرتين: صيفية وشتوية، لتجدد الحاجة في الحر والبرد، وتكون كسوة الشتاء والصيف بما يناسبها بالاتفاق من غِطاء ووطاء في الشتاء بما يناسب، والصيف بما يناسبه بحسب العرف والعادة.
وتدفع الكسوة عند المالكية والحنابلة أول كل عام، وتملك بالقبض، فلا بدل لما سرق أو بلي.
وقال الشافعية والحنفية: تدفع الكسوة في كل ستة أشهر؛ لأن العرف في الكسوة أن تبدَّل في هذه المدة. فإن بليت الكسوة قبل هذه المدة، لم يجب عليه بدلها، كما لا يجب عليه بدل الطعام إذا نفد قبل انقضاء اليوم.(10/118)
الواجب الثالث ـ المسكن:
يجب للزوجة أيضاً مسكن لائق بها (1) إما بملك أو كراء أوإعارة أووقف، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/65] أي بحسب سعتكم وقدرتكم المالية، وقوله سبحانه: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وحفظ المتاع. وذكر الشافعية أن الواجب في المسكن هو الإمتاع أي الانتفاع لا التمليك، أما المستهلك كطعام فيجب فيه التمليك.
ويكون المسكن كالطعام والكسوة على قدر يسار الزوجين وإعسارهما، لقوله تعالى: {من وجدكم} [الطلاق:6/65] ، وبناء عليه يجب أن تتوافر في المسكن الأوصاف الآتية:
1ً - أن يكون ملائماً حالة الزوج المالية، للآية السابقة: {من وُجْدكم} [الطلاق:6/65] .
2ً - أن يكون مستقلاً بها ليس فيه أحد من أهله إلا أن تختار ذلك، وهذا عند الحنفية؛ لأن السكنى من كفايتها، فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله تعالى مقروناً بالنفقة، وإذا وجب حقاً لها ليس له أن يشرك غيرها فيه؛ لأنها تتضرر به؛ لأن السكن المشترك يمنعها معاشرة زوجها والاستمتاع بها، ولأنها لا تأمن على متاعها. والحد الأدنى للمسكن عند المالكية وغيرهم حجرة واحدة مستقلة بمرافقها، بشرط قرره المالكية وبعض الحنفية: وهو ألا يكون في حجرة أخرى في نفس الشقة (الطابق) زوجة ثانية؛ لأن سكنى المرأة مع ضرتها يؤدي إلى الإضرار بها.
فإن كان للرجل أقارب فله عند الحنفية أن يسكن زوجته معهم إلا إذا ثبت أن الأقارب يؤذونها بقول أو فعل.
__________
(1) فتح القدير: 334/3 وما بعدها، الدر المختار: 912/2، 914، الشرح الصغير: 737/2، القوانين الفقهية: ص 222، مغني المحتاج: 430/3، 432، المهذب: 162/2، المغني: 569/7.(10/119)
وفرق المالكية بين الزوجة الشريفة والوضيعة، فإذا كانت الزوجة شريفة (وهي ذات القدر) فلها الامتناع من السكنى مع أقاربه، ولو الأبوين في دار واحدة، لما فيه من الضرر عليها باطلاعهم على حالها وشؤونها الخاصة، إلا إذا شرط الزوج عليها عند العقد أن تسكن معهم، فليس لها الامتناع من السكنى معهم إلا إذا حصل منهم الضرر من سكناها معهم أو الاطلاع على شؤونها وعوراتها.
وأما إن كانت الزوجة وضيعة (وهي التي لا قدر لها) ، فللزوج أن يسكنها مع أقاربه في دار واحدة، إلا إذا اشترطت حين العقد ألا يسكن معها أحد من أقارب الزوج، أو حصل لها ضرر منهم.
وليس للزوجة عند الحنفية أن يسكن معها أحد من غير الزوج، ولو كان صغيراً غير مميز إلا إذا رضي الزوج بالسكنى. وأجاز المالكية أن يسكن معها ولد صغير من غير الزوج إذا لم يكن له حاضنة غيرها، وكان الزوج يعلم به عند الزواج، أو لم يعلم به ولم يكن له حاضنة غيرها. وإذا كان المسكن في مكان منقطع موحش أو كانت الدار كبيرة خالية من السكان ومرتفعة الجدران، فيلزم الزوج مؤنسة تؤنس الزوجة على ما اختاره الحنفية والحنابلة.
3ً - أن يكون المسكن مؤثثاً مفروشاً في رأي الجمهور غير المالكية: بأن يشتمل على مفروشات النوم من فراش ولحاف ووسادة، وأدوات المطبخ من آلات الأكل والشرب والطبخ من قِدْر (آلة الطبخ) وقَصْعة (آلة أكل) وكوز (إبريق) وجَرَّة (آلة شرب) ونحوها بحسب العادة مما لا غنى لها عنه كمغرفة، وما تغسل فيه ثيابها وأدوات الإضاءة؛ لأن المعيشة لا تتم بدون المذكور، فكان من المعاشرة بالمعروف.
وقال المالكية الذين يوجبون على الزوجة الجهاز المتعارف في حدود المهر المقبوض قبل الدخول: لا يكلف الزوج بتأثيث المنزل، بل المكلف هو الزوجة.
واتفق الفقهاء على اشتراط كون المسكن مشتملاً على المرافق الضرورية اللازمة للسكنى من دورة مياه ومطبخ ومنشر، وأن تكون تلك المرافق خاصة بالسكن إلا إذا كان الزوج فقيراً ممن يسكن في غرفة في دار كبيرة متعددة الغرف والسكان، بشرط كون الجيران صالحين.(10/120)
الواجب الرابع ـ نفقة الخادم إن كانت ممن تخدم:
اتفق الفقهاء (1) على أنه يلزم للزوجة نفقة الخادم إذا كان الزوج موسراً، وكانت المرأة ممن تُخدم في بيت أبيها مثلاً، ولا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، ولأن كفايتها واجبة عليه، وقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] . والأولى للموسر إخدام زوجته التي تخدم نفسها لأنه معاشرة بالمعروف.
ولا يجب لها في رأي الجمهور (أبي حنيفة ومحمد والشافعي وأحمد) أكثر من خادم واحد؛ لأن الخادم الواحد يكفيها لنفسها، فتتحقق الكفاية بواحد، ولا ضرورة إلى اثنين، والزيادة من باب الترف الذي لا يلزم الزوج به.
وقال أبو يوسف وأبو ثور: تفرض النفقة لخادمين؛ لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل، والآخر لمصالح الخارج.
وكذلك قال المالكية في المشهور: يلزم الزوج أكثر من خادم إذا كانت الزوجة أهلاً لذلك، وقضي لها عند التنازع مع الزوج بخادمها؛ لأنه أطيب لنفسها، إلا لريبة في خادمها تضر بالزوج في الدين أو الدنيا.
__________
(1) البدائع: 24/4، فتح القدير: 327/3-329، الدر المختار: 901/2، بداية المجتهد: 54/2، الشرح الصغير: 734/2، مغني المحتاج: 432/3 وما بعدها، المهذب: 162/2، المغني: 569/7 وما بعدها، غاية المنتهى: 234/3، كشاف القناع: 537/5 ومابعدها.(10/121)
والخادم: هو من يحل له النظر إلى المرأة، بأن يكون امرأة أو ذا رحم محرم؛ لأن الخادم يلزم المخدوم في أغلب أحواله، فلا يسلم من النظر. ويجوز في الصحيح عند الحنابلة: أن يكون الخادم من أهل الكتاب؛ لأن استخدامهم مباح، ولأن الصحيح عندهم إباحة النظر لهم.
ونفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والطعام، مثل نفقة امرأة المعسر في رأي الحنابلة، إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن لرأسها والسدر؛ لأن ما ذكر يراد للزينة والتنظيف؛ ولايراد من الخادم.
ومذهب الشافعية: تلزم نفقة الخادمة كالزوجة، وجنس طعامها جنس طعام الزوجة: وهو مُدّ على معسر وكذا متوسط على الصحيح، ومد وثلث على موسر، ولها كسوة تليق بحالها، ولها أدم على الصحيح، لكن ليس لها آلة تنظيف، إلا إن كثر وسخ وتأذت بقمَّل، فيجب لها ما يزيله.
أما إن كان الزوج معسراً فلا يجب عليه إحضار خادم لزوجته ولا نفقته؛ لأن الخادم ليس ضرورياً، وعلى الزوجة أن تخدم نفسها مااستطاعت.(10/122)
الواجب الخامس ـ آلة التنظيف ومتاع البيت:
اتفق الفقهاء (1) على وجوب أجرة القابلة وآلات التنظيف، واختلفوا في أدوات التجميل ومتاع البيت. فقال الحنفية: يجب على الزوج آلة طحن وخبز وآنية شراب وطبخ ككوز وجرة وقِدْر ومغرفة، وكذا سائر أدوات البيت كحصر ولِبْد وطنفسة (بساط صوف) وما تنتظف به وتزيل الوسخ كمشط وأشنان وصابون وسِدْر ودهن وخِطْمي على عادة أهل البلد، ويجب عليه مداس رجلها وما تغسل به ثيابها وبدنها، وينقل لها ماء الغسل من الجنابة، ويجب لها ماء الوضوء. وأما أجرة القابلة فعلى من استأجرها من زوجة وزوج، فإن جاءت القابلة بلا استئجار، قيل: تجب عليه، لأنه مؤنة الجماع، وقيل: تجب عليها كأجرة الطبيب. وأما الطيب فيجب عليه ما يوضع بعد الحيض والرائحة الكريهة، أما الخضاب والكحل فلا يلزمه، بل هو على اختياره، ولا تجب لها الفاكهة والقهوة والدخان.
وقال المالكية: تجب على الزوج آلة التنظيف على حسب الحال والمنصب وعوائد البلاد، فيفرض لها ماء الشرب والغسل وغسل الثوب والإناء واليد والوضوء، وزيت الأكل والادِّهان، والوقود من حطب أو غيره على حسب العادة، وما يصلح الطعام من ملح وبصل وغيرهما، واللحم في كل أسبوع مرة من غير الفقير، لا كل يوم، أما الفقير فعلى حسب قدرته.
وتجب عليه أجرة القابلة؛ لأنها من متعلَّقات الولد، والغطاء والوطاء في الشتاء والصيف بما يناسبهما بحسب العرف والعادة، وحصير الفرش، وليس لها بيع جهازها إلا بعد مضي أربع سنين، ولا يلزم الزوج ببدل الجهاز إذا بلي إلا الغطاء والفراش، فإنه يلزم به؛ لأنه ضروري.
__________
(1) الدر المختار: 893/2، الشرح الصغير: 733/2 وما بعدها، 738، القوانين الفقهية: ص 222، المهذب: 161/2، مغني المحتاج: 427/3، 430-432، المغني: 567/7 وما بعدها، كشاف القناع: 534/5-546، غاية المنتهى: 233/3.(10/123)
وتجب عليه أيضاً أدوات الزينة التي تتضرر المرأة بتركها ككحل ودُهْن من زيت أوغيره كحناء إذا كانا معتادين، لا غير معتادين، ولا يجب عليه مالا تتضرر المرأة بتركه، كما لا يجب لها المُشْط والمُكْحلة وباقي أثاث البيت، لأنها ملزمة بأثاث المنزل وحاجاته بعد قبض صداقها. والمقرر لدى الشافعية: أنه يجب آلة تنظيف كمُشْط ودُهْن وما تكنس به الدار، وما تغسل به الرأس والبدن، وأجرة حمام بحسب العادة، وثمن ماء غسل جماع ونفاس، لا حيض واحتلام في الأصح، ولها آلات الأكل والشرب والطبخ، وعلى الزوج الطحن والعجن والخبز في الأصح، ولها مفروشات النوم من فراش ومخدة ولحاف، وما تقعد عليه من لبْد وحصير ونحوهما. ولا يجب لها الكحل والخضاب وما تزين به إلا إذا طلبه الزوج. وأما الطيب فيلزمه إن كان لقطع السهوكة (الرائحة الكريهة) .
وقرر الحنابلة: أنه يجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط ودهن الرأس والسدر وصابون ونحوهما مما تغسل به رأسها وتنظف بدنها وبيتها، وثمن ماء شرب ووضوء وغسل من حيض أو نفاس وجنابة ونجاسة وغسل ثياب. ويجب عليه الخضاب والحناء إن طلبه منها للزينة، ولا يجب عليه إن لم يطلبه؛ لأنه يراد للزينة، وعليه الطيب لقطع أثر الحيض والعرق والرائحة الكريهة، ولا يلزمه ما يراد للتلذذ والاستمتاع أو التجمل والزينة.
ويجب كل ما تحتاجه للنوم من فراش ولحاف ومِخدَّة مع حشوها بالقطن بحسب عرف البلد، وما تحتاجه للجلوس من بساط صوف وهو الطنفسه، وما لا بد منه للطبخ كماعون الدار ونحوه، الموسر على حسب إيساره والمعسر على قدر إعساره على حسب العوائد.(10/124)
الحكم القضائي بالنفقة وتعديلها:
تجب نفقة الزوجة ديانة مهما امتد الزمن، لكن منع القانون السوري الحكم بالنفقة أكثر من أربعة أشهر سابقة للادعاء تيسيراً على الزوج ومنع إرهاقه، وقد نص هذا القانون على ذلك في المادة (78) :
1 -يحكم للزوجة بالنفقة من تاريخ امتناع الزوج عن الإنفاق الواجب عليه.
2 - لا يحكم بأكثر من نفقة أربعة أشهر سابقة للادعاء.
والمقرر لدى الحنفية (1) أنه لا تستحق الزوجة النفقة عن مدة ماضية إلا بفرض القاضي أو بالتراضي؛ لأن النفقة عندهم صلة وليست بعوض، فلا يتأكد وجوبها إلا بالقضاء، كالهبة لا توجب الملك إلا بمؤكد وهو القبض، والصلح بمنزلة القضاء.
ويجوز تعديل النفقة المقدرة قضاء في حالتين (2) :
الأولى ـ تبدل حال الزوج من عسر إلى يسر؛ لأن النفقة تختلف بحسب اليسار والإعسار.
والثانية ـ تبدل أسعار الحاجيات تبدلاً ملحوظاً، من رخص إلى غلاء وبالعكس، في أحوال الظروف الطارئة كالحرب والقحط والكوارث العامة. فإذا لم تحدث طوارئ عامة لا تقبل دعوى التعديل زيادة أو نقصاً قبل مضي ستة أشهر على فرض النفقة، اعتماداً على الغالب في أن الأسعار لا يظهر أثر تبدلها في أقل من تلك المدة.
وهذا ما نصت عليه المادة (77) من القانون السوري:
1 - تجوز زيادة النفقة ونقصها بتبدل حال الزوج وأسعار البلد.
لا تقبل دعوى الزيادة أو النقص في النفقة المفروضة قبل مضي ستة أشهر على فرضها إلا في الطوارئ الاستثنائية.
كيف يقدر القاضي النفقة؟ يقدر القاضي النفقة بالاستناد لمعرفة حاجات الزوجة وتكاليف المعيشة وأسعار السلع، مستعيناً بآراء أهل الخبرة فيها. وهذا ما نصت عليه المادة (81) من القانون السوري.
يقدر القاضي النفقة، ويجب أن يكون تقديره مستنداً إلى أسباب ثابتة، وله الاستئناس برأي الخبراء.
الاستدانة أثناء الدعوى: للقاضي أثناء النظر في دعوى النفقة أن يأمر الزوج بإسلاف زوجته مبلغاً من المال، لا يزيد عن نفقة شهر واحد، ويمكن تجديد الأمر، وقد نصت على هذا الأمر المادة (82) من القانون السوري:
1 - للقاضي أثناء النظر بدعوى النفقة، وبعد تقديرها: أن يأمر الزوج عند اللزوم بإسلاف زوجته مبلغاً على حساب النفقة لا يزيد عن نفقة شهر واحد، ويمكن تجديد الإسلاف بعده.
2 - ينفذ هذا الأمر فوراً كالأحكام القطعية.
__________
(1) فتح القدير: 332/3، الدر المختار: 906/2.
(2) فتح القدير: 331/3، الدر المختار: 905/2 وما بعدها.(10/125)
المطلب الرابع ـ أحكام النفقة الزوجية:
هناك أحكام متنوعة لنفقة الزوجة أهمها ما يأتي:
أولاً ـ حكم الامتناع عن الإنفاق:
إذا امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته بعدما فرضه على نفسه أو بعد فرض القاضي، ففيه تفصيل عند الحنفية:
أـ إن كان الزوج موسراً وله مال ظاهر، باع القاضي من ماله جبراً عليه، وأعطى الثمن لزوجته للنفقة. وإن لم يكن له مال ظاهر وكان موسراً، حبسه القاضي إذا طلبت الزوجة (1) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «مَطْل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته» ويظل محبوساً حتى يدفع النفقة، فإن لم يدفع وثبت للقاضي عجزه عن الإنفاق، ترك إلى الميسرة، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] .
ب ـ وأما إن كان الزوج معسراً: فلا يحبس؛ إذ أنه ليس ظالماً بامتناعه عن الإنفاق، ولأنه لا فائدة من حبسه.
ثانياً ـ إعسار الزوج بالنفقة:
للفقهاء آراء في إعسار الزوج، وهي ما يأتي (2) :
قال الجمهور غير المالكية: لا تسقط النفقة المفروضة على الزوج بإعساره، بل تصبح ديناً عليه إلى وقت اليسار، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] .
وحينئذ يأذن القاضي في رأي الحنفية للزوجة بالاستدانة، وإن أبى الزوج، وفائدة الإذن بالاستدانة: أن يتمكن الدائن من أخذ دينه من الزوج أو الزوجة، وأن النفقة المستدانة لا تسقط بموت أحد الزوجين. ويجب إقراض الزوجة على من تجب عليه نفقتها، فإن امتنع فللقاضي أن يحكم بحبسه بعد إنذاره.
ولا يفرق عند الحنفية بين الزوجين بسبب الإعسار؛ لأن النفقة تصير ديناً بفرض القاضي، فيستوفى في المستقبل، ويتحمل أدنى الضررين لدفع الأعلى.
__________
(1) البدائع: 38/4.
(2) الدر المختار: 903/2 وما بعدها، فتح القدير: 329/3 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 517/2، المهذب وتكملة المجموع: 108/17، كشاف القناع: 552/5، المغني: 573/7 وما بعدها.(10/126)
أما عند الشافعية والحنابلة: فللزوجة أن تفسخ أذا أعسر الزوج بنفقة المعسر كلها أو بعضها، ولا تفسخ إذا أعسر بما زاد عن نفقة المعسر؛ لأن الزيادة تسقط بإعساره. ودليلهم على جواز الفسخ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: «يفرق بينهما» (1) وحديث أبي هريرة أيضاً عند النسائي الذي ورد فيه: «وابدأ بمن تعول، فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: امرأتك تقول: أطعمني، وإلا فارقني» ولأنه عجز عن الإمساك بالمعروف، فينوب القاضي منابة في التفريق كما في الجب والعنة، بل أولى؛ لأن الحاجة إلى النفقة أولى، فإنه إذا ثبت للزوجة الفسخ بالعجز عن الوطء ـ والضرر فيه أقل ـ فلأن يثبت بالعجز عن النفقة ـ والضرر فيه أكثر ـ أولى.
وقال المالكية: تسقط النفقة عن الزوج بالإعسار مدة إعساره، أي لا تلزمه، ولا تكون ديناً عليه، فلا ترجع عليه الزوجة إذا أيسر، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق:7/65] والمعسر عاجز عن الإنفاق، وتكون متبرعة فيما تنفقه على نفسها في زمن الإعسار. فإن أيسر وجبت عليه النفقة.
أما الحكم القانوني: ففي مصر نصت المادة (213 إجراءات شرعية) على أنه إذا امتنع المحكوم عليه عن النفقة المحكوم بها، حكمت المحكمة بحبسه، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس على عشرين يوماً، ويخلى سبيله إذا أدى ما عليه أو أحضر كفيلاً مقتدراً. ونصت المادة (80) من القانون السوري على ما يلي:
1- إذا حكم للزوجة بنفقة على الزوج، وتعذر تحصيلها منه، يلزم من يكلف بنفقتها فيما لو فرضت غير ذات زوج، أن ينفق عليها بالقدر المفروض، ويكون له حق الرجوع على الزوج.
2 - إذا أذن لها بالاستدانة ممن ليس مكلفاً بنفقتها، فله الخيار بين الرجوع على الزوج أو الرجوع عليها، وهي ترجع على زوجها.
ومعنى هذه المادة التفريق بين حالتين: الأولى ـ إذا كان المأمور بالإنفاق على المرأة هو قريبها من أب أو جد أو أخ، فله إذا دفع النفقة أن يرجع على الزوج عند اليسار. والثانية ـ إذا كان المستدان منه النفقة هو غير المكلف بالإنفاق على المرأة، فله الخيار بين الرجوع على الزوج أو الزوجة.
__________
(1) أخرجه الدارقطني والبيهقي، وأعله أبو حاتم، ولكن للحديث شواهد عن سعيد بن المسيب عند سعيد ابن منصور والشافعي وعبد الرزاق في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله، قال: «يفرق بينهما» قال: أبو الزناد: «قلت لسعيد: سنة؟ قال: سنة» وهذا مرسل قوي.(10/127)
ثالثاً ـ نفقة زوجة الغائب:
الغائب: هو من تعذر إحضاره إلى المحكمة لسؤاله عن دعوى النفقة، سواء أكان بعيداً أم قريباً. وقد اختلف الفقهاء في كيفية إيجاب النفقة عليه (1) .
فذهب الجمهور إلى وجوب النفقة عليه عن الماضي ولو لم يفرضها حاكم، وتكون ديناً في ذمته. وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا بإيجاب الحاكم.
ودليل الجمهور أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن ينفقوا، أو يطلّقوا. وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع عن الإنفاق، ولأن الإنفاق عليها من ماله يتعذر، فكان لها الخيار كحال الإعسار، بل هذا أولى بالفسخ، فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور، فعلى غيره أولى، ولأن في الصبر ضرراً أمكن إزالته بالفسخ، فوجب إزالته.
__________
(1) فتح القدير: 336/3-338، الدر المختار: 916/2، بداية المجتهد: 55/2، الشرح الصغير: 745/2 وما بعدها، المهذب: 163/2، مغني المحتاج: 436/3، المغني: 576/7-578، غاية المنتهى: 236/3، كشاف القناع: 556/5.(10/128)
واستدل أبو حنيفة بأن نفقة الزوجة تجب يوماً فيوماً، فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب، ولأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها، فتسقط كنفقة الأقارب.
ورأى الحنفية: أنه لا يقضى بنفقة في مال شخص غائب إلا لزوجة الغائب وأولاده الصغار ووالديه. أما غيرهم من المحارم كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، فلا يقضى بنفقتهم فيه.
فإذا غاب الزوج، وطلبت زوجته من القاضي فرض نفقة لها: فإن كان له مال ظاهر يمكن أخذ النفقة منه، قضى لها القاضي بالنفقة من ماله، بعد أن يحلفها بالله: أن زوجها ما أعطاها النفقة، رعاية لمصلحة الغائب، ويأخذ في رأي الحنفية والشافعية كفيلاً منها بالنفقة رعاية لمصلحة الغائب؛ لأنه ربما استوفت النفقة أو طلقها الزوج وانقضت عدتها.
وكذلك يحلفها في رأي المالكية بأنها تستحق النفقة على زوجها الغائب وأنه لم يترك لها مالاً تنفق منه، ولا وكل وكيلاً لها ينفق عليها. وتسمى هذه اليمين يمين الاستيثاق.
وإن لم يكن للزوج مال ظاهر: فليس للقاضي في رأي الحنفية تطليق الزوجة بإعساره؛ لأن إعساره لا يسوغ التطليق سواء أكان الزوج حاضراً أم غائباً.(10/129)
ورأى الجمهور غير الحنفية: أن للقاضي تطليق الزوجة بإعسار الزوج مطلقاً حاضراً أم غائباً، إلا أن المالكية قالوا: إن كان الزوج قريب الغيبة فيرسل له: إما أن يأتي أو يرسل النفقة، أو يطلّق عليه، وإن كان بعيد الغيبة كعشرة أيام، فللقاضي التطليق إن لم يترك لها شيئاً ولا وكل وكيلاً بالنفقة ولا أسقطت عنه النفقة حال غيبته، وتحلف على ما ذكر. واتفق الفقهاء (1) على أنه إذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب، ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها، حسب ما عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم.
رابعاً ـ متى تعتبر النفقة ديناً على الزوج؟
عرفنا أن النفقة الزوجية تجب باتفاق الفقهاء من حين العقد مع تمكين الزوجة من نفسها، واشترط المالكية لوجوب النفقة قبل الدخول دعوة المرأة أو وليها المجبر الزوج إلى الدخول.
ولكنهم اختلفوا في وقت اعتبار النفقة ديناً في ذمة الزوج وفي مدى قوة هذا الدين على رأيين (2) :
1 - قال الحنفية: لا تصير النفقة ديناً في ذمة الزوج إلا بالقضاء أو التراضي، فما لم يحكم بها القاضي، أو لم يتراض الزوجان عليها، لا تكون ديناً، فلو أنفقت المرأة على نفسها من مالها بعد العقد، أو بطريق الاستدانة، لا تكون ديناً على الزوج، بل تسقط بمضي المدة، إلا لأقل من شهر فلا تسقط.
وإذا تم القضاء بها أو التراضي عليها، لا يصبح المتجمد منها ديناً قوياً بحيث لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، وإنما يكون ديناً ضعيفاً يسقط بما يسقط به الدين القوي بالأداء أو الإبراء، ويسقط أيضاً بنشوز الزوجة، وبموت أحد الزوجين. ولا تصير ديناً قوياً إلا إذا أذن الزوج أو القاضي للزوجة بالاستدانة واستدانتها بالفعل.
__________
(1) المغني: 579/7.
(2) الدر المختار: 906/2، فتح القدير والعناية: 332/3، الشرح الصغير: 743/2، مغني المحتاج: 442/3، المغني: 578/7.(10/130)
وحجتهم أن النفقة الزوجية هي صلة (أي عطاء من غير عوض) من وجه، وعوض من وجه آخر، أما كونها صلة فلأن منافع الاحتباس تعود على الزوجين جميعاً لا على الزوج وحده، وأما كونها عوضاً فلأنها جزاء احتباس الزوجة لحق زوجها، فنظراً لشبهها بالصلة تسقط بمضي المدة من غير قضاء ولا تراض من الزوجين كنفقة الأقارب، ولشبهها بالعوض تصير ديناً بالقضاء بها أو التراضي عليها.
2 - وقال الجمهور: إنها تصير ديناً قوياً بمجرد وجوبها وامتناع الزوج عن أدائها إلى الزوجة، فلا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء كسائر الديون، ولا يسقط بمضي المدة بدون إنفاق، ولا يسقط المتجمد منها في الماضي بنشوز الزوجة ولا بالطلاق ولا بالموت.
وحجتهم أن النفقة عوض، وليست صلة أي عطاء من غير عوض، وقد أوجبها الشارع بمقتضى العقد في مقابل احتباس الزوجة لشؤون الزوجية. وإذا كانت عوضاً محضاً فهي دين كسائر الديون، تجب من وقت استحقاقها ككل عوض أو أجرة.
وقد أخذ القانون السوري برأي الحنفية، فنصت المادة (79) على ما يلي: النفقة المفروضة قضاء أو رضاء لا تسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. والراجح لدي رأي الجمهور، وقد أخذت به المحاكم الشرعية في مصر من سنة (1920) .(10/131)
خامساً ـ نفقة المعتدة:
تقدم بيان الحكم في حقوق الزوجة، وخلاصته ما يأتي: تجب بالاتفاق نفقة الرجعية؛ لأنها في حكم الزوجة، ونفقة الحامل، لقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق:6/65] .
ولا تجب بالاتفاق نفقة المعتدة من وفاة أو من زواج فاسد أو شبهة، إلا أن المالكية أوجبوا لمعتدة الوفاة السكنى مدةالعدة إذا كان المسكن مملوكاً للزوج، أو مستأجراً ودفع أجرته قبل الوفاة.
واختلفوا في المعتدة من طلاق بائن: فأوجب الحنفية (1) لها النفقة بأنواعها الثلاثة لاحتباسها لحق الزوج. ولم يوجب لها الحنابلة (2) أي نفقة؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجعل لفاطمة بنت قيس التي طلقت البتة نفقة ولا سكنى. وتوسط المالكية والشافعية (3) فأوجبوا لها السكنى فقط، لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:6/65] .
نفقة الحمل: أوجب المالكية (4) نفقة الحمل على أبيه، بشرط حرية الحمل وحرية أبيه ولحوق الحمل بأبيه، فلا نفقة لحمل رقيق ولا لمن أبوه عبد، ولا نفقة لحمل ملاعَنة محبوسة بسببه.
وهناك رأيان عند الشافعية والحنابلة في سبب نفقة الحامل (5) :
أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط عند انفصاله، فدل على أنها له.
والثاني ـ تجب للحامل من أجل الحمل، لأنها تجب مع اليسار والإعسار، فكانت له، كنفقة الزوجات، ولأنها في رأي غير الحنفية لا تسقط بمضي الزمان، فأشبهت نفقة الأم في حال حياة الحمل.
حكم القانون السوري بنفقة العدة:
نصت المادتان (83، 84) على نفقة العدة.
(م 83) - تجب على الرجل نفقة معتدته من طلاق أو تفريق أو فسخ.
(م 84) - نفقة العدة كنفقة الزوجية، ويحكم بها من تاريخ وجوب العدة، ولا يقضى بها عن مدة أكثر من تسعة أشهر.
فالمادة الأولى تقرر وجوب نفقة المعتدة أياً كان سبب الفراق.
والمادة الثانية تقرر بداية الواجب وهو من تاريخ وجوب العدة، ولا يقضى بها عن مدة أكثر من تسعة أشهر، دفعاً لإرهاق الزوج، مع العلم بأن عدة ممتدة الطهر سنة كاملة، كما جاء في الفقرة (2) من المادة (121) ، فكان ينبغي جعل أقصى المدة سنة، لا تسعة أشهر.
__________
(1) الدر المختار: 921/2 وما بعدها، 16/4.
(2) غاية المنتهى: 236/3 ومابعدها، المغني: 606/7-611، كشاف القناع: 538/5.
(3) الشرح الصغير: 740/2 وما بعدها، المهذب وتكملة المجموع: 117/17 وما بعدها، حاشية الباجوري: 178/2.
(4) الشرح الصغير: 743/2.
(5) المغني: 608/7 وما بعدها.(10/132)
سادساً ـ تعجيل النفقة:
إذا عجل الزوج نفقة زوجته، ثم طرأ ما يوجب سقوط النفقة كنشوز الزوجة أو موت أحد الزوجين، فليس للزوج أو لورثته في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1) أن يسترد شيئاً منها؛ لأن النفقة صلة أو هبة، والزوجية من موانع الرجوع في الهبة.
وقال محمد وباقي الأئمة: للزوج أن يسترد نفقة المدة الباقية، فإن كانت قائمة أخذها، وإن كانت مستهلكة أخذ مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت قيمية؛ لأن النفقة عوض وجزاء احتباس الزوجة في المدة، فإن فات الاحتباس في بعض المدة فلا تستحق في مقابلها شيئاً من النفقة، فيلزمها أن ترد ما يقابل نفقة تلك المدة. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن الراجح أن النفقة عوض وليست صلة أو هبة.
سابعاً ـ الإبراء من النفقة:
الإبراء إما أن يكون عن نفقة ماضية أو مستقبلة (2) .
أـ فإن كان عن نفقة ماضية: صح إبراء الزوجة عند الحنفية إن كانت النفقة مفروضة بقضاء القاضي أو بتراضي الزوجين؛ لأنها صارت ديناً ثابتاً في ذمة الزوج، والإبراء يكون مما هو ثابت في الذمة. ولا يصح الإبراء عن نفقة مفروضة بقضاء أو تراض؛ لأنها لم تثبت ديناً في الذمة، ولا يكون الإبراء إلا عما هو ثابت في الذمة.
وقال الجمهور: يصح الإبراء عنها؛ لأنها تصير ديناً في ذمة الزوج بمجرد الامتناع عن الإنفاق، سواء أكانت مقررة بالقضاء أم بالتراضي أم غير مقررة.
ب ـ وأما الإبراء عن نفقة مستقبلة: فلا يصح اتفاقاً؛ لأن النفقة لم تجب بعد، فلا تقبل الإبراء.
لكن أجاز الحنفية الإبراء عن نفقة مستقبلة في حالتين:
الأولى ـ الإبراء عن مدة بدأت بالفعل: كنفقة شهر بدأ، وسنة دخلت، لا عن أكثر من سنة، ولا عن سنة لم تدخل، لتحقق وجوبها، إذ يجب تنجيزها أول المدة.
الثانية ـ الإبراء من نفقةالعدة في مقابل الخلع أو الطلاق: لأن الإبراء عن النفقة في نظير عوض وهو ملك الزوجة نفسها. ولا يصح الإبراء في غير الخلع والطلاق؛ لأنه إسقاط للشيء قبل وجوبه.
__________
(1) البدائع: 38/4، فتح القدير: 333/3.
(2) البدائع: 16/4، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 899/2، المغني: 610/7، الأحوال الشخصية للأستاذ زكي الدين شعبان: ص 339.(10/133)
ثامناً ـ المقاصة بدين النفقة:
إذا كان للزوج دين على زوجته لثمن مبيع أو قرض، فهل يسقط بالمقاصة مع دين النفقة؟.
يرى الحنفية أنه إذا كان دين النفقة قوياً (وهو الذي فرضه القاضي أو تقرر بالتراضي) جاز لأحد الزوجين أن يطلب المقاصة، وليس للآخر الامتناع من المقاصة لتساوي الدينين في القوة. وأما إذا لم يكن دين النفقة مستداناً بأمر القاضي أو برضا الزوج، فيكون ديناً ضعيفاً، وتصح المقاصة به إذا طلبها الزوج؛ لأن دينه أقوى من دين الزوجة. وليس للزوجة الامتناع من المقاصة. ولا تمكن المقاصة بطلب الزوجة حينئذ إلا إذا رضي الزوج بها؛ لأن دينها أضعف من دينه (1) .
ويرى الجمهور: أن دين النفقة دين صحيح لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء، سواء فرضه القاضي أو استدين بالتراضي أم لا، فتصح المقاصة به مطلقاً، لتساوي الدينين في القوة. ولكن قرر المالكية والحنابلة أن الزوجة إذا كانت فقيرة، وطلب الزوج المقاصة، لا يجاب إلى طلبه إلا إذا رضيت بها، منعاً للضرر بها؛ لأن إحياء النفس مقدم على وفاء الدين.
__________
(1) شعبان، المرجع السابق: ص 340.(10/134)
تاسعاً ـ الكفالة بالنفقة:
لا تصح الكفالة بالنفقة في رأي الحنفية قبل القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأن المكفول به يشترط أن يكون ديناً صحيحاً، ولا تصبح النفقة ديناً في ذمة الزوج إلا بعد القضاء بها أو التراضي عليها، لكنهم أجازوا استحساناً الكفالة بالنفقة بعد القضاء أو التراضي قبل الاستدانة، رفقاً بالناس، وإعانة للزوجة على الوصول إلى حقها في النفقة.
وتصح الكفالة بالنفقة في رأي الجمهور؛ لأنها تجب للزوجة من تاريخ العقد بشرط التمكين، وتعتبر ديناً صحيحاً في ذمة الزوج من غير توقف على القضاء أو التراضي. وهذا هو المعمول به في محاكم مصر من سنة (1920) .
الكفالة بالنفقة بسبب السفر: المفتى به عند الحنفية (1) هو رأي أبي يوسف في جواز أخذ المرأة كفيلاً بالنفقة إذا أراد الزوج السفر، وتعطى كفيلاً بنفقة شهر إذا لم تعلم المرأة مدة الغيبة؛ لأن إعطاء كفيل أقل الواجب. فإن علمت أنه سيغيب أكثر من شهر، فتعطى كفيلاً بقدرة المدة التي يتوقع غيابه فيها.
وقال المالكية: تعطى الزوجة كفيلاً بالنفقة في مدة غياب زوجها ليدفع لها النفقة بحسب المعتاد يومياً أو شهرياً.
كفالة النفقة الماضية والمستقبلة: أجاز الحنابلة ضمان النفقة الماضية والمستقبلة، واكتفى الشافعية بتجويز ضمان النفقة الماضية، ولم يجيزوا ضمان النفقة المستقبلة؛ لأنه ضمان ما لم يجب، بناء على أن المذهب الجديد للشافعي هو القول بأن النفقة تجب بالتمكين لا بالعقد، وهو الصحيح؛ لأنها لو وجبت بالعقد لملكت الزوجة المطالبة بها كالمهر، والعقد يوجب المهر، ولا يوجب عوضين مختلفين، ولأن النفقة مجهولة، والعقد لا يوجب مالاً مجهولاً (2) .
عاشراً ـ الصلح عن النفقة:
قال الحنفية (3) : قد يكون الصلح عن النفقة تقديراً للنفقة، كالصلح على مبلغ مالي قبل تقدير النفقة بالقضاء أو الرضا أوبعده، وحينئذ تجوز الزيادة عليه أو النقصان بسبب الغلاء أو الرخص، فلو قال الزوج: لا أطيق ذلك، فهو لا زم له، ولا التفات لقوله بكل حال، لأنه ألزمه باختياره، إلا إذا تغير سعر الطعام، وعلم القاضي أن ما دون المبلغ المصالح عليه يكفيها، فحينئذ يفرض لها كفايتها.
وقد يكون الصلح معاوضة كالصلح على متاع أو عقار، إن كان بعد تقدير النفقة بالقضاء أو الرضا، وحينئذ لا تجوز الزيادة ولا النقصان ولو قبل التقدير المذكور.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 895/2.
(2) المغني: 578/7، المهذب: 164/2، مغني المحتاج: 435/3.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 905/2 وما بعدها.(10/135)
المبحث الثاني ـ نفقة الأولاد أو الفروع:
يشتمل على أربعة مطالب:
الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع وتعيينهم.
الثاني ـ شروط الوجوب.
الثالث ـ من تجب عليه نفقة الفروع.
الرابع ـ مقدار نفقة الفروع وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها.
المطلب الأول ـ وجوب الإنفاق على الفروع وتعيينهم:
تجب نفقة الأولاد لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] أي أن على الأب المولود له نفقة أولاده، بسبب الولادة، كما تجب عليه نفقة الزوجة بسبب الولد أيضاً، ولقوله صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي أن نفقة الولد والزوجة واجبة على الأب، وللحديث السابق في ترتيب النفقة: على النفس، ثم على الولد الصغير، ثم على الأهل، ثم على الولد غير الصغير، ثم على الخادم.
والأولاد الواجب نفقتهم في رأي جمهور العلماء (1) : هم الأولاد مباشرة، وأولاد الأولاد، أي الفروع وإن نزلوا، فعلى الجد نفقة أحفاده، من أي جهة كانوا؛ لأن الولد يشمل الولد المباشر وما تفرع منه. وهو الصحيح، فهذه النفقة تجب بالجزئية دون الإرث.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 106/3 وما بعدها، فتح القدير: 346/3، المهذب: 156/2 وما بعدها، المغني: 586/7 وما بعدها.(10/136)
ورأى الإمام مالك (1) : أنه تجب نفقة الأولاد المباشرين فقط، دون أولاد الأولاد، لظاهر النص القرآني السابق: {وعلى المولود له ... } [البقرة:2/233] فالنفقة عنده تجب بسبب الإرث لا بمطلق الجزئية.
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة على الأولاد:
يشترط لوجوب نفقة الأولاد ثلاثة شروط (2) :
1 ً - أن يكون الأصل قادراً على الإنفاق بيسار أو قدرة على الكسب: فإذا كان الأصل غنياً أو قادراً على الكسب، وجبت عليه نفقة أولاده، فينفق عليهم من ماله، وإن لم يكن له مال وقدر على الكسب وجب عليه الاكتساب، في رأي الجمهور، فإن امتنع حبسه القاضي. أما إن كان معسراً بحيث تجب نفقته على غيره من الأصول أو الفروع، وكان عاجزاً عن الكسب، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا يعقل إيجاب النفقة عليه وهو يأخذ نفقته من غيره، إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا هو الصحيح.
وقال المالكية: لا يلزم الأب الكسب لأجل نفقة أولاده. فإذا كان معسراً، وكان قادراً على الكسب بصنعة أو غيرها، لم يجب عليه التكسب، لينفق على أولاده المعسرين.
2 ً - أن يكون الولد فقيراً معسراً لا مال له، ولا قدرة له على الاكتساب: فإذا كان له مال يكفيه، وجبت نفقته فيه لا على غيره، وإذا كان مكتسباً وجب عليه الاكتساب، فالصغير المكتسب نفقته في كسبه، لا على أبيه. وعليه فإن الولد
__________
(1) الشرح الصغير: 753/2، القوانين الفقهية: ص 223.
(2) الدر المختار: 923/2-925، الشرح الصغير والقوانين الفقهية: المكان السابق، المهذب: 166/2، مغني المحتاج: 446/3 ومابعدها، المغني: 584/7-587، كشاف القناع: 559/5.(10/137)
الموسر بمال أو كسب يستغني به، لا نفقة له؛ لأن نفقة القرابة تجب على سبيل المواساة والبر، والموسر مستغن عن المواساة والبر والصلة. ومن له مسكن يسكنه يكون فقيراً محتاجاً للنفقة؛ لأن الإيواء فيه ضرورة حياتية، فلا يباع عليه عقاره، أما إن كان له مسكن آخر زائد عن سكناه، فلا يعد محتاجاً، ولا يستحق النفقة على من سواه من الأصل أو الفرع، فيباع عليه؛ لأن فيه فضلاً عن حاجته.
والعجز عن الكسب يكون بإحدى الصفات التالية:
1 ً) ـ الصغر: أي الصغير الذي لم يبلغ به صاحبه حد الكسب، فإن بلغ الغلام لا الأنثى حد الكسب، كان للأب أن يؤجره أو يدفعه إلى حرفة ليكتسب منها، وينفق عليه من كسبه. أما الأنثى فلاتؤجر للخدمة، لما فيها من مخاطر الخلوة بها وهو لا يجوز شرعاً، لكن يجوز تعليمها عند امرأة حرفة معينة مناسبة لها كخياطة أو تطريز أو غزل ونحوها، فإن استغنت بنحوه، وجبت نفقتها في كسبها، ولا تجب نفقتها على الأب إلا إذا كان دخلها لا يكفيها، فتجب كفايتها بدفع القدر المعجوز عنه.
وأما الولد الكبير: فلا تجب نفقته على الأب إلا إذا كان عاجزاً عن الكسب لآفة في عقله كالجنون والعته، أو آفة في جسمه كالعمى والشلل وقطع اليدين والرجلين، أو بسبب طلبه العلم، أو بسبب انتشار البطالة وعدم تيسر الكسب له، أو بسبب المرض المانع له من الاكتساب.(10/138)
وأوجب الحنابلة خلافاً للجمهور النفقة للولد الكبير الفقير، ولو كان صحيحاً، كما أوجبوها للوالد الفقير ولو كان صحيحاً؛ لأنه ولد أو والد فقير محتاج، فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني، كما لو كان مريضاً بمرض مزمن، أو مكفوفاً. ويكون المبدأ عند الحنابلة هو وجوب نفقة المولودين والوالدين دون اشتراط نقص الخِلْقة أو نقص الأحكام المكلف بها، في ظاهر المذهب.
2 ً) ـ الأنوثة: تجب نفقة البنت الفقيرة على أبيها مهما بلغت حتى تتزوج، وعندئذ تصبح نفقتها على الزوج، فإذا طلقت عادت نفقتها على الأب، ولا يجوز للأب أن يجبرها على الاكتساب. فإن اكتسبت من مهنة شريفة لا تعرضها للفتنة كخياطة وتعليم وتطبيب، سقطت نفقتها عن الأب، إلا إذا كان كسبها لا يكفيها، فعلى الأب إكمال النفقة التي تحتاجها.
3 ً) ـ المرض المانع من العمل: كالعمى والشلل والجنون والعته ونحوها.
4 ً) ـ طلب العلم الذي يشغل عن التكسب: فالطالب المتعلم حتى ولو كان قادراً على العمل والتكسب، تجب نفقته على أبيه؛ لأن طلب العلم فرض كفاية، فلو ألزم طلبة العلم التكسب، تعطلت مصالح الأمة. وهذا بشرط كون الطالب مجداً ناجحاً، فإن كان مخفقاً في دراسته، فلا جدوى في تعليمه، وعليه الانصراف إلى تعلم مهنة حرة تكفيه.(10/139)
وأضاف بعض الحنفية: من يلحقه العار بالتكسب بسبب وجاهته وكونه من أبناء الأشراف، فإنه يستحق النفقة على أبيه. وانتقد ذلك بأن الاكتساب لتوفير مؤونته ومؤونة عياله فرض، فكيف يكون عاراً؟! وقالوا: الأولى بأن الولد إذا كان من أبناء الكرام، ولا يستأجره الناس، فهو عاجز يستحق النفقة. والحق أنه لا امتياز في الإسلام لبعض الناس على بعض، وأن كبار الصحابة منهم أبو بكر وعلي كانوا يتجرون ويعملون، وليس في العمل أي عار، فلا وجه لتمييز بعض الأولاد على عامة الناس.
3 - ألا يختلف الدين في رأي الحنابلة وحدهم: فلا تجب النفقة في عمودي النسب مع اختلاف الدين، في الرواية المعتمدة لديهم؛ لأنها مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب، ولأنهما غير متوارثين، فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقته بالقرابة، ومن الشروط عندهم أن يكون المنفق وارثاً، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] ، فيجب أن تختص النفقة بمن تجب صلته وبمن كان وارثاً، فإن لم يكن وارثاً فلا نفقة له، لعدم القرابة.
ولم يشترط الجمهور غيرا لحنابلة اتحاد الدين لنفقة الأولاد، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/2] وهو يدل على أن الولادة سبب لإيجاب نفقة الأولاد على أبيهم، والولادة ثابتة، سواء مع اتحاد الدين أواختلافه، ولأن النفقة وسيلة الحياة، والحياة مطلوبة ولو مع الكفر؛ لأن المال لا أهمية له في الحقيقة، والله تعالى يرزق المؤمن والكافر على السواء.(10/140)
المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأولاد:
اتفق الفقهاء (1) على أنه إذا كان الأب موجوداً وموسراً أو قادراً على الكسب في رأي الجمهور، فعليه وحده نفقة أولاده، لا يشاركه فيها أحد، لقوله تعالى: {وعلى المولود له..} [البقرة:233/2] الذي يفيد حصر النفقة فيه، ولأنهم جزء منه، فنفقتهم وإحياؤهم كنفقة نفسه.
أما إذا لم يكن الأب موجوداً، أو كان فقيراً عاجزاً عن الكسب لمرض أو كبر سن أو نحو ذلك، كانت نفقتهم في رأي الحنفية على الموجود من الأصول ذكراً كان أو أنثى إذا كان موسراً، فتجب على الجد وحده إذا كان موسراً، أو على الأم وحدها إذا كانت موسرة. وللجد أو الأم إذا كان الأب موجوداً معسراً غير مريض مرضاً مزمناً الرجوع على الأب في حال يساره، ويكون ما أنفقه ديناً على والدهم. كما يجوز الرجوع عليه إذا أمر القاضي بالإنفاق.
وإذا وجد الجد مع الأم فعليهما النفقة بنسبة ميراثهما، فيكون على الأم الثلث وعلى الجد الثلثان. وإذا كان الجد مع الجدتين: أم الأم وأم الأب، فعلى الجدتين السدس مناصفة بينهما، وعلى الجد الباقي، بمقدار ميراثهما.
وإن كان أقارب الولد غير وارثين، بأن كانوا من ذوي الأرحام، فالنفقة على أقربهم درجة. وإن اتحدت درجتهم، كانت النفقة عليهم بالسوية.
وإن كان بعض الأقارب وارثاً، والآخر غير وارث، كانت النفقة على الأقرب، وإن لم يكن وارثاً، فإن تساووا في درجة القرابة، وجبت النفقة على الوارث دون غيره.
ورأى المالكية: أنه تجب النفقة على الأب وحده دون غيره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل سأله، عندي دينار؟ قال: «أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء.
__________
(1) فتح القدير: 346/3، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 926/2، 935، الشرح الصغير: 753/2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 166/2، المغني: 589/7-592، المغني: 589/7-592، مغني المحتاج: 450/3 وما بعدها.(10/141)
وذهب الشافعية: إلى أنه إذا لم يوجد الأب أو كان عاجزاً، وجبت النفقة على الأم، لقوله تعالى: {لا تضارّ والدة بولدها} [البقرة:233/2] ولأنه إذا وجبت النفقة على الأب وولادته من جهة الظاهر، فلأن تجب على الأم، وولادتها مقطوع بها، أولى. وتجب عليها نفقة ولد الولد؛ لأن الجدة كالأم، والجد كالأب في أحكام الولادة.
وإذا استوت درجة القرابة واستحقاق الإرث وجبت النفقة على المتساوين؛ لأن علة إيجاب النفقة تشملهما. وإن تفاوتت درجة القرابة فالأصح أن أقربهما تجب النفقة عليه، وارثاً كان أو غيره، وإن استوى قربهما، يقدم الوارث في الأصح. فإن كان هناك أم وجد أبو أب، فالنفقة كلها على الجد في الأصح، لأنه ينفرد بالتعصيب، فأشبه الأب. وإن كان للفرع أجداد وجدات يدلي بعضهم ببعض فالنفقة على الأقرب منهم. وإن لم يُدْل بعضهم ببعض فتلزم النفقة بالقرب.
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: إذا لم يكن للولد الصغير أب، وجبت نفقته على كل وارث على قدر ميراثه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] ثم قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد. وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك وأخاك» وفي لفظ: «ومولاك الذي هو أدناك حقاً واجباً، ورحماً موصولاً» (1) وهذا نص في المطلوب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ألزمه الصلة والبر، وكون النفقة من الصلة جعلها حقاً واجباً. فإن كان للولد وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر، فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه:
__________
(1) رواه أبو داود عن كُلَيب بن مَنْفعة عن جده بلفظ « ... ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» (نيل الأوطار: 327/6) .(10/142)
فإن كان للولد الصغير أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة؛ لأنهما يرثانه، والله تعالى قال: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] والأم وارثة، فكان عليها بالنص.
وإن كانت جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ، وعلى هذا يكون ترتيب النفقات على ترتيب الميراث، فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث، فعليها سدس النفقة، وكما أن الباقي للأخ، فكذلك الباقي من النفقة عليه.
وإن اجتمع أبوا أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. وإن اجتمع أبوا أب، فعلى أم الأب السدس، والباقي على الجد. وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء. وإن اجتمعت أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً. وقال الشافعي: النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى، فالنفقة عليهما بالسوية.
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأولاد وصيرورتها ديناً وسقوطها وتعجيلها:
اتفق الفقهاء (1) على أن نفقة القريب من ولد وولد ولد مقدرة بقدر الكفاية من الخبز والأدم والمشرب والكسوة والسكنى والرضاع إن كان رضيعاً على قدر حال المنفق وعوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية.
وإن احتاج الولد المنفق عليه إلى خادم يخدمه، فعلى الوالد إخدامه؛ لأنه من تمام كفايته.
وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنها من تمام الكفاية. ولا تجب نفقة زوجة الابن على المذهب عند الحنفية. وتسقط نفقة الزوجة عند المالكية في حال إعسار الزوج.
ولا تصير هذه النفقة عند الحنفية ديناً في الذمة أصلاً، سواء فرضها القاضي أم لا، بخلاف نفقة الزوجات، فإنها تصير ديناً في الذمة بفرض القاضي أو التراضي.
وقال الشافعية: لا تصير نفقة الولد ديناً على الوالد إلا بفرض قاضٍ أو إذنه في اقتراض بسبب غيبة أو امتناع عن الإنفاق.
وتسقط نفقة الولد عند الفقهاء بمضي الزمن من غير قبض ولا استدانة؛ لأنها وجبت على الوالد لدفع الحاجة، وقد زالت الحاجة لما مضى، فسقطت، بخلاف نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان عند غير الحنفية، ولا تسقط عند الحنفية بعد القضاء بها أو التراضي عليها، وإنما تسقط بمضي الزمان قبل القضاء أو التراضي. واستثنى المالكية حالة قضاء الحاكم بنفقة الأقارب، فإنها تصبح متجمدة في الماضي فلا تسقط بمضي الزمن.
وذكر الحنفية: أنه إذا عجل الشخص نفقة مدة في الأقارب، فمات المنفق عليه قبل تمام المدة، لا يسترد شيئاً منها، بلا خلاف.
__________
(1) البدائع: 38/4، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 167/2، المغني: 595/7، مغني المحتاج: 449/3، الشرح الصغير: 753/2-754.(10/143)
المبحث الثالث ـ نفقة الأصول ـ أو الآباء والأمهات:
يتضمن أربعة مطالب:
الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم.
الثاني ـ شروط وجوبها.
الثالث ـ من تجب عليه.
الرابع ـ مقدار هذه النفقة.
المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأصول وتعيينهم:
تجب نفقة الوالدين وإن علوا عند الجمهور (1) ، لقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/17] ومن الإحسان أن ينفق عليهما عند الحاجة، وقوله عز وجل: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/31] ومن المعروف الإنفاق عليهما ولو كانا مخالفين في الدين، فإنها نزلت في الأبوين الكافرين، وليس من المعروف أن يعيش إنسان في نعم الله تعالى ويترك أبويه يموتان جوعاً.
وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً مريئاً» (2) وقال أيضاً لرجل سأله: من أبر؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب» (3) .
__________
(1) فتح القدير: 347/3، البدائع: 30/4، الشرح الصغير: 752/2، القوانين الفقهية: ص 223، المهذب: 65/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 446/3، المغني: 583/7.
(2) رواه أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه أبو داود.(10/144)
والأصول الذين تجب نفقتهم عند الجمهور: هم الآباء والأجداد، والأمهات
والجدات، وإن علوا؛ لأن «الأب» يطلق على الجد وكل من كان سبباً في الولادة، كذلك «الأم» تطلق على الجدة مهما علت، فقد أطلق القرآن كلمة «الأبوين» على آدم وحواء، وقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج:78/22] ، ولأن بين الولد وأصله قرابة توجب رد الشهادة، فأشبه الجد والجدة والوالدين القريبين، ويكون الأجداد والجدات من الآباء والأمهات، فيقوم الجد مقام الأب عند عدمه، وأجمع العلماء على أن الجدة تحرم على الإنسان، كما تحرم عليه أمه في الزواج، لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23/4] .
وقال الإمام مالك: الأصول الذين تجب نفقتهم: هم الآباء والأمهات المباشرون، لا الأجداد والجدات مطلقاً، سواء من جهة الأب أو الأم. فلا تجب نفقة على جد أو جدة، كما لا تجب على ولد ابن. والصحيح هو قول الجمهور.(10/145)
المطلب الثاني ـ شروط وجوب النفقة للأصول:
يشترط لوجوب الإنفاق على الأصول ما يأتي (1) :
1ً - أن يكون الأصل فقيراً، أوعاجزاً عن الكسب: فإن كان قادراً على الكسب فتجب أيضاً نفقته عند الحنفية، والشافعية في الأظهر؛ لأن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين، وفي إلزام الآباء بالاكتساب مع غنى الأبناء ترك للإحسان إليهم وإيذاء لهم، وهو لايجوز، ويقبح بالإنسان أن يكلف قريبه الكسب مع اتساع ماله. وهذا بعكس الابن فإنه لا نفقة له إذا كان قادراً على الكسب، فيلزمه التكسب؛ لأن الله تعالى نهى الولد عن إلحاق أدنى الأذى بالوالدين وهو التأفيف في قوله تعالى: {ولا تقل لهما أف} [الإسراء:23/17] ولم يوجد النهي في الابن.
وقال المالكية والحنابلة: لا يلزم الفرع بنفقة الأصل إذا كان قادراً على الكسب، فيجبر على كسب يستغني به، ولا نفقة له؛ لأنها تجب على سبيل المواساة والبر والصلة، والكاسب كالموسر مستغن عن المواساة.
2ً - أن يكون الفرع موسراً بمال، أو قادراً على التكسب في رأي الجمهور، وقال المالكية: لا يجب على الولد المعسر تكسب لينفق على والديه.
وعلى رأي الجمهور: يشترط أن يكون مال الفرع أو مردود كسبه فاضلاً عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه، فأما من لا يفضل عنه شيء، فليس عليه شيء، لحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته» وفي لفظ: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ولحديث أبي هريرة السابق في ترتيب النفقة على النفس، ثم على الزوج، ثم على الولد، ثم على الخادم.
3ً - أن يكون المنفق وارثاً في رأي الحنابلة، فلا نفقة مع اختلاف الدين لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] ولأن التوارث بسبب القرابة يجعل الوارث أحق بمال المورث، فينبغي أن يختص بوجوب صلة قريبة بالنفقة دون غير الوارث، ولأن هذه النفقة مواساة على البر والصلة، فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب.
__________
(1) فتح القدير: 347/3، البدائع: 34/4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 223، الشرح الصغير: 752/2 وما بعدها، المهذب: 166/2، مغني المحتاج: 448/3، المغني: 584/7.(10/146)
وقال الحنفية: يشترط أن يكون المنفق قريباً مستحقاً للإرث من قريبه، إلا أنهم مع المالكية والشافعية يقولون: اتحاد الدين ليس شرطاً لوجوب نفقة الأصل على الفرع، فتجب النفقة عليه وإن اختلف الدين؛ لأنه تعالى قال في حق الوالدين الكافرين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/31] وليس من المعروف ترك الإنفاق عليهما مع القدرة، وهذا هو الصحيح.
المطلب الثالث ـ من تجب عليه نفقة الأصول:
تجب نفقة الأصول على الولد لا يشاركه في نفقة أبويه أحد (1) ؛ لأنه أقرب الناس إليهما، فكان أولى باستحقاق نفقتهما عليه. وهي عند الحنفية على الذكور والإناث بالسوية؛ لأن المعنى يشملهما.
وتجب أيضاً في رأي الجمهور على ولد الولد، ولا تجب في رأي المالكية على ولد الابن.
تعدد الفروع: إن لم يوجد غير ولد واحد تجب عليه نفقة الأصل كما تقدم، فإن تعدد الفروع: فقال الحنفية (2) : إن اتحدت درجة قرابتهم كابنين أو بنتين أو ابن وبنت، وجبت النفقة بالتساوي بينهم، سواء أكانوا وارثين أم بعضهم وارثاً والآخر غير وارث، للتساوي في القرب والجزئية، ولا ينظر إلى أن الابن يأخذ ضعف البنت في الميراث.
وإن اختلفت درجة قرابتهم كبنت وابن ابن، وجبت نفقة الأصل على الأقرب.
يلاحظ أن الحنفية في حال تعدد الفروع اعتبروا درجة القرابة، وفي حال تعدد الأصول اعتبروا الإرث أحياناً، وأهملوه أحياناً أخرى. وكان ينبغي التسوية بين الفروع والأصول، لتساويهم في علة وجوب النفقة وهي الجزئية.
وقال المالكية (3) : إن تعدد الأولاد وزعت النفقة على الأولاد الموسرين بقدر اليسار إذا تفاوتوا فيه.
__________
(1) فتح القدير: 348/3 وما بعدها، الشرح الصغير: 752/2 وما بعدها، المهذب: 165/2 وما بعدها، المغني: 583/7 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين: 934/2 وما بعدها.
(3) الشرح الصغير: 752/2.(10/147)
وقرر الشافعية (1) : أنه إن اتحدت درجة قرابة الفروع كابنين أو بنتين، أنفقا بالتساوي وإن تفاوتا في قدر اليسار، أو أيسر أحدهما بالمال، والآخر بالكسب؛ لأن علة إيجاب النفقة تشملهما.
وإن اختلفت درجة قرابة الفروع كابن وابن بنت، فالأصح أن النفقة على أقربهما وهو الابن هنا، سواء أكان وارثاً أم غيره، ذكراً كان أم أنثى؛ لأن القرب أولى بالاعتبار. فإن استوى قربهما فتجب في الأصح النفقة بالإرث، لقوته.
وإذا تساوى الفرعان في الإرث، فكانا وارثين كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل: يستويان في قدر الإنفاق، أي كما قال الحنفية، وقيل: يوزع الإنفاق عليهما بحسب الإرث، والوجه الأول أوجه.
ورأى الحنابلة (2) : أنه إن اتحدت درجة قرابة الفروع كابن وبنت، فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، كالوجه الثاني لدى الشافعية، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] فإنه رتب النفقة على الإرث، فيجب أن تترتب في المقدار عليه. وإن اختلفت درجة القرابة كبنت وابن ابن، فالنفقة بينهما نصفين كالميراث.
المطلب الرابع ـ مقدار نفقة الأصول:
نفقة القرابة في الجملة (3) تجب بقدر الكفاية كما تقدم؛ لأنها تجب للحاجة، فقدرت بالكفاية.
وعلى الولد في رأي الجمهور نفقة زوجة الأب وإعفافه بالتزويج بزوجة واحدة، وكذا عند المالكية والحنابلة بأكثر من زوجة إن لم يحصل الإعفاف بواحدة؛ لأنه معنى يحتاج إليه، ويلحقه الضرر بفقده، فوجب كالنفقة. والراجح عند الحنفية عدم وجوب نفقة زوجة الأب؛ لأن الزوجة من أعظم الملاذ، فلم تجب للأب كالحلواء لاتجب له.
__________
(1) مغني المحتاج: 450/3 وما بعدها.
(2) المغني: 591/7.
(3) المغني: 595/7، مغني المحتاج: 448/3، المهذب: 167/2.(10/148)
المبحث الرابع ـ نفقة الحواشي وذوي الأرحام:
يشتمل على مطالب ثلاثة:
الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير الأصول والفروع.
الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي الأرحام.
الثالث ـ تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب.
المطلب الأول ـ وجوب نفقة الأقرباء من غير الأصول والفروع:
تجب نفقة الأقارب من الحواشي وذوي الأرحام كالإخوة والأخوال والأعمام وأبناء الإخوة والعمات والخالات (1) لقوله تعالى: {وآتِ ذا القربى حقه} [الإسراء:26/17] وقوله سبحانه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى} [النساء:36/4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «يد المعطي العليا، وابدأ
__________
(1) فتح القدير: 350/3، الدر المختار ورد المحتار: 937/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص221-223، المهذب: 166/2، المغني: 585/7 وما بعدها.(10/149)
بمن تعول، أمَّك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» (1) وقال رجل: يارسول الله، من أبر؟ قال: «أمَّك وأباك، وأختك، وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» (2) .
فهذه الآيات والأحاديث تدل على وجوب الإنفاق على القريب العاجز. وللعلماء آراء ثلاثة:
الأول ـ مذهب الحنفية: أن النفقة تجب لكل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والخالة والخال، ولا تجب لغير ذي رحم محرم كابن العم وبنت العم، ولا لمحرم غير ذي رحم كالأخ رضاعاً.
الثاني ـ مذهب الحنابلة: أن النفقة تجب لكل قريب وارث، بفرض أو تعصيب كالأخ الشقيق أو لأب أو لأم، والعم، وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا يرث بفرض ولا تعصيب؛ لأن قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون مال المتوفى القريب عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين.
ورأى ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من بعض الحنابلة: أن النفقة تجب لكل قريب من غير الأصول والفروع (غير عمودي النسب) إذا كان وارثاً، فتجب النفقة لذوي الأرحام كالعمة والخالة والخال، لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] فقد جعل النفقة على المولود له لمن يستحق الإرث من الأقرباء.
الثالث ـ مذهب المالكية والشافعية: ألا تجب نفقة من عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كالإخوة والأعمام وغيرهم؛ لأن الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين، وأما من سواهم فلا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة.
__________
(1) رواه النسائي عن طارق المحاربي، وأخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني وصححاه (نيل الأوطار: 327/6) .
(2) رواه أبو داود، والبغوي وابن قانع والطبراني في الكبير والبيهقي عن كليب بن منفعة عن جده (المرجع السابق) .(10/150)
المطلب الثاني ـ شروط وجوب نفقة الحواشي وذوي الأرحام:
لا يثبت وجوب نفقة هؤلاء الأقرباء عند الحنفية (1) إلا بالقضاء أو الرضا، حتى لو ظفر أحدهم بجنس حقه قبل القضاء أو الرضا، ليس له الأخذ، بخلاف الزوجة والولد والأبوين، فإن لهم الأخذ قبل ذلك. وتسقط هذه النفقة بمضي المدة، بعد قضاء القاضي بها، لأنها تجب كفاية للحاجة، فلا تجب مع اليسار، إلا إن أذن القاضي بالاستدانة على القريب.
ويشترط لوجوب نفقة هؤلاء الأقرباء في رأي الحنفية ما يلي (2) :
1 ً - أن يكون القريب ذا رحم محرم فقيراً، عاجزاً عن الكسب: لصغر أو أنوثة أو مرض أو عمى، أي فلا تقتصر هذه النفقة على الصغير أو الأنثى، وإنما تشمل الكبير العاجز عن الكسب بنحو مرض مزمن أو عمى؛ لأن الصلة في القرابة القريبة واجبة دون البعيدة. والفاصل بينهما أن يكون ذا رحم محرم، وقد قال تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة:233/2] وقرأ ابن مسعود: «وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك» .
ولا بد من تحقق وصف الحاجة أو الصغر، أو الأنوثة، أو الزمانة، أو العمى أمارة الحاجة، لتحقق العجز. فإن كان القريب قادراً على الكسب فلا نفقة له على قريبه؛ لأنه غني بكسبه، فلا تجب نفقته على أحد، بخلاف الأبوين؛ لأنه يلحقهما تعب الكسب، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما، فتجب نفقتهما مع قدرتهما على الكسب.
2 ً - اتحاد الدين مع القريب المنفق: فلا نفقة على القريب مع اختلاف الدين، كما لا توارث مع اختلاف الدين، ووجوب النفقة على القريب مبني على استحقاق الإرث.
وذلك بخلاف الزوجة والأصول والفروع علواً أو نزولاً؛ لأن نفقة الزوجة تجب بمقابلة الاحتباس، وأما غيرها فلثبوت الجزئية، وجزء المرء في معنى نفسه، فكما لا تمتنع نفقة نفسه بكفر، لا تمتنع نفقة جزئه، إلا أن هؤلاء إذا كانوا حربيين لاتجب نفقتهم على المسلم، ولو كانوا مستأمنين؛ لأنا نهينا عن بر من يقاتلنا في الدين.
3 ً - أن يكون المنفق موسراً: فلو كان القريب المحرم معسراً، لا تجب عليه النفقة لقريبه المحتاج، ولو كان قادراً على الكسب؛ لأن وجوب هذه النفقة بطريق الصلة، والصلة تجب على الغني لا على الفقير.
واختلف الصاحبان في حد اليسار الذي يتعلق به وجوب هذه النفقة (3) :
فقال أبو يوسف: الموسر: هو الذي يملك نصاب الزكاة وهو عشرون مثقالاً أو ديناراً من الذهب (4) أو مائتا درهم فضة؛ لأن الغني في الشرع هو مالك النصاب الذي تستحق فيه الزكاة، ونفقة ذي الرحم صلة، والصلات إنما تجب على الأغنياء كالصدقة.
وقال محمد: الموسر: هو من له نفقة شهر، وعنده مال فاضل عن نفقة شهر لنفسه ولعياله؛ لأن ما زاد على كفاية شهر، فهو غني عنه في الحال، والشهر يتسع للاكتساب، فكان عليه صرف الزيادة إلى أقاربه، قال الكاساني: وما قاله محمد أوفق، وهوأنه إذا كان له كسب دائم، وهو غير محتاج إلى جميعه، فما زاد كفايته، يجب صرفه إلى أقاربه كفضل ماله إذا كان له مال. ولا يعتبر النصاب؛ لأن النصاب إنما يعتبر في وجوب حقوق الله تعالى المالية، والنفقة حق العبد الآدمي، فلا معنى لاعتبار النصاب فيها، وإنما يعتبر فيها إمكان الأداء.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 937/2، فتح القدير: 354/3.
(2) فتح القدير: 350/3-354، الدر المختار ورد المحتار: 938/2-941، اللباب: 105/3-108.
(3) البدائع: 35/4.
(4) تساوي العشرون مثقالاً ذهبياً 96 غم بالمثقال العجمي و 100 غم بالمثقال العراقي.(10/151)
المطلب الثالث ـ من تجب عليهم نفقة الأقارب:
عرفنا أنه إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا قريب واحد موسر: فإن كان القريب من أصوله أوفروعه، وجبت نفقته عليه، ولو لم يكن وارثاً له، كجد لأم أوابن بنت. وذلك باتفاق الجمهور غير المالكية.
وإن كان القريب من الحواشي، وجبت نفقته عليه في رأي الحنفية إن كان ذا رحم محرم كالأخ والعم والعمة، وفي رأي الحنابلة إن كان وارثاً بفرض أو تعصيب كالأخ لأم وابن العم.
أما إن تعدد من تجب عليهم نفقة الأقارب، فقد اختلف الحنفية مع المذاهب الأخرى في توزيع النفقة عليهم.
مذهب الحنفية:
توزع النفقة على الأقارب في رأي الحنفية (1) بحسب أصنافهم في الحالات الأربع التالية وهي:
الأولى: أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 934/2-936، الأحوال الشخصية، زكي الدين شعبان: ص702-708.(10/152)
الثانية: أن يكون له أصول وحواشي (1) .الثالثة: أن يكون له فروع وحواشي.
الرابعة: أن يكون له خليط من الأصول والفروع والحواشي.
وأبين حكم كل حالة فيما يأتي:
الحالة الأولى ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول وفروع:
إذا كان لمستحق النفقة أصول وفروع: فإن تفاوتا في درجة القرابة وجبت النفقة على الأقرب، سواء أكان وارثاً أم غير وارث. مثل أب وابن ابن أو بنت بنت، ومثل أم وابن ابن، تجب النفقة على الأب في المثال الأول، وعلى الأم في المثال الثاني؛ لأن الأب والأم أقرب درجة. ولكن يلاحظ أن النفقة تجب حينئذٍ على غير الوارث.
وإن تساووا في درجة القرابة: وجبت النفقة بنسبة ميراثهم، إلا إذا كان فيهم ابن أو بنت، فالنفقة على الابن أو البنت، ففي أب وابن تجب النفقة على الابن لترجحه بقول صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» وفي جد (أبي أب) وبنت بنت، تكون النفقة على الجد؛ لأنه الوارث، وأما بنت البنت فهي من ذوي الأرحام، لا ترث مع الجد.
الحالة الثانية ـ أن يكون لمستحق النفقة أصول وحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة أصول وحواشي، كأم وأخ شقيق أو لأب: فإن كان كل من الصنفين وارثاً، وجبت النفقة عليهم بنسبة الإرث. وإن كان أحد الصنفين وارثاً، والآخر غير وارث، فالنفقة على الأصول وحدهم، ولو كانوا غير وارثين، ترجيحاً لاعتبار الجزئية على غيرها.
مثال كون الأصل وارثاً: جد لأب وأخ شقيق، تكون النفقة على الجد.
ومثال كون الأصل غير وارث: جد لأم وعم، تكون النفقة على الجد أيضاً، لترجحه في المثالين بالجزئية.
ومثال كون كلا الصنفين وارثاً: أم وأخ، أو ابن أخ أو عم، يكون على الأم ثلث النفقة، وعلى العصبة الثلثان.
الحالة الثالثة ـ أن يكون لمستحق النفقة فروع وحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة فروع وحواشي، فالنفقة تجب على الفروع، ولا شيء على الحواشي ولو كانوا وارثين، لترجح قرابة الجزئية على غيرها.
ففي بنت وأخت شقيقة، تكون النفقة على البنت فقط، ولا شيء على الأخت، وإن ورثت النصف.
وفي ابن نصراني، وأخ مسلم، تكون النفقة على الابن فقط، وإن كان الوارث هو الأخ.
__________
(1) الحواشي: من ليس من عمود النسب، أي ليس أصلاً ولا فرعاً.(10/153)
الحالة الرابعة ـ أن يكون لمستحق النفقة خليط من الأصول والفروع والحواشي:
إذا كان لمستحق النفقة أقارب من الأصول والفروع والحواشي، فالحكم كالحالة الأولى، تكون النفقة على الأصول والفروع على النحو المبين في الحالة الأولى، لقوة قرابة الجزئية بالنسبة لغيرها، ويسقط الحواشي بالفروع، فكأنه لم يوجد سوى الفروع والأصول.
وإن وجد الأصول وحدهم وكان معهم أب، فالنفقة عليه فقط ولا يشارك الأب في نفقة ولده أحد، وإن وجد الحواشي فقط، وزعت النفقة بمقدار الميراث مع كون الواحد ذا رحم محرم.
مذهب الحنابلة:
أولاً ـ تجب النفقة في رأي الحنابلة (1) على الأقارب بحسب الإرث، فمن له أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد ثلثا النفقة. ومن له ابن وبنت، فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، ومن له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ. ومن له بنت وأخت، فعلى البنت النصف، وعلى الأخت النصف. ومن له أبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة. ومن له أبو أب، فعلى أم الأب السدس، والباقي على الجد، وإن اجتمع جد وأخ، فهما سواء. وإن اجتمعت أم وأخ وجد، فالنفقة بينهم أثلاثاً.
واستثنوا من قاعدتهم ما إذا كان للمستحق أب، فعليه النفقة وحده، ولم تجب على من سواه، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} [البقرة:233/2] وهذا بخلاف الحنفية حيث يجعلون النفقة على الابن وحده إن وجد.
ثانياً ـ إذا اجتمع أصل وفرع وارثان، وكان أقربهما معسراً والأبعد موسراً، وجبت النفقة على الموسر الأبعد، فمن له أم فقيرة، وجدة موسرة، فالنفقة على الجدة فقط.
__________
(1) المغني: 587/7-593.(10/154)
ثالثاً ـ إذا اجتمع قريبان موسران، وأحدهما محجوب عن الميراث بقريب فقير، فإذا كان المحجوب من عمودي النسب (الأصول والفروع) لا تسقط عنه النفقة، وإن كان من غيرهما، فلا نفقة عليه. فمن كان له أبوان وجد، والأب معسر، فالأب كالمعدوم، وتكون النفقة أثلاثاً، على الأم الثلث، وعلى الجد الباقي. ومن له أبوان وأخوان وجد، والأب معسر، فلا شيء على الأخوين؛ لأنهما محجوبان، وليسا من عمودي النسب، وتكون النفقة على الأم الثلث، والباقي على الجد، كالمسألة السابقة.
رابعاً ـ إذا لم يكن لمستحق النفقة إلا واحد موسر من ورثته، لزمته النفقة بقدر ميراثه فقط، على الصحيح من المذهب.
وتقدم الزوجة على باقي الأقارب، عملاً بحديث جابر المتقدم: «إذا كان أحدكم فقيراً، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فعلى عياله، فإن كان له فضل فعلى قرابته» .
وقد أخذ القانون السوري بمذهب الحنابلة لعدالته، واتفاقه مع قاعدة «الغرم بالغنم» فتوزع النفقات بحسب الإرث، ولا يتقيد إيجاب النفقة للأقرباء بالمحرمية. أما المذهب الحنفي فقد يوجب النفقة أحياناً على قريب لا يرث، ولا يوجبها على القريب الوارث. وأما بقية أحكام النفقات فمأخوذة من الفقه الحنفي.
مذهب الشافعية:
توزع النفقة في رأي الشافعية (1) على الوالدين والمولودين على النحو التالي:
من استوى فرعاه في القرب والإرث أو عدمهما كابنين أو بنتين، أو ابن وبنت، فعليهما النفقة بالسوية، لا بحسب الميراث، وإن تفاوتا في قدر اليسار، أو أيسر أحدهما بالمال والآخر بالكسب.
وإن كان أحدهما أقرب والآخر وارثاً، وجبت النفقة على الأقرب دون الوارث في الأصح.
وإن استويا في استحقاق الإرث، كبنت وبنت ابن، كانت النفقة عليهما.
وإن تساويا في القرب، فيقدم الوارث في الأصح لقوته، كابن وابن بنت، تجب النفقة على الأول دون الثاني.
__________
(1) مغني المحتاج: 450/3-451، المهذب: 166/2.(10/155)
وإن تساويا في الإرث كابن وبنت، فهناك وجهان: قيل: يستويان، وقيل: توزع النفقة بحسب الإرث، والأول أوجه.
والقاعدة في الأصول قريبة من قاعدة الفروع، فمن له أبوان، فالنفقة على الأب، ومن له أجداد وجدات فعلى الأقرب إن أدلى بعضهم ببعض، أما إن لم يُدْل بعضهم ببعض، فيقدم بالقرب.
ومن له أصل وفر ع: فالنفقة في الأصح على الفرع، وإن بعُد، كأب وابن ابن؛ لأن عصوبته أقوى.
وتقدم الزوجة عندهم على باقي الأقارب، كما قال الحنابلة؛ لأن نفقتها آكد؛ لأنها لا تسقط بمضي الزمان.
مذهب المالكية:
توزع النفقة في رأي المالكية الراجح (1) على الأولاد الموسرين بقدر اليسار إذا تفاوتوا فيه. وقيل: توزع بحسب الرؤوس، بغض النظر عن الذكورة والأنوثة.
وقيل: توزع بحسب الإرث، فعلى الذكر مثل حظ الأنثيين.
نفقة الأقارب في القانون السوري:
أخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في نفقة الأقرباء ما عدا توزيع النفقات عند تعدد من تجب عليه النفقة، وإيجابها بها لهم بدون تقييد بالمحرمية، فإنه أخذ ذلك من المذهب الحنبلي. وها هي نصوص القانون:
(م 154) ـ نفقة كل إنسان في ماله، إلا الزوجة فنفقتها على زوجها.
(م 155) ـ
1 - إذا لم يكن للولد مال، فنفقته على أبيه، ما لم يكن فقيراً عاجزاً عن النفقة والكسب لآفة بدنية أو عقلية.
2 - تستمر نفقة الأولاد إلى أن تتزوج الأنثى، ويصل الغلام إلى الحد الذي يكتسب فيه أمثاله.
(م 156) -
1 - إذا كان الأب عاجزاً عن النفقة، غير عاجز عن الكسب، يكلف بنفقة الولد من تجب عليه عند عدم الأب.
2 - تكون هذه النفقة ديناً للمنفق على الأب يرجع عليه بها إذا أيسر.
(م 157) -
1 - لا يكلف الأب بنفقة زوجة ابنه إلا إذا تكفل بها.
2 - يكون إنفاق الأ ب في هذه الحالة ديناً على الولد، إلى أن يوسر. (م 158) - يجب على الولد الموسر ذكراً كان أو أنثى، كبيراً كان أو صغيراً نفقة والديه الفقراء، ولوكانا قادرين على الكسب، ما لم يظهر تعنت الأب في اختيار البطالة على عمل أمثاله كسلاً أو عناداً.
(م 159) ـ تجب نفقة كل فقير عاجز عن الكسب لآفة بدنية أو عقلية، على من يرثه من أقاربه الموسرين بحسب حصصهم الإرثية.
(م 160) ـ لا نفقة مع اختلاف الدين إلا للأصول والفروع.
(م 161) - يقضى بنفقة الأقارب من تاريخ الادعاء، ويجوز للقاضي أن يحكم بنفقة الأولاد على أبيهم عن مدة سابقة للادعاء، على ألا تتجاوز أربعة أشهر.
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 752/2 وما بعدها.(10/156)
البَابُ الرَّابع: الوَصايا (1)
يتضمن بحث الوصايا (1) ثلاثة فصول:
الأول ـ في الوصية، والثاني ـ في تصرف مريض الموت، والثالث ـ في الوصاية.
أما الفصل الأول فيشتمل على سبعة مباحث:
المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها.
المبحث الثاني ـ شروط الوصية.
المبحث الثالث ـ أحكام الوصية (صفتها من حيث اللزوم وعدمه، أثرها في التمليك، أحكام الوصي، أحكام الموصى له، أحكام الموصى به، مقدار الوصية، الوصية للوارث، الوصية بمثل نصيب وارث، الوصية بالأجزاء، تنفيذ الوصية) .
المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية.
المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا.
المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانوناً.
المبحث السابع ـ إثبات الوصية.
__________
(1) المراد بالوصايا: ما يعم الوصية والإيصاء، يقال: «أوصى إلى فلان» أي جعله وصياً، والاسم منه الوصاية.(10/157)
الفَصْلُ الأوّل: الوصيّة
يشتمل على تمهيد وسبعة مباحث:
تمهيد:
تاريخ الوصية: الوصية نظام قديم، لكنه اقترن في بعض العهود بالظلم والإجحاف، فعند الرومان: كان لرب العائلة حق التصرف بطريق الوصية تصرفاً غير مقيد بشيء، فقد يوصي لأجنبي، ويَحْرِم أولاده من حق الميراث. ثم انتهى الأمر إلى وجوب الاحتفاظ للأولاد بربع ميراث أبيهم، بشرط ألا يكونوا قد أتوا في سلوكهم مع مورثهم ما يوغر صدره إيغاراً شديداً.
وعند العرب في الجاهلية: كانوا يوصون للأجانب تفاخراً ومباهاة، ويتركون الأقارب في الفقر والحاجة (1) .
وجاء الإسلام فصحح وجهة الوصية على أساس الحق والعدل، فألزم الناس أصحاب الأموال قبل تشريع الميراث بالوصية للوالدين والأقربين، فكانت الوصية في مبدأ الإسلام واجبة بكل المال للوالدين والأقربين بقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/2] .
__________
(1) الوصية في الشريعة الإسلامية لأستاذنا المرحوم عيسوي أحمد عيسوي: ص 9.(10/158)
وحينما نزلت آيات سورة النساء بتشريع المواريث تفصيلاً، قيدت الوصية المشروعة في الإسلام بقيدين:
الأول ـ عدم نفاذ للوارث إلا بإجازة الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في خطبة عام حجة الوداع: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (1) أما الوالدان فصار لهما نصيب مفروض من التركة، وصارت الوصية مندوبة لغير الوارثين.
الثاني ـ تحديد مقدارها بالثلث: لقوله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص الذي أراد الإيصاء بثلثي ماله أو بشطره، إذ لا يرثه إلا ابنة له: «الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» (2) .
أما الزائد عن الثلث فهو من حق الورثة، لا ينفذ تصرف المورث فيه إلا بموافقتهم ورضاهم.
المبحث الأول ـ معنى الوصية ومشروعيتها وركنها وكيفية انعقادها وأثره (3) :
أولاً ـ معنى الوصية ونوعاها: الوصية هي الإيصاء، وتطلق لغة بمعنى العهد إلى الغير في القيام بفعل أمر، حال حياته أو بعد وفاته، يقال: أوصيت له أو إليه: جعلته وصياً يقوم على من بعده. وهذا المعنى اشتهر فيه لفظ: الوصاية.
وتطلق أيضاً على جعل المال للغير، يقال: وصيت بكذا أو أوصيت، أي جعلته له. والوصايا جمع وصية تعم الوصية بالمال، والإيصاء أو الوصاية والوصية في اصطلاح الفقهاء: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المُملَّك عيناً أم منفعة. وبه تميزت عن التمليكات المنجزة لعين كالبيع والهبة، ولمنفعة كالإجارة، والإضافة لغير الموت كالإجارة المضافة لوقت في المستقبل كأول الشهر المقبل. وتميزت عن الهبة التي هي تبرع أو تمليك بغير عوض بكونها بعد الموت، والهبة حال الحياة. وشمل التعريف الإبراء عن الدين؛ لأن الإبراء تمليك الدين لمن عليه الدين.
__________
(1) حديث متواتر رواه اثنا عشر صحابياً، وأرسله خمسة من التابعين، فمن الصحابة رواه أبو أمامة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي وعبد بن حميد في مسنده، باللفظ المذكور (نصب الراية: 403/4-405) . وقرر الشافعي في الأم أن متن هذا الحديث متواتر (نيل الأوطار: 40/6) .
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن سعد بن أبي وقاص (نصب الراية: 401/4، نيل الأوطار: 37/6) .
(3) البدائع: 330/7-334، تكملة فتح القدير: 417/8-419، 511، القوانين الفقهية ورد المحتار: 457/5-459، 465، اللباب: 168/4، الشرح الصغير: 579/4-585، 601، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 328/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 38/3-40، 52، 73، المهذب: 449/1، 452، المغني: 51/6، 25، كشاف القناع: 371/4-375، 383، غاية المنتهى: 348/2، 351-352.(10/159)
هذا ما أريده هنا وهو كون الوصية عقداً أو تصرفاً في المال، وقد عرفها بعض الفقهاء بما هوأعم مما ذكر، فقال: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، وبالتبرع بمال بعد الموت. فشمل الوصية لإنسان بتزويج بناته أو غسله أو الصلاة عليه إماماً.
نوعاها: تصح الوصية مطلقة ومقيدة، فالمطلقة: أن يقول: أوصيت لفلان بكذا. والمقيدة أو المعلَّقة: أن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في هذه البلدة، أو في هذه السفرة، فلفلان كذا. فإن تحقق الشرط صحت، وإلا بأن برئ من مرضه، أو لم يمت في تلك البلدة أو السفرة، بطلت، لعدم وجود الشرط المعلَّق عليه.
وعرَّف الوصيةَ قانون الأحوال الشخصية السوري وقانون الوصية المصري بأنها «تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت» .
جاء في المذكرة التفسيرية للقانون المصري: وقد عدل عن لفظ «تمليك» الوارد في تعريف الحنفية إلى لفظ «تصرف» (1) ليشمل جميع مسائل الوصية.
فهو يشمل ما إذا كان الموصى به مالاً أو منفعة، والموصى له من أهل التملك، كالوصية لمعين بالاسم أو بالوصف، وهو ممن يحصون، أو معيناً بالوصف ممن لا يحصون كالوصية للفقراء، وما إذا كان الموصى له جهة من جهات البر كالملاجئ والمدارس.
ويشمل ما إذا كان الموصى به إسقاطاً فيه معنى التمليك كالوصية بالإبراء من الدين، وما إذا كان الموصى به إسقاطاً محضاً بإبراء الكفيل من الكفالة، وما إذا كان الموصى به حقاً من الحقوق التي ليست مالاً ولا منفعة ولا إسقاطاً، ولكنه مالي لتعلقه بالمال، كالوصية بتأجيل الدين الحالّ، والوصية بأن يباع عقاره مثلاً من فلان.
والمراد بالتركة: كل ما يخلف فيه الوارث المورث، مالاً كان أو منفعة، أو حقاً من الحقوق الأخرى المتعلقة بالمال التي تنتقل بالموت من المورث إلى الوارث.
__________
(1) التصرف أعم من كلمة «العقد» لأن العقد هو مجموع الإيجاب والقبول، وأما التصرف فيشمل كل ما يلتزمه الإنسان ويترتب عليه حكم شرعي، سواء صدر من طرف واحد أو من طرفين، وكل ما كان غير التزام. وبما أن الوصية تنشأ في الراجح لدى الحنفية بإرادة واحدة هي إرادة الموصي، فهي من قبيل التصرفات، على هذا الرأي.(10/160)
ثانياً ـ مشروعية الوصية: هذا يشمل أدلة المشروعية وسببها أو حكمتها، ونوع حكمها الشرعي.
أما أدلة المشروعية: فهي الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ، إن ترك
خيراً، الوصيةُ للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/2] وقوله سبحانه: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/4] . {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/4] . فالآية الأولى دلت على مشروعية الوصية للأقارب، والآيتان الأخريان جعلت الميراث حقاً مؤخراً عن تنفيذ الوصية وأداء الدين، لكن الدين مقدم على الوصية، لقول علي رضي الله عنه: «إنكم تقرؤون هذه الآية: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/4] ، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى أن الدين قبل الوصية» (1) .
وأما السنة: فحديث سعد بن أبي وقاص السابق: «الثلث والثلث كثير» ، وحديث «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم، بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم» (2) ، وحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» (3) ، وخبر ابن ماجه: «المحروم: من حرم الوصية، من مات على وصية، مات على سبيل وسنة، وتقى وشهادة، ومات مغفوراً له» .
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز الوصية.
وأما المعقول: فهو حاجة الناس إلى الوصية زيادة في القربات والحسنات، وتداركاً لما فرط به الإنسان في حياته من أعمال الخير.
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه خمسة من الصحابة وهم: أبو هريرة، وأبو الدرداء، ومعاذ، وأبو بكر الصديق، وخالد بن عبيد، وحديث أبي هريرة باللفظ المذكور رواه ابن ماجه والبزار (نصب الراية: 399/4-400) .
(3) رواه الجماعة عن ابن عمر، واحتج به من يعمل بالخط إذا عرف (نيل الأوطار: 33/6) ومعناه: ليس من الرأي السديد أن يمر على الإنسان زمن يملك فيه مالاً، يوصي به، ولا يكتب وصيته، ففيه الحث على المبادرة بكتابة الوصية.(10/161)
وسبب المشروعية أو حكمتها: هو سبب كل التبرعات، وهو تحصيل فائدة الخير في الدنيا، ونوال الثواب في الآخرة. لذا شرعها الشارع تمكيناً من العمل الصالح، ومكافأة من أسدى للمرء معروفاً، وصلة للرحم والأقارب غير الوارثين، وسد خلة المحتاجين، وتخفيف الكرب عن الضعفاء والبؤساء والمساكين. وذلك بشرط التزام المعروف أو العدل، وتجنب الإضرار في الوصية، لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين، غير مضار} [النساء:12/4] . ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «الإضرار في الوصية من الكبائر» (1) ، والعدل المطلوب: قصرها على مقدار ثلث التركة المحدد شرعاً. أما عدم نفاذ الوصية لوارث إلا بإجازة الورثة الآخرين، فهو لمنع التباغض والتحاسد وقطيعة الرحم.
ونوع حكم الوصية الشرعي: هو الندب أو الاستحباب، فهي مندوبة ولو لصحيح غير مريض؛ لأن الموت يأتي فجأة، فلا تجب الوصية على أحد بجزء من المال، إلا على من عليه دين أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه الوصية.
__________
(1) الإضرار في الوصية: أن يوصي بأكثر من الثلث، والإضرار في الدين: أن يبيع بأقل من ثمن المثل، ويشتري بأكثر منه. والحديث رواه الدارقطني في سننه.(10/162)
والدليل على عدم وجوب الوصية: أن أكثر الصحابة لم ينقل عنهم وصية، ولأنها تبرع أو عطية لا تجب في حال الحياة، فلا تجب بعد الممات، كعطية الفقراء الأجانب غير الأقارب. أما الآية السابقة: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين..} [البقرة:180/2] فمنسوخة بقوله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء:7/4] كما قال ابن عباس. وقال ابن عمر: نسختها آية الميراث.
وبعد نسخ وجوب الوصية يبقى الاستحباب في حق من لا يرث، للأحاديث السابقة، التي منها: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم» .
والأفضل أن يجعل وصيته لأقاربه الذي لا يرثون إذا كانوا فقراء، باتفاق أهل العلم، لقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه} [الإسراء:26/17] وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى} [البقرة:177/2] فبدأ بهم، ولقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، من المؤمنين والمهاجرين، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} [الأحزاب:6/33] وفسر بالوصية.
ولأن الصدقة عليهم في الحياة أفضل، فكذلك بعد الموت. فإن أوصى لغيرهم، وتركهم، صحت وصيته في قول أكثر العلماء.
وقد تصبح الوصية مكروهة أو حراماً.(10/163)
وبه يتبين أن الوصية أربعة أنواع بحسب صفة حكمها الشرعي:
1 - واجبة: كالوصية برد الودائع والديون المجهولة التي لا مستند لها، وبالواجبات التي شغلت بها الذمة كالزكاة، والحج والكفارات، وفدية الصيام والصلاة ونحوها. وهذا متفق عليه. قال الشافعية: يسن الإيصاء بقضاء الحقوق من الدين ورد الودائع والعواري وغيرها، وتنفيذ الوصايا إن كانت، والنظر في أمر الأطفال ونحوهم كالمجانين ومن بلغ سفيهاً. وتجب الوصية بحق الآدميين كوديعة ومغصوب إذا جهل ولم يعلم.
2 - مستحبة: كالوصية للأقارب غير الوارثين، ولجهات البر والخير والمحتاجين، وتسن لمن ترك خيراً (وهو المال الكثير عرفاً) بأن يجعل خُمسه لفقير قريب، وإلا فلمسكين وعالم وديِّن. 3 - مباحة: كالوصية للأغنياء من الأجانب والأقارب، فهذه الوصية جائزة.
4 - مكروهة تحريماً عند الحنفية: كالوصية لأهل الفسوق والمعصية. وتكره بالاتفاق لفقير له ورثة، إلا مع غناهم فتباح.
وقد تكون حراماً غير صحيحة اتفاقاً كالوصية بمعصية، كبناء كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب الضلال والفلسفة وسائر العلوم المحرمة، والوصية بخمر أو الإنفاق على مشروعات ضارة بالأخلاق العامة، وتحرم أيضاً بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارث بشيء مطلقاً، والصحيح من المذهب عند الحنابلة أن الوصية بالزائد عن الثلث مكروهة، أو لوارث حرام.
والأفضل تعجيل الوصايا لجهات البر في الحياة، وعدم تأخيرها لما بعد الوفاة؛ لأنه لا يأمن إذا أوصى أن يفرط به بعد موته، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (1) .
وعلى هذا تكون الصدقة في حال الحياة أفضل من الوصية؛ لأن المتصدق يجد ثواب عمله أمامه، ولصريح حديث أبي هريرة المتقدم.
__________
(1) رواه الشيخان، وأصحاب السنن إلا الترمذي، ورواه أحمد في مسنده.
ومعنى قوله «صحيح شحيح» أي أن الإنسان في حال القوة يكون غالباً بخيلاً، لما يأمله من البقاء، وحذر الفقر، فتكون الصدقة أعظم للأجر. ومعنى «إذابلغت الحلقوم» أي قاربت بلوغه.(10/164)
ثالثاً ـ أركان الوصية:
قال صاحب الدر المختار من الحنفية: ركن الوصية: الإيجاب فقط من
الموصي، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، ونحوه من الألفاظ. وأما القبول من الموصى له فهو شرط، لا ركن؛ أي أنه شرط في لزوم الوصية وثبوت ملك الموصى به.
وهذا قول زفر، وهو الراجح لدى الحنفية؛ لأن ملك الموصى له بمنزلة ملك الوارث؛ لأن كل واحد من الملكين ينتقل بالموت، ولا يحتاج ملك الوارث إلى قبول، فيقاس عليه ملك الموصى له. وهذا هو الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية السوري (م 207) ، والمصري (م 1) وبه تكون الوصية تصرفاً ينشأ بإرادة منفردة.
وقال الكاساني في البدائع: ركن الوصية عند أئمة الحنفية الثلاثة: الإيجاب والقبول، كسائر العقود مثل الهبة والبيع، إذ لا يثبت ملك إنسان باختياره من غير قبوله وسعيه، ولأن إثبات الملك له من غير قبوله يؤدي إلى الإضرار به، بخلاف الميراث، فإن الملك فيه ثبت جبراً من الشارع، فلا يشترط فيه القبول.
والمراد بالقبول: ما يكون صريحاً مثل قبلت، أو دلالة كموت الموصى له بعد موت الموصي بلا قبول ولا رد. ولا يصح قبول الوصية إلا بعد موت الموصي، فإن قبل الموصى له بعد موت الموصي، ثبت له ملك الموصى به، سواء قبضه أو لم يقبضه. فإن مات بعد موت الموصي قبل القبول أو الرد، انتقل الموصى به إلى ملك ورثته (1) . وإن قبلها الموصى له في حال الحياة أو ردها، بطلت. هذا ما ذكره الكاساني والقدوري، والراجح لدى الحنفية أن الوصية تنشأ بإرادة الموصي.
ونص القانون المصري (م 20-24) على أحكام من مذهب الحنفية وغيره، مفادها: أن الوصية تلزم بقبولها من الموصى له بعد وفاة الموصي، وهو رأي
__________
(1) م 93 من مرشد الحيران لقدري باشا.(10/165)
الحنفية. ويقبل عن الجنين والصغير والمحجور عليه من له الولاية على مالهم، أخذاً من مذهب الشافعية في الجنين، ومن مذهب المالكية في المحجور عليه.
ويقبل عن جهات البر كالمؤسسات العلمية والدينية والملاجئ والمشافي ونحوها من يمثلها شرعاً أو قانوناً. ولا يعتبر القبول من الموصى لهم كطلبة المدرسة والموجودين بالملجأ أو المستشفى، أخذاً من مذهب الشافعية والإمامية.
ونصت المادة (20) على أنه إذا لم يكن لجهات البر من يمثلها كالفقراء والحج ونحوهما، فإن الوصية تلزم بلا قبول. ولا خلاف فيه بين المذاهب.
وفي المادة (21) يقوم الوارث مقام الموصى له إذا مات قبل القبول أو الرد، أخذاً من مذهب الشافعية.
ويصح القبول قبل الموت ويصح متراخياً، عملاً بمذهب الحنفية. أما رد الموصى له الوصية كلها أو بعضها قبل الموت فهو باطل.
ونصت المادة (23) على أن مطابقة القبول للإيجاب ليست شرطاً في لزوم الوصية. وتلزم الوصية فيما قبل، وتبطل فيما رد، وهو مذهب الحنفية.
وقال الجمهور: للوصية أركان أربعة: موص، وموصى له، وموصى به، وصيغة. والصيغة تنعقد بالإيجاب من الموصي كقوله: أوصيت له بكذا أو ادفعوا إليه أو أعطوه بعد موتي، والقبول من الموصى له المعين، ولا يصح قبول ولا رد في حياة الموصي، ولا يشترط الفور في القبول بعد الموت. وإن كانت الوصية لجهة عامة كمسجد أو لغير معين كالفقراء، فإنها تلزم بالموت بلا قبول. نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (225) على أن: «الوصية لغير معين لا تحتاج إلى قبول ولا ترتد برد أحد» .(10/166)
رابعاً ـ كيفية انعقاد الوصية أو طرق إنشائها وأثر العقد:
تنعقد الوصية شرعاً بأحد طرق ثلاثة: العبارة، أو الكتابة، أو الإشارة المفهمة، ونصت القوانين عليها (1) .
أما العبارة: فلا خلاف بين الفقهاء في انعقاد الوصية باللفظ الصريح مثل: أوصيت لفلان بكذا، وغير الصريح الذي يفهم منه الوصية بالقرينة، مثل جعلت له بعد موتي كذا، أو اشهدوا أني أوصيت لفلان بكذا.
والقبول كما عرفنا يكون عند الجمهور غير الحنفية بعد الموت، فلا عبرة به في حياة الموصي. وإذا مات الموصى له، قام وارثه مقامه بالقبول. ويصح عند الحنفية قبل الموت.
ويكون القبول من الموصى له إذا كان بالغاً رشيداً، فإن لم يكن كذلك، قبل وليه عنه. وإذا كان الموصى له غير معين كالوصية للمسجد أو للفقراء والمساكين، لزمت الوصية بمجرد موت الموصي، بدون قبول، لتعذره في هذه الحالة. ولناقص الأهلية كالمميز والمحجور عليه لسفه أو غفلة قبول الوصية عند الحنفية.
وأما الكتابة: فلا خلاف أيضاً في أن الوصية تنعقد بها إذا صدرت من عاجز عن النطق، كالأخرس، ومثله عند الحنفية والحنابلة معتقل اللسان إذا امتدت عقلته، أو صار ميؤوساً من قدرته على النطق.
أما عند الشافعية فتصح وصية معتقل اللسان مطلقاً كالأخرس بالكتابة أو الإشارة كالبيع، وهذا هو المأخوذ به قانوناً.
وتنعقد الوصية بالكتابة من قادر على النطق (2) إذا ثبت أنه خط الموصي بإقرار وارث، أو بيِّنة تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن.
هذا هو الراجح لدى الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية: إذا كتب الشخص وصيته بيده، ثم أشهد، فقال: اشهدوا على ما في هذا الكتاب، جاز.
وقال الشافعية: الكتابة كناية، أي تنعقد الوصية بها مع النية، كالبيع، واشترطوا لإثبات الكتابة بالشهادة أن يُطْلع الموصي الشهود على ما في كتابه، فإن لم يطلعهم على ما في كتابه، لم تنعقد وصيته.
__________
(1) الفقرة الأولى من المادة الثانية من قانون الوصية المصري، والمادة (208) من قانون الأحوال الشخصية السوري.
(2) يستحب أن يكتب في صدر وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصي من تركت من أهلي أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يا بني، إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة:132/2] . وتجب على من عليه حق بلا بينة، فيوصي بالخروج منه (غاية المنتهى: 348/2 وما بعدها) .(10/167)
والدليل على جواز الاكتفاء بالكتابة: أن الكتابة لا تقل في بيان المراد عن العبارة، بل هي أقوى منها عند الحاجة إلى الإثبات.
وأما الإشارة المفهمة: فتنعقد بها الوصية من الأخرس أو معتقل اللسان، بشرط أن يصير معتقل اللسان عند الحنفية والحنابلة ميؤوساً من نطقه، بأن يموت كذلك. وإذا كان العاجز عن النطق عالماً بالكتابة، فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة؛ لأن دلالتها على المقصود أدق وأحكم، وهذا هو المأخوذ به قانوناً.
وتنعقد الوصية بالإشارة المفهمة أيضاً ولو من قادر على النطق عند المالكية.
والخلاصة: أن الناطق تنعقد وصيته بالعبارة (اللفظ) وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية، والأخرس ونحوه تنعقد وصيته بالعبارة، أو الكتابة، أو الإشارة إذا كان عاجزاً عن الكتابة، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة في رأي الأكثرين. أما القانون فقرر أنه لا تنعقد وصية الناطق إلا بالعبارة أو الكتابة ولا تنعقد بإشارته، وهو مذهب الحنفية. وأما الأخرس ومعتقل اللسان والمريض الذي لا يستطيع النطق، فإن كان عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بها، وأما إذا كان لا يعرف الكتابة، فإن وصيته تنعقد بإشارته.(10/168)
القبول المطلوب: للفقهاء رأيان فيه:
الأول ـ للحنفية: وهو أن القبول المطلوب: هو عدم الرد، فيكفي إما القبول الصريح، مثل قبلت الوصية أو رضيت بها، أو القبول دلالة، بأن يتصرف في الموصى به تصرف الملاك، كالبيع والهبة والإجارة.
ويملك الموصى له الموصى به بالقبول إلا في مسألة: وهي أن يموت الموصي، ثم يموت الموصى له قبل القبول، فيدخل الموصى به في ملك ورثته؛ لأن الوصية قد تمت من جانب الموصي بموته تماماً لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقف لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه، كما لو مات المشتري في أثناء الخيار الممنوح له قبل إجارة البيع. وقد أخذ القانون السوري (م/226) برأي الحنفية في الاكتفاء بعدم الرد.
الثاني ـ للجمهور: لا بد من القبول بالقول أو ما يقوم مقامه من التصرفات الدالة على الرضا، ولا يكتفى بعدم الرد؛ لأنه غير القبول المطلوب. وقد أخذ قانون الوصية المصري بهذا الرأي في المادة (20) .
هل تشترط الفورية في القبول؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط كون القبول في مدة معينة، ولا تشترط الفورية في القبول أو الرد، بل هو على التراخي، فيجوز بعد الوفاة، ولو إلى مدة طويلة؛ لأن الفور إنما يشترط في العقود المنجزة التي يرتبط القبول فيها بالإيجاب كالبيع، وليست الوصية منها، لكن رأى الشافعية أن للوارث الحق في مطالبة الموصى له بالقبول أو الرد، فإن امتنع بعدالمطالبة، كان امتناعه رداً للوصية، وهذا معقول؛ لأن فيه دفع الضرر عن الورثة. وقال الحنابلة: إن امتنع من قبول ورد، حكم عليه بالرد وسقط حقه.
ورعاية لدفع هذا الضرر اشترط القانون السوري (ف1/م227) أن يكون رد الوصية خلال ثلاثين يوماً من وفاة الموصي، أو من حين علم الموصى له بالوصية إن لم يكن عالماً حين الوفاة. وهذا من قبيل السياسة الشرعية، منعاً للإضرار بالورثة أو بالتركة.(10/169)
وجعل القانون المصري (م 22) الحق لمن له تنفيذ الوصية طلب القبول أو الرد بإعلان رسمي، وحدد مدة الإجابة بثلاثين يوماً، فإن لم يجب بالقبول أو الرد، اعتبر ذلك منه رداً، فتبطل الوصية، ما لم يكن له عذر مقبول. وهو مأخوذ من مذهب الشافعية والحنابلة.
تجزؤ الرد ورد البعض دون البعض:
قد يتجزأ الرد، فيقبل الموصى له بعض الموصى به ويرد البعض الآخر كما إذا أوصي له بدار وأرض زراعية، فقبل الدار ورد الأرض الزراعية أو بالعكس، نفذت الوصية فيما قبله، وبطلت فيما رده؛ لأنه أدرى بمصلحته، ولا ضرر على غيره في التجزئة، فيقبل ما يطيب له، ويرد ما لا يرغب فيه، أي أنه لا يلزم مطابقة القبول للإيجاب. وإذا كانت الوصية لجماعة، فقبل بعضهم، ورد الآخرون، لزمت الوصية لمن قبل، وبطلت لمن رد؛ لأن بطلانها في نصيب من رد لا يؤثر في صحتها في نصيب من قبل.
لكن إذا شرط الموصي عدم التجزئة، وجب العمل بالشرط، لأن شرط الموصي محترم ما لم يخالف الشريعة.
وقد نصت القوانين على هذه الأحكام (1) .
الرجوع عن الرد أو القبول:
إذا حصل الرد أو القبول، لم يجز بعدئذ الرجوع عن الرد إلى القبول، أو عن القبول إلى الرد، إلا إذا أجاز الورثة ذلك، فإن قبل الورثة جميعاً أو قبل أحدهم الرد، فسخت الوصية، وعاد الموصى به إلى التركة، وإذا أبى الورثة الرد، فلا عبرة به، وتبقى الوصية نافذة. هذا ما قرره القانون (2) عملاً بالمذهب الحنفي الذي يجيز الرد بعد القبول، وتفسخ الوصية بشرط أن يقبل الورثة منه الرد، كلهم أو بعضهم، ولو كان واحداً.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : لا يصح الرد بعد القبول والقبض؛ لأن الملك قد ثبت بالقبول، واستقر بالقبض، فلا يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فأشبه رده لسائر ملكه، إلا أن يرضى الورثة بالرد، فيكون منه لهم هبة مبتدأة، تفتقر إلى شروط الهبة.
__________
(1) المادة 23 من قانون الوصية المصري لسنة 1946، والمادة 228 بفقرتيها من القانون السوري.
(2) المادة 24 من قانون الوصية المصري، والمادة 229 من قانون السوري.
(3) المهذب: 452/1 وما بعدها، كشاف القناع: 381/4 وما بعدها، المغني: 22/6-26.(10/170)
أما إن حصل الرد بعد القبول وقبل القبض، ففيه عند الشافعية وجهان: المنصوص عليه أنه يصح الرد؛ لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير بدل، فصح رده قبل القبض كالوقف. ويصح الرد عند الحنابلة إن كان الموصى به مكيلاً أو موزوناً؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه قبل قبضه، فأشبه رده قبل القبول. وإن كان غير ذلك لم يصح الرد؛ لأن ملكه قد استقر عليه، فهو كالمقبوض.
وفي كل موضع صح الرد فيه، فإن الوصية تبطل بالرد، وترجع إلى التركة، فتكون للورثة جميعهم؛ لأن الأصل ثبوت الحكم لهم.
والراجح رأي الشافعية والحنابلة بعدم صحة الرد بعد القبول وإن لم يوجد قبض، إلا على أنه تبرع مبتدأ، فيأخذ حكم التبرعات المنشأة، لثبوت ملك الموصى له بالتلقي عن الموصي، لا عن الورثة، وإن أخذ القانون برأي الحنفية.
ويحصل الرد بقوله: رددت الوصية أو لا أقبلها وما في معناه.
من يملك القبول والرد:
أـ اتفق الفقهاء على أن الموصى له المعين يملك بنفسه القبول والرد إذا كان كامل الأهلية رشيداً؛ لأنه صاحب الولاية على نفسه.
ب ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له إذا كان فاقد الأهلية وهو المجنون والمعتوه والصبي غير المميز، ليس له القبول والرد؛ لأن عبارته ملغاة، وإنما يقبل وليه عنه أويرد.
جـ ـ واتفقوا أيضاً على أن الموصى له غير المعين لا يحتاج إلى قبول ولا رد، وإنما تلزم الوصية بمجرد إيجاب الموصي. وقد أخذ به القانون السوري (م 225) ، أما القانون المصري (م 20) ، فجعل حق القبول والرد عن المؤسسات والجهات والمنشآت لمن يمثلها قانوناً، فإن لم يكن لها من يمثلها قانوناً، لزمت الوصية من غير حاجة إلى قبول.(10/171)
د ـ واختلف الفقهاء في ناقص الأهلية وهو الصبي غير المميز، والمحجور عليه بسبب السفه أو الغفلة:
فقال الحنفية: له القبول؛ لأن الوصية نفع محض له كالهبة والاستحقاق في الوقف، وليس له ولا لوليه الرد؛ لأنه ضرر محض، فلا يملكونه.
وقال الجمهور: أمر القبول والرد عن ناقص الأهلية لوليه، يفعل ما فيه الحظ والمصلحة.
موت الموصى له بلا قبول ولا رد:
إذا مات الموصى له بعد موت الموصي، بلا قبول ولا رد، فتصح الوصية عند الحنفية (1) استحساناً؛ لأن موته يعتبر قبولاً دلالة، ولأن الشرط عدم الرد، فتتم الوصية، ويدخل الموصى به في ملك ورثة الموصى له.
وينتقل حق القبول والرد إلى ورثة الموصى له عند الجمهور (2) ، بعد موت الموصي، فمن قبل منهم أورد، فله حكمه؛ لأنه حق ثبت للمورث، فثبت للوارث بعد موته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته» .
وقت ثبوت ملكية الموصى به للموصى له:
حكم الوصية بمعنى الأثر المترتب على الشيء: هو انتقال ملكية الموصى به إلى الموصى له ملكاً جديداً بقبول الموصى له بعد وفاة الموصي، وبه تلزم الوصية بالاتفاق.
واتفق الفقهاء على أن الموصي إذا حدد موعداً للملكية كابتداء شهر كذا، تبدأ به؛ لأن شرط الموصي يراعى ما لم يخالف مقاصد الشرع. أما إذا لم يعين الموصي وقتاً لابتداء الملكية، فإن قبل الموصى له عقب الوفاة، ثبت له الملك بالوفاة مباشرة، أما إذا تراخى القبول عن الوفاة فقد اختلفوا في وقت ثبوت الملكية على رأيين: رأي الحنفية والشافعية، ومشهور مذهب المالكية: بالقبول مستنداً إلى موت الموصي، أي أن له أثراً رجعياً، ورأي بعض المالكية والحنابلة: بالقبول وحده.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 170/4.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 424/4، مغني المحتاج: 54/3، المغني: 23/6 وما بعدها، غاية المنتهى: 252/2.(10/172)
قال الحنفية (1) : القبول ليس بشرط لصحة الوصية، وإنما هوشرط ثبوت الملك للموصى له، فقبول الموصى له شرط لإفادة الملك للموصى له، حتى لا يملك قبل القبول إلا في مسألة واحدة هي كما عرفنا: حال موت الموصي ثم موت الموصى له قبل القبول.
ومتى قبل الموصى له ثبتت ملكيته من تاريخ وفاة الموصي إذا كان قدر الثلث، فإن لم يقبل بعد الموت، كانت الوصية موقوفة على قبوله: ليست في ملك الوارث، ولا في ملك الموصى له، حتى يقبل أو يموت بلا قبول ولا رد.
وكذلك قال الشافعية (2) : الأظهر أن ملك الموصى له موقوف، فإن قبل بان أنه ملكه بالموت، وإن لم يقبله بان أنه للوارث، أي أنهم كالحنفية تبتدئ الملكية عندهم من وقت وفاة الموصي، ولكن لا تثبت إلا بالقبول. والمشهور عند المالكية (3) مراعاة الأمرين وهو أن الملك يثبت من وقت القبول ووقت الموت معاً، فبالقبول تبين أنه ملك الموصى به من حين الموت.
ورأى بعض المالكية والحنابلة (4) على الصحيح: أن الموصى له لا يملك الموصى به إلا بالقبول، إذا كانت الوصية لمعين، كما يملك الشيء المعقود عليه في سائر العقود، ولأن القبول من تمام السبب، والحكم لا يتقدم سببه. فتثبت الملكية بالقبول، ولا يستند وجودها إلى ما قبله.
والراجح لدي هو الرأي الأول، فيثبت الملك مستنداً إلى وقت الوفاة؛ لأن ذلك هو الذي قصده الموصي بوصيته، وهذا ما أخذ به القانون السوري (5) .
__________
(1) البدائع: 332/7، 385، الدر المختار ورد المحتار: 460/5، 465، تكملة فتح القدير مع حاشية العناية: 430/8، حاشية الشلبي على الزيلعي: 184/6، الكتاب مع اللباب: 170/4.
(2) مغني المحتاج: 54/3.
(3) الشرح الصغير: 582/4 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 424/4.
(4) المغني: 25/6، 158، كشاف القناع: 381/4.
(5) الفقرة الثانية من المادة 25 من القانون المصري، والفقرة الأولى من المادة (254) من القانون السوري.(10/173)
وتظهر ثمرة الخلاف في ملك زوائد الموصى به وغلته الحادثة في المدة ما بين الموت والقبول، كنسل الحيوان وثمرة البستان وأجرة الدار وصوف الغنم ونحوها من الزوائد المنفصلة. أما الزوائد المتصلة كالسمن، فهي بالاتفاق للموصى له إذا احتملها الثلث.
فعلى الرأي الأول: تكون الزوائد بعد الموت وقبل القبول ملكاً لورثة الموصي، وعليهم نفقتها. لكن اختلف الحنفية مع الشافعية أصحاب الرأي الأول في اعتبار الزوائد من الثلث، فقال الحنفية: تعتبر من أصل الموصى به، فيشترط ألا تزيد مع الأصل عن الثلث.
وقال الشافعية: يعتبر ذلك نماءً زائداً عن أصل الموصى به، فلا تدخل في حساب الثلث، فتكون للموصى له. وهذا هو الأرجح؛ لأن هذا الزائد حدث على ملك الموصى له، فيسلم له، وبه أخذ القانون.
تعليق الوصية على شرط:
لا تكون الوصية منجزة حال الحياة؛ لأنها بطبيعتها عقد مضاف إلى ما بعد الموت، فكل العقود تقبل التنجيز إلا الوصية والإيصاء، لكون مفهومهما الإضافة إلى المستقبل.
وقد نص القانون المصري والسوري (1) على صحة إضافة الوصية إلى المستقبل، وتعليقها بالشرط، وتقييدها به إذا كان الشرط صحيحاً.
أما إضافة الوصية إلى المستقبل: فهذا صحيح، كأن يوصي بسكنى داره لفلان اعتباراً من بدء السنة التالية لوفاته، أو من بدء الشهر الفلاني بعد الوفاة. والوصية والإيصاء لا يكونان إلا مضافين إلى المستقبل.
__________
(1) المادة 4 من الأول، والمادة 210 ف 1 من الثاني.(10/174)
وأما تقييد الوصية بشرط صحيح: فهو جائز أيضاً على أن يتقيد تنفيذ الوصية بهذا الشرط المقترن بها. والشرط الصحيح بحسب رأي ابن تيمية وابن القيم الذي أخذ به القانون: هو كل ما كان فيه مصلحة مشروعة للموصي، أو للموصى له، أو لغيرهما، ولم يكن منهياً عنه، ولا مخالفاً لمقاصد الشريعة (1) . وهو متفق مع مذهب الحنفية، مع تقييد الشرط الصحيح بقيدين: أولهما ـ أن يكون الشرط مشتملاً على مصلحة. والثاني ـ ألا يكون منهياً عنه ولا منافياً لمقاصد الشريعة، وكأن القانون جعل من مجموع رأي الحنفية وهذين الإمامين رأياً ثالثاً مقبولاً في ذاته.
مثال المصلحة للموصي: أن يوصي لفلان بكذا على أن يدفع ضرائب الدولة المستحقة، أو على أن يقوم بالإشراف على أولاده الصغار، أو على أن يبدأ في تنفيذ الوصايا بحقوق الله من فدية صيام وصلاة ونحوها.
ومثال المصلحة للموصى له: أن يوصي لفلان بأرضه أو داره على أن تكون نفقات إصلاحها أو ترميمها في تركة الموصي، أو على أن تكون رسوم التسجيل في السجل العقاري من تركة الموصي.
ومثال المصلحة لأجنبي غير الموصي والموصى له: أن يوصي لفلان بداره على أن يسقي من مائها حديقة جاره، أو أن يوصي بمنفعة دار لجهة خيرية على أن يكون حق السكنى لمن لم يجد مأوى من ذريته.
فإن كان الشرط غير صحيح شرعاً، لغا الشرط وصحت الوصية، كأن يوصي لفلان بمبلغ من المال على ألا يتزوج، تصح الوصية وله أن يتزوج. فهذا شرط مصادم لمقاصد الشريعة. وكذلك يلغو الشرط من باب أولى إن كان ممنوعاً شرعاً، كأن يوصي لفلان بمبلغ كذا على أن ينفق بعضه في حفلة مشروب مسكر أو لذة حرام.
وأما تعليق الوصية على شرط (2) : فيجوز تعليقها بشرط في الحياة كالطلاق ونحوه، وبشرط بعد الموت؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة، جاز بعد الموت (3) . وبه عرف أن الوصية من العقود التي تقبل التعليق على الشرط بالاتفاق.
__________
(1) المادة 4 من قانون الوصية المصري، والفقرة الثانية من المادة 210 من قانون الأحوال الشخصية السوري.
(2) التعليق: ترتيب وجود العقد على وجود الشرط، أما الاقتران: فهو تقييد تنفيذ العقد بشروط معينة.
(3) المهذب: 452/1، غاية المنتهى: 348/2، المغني: 28/6، رد المحتار: 471/5.(10/175)
المبحث الثاني ـ شروط الوصية:
للوصية شروط صحة يتوقف عليها صحة الوصية، وشروط نفاذ يتوقف
عليها نفاذ الوصية وترتب آثارها، وتلك الشروط إما في الموصي أو في الموصى له، أو في الموصى به، أبحثها في مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ شروط الموصي:
يشترط في الموصي شروط صحة وشرط نفاذ:
أما شروط الصحة في الموصي فهي ما يأتي (1) :
1ً - أن يكون أهلاً للتبرع: وهو المكلف (البالغ العاقل) ، الحر، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً أو كافراً.
وقد اتفق على اشتراط العقل، فلا تصح وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه؛ لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. واتفقوا على اشتراط الحرية، فلا تصح وصية العبد؛ لأنها تبرع، وهو ليس من أهل التبرع، ولأنه لا يملك شيئاً حتى يملّكه لغيره.
واتفق الحنفية، والشافعية في أرجح القولين عندهم على اشتراط البلوغ، فلا تصح وصية الصبي المميز وغير المميز، ولو كان مميزاً مأذوناً له في التجارة؛ لأن الوصية من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، إذ هي تبرع، كما أنها ليست من أعمال التجارة.
وأجاز المالكية والحنابلة وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها، دون غير المميز، إذ اعقل المميز القربة؛ لأنها تصرف تمحض نفعاً له، فصح منه
__________
(1) البدائع: 334/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 185/6، تكملة فتح القدير: 429/8، 432، الدر المختار: 459/5، 463، القوانين الفقهية: ص 405، الشرح الصغير: 580/4، شرح الرسالة: 169/2، مغني المحتاج: 39/3، كشاف القناع: 371/4 وما بعدها، بداية المجتهد: 328/2.(10/176)
كالإسلام والصلاة، كما أن الحنفية أجازوا وصية المميز (وهو من أتم السابعة) إذا كانت لتجهيزه وتكفينه ودفنه؛ لأن عمر رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان له عشر سنين أوصى لأخواله، ولأنه لا ضرر على الصبي في جواز وصيته؛ لأن المال سيبقى على ملكه مدة حياته، وله الرجوع عن وصيته؛ كما سأبين.
وتجوز وصية المحجور عليه لسفه بالاتفاق، فقال الحنفية: تصح وصية المحجور عليه (1) إذا كانت بالقُرَب وأبواب الخير، من ثلث ماله؛ إذ ليس في تلك الوصية إضرار به، بل هي مفيدة له، لما يترتب عليها من الثواب. أما الوصية في غير القُرَب كالوصية لغني غير فاسق، فإنها لا تجوز.
وكذلك قال المالكية: تصح وصية المحجور عليه السفيه والصغير؛ لأن الحجر عليهما لحق أنفسهما، فلو منعا من الوصية، لكان الحجر عليهما لحق غيرهما.
والمذهب لدى الشافعية جواز وصية المحجور عليه بسفه، لصحة عبارته. وأما وصية المحجور عليه لفلس فموقوفة على إجازة الغرماء، فإن أمضوها جازت، وإن ردوها بطلت.
وقال الحنابلة: تصح وصية المحجور عليه لسفه بمال؛ لأنها تمحضت نفعاً له من غير ضرر، فصحت منه كعباداته، ولأنه كما قال الحنفية والمالكية إنما حجر عليه لحفظ ماله، وليس في الوصية إضاعة له؛ لأنه إن عاش، كان ماله له، وإن مات كان ثوابه له، وهو أحوج إليه من غيره. ولا تصح الوصية من المحجور عليه لسفه على أولاده؛ لأنه لا يملك أن يتصرف عليهم بنفسه، فوصيته أولى.
وتصح الوصية من المحجور عليه لفلس؛ لأن الحجر عليه لحظ الغرماء، ولا ضرر عليهم؛ لأنه إنما تنفذ وصيته في ثلث ماله بعد وفاء ديونه.
__________
(1) الحجر على السفيه رأي الصاحبين، وبه يفتى، ولم يجز أبو حنيفة الحجر عليه.(10/177)
أما السكران: فلا تصح وصيته عند الجمهور، لعدم العقل فهو كالمجنون. وأجاز الشافعية وصية السكران المتعدي بسكره وهو من عصى بسكره، ولا تصح وصية غير المتعدي بسكره.
وتصح بالاتفاق وصية الكافر ولو حربياً، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، إلا أن يوصي بخمر أو خنزير لمسلم.
وغني عن البيان أنه يشترط في الموصي كونه مالكاً، فهذا داخل في اشتراط أهلية التبرع، فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة، ملك الوصية بثلثه في وجوه البر، لحديث سعد بن أبي وقاص السابق (1) .
2ً - أن يكون راضياً مختاراً: لأن الوصية إيجاب ملك، فلا بد فيه من الرضا، كإيجاب الملك بسائر الأشياء والتصرفات من بيع وهبة ونحوهما، فلا تصح وصية الهازل والمكره والمخطئ؛ لأن هذه العوارض تفوِّت الرضا، والرضا لابد منه في عقود التمليكات.
شرط نفاذ الوصية في الموصي:
يشترط في الموصي لنفاذ الوصية: ألا يكون مديناً بدين مستغرق لجميع تركته؛ لأن إيفاء الدين مقدم على تنفيذ الوصية بالإجماع كما بان سابقاً، وقد تعلق بالمال حق للغير وهو الدائن، فتكون الوصية في هذه الحالة موقوفة على إجازة أصحاب الحق، فإذا أجازوها نفذت، وإلا بطلت.
وقد اتفق القانون (2) مع الفقه في شرط نفاذ الوصية، وفي شرط كون الموصي أهلاً للتبرع قانوناً، فلا تصح وصية المجنون ولا المعتوه، ولا الصبي ولو كان مميزاً، أخذاً برأي الحنفية، والشافعية في الأرجح.
أما وصية المحجور عليه لسفه أو غفلة، فهي جائزة بإذن القاضي، فإذا أذن نفذت، وإلا بطلت، سواء أكانت الوصية في وجوه الخير أم لا.
__________
(1) المهذب: 449/1.
(2) المادة 5 و 38 من قانون الوصية المصري، والمادة 211 من قانون الأحوال الشخصية السوري.(10/178)
المطلب الثاني ـ شروط الموصى له:
يشترط في الموصى له شروط صحة وشروط نفاذ (1) .
أما شروط الصحة فهي ما يأتي: في الجهة العامة أو الشخص المعنوي ألا تكون جهة معصية، وفي الشخص الطبيعي أو الإنسان: 1 - أن يكون موجوداً. 2 ـ معلوماً. 3 - أهلاً للتملك والاستحقاق. 4 - غير حربي عند المالكية، وغير حربي في دار الحرب عند الحنفية، وألا يوصى بالسلاح لأهل الحرب عند الشافعية، فصارت شروط الموصى له ستة.
الوصية لجهة معصية: ألا يكون الموصى له جهة معصية إذا كان الموصي مسلماً. فإذا كان الموصى له جهة معصية بطلت الوصية باتفاق الفقهاء، كالوصية لأندية القمار والمراقص، وإقامة القباب على المقابر، أو النياحة على الموتى، وعمارة كنيسة أو ترميمها، وكتابة التوراة والإنجيل وقراءتهما، وكتابة كتب السحر والضلال والفلسفة الممنوعة وسائر العلوم المحرمة؛ وبالسلاح لأهل الحرب، وبآلات اللهو والطرب؛ لأن الوصية شرعت صلة أو قربة، فلا يصح أن تكون في معصية، فإذا وقعت كذلك كانت باطلة اتفاقاً، لأنها وصية بمحرم شرعاً.
فإن كانت الوصية في ذاتها مباحة شرعاً، لكن الباعث عليها محرم، كالوصية لأهل الفسق ليستعينوا بها على فسقهم، ففيها رأيان: بحسب الخلاف في مبدأ سد الذرائع:
يرى الحنفية والشافعية: أن الوصية صحيحة، عملاً بظاهر العقد، فلم يشتمل لفظ الوصية على محرم، ويترك أمر النية والقصد لله تعالى.
__________
(1) البدائع: 335/7-352، الدر المختار: 459/5، 462، 469، 470، تبيين الحقائق: 182/6-186، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 581/4 وما بعدها، الشرح الكبير: 423/4، 426، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 328/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 40/3-44، المهذب: 451/1 وما بعدها، 458، غاية المنتهى: 356/2-358، كشاف القناع: 390/4-407، المغني: 5/6، 21، 56، 60، 104، تكملة فتح القدير: 434/8، شرح الرسالة: 170/2.(10/179)
ويرى المالكية والحنابلة ومنهم ابن تيمية وابن القيم: أن مثل هذه الوصايا تكون باطلة؛ لأن العبرة في العقود بالقصد والنية، والباعث حينئذ مناف لمقاصد الشريعة، فتكون باطلة. وهذا ما أخذ به القانون (1) .
الوصية للمعدوم (2) : أن يكون الموصى له موجوداً وقت الوصية تحقيقاً أو تقديراً: فإن لم يكن موجوداً، لا تصح الوصية؛ لأن الوصية للمعدوم لا تصح؛ لأنها تمليك، والتمليك لا يجوز للمعدوم. فلا تجوز الوصية عند الجمهور لميت، وقال مالك: إن علم أنه ميت فهي جائزة، وهي لورثته بعد قضاء ديونه وتنفيذ وصاياه. ووجود الموصى له إما حقيقة كإنسان موجود حي، أو تقديراً كالحمل. ويعرف وجود الحمل إذا ولدته أمه حياً لأقل من ستة أشهر (وهي أقل مدة الحمل) حين الإيصاء.
الوصية للحمل وبالحمل: تصح الوصية بالحمل وللحمل إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية.
أما الوصية بالحمل: فتصح إذا كان مملوكاً، بأن يكون حمل بهيمة مملوكة للموصي؛ لأن الغرر والخطر لا يمنع صحة الوصية، فإذا انفصل ميتاً بطلت الوصية، وإن انفصل حياً وعلمنا وجوده حال الوصية أو حكما بوجوده، صحت الوصية، وإن لم يكن كذلك لم تصح لجواز حدوثه.
__________
(1) نصت الفقرة الأولى من المادة الثالثة في قانون الوصية المصري: «يشترط في صحة الوصية ألا تكون بمعصية، وألا يكون الباعث عليها منافياً لمقاصد الشارع» . ونصت المادة 209 من القانون السوري: «تشترط في صحة الوصية ألا تكون بما نهي عنه شرعاً» .
(2) المراد بالمعدوم: من لم يوجد، لا من كان موجوداً ثم انعدم، والمراد بالموجود: ما يعم الموجود بالذات وبالوصف.(10/180)
وأما الوصية للحمل فصحيحة أيضاً بلا خلاف؛ لأن الوصية كالميراث، والحمل يرث، فتصح الوصية له، فإذا ورث الحمل، فالوصية له أولى، فإن انفصل الحمل ميتاً، بطلت الوصية؛ لأنه لا يرث. وإن وضعته حياً، صحت الوصية له. ويحسن إيراد عبارات الفقهاء في شأن الوصية للحمل وبالحمل.
قال الزيلعي والشلبي وصاحب الدر والهداية من الحنفية: تصح الوصية للحمل وبالحمل إن ولدته أمه حياً لأقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من وقت الوصية (1) ، إذا كان زوج الحامل حياً، أي في حال الوصية للحمل، فإذا كان ميتاً، فالشرط أن تأتي به حياً لأقل من سنتين من وقت الموت. أما إن أتت به ميتاً، فلا تجوز الوصية.
وإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن فالشرط أيضاً أن تأتي به لأقل من سنتين من تاريخ الطلاق. ومثله: لو أقر الموصي بأنها حامل، فتثبت الوصية له إن وضعته ما بين سنتين من يوم أوصى، لثبوت الحمل بإقرار الموصي.
وقال الشافعية: تصح الوصية لحمل وتنفذ إن انفصل حياً، وعلم وجوده عند الوصية، بأن انفصل لدون ستة أشهر إن كانت ذات زوج؛ لأن الظاهر وجوده عند الوصية. وتصح الوصية بما تحمله البهيمة أو الشجرة وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر، واللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الموصى له كالوارث، والوارث يخلف الميت في هذه الأشياء.
وقال الحنابلة: تصح الوصية بالحمل إذا كان مملوكاً، وتصح الوصية للحمل إن أتت به حياً لأقل من ستة أشهر، حال الوصية، أي كما قال الشافعية.
__________
(1) وقال في البدائع: يعتبر ذلك من وقت موت الموصي في ظاهر الرواية، وعند الطحاوي رحمه الله: من وقت وجود الوصية. وقال في النهاية: تجوز الوصية للحمل وبالحمل إذا وضع لأقل من ستة أشهر، أي من وقت موت الموصي، لا من وقت الوصية.(10/181)
وكذلك اتفق الشافعية والحنابلة على أن المرأة إن كانت بائناً غير ذات زوج (أي ليست فراشاً لزوج فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له. وإن أتت به لأقل من ذلك، صحت الوصية له؛ لأن الولد يعلم وجوده إذا كان لستة أشهر، ويحكم بوجوده إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة.
وقال المالكية: تصح الوصية للموصى له، سواء أكان موجوداً حين الوصية، أم منتظر الوجود كالحمل، وتصح لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد إن استهل صارخاً ونحوه، مما يدل على تحقق حياته، لكن في قول لا يستحق شيئاً من غلة الموصى به؛ لأنه لا يملك إلا بعد وضعه حياً، فتكون الغلة لوارث الموصي. وفي القول الآخر: توقف وتدفع للموصى له إذا استهل كالموصى به. ويوزع الشيء الموصى به لمن سيكون إن ولدت أكثر من واحد، بحسب العدد أي الذكر كالأنثى عند الإطلاق، فإن نص الموصي على تفضيل، عمل به. مثال الوصية لمن سيوجد: «أوصيت لمن سيكون من ولد فلان» . فيكون لمن يولد له، سواء أكان موجوداً، بأن كان حملاً حين الوصية، أم غير موجود أصلاً، فيؤخر الموصى به للوضع على كل حال.
وتصح الوصية عندهم لميت علم الموصي بموته حين الوصية، ويصرف الشيء الموصى به في وفاء دين الميت إن كان عليه دين، وإن لم يكن عليه دين فلوارثه، فإن لم يكن عليه دين، ولا وارث له، بطلت الوصية، ولا يأخذها بيت المال. وإن أوصى لميت وهو يظنه حياً، بطلت الوصية اتفاقاً.
والخلاصة: أن الجمهور يشترطون وجود الموصى له حين الوصية، وتصح الوصية للحمل إن ولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ إنشاء الوصية.(10/182)
أما المالكية فلا يشترطون هذا الشرط، ويجيزون أيضاً الوصية للحمل الذي سيوجد، وإن لم يكن موجوداً عند الوصية، فلا يشترط عندهم إذن وجود الموصى له حين الوصية، ولا عند موت الموصي. وأرجح رأي الجمهور لأن تمليك غير الموجود لا معنى له، ولما يترتب على جواز هذه الوصية من حبس المال مدة طويلة انتظاراً لمن سيوجد في المستقبل.
أما القانون: فقانون الوصية المصري (م 6) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً إذا كان معيناً، وهذا متفق مع رأي الجمهور، فإن لم يكن معيناً كطلبة العلم، لايشترط أن يكون موجوداً عند الوصية، ولا وقت موت الموصي، وهو مأخوذ من مذهب الإمام مالك، كما قالت المذكرة التفسيرية. وكذلك أخذ هذا القانون في الفقرة الأولِى المادة (26) من مذهب مالك جواز الوصية بالأعيان للمعدوم، ولما يشمل الموجود والمعدوم ممن يحصون. وتبطل الوصية إذا تعذر وجود الموصى له في المستقبل. ونصت المادة الثامنة على جواز الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد مستقبلاً، كالوصية للملجأ الذي سيبنى في الحي الفلاني.
والقانون السوري (م 212، ف/ب) اشترط أن يكون الموصى له موجوداً عند الوصية وحين موت الموصي، إن كان معيناً. وفي المادة (236) الموافقة للمادة (35) من القانون المصري نص على ما يلي:
1 - تصح الوصية للحمل المعين وفقاً لما يلي:
أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل حين الإيصاء، يشترط أن يولد حياً لسنة (أي شمسية) فأقل من ذلك الحين.
ب ـ إذا كانت الحامل معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، يشترط أن يولد حياً لسنة أيضاً من حين وجوب العدة.
جـ ـ إذا لم يكن الموصي مقراً ولا الحامل معتدة، يشترط أن يولد حياً لتسعة أشهر فأقل من حين الوصية.
د ـ إذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، يشترط مع ما تقدم أن يثبت نسب الولد من ذلك الشخص.(10/183)
2 - توقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل، فتكون له. ونصت المادة (214) على أنه: تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة.
الوصية للمجهول: أن يكون الموصى له معلوماً غير مجهول: أي ألا يكون مجهولاً جهالة لا يمكن رفعها وإزالتها؛ لأن هذه الجهالة تمنع من تسليم الموصى به إلى الموصى له، فلا تفيد الوصية، ولأن الوصية تمليك عند الموت ـ في رأي الجمهور غير الحنابلة ـ فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت، حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه.
فلو أوصى إنسان لمحمد أو خالد بالثلث، أو لجماعة لا يحصون من المسلمين (1) كثلث ماله للمسلمين، ولم يوصفوا بما يشعر بالحاجة كفقراء المسلمين، كانت الوصية باطلة عند الحنفية، لجهالة الموصى له جهالة تمنع من تسليم الموصى به إليه. وكذلك لو أوصى لأحد رجلين، لا تصح عند أبي حنيفة والشافعية وباقي المذاهب، لعدم تعيين الموصى له (2) .
أما لو أوصى لجماعة بلفظ ينبئ عن حاجتهم، فتصح الوصية عند الحنفية؛ لأنها وصية بالصدقة، وهي إخراج المال إلى الله تعالى، وهو واحد معلوم، فيقع الموصى به لله، ثم يتملكها المحتاجون بتمليك الله لهم. جاء في رد المحتار أن معنى كون الموصى له معلوماً: أن يكون معيناً شخصاً كزيد، أو نوعاً كالمساكين والفقراء.
وقد أخذ القانون المصري والسوري (3) بهذا الشرط، وهو كون الموصى له
__________
(1) اختلف الفقهاء في الحد الفاصل بين من يحصون ومن لا يحصون، فقال محمد: إن كانوا أكثر من مئة فهم لا يحصون. وبه يفتى وقد أخذت به المحاكم الشرعية في مصر، وقال الشافعية: هم من لا يمكن استيعابهم إلا بمشقة.
(2) وتصح هذه الوصية عند الصاحبين، وتكون الوصية عند أبي يوسف لهما جميعاً، وعند محمد: لأحدهما، وخيار التعيين إلى الورثة، يعطون أيهما شاؤوا (البدائع: 236/7) .
(3) انظر الفقرة الأولى من المادة 6 من القانون المصري، والفقرة الأولى من المادة 212 من القانون السوري.(10/184)
معلوماً، إلا أنه أجاز الوصية لمن لا يحصى كأهل دمشق أو القاهرة خلافاً لمذهب الحنفية، وأخذاً بمذهب المالكية والحنابلة، سواء اشتملت الوصية على ما ينبئ عن الحاجة أو لا. أما الشافعية فهم كالحنفية لأنه يجب عندهم أن يكون الموصى له معيناً إن كان غير جهة.
وقد نصت المادة (213) من القانون السوري على ما يلي:
1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة، تصرف في وجوه الخير.
2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة، تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها، وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة. وهذا قريب من نص المادة السابعة من القانون المصري.
والراجح لدي ما أخذ به القانون؛ لأن معنى القربة موجود في مثل هذه الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بقصده أم سكت.(10/185)
الوصية للدابة: يشترط أن يكون الموصى له أهلاً للتمليك والاستحقاق: وهذا شرط متفق عليه. فلا تصح الوصية لما ليس أهلاً للملك، كأن أوصى لدابة أو فرس غيره، وقصد تمليكها، أو أطلق، فهي باطلة عند الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن مطلق اللفظ للتمليك، والدابة لا تملك، أما لو قال: لعلف هذه الدابة، صح، مراعاة لظاهر لفظ الموصي، لا إلى قصده. ولا يشترط عند الحنفية القبول في هذه الحالة، لأنها حينئذ كالميراث، فلا يشترط فيها القبول لتعذره كالوقف على الفقراء والمساكين. وقال الشافعية: يشترط قبول مالك الدابة. أما الحنابلة فقالوا: لو قصد الموصي الإنفاق على فرس زيد أو دابته، ولو لم يقبل الموصى له، تصح الوصية؛ لأن العبرة في العقود للمعاني والمقاصد. ويصرف الموصى به في علف الدابة، فإن مات الفرس قبل الإنفاق عليه، كان الباقي لورثة الموصي، ويتولى الوصي أو القاضي عند الحنابلة، لا صاحب الفرس الإنفاق عليه.
وبناء على هذا الشرط، قال أبو حنيفة: لو قال: أوصيت بثلث مالي لله تعالى، فالوصية باطلة. وقال محمد: جائزة، وعليه الفتوى، ويصرف في وجوه البر.
ولو أوصى للمسجد أو للمسجد الحرام أو للمدرسة ونحوها من جهات الوقف بشيء، لم يجز عند الحنفية، إلا أن يقول: ينفق على المسجد إنشاء وترميماً؛ لأنه قربة. وعند محمد والشافعية: يصح مطلقاً، سواء قال: ينفق أم لا، ويصرف على مصالحه، كالمثال السابق، تصحيحاً لكلامه.
وقال المالكية والحنابلة: تصح الوصية لمسجد ونحوه كرباط وثغر وسور على البلد، وتصرف في مصالحه ونفقاته التي يحتاجها من إضاءة وحصر وسجاد، وما زاد على ذلك، فيصرف على خدمته من إمام ومؤذن ونحوهما.(10/186)
الوصية للقاتل: ألا يكون الموصى له قاتلاً الموصي في رأي الحنفية والحنابلة: فإن قتله بأن أصابه بجرح فأوصى له، ثم مات، كانت الوصية باطلة. وإن أوصى له أولاً، ثم حدث القتل، كان مانعاً من استحقاق الوصية. فالقتل يمنع صحة الوصية ابتداء واستمراراً؛ لأن القتل يمنع الميراث، فيمنع الوصية، معاملة له بنقيض مقصوده، ولخبر «ليس لقاتل وصية» (1) . والقتل مانع من صحة الوصية لحق الشرع، سواء أجاز الورثة أم لا، وهذا رأي أبي يوسف، وبه أخذ القانون. وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا أجاز الورثة الوصية، أو لم يكن للموصي ورثة، كانت الوصية جائزة نافذة؛ لأن المنع لحق الورثة. والرأي الأول أرجح.
لكن اختلف الحنفية والحنابلة في نوع القتل المانع من الوصية والميراث: فقال الحنابلة في الأصح: القتل بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ، مباشرة أم تسبباً، يمنع الميراث ويبطل الوصية، لأن الميراث آكد من الوصية، فتكون الوصية أولى.
وقال الحنفية: القتل المانع من الإرث والوصية: هو الصادر من البالغ العاقل، عدواناً بغير حق أو عذر شرعي، إذا كان مباشرة لا تسبباً، سواء أكان عمداً أم خطأ، فالقتل من المجنون والصبي، والقتل بحق كالقتل قصاصاً أو حداً أو بسبب البغي، أو بعذر كالدفاع عن النفس والعرض، والقتل بالتسبب، كما لو دل الموصى له الشخص القاتل على مكان الموصي ولم يشترك معه في القتل، كل ذلك لا يمنع الإرث والوصية. فالقتل بالتسبب عندهم لا يمنع إرثاً ولا وصية.
أما الشافعية فقالوا: الأظهر أن الوصية تصح للقاتل ولو تعدياً، فلو قتل الموصى له الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد، فأشبهت الهبة، وخالفت الإرث.
__________
(1) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي رضي الله عنه، لكن فيه راو متروك يضع الحديث (نصب الراية: 402/4) .(10/187)
وأما المالكية: فعندهم تفصيل وهو أن الوصية تصح لقاتل، سواء أكان القتل عمداً أم خطأ إذا علم الموصي بمن قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى بعد الضرب، مع علمه بأن الموصى له هو الضارب؛ لأن المانع من صحة الوصية: هو استعجال الموصى له الشيء قبل أوانه، فيعاقب بالحرمان، لا يتحقق إلا إذا كان القتل لاحقاً للوصية. وإذا كان الموصي عالماً بالضرب، ثم أوصى له، دل على أنه عفا عنه وقصد الإحسان إليه. وبه يتبين أنه لا يشترط عند المالكية ألا يكون الموصى له قاتلاً، بشرط أن تقع الوصية بعد الضربة وأن يعرف المقتول قاتله. فإن ضرب شخص غيره ضربة قاتلة عمداً أو خطأ، ثم أوصى له بعد الضربة بشيء، صحت الوصية. أما إذا أوصى له قبل أن يضربه، ثم ضربه فأماته، فإن الوصية تبطل، سواء عرف القاتل ولم يغير الوصية، أم لم يعرفه، على الراجح؛ لأن فيها شبهة استعجال الوصية كالميراث.
ففي هذه الحال الأخيرة يتفق مذهبهم مع الحنفية والحنابلة، وفي الحال الأولى أي وقوع الوصية بعد الضربة يكون مذهبهم كالشافعية، ويكون لدينا رأيان: رأي الحنفية والحنابلة: أن القتل يبطل الوصية، ورأي الشافعية والمالكية: أن القتل لا يبطل الوصية.(10/188)
أما القانون المصري في المادة (17) والسوري في المادة (223) فقد أخذا برأي الحنفية والحنابلة في أن القتل مانع من استحقاق الوصية، وأخذاً برأي المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الإرث والوصية وهو القتل قصداً أوعمداً (1) ، سواء أكان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً، أم شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام على الموصي ونفذ الحكم، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً من العمر خمس عشرة سنة عند الجمهور، واثنتي عشرة سنة عند الحنفية. وهذا يشمل القتل مباشرة وتسبباً عملاً بمذهب الشافعية، ويكون القاتل مستحقاً الوصية إذا كان مجنوناً أو معتوهاً ونحوهما، أو ولداً دون الخامسة عشرة، أو قاتلاً بحق أو بعذر كالقاتل دفاعاً عن النفس أو الشرف، والقاضي الذي يصدر حكم الإعدام، والجلاد الذي ينفذ الحكم.
__________
(1) وتصح قانوناً الوصية للقاتل خطأ، عملاً بمذهب الإمام مالك.(10/189)
الوصية لأهل الحرب: يشترط في الموصى له في المعتمد عند المالكية ألا يكون حربياً، وعند الحنفية ألا يكون حربياً في دار الحرب (1) ، سواء أكانت الوصية من مسلم أم ذمي وإن أجاز الورثة؛ لأنها تقوية وإعزاز له، وإعانة على حرب المسلمين، وتصبح في النهاية ميراثاً لا صدقة، وفيها ضرر عام بالمسلمين.
وأجاز الحنفية عملاً بكتاب الأصل لمحمد الوصية للحربي المستأمن في دار الإسلام؛ لأنه في عهدنا، فأشبه الذمي الذي هو في عهدنا، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [الممتحنة:8/60-9] . وروي عن أبي حنيفة: أنه لاتجوز الوصية للحربي المستأمن، كما لا يجوز صرف الكفارة والنذر وصدقة الفطر والأضحية إلى الحربي المستأمن، لما فيه من الإعانة على الحراب. ولا تجوز عند الحنفية الوصية للمرتد من المسلم.
وأجاز الشافعية في الأصح والحنابلة الوصية للمرتد، والحربي المعين، لالعامة الحربيين، سواء أكان بدارنا أم لا، وذلك بما له تملكه، لا كسيف ورمح أي بغير السلاح مطلقاً، قياساً على جواز الهبة له والصدقة عليه. وقال الحارثي من الحنابلة: الصحيح من القول: أنه ـ أي الكافر مرتداً أو حربياً ـ إذا لم يتصف بالقتال أو المظاهرة علينا، صحت الوصية، وإلا لم تصح. ويؤكذ هذا الرأي أن أسماء
__________
(1) دار الحرب: هي البلاد التي ليس للمسلمين عليها ولاية وسلطان، ولا تقام فيها أكثر شعائر الإسلام. والحربي: هو من بيننا وبين بلاده عداوة وحرب. والمستأمن: من دخل دار الإسلام بأمان مؤقت لمدة معلومة. والذمي: المقيم في دار الإسلام بصفة دائمة.(10/190)
بنت أبي بكر أذن لها النبي صلّى الله عليه وسلم في صلة أمها (1) ، وأذن لعمر أيضاً في كسوة أخ مشرك له بمكة (2) .
اتحاد الدين: لا يشترط اتحاد الدين بين الموصي والموصى له لصحة الوصية، فتجوز وصية المسلم لغير المسلم، وتجوز وصية غير المسلم لأهل ملته ولغير أهل ملته، كاليهودي للمسيحي وبالعكس، والمسلم لليهودي أو المسيحي وبالعكس؛ لأن غير المسلمين في دار الإسلام لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
ونص القانون المصري (م 9) والقانون السوري (م 215) على أنه:
1ً - تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي.
2ً - إذا كان الموصى له أجنبياً تشترط المعاملة بالمثل.
أي أن اختلاف الدين لا يمنع صحة الوصية، وكذا اختلاف الدارين إذا كانت بلاد الموصى له لا تمنع الوصية لمثل الموصي، عملاً بمبدأ المساواة والمعاملة بالمثل، فتجوز الوصية إذا كانت دولة الموصي تجيز مثلها، وتمنع إن لم تجز مثلها.
وصايا غير المسلمين ـ أهل الذمة:
عرفنا أنه تصح وصية الذمي للمسلم وبالعكس اتفاقاً؛ لأن غير المسلمين بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، في الحياة وبعد الممات. فإذا أوصى ذمي غير مسلم بوصية، فلها ثلاث حالات ذكرها الحنفية (3) :
1 - إذا كان الموصى به أمراً هو قربة في شريعتنا وشريعته، كالصدقة على فقراء المسلمين أو فقراء الذميين أو بعمارة المسجد الأقصى، أو ببناء مدرسة أو مشفى ونحو ذلك، جازت الوصية اتفاقاً؛ لأن هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة على حد سواء.
2 - إذا كان الموصى به شيئاً هو قربة عندنا، وليس بقربة عنده، كأن أوصى ببناء مسجد للمسلمين أو بأن يحج عنه، فهذه وصية باطلة باتفاق الحنفية؛ لأنه لا يعتقد حقاً بكون الموصى به قربة إلى الله تعالى.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 3/6) .
(2) رواه البخاري وغيره عن ابن عمر (نيل الأوطار: 4/6) .
(3) البدائع: 341/7.(10/191)
3 - إذا كان الموصى به قربة عنده، لا عندنا، كأن أوصى ببناء كنيسة أو معبد، أو بالذبح لعيد في ملته، فالوصية صحيحة عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيته ما هو قربة عنده في عقيدته، لذا بطلت وصيته لبناء مسجد؛ لأنها ليست قربة عنده. وهذا هو الراجح.
وقال الصاحبان: هي وصية باطلة؛ لأنها وصية في شريعتنا بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح.
وقال الأئمة الآخرون (1) بقول الصاحبين: تبطل الوصية بمعصية (وهي ما ليس بقربة) ولو من ذمي؛ لأنها إعانة على المعصية.
شرط نفاذ الوصية في الموصى له:
الوصية للوارث: يشترط لنفاذ الوصية ألا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي، إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية. فإن أجاز بقية الورثة الوصية لوارث، نفذت الوصية، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» (1) وقوله أيضاً: «لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة» «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» (2) ، ولأن في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع، وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة.
ومعنى الأحاديث أن الوصية للوارث لا تنفذ مطلقاً، مهما كان مقدار الموصى به، إلا بإجازة الورثة، فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت، وإن أجازها بعضهم دون بعض، جازت في حصة المجيز، وبطلت في حق من لم يجز، لولاية المجيز على نفسه دون غيره. وهذا شرط لنفاذ الوصية عند الجمهور، فإنهم قرروا أن الوصية صحيحة لكن لا تجوز الوصية لوارث ولا تنفذ إذا لم يجزها الورثة. وقال المالكية: الوصية باطلة لحديث «لا وصية لوارث» فإن أجاز الورثة ما أوصي به للوارث أو الزائد على الثلث، فعطية مبتدأة منهم، لا تنفيذ لوصية الموصي.
__________
(1) مغني المحتاج: 40/3، الشرح الكبير: 427/4، كشاف القناع: 404/4.(10/192)
ويشترط لصحة الإجازة شرطان:
الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به: بأن يكون بالغاً عاقلاً غير محجور عليه لسفه أو عته أو مرض موت، وأن يكون عالماً بالموصى به، فلا تجوز إجازة صغير ومجنون ومريض مرض موت، ولا تصح إجازة وارث لم يعلم بما أوصى به الموصي. وقال الحنابلة: لو أجاز مريض فمن ثلثه (3) .
الثاني ـ أن تكون الإجازة بعد موت الموصي: فلا عبرة بإجازة الورثة حال حياة الموصي، فلو أجازوها حال حياته، ثم ردوها بعد وفاته، صح الرد وبطلت الوصية، سواء أكانت الوصية للوارث، أم لأجنبي بما زاد عن ثلث التركة.
وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. وكذلك قال المالكية.
وفي الجملة كما ذكر ابن جزي: إذا أجاز الورثة الوصية بالثلث لوارث أو بأكثر من الثلث، بعد موت الموصي، لزمهم، فإن أجازوها في صحته لم تلزمهم، وإن أجازوها في مرضه، لزمت من لم يكن في عياله، دون من كان تحت نفقته. وهناك قول آخر رجحه الحطاب أن الإجازة تلزم.
من الوارث الذي يجيز؟ العبرة بتحديد كونه وارثاً باتفاق المذاهب هو وقت موت الموصي، لا وقت إنشاء الوصية، فلو كان غير وارث عند الوصية، ثم صار وارثاً بأمر حادث وقت الموت، صارت الوصية موقوفة، ولو كان وارثاً عند إنشاء الوصية، ثم أصبح عند الموت غير وارث، بسبب حجبه مثلاً، كانت الوصية نافذة؛ لأن العبرة في الإرث وعدمه هو وقت وفاة الموصي؛ ولأن هذا الوقت هو أوان ثبوت حكم الوصية الذي هو ثبوت ملك الموصى به.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا أبا داود عن عمرو بن خارجة، وصححه الترمذي، ورواه الخمسة إلا النسائي أيضاً عن أبي أمامة (نيل الأوطار: 39/6-40) .
(2) رواهما الدارقطني، الأول عن ابن عباس، والثاني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار: 40/6) .
(3) القوانين الفقهية: ص 406، فتح العلي المالك: 322/1 وما بعدها.(10/193)
القائلون بمشروعية الوصية للوارث:
رأى الشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والإسماعيلية (1) : أن الوصية للوارث جائزة بدون توقف على إجازة الورثة، لظاهر قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ ـ إن ترك خيراً ـ الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/2] ونسخ الوجوب لا يستلزم نسخ الجواز. ورد عليهم بأن حديث ابن عباس صرح بنفي الجواز إلا إذا أجازت الورثة، وبأن الآية المذكورة منسوخة بالسنة، أو بآية الفرائض.
وأخذ قانون الوصية المصري لسنة 1946 (م 37) بهذا الرأي مخالفاً رأي جمهور الفقهاء. فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة. والتزم القانون السوري (م 2/238) برأي الجمهور وهو أن الوصية للوارث لا تنفذ إلا إذا أجازها الورثة.
مانعو الوصية للوارث مطلقاً: قال المزني والظاهرية (2) : لا تصح الوصية للوارث، ولو أجازها الورثة؛ لأن الله منع من ذلك، فليس للورثة أن يجيزوا ما أبطل الله على لسان رسوله، فإذا أجازوها، كان هبة مبتدأ منهم، لا وصية من الموصي؛ لأن المال حينئذ صار للورثة، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (3) فليس لهم إجازة الباطل، لكن إن أحبوا أن ينفذوا الوصية من مالهم باختيارهم، فلهم التنفيذ، ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاؤوا.
__________
(1) نيل الأوطار: 41/6، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 187، الفقه المقارن للأستاذ حسن أحمد الخطيب: ص 188.
(2) بداية المجتهد: 329/2، المحلى: 387/9، ف 1753.
(3) حديث متواتر متفق عليه عن أبي بكرة (سبل السلام: 71/3، 73) .(10/194)
المطلب الثالث ـ شروط الموصى به:
للموصى به شروط صحة وشرطا نفاذ.
أما شروط الصحة فهي ما يأتي (1) :
1 - أن يكون مالاً.
2 - متقوماً.
3 - قابلاً للتمليك.
4 - مملوكاً للموصي إذا كان معيناً.
5 - ألا يكون بمعصية.
وتفصيلها فيما يلي:
1ً - أن يكون الموصى به مالاً قابلاً للتوارث: لأن الوصية تمليك، ولا يملك غير المال.
والمال الموصى به يشمل الأموال النقدية من دراهم ودنانير، والعينية من عقارات ودور وأشجار وعروض تجارية وحيوان ولباس وأثاث ونحوها، والديون التي فيها ذمة الغير والحقوق المستحقة في الغنيمة، والحقوق المقدرة بمال وهي حقوق الارتفاق من مرور وشِرب ومسيل، والمنافع كسكنى الدار وزراعة الأرض وغلة البستان التي ستحدث في المستقبل وركوب الدابة أو السيارة ونحوها مما يصح بيعه وهبته.
والمنافع حتى عند الحنفية وإن كانت لا تورث عندهم، فإنه يصح التعاقد عليها حال الحياة، فيصح الإيصاء بها؛ لأن المقصود تمليك المنفعة بعد الموت.
وأما غير الحنفية فقالوا: تصح الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث، فكانت كالأعيان في الوصية.
وإذا لم يكن الموصى به مالاً كالدم والميتة وجلدها قبل الدباغ بطلت الوصية؛ لأنه ليس محلاً للملك. وأجاز الشافعية الوصية بجلد ميتة قابل للدباغ وميتة تصلح طعماً للجوارح.
__________
(1) البدائع: 352/7-356، تبيين الحقائق: 183/6، الدر المختار ورد المحتار: 459/5، الشرح الصغير: 580/4-581، المغني: 59/6، 64، الشرح الكبير: 423/4، القوانين الفقهية: ص 405، بداية المجتهد: 329/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 44/3-46، المهذب: 452/1، كشاف القناع: 407/4-418، غاية المنتهى: 313/2.(10/195)
2ً - أن يكون المال الموصى به متقوماً في عرف الشرع: أي يباح الانتفاع به شرعاً. فلا تصح الوصية من مسلم ولا لمسلم بمال غير متقوم، أي لا يجوز شرعاً الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب والسباع التي لا تصلح للصيد، لعدم نفعها وتقومها في نظر الإسلام. وتصح الوصية بها من مسيحي لمثله لتقومها في اعتقاده. ولا تجوز الوصية بما لا يقبل النقل كالقصاص وحد القذف وحق الشفعة.
ولا تصح الوصية لنائحة على ميت، ولا الوصية بلهو أو إعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، ولا الوصية لمن يصوم عنه أو يصلي عنه، وتصح الوصية مع الخلاف على قراءة القرآن على الميت.
وتجوز الوصية عند الحنفية بالكلب المعلم والسباع التي تصلح للصيد، لتقومها عندهم، ولأنها مضمونة بالإتلاف، ويجوز بيعها وهبتها.
وكذلك تصح الوصية عند الشافعية والحنابلة بما فيه نفع مباح من غير المال، ككلب صيد وكلب ماشية وكلب زرع وحرث ونحوها من السباع الصالحة للصيد؛ لأن فيها نفعاً مباحاً، وتقر اليد عليها، والوصية تبرع، فصحت في غير المال كالمال. وتصح الوصية بزيت متنجس لغير مسجد؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وهو الاستصباح به، ولا تصح الوصية به لمسجد؛ لأنه لا يجوز الاستصباح به فيه. وتصح الوصية عند الشافعية بنحو زبل ينتفع به كسماد، وبخمر محترمة: وهي ما عصرت بقصد الخلية لا بقصد الخمرية. وتصح أيضاً بطبل يحل الانتفاع به كطبل حرب: وهو ما يضرب به للتهويل، وطبل حجيج: وهو ما يضرب به للإعلام بنزول وارتحال. وتصح الوصية بإناء ذهب أو فضة؛ لأنها مال يباح الانتفاع به في غير حال الاستعمال بجعله حلياً للنساء أو ببيعه ونحوهما.
3ً - أن يكون قابلاً للتمليك وإن كان معدوماً وقت الوصية: أي أن يكون الموصى به مما يصح تملكه بعقد من العقود شرعاً أو بالإرث؛ لأن الوصية تمليك، وما لا يقبل التمليك لا يصح الإيصاء به.(10/196)
فتصح الوصية بعين ماله نقداً أو سلعة؛ لأنه يملك بالهبة أو بالبيع، وبمنفعة ماله كسكنى الدار وركوب الدابة؛ لأنها تملك بالإجارة. وبدينه الذي على فلان؛ لأن هذه في الحقيقة وصية بالعين، أي بالدراهم التي في ذمة المدين.
وتصح الوصية بما تثمر نخيله أبداً؛ لأن شراء المنتجات الزراعية قبل وجودها جائز شرعاً من طريق عقد السلم.
وتجوز الوصية بما في بطن بقرته أوغنمه؛ لأنه مما يملك بالإرث.
لكن لو أوصى بما ستلد أغنامه لا يجوز عند الحنفية؛ لأنه لا يقبل التمليك بعقد من العقود في الشريعة، فالذي يجيزه الحنفية إذن هو المعدوم المحتمل وجوده، ولا يشترط وجود الموصى به في الحال.
وقال الجمهور: تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً؛ لأنه يقبل التمليك في حال حياة الموصي بعقد المساقاة، فتصح الوصية به.
والذي أجازه الحنفية من الوصية بما يقبل التمليك، يشترط وجوده في المستقبل، لكن وقت وجوده يختلف عندهم بحسب نوع المال:
فإن كان المال معيناً بالذات كدار معينة ومزرعة معينة، فيشترط وجوده عند الوصية. وإن كان شائعاً في كل المال، كالوصية بثلث ماله أو ربعه، فالشرط وجوده عند موت الموصي؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية.
وإن كان شائعاً في بعض المال، كالوصية بثلث غنمه، فإن كان له غنم وقت الوصية، اشترط وجوده وقت الوصية، كالنوع الأول، وإن لم يكن له غنم أصلاً وقت الوصية، فهو كالشائع في كل المال، يعتبر فيه الموجود عند الموت؛ لأنه ليس شيئاً معيناً حتى تتقيد به الوصية.
والشرط عند الجمهور (غير الحنفية) بصفة عامة: وجود الموصى به وقت موت الموصي. أما دليل الجمهور القائلين بأنه تصح الوصية بالمعدوم مطلقاً كثمر البستان مدة معينة أو دائماً، وبما تحمل دوابه وأغنامه، فهو أن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية. وأما الحنفية الذين لم يجيزوا استحساناً الوصية بما ستلد أغنامه؛ فلأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد من العقود.(10/197)
واتفق الكل على أنه تجوز الوصية بالمجهول وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له.
واتفقوا على أنه تجوز الوصية بالمشاع والمقسوم؛ لأن الإيصاء تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع.
وهذا كله يدل على أن الوصية أوسع العقود كما قال الفقهاء.
4ً - أن يكون الموصى به مملوكاً للموصي عند إنشاء الوصية إذا كان معيناً بالذات؛ لأن الوصية بمعين إيجاب للملك في المعين، فلا بد من أن يكون مملوكاً له وقت الوصية، فالوصية بملك الغير لا تصح. فمن قال: وصيت بمال زيد، فلا تصح الوصية عند الجمهور، ولو ملك الموصي مال زيد بعد الوصية، لفساد الصيغة بإضافة المال إلى غيره.
أما القانون بالنسبة لشروط الموصى به السابقة: فقد نصت المادة العاشرة من قانون الوصية المصري على ما يلي:
1ً - أن يكون الموصى به مما يجري فيه الإرث أو يصح أن يكون محلاً للتعاقد حال حياة الموصي.
2ً - أن يكون متقوماً إذا كان مالاً.
3ً - أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات.
ونص القانون السوري (م 216) على أنه يشترط في الموصى به:
أـ أن يكون قابلاً للتمليك بعد موت الموصي، ومتقوماً في شريعته.
ب ـ أن يكون موجوداً عند الوصية في ملك الموصي إن كان معيناً بالذات.
ونصت المادة (217) على أنه: تصح الوصية بالحقوق التي تنتقل بالإرث، ومنها حق المنفعة بالعين المستأجرة بعد وفاة المستأجر.
ونصت المادة (218) على أنه: تصح الوصية بإقراض الموصى له قدراً معلوماً من المال، ولا تنفذ فيما زاد من هذا المقدار على ثلث التركة، إلا بإجازة الورثة.(10/198)
5ً - ألا يكون الموصى به معصية أو محرماً شرعاً: لأن القصد من الوصية تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان، فلا يجوز أن تكون معصية، وللمعصية أمثلة من كل مذهب: فمن أمثلة الحنفية (1) : الوصية بطعام تجتمع له النائحات بعد موته، أو بتطيين القبر، أو ضرب قبة أو تشييد بناء عليه، أو دفنه في داره، أو المغالاة في كفنه والوصية بقراءة على القبور أو في المنازل، فكل تلك الوصايا باطلة، لعدم جواز الاستئجار على قراءة القرآن. أما ما أفتى به المتأخرون، فهو ليس جواز الاستئجار على جميع الطاعات، وإنما جواز الاستئجار على ما تقضي به الضرورة وخشية الضياع، كالاستئجار لتعليم القرآن أو الفقه أو الأذان أو الإمامة خشية التعطل لقلة رغبة الناس في الخير، ولا ضرورة في استئجار شخص يقرأ على القبر أو غيره. ولو جاز الاستئجار على كل طاعة، لجاز على الصوم والصلاة والحج، مع أنه باطل بالإجماع ـ كما قال ابن عابدين.
وكل ما ذكر لا يمنع من التطوع بقراءة القرآن على القبور، فلو زار إنسان قبر صديق أو قريب له، وقرأ عنده شيئاً من القرآن، فهو حسن، أما الوصية بالقراءة فلا معنى لها.
لكن بطلان الوصية لتطيين القبر والقراءة مبني على القول بكراهة ذلك. والمختار عندهم عدم الكراهة.
هذا حكم الوصية بنفس المعصية وهو البطلان لعدم توافر كل من الوصية للصلة أو القرابة، أما الوصية لأهل الفسوق والمعصية فهي مكروهة، لبقاء معنى الصلة في الوصية.
ووصية المسلم لبِيعة أو كنيسة باطلة؛ لأنها معصية، ولو أوصى الذمي للبيعة أو للكنيسة أن ينفق عليها في إصلاحها، أو أوصى ليذبح لعيدهم جازت الوصية
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 458/5، 471، 488 وما بعدها، البدائع: 341/7.(10/199)
عند أبي حنيفة؛ لأن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم لا ما هو قربة حقيقية؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، وقال الصاحبان: الوصية بما ذكر باطلة؛ لأن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية، والوصية بالمعاصي لا تصح. والوصية بالمصاحف لتوقف في المسجد باطلة عند أبي حنيفة، صحيحة عند محمد. وإذا أوصى بفرش فراش تحته في قبره، فقيل: تصح كالزيادة في الكفن، وقيل: لا تصح لأنه ضياع مال من غير جدوى. وإذا أوصى بطلاء قبره بالجبس ونحوه، فقيل: إن كان لتقوية القبر وإخفاء الرائحة فيجوز، وإلا فلا. وإذا أوصى باتخاذ طعام في المآتم، فيصح بشرط أن يأكل منه المسافرون والبعيدون عن جهة المتوفى.
ومن أمثلة المعصية عند المالكية (1) : الإيصاء بمال يُشترى به خمر لمن يشربها، أو يُدفع لمن يقتل نفساً بغير حق، والإيصاء ببناء مسجد أو مدرسة في أرض موقوفة مقبرة، والإيصاء لمن يصلي عنه أو يصوم عنه، والإيصاء باتخاذ قنديل من ذهب أو فضة ليعلق في قبر نبي أو ولي ونحوه، فإنه من ضياع الأموال في غير ما أمر به الشارع، وللورثة أن يفعلوا به ما شاؤوا.
والوصية بنياحة عليه بعد موته، أو بلهو محرم في عرس أو بإعطاء مال على مالا يحل كقتل نفس، والوصية بضرب قبة على قبر، مباهاة، فكل ما ذكر تبطل الوصية به، ولا ينفذ، ويرجع ميراثاً.
والوصية ببناء قبة عليه، وهو ليس من أهلها، أو يوصي بإقامة مولد على الوجه الذي يقع في هذه الأزمنة من اختلاط النساء بالرجال، والنظر للمحرم ونحوه من المنكر. وكأن يوصي بكتابة جواب سؤال القبر وجعله معه في كفنه أو قبره.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 427/4، شرح الرصاع التونسي على حدود ابن عرفة: ص531.(10/200)
لكن أجاز المالكية الوصية لمن يقرأ على قبره، فإنها نافذة، كالوصية بالحج عنه، وتصح الوصية بالكفن والحمل والدفن والغسل ونحوها مما تصح الإجارة عليه، وتجوز الوصية للمسجد وينفق على مصالحه.
ومن أمثلة المعصية أو ما لا قربة فيه عند الشافعية (1) : الوصية للكنيسة، والوصية بالسلاح لأهل الحرب، أو ببناء موضع لبعض المعاصي كالخمارة، أو لمشاغب مفسد لإفساد التركة، فكل تلك الوصايا باطلة، لمنافاتها مقتضى ما شرعت له الوصية من البر وتدارك الحسنات.
ومن الوصايا الباطلة عند الشافعية والحنابلة (2) : الوصية بطبل لهو لا يحل الانتفاع به في حال الحرب ونحوها، أو بمزمار وطنبور وعود لهو، وكذا آلات اللهو كلها، ولو لم يكن فيها أوتار؛ لأنها مهيأة لفعل المعصية. والوصية بكتب السحر والتنجيم والتعزيم وكتب البدع المضلة؛ لأنها إعانة على معصية.
وتصح الوصية بعمارة المسجد ومصالحه، بشرط أن يقبل الناظر، وتصح الوصية بقراءة القرآن على القبر؛ لأن ثواب القراءة يصل إلى الميت إذا وجد واحد من ثلاثة أمور: القراءة عند قبره، أو الدعاء له عقب القراءة، أو نية حصول الثواب للميت.
ومن أمثلة المعصية أو الفعل المحرم سواء أكان الموصي مسلماً أم ذمياً عند الحنابلة: الوصية بما نهي عنه مما يعمل على القبور من بناء غير مأذون فيه، وهو ما زاد على شبر، والوصية ببناء كنيسة أو بيت نار للمجوس أو عمارتها أو الإنفاق عليهما. وتكون الوصية باطلة. لكن تصح الوصية للمسجد على أن تصرف في مصالحه، وتصح بكتابة العلم والقرآن؛ لأنه قربة نافعة.
__________
(1) المهذب: 451/1، مغني المحتاج: 40/3، حاشية الباجوري: 90/2.
(2) كشاف القناع: 407/4-413، غاية المنتهى: 363/2-365، المغني: 105/6.(10/201)
ما يشترط في الموصى به لنفاذ الوصية:
يشترط لنفاذ الوصية في الموصى به شرطان:
الحجر بسبب الدين المستغرق:
1ً - ألا يكون مستغرقاً بالدين: لأن الديون ـ كما تقدم ـ مقدمة في وجوب الوفاء لها على الوصية، بعد تجهيز الميت وتكفينه.
وتقديم الوصية في القرآن في آية: {من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:12/4] لا يدل على تقدمها في الرتبة عليه، وإنما هو للتنبيه إلى أهمية الوصية ووجوب تنفيذها من الورثة. فإن أجاز الغرماء (الدائنون) وصية المدين، نفذت، وإلا بطلت.
الوصية بالزائد عن الثلث:
2ً - ألا يكون الموصى به زائداً على ثلث التركة إذا كان للموصي وارث: لإجماع العلماء على وجوب الاقتصار في الوصية على الثلث، بمقتضى الثابت في السنة في حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم وغيره: «الثلث والثلث كثير» .
وتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على الإجازة، فإن أجاز الورثة الزائد عن الثلث لأجنبي، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت.
ولا تعتبر الإجازة إلا بالشرطين السابقين في الوصية للوارث: أن تكون بعد وفاة الموصي، وأن يكون المجيز من أهل التبرع عالماً بالموصى به. وإن أجاز بعضهم دون بعض نفذت في حصة المجيز فقط، وبطلت في حصة غيره.
أما إذا لم يكن للموصي وارث، فإن الوصية بأكثر من الثلث تكون عند الحنفية صحيحة نافذة، ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المانع من نفاذ الوصية في الزائد عن الثلث إنما هو تعلق حق الورثة بتلك الزيادة، فلا تنفذ إلابرضاهم. فإذا لم يكن هناك ورثة لم يبق حق لأحد.
وقال المالكية والشافعية: إذا أوصى بما زاد عن الثلث، فإن لم يكن له وارث، بطلت الوصية فيما زاد على الثلث؛ لأن ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم، فبطلت. وإن كان له وارث، كانت الوصية عند الشافعية والحنابلة (1) والحنفية موقوفة على إجازته ورده، فإن ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وإن أجازها صحت، وتكون الوصية بالزائد عن الثلث باطلة عند المالكية.
استحباب الوصية بما دون الثلث: الأولى ألا يستوعب الإنسان الثلث بالوصية، ويستحب أن يوصي بدون الثلث، سواء أكان الورثة أغنياء أم فقراء (2) ؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الثلث والثلث كثير» ولأن في التنقيص صلة القريب بترك ماله عليهم، بخلاف استكمال الثلث؛ لأنه استيفاء تمام حقه، فلا صلح ولا مِنَّة، وترك الوصية عند فقر الورثة وعدم استغنائهم بحصصهم أحبّ، كما بان في حكم الوصية شرعاً.
__________
(1) المهذب: 450/1، تكملة المجموع: 46/15 وما بعدها، الشرح الصغير: 586/4، المغني: 4/6-7، 12-15.
(2) المغني: 4/6، الكتاب مع اللباب: 169/4.(10/202)
المبحث الثالث ـ أحكام الوصية:
للحكم إطلاقات ثلاثة: يطلق الحكم، ويراد به إما الحكم التكليفي المتعلق بالفعل وجوباً وإباحة وغيرهما، أو حكم الشرع على الشيء بعد وجوده، أي الصفة الشرعية له صحة وبطلاناً، ونفاذاً ولزوماً وغيره، أو الأثر الشرعي المترتب على الشيء من حيث نقل الملكية وغيره. وقد بحثت حكم الوصية بالمعنى الأول، وأبحث هنا أحكامها بالمعنيين الأخيرين.
المطلب الأول ـ صفة الوصية شرعاً والرجوع عنها:
تكون الوصية صحيحة إذا استوفت شروط صحتها، وباطلة إذا تخلف منها شرط، كالوصية من عديم الأهلية مثل المجنون والمعتوه، والوصية لجهة معصية، والوصية بخمر أو خنزير لمسلم، وتكون نافذة إذا توافر فيها شروط النفاذ، وموقوفة على إجازة صاحب الحق، كالوصية لوارث أو بزائد عن الثلث لأجنبي.
واتفق الفقهاء (1) على أن الوصية عقد غير لازم، وأنه يجوز للموصي في حال حياته الرجوع عنها كلها أو بعضها، سواء وقع منه الإيصاء في حال صحته أو مرضه؛ لقول عمر رضي الله عنه: «يغير الرجل ما شاء في وصيته» (2) ولأنها عطية أو تبرع لم يتم، ينجز بالموت، فجاز الرجوع عنها قبل تنجيزها، ولأن القبول يتوقف على الموت، والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع.
__________
(1) اللباب: 178/4 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 438/8-441، الدر المختار: 465/5 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406، الشرح الصغير: 587/4، مغني المحتاج: 71/3-72، المغني: 67/6-68، المهذب: 461/1 وما بعدها، كشاف القناع: 386/4-389، تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي على الزيلعي: 186/6 وما بعدها.
(2) رواه البيهقي.(10/203)
واتفقوا أيضاً على أن الرجوع عن الوصية يكون إما بالقول الصريح، أو بالدلالة أو ما يجري مجرى الصريح قولاً أو فعلاً.
ومن أمثلة الرجوع الصريح: أن يقول الموصي: نقضت الوصية أو أبطلتها أو رجعت فيه، أو فسختها أو أزلتها، ونحوها من الصرائح.
ومن أمثلة مايجري مجرى الصريح أن يقول: هو حرام على الموصى له، أو هذا لوارثي. أو يقوم بتصرف في الموصى به يدل على رجوعه كالبيع والإصداق، والهبةوالرهن مع قبض أم لا، واستهلاك الشيء كذبح الشاة الموصى بها أو كلها، وخلط الموصى به بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وطحن حنطة وعجن دقيق وغزل قطن ونسج غزل، وقطع ثوب قميصاً، وصوغ معدن من ذهب أو فضة، وبناء وغراس في ساحة..
إلا أن المالكية لا يعتبرون الفعل أو التصرف رجوعاً إلا إذا ذهب بجوهر الموصى به وحقيقته أو كان استهلاكاً له، أو دل دليل على أن الموصي قصد به الرجوع عن الوصية، فهم يوافقون الجمهور في الرجوع بصريح القول، وبالفعل الاستهلاكي من أكل وذبح وإحراق، ولكنهم لا يعتبرون رجوعاً: خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة متصلة، وحصد الزرع الموصى به ودرسه بدون تذرية على المعتمد؛ لأنه لم يزل عنه اسم الزرع. فالخلط المذكور وزيادة الموصى به لا تعد رجوعاً عند المالكية خلافاً لغيرهم.(10/204)
ويعتبر عند الحنفية رجوعاً في الأصح المفتى به كما في الذخيرة والمبسوط وهو قول أبي يوسف: جحود الوصية أي إنكارها بأن قال الموصي: لم أوص؛ لأن إنكاره الوصية دليل على عدم رضاه عنها، وهو ينبئ عن قصده الرجوع فيها. ولا يعد الجحود عند محمد (1) والشافعية والحنابلة رجوعاً عن الوصية؛ لأنها عقد، فلا تبطل بالجحود كسائر العقود.
ويعد التوكيل في البيع والعرض على البيع أو الرهن أو الهبة، وبناء وغرس الأرض الموصى بها وانهدام الدار كلها أو بعضها رجوعاً عند الشافعية والحنابلة، ولا يعد رجوعاً عندهم زرع الأرض بما لا تبقى أصوله كلبس الثوب، كما لا يعتبر رجوعاً بالاتفاق خلط الموصى به بحيث لا يعسر تمييزه عن بعضه كخلط الحنطة بالفاصولياء، ولبس الثوب الموصى به وغسله، والسكنى في المكان الموصى به، وإجارته أو إعارته، وتحسينه كالتجصيص وإعادة بناء السقف.
الرجوع عن الوصية في القانون:
فرق القانون بين الوصية الاختيارية والوصية الواجبة، فاعتبر الوصية الواجبة لازمة بمجرد إنشائها، بل ولو لم ينشئها، أما الوصية الاختيارية فلا تلزم إلا بموت الموصي.
ونص قانون الوصية المصري (م 18، 19) وقانون الأحوال الشخصية السوري (فقرة د/م220، و/م221، 222) على مبدأ الرجوع عن الوصية وحالاته.
وافق هذا القانون اتفاق الفقهاء على جواز الرجوع عن الوصية صراحة أو دلالة، كما وافق اتفاقهم على حالات الرجوع الصريح، وعلى ما يعتبر رجوعاً عن الوصية من كل فعل أو تصرف يدل بقرينة أو عرف على الرجوع عنها، ما لم يصرح بأنه لم يقصد الرجوع. ويعد من الرجوع دلالة: كل تصرف يزيل ملك الموصي عن الموصى به، واستهلاك الموصى به كأكل أو ذبح.
وأخذ القانون بالمذهب المالكي في عدم اعتبار خلط الشيء بغيره خلطاً يعسر تمييزه، وزيادة الموصى به زيادة لا يمكن تسليمه إلا بها كزيادة غرفة أو حمام أو مطبخ إلا بدلالة قرينة أو عرف على الرجوع، وأخذ برأي الجمهور (غير الحنفية) بعدم اعتبار الجحود (أي إنكار الوصية) رجوعاً. وليس من الرجوع قانوناً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية.
__________
(1) وهو مختار صاحب الهداية، وهو ما أخذ به القانون.(10/205)
المطلب الثاني ـ الأثر المترتب على الوصية:
عرفنا في بحث صيغة الوصية أنه يترتب على الوصية ثبوت الملك للموصى له في الموصى به، من الوقت الذي حدده الموصي لابتداء الملكية إن حدد ميعاداً، أما إن لم يحدد ميعاداً: فإن كانت الوصية لجهة عامة ترتب الأثر بالفعل من وقت وفاة الموصي.
وإن كانت الوصية لشخص معين ترتب الأثر بالفعل عند الجمهور غير الحنابلة من وقت القبول بعد وفاة الموصي مستنداً إلى تاريخ الوفاة، ومن وقت القبول فقط عند الحنابلة كما تقدم. فإن لم يقبل الموصى له، لم يتملك الموصى به، وعاد إلى ملك الورثة. ونص القانون السوري (م/230) والمصري (م/25) على استحقاق الموصى به من حين الموت، ما لم يحدد نص الوصية ثبوت الاستحقاق في وقت معين. وتكون زوائد الموصى به حين الموت ملكاً للموصى له، وعلى الموصى له نفقة الموصى به منذ استحقاقه له.(10/206)
المطلب الثالث ـ أحكام الموصي:
بناء على ما ذكر في شروط الوصية، أفضل الكلام في حكم وصية المدين وغير المسلم.
وصية المدين:
تنشأ وصية المدين صحيحة، ولو كان الدين مستغرقاً لجميع ماله؛ لأن تعلق الدين بالتركة إنما يكون عند الوفاة، وعند الوفاة يظهر أثر الدين في الوصية (1) .
أـ فإن كانت التركة مدينة بدين مستغرق: كان تنفيذ الوصية موقوفاً على براءة ذمة الموصي من كل الدين أو من بعضه، سواء أكانت براءته بسبب إسقاط الدائنين لحقوقهم أم إجازتهم الوصية، أم بتبرع شخص آخر بأداء الدين عن المدين.
وإذا برئت ذمة المدين من كل الدين، كانت الوصية نافذة في ثلث جميع التركة، وإذا برئت من بعض الدين دون البعض، كانت الوصية نافذة في ثلث ما أبرئ منه، وغير نافذة في الباقي.
ب ـ وإن كانت التركة مدينة بدين غير مستغرق: فإن الوصية تكون نافذة بدون توقف على إجازة أحد في الثلث الخالي من الدين؛ لأنه لم يتعلق به حق لأحد.
ووافق القانون المصري (م 38، 39) والسوري (م 3/238، 4) على هذه الأحكام المأخوذة من الفقه الحنفي وغيره، فلا تنفذ وصية المدين المستغرق ماله بالدين إلا بإجازة الدائن كامل الأهلية أوبسقوط الدين. وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له، بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد.
وصية غير المسلم:
تصح الوصية من المسلم وغيره؛ لأنها نوع من البر، وهو مرغوب فيه في كل الأديان. وتجوز كما تقدم وصية المسلم للكافر، والكافر للمسلم، فليس الإسلام شرطاً لصحة الوصية، فتصح وصية الذمي بمال للمسلم وللذمي، وبالعكس (2) ، للمبدأ الشرعي المعروف: «فإذا قبلوا عقد الذمة، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين» (3) . ونص القانون السوري (م1/215) والمصري (م2/3) على أنه تصح الوصية للأشخاص مع اختلاف الدين والملة بينهم وبين الموصي.
وغير المسلم يشمل الذمي والحربي والمرتد.
1 - وصية الذمي (4) :
اتفق الفقهاء على جواز وصيته: لأنه من أهل التمليك، ويملك التصرف بماله كما يشاء بالبيع والهبة والوصية ونحوها.
وتكون وصيته كالمسلم جائزة نافذة في حدود ثلث التركة، ولا تنفذ في الزائد عن الثلث، مراعاة لحق الورثة.
__________
(1) الوصية للأستاذ الشيخ عيسوي: ص 63، ط الأولى.
(2) الدر المختار: 463/5، 492، الكتاب مع اللباب: 151/4، 169، البدائع: 136/7، 335، 341، الشرح الصغير: 581/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 184/6، تكملة الفتح: 430/8، المغني: 104/6، مغني المحتاج: 43/3، كشاف القناع: 390/4.
(3) حديث صحيح رواه مسلم وغيره عن بريدة.
(4) الذمي: هو غير المسلم المواطن في دار الإسلام بصفة دائمة.(10/207)
وله أن يوصي لذمي مثله، أو مستأمن، أو مسلم، وليس له عند الحنفية أن يوصي لحربي في دار الحرب، لما في الوصية من إعانة وتقوية للأعداء.
وتصح وصيته عند الحنفية لكل جهة هي قربة في اعتقاده، إلا إذا كانت محرَّمة في شريعته وشريعة الإسلام، أو كانت قربة في شريعة الإسلام دون شريعته.
والذي هو قربة في الشريعتين: الوصية للفقراء وعمارة بيت المقدس وبناء مسجد لمسلمين معينين.
وما هو قربة في شريعته دون شريعة المسلمين: الوصية ببناء كنيسة، أوبإطعام خنزير لفقراء ملته.
وما هو قربة في شريعة المسلمين دون شريعته: الوصية ببناء مسجد لمسلمين غير معينين.
وما هو محرم في الشريعتين: الوصية باتخاذ أندية للقمار أو المراقص.
وتصح الوصية عند أبي حنيفة في الحالتين الأوليين؛ لأن المعتبر ما هو قربة عنده لا ما هو قربة حقيقة؛ لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية، ولا تصح في الحالتين الأخريين.
وأخذ القانون المصري والسوري بهذه الأحكام ما عدا الوصية بما هو قربة في شريعة المسلمين، كبناء مسجد لمسلمين غير معينين، فقد جوزها القانون أخذاً بمذهب الشافعية.(10/208)
2 - وصية الحربي (1) :
تصح الوصية للحربي ومن الحربي مستأمناً كان أو في دار الحرب عند الشافعية والحنابلة، ولا تصح له حال كونه في دار الحرب وتصح له إذا كان مستأمناً عند الحنفية، ولا تصح له مطلقاً عند المالكية.
وأجاز القانون أخذاً برأي الشافعية والحنابلة الوصية للحربي، إذا كانت دولته تبيح الوصية للموصي، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل. ويصح من وصاياه ما تجيزه قوانين بلاده، ويبطل ما لا تجيزه.
أما المستأمن: فحكمه عند الحنفية حكم الذمي، فتصح الوصية له، ومنه لمسلم أو ذمي. فإن كان ورثته معه في دار الإسلام، فلا تنفذ وصيته بأكثر من الثلث إلا بإجازتهم في الزائد. وإن كان ورثته في دار الحرب فتنفذ وصيته في المال كله، إذ لا حق للورثة في ماله بسبب اختلاف الدارين، واختلاف الدارين يمنع التوارث.
أما القانون: فأجاز التوارث مع اختلاف الدارين بشرط المعاملة بالمثل، فيجوز إن أجازت دولته التوارث، ولا يجوز إن منعت دولته التوارث. وعليه لا تنفذ وصاياه في الزائد على الثلث إلا بإجازة الورثة.
3 - وصية المرتد (2) :
تصح وصية المرتد في غير محرَّم شرعاً عند المالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن وصية الكافر للمسلم صحيحة، والمرتد كافر. والمحرم شرعاً كانتفاع المسلم بالخمر والخنزير. لكنهم قالوا: تكون موقوفة؛ كبقية تصرفاته من معاوضات وتبرعات؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فإن عاد إلى الإسلام نفذت، وإن مات أو قتل لردته بطلت، تغليظاً عليه بقطع ثوابه، بخلاف وصية المريض.
وفرق الحنفية بين المرأة والرجل، فقالوا: تصح وصايا المرأة، وتكون نافذة، كما تصح جميع تصرفاتها؛ لأنها لا تقتل عندهم بسبب الردة.
أما الرجل المرتد: فوصيته موقوفة، فإن عاد إلى الإسلام ومات عليه نفذت وصاياه كجميع تصرفاته، وإن مات على الردة بطلت وصاياه وتصرفاته جميعها.
وأخذ القانون بمذهب الجمهور.
__________
(1) الحربي: هو غير المسلم التابع لدولة غير إسلامية، والمستأمن: هو غير المسلم الداخل دار الإسلام بأمان مؤقت. أما المسلم سواء في بلاد الإسلام أم في غيرها فلا يعتبر حربياً، ولا مستأمناً؛ لأن بلاد الإسلام كلها وطن واحد.
(2) المرتد: من ترك دين الإسلام إلى دين آخر أو إلى غير دين. وحكمه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولا تقتل المرتدة عند الحنفية.(10/209)
المطلب الرابع ـ أحكام الموصى له:
الموصى له إما أن يكون متحقق الوجود عند الوصية، أو مرجح الوجود عندها كالحمل، أو أن يكون معدوماً. والموجود إما شخص طبيعي أو جهة عامة.
وأبحث هنا حكم الوصية للجهات العامة، وللحمل، وللمعدوم، ولجماعة محصورين أو غير محصورين.
1 - حكم الوصية للجهات العامة:
اتفق الفقهاء (1) على صحة الوصية لجهة عامة كالمساجد ومدارس العلم والمشافي والمكتبات والملاجئ ونحوها، سواء أكان الموصى به عيناً كمكتبة، أم منفعة كأجرة دار أو محل تجاري، بنحو دائم أو مؤقت (2) .
ويصرف الموصى به بحسب شرط الموصي إذا لم يصادم مقاصد الشريعة، فإن لم يوجد شرط من الموصي يصرف على إصلاح وعمارة الجهة الموصى لها إنشاء
__________
(1) البدائع: 341/7، الدر المختار: 470/5 وما بعدها، 492، الشرح الصغير: 581/4، مغني المحتاج: 42/3، كشاف القناع: 398/4، غاية المنتهى: 358/2-359.
(2) أصل المذهب الحنفي: أن الوصية بشيء للمسجد لا تجوز؛ لأنه لا يملك، لكن جوزها الإمام محمد ابن الحسن، وبقوله يفتى (الدر المختار: 492/5) .(10/210)
وترميماً وخدمة من إمام ومؤذن في المسجد، وشؤون المتعلمين في دور العلم؛ لأن العرف يحمله على ذلك، ويصرفه القيِّم في أهم مصالح الجهة باجتهاده؛ لأن قصد المسلم من هذه الوصية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بإخراج ماله إلى الله تعالى، لا التمليك إلى أحد، ولا تصرف في الأصح لفقراء المسجد.
وكذلك تصح الوصية لأعمال البر (1) مطلقاً من غير تحديد جهة معينة، وتصرف في أي جهة خيرية، كعمارة الوقف وسراج المسجد، دون تزيينه لأنه إسراف.
وتصح الوصية في سبيل الله، وتصرف للجهاد ومتطلباته، ويجوز صرفها لحاج منقطع.
ولو قال: أوصي بثلث مالي لله تعالى، صح عند محمد وهو المفتى به عند الحنفية، وتصرف لوجوه البر؛ لأنه وإن كان كل شيء لله تعالى، لكن المراد التصدق لوجهه تعالى، تصحيحاً لكلامه بقرينة الحال.
ونص القانون المصري (م 7، 8) والقانون السوري (م 213، 214) على وفق المقرر لدى الفقهاء من الأحكام المذكورة:
(م 213) : 1 - الوصية لله تعالى ولأعمال البر بدون تعيين جهة: تصرف في وجوه الخير.
2 - الوصية لأماكن العبادة والمؤسسات الخيرية والعلمية وسائر المصالح العامة: تصرف على عمارتها ومصالحها وفقرائها وغير ذلك من شؤونها، ما لم يتعين المصرف بعرف أو قرينة.
(م 214) - تصح الوصية لجهة معينة من جهات البر ستوجد في المستقبل، فإن تعذر وجودها، صرفت الوصية إلى أقرب مجانس لتلك الجهة.
__________
(1) قال في الفتاوى الظهيرية: كل ما ليس فيه تمليك فهو من أعمال البر.(10/211)
الوصية بالحج: تصح الوصية بالحج اتفاقاً؛ لأنه من أعمال البر.
قال الحنفية (1) : إذا أوصى بحجة الإسلام، أحج عنه رجلاً راكباً من بلده إن كفته النفقة، وإلا فمن حيث تكفي؛ لأن المستطيع لا يلزم أن يحج ماشياً، فوجب عليه الإحجاج على الوجه الذي لزمه وهو من بلده، ولذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده. ولو قال رجل: أنا أحج عنه ماشياً لا يجزي المحجوج عنه. ولو كان في المال المدفوع وفاء بنفقات الركوب، فمشى النائب، واستبقى النفقة لنفسه، فهو مخالف ضامن للنفقة؛ لأنه لم يحصل ثوابها له.
وإن مات حاج في طريقه، وأوصى بالحج عنه، يُحَج من بلده راكباً، وهو المعتمد، ومن حيث مات استحساناً إن كفته نفقته، وإلا فمن حيث تكفي.
ومن لا وطن له يحج عنه من حيث مات إجماعاً.
وتصح الوصية بحج التطوع: ومن قال: أحجوا عني بثلث مالي أو بألف، وهو يكفي حججاً، فإن صرح بحجة واحدة اتبع التصريح، ورد الفضل الزائد إلى الورثة، وإن لم يصرح، حج عنه حججاً بأشخاص في سنة واحدة، وهو الأفضل، أو في كل سنة. وآخر القولين لأبي حنيفة: أن حج النفل أفضل من الصدقة.
وقال الشافعية (2) : حجة الإسلام وإن لم يوص بها، تحسب على المشهور من رأس المال، كسائر الديون وأولى، فإن أوصى بها من رأس المال، أو من الثلث، عمل به، ويكمل الواجب من رأس المال، كما لو قال: اقضوا ديني من الثلث، فلم يف الثلث به. وإن أطلق الوصية بحجة الإسلام، بأن لم يقيدها برأس مال ولا ثلث، فمن رأس المال. ويحج عنه من الميقات المخصص لبلده؛ لأنه لو كان حياً، لم يلزمه سواه، ولا يخرج من مال المحجوج عنه إلا ما كان مستحقاً عليه. فإن أوصى أن يحج عنه من دويرة أهله امتُثل. وإن أوصى بالحج من الثلث، وعجز عنه، فمن حيث أمكن.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 469/5، الكتاب مع اللباب: 177/4.
(2) مغني المحتاج: 67/3، المهذب: 454/1.(10/212)
وللأجنبي أن يحج عن الميت بغير إذنه في الأصح، سواء حجة الإسلام وعمرته، أو حجة النذر وعمرته، من مال نفسه، وإن لم تجب على الميت حجة الإسلام وعمرته قبل موته لعدم استطاعته.
وتصح الوصية في الأظهر بحج تطوع أو عمرة تطوع، لجواز النيابة فيه؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة في فرضها، فتدخل النيابة في نفلها، كأداة الزكاة. ويُحَج عن الميت من بلده أو الميقات، إن وسعه الثلث، وإلا فمن حيث أمكن، وإن لم يقيد الموصي بل أطلق الوصية بالحج عنه، يحج عنه من الميقات في الأصح، حملاً على أقل الدرجات.
وقال الحنابلة (1) : تخرج حجة الفريضة من رأس المال، ولو لم يوص بها، كما قال الشافعية، وإن أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه تطوعاً بألف، صرف من الثلث مؤنة حجة بعد أخرى لمن يحج عنه راكباً أو راجلاً، يدفع الوصي لكل واحد قدر ما يحج به من النفقة حتى نهاية الألف؛ لأن الميت وصى بجميعه في جهة قربة، فوجب صرفه فيها، كما لو وصى به في سبيل الله. ولا يجوز أن يدفع
إلى واحد أكثر من نفقة المثل؛ لأنه أطلق التصرف في المعاوضة، فاقتضى عوض المثل، كالتعويض في البيع والشراء.
فلو لم تكف الألف للحج، حج به من حيث يبلغ؛ لأن الموصي قد عين صرفه ذلك في الحج، فصرف فيه بقدر الإمكان.
ولا يصح للوصي أن يحج بالألف؛ لأنه منفِّذ، كالتوكيل في التصدق، لا يصح للمأمور أن يأخذ منه شيئاً.
ولا يصح أيضاً للوارث أن يحج بالألف؛ لأن ظاهر كلام الموصي جعله لغيره. فإن عين الموصي أن يحج عنه الوارث بالنفقة، جاز.
ويجزئ الحج عن الموصي في هذه الحالة من الميقات عملاً بأدنى الحالات، والأصل عدم وجوب الزائد.
وإن قال: حجوا عني بألف، ولم يقل: واحدة، لم يحج عنه إلا حجة واحدة، وما فضل للورثة.
__________
(1) كشاف القناع: 399/4-402، غاية المنتهى: 359/2.(10/213)
وإن قال: حجوا عني بألف، دفع الألف إلى من يحج عنه حجة واحدة عملاً بمقتضى وصيته، وتنفيذاً لها. فإن عين الموصي أحداً في الوصية، فقال: يحج عني فلان حجة بألف، فهو وصية له، فإن حج أعطي الألف قبل التوجه، وإن أبى الحج بطلت في حقه، ويحج عنه بأقل ما يمكن من النفقة، والبقية للورثة في فرض ونفل. ولا يعطى المال إلا أيام الحج احتياطاً للمال، ولأنه معونة في الحج، فليس مأذوناً فيه قبل وقته.
وللنائب الموصى به تأخير الحج لعذر كمرض ونحوه. ولو قال الشخص: حجوا عني حجاً، ولم يذكر قدراً من المال، دفع إلى من يحج قدر نفقة المثل فقط؛ لأن الإطلاق لا يقتضي الزيادة عليه.
ولو وصى بثلاث حجج إلى ثلاثة، صح صرفها في عام واحد.
فإن تلف المال في الطريق بيد النائب، فهو من مال الموصي غير مضمون على النائب؛ لأنه مؤتمن كالوديع، وليس على النائب في حال تلف المال إتمام الحج.
والوصية بالصدقة بمال أفضل من الوصية بحج التطوع، بعكس الحنفية؛ لأن صدقة التطوع أفضل من الحجة.
2 - الوصية للحمل:
بينت في بحث الشروط أن الوصية تصح بالحمل وللحمل إذا تحقق وجوده وقت الوصية (1) ، فالوصية بالحمل: كما إذا أوصى ـ في الماضي ـ بما في بطن جاريته، ولم يكن منه، لكن بشرط أن يعلم أنه موجود في البطن وقت الوصية، بأن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية. ومثاله اليوم: الوصية بما في بطن الفرس أو الشاة أو الناقة.
والوصية للحمل: مثل أن يقول: أوصيت بثلث مالي لما في بطن فلانة، بشرط علمه بوجوده وقت الوصية على النحو السابق.
اتفق الفقهاء على صحة الوصية للحمل بعين أو بمنفعة؛ لأن الوصية كالميراث ينتقل الملك فيها بالخلَفية، والحمل يرث، فيصح أن يوصي له.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 462/5، تكملة فتح القدير: 434/8، الشرح الصغير: 581/4، مغني المحتاج: 40/3 وما بعدها، المهذب: 451/1 وما بعدها، المغني: 56/6 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 182/4، الوصية للمرحوم عيسوي: ص 77.(10/214)
ويشترط في صحة الوصية للحمل عند الجمهور غير المالكية ما يأتي:
1ً - أن يثبت وجوده في بطن أمه عند إنشاء الوصية: فإن لم يثبت وجوده، كانت الوصية باطلة. ولم يشترط المالكية هذا الشرط؛ لأنه تصح الوصية عندهم لمن سيكون من حمل موجود أو سيوجد.
والتحقق من وجود الحمل وقت إنشاء الوصية يكون عند الحنفية بما يأتي:
أـ إذا أقر الموصي بوجود الحمل وقت الوصية، وجاءت به أمه لأقل من سنتين من وقت الوصية، سواء أكانت زوجة أم معتدة من طلاق أو وفاة.
ب ـ فإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لأقل من ستة أشهر من تاريخ الوصية إذا كانت الأم زوجة أو معتدة من طلاق رجعي، أي بأن كان زوجها حياً؛ لأن هذه المدة أقل مدة الحمل شرعاً، فإن جاءت به لستة أشهر فأكثر، فلا تصح الوصية.
وإن كان زوجها ميتاً اشترط أن يولد حياً لأقل من سنتين من يوم الوفاة، أو الفرقة إذا كانت معتدة من وفاة أو فرقة بائنة، بدليل ثبوت نسبه، أي إذا جاءت به في تلك المدة ثبت نسبه من أبيه.(10/215)
أما الشافعية والحنابلة: فوافقوا الحنفية في الحالة الأولى، فصححوا الوصية للحمل وبالحمل إذا أتت به أمه لأقل من ستة أشهر منذ التكلم بالوصية، إذا كانت ذات زوج. وخالفوا الحنفية في الحالة الثانية فيما إذا لم تكن الأم ذات زوج، فصححوا الوصية للحمل إذا انفصل حياً لأربع سنين من تاريخ الوصية، فإذا ولد لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة، وأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، لم تصح الوصية له، لاحتمال حدوثه بعد الوصية. والحاصل أنه يحكم بوجود الحمل باتفاق المذاهب الثلاثة إذا ولد لستة أشهر من تاريخ الوصية، ويحكم بوجوده عند الحنفية لسنتين من حين الفرقة، وفي المذهبين الآخرين لأربع سنين من تاريخ الفرقة.
2ً - أن يولد حياً حياة مستقرة بظهور علامات الحياة من بكاء وصراخ وشهيق ونحوها من الخبرة الطبية باتفاق المالكية والشافعية والحنابلة، وهوما أخذ به القانون المصري (م 35) والسوري (م 236) وعند الحنفية أن يولد أكثره حياً. وتوقف غلة الموصى به منذ وفاة الموصي إلى أن ينفصل الحمل حياً، فتكون له (1) .
3ً - أن يوجد على الصفة التي عينها الموصي: فإذا كانت الوصية لحمل من شخص معين، اشترط لصحة الوصية أن يثبت نسب الحمل شرعاً من الشخص المعين. وهو مذهب الشافعية الذي أخذ به القانون.
تعدد الحَمْل:
إذا ولدت المرأة أكثر من ولد في وقت واحد، أو في وقتين بينهما أقل من ستة أشهر، كانت الوصية لهم جميعاً إذا ولدوا أحياء، ويقسم الموصى به بينهم بالتساوي. وإن ولد أحدهما حياً والآخر ميتاً، كانت الوصية للحي دون الميت. وإن مات أحدهما بعد ولادته حياً، كان نصيبه لورثته إذا كان الموصى به عيناً كدار، لأنه ملكها ملكاً تاماً، وإن كان منفعة عادت إلى ورثة الموصي؛ لأن الوصية بالمنافع تنتهي بالموت، مالم يوجد شرط آخر، فيعمل به (2) .
أما القانون (المصري م 35، والسوري م 236) فإنه عدل عن المقرر فقهاً في كيفية التحقق من الحمل:
__________
(1) م 2/236، م 2/35 مصري.
(2) م 237 سوري، م 36 مصري.(10/216)
ففي حالة إقرار الموصي بوجود الحمل: أن يولد لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من تاريخ الإيصاء، عملاً برأي محمد بن عبد الحكم المالكي، فإنه جعل أقصى مدة الحمل سنة قمرية، وبما قرره الأطباء من أن الحمل لا يمكث أكثر من سنة شمسية.
وإذا لم يوجد إقرار بالحمل: اشترط أن يولد حياً لـ (270) يوماً في القانون المصري، ولتسعة أشهر فأقل في القانون السوري من حين الوصية، إذا كانت الحامل زوجة أو معتدة من طلاق رجعي. وهذا أخذ بالغالب في مدة الحمل شرعاً.
واشترط أن يولد حياً لسنة شمسية (365 يوماً) فأقل من حين وجوب العدة، إذا كانت المرأة معتدة لوفاة أو فرقة بائنة.
3 - الوصية للمعدوم:
يرى الجمهور (1) غير المالكية أن الوصية للمعدوم: (وهو من لم يكن موجوداً حين الوصية، وسيوجد بعد وفاة الموصي) باطلة؛ لأن من شرائط الموصى له كونه موجوداً وقت الوصية إذا كان معيناً بالاسم أو بالإشارة مثل: أوصيت لخالد، أو لهذا، فلا تصح الوصية لمن سيكون أو لميت؛ لأن الوصية تمليك، فلا تصح للمعدوم، بخلاف الموصى به؛ فإنه يملك فلم يعتبر وجوده؛ ولأن الوصية كالميراث، ولا يرث المتوفى إلا من كان موجوداً، فكذلك الوصية.
فإن كان الموصى له معرَّفاً بالوصف كطلبة العلم، اشترط وجوده وقت وفاة الموصي.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 459/5، 462، مغني المحتاج: 40/3، المغني: 58/6.(10/217)
أما المالكية (1) : فأجازوا الوصية للمعدوم وهو أن يوصى لميت علم الموصي بموته حين الوصية، وتصرف في وفاء ديونه ووصاياه، ثم لوارثه إن لم يكن عليه دين، فإن لم يكن وارث بطلت الوصية، ولاتعطى لبيت المال. وأخذ القانون المصري والسوري (2) بهذا الرأي، تعميماً للانتفاع بالوصية وتحقيقاً لرغبات الموصين في إيصال الخير وبر الناس.
أحكام الوصية للمعدوم في القانون:
تصح الوصية قانوناً للمعدوم، كقوله: أوصيت لمن سيولد لخالد، ولما يشمل الموجود والمعدوم كقوله: أوصيت لأولاد خالد، أي الموجود منهم أو من سيوجد.
وتكون الوصية للمعدوم إما بالأعيان أو بالمنافع، ولكلٍ أحكام في تنفيذ الوصية.
1 ًً) ـ الوصية بالأعيان للمعدوم ممن يحصون:
إذا كانت الوصية بالأعيان كدار أو أرض لقوم يحصون: وهم مئة فأقل، كانت غلة الموصى به ملكاً لمن وجد من الموصى لهم عند وفاة الموصي، إلى أن يوجد غيرهم، فإذا وجد غيرهم شاركهم فيما سيكون من غلة تلك العين.
ومتى صارت الرقبة والغلة ملكاً للموصى لهم، فإنها تقسم على الأحياء منهم والأموات، ويكون نصيب من مات منهم لورثته من بعده، يقسم بينهم قسمة الميراث (3) .
وإن لم يوجد أحد من المستحقين عند وفاة الموصي، تكون غلة الموصى به لورثة الموصي. وعند اليأس من وجود أحد من المستحقين ـ كأن يموت خالد الموصى لأولاده دون أن يترك ولداً ـ تكون العين الموصى بها ملكاً لورثة الموصي (4) .
2 ً) ـ الوصية بالمنفعة للمعدوم ممن يحصون:
أما إن كانت الوصية بالمنفعة لهؤلاء، فإن ملكية الرقبة تكون لورثة الموصي في كل حال، وليس للموصى لهم سوى المنفعة.
فإذا وجد واحد من الموصى لهم عند وفاة الموصي أو بعده استحق جميع الغلة، وإن وجد آخر اشترك معه فيما سيكون من الغلة، وهكذا حكم من سيوجد.
وإن لم يوجد أحد من الموصى لهم تكون الغلة ملكاً لورثة الموصي (5) .
وإذا انقرض بعض الموصى لهم وبقي البعض الآخر، تكون الغلة لمن بقي منهم، ما لم يكن في الوصية ما يفيد غير ذلك، كأن يصرح الموصي بعودة نصيب الميت إلى ورثة الموصي (6) .
__________
(1) الشرح الكبير: 426/4، القوانين الفقهية: ص 405، المهذب: 451/1.
(2) م 26-28 مصري، م 231 سوري.
(3) الفقرة 2 من المادة 231 سوري.
(4) الفقرة 1 من المادة 231 سوري.
(5) الفقرة 3 من المادة 231 سوري.
(6) م 38 مصري.(10/218)
3 ً) ـ الوصية بالمنفعة للطبقات:
أجاز القانون المصري (م 29) الوصية بالمنفعة للطبقتين الأوليين فقط من ذرية الموصى له، وتبطل فيما زاد عليهما. واعتمد القانون في حالة الجواز على مذهب
المالكية، وفي حالة البطلان على رأي ابن أبي ليلى الذي يمنع الوصية بالمنافع مطلقاً.
وحصر القانون السوري (م 1/232) الوصية للذرية لطبقة واحدة، كيلا تنقلب الوصية إلى وقف ذُرِّي (أهلي) وهذا ملغى قانوناً، فإذا انقرضت الطبقة الأولى من أولاد فلان الموصى لذريته، عادت العين تركة للموصي، إلا إذا كان قد أوصى بها أو ببعضها لغيرهم (1) .
والسبب في نفرة القانون من استمرار الوصية للطبقات: هو ضعف الأنصبة عند تكاثر الذرية، وهذا يؤدي إلى الإهمال والنزاع بين المستحقين وخراب الأعيان الموصى بمنفعتها.
ونص القانون المصري في المادة نفسها على أنه إذا كانت الوصية مرتبة الطبقات، كالوصية لأولاد عامر، ثم من بعدهم لأولادهم، فتصرف الغلة لأهل الطبقة الأولى بحسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس. وعند انقراضها تصرف للطبقة الثانية.
وإذا كانت الوصية غير مرتبة الطبقات، فإن الغلة توزع على من يوجد من الطبقتين على حسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، فعلى عدد الرؤوس، فإن انقرضوا جميعاً، عادت المنفعة إلى ورثة الموصي.
4 - الوصية لجماعة محصورين:
اتفق الفقهاء على صحة الوصية لقوم محصورين: إما بالاسم، مثل أحمد وخالد وعلي، أو بالإشارة كالوصية لهؤلاء، أو بالوصف مثل طلاب العلم من أولاد فلان، أو المرضى من عائلته، أو بالجنس كبني فلان وهم يحصون.
__________
(1) الوصية لعيسوي: ص 74-76، الوصية للدكتور مصطفى السباعي: ص 117.(10/219)
أولاً ـ فإن كانت الوصية لمعينين بأسمائهم، قسمت عليهم بحسب نص الموصي، فإن لم يوجد نص، قسمت على عدد الرؤوس بالتساوي (1) . ومن مات منهم بعد الاستحقاق، كان نصيبه لورثته إن كان الموصى به عيناً، ولباقي الموصى لهم إن كان الموصى به منفعة؛ لأن المنافع عند الحنفية لا تورث.
وإذا بطلت الوصية لبعض المعينين بموته مثلاً: فالمقرر لدى الحنفية أن من دخل في الوصية ثم خرج منها لفقدان شرط أو لزوال أهلية، رجع نصيبه إلى ورثة الموصي.
وإن كان لم يدخل في الوصية أصلاً قسم نصيبه على من بقي من الموصى لهم.
ويتحدد وقت الدخول في الوصية عند إنشاء الوصية إن كان الموصى له معيناً بالاسم أو الإشارة، ووقت وفاة الموصي إن كان معرفاً بالوصف أو بالجنس.
لكن القانون المصري (م 33) أخذ بمذهب الشافعية في حال بطلان الوصية، فقضى في الوصية لمعينين: أن يعود إلى تركة الموصي ما أوصى به لمن كان غير أهل للوصية حين وفاة الموصي، سواء أكان قد صح الإيجاب له ثم مات قبل الموصي، أم لم يصح الإيجاب له من أول الأمر.
ثانياً ـ وإن كانت الوصية لمحصورين معروفين بالوصف أو الجنس: فيقسم الموصي به لهم على حسب نص الموصي، وإلا فعلى عدد الرؤوس، كما في الحالة الأولى.
وإن مات واحد منهم بعد استحقاق الوصية، كان الموصى به تركة لورثته إن كان عيناً. فإن كان منفعة كان نصيبه عند الحنفية لباقي الموصى لهم؛ لأن المنافع لا تورث عندهم، كما ذكر في الحالة الأولى.
وإذا بطلت الوصية لبعض الموصى لهم كموته موت الموصي، أو رده الوصية بعد موته، وزع الموصى به على الباقين، وهذا هو المقرر في القانونين المصري (م31) والسوري (م 234) .
__________
(1) الوصية للأستاذ عيسوي: ص 83.(10/220)
كيفية توزيع الوصية المشتركة:
الوصية المشتركة: هي أن يكون الموصى له مجموعاً مشتركاً من معين وجماعة محصورة، وجماعة غير محصورة، وجهة بر، كالوصية بثلث ماله لخالد، ولأولاده الأربعة، وللفقراء، وللمستشفى.
نص القانون المصري (م 32) والسوري (م 235) على كيفية توزيع الثلث الموصى به، بأن تقسم الوصية في هذا المثال سبعة أسهم، ويعتبر لكل معين ولكل فرد من أفراد الجماعة المحصورين ولكل جماعة غير محصورة ولكل جهة برّ سهم، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده، سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم. وبه اعتبر لفظ «الفقراء» كشخص واحد، أخذاً برأي الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف (1) .
وقال الشافعية (2) : لو أوصى لزيد والفقراء، فالمذهب أنه كأحدهم في جواز إعطائه أقل شيء متموَّل.
__________
(1) وقال محمد: لهم سهمان (الدر المختار: 477/5، البدائع: 343/7) ومنشأ الخلاف: هل يصدق اللفظ بواحد أو لا يصدق إلا باثنين.
(2) مغني المحتاج: 62/3.(10/221)
وقال الحنابلة (1) : لو أوصى لزيد وللفقراء، قسم بين زيد والفقراء نصفين، نصف له ونصف للفقراء.
هذا إذا كان أولاد خالد حين وفاة الموصي أربعة، فإن ولد له بعدئذ خامس، أخذ قانوناً بمبدأ الوصية لما يشمل الموجود والمعدوم (م 231 سوري) وهو المستمد من مذهب المالكية، فيوزع الموصى به ثمانية أسهم، وهكذا يزداد عدد الأصل الموزع منه، حتى اليأس من وجود أولاد آخرين، فيعطى لخالد سهم، ولكل ولد من أولاده سهم، وللفقراء سهم، وللمستشفى سهم.
5 - الوصية لجماعة غير محصورين:
أذكر رأي المذاهب هنا ببيان كل مذهب على حدة:
يرى الحنفية (2) : أنه يشترط أن يكون الموصى له معلوماً، فتكون الوصية لمجهول باطلة؛ لأن الوصية تمليك عند الموت، فلا بد من أن يكون الموصى له معلوماً في ذلك الوقت حتى يقع الملك له، ويمكن تسليم الموصى به إليه.
وبناء عليه: لا تصح الوصية مثلاً بثلث ماله للمسلمين؛ لأن المسلمين لا يحصون، إلا إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم، كأن يوصي للفقراء والمساكين واليتامى والمحاربين ومشوهي الحرب؛ لأن الوصية حينئذ تكون صدقة وقربة إلى الله تعالى، والله سبحانه واحد معلوم، فيقع المال لله عز وجل، ثم يتملك الفقراء بتمليك الله تعالى لهم، وإن كانوا لا يحصون.
ومن لا يحصى أو غير المحصورين في رأي محمد من الحنفية المفتى به والمعمول به في المحاكمة الشرعية: هم الأكثر من مائة، فإن كانوا مائة فأقل، فهم يحصون.
ومصرف الوصية في غير المحصورين: هم أهل الحاجة منهم، ولا يلزم الصرف إلى جميعهم، ولا تعميم المحتاجين جميعاً، ولا التسوية بينهم في العطاء، بل تقسم بحسب اجتهاد منفذ الوصية.
وإذا كانت الوصية لمن لا يحصون بالأموال، فإنها توزع على المحتاجين، وتثبت لهم ملكيتها بالقبض.
وإن كانت بالمنافع تصير وقفاً، وتوزع غلتها على من اتصف بصفة الوصية.
ورأى المالكية (3) : أنه تصح الوصية لقوم غير معينين كالفقراء، ويدخل معهم المساكين (4) وبالعكس، عملاً بالعرف، أي أن الفقير والمسكين إذا افترقا اجتمعا في الحكم، وإذا اجتمعا افترقا، فهما لفظان غير مترادفين. وهذا أيضاً مذهب الأئمة الآخرين.
وذهب الشافعية والحنابلة (5) : إلى أنه تصح الوصية لغير معين: بأن أوصى لجهة عامة كالفقراء، أو لمعين غير محصور كالهاشمية والمطلبية. ويجوز عند الشافعية الاقتصار في التوزيع على ثلاثة منهم، ولا تجب التسوية بينهم، ويجوز عند الحنابلة الاقتصار على واحد.
واتفق الكل على أن الوصية لغير معين، تلزم بدون حاجة إلى القبول.
__________
(1) كشاف القناع: 406/4.
(2) البدائع: 343/7.
(3) الشرح الكبير: 432/4، الشرح الصغير: 591/4.
(4) المسكين عندهم: من لا يملك شيئاً، والفقير: من يملك شيئاً لا يكفيه قوت عامه.
(5) مغني المحتاج: 53/3، 61-62.(10/222)
والخلاصة: أن الحنفية أجازوا الوصية لقوم غير محصورين إذا كان في لفظ الوصية ما ينبئ عن حاجة الموصى لهم. والجمهور أجازوا ذلك مطلقاً.
وقد عدل القانون المصري (م 30) والسوري (م 1/233) عن مذهب الحنفية في الوصية لمن لا يحصى، فأجازها، وإن لم يذكر في لفظ الوصية مايفيد الاحتياج؛ لأن معنى القربة موجود في الوصية على كل حال، سواء صرح الموصي بذلك أم لا. وأخذ بما اتفقوا عليه في نهاية المادة إذ نص على أنه: يترك أمر توزيعها بينهم لاجتهاد من له تنفيذ الوصية دون التقيد بالتعميم أو المساواة.
المقصود ببعض ألفاظ الموصى لهم في الوصية لقوم مخصوصين:
أورد الفقهاء بعض العبارات التي ترد في الوصايا وتتعلق بالموصى لهم، فما المراد بها عندهم (1) .
الجيران: من أوصى لجيرانه: فهم الملاصقون له عند أبي حنيفة؛ لأن الجوار عبارة عن القرب، وحقيقة ذلك في الملاصق، وما بعده بعيد بالنسبة إليه. وقال الصاحبان استحساناً: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي، ويجمعهم مسجد المحلة. وقول الإمام هو الصحيح عند الحنفية.
وقال المالكية: تشمل الوصية جيرانه الملاصقين له من الجهات الست (الأربع والعلو والسفل) والجيران المقابلين له إذا كان بينهما شارع صغير.
وقال الشافعية والحنابلة: هم أربعون داراً من كل جانب من جوانب الدار الأربعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجار: أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا» (2) . وتقسم الوصية على عدد الدور لا على عدد السكان. ولا يدخل في الوصية عند الحنابلة إلا من كان موجوداً عندها، فمن يتجدد من الجيران بين الوصية والموت لا يدخل فيها، وكذلك لا يستحق من يتجدد عن تنفيذ الوصية.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 179/4-180، الشرح الصغير: 591/4-592، مغني المحتاج: 58/3-64، كشاف القناع: 398/4-404، المهذب: 455/1 وما بعدها.
(2) رواه أحمد.(10/223)
وجيران المسجد عند الحنابلة وفي قول عند الشافعية: من يسمع النداء، لحديث «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (1) ، مع قوله صلّى الله عليه وسلم للأعمى لما سأله أن يرخص له في الصلاة في بيته: «هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب» (2) والراجح عند الشافعية أن جيران المسجد كجيران الدار فيما لو أوصى لجيرانه.
الأصهار والأختان: من أوصى لأصهاره: فالوصية في عرف المتقدمين لكل ذي رحم محرم من امرأته، كآبائها وأعمامها وأخوالها وأخواتها. وأما في عرفنا فيختص بأبويها. وجزم بعضهم بالأول، والمعول في تقديري على العرف.
ومن أوصى لأختانه: فالختن: زوج كل ذات رحم محرم منه، كأزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته.
وكان المشهور في ديارنا الشامية: أن يختص الصهر بأبي الزوجة، والختن: بزوج البنت، أما اليوم فيطلق على زوج البنت، وهو مرادف لكلمة الختن.
الأقارب والأرحام: من أوصى لأقربائه أو لأرحامه: فالوصية عند أبي حنيفة للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه سواء الكافر والمسلم والصغير والكبير، ولا يدخل فيهم الوالدان والولد؛ لأنهم لا يسمون أقارب، ومن سمى والده قريباً كان منه عقوقاً؛ لأن القريب من تقرب بوسيلة غيره، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره. وتكون الوصية للاثنين فصاعداً؛ لأنه ذكر بلفظ الجمع، وأقل الجمع في الوصية اثنان، كما في الميراث.
والخلاصة: يراد بالأقرب من توافرت فيه شروط أربعة: هي أن يكون المستحق مثنى (اثنين فأكثر) ، وأن يكون المستحق أقرب إلى الموصي بحيث لا يوجد من يحجبه، وأن يكون ذا رحم محرم من الموصي، وألا يكون وارثاً من الموصي.
__________
(1) حديث ضعيف رواه الدارقطني عن جابر وأبي هريرة.
(2) رواه مسلم.(10/224)
وقال المالكية: يختص في الوصية للأهل والأرحام من الموصي أقارب أبيه غير الورثة، إن كان له ذلك، لشبه الوصية بالإرث من حيث تقدم العصبة على ذوي الأرحام. وإن لم يكن للموصي أقارب لأب غير ورثة، دخل في الوصية أقارب لأمه كأبيها وعمها لأبيها أو لأمها وأخيها وابن عمتها. ويقدم الأحوج فالأحوج منهم، فإن استووا في الحاجة سوي بينهم في الإعطاء.
وإن قال: أوصيت لأقارب فلان، شمل الوارث منهم لفلان وغير الوارث.
وقال الشافعية: إن وصى لأقارب زيد، دخل كل قرابة له، وإن بعد، عملاً بعموم اللفظ مسلماً كان أو كافراً، غنياً أو فقيراً، إلا الأصل (أي الأب والأم فقط) والفرع (أولاد الصلب فقط) فلا يدخلان في الأصح، ـ كما قال الحنفية ـ إذ لا يسمون أقارب عرفاً، أما الأجداد والأحفاد فيدخلون لشمول الاسم لهم.
ولا تدخل قرابة أم في الوصية للأقارب في وصية العرب في الأصح، إذا كان الموصي عربياً، فإنهم لا يفتخرون بها ولا يعدّونها قرابة. والمعتمد أن هذه القرابة تدخل، كما قال الحنفية.
والأصح تقديم ابن على أب، وأخٍ على جد؛ لأنه أقوى إرثاً وتعصيباً. ولا يرجح بذكورة ووراثة، بل يستوي الأب والأم والابن والبنت. ويقدم ابن البنت على ابن ابن الابن. ولو أوصى لأقارب نفسه، لم تدخل ورثته في الأصح، كما ذكر المالكية، لأن الوارث لا يوصى له غالباً عملاً بعرف الشرع، فيختص بالباقين.
ومذهب الحنابلة كالشافعية إلا أنهم قالوا: لا يدخل في الوصية للقرابة أو أهل القرابة الكفار، فهي للمسلمين خاصة، ولا شيء للكفار، لقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/4] فلم يدخل فيه الكفار إذا كان الميت مسلماً، وإذا لم يدخلوا في وصية الله تعالى مع عموم اللفظ، فكذلك في وصية المسلم، ولأن ظاهر حاله أنه لا يريد الكفار، لما بينه من عداوة الدين، وعدم الوصلة المانع من الميراث ووجوب النفقة على فقيرهم.(10/225)
الأهل: إذا أوصى لأهله، فأبو حنيفة يخص الأهل بالزوجة؛ لأن الأهل حقيقة في الزوجة، قال تعالى: {وسار بأهله} [القصص:29/28] {فقال لأهله: امكثوا} [طه:10/20] ويؤيده العرف. وقال الصاحبان: يشمل الأهل كل من في نفقته ما عدا خدمه؛ لأن اللغة تستعمل الأهل في أقارب الرجل وعشيرته، قال تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته} [النمل:57/27] . والأولى الاعتماد على العرف.
آل بيته: إذا أوصى بكذا لآل بيته، شمل قبيلته؛ لأن الآل هو القبيلة التي ينسب إليها، ويدخل فيها كل آبائه الذين لايرثون إلى أقصى أب له في الإسلام إلا الأب الأول ـ الأصل، فليس من أهل بيته. ولا يدخل فيها أولاد البنات وأولاد الأخوات وقرابة الأم؛ لأن الولد ينسب لأبيه، لا لأمه.
أهل جنسه: إذا أوصى لأهل جنسه، شمل أهل بيت أبيه؛ لأن المراد بالجنس في مثله النسب، والنسب إلى الآباء.
العلويون: إذا أوصى للعلويين وهم أولاد علي: فلا تصح الوصية عند الحنفية؛ لأن العلويين لا يمكن حصرهم، وليس فيه ما يشعر بالحاجة.
وقال الشافعية: تصح الوصية وتنفذ بقسمة الموصى به على ثلاثة منهم فأكثر، كالوصية على الفقراء والمساكين. وهكذا تنفذ الوصية في كل جمع معين غير منحصر، تقسم بين ثلاثة منهم.
وقال الحنابلة: يستحب تعميم من أمكن منهم.
في سبيل الله: المشهور في الوصية في سبيل الله اختصاصها بالغزاة المجاهدين وحجاج بيت الله الحرام.
العلماء: قال الشافعية: العلماء في الوصية لهم: أصحاب علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه ونحوهم، ولا يدخل في علماء الشرع: المقرئ والأديب والمعبر للرؤيا والطبيب والمهندس والحاسب ونحوهم، وكذا علماء الكلام عند الأكثرين؛ لأن أهل العرف لا يعدونهم منهم. ويكفي عند الشافعية لتنفيذ الوصية أن تصرف لثلاثة من أهل كل علم.
وقال الحنابلة: إذا أوصى لأهل العلم شملت الوصية من اتصف به، وأهل القرآن: حفظته.
مراحل الإنسان: يراد بالمراهق: هو الطفل الذي قارب البلوغ، جاء في القاموس، راهق الغلام: قارب الحلم. ويراد بالطفل: من لم يميز.
والصبي والغلام واليافع: من لم يبلغ. وكذا اليتيم، فمن أوصى لأيتام بني فلان بكذا، دخل في الوصية اليتيم الذي مات أبوه قبل بلوغ الحلم، سواء أكان غنياً أم فقيراً ذكراً أم أنثى، بشرط أن يحصى عددهم عند الحنفية. والشاب والفتى: من البلوغ إلى الثلاثين.
والكهل: من الثلاثين إلى الخمسين.
والشيخ: من الخمسين إلى السبعين. ثم الهرم إلى آخر العمر.(10/226)
المطلب الخامس ـ أحكام الموصى به:
عرفنا في شروط الموصى به: أنه يشترط أن يكون مالاً أو متعلقاً بالمال؛ لأن الوصية إيجاب الملك أو إيجاب ما يتعلق بالملك من البيع والهبة والصدقة.
ويخصص البحث هنا لبيان حكم الوصية بمعين أو بجزء شائع، الوصية بالمعدوم أو معجوز التسليم، الوصية بالمجهول، الوصية بالمنافع، الوصية بالتصرف في عين، الوصية بالحقوق، الوصية بتقسيم التركة، الوصية بالمرتبات، الزيادة في الموصى به.
1 - الوصية بمعين أو بجزء شائع وحكم هلاك الموصى به:
تجوز الوصية بالمشاع وبالمقسوم المعين؛ لأنها تمليك جزء من ماله، فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع (1) . والمعين إما عين بذاتها أو نوع من المال.
وورد في القانون المصري (م 47-49) والقانون السوري (م 243-245) بيان أحكام الوصية بمعين أو بمشاع، وماذا يترتب على هلاك الموصى به أو استحقاقه، أخذاً من مذهب الحنفية في الغالب (2) .
أـ فإذا كانت الوصية بعين بذاتها: كأن يوصي بداره في بلد كذا، تعلقت الوصية بهذه العين، فإذا هلكت أو استحقت أو خرجت عن ملك الموصي في حياته، بطلت الوصية، لفوات محلها.
__________
(1) المهذب: 452/1.
(2) الوصية لعيسوي: ص 88-1، الوصية للسباعي: ص 123.(10/227)
وإن مات الموصي وهي في ملكه، كانت جميعها للموصى له، إن خرجت من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث كان له منها مايخرج من الثلث.
وإن تعلق بها حق خاص ـ كحق المرتهن ـ واستوفى دينه منها، كان للموصى له أن يرجع بقيمتها من التركة.
ب ـ إذا كانت الوصية بنوع من أمواله: كغنمه أو أفراسه أو دوره، فهلكت أو استحقت، بطلت الوصية أيضاً؛ لأن الوصية تعلقت بنوع معين من المال وقت الإيصاء، وقد زال من الوجود، فبطلت لفوات محل الوصية.
جـ ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في شيء معين بذاته: كالوصية بنصف دار معينة، تعلقت الوصية بهذا الجزء من تلك العين، فإذا هلكت جميعها، أو استحقت، بطلت الوصية، لفوات محلها. وإن هلك بعضها أو استحق، أخذ الباقي إن كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه مقدار مايخرج من الثلث.
د ـ إذا كانت الوصية بجزء شائع في نوع معين من أمواله: كأن يوصي بربع أغنامه أو بنصف دوره، تعلقت الوصية بالموجود عند إنشاء الوصية، فإن هلك جميعه أو استحق، أخذ نصف الباقي حال الوصية بالنصف إذا كان يخرج من الثلث، وإلا أخذ منه بمقدار الثلث.
وتكون الوصية قانوناً بعدد شائع كخمس من أفراسه، كالوصية بحصة شائعة فيه، فإذا هلك بعضها، كان له خمس الباقي، وهو أخذ برأي ابن الماجشون من المالكية. أما الحنفية فقالوا: لو لم يبق إلا الخمس أي القدر المسمى، فإنه يأخذه، إذا كان يخرج من الثلث.(10/228)
2 - الوصية بالمعدوم أو بمعجوز التسليم (1) :
تصح الوصية عند الجمهور غير الحنفية بالمعدوم كأن يوصي بما تحمله الجارية أو الشجرة؛ لأن المعدوم يجوز أن يملك بعقد السلم أو المساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ولأن الوصية احتمل فيها وجوه من الغرر، رفقاً بالناس وتوسعة، فتصح بالمعدوم كما تصح بالمجهول، وتصح بما يعجز عن تسليمه كآبق وشارد وطير بهواء ولبن بضرع.
وقال الحنفية: إن كان الموصى به معدوماً، فلا بد من أن يكون قابلاً للتمليك بعقد من العقود، فلا تجوز الوصية استحساناً بما تلد أغنامه؛ لأنه لا يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة. وتصح الوصية بما تثمر نخيله هذا العام أو أبداً، وإن كان الموصى به معدوماً؛ لأنه يقبل التمليك حال حياة الموصي بعقد المساقاة (المعاملة) فالوصية بالمعدوم جائزة اتفاقاً، وإن اختلفوا في بعض الأمثلة.
وتجوز الوصية اتفاقاً بما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلثه، كما يخلفه الوارث في ثلثه، فلما جاز أن يخلف الوارث الميت في هذه الأشياء، جاز أن يخلفه الموصى له. لكن قال الحنفية: لا تصح الوصية بما في البطن والضرع، وبما على الظهر من الصوف، وبما سيحدث من اللبن والولد؛ لأنه يشترط وجود الموصى به عند موت الموصي، فلو مات الموصي ولم يكن الموصى به موجوداً وقت موته، بطلت الوصية. أما في الوصية بالثمرة فليس وجودها عند موت الموصي بشرط استحساناً؛ لأن اسم الثمرة يقع على الموجود، والحادث، والحادث منها يحتمل دخوله تحت عقد المعاملة والوقف. أما الولد والصوف ونحوهما فلا تدخل تحت عقد من العقود ولا يجري فيه الإرث، فلا يدخل تحت الوصية، لأن الوصية إنما تجوز فيما يجري فيه الإرث أو فيما يدخل تحت عقد من العقود في حال الحياة، والحادث من الولد وأمثاله لا يجري فيه الإرث، ولا يدخل تحت عقد من العقود، فلا يدخل تحت الوصية.
والخلاصة: أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما سيحدث، وأجازها الجهمور.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 459/5، 462، 491، البدائع: 354/7، الشرح الصغير: 581/4، المهذب: 452/1، المغني: 59/6، كشاف القناع: 407/4 وما بعدها، غاية المنتهى: 363/2.(10/229)
3 - الوصية بالمجهول:
اتفق الفقهاء على اشتراط كون الموصى له معلوماً، أي معيناً، إما بالشخص كزيد، أو بالنوع كالمساكين، فلو قال: أوصيت بالثلث لفلان أو فلان، بطلت للجهالة.
واتفقوا أيضاً على عدم اشتراط كون الموصى به معلوماً، فتجوز الوصية بالمجهول (1) ، كالوصية بجزء أو سهم من ماله؛ لأن الوصية تبرع محض، فلا تضر فيها الجهالة بالمتبرع به. ومثل الشافعية والحنابلة للوصية بالمجهول: بالحمل في البطن واللبن في الضرع وخادم أو عبد من عبيده. وقد عرفنا أن الحنفية لا يجيزون الوصية بما في البطن أو باللبن في الضرع.
فإن بيَّن الموصي في حال حياته مراده من هذه الألفاظ، عمل به.
وإن مات قبل أن يبين، بيَّن الورثة عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة، وأعطوا الموصى له ما شاؤوا، في الوصية بجزء؛ لأن الورثة قائمون مقام الموصي، فإليهم البيان. أما في الوصية بسهم من ماله: فيعطى الموصى له أقل سهام الورثة زائداً على الفريضة بحيث لا يزيد على السدس، فله في الحد الأدنى السدس.
وقال المالكية: يعطى الموصى له المجهول سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة، فيدخل الضرر على الجميع.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 176/4-177، تكملة الفتح: 443/8-446، الدر المختار: 474/5، البدائع: 356/7 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406، المهذب: 452/1، غاية المنتهى: 363/2-364، 372، كشاف القناع: 407/4، مغني المحتاج: 44/3-45، 58، الشرح الصغير: 599/4.(10/230)
4 - الوصية بالمنافع:
يثير هذا البحث معرفة أمور عديدة: هي المقصود بالمنافع، وهل تعتبر المنافع أموالاً، وحكم الوصية بالمنافع، وتقدير المنفعة، وطريق الانتفاع بالمنفعة، وكيفية استيفاء المنفعة المشتركة، وانتهاء الوصية بالمنفعة، وملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها، ونفقة العين الموصى بمنفعتها (1) .
أـ المقصود بالمنافع:
تطلق المنفعة في رأي الحنفية على الخدمة وسكنى الدار وغلتها، وعلى غلة الأرض والبستان وثمرته، والغلة: هي كل ما يحصل من ريع الأرض وكرائها (2) وأجرة الغلام ونحوها.
وفرق الحنفية بين الوصية بالغلة والوصية بالثمرة، فقالوا: يدخل في تعبير الغلة ما كان موجوداً عند وفاة الموصي وما سيحدث منها مدة حياة الموصى له.
أما الثمرة: فتشمل فقط الموجود عند وفاة الموصي. ويظهر أن سبب التفرقة بينهما هو العرف.
أما غير الحنفية: فلم يفرقوا بين الغلة والثمرة، وأن كلاً منهما يشمل الموجود عند وفاة الموصي وما يحدث بعدئذ.
أما القانون المصري (م55) والسوري (249) فإنه اختار مذهب الجمهور، فجعل الوصية بالثمرة كالوصية بالغلة، تشمل الموجود وقت موت الموصي وما سيحدث، ما لم تدل قرينة على خلاف ذلك.
ووسع القانون ـ كما جاء في مذكرته التفسيرية ـ معنى المنافع، فأراد بالمنافع ما ذكره الحنفية، وهو أنها تشمل المنافع المحضة للعين كسكنى الدار وزرع الأرض، وبدلها كأجرة الدار والأرض، وما يخرج منها كثمرة البستان والشجر.
وتشمل الوصية بالمنافع كل ما ذكر، وتشمل أيضاً قانوناً الوصية بالتصرف في عين، والوصية بالإقراض، والوصية بالحقوق، والوصية بتقسيم التركة، والوصية بالمرتبات.
__________
(1) انظر البدائع: 352/7 وما بعدها، 386، الدر المختار ورد المحتار: 489/5-491، تكملة الفتح: 480/8-485، تبيين الحقائق: 105/5، 121، 234، الشرح الكبير: 445/4، مغني المحتاج: 64/3-65، المهذب: 452/1، 455، المغني: 59/6-61، غاية المنتهى: 366/2.
(2) الكراء: الأجرة.(10/231)
ب ـ هل تعد المنافع أموالاً ذات قيمة؟
للفقهاء رأيان في الحكم:
مذهب الحنفية: ليست المنافع أموالاً متقومة بنفسها، وإنما تصير استحساناً مالاً متقوماً بالعقد عليها كالإجارة والوصية؛ لأن المال عندهم ما يقبل الإحراز والادخار لوقت الحاجة، والمنافع أعراض متجددة، تكسب زمناً فزمناً، وبعد اكتسابها لا يبقى لها وجود، فلا يمكن إحرازها. وتتقوم بالعقود لورود النص وجريان العرف به. وإذا لم تعتبر المنفعة مالاً فهي ملك؛ لأن الملك ما يتصرف فيه بوصف الاختصاص. ومذهب الجمهور: المنافع أموال متقومة مضمونة كالأعيان؛ لأن الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها.
والقانون أخذ برأي الجمهور، وأفتى متأخرو الحنفية باعتبار المنافع أموالاً متقومة، وإن لم يرد عليها عقد في ثلاثة أنواع:
المال المعدّ للاستغلال (1) ، والأوقاف، وأموال الأيتام، وقد بحثت هذا الموضوع في الإجارة والغصب والضمان.
حـ ـ حكم الوصية بالمنافع من حيث الجواز وعدمه:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز الوصية بالمنافع؛ لأنها كالأعيان في تمليكها بعقد المعاوضة والإرث، فصحت الوصية بها كالأعيان، حتى إن الحنفية الذين لايعتبرون المنافع أموالاً أجازوا الإيصاء بها؛ لأنه يصح تمليكها في حال الحياة ببدل، ويكون العقد إجارة، وبغير بدل ويكون العقد إعارةً، فكذا بعد الممات بالوصية، كما في الأعيان.
وتخرج من ثلث المال، فإن لم تخرج من الثلث أجيز منها بقدر الثلث.
د ـ تقدير المنفعة:
عرفنا أن الوصية تنفذ من ثلث التركة، فإذا كانت بالأعيان قدرت الأعيان بنفسها وخرجت من الثلث. وأما إن كانت بالمنافع، فكيف تقدر المنفعة؟ للفقهاء رأيان:
الأول ـ للحنفية والمالكية: هو النظر إلى الأعيان التي أوصي بمنفعتها أياً
__________
(1) هو ما اشترى أو بني للاستغلال أو توالت إجارته ثلاث سنين فأكثر.(10/232)
كانت مدة الانتفاع، فإن كانت رقابها (ذواتها) تخرج من الثلث، جازت ونفذت، وإن لم تخرج من الثلث، نفذ منها بقدر الثلث فقط، وتوقف الزائد على إجازة الورثة. فالمعتبر عندهم قيمة العين الموصى بمنفعتها، لا قيمة المنفعة مستقلة. فإذا أوصى شخص بمنفعة داره، وكان لا يخرج من ثلث التركة إلا نصف هذه الدار، كان للموصى له منافع نصف الدار فقط.
والدليل على رأيهم: أن الوصية بالمنافع يترتب عليها منع العين الموصى بمنفعتها عن الوارث، وتفويت المقصود منها، وهو الانتفاع بها، والمقصود من الأعيان منفعتها، فإذا بقيت العين على ملك الوارث، صارت بمنزلة العين التي لا منفعة لها، فوجب أن يخرج الممنوع منفعته ـ وهو العين ـ من ثلث المال.
والثاني ـ للشافعية والحنابلة (1) : أن الوصية بالمنفعة تقدر بقيمة المنفعة الموصى بها في مدة الوصية؛ لأنها هي الموصى بها.
إلا أن الحنابلة قالوا: إن كانت الوصية مقيدة بمدة معلومة، قدرت بقيمة المنفعة نفسها في تلك المدة. وإن كانت الوصية مطلقة في الزمان كله، ففيها قولان في المذهب:
أحدهما ـ كما في المذهب الحنفي والمالكي: تقوَّم الرقبة (الذات) بمنفعتها، وتخرج من الثلث.
والثاني ـ تقوم الرقبة على الورثة، والمنفعة على الموصى له، فإذا كانت قيمة الشيء كله مائة، وقيمة الرقبة وحدها عشرة، علمنا أن قيمة المنفعة تسعون.
__________
(1) انظر المذكرة التفسيرية للقانون المصري في بيان المادة 62، 63، فقالت: الفقرة الأولى من المادة 62 مأخوذة من مذهب الحنفية، وباقي المادة مأخوذ من مذهب الشافعي.(10/233)
أما القانون المصري (م62) والسوري (م253) فقد أخذ برأي تفصيلي من مجموع الرأيين وهو قريب الشبه بمذهب الحنابلة، فقضى بأن المنفعة إن كانت مؤبدة أو مطلقة، أو لمدة حياة الموصى له، أو لمدة تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمة العين الموصى بكل منافعها أو ببعضها. وهذا موافق للرأي الأول وللقول الأول عند الحنابلة في الوصية المطلقة؛ لأن أمل الورثة في الانتفاع بالعين معدوم أو بعيد التحقق.
وإن كانت الوصية بالمنافع لمدة لا تزيد على عشر سنين، فإنها تقدر بقيمةالمنفعة الموصى بها في هذه المدة. وهذا موافق لرأي الشافعية، ولرأي الحنابلة في الوصية المقيدة؛ لأن الأمل في عودة العين إلى الورثة قريب التحقق.
وإن كانت الوصية بحق من الحقوق كحق الشِرْب أو حق المرور أو حق التعلي، قدر المنفعة (في المادة 63 مصري) بالفرق بين قيمة العين محملة بالحق الموصى به، وبين قيمتها بدونه، والفرق بين القيمتين هو الوصية. وهذا موافق للقول الثاني في الوصية المطلقة لدى الحنابلة، وهو مذهب الشافعية.
هـ ـ طريق الانتفاع بالمنفعة:
للانتفاع طريقان:
أحدهما ـ الاستغلال المشروع: بأن يؤجر مالك منفعة العين الموصى له بمنفعتها لغيره في مقابل أجرة يأخذها منه لنفسه.
والثاني ـ الاستعمال الشخصي: بأن يستوفي هو المنافع بنفسه. وطريق الانتفاع بالمنفعة الموصى بها يختلف بحسب نص الوصية: فإن لم تكن الوصية مقيدة بنوع خاص من الانتفاع، كان للموصى له باتفاق الفقهاء أن ينتفع على الوجه الذي يختاره، إما بالاستعمال الشخصي بأن يسكن الدار أو يزرع الأرض بنفسه، وإما بالاستغلال: بأن يؤجر الدار والأرض لغيره، وينتفع بالأجرة.
أما إذا قيد الموصي الموصى له بنوع من أنواع الانتفاع، فهناك رأيان:(10/234)
يرى الحنفية: أن الموصى له يتقيد بالقيد المنصوص عليه في حال الاستعمال الشخصي، فمن أوصي له بالسكنى مثلاً، لا يملك الاستغلال بلا خلاف؛ لأنه ملك المنفعة بغير عوض، فليس له أن يملِّكها غيره بعوض.
أما العكس وهو من أوصي له بالاستغلال، فالراجح أن له السكنى؛ لأن من ملَّك غيره السكنى، ملكها بنفسه من باب أولى. وقيل: ليس له السكنى، إذ قد يكون في سكناه بنفسه ضرر بالميت، والحق هو القول الأول، لما في هذه الحجة من تكلف واحتمال بعيد.
ويرى الشافعية والحنابلة: أن الموصى له يملك الانتفاع على أي وجه شاء، سواء بالاستعمال الشخصي أم بالاستغلال، ولو نص على العكس؛ لأن الموصى له ملك المنفعة بعقد الوصية، ومن ملك المنفعة ساغ له الانتفاع بها على أي نحو شاء، كما لو ملك حق المنفعة بالإجارة.
وهذا الرأي هو الراجح، وهو الذي أخذ به القانون المصري (م54) والسوري (م248) لأن غرض الموصي إنما هو نفع الموصى له، ودفع حاجته، وهذا أدرى بمصلحته.
وـ كيفية استيفاء المنفعة المشتركة:
إذا كانت المنفعة مشتركة بين الموصى له وبين ورثة الموصي، كالوصية بنصف منفعة داره، أو مشتركة بين عدد من الموصى لهم كالوصية بمنفعة دار لثلاثة أشخاص، فتستوفى المنفعة من طريق القسمة بإحدى وسائل ثلاث (1) :
الأولى ـ أن تقسم غلة المنفعة بين المشتركين: فتؤجر الدار أو تزرع الأرض مثلاً، وتقسم الغلة بنسبة حصة كل واحد منهم.
الثانية ـ أن تقسم العين بنفسها بينهم، فيأخذ كل واحد منهم سهمه في المنفعة، بشرط كون تلك العين قابلة للقسمة، وألا يترتب على قسمتها ضرر للورثة، ولو مع بقاء المنفعة الأصلية.
الثالثة ـ أن تقسم العين الموصى بها قسمة مهايأة زمانية أو مكانية:
الزمانية: أن تعطى لأحد الشركاء كل العين مدة من الزمان، ينتفع بها، ثم يأخذها الشريك الآخر بقدر تلك المدة، فينتفع بها.
والمكانية: أن يأخذ كل شريك جزءاً من العين في وقت واحد ينتفع بها، ثم يتبادل الشريكان كل جزء مرة أخرى، فيحل كل واحد محل الآخر فيما كان ينتفع به.
وإذا كانت الوصية بحق لا يمكن قسمته ولا المهايأة فيه، أو حدث اختلاف، اجتهد القاضي في كيفية توزيع المنفعة بحسب قواعد الشريعة العامة.
ونص القانون المصري (م57) والسوري (م250) على هذه الطرق الثلاث المذكورة.
__________
(1) الوصية لعيسوي: ص 130، الوصية للسباعي: ص 126.(10/235)
ز ـ انتهاء الوصية بالمنفعة:
نص القانون السوري (م252) على أن الوصية بالمنفعة تبطل أو تسقط في الحالات التالية:
أـ بوفاة الموصى له قبل استيفاء المنفعة الموصى بها كلها أو بعضها؛ لأن المنافع في الوصية لا تورث.
ب ـ بتملك الموصى له العين التي أوصي له بمنفعتها.
جـ ـ بتنازله عن حقه فيها لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض، أما التنازل بعوض فهو من قبيل المصالحة على ترك نظير المال، وأما التنازل بغير عوض فهو من قبيل إبراء الورثة منها.
د ـ باستحقاق العين؛ لأنه تبين أن العين الموصى بمنفعتها لم تكن مملوكة للموصي.
ونص القانون المصري (م59) على بطلان الوصية بالمنفعة قبل تمامها بما يأتي:
أـ بمضي المدة المعينة للانتفاع قبل وفاة الموصي، أو بموت الموصى له المعين قبل بدء المدة.
ب ـ بإسقاط الموصى له حقه في المنفعة لورثة الموصي، بعوض أو بغير عوض.
جـ ـ باستحقاق العين الموصى بمنفعتها، أو بشرائها من الموصى له.(10/236)
متى يستحق الموصى له المنفعة الموصى بها؟
نص القانون المصري (م50) والسوري (م246) على أحوال استحقاق الموصى له المنفعة بحسب المدة.
فإذا كانت الوصية بالمنفعة مقيدة بمدة محددة البدء والنهاية، كسنتين من أول عام كذا إلى نهاية عام كذا، استحق الموصى له المنفعة في هذه المدة فقط، فإذا انقضت المدة المذكورة قبل وفاة الموصي بطلت الوصية. وإذا انقضى بعضها استحق الموصى له المنفعة في باقيها. وهذا موافق لمذهب الحنفية.
وإذا كانت الوصية بمنفعة مقدرة بمدة معينة كسنة دون تحديد بدء الانتفاع، استحق الموصى له المنفعة منذ وفاة الموصي. وهذا موافق لمذهب الشافعية. أما الحنفية فيقولون: تبدأ المدة من وقت القسمة؛ لأنه وقت تنفيذ الوصية واستقرار الملك.
منع الموصى له من الانتفاع:
نص القانون المصري (م51) والسوري (م247) على أحوال ثلاث قد يحدث فيها منع الموصى له من الانتفاع بالعين الموصى له بمنفعتها، وذلك إما بسبب من جهة أحد ورثة الموصي، أو جميعهم، أو من جهة الموصي نفسه، أو لعذر قاهر للموصى له.
الصورة الأولى ـ إذا كان المنع من بعض الورثة: ضمن للموصى له بدل المنفعة في تلك المدة.
الصورة الثانية ـ إذا كان المنع من جميع الورثة: كان للموصى له الخيار بين الانتفاع بالعين مدة أخرى، وبين أن يضمنهم بدل المنفعة عن تلك المدة. الصورة الثالثة ـ إذا كان المنع من جهة الموصي: كأن يكون الموصي قد أجر الدار الموصى بمنفعتها لمدة معينة، ثم مات قبل أن تنتهي مدة الإجارة، أو كان المنع لعذر قاهر حال بين الموصى له وبين الانتفاع كأن يكون سجيناً أوغائباً، أو كانت الدار مغصوبة، استحق الموصى له المنفعة بالعين مدة أخرى.
وهذه الأحكام مستمدة من مذهب الشافعية.
أما الحنفية فقالوا: إن كان المنع من أحد الورثة، ضمن للموصى له بدل المنفعة؛ لأنه متعدٍ في هذه الحالة، فيضمن نتيجة تعديه.
وإن كان المنع من جميع الورثة ضمنوا له بدل المنفعة أيضاً، لوجود التعدي منهم جميعاً. وليس للموصى له في الحالتين أن يطالب بمدة أخرى للانتفاع، بعد فوات المدة المحددة.
وإذا كان المنع بسبب آخر، لا من قبل الورثة، وفاتت مدة الانتفاع المحددة، فلا شيء عليهم، لعدم وجود تعدٍ منهم؛ لأن الموصى به أمانة في يدهم، والأمانة لاتضمن إلا بالتعدي.(10/237)
ح ـ ملكية العين الموصى بمنفعتها والتصرف فيها:
أما ملكية العين: فتكون بحسب مدة الوصية: فإن كانت الوصية مؤبدة أو مطلقة من غير ذكر مدة، وكانت لجهة لا يظن انقطاعها، أصبحت رقبة العين وقفاً، وتكون الغلة للموصى لهم على التأبيد.
وأما إن كانت الوصية بالمنفعة لمدة محددة، أو لمعين أو لمحصورين أو لجهة يظن انقطاعها، فإن العين تبقى ملكاً لورثة الموصي، وأما الغلة فهي للموصى لهم إلى انقراضهم، أو إلى انتهاء المدة المحددة في الوصية، ثم تعود المنافع إلى ملك الورثة، تبعاً للعين.
وأما حق التصرف بالعين الموصى بمنفعتها ففيه رأيان:
رأي الحنفية: أنه ليس لمالك العين حق التصرف بها من بيع ونحوه، ويكون التصرف موقوفاً على إجازة الموصى له، لتعلق حقه بها، فإن أذن أسقط حقه.
ورأي الجمهور: أنه يجوز لمالك الرقبة حق التصرف بها، بالبيع ونحوه، ولكن يبقى للموصى له حق الانتفاع بالعين، ويستوفيه على ملك المشتري؛ بدليل أن العين تورث عن مالكها، مع بقاء الوصية، ولا ضرر على الموصى له بانتقال ملكية العين؛ لأن حقه في المنفعة وهي لا تختلف باختلاف المالكين، وفي إباحة التصرف بالعين لمالكها رعاية لحقه.
وأخذ القانون المصري (م60) والسوري (م2/251) برأي الجمهور.(10/238)
ط ـ نفقة العين الموصى بمنفعتها:
للفقهاء رأيان في نفقة العين:
رأي الحنفية، وفي الأصح عند الحنابلة: أن ما تحتاج إليه العين الموصى بمنفعتها من نفقات، ومايفرض عليها من ضرائب، تكون على صاحب المنفعة ولو لم تثمر العين أو لم تغل في سنة ما؛ لأنه صاحب الفائدة منها، كالزوج، إذ الغرم بالغنم أوالخراج بالضمان، فله نفعه، فكان عليه ضره وغرمه.
وإذا أهمل صاحب المنفعة القيام بما يلزم لبقاء العين صالحة للانتفاع بها، أو لم يدفع ما عليها من ضرائب، فأداها صاحب الرقبة، كان ما دفعه حقاً له في غلة العين، يستوفيه منها قبل الموصى له. أما إذا كانت العين غير صالحة للانتفاع بها، كأرض بور، فإن نفقة إصلاحها وضرائبها على صاحب الرقبة. ورأي الشافعية في الأصح: أن النفقة والضريبة على مالك الرقبة، كالمأجور تكون نفقاته وضرائبه على المالك.
وأخذ القانون المصري (م58) والسوري (م1/250) بالرأي الأول.
5 - الوصية بالتصرف في عين (3) :
قد يوصي الإنسان ببيع بعض أمواله من التركة، أو بإجارة بعض عقاراته، فإذا كان الثمن المسمى أو بدل الإيجار بقدر ثمن المثل أو أجر المثل، أو كان بأقل من المثل بمقدار يخرج من الثلث، أو يزيد عن ثلث التركة زيادة يسيرة يتغابن الناس فيها، نفذت الوصية من غير توقف على إجازة الورثة، إذ لا ضرر عليهم في الوصية، ويعتبر هذا النقص وصية في حدود الثلث، فلا يحتاج إلى إجازة الورثة.
أما إذا كان النقص يزيد على ثلث التركة زيادة كبير ـ وهو ما يعبر عنه بالغبن الفاحش ـ فيتوقف تنفيذ الوصية على إجازة الورثة، ما لم يقبل الموصى له بدفع القدر الزائد على الثلث، فإن أجاز الورثة أو دفع الموصى له للورثة القدر الزائد على الثلث، نفذت الوصية، وإلا بطلت.
وأخذ القانون المصري (م56) والسوري (م240) بهذه الأحكام المتفق عليها بين الفقهاء.
__________
(1) اعتبر هذا النوع قانوناً وما يليه من الأنواع من الوصية بالمنافع كما ذكر سابقاً (الفقه المقارن للأستاذ حسن الخطيب: ص 253 وما بعدها) .(10/239)
6 - الوصية بالإقراض:
قد يوصي الإنسان بإقراض شخص مقداراً معلوماً من المال مدة معلومة، من غير ربا. فيطبق مبدأ النفاذ من الثلث، وهو ما نصت عليه المادة (12) من قانون الوصية المصري، والمادة (218) من القانون السوري.
فإن كان المال الموصى بإقراضه يخرج من ثلث التركة، نفذت الوصية من غير توقف على الإجازة. وإن كان أكثر من الثلث، نفذت في حدود الثلث، وكانت موقوفة في الزائد على إجازة الورثة.
وليس للورثة مطالبة المستقرض بالدين قبل حلول الأجل الذي عينه الموصي؛ لأن الأجل في القرض، وإن كان لا يلزم به المقرض عند الحنفية (1) ، وأن له أن يطالب المقترض بالقرض في أي وقت شاء، فإنهم قالوا بلزوم أجل القرض في أربع حالات:
الأولى ـ مالو أوصى شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة مثلاً، فيلزم الأجل.
الثانية ـ ما لو كان القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون لازماً.
الثالثة ـ ما لو حكم القاضي بلزومه، بالاعتماد على مذهب مالك وابن أبي ليلى فإنه يلزم أيضاً.
الرابعة ـ في الحوالة: ما لو أحال المدين الدائن على آخر فأجله المقرض، أوأحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي تبرأ بها ذمة المحيل، ويثبت بها للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين، لا قرض.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 177/4-178.(10/240)
7 - الوصية بالحقوق:
تصح الوصية بالاتفاق بحقوق الارتفاق التي تنتقل بالإرث، كحق الشِّرب، والمسيل والمجرى والتعلي (1) ونحوها، غير أن الوصية بحق الشرب والمجرى والمسيل لا تجوز قانوناً إلا تبعاً للأرض الموصى بها أو لمالك أرض ينتفع بها.
وأجاز القانون المصري (م 11) الوصية بحق المنفعة التي يملكها المستأجر، أخذاً من مذهب الشافعية والجمهور غير الحنفية، كأن يستأجر شخص أرضاً لمدة عشر سنوات، ثم يوصي بما بقي من مدة الإجارة؛ لأن الإجارة عند الجمهور لا تنفسخ بموت أحد العاقدين. أما الحنفية فلا يجيزون هذه الوصية؛ لأن الإجارة عندهم تبطل بموت أحد العاقدين.
وأجاز هذا القانون أيضاً أخذاً من مذهب المالكية الوصية بحق الخلو: وهو حق الأولوية في استئجار عقار موقوف، ومثاله أن يحتاج الوقف إلى عمارة، وليس له مال يعمر به، فيتقدم من يقوم بعمارته، مقابل أن يكون له الأولوية في استئجاره، فلو أوصى هذا الشخص بما ثبت له من هذا الحق، صحت الوصية.
8 - الوصية بقسمة التركة:
قد يوصي الإنسان بوصية تتضمن تقسيم التركة بين الورثة، بمقدار نصيب كل واحد منهم في التركة، ليضمن بالقسمة عدم وقوع خلاف أو نزاع بينهم، وليحقق لكل واحد نصيبه بدون استغلال أو محاباة. فهل تعدّ هذه الوصية ملزمة؟
يرى جمهور الفقهاء: أن هذا التقسيم لا يلزم الورثة، فلهم أن يقبلوه أو يرفضوه؛ لأن القيمة المالية لأعيان التركة قد تكون متساوية، لكن المصلحة فيها متفاوتة متغايرة، فكما لا يجوز إبطال حق الوارث في قدر حقه، لا يجوز إبطاله في عين هذا الحق أيضاً.
ويرى بعض فقهاء الشافعية والحنابلة (2) ـ وإن كان الأصح في المذهب هو الرأي السابق ـ أن هذا التقسيم من المورث جائز، ويلزم به الورثة، ما دامت القسمة عادلة، فخصص لكل وارث ما يساوي قيمة نصيبه، وبقدر حصته، ولا يفتقر التقسيم إلى إجازة الورثة؛ لأن حق كل وارث إنما هو في القيمة، لا في عين معينة من أعيان التركة، بدليل أن المورث لو باع في مرض موته التركة كلها بثمن المثل، صح بيعه ونفذ.
وأخذ القانون المصري (م13) والسوري (م219) بالرأي الثاني، فأجاز تقسيم التركة، وألزم الورثة بالتقسيم بوفاة الموصي. لكن القانون المصري خلافاً لجمهور الفقهاء أجاز المفاضلة بين الورثة إذا كانت الزيادة تخرج من ثلث التركة، بناء على الحكم الذي أخذ به: وهو جواز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير حاجة لإجازة الورثة.
ونص القانونان في نفس المادة السابقة على أنه إذا زادت حصة بعض الورثة عن استحقاقه في التركة، كانت الزيادة وصية، وجرى على الزيادة حكم الوصية للوارث.
__________
(1) هو حق البناء على سفل مملوك للغير.
(2) مغني المحتاج: 44/3، المغني: 7/6، وهذا هو أيضاً أحد قولين عن شيوخ الحنفية، وأفتى به بعضهم (رد المحتار على الدر المختار: 464/5) .(10/241)
9 - الوصية بالمرتبات:
أجاز فقهاء المالكية والحنفية والشافعية بالمرتب من رأس مال التركة، وهي من قبيل الوصية بالأعيان: لأنها وصية بمقدار معلوم من المال يقسط سنوياً أو شهرياً أو يومياً، ولا يختلف عن الوصية بمقدار من المال إلا في التقسيط.
وكذلك تجوز الوصية بالمرتب من غلة التركة، وهي من قبيل الوصية بالمنافع؛ لأنها وصية بجزء من غلات بعض الأعيان.
وتقدر الوصية أولاً لتعرف نسبتها إلى التركة، فإن خرجت من الثلث نفذت، وإن زادت على الثلث توقفت على إجازة الورثة.
ويختلف تنفيذ هذه الوصية بحسب كون الوصية في مدة معينة أم مدى الحياة.
أـ فإن كانت الوصية بمرتب في مدة معينة، سواء أكانت من رأس مال التركة أم من غلة التركة، فيحبس عند جمهور الحنفية والمالكية ثلث التركة، ليؤخذ منه ومن غلاته كل شهر المقدار الذي سماه الموصي، ولو كان الثلث أكثر من الوصية.
وقال أبو يوسف: يحبس من الثلث ما يغل المرتب في المدة المعلومة، وما زاد على ذلك لا يحبس؛ لأن المطلوب ضمان تنفيذ الوصية.
وأخذ القانون المصري (م64) برأي قريب من رأي أبي يوسف، فنص على أنه يوقف من مال الموصي ما يضمن تنفيذ الوصية على وجه لا يضر بالورثة.
ب ـ أما إن كانت الوصية بمرتب مدى الحياة: فهي أيضاً كالوصية في مدة معينة من حيث التقدير والتنفيذ. وتقدر مدة حياة الموصى له عند مالك وأبي يوسف بالسن الغالبة لأهل زمانه، فيحبس من الثلث ما يكفي لنفقة تلك المدة.
وجعل القانون المصري (م 66) أمر تقدير مدة الحياة لأهل الخبرة من الأطباء.(10/242)
فإذا مات الموصى له قبل انتهاء المدة التي قدرها له الأطباء، انتهت الوصية. وإذا عاش بعد انتهاء المدة المحددة، كان له عند أكثر الفقهاء الرجوع بالمرتب على الورثة.
وقال ابن القاسم المالكي: لا يحق له أن يرجع على الورثة بشيء في المدة الزائدة. وأخذ القانون بهذا الرأي.
جـ ـ الوصية بمرتب لجهة بر دائمة: إن كانت الوصية لجهة بر دائمة مدة معينة: فإن تقدير الوصية وتنفيذها يكون على الوجه الذي سبق في الوصية لمعين لمدة معلومة.
وإن كانت الوصية مطلقة أو مؤبدة: فإنه يوقف من أعيان التركة ما يغل المرتب في حدود ثلث التركة، ويتوقف الزائد على إجازة الورثة. فإذا فاضت غلات العين عن المرتب المقدر كان الفائض للجهة الموصى لها، وإذا نقصت الغلة عن المرتب فليس لها الرجوع على ورثة الموصي.
وهذا كله ما نصت عليه المادة 68 من القانون المصري.
د ـ الوصية بمرتب للطبقات: إذا كانت الوصية بمرتب لفلان ثم من بعده لأولاده فتصح بشرطين في القانون المصري (م70) : أحدهما ـ ألا تتجاوز الوصية طبقتين، فإن زادت كانت باطلة في حق الزائد.
الثاني ـ وجود جميع أفراد الموصى لهم عند وفاة الموصي. فإن أوصى لفلان ثم لأولاده من بعده، ولم يكن له أولاد عند وفاة الموصي، ثم ولد له، فلا يستحق الأولاد الجدد شيئاً.
وإذا كانت الوصية بمرتب للطبقات مدى الحياة، قدرت حياة الموجودين بمعرفة الأطباء. وإن كان فيهم جنين قدرت حياته بستين سنة.
وتقدر مدة الوصية بأطولهم عمراً، فلو قدرت حياة أحد الأولاد وقت وفاة الموصي بعشرين سنة، وحياة آخر بخمسين، اعتبرت مدة الوصية خمسين سنة. وإذا مات الأب بعد مضي (63) سنة شمسية من وقت وفاة الموصي، لم يستحق أولاده شيئاً في الوصية.(10/243)
10 - حكم الزيادة في الموصى به:
إذا طرأت زيادة في الموصى به من قبل الموصي بعد الإيصاء، فلايعد ذلك رجوعاً عن الوصية في المذهب المالكي، وأخذ القانون المصري بهذا الحكم وقررأحوال الزيادة في المواد (71-75) وأحكامها، وتابعه القانون السوري في المواد (254-256) وأبين هنا هذه الأحوال والأحكام وهي أربعة:
الحال الأولى ـ الزيادة غير المستقلة بنفسها:
إذا زاد الموصي في العين الموصى بها شيئاً لا يستقل بنفسه كترميم الدار وتجصيصها، فيلتحق بالموصى به، وتكون العين كلها وصية، وليس للورثة أي حق فيها؛ لأن هذه الزيادة ليست لها قيمة مالية منفصلة عن العين. ويلحق بها: الزيادة البسيطة التي يتسامح فيها عادة، كزيادة حمام أو غرفة صغيرة في البناء تكون العين مع الزيادة وصية. كما يلحق بها الزيادة المستقلة بنفسها إذا قصد الموصي إلحاقها بالوصية بقرينة من القرائن.
الحال الثانية ـ الزيادة المستقلة بنفسها:
إذا زاد الموصي في العين شيئاً يستقل بنفسه كغرس الأرض والبناء عليها، أو كانت الزيادة غير المستقلة مما لا يتسامح فيها عادة، أصبح الورثة شركاء مع الموصى له في كل العين الموصى بها مع زوائدها، وتكون حصة الورثة بمقدار قيمة الزيادة قائمة، أي قيمة الغراس والبناء قائماً بدون الأرض.
الحال الثالثة ـ الزيادة بالهدم والبناء الجديد:
إذا هدم الموصي العقار الموصى به، وأعاد بناءه مع تغيير معالمه، كأن يكون الموصى به داراً، فأعاد بناءها بنمط آخر أو بمواد أخرى، كانت الدار بحالتها الجديدة وصية بدل الأولى، لا حق للورثة في شيء منها.
أما إن أعاد بناء الدار على نحو آخر لا يعده العرف تجديداً للأول، كأن كانت من طابق واحد، فجعلها عمارة ذات طبقات، كانت العمارة كلها شركة بين الموصى له والورثة، ويكون نصيب الموصى له فيها بقيمة أرضه، ونصيب الورثة بقيمة البناء قائماً.
وكذلك إن ضم إلى الأرض القديمة أرضاً أخرى، كانت العمارة الجديدة شركة أيضاً، وتكون حصة الوصية هي قيمة الأرض الموصى بها؛ لأنه بإزالة البناء قد انحصرت الوصية في الأرض. وتكون حصة الورثة هي قيمة البناء قائماً وقيمة الأرض غير الموصى بها.
الحال الرابعة ـ إدماج البناءين:
إذا جعل الموصي البناء الموصى به مع بناء آخر وحدة سكنية واحدة، لا يمكن معها تسليم العين الموصى بها منفردة، كأن كانتا دارين أوصى بإحداهما، ثم جعلهما داراً واحدة، اشترك الموصى له مع الورثة، بقدر قيمة الدار الموصى بها قبل هذا التغيير والضم.(10/244)
المطلب السادس ـ مقدار الوصية:
علمنا في بحث شروط الوصية أن حق الإنسان في الإيصاء مقيد بحدود ثلث التركة، بنص الحديث النبوي: «الثلث والثلث كثير» فمقدار الوصية هو الثلث:
أـ فإذا كان للموصي وارث: فيرى جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية: أن الوصية لا تنفذ في الزائد عن الثلث إلا بإجازة الورثة. فإن أجازوها نفذت، وإلا بطلت؛ لأن الله أعطى الموصي حق التصرف في الثلث فقط، حماية لحق الورثة، فإذا أسقطوا حقهم زال المانع من نفاذ الوصية، بدليل: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء» .
وإذا أجازها البعض دون البعض نفذت في حق المجيز، وبطلت في حق غيره. وتقسم التركة حينئذ على فرض الإجازة وعلى فرض عدم الإجازة، فمن أجاز أخذ نصيبه على التقسيم الأول، ومن لم يجز أخذ نصيبه على التقسيم الثاني.
ويرى المالكية والظاهرية: أن الوصية لاتنفذ في الزائد عن الثلث، وإن أجازها الورثة، عملاً بظاهر حديث سعد: «الثلث والثلث كثير» .
ب ـ وإذا لم يكن للموصي وارث: نفذت الوصية في رأي الحنفية بالزائد، ولو كان الموصى به جميع المال؛ لأن المنع كان لحق الورثة، وحيث لا وارث، لم يتعلق بالزائد حق لأحد، فتنفذ الوصية فيه.
وقال الجمهور ـ كما بان سابقاً ـ لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث مطلقاً؛ لأن الزائد حق المسلمين، ولا مجيز عنهم، فلا تنفذ الوصية.
وأخذ القانون المصري (م2/37) والسوري (م4/238) بالرأي الأول، فتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله من غير توقف على إجازة أحد.(10/245)
إجازة الورثة للزائد عن الثلث:
لا تنفذ الوصية فيما زاد عن الثلث إلا بإجازة الورثة، وأوضح هنا أموراً في الإجازة (1) .
أولاً ـ وقت الإجازة:
يرى أئمة المذاهب الأربعة أن الإجازة لا تكون مقبولة وملزمة إلا بعد موت الموصي، فلو حدثت الإجازة أو الرد في حياة الموصي لم يعتبر ذلك؛ لأن ملك التركة لا يثبت للورثة إلا بعد موت المورث، فتعتبر إجازتهم وردهم بعد ثبوت الملك لهم. لكن قال المالكية: إذا أجاز الوارث حال مرض الموصي مرضاً مخوفاً قائماً بالموصي، ولم يصح صحة بيّنة بعده، أي بعد المرض الذي أجاز فيه الوارث، لزمته الإجازة إلا لعذر بجهل، وهو أنه يجهل لزوم الإجازة في المرض.
ثانياً ـ من يملك الإجازة والرد:
يشترط فيمن يجيز أو يرد شرطان سبق ذكرهما وهما:
الأول ـ أن يكون المجيز من أهل التبرع: بأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، فلا تصح إجازة الصبي والمجنون والمعتوه والمحجور عليه لسفه أوعته أوغفلة؛ لأن الإجازة إسقاط لحق، فتكون تبرعاً، فلا يملكها إلا من يملك التبرعات.
وليس للولي أيضاً أن يجيز الوصية؛ لأن تصرفه منوط بالمصلحة، والتبرع بالمال ليس بمصلحة.
الثاني ـ أن يكون المجيز عالماً بمايجيزه: فلا تلزم إجازة الوارث إذا لم يكن عالماً بما أوصى به الموصي، فإن علم بالوصية وأجازها نفذت.
__________
(1) الدر المختار: 464/5، الشرح الصغير: 586/4، 595، مغني المحتاج: 43/3-47، المغني: 5/6 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 406-408، كشاف القناع: 378/4.(10/246)
ثالثاً ـ جهة تلقي الملك بعد الإجازة:
للفقهاء رأيان في بيان جهة تلقي الموصى له الملك بعد إجازة الورثة:
يرى الجمهور على الراجح عند الشافعية: أن الموصى له يتملك الزائد عن الثلث من قبل الموصي، لا من قبل المجيز، وتكون إجازة الورثة تنفيذاً أي إمضاء لتصرف الموصي بالزائد، لا عطية مبتدأة، لأن الوصية تصرف من الموصي في ملكه، وإنما توقف نفاذها لتعلق حق الورثة بتلك الزيادة، وهذا التعلق لا يمنع كون الموصي قد تصرف في ملكه.
وقال المالكية، وفي قول ضعيف للشافعي: يتملك الموصى له الجزء الزائد عن الثلث من قبل المجيز بطريق الهبة المبتدأة، لتعلق حقه بهذه الزيادة، فتكون إجازته عطية مبتدأة، ويكون التمليك من جهته. وكذلك الوصية للوارث هي عطية مبتدأة.
وتظهر ثمرة الخلاف: في وجوب تسليم الموصى به، فعلى الرأي الأول: يجبر الوارث على تسليم العين الموصى بها، وعلى الرأي الثاني: لا يجبر على تسليم الموصى به، لأن الإجازة هبة، والموهوب لا يملك إلا بالقبض، وقبله يكون في ملك الواهب، ولا يجبر الإنسان على تسليم ملكه.
وقت تقدير الثلث:
اختلف الفقهاء على رأيين في وقت تقدير ثلث التركة، أهو عند الوفاة أم عند القسمة؟
مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) : يكون تقدير الثلث يوم قسمة التركة وفرز الأنصباء؛ لأنه وقت استقرار الملك وتنفيذ الوصية وإعطاء كل ذي حق حقه. ويترتب عليه أن ما يحدث قبل القسمة من نقص في قيمة التركة أو هلاك في الأعيان يكون من حصص الجميع.
ومذهب الشافعية: يكون تقدير الثلث وقت الوفاة؛ لأنه وقت ثبوت الملك للموصى له. فكل زيادة في الموصى به المعين بعد الوفاة من ولد وثمرة وأجرة تكون ملكاً خالصاً للموصى له، ولا تحتسب من الثلث؛ لأنها نماء ملكه.
والمفهوم من القانون المصري (م25) هو الأخذ بالرأي الثاني؛ لأن المادة نصت صراحة على فحوى مذهب الشافعيةوهو أن الملك يثبت للموصى له بالقبول من حين الموت، وأن زوائد الموصى به تكون ملكاً للموصى له، ولا تدخل في تقدير الثلث؛ لأنها نماء ملكه.(10/247)
المطلب السابع ـ الوصية للوارث:
بحثت هذا الموضوع في شرط نفاذ الوصية المتعلق بالموصى له، وبينت رأي الأكثرين بعدم صحة ونفاذ الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة. وأما قانون الوصية المصري في المادة (37) فأجاز الوصية لوارث من غير توقف على إجازة الورثة أخذاً برأي الشيعة الإمامية. ونص المادة هو:
«تصح الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ من غير إجازة الورثة، وتصح بما زاد على الثلث، ولا تنفذ في الزيادة إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكانوا من أهل التبرع، عالمين بما يجيزونه.
وتنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ماله، أو بعضه، من غير توقف على إجازة الخزانة العامة» .
جاء في المذكرة التفسيرية: صحة الوصية للوارث بما لا يزيد على الثلث مذهب جمهور الفقهاء (1) ، ونفاذها يؤخذ من الآية الكريمة: {كتب عليكم إذا حضر} [البقرة:180/2] وهو رأي فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني.
المطلب الثامن ـ الوصية بمثل نصيب وارث:
هذا نوع من الوصية بالمجهول، والفقهاء اتفقوا (2) على أن الوصية تصح بمثل نصيب وارث، من غير تعيين، أو بمثل نصيب وارث معين، كالوصية بمثل نصيب ابنه أو بنته أو أخته. أو بمثل نصيب وارث معدوم، كالوصية لفلان بمثل نصيب ابن لو كان؛ لأن ذلك وصية بمثل نصيب المذكور، ومثل الشيء غيره.
فإن كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين، فله مثل نصيب أحدهم، ويجعل كواحد منهم، زاد عليهم.
وإن كانوا يتفاضلون فله عند الجمهور (غير المالكية) مثل نصيب أقلهم ميراثاً؛ لأنه نصيب أحدهم، فهو اليقين، وما زاد فمشكوك فيه.
__________
(1) الواقع أنه رأي بعض العلماء، وليس هو رأي الجمهور.
(2) الكتاب مع اللباب: 175/4، تكملة الفتح: 443/8، الشرح الصغير: 597/4-599، القوانين الفقهية: ص 406، المهذب: 457/1، المغني: 32/6-36، غاية المنتهى: 370/2 وما بعدها.(10/248)
وقال المالكية وابن أبي ليلى وزفر وداود الظاهري: يعطى مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون: من أصل المال، ويقسم الباقي بين الورثة؛ لأن نصيب الوارث قبل الوصية من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه، وله ابن واحد، فالوصية بجميع المال إن أجاز الابن الوصية، وإلا فللموصى له ثلث التركة فقط، وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كانوا ثلاثة فالوصية بالثلث.
واختلف الفقهاء في الوصية بنصيب وارث معين عند الوفاة: كأن يوصي بنصيب ابن أو بنت عند موته.
الذي رآه أئمة الحنفية الثلاثة، والشافعية في الراجح: أن الوصية باطلة؛ لأنها وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت، بخلاف الوصية بمثل نصيب ابنه؛ لأن مثل الشيء غيره.
ورأى زفر والمالكية والحنابلة: أن الوصية صحيحة، ويكون ذلك كالوصية بمثل نصيبه؛ لأن الغرض من ذكر نصيب الابن هو التقدير به، وليس الغرض منه الوصية بما سيكون للابن بعد الموت، حتى يكون موصياً بمال الغير، وهذا سائغ لغة وعرفاً، وأخذ به القانون المصري (م40) .
مقدار ما يستحقه الموصى له في هذه الوصايا:
الطريق الموصل إلى معرفة المقدار الموصى به يختلف بحسب كل حالة.
الحالة الأولى ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معين موجود عند وفاة الموصي:
تقسم التركة بين الورثة، ثم يزاد على أصل المسألة نصيب الموصى له. فلو أوصى إنسان بمثل نصيب ابن ومات عن ثلاثة أبناء، فيكون أصل الفريضة من ثلاثة أسهم، لكل ابن سهم، ثم يزاد على أصل الفريضة سهم رابع هو سهم الموصى له، فتصبح المسألة من أربعة. ولا حاجة إلى إجازة الورثة؛ لأن نصيب الموصى له أقل من الثلث.(10/249)
ولو أوصى إنسان آخر بمثل نصيب ابنه، ومات عن ابن وبنت، كانت الفريضة من ثلاثة أسهم، للابن سهمان، وللبنت سهم واحد، ثم يزاد على أصل الفريضة للموصى له سهمان مثل نصيب الابن، فتصير خمسة أسهم، للموصى له منها سهمان. وبما أن نصيبه أكثر من الثلث، فيتوقف نفاذ الوصية في الجزء الزائد على الإجازة.
الحالة الثانية ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث غير معين:
إما أن يكون الورثة متساوين في السهام أو متفاوتين فيها، ففي حال التساوي: يزاد على أصل الفريضة مثل سهام أحدهم.
وفي حال التفاوت: يزاد عند الجمهور (غير المالكية) كما تقدم مثل سهام أقلهم نصيباً.
مثال الحال الأولى: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة، فتكون المسألة من ثلاثة، للأخت سهم، ولكل من البنتين سهم، ثم يزاد سهم رابع، فيصبح مجموع السهام أربعة.
ومثال الحال الثانية: أن يترك الموصي بنتين وأختاً شقيقة وزوجة، فيكون أصل المسألة من (24) ، للبنتين الثلثان (16) سهماً، وللزوجة الثمن (3) أسهم، وللأخت الباقي (5) أسهم، ثم يزاد على أصل الفريضة مثل نصيب أقلهم سهاماً للموصى له، وهو (3) أسهم نصيب الزوجة، فتصير السهام (27) .
الحالة الثالثة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب وارث معدوم:
مثل: أوصيت لفلان بنصيب ابن لو كان أو بمثل نصيب ابن لو كان. إذ لا فرق عند غير الحنفية والشافعية كما تقدم.
فتقسم التركة على الموجودين من الورثة بالفعل، ثم يزاد عليها مثل نصيب الابن المعدوم، فيكون للموصى له إن كان في حدود الثلث، أو أجيز الزائد من قبل الورثة، كما ذكر في الحالة الأولى.(10/250)
الحالة الرابعة ـ أن تكون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة ولآخر بسهم معلوم شائع:
كالوصية بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع التركة لشخص آخر.
الطريق لاستخراج الوصيتين في الصحيح عند الحنفية والحنابلة: أن تقدر الوصية بمثل نصيب الوارث بما تساويه من سهام التركة، كأنه لا وصية غيرها، ثم يقسم ثلث التركة بين الوصيتين، بالمحاصة إن لم يسعهما ولم يجز الورثة.
فلو أوصى رجل بمثل نصيب ابنه لشخص، وبربع ماله لشخص آخر، ومات وترك ابنين، كانت الفريضة من اثنين، يزاد عليهما سهم للموصى له بمثل النصيب، فيكون له الثلث، ويكون هنا وصيتان: إحداهما بثلث المال، والآخر بربعه، فاحتجنا إلى حساب له ثلث وربع، وأقل ذلك اثنا عشر، ثلثه للموصى له بمثل النصيب وهو أربعة أسهم، وربعه للموصى له بالربع وهو ثلاثة، والباقي للابنين بالتساوي.
ولما كان مجموع الوصيتين هنا أكثر من ثلث التركة، توقف نفاذها على إجازة الورثة، فإن لم يجيزوا، قسم الثلث بين الموصى لهما أسباعاً، أربعة سهام لصاحب الثلث وثلاثة لصاحب الربع.
وأخذ القانون المصري (م40-42) بهذه الأحكام.
المطلب التاسع ـ الوصية بالأجزاء:
بينت في بحث الوصية بالمجهول: أن من أوصي له بجزء أو حظ أو نصيب أو قسط أو شيء، فلورثة الموصي عند الجمهور أن يعطوه ما شاؤوا من متمول.
ويعطى عند المالكية سهماً واحداً من سهام التركة، ثم يقسم الباقي على الورثة.
المطلب العاشر ـ تنفيذ الوصية:
إذا كانت موجودات التركة كلها مالاً حاضراً، لا غائب منها ولا دين لها على أحد، تنفذ الوصية من جميع المال، سواء أكان الموصى به نقوداً مرسلة، أي مبلغاً غير معين كألف دينار مثلاً، أم شيئاً معيناً كدار معينة، أم سهماً شائعاً كربع التركة أو ثلثها، فتقدر التركة جميعها، ويأخذ الموصى له سهمه من كل المال.
أما إذا كان بعض مال التركة حاضراً، وبعضها ديوناً، أو مالاً غائباً، فإن تنفيذ الوصية يختلف بحسب الأحوال، إذ قد يكون في التركة دين على أجنبي، أو دين على وارث (1) .
__________
(1) الوصية لعيسوي: ص 109-116، الوصية للسباعي: ص 120-122.(10/251)
أولاً ـ أن يكون في التركة دين على أجنبي، أو مال غائب:
لها أربعة أحوال:
الحال الأولى ـ أن يكون الموصى به مالاً مرسلاً كألف دينار مثلاً: فإن كان الموصى به يخرج من ثلث المال الحاضر من التركة، أخذه الموصى له، إذ لا ضرر في أخذه على الورثة، حيث يبقى لهم ثلثا المال الحاضر.
وإن كان لا يخرج من الثلث، استوفى الموصى له منه بقدر ثلث الموجود، وكان الباقي للورثة، وكلما حضر شيء، استوفى الموصى له ثلثه حتى يكمل حقه. وهذا رأي الحنفية.
الحال الثانية ـ أن يكون الموصى به عيناً معينة كدار معينة أو نقود معينة كهذه النقود أو النقود الوديعة عند فلان.
الحكم في هذه الحال كالحكم في المسألة السابقة، وهو رأي المالكية؛ لأن بقاء العين موقوفة يؤخر القسمة، وقد يضر التأخر بالورثة، وفي تملكهم الباقي من العين نفي الضرر عنهم، ولا ضرر فيه على الموصى له لأنه يستعيض عن باقي حصته بقيمته. فإذا كانت الدار تساوي ألفاً، والموجود من التركة الحاضرة ألف وخمس مئة، وهناك ألف وخمس مئة غائبة، استحق الموصى له نصف الدار وهو ما يساوي ثلث الحاضر، ويكون النصف الباقي للورثة، وكلما حضر شيء من المال الغائب أخذ الموصى له ثلثه حتى يستوفي قيمة النصف الذي استولى عليه الورثة.
أخذ القانون المصري (م43) والسوري (م241) بالمقرر في هاتين الحالتين، الأولى من مذهب الحنفية، والثانية من مذهب المالكية لأنه أيسر وأسهل.(10/252)
ويرى الحنفية في الحال الثانية: أن الموصى له يأخذ من العين المعينة بمقدار ثلث المال الحاضر، ويكون الباقي من تلك العين موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصى له من باقي العين ما يساوي ثلث الذي حضر، حتى يستوفي العين كلها، فإن هلك المال الغائب كان باقي العين ملكاً للورثة؛ لأن الوصية تعلقت بهذه العين، فتنفذ فيها الوصية ما دام التنفيذ ممكناً، تنفيذاً لإرادة الموصي، ويظل باقي العين موقوفاً إلى أن يتبين أمر المال الغائب، فإذا حضر نفذت الوصية في العين كلها، وإن لم يحضر كان الباقي للورثة.
وعليه يكون النصف الباقي في المثال السابق موقوفاً، فإذا حضر شيء من المال الغائب، أخذ الموصي من باقي الدار مايساوي ثلث المال الذي حضر.
الحال الثالثة ـ أن تكون الوصية بسهم شائع في التركة كالربع أو الثلث:
ففي هذه الحال يكون الموصى له شريكاً للورثة في جميع المال حاضره وغائبه، دينه وعينه، فيستوفي سهمه من المال الحاضر، أي ربعه مثلاً، وكلما حضر شيء من المال الغائب، استوفى سهمه منه، وهو الربع في هذا المثال.
وهذا متفق عليه فقهاً، وقد أخذ به القانون المصري (م 44) والسوري (م242) .
الحال الرابعة: أن تكون الوصية بسهم شائع في نوع من المال كربع منازله في الجهة الفلانية، أو ربع أمواله التجارية أو ديونه على التجار.
أـ فإن كان النوع الموصى بسهم فيه حاضراً: أخذ الموصى له سهمه منه إن خرج من الثلث، فإن لم يخرج أخذ منه بمقدار الثلث، وكان الباقي للورثة. وكلما حضر شيء من الدين أو المال الغائب أخذ الموصى له من ذلك النوع ما يساوي ثلث الذي حضر، إلى أن يستوفي سهمه منه.(10/253)
فإن تصرف الورثة في الجزء الباقي من النوع الموصى بسهم فيه، أو أحدثوا فيه تحسيناً، وكان في رده للموصى له ضرر بهم، كان لهم الحق في إعطاء الموصى له قيمة الباقي من الوصية. ب ـ وإن كان النوع الموصى بسهم فيه غائباً، أو بعضه حاضراً والآخر غائباً: فقال الحنابلة وزفر: يأخذ الموصى له في هذه الحال نسبة سهمه في الجزء الحاضر من ذلك النوع فقط، وكلما حضر شيء من المال الغائب، أخذ بنسبة سهمه منه، ويكون الباقي للورثة.
وقال الحنفية ما عدا زفر: يأخذ الموصى له كل ما يحضر من المال الغائب أو الدين، إلى أن يستوفي حقه كله، ولا يشاركه أحد من الورثة في شيء منه ما دام يخرج من ثلث الحاضر من التركة.
أخذ القانون المصري (م45) بالرأي الأول.
ثانياً ـ أن يكون في التركة دين على وارث: لها أحوال ثلاث:
الحال الأولى ـ أن يكون الدين مؤجلاً:
حكمه حكم الدين الذي على الأجنبي في جميع الأحوال السابقة، فلا يأخذ الموصى له إلا حصته في المال الحاضر وفي حدود الثلث، فإذا حل أجل الدين كمل له مقدار الوصية.
الحال الثانية ـ أن يكون الدين قد حل أداؤه عند الوفاة أو عند القسمة، وكان أقل من نصيب الوارث المدين في التركة أو مساوياً.
فتقع المقاصة بين الدين وسهام المدين إن كان الدين من جنس الحاضر من التركة، ويعتبر الدين بهذه المقاصة مالاً حاضراً.
فلو أوصى بألف وترك ولدين أحدهما مدين بألف، وترك ثلاثة آلاف، تقسم التركة ثلاثة أسهم، لكل من الولدين سهم، وللموصى له سهم، ويعتبر الدين حاضراً، فيأخذ الموصى له ألفاً، ويأخذ الولد غير المدين ألفاً، ولا يأخذ الولد المدين شيئاً، إذ تقع المقاصة بين نصيبه من التركة وبين ما عليه من الدين، وسقط سهمه من التركة.(10/254)
وإذا كان الدين من غير جنس الحاضر من التركة، لا تقع المقاصة، ولكن يعتبر نصيب الوارث المدين من التركة محجوزاً كالرهن لاستيفاء الدين، فإذا أدى ما عليه تسلم نصيبه، وإن لم يؤده باع القاضي نصيبه، ووفى الدين المستحق للتركة من ثمنه.
الحال الثالثة ـ أن يكون الدين مستحق الأداء، أي قد حل وقت أدائه عند قسمة التركة، ونصيب الوارث لا يفي به:
في هذه الحال يكون الزائد عن النصيب كالدين على أجنبي، أي يعد مالاً غائباً، والذي يقابل مقدار نصيبه يعد مالاً حاضراً، فيأخذ الموصى له من الوصية بمقدار ثلث الحاضر كله. ثم يأخذ ثلث ما يستوفى من القدر الزائد من الدين، حتى يستوفي وصيته.
هذه الأحكام مأخوذة من مذهب الحنفية، وأخذ بها القانون المصري (م46) والسوري (م 2/242-3) وأضاف كل منهما أن أنواع النقد وأوراقه تعتبر جنساً واحداً في المقاصة.(10/255)
المبحث الرابع ـ مبطلات الوصية:
تبطل الوصية بأسباب: إما من الموصي كرجوعه عن الوصية أو زوال أهليته، أو ردته، وإما من الموصى له وهو رد الوصية أو موته، أو قتل الموصي، وإما من الموصى به وهو هلاك العين الموصى بها أو استحقاقها. وهذه الأسباب مايلي (1) :
1 ً - زوال أهلية الموصي بالجنون المطبق ونحوه:
تبطل الوصية عند الحنفية بالجنون المطبق ونحوه كالعته، سواء اتصل بالموت أو لم يتصل بأن أفاق قبل الموت؛ لأن الوصية عقد غير لازم كالوكالة، فيكون لبقائه حكم ابتدائه، ولما كان المجنون غير أهل لإنشاء الوصية في الابتداء؛ لأن قوله غير ملزم، كان طروء الجنون المطبق مبطلاً له.
والجنون المطبق: ما دام شهراً فأكثر، وهو رأي أبي يوسف الذي أخذ به القانون. وعند محمد: هو ما امتد سنة. والعته مثل الجنون. فإن لم يطبق الجنون لا تبطل الوصية؛ لأنه في هذه الحالة يشبه الإغماء، وغير مبطل للعقد؛ لأنه غير مزيل للعقل، كما لا تبطل بالحجر على الموصي للسفه أو الغفلة.
أخذ القانون المصري (م 14، 16) والسوري (م 220/أ) بتلك الأحكام، لكنه اعتبر الجنون المطبق مبطلاً إذا اتصل بالموت.
أما الجمهور غير الحنفية: فلم يبطلوا الوصية بالجنون، سواء أكان مطبقاً أم لا، وسواء اتصل بالموت أو لم يتصل، متى كان كامل الأهلية (بالغاً عاقلاً) وقت إنشائها؛ لأن العقود والتصرفات تعتمد في صحتها على تحقق الأهلية وقت إنشائها فقط، ولا يؤثر زوالها بعدئذ في صحة العقد أو التصرف، بدليل أن البيع والإجارة والوقف وغيرها لا تبطل بالجنون الطارئ. وهذا هو الراجح لدي؛ لأن كمال الأهلية يطلب عند الانعقاد. أما احتمال رجوع الموصي عن الوصية لولا جنونه فهو احتمال ضعيف.
2 ً - ردة الموصي: عند الحنفية والشافعية، وكذا ردة الموصى له عند المالكية إذا مات مرتداً ولم يرجع إلى الإسلام؛ لأن ملكه موقوف على الأصح، ولم يتعرض القانون للردة، لقلة وقوعها، وعملاً بمذهب الحنابلة القائلين بصحة وصية المرتد.
3 ً - تعليق الوصية على شرط لم يحصل: كأن قال: إن مت من مرضي هذا، أو من سفري هذا، فلفلان كذا، فلم يمت، فتبطل الوصية؛ لأنه علقها على الموت في المرض والسفر، ولم يحصل. وقد صرح المالكية والحنفية والحنابلة به.
4 ً - الرجوع عن الوصية: تبطل به بالاتفاق؛ لأنها عقد غير لازم، فيجوز للموصي الرجوع فيها متى شاء؛ لأن الذي وجد منه الإيجاب فقط، ولأنها عقد لا يثبت حكمه إلا بعد موت الموصي، فلا يترتب على الإيجاب أي حق للموصى له قبل ذلك، فيكون بالخيار بين الإمضاء والرجوع.
والرجوع إما أن يكون صريحاً أو دلالة:
__________
(1) البدائع: 394/7، الدر المختار: 469/5-471، الشرح الصغير: 584/4-587، الشرح الكبير: 426/4-428، مغني المحتاج: 39/3، 71 ومابعدها، المهذب: 461/1 ومابعدها، غاية المنتهى: 353/2 ومابعدها، كشاف القناع: 418/4.(10/256)
الرجوع الصريح: ما كان بلفظ هو نص في الرجوع، مثل قول الموصي: رجعت عن وصيتي لفلان، أو تركتها، أو أبطلتها، أو نقضتها، أو ما أوصيت به لفلان هو لورثتي، ونحوه. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً؛ لأنه صريح في عدول الموصي عن وصيته، وهو يملك العدول متى شاء.
ولا يعد رجوعاً: (ندمت على الوصية التي أوصيت بها لفلان) أو (تعجلت) أو (أخرت الوصية) لأن التأخير لا يستلزم السقوط كتأخير الدين عن المدين، وكذلك (كل وصية أوصيت بها لفلان فهي حرام) لا يدل على الرجوع، أو تغيير الموصى له من زيد لخالد مثلاً، بل يكون الموصى به مشتركاً. ولا يكون جحود الوصية رجوعاً في رأي محمد، وهو ما أخذ به القانون، ويعد رجوعاً عند أبي يوسف والمالكية، كما أبنت في بحث صفة الوصية.
والرجوع دلالة: كل تصرف أو فعل في الموصى به يفيد رجوعه عن الوصية. وهو يشمل ما يأتي:
أولاً ـ كل تصرف قولي يخرج العين عن ملك الوصي: كأن يبيع الشيء الموصى به، أويهبه، أويتصدق به أو يجعله مهراً أو وقفاً. وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً.
لكن هل تعود الوصية بعودة الملك إلى الموصي؟ رأيان:
مذهب الجمهور: متى بطلت الوصية لخروج الموصى به عن ملك الموصي، فلا تعود بعدئذ بعودة الملك؛ لأن الإقدام على التصرف قرينة قاطعة في ذاته على الرجوع.
ومذهب المالكية: إذا عاد الموصى به إلى ملك الموصي، عادت الوصية من غير حاجة إلى إيصاء جديد. والظاهر رجحان الرأي الأول، الذي أخذ به القانون، لفوات المحل المعقود عليه، بزوال ملكيته عنه.
ثانياً ـ كل فعل في العين الموصى بها يدل على الرجوع عن الوصية، وهوأنواع ثلاثة: نوع يدل على الرجوع بالاتفاق: وهو استهلاك العين الموصى بها في المعنى، كذبح الشاة الموصى بها، وغزل القطن الموصى به، ونسج الغزل، ونحوه مما يغير حقيقة الشيء، ويصبح شيئاً آخر غير الموصى به، ويلحق به ما لو تغير الشيء بنفسه تغيراً أزال اسمه كصيرورة العنب زبيباً والبيض فراخاً ونحوه.(10/257)
وكذلك لو تغير الشيء بفعل الموصي تغيراً أزال اسمه كنسج الغزل وصوغ المعدن وطحن الحنطة وتفصيل البفتة (1) وتذرية الحب يعد رجوعاً حتى عند المالكية.
ونوع لا يدل على الرجوع بالاتفاق؛ وهو كل فعل تابع للعين أو في صفة من صفاتها بحيث لا يحدث تغييراً في حقيقة العين ولا يزيل اسماً عنها، مثل جزّ الصوف، وحلب اللبن، وسقي الزرع أو الشجر، وتشذيب الأشجار، وتجصيص الدار وزخرفتها وترميمها؛ لأن هذه الأفعال تعلقت بأمر خارج عن عين الموصى به، فلا تدل على الرجوع. فهذه الأفعال والتصرف في الموصى به بحيث لا يخرجه عن ملك الموصي كالإجارة والإعارة لا تعد رجوعاً.
ونوع مختلف فيه بين الفقهاء: وهو إحداث زيادة في الموصى به لا يمكن تسليم العين بدونها، كصبغ الثوب، وبناء الأرض وزرعها شجراً، ولتّ الطحين بالسمن.
وخلط الموصى به بما لا يمكن تمييزه إلا بمشقة، كخلط الدقيق بالسكر، وخلط القمح الموصى به بقمح آخر أو بشعير.
عند الجمهور: يعتبر المذكور من قبيل الرجوع دلالة. وعند المالكية: لا يعتبر ما ذكر رجوعاً إلا بقرينة أخرى تدل على إرادة الرجوع.
والقانون أخذ بمذهب المالكية فيما يعتبر من الأفعال رجوعاً وما لا يعتبر، على النحو الذي أبنته في صفة الوصية. ولقد حققت مذهب المالكية في أن تغيير اسم الشيء كتذرية الحب ونسج الغزل وصوغ المعدن وتفصيل البفتة (2) وحشو القطن الموصى به إذا كان لا يخرج منه بعد الحشو يعد رجوعاً. لكن القانون لم يعتبر رجوعاً الفعل الذي يزيل اسم الموصى به أو يغير معظم صفاته إلا إذا دلت قرينة أو عرف على أن الموصي يقصد به الرجوع عن الوصية.
__________
(1) أما لو قال: أوصيت بالثوب ثم فصله، فلا تبطل الوصية به، لعدم زوال اسم الثوب بالتفصيل.
(2) أما لو قال: أوصيت بالثوب أو بالقميص ثم فصله فلا تبطل به الوصية، لعدم زوال اسم الثوب بالتفصيل. فالمهم عند المالكية زوال الاسم وعدم زواله (حاشية الدسوقي: 428/4) .(10/258)
5 - رد الوصية: تبطل الوصية إذا ردها الموصى له بعد وفاة الموصي، كما أوضحت في بحث صيغة العقد.
6 - موت الموصى له المعين قبل موت الموصي: تبطل به الوصية باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأن الوصية عطية، وقد صادفت المعطى ميتاً، فلا تصح كالهبة للميت، ولأن الوصية لا تلزم إلا بوفاة الموصي وقبول الموصى له.
وكذلك تبطل الوصية عند الجمهور غير الحنفية إذا مات الموصى له بعد موت الموصي قبل القبول. وعند الحنفية: لا تبطل لأن القبول معناه عندهم عدم الرد. وتبطل الوصية عند الجمهور بموت الموصى له، سواء علم الموصي بموته أم لم يعلم. وللمالكية تفصيل سبق ذكره.
7 - قتل الموصى له الموصي: تبطل الوصية عند الحنفية والحنابلة للقاتل، سواء أكان القتل قبل وصية أم بعدها، حتى لو أجاز الورثة الوصية، وأجازها الموصي بعد القتل وقبل الموت. وقد فصلت الكلام فيه وبينت رأي الفقهاء الآخرين في بحث شروط الموصى له.(10/259)
8 - هلاك الموصى به المعين أو استحقاقه: تبطل الوصية إذا كان الموصى به معيناً بالذات، وهلك قبل قبول الموصى له؛ لفوات محل حكم الوصية، ويستحيل ثبوت حكم التصرف أو بقاؤه بدون وجود محله أو بقائه، كما لو أوصى بهذه الشاة، فهلكت، تبطل الوصية؛ لأن الوصية تعلقت بعين قائمة وقت الإيصاء، وقد فاتت بعدئذ، ففات محل الوصية. وكذلك تبطل الوصية إذا كانت بجزء شائع في شيء معين بذاته أو من نوع معين من أمواله، كأن يوصي بنصف هذه الدار، أو يوصي بفرس من أفراسه العشرة المعلومة، فهلكت، أو بنصف دوره، فهدمت، فلا شيء للموصى له، لفوات محل الوصية.
وتبطل الوصية أيضاً باستحقاق العين الموصى بها، سواء أكان الاستحقاق قبل موت الموصي أم بعده؛ لأن بالاستحقاق تبين أن الوصية كانت في غير ملكه، فتبطل.
وأخذ القانون المصري (م15) والسوري (م 244، 245) بهذه الأحكام، فقررا بطلان الوصية بهلاك الموصى به المعين أو باستحقاقه.
9 - تبطل الوصية لوارث عند المالكية ولو أجازها الورثة، لحديث «لا وصية لوارث» .(10/260)
المبحث الخامس ـ تزاحم الوصايا:
تزاحم الوصايا: أن تتعدد، ويضيق الثلث عنها ولم يجز الورثة، أو يجيزوا ولا تتسع التركة لتنفيذ كل الوصايا.
ولا يخلو حال تعدد الوصايا من أحد أمور ثلاثة:
1 - إما أن تكون كلها للعباد، كخالد وبكر وعمرو.
2 - وإما أن تكون كلها لله تعالى كالإيصاء بفدية صيام وصدقة تطوع وعمارة مسجد ونحوها.
3 - وإما أن تكون مشتركة من النوعين السابقين، بأن يكون بعضها لله، والبعض الآخر للعباد. فكيف تنفذ الوصايا؟ للفقهاء آراء (1) :
فصل الحنفية في هذا الموضوع: فأبانوا قواعد حل التزاحم بين الوصايا.
1 - قاعدة التزاحم في الوصايا بين العباد:
إذا أوصى شخص بعدة وصايا لأشخاص معينين، وزادت الوصايا في مجموعها عن الثلث، ولم تجز الورثة الزائد، أو أجازوا ولم تتسع التركة لتنفيذ الوصايا، فيكون لها حالتان:
الأولى ـ أن تكون كل وصية من الوصايا لا تتجاوز الثلث: كسدس المال لشخص، والربع لآخر، والثلث لثالث. يضرب كل سهم في الثلث، أي يأخذ كل واحد من الوصية بنسبة وصيته من الثلث، ويقسم ثلث التركة على تسعة، فيعطى الأول اثنين من السهام، والثاني ثلاثة، والثالث أربعة. وهذا متفق عليه بين أبي حنيفة وصاحبيه، وبه أخذ القانون.
الثانية: أن تكون إحدى الوصايا زائدة على الثلث: كثلث لواحد ونصف لآخر:
قال أبو حنيفة: يقسم الثلث بينهما مناصفة؛ لأن الوصية إذا زادت عن الثلث ولم تجز الورثة، تكون باطلة في القدر الزائد، فيكون هناك وصيتان كلتاهما بالثلث تتزاحمان فيه، فيكون ثلث التركة بين الموصى لهما نصفين. وهذا هو المفتى به عند الحنفية.
وقال الصاحبان وبقية الأئمة وبه أخذ القانون المصري (م80) والسوري (م258) : يقسم الثلث بينهما بنسبة أنصبائهم في الوصية، كالحالة الأولى، ولا يلغى الزائد على الثلث ـ كما قال أبو حنيفة ـ لأنه يلزم مراعاة رغبة الموصي بقدر الإمكان، في تفضيل بعض الموصى لهم على بعض.
واستثنى أبو حنيفة ثلاث حالات: هي المحاباة، والدراهم المرسلة، والسعاية، وافق فيها الصاحبين
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 468/5، تكملة الفتح: 467/8-469، الكتاب مع اللباب: 177/4، بداية المجتهد: 332/2، المهذب: 454/1، حاشية الباجوري: 86/2-88، المغني: 50/6.(10/261)
في القسمة بحسب السهام، وليس مناصفة (1) ، أوضح هنا الحالتين الأوليين، أما الثالثة فلا حاجة لبيانها بالعبيد، فهي غير واقعية الآن.
أما المحاباة: فهي محاباة بعض الناس في ثمن البيع، كأن يوصي شخص بأن تباع سيارته التي تساوي قيمتها ثلاثة آلاف بألف والسيارة التي تعادل قيمتها ستة آلاف بألفين، علماً بأنه لا مال له سواهما، فهو يريد الوصية بفرق السعرين، فيقسم الثلث وهو الثلاثة الآلاف بينهما أثلاثاً، ثلثه للأول، وثلثاه للثاني.
وأما الدراهم المرسلة (2) : فهي أن يوصي لشخص بأربع مئة دينار، ولآخر بثمان مئة، وتركته كلها ألف ومائتا دينار، ولم تجز الورثة، فكأنه أوصى لواحد بالثلث، ولآخر بالثلثين. فيقسم الثلث بينهما أثلاثاً، للأول ثلثه، وللآخر ثلثاه.
وسبب الاستثناء في رأي أبي حنيفة: أن الموصي لم يصرح في وصيته بما يبطلها وهو الزيادة على الثلث، وإنما جاء البطلان من الواقع بطريق المزاحمة وضيق التركة وعدم وفاء ثلثها بالوصيتين، ومن الممكن أن يظهر له مال فوق هذا المقدار، فلا تبطل الوصية.
2 - التزاحم بين الوصايا في حقوق الله تعالى:
إذا أوصى بوصايا تزيد عن الثلث، وكلها من حقوق الله تعالى، فإما أن تكون متحدة الرتبة، أو متفاوتة الرتبة، أو مختلطة.
فإذا كانت متحدة الرتبة بأن كانت كلها فرائض كالحج والزكاة أو كلها واجبات أو كلها مندوبات: يقدم فيها في رأي أبي حنيفة وصاحبيه ما بدأ به الميت أولاً، فإذا أوصى بحج وزكاة، قدم الحج. وإذا أوصى بكفارة يمين وكفارة ظهار، قدمت الوصية الأولى، فإن فضل شيء من الثلث فللثانية.
وإذا كانت متفاوتة الرتبة: كأن كان بعض الوصايا بالفرائض، وبعضها بالواجبات كصدقة الفطر عند الحنفية. وبعضها بالمندوبات كحج التطوع، قدم الفرض ثم الواجب ثم المندوب.
3 - التزاحم بين وصايا حق الله وحق العباد:
يحدث ذلك كما إذا أوصى للحج والزكاة والكفارة من الناس، فإنه يقسم الثلث بينهما أرباعاً، ويعطى لكل جهة الربع، فيكون للحج ربع الثلث، وللزكاة ربع الثلث، وللكفارة ربع الثلث، ولخالد ربع الثلث.
وعند استواء القربات في القوة يقدم منها ما بدأ به الموصي، أو الأقوى عبادة أو تقسم على الجميع بالتساوي، على حسب ما ذكرته من الآراء.
__________
(1) الهداية مع تكملة الفتح وحاشية العناية: 442/8.
(2) المرسلة: أي المطلقة غير المقيدة بثلث أو ربع أونحوهما.(10/262)
نص القانون المصري (م80) والسوري (م 258، 259) على الأحكام السابقة في تزاحم الوصايا عدولاً عن رأي أبي حنيفة إلى رأي الصاحبين.
أما المذاهب الأخرى: فمتفقة مع رأي الصاحبين: فإذا كانت الوصايا التي يضيق عنها الثلث مستوية تتحاص في الثلث، أي يقسَّط الثلث على الجميع بنسبة كل منها. فمن أوصى لاثنين: لأحدهما بنصف ماله، وللآخر بثلث ماله، ورد الورثة الزائد، فإنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماساً.
وإذا أجاز الورثة الوصية، كأن أوصى بنصف ماله لشخص، ولآخر بجميع ماله، قسم المال بينهما أثلاثاً: يأخذ الموصى له بالنصف ثلثه، والباقي يأخذه الموصى له بالكل.
وإذا كان بعض الوصايا أهم من بعض، قدم الأهم على الأضعف.
وعلم سابقاً أن الوصية بالزائد عن الثلث تبطل عند المالكية على المشهور، ولو أجازها الورثة، وعند الإجازة يعتبر الزائد على الثلث عطاء جديداً من الورثة، لاتنفيذاً لوصية الميت، فيشترط فيه أن يكون الوارث المجيز أهلاً للتبرع، ولا بد فيه من القبول، ولا بد من حيازة الموصى له قبل حصول مانع للمجيز.(10/263)
المبحث السادس ـ الوصية الواجبة قانوناً:
مستندها الفقهي ومسوغاتها، من تجب له، شروط وجوبها، مقدار الوصية الواجبة، طريقة استخراجها من التركة (1) .
المستند الفقهي للوصية الواجبة ومسوغاتها: بينت أن الوصية للأقارب مستحبة عند الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، ولا تجب على الشخص إلا بحق لله أو للعباد.
ويرى بعض الفقهاء كابن حزم الظاهري والطبري وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة: أن الوصية واجبة ديانة وقضاء للوالدين والأقربين الذين لا يرثون، لحجبهم عن الميراث، أو لمانع يمنعهم من الإرث كاختلاف الدين، فإذا لم يوص الميت للأقارب بشيء وجب على ورثته أو على الوصي إخراج شيء غير محدد المقدار من مال الميت وإعطاؤه للوالدين غير الوارثين.
أخذ القانون المصري (م76-79) والسوري (م 257) بالرأي الثاني، فأوجب الوصية لبعض المحرومين من الإرث وهم الأحفاد الذين يموت آباؤهم في حياة أبيهم أو أمهم، أو يموتون معهم ولو حكماً كالغرقى والحرقى.
ففي نظام الإرث الإسلامي لا يستحق هؤلاء الحفدة شيئاً من ميراث الجد أو الجدة، لوجود أعمامهم أو عماتهم على قيد الحياة.
لكن قد يكون هؤلاء الحفدة في فقر وحاجة، ويكون أعمامهم أو عماتهم في غنى وثروة.
فاستحدث القانون نظام الوصية الواجبة لمعالجة هذه المشكلة تمشياً مع روح التشريع الإسلامي في توزيع الثروة على أساس من العدل والمنطق، إذ ما ذنب ولد المتوفى (ابن المحروم) في الحرمان من نصيب والده الذي توفي مبكراً قبل والده، ويكون قد ساهم في تكوين ثروة الجد بنصيب ملحوظ، فيجتمع عليهم الحاجة وفقد الوالد. وبما أن الأحفاد غير ورثة في حال موت أبيهم، فلولي الأمر قصر صفة غير الوارث عليهم للمصلحة، ولأنهم أولى الناس بمال الجد.
فإذا لم يوص الجد أو الجدة لهؤلاء الحفدة بمثل نصيب أصلهم، تجب لهم الوصية بإيجاب الله تعالى بمثل هذا النصيب على ألا يزيد على الثلث، لقوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، حقاً على المتقين} [البقرة:180/2] .
__________
(1) الفقه المقارن للأستاذ حسن أحمد الخطيب: ص 221-231، الوصية للأستاذ عيسوي: ص163-174، الوصية للأستاذ مصطفى السباعي: ص 131-137.(10/264)
وبما أن هذه الوصية لا تتوافر لها مقومات الوصية الاختيارية لعدم الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له، فهي أشبه بالميراث، فيسلك فيها مسلك الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحجب الأصل فرعه، ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط.
من تجب له هذه الوصية: أوجب القانون المصري هذه الوصية لأولاد الابن مهما نزلوا، وللطبقة الأولى فقط من أولاد البنت.
وأوجبها أيضاً لفروع من مات مع أبيه أو أمه في حادث واحد، ولا يدرى أيهم سبقت إليه المنية، كالغرقى والهدمى والحرقى، ونحوهم؛ لأن من جهل وقت وفاتهم لا يرث فقهاً أحدهم الآخر، فلا يرث الفرع أصله في تلك الحالة، فتجب الوصية لذرية ذلك الفرع قانوناً.
وكما تجب للأحفاد الذين مات أبوهم أو أمهم حقيقة، تجب أيضاً لمن حكم بموت أبيه أوأمه، كالمفقود الذي غاب أربع سنين فأكثر في مظنة هلاك، كالحرب ونحوها.
أما القانون السوري فإنه قصر هذه الوصية على أولاد الابن فقط، ذكوراً وإناثاً، دون أولاد البنت؛ لأن هؤلاء لا يحرمون من الميراث في هذه الحالة لوجود أخوالهم أو خالاتهم، وإنما هم من ذوي الأرحام الذين يرثون في رأي الحنفية عند عدم ذوي الفروض والعصبات.
والأولى الأخذ بما ذهب إلىه القانون المصري تسوية بين فئتين من جنس واحد، سواء لطبقة واحدة أم لأكثر.
شروط وجوب هذه الوصية: اشترط القانون المصري والسوري لوجوب هذه الوصية شرطين:
الأول ـ أن يكون فرع الولد غير وارث من المتوفى: فإن ورث منه، ولو ميراثاً قليلاً، لم يستحق هذه الوصية.
الثاني ـ ألا يكون المتوفى قد أعطاه ما يساوي الوصية الواجبة، بغير عوض عن طريق آخر كالهبة أو الوصية. فإن أعطاه ما يستحقه بهذه الوصية فلا تجب له. وإن أعطاه أقل منها، وجب له ما يكمل مقدار الوصية الواجبة. وإذا أعطى بعض المستحقين دون البعض الآخر، وجب للمحروم وصية بقدر نصيبه.(10/265)
مقدار الوصية الواجبة:
يستحق الأحفاد حصة أبيهم المتوفى في القانون المصري لو أن أصله مات في حياته، على ألا يزيد النصيب عن الثلث، فإن زاد عنه كان الزائد موقوفاً على إجازة الورثة. هذا هو مقدار الوصية الواجبة في القانون. أما الفقهاء القائلون بوجوب الوصية للوالدين والأقربين غيرالوارثين فلم يحددوا مقدار هذه الوصية. وبناء على ما حدده القانون، إن مات شخص عن ابن وبنتين وأولاد ابن متوفى في حياة أبيه، فيستحق هؤلاء الأحفاد ما كان يستحقه أبوهم لو كان حياً، وهو هنا ثلث التركة. وفي السوري: يستحقون حصتهم مما يرث أبوهم.
وإن توفي عن ابن وبنت وأولاد بنت توفيت في حياة أبيها، فيأخذ أولاد البنت ـ في القانون المصري، لا السوري ـ نصيب أمهم وهو هنا ربع التركة.
وإن مات عن ابن وبنت وأولاد ابن مات في حياة أبيه، فإن ماكان يستحقه الابن المتوفى وهو خمسا التركة، هو أكثر من الثلث، فلا يأخذ أولاده إلا الثلث.
تقديم هذه الوصية: نص القانون على أن الوصية الواجبة مقدمة على غيرها من الوصايا الاختيارية الأخرى في الاستيفاء من ثلث التركة. والوصية الاختيارية: هي ما أنشأه الموصي باختياره قبل وفاته من وصايا، ولو كانت واجبة ديانة كالوصية بفدية الصوم والصلاة؛ لأنها آكد منها، إذ أن لها مطالباً من جهة العباد.
فإن استوعب الثلث جميع الوصايا ـ الواجبة والاختيارية ـ نفذت كلها، وإن لم يستوعبها نفذت الوصية الواجبة أولاً، ثم بقية الوصايا بحسب أحكام تزاحم الوصايا.
الفرق بين القانون السوري والقانون المصري في مقدار الوصية الواجبة:
نصت المادة (257) ـ الفقرة (أ) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يلي:
أـ الوصية الواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصتهم مما يرثه أبوهم عن أصله المتوفى على فرض موت أبيهم إثر وفاة أصله المذكور، على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة.(10/266)
وهذا النص واضح في أن حصة الحفيد: هي ما يأخذه من أبيه المتوفى فيما لو فرض وظل على قيد الحياة. أما نص المادة (76) من قانون الوصية المصري المأخوذ منه أحكام المادة (257) من قانون الأحوال الشخصية السوري، فيقتضى إعطاء الحفيد كامل حصة أبيه المتوفى، من ثلث التركة، مقدماً حق الوصية الواجبة على بقية الوصايا الاختيارية، وليس هو ما يأخذه من حصة أبيه.
ويتضح الفرق بالمثالين التاليين: المثال الأول على الطريقة السورية:
يلاحظ أن ما أخذه الحفيد وهو (1632) أقل من ثلث التركة؛ لأن للبنات الثلثين من حصة والدهن، والمسألة الجامعة (6912) مكبرة إلى ستة أضعاف. صورة 7568 المثال الثاني على الطريقة المصرية:
يلاحظ أنه لم يعط في هذه المسألة لبنات الابن الـ 3 (الحفدة) كامل نصيب أبيهن لتجاوزه ثلث التركة، بل اقتصر على ثلث التركة وهو (384) من أصل (1152) أي (2304) من أصل (6912) ، وهذا التصحيح أيسر من الطريقة السورية، ولكن التزام النص القانوني في سورية هو الذي أوجب العمل بما ذكر في المثال الأول. أما في مصر فيعطى الأحفاد نصيب الوالد في حدود الثلث، لا النسبة الإرثية من الأب، وهذا الثلث أو كامل نصيب الوالد إذا كان أقل من الثلث يوزع بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. صورة 7569
طريقة استخراج الوصية الواجبة:
لم ينص القانون على طريقة استخراج الوصية الواجبة، ولكنه أرشد إلى ضرورة مراعاة الأمور التالية:
1 - ألا يزيد المقدار المستخرج عن ثلث التركة.
2 - أن يكون بمقدار نصيب الأب المتوفى في حياة أبيه.
3 - أن يكون التنفيذ على اعتبار أن الخارج وصية، لا ميراث، فيخرج من جميع التركة، لا من الثلث فقط.
والطريقة: هي أن يفرض المتوفى في حياة والده حياً،،ويعطى نصيبه، ثم يخرج ذلك النصيب من التركة، بشرط ألا يزيد على الثلث، ويعطى للأحفاد. ثم يقسم باقي التركة بين الورثة، من غير نظر إلى الولد المتوفى الذي فرض حياً.
كأن يتوفى شخص ويترك ثلاثة أبناء وبنت ابن متوفى، وأباً وأماً. يفرض أولاً وجود الابن الذي توفي في حياة أبيه، فيكون للأب السدس، ولكل واحد من الأبناء الأربعة السدس، ثم يخرج نصيب الابن المتوفى من أصل التركة، فيعطى لبنته وصية واجبة. ثم يقسم باقي التركة على الورثة الموجودين بالفعل بحسب الفريضة الشرعية، فيكون للأب سدس الباقي، وللأم مثل ذلك، ويوزع ما بقي بين الأبناء الثلاثة أثلاثاً.(10/267)
المبحث السابع ـ إثبات الوصية:
يندب بالاتفاق كتابة الوصية، وبدؤها بالبسملة والثناء على الله بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم إعلان الشهادتين كتابة أو نطقاً بعد البسملة والحمدلة والصلولة، ثم الإشهاد على الوصية لأجل صحتها ونفوذها. وقد بينت في المبحث الأول أن الوصية تنعقد بالعبارة وبالكتابة، وكذا بالإشارة المفهمة عند المالكية. ونص القانون المصري (م2/أ) والسوري (208) على طرق إنشاء الوصية، وذكر أنها تنعقد بالعبارة أو الكتابة لمن قدر عليهما. فإن لم يكن قادراً عليهما انعقدت الوصية بالإشارة المفهمة الدالة على ذلك، وأخذ القانون بمذهب الشافعية، فسوى في حالة العجز عن الكتابة أو العبارة بين العجز الأصلي كالخرس، والعجز بسبب طارئ كالمرض. واعتبرت الإشارة حجة للحاجة إليها في إثبات حقوق العباد.
وتثبت الوصية بطرق الإثبات الشرعية كالشهادة والكتابة. أما الكتابة: فمعتبرة عند الحنفية (1) إذا كانت مستبينة مرسومة أي مسطرة على ورق ونحوه، ومعنونة أي مصدَّرة بالعنوان: وهو أن يكتب في صدر الكتاب من فلان إلى فلان، فإن لم تكن مستبينة كالكتابة على الهواء والرَّقْم على الماء فلا تعتبر، وإن كانت مستبينة غير مرسومة كالكتابة على الجدران وأوراق الأشجار، فهي كناية لابد فيها من النية. ولكن لايقضى بالخط المجرد عندهم إلا في مسائل: كتاب أهل الحرب بطلب الأمان إلى الإمام، ودفتر السمسار والصراف والبياع.
__________
(1) تكملة الفتح والعناية: 511/8 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 347/2، رد المحتار: 443/3.
(2) مغني المحتاج: 53/3، 399/4.(10/268)
وأما الشهادة على كتاب الوصية: فتكون عند الحنفية والشافعية (2) بعد قراءته على الشهود، فيسمع الشهود من الموصي مضمونه، أو تقرأ عليه فيقر بما فيها؛ لأن الحكم لايجوز برؤية خط الشاهد بالشهادة بالإجماع. لكن تنعقد الوصية عند الشافعية بالكتابة بأن نوى بالمكتوب الوصية، وأعرب بالنية نطقاً، أو أقرَّ بها ورثته بعد موته. ولاتثبت الوصية بالخط المجرد عند الحنفية والشافعية لإمكان التزوير وتشابه الخطوط.
ومذهب المالكية (1) : تثبت الوصية إن كانت بخط الموصي، مع الإشهاد عليها، وإن لم يقرأها على الشهود، ولم يفتح كتاب الوصية، وتنفذ الوصية حيث أشهد بقوله للشهود: اشهدوا بما في هذه، ولم يوجد فيها محو، حتى ولو بقي كتاب الوصية عند الموصي ولم يخرجه حتى مات.
فإن ثبت لدى القاضي أن ما اشتملت عليه الورقة بخط الموصي، أو قرأها على الشهود لكنه لم يشهد الموصي على الوصية في الصورتين، بأن لم يقل: اشهدوا على وصيتي، أو لم يقل: نفذوها، لم تنفذ بعد موته، لاحتمال رجوعه عنها. فإن قال الموصي للشهود: اشهدوا، أو قال: أنفذوها، نفذت.
ومذهب الحنابلة في الأرجح (2) : من كتب وصيةً، ولم يشهد عليها، حكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها، فتثبت الوصية ويقبل ما فيها بالخط الثابت أنه خط الموصي، بإقرار ورثته، أو ببينة تعرف خطه تشهد أنه خطه، وإن طال الزمن أو تغير حال الموصي، أو بأن عرف خطه وكان مشهور الخط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده» ولم يذكر أمراً زائداً على الكتابة، فدل على الاكتفاء بها، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «كتب إلى عماله وغيرهم» ملزماً العمل بتلك الكتابة، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده، ولأن الكتابة تنبئ عن المقصود فهي كاللفظ.
__________
(1) الشرح الصغير: 601/4.
(2) المغني: 69/6 وما بعدها، كشاف القناع: 373/4، غاية المنتهى: 348/2.(10/269)
وإن كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما في هذه الورقة، أو قال: هذه وصيتي فاشهدوا علي بها: لا تثبت حتى يسمعوا منه ما فيه، أو يقرأ عليه فيقر بما فيه. وهذا موافق لقول الحنفية والشافعية.
والخلاصة: أنه لا بد عند الجمهور لإثبات الوصية من سماع الشهود مضمونها، أو قراءتها على الموصي فيقر بما فيها. ويكفي عند المالكية الإشهاد عليها، وإن لم تقرأ على الشهود، أو لم يفتح كتاب الوصية.
وتثبت الوصية لدى الحنابلة بالكتابة وحدها إذا كان الموصي مشهور الخط وعرف خطه. وأخذ القانون بهذا الرأي.
وخالف القانون المصري (م 2/2) آراء الفقهاء في سماع الدعوى، فلم يعتبر الوصية بالشهادة المقررة في رأي الفقهاء عند إنكار دعوى الوصية أو الرجوع القولي عنها بعد وفاة الموصي، وإنما اشترط لسماع الدعوى بعد وفاة الموصي عند الإنكار أن تكون الوصية ثابتة بورقة رسمية، أو بورقة عرفية كتبت جميعها بخط المتوفى وعليها توقيعه، أو كانت بإمضاء مصدق عليه. وهذا احتياط من القانون نظراً لفساد الزمان، وعدم التعويل على كثير من الشهادات بسبب انتشار شهادة الزور.
جاء في المذكرة التفسيرية: الحكم هنا مأخوذ مما ذكره علي بن عبد السلام التسولي المالكي من أن الإشهاد على عقود التبرعات شرط في صحتها، ومن القاعدة الشرعية: وهي أن لولي الأمر أن يأمر بالمباح، لما يراه من المصلحة العامة، ومتى أمر به وجبت طاعته، وفي رأي بعض الفقهاء: أمره ينشئ حكماً شرعياً. فعقد الوصية، وهو من عقود التبرعات، يجوز أن يكون بإشهاد كتابي، ويجوز أن يكون بإشهاد شفوي، وإذا رأى ولي الأمر أن يكون بإشهاد كتابي على الوجه المبين في المادة، يجب على الكافة أن يعملوا به.(10/270)
الفَصْلُ الثَّاني: حكم تبرّعات المريض مرض الموت
هل تعتبر تبرعات المريض مرض الموت في حكم الوصية؟
مريض الموت: في رأي الشافعية والحنابلة (1) هو من تحقق فيه شرطان:
أحدهما ـ أن يتصل بمرضه الموت. فلو صح في مرضه الذي تبرع فيه ثم مات بعد ذلك، فحكم عطيته حكم عطية الصحيح؛ لأنه ليس بمرض الموت.
الثاني ـ أن يكون مخوفاً، والمرض المخوف: هو ما ألزم صاحبه الفراش، كالجذام والطاعون والفالج النصفي أو الكلي في انتهائه ولم تطل مدته، والحمى المؤقتة يوماً أو يومين، وإسهال يوم أو يومين. فهذا حكم صاحبه حكم الصحيح؛ لأنه لا يخاف منه في العادة.
وقد أوضحت شروط مريض الموت في بحث النظريات الفقهية في المذاهب الأخرى، وتبين أن الحنفية حددوا مدة مرض الموت بسنة إذا لم يتزايد، فإن كان يتزايد فهو مرض موت ولو استمر سنين كثيرة.
أما تبرعات مريض الموت: فهي إما منجزة وإما مضافة لما بعد الموت (2) .
__________
(1) المهذب: 453/1، المغني: 84/6 وما بعدها.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 467/5، 469، 481، البدائع: 370/7، الشرح الكبير: 444/4، بداية المجتهد: 322/2، المهذب: 453/1، المغني: 71/6-95.(10/271)
1 ً - التبرعات المنجزة: مثل المحاباة (1) والهبة المقبوضة والصدقة والعتق والوقف والإبراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال. وحكمها: أنه لا خلاف بين العلماء في أنها إن صدرت في حال الصحة من غير محجور عليه، فهي من رأس المال.
وإن صدرت في مرض مخوف اتصل به الموت، فهي من ثلث المال في قول الجمهور، للحديث السابق: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم» ، ولأن الظاهر من هذه الحال الموت، فكانت عطيته فيها في حق ورثته كالوصية، فلا تتجاوز الثلث.
وحكي عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال.
2 ً - أما التبرعات أو العطايا المضافة لما بعد الموت: فلها حكم الوصية، يتوقف نفاذها على الثلث، أو على إجازة الورثة إن زادت على الثلث، بالاتفاق، لما روى أحمد عن أبي زيد الأنصاري: «أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة» (2) .
أما القانون المدني المصري (م 916) والسوري (م 877) فقد جعلا التبرعات المنجزة من المريض مرض الموت في حكم الوصية، بسبب ظهور قصد التبرعات منها، ولما يحيط بها من دلائل وقرائن أحوال تدل على ذلك، وهذا يكفي لجعل التصرف القانوني مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية من كل وجه.
__________
(1) المحاباة في المرض: هي أن يعاوض بماله، ويسمح لمن عاوضه ببعض عوضه (المغني: 92/6) .
(2) رواه أحمد، وأبو داود بمعناه، وقال فيه: «لو شهدته قبل أن يدفن، لم يدفن في مقابر المسلمين» وأخرجه أيضاً النسائي، ورجال إسناده رجال الصحيح (نيل الأوطار: 41/6 ومابعدها) .(10/272)
الفَصْلُ الثّالث: الوصاية
المبحث الأول ـ أنواع الأوصياء (1) :
الوصي في الجملة أنواع ثلاثة: وصي الخليفة، ووصي القاضي، والوصي المختار.
أما وصي الخليفة: فهو من يوصي له الخليفة بالبيعة إذا كان صالحاً للخلافة. ويجوز الاستخلاف شرعاً، قال في المهذب (2) : من تثبت له الخلافة على الأمة، جاز له أن يوصي بها إلى من يصلح لها؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر، ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى رضي الله عنهم، ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك.
يفهم منه أنه لا بد من بيعة الوصي من قبل الأمة.
وأما وصي القاضي أو الحاكم: فهو الذي يعينه القاضي للإشراف على شؤون القصَّر المالية.
وأما الوصي المختار: فهو الذي يختاره الشخص في حياته قبل موته للنظر في تدبير شؤون القاصر المالية. والاسم الوصاية. ويلاحظ أن قبول الوصاية للقوي عليها قربة؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ولقوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى، قل إصلاح لهم خير} [البقرة:220/2] . وقال الحنفية والحنابلة: وترك ذلك أولى لمافيه من الخطر.
والكلام هنا في أحكام الوصي المختار وشروطه فيما يمس شؤون القاصرين، وهو المأمور بالتصرف بعد الموت، ويُعنون له عادة في كتب الفقه بالموصى إليه. وقد بحثت في الحجر أهم أحكامه.
المبحث الثاني ـ أركان الوصاية:
الوصاية لها جوانب أو أركان أربعة بتعبير غير الحنفية: هي موص، ووصي، وموصى فيه، وصيغة. وسأذكر بالترتيب أحكام هذه الأركان (3) .
1 - الموصي: تنفذ الوصية بالاتفاق من كل حر مكلف (بالغ عاقل) مختار. ويصح في رأي الشافعية إيصاء السكران، وكذا يشترط كون الموصي رشيداً، فالأب المحجور عليه لا وصية له على ولده بسبب الصغر أو السفه. ويصح عند المالكية والحنابلةإيصاء المميز.
ويشترط عند الشافعية في الموصي أيضاً في أمر الأ طفال: أن تكون له ولاية عليهم من جهة الشرع، وهو الأب والجد وإن علا، فلا يصح الإيصاء عليهم من الأخ والعم والوصي والقيم، وكذا الأم على المذهب. ولا يجوز للأب على الصحيح نصب وصي على الأطفال ونحوهم، والجد حي حاضر، بصفة الولاية عليهم؛ لأن ولايته ثابتة شرعاً، فليس له نقل الولاية عنه، كولاية التزويج.
وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوصي إيصاء لغيره إلا أن يؤذن له فيه، فإن أذن له به، جاز له في الأظهر عند الشافعية.
__________
(1) الكلام عن الأوصياء يناسب عنوان هذا الباب وهو الوصايا.
(2) 449/1، وانظر أيضاً غاية المنتهى: 379/2.
(3) الدر المختار: 494/5-513، الشرح الصغير: 604/4-612، الشرح الكبير: 452/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 74/3-78، المهذب: 463/1-464، كشاف القناع: 436/4-445، غاية المنتهى: 378/2 وما بعدها، الهداية مع تكملة فتح القدير: 49/8-503.(10/273)
وأجاز المالكية للأم الإيصاء على أولادها بشروط: هي أن يكون المال قليلاً قلة نسبية كستين ديناراً، وأن يورث المال عنها بأن كان المال لها وماتت، وألا يكون للموصى عليه ولي من أب أو وصي أب أو وصي قاضٍ. فإن كثر المال، فليس لها الإيصاء، ولو كان المال للولد من غير الأم كأبيه أو من هبة، فليس لها الإيصاء، بل ترفع الأمر للحاكم. وإن كان للولد ولي آخر من أب أو وصي، فلا وصية لها على أولادها.
2 - الوصي: شرط الوصي تكليف (بلوغ وعقل) وحرية، وعدالة ولو ظاهرة، وخبرة بشؤون التصرف في الموصى به (وهو الرشد المالي) وأمانة وإسلام.
فلا يصح الإيصاء إلى صبي ومجنون؛ لأنه في ولاية الغير، فكيف يلي أمر غيره.
ولا إلى عبد ولو بإذن سيده عند الحنفية والشافعية، لأن الرقيق لا يتصرف في مال أبيه، فكيف يصلح وصياً لغيره، وأجاز المالكية والحنابلة وصاية العبد بإذن سيده، لأنه أهل للرعاية على المال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «والخادم راع في مال سيده، وهو مسؤول عنه» (1) .
ولا إلى فاسق أو خائن؛ لأن الوصاية، ولاية وائتمان. وإذا كان الوصي عدلاً، ثم طرأ عليه الفسق، فإنه يعزل، فإن تصرف فتصرفه مردود.
ولا يصح إلى غير رشيد لا يهتدي إلى التصرف الحسن في الموصى به لسفه أو مرض أو هرم أو تغفل، إذ لا مصلحة في تولية أمثال هؤلاء.
ولا يصح إلى غير أمين، فلو ثبتت خيانته وجب عزله عن الوصية، ولا إلى كافر من مسلم، إذ لا ولاية لكافر على مسلم، ولأنه متهم، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم} [آل عمران:118/3] .
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.(10/274)
لكن تجوز وصية الذمي إلى ذمي أو إلى مسلم فيما يتعلق بأولاد الكفار، بشرط كون الذمي عدلاً في دينه، كما يجوز أن يكون ولياً لهم، وكذلك بشرط كون المسلم عدلاً.
وإذا كان العدل ضعيفاً أو عاجزاً يضم إليه قوي أمين.
ولم يشترط الحنابلة لصحة الإيصاء القدرة على العمل، فيصح الإيصاء إلى ضعيف.
وأجاز الحنابلة وصية المنتظر: وهو من تنتظر أهليته بأن يجعله وصياً بعد بلوغه، أو بعد حضوره من غيبته ونحوه كالإفاقة من الجنون وزوال الفسق والسفه، والإسلام.
ولا تشترط الذكورة ولا البصر، فيصح كون المرأة وصياً؛ لأنها من أهل الشهادة، ولأن سيدنا عمر رضي الله عنه أوصى إلى ابنته حفصة رضي الله عنها (1) ، وأم الأطفال أولى من غيرها من النساء، عند توافر الشروط السابقة، لوفور شفقتها. ويصح كون الأعمى وصياً، لأنه من أهل الشهادة، فجازت الوصية إليه كالبصير، ولأنه متمكن من التوكيل لغيره فيما لا يتمكن من مباشرته بنفسه.
تعدد الأوصياء: يجوز تعدد الأوصياء، فيمكن أن يوصى لاثنين بلفظ واحد، مثل جعلتكما وصيين، أو بلفظين في زمن أوزمنين، لما روي أن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه، فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها، فيليانها.
__________
(1) رواه أبو داود.(10/275)
وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، سواء أكان التعيين بعقد واحد أم بعقدين في رأي الحنفية والمالكية (1) إلا بتصريح الموصي بجواز الانفراد، وإلا عند الحنفيةإذا أجاز أحدهما تصرف صاحبه، وعليهما التعاون في التصرفات، فلا يستقل أحدهما ببيع أو اشتراء أو نكاح أو غيرها إلا بتوكيل. فإن مات أحدهما أو اختلفا في أمر كبيع أوشراء أو تزويج نظر الحاكم عند المالكية فيما فيه الأصلح من استقلال الحي في الوصاية أو جعل غيره معه، أو رد فعل أحدهما حال الاختلاف أو إمضائه. وليس لأحد الوصيين إيصاء لغيره في حياته بلا إذن من صاحبه، فإن أذن له جاز. وليس لهما قَسْم المال الذي أوصاهما عليه. وقال الحنفية: إن أوصى الموصي في حال الموت أوالجنون أو ما يوجب العزل إلى آخر أو إلى الحي من الوصيين عمل بإيصائه، وإن لم يوص ضم القاضي إليه غيره.
وكذلك قرر الشافعي والحنابلة (2) : ليس لأحد الوصيين الانفراد بالتصرف إلا بتصريح الموصي بالانفراد؛ لأن الموصي لم يرض إلا بتصرفهما، وانفراد أحدهما يخالف ذلك. فإن أجاز الموصي لأحدهما الانفراد بالتصرف جاز، لرضا الموصي به، فإن ضعف أحدهما أو فسق أو مات، في حال رضا الموصي بالانفراد، جاز للآخر أن يتصرف، ولا يقام مقام الآخر غيره؛ لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما وحده.
أما في حال الإيصاء لهما فإن ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه، وإن فسق أحدهما أو مات، أقام الحاكم من يقوم مقامه؛ لأن الموصي لم يرض بنظر أحدهما منفرداً، ولا يجوز للحاكم أن يفوض جميع التصرف إلى الثاني؛ لأن الموصي لم يرض باجتهاده وحده، فهم في ذلك كالحنفية.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 496/5-499، الشرح الصغير: 608/4.
(2) المهذب: 463/1، كشاف القناع: 438/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 77/3 ومابعدها.(10/276)
وهذا في الوصايا غير المعينة، أما رد الأعيان المستحقة كالمغصوبات والودائع والأعيان الموصى بها وقضاء دين يوجد جنسه في التركة، فلأحد الوصيين الاستقلال به.
واستثنى الحنفية من مبدأ بطلان انفراد أحد الوصيين عشر حالات للضرورة؛ هي شراء كفن الموصي، وتجهيزه، والخصومة في حقوقه؛ لأنهما لا يجتمعان عليه عادة، ولو اجتمعا لم يتكلم إلا أحدهما غالباً.
وشراء حاجة الطفل مما لا بد منه كالطعام والكسوة؛ لأن في تأخيره لحوق ضرر به.
وقبول الهبة للطفل؛ لأن في تأخيره خشية الفوات.
وإعتاق عبد معين، لعدم الاحتياج فيه إلى الرأي، بخلاف إعتاق ما ليس بمعين، فإنه محتاج إليه.
ورد وديعة وتنفيذ وصية معينتين، إذ لا حاجة إلى التشاور. وبيع ما يخاف تلفه، وجمع أموال ضائعة.
وزاد بعض الحنفية سبعة أخرى: وهي رد المغصوب، والمشترى شراء فاسداً، وقسمة كيلي أو وزني مع شريك الموصي، وطلب دين، وقضاء دين بجنس حقه، وحفظ مال اليتيم؛ إذ كل من وقع في يده وجب عليه حفظه، ورد ثمن المبيع ببيع من الموصي، وإجارة نفس اليتيم في أعمال حرة.
واتفق الحنفية والشافعية على أنه إذا اختلف الوصيان في حفظ المال، فإنه يقسم بينهما نصفين إن كان قابلاً للقسمة، وإلا فيتهايآن زماناً أو يودعانه عند آخر؛ لأن لهما ولاية الإيداع.
وقال الحنابلة: لا يقسم المال بينهما؛ لأنهما شريكان في الحفظ الملازم للشركة في التصرف، وإنما يجعل المال في مكان تحت أيديهما، فإن تعذر ذلك ختما عليه، ودفع إلى أمين القاضي.(10/277)
3 - الموصى فيه:
لا يصح الإيصاء إلا في تصرف معلوم يملك الموصي فعله، ليعلم الوصي ما أوصي به إليه، ليحفظه ويتصرف فيه؛ ولأن الإيصاء كالوكالة، والوصي يتصرف بالإذن، فلم يجز إلا في معلوم يملكه الموصي، مثل الإيصاء في قضاء الدين، وتوزيع الوصية والنظر في أمر غير رشيد من طفل ومجنون وسفيه، ورد الودائع إلى أهلها، واستردادها ممن هي عنده، ورد مغصوب، وإيصاء إمام بخلافة، وإقامة حد قذف، وهذا الأخير عند الحنابلة والشافعية (1) ، ويستوفيه الوصي للموصي نفسه، لا إلى الموصى إليه.
ويصح عند الحنابلة الإيصاء بتزويج بنت ولو صغيرة دون تسع، ولوصي الأب إجبارها إذا كانت بكراً، أو ثيباً دون تسع، كالأب؛ لأنه نائبه كوكيله. ولا يصح عند الشافعية الإيصاء بتزويج طفل وبنت مع وجود الجد؛ لأن الصغير والصغيرة لا يزوجهما غير الأب والجد، ولحديث: «السلطان ولي من لا ولي له» (2) لكن إن بلغ الصبي، واستمر نظر الوصي عليه لسفه، اعتبر إذنه في نكاحه.
ومتى خصّ وصايته بحفظ أو نحوه أو عمَّ اتبع قوله، وإن أطلق الإيصاء في أمر الأطفال، ولم يذكر التصرف، كان له التصرف في المال وحفظه اعتماداً على العرف.
4 - الصيغة:
تنعقد الوصاية بالإيجاب والقبول بالاتفاق، كأن يقول الموصي: أوصيت إليك أو فوضت إليك ونحوهما، كأقمتك مقامي في أمر أولادي بعد موتي، أوجعلتك وصياً. وتكفي إشارة الأخرس وكتابته، ومثله عند الشافعية الناطق معتقل اللسان؛ بأن أشار بالوصية برأسه أو بقوله: نعم بعد قراءة كتاب الوصية عليه؛ لأنه عاجز كالأخرس.
ويشترط في الإيصاء القبول؛ لأنه عقد تصرف، فأشبه الوكالة، ويكون القبول على التراخي في الأصح عند الشافعية (3) ، وهو موافق لمذهب الحنفية.
__________
(1) كشاف القناع: 441/4، مغني المحتاج: 75/3-77.
(2) أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار: 118/6) .
(3) مغني المحتاج: 77/3.(10/278)
وذكر الحنفية (1) : أن الوصي إذا رد الوصاية بعلم الموصي صح الرد، فإن لم يعلم لا يصح الرد بغيبته، لئلا يصير مغروراً من جهته. وإن سكت الموصى إليه، فمات الموصي فله الرد والقبول، إذ لا تغرير هنا. وإن سكت الموصى إليه ثم رد بعد موت الموصي، ثم قبل، صح الإيصاء، إلا إذا نفذ قاض رده، فلا يصح قبوله بعدئذ. ويلزم عقد الوصية ببيع شيء من التركة وإن جهل الشخص كونه وصياً، فإن علم الوصي بالوصاية ليس بشرط في صحة تصرفه.
ويصح عند الحنفية والحنابلة قبول الوصي الإيصاء إليه في حياة الموصي؛ لأنه إذن في التصرف، فصح قبوله بعد العقد كالوكالة. بخلاف الوصية بالمال، فإنها تمليك في وقت، فلم يصح القبول قبله. ويصح القبول أيضاً بعد موت الموصي؛ لأنها نوع وصية، فيصح قبولها حينئذ كوصية المال، ومتى قبل صار وصياً. ويقوم فعل التصرف مقام اللفظ، كما في الوكالة، بالاتفاق، ولا يشترط القبول لفظاً.
ولا يصح في الأصح عند الشافعية قبول الوصي ورده في حياة الموصي؛ لأنه لم يدخل وقت التصرف كالوصية له بالمال، فلو قبل في حياته، ثم رد بعد وفاته لفات العقد، أما لو رد في حياته ثم قبل بعد وفاته صح العقد.
ويجوز في الإيصاء التوقيت والتعليق (2) ، مثال الأول: أوصيت إليك سنة أو إلى بلوغ ابني أو إلى قدوم زيد. ومثال الثاني: إذا مت فقد أوصيت إليك؛ لأن الوصاية تحتمل الجهالات والأخطار، فكذا التوقيت والتعليق، ولأن الإيصاء كالإمارة، وقد أمَّر النبي صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على سرية في غزوة مؤتة، وقال: «إن أصيب زيد، فجعفر، وإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة» (3) .
__________
(1) الدر المختار: 495/5.
(2) مغني المحتاج: 77/3.
(3) رواه البخاري.(10/279)
المبحث الثالث ـ أحكام تصرفات الوصي:
1) ـ البيع والشراء:
قال الحنفية (1) : يصح بيع الوصي وشراؤه من أجنبي بما يتغابن فيه الناس عادة، وهو الغبن اليسير؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، لا بما لا يتغابن فيه عادة وهو الغبن الفاحش (2) ؛ لأن ولايته مقيدة بالمصلحة، فليس للوصي بيع شيء من مال اليتيم بغبن فاحش، ويصح له البيع بالغبن اليسير.
وإن باع الوصي، أو اشترى مال اليتيم لنفسه: فإن كان وصي القاضي لا يجوز مطلقاً؛ لأنه وكيله. وإن كان وصي الأب، جاز عند أبي حنيفة بشرط توافر منفعة ظاهرة للصغير: وهي قدر النصف زيادة أو نقصاً. ولم يجز مطلقاً عند الصاحبين.
ويجوز للأب بيع مال صغير من نفسه بمثل القيمة، وبما يتغابن فيه عادة، وهو الغبن اليسير، وإلا فلا يجوز.
وهذا كله في المنقول. ويجوز للوصي البيع على الكبير الغائب في غير العقار، ويجوز له مطلقاً بيع العقار لوفاء دين، أو لخوف هلاك العقار. فإن كان الموصى عليه الكبير حاضراً، فليس للوصي التصرف في التركة أصلاً، إلا إذا كان على الميت دين، أو أوصى بوصية، ولم تقض الورثة الديون، ولم ينفذوا الوصية من مالهم، فإنه يبيع التركة كلها إن كان الدين محيطاً بها، وبمقدار الدين إن لم يحط بها، وله بيع ما زاد على الدين أيضاً عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين، وبقولهما يفتى. وينفِّذ الوصية بمقدار الثلث، ولو باع لتنفيذها شيئاً من التركة جاز بمقدارها باتفاق الحنفية.
__________
(1) الدر المختار: 500/5-503، 512-513.
(2) الصحيح في تفسير الغبن الفاحش عند الحنفية: أنه مالا يدخل تحت تقويم المقومين.(10/280)
ويجوز للوصي بيع عقار صغير من أجنبي، لا من نفسه، بضعف قيمته، أو لنفقة الصغير، أو أداء دين الميت، أو لتنفيذ وصية مرسلة (1) لانفاذ لها إلا منه، أو لكون غلاته لا تزيد على مؤنته (تكاليفه) أو لخوف خرابه، أو نقصانه، أو كونه في يد متغلب، كأن استرده منه الوصي، ولا بينة له، وخاف أن يأخذه المتغلب منه بعدئذ، تمسكاً بما كان له من اليد، فللوصي بيعه، وإن لم يكن لليتيم حاجة إلى ثمنه.
هذا إذا كان الوصي لا من قبل أم أو أخ ونحوهما من الأقارب غير الأب والجد والقاضي، فإن المعين من قبل أم أوأخ ونحوهما لا يملك بيع العقار مطلقاً، ولا شراء غير طعام وكسوة.
أما الأب المحمود عند الناس أو مستور الحال، فله في الأصح بيع عقار ولده الصغير بدون المسوغات المذكورة، لتوافر الشفقة الكاملة عنده على ولده.
وللأب أو الجد بيع مال الصغير من الأجنبي بمثل قيمته إذا لم يكن فاسد الرأي. فإن كان فاسد الرأي، لم يجز بيعه العقار؛ وللصغير نقض البيع بعد بلوغه، إلا إذا باعه بضعف القيمة. وكذلك لا يجوز له في الرواية المفتى بها بيع المنقول إلا بضعف القيمة.
ويملك الأب والجد بيع مال أحد طفليه للآخر، ولا يجوز ذلك للوصي.
وليس للوصي أن يتجر في مال اليتيم لنفسه، فإن فعل تصدق بالربح في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويجوز له أن يتجر في مال اليتيم لليتيم، ولا يجبر على تنمية مال اليتيم.
وأجاز الجمهور غير الحنفية للوصي التصرف في مال الصغير بحسب المصلحة للصغير أو للحاجة.
__________
(1) الوصية المرسلة: هي التي لم تقيد بنسبة كثلث أو ربع مثلاً، كما إذا أوصى بمئة مثلاً.(10/281)
أما الموصى عليه الكبير فقال المالكية (1) : ليس لوصي الميت في حال الحضر أن يبيع التركة أوشيئاً منها لقضاء دين أو تنفيذ وصية إلا بحضرة الكبير (2) الموصى عليه، إذ لا تصرف للوصي في مال الكبير، فإن غاب الكبير أوأبى من البيع نظر الحاكم في شأن البيع، فإما أن يأمر الوصي بالبيع أو يأمر من يبيع معه للغائب، أو يقسم ما ينقسم. فإن لم يرفع الأمر للحاكم، وباع الوصي رد بيعه إن كان المبيع قائماً، فإن فات بيد المشتري بهبة أو صبغ ثوب، أو نسج غزل، أو أكل طعام، وكان قد أصاب وجه البيع، فالمستحسن إمضاء البيع.
أما في حال السفر، فلو مات شخص فلوصيه بيع متاعه. وعروضه؛ لأنه يثقل حمله.
وقال الحنابلة (3) : إن دعت الحاجة لبيع بعض العقار، لحاجة صغار، وفي بيع بعضه ضرر، مثل أن ينقص الثمن على الصغار، باع الوصي العقار كله على الصغار، وعلى الكبار إن أبوا البيع، أو كانوا غائبين؛ لأن الوصي قائم مقام الأب، وللأب بيع الكل، فالوصي كذلك، ولأنه وصي يملك بيع البعض، فملك بيع الكل، كما لو كان الكل صغاراً، أو الدين مستغرقاً، ولأن الدين متعلق بكل جزء من التركة.
__________
(1) الشرح الكبير: 453/4، الشرح الصغير: 607/4.
(2) المراد بالكبير: البالغ.
(3) كشاف القناع: 444/4، غاية المنتهى: 381/2.(10/282)
2) ـ التوكيل والإيصاء للغير:
أجاز الحنفية والمالكية (1) إيصاء الوصي لغيره، ووصي الوصي سواء أوصي إليه في مال الوصي أو في مال موصيه، هو وصي في التركتين.
ولم يجز الشافعية والحنابلة (2) للوصي الإيصاء لغيره إلا بإذن الموصي؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فلم يملك الوصية، كالوكيل.
وكذلك لا يجوز عند هذا الفريق الثاني للوصي توكيل غيره إلا فيما لم تجر به العادة أن يتولاه بنفسه، كما هو الشأن في الوكيل، كأن كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب، متعدد الجهات، بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على أدائه، وكذلك لو كان العمل شاقاً لا يقدر مثله على القيام به، ويحتاج إلى شخص قوي يؤديه، أو كان العمل يفتقر إلى مهارة كالهندسة ونحوها، فيجوز له توكيل غيره ممن يقوم بمثل هذه الأمور (3) .
3) ـ المضاربة بمال الموصى عليه، واقتضاء الدين، والإنفاق بالمعروف والختان، وإخراج زكاة الفطر، وضمان القرض:
قال المالكية (4) : للوصي دفع مال الموصى عليه للغير يعمل فيه قراضاً (مضاربة) بجزء من الربح، أو إبضاعاً: أي بدفع دراهم لمن يشتري بها سلعة، كمتاع من بلد المنشأ من غير ربح، لاشتماله على نفع للصبي، وللوصي ألا يدفع؛ إذ لا يجب عليه تنمية مال اليتيم، كما تبين عند الحنفية في الاتجار.
وللوصي اقتضاء الدين ممن هو عليه، بل يجب عليه ذلك.
وللوصي تأخير الدين إذا كان حالاً لمصلحة في التأخير.
وللوصي الإنفاق على الطفل الذي في وصايته بالمعروف، بحسب حال الطفل والمال من قلة أو كثرة، وله الإنفاق عليه في ختانه وعُرْسه. وله دفع نفقة لموصى عليه، إن قلَّت مما لا يخاف عليه إتلافه، كجمعة أو شهر، فإن خاف إتلافه دفع له مياومة أي يوماً فيوماً. وهذا متفق عليه. وأضاف الحنفية: وللوصي الإنفاق على اليتيم في تعلم القرآن والأدب إن تأهل لذلك، وإلا فلينفق عليه بقدر ما يتعلم القراءة الواجبة في الصلاة.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 499/5، الشرح الصغير: 611/4.
(2) كشاف القناع: 440/4، المهذب: 464/1، غاية المنتهى: 379/2.
(3) المهذب: 464/1، تكملة المجموع: 152/15.
(4) الشرح الصغير: 609/4-610.(10/283)
وللوصي إخراج زكاة فطر الموصى عليه عنه وعمن تلزمه نفقته من مال اليتيم كأمه الفقيرة. وله إخراج زكاته من حرث وماشية ونقد وعروض تجارية.
وقال الحنفية (1) : لا يملك الوصي ومثله الأب إقراض مال اليتيم، فإن أقرض ضمن، ويملك القاضي ذلك. ولو أخذ الوصي المال قرضاَ لنفسه، لا يجوز ويكون ديناً عليه.
4) ـ القسمة عن الموصى له:
قال الحنفية (2) : تصح قسمة الوصي حال كونه نائباً عن ورثة كبار غيَّب أو صغار، مع الموصى له بالثلث، ولا رجوع للورثة على الموصى له إن ضاع قسطهم مع الوصي، لصحة قسمته حينئذ.
وأما قسمته عن الموصى له الغائب، أو الحاضر بلا إذنه، مع الورثة ولو صغاراً فلا تصح، وحينئذ فيرجع الموصى له بثلث ما بقي من المال إذا ضاع قسطه؛ لأنه كالشريك مع الوصي، ولا يضمن الوصي؛ لأنه أمين.
وصح قسمة القاضي، وأخذه قسط الموصى له، إن غاب الموصى له، وهذا في المكيل والموزون؛ لأن القسمة فيهما إفراز. أما في غيرهما فلا تجوز القسمة لأنها مبادلة كالبيع، وبيع مال الغير لا يجوز، فكذا القسمة.
ويملك الأب لا الجد قسمة مال مشترك بينه وبين الصغير، بخلاف الوصي.
وقال المالكية (3) كالحنفية: لا يقسم الوصي على غائب من الورثة، بلا حاكم، فإن قسم بدون حاكم نقضت القسمة، والمشترون للتركة أو بعضها التي باعها الوصي من غير حضور الكبير أو وكيله، ومن غير رفع الأمر للحاكم، العالمون بالأمر، حكمهم حكم الغاصب لا غلة لهم، ويضمنون ما يتلف حتى بسبب سماوي.
وكذلك قال الحنابلة (4) : مقاسمة الوصي للموصى له نافذة على الورثة؛ لأنه نائب عنهم، ففعله كفعلهم، ومقاسمة الوصي للورثة على الموصى له لا تنفذ؛ لأنه ليس نائباً عنه، كتصرف الفضولي.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 503/5.
(2) المرجع السابق: ص 499 وما بعدها، 512.
(3) الشرح الصغير: 607/4، الشرح الكبير: 453/4.
(4) كشاف القناع: 441/4.(10/284)
5) ـ إقرار الوصي بدين على الميت، وهل الوصي أولى بالولاية أو الجد؟
قال الحنفية (1) : لا يجوز للوصي الإقرار بدين على الميت، ولا بشيء من تركته أنه لفلان؛ لأنه إقرار على الغير إلا أن يكون المقر وارثاً، فيصح في حصته.
ولو أقر الوصي بعين لآخر، ثم ادعى أنه للصغير لا يسمع إقراره.
ووصي الأب أحق عند الحنفية بمال الطفل من جده، فإن لم يكن للأب وصي، فالجد، ويكون ترتيب الولاية في مال الصغير على النحو التالي: للأب ثم وصيه، ثم وصي وصيه ولو بعُد، فلو مات الأب ولم يوص فالولاية لأبي الأب ثم وصيه، ثم وصي وصيه، فإن لم يكن فللقاضي ومنصوبه. وقد سبق بيان ترتيب الأولياء عند غير الحنفية.
6) ـ دفع المال للمحجور وترشيد المحجور:
قال الحنفية (2) : لو دفع الوصي المال إلى اليتيم قبل ظهور رشده (3) بعد البلوغ والإدراك، فضاع المال، ضمن الوصي عند الصاحبين؛ لأنه دفعه إلى من ليس له أن يدفع إليه. وظهور الرشد يكون بالبينة. أما إذا ظهر رشده ولو قبل الإدراك، فدفع إليه فلا يضمن.
وقال أبو حنيفة بعدم الضمان إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنة؛ لأن له حينئذ ولاية الدفع إليه.
وكذلك قال المالكية (4) : مثل الصاحبين: لا يقبل قول الوصي في الدفع لمال المحجور بعد الرشد إلا ببينة، ولو طال الزمن بعد الرشد، قال تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم، فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيباً} [النساء:6/4] .
وقال الحنفية: الأصل أن كل شيء كان الوصي مسلطاً عليه، فإنه يصدق فيه، ومالا فلا، فيقبل قول الوصي فيما يدعيه من الإنفاق بلا بينة إلا في مسائل أهمها ما يأتي:
__________
(1) الدر المختار: 504/5.
(2) المرجع السابق: ص 501.
(3) الرشد: هو كونه مصلحاً في ماله.
(4) الشرح الصغير: 612/4.(10/285)
إذا ادعى قضاء دين الميت من ماله بعد بيع التركة، قبل قبض ثمنها. أو أن اليتيم استهلك في صغره مال شخص آخر، فدفع ضمانه، أو أذن له بتجارة، فلحقته ديون، فقضاها عنه، أو ادعى أداء خراج أرضه وكان ادعاؤه في وقت الادعاء أي يوم الخصومة لا يصلح للزراعة، أوأنفق على محرمه الذي مات.
أو أنفق على اليتيم في ذمته، أو من مال نفسه حال غيبة ماله، وأراد الرجوع.
أو أنه زوَّج اليتيم امرأة، ودفع مهرها من ماله، وهي الآن ميتة، ولم يقر اليتيم بالزواج. فإن أقر اليتيم بالتزويج، فللوصي الرجوع بالمهر، سواء أكانت المرأة حية أم ميتة.
أو اتجر الوصي وربح، ثم ادعى أنه كان مضارباً.
ففي هذه الأحوال يكون القول لليتيم، والوصي ضامن، إلا أن يبرهن بالبينة.
ويرى الحنابلة (1) : أن الوصي لا يقبل قوله إلا ببينة كمدعي الدين، إلا في حال الضرورة كنفقات التجهيز والتكفين في السفر.
7) ـ شهادة الأوصياء:
قال أبو حنيفة (2) : تبطل شهادة الوصيين لوارث صغير بمال مطلقاً (3) ، ولوارث كبير بمال الميت، وتصح شهادتهما بغير مال الميت لانقطاع ولايتهما عنه، فلا تهمة حينئذ؛ لأن الميت أقام الوصي مقام نفسه في تركته لا في غيرها.
أما بطلان الشهادة للوارث الصغير، فلأن للوصي ولاية التصرف في ماله، فتكون شهادة الوصيين مظهرة ولاية التصرف لأنفسهما في المشهود به، وأما بطلان الشهادة للوارث الكبير، فلأن للوصي ولاية الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث، فتحققت التهمة. وهذا هو الراجح لدى الحنفية.
__________
(1) كشاف القناع: 441/4.
(2) الدر المختار: 505/5، الهداية مع تكملة الفتح: 503/8.
(3) أي سواء انتقل إليه من الميت أم لا؛ لأن التصرف في مال الصغير للوصي، سواء أكان من التركة أم لا.(10/286)
وقال الصاحبان: إن شهد الوصيان لوارث كبير، جازت الشهادة في الوجهين، أي سواء بمال الميت أو بغير مال الميت؛ لأنه لا يثبت لهما ولاية التصرف في التركة إذا كانت الورثة كباراً، فعريت الشهادة عن التهمة.
8) ـ رجوع الوصي على مال اليتيم:
قال الحنفية (1) : يرجع الوصي في مال الطفل إذا باع ما أصابه من التركة، وهلك ثمنه معه، فاستحق المال المبيع، ثم يرجع الطفل على الورثة بحصته، لانتقاض القسمة باستحقاق ما أصابه.
9) ـ فض النزاع بين الوصي والموصى عليه:
الوصي أمين في رأي جمهور الفقهاء (2) ، فلا يضمن هلاك مال الموصى عليه، ويقبل قوله بيمينه إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة أو مقدارها.
وبناء عليه قال الشافعية: فلو قال الوصي: أنفقت عليك، وقال الصبي: لم تنفق علي، فالقول قول الوصي؛ لأنه أمين، وتتعذر عليه إقامة البينة على النفقة.
وإن اختلفا في قدر النفقة، فقال الوصي: أنفقت عليك في كل سنة مائة دينار، وقال الصبي: بل أنفقت علي خمسين ديناراً، فإن كان ما يدعيه الوصي من النفقة بالمعروف، فالقول قوله؛ لأنه أمين، وإن كان أكثر من النفقة بالمعروف، فعليه الضمان؛ لأنه فرط في الزيادة.
وإن اختلفا في المدة: فقال الوصي: أنفقت عشر سنين، وقال الصبي: خمس سنين، ففيه وجهان، قال أكثر الشافعية: إن القول قول الصبي؛ لأنه اختلاف في مدة، الأصل عدمها. وقال الاصطخري: إن القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قدر النفقة.
وإن اختلفا في دفع المال إلى الولد بعد البلوغ والرشد، صدق الولد بيمينه على الصحيح، لمفهوم آية: {فأشهدوا عليهم} [النساء:6/4] .
__________
(1) الدر المختار: 500/5.
(2) الدر المختار: 500/5، 508، الشرح الصغير: 611/4، المهذب: 464/1، مغني المحتاج: 78/3.(10/287)
10) ـ جُعْل الوصي وانتفاعه بمال الموصى عليه:
قال الحنفية (1) : الصحيح أنه لا أجر لوصي الميت، لكن له استحساناً الأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجاً لما يأتي، وإذا امتنع عن القيام بالوصية إلا بأجر لا يجبر على العمل؛ لأنه متبرع، ولا جبر على المتبرع. فإذا رأي القاضي أن يجعل له أجرة المثل فلا مانع منه.
وله الأكل من مال اليتيم وركوب دوابه بقدر الحاجة، لقوله تعالى: {ومن كان فقيراً، فليأكل بالمعروف} [النساء:6/4] .
أما وصي القاضي فإن نصبه بأجر مثله، جاز.
وذكر الحنابلة (2) أنه يجوز أن يجعل الموصي أو الحاكم للوصي جُعْلاً معلوماً كالوكالة.
11) ـ عزل الوصي:
اتفق الفقهاء على أن الوصي ينعزل بالحالات التالية (3) :
أولاً ـ بإرادة الموصي أو الوصي أو القاضي: للموصي عزل الوصي متى شاء، وللوصي عزل نفسه في حياة الموصي وبعد موته، كالوكالة؛ لأن العقد غير لازم، وينعزل الوصي بعزل الموصي وإن لم يبلغه العزل بخلاف الوكيل عند أبي حنيفة. وينعزل أيضاً بعزل القاضي وإن جار القاضي في العزل، ولكنه يأثم. وجواز عزل الوصي نفسه مقيد بما إذا لم تتعين عليه الوصية، ولم يغلب على ظنه تلف المال باستيلاء ظالم من قاض وغيره، فحينئذ ليس له عزل نفسه.
ثانياً ـ بالعجز التام أو الخيانة: لو ظهر للقاضي عجز الوصي أصلاً، استبدل به غيره ويجب عزل الوصي بالخيانة.
ثالثاً ـ بالموت أو الجنون أو الفسق، لاستحالة التصرف بالموت. وعدم المصلحة في الجنون والفسق.
رابعاً ـ بانتهاء الغاية من الوصاية أو انتهاء مدتها: فمن أوصي له في شيء معين، لم يصر وصياً في غيره، وتنتهي الوصاية بانتهاء الغاية منها، وبانتهاء المدة المقررة لها؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فكان تصرفه على حسب الإذن.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 503/5 وما بعدها، 512.
(2) كشاف القناع: 441/4. والجعل: ما جعل للإنسان من شيء على فعل.
(3) الدرالمختار ورد المحتار: 495/5 ومابعدها، الشرح الصغير: 606/4، 609، الشرح الكبير: 453/4، المهذب: 463/1، مغني المحتاج: 75/3، كشاف القناع: 440/4، 442، غاية المنتهى: 378/2-380.(10/288)
12) ـ الإنفاق للضرورة:
قال الحنابلة (1) : إن مات إنسان لا وصي له، ولا حاكم ببلده الذي مات فيه، أو مات في صحراء ونحوها كجزيرة لا عمران بها، جاز لمسلم حضره حيازة تركته، وتولي أمر تجهيزه، ويفعل الأصلح في التركة من بيع وحفظ وحمل للورثة؛ لأنه موضع ضرورة لحفظ مال المسلم عليه. ويكفنه من تركته إن كان له تركة، وإن لم يكن له تركة جهزه من عنده، ورجع بما جهزة بالمعروف على تركته حيث كانت، أو على من يلزمه كفنه إن لم يترك شيئاً، لأنه قام عنه بواجب. وذلك إن نوى الرجوع أو استأذن حاكماً في تجهيزه. فإن نوى التبرع فلا رجوع له، كما لا رجوع له إن لم ينو تبرعاً ولا رجوعاً.
__________
(1) كشاف القناع: 445/4.(10/289)
البَابُ الخامس: الوَقْف
فيه عشرة فصول:
الأول ـ تعريف الوقف ومشروعيته وصفته وركنه.
الثاني ـ أنواع الوقف ومحله.
الثالث ـ حكم الوقف ومتى يزول ملك الواقف؟.
الرابع ـ شروط الوقف.
الخامس ـ إثبات الوقف شرعاً وقانوناً.
السادس ـ مبطلات الوقف،
السابع ـ نفقات الوقف.
الثامن ـ استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب.
التاسع ـ الوقف في مرض الموت.
العاشر ـ ناظر الوقف (تعيينه، وشروطه، ووظيفته، وعزله) .
وأبدأ ببيانها مستعيناً بالله تعالى.
الفَصْلُ الأوّل: تعريف الوقف ومشروعيَّته وصفته وركنه:
أولاً ـ تعريف الوقف:
الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهو لغة: الحبس عن التصرف. يقال: وقفت كذا: أي حبسته، ولا يقال: أوقفته إلا في لغة تميمية، وهي رديئة، وعليها العامة. ويقال: أحبس لا حبَس، عكس وقف، فالأولى فصيحة، والثانية رديئة. ومنه: الموقف لحبس الناس فيه للحساب. ثم اشتهر إطلاق كلمة الوقف على اسم المفعول وهوا لموقوف. ويعبر عن الوقف بالحبس، ويقال في المغرب: وزير الأحباس.
والوقف شرعاً له في المذاهب تعاريف ثلاثة:
التعريف الأول ـ لأبي حنيفة (1) : وهو حبس العين على حكم ملك الواقف، والتصدُّق بالمنفعة على جهة الخير. وبناء عليه لا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف ويصح له الرجوع عنه، ويجوز بيعه؛ لأن الأصح عند أبي حنيفة أن الوقف جائز غير لازم كالعارية، فلا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة (2) :
1ً - أن يحكم به الحاكم المولى لا المحكَّم، بأن يختصم الواقف مع الناظر، لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم، فيلزم؛ لأنه أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
2ً - أو أن يعلقه الحاكم بموته: فيقول: إذا مت فقد وقفت داري مثلاً على كذا، فيلزم كالوصية من الثلث بالموت، لا قبله.
__________
(1) فتح القدير: 37/5-40، 62، اللباب: 180/2، الدر المختار: 391/3.
(2) ولكن الأصح المفتى به كما سيأتي هو قول الصاحبين.(10/290)
3ً - أن يجعله وقفاً لمسجد، ويفرزه عن ملكه، ويأذن بالصلاة فيه: فإذا صلى فيه واحد، زال ملكه عن الواقف عند أبي حنيفة. أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه، فلأنه لا بد من التسليم عنده وعند محمد، وتسليم الشيء بحسب نوعه، وهو في المسجد بالصلاة فيه.
وقد استدل أبو حنيفة على رأيه بدليلين:
1ً - قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حبس عن فرائض الله» (1) فلو كان الوقف يخرج المال الموقوف عن ملك الواقف، لكان حبساً عن فرائض الله؛ لأنه يحول بين الورثة وبين أخذ نصيبهم المفروض.
لكن لا يدل هذا الحديث مع ضعفه على مقصود الإمام، لأن المراد به إبطال عادة الجاهلية بقصر الإرث على الذكور الكبار، دون الإناث والصغار.
2ً - ما روي عن القاضي شريح أنه قال: «جاء محمد صلّى الله عليه وسلم ببيع الحبس» فإذا جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم بذلك، فليس لنا أن نستحدث حبساً آخر، إذ الوقف تحبيس العين، فهو غير مشروع.
ولكن لا دلالة أيضاً في هذا القول على مطلوب الإمام؛ لأن الحبس الممنوع هو ماكان يحبس للأصنام والأوثان، وقد جاء الرسول صلّى الله عليه وسلم ببيعه وإبطاله قضاء على الوثنية. أما الوقف فهو نظام إسلامي محض. قال الإمام الشافعي: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، إنما حبس أهل الإسلام» .
التعريف الثاني ـ للجمهور وهم الصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشافعية والحنابلة في الأصح (2) : وهو حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود ـ أو بصرف ريعه على جهة بر وخير ـ تقرباً إلى الله تعالى. وعليه يخرج المال عن ملك الواقف، ويصير حبيساً على حكم ملك الله تعالى (3) ، ويمتنع على الواقف تصرفه فيه، ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. واستدلوا لرأيهم بدليلين:
1ً - حديث ابن عمر: «أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضاً بخيبر، لم أُصب مالاً قط أنفسَ عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، فتصدَّق بها عمر، على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرّقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويُطْعِم غير متموِّل» (4) أي غير متخذ منها مالاً أي ملكاً. قال ابن حجر في الفتح: «وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف» .
__________
(1) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وفيه ابن لهيعة أخوه عيسى ضعيفان.
(2) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: 376/2، كشاف القناع: 267/4، غاية المنتهى: 299/2.
(3) المراد أنه لم يبق على ملك الواقف، ولا انتقل إلى ملك غيره، بل صار على حكم ملك الله تعالى الذي لا ملك فيه لأحد سواه، هذا هو المراد وإلا فالكل ملك لله تعالى.
(4) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 20/6) .(10/291)
وهو يدل على منع التصرف في الموقوف؛ لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف.
2ً - استمر عمل الأمة منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير، ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.
التعريف الثالث ـ للمالكية (1) : وهو جعل المالك منفعة مملوكة، ولو كان مملوكاً بأجرة، أو جعل غلته كدراهم، لمستحق، بصيغة، مدة ما يراه المحبِّس. أي إن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية، تبرعاً لازماً، مع بقاء العين على ملك الواقف، مدة معينة من الزمان، فلا يشترط فيه التأبيد. ومثال المملوك بأجرة: أن يستأجر داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة. وبه يكون المراد من «المملوك» إما ملك الذات أو ملك المنفعة.
الوقف عند المالكية لايقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. واستدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث عمر المتقدم، حيث قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ففيه إشارة للتصدق بالغلة، مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف، ومنع أي تصرف تمليكي فيه للغير، بدليل فهم عمر: «على ألا تباع، ولا توهب، ولاتورث» .
وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفه أي تبذير، فإن ملكه باق في ماله، ولكنه ممنوع من بيعه وهبته. وهذا الرأي أدق دليلاً، ولكن التعريف الثاني أشهر عند الناس.
واتفق العلماء في وقف المساجد أنها من باب الإسقاط والعتق، لا ملك لأحد فيها، وأن المساجد لله تعالى.
__________
(1) الشرح الكبير: 76/4، الشرح الصغير: 97/4-98، الفروق: 111/2.(10/292)
ثانياً ـ مشروعية الوقف وحكمته أو سببه: الوقف عند الجمهور غير الحنفية سنة مندوب إليها، فهو من التبرعات المندوبة، لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92/3] وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] فهو بعمومه يفيد الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف: إنفاق المال في جهات البر.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» (1) والولد الصالح: هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف، وكان وقف عمر مئة سهم من خيبر أول وقف في الإسلام على المشهور. وقال جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.
والوقف من خصائص الإسلام، قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون، قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت.
ويلاحظ أن القليل من أحكام الوقف ثابت بالسنة، ومعظم أحكامه ثابت باجتهاد الفقهاء بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف.
وحكمة الوقف أو سببه: في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة تحصيل الثواب، بنية من أهله (2) .
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 392/3، 399-401.(10/293)
وقال الحنفية: الوقف مباح بدليل صحته من الكافر، وقد يصبح واجباً بالنذر، فيتصدق بالعين الموقوفة أو بثمنها. ولو وقفها على من لا تجوز له الزكاة كالأصول والفروع، جاز في الحكم، أي صح الوقف في حكم الشرع لصدوره من أهله في محله، لكن لا يسقط به النذر؛ لأن الصدقة الواجبة لا بد من أن تكون لله تعالى على الخلوص، وصرفها إلى من لا تجوز شهادته له: فيه نفع له، فلم تخلص لله تعالى، كما لو صرف إليه الكفارة أو الزكاة، وقعت صدقة، وبقيت في ذمته (1) .
ثالثاً ـ صفة الوقف:
الوقف عند أبي حنيفة جائز غير لازم، يجوز الرجوع عنه، فهو تبرع غير لازم، إلا فيما استثناه سابقاً، وهو بمنزلة الإعارة غير اللازمة، فله أن يرجع فيه متى شاء، ويبطل بموته، ويورث عنه، كما هو المقرر في حكم الإعارة (2) .
وهو عند محمد بن الحسن والشافعية والحنابلة (3) : إذا صح صار لازماً لاينفسخ بإقالة ولا غيرها، وينقطع تصرف الواقف فيه، ولا يملك الرجوع عنه، ويزول ملكه عن العين الموقوفة، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها، لاتباع ولا توهب ولا تورث» وهو بمنزلة الهبة والصدقة. فلا بد فيه لترتيب آثاره الشرعية من تسليمه إلى الجهة الموقوف عليها، كسائر التبرعات. ولا يجوز عند محمد وقف مشاع قابل للقسمة.
ورأى أبو يوسف: أن الوقف إسقاط ملك، كالطلاق والإعتاق فإنه إسقاط للملك عن الزوجة والعبد، فيتم بمجرد التلفظ، ولا يشترط فيه التسليم، ويصح وقف المشاع القابل للقسمة من غير إفراز، وهذا هو المفتى به عند الحنفية؛ لأنه أحوط وأسهل.
__________
(1) المرجع والمكان السابق.
(2) المرجع السابق: ص 394.
(3) فتح القدير: 45/5، المهذب: 442/1، كشاف القناع: 278/4، غاية المنتهى: 325/2.(10/294)
والوقف عند المالكية (1) : إن صح لزم، ولا يتوقف على حكم الحاكم، حتى لو لم يحز (يقبض) وحتى لو قال الواقف: ولي الخيار، فإن أراد الواقف الرجوع فيه، لا يمكَّن، وإذا لم يُحَز أجبر على إخراجه من تحت يده للموقوف عليه. وهو في حال الحياة من قبيل الإعارة اللازمة، وبعد الوفاة من قبيل الوصية بالمنفعة، وعليه ليس للواقف في حال الصحة الرجوع عن الوقف قبل حصول المانع، ويجبر على القبض (التحويز) إلاإذا شرط لنفسه الرجوع، فله ذلك، أما الواقف في حال المرض، فله الرجوع فيه؛ لأنه كالوصية.
رابعاً ـ ركن الوقف:
قال الحنفية (2) : ركن الوقف هي الصيغة، وهي الألفاظ الدالة على معنى الوقف، مثل أرضي هذه موقوفة مؤبدة على المساكين ونحوه من الألفاظ، مثل: موقوفة لله تعالى، أو على وجه الخير، أو البر، أو موقوفة فقط، عملاً بقول أبي يوسف، وبه يفتى للعرف. وقد يثبت الوقف بالضرورة مثل: أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبداً، أو لفلان وبعده للمساكين أبداً، فتصير الدار وقفاً بالضرورة، إذ كلامه يشبه القول: إذا مت فقد وقفت داري على كذا.
ركن الوقف عندهم: هو الإيجاب الصادر من الواقف الدال على إنشاء الوقف. وهذا على أن معنى الركن: هو جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به. ويكون الوقف بناء عليه كالوصية تصرفاً يتم بإرادة واحدة هي إرادة الواقف نفسه، وهي التي يعبر عنها بإيجاب الواقف.
__________
(1) الشرح الكبير: 75/4، الشرح الصغير: 107/4.
(2) الدر المختار: 393/3، فتح القدير: 39/5-40.(10/295)
وقال الجمهور (1) : للوقف أركان أربعة: هي الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة: باعتبار أن الركن: ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءاً منه أم لا.
أما القبول من الموقوف عليه: فليس ركناً في الوقف عند الحنفية على المفتى به، والحنابلة كما ذكر القاضي أبو يعلى، ولا شرطاً لصحة الوقف ولا للاستحقاق فيه، سواء أكان الموقوف عليه معيناً أم غير معين، فلو سكت الموقوف عليه، فإنه يستحق من ريع الوقف، فيصير الشيء وقفاً بمجرد القول؛ لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث، فلم يطلب فيه القبول، كالعتق، لكن إذا كان الموقوف عليه معيناً، كالوقف على خالد أو محمد، ورد الوقف، فلا يستحق شيئاً من ريع الوقف وإنما ينتقل إلى من يليه ممن عينه الواقف بعده متى وجد، فإن لم يوجد عاد الموقوف للواقف أو لورثته إن وجدوا وإلا فلخزانة الدولة، ولكن لا يبطل الوقف برده، ويكون رده وقبولهما وعدمهما واحداً كالعتق؛ لأن ركن الوقف وهو إيجاب الواقف قد تحقق. أخذ القانون المصري (م 9) رقم (48) لسنة (1946) بهذا الرأي، حيث لم يجعل القبول شرطاً للاستحقاق، والمادة (17) بينت انتهاء الوقف. ولكن قال الحنفية: لو وقف لشخص بعينه، ثم للفقراء، اشترط قبوله في حقه، فإن قبله فالغلة له، وإن رده فللفقراء. ومن قبل فليس له الرد بعده، ومن رده أول الأمر ليس له القبول بعده.
ويعد القبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة ركناً إذا كان الوقف على معين إن كان أهلاً للقبول، وإلا فيشترط قبول وليه كالهبة والوصية.
واشترطت المادة التاسعة المذكورة قبول الممثل القانوني إذا كان الوقف على جهة لها من يمثلها قانوناً كالأزهر أوالجامعة. وهذا من قبيل سد الذرائع أمام تدخل الواقفين بشؤون هذه الجهة، أو محاولة السيطرة عليها لأغراض معينة بقصد العبث والفساد. فإن لم يقبل من يمثل الجهة، انتقل الاستحقاق لمن يليها متى وجد، وإن لم يوجد أصلاً، أخذ الموقوف حكم الوقف المنتهي المبين في المادة 17.
__________
(1) رد المحتار: 395/3، القوانين الفقهية: ص 369 ومابعدها، الشرح الصغير: 101/4 ومابعدها، مغني المحتاج: 376/2، 383، غاية المنتهى: 299/2، المغني: 547/5، كشاف القناع: 279/4، الفروق: 111/2.(10/296)
الفَصْلُ الثَّاني: أنواع الوقف ومحلّه:
ينقسم الوقف بحسب الجهة الأولى التي وقف عليها في الابتداء على نوعين: خيري، وأهلي أو ذُرّي (1) .
أما الوقف الخيري: فهو الذي يوقف في أول الأمر على جهة خيرية، ولو لمدة معينة، يكون بعدها وقفاً على شخص معين أو أشخاص معينين. كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة، ثم من بعد ذلك على نفسه وأولاده.
وأما الوقف الأهلي أو الذُّرِّي: فهو الذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس الواقف أو أي شخص أو أشخاص معينين، ولو جعل آخره لجهة خيرية، كأن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم من بعدهم على جهة خيرية.
ونص القانون المصري م (180) لسنة 1952م، والقانون السوري لسنة (1949) على انتهاء أو إلغاء الوقف الأهلي لتصفية مشكلاته المعقدة. وبقي الوقف الخيري جائزاً.
__________
(1) الوقف للأستاذ الشيخ عيسوي: ص 21.(10/297)
وأما محل الوقف: فهو المال الموجود المتقوم (1) من عقار: أرض أو دار بالإجماع، أو منقول ككتب وثياب وحيوان وسلاح، لقوله: «وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فإنه احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله» (2) ، واتفقت الأمة على وقف الحصر والقناديل في المساجد من غير نكير.
ويصح وقف الحلي للبس والإعارة؛ لأنه عين الانتفاع بها دائماً، فصح وقفها كالعقار، ولما روى الخلال بإسناده عن نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً، فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
وشرط الحنفية في الوقف المنقول: أن يكون تابعاً للعقار، أو جرى به التعامل عرفاً، كوقف الكتب وأدوات الجنازة.
ويصح وقف المشاع من عقار أو منقول؛ لأن عمر رضي الله عنه وقف مئة سهم في خيبر مشاعاً (3) .
وقد وضع الحنابلة وغيرهم ضابطاً لما يجوز وقفه، وما لا يجوز، فقالوا: الذي يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به، مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقى بقاء متصلاً كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك.
وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الدنانير والدراهم (النقود) وما ليس بحلي، والمأكول والمشروب والشمع وأشباهه، لا يصح وقفه في قول جماعة من الفقهاء؛ لأن الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه الوقف؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام. إلا أن متقدمي الحنفية أجازوا وقف الدنانير والدراهم والمكيل والموزون، لكن الظاهر أنه لا يجوز الآن لعدم التعامل به كما سيأتي.
ولا يصح وقف الحمل؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع.
قال ابن جزي المالكي: يجوز تحبيس العقار كالأرضين والديار والحوانيت والجنات، والمساجد، والآبار، والقناطر والمقابر، والطرق وغير ذلك. ولا يجوز تحبيس الطعام لأن منفعته في استهلاكه، ولكن نص الإمام مالك وتبعه الشيخ خليل على جواز وقف الطعام والنقد، وهو المذهب وينزل رد بدله منزلة بقاء عينه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 393/3، الشرح الصغير: 101/4 ومابعدها، المهذب: 440/1، مغني المحتاج: 377/2، المغني: 583/5-585، تكملة المجموع: 577/14.
(2) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأعتده ـ وهو الصواب ـ جمع عتاد: وهو كل ما أعده من السلاح والدواب.
(3) رواه الشافعي.(10/298)
وبيان الرأي الفقهي في بعض أنواع المال الموقوف:
1 ً - وقف العقار: يصح وقف العقار (1) من أرض ودور وحوانيت وبساتين ونحوها بالاتفاق (2) ؛ لأن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم وقفوه، مثلما تقدم من وقف عمر رضي الله عنه أرضه في خيبر، ولأن العقار متأبد يبقى على الدوام.
لكن بين الحنفية أنه لا يشترط لصحة الوقف تحديد العقار؛ لأن الشرط كونه معلوماً، أو إذا كانت الدار مشهورة معروفة، صح وقفها كما قال ابن الهمام في الفتح، وإن لم تحدد، استغناء بشهرتها عن تحديدها. وأفتى متأخرو الحنفية استثناء من قولهم بعدم تقوم المنافع بضمان غصب عقار الوقف وغصب منافعه أو إتلافها، كما إذا سكن فيه شخص بلا إذن أو أسكنه ناظر الوقف بلا أجر، وعليه أجر المثل، ولو كان غير معد للاستغلال، صيانة للوقف، كما أنه يفتى بضمان مال اليتيم والمال المعد للاستغلال، وبكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه.
__________
(1) هو الأرض مبنية أو غير مبنية.
(2) الدر المختار: 408/3، 439، فتح القدير: 48/5 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 182/2، الشرح الكبير: 76/4، القوانين الفقهية: ص 369، مغني المحتاج: 377/2، المهذب: 440/1، المغني: 585/5.(10/299)
2 ً - وقف المنقول: اتفق الجمهور (1) غير الحنفية على جواز وقف المنقول مطلقاً، كآلات المسجد كالقنديل والحصير، وأنواع السلاح والثياب والأثاث، سواء أكان الموقوف مستقلاً بذاته، ورد به النص أو جرى به العرف، أم تبعاً لغيره من العقار، إذ لم يشترطوا التأبيد لصحة الوقف، فيصح كونه مؤبداً أو مؤقتاً، خيرياً أو أهلياً.
وأخذ القانون المصري (م 8) بهذا الرأي، فأجاز وقف العقار والمنقول.
ولم يجز الحنفية (2) وقف المنقول ومنه عندهم البناء والغراس إلا إذا كان تبعاً للعقار، أو ورد به النص كالسلاح والخيل، أو جرى به العرف كوقف الكتب والمصاحف والفأس والقدوم والقدور (الأواني) وأدوات الجنازة وثيابها، والدنانير والدراهم، والمكيل والموزون، والسفينة بالمتاع، لتعامل الناس به، والتعامل ـ وهو الأكثر استعمالاً ـ يترك به القياس، لخبر ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» ولأن الثابت بالعرف ثابت بالنص، هذا مع العلم أن وقف البناء صار متعارفاً، بخلاف ما لا تعامل فيه كثياب ومتاع، وهذا قول محمد، المفتى به. ويباع المكيل والموزون ويدفع ثمنه مضاربة أو مباضعة، كما يفعل في وقف النقود، وما خرج من الربح يتصدق به في جهة الوقف.
لكن قال ابن عابدين (3) : وقف الدراهم متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس والقدوم كان متعارفاً في زمن المتقدمين، ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا يصح الآن، ولئن وجدنا قليلاً لا يعتبر، لأن التعامل هو الأكثر استعمالاً.
والسبب في عدم جواز وقف المنقول عندهم: أن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول لا يدوم.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 409/3 ومابعدها، 427 وما بعدها.
(3) رد المحتار: 410/3.(10/300)
3 ً - وقف المشاع:
يجوز عند الجمهور غير المالكية وقف المشاع الذي لا يحتمل القسمة، مع الشيوع، كحصة سيارة؛ لأن الوقف كالهبة، وهبة المشاع غير القابل للقسمة جائزة.
ولم يجز المالكية وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأنه يشترط الحوز عنده لصحة الوقف، وهذا أحد قولين مرجحين في المذهب.
أما المشاع القابل للقسمة: فقال أبو يوسف ويفتى بقوله: يجوز وقفه؛ لأن القسمة من تمام القبض، والقبض عنده ليس بشرط لتمام الوقف، فكذا تتمته، وهذا موافق لرأي المالكية والشافعية والحنابلة.
وقال محمد، وأكثر المشايخ أخذوا بقوله: لا يجوز وقف المشاع؛ لأن أصل القبض عنده شرط لتمام الوقف، فكذا ما يتم به، والقبض لا يصح في المشاع.
قال القاضي أبو عاصم: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى، إلا أن قول
محمد أقرب إلى موافقة الآثار. ولما كثر المصحح من الطرفين، وكان قول أبي يوسف فيه ترغيب للناس في الوقف وهو جهة بر، أطبق المتأخرون من أهل المذهب، على أن القاضي الحنفي والمقلد يخير بين أن يحكم بصحته وبطلانه، وإذا كان الأكثر على ترجيح قول محمد، وبأيها حكم صح حكمه ونفذ، فلا يسوغ له ولا لقاض غيره أن يحكم بخلافه، كما صرح به غير واحد. وقال في البحر: وصح وقف المشاع إذا قضي بصحته؛ لأنه قضاء في مجتهد فيه (1) . وهذا هو المعتمد الذي جرى عليه صاحب الدر المختار، وهو يتمشى مع قوله: ولا يتم الوقف حتى يقبض الموقوف؛ لأن تسليم كل شيء بما يليق به، في المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب المتولي وبتسليمه إياه، وحتى يفرز، فلا يجوز وقف مشاع يقسم، خلافاً لأبي يوسف.
أما غير الحنفية (2) فقال المالكية: يصح وقف المشترك الشائع فيما يقبل القسمة، ولا يصح فيما لا يقبل القسمة.
وقال الشافعية والحنابلة: يصح وقف المشاع ولو لم يقبل القسمة، ويجبر عليها الواقف إن أرادها الشريك، ويجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه، ويجعل ثمنه في مثل وقفه، بدليل أن عمر وقف مئة سهم من خيبر بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا صفة المشاع؛ لأن القصد حبس الأصل، وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك.
أما القانون فإنه أخذ في المادة (8) بالرأي الأول، ونص على أنه لا يجوز وقف الحصة الشائعة في عقار غير قابل للقسمة إلا إذا كان الباقي منه موقوفاً، واتحدت الجهة الموقوفة عليها، أو كانت الحصص مخصصة لمنفعة عين موقوفة.
__________
(1) فتح القدير: 45/5، اللباب: 181/2، الدر المختار: 399/3، 409.
(2) الشرح الكبير: 76/4، المهذب: 441/1، المغني: 586/5، مغني المحتاج: 377/2، غاية المنتهى: 300/2.(10/301)
4 ً - وقف حق الارتفاق:
قال الشافعية والحنابلة (1) : يجوز وقف علو الدار دون سفلها، وسفلها دون علو؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الآخر، ولأنه يصح بيع العلو أو السفل، ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف، فجاز كالبيع.
وقال الحنفية: لا يصح وقف الحقوق المالية، مثل حق التعلي وباقي حقوق الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم.
5 ً - وقف الإقطاعات:
الإقطاعات: هي أرض مملوكة للدولة، أعطتها لبعض المواطنين ليستغلها ويؤدي الضريبة المفروضة عليها، مع بقاء ملكيتها للدولة.
فإذا وقف المقطع له هذه الأرض لا يصح وقفه، لأنه ليس مالكاً لها. وكذلك لا يجوز للحكام والولاة والأمراء وقف شيء من هذه الإقطاعات إلا إذا كانت الأرض مواتاً، أو ملكها الإمام، فأقطعها رجلاً. ويجوز لمن أحيا الأرض الموات من الأفراد وقفها؛ لأنه ملكها بالإحياء، ووقف ما يملك (2) .
قال في الدر المختار: وأغلب أوقاف الأمراء بمصر، إنما هوإقطاعات يجعلونها مشتراة صورة من وكيل بيت المال.
ولو وقف السلطان من بيت المال، لمصلحة عمت، يجوز ويؤجر.
__________
(1) المهذب: 441/1، المغني: 553/5.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 430/3 وما بعدها.(10/302)
ويجوز للسلطان أن يأذن بوقف أرض على مسجد من أراضي البلاد المفتوحة عنوة التي لم تقسم بين الغانمين، إذ لو قسمت صارت ملكاً لهم حقيقة؛ لأنها تصير ملكاً للغانمين بالفتح والقسمة، فيجوز أمر السلطان فيها. أما الأراضي المفتوحة صلحاً فلا ينفذ أمر السلطان بوقفها؛ لأنها تبقى ملكاً لملاكها الأصليين (1) .
وكذا قال الشافعية (2) : لو وقف الإمام شيئاً من أرض بيت المال، صح.
6 ً - وقف أراضي الحوز:
أرض الحوز: هي أرض مملوكة لبعض الأفراد، ولكنهم عجزوا عن استغلالها، فوضعت الحكومة يدها عليها لتستغلها وتستوفي منها ضرائبها. فلا يصح وقفها؛ لأنها ليست مالكة لها، وإنما ما تزال ملكاً لأصحابها.
7 ً - وقف الإرصاد:
الإرصاد: أن يقف أحد الحكام أرضاً مملوكة للدولة لمصلحة عامة كمدرسة أو مستشفى. وقد عرف أن هذا جائز بحكم الولاية العامة، ولكن يسمى هذا إرصاداً لا وقفاً حقيقة.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) مغني المحتاج: 377/2.(10/303)
8 ً - وقف المرهون:
قال الحنفية (1) : يصح للراهن وقف المرهون؛ لأنه يملكه، لكن يبقى حق المرتهن متعلقاً بالمرهون، فإن وفى الدين تطهرت وخلصت العين المرهونة من تعلق حق المرتهن بها، وإلا فله أن يطلب إبطال الوقف وبيع المرهون. وبناء عليه: يجبر القاضي الراهن على دفع ما عليه إن كان موسراً، أما إن كان معسراً فيبطل الوقف ويبيع العين المرهونة فيما عليه من الدين. وكذا لو مات، فإن كان له ما يوفي الدين، ظل الشيء موقوفاً، وإلا بيع وبطل الوقف.
وقال الجمهور غير الحنفية (2) : لا يصح وقف المرهون.
9 ً - وقف العين المؤجرة:
قال الحنفية والحنابلة (3) : لا يملك المستأجر وقف منفعة العين المستأجرة، لأنه يشترط لديهم التأبيد، والإجارة مؤقتة غير مؤبدة. وكذلك قال الشافعية (4) : مالك المنفعة دون الرقبة كالمستأجر والموصى له بالمنفعة لا يصح وقفه إياها، لكن لو وقف المستأجر بناء أو غراساً في أرض مستأجرة له، فالأصح جوازه، ويكفي دوام الوقف إلى قيام مالك الأرض بالقلع بعد مدة الإجارة. والمستعير والموصى له بالمنفعة مثل المستأجر في الحكم. ويصح عندهم للمؤجر وقف الأرض المؤجرة.
وقال المالكية (5) : للمستأجر وقف منفعة المأجور مدة الإجارة المقررة له، إذ لايشترط لديهم تأبيد الوقف، وإنما يصح لمدة معينة. ولا يصح للمؤجر وقف المأجور.
وأجاز الحنفية والحنابلة للمؤجر وقف العين المؤجرة؛ لأنه وقف ما يملك، ويبقى للمستأجر الحق في الانتفاع بالعين المستأجرة إلى انتهاء مدة الإجارة، أو تراضيه مع المؤجر على فسخ الإجارة قبل انتهاء مدتها.
والخلاصة: يصح عند الجمهور للمؤجر وقف العين المؤجرة، ولا يصح وقفها عند المالكية، ويصح عند المالكية للمستأجر وقف منفعة المأجور، ولا يصح وقفها عند الجمهور.
__________
(1) الدر، المرجع السابق: ص 432 ومابعدها.
(2) كشاف القناع: 271/4، الشرح الكبير: 77/4.
(3) الدر المختار: 400/3، 437 وما بعدها، كشاف القناع: 371/4.
(4) المحلي على المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة: 99/3، مغني المحتاج: 377/2 ومابعدها.
(5) الشرح الصغير: 98/4، الشرح الكبير: 77/4.(10/304)
الفَصْلُ الثَّالث: حكم الوقف، ومتى يزول ملك الواقف؟
حكم الوقف: أي الأثر المترتب على حدوث الوقف من الواقف. ويختلف الأثر المترتب باختلاف الآراء الفقهية (1) :
فعند أبي حنيفة: أثر الوقف هو التبرع بالريع غير لازم، وتظل العين الموقوفة على ملك الواقف، فيجوز له التصرف بها كما يشاء، وإذا تصرف بها اعتبر راجعاً عن الوقف، وإذا مات الواقف ورثها ورثته، ويجوز له الرجوع في وقفه متى شاء، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه كيفما يشاء، وسأخصص بعد بيان المذاهب في حكم الوقف بحثاً عن الرجوع في وقف المسجد وغيره بناء على هذا الرأي.
وعند الصاحبين وبرأيهما يفتى: إذا صح الوقف خرج عن ملك الواقف، وصار حبيساً على حكم ملك الله تعالى، ولم يدخل في ملك الموقوف عليه، بدليل انتقاله عنه بشرط الواقف (المالك الأول) كسائر أملاكه.
وإذا صح الوقف لم يجز بيعه ولا تمليكه ولا قسمته، إلا أن يكون الوقف مشاعاً فللشريك بناء على جوازه عند أبي يوسف أن يطلب فيه القسمة، فتصح مقاسمته؛ لأن القسمة تمييز وإفراز، ويغلب في الوقف معنى الإفراز في غير المكيل والموزون الذي يغلب فيه معنى المبادلة، نظراً وملاحظة لمصلحة الوقف. والمفتى به وهو قول الصاحبين جواز قسمة المشاع إذا كانت القسمة بين الواقف وشريكه المالك، أو الواقف الآخر أو ناظره إن اختلفت جهة وقفهما.
ويرى المالكية: أن الموقوف يظل مملوكاً للواقف، لكن تكون المنفعة ملكاً لازماً للموقوف له، فهم كأبي حنيفة، ودليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «حبّس الأصل، وسبِّل الثمرة» .
__________
(1) الدرا لمختار: 399/3، 402 ومابعدها، البدائع: 220/6 ومابعده، اللباب: 180/2-184، فتح القدير: 45/5، 52، الشرح الصغير: 97/4، القوانين الفقهية: ص 370، الفروق: 111/2، المهذب: 443/1، مغني المحتاج: 389/2، المغني: 546/5، غاية المنتهى: 306/2.(10/305)
والأظهر في مذهب الشافعية: أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى، أي ينفك عن اختصاص الآدمي، فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه، ومنافعه ملك للموقوف عليه، يستوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة، ويملك الأجرة وفوائده كثمرة وصوف ولبن، وكذا الولد في الأصح، فهم كالصاحبين.
وقال الحنابلة في الصحيح من المذهب: إذا صح الوقف زال به ملك الواقف؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك كالعتق. وأما خبر «حبّس الأصل وسبل الثمرة» فالمراد به أن يكون محبوساً لا يباع ولا يوهب ولا يورث. وينتقل الملك عندهم في الوقف إلى الله تعالى إن كان الوقف على مسجد ونحوه كمدرسة ورباط وقنطرة وفقراء وغزاة وما أشبه ذلك، وينتقل الملك في العين الموقوفة إلى الموقوف عليه إن كان آدمياً معيناً كزيد وعمرو، أو كان جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد زيد؛ لأن الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة، فملكه المنتقل إليه كالهبة.
متى يزول الملك عن الوقف؟
يزول الملك عن الموقوف في رأي أبي حنيفة (1) بأحد أربعة أسباب:
1ً - بإفراز مسجد.
2ً - أو بقضاء القاضي؛ لأنه مجتهد فيه أي يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف بين الأئمة، فيكون الحكم فيه رافعاً للخلاف.
3ً - أو بالموت إذا علق به، مثل إذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من الثلث بالموت، لا قبله.
4ً - أو بقوله: وقفتها في حياتي، وبعد وفاتي مؤبداً، وهو جائز عند أئمة الحنفية الثلاثة، لكن عند الإمام ما دام حياً هو نذر بالتصدق بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، فإن لم يرجع حتى مات، نفذ الوقف من الثلث.
وفي الأمرين الأولين: يزول الملك ويلزم الوقف في حياة الواقف بلا توقف على موته، فاللزوم حالي، كما يلزم أيضاً بالموت.
أما في الأمرين الآخرين: فيزول الملك ويلزم الوقف بموت الواقف، لكن في
__________
(1) الدر المختار: 395/3-399.(10/306)
حال الحياة يجوز للواقف الرجوع عن الوقف ما دام حياً، غنياً أو فقيراً، بأمر قاض أو غيره.
ولا يتم الوقف بناء على القول بلزومه وبناء على رأي محمد حتى يقبض ويفرز؛ لأنه كالصدقة، ولأن تسليم كل شيء بما يليق به، ففي المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب الناظر (المتولي) بتسليمه إياه، ولا يجوز وقف مشاع يقسم عند محمد، ويجوز عند أبي يوسف، كما تقدم؛ لأن التسليم عنده ليس بشرط، بسبب كون الوقف عنده كالإعتاق.
واشترط المالكية (1) لصحة الوقف: القبض كالهبة، فإن مات الواقف أو مرض مرض موت أو أفلس قبل القبض (الحوز) بطل الوقف.
وقال الشافعية (2) : الوقف عقد (3) يقتضي نقل الملك في الحال، علماً بأن الوقف على معين يشترط فيه عندهم القبول متصلاً بالإيجاب إن كان من أهل القبول، وإلا فقبول وليه كالهبة والوصية، أما الوقف على جهة عامة كالفقراء أو على مسجد أو نحوه، فلا يشترط فيه القبول جزماً لتعذره.
وكذلك قال الحنابلة (4) كالشافعية: يزول الملك ويلزم الوقف بمجرد التلفظ به؛ لأن الوقف يحصل به، لحديث عمر المتقدم: «إن شئت حبَّست أصلها، وتصدقت بها» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده كالعتق.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 370.
(2) مغني المحتاج: 383/2، 385.
(3) قد يطلق العقد في اصطلاح الفقهاء على الالتزام الذي ينشأ عنه حكم شرعي، سواء أكان صادراً من طرف واحد كالنذر واليمين، أم صادراً من طرفين كالبيع والإجارة، كما يطلق على مجموع الإيجاب والقبول، أو كلام أحد طرفي العقد.
(4) المغني: 546/5، 587.(10/307)
ويصح في رأي الحنابلة قسمة الوقف عن غيره، باعتبار أن القسمة إفراز على الصحيح على التفصيل الآتي: تجوز القسمة إن لم يكن فيها رد، وكذا إن كان فيها رد من جانب أصحاب الوقف؛ لأن الرد شراء شيء من غير الوقف، أما إن كان فيها رد من غير أصحاب الوقف، فلا تجوز؛ لأنه شراء بعض الوقف، وبيعه غير جائز.
ويطبق التفصيل السابق إن كان المشاع وقفاً على جهتين، فأراد أهله قسمته، فلا تجوز إن كان فيها رد بأي حال.
ومتى جازت القسمة في الوقف، وطلبها أحد الشريكين أو ولي الوقف، أجبر الآخر؛ لأن كل قسمة جازت من غير رد ولا ضرر، فهي واجبة.
موقف القانون من الرجوع في وقف المسجد وغير المسجد (1) :
أما الرجوع في وقف المسجد: فقد نص القانون المصري رقم (48 لسنة 1946) (م 11) على أنه: «لا يجوز الرجوع ولا التغيير في وقف المسجد، ولا فيما وقف عليه» .
والمراد بما وقف على المسجد: ما وقف عليه ابتداء من أول الأمر، لا ما وقف عليه انتهاء، بأن وقف على جهة ما أولاً، ثم من بعدها يكون وقفاً على المسجد، تطبيقاً للقانون رقم (78 لسنة 1947) .
وأخذ القانون هذا الحكم بعدم جواز الرجوع مما اتفق عليه الفقهاء، حتى أبو حنيفة، فإنه وافق الصاحبين على أنه لا يجوز الرجوع في وقف المسجد، ويعد تصرف الواقف لازماً، فلا يجوز للواقف ولا لورثته الرجوع والتغيير فيه؛ لأن وقف المسجد حين يتم يصير خالصاً لله تعالى، وأن المساجد لله، وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم جواز الرجوع فيه.
أما الرجوع في وقف غير المسجد: فقد أخذ القانون بمذهب أبي حنيفة في حياة الواقف، وبمذهب الصاحبين وباقي الأئمة بعد وفاة الواقف.
__________
(1) راجع الوقف للأستاذ عيسوي: ص 17 ومابعدها.(10/308)
ففي حياة الواقف: نصت المادة (11) من القانون المصري على أنه: «للواقف أن يرجع في وقفه كله أو بعضه، كما يجوز له أن يغير في مصارفه وشروطه، ولو حرم نفسه من ذلك، على ألا ينفذ التغيير إلا في حدود هذا القانون» فهذا يدل على جواز الرجوع عن الوقف والتغيير فيه، ولم يقل بذلك إلا أبو حنيفة.
وأما بعد وفاة الواقف: فسكت عنه القانون، وما سكت عنه يعمل فيه بالراجح من مذهب أبي حنيفة، والراجح فيه مذهب الصاحبين: وهو أن الوقف تبرع لازم، لا يجوز الرجوع فيه.
أما الرجوع عن الأوقاف قبل العمل بهذا القانون: فقد نصت المادة (11) على أنه «لا يجوز له الرجوع ولا التغيير فيما وقفه قبل العمل بهذا القانون، وجعل استحقاقه لغيره، إذا كان قد حرم نفسه وذريته من هذا الاستحقاق، ومن الشروط العشرة بالنسبة له، أو ثبت أن هذا الاستحقاق كان بعوض مالي أو لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف» .
ففي حالة حرمان نفسه وذريته من الاستحقاق: يعتبر عمل الواقف قرينة قاطعة على أنه تصرف هذا التصرف في مقابل يمنعه من الرجوع، ولا حاجة حينئذ إلى تحقيق أو إثبات. وفي حالة كون الاستحقاق بعوض مالي: مثل أن يقف المدين على الدائن وأولاده، ويحرم الواقف نفسه وأولاده من ذلك، يكون الوقف في مقابل عوض.
وفي حالة كون الاستحقاق لضمان حقوق ثابتة قِبَل الواقف: مثل بيع شخص لقريبه عقاراً بيعاً صورياً، ثم وقف القريب هذا العقار على قريبه الذي باعه له، يترتب على الرجوع إضرار بالناس، وتضييع لحق أصحاب الحقوق، ويكون إثبات ذلك بجميع الأدلة القانونية، ومنها القرائن.(10/309)
الشروط العشرة:
أباحت المادة الثانية عشرة من قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1946) للواقف أن يشترط لنفسه الشروط العشرة في وقفه، وأن يشترط تكرارها، واعتبرتها صحيحة، ونصها:
«للواقف أن يشترط لنفسه لا لغيره الشروط العشرة أو ما يشاء منها وتكرارها، على ألا تنفذ إلا في حدود هذا القانون» أما اشتراط الواقف الشروط العشرة لغيره فهو شرط باطل عملاً بهذه المادة.
وكلمة الشروط العشرة محدثة الاستعمال في المعنى المراد هنا، ولم ترد في كلام الفقهاء، ولكنها استعملت في هذا المعنى من أمد بعيد في كتب الواقفين وفي فتاوى بعض المتأخرين وفي لغة المحاكم، حتى أصبح مدلولها محدوداً ومنضبطاً، وصارت كلمة اصطلاحية.
والشروط العشرة في هذا الاصطلاح: هي الإعطاء، والحرمان، والإدخال، والإخراج، والزيادة، والنقصان، والتغيير، والإبدال، والاستبدال، والبدل أو التبادل أو التبديل (1) .
والإعطاء: معناه إدخال من يشاء في الوقف كمصرف استثنائي، ويلزم من استعماله حرمان المصرف الأصلي من الغلة أو بعضها في المدة التي يستحقها من أدخله في الوقف.
والإدخال: معناه إدخال غير موقوف عليه، وجعله من أهل الوقف ليكون مستحقاً من وقت الإدخال أو بعد ذلك. وقد يصاحب هذا الشرط مصرف استثنائي وقد لا يصاحبه.
والإخراج: هو جعل الموقوف عليه من غير أهل الوقف أبداً أو لمدة معينة يكون بعدها من أهله. ومفهومه مغاير لمفهوم الحرمان، وقد يجتمع المفهومان، فالإخراج إلى الأبد حرمان، والحرمان إلى الأبد إخراج.
والزيادة: تفضيل بعض الموقوف عليهم على الباقين بشيء يميزه به حين توزيع الغلة، أو أن يجعل في نصيبه فضلاً على بقية الأنصباء على الدوام.
والنقصان: هو إعطاء بعض الموقوف عليهم أقل مما أعطى الآخرين عند التوزيع، حيث لم تكن هناك أنصبة معينة أو تخفيض ما سبق أن عينه له.
والتغيير: هذا الشرط أعم من الشروط السابقة ويتناولها جميعها، وذكره بعدها يكون بمثابة إجمال بعد تفصيل، فلو لم يذكر سواه، لملك من شرط له كل ما تفيده الشروط الستة السابقة مجتمعة. وإذا أردف التغيير بالتبديل اعتبره المتأخرون توكيداً لمعناه، إلا إذا أمكن صرفه لمعنى آخر لم يذكر، كالاستبدال فإنه يصرف إليه، فإن التأسيس خير من التأكيد.
والاستبدال: أطلق الفقهاء كلمة الاستبدال، وأرادوا بها بيع الموقوف عقاراً كان أو منقولاً بالنقد، وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفة مكان العين التي بيعت، والمقايضة على عين الوقف بعين أخرى. ولكن طرأ عرف آخر للمؤلفين من زمن بعيد، فأطلقوا الاستبدال على شراء عين بمال البدل لتكون وقفاً، والإبدال على بيع الموقوف بالنقد، والتبادل أو البدل على المقايضة.
__________
(1) قانون الوقف للأستاذ الشيخ فرج السنهوري: ص 208-213، 217.(10/310)
الفصل الرابع ـ شروط الوقف:
يشترط لصحة الوقف شروط في الواقف، وفي الموقوف، وفي الموقوف عليه، وفي صيغة الوقف.
المبحث الأول ـ شروط الواقف:
يشترط في الواقف لصحة الوقف ونفاذه ما يأتي (1) :
وهو أهلية التبرع كباقي التبرعات من هبة وصدقة وغيرها؛ لأن الوقف تبرع، ويمكن تحليل هذا الشرط إلى أربعة شروط هي:
1 ً - أن يكون الواقف حراً مالكاً: فلا يصح وقف العبد؛ لأنه لا ملك له، ولا يصح وقف مال الغير ولا يصح وقف الغاصب المغصوب؛ إذ لا بد في الواقف من أن يكون مالكاً الموقوف وقت الوقف ملكاً باتاً، أو بسبب فاسد كالمشترى شراء فاسداً والموهوب بهبة فاسدة بعد القبض في رأي الحنفية، وألا يكون محجوراً عن التصرف، وينقض وقف استحق بملك أو شفعة وإن جعله مسجداً، ووقف مريض أحاط دينه بماله، ووقف محجور عليه لسفه أو دين. ولو أجاز المالك وقف فضولي، جاز.
__________
(1) البدائع: 219/6، الدر المختار ورد المحتار: 394/3 ومابعدها، 434، القوانين الفقهية: ص369، مغني المحتاج: 376/2 ومابعدها، كشاف القناع: 279/4، الشرح الكبير: 77/4، 88، الشرح الصغير: 101/4، 118، غاية المنتهى: 300/2 ومابعدها.(10/311)
2 ً - أن يكون عاقلاً: فلا يصح وقف المجنون؛ لأنه فاقد العقل، ولا وقف المعتوه؛ لأنه ناقص العقل، ولا وقف مختل العقل بسبب مرض أو كبر؛ لأنه غير سليم العقل؛ لأن كل تصرف يتطلب توافر العقل والتمييز.
3 ً - أن يكون بالغاً: فلا يصح وقف الصبي، سواء أكان مميزاً أم غير مميز؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، ولخطورة التبرع.
ويعرف البلوغ كما تقدم في مبحث النظريات الفقهية: إما بظهور العلامات الطبيعية كالاحتلام والعادة الشهرية، وإما ببلوغ سن الخامسة عشرة في رأي الأكثرين، أو سبع عشرة في رأي أبي حنيفة.
ويشترط القانون لصحة التبرع بلوغ سن الرشد: وهو إتمام (21) سنة في القانون المصري، وإتمام (18) سنة في القانون السوري.
4 ً - أن يكون رشيداً غير محجور عليه بسفه أو فلس أو غفلة ولو بالولي، كسائر التصرفات المالية. فلا يصح الوقف من السفيه والمفلس أو المغفل عند الجمهور، وقال الحنفية: لا ينفذ وقف المدين المفلس إلا بإجازة الدائنين، فعدم الحجر عليه شرط نفاذ عندهم، لا شرط صحة.(10/312)
رأي الحنفية في وقف المدين: فصَّل الحنفية في وقف المدين على النحو الآتي:
أـ إذا كان الدين غير مستغرق لماله، ووقف ما زاد على ما يفي دينه، فوقفه صحيح نافذ، لعدم مصادمة حق الدائنين.
ب ـ إذا كان الدين مستغرقاً لماله: توقف نفاذ وقفه على إجازة الدائنين، سواء حجر عليه أم لم يحجر عليه، وسواء في حال مرض الموت، أم في حال الصحة، وهذا في الحالة الأخيرة بحسب رأي متأخري الحنفية حماية لمصالح الدائنين، فإن أجازوه نفذ الوقف، وإن لم يجيزوه بطل. لكن الإجازة في حال مرض الموت لاتكون إلا بعد الموت، إذ لا يعرف كونه في مرض الموت إلا بعد الموت. وهذا موافق لما نص عليه القانون المدني المصري (م2/238) والقانون المدني السوري (م2/239) من أن تصرف المدين إذا كان تبرعاً، لا ينفذ في حق الدائن.
وقف المريض مرض الموت: تبين لدينا في بحث الحجر على المريض أن المذاهب متفقة على حجر المريض لحق الورثة في تبرعاته فقط فيما يزيد عن ثلث تركته، حيث لا دين عليه، فلا تصح تبرعاته من وقف وصدقة وهبة ووصية فيما زاد على ثلث ماله رعاية لحق الورثة في التركة، أما في حدود الثلث فما دونه، فيجوز تبرعه ومنه وقفه رعاية لمصلحته، في تحقيق الأجر والثواب له، بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعودني عام حَجّة الوداع، من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، فقلت: بالشطر؟ فقال: لا، ثم قال: الثلث، والثلث كبير أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» . وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء في الموضوع.(10/313)
وقف المرتد: قال الحنفية (1) : هناك حالتان:
الأولى ـ لو وقف المرتد في حال ردته، فوقفه موقوف عند الإمام أبي حنيفة، فإن عاد إلى الإسلام، صح، وإلا بأن مات أو قتل على ردته أو حكم بلحاقه بدار الحرب، بطل.
الثانية ـ لو وقف ثم ارتد ـ والعياذ بالله تعالى ـ بطل وقفه، حتى وإن عاد إلى الإسلام ما لم يجدد وقفه بعد عوده، لحبوط عمله بالردة. وعلى هذا التفصيل يفهم قولهم: تبطل أوقاف امرئ بارتداد.
ويصح عندهم وقف المرتدة؛ لأنها لا تقتل، إلا أن يكون على حج أو عمرة ونحو ذلك، فلا يجوز.
وقف الكافر: أجاز الشافعية وقف الكافر ولو لمسجد، ويثاب على صدقاته في الدنيا، ولكن لا حظ له من الثواب في الآخرة، لما أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها» .
وقف المكره: اشترط الشافعية والمالكية والحنابلة في الواقف أن يكون مختاراً، فلا يصح الوقف من مكره، إذ لا تصح عبارته.
وقف الأعمى: لا يشترط البصر، فيصح وقف الأعمى، لصحة عبارته.
وقف غير المرئي: لا يشترط كون الموقوف معلوماً للواقف، فيصح وقف ما لم يره، كما أبان الشافعية (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 394/3 وما بعدها، 434.
(2) مغني المحتاج: 376/2.(10/314)
شرط الواقف كنص الشارع: اتفق الفقهاء على هذه العبارة وهي أن شرط الواقف كنص الشارع، واختلفوا في مدلولها ومداها.
فقال الحنفية (1) : قولهم «شرط الواقف كنص الشارع» (2) أي في الفهم والدلالة ووجوب العمل به، وقد يراد بذلك في المفهوم، أي لا يعتبر مفهومه كما لا يعتبر في نصوص الشارع، عملاً بما هو مقرر عندهم من أن مفهوم المخالفة المسمى دليل الخطاب غير معتبر في النصوص، وهو يشمل أقساماً خمسة: هي مفهوم الصفة، والشرط، والغاية، والعدد، واللقب، أي الاسم الجامد كثوب مثلاً.
والمراد بعدم اعتبار مفهوم المخالفة في النصوص: أن مثل قولك: أعط الرجل العالم، أو أعط زيداً إن سألك، أو أعطه إلى أن يرضى، أو أعطه عشرة، أو أعطه ثوباً، لا يدل على نفي الحكم عن المخالف للمنطوق، بمعنى أنه لا يكون منهياً عن إعطاء الرجل الجاهل، بل هو مسكوت عنه، وباق على العدم الأصلي، حتى يأتي دليل يدل على الأمر بإعطائه، أو النهي عنه. وكذا بقية المفاهيم.
لكن يعتبر المفهوم في روايات الكتب المعبر عنه بقولهم: «مفهوم التصنيف حجة» لأن الفقهاء يقصدون بذكر الحكم في المنطوق نفيه عن المفهوم غالباً، كقولهم: تجب الجمعة على كل ذكر حر، بالغ، عاقل، مقيم، فإنهم يريدون بهذه الصفات نفي الوجوب عن مخالفها، ويستدل به الفقيه على نفي الوجوب عن المرأة والعبد والصبي إلخ.
فعلى رأي الأصوليين من الحنفية في أصل المذهب: «لا يعتبر المفهوم في الوقف» أي أن شرط الواقف لا يدل على نفي ما يخالفه، لكن المتأخرين من الحنفية قالوا: يعتبر المفهوم في غير النصوص الشرعية، عملاً بما هو معتبر في متفاهم الناس وعرفهم، فوجب اعتبار المفهوم في كلام الواقف؛ لأنه يتكلم على عرفه.
وبناء عليه: كما أن مفهوم التصنيف حجة، يعتبر المفهوم في عرف الناس والمعاملات والعقليات، ويكون التحقيق أن لفظ الواقف ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عاقد، يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 426/3، 434، 456 ومابعدها، 47.
(2) صرح الحنفية في الفتاوى الخيرية بأن الاعتبار في الشروط لما هو الواقع، لا لما كتب في مكتوب الوقف، فلو أقيمت بينة لما لم يوجد في كتاب الوقف، عمل بها، بلا ريب؛ لأن المكتوب خط مجرد، ولا عبرة به، لخروجه عن الحجج الشرعية.(10/315)
والخلاصة: أنه عند الأصوليين من الحنفية لا يعتبر المفهوم في الوقف، ولكن في رأي المتأخرين يحمل كلام الواقف على عرف زمانه. فلو قال: وقفت على أولادي الذكور يصرف إلى الذكور منهم بحكم المنطوق، وأما الإناث فلا يعطى لهن، لعدم ما يدل على الإعطاء، إلا إذا دل في كلامه دليل على إعطائهن، فيكون مثبتاً لإعطائهن ابتداء، لا بحكم المعارضة، وبهذا يكون رأي المتأخرين؛ يعتبر المفهوم في غير النصوص الشرعية مما هو في متفاهم الناس وعرفهم وفي المعاملات والعقليات.
ورتب الحنفية على هذه القاعدة: أن كل ما خالف شرط الواقف فهو مخالف للنص، والحكم به حكم بلا دليل، سواء أكان كلام الواقف نصاً أم ظاهراً؛ لأنه يجب اتباعه، عملاً بقول المشايخ: شرط الواقف كنص الشارع.
ويراعى شرط الواقف في إجارة الموقوف، فإذا شرط الواقف ألا يؤجر الموقوف أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجارها، وكانت إجارتها أكثر من سنة أنفع للفقراء، فليس للقيم الناظر أن يؤجرها أكثر من سنة، بل يرفع الأمر للقاضي، حتى يؤجرها؛ لأن له ولاية النظر للفقراء والغائب والميت. فإن لم يشترط الواقف مدة أو فوض الرأي بما يراه القيم خيراً وأنفع للفقراء، فللقيم ذلك بلا إذن القاضي.
وإن اشترط الواقف بيع الموقوف وصرف ثمنه لحاجته، أو إخراجه من الوقف إلى غيره، أوأن يهبه ويتصدق بثمنه، أو أن يهبه لمن شاء، أو أن يرهنه متى بدا له ويخرجه عن الوقف، بطل الوقف. أما إن اشترط الواقف شرطاً فاسداً فيصح الوقف ويبطل الشرط. والشرط الفاسد: ما يكون منافياً لعقد الوقف أو يكون غير جائز شرعاً، أو لا فائدة فيه، كاشتراط الرجوع في وقف المسجد متى شاء، وكالوقف على المفسدين وفي وجوه الفساد، وكاشتراط صرف الريع لمن يقرأ عند قبره أو في داره أو في مسجد معين نظير قراءته، وكاشتراط الواقف صرف الريع على ذريته في خصوص النفقة والكسوة أو صنع الخبز وتقديمه لطلبة العلم.(10/316)
المسائل السبع التي يجوز فيها مخالفة شرط الواقف: ذكر الحنفية سبع مسائل يجوز فيها مخالفة شرط الواقف وهي ما يأتي:
الأولى ـ لو شرط الواقف عدم الاستبدال بالموقوف شيئاً آخر.
الثانية ـ إذا شرط أن القاضي لا يعزل الناظر، فله عزل غير الأهل.
الثالثة ـ شرط ألا يؤجر وقفه أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجار سنة، أو كان في الزيادة نفع للفقراء، فللقاضي المخالفة، دون الناظر.
الرابعة ـ لو شرط أن يقرأ على قبره، فالتعيين باطل على القول بكراهة القراءة على القبر، والمختار خلافه.
الخامسة ـ شرط أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا، فللقيم التصدق على سائل في مسجد آخر، أو خارج المسجد، أو على من لا يسأل.
السادسة ـ لو شرط للمستحقين خبزاً ولحماً معيناً كل يوم، فللقيم دفع القيمة نقداً، والراجح أن الخيار لهم دلالة.
السابعة ـ تجوز الزيادة من القاضي على راتب الإمام المعلوم إذا كان لا يكفيه، وكان عالماً تقياً.
وقال المالكية (1) : اتبع شرط الواقف ـ أي وجوباً ـ إن جاز ولو كان مكروهاً، ولم يمنع شرعاً، فإن لم يجز لم يتبع، فإن اشترط تخصيص الغلة لأهل مذهب من المذاهب الأربعة، أو بتدريس فئة في مدرسته أو بتخصيص إمام في مسجده، أو تخصيص ناظر، اتبع شرطه، لأنه جائز.
وكذلك قرر الشافعية (2) : اتبع شرط الواقف كسائر الشروط المتضمنة للمصلحة، فلو وقف بشرط ألا يؤجر الموقوف أصلاً أو ألا يؤجر أكثر من سنة، صح الوقف. ويستثنى حال الضرورة، كما لو شرط ألا تؤجر الدار أكثر من سنة، ثم انهدمت، وليس لها جهة عمارة إلا بإجارة سنين، جاز إجارتها في عقود مستأنفة، وإن شرط الواقف ألا يستأنف؛ لأن المنع في هذه الحالة يفضي إلى تعطيله، وهو مخالف لمصلحة الوقف.
وإذا شرط في وقف المسجد اختصاصه بطائفة كالشافعية اختص، كالمدرسة والرِّباط إذا شرط في وقفهما اختصاصهما بطائفة، اختصا بهم جزماً. وكذا لو خص المقبرة بطائفة اختصاصهم بهم عند الأكثرين.
__________
(1) الشرح الصغير: 119/4، القوانين الفقهية: ص 371.
(2) مغني المحتاج: 385/2، المهذب: 443/1.(10/317)
وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتأخير، والجمع والترتيب، وإدخال من شاء بصفة، وإخراجه بصفة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صدقة للسائل والمحروم والضيف ولذي القربى وابن السبيل وفي سبيل الله. وكتب علي كرم الله وجهه بصدقته: «ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة، ويصرف النار عن وجهي، ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذي الرحم والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث» ، وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنساء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفقراء بني هاشم وبني المطلب.
وذكر الحنابلة (1) أيضاً: أنه يرجع وجوباً إلى شرط الواقف، ولو كان الشرط مباحاً غير مكروه، ويعمل بالشرط في عدم إيجار الوقف، وفي قدر المدة، فإذا شرط ألا يؤجر أكثر من سنة، لم تجز الزيادة عليها، لكن عند الضرورة يزاد بحسبها، كما قال الشافعية.
ويرجع إلى شرط الواقف في قسمة الريع على الموقوف عليه، أي في تقدير الاستحقاق، مثل على أن للأنثى سهماً، وللذكر سهمين أو بالعكس.
ويرجع أيضا إلى شرطه في تقديم وتأخير وفي جمع وفي ترتيب وفي تسوية وفي تفضيل، نحو وقفت على زيد وعمرو وبكر، ويبدأ بالدفع إلى زيد، أو يؤخر زيد، أو يقف على أولاده وأولادهم جاعلاً الاستحقاق في حالة واحدة، أو يقف على أولادهم ثم أولادهم، جاعلاً استحقاق بطن مرتباً على آخر، أو يسوي بين المستحقين كقوله: الذكر والأنثى سواء، أو يفضل بينهم، كقوله للذكر مثل حظ الأنثيين ونحوه.
__________
(1) كشاف القناع: 286/4-290، غاية المنتهى: 308/2-310، المغني: 552/5.(10/318)
فإن جهل شرط الواقف، عمل بأسلوب صرف من تقديم ممن يوثق به إن أمكن، فإن تعذر وكان الوقف على عمارة أوإصلاح، صرف بقدر الحاجة، وإن كان على قوم عمل بعادة جارية أي مستمرة إن كانت، ثم عمل بعرف مستقر في مقادير الصرف؛ لأن الغالب وقوع الشرط بحسب العرف. فإن لم يكن عرف، فيصرف بالتساوي.
وإن شرط الواقف إخراج من شاء من أهل الوقف بصفة كالغنى أو الفسق أو إدخاله بصفة كالفقر أو الصلاح، أو الأمرين معاً إخراجاً وإدخالاً، عمل به، كأنه جعل الاستحقاق معلقاً بصفة.
ولا خلاف في أنه إن شرط أن يبيع الموقوف متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه، لم يصح الشرط ولا الوقف؛ لأنه ينافي مقتضى الوقف.
وإن شرط الواقف إخراج من شاء من أهل الوقف، وإدخال من شاء من غير أهل الوقف، لم يصح الوقف، لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف، فأفسده، كما لو شرط ألا ينتفع الموقوف عليه بالموقوف.
وإن خصص مقبرة أو رباطاً أو مدرسة، أو إمامتها أو خطابتها بأهل بلد، أو مذهب كالحنابلة أو قبيلة، تخصصت كما قال الشافعية إعمالاً للشرط، إلا أن يقع بأهل بدعة، أو ألا ينتفع به، أو عدم استحقاق مرتكب الخير.
أما وقف الأمراء والسلاطين فلا يتبع شرطهم إلا إن كان فيه مصلحة للمساكين، كمدرس كذا وطالب كذا.
والخلاصة: اتفقت المذاهب على وجوب العمل بشرط الواقف كنص الشارع. وقال بعض الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة، لا في وجوب العمل. وهذا منافٍ للمبدأ المقرر: أن الواقف والموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل قوله على العادة في خطابه.(10/319)
المبحث الثاني ـ شروط الموقوف:
اتفق الفقهاء على اشتراط كون الموقوف مالاً متقوماً، معلوماً، مملوكاً للواقف ملكاً تاماً، أي لا خيار فيه.
ويحسن بيان شروط الموقوف في كل مذهب على حدة، لتنوعها.
فقال الحنفية (1) : يشترط في الموقوف أربعة شروط هي ما يأتي:
1ً - أن يكون الموقوف مالاً متقوماً عقاراً: فلا يصح وقف ما ليس بمال كالمنافع وحدها دون الأعيان، وكالحقوق المالية مثل حقوق الارتفاق؛ لأن الحق ليس بمال عندهم.
ولايصح وقف ما ليس بمال متقوم شرعاً كالمسكرات وكتب الضلال والإلحاد، إذ لا يباح الانتفاع به، فلا يتحقق المقصود من الوقف وهو نفع الموقوف عليه ومثوبة الواقف.
ولا يصح وقف المنقول مقصوداً؛ لأن التأبيد شرط جواز الوقف، ووقف المنقول لا يتأبد، لكونه على شرف الهلاك. لكن يجوز وقفه تبعاً لغيره، كوقف حقوق الارتفاق من شرب ومسيل وطرق تبعاً للأرض. ويجوز استحساناً وقف ما جرت العادة بوقفه كوقف الكتب وأدوات الجنازة ووقف المرجل لتسخين الماء، ووقف المرّ والقدوم في الماضي لحفر القبور، لتعامل الناس به، وما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن.
ولا يجوز عند أبي حنيفة وقف الكُراع (الخيول) والسلاح في سبيل الله تعالى؛ لأنه منقول، ولم تجر العادة به، ويجوز وقفها عند الصاحبين، ويباح عندهما بيع ما هرم منها أو صار بحال لا ينتفع به، فيباع ويرد ثمنه في مثله، للحديث المتقدم: «أما خالد فقد احتبس أكراعاً وأفراساً في سبيل الله تعالى» .
2ً ـ أن يكون الموقوف معلوماً: إما بتعيين قدره كوقف دونم أرض (ألف متر مربع) أو بتعيين نسبته إلى معين كنصف أرضه في الجهة الفلانية. فلا يصح وقف المجهول؛ لأن الجهالة تفضي إلى النزاع.
ولا يشترط لديهم تحديد العقار، ويشترط قانوناً في مصر بيان حدوده وأطواله ومساحته.
3ً - أن يكون الموقوف مملوكاً للواقف حين وقفه ملكاً تاماً: أي لا خيار فيه؛ لأن الوقف إسقاط مِلْك، فيجب كون الموقوف مملوكاً. فمن اشترى شيئاً بعقد بيع فيه خيار للبائع ثلاثة أيام، ثم وقفه في مدة الخيار، لم يصح الوقف؛ لأنه وقف مالا يملك ملكاً تاماً، لأن هذا البيع غير لازم.
__________
(1) البدائع: 220/6، الدر المختار ورد المحتار: 393/3، 395.(10/320)
4ً - أن يكون الموقوف مفرزاً، غير شائع في غيره إذا كان قابلاً للقسمة: لأن تسليم الموقوف شرط جواز الوقف عند محمد، والشيوع يمنع القبض والتسليم.
ولم يشترط أبو يوسف والشافعية والحنابلة هذا الشرط، فأجازوا وقف المشاع؛ لأن التسليم ليس بشرط أصلاً، بدليل وقف عمر رضي الله عنه مئة سهم بخيبر. أما القانون المصري رقم (48 لسنة 1946) : فقد أخذ برأي أبي يوسف في جواز وقف المشاع القابل للقسمة على جهة خيرية كمستشفى أو مدرسة، إذ لو حصل نزاع أمكن القضاء عليه بالقسمة والإفراز.
وأخذ هذا القانون برأي الإمام أبي حنيفة وصاحبيه في عدم صحة وقف الحصة الشائعة لتكون مسجداً أو مقبرة إلا بعد إفرازها؛ لأن شيوعها يمنع خلوصها لله تعالى، ويجعلها عرضة لتغيير جهة الانتفاع بها، فتتحول إلى حانوت أو أرض مزروعة، ونحوها، وهو أمر مستنكر شرعاً.
وأخذ أيضاً برأي المالكية (1) في المادة (8) بعدم جواز وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة؛ لأن شيوع الموقوف في غيره قد يحول دون استغلاله، وقد يكون مثاراً للمنازعات، ولكن استثنى القانون ثلاث حالات، أجاز فيها وقف الحصة الشائعة فيما لا يقبل القسمة وهي:
الأولى ـ أن يكون باقي الحصة الشائعة موقوفاً، واتحدت الجهة الموقوف عليها الحصة الأخرى.
الثانية ـ أن تكون الحصة الشائعة جزءاً من عين مخصصة لمنفعة شيء موقوف، كجرَّار موقوف لأراضي وقفية.
الثالثة ـ أن تكون الحصة الشائعة حصةأو أسهماً في شركات مالية، بشرط أن تكون طرق استغلال أموال الشركة جائزة شرعاً من صناعة أو زراعة أو تجارة، فإن كانت محرمة شرعاً كالطرق الربوية فلا يصح وقف أسهمها (2) .
__________
(1) الشرح الصغير: 107/4، 109، 116.
(2) الوقف لعيسوي: ص 31.(10/321)
واشترط المالكية (1) في الموقوف: أن يكون مملوكاً لا يتعلق به حق الغير، مفرزاً إذا كان غير قابل للقسمة، ويشمل المملوك ذات الشيء أو منفعته، كما يشمل الحيوان، فيصح أن يوقف على مستحق للانتفاع بخدمته أو ركوبه أو الحمل عليه، ويشمل أيضاً الطعام والدنانير والدراهم، وينزل رد بدله منزلة بقاء عينه، لكن المذهب جواز وقف الطعام والنقود كما بينت.
فلا يصح وقف مرهون، ومأجور حال تعلق حق الغير به، أي بأن أراد الواقف وقف المذكور من الآن، مع كونه مرتهناً أو مستأجراً؛ لأن في وقفه إبطال حق المرتهن منه، أما لو وقف ما ذكر قاصداً وقفه بعد الخلاص من الرهن والإجارة، صح الوقف؛ إذ لا يشترط لديهم في الوقف التنجيز.
واشترط الشافعية والحنابلة (2) أن يكون الموقوف عيناً معينة (معلومة) ـ لا ما في الذمة ـ مملوكة ملكاً يقبل النقل بالبيع ونحوه، يمكن الانتفاع بها عرفاً كإجارة ولو حصة مشاعة منها، ويدوم الانتفاع بها انتفاعاً مباحاً مقصوداً.
فلا يصح وقف المنفعة وحدها دون الرقبة، كمنفعة العين المستأجرة، أوالمنفعة الموصى له بها، والوقف الملتزم في الذمة كقوله: وقفت داراً، أو ثوباً في الذمة، ولا وقف أحد داريه، ولاما لا يملك إلا إذا وقف الإمام شيئاً من أرض بيت المال، فإنه يصح، ولا ما لا يقبل النقل أو البيع كأم الولد والحمل، فلا يصح وقفه منفرداً، وإن صح عتقه. ولا يصح وقف حر نفسه، لأن رقبته غير مملوكة.
ولا يصح وقف مالا فائدة فيه أو ما لا منفعة منه، كوقف كلب وخنزير وسباع البهائم وجوارح الطير التي لا تصلح للصيد، والمراد بالفائدة: اللبن والثمرة ونحوهما، لكن يستثنى ـ كما ذكر الشافعية ـ وقف الفحل للضراب، فإنه جائز ولا تجوز إجارته.
__________
(1) الشرح الكبير: 77/4.
(2) مغني المحتاج: 377/2، المغني: 583/5-587، كشاف القناع: 269/4-272، غاية المنتهى: 300/2.(10/322)
ولا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام والشراب غيرالماء، والشمع والريحان؛ لأن منفعة المطعوم في استهلاكه، ولأن الشمع يتلف بالانتفاع به، فهو كالمأكول والمشروب، ولأن المشمومات والرياحين وأشباهها تتلف على قرب من الزمان، فأشبهت المطعوم. ولا يصح وقف ما كان الانتفاع به غير مباح كوقف آلات الملاهي؛ لأن المنفعة القائمة منه غير مباحة، ولاوقف الدراهم والدنانير، للتزيين، فإنه لا يصح على الأصح المنصوص، لأنه انتفاع غير مقصود. أما الماء فيصح وقفه، ويصح وقف دهن على مسجد ليوقد فيه؛ لأن تنوير المسجد مندوب إليه.
واستيفاء منفعة الموقوف: إما بتحصيل المنفعة كسكنى الدار وركوب الدابة وزراعة الأرض، أو بتحصيل العين كالثمرة من الشجر، والصوف والوبر والألبان والبيض من الحيوان.
ويصح كون الموقوف عقاراً كأرض، أو شجراً، أو منقولاً كالحيوان مثل وقف فرس على المجاهدين، وكالأثاث مثل بساط يفرش في مسجد ونحوه، وكالسلاح مثل سيف ورمح أو قوس على المجاهدين، وكالمصحف وكتب العلم ونحوه.
أما وقف العقار فلحديث عمر المتقدم بوقف مئة سهم من أرض خيبر، وأما الحيوان، فلحديث أبي هريرة مرفوعاً: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً، فإن شبعه وروثه، وبوله، في ميزانه حسنات» (1) وأما الأثاث والسلاح،
__________
(1) رواه البخاري.(10/323)
فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «أما خالد فقد حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله» (1) وما عدا المذكور فمقيس عليه؛ لأن فيه نفعاً مباحاً مقصوداً، فجاز وقفه كوقف السلاح.
وقد بينت في محل الوقف: أنه يصح عند الشافعية والحنابلة وقف المشاع مطلقاً وعند المالكية فيما يقبل القسمة، لحديث عمر أنه وقف مئة سهم من خيبر، فلو وقفه مسجداً ثبت فيه حكم المسجد في الحال عند التلفظ بالوقف، فيمنع منه الجنب والسكران ومن عليه نجاسة تتعدى، وتتعين القسمة في وقف المشاع مسجداً، لتعيينها طريقاً للانتفاع بالموقوف.
ويصح وقف الحلي للبس والإعارة، لحديث نافع السابق بوقف حفصة حلياً على نساء آل الخطاب.
ويصح وقف الدار ونحوها وإن لم يذكر حدودها إذا كانت معروفة للواقف.
ولا يصح عند الشافعية في الأصح وقف كلب معلَّم للصيد أو قابل للتعليم؛ لأنه غير مملوك.
ويصح عند الحنابلة وقف سباع البهائم وجوارح الطير التي تصلح للصيد؛ لإباحة الانتفاع به للضرورة.
المبحث الثالث ـ شروط الموقوف عليه:
الموقوف عليه: إما معين أو غيره، فالمعين: إما واحد أو اثنان أو جمع، وغير المعين أو الجهة: مثل الفقراء والعلماء والقراء والمجاهدين والمساجد والكعبة والرباط والمدارس والثغور وتكفين الموتى.
شروط الوقف على معين: يشترط في الوقف على معين بالاتفاق كونه أهلاً للتملك، واختلف الفقهاء في الوقف على المعدوم والمجهول وعلى نفسه.
ذهب الحنفية (1) إلى أنه يصح الوقف على معلوم، أو معدوم، مسلم أو ذمي، أو مجوسي على الصحيح؛ لأن المجوس من أهل الذمة، ولا يصح وقف مسلم أو ذمي على كنيسة (بيعة) أو على حربي، أما عدم صحة وقف المسلم على بيعة: فلعدم كون هذا الوقف قربة في ذاته، وأما في الذمي فلعدم كونه قربة عندنا وعنده معاً، وأما الحربي فلأنا قد نهينا عن بر الحربيين. ويصح على المفتى به وهو قول أبي يوسف وغيره من أئمة الحنفية الوقف على نفس الواقف، أو على أن الولاية له.
__________
(1) متفق عليه، ولفظ البخاري «وأعتده» قال الخطابي: الأعتاد: ما يُعده الرجل من مركوب وسلاح وآلة الجهاد.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 395/3، 421، 423 ومابعدها، فتح القدير: 56/5، اللباب: 185/2.(10/324)
ورأى المالكية (1) : أنه يصح الوقف على أهل التملك، سواء أكان موجوداً أم سيوجد كالجنين الذي سيولد، وسواء ظهرت قربة كالوقف على فقيرأم لم تظهر قربة، كما لو كان الموقوف عليه غنياً، أو لو كان الوقف من مسلم على ذمي وإن لم يكن كتابياً، ولا يصح الوقف على حربي، أو على بهيمة. وبناء عليه يصح الوقف لديهم على الموجود والمعدوم والمجهول والمسلم والذمي والقريب والبعيد، إلا أن الوقف على من سيولد غير لازم بمجرد عقده، بل يوقف لزومه وتوقف غلته إلى أن يوجد، فيعطاها، ما لم يحصل مانع من الوجود كموت ويأس من وجوده، فترجع الغلة للمالك أو ورثته إذا مات. وعلى هذا فللواقف بيع الوقف قبل ولادة الموقوف عليه.
ويبطل الوقف على نفس الواقف، ولو مع شريك غير وارث، مثل: وقفته على نفسي مع فلان، فإنه يبطل ما يخصه، وكذا ما يخص الشريك، إلا أن يحوزه الشريك قبل المانع، فإن وقف على نفسه، ثم على أولاده وعقبه، رجع حبساً (وقفاً) بعد موته، على عقبه إن حازوا قبل المانع، وإلا بطل، أي يبطل الوقف على النفس، أما على غيره فيصح، سواء تقدم الوقف على النفس أو تأخر أو توسط، كأن قال: وقفت على نفسي، ثم عقبي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي، أو وقفت على زيد ثم على نفسي ثم على عمرو. هذا إن وقف في صحته، فإن وقف في مرضه، صح، من الثلث.
__________
(1) الشرح الصغير: 102/4 ومابعدها، 116، الشرح الكبير: 77/4-80، القوانين الفقهية: ص 380(10/325)
وأوضح الشافعية (1) أنه يشترط في الوقف على معين إمكان تمليكه حال الوقف عليه بكونه موجوداً في الخارج، فلا يصح الوقف على معدوم وهو الجنين لعدم صحة تملكه في الحال، سواء أكان مقصوداً أم تابعاًً، فلو كان له أولاد وله جنين عند الوقف لم يدخل، ولا يصح الوقف على ولده، وهو لا ولد له، ولا على فقير أولاده، ولا فقير فيهم، ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين، أو على من يختاره فلان؛ لأن الوقف تمليك منجز، فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.
ولايصح الوقف على العبد نفسه؛ لأنه ليس أهلاً للملك. لكن لو أطلق الوقف على العبد فهووقف على سيده، كما في الهبة والوصية. ولو أطلق الوقف على بهيمة أو قيده بعلفها، لغا الوقف عليها؛ لأنها ليست أهلاً للملك بحال، كما لا تصح الهبة لها ولا الوصية.
ولا يصح في الأصح الوقف على نفسه أو على مرتد أو حربي، لتعذر تمليك الإنسان ملكه لنفسه؛ لأن الملك حاصل له، وتحصيل الحاصل محال، ولأن المرتد والحربي عرضة للقتل فلا دوام له، والوقف صدقة جارية، فكما لا يوقف ما لا دوام له، لا يوقف على من لا دوام له أي مع كفره. ولا يصح الوقف قطعاً على الحربيين والمرتدين؛ لأنه جهة معصية، كما سأبين. ويجوز للواقف أن يشرط النظر لنفسه كما سيأتي.
ويصح الوقف من مسلم أو ذمي على ذمي معين، كصدقة التطوع، وهي جائزة عليه فهو في موضع القربة، ولكن يشترط في صحة الوقف عليه ألا يظهر فيه قصد معصية، فلو قال: وقفت على خادم الكنيسة لم يصح، كما لو وقف على حُصرها، وأن يكون مما يمكن تمليكه: فيمتنع وقف المصحف وكتب العلم الشرعي عليه. والجماعة المعينون من أهل الذمة كالواحد.
__________
(1) مغني المحتاج: 379/2 ومابعدها، المهذب: 441/1.(10/326)
والمعاهد والمستأمن في الأوجه كالذمي إن حل بدارنا ما دام فيها، فإذا رجع لدار الحرب، صرف إلى من بعده، كما تصرف غلة الوقف إلى من بعد الذمي الموقوف عليه إذا لحق بدار الحرب.
ومذهب الحنابلة (1) إجمالاً كالشافعية: يشترط أن يقف على من يملك ملكاً مستقراً، وأن يكون معلوماً موجوداً، فلا يصح الوقف على من لا يملك كالعبد مطلقاً، والميت، والحمل في البطن أصالة، والمَلَك والجن والشياطين؛ لأنهم لا يملكون، والعبد القن (الخالص العبودية) لا يملك ملكاً لازماً، والمكاتب وإن كان يملك، لكن ملكه ضعيف غير مستقر. والحمل لا يصح تمليكه بغير الإرث والوصية، لكن يصح الوقف على الحمل تبعاً لغيره، مثل وقفت على أولادي أو على أولاد فلان، وفيهم حمل، فيشمله الوقف.
ولا يصح الوقف على مرتد وحربي؛ لأن أموالهم مباحة في الأصل، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى بالأخذ، والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ؛ لأنه تحبيس الأصل.
ولا يصح الوقف على مجهول، كرجل ومسجد ونحوهما، ولا على أحد هذين الرجلين أو المسجدين، لتردده.
ولا يصح الوقف على معدوم أصالة، مثل وقفت على من سيولد لي، أو لفلان، أو على من يحدث لي أو لفلان؛ لأنه لا يصح تمليك المعدوم. ويصح الوقف على المعدوم تبعاً، كوقفت على أولادي ومن سيولد لي، أو على أولاد زيد ومن يولد له، أو على أولادي ثم أولادهم أبداً. وهذا خلافاً للشافعية.
ولا يصح الوقف على بهيمة؛ لأنها ليست أهلاً للملك.
__________
(1) كشاف القناع: 274/4-277، المغني: 550/5 وما بعدها، 570، 585-589(10/327)
ويصح الوقف على ذمي أو على أهل الذمة؛ لأنهم يملكون ملكاً محترماً، ويجوز أن يتصدق عليهم، فجاز الوقف عليهم كالمسلمين، ودليل جواز وقف المسلم على الذمي: ما روي أن صفية بنت حيي زوج النبي صلّى الله عليه وسلم وقفت على أخ لها يهودي، ولأن من جاز أن يقف الذمي عليه، جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم. ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين، صح أيضاً؛ لأن الوقف عليهم، لا على الموضع.
والوقف على النفس باطل؛ لأن من وقف شيئاً وقفاً صحيحاً، فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه، وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه، فلم يجز أن ينتفع بشيء منها؛ لأن الوقف تمليك إما للرقبة أو المنفعة، وكلاهما لا يصح هنا، إذ لا يجوز له أن يملك نفسه من نفسه، كبيعه ماله من نفسه، فإن فعل بأن وقف على نفسه ثم على ولده، صرف الوقف في الحال إلى من بعده. لكن للواقف إن وقف على غيره كإنسان أو مسجد الانتفاع بالموقوف في حالات هي ما يأتي: 1) ـ أن يقف شيئاً للمسلمين، فيدخل في جملتهم، مثل أن يقف مسجداً، فله أن يصلي فيه، أو مقبرة فله الدفن فيها، أو بئراً للمسلمين، فله أن يستقي منها، أو سقاية أوشيئاً يعم المسلمين، فيكون كأحدهم، وهذا لا خلاف فيه، وقد روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه سبَّل بئر رومة، وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين.
2) ـ أن يشترط الواقف في الوقف أن ينفق منه على نفسه، لما روى أحمد عن حِجْر المدري: أن في صدقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر، ولأن عمر رضي الله عنه لما وقف قال: ولا بأس على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقاً غير متمول فيه، وكان الوقف في يده إلى أن مات، ولأنه إذا وقف وقفاً عاماً كالمساجد والسقايات والرباطات والمقابر، كان له الانتفاع به، فكذلك ههنا.....(10/328)
ولا فرق بين أن يشترط لنفسه الانتفاع به مدة حياته، أو مدة معلومة معينة، وسواء قدر ما يأكل منه أو أطلقه، فإن عمر رضي الله عنه، لم يقدر ما يأكل الوالي أو يطعم، إلا بقوله: «بالمعروف» .
ولم يجز مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انتفاع الواقف بوقفه؛ لأنه إزالة الملك، فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه، كالبيع والهبة، وكما لو أعتق عبداً بشرط أن يخدمه، ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه، كما لو باع شيئاً، واشترط أن ينتفع به.
3) ـ أن يشرط الواقف أن يأكل من الوقف أهله، فيصح الوقف والشرط؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم شرط ذلك في صدقته.
وإن شرط أن يأكل منه وليه ويطعم صديقاً، جاز؛ لأن عمر رضي الله عنه شرط ذلك في صدقته التي استشار فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإن وليها الواقف، كان له أن يأكل، ويطعم صديقاً؛ لأن عمر ولي الصدقة.
وإن وليها أحد من أهله، كان له الولاية؛ لأن حفصة بنت عمر كانت تلي صدقته، بعد موته، ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر.
شروط الجهة الموقوف عليها: يشترط في الموقوف عليه غير المعين ما يأتي (1) :
الشرط الأول ـ أن يكون معلوماً وأن يكون جهة خير وبر يحتسب الإنفاق عليها قربة لله تعالى: وهذا متفق عليه في المسلم فقط، بأن يكون الموقوف عليه قربة في ذاته، والجهة تتملك الموقوف حكماً.
والبر: اسم جامع للخير، وأصله: الطاعة لله تعالى، والمراد اشتراط معنى القربة في الصرف إلى الموقوف عليه؛ لأن الوقف قربة وصدقة، فلا بد من وجودها فيما لأجله الوقف، إذ هو المقصود، مثل الوقف على الفقراء والعلماء والأقارب، أو على غير آدمي كالمساجد والمدارس، والمشافي (البيمارستانات) والملاجئ، والحج والجهاد وكتابة الفقه والقرآن، والسقايات (2) والقناطر وإصلاح الطرق، وذكر الحنفية أنه يصح وقف الأكسية على الفقراء، فتدفع إليهم شتاء، ثم يردونها بعده. وإن وقف مصحفاً على أهل مسجد للقراءة جاز، إن كانوا يحصون،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 391/3، 394 ومابعدها، 411، الشرح الكبير: 77/4 ومابعدها، الشرح الصغير: 102/4 ومابعدها، 116، مغني المحتاج: 380/2 ومابعدها، المهذب: 441/1، كشاف القناع: 272/4 ومابعدها، المغني: 570/5، 587 ومابعدها.
(2) السقايات جمع سِقاية: وهي في الأصل الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها، وتطلق على ما بني لقضاء الحاجة.(10/329)
ويستوي فيه الأغنياء والفقراء. وإن وقفه على المسجد، جاز ولا يكون محصوراً فيه، ويجوز نقله منه إلى مسجد آخر، كما يجوز نقل كتب الأوقاف من محلها للانتفاع بها. ويصح الوقف على طلبة العلم؛ لأن الغالب فيهم الفقر. ولا يصح عند الحنفية الوقف على الأغنياء وحدهم؛ لأنه ليس بقربة.
الوقف على الأغنياء:
ويصح الوقف في الأصح عند الشافعية على جهة لا تظهر فيها القربة كالأغنياء وأهل الذمة والفسقة، نظراً إلى أن الوقف تمليك، والوقف كله قربة. ويصح بالاتفاق الوقف على أهل الذمة، ولأن الصدقة تجوز على الأغنياء. وحد الفقر والغنى بحسب المقرر في الزكاة، فمن تصح له الزكاة لفقره، يصح له الوقف لفقره أيضاً، وما لا فلا. والغني: من تحرم عليه الزكاة، إما لملكه أو لقوته وكسبه أو كفايته بنفقة غيره.
ويصح عند المالكية الوقف على الأغنياء، كما ذكر الشافعية.
ولا يصح عند الحنابلة الوقف على مباح كتعليم شعر مباح، ولا على مكروه كتعليم منطق لانتفاء القربة، ولا على الأغنياء كما سيأتي.
ولا يصح بالاتفاق وقف المسلم على جهة معصية كأندية الميسر ودور اللهو وجمعيات الإلحاد والضلال، لأنه ليس قربة في نظر الإسلام. وهناك أمثلة أخرى للمعصية من كتب المذاهب.(10/330)
فلا يصح وقف المسلم عند الحنفية على بيعة أو كنيسة، لعدم كونه قربة في ذاته. ولا يصح الوقف في مذهب المالكية على كنيسة، أو صرف الغلة في ثمن خمر أو حشيشة، أو سلاح لقتال غير جائز. والوقف على شرَبة الدخان باطل، وإن قالوا بجواز شربه.
ولا يصح الوقف من مسلم أو ذمي في رأي الشافعية على جهة معصية أو مالا قربة فيه كعِمارة وترميم الكنائس ونحوها من متعبدات الكفار للتعبد فيها، أو حصرها، أو قناديلها أو خدامها، أو كتب التوراة والإنجيل، أو السلاح لقطاع الطريق؛ أو لمن يرتد عن الدين؛ لأنه إعانة على معصية، والقصد بالوقف القربة إلى الله تعالى، فهما متصادمان.
أما عمارة كنائس لا للتعبد فيها وإنما لنزول المارّة، فيصح الوقف عليها.
ولا يصح الوقف لدى الحنابلة من مسلم أو ذمي على كنائس وبيوت نار وبيع وصوامع وأديرة، ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها؛ لأنه ـ كما ذكر الشافعية ـ إعانة على معصية. وللإمام أن يستولي على كل وقف وُقف على هذه الجهات، ويجعلها على جهة قربات، إذا لم يعلم ورثة واقفها، وإلا فللورثة أخذها. ويصح الوقف على من ينزل الكنائس والأديرة ونحوها، أو على من يمر بها أو يجتاز من أهل الذمة فقط.
ولا يصح الوقف لديهم ـ كما قال الشافعية ـ على كتابة التوراة والإنجيل، ولو كان الوقف من ذمي، لوقوع التبديل والتحريف، وقد روي من غير وجه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم غضب لما رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة» ولا على كتب البدعة.
ولا يصح وقف الستور، وإن لم تكن حريراً، لغير الكعبة كوقفها على الأضرحة؛ لأنه ليس بقربة. والوصية كالوقف في كل ما ذكر، فتصح فيما يصح الوقف عليه، وتبطل فيما لا يصح عليه.
ولا يصح لديهم الوقف على طائفة الأغنياء وقطاع الطرق وجنس الفسقة والمغنين، ولا على التنوير على قبر، ولا على تبخيره، ولا على من يقيم عنده، أو يخدمه أويزوره زيارة فيها سفر؛ لأن المذكور ليس من البر.(10/331)
ولايصح الوقف أيضاً على بناء مسجد على القبر، ولا وقف البيت الذي فيه القبر مسجداً، لقول ابن عباس: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» (1) .
ولا يصح الوقف على زخرفة المساجد ولا على عمارة القبور؛ لأنه إضاعة للمال وإتلاف له في غير منفعة.
وقف غير المسلم: اتفق فقهاؤنا على بطلان وقف غير المسلم على جهة معصية ليست قربة في دينه ولا في دين الإسلام، كالمراقص وأندية القمار.
واختفلوا فيما تختلف فيه أنظار الأديان (2) :
قال الحنفية: يشترط في وقف الذمي أن يكون الموقوف عليه قربة عندنا وعندهم، أي في نظر الإسلام وفي اعتقاد الواقف معاً، كالوقف على الفقراء أو على مسجد القدس؛ لأنه قربة في اعتقاد الواقف وفي نظر الإسلام. أما وقف غير المسلم على المسجد فغير صحيح؛ لأنه وإن كان قربة في نظر الإسلام ليس قربة في اعتقاد الواقف.
وكذلك وقف غير المسلم الذمي على كنيسة أو بيعة غير صحيح؛ لأنه وإن كان قربة في اعتقاد الواقف، لكنه ليس قربة في نظر الإسلام.
وقال ابن رشد من المالكية: إذا وقف الذمي على كنيسة، فإن كان على ترميمها أو (مرمتها ـ إصلاحها) أو على الجرحى أو المرضى التي فيها، فالوقف صحيح معمول به. فإن ترافعوا إلينا لنحكم في أوقافهم، حكم الحاكم بينهم بحكم الإسلام من صحة الوقف وعدم بيعه. وإن كان الوقف على عباد الكنائس، حكم ببطلانه، فالعبرة إذن بكون الوقف قربة في اعتقاد الواقف فقط في الأحوال الجائزة.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي.
(2) رد المحتار: 394/3، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 78/4، الشرح الصغير: 118/4، مغني المحتاج: 380/2، المغني: 588/5، كشاف القناع: 273/4.(10/332)
والمعتمد لدى المالكية قول آخر لابن رشد: وهو بطلان وقف الذمي على الكنيسة مطلقاً، وبطلان وقف الكافر لنحو مسجد ورباط ومدرسة من القرب الإسلامية، فالعبرة إذن بكون الوقف على جهة خيرية عندنا وعندهم، كما قال الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: العبرة بكون الوقف قربة في نظر الإسلام. سواء أكان قربة في اعتقاد الواقف أم لا.
فيصح وقف الكافر على المسجد؛ لأنه قربة في نظر الإسلام، ولا يصح وقفه على كنيسة أو بيت نار ونحوهما؛ لأنه ليس قربة في نظر الإسلام.
وأخذ القانون المصري (م7) بمذهب الحنفية، وبقول بعض المالكية، فنص على أن: وقف غير المسلم صحيح، ما لم يكن على جهة محرمة في شريعته وفي الشريعة الإسلامية.
الشرط الثاني ـ لأبي حنيفة ومحمد (1) : أن يجعل آخر الوقف الأهلي بجهة لا تنقطع أبداً، فإن لم يذكر آخره لم يصح عندهما؛ لأن التأبيد شرط جواز الوقف، وتسمية جهة تنقطع توقيت له معنى، فيمنع الجواز، ولأنه يصبح حينئذ وقفاً على مجهول، فلم يصح، كما لو وقف على مجهول في ابتداء الوقف.
وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط، بل يصح وإن سمى جهة تنقطع، ويكون بعدها للفقراء، وإن لم يسمِّهم، إذ لم يثبت هذا الشرط عن الصحابة، ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء، وإن لم يسمهم، فكان تسمية هذا الشرط ثابتاً دلالة وضمناً، والثابت دلالة كالثابت نصاً.
وأخذ الجمهور (2) غير الحنفية بقول أبي يوسف، أما المالكية فلم يشترطوا تأبيد الوقف، وقالوا: إن انقطع وقف مؤبد على جهة، بانقطاع الجهة التي وقف عليها، رجع وقفاً لأقرب فقراء عصبة الواقف، مع تساوي الذكر والأنثى، ولو شرط الواقف في وقفيته أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فيقدم الابن ثم ابنه، ثم الأب، ثم الأخ فابنه، ثم الجد، فالعم فابنه، فإن لم يوجدوا فللفقراء على المشهور.
__________
(1) البدائع: 220/6، الدر المختار: 399/3-400، الكتاب مع اللباب: 182/2.
(2) الشرح الكبير: 85/4، الشرح الصغير: 98/4، 121، المهذب: 441/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 384/2، المغني: 567/5-570، 577، تكملة المجموع: 586/15-588.(10/333)
وللشافعية قولان صحح صاحب المهذب أنه: إن وقف وقفاً مطلقاً ولم يذكر سبيله، يصح؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقاً كالأضحية. والأظهر لدى الشافعية أنه لايصح الوقف بدون بيان المصرف كما سيأتي في شروط الصيغة.
لكن إن عيَّن سبيل الوقف، فلا بد من أن يكون على سبيل لا ينقطع أو لا ينقرض، كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها.
وقال الحنابلة: إن كان الوقف غير معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين، ولا لجهة غير منقطعة، فإن الوقف يصح؛ لأنه تصرف معلوم المصرف، فصح، كما لو صرح بمصرفه المتصل، ولأن الإطلاق إذا كان له عرف، حمل عليه، كنقد البلد وعرف المصرف.
واتفق الشافعية والحنابلة مع الرأي السابق للمالكية على أن الموقوف يصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، فإذا انقرض المسمى، صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب. والأصح عند الشافعية أنه يختص المصرف وجوباً بفقراء قرابة الرحم، لا الإرث، فيقدم ابن بنت على ابن عم.
والدليل عليه: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا صدقة، وذو رحم محتاج» (1) وحديث سلمان بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسلمين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة» (2) .
والراجح لدى الحنابلة، والشافعية في أحد القولين: أنه لا يختص صرف الوقف حينئذ بالفقراء من أقارب الواقف، بل يشترك فيه الفقراء والأغنياء؛ لأن الوقف لا يختص بالفقراء، وإنما الغني والفقير في الوقف سواء.
فإن لم يكن للواقف أقارب، أو كان له أقارب، فانقرضوا، صرف إلى الفقراء والمساكين وقفاً عليهم؛ لأن القصد به الثواب الجاري على وجه الدوام.
__________
(1) هذا جزء من حديث طويل عن أبي هريرة، رواه الطبراني في الأوسط، وجاء فيه: «يا أمة محمد، والذي بعثني بالحق، لا يقبل الله صدقة من رجل، وله قرابة محتاجون إلى صلته، ويصرفها إلى غيرهم» قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم، وحسنه الترمذي.(10/334)
المبحث الرابع ـ ألفاظ الوقف وشروط صيغة الوقف:
صيغة الوقف: ينعقد الوقف ـ كما تبين في ركن الوقف ـ بالإيجاب وحده ولو لمعين عند الحنفية والحنابلة، وكذا إذا كان على غير معين باتفاق العلماء، وبالإيجاب والقبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة إذا كان على معين.
وألفاظ الوقف الخاصة به عند الحنفية (1) : مثل أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة على المساكين، أو موقوفة لله تعالى، أو على وجه الخير، أو البر.
والمفتى به عملا ًبالعرف هو ما قال أبو يوسف من الاكتفاء بلفظ (موقوفة) بدون ذكر تأبيد أو ما يدل عليه، كلفظ: صدقة، أو لفظ المساكين، ونحوه كالمسجد، وذلك إذا لم يكن وقفاً على معين كزيد، أو أولاد فلان، فإنه لا يصح حينئذ بلفظ (موقوفة) لمنافاة التعيين للتأبيد، ولذا فرق بين لفظ (موقوفة) وبين (موقوفة على زيد) حيث أجاز الأول دون الثاني؛ لأن الأول يصرف إلى الفقراء عرفاً، فإذا ذكر الولد صار مقيداً، فلا يبقى العرف، إلا أن تعيين المسجد لا يضر؛ لأنه مؤبد، والتأبيد من حيث المعنى شرط باتفاق الحنفية على الصحيح.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 393/3، 397-401.(10/335)
ثبوت الوقف بالضرورة: قد يثبت الوقف بالضرورة كما تقدم، مثل أن يوصي بغلة هذه الدار للمساكين أبداً، أو لفلان وبعده للمساكين أبداً، فإن الدار تصير وقفاً بالضرورة، كأنه قال: إذا مت فقد وقفت داري على كذا.
لكن إذا علق الوقف بالموت، كإذا مت فقد وقفت داري على كذا، فالصحيح أنه كوصية تلزم من الثلث بالموت، لا قبله، حتى ولو كان وقفاً على وارثه، وإن رده الورثة الموقوف عليهم، أو وارث آخر. لكن إذا ردوه تقسم غلة الثلث الذي صار وقفاً كالثلثين بقية التركة، فتصرف مصرف الثلثين على الورثة كلهم مادام الموقوف عليه حياً، أما إذا مات فتقسم غلة الثلث الموقوف على من يصير له الوقف. وإذا مات بعض الموقوف عليهم، فإنه ينتقل سهمه إلى ورثته ما بقي أحد من الموقوف عليه حياً.
وإذا قال: وقفت الدار في حياتي، وبعد وفاتي مؤبداً، جاز، لكن عند الإمام أبي حنيفة: ما دام حياً هو نذر بالتصدق بالغلة، فعليه الوفاء، وله الرجوع، ولو لم يرجع حتى مات، جاز من الثلث.
وإذا أقَّت الوقف بشهر أو سنة بطل باتفاق الحنفية، لعدم توافر شرط التأبيد، ولو وقف على رجل بعينه، عاد بعد موته لورثة الواقف.
والمذهب لدى المالكية (1) : ينعقد الوقف إما بلفظ صريح، مثل: وقفت أو حبست أو سبَّلْت؛ أو بلفظ غير صريح، مثل: تصدقت إن اقترن بقيد؛ أو كان على جهة لا تنقطع؛ أو كان على مجهول محصور (2) . مثال المقترن بقيد يدل على المراد: تصدقت به على ألا يباع ولا يوهب، أو تصدقت به على فلان طائفة بعد طائفة، أو عقبهم أو نسلهم، فإن لم يقيد بقيد فهو ملك لمن تصدق به عليه. ومثال
__________
(1) الشرح الكبير: 81/4، 84، الشرح الصغير: 103/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 370.
(2) المراد بالمحصور: ما يحاط بأفراده، وغير المحصور: مالا يحاط بأفراده كالفقراء والعلماء.(10/336)
الجهة غير المنقطعة: إما على غير معين كتصدقت أو وقفت على الفقراء، أو على جهة كالتصدق به على المساجد. ومثال المجهول المنحصر: التصدق به على فلان وعقبه ونسله؛ لأن قوله (وعقبه) وما في معناه يدل على التأبيد.
وقد يكفي الفعل لانعقاد الوقف كالإذن للناس بالصلاة في الموضع الذي بناه مسجداً.
وينوب عن الصيغة: التخلية بين الموقوف والموقوف عليه، كجعله مسجداً أو مدرسة أو رباطاً أو بئراً أو مكتبة، وإن لم يتلفظ بالوقف، وتعتبر التخلية حوزاً (قبضاً) حكمياً.
ومذهب الشافعية (1) : لا يصح الوقف إلا بلفظ، ويكون الوقف إما بلفظ صريح مثل وقفت كذا على كذا، أو أرضي موقوفة عليه، لاشتهاره لغة وعرفاً، والتسبيل والتحبيس صريحان أيضاً على الصحيح، لتكررهما شرعاً، واشتهارهما عرفاً، ولم ينقل عن الصحابة وقف إلا بهما.
ولو قال: تصدقت بكذا صدقة محرمة، أو موقوفة، أو لا تباع ولا توهب، فهو صريح في الأصح المنصوص في الأم؛ لأن لفظ التصدق مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف. لكن هذا اللفظ صريح بغيره، وما قبله صريح بنفسه.
ولو قال: تصدقت فقط، فهو ليس بصريح في الوقف، ولا يحصل به الوقف، وإن نواه، لتردد اللفظ بين صدقة الفرض والتطوع والصدقة الموقوفة، لكن إن أضافه إلى جهة عامة كالفقراء ونوى الوقف، فيحصل الوقف. ويكون اللفظ صريحاً.
وإما أن يكون الوقف بلفظ غير صريح: مثل حرمته للفقراء، أو أبَّدته عليهم، فهو في الأصح كناية؛ لأنهما لا يستعملان مستقلين، وإنما يؤكد بهما الألفاظ السابقة.
__________
(1) مغني المحتاج: 381/2 ومابعدها، المهذب: 442/1.(10/337)
والأصح أن قوله: جعلت البقعة مسجداً، تصير به مسجداً، وإن لم يقل (لله) لأن المسجد لا يكون إلا وقفاً، فأغنى لفظه عن لفظ الوقف ونحوه. ولو بنى مسجداً في موات، ونوى جعله مسجداً، فإنه يصير مسجداً، ولم يحتج إلى لفظ، فهذا مستثنى من اشتراط اللفظ للوقف.
ورأي الحنابلة (1) : الوقف إما بلفظ صريح أو كناية. فالصريح: مثل: وقفت وحبَّست وسبَّلت، ويكفي أحدهما، لاستعماله شرعاً وعرفاً. والكناية مثل: تصدقت، وحرّمت، وأبّدت، لأنه لفظ مشترك، فإن الصدقة تستعمل في الزكاة، وفي صدقة التطوع، والتحريم صريح في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره. ولا يصح الوقف بالكناية إلا بأحد أمور أربعة هي:
1 - نية المالك.
2 - أو اقتران لفظ الكناية بأحد الألفاظ الخمسة وهي الألفاظ الصرائح الثلاث، ولفظا التحريم والتأبيد، فيقول: تصدقت بكذا صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو مؤبدة، أو محرمة.
3 - أو وصف الكناية بصفات الوقف، فيقول: تصدقت به صدقة لاتباع أو لا توهب، أو لا تورث.
4 - أو يقرن الكناية بحكم الوقف، كأن يقول: تصدقت بأرضي على فلان، والنظر لي أيام حياتي، أو النظر لفلان، ثم من بعده لفلان.
ويصح الوقف أيضاً بفعل دال على الوقف عرفاً، مثل أن يجعل أرضه مقبرة، ويأذن بالدفن فيها إذناً عاماً، أو يبني بنياناً على هيئة مسجد، ويأذن للناس في الصلاة فيه إذناً عاماً؛ لأن الإذن الخاص قد يقع على غير الموقوف، فلا يفيد دلالة الوقف، أو يؤذن ويقام فيما بناه مسجداً؛ لأن الأذان والإقامة فيه كالإذن العام في الصلاة فيه. ولو جعل سفل بيته مسجداً وانتفع بعلوه أو بالعكس، ولو لم يذكر استطراقاً، صح الوقف، ويستطرق إليه بحسب العادة.
أو يبني بيتاً لقضاء حاجة الإنسان، أي بالبول والغائط والتطهير، ويفتح بابه إلى الطريق للناس.
أو يملأ خابية أو نحوها من الماء على الطريق أو في المسجد ونحوه، لدلالة الحال على تسبيله.
__________
(1) كشاف القناع: 267/4 ومابعدها.(10/338)
شروط صيغة الوقف:
يشترط في الوقف ذاته أو في صيغة الوقف عند الفقهاء ما يأتي (1) .
الشرط الأول ـ التأبيد: فلا يصح الوقف عند الجمهور غير المالكية بما يدل على التأقيت بمدة؛ لأنه إخراج مال على وجه القربة، فلم يجز إلى مدة. وإنما لا بد من اشتماله على معنى التأبيد، ولا يشترط التلفظ به، كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام الساعة، كالفقراء، أو على من ينقرض، ثم على من لا ينقرض كزيد، ثم الفقراء.
فإن اقترنت الصيغة بما يدل على تأقيت الوقف، مثل: وقفت هذا على كذا سنة أوشهراً مثلاً، فباطل هذا الوقف، لفساد الصيغة؛ لأن المقصود من شرعية الوقف هو التصدق الدائم، وهو يقتضي أن يكون إنشاء الوقف على سبيل التأبيد.
وبناء عليه، شرط الحنفية أن يكون الموقوف عقاراً؛ لأنه هو الذي ينتفع به على وجه التأبيد، ولم يجيزوا وقف المنقول إلا تبعاً للعقار، أو ورد به النص، أو جرى العرف بوقفه. واشترطوا أيضاً أن يكون آخر مصارف الوقف الأهلي جهة بر لا تنقطع، ليدوم التصدق ويستمر.
أما المالكية فلم يشترطوا التأبيد في الوقف، وأجازوا الوقف سنة أو أكثر لأجل معلوم، ثم يرجع ملكاً للواقف أو لغيره، توسعة على الناس في عمل الخير.
أما القانون المصري (م5) رقم (48 لسنة 1946) ، فإنه جعل الوقف من حيث تأبيده وتوقيته ثلاثة أقسام:
1 - وقف لا يصح إلا مؤبداً، وتوقيته باطل: وهو وقف المسجد والوقف على المسجد. وهذا رأي الجمهور غير المالكية.
__________
(1) الدر المختار: 394/3، 398، الشرح الصغير: 98/4، 105-106، الشرح الكبير: 87/4-89، مغني المحتاج: 383/2-385، كشاف القناع: 269/4، 277 ومابعدها، المغني: 552/5،570-572، غاية المنتهى: 304/2.(10/339)
2 - وقف يجوز كونه مؤقتاً ومؤبداً: وهو الوقف على غير المسجد كالمشافي والملاجئ والمدارس والفقراء ونحو ذلك. وهذا مأخود من مذهب المالكية للتوسعة على الناس في عمل الخير.
3 - وقف لا يكون إلا مؤقتاً وتأبيده باطل: وهو الوقف الأهلي، فإن وقَّته بسنين وجب ألا تزيد على ستين سنة من وفاة الواقف، وإن وقَّته بطبقات وجب ألا تزيد على طبقتين من الموقوف عليهم بعد الواقف. ولا سند لذلك التأقيت إلا المصلحة.
ثم ألغي الوقف الأهلي في سورية سنة (1949) ، وفي مصر سنة (1952) بالقانون رقم (180) .
الشرط الثاني ـ التنجيز: بأن يكون منجزاً في الحال غير معلَّق بشرط ولا مضاف إلى وقت في المستقبل؛ لأنه عقد (التزام) يقتضي نقل الملك في الحال، فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والهبة، في رأي الجمهور غيرالمالكية.
الصيغة المنجزة: هي التي تدل على إنشاء الوقف وترتب آثاره في الحال أي في وقت صدورها.
والصيغة المعلقة: هي التي لا تدل على إنشاء الوقف من حين صدورها، بل تدل على تعليق التصرف بأمر يحدث في المستقبل، مثل إذا جاء زيد فقد وقفت، أوإذا جاء غداً أو رأس الشهر أو إذا كلمت فلاناً، فأرضي هذه صدقة موقوفة، يكون الوقف باطلاً عند الجمهور غير المالكية. وصيغ التعليق ثلاث:
أـ إن كان التعليق على أمر متردد بين الوجود وعدم الوجود، فلا يصح الوقف بها، مثل إن قدم ابني من السفر، فقد وقفت داري على كذا؛ لأن الوقف يقتضي نقل الملك، والتمليكات لا تقبل التعليق على أمر في المستقبل. وعلل الشافعية عدم صحة تعليق الوقف على شرط مستقبل بأنه عقد (التزام) يبطل بالجهالة، فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.(10/340)
ب ـ إن كان التعليق على موت الواقف، صح الوقف بالاتفاق، مثل وقفت داري بعد موتي على الفقراء؛ لأنه تبرع مشروط بالموت، فصح كما لو قال: قفوا داري بعد موتي على كذا؛ لأن عمر وصى، فكان في وصيته: «هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث أن ثَمْغاً صدقة» (1) .
ويكون الوقف المعلق بالموت لازماً، من حين قوله: هو وقف بعد موتي، وينفذ من غير إجازة الورثة، إن خرج من ثلث التركة.
جـ ـ إن كان التعليق على أمر محقق عند صدوره، صح الوقف أيضاً، مثل إن كانت هذه الأرض ملكي ـ وكانت ملكه وقت التكلم ـ فهي وقف على كذا؛ لأن التعليق صوري والصيغة فيها منجزة في الحقيقة. فهذا تعليق بكائن أو موجود للحال فلا ينافي عدم صحته معلقاً بالموت؛ لأن التعليق بالشرط الكائن تنجيز. وقال الشافعية: الظاهر صحة الوقف بقوله: جعلته مسجداً إذا جاء رمضان.
والصيغة المضافة إلى زمن في المستقبل: هي التي تدل على إنشاء الوقف في الحال، ولكن تؤخر ترتيب حكمه إلى زمن مستقبل، مثل جعلت منزلي هذا وقفاً على كذا في أول العام الهجري المقبل.
وحكم هذه الصيغة عند الحنفية على التفصيل التالي:
إن كان الزمن المستقبل المضاف إلىه الوقف هو ما بعد الموت، فالوقف باطل عند أبي حنيفة، والصحيح أنه وصية لازمة بوقف من الثلث بالموت، لا قبله.
وإن كان الزمن المستقبل غير زمن الموت، مثل أول السنة الهجرية، فالصحيح من الروايتين عند الحنفية أن الوقف يصح، كما تصح الإجارة المضافة للمستقبل، والوقف يشبه الإجارة لأنه مثلها تمليك المنفعة، فيصح الوقف لو قال: داري صدقة وموقوفة غداً.
والحاصل أنه لايجوز عند الجمهور تعليق الوقف على شرط في الحياة، مثل إذا جاء رأس الشهر فداري وقف.
وقال المالكية عن هذا الشرط: لايشترط في الوقف التنجيز، فيجوز مع التعليق كأن يقول: هو حبس على كذا بعد شهر أو سنة، أو يقول: إن ملكت دار فلان فهي وقف.
__________
(1) رواه أحمد، وروى نحوه أبو داود، وثمغ: مال بالمدينة لعمر وقفه.(10/341)
الشرط الثالث - الإلزام: لايصح عند الجمهور غير المالكية تعليق الوقف بشرط الخيار أو بخيار الشرط، معلوماً كان أو مجهولاً، بأن يقف شيئاً ويشرط لنفسه أو لغيره الرجوع فيه متى شاء، ويبطل الوقف كالهبة والعتق. لكن استثنى الحنفية وقف المسجد، فلو اتخذ مسجداً على أنه بالخيار، جاز والشرط باطل.
الشرط الرابع - عدم الاقتران بشرط باطل: الشروط عند الحنفية ثلاثة:
أ - شرط باطل: وهو ماينافي مقتضى الوقف، كأن يشترط إبقاء الموقوف على ملكه، وحكمه: أنه يبطل به الوقف، لمنافاته حقيقة الوقف. وكذا لو شرط لنفسه الرجوع في الوقف متى شاء، يبطل به الوقف لمنافاته حكم الوقف وهو اللزوم. ولو شرط بيع الوقف وصرف ثمنه لحاجته، بطل الوقف.
ب - شرط فاسد: وهو مايخل بالانتفاع بالموقوف، أو بمصلحة الموقوف عليه، أو يخالف الشرع. مثال الأول: أن يشترط صرف الريع إلى المستحقين، ولو احتاج الموقوف إلى التعمير، فهو فاسد؛ لأنه يخل بالانتفاع بالموقوف. ومثال الثاني: أن يشترط ألا يعزل الناظر من أولاده ولو خان، فهوفاسد؛ لأنه يخل بمصلحة الموقوف عليه. ومثال الثالث: أن يخصص جزءاً من الريع لارتكاب جريمة، فهو شرط فاسد؛ لأنه يخالف الشريعة. وحكمه: أنه لايبطل الوقف، بل يصح ويبطل الشرط.
جـ - شرط صحيح: هو كل شرط لاينافي مقتضى الوقف، ولايخل بالمنفعة، ولا يصادم الشرع، مثل اشتراط البدء من الريع بأداء الضرائب المستحقة، أوالبدء بالتعمير قبل الصرف إلى المستحقين. وحكمه: أنه يجب اتباعه وتنفيذه.(10/342)
أما القانون المصري (م6) رقم (48 لسنة 1946) فقد نص على أنه: «إذا اقترن الوقف بشرط غير صحيح، صح الوقف، وبطل الشرط» والشرط غير الصحيح يشمل الشرط الفاسد والباطل. وهذا رأي الصاحبين في الشرط الفاسد، ورأي لأبي يوسف في الشرط الباطل.
وقال المالكية: إذا اشترط الواقف على مستحق الوقف إصلاحه أو دفع ضريبة بغير حق لحاكم ظالم، صح الوقف وألغي الشرط، ويصح في الأصح الإصلاح ودفع التوظيف من غلة الموقوف. كذلك لو شرط عدم البدء بإصلاح الموقوف أو عدم البدء بنفقته التي يحتاج إليها كنفقة الحيوان، صح الوقف، وبطل الشرط، وأنفق عليه من غلة الموقوف.
ومذهب الشافعية: إن شرط الواقف أن يبيع الوقف، أو شرط أن يدخل من شاء ويخرج من شاء، بطل الوقف على الصحيح كشرط الخيار السابق.
ووافقهم الحنابلة فقالوا: إن شرط الواقف في الوقف شرطاً فاسداً كخيار فيه، أو بشرط تحويل الوقف عن الموقوف عليه إلى غيره، بأن قال: وقفت داري على كذا، على أن أحولها عن هذه الجهة، أو عن الوقفية بأن أرجع فيها متى شئت، أو بأن يخرج من شاء من أهل الوقف، ويدخل من شاء من غيرهم، لم يصح الوقف. وكذا إن شرط هبته أو بيعه متى شاء، أو متى شاء أبطله، لم يصح الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف. ولو شرط البيع عند خراب الوقف وصرف الثمن في مثله، أو شرطه للمتولي بعده (وهو من ينظر في الوقف) فسد الشرط فقط، وصح الوقف مع إلغاء الشرط، كما في الشروط الفاسدة في البيع.(10/343)
الشرط الخامس عند الشافعية: بيان المصرف: فلو اقتصر الواقف على قوله: وقفت كذا، ولم يذكر مصرفه، فالأظهر بطلانه، لعدم ذكر مصرفه، وهذا بخلاف الوصية، فإنها تصح وتصرف للمساكين؛ لأن غالب الوصايا للمساكين، فحمل الإطلاق عليه، بخلاف الوقف. وصحح صاحب المهذب القول الثاني وهو صحة الوقف بدون ذكر جهة الصرف؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فصح مطلقاً كالأضحية.
ولم يشترط الجمهور غير الشافعية ذكر جهة المصرف، قال المالكية: لايشترط في الوقف تعيين المصرف في محل صرفه، فجاز أن يقول: وقفته لله تعالى، من غير تعيين من يصرف له، وصرف فيما يصرف له في غالب عرفهم، وإلا يكن غالب في عرفهم، فالفقراء يصرف عليهم، هذا إذا لم يختص الموقوف بجماعة معينة، وإلا صرف لهم، ككتب العلم.
مقتضى ألفاظ الوقف التي يعبر بها عن الموقوف عليهم:
قد تصدر عن الواقف ألفاظ كالولد والعقب والنسل والذرية والقرابة والآل والأهل، فما المراد منها في المذاهب (1) ؟.
أ - الولد والأولاد: إن قال الواقف: وقفت على ولدي أو على أولادي، تناول بالاتفاق ولد الصلب ذكورهم وإناثهم. أما لو قال: ولدي وولد ولدي، أو أولادي وأولاد أولادي، أو بنيّ وبني بنيّ، تناول الذكور والإناث من الأولاد، والراجح عند المالكية أنه لايتناول من أولاد الأولاد سوى الذكور دون الإناث.
قال الحنابلة: إذا وقف على أولاد رجل وأولاد أولاده، استوى فيه الذكر والأنثى؛ لأنه تشريك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية. والمستحب أن يقسم الواقف الوقف على أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال القاضي أبو يعلى: المستحب التسوية بين الذكر والأنثى؛ لأن القصد القربة على وجه الدوام، وقد استووا في القرابة. وإذا فضل بعضهم على بعض فهو على ماقال. ويوزع الوقف بطناً بعد بطن، أي للأقرب فالأقرب.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 482/3 ومابعدها، فتح القدير: 70/5-72، الشرح الكبير: 92/4 ومابعدها، الشرح الصغير: 128/4-132، القوانين الفقهية: ص370، المهذب: 444/1 ومابعدها، كشاف القناع: 307/4-314، غاية المنتهى: 319/2 ومابعدها، المغني: 560/5-566.(10/344)
ب - الذرية والنسل والعقب: لو قال الواقف: على ذريتي أو نسلي أو عقبي، يشمل بالاتفاق أولاد الذكور دون أولاد الإناث، أي أولاد البنات، إلا بتصريح أو بقرينة كما قال الحنابلة.
جـ - الآل والجنس وأهل البيت: يدخل فيهم العصبة من الأولاد والبنات، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات. واختلف في دخول الأخوال والخالات. وقال الحنفية: آله وجنسه وأهل بيته: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام، وهو الذي أدرك الإسلام، أسلم أم لا.
وذكر الحنفية: أنه يشمل الغني والفقير. والأصل عند الحنفية: أن الصغير يعد غنياً بغنى أبويه وجديه فقط، والرجل والمرأة بغنى فروعها، وزوجها فقط، لكن قال الخصاف: والصواب عندي إعطاؤهم وإن كان تفرض نفقتهم على غيرهم.
د - القرابة: أعم ماسبق، ويدخل فيه كل ذي رحم محرم من الواقف، من قبل الرجال والنساء، سواء المحرم أو غير المحرم على الأصح عند المالكية.
ورأى الحنفية: أن قرابته وأرحامه وأنسابه: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبويه، سوى أبويه وولده لصلبه، فإنهم لايسمون قرابة اتفاقاً، وكذا من علا منهم أو سفل عند أبي حنيفة ومحمد. ولا يكون الصرف لأقل من اثنين عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: يمكن الاكتفاء بواحد.
وعبارة الشافعية: إن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب.
وإن قيده بفقرائهم، اعتبر الفقر عند الحنفية وقت وجود الغلة، وهو المجوِّز لأخذ الزكاة، فلو تأخر صرف الغلة سنين لعارض، فافتقر الغني، واستغنى الفقير، شارك المفتقر وقت القسمة الفقير وقت وجود الغلة؛ لأن الصِلات إنما تملك حقيقة بالقبض، وطروء الغنى والموت لايبطل ما استحقه.
وإذا قال: الأقرب فالأقرب: فالمراد أقرب الناس رحماً، لا بالإرث والعصوبة.(10/345)
وإذا قال: الصلحاء الأقارب، فالصالح كما قال ابن عابدين: من كان مستوراً، ولم يكن مهتوكاً ولا صاحب ريبة، وكان مستقيم الطريقة، سليم الناحية، كامن الأذى، قليل الشر، ليس بمعاقر للنبيذ، ولاينادم عليه الرجال، ولا قذافاً للمحصنات، ولامعروفاً بالكذب. فهذا هو الصلاح، ومثله أهل العفاف والخير والفضل.
وإذا قال: الأحوج فالأحوج من القرابة، فيراد به من يملك الأقل من مائة درهم، فإن صار معه مائة درهم يقسم بينهم جميعاً بالسوية.
هـ - مراحل الإنسان: كما تقدم في الوصية.
إن الطفل والصبي والصغير: من لم يبلغ، فإن بلغ فلا شيء له.
والشاب والحَدَث: من البلوغ لتمام الأربعين، فإن أتم الأربعين فلا شيء له.
والكَهْل: من تمام الأربعين لتمام الستين.
والشيخ: من فوق الستين لآخر العمر. وليس فوق الشيخ شيء.
ويشمل ذلك كله الذكر والأنثى، كالأرمل يشمل الذكر والأنثى.
وسبيل الله ونحوه: ذكر الحنابلة أنه إن وقف على سبيل الله أو ابن السبيل أو الغارمين، فهم الذين يستحقون السهم من الزكوات؛ لأن المطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع. وسبيل الله هو الغزو والجهاد في سبيل الله.
الوقف الدائم من حيث الاتصال والانقطاع:
الوقف المؤبد إذا انقطع الموقوف عليه في حلقة من حلقاته أو اتصل أربعة أنواع (1) :
1ً - إن كان معلوم الابتداء، والانتهاء غير منقطع، أي متصل الابتداء والانتهاء: مثل الوقف على المساكين أو على طائفة لايجوز بحكم العادة انقراضهم، صحيح بالاتفاق. أما إن كان منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على ولده، ولا ولد له، فالوقف باطل؛ لأن الولد الذي لم يخلق لايملك، فلا يفيد الوقف عليه شيئاً.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 400/3، 480، الشرح الصغير: 121/4-124، المهذب: 441/1 ومابعدها، المغني: 567/5-573.(10/346)
2ً - إن كان متصل الابتداء غير معلوم الانتهاء: مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة، ولم يجعل آخره للمساكين، ولا لجهة غير منقطعة، الوقف صحيح عند الجمهور؛ لأنه تصرف معلوم المصرف عرفاً، وينصرف عند انقراض الموقوف عليهم إلى أقارب الواقف، كما تقدم؛ لأن مقتضى الوقف الثواب، فحمل فيما سماه على شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد.
وقال محمد بن الحسن وبرأيه يفتى عند الحنفية: لايصح هذا الوقف، إذ لابد كما عرفنا من بيان جهة قربة لاتنقطع؛ لأن الوقف مقتضاه التأبيد، فإذا كان منقطعاً، صار وقفاً على مجهول، فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء.
3ً - إن كان الوقف منقطع الابتداء، متصل الانتهاء: مثل أن يقف على من لايجوز الوقف عليه، كنفسه أو عبده، أو كنيسة أو مجهول غير معين، فيه رأيان عند الشافعية والحنابلة: رأي: إنه باطل؛ لأن الأول باطل، ورأي: إنه يصح، وإذا قيل: إنه صحيح، صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه.
4ً - إن كان الوقف صحيح الطرفين - الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط، مثل أن يقف على ولده، ثم على غير معين، ثم على المساكين: فيه رأيان كمنقطع الانتهاء، وقيل عند الشافعية والحنابلة: إنه يصح، وقيل: إنه يبطل.
وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط، كرجل وقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم على الكنيسة، ففي صحته رأيان، ومصرفه إلى مصرف الوقف المنقطع.(10/347)
الفَصْلُ الخامس: إثبات الوقف شرعاً وقانوناً:
المقرر شرعاً أن الشهادة إحدى طرق إثبات الوقفية، ويشترط في ادعاء الوقف: بيان الوقف ولو كان قديماً، ويقبل في إثباته الشهادة على الشهادة، وشهادة النساء مع الرجال، والشهادة بالشهرة والتسامع بأن يقول الشاهد: أشهد بالتسامع وتقبل شهادة التسامع لبيان المصرف، كقولهم على مسجد كذا، ولبيان مستحقين، ولاتقبل لإثبات شرائطه في الأصح. أما صك الكتابة فلا يصلح حجة؛ لأن الخط يشبه الخط.
واشتراط تحديد العقار الموقوف لايطلب لصحة الوقف؛ لأن الشرط كونه معلوماً، وإنما هو شرط لقبول الشهادة الوقفية (1) .
وعلى هذا كان عمل المحاكم الشرعية في مصر وسورية، ثم نصت المادة الأولى من قانون الوقف المصري رقم (48 لسنة 1952) على اشتراط إشهاد رسمي من الواقف، أمام إحدى المحاكم الشرعية التي بدائرتها أعيان الوقف كلها أو أكثرها، سداً للباب أمام الدعاوى الباطلة لإثبات الوقفيات بشهادات الزور، وهذا يتفق مع الحكم القانوني الذي يشترط التسجيل في السجل العقاري لكل تصرف واقع على العقار، أياً كان العقار، وأياً كان التصرف الواقع عليه.
وذكر الخصاف حكم الوقف إذا انقطع ثبوته فقال: إن الأوقاف التي تقادم أمرها، ومات شهودها، فما كان لها من رسوم في دواوين القضاة، وهي في أيديهم، أجريت على رسومها الموجودة في دواوينهم استحساناً إذا تنازع أهلها فيها. ومالم يكن لها رسوم في دواوين القضاة، فمن أثبت حقاً فيها عند التنازع حكم له به.
__________
(1) رد المحتار: 408/3، 441-444.(10/348)
الفَصْلُ السَّادس - مبطلات الوقف:
يبطل الوقف إذا اختل شرط من شروطه السابقة.
وذكر المالكية مبطلات الوقف وأهمها مايأتي (1) :
1ً - حدوث مانع: مثل إن مات الواقف أو أفلس، أو مرض مرضاً متصلاً بموته قبل القبض بطل الوقف، ورجع للوارث في حال الموت، وللدائن في الإفلاس، فإن أجازه نفذ، وإلا بطل.
2ً - إن سكن الواقف الدار قبل تمام عام بعد أن حيز عنه، أو أخذ غلة الأرض لنفسه، بطل التحبيس.
3ً - الوقف على معصية ككنيسة وكصرف غلة الموقوف على خمر أو شراء سلاح لقتال حرام، باطل.
4ً - الوقف على حربي باطل، ويصح على ذمي. وهذا متفق عليه.
5ً - الوقف على نفسه ولو مع شريك غير وارث، مثل وقفته على نفسي مع فلان، فإنه يبطل مايخصه، وكذا مايخص الشريك.
6ً - الوقف على أن النظر للواقف، يبطل لما فيه من التحجير.
7ً - الجهل بسبق الوقف عن الدين إن كان الوقف على محجوره: فمن وقف على محجوره (أي الذي يشرف عليه) وقفاً وحازه له، وعلى الواقف دين، ولم يعلم هل الدين قبل الوقف أو بعده، فإن الوقف يبطل، ويباع لتسديد الدين، تقديماً للواجب على التبرع، عند الجهل بالسبق، مع ضعف الحوز (القبض) .
8ً - عدم التخلية (أي عدم ترك الواقف) بين الناس وبين الموقوف عليه الذي هو مثل المسجد والرباط والمدرسة قبل حصول المانع، فإنه يبطل الوقف، ويكون ميراثاً.
9ً - وقف الكافر لنحو مسجد ورباط ومدرسة وغيرها من القرَب الإسلامية. وهذا رأي الحنفية أيضاً.
ويكره على الراجح كراهة تنزيه الوقف على البنين دون البنات؛ لأنه يشبه عمل الجاهلية من حرمان البنات من إرث أبيهن، فإن حدث الوقف نفذ ولم يفسخ على الأصح. ويكره اتفاقاً هبة الرجل لبعض ولده ماله كله، أو جُلَّه. وكذا يكره أن يعطي ماله كله لأولاده، ليقسم بينهم بالسوية بين الذكور والإناث. فإن قسمه بينهم على قدر مواريثهم، فهو جائز. ويصح الوقف بالاتفاق على العكس وهو وقفه على بناته دون بنيه.
موقف القانون من انتهاء الوقف:
نص القانون المصري رقم (48 لسنة 1952) في المواد (16-18) على انتهاء الوقف بانتهاء المدة المعينة، أو بانقراض الموقوف عليهم، وكذلك ينتهي في كل حصة بانقراض أهلها قبل انتهاء المدة المعينة أو قبل انقراض الطبقة التي ينتهي الوقف بانقراضها. وذلك مالم يدل كتاب الوقف على عود هذه الحصة إلى باقي الموقوف عليهم أو بعضهم، فإن الوقف في هذه الحالة لاينتهي إلا بانقراض هذا الباقي أو بانتهاء المدة.
وينتهي الوقف أيضاً للتخرب والضآلة بقرار من المحكمة بناء على طلب ذي الشأن. ويصير الوقف المنتهي ملكاً للواقف إن كان حياً، وإلا فلمستحقه وقت الحكم بانتهائه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص370 ومابعدها، الشرح الصغير: 107/4-108، 116-118.(10/349)
الفَصْلُ السَّابع - نفقات الوقف:
نفقة الوقف من ريعه بالاتفاق، مع اختلافات في شرط الواقف وغيره.
مذهب الحنفية (1) : الواجب أن يبدأ من ريع الوقف أي غلته، بعمارته بقدر مايبقى الوقف على الصفة التي وقف عليها، وإن خرب بني على صفته، سواء شرط الواقف النفقة من الغلة أو لم يشرط؛ لأن قصد الواقف صرفه الغلة مؤبداً، ولاتبقى دائمة إلا بالعمارة، فيثبت شرط العمارة اقتضاء، ولأن الخراج بالضمان.
وإن وقف داراً على سكنى ولده، فالعمارة على من له السكنى من ماله؛ لأن الغرم بالغنم، فإن امتنع من له السكنى من العمارة، أو عجز بأن كان فقيراً، آجرها الحاكم لمن شاء، وعمرها بأجرتها كعمارة الواقف، ثم ردها بعد العمارة إلى من له السكنى؛ لأن عمارتها رعاية الحقين: حق الواقف وحق صاحب السكنى. ولا يجبر الممتنع على العمارة، لما فيه من إتلاف ماله. ولا تصح إجارة من له السكنى، بل المتولي أو القاضي. ولا عمارة على من له الاستغلال؛ لأنه لا سكنى له، وإنما عمارته على من له السكنى، فلو سكن لا تلزمه الأجرة الظاهرة، لعدم الفائدة، إلا إذا احتيج للعمارة، فيأخذها المتولي ليعمر بها.
__________
(1) فتح القدير: 53/5 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 184/2 ومابعدها، الدر المختار: 412/3-417.(10/350)
وما انهدم من بناء الوقف وآلته: وهي الأداة التي يعمل بها كآلة الحراثة في ضيعة الوقف، أعاده الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج الوقف إليه، وإن استغنى
عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته فيصرفه فيها، حتى لا يتعذر عليه الصرف وقت الحاجة. وإن تعذر إعادة عينه، بيع وصرف ثمنه إلى المرمَّة (الإصلاح) صرفاً للبدل إلى مصرف المبدل.
ولايجوز أن يقسم المنهدم وكذا بدله بين مستحقي الوقف؛ لأنه جزء من العين الموقوفة، ولا حق لهم فيها، إنما حقهم في المنفعة، فلا يصرف لهم غير حقهم.
ومذهب المالكية (1) مثل الحنفية: يجب على الناظر إصلاح الوقف إن حصل به خلل من غلته، وإن شرط الواقف خلافه، فلا يتبع شرطه في الإصلاح؛ لأنه يؤدي إلى إتلافه وعدم بقائه، وهو لا يجوز.
ويكري الناظر دار السكنى الموقوفة إن حصل بها خلل، ويخرج الساكن منها، إن لم يصلحها بعد أن طلب منه الإصلاح، فإذا أصلحت رجعت بعد مدة الإجارة للموقوف عليه. وإن أصلحها لم يخرج منها.
فإن لم تكن للموقوف غلات، فينفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن يترك حتى يخرب، ولا يلزم الواقف النفقة.
وينفق على خيول الجهاد ودوابه من بيت المال، ولا يلزم الواقف بشيء من نفقتها، ولا تؤجر لينفق عليها من غلتها. فإن لم يكن بيت مال للمسلمين أو لم يمكن التوصل إليه، بيع الحيوان، وعوِّض به سلاح ونحوه مما لا نفقة له.
ومذهب الشافعية والحنابلة (2) : أن نفقة الموقوف ومؤن تجهيزه وعمارته من
__________
(1) الشرح الصغير: 124/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 372.
(2) المهذب: 445/1، مغني المحتاج: 395/2، المغني: 590/5، كشاف القناع: 293/4.(10/351)
حيث شرطها الواقف من ماله، أو من مال الوقف؛ لأنه لما اتبع شرطه في سبيل الوقف، وجب اتباع شرطه في نفقته. فإن لم يمكن فمن غلة الموقوف أو منافعه كغلة العقار؛ لأن الحفاظ على أصل الوقف لا يمكن إلا بالإنفاق عليه من غلته، فكان الإنفاق من ضرورته.
فإذا تعطلت منافعه، فالنفقة ومؤن التجهيز لا العمارة عند الشافعية من بيت المال. وأما عند الحنابلة: فإن تعطلت منافع الحيوان، فنفقته على الموقوف عليه؛ لأنه ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، ويجوز بيعه، كما سأبين.
وقال المالكية والحنابلة والشافعية عن زكاة الموقوف (1) : إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم فحصل لبعضهم من ثمر الشجر أو حب الأرض نصاب وهو خمسة أوسق، فعليهم الزكاة؛ لأنهم يملكون الناتج. وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه.
وأوجب الإمام مالك الزكاة على الواقف في الموقوف على غير المعين نحو الفقراء والمساكين إذا كان خمسة أوسق، بناء على أنه ملك الواقف، فيزكي على ملكه. وأما الموقوف على المعينين، فيشترط في حصة كل واحد منه خمسة أوسق.
__________
(1) المغني: 582/5، تكملة المجموع: 597/14، الفروق: 111/2 ومابعدها.(10/352)
الفَصْلُ الثَّامن: استبدال الوقف وبيعه حالة الخراب:
يقصد بالوقف دوام الانتفاع به، وتحصيل الثواب والأجر بنفعه، فإذا آل إلى الخراب، فماذا يكون مصيره؟
أجاز الفقهاء استبداله وبيعه للضرورة بشروط وقيود وتفصيلات لديهم.
قال الحنفية (1) : للمسجد بمجرد القول (أي الوقف) على المفتى به صفة الأبدية، فلا تنسلخ عنه صفة المسجدية ولو استغني عنه، فلو خرب المسجد وليس له ما يعمر به، وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر، يبقى مسجداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف أبداً إلى قيام الساعة، وبرأيهما يفتى، فلا يعود إلى ملك الباني وورثته، ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، سواء أكانوا يصلون فيه أم لا. ولا يحل وضع جذوع على جدار المسجد، ولو دفع الأجرة.
وقال محمد: إذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يعمر به، فيرجع إلى الباني أو ورثته.
ويجري الخلاف المذكور في بسط المسجد وحصره وقناديله إذا استغني عنها، ينقل عند أبي يوسف في رواية عنه إلى مسجد آخر، ويرجع إلى مالكه عند محمد إذا خرج عن الانتفاع المقصود للواقف بالكلية.
وعلى هذا الخلاف: في الرباط (2) والبئر إذا لم ينتفع بهما، فيصرف على قول لأبي يوسف في رواية ثانية عنه وقف المسجد والرباط والبئر والحوض إلى أقرب مسجد أو رباط أو حوض إليه. لكن المفتى به في تأبيد المسجد قول الشيخين كما تقدم: وهو أنه لا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، وإذا خرب المسجد يبقى مسجداً أبداً.
لكن في آلات المسجد نحو القنديل والحصير بخلاف أنقاضه: الفتوى على قول محمد وهو ردها إلى واقفها أو إلى ورثته. وأما أنقاضه فيفتى فيها كما ذكر بقول أبي يوسف وأبي حنيفة وهو أن المسجد لا يعود ميراثاً ولا يجوز نقله ونقل ماله إلى مسجد آخر، أي لا تعود عندهما الأنقاض للواقف أو ورثته عند إمكان البيع.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 406/3-408، 419 ومابعدها، 424-427، فتح القدير: 58/5 ومابعدها، البدائع: 220/6.
(2) الرباط: هو الذي يبنى للفقراء.(10/353)
وإذا وقف الواقف وقفين على المسجد، أحدهما على العمارة، والآخر إلى إمامه أو مؤذنه، فللحاكم إذا قل المخصص للإمام ونحوه أن يصرف من فاضل وقف المصالح والعمارة إلى الإمام والمؤذن باستصواب أهل الصلاح من أهل المحلة، إن كان الوقف متحداً؛ لأن غرضه إحياء وقفه، وهو يحصل بهذا النقل؛ لأنهما حينئذ كشيء واحد. ففي حال اتحاد الواقف والجهة يجوز المناقلة.
وإن اختلف أحدهما (الواقف والجهة) بأن بنى رجلان مسجدين أو رجل مسجداً ومدرسة، ووقف عليهما أوقافاًً، لا يجوز للحاكم نقل مخصص أحدهما للآخر.
بيع أنقاض المسجد ونحوه: إذا انهدم وقف، ولم يكن له شيء يعمر منه، ولا أمكن إجارته ولا تعميره، ولم تبق إلا أنقاضه من حجر وطوب وخشب، صح بيعه بأمر الحاكم، ويشترى بثمنه وقف مكانه، فإذا لم يمكن الشراء، رده إلى ورثة الواقف إن وجدوا، وإن لم يوجدوا يصرف للفقراء. والبيع بإذن القاضي وصرف ثمنه إلى بعض المساجد مبني على قول لأبي يوسف في رواية ثانية عنه، والرد إلى الورثة أو إلى الفقراء على قول محمد، وهو جمع حسن، حاصله أنه يعمل بقول أبي يوسف حيث أمكن، وإلا فبقول محمد.
والخلاصة: الاتجاه في الفتوى عند مشايخ الحنفية بيع الأنقاض وصرف ثمنها إلى مسجد آخر أو رباط آخر؛ لأن غرض الواقف انتفاع الناس بالموقوف، وكيلا يأخذها المتغلبون.
جعل شيء من المسجد طريقاً وبالعكس: إذا جعل الباني بدون اعتراض أهل المحلة شيئاً من الطريق مسجداً لضيقه، ولم يضر بالمارين، جاز؛ لأنهما للمسلمين. وكذا العكس وهو ما إذا جعل في المسجد ممراً، جاز لكل أحد أن يمر فيه، حتى الكافر، إلا الجنب والحائض والدواب.
ويجوز للإمام جعل الطريق مسجداً، لا عكسه، لجواز الصلاة في الطريق، ولا يجوز أن يتخذ المسجد طريقاً.(10/354)
حالات الاستبدال: الاستبدال عند الحنفية ثلاثة أنواع:
الأول ـ أن يشرطه الواقف لنفسه أو لغيره، أو لنفسه وغيره، بأن شرط الواقف في وقفيته الاستبدال بالموقوف أرضاً أخرى، أو شرط بيعه، جاز الاستبدال على الصحيح، ويشتري بالثمن أرضاً أخرى إذا شاء، فإذا فعل، صارت الأرض الثانية كالأولى في شرائطها.
الثاني ـ ألا يشرطه الواقف، بأن شرط عدمه أو سكت، لكن صار الموقوف بحيث لا ينتفع به بالكلية، بألا يحصل منه شيء أصلاً، أو لا يفي بمؤنته، فهو أيضاً جائز على الأصح إذا كان بإذن القاضي، وكان رأيه المصلحة فيها.
الثالث ـ ألا يشرطه الواقف أيضاً، ولكن فيه نفع في الجملة، وبدله خير منه ريعاً ونفقاً. وهذا لايجوز استبداله على الأصح المختار.
شروط الاستبدال: إذا كان الوقف عقاراً غير مسجد، فالمعتمد أنه يجوز للقاضي الاستبدال به للضرورة بلا شرط الواقف، بشروط ستة:
1ً - أن يخرج الموقوف عن الانتفاع به بالكلية، أي يصبح عديم المنفعة.
2ً - ألا يكون هناك ريع للوقف يعمر به.
3ً - ألا يكون البيع بغبن فاحش.
4ً - أن يكون المستبدل قاضي الجنة: وهو ذو العلم والعمل، لئلا يؤدي الاستبدال إلى إبطال أوقاف المسلمين، كما هو الغالب في الزمن الأخير.
5ً - أن يستبدل به عقار لا دراهم ودنانير، لئلا يأكلها النظار؛ ولأنه قل أن يشتري بها الناظر بدلاً. وأجاز بعضهم الاستبدال به نقوداً، ما دام المستبدل قاضي الجنة.
6ً - ألا يبيعه القاضي لمن لا تقبل شهادته له، ولا لمن له عليه دين، خشية التهمة والمحاباة.
فإذا لم تتوافر هذه الشروط كان بيع الوقف باطلاً لا فاسداً. وإذا صح بيع الحاكم بطل وقفية ما باعه، ويبقى الباقي على ما كان.
وهناك مسائل أربع يجوز فيها استبدال العامر من الأرض وهي:
الأولى ـ لو شرطه الواقف.
الثانية ـ إذا غصبه غاصب وأجرى عليه الماء، حتى صار بحراً، فيضمن القيمة، ويشتري المتولى بها أرضاً بدلاً.
الثالثة ـ أن يجحده الغاصب ولا بينة، وأراد دفع القيمة، فللمتولي أخذها ليشتري بها بدلاً.
الرابعة ـ أن يرغب إنسان فيه ببدل أكثر غلة أحسن مكاناً، فيجوز على قول أبي يوسف، وعليه الفتوى.(10/355)
مذهب المالكية في بيع الموقوف: ذكر المالكية (1) أن الأوقاف بالنسبة لبيعها ثلاثة أقسام:
أحدها ـ المساجد: لا يحل بيعها أصلاً بالإجماع.
الثاني ـ العقار لا يباع وإن خرب، ولا يجوز الاستبدال به غيره من جنسه، كاستبداله بمثله غير خرب، ولا يجوز بيع أنقاضه من أحجار أو أخشاب، لكن إن تعذر عودها في الموقوف، جاز نقلها في مثله.
ويجوز بيع العقار الموقوف في حالة واحدة: وهي أن يشترى منه بحسب الحاجة لتوسعة مسجد أو طريق.
الثالث ـ العروض والحيوان إذا ذهبت منفعتها، كأن يهرم الفرس، ويخلَق الثوب، بحيث لا ينتفع بهما، يجوز بيع الموقوف وصرف ثمنه في مثله، فإن لم تصل قيمته إلى شراء شيء كامل، جعلت في نصيب من مثله. فمن وقف شيئاً من الأنعام لينتفع بألبانها وأصوافها وأوبارها، فنسلها كأصلها في الوقف، فما فضل من ذكور نسلها عن النزو، وما كبر من إناثها، فإنه يباع، ويعوض عنه إناث صغار، لتمام النفع بها.
وهذا قول ابن القاسم. وقال ابن الماجشون: لا يباع أصلاً.
الخلو: بناء على ما قرره المالكية من منع بيع الوقف وأنقاضه، ولو خرب، هل يجوز للناظر إذا خرب الوقف وتعذر عوده لإنتاج غلة وأجرة، بأن لم يجد ما يعمر به من ريع الوقف، ولا أمكنه إجارته بما يعمره: أن يأذن لمن يعمره من عنده ببناء أو غرس على أن البناء أو الغراس يكون للباني أو الغارس ملكاً وخلواً يباع ويورث عنه؛ لأن العمارة تكون لصاحبها، ويجعل في نظير الأرض الموقوفة حُكراً (مبلغاً دائماً) يدفع للمستحقين أو لخدمة المسجد؟
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 371، الشرح الصغير: 99/4، 101، 125-127، الشرح الكبير: 90/4 ومابعدها، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: ص 40.(10/356)
أفتى بعضهم وهو الشيخ الخرشي بالجواز، وأجازه الحنفية (1) ، وهذا هو الذي يسمى خلواً، وقال الدردير شارح متن خليل: وهي فتوى باطلة قطعاً، وحاشا المالكية أن يقولوا بذلك؛ لأن منفعة الموقوف موقوفة، لا تملك بهذا العمل.
مذهب الشافعية في بيع الموقوف:
قال الشافعية (2) :
1ً - إذا انهدم مسجد أو خرب وانقطعت الصلاة فيه، وتعذرت إعادته، أو تعطل بخراب البلد مثلاً، لم يعد إلى ملك أحد، ولم يجز التصرف فيه بحال ببيع أو غيره؛ لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال، كما لو أعتق عبداً، ثم مرض مرضاً مزمناً، لايعود ملكاً لسيده. وتصرف غلة وقفه لأقرب المساجد إليه إذا لم يتوقع عوده، وإلا حفظ.
وإن خيف على المسجد السقوط، نقض، وبنى الحاكم بأنقاضه مسجداً آخر، إن رأى ذلك، وإلا حفظه. والبناء بقربه أولى. ولا يبني به بئراً، كما لا يبني بأنقاض بئر خربت مسجداً، بل بئراً أخرى، مراعاة لغرض الواقف ما أمكن.
ولو وقف الواقف على قنطرة، فاحترقت الوادي، واحتيج إلى قنطرة أخرى، جاز نقلها إلى محل الحاجة.
وغلة وقف الثغر (وهو الطرف الملاصق من بلادنا لبلاد الكفار) إذا حصل فيه الأمن، يحفظه الناظر، لاحتمال عوده ثغراً.
ويدخر من زائد غلة المسجد على ما يحتاج إليه ما يعمره، بتقدير هدمه، ويشتري له بالباقي عقاراً ويقفه؛ لأنه أحفظ له.
وتقدم عمارة الموقوف على حق الموقوف عليهم، لما فيها من حفظ الوقف.
__________
(1) رد المحتار: 428/3.
(2) المهذب: 445/1، مغني المحتاج: 392/2 ومابعدها، تكملة المجموع: 612/14 ومابعدها.(10/357)
ويصرف ريع الموقوف على المسجد وقفاً مطلقاً أو على عمارته: في مصالح المسجد من بناء وتجصيص وسلم ومظلات للتظليل بها، ومكانس يكنس بها، ومساحي ينقل بها التراب، وأجرة قيِّم، لا أجرة مؤذن وإمام وحصر ودهن؛ لأن القيِّم يحفظ العمارة، بخلاف الباقي. فإن كان الوقف لمصالح المسجد، صرف من ريعه لمن ذكر، لا في التزويق والنقش، بل لو وقف عليها لم يصح.
2ً - الأصح جواز بيع حُصْر المسجد الموقوفة إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت، ولم تصلح إلا للإحراق، لئلا تضيع ويضيق المكان به من غير فائدة، فتحصيل نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها، ولا تدخل تصفيتها تحت بيع الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة، ويصرف ثمنها في مصالح المسجد. فإن صلحت لغير الإحراق كاتخاذ ألواح أو أبواب منها، فلا تباع قطعاً.
والأصح جواز بيع نخلة موقوفة جفت إذا لم يمكن الانتفاع بجذعها بإجارة وغيرها، وبهيمة زمِنت؛ لأن ما لا يرجى منفعته، فكان بيعه أولى من تركه، بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر الموضع، فيصلى فيه. وقيمة المبيع لها حكم القيمة التي توجد من متلف الوقف أو منقطع الآخر، وهو أن تصرف لأقرب الناس إلى الواقف، فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين، أو مصالح المسلمين.
فإن أمكن الانتفاع بجذع الشجرة الموقوفة الجافة بإجارة وغيرها، لم ينقطع الوقف على المذهب، إدامة للوقف في عينها، ولا تباع ولا توهب، للخبر السابق عن عمر في أول بحث الوقف. والحاصل أن الشافعية في الجملة والمالكية أشد الآراء في عدم جواز بيع الوقف.(10/358)
ومذهب الحنابلة (1) :
أـ إذا خرب الوقف وتعطلت منافعه، كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتاً، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انصرف أهل القرية عنه، وصار في موضع لايصلى فيه، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضع، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه، بيع جميعه.
واستدلوا بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد، لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعاً. ولأن فيما ذكر استبقاء الوقف بمعناه، عند تعذر إبقائه بصورته، فوجب البيع.
ب ـ وإذا بيع الوقف، فأي شيء اشتري بثمنه، مما يرد على أهل الوقف، جاز، سواء أكان من جنسه أم من غير جنسه؛ لأن المقصود المنفعة، لا الجنس، لكن تكون المنفعة مصروفة إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها؛ لأنه لا يجوز تغيير المصرف، مع إمكان المحافظة عليه، كما لا يجوز تغيير الوقف بالبيع، مع إمكان الانتفاع به.
جـ ـ وإذا لم يف ثمن الفرس الحبيس لشراء فرس أخرى، أعين به في شراء فرس حبيس، يكوِّن بعض الثمن؛ لأن المقصود استبقاء منفعة الوقف الممكن استبقاؤها، وصيانتها عن الضياع، ولا سبيل إلى الصون إلا بهذه الطريق.
د ـ وإذا لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية، لكن قلَّت، وكان غيره أنفع منه وأكثر فائدة على أهل الوقف، لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع، مع إمكان تحصيله، وإمكان الانتفاع به، وإن قل النفع، اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعاً، فيكون وجوده كالعدم.
__________
(1) المغني: 575/5-579، المغني والشرح الكبير: 225/6.(10/359)
هـ ـ لا يجوز نقل المسجد وإبداله وبيع ساحته، وجعلها سقاية وحوانيت إلا عند تعذر الانتفاع به.
ولا يجوز أن يغرس في المسجد شجرة كالنخلة وغيرها بعد أن صار مسجداً، وقال أحمد: لا أحب الأكل منها، ولو قلعها الإمام لجاز؛ لأن المسجد لم يبن لهذا، وإنما بني لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن؛ ولأن الشجرة تؤذي المسجد، وتمنع المصلين من الصلاة في موضعها، ويسقط ورقها في المسجد وثمرها، وتسقط عليها العصافير والطير، فتبول في المسجد، وربما رمى الصبيان ثمرها بالحجارة.
أما إن كانت النخلة في أرض، فجعلها صاحبها مسجداً، والنخلة فيها، فلا بأس. وـ وما فضل من حصر المسجد وزيته، ولم يحتج إليه، جاز أن يجعل في مسجد آخر، أويتصدق منه على فقراء جيرانه وغيرهم. وكذلك إن فضل شيء من قصبه أو شيء من أنقاضه.
موقف القانون من الاستبدال: نص القانون المصري رقم 48 لسنة 1946 في المادة 14 على مصير أموال البدل:
تشتري المحكمة ـ بناء على طلب ذوي الشأن ـ بأموال البدل المودعة بخزانتها عقاراً أو منقولاً محل العين الموقوفة، ولها أن تأذن بإنفاقها في إنشاء مستغل جديد.
ويجوز لها ـ إلى أن يتيسر ذلك ـ أن تأذن باستثمار أموال البدل بأي وجه من وجوه الاستثمار الجائز شرعاً.
كما أن لها أن تأذن بإنفاقها في عمارة الوقف، دون رجوع في غلته.
وإذا كانت هذه الأموال ضئيلة، ولم يتيسر استثمارها، ولم يحتج إلى إنفاقها في العمارة، اعتبرت كالغلة، وصرفت مصرفها.
وصدر في سورية القانون رقم (104) في 1960/3/19 المتضمن جواز استبدال بعض العقارات (ذات الإجارة الطويلة) والقانون رقم (163) في 1958/9/27 لاستبدال العقارات الوقفية المقرر عليها حق من حقوق القرار ذات الإجارة الطويلة، كالمرصد والحكر والكدك والمقاطعة والإجارتين والقميص ومشد المسَكَة، والكردار والقيمة (1) .
__________
(1) المرصد: هو في الأصل دين يثبت على الوقف لمستأجر عقار مقابل ماينفعه بإذن المتولي على تعميره عند عدم وجود غلة في الوقف، ثم يؤجر منه بأجرة مخفضة، لما له من دين على الوقف (رد المحتار: 436/3) .
وحق الحُكْر أو المقاطعة: حق قرار مرتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي يدفع فيها المستحكر لجانب الوقف مبلغاً يقارب قيمة الأرض، ويرتب مبلغ آخر ضئيل، يستوفى سنوياً لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينتقل إليه هذا الحق، على أن يكون للمستحكر حق الغرس والبناء وسائر وجوه الانتفاع (رد المحتار: 428/3) .
والكَدِك: لفظ تركي الأصل، يطلق على ما هو ثابت في الحوانيت الموقوفة ومتصل بها اتصال قرار ودوام، لعلاقته الثابتة بالعمل الذي يمارس في هذا العقار. وقد جرت العادة أن ينشئ مستأجر عقار الوقف هذا الكدك فيه من ماله لنفسه على حسب حاجته بإذن متولي الوقف (رد المحتار: 17/4) وقد يسمى الكدك «سكنى» في الحوانيت، كما يسمى «كرداراً» في الأراضي الزراعية.
وحق الإجارتين: عقد إجارة مديدة بإذن القاضي الشرعي على عقار الوقف المتوهن الذي يعجز الوقف عن إعادته إلى حالته من العمران السابق، بأجرة معجلة تقارب قيمته تؤخذ لتعميره، وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليها ودفعها كل سنة، وذلك كمخرج عد م جواز بيع الوقف ولا إجارته مدة طويلة، ومن هنا سميت بالإجارتين.
والقميص: حق لمستأجر دار الرحى الموقوفة يخوله البقاء فيها، لما له فيها من أدوات الطحن وآلاته ولوازمه.
ومشد المسكة: حق لمستأجر الأرض الموقوفة في البقاء بسبب ما له فيها من حراثة وسماد، إذ يتضرر لو أخرج منها (رد المحتار: 18/4) .
والقيمة: حق مستأجر البساتين الموقوفة في البقاء فيها كذلك، لما له من أصول المزروعات التي تدوم كالفصفصة أو من عمارة الجدر المحيطة التي أنشأها هو (المدخل لنظرية الالتزام للأستاذ الزرقاء،: ص 40-45) .(10/360)
الفصل التاسع ـ الوقف في مرض الموت:
أوضحت في بحث الشروط أنه يشترط في الواقف أهلية التبرع بألا يكون محجوراً عن التصرف، وبأن يكون مالكاً وقت الوقف ملكاً باتاً، ولو بسبب فاسد عند الحنفية. وبناء عليه فرع الحنفية (1) : بأنه ينقض وقف استحق بملك أو شفعة، وإن جعله مسجداً، وينقض وقف مريض أحاط دينه بماله، بخلاف شخص صحيح، أي أنه يبطل وقف مريض مديون يحيط الدين بماله، فيباع وينقض الوقف كما يبطل وقف راهن معسر.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 394/3، 432، البدائع: 218/6.(10/361)
فإن لم يكن الدين محيطاً بمال الواقف، صح، واعتبر الوقف في مرض الموت كالهبة فيه، ينفذ كالوصية من الثلث، فإن خرج من الثلث أو أجازه الوارث، نفذ في الكل، وإلا بطل في الزائد على الثلث. فإن أجاز البعض، جاز بقدره.
والحاصل أن السلامة من المرض ليست شرطاً لصحة الوقف، وأن الواقف إذا وقف في حال المرض، جاز عند أبي حنيفة، ويعتبر من الثلث، ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته، حتى لا يتهم المريض بالإضرار بورثته أو دائنيه. أما عند الصاحبين، فالوقف جائز في حال الصحة والمرض على سواء.
ويتفرع على هذا الخلاف: أنه على رأي الإمام: لا يلزم الوقف ولا تزول ملكية الشيء عن ملك الواقف إلا إذا أضافه إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم. وعند الصاحبين: يزول بدون الإضافة.
وعلى قول أبي حنيفة: لو وقف مريض الموت على بعض الورثة، ولم يجزه باقيهم، لا يبطل أصل الوقف، وإنما يبطل ما جعل من الغلة لبعض الورثة دون بعض، فيصرف على قدر مواريثهم عن الواقف، ما دام الموقوف عليه حياً، ثم يصرف بعد موته إلى من شرطه الواقف؛ لأنه وصية ترجع إلى الفقراء، وليس كوصية لوارث ليبطل أصله بالرد عليه.
ورأي الجمهور (1) القائلين بلزوم الوقف موافق لأبي حنيفة، يكون الوقف في مرض الموت بمنزلة الوصية في اعتباره من ثلث المال؛ لأنه تبرع، فاعتبر في مرض الموت من الثلث، كالعتق والهبة. فإذا خرج من الثلث نفذ من غير رضا
__________
(1) المغني: 571/5-574، الشرح الصغير: 107/4، 110 ومابعدها، الشرح الكبير: 78/4، كشاف القناع: 278/4، مغني المحتاج: 377/2.(10/362)
الورثة ولزم، وما زاد على الثلث لزم الوقف منه في قدر الثلث، ووقف الزائد على إجازة الورثة؛ لأن حق الورثة تعلق بالمال بوجود المرض، فمنع التبرع بزيادة على الثلث، كالعطايا والعتق.
ولا يجوز عند الجمهور أيضاً الوقف في مرض الموت على بعض الورثة، فإن وقف، توقف الوقف على إجازة سائر الورثة؛ لأنه تخصيص لبعض الورثة بماله في مرضه، فمنع منه كالهبات، ولأن كل من لا تجوز له الوصية بالعين لا تجوز بالمنفعة، كالأجنبي فيما زاد على الثلث.
وعبارة المالكية فيه: بطل الوقف على وارث بمرض موته ولو كان من الثلث؛ لأن الوقف في المرض كالوصية، ولا وصية لوارث. وإن لم يكن الوقف في المرض على وارث، بل على غيره، ينفذ كسائر التبرعات من الثلث، فإن حمله الثلث صح، وإلا فلا يصح منه إلا ما حمله الثلث.
واستثنى المالكية الوقف المعقَّب (1) ، سواء أكان له غلة أم لا: وهو ما وقفه المريض على أولاده ونسله وعقبه، فإن حمله الثلث صح، ويكون حكمه في القسم كالميراث للوارث، وليس ميراثاً حقيقة، إذ لا يباع ولا يوهب. فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو شرط الواقف تساويهما، ويكون للزوجة الثمن من مناب الأولاد وللأم السدس.
والخلاصة: أن وقف المريض لازم له لا يجوز الرجوع عنه عند الجمهور، وباطل عند المالكية؛ لأنه وصية لوارث (2) .
__________
(1) أي أدخل في الوقف عقباً.
(2) قانون الوقف للشيخ فرج السنهوري: ص 189.(10/363)
الفصل العاشر ـ ناظر الوقف:
أولاً ـ تعيين الناظر: يصح بالاتفاق (1) للواقف جعل الولاية والنظر لنفسه أو للموقوف عليه، أو لغيرهما، إما بالتعيين كفلان، أو بالوصف كالأرشد أو الأعلم أو الأكبر أو من هو بصفة كذا، فمن وجد فيه الشرط، ثبت له النظر عملاً بالشرط، وفي وقف علي رضي الله عنه شرط النظر لابنه الحسن، ثم لابنه الحسين رضي الله عنهما.
واتبع شرط الواقف في تعيين الناظر، فإن لم يشرط الواقف النظر لأحد، فالنظر للقاضي في رأي المالكية وعلى المذهب لدى الشافعية؛ لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر فيه، ولأن الملك في الوقف عند الجمهور غير المالكية لله تعالى.
وقال الحنابلة: يكون النظر حينئذ للموقوف عليه إن كان آدمياً معيناً كزيد، ولكل واحد على حصته إن كان الموقوف عليه جمعاً محصوراً كأولاده أو أولاد زيد، عدلاً كان أو فاسقاً؛ لأنه ملكه وغلته، ويكون النظر للحاكم أو نائبه إن كان الموقوف عليه غير محصور كالوقف على جهة لا تنحصر كالفقراء والمساكين والعلماء والمجاهدين، أو الموقوف على مسجد أو مدرسة أو رباط أو قنطرة وسقاية ونحوها؛ لأنه ليس له مالك معين.
وقال الحنفية: تكون الولاية لنفس الواقف، سواء شرطها لنفسه أو لم يشترطها لأحد في ظاهر المذهب، ثم لوصيه إن كان، وإلا فللحاكم.
ويجوز تعدد النظار، وقد نصت المادة (48) من قانون الوقف المصري على أنه لا تقيم المحكمة أكثر من ناظر واحد إلا لمصلحة.
قال الحنابلة: إذا تعدد النظار وكان لهما النظر معاً لم يصح تصرف أحدهما مستقلاً عن الآخر، عملاً بشرط الواقف.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 421/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 371 وما بعدها، مغني المحتاج: 393/2، كشاف القناع: 293/4، 297، 298 ومابعدها، الشرح الكبير: 88/4.(10/364)
ثانياً ـ شروط الناظر: شرط الناظر ما يلي (1) :
1ً - العدالة الظاهرة وإن كان الوقف على معينين رشداء؛ لأن النظر ولاية، كما في الوصي والقيم. والعدالة: التزام المأمورات واجتناب المحظورات الشرعية. وهذا شرط عند الجمهور، وقال الحنابلة: لا تشترط العدالة، ويضم إلى الفاسق عدل، كما يضم إلى ناظر ضعيف قوي أمين.
2ً - الكفاية: وهي قوة الشخص وقدرته على التصرف فيما هو ناظر عليه. ووصف الكفاية يغني عن اشتراط الاهتداء إلى التصرف. والكفاية تتطلب وجود التكليف أي البلوغ والعقل. ولا تشترط في الناظر الذكورة؛ لأن عمر أوصى إلى حفصة رضي الله عنها.
فإن لم تتوافر العدالة أو الكفاية نزع الحاكم الوقف منه، حتى وإن كان الواقف هو الناظر. فإن زال المانع عاد النظر إليه عند الشافعية إن كان مشروطاً في الوقف، منصوصاً عليه.
3ً - الإسلام إن كان الموقوف عليه مسلماً، أو كانت الجهة كمسجد ونحوه، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] فإن كان الوقف على كافر معين، جاز شرط النظر فيه لكافر. هذا ما ذكره الحنابلة، ولم يشترط الحنفية الإسلام في الناظر.
__________
(1) المراجع السابقة.(10/365)
ثالثاً ـ وظيفة الناظر: وظيفة الناظر عند التفويض العام له (1) : حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه والمخاصمة فيه، وتحصيل الغلة من أجرة أو زرع أو ثمر، وقسمتها بين المستحقين، وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط؛ لأنه المعهود في مثله، وعليه الاجتهاد في تنمية الموقوف وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق، ويقبل قوله فيما ذكر إن كان متبرعاً، فإن لم يكن متبرعاً لم يقبل عند الحنابلة قوله إلا ببينة. وإن كان الناظر مقيداً ببعض ما سبق تقيد به.
وإذا عمل الناظر أثناء عمارة الوقف فيأخذ ـ كما أبان الحنفية (2) ـ قدر أجرته، وذكروا أيضاً أنه يراعى شرط الواقف في إجارته وغيرها، لأن شرط الواقف كنص الشارع، ولا يجوز للقيم الزيادة في المدة، وإنما الزيادة للقاضي؛ لأن له ولاية النظر لفقير وغائب وميت. فلو أهمل الواقف مدة الإجارة قيل عند الحنفية: تطلق الزيادة للقيم، وقيل: تقيد بسنة.
الإجارة الطويلة: ويفتى عندهم بمدة السنة في الدار، وبثلاث سنين في الأرض إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك، بحسب الزمان والموضع، فهو أمر يختلف باختلاف المواضع واختلاف الزمان. والفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة في الأوقاف وأرض اليتيم وأرض بيت المال ولو بعقود مترادفة، كل عقد سنة، لتحقق محذور وهو أن طول المدة يؤدي إلى إبطال الوقف. لكن هذا عند عدم الحاجة، فإذا اضطر إليها لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرة سنين مقبلة، يزول المحذور الموهوم عند وجود الضرر المتحقق.
جاء في الفتاوى البزازية: لو احتيج لذلك يعقد الناظر عقوداً مترادفة، ففي الدار كل عقد سنة بكذا، وفي الأرض كل عقد ثلاث سنين، بأن يقول: آجرك الدار الفلانية سنة (49) بكذا، وآجرتك إياها سنة خمسين بكذا، وآجرتك إياها سنة (51) بكذا، وهكذا إلى تمام المدة، ويكون العقد الأول لازماً، وما عداه مضاف إلى المستقبل، والصحيح أن الإجارة المضافة تكون لازمة، ويؤخذ حينئذ برواية: كون الأجرة تملك، للحاجة في الإجارة المضافة، إلى اشتراط التعجيل.
__________
(1) مغني المحتاج، كشاف القناع، المكان السابق، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 89/4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 414/3 ومابعدها، 434-440.(10/366)
ويؤجر الموقوف بأجر المثل، فلا يجوز بالأقل المشتمل على غبن فاحش. ولا يضر الغبن اليسير (وهو ما يتغابن الناس فيه، أي ما يقبلونه ولا يعدونه غبناً) . ولو رخص الناظر الأجرة بعد العقد، لا يفسخ العقد إذا طلب المستأجر فسخه، للزوم الضرر على الوقف. ولو زاد الأجرة عن أجر المثل بعد العقد بأجر المثل، أي الذي كان وقت العقد، يجدد العقد بالأجرة الزائدة، قال ابن عابدين: والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد.
والمستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة.
والموقوف عليه الغلة أو السكنى ولو رجلاً معيناً: لا يملك الإجارة، ولا الدعوى إذا غصب منه الموقوف إلا بتولية أو إذن قاض بالدعوى والإيجار؛ لأن حقه في الغلة، لا في عين الوقف.
وإذا آجر المتولي الموقوف بدون أجر المثل، لزم المستأجر لا المتولي تمام أجر المثل.
وتضمن منافع عقار الوقف المغصوب إذا عطلها الغاصب ولم ينتفع بها أو أتلفها، كما لو سكن الشخص بلا إذن، أوأسكنه المتولي بلا أجر، ويكون على الساكن أجر المثل، ولو كان العقار غير معد للاستغلال، صيانة للوقف. ومثله منافع مال اليتيم.
ويفتى بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه. ومتى قضي بالقيمة في غصب عقار الوقف وإجراء الماء عليه حتى صار بحراً لا يصلح للزراعة، شرى الناظر بها عقاراً آخر، فيكون وقفاً بدل الأول.
ومذهب المالكية (1) : جاز للناظر أن يكري الوقف السنة والسنتين إن كان أرضاً على معين كزيد أو عمرو، وإن لم يكن على معين، بأن كان على الفقراء أو العلماء أو نحوهم، فيكري لأربعة أعوام لا أكثر. وجاز الكراء لعشر سنوات لمن كان مرجع الوقف له، كأن يقف الأرض على زيد، ثم ترجع بعده لعمرو ملكاً أووقفاً، فيجوز لزيد أن يكريها لعمرو عشرة أعوام.
وجاز الكراء لضرورة إصلاح وقف خرب لمدة أربعين سنة أو خمسين لا أزيد.
__________
(1) الشرح الصغير: 133/4-137، الشرح الكبير: 88/4 ومابعدها.(10/367)
ويكون الكراء بأجر المثل، فإن وقع بأقل من أجرة المثل، فسخ العقد المشتمل عليها، وقبلت الزيادة في العقود الأخرى.
ولا يقسم الناظر أجرة الوقف على المستحقين إلا لما مضى زمنه، فلو تعجل قبض أجرة عن مدة مستقبلة، لم يجز قسمها على الحاضرين، لاحتمال موت من أخذ، فيؤدي إلى إعطاء من لا يستحق، وحرمان غيره ممن يستحق.
وإذا كان الوقف على أناس معينين كفلان وفلان، فيسوى بينهم ولا تفضيل لأحد على الآخر.
أما إن كان الوقف على غير معينين كالفقراء وأبناء السبيل وأهل العلم، أو على قوم وأعقابهم أو على إخوته أو بني عمه، فضل الناظر في الغلة والسكنى بالاجتهاد مما يقتضيه الحال أهل الحاجة وأهل العيال.
ولا يُخرج ساكن بوقف بوصف استحقاقه، وإن استغنى، إلا لشرط من الواقف، كأن يقول: مادام فقيراً أو محتاجاً، أو كان هناك عرف أو قرينة.
وإن بنى موقوف عليه بناء في الموقوف، أو غرس فيه شجراً، فإن مات ولم يبين أنه وقف أو ملك، فوقف، ولا شيء فيه لوارثه. وإن بين أنه ملك فهو لوارثه، فيؤمر بنقضه أو بأخذ قيمته منقوضاً، وإلا كان وقفاً، ويأخذ ما صرفه من غلته، كالناظر إذا بنى أو أصلح، فإن لم يكن له غلة، فلا شيء له.
وللقاضي أن يجعل للناظر شيئاً من الوقف إذا لم يكن له شيء. وللناظر تغيير بعض الأماكن لمصلحة كتغيير الميضأة ونقلها لمحل آخر، وتحويل باب مثلاً من مكان لمكان آخر.
ومذهب الشافعية (1) : إذا أجر الناظر الموقوف على غيره بدون أجرة المثل، فإنه لا يصح قطعاً. وإذا أجر الناظر، فزادت الأجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة عليها، لم ينفسخ العقد في الأصح؛ لأن العقد قد جرى بالمصلحة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل، ثم ارتفعت القيم بالأسواق، أو ظهر طالب بالزيادة.
أما إذا أجر الناظر العين الموقوفة عليه، ولو بدون أجرة المثل، فإنه يصح قطعاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 395/2.(10/368)
وخالفهم الحنابلة (1) : فقالوا: إن أجر الناظر العين الموقوفة بأنقص من أجرة المثل، صح عقد الإجارة، وضمن الناظر النقص عن أجرة المثل، إن كان المستحق غيره، وكان أكثر مما يتغابن به في العادة، كالوكيل إذا باع بدون ثمن، أو أجر بدون أجرة المثل.
ولا تنفسخ الإجارة حيث صحت، لو طلب الناظر زيادة عن الأجرة الأولى، وإن لم يكن فيها ضرر؛ لأنها عقد لازم من الطرفين.
ولو غرس الموقوف عليه أو بنى لنفسه، فيما هو وقف عليه وحده، فله الغراس والبناء، لأنه وضعه بحق. أما إن كان الغارس أو الباني شريكاً فيما غرس أو بنى فيه، بأن كان الوقف عليه وعلى غيره، أو كان له النظر فقط دون الاستحقاق، فغرسه أو بناؤه غير محترم، ولباقي الشركاء المستحقين هدمه.
ويأكل ناظر الوقف بمعروف نصاً، ولو لم يكن محتاجاً.
رابعاً ـ عزل الناظر:
تكاد تتفق وجهات النظر الفقهية حول عزل الناظر.
ذكر الحنفية (2) : أن للواقف عزل الناظر مطلقاً، وبه يفتى. ولو لم يجعل الواقف ناظراً، فنصبه القاضي، لم يملك الواقف إخراجه.
ويجب على القاضي عزل الناظر، سواء أكان هو الواقف أم غير الواقف إذا كان خائناً غير مأمون، أو عاجزاً، أو ظهر به فسق كشرب خمر ونحوه، أو كان يصرف ماله في غير المفيد كالكيمياء (أي السيمياء: تحويل المعادن إلى ذهب) حتى
__________
(1) كشاف القناع: 297/4 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 421/3-423.(10/369)
وإن شرط الواقف عدم عزل الناظر (1) ، أو ألا ينزعه قاض ولا سلطان، لمخالفته لحكم الشرع، كالوصي فإنه ينزع وإن شرط الموصي عدم نزعه وإن خان.
ولا يجوز للقاضي عزل الناظر المشروط له النظر أو صاحب وظيفة بلا خيانة، أو عدم أهلية. ويصح عزل الناظر المعين من قبل القاضي لا من قبل الواقف، بلا خيانة، وليس للقاضي الثاني أن يعيده، وإن عزله الأول، بلا سبب، لحمل أمره على السداد، إلا أن تثبت أهليته.
وللناظر عزل نفسه عند القاضي، بتعيين غيره، ولا ينعزل بعزل نفسه حتى يبلغ القاضي.
النزول عن الوظائف: ومن حالات عزل الناظر نفسه: التنازل أو الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيرها، فإن كان المتنازل له غير أهل، لم يقره القاضي، وإن كان أهلاً لا يجب عليه إقراره. وإذا فرغ الإنسان عن وظيفته سقط حقه، وإن لم يقر القاضي المتنازل له.
والتنازل يصح أمام القاضي أو أمام غيره، ويصح الفراغ عن الوظيفة بمال أو مجاناً، ولكن يصح للمفروغ له الرجوع بالمال الذي دفعه؛ لأنه اعتياض عن حق مجرد، وهو لا يجوز.
والحاصل أن الناظر ينعزل بعزل نفسه (أي بالاستقالة) أو بعزل الواقف إن عينه هو، أو بعزل القاضي. وقد نصت المادة (52) من قانون الوقف المصري على أنه يجوز للمحكمة من أي درجة إحالة الناظر على محكمة التصرفات الابتدائية إذا رأت ما يدعو للنظر في عزله.
ووافق المالكية (2) الحنفية: فقالوا: للناظر عزل نفسه، ولو ولاه الواقف. وللواقف عزله، ولو لغير جنحة، أما القاضي فلا يعزل ناظراً إلا بجنحة.
وإذا عزل الناظر نفسه، فللحاكم تولية من شاء على الوقف، وتكون أجرته من ريعه، إذا كان المستحق غير معين كالفقراء. أما إن كان المستحق معيناً رشيداً، فهو الذي يتولى أمر الوقف. وإن كان غير رشيد، فيتولى وليه أمره.
وكذلك رأى الشافعية (3) : للناظر عزل نفسه، وللواقف الناظر عزل من ولاه، ونصب غيره مكانه، كما يعزل الموكل وكيله، وينصب غيره، إلا أن يشرط الواقف (4) لشخص نظرَه، أي إشرافه حال الوقف، فليس له ولا لغيره عزله، ولو لمصلحة، لأنه لا تغيير لما شرطه، ولأنه لا نظر له حينئذ. أما الواقف غير الناظر فلا يصح منه تولية ولا عزل، بل هي للحاكم.
ولو شرط الواقف للناظر شيئاً من الريع، جاز، وإن زاد على أجرة المثل. بخلاف ما لو كان النظر له، وشرط لنفسه، فإنه لا يزيد على أجرة المثل.
وكذلك قرر الحنابلة (5) : للواقف عزل الناظر؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وللموقوف عليه المعين وللحاكم عزل الناظر لأصالة ولايتهما، وللناظر عزل نفسه، كما هو المقرر في الوكالة. وليس للناظر المشروط له النظر عزل الناظر ولا توليته.
__________
(1) هذه ـ كما تقدم ـ إحدى المسائل السبع التي يخالف فيها شرط الواقف.
(2) الشرح الكبير: 88/4.
(3) مغني المحتاج: 395/2.
(4) هذا استثناء من جواز العزل.
(5) كشاف القناع: 301/4.(10/370)
البَابُ السَّادس: المِيرَاث
وفيه تسعة عشر فصلاً هي:
الأول ـ تعريف علم الميراث أو علم الفرائض، ومبادئه ومصطلحاته.
الثاني ـ أركان الميراث
الثالث ـ أسباب الإرث
الرابع ـ شروط الإرث
الخامس ـ موانع الإرث
السادس ـ الحقوق المتعلقة بالتركة
السابع ـ أنواع الوارثين وعددهم ومراتبهم وطريقة توريثهم في المذاهب
الثامن ـ أصحاب الفروض
التاسع ـ العصبات
العاشر ـ المسائل الشواذ الحادي عشر ـ الحجب
الثاني عشر ـ العول
الثالث عشر ـ الرد على ذوي الفروض
الرابع عشر ـ الحساب: مخارج الفروض وأصول المسائل وتصحيحها
الخامس عشر ـ توريث ذوي الأرحام
السادس عشر ـ ميراث باقي الورثة
السابع عشر ـ أحكام متنوعة
الثامن عشر ـ المناسخة
التاسع عشر ـ التخارج أو المخارجة(10/371)
الفَصْلُ الأوّل: تعريف علم الميراث أو علم الفرائض ومبادئه ومصطلحاته:
الإرث لغة: بقاء شخص بعد موت آخر بحيث يأخذ الباقي ما يخلفه الميت. وفقهاً: ما خلفه الميت من الأموال والحقوق التي يستحقها بموته الوارث الشرعي. وعلم الميراث: هو قواعد فقهية وحسابية يعرف بها نصيب كل وارث من التركة. وعرفه صاحب الدر (1) بقوله: هو علم بأصول من فقه وحساب، تعرِّف حق كل واحد من الورثة من التركة والحقوق. وعرفه بعضهم بأنه علم بأصول فقه وحساب يتوصل بهما لمعرفة ما يخص كل ذي حق من التركة. وهذا أعم من الوارث؛ لأنه يشمل الوصية والدين وغيرهما.
وسمي أيضاً علم الفرائض، أي مسائل قسمة المواريث؛ لأن الفرائض جمع فريضة، مأخوذة من الفرض بمعنى التقدير، وفريضة بمعنى: مفروضة أي مقدرة لما فيها من السهام المقدرة، والفرائض: السهام المقدرة. فغلبت على غيرها. وإنما خص بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى سماه به، فقال بعد القسمة: {فريضة من الله} [التوبة:60/9] وكذا قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تعلَّموا الفرائض» .
ويدخل فيه الضوابط والقواعد المتعلقة بأحوال الوارث من كونه صاحب فرض أو تعصيب أو ذا رحم، وما يتعرض له من حجب ورد ومنع من الإرث. فأصبح علم الفرائض يشتمل على عناصر ثلاثة: معرفة الوارث وغير الوارث، ومعرفة نصيب كل وارث، والحساب الموصل إليه.
مبادئه (2) : عشرة، أما موضوعه: فهو كيفية قسمة التركة بين المستحقين.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 534/5.
(2) إن مبادي كل فن عشرة..... ..... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله، ونسبة والواضع..... ..... والاسم، الاستمداد، حكم الشارع
مسائلٌ، والبعض بالبعض اكتفى..... ...... ومن درى الجميع حاز الشرفا(10/372)
وأما استمداده: فهو من الكتاب والسنة والإجماع، وليس للقياس أو الاجتهاد فيه مدخل إلا إذا صار مجمعاً عليه. والواقع أن الفقهاء استعملوا القياس في بعض مسائل الميراث.
أما الكتاب: فقد جاء في سورة النساء ثلاث آيات:
الأولى (11 من النساء) في ميراث الأولاد والأبوين: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف..} .
ثمبينميراثالأبوين: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس، من بعد وصية يُوصي بها أو دين..} [النساء:11/4] .
والثانية (12 من النساء) في ميراث الزوج والزوجة: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها أو دين. ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أود ين} [النساء:12/4] .
ثم بيَّن ميراث الكلالة (وهو من لا والد له ولا ولد) وله إخوة لأم: {وإن كان رجل يورث كلالةً، أو امرأةٌ وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث، من بعد وصية يوصى بها أو دين..} [النساء:12/4] .
وفي الآية الثالثة (176 من النساء) ذكر ميراث الكلالة وله أخت أوأختان: {يستفتونك، قل: الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت، فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} .
وفي الآية:75من سورة الأنفال بيان ميراث أولي الأرحام: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم} .
وأما السنة النبوية: فقد ورد فيها طائفة من الأحاديث أختار منها مايلي:
1ً - حديث ابن عباس: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) .
2ً - وحديث أسامة بن زيد: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (2) .
وحديث عبد الله بن عمرو: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (3) .
3ً - حديث عبادة بن الصامت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما» (4) .
4ً - حديث ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت» (5) فدل على أن الأخت مع البنت عصبة تأخذ الباقي بعد فرضها.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 55/6) .
(2) رواه الجماعة إلا النسائي (نيل الأوطار: 73/6) .
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (المرجع والمكان السابق) .
(4) رواه عبد الله بن أحمد في المسند (نيل الأوطار: 59/6) .
(5) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي (نيل الأوطار: 58/6) .(10/373)
5ً - حديث المقدام بن معْدِ يَكْرِب في ذوي الأرحام: «من ترك مالاً فلورثته،
وأنا وارث من لا وارث له، أعْقِل ُ عنه وأرِثُ، والخال وارث من لا وارث له، يَعْقِل عنه ويرثه» (1) .
6ً - حديث عائشة في الميراث بالولاء: «الوَلاء لمن أعتق» (2) .
وأما الإجماع: فهو إجماع الصحابة والتابعين على أن فرض الجدة الواحدة السدس، وكذلك فرض الجدتين والثلاث، كما حكى البيهقي عن محمد بن نصر من أصحاب الشافعي. لكن الشافعية والمالكية لا يورثون إلا جدتين.
وفضل هذا العلم عظيم، فقد قيل: إنه نصف العلم، لتعلقه بحال الإنسان بعد موته، كما تتعلق سائر المعاملات به في حياته، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول شيء يُنْزَع من أمتي» (3) .
وواضعه: الشارع الذي أنشأ الشرع وهو الله سبحانه وتعالى.
ونسبته لسائر العلوم: كونه بعض علم الفقه، وأخص منه ومن الحساب، ومباين لغيرهما. ومن المعلوم أن موضوع علم الفقه عمل المكلفين، وقسمة التركة من أعمالهم.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 62/6) .
(2) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 180/5، 68/6) .
(3) رواه ابن ماجه والدارقطني والحاكم، وفيه متروك (نيل الأوطار: 53/6) ويؤيده حديث ابن مسعود فيما رواه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم: «تعلموا القرآن وعلِّموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها، فإني امرؤ مقبوض، والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف الناس في الفريضة والمسألة، فلا يجدان أحداً يخبرهما» وفيه انقطاع (المرجع السابق) لكن قال الحاكم: صحيح الإسناد، وفي روايته «من يقضي بها» .(10/374)
وثمرته أو فائدته: أن تحصل لمتعلمه ملكة يكون له بها قدرة على قسمة التركة بين المستحقين بالوجه الشرعي. ويسمى صاحب تلك الملكة العالم به: فَرَضي وفارض وفرَّاض. واصطلاحاً: فرائضي.
وغايته: إيصال كل ذي حق حقه من التركة.
ومسائله: قضاياه وفروعه المستخرجة من قواعده، ككون النصف للبنت.
وحسابه: قسمته؛ لأنها بعض علم الفرائض المتوقف عليها، والمراد بالحساب: تأصل المسائل والتصحيح وما يتبع ذلك.
مصطلحاته: وأما أهم مصطلحات الفرائض فهي ما يأتي:
1 - الفرض: هو النصيب المقدر شرعاً للوارث، أي الحظ المقدر صريحاً من التركة بنص أو إجماع، كالثمن والربع، بحيث لايزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول.
2 - السهم: يراد به الجزء المعطى لكل وارث من أصل المسألة الذي هو مخرج فرض الورثة، أو عدد رؤوسهم مثل اثنين من ستة. وقد يطلق على النصيب مع قرينة من القرائن.
3 - التركة: ما يتركه الميت مما كان يملكه من الأموال النقدية والعينية والحقوق. فلا يدخل في التركة الأمانات ونحوها مما لم يكن يملكه.
4 - النسب: هو البنوة والأبوة والإدلاء بأحدهما، عن طريق تغليب الأبوة على الأمومة.(10/375)
5 - الجمع والعدد: يراد به في الميراث كل ما زاد على الواحد، فالبنتان والبنات جمع.
6 - الفرع: إذا أطلق الفرع في الميراث يراد به ابن الميت وبنته، وابن ابنه وبنت ابنه وإن نزل أبوها. فإذا قيل (الفرع الوارث) يراد به الابن والبنت، وابن الابن وبنت الابن وإن نزل. ويلاحظ أن ابن الابن بمثابة الابن، أما ابن الأخ فليس بمثابة الأخ.
وفرع الأب: يراد به الإخوة والأخوات وبنو الأخ الشقيق أو الأب.
وفرع الجد: يراد به العم الشقيق والعم لأب وبنوهما.
7 - الأصل: إذا أطلق يراد به الأبوان والأجداد الصحاح (من جهة الأب) والجدات الصحيحات (من جهة الأب) وإن علوا. فإذا قيل: الأصل الذكر يراد به الأب والجد.
8 - الولد: من ولده الإنسان قبل موته مباشرة، سواء الذكر والأنثى.
9 - الوارث: من يستحق حصته من التركة، وإن لم يأخذها بالفعل كالمحروم والمحجوب.
10 - الأخ والعم: إذا أطلق الأخ يعم الأخ الشقيق أو لأب أو لأم؛ لأنه وارث. أما العم فلا يعم العم لأم؛ لأنه من ذوي الأرحام.
11 - العَصَبة: من لم يكن له نصيب مقدرصريحاً. والعصبة بالنفس: هو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى.
12 - الإدلاء: هو الاتصال بالميت: إما مباشرة بالنفس كأبي الميت وأمه وابنه وبنته، أوبواسطة كإدلاء ابن الابن بالابن، وبنت الابن بالابن.
والإدلاء بالعصبة: هو العصبة بنفسه: وهو كل ذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى وحدها، سواء أكان الميت ذكراً أم أنثى، مثل ابن الابن، وابن ابن الابن، وابن البنت.
13 - الميْت: بسكون الياء: من خرجت روحه من جسده من العقلاء. والميِّت ـ بتشديد الياء: من كانت حالته كحالة الأموات من الأحياء. والميتة: من زهقت روحها من سائر الحيوانات بغير ذكاة شرعية.(10/376)
الفَصْل الثَّاني: أركان الميراث:
للميراث أركان ثلاثة: هي مورث، ووارث، وموروث.
1 - المورِّث: هو الميت الذي ترك مالاً أو حقاً.
2 - والوارث: هو الذي يستحق الإرث بسبب من أسبابه الآتية، وإن لم يأخذها بالفعل لمانع، فهو مستحق الإرث من غيره لقرابة حقيقية أو حكمية.
3 - الموروث: هو التركة، ويسمى أيضاً ميراثاً وإرثاً، وهو ما يتركه المورث من المال، أوالحقوق التي يمكن إرثها عنه، كحق القصاص، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وحبس المرهون لاستيفاء الدين.
فإذا فقد ركن من هذه الأركان انتفى الإرث؛ لأن الإرث عبارة عن استحقاق شخص مال شخص آخر بفرض أو عصوبة أو رحم، فإذا فقد واحد منها فقد الإرث.
فلو مات شخص عن ابن وابن ابن، أخذ المال الابن، ولا شيء لابن الابن؛ لأنه محجوب بالابن، مع أن فيه قوة الأخذ. إذ لولا وجود الابن لأخذ التركة.
وكذا لو عدمت التركة، كما لو مات عن أقارب، ولم يترك شيئاً، كانت الأقارب وارثة له؛ لأن فيهم قوة الأخذ، ولكنهم لم يأخذوا شيئاً لعدم التركة.
الفَصْلُ الثَّالث: أسباب الميراث:
يتوقف الإرث على ثلاثة أمور: وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، ولكل منها مبحث. أما أسباب الإرث المتفق عليها فهي ثلاثة: وهي القرابة، والزوجية، والوَلاء (1) .
1 - أما القرابة أو النسب الحقيقية ويسمى عند الحنفية الرحم: فيراد بها القرابة الحقيقية، وهي كل صلة سببها الولادة، وتشمل فروع الميت وأصوله وفروع أصوله، سواء أكان الإرث بالفرض فقط كالأم، أم بالفرض مع التعصيب كالأب، أم بالتعصيب فقط كالأخ، أم بالرحم كذوي الأرحام مثل العم لأم، ويكون الميراث بسبب النسب شاملاً الآتي:
1 - الأولاد وأبناءهم ذكوراً وإناثاً.
2 ـ الآباء وآباءهم والأمهات، أي الأم وأمها وأمهات الآباء.
3 - الإخوة والإخوات.
4 - الأعمام وأبناءهم الذكور فقط.
2 - وأما الزوجية أو النكاح الصحيح: فيراد به العقد الصحيح، سواء صحبه دخول بالزوجة أم لا. وهو يشمل الزوج والزوجة.
فإذا مات أحد الزوجين ولو قبل الدخول، ورثه الآخر، لعموم آية
__________
(1) الدر المختار: 538/5، الشرح الصغير: 619/4، بداية المجتهد: 355/2، مغني المحتاج: 4/3، الرحبية: ص16 ومابعدها، كشاف القناع: 448/4، المغني: 304/6، 326، القوانين الفقهية: ص384.(10/377)
التوارث (1) بين الزوجين، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بَرْوع بنت واشق أن لها الميراث، وكان زوجها قد مات عنها قبل الدخول بها، ولم يكن فرض لها صداقاً.
وترث المرأة من زوجها إذا كانت في العدة مطلقة طلاقاً رجعياً؛ لأن الزوجية في الطلاق الرجعي قائمة ما دامت في العدة، وهذا متفق عليه فقهاً وقانوناً (2) .
أما المطلقة طلاقاً بائناً فلا ترث ولو كانت في العدة إذا طلقها زوجها في حال صحته، لعدم اتهامه بالفرار من إرثها. فإن طلقها في مرض موته فراراً من إرثها منه، وهو ما يسمى طلاق الفرار، فترث منه عند الحنفية إذا مات ما لم تنقض عدتها معاملة له بنقيض مقصوده. وترث منه عند المالكية ولو انقضت عدتها، وتزوجت غيره فعلاً لإطلاق الآثار فيها، وترث منه عند الحنابلة ولو انقضت عدتها، ما لم تتزوج غيره، لقول أبي سلمة رضي الله عنه: إن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة، وهو مريض، فورَّثها عثمان بن عفان بعد انقضاء عدتها.
والخلاصة: إن الجمهورـ غير الشافعية يورثون هذه المرأة لقصد الزوج السيء.
ولا ميراث لهذه الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً عند الشافعية، وإن كانت العدة باقية لمعنى آخر؛ لأن البينونة قطعت الزوجية التي هي سبب الإرث.
ولا توارث في النكاح الفاسد المجمع على فساده، كالنكاح بغير شهود، ولا في النكاح الباطل، كنكاح المتعة، فليس بنكاح شرعي، ولو أعقبه دخول أو خلوة؛ لأن وجوده كعدمه. واختلفوا في التوارث في النكاح الفاسد المختلف فيه، كالنكاح بغير ولي، فبعضهم يجيز التوارث بين الزوجين، لشبهة الخلاف، وبعضهم يمنع التوارث لمقتضى الفساد.
__________
(1) وهي الآية 12 من سورة النساء: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء:12/4] .
(2) انظر المادة 11 من قانون الإرث في مصر رقم 77 لسنة 1943، والمادة 268 من قانون الأحوال الشخصية السوري.(10/378)
3 - وأما الولاء: فهو قرابة حكمية أنشأها الشارع من العتق. وأضاف الحنفية للأسباب الثلاثة المذكورة خلافاً لغيرهم: ولاء الموالاة.
فولاء العتق: هو العصوبة السببية، أو هو صلة بين السيد وبين من أعتقه، وتجعل للسيد أو عصبته حق الإرث ممن أعتقه، إذا مات ولا وارث له من قرابته، وهذا ما يسمى بالنسب الحكمي (1) ، وفي الحديث: «الولاء لُحْمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب» (2) فيرث المعتق العتيق ولا عكس، أي لا يرث العتيق المعتق.
وولاء الموالاة: هو عقد بين اثنين على أن يعقل كل منهما عن الآخر، وأن يتوارثا.
4 - وأضاف الشافعية والمالكية سبباً رابعاً وهو جهة الإسلام: فإنها الوارثة كالنسب، فتصرف تركة المسلم أو باقيها لبيت المال إرثاً للمسلمين عصوبة، لا مصلحة، إذا لم يكن وارث بالأسباب الثلاثة المتقدمة، أو كان هناك سبب لم يستغرق التركة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» (3) وهو صلّى الله عليه وسلم لا يرث لنفسه شيئاً، وإنما يصرف ذلك في مصالح المسلمين.
الإرث بجهتين: إذا كان لوارث جهتا إرث ورث بهما معاً، كما لو ماتت امرأة عن زوج وأم، وكان زوجها ابن عمها أيضاً، فتأخذ الأم نصيبها وهو الثلث،
__________
(1) نظام المواريث في الشريعة للأستاذ الشيخ عبد العظيم فياض: ص 19، ط ثانية.
(2) رواه الشافعي وصححه ابن حبان والحاكم، واللحمة: الرابطة التي تربط بين شيئين أحدهما بالآخر، أي قرابة كقرابة النسب.
(3) رواه أبو داود وغيره.(10/379)
ويأخذ الزوج نصيبه وهو النصف، ثم يأخذ الباقي؛ لأنه عصبة، ولكن يستثنى الجدات في الميراث لهن السدس بالسوية، سواء أكانت الجدة ذات قرابة أم ذات قرابتين، ويستثنى أيضاً ذوو الأرحام، فإنهم يرثون بجهة واحدة، ولا يعتبر تعدد الجهات.
أسباب الإرث في القانون: نص القانون المصري في المادة (7) على أن أسباب الإرث ثلاثة: الزوجية والقرابة والعصوبة السببية، أي ولاء العتق، وأما ولاء الموالاة فلم يجعله من أسباب الإرث، لعدم وجوده من زمن بعيد.
ونصت المادة (11) على إرث الزوجة المطلقة طلاقاً رجعياً إذا مات الزوج وهي في العدة. أما المطلقة طلاقاً بائناً فتعتبر في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق، ومات المطلق في ذلك المرض، وهي في عدته.
أما قانون الأحوال الشخصية السوري فنص في المادة (263) على أن أسباب الإرث: الزوجية والقرابة، ولم يعتبر الولاء سبباً في القانون، لإلغاء الرق من العالم. ونص في المادة (268) على أن للزوجة ولو كانت مطلقة رجعياً إذا مات الزوج وهي في العدة فرض الربع عند عدم الولد وولد الابن وإن نزل.
ونصت المادة (116) على أن الطلاق البائن في مرض الموت لا يمنع الإرث، إذا مات الرجل في ذلك المرض والمرأة في العدة، وعد الطلاق طلاقاً تعسفياً.(10/380)
الفَصْلُ الرَّابع: شروط الإرث:
يشترط لثبوت الحق في الميراث ثلاثة شروط: وهي موت المورث، وحياة الوارث، ومعرفة جهة القرابة (1) .
1 ً - موت المورث: لا بد من تحقق موت المورث، إما حقيقة، أو حكماً أو تقديراً، بإلحاقه بالأموات.
فالحقيقي: هو انعدام الحياة، إما بالمعاينة كما إذا شوهد ميتاً، أو بالسماع، أو بالبينة.
والحكمي: هو أن يكون بحكم القاضي، إما مع احتمال الحياة أو تيقنها.
مثال الأول: حكم القاضي على إنسان بموته، وهو الحكم على المفقود بموته.
ومثال الثاني: حكم القاضي على المرتد باعتباره في حكم الأموات إذا لحق بدار الحرب. وتقسم التركة في الحالتين من وقت صدور الحكم بالموت.
والتقديري: هوإلحاق الشخص بالموتى تقديراً، وذلك في الجنين الذي انفصل بجناية على أمه، وهي التي توجب الغُرَّة (50 ديناراً) ، بأن يضرب شخص امرأة حاملاً، فتلقي جنيناً ميتاً، فتجب الغرة وهي عبد أو أمة، وتقدر بنصف عشر الدية الكاملة. لكن اختلف الفقهاء في إرث هذا الجنين (2) .
قال أبو حنيفة: إن هذا الجنين يرث ويورث؛ لأنه يقدر أنه كان حياً وقت الجناية، وأنه مات بسببها.
وقال الجمهور: لا يرث هذا الجنين؛ لأنه لم تتحقق حياته، فلم تتحقق أهليته للتملك بالإرث، ولا يورث عنه سوى الغرة وهي دية الجنين؛ لأنه يعتبر حياً بالنسبة لها فقط.
وأخذ القانون المصري (م3) بمذهب الليث بن سعد وربيعة بن عبد الرحمن:
وهو أن هذا الجنين لا يرث ولا يورث؛ لأنه لم يتحقق موته بسبب الجناية، ولا حياته وقتها، والجزاء يكون للأم وحدها؛ لأن الجريمة عليها وحدها.
2 ً - حياة الوارث: لا بد أيضاً من تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، إما حياة حقيقية مستقرة أو إلحاقه بالأحياء تقديراً.
الحقيقية: هي الحياة المستقرة الثابتة للإنسان المشاهدة له بعد موت المورث.
والتقديرية: هي الحياة الثابتة تقديراً للجنين عند موت المورث، فإذا انفصل حياً حياة مستقرة لوقت يظهر وجوده عند موت المورث، ولو كان حينئذ مضغة أو علقة، ثبت له الحق في الميراث، فيقدر وجود حياته بولادته حياً.
3 ً - العلم بجهة الميراث: إن انتفاء المانع وهو ألا يكون هناك مانع من موانع الإرث الآتية. ليس شرطاً في الإرث، وإنما الشرط هو الأولان فقط، كما نص القانون المصري، حيث نص في المادة الثانية على الشرطين الأولين فقط، كما نص القانون السوري في المادة 26 على هذين الشرطين أيضاً، ونص في المادة (261) على شرط وراثة الحمل.
لكن لابد من العلم بالجهة المقتضية للإرث: بأن يعلم أنه وارث من جهة القرابة النسبية، أو من جهة الزوجية أو منهما، أو من جهة الولاء، لاختلاف الحكم في ذلك.
__________
(1) الرحبية: ص 80، المواد 1-3 من القانون المصري، كشاف القناع: 448/4.
(2) المغني: 320/6.(10/381)
الفَصْلُ الخامس: موانع الإرث:
المانع لغة: الحائل، واصطلاحاً: ما ينتفي لأجله الحكم عن شخص لمعنى فيه، بعد قيام سببه، ويسمى محروماً، فخرج ما انتفى لمعنى في غيره، فإنه محجوب، أو لعدم قيام السبب كأجنبي، والمراد بالمانع هنا: المانع عن الوراثة، لا التوريث، وإن كان بعض الموانع كاختلاف الدين مانعاً عن الأمرين معاً: الوراثة والتوريث.
واتفق الفقهاء على ثلاثة موانع للإرث: هي الرق، والقتل، واختلاف الدين. واختلفوا فيما عداها.
ذكر الحنفية (1) أربعة موانع مشهورة: هي الرق، والقتل، واختلاف الدين، واختلاف الدارين، السببان الأولان يمنعان صاحبهما من أن يرث من غيره، والأخيران يمنعان التوارث من الجانبين. قال القدوري في الكتاب: لا يرث أربعة: المملوك، والقاتل من المقتول، والمرتد، وأهل الملتين، وكذا أهل الدارين، وسأوضح هذه الموانع كلاً على حدة.
وأضافوا مانعين آخرين، فتصبح الموانع لديهم ستة، والمانعان هما:
1ً - جهالة تاريخ الموتى كالغرقى والحرقى والهدمى والقتلى في آن واحد؛ لأن من شروط الإرث السابقة: وجود الوارث حياً عند موت المورث، وهو منتف هنا لعدم العلم بوجود الشرط، ولا توارث مع الشك.
2ً - وجهالة الوارث: وهي في خمس مسائل أو أكثر، منها:
1 - امرأة أرضعت صبياً مع ولدها، وماتت، ولم يعلم أيهما ولدها، أي جهل ولدها، فلا يرثها واحد منهما.
__________
(1) شرح السراجية: ص 18-24، الدر المختار ورد المحتار: 541/5-543، تبيين الحقائق: 239/6 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 188/4، 197.(10/382)
2 - استأجر مسلم وكافرلولديهما ظئراً (مرضعاً) ، فكبرا عندها، ولم يعلم ولد المسلم من ولد الكافر، فالولدان مسلمان، ولا يرثان من أبويهما، إلا أن يصطلحا، فلهما أن يأخذا الميراث بينهما.
إن جهالة الوارث مانع آخر؛ لأنها كموته حكماً كما في المفقود.
وزاد بعض الحنفية مانعاً سابعاً وهوالنبوة، لحديث الصحيحين: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» فكل إنسان يرث ولا يورث، إلا الأنبياء لا يرثون ولا يورثون. والحق أن النبوة ليست من الموانع؛ لأن النبوة معنى قائم في المورث، والمانع: هو ما يمنع الإرث لمعنى قائم في الوارث.
وذكر المالكية (1) عشرة موانع للميراث هي:
1ً - اختلاف الدين: فلا يرث كافر مسلماً إجماعاً، ولا يرث مسلم كافراً عند الجمهور، ولا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما، خلافاً لأبي حنيفة والشافعية. وإذا أسلم الكافر بعد موت مورثه المسلم، لم يرثه.
والمرتد في الميراث كالكافر الأصلي، خلافاً لأبي حنيفة فإن المسلم يرث عنده من المرتد. وأما الزنديق فيرثه ورثته من المسلمين إذا كان يظهر الإسلام.
2 ً - الرق: فالعبد، وكل من فيه شعبة من رق كالمكاتب والمدبر وأم الولد. والمعتق بعضه، والمعتق إلى أجل، لا يرث ولا يورث، وميراثه لمالكه.
3ً - القتل العمد: فمن قتل مورثه عمداً، لم يرث من ماله ولا ديته، ولم يحجب وارثاً. فإن قتله خطأ ورث من المال دون الدية، وحجب غيره.
4 ً - اللعان: فلا يرث المنفي به النافي، ولا يرثه هو.
5 ً - الزنا: فلا يرث ولد الزنا والده، ولا يرثه هو؛ لأنه غير لاحق به، وإن أقر به الوالد حُدَّ، ولم يلحق به.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 394 وما بعدها، بداية المجتهد: 346/2 وما بعدها.(10/383)
ومن تزوج أمّاً بعد ابنة، أو بنتاً بعد أم، لم ترثه واحدة منها.
ومن تزوج أختاً بعد أخت، والأولى في عصمته، ورثته دون الثانية.
6 ً - الشك في موت المورث: كالأسير والمفقود.
7 ً - الحمل: فيوقف به المال إلى الوضع.
8 ً - الشك في حياة المولود: فإن استهل صارخاً ورث ووُرث، وإلا فلا، ولا يقوم مقام الصراخ: الحركة والعطاس في المذهب إلا أن يطول أو يرضع.
9 ً - الشك في تقدم موت المورث أو الوارث: كميتين تحت هدم أو غرق، فلا يرث أحدهما الآخر، ويرث كل واحد منهما سائر ورثته. وهذا هو جهالة تاريخ الموتى عند الحنفية.
10 ً - الشك في الذكورة والأنوثة: وهو الخنثى، ويختبر بالتبول واللحية والحيض، فإن لحق بالرجال ورث ميراث الرجال، وإن لحق بالنساء ورث ميراثهن. وإن أشكل أمره، أعطي نصف نصيب أنثى، ونصف نصيب ذكر.
وذكر الشافعية والحنابلة (1) : ثلاثة موانع للإرث هي:
الرق، والقتل، واختلاف الدين. وأضاف الشافعية موانع ثلاثة أخرى، فتصبح الموانع عندهم ستة، وهذه الثلاثة هي:
1 - اختلاف ذوي الكفر الأصلي بالذمة والحرابة: المشهور أنه لا توارث بين حربي وذمي لانقطاع الموالاة بينهما. والمعاهد والمستأمن كالذمي.
2 - الردة: لا يرث المرتد من أحد مسلم أو كافر، ولا يورث بحال، للحديث السابق: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في أثناء الإسلام أم في الردة. ويدخل هذا المانع في اختلاف الدين، كما أبان المالكية سابقاً.
3 - الدور الحُكْمي: وهو أن يلزم من التوريث عدم التوريث، مثل: أن يقرّ أخ حائز للتركة بابن للمتوفى، فيثبت نسبه بإقرار الأخ، لكن لا يرث هذا الابن للدور؛ لأنه بإقرار هذا الأخ بالابن وثبوت نسبه من الأب، تبين عدم إرثه؛ لأنه محجوب به، فيلزم عليه بطلان إقراره؛ لأنه حينئذ لم يكن حائزاً للتركة، فيبطل نسب الولد، وإذا بطل فإنه لا يرث. ولكن إذا كان صادقاً في نفس الأمر، فإنه يجب أن يدفع له التركة ديانة فيما بينه وبين الله تعالى.
إن إثبات الإرث أدى إلى نفيه، وكل ما أدى إثباته إلى نفيه ينتفي من أصله.
وبالتأمل أرى أن ماذكره الفقهاء من موانع الإرث غير الأربعة المشهورة لا تعد في الحقيقة موانع، وإنما ينتفي الإرث لعدم تحقق شرط من شروط الإرث السابقة.
__________
(1) مغني المحتاج: 24/3-29، الرحبية: ص 19، كشاف القناع: 448/4، ط مكة، المغني: 266/6-270، 291-298.(10/384)
لذا أعود لشرح الموانع الأربعة المشهورة وهي:
المانع الأول ـ الرق:
وهو لغة: العبودية، واصطلاحاً: عجز حكمي يقوم بالإنسان، سببه في الأصل: الكفر. فهو مانع من الإرث مطلقاً، سواء أكان تاماً أم ناقصاً في رأي الحنفية والمالكية، فلا توارث بين حر ورقيق، أي لا يرث الرقيق أحداً ولا يورث؛ لأن الرق ينافي أهلية التملك، إذ مقتضى كون الرقيق مالاً مملوكاً للسيد، ألا يكون مالكاً للمال، باعتبار أن المملوكية تنبئ عن العجز والهوان، والمالكية تنبئ عن القدرة والكرامة، فتتنافيان، ويكون جميع ما في يده من المال لسيده، فلو ورثناه لوقع الملك لسيده، فيكون توريثاً للأجنبي بلا سبب، وإنه باطل إجماعاً.
ولم يذكر القانون السوري هذا النسب لإلغاء الرق من العالم.
المبعض: استثنى الشافعية في المذهب الجديد وهو الأصح (1) العبد المبعض وهو من بعضه حر، فإنه يورث عنه إذا مات المال الذي ملكه ببعضه الحر؛ لأنه تام الملك عليه كالحر، فيرثه عنه قريبه الحر، أو معتق بعضه، وزوجته، ولا شيء لسيده، لاستيفاء حقه مما اكتسبه بالرِّقية.
وقال الحنابلة (2) : من بعضه حر يرث ويورث بجزئه الحر (3) ، ويحجب
__________
(1) مغني المحتاج: 25/3، الرحبية: ص19 ومابعدها.
(2) المغني: 267/6-269.
(3) أنواع الرقيق في الماضي: قن ومكاتب ومدبر وأم ولد ومبعض، والقن رق كامل والباقي رق ناقص.
وأما المكاتب: فهو الذي كاتبه سيده على مبلغ معلوم، بأن يقول له: كاتبتك على عشرين درهماً أو ديناراً مثلاً إن أديتها لي فأنت حر. أو يحد د له مدة معينة لتسديد الأقساط، ككل شهر دينار ونصف.
وأما المدبر: فهو المملوك الذي قال له سيده: أنت حر بعد موتي.
وأما أم الولد: فهي الأمة التي أتت بولد من السيد، فادعاه بأن قال: هذا الولد ابني، فإنه يثبت نسبه منه، وتصير الأمة أم ولد.
ولايجوز بيع المدبر وأم الولد، وإنما يعتقان بموت السيد، فلا يرثان ولا يورثان.
وأما المبعض: فهو من بعضه حر بإعتاق مالكه وبعضه عبد، وهو عند أبي حنيفة بمنزلة المملوك مابقي عليه درهم في فكاك رقبته، فلا يرث ولا يحجب أحداً عن ميراثه. وعند مالك والشافعي وأحمد: هو حر، فإن كان المعتق موسراً، قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، ودفعه إلى شريكه وعتق الكل عليه، وإن كان المعتق معسراً لم يلزمه شيء وبقي بعض العبد عبداً وبعضه حر.
وعند الصاحبين: هو حر فيرث ويحجب، والمسألة مبنية على أن العتق لايتجزأ عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: يتجزأ، فمن أعتق حصة من رقيق عتق كله عندهما، فإن كان المعتق غنياً، ضمن حصة شريكه بالقيمة، وإن كان فقيراً أمر العبد بالسعاية في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه (بداية المجتهد: 360/2) .(10/385)
على مقدار ما فيه من الحرية، ولا يرث ولا يورث ولا يحجب بالقدر الباقي فيه من الرق، لما روى عبد الله بن أحمد عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في العبد يعتق بعضه: «يرث ويورث على قدر ما عتق منه»
المكاتب: المكاتب عند الحنابلة إن لم يملك قدر ما عليه من أقساط الكتابة، هو عبد لا يرث ولا يورث، وإن ملك قدر ما يؤدي، ففيه روايتان:
إحداهما: أنه عبد مابقي عليه درهم، لايرث ولايورث، وهو رأي الجمهور من الأئمة الآخرين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد مابقي عليه درهم» (1) .
والثانية: أنه إذا ملك مايؤدي، فقد صار حراً، يرث ويورث، فإذا مات من يرثه، ورث، وإن مات هو فلسيده بقية كتابته، والباقي لورثته، لحديث أم سلمة، قالت: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده مايؤدي، فلتحجب منه» (2) .
__________
(1) رواه أبو داود بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) رواه أبو داود بإسناده عن أم سلمة.(10/386)
المانع الثاني - القتل:
اتفق الفقهاء على أن القتل مانع من الميراث، فالقاتل لايرث من قتيله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (1) ؛ لأنه استعجل الميراث قبل أوانه بفعل محظور، فعوقب بحرمانه مما قصد، لينزجر عما فعل، ولأن التوريث مع القتل يؤدي إلى الفساد، والله لايحب الفساد.
ولكنهم اختلفوا في نوع القتل المانع:
رأى الحنفية: أنه القتل الحرام: وهو الذي يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، ويشمل القتل العمد وشبهه والخطأ ومايجري مجرى الخطأ، والذي يوجب القصاص هو القتل العمد: وهو عند أبي حنيفة: الضرب قصداً بالمحدد من السلاح أو مايجري مجراه في تفريق أجزاء البدن كالمحدَّد من الخشب أو الحجر. وعند الصاحبين والأئمة الثلاثة الآخرين: هو الضرب قصداً بما يُقْتل به غالباً، وإن لم يكن محدداً كحجر عظيم.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر، وهو منقطع، ورواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لايرث القاتل شيئاً» وأعله النسائي والدارقطني، وقواه ابن عبد البر (نيل الأوطار: 74/6) .(10/387)
وأما الذي يوجب الكفارة فهو إما شبه العمد: كأن يتعمد ضربه بما لايقتل به غالباً. وإما الخطأ: كأن رمى إلى الصيد فأصاب إنساناً أو انقلب في النوم على آخر فقتله، أو سقط من سطح عليه، أو سقط عليه حجر من يده فمات، أو وطئ الراكب بدابته أحداً.
ومالم يتعلق به وجوب القصاص أو الكفارة، فلا يمنع من الميراث. وهو القتل بحق، أو بعذر، أو بالتسبب، والصادر من غير المكلف. والقتل بحق: مثل قتل المورث لتنفيذ القصاص أو الحد بسبب الردة أو الزنى حال الإحصان، والقتل دفاعاً عن النفس، وقتل العادل مورثه الباغي باتفاق الحنفية، وبالعكس عند أبي حنيفة ومحمد وهو قتل الباغي مورثه العادل مع الإمام، فلا يحرم ذلك أصلاً.
والقتل بعذر: كقتل الزوج زوجته أو الزاني بها عند التلبس بالزنا؛ لفقده الشعور والاختيار حينئذ، وكالقتل الذي يتجاوز به حدود الدفاع الشرعي؛ لأن أصل الدفاع لايمكن ضبطه، فيعفى عن التجاوز فيه.
والقتل بالتسبب: هو مالا يباشره القاتل، كحفر بئر أو وضع حجر في غير ملكه. والقتل الصادر من غير المكلف: هو القتل من الصبي أو المجنون. ففي هذه الأنواع الأربعة لايحرم القاتل من الميراث.
وإذا قتل الأب ابنه عمداً، وإن لم يثبت به قصاص ولا كفارة، يحرم من الميراث؛ لأن القتل في أصله موجب للقصاص، إلا أنه سقط بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لايقتل الوالد بالولد» (1) .
ورأى المالكية: أن القتل المانع من الإرث: هو قتل العمد العدوان سواء أكان مباشرة أم تسبباً. ويشمل الآمر به والمحرض عليه، والمسهل له، والشريك، وواضع السم في الطعام أوالشراب، والربيئة (من يراقب المكان أثناء مباشرة القتل) وشاهد الزور إذا بني الحكم على شهادته، والمكرِه إكراهاً ملجئاً على قتل معصوم الدم، وحافر البئر لمورثه، وواضع الحجر في طريقه، فيصطدم به فيموت.
أما القتل خطأ: فلا يمنع من ميراث المال، ويمنع من إرث الدية.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وهو ضعيف، وروي أيضاً من حديث عمر وسراقة بن مالك، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لايقاد الوالد بالولد» وفي سنده طعن إلا رواية الحاكم عن عمر، فهو صحيح الإسناد (نصب الراية: 339/4) .(10/388)
ورأى الشافعية: أن القاتل لايرث من مقتوله مطلقاً، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، لمصلحة كضرب الأب والزوج والمعلم أم لا، مكرِهاً أم لا، بحق أم لا، من مكلف أم من غير مكلف. وهذا أوسع الآراء، ودليلهم عموم خبر الترمذي وغيره: «ليس للقاتل شيء» أي من الميراث.
ورأى الحنابلة: أن القتل المانع من الإرث: هو القتل بغير حق، وهو المضمون بقصاص (قود) أو دية أو كفارة، فيشمل العمد وشبه العمد والخطأ، وماجرى مجرى الخطأ كالقتل بالتسبب، وقتل الصبي والمجنون والنائم.
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على أن القتل مانع من الميراث، واختلفوا في نوع القتل، فاعتبر أبو حنيفة المباشرة مع العدوان عمداً أو خطأً، واعتبر مالك العمد العدوان، دون الخطأ، واعتبر الشافعي كل قتل مانعاً ولو من قاصر، واعتبر أحمد القتل المضمون بقصاص أو دية أو كفارة ولو من قاصر.
فالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وشبه الخطأ مانع من الميراث عند الجمهور مع مراعاة معنى العمد عند أبي حنيفة واستثناء القتل بالتسبب عند الحنفية، والقتل العمد وحده، سواء أكان الفاعل أصيلاً أم شريكاً مباشرة أم تسبباً هو المانع عند المالكية.
وأخذ القانون المصري (م5) والقانون السوري (م223، 264) بمذهب المالكية في تحديد نوع القتل المانع من الميراث والوصية، خلافاً لمذهب الحنفية في موضعين: القتل بالتسبب، والقتل الخطأ.
إرث الزوج دية القتل الخطأ: رأى الحنفية أن دية الخطأ كسائر الديون، يرث منها كل واحد من الزوجين وغيرهما، لحديث: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل (دية) زوجها، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورأى المالكية عدم توارث الزوجين من الدية، لانقطاع الزوجية بالموت، ولا وجوب للدية بعده (1) .
__________
(1) المغني: 320/6، نظام المواريث للأستاذ عبد العظيم فياض: ص 30.(10/389)
المانع الثالث ـ اختلاف الدين:
اختلاف الدين بين المورث والوارث بالإسلام وغيره مانع من الإرث باتفاق
المذاهب الأربعة، فلا يرث المسلم كافراً، ولا الكافر مسلماً، سواء بسبب القرابة أو الزوجية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (1) وقوله: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (2) وهذا هوالراجح لأن الولاية منقطعة بين المسلم والكافر، وبه أخذ القانون المصري (م6) والقانون السوري (م 264) : «لا توارث بين مسلم وغير مسلم» .
وذهب معاذ ومعاوية والحسن وابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين ومسروق رضي الله عنهم إلى أن المسلم يرث من الكافر، ولا يرث منه، لحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» (3) ورد عليهم بأن المراد العلو بحسب الحجة أو بحسب القهر والغلبة، أي النصرة في العاقبة للمسلمين.
وقال أحمد: يرث المسلم عتيقه الكافر. لعموم الحديث السابق: «الولاء لمن أعتق» (4) .
إرث غير المسلمين: أما اختلاف الدينين بين الكفار أنفسهم كاليهود والنصارى، ففي جعله ما نعاً من الميراث خلاف:
1 - قال المالكية: لا يرث كافر كافراً إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية، فلا يتوارث اليهود من النصارى ولا النصارى من اليهود، لأنهما دينان مختلفان، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك، لعموم الحديث السابق:
__________
(1) روه الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد (نيل الأوطار: 73/6) .
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد لله بن عمرو، وللترمذي مثله عن جابر (المرجع والمكان السابق) .
(3) رواه الروياني والدارقطني والبيهقي والضياء عن عائذ بن عمرو، وهو حديث حسن.
(4) المغني: 348/6.(10/390)
«لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم. وأما غير اليهودية والنصرانية من سائر الملل والنحل، فإنها تعتبر شيئاً واحداً، ويتوارث بعضهم من بعض (1) .
2 - وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: يتوارث الكفار بعضهم من بعض؛ لأن الكفر ملة واحدة في الإرث، لقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/8] فهو بعمومه يشمل جميع الكفار، وقوله سبحانه: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس:32/10] ولأن جميع ملل الكفر في نظر الإسلام سواء في البطلان كالملة الواحدة، ولأن غير المسلمين سواء في معاداة المسلمين والتمالؤ عليهم، فهم في حكم ملة واحدة. وبه أخذ القانون المصري، فنصت المادة (6) على أنه «يتوارث غير المسلمين بعضهم من بعض» .
3 - وقال ابن أبي ليلى: اليهود والنصارى يتوارثون فيما بينهم، ولا توارث بينهم وبين المجوس.
إرث المرتد والزنديق (2) :
المرتد: هو من ترك الإسلام إلى غيره من الأديان أو أصبح لا دين له. ولا خلاف في أن المرتد ومثله المرتدة لا يرث من غيره شيئاً، لا من مسلم ولا من كافر؛ لأنه أصبح لا موالاة بينه وبين غيره، ولا يقره الإسلام على ردته، وإنما يقتل، ولكن لا تقتل المرتدة عند الحنفية؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، وإنما تحبس حتى
__________
(1) وهناك رواية أخرى عن مالك أن اليهود ملة، والنصارى ملة، وكل من الملل الأخرى كعبادة الشمس وعبادة النار وغير ذلك ملة مستقلة على حدة، فينحصر التوارث بين أتباع الملة الواحدة دون ما عداهم.
(2) شرح السراجية: ص 225 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 394، مغني المحتاج: 25/3، المغني: 298/6-302.
تسلم أو تموت. واستثنى الحنابلة: إذا رجع المرتد إلى الإسلام قبل قسم الميراث، فيقسم له.(10/391)
وأما الإرث من المرتد ففيه خلاف:
1 - قال أبو حنيفة: يرث الورثة المسلمون من الرجل المرتد ما اكتسبه في حال الإسلام، وأما ما اكتسبه في حالة الردة، فيكون فيئاً لبيت مال المسلمين. وأما المرتدة: فجميع تركتها لورثتها المسلمين.
ولم يفرق الصاحبان بين المرتد والمرتدة، وقالا: جميع تركتها في حالي الإسلام والردة لورثتهما المسلمين؛ لأن المرتد لا يقر على ما اعتقده، بل يجبر على عوده إلى الإسلام، فيعتبر حكم الإسلام في حقه، لا فيما ينتفع هو به، بل فيما ينتفع به وارثه.
2 - وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : لا يرث المرتد ولا يورث كالكافر الأصلي، بل يكون ماله فيئاً لبيت المال، سواء اكتسبه في الإسلام، أم في الردة؛ لأنه بردته صار حرباً على المسلمين، فيكون حكم ماله كحكم مال الحربي. هذا إن مات على ردته، وإلا فماله موقوف، فإن عاد إلى الإسلام فهو له.
ردة أحد الزوجين: قال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول، انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان:
إحداهما ـ يتعجل الفرقة.
والأخرى ـ يقف على انقضاء العدة، وأيهما مات لم يرثه الآخر. وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام، ويستسر بالكفر، وهو المنافق، كان يسمى في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم منافقاً، ويسمى اليوم زنديقاً، وهو يختلف عن المنافق في السعاية بالفساد والدعوة السرية لهدم الإسلام وتشكيك المسلمين بعقائدهم.
وحكمه عند الجمهور غير المالكية كالمرتد على الخلاف والتفصيل السابق، فمال الزنديق عند الشافعية والحنابلة في بيت المال.
وقال المالكية: يورث الزنديق خلافاً لسائر المرتدين، فيرثه ورثته المسلمون، إذا كان يظهر الإسلام.
والخلاصة: إن الردة في الجملة تمنع الإرث، وقد عدها بعضهم مانعاً خاصاً غير اختلاف الدين؛ لأن للارتداد أحكاماً خاصة. فالمرتد لا يرث أحداً غيره مطلقاً، ولا يورث عند الجمهور غير الحنفية، ويورث عند الصاحبين مطلقاً، ويورث فقط ماله الذي اكتسبه حال الإسلام عند أبي حنيفة.(10/392)
المانع الرابع ـ اختلاف الدارين:
المراد بالدار: الوطن الذي له منعة خاصة وسلطان مستقل. والمراد باختلاف الدارين: أن يكون كل من الوارث والمورث تابعاً لدولة تخالف الأخرى في المَنَعة (القوة أو الجيش) والمُلْك (السلطة) مع انقطاع العصمة بينهما، كأن يكون أحدهما من الهند والآخر من السويد.
ويظهر هذا المانع بين دار الإسلام ودار الحرب أو بين أجزاء دار الحرب نفسها. أما دار الإسلام أو بلاد المسلمين، فتعتبر وطناً واحداً للمسلمين، فيرث المسلم في أي بلد آخر؛ لأن الإسلام صيَّر بلاد المسلمين وطناً واحداً، مهما تباعدت الديار، واختلفت الأنظمة وانقطعت الصلات. فلو مات مسلم في دار الحرب ورثه ورثته في دار الإسلام. فهذا المانع خاص بغير المسلمين؛ لأن بلاد الإسلام وطن واحد.
وأما دار الحرب فتختلف أحكامها باختلاف دولها.
واختلاف الدار مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار، دون المسلمين، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل، وإن اختلفت المنَعة والمُلْك، فيكون هذا المانع خاصاً بغير المسلمين. واختلاف الدار ثلاثة أنواع: حقيقي وحكمي معاً، وحكمي فقط، وحقيقي فقط.(10/393)
أـ الاختلاف الحقيقي والحكمي معاً: يتحقق باختلاف التبعية والإقامة، كأن يكون الوارث حربياً في دار الحرب، والمورث ذمياً في دار الإسلام، فإذا مات الحربي في دار الحرب، وله أب أو ذمي في دار الإسلام، أو مات الذمي في دار الإسلام، وله أب أو ابن في دار الحرب، لم يرث أحدهما من الآخر؛ لأن الذمي من أهل دار الإسلام، والحربي من أهل دار الحرب، فهما وإن اتحدا ملة، لكن لتباين الدارين حقيقة تنقطع الولاية بينهما، فتنقطع الوراثة على الولاية؛ لأن الوارث خلف المورّث في ماله ملكاً ويداً وتصرفاً.
ب ـ الاختلاف الحكمي فقط: يتحقق باختلاف التبعية أو الجنسية فقط، كأن يكون الوارث ألمانياً والمورث إنجليزياً معاً في ألمانيا وإنجلترا، أو يكون أحدهما ذمياً والآخر مستأمناً يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب حكماً.
أو يكون كلاهما مستأمنين من دولتين مختلفتين، يقيمان معاً في دار الإسلام؛ لأن كلاً منهما حربي من دار مختلفة. فلا توارث بين هؤلاء جميعاً، لاختلاف التبعية.
جـ ـ الاختلاف الحقيقي فقط: يتحقق باختلاف الإقامة مع اتحاد الرعوية أو التابعية. كألمانيين يقيم أحدهما في فرنسا، والآخر في أمريكا، مع الاحتفاظ بجنسيتهما، وكمستأمن في دارنا مع حربي في دار الحرب، كلاهما من دولة واحدة، يتوارثان، لاتحاد التبعية.
النوعان الأول والثاني مانعان من الإرث، لاختلاف التبعية، ومناط المنع من الإرث دائر على التبعية، ويكون الاختلاف الحكمي هو السبب وحده في منع الميراث.
أما النوع الثالث فغير مانع، للاتحاد في التبعية.
وبه يظهر أن الحربيين: إن كانا في دارين من دور الحرب مع اتحاد الجنسية كان الاختلاف في الدار حقيقياً غير مانع، وإن كان في دارنا، كان الاختلاف حكمياً، مانعاً من الإرث، فلا يتوارثان في دار الإسلام إلا إذا صارا ذميين.(10/394)
واختلاف الدار لدى الشافعية ليس مانعاً من موانع الإرث، لكنهم قالوا: لاتوارث بين حربي ومعاهد، وهو يشمل الذمي والمستأمن، لانقطاع الموالاة بينهما، كما تقدم، فيوافقون الحنفية في النوع الأول.
وليس اختلاف الدار مطلقاً لدى المالكية والحنابلة مانعاً للميراث، فيرث أهل الحرب بعضهم بعضاً، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.
أما القانون المصري في المادة (6) فقد نص على أن اختلاف الدار لا يمنع من الإرث بين المسلمين. ولا يمنع بين غير المسلمين إلا إذا كانت شريعة الدار الأجنبية تمنع من توريث الأجنبي عنها. جرى هذا القانون على أن الأصل أن اختلاف الدار لا يمنع من التوارث بين غير المسلمين، كما يقول المالكية والحنابلة، إلا أنه شرط أن تكون شريعة الدار الأجنبية لا تمنع من توريث الأجنبي عنها، فإذا كانت شريعتها تمنع من توريث الأجنبي، كان اختلاف الدار عندنا مانعاً من الإرث، معاملة بالمثل.
وأما القانون السوري في المادة (264) فإنه نص على أنه «لا يمنح الأجنبي حق الإرث إلا إذا كانت قوانين بلاده تمنح مثل ذلك للسوريين» وذلك أخذاً بمبدأ المعاملة بالمثل، وهذا شامل مع الأسف المسلمين من جنسيات مختلفة، وهو لم يقل به فقيه.
فمثلاً لا يورِّث السوريون الأتراك، ولا يورِّث الأتراك السوريين أخذاً بالمقابلة أو المعاملة بالمثل، وهذا غير جائز شرعاً لمخالفة النص القرآني: {إنما المؤمنون إخوة} [الجحرات:49/10] .
لكن إذا فهم المقصود من كلمة (الأجنبي) أنه غير المسلم وغير المسيحي المقيم في بلاد إسلامية، لم يكن هناك مخالفة؛ لأن المسلم لا يعتبر في بلاد الإسلام أجنبياً، كما أن غير المسلمين المقيمين في البلاد الإسلامية يتوارث بعضهم من بعض (1) .
__________
(1) الأحوال الشخصية ـ الجزء الثالث: المواريث للدكتور مصطفى السباعي: ص 49.(10/395)
الفَصْلُ السَّادس: الحقوق المتعلِّقة بالتّركة:
تعريف التركة: التركة لغة: ما يتركه الشخص ويبقيه، واصطلاحاً عند الجمهور غير الحنفية: هي كل ما يخلفه الميت من الأموال والحقوق الثابتة مطلقاً فتشمل الأشياء المادية من منقولات وعقارات، والحقوق العينية كحقوق الارتفاق من مسيل أوشِرب وغيرهما، والمنافع كحق الانتفاع بالمأجور والمستعار، والحقوق الشخصية كحق الشفعة وحق الخيار كخيار الشرط. وتشمل أيضاً ما تسبب فيه: من خمر صار خلاً بعد وفاته، وشبكة نصبها فوقع فيها بعد موته صيد، وكذلك الدية المأخوذة في قتله، بناء على الأصح عند الشافعية من دخولها في ملكه قبيل موته (1) .
وهي عند الحنفية: الأموال والحقوق المالية التي كان يملكها الميت. فتشمل الأموال المادية من عقارات ومنقولات وديون على الغير، والحقوق العينية التي ليست مالاً، ولكنها تقوم بمال أو تتصل به، كحق الشرب والمسيل والمرور والعلو، والرهن إذ يرث الورثة الدين موثقاً برهنه.
وخيارات الأعيان، كخيار العيب وخيار التعيين وخيار فوات الوصف المرغوب فيه. ولا تشمل عندهم الخيارات الشخصية، كخيار الشرط وخيار الرؤية وحق الشفعة، فإنها حقوق متعلقة بشخص المتوفى لا بماله.
ولاتشمل أيضاً المنافع كالإجارة والإعارة، لانتهاء العقد بالموت، ولأن المنافع ليست مالاً عند متقدمي الحنفية.
ولا تشمل قبول الوصية، فتلزم الوصية بموت الموصى له، أي قبل أن يقبل أو يرد، ويعتبر عدم الرد قبولاً.
والحنفية يحصرون التركة في المال أوالحق الذي له صلة بالمال فقط، فالذي يورث عندهم هو الأعيان المالية، أما الحقوق فمنها ما يورث كحق حبس المبيع وحبس الرهن، ومنها ما لا يورث كحق الشفعة وخيار الشرط وحد القذف وحق التزويج. وكذا لا يورث خيار القبول والإجارة والإجازة في بيع الفضولي والأجل. ولا تورث الولايات والعواري والودائع والرجوع عن الهبة. أما خيار العيب وخيار التعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف، فيورث.
__________
(1) رد المحتار: 538/5.(10/396)
وأما الحقوق المتعلقة بالتركة فهي قسمان (1) :
الأول ـ أن يتعلق بها حق الغير حال الحياة: وهذا لا يسمى تركة، فيقدم على تجهيز الميت لتعلقه بالمال قبل صيرورته تركة، وإنما يسمى بالحقوق العينية: وهي التي تتعلق بعين الأموال التي يتركها المتوفى، كحق البائع في تسلم المبيع، وحق المرتهن في المرهون، ومثله عند الحنفية: حق المستأجر الذي عجل الأجرة، فإنه أحق بالمأجور إلى انتهاء مدة الإجارة، أو يرد إليه ما عجل من أجرة؛ لأنه إذا عجل المستأجر إعطاء الأجرة ثم مات المؤجر، صارت الدار هنا بالأجرة.
والثاني ـ ألا يتعلق بها حق الغير: هذا هو المسمى تركة ويتعلق به حقوق أربعة على الترتيب التالي:
تجهيز الميت وتكفينه، ثم قضاء ديونه، ثم تنفيذ وصاياه، ثم حق الورثة في قسمة الباقي. وبيان كل حق فيما يلي:
1 ً - تجهيز الميت وتكفينه:
يبدأ وجوباً بتكفين الميت وتجهيزه بالمعروف بحسب يساره وإعساره عند المالكية والشافعية والحنابلة، أوبلا تبذير ولا تقتير عند الحنفية؛ لأن ذلك من الأمور الضرورية التي تتعلق بحق الميت ورعاية حرمته وكرامته الإنسانية بمواراته في قبره،
__________
(1) شرح السراجية: ص 3-7، الدر المختار ورد المحتار: 535/5-537، الشرح الصغير: 616/4-618، القوانين الفقهية: ص 383 وما بعدها، مغني المحتاج: 3/3-4، كشاف القناع: 447/4.(10/397)
ولقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان:67/25] وذلك بحسب السنة باعتبار العدد (ثلاثة أثواب للرجل وخمسة للمرأة) ، وباعتبار القيمة بقدر ما كان يلبسه في حياته، من أوسط ثيابه، لا الذي يتزين به في الجمع والأعياد. ويراعى أيضاً حال الورثة وخاصة الصغار.
والتجهيز المطلوب: هو كل ما يحتاج إليه الميت من حين موته إلى أن يوارى في قبره من نفقات غسله وكفنه وحمله ودفنه وحفر قبره، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته في الحج: «كفنوه في ثوبيه» (1) ولم يسأل: هل عليه دين، أو لا، لاحتياجه إلى ذلك. ويكون التجهيز من التركة، فإذا لم يكن للميت تركة، فكفنه على من وجبت عليه نفقته في حال حياته.
.ويقدم أيضاً تجهيز من مات قبله ولو بلحظة واحدة، ممن تلزمه نفقته كوالده وولده وزوجته وخادمها. ويدخل عند الشافعية وأبي يوسف (ورأيه هو المفتى به عند الحنفية) في الزوجة: المرأة البائن الحامل، والرجعية؛ لأن نفقة الزوجة على زوجها، وتجهيزها من نفقتها، وقال محمد بن الحسن ومالك وأحمد: ليس على الزوج تجهيز الزوجة مطلقاً ولو كانت معسرة؛ لأن الزوجية قد انقطعت بالموت، فتجهز من مالها أو من أقاربها. وهذا في تقديري غير مقبول عشرة وأدباً وعرفاً.
ولا يعد من نفقات التجهيز: ما استحدثه الناس في عصرنا من بدع ومظاهر من إقامة المآتم وحفلات التشييع وولائم أيام الخميس والجمع والأربعين والذكرى السنوية، وما يدفع لبعض المنشدين والمرتلين من أذكار وتلاوات، فهو كله من البدع التي لا يجوز الإنفاق عليها من التركة.
فمن أنفق شيئاً على هذه الأمور فهو الضامن له، فإن كان وارثاً فهو من ماله الخاص، وإن كان أجنبياً فهو متبرع، ولا تنفذ النفقة على الدائنين إذا كانت التركة مدينة إلا برضاهم.
وتقديم نفقات التجهيز على الديون هو مذهب الحنابلة، أما الحنفية والشافعية فقدموا قضاء الديون على مؤن التجهيز، وقدم المالكية الدين الموثق برهن على التجهيز. جاء في العذب الفائض 13/1: قدَّم الجمهور غير الإمام أحمد الحقوق المتعلقة بعين التركة على التجهيز.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(10/398)
2 ً - قضاء ديونه:
ثم بعد التجهيز تقضى ديون (1) الميت من جميع ماله الباقي بعد التجهيز، والسبب في تأخيره عن الكفن وتوابعه أنه لباسه بعد وفاته كلباسه في حياته؛ إذ لا يباع ماعلى المديون من ثيابه مع قدرته على الكسب، ويقدم على الوصية، وإن قدم ذكرها عليه في الآية، لقول علي رضي الله عنه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدأ بالدين قبل الوصية» (2) وحكمة تقديمها: الاهتمام بها وعدم التفريط فيها، لكونها تشبه الميراث في أخذها بلا عوض، فيشق على الورثة إخراجها، فقدمت حثاً على أدائها مع الدين، وتنبيهاً على أنها مثله في وجوب الأداء، أما الدين فنفوس الدائنين مطمئنة إلى أدائه.
والحاصل أن أسباب تقديم الوصية على الدين في النظر القرآني هي ما يأتي:
أولاً ـ لأن الوصية أقل لزوماً من الدين، فقدمها اهتماماً بها، وأخر الدين لندرته، فإنه قد يكون وقد لا يكون، فبدأ بالذي لا بد منه، وعطف الذي قد يقع أحياناً. ويؤكده العطف بأو، ولو كان الدين راتباً لكان العطف بالواو.
ثانياً ـ إن الوصية حظ مساكين ضعفاء فقدمها، لأنه حظ غريم يطلبه بقوة، وله فيه مقال.
ثالثاً ـ إن الوصية حظ مساكين ضعفاء فقدمها، والدين ثابت مُؤدى، سواء ذكره أو لم يذكره.
رابعاً ـ تقديم الدين على الوصية ظاهر؛ لأن قضاء الدين فرض على المدين يجبر على أدائه في حال حياته، والوصية تطوع، والفرض أقوى.
والدين الواجب الوفاء عند الحنفية: هو الذي له مطالب من جهة العباد، وأما ديون الله كالزكاة والكفارات، فلا يجب على الورثة أداؤها إلا إذا كان المتوفى قد أوصى بأدائها.
__________
(1) الدين: هو ما وجب في الذمة.
(2) رواه الترمذي، وروي عن علي أنه قال، «الدين قبل الوصية، وليس لوارث وصية» .(10/399)
وعلى كلٍ فالديون أربعة أنواع:
1ً) ـ الديون المتعلقة بالأعيان كالدين المتعلق بالمرهون إذا لم يكن للميت شيء سواه، وقد بينت أنها تقدم عند الحنفية على التكفين والتجهيز، وأما في القانون فتؤخر عن التجهيز، أخذاً بمذهب الحنابلة.
2 ً) ـ ديون الله تعالى: كالزكاة والكفارة والنذور، تسقط بالموت عند الحنفية، ولا يجب على الورثة أداؤها عن الميت إلا بإنابة منه بأن يوصي بها أن تؤدى عنه من تركته، فتؤدى من ثلث المال فقط.
وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: هذه الديون واجبة الأداء ومتعلقة بالتركة، وتؤدى ولو لم يوص بها الميت، وهذا الرأي أصح لما فيه من إبراء الذمة.
3ً) ـ ديون العباد أوديون الميت التي لزمته في ذمته حال الصحة: تقدم على دين المرض، وديون الصحة في منزلة واحدة مهما اختلفت أسبابها كالقرض والمهر والأجرة ونحوها من كل ما وجب في الذمة بدلاً عن شيءآخر.
ودين الصحة: هو ماكان ثابتاً بالبينة، أو بالإقرار في زمان صحته، أو بالإقرار في زمان مرضه، وعلم ثبوته بطريق المعاينة بأن كان سببه معلوماً للناس كثمن دواء أو غيره، أو بدل شيء استهلكه.
ودين المرض، أي مرض الموت: هو ما ثبت بإقرار المدين في مرض موته. وهو أضعف من دين الصحة لضعف إقرار المريض.
وتقدم عند المالكية حقوق العباد على حقوق الله تعالى، وعند الشافعي بالعكس كما سأوضح. وأما عند الحنفية فتسقط حقوق الله ولا تؤدى.(10/400)
4ً) ـ ديون المرض التي لزمت الميت عن طريق الإقرار ولم يعلم الناس بها: تؤخر عن ديون الصحة؛ لأن الإقرار في مرض الموت مظنّة التبرع أو المحاباة، فتكون في حكم الوصايا التي تنفذ من الثلث، وهي مؤخرة عن الديون.
ولم يفرق الجمهور بين ديون الصحة وديون المرض، فهي في مرتبة سواء، لأنه إن عرف سببها للناس فهي ملحقة بديون الصحة على رأي الحنفية، وإن لم يعرف سببها يكفي الإقرار في إثباتها؛ لأن الإقرار حجة ملزمة لا تلغى إلا إذا ثبت ما يبطلها أو يكذبها. وأخذ القانون المصري (م4) والسوري (م238) برأي الجمهور، فلم يفرق بين الديون، وأطلق تقديمها بدون تفصيل. ويحسن بيان آراء المذاهب الأخرى في الديون، كل رأي على حدة. قال المالكية (1) : يبدأ من تركة الميت بحق تعلق بذات كمرهون، ثم بمؤن التجهيز، ثم بقضاء الديون، فالوصايا، بأن يقدم قضاء الدين من رأس المال على الوصايا، أي دينه الذي عليه لآدمي، سواء حل أجله أم لا؛ لأن الدين يحل بموت المدين. ثم يقدم هدي التمتع، سواء أوصى به أم لا، ثم زكاة فطر فرط فيها، وكفارات أشهد في صحته أنها بذمته أو أوصى فقط. وتعد زكاة نقد حلَّت وأوصى بها مثلَ كفارات أشهد بها.
والحاصل: أن زكاة الفطر التي فرط فيها، والكفارة التي لزمته، مثل كفارة اليمين والصوم والظهار والقتل، إذا أشهد في صحته أنهما بذمته، فإن كلاً منهما يخرج من رأس المال، سواء أوصى بإخراجهما أو لم يوص. ومثلهما الزكاة التي حل وقت أدائها.
وقال الشافعية (2) : تقضى الديون بذمة الميت من رأس المال سواء أذن الميت في قضائها، أم لا، لزمته لله تعالى أم لآدمي؛ لأنها حقوق واجبة عليه.
ويقدم دين الله تعالى كالزكاة والكفارة والحج على دين الآدمي في الأصح.
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 617/4 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 3/3 -4.(10/401)
ويقدم على مؤنة التجهيز الدين المتعلق بعين التركة، كزكاة المال الذي وجبت فيه؛ لأنه كالمرهون بها، والمرهون لتعلق حق المرتهن به، والمبيع بثمن في الذمة، إذا مات المشتري مفلساً بثمنه، تقديماً لحق صاحب التعلق على حق غيره، كما في حال الحياة. وهذا موافق لرأي الحنفية المتقدم.
وقال الحنابلة (1) : ما بقي بعد مؤنة التجهيز بالمعروف يقضى من ديونه، سواء وصى بها أم لا، ويبدأ منها بالمتعلق بعين المال كدين برهن، وأرش جناية برقبة الجاني ونحوه، ثم الديون المرسلة في الذمة، سواء أكانت الديون لله تعالى كزكاة المال وصدقة الفطر، والكفارات والحج الواجب والنذر، أم كانت لآدمي كالديون من قرض وثمن وأجرة وجعالة استقرت في الذمة ونحوها، والعقل (الدية) بعد الحول، وأرش الجنايات (تعويضها) والغصوب وقيم المتلفات وغيرها، لما تقدم من أنه صلّى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. فإن ضاق المال تحاصوا.
3 ً - تنفيذ وصاياه:
تنفذ الوصايا من ثلث المال الباقي لامن ثلث أصل المال بعد أداء الحقوق المتقدمة، لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين} [النساء:11/4] ؛ لأن ما تقدم قد صرف في ضروراته التي لا بد منها، فالباقي هو مال الميت الذي أجاز له الشرع أن يتصرف في ثلثه، ولا تنفذ وصاياه فيما زاد عليه إلا بإجازة الورثة، سواء أكان الموصى له أجنبياً أم وارثاً؛ فإن أجازوا نفذت، وإن أجاز بعضهم دون بعض، نفذت في مقدار حصة المجيز دون غيره. كما لاتنفذ الوصية لوارث مطلقاً إلا بإجازة الورثة، سواء أكانت أقل من الثلث أم أكثر.
وتقدم الوصية على الإرث، سواء أكانت مطلقة كأن تكون بجزء شائع من التركة كالثلث أو الربع، أم معينة وهي ما تكون بشيء من التركة كدار معلومة أو نقود مقدرة.
__________
(1) كشاف القناع: 447/4.(10/402)
هذا في الوصايا الاختيارية، أما الوصية الواجبة التي أخذ بها القانون المصري (م76) لأولاد المتوفى في حياة والده، والقانون السوري (م 257) لأولاد الابن المتوفى في حياة أبيه دون أولاد البنت، فتقدم بعد قضاء الدين على الوصية الاختيارية.
ترتيب الوصايا عند الحنفية في حقوق الله وحقوق العباد:
يرى الحنفية: أن الوصية إن كانت بفرض من فروض الله تعالى، فيقدم عليها الدين؛ لأن الدين أقوى منها، فإن كانت الوصية في الزكاة التي تساوي الدين في الإجبار بالحبس على الأداء، فالدين أقوى؛ لأن القاضي إذا وجد من مال المدين ما يجانس الدين، يأخذه بلا رضاه ويدفعه لصاحبه، وليس له الأخذ في الزكاة، وإن ظفر بجنسها.
وإن كانت الوصية بما سوى الزكاة كحَجَّة الإسلام والنذر والكفارة، فدين العباد مقدم عليها أيضاً، وإن استويا في الفريضة؛ لأنه يجبر على أداء الدين بالحبس، ولا يجبر به على أداء شيء من تلك الفروض، فالدين أقوى.
وإن اجتمع حق الله تعالى وحق العباد في عين كالتركة، وضاقت عن الوفاء بهما، يقدم حق العباد، لاحتياجهم مع استغناء الله تعالى وكرمه.
وإن كان الدين من حق الله تعالى: فإن أوصى به الميت، وجب تنفيذه من ثلث ماله الباقي بعد الدين المستحق للعباد، وإن لم يوص لم يجب.
ومن فاتته صلوات وأوصى أن يطعم عنه، فعلى الورثة أن يطعموا عنه من الثلث، لكل صلاة نصف صاع من بر، وكذا للوتر؛ لأنه واجب عند أبي حنيفة.
وإن فاته صوم رمضان لسفر أو مرض، وتمكن من قضائه ولم يقض حتى مات، وأوصى بالإطعام، فعلى الورثة أن يطعموا من الثلث، لكل يوم نصف صاع من بر.
وإن أوصى بالحج يؤدى من الثلث أيضاً.(10/403)
4 ً - حق الورثة:
يقسم الباقي بعد أداء الحقوق المتقدمة على الورثة بحسب مراتبهم. والورثة: هم الذين ثبت نسبهم أو صلتهم بالميت، واستحقوا الإرث الثابت نصيبهم بالكتاب أو السنة أو الإجماع.
ترتيب الحقوق المتعلقة بالتركة في القانون:
نص القانون المصري (م 4) على أنه يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أولاً ـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن.
ثانياً ـ ديون الميت.
ثالثاً ـ ما أوصى به في الحد الذي تنفذ فيه الوصية.
رابعاً ـ ما بقي بعد ذلك على الورثة. فإذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الآتي:
أولاً ـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره.
ثانياً ـ ما أوصى به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية.
فإذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة أو ما بقي منها، إلى الخزانة العامة.
ويلاحظ أن القانون - عملاً بمذهب الحنابلة خلافاً للجمهور- قدم تجهيز الميت على كل الحقوق؛ لأن المدين حال حياته لا تؤدى ديونه إلا مما فضل عن حاجاته، فلا يباع منزله ولا ثوبه، فكذلك الأمر بعد وفاته لا تؤدى ديونه إلا مما فضل بعد التجهيز. وتظهر ثمرة الخلاف بين الرأيين في العين المرهونة إذا مات عنها صاحبها ولم تكن كافية لقضاء ديونه، فالمالكية والحنفية، والشافعية يقدمون أداء الدين، ويجعلون التجهيز على أقاربه أو من حضر من المسلمين أو على بيت المال، والحنابلة يقدمون التجهيز، كما أن المالكية يقدمون التجهيز على الديون العادية غير الموثقة برهن.
ونص القانون السوري (م 262) على ما يلي:
يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع.
ب ـ ديون الميت.
جـ ـ الوصية الواجبة.
هـ ـ المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون.(10/404)
الفَصْلُ السّابع: أنواع الوارثين وعددهم ومراتبهم وطريقة توريثهم في المذاهب:
أولاً ـ أنواع الوارثين: الإرث المجمع عليه اثنان: إما أن يكون بالفرض أو بالتعصيب، وأضاف الحنفية والحنابلة: أو بقرابة الرحم (1) .
أما الإرث بالفرض: فهو استحقاق سهم معين مقدر بكتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو بالإجماع.
وأما الإرث بالتعصيب: فهو استحقاق ما أبقته الفرائض، أو استحقاق جميع التركة عند عدم أصحاب الفرائض.
ويقدم الأول على الثاني، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته الفرائض، فلأولى ـ أي أقرب ـ رجل ذكر» .
وقد يرث المرء بالفرض فقط، وهم تسعة - ستة: الأم، والجدة، والزوج، والزوجة، والأخ لأم، والأخت لأم.
وقد يرث بالتعصيب فقط: وهم الابن وابن الابن، والأخ الشقيق، وللأب، والعم، وابن الأخ، وابن العم، والمولى، والمولاة.
وقد يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ولا يجمع بينهما، وهم أربعة أصناف من النساء: البنت، وابنة الابن، والأخت الشقيقة، وللأب، فإن كان مع كل واحدة منهن ذكر من صنفها ورثت معه بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يكن معها ذكر ورثت بالفرض، والأخوات الشقيقات وللأب عصبة مع البنات.
وقد يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ويجمع بينهما، وهما اثنان: الأب والجد، فإن كل واحد منهما يرث سهمه، فإن فضل بعد ذوي السهام شيء أخذه بالتعصيب.
وأما الإرث بقرابة الرحم فهو عند الحنفية والحنابلة: استحقاق عند عدم العصبات وذوي الفرائض، واستثنى الحنابلة من أصحاب الفروض الزوجين، فقالوا: يرث ذو الرحم عند عدم العصبات وأصحاب الفروض غيرا لزوجين.
والمشهور عند المالكية وأصل المذهب الشافعي: أنه لا يرث ذوو الأرحام ولا يرد على أهل الفرض، بل المال لبيت المال، وأفتى المتأخرون من الشافعية إذا لم ينتظم بيت المال، بالرد على أهل الفرض غير الزوجين، ما فضل عن فروضهم بالنسبة، فإن لم يكونوا صرف إلى ذوي الأرحام، وكذلك قال متأخرو المالكية: يرد على ذوي الفروض، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام.
__________
(1) شرح السراجية: ص 7-8، الشرح الصغير: 618/4 وما بعدها، 629، 630، مغني المحتاج: 4/3-7، كشاف القناع: 449/4، الرحبية: ص 24، القوانين الفقهية: ص 385.(10/405)
ثانياً ـ عدد الوارثين: حصر الفقهاء عدد الوارثين من الرجال والنساء (1) ، فقالوا: الوارثون من الرجال المجمع على توريثهم عشرة، وهم بطريق الاختصار:
الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، والأب، ثم الجد وإن علا، والأخ ثم ابن الأخ، والعم ثم ابن العم، والزوج، ومولى النعمة أي المُعْتِق.
أما بطريق البَسْط فهم خمسة عشر: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، والجد وإن علا، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ للأب، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق، وابن العم للأب، والزوج، والمعتق. ومن عدا هؤلاء من الذكور: فمن ذوي الأرحام.
والوارثات من النساء المجمع على توريثهن سبعة، وهم بطريق الاختصار: البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم، والجدة وإن علت، والأخت، والزوجة، ومولاة النعمة، أي المعتقة.
وأما بطريق البَسْط فعشرة:
البنت، وبنت الابن، والجدة لأم، والجدة لأب، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والزوجة، والمعتقة. ومن عدا هؤلاء من الإناث، فمن ذوي الأرحام.
__________
(1) الكتاب مع شرح اللباب: 186/4-187، القوانين الفقهية: ص 34، الرحبية: ص 21-23، المغني: 213/6.(10/406)
ثالثاً ـ مراتب الورثة:
يبدأ في قسمة الباقي من التركة بين الورثة بعد التجهيز وتسديد الديون وتنفيذ الوصايا على الترتيب التالي (1) :
1 ً - أصحاب الفروض: وهم الذين لهم سهام مقدرة في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو الإجماع، سواء أكانوا من ذوي القرابة النسبية أم السببية، وهم اثنا عشر: فمن النسب: ثلاثة من الرجال، وسبعة من النساء، ومن التسبب اثنان، وهما الزوجان.
أما الرجال الثلاثة: فهم الأب والجد والأخ لأم.
وأما النساء السبعة: فهن البنت، وبنت البنت، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والأم، والجدة.
فذو الفرض: هو ذو النصيب المقدر شرعاً، فلا يزيد إلا بالرد، ولا ينقص إلا بالعول.
2 ً - العصبات النسبية: وهم الأقارب الذكور من جهة الأب الذين يأخذون الباقي من التركة بعد أصحاب الفرض، ويأخذون التركة كلها إن لم يكن هناك صاحب فرض أصلاً كالابن والأب والأخ الشقيق أو لأب، والعم الشقيق أو لأب.
والعصوبة النسبية أقوى من السببية، بدليل أن أصحاب الفروض النسبية يرد علىهم دون أصحاب الفروض السببية، أي الزوجين.
3 ً - العصبة السببية: وهو المعتق (أو مولى العَتَاقَة) ذكر كان أو أنثى، فإن من أعتق عبداً أو أمة، كان الولاء له، ويرثه به إذا لم يكن للمتوفى عصبة نسبية، فيأخذ الباقي بعد أصحاب الفرض، ويأخذ التركة كلها إن لم يكن للمتوفى أحد من ذوي الفروض. ويسمى المذكور ولاء العتاقة والنعمة.
4 ً - عصبة مولى العتاقة: يرث عصبة المعتق إذا مات العبد ولم يكن مولاه حياً.
هذا مارتبه الحنفية ولكن القانون المصري (م 39) خالف الترتيب، فأخَّر مولى العتاقة وعصبته عن الرد على أصحاب الفروض وعن ذوي الأرحام.
5 ً - الرد على أصحاب الفروض النسبية: إذا كان للمتوفى أقارب من أصحاب الفروض، ولم يكن له عصبة نسبية ولا سببيه، وقد بقي من التركة شيء، فيرد الباقي على ذوي الفروض النسبية فقط، يقتسمونه بنسبة أنصبائهم لبقاء قرابتهم بعد أخذ فرائضهم، ولا يرد أصحاب الفروض السببية، أي الزوج والزوجة؛ إذ لا قرابة لهما بعد أخذ فرضهما.
والقائلون بالرد هم الحنفية والحنابلة، أما المالكية، والشافعية المتقدمون، فلا يرد عندهم، وإنما يدفع الباقي لبيت المال. وأفتى متأخرو الشافعية بالرد على غير الزوجين إذا لم ينتظم بيت المال، وكذلك متأخرو المالكية أفتوا بالرد.
وخالف القانون المصري (م 30) أيضاً هذا الترتيب، فأخر الرد عن إرث ذوي الأرحام.
__________
(1) الدر المختار: 538/5-541، السراجية: ص 7-11، الشرح الصغير: 619/4-630، مغني المحتاج: 5/3-8، الرحبية: ص 23-38 ومابعدها، المغني: 201/6، 231، 236.(10/407)
6 ً - ذوو الأرحام: وهم أقارب الميت الذين ليسوا ذوي فروض ولاعصبة، إما من الإناث كالعمة والخالة وبنت الأخ، أو من الذكور الذين تتوسط بينهم وبين الميت أنثى كأب الأم، وأولاد الأخت، وأولاد البنت. ويرث هؤلاء إذا لم يكن للميت أحد من أصحاب الفروض الذين يرد عليهم، ولا أحد من العصبة النسبية أو السببية. هذا عند الحنفية والحنابلة.
ولكن يلاحظ ما تقدم: أن متأخري المالكية اعتمدوا الرد على ذوي السهام، فإن لم يكن فعلى ذوي الأرحام.
وأن متأخري الشافعية أفتوا بالرد إذا لم ينتظم بيت المال، فإن لم يكن أحد من ذوي الفروض أو العصبات، صرف المال إلى ذوي الأرحام.
7 ً - مولى الموالاة: وهو أن يتعاقد شخص مجهول النسب مع آخر على أن يعقل (1) عنه إذا جنى، ويرثه إذا مات، ويسمى القابل مولى الموالاة، فيأخذ جميع التركة إذا انعدم أصحاب الفروض النسبية والعصبات وذوو الأرحام، أو يأخذ الباقي منها بعد فرض أحد الزوجين إذا كان الحليف متزوجاً، وإذا لم يكن مولى الموالاة حياً وقت موت الحليف، ورثت عصبته هذا الحليف.
وإذا كان الآخر أيضاً مجهول النسب، وقال للأول مثل قوله: (أنت مولاي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت) وقبله، ورث كل منهما صاحبه وعقل عنه. وانفرد الحنفية بالقول بولاء الموالاة. وأخروا مولى الموالاة عن ذوي الأرحام لقرابتهم.
ورأي الحنفية: هو مذهب عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم.
وخالفهم الجمهور، فلم يأخذوا به، وهو مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه. وكان الشعبي يقول: لا ولاء إلا ولاء العتاقة، وأخذ القانون في مصر وسورية برأي الجمهور.
__________
(1) أي يتحمل عنه دية من قتله. وسميت الدية عقلاً؛ لأن الدية من الإبل، وكانوا يعقلونها بفناء أهل القتيل، فسموا الدية عقلاًم ثم اشتقوا منه فعلاً وهو يعقل.(10/408)
8 ً - المقر له بنسب محمول على الغير (1) :
إذا مات الإنسان ولم يترك وارثاً ممن تقدم من المراتب، كانت التركة للمقر له بنسب على الغير، ثم للموصى له بالزائد عن الثلث، ثم لبيت المال.
فالمقر له بنسب محمول على الغير يرث من المقر نفسه إذا مات المقر، وليس له ذو فرض، ولا عاصب، ولا ذو رحم، ولا مولى الموالاة.
والمقر له بالنسب على الغير: هو أن يقر شخص لآخر مجهول النسب بأنه أخوه أو عمه أو ابن ابنه، ولم يثبت نسبه بدليل آخر غير الإقرار، فالأول فيه حمل النسب على الأب، والثاني فيه حمل النسب على الجد، والثالث فيه حمل النسب على الابن.
فلا يثبت به نسب المقر له من المقر عليه؛ لأنه لا يملك إنسان أن يلحق نسب شخص بآخر بمجرد الدعوى، فلا يرث شيئاً من تركة المقر عليه، وإنما يستحق من تركة المقر نفسه إذا مات، ولم يكن له أحد من أصحاب المراتب السابقة، وذلك بقيود ثلاثة:
الأول ـ أن يكون الإقرار بالنسب متضمناً لإقراره بنسبه على غيره: فإن تضمن إقراره بنسبه منه، كأن يقر له بأنه ابنه، ثبت نسبه منه.
الثاني ـ أن يكون الإقرار بحيث لا يثبت به نسبه من ذلك الغير: كما إذا لم يصدقه أبوه في هذا النسب، في المثال الأول المتقدم.
فإذا صدقه أبوه في الإقرار بالنسب، ثبت بإقرار المقر نسبه من أبيه أيضاً، وكان المجهول نسبه أخاً للمقر. وكذلك الحال إذا أقر بأنه عمه، وصدقه في إقراره جده، فإنه يكون عماً له.
الثالث ـ أن يموت المقر على إقراره: لأنه إذا رجع المقر عن الإقرار لا يعتد به قطعاً، فلا يثبت به الإرث أصلاً.
__________
(1) استحقاق المراتب السابقة هو على وجه الإرث، أما المقر له بالنسب وما سيأتي فهو على وجه آخر سنعرفه.(10/409)
واستحقاق المقر له الإرث على النحو المذكور، ليس بطريق الإرث، وإنما هو في معنى الوصية، فيصح للمقر الرجوع في إقراره، أما النسب فلا يمكن الرجوع فيه بعد ثبوته. ويثبت الإرث بهذا الإقرار عند الحنفية دون غيرهم؛ لأن الإقرار بحمل النسب على الغير باطل، ودعوى لا تسمع.
وإنما يثبت نسب المقر له بأحد طريقتين عند الحنفية:
الأول ـ أن يقر شخص بنسب آخر على نفسه: بأن يقر ببنوة آخر له، وكان المقر عاقلاً بالغاً وصدقه المقر له، وكان مثله يولد لمثل المقر، فإنه يثبت به نسب المقر له من المقر ثبوتاً لا يقبل الرجوع.
الثاني ـ أن يقر رجل بنسب حمله على غيره، وصدقه الغير، أو شهد بالنسب مع المقر رجل آخر، فإنه يثبت به نسب المقر له من المقر عليه ثبوتاً لا يقبل الرجوع.
أما القانون المصري (م 41) والسوري (م 298) فقد أثبتا استحقاق المقر له من تركة المقر بالشرائط التالية:
1 - ألا يثبت نسب المقر له من المقر عليه.
2 - ألا يرجع المقر عن إقراره.
3 - ألا يقوم به مانع من موانع الإرث.
4 - أن يكون المقر له حياً وقت موت المقر، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً.
9 ً - الموصى له بأكثر من الثلث:
يستحق الموصى له بما زاد عن الثلث الزائد على الثلث إذا انعدم من ذكر قبله، أو وجد واحد منهم وأجاز الوصية، والاستحقاق هنا كالمرتبة السابقة ليس بطريق الإرث، وإنما بطريق الوصية، لكن هذه وصية حقيقية، وتلك في حكم الوصية أي وصية حكمية.
فإذا أوصى شخص لآخر بنصف ماله أو كله، ولم يكن له وارث ممن ذكر في المراتب السابقة، استحق جميع الموصى به عند الحنفية خلافاً لغيرهم؛ لأن توقف الوصية فيما زاد على الثلث، إنما هو لمراعاة حق الورثة في الزائد عن الثلث.
فلو مات شخص عن زوج وموصى له بنصف المال، أخذ الموصى له أولاً الثلث، ثم أخذ الزوج نصف الباقي، وهو الثلث، ثم يأخذ الموصى له بقية المال وهو الثلث؛ لأن الزوجين لا يرد عليهما عند أبي حنيفة، لكن القانون المصري (م 30) والسوري (288) أخذا بالرد على الزوجين إذا لم يوجد عصبة نسبية أو أحد من ذوي الأرحام. والرد مقدم على المقر له النسب، وعلى الموصى له بالزائد عن الثلث، وعلى بيت المال.(10/410)
10 ً - بيت المال:
توضع التركة في بيت مال المسلمين إذا لم يوجد أحد من المراتب السابقة كلها، لا على أنها إرث عند الحنفية والحنابلة، وإنما على أنها من الأموال الضائعة التي لا يعرف لها مالك، أو على أنها فيء، فيصرف المال في المصالح العامة وينفق منه على المحتاجين، فإذا ظهر وارث، وأقام الدليل على إرثه، استرد التركة من بيت المال.
موقف القانون من مراتب الورثة:
عدل القانون المصري والسوري عن الترتيب السابق، وجعل كل منهما بعضهم وارثين، وبعضهم مستحقين، وجاءت درجات الاستحقاق في كلا القانونين في مواضع متعددة خلافاً لما فعله الفقهاء.
ويفهم من القانون المصري في المواد (4، 8، 16، 30، 31، 39، 41) والقانون السوري في المواد (262، 265، 274، 278، 289) الترتيب التالي لمراتب الورثة:
1 - أصحاب الفروض.
2 - العصبات النسبية.
3 - الرد على ذوي الفروض غير الزوجين.
4 - ذوو الأرحام.
5 - الرد على أحد الزوجين عند عدم ذوي الأرحام.
6 - العصبة السببية (مولى العتاقة وعصبته) في القانون المصري (م 39) دون السوري.
7 - المقر له بنسب محمول على الغير.
8 - الموصى له بأكثر من الثلث.
9 - الخزانة العامة (بيت المال) .
والمراتب الثلاث الأخيرة تأخذ التركة بصفة الاستحقاق لا بالإرث. ويلاحظ ما يلي من الفروق بين رأي الحنفية وموقف القانون. أـ أبقى كلا القانونين المرتبة الأولى والثانية على حالهما.(10/411)
ب ـ حذف كلا القانونين مرتبة مولى الموالاة، فلم تجعل من المستحقين أصلاً، لعدم وجودها الآن.
جـ ـ ألغى القانون السوري من بين درجات الاستحقاق: مرتبة مولى العتاقة وعصبته؛ لأن الرق لم يبق له وجود، وهذا مستمد من مذهب الإباضية، وأبقى القانون المصري (م 39) هذه المرتبة.
د ـ أوجد كلا القانونين مرتبة جديدة لم تكن من قبل وهي الرد على أحد الزوجين عند عدم وجود ذوي الأرحام.
هـ ـ قدم القانون المصري (م 30) الرد على الزوجين وإرث ذوي الأرحام على مولى العتاقة وعصبته (العصبة السببية) ، فأصبح الرد في المرتبة الثالثة بدل الخامسة، وذوو الأرحام في المرتبة الرابعة بدل السادسة، وجعل الرد على أحد الزوجين عند عدم ذوي الأرحام في المرتبة الخامسة، فإذا كان مع أحد الزوجين أحد ذوي الأرحام، أخذ الباقي بعد نصيب أحد الزوجين.
وـ أخذ القانونان بتوريث ذوي الأرحام، كما هو مذهب الحنفية والحنابلة، ومذهب متأخري المالكية والشافعية.
ز ـ جعل القانون المصري العصبة السببية وعصبتهم في المرتبة السادسة من مراتب الاستحقاق بالإرث.
ح ـ جعل القانونان المقر له بالنسب والموصى له بالزيادة عن الثلث، وبيت المال، من المستحقين، ولم يطلق عليهم صفة الوارثين، ولا شيء لهؤلاء في القانونين، ولا للعاصب السببي في القانون المصري مع وجود أحد الزوجين.(10/412)
رابعاً ـ طريقة توريث الوارثين في المذاهب:
هناك طريقتان للفقهاء في التوريث، مأخوذتان عن الصحابة، وهما الطريقة الحجازية، والطريقة العراقية.
أما الطريقة الحجازية: فمأخوذة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه أفرض الصحابة، فقال: «أفرضكم زيد» (1) وسار على هذه الطريقة الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وهي الطريق المتبعة في الكويت والسودان وبلاد المغرب العربي وغربي إفريقية.
وأما الطريقة العراقية: فمأخوذة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وسار على نهجها فقهاء الحنفية، وهي المتبعة في مصر وسورية والعراق.
وبين الطريقتين اختلافات كثيرة في جزئيات المسائل.
__________
(1) صححه الحاكم وابن حبان، ورواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي: أبو بكر، وأشدها في دين الله: عمر، وأصدقها حياء: عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام: معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل: أُبيّ، وأعلمها بالفرائض: زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح» وهو حديث معلول (نيل الأوطار: 54/6، نصب الراية: 427/4) .(10/413)
الفَصْلُ الثَّامن: أصحاب الفروض:
فيه مبحثان: الأول ـ في بيان أصحاب الفرض، والثاني ـ في أحوال أصحاب الفروض.
المبحث الأول ـ بيان أصحاب الفروض:
الإرث نوعان: فرض وتعصيب.
وأصحاب الفرض: هم الورثة الذين قدرت لهم شرعاً أنصباء معينة في التركة. والوارثون ذوو الفروض اثنا عشر: أربعة من الرجال: وهم الزوج والأب والجد والأخ لأم، وثمانية من النساء: وهن الزوجة، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم.
وأنصباؤهم المقدر ة في كتاب الله تعالى ستة: هي النصف والربع والثمن، والثلثان والثلث والسدس. وأصحاب كل نصيب ما يأتي (1) :
أولاً ـ أصحاب النصف:
أصحاب النصف خمسة بالإجماع وهم:
1 - الزوج: عند عدم الفرع الوارث، أي عند عدم الابن والبنت، وابن الابن وبنت الابن.
2 - البنت: إذا انفردت عمن يساويها وخلَت عن معصب كالابن.
3 - بنت الابن: إذا انفردت وخلَت عن معصب، ولم يكن هناك بنت ولا ابن؛ لأنه يحجبها عن النصف.
4 - الأخت الشقيقة: إذا انفردت وخلت عن معصب وحاجب، ولم يكن هناك بنت ولا بنت ابن.
5 - الأخت لأب: إذا انفردت وخلت عن معصب وحاجب، ولم يكن هناك بنت ولا بنت ابن، ولا أخت شقيقة.
ودليل فرض النصف في ثلاثة مواضع من القرآن، فقال تعالى في البنت: {وإن كانت واحدة، فلها النصف} ـأيالبنتـ[النساء:11/4] وقال سبحانه في الزوج: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} [النساء:12/4] .
وقال تعالى في الأخت: {يستفتونك، قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك، ليس له ولد، وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء:176/4] .
أما بنت الابن فدليلها الإجماع.
ثانياً ـ أصحاب الربع:
الربع فرض اثنين وهما:
1 - الزوج: مع الفرع الوارث.
2 - الزوجة فأكثر: مع عدم الفرع الوارث.
ودليل الربع فيهما قوله تعالى: {فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن} [النساء:12/4] {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد} [النساء:12/4] .
ثالثاً ـ صاحب الثمن:
الثمن: فرض واحد وهو الزوجة فأكثر عند وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى: {فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم} [النساء:12/4] .
رابعاً ـ أصحاب الثلثين:
الثلثان فرض أربعة وهم:
1 - البنتان فأكثر عند عدم المعصب لهن، لقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء:11/4] .
2 - بنتا الابن فأكثر عند عدم الولد للمتوفى وعدم المعصب لهن وعدم البنتين للإجماع.
3 - الأختان الشقيقتان فأكثر عند عدم البنتين وبنتي الابن وعدم المعصب لهن وعدم الحاجب
4 - الأختان لأب فأكثر عند عدم البنتين وبنتي الابن والأختين الشقيقتين وعدم المعصب لهن وعدم الحاجب. ودليل إرث الأخوات مطلقاً قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين، فلهما الثلثان مما ترك} [النساء:176/4] .
__________
(1) السراجية: ص 26-51، تبيين الحقائق: 243/6، اللباب: 187/4-192، الشرح الصغير: 619/4-625، القوانين الفقهية: ص 384، الرحبية: ص 21-31، كشاف القناع: 449/4، المغني: 183/6، 213، مغني المحتاج: 9/3.(10/414)
خامساً - أصحاب الثلث وثلث الباقي:
الثلث فرض اثنين:
1 - الأم عند عدم الفرع الوارث (الولد) والعدد من الإخوة.
2 - العدد من الإخوة والأخوات لأم عند عدم الفرع الوارث والأصل الذكر.
ودليل الثلث قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه، فلأمه الثلث} [النساء:11/4] ، {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء:21/4] .
وثلث الباقي للأم مع الأب وأحد الزوجين، وهي مسألة الغرَّاوين الآتية (1) .
سادساً - أصحاب السدس:
السدس فرض سبعة وهم:
1 - الأب مع وجود الفرع الوارث (الولد) لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء:11/4] .
2 -الجد مع الولد وعدم الأب، للإجماع.
3 -الأم مع وجود الفرع الوارث أو العدد من الإخوة والأخوات، لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد} [النساء:11/4] وقوله سبحانه: {فإن كان له إخوة، فلأمه السدس} [النساء:11/4] .
4 - الجدة الصحيحة، أي لأم أو لأب فأكثر عند عدم الأم. وتشترك الجدات في السدس إذا اجتمعن، والقُرْبى تحجب البُعْدى.
والدليل: مارواه أبو سعيد الخدري والمغيرة بن شعبة وقبيصة بن ذؤيب رضي الله تعالى عنهم من أنه عليه الصلاة والسلام «أعطاها السدس» . وأما التشريك بين الجدات، فلما روي أن أم الأم جاءت إلى الصدِّيق رضي الله عنه وقالت: «أعطني ميراث ولد ابنتي» فقال: «اصبري حتى أشاور أصحابي، فإني لم أجد لك في كتاب الله تعالى نصيباً، ولم أسمع فيك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً» ثم سألهم، فشهد المغيرة بإعطاء السدس، فقال للمغيرة: هل معك أحد؟ فشهد به أيضاً محمد بن مَسْلَمة الأنصاري، فأعطاها ذلك.
__________
(1) وتسمى المسألة الغراء أي البيضاء لبروزها وشهرتها والعمرية لقضاء عمر رضي الله عنه بها.(10/415)
ثم جاءت أم الأب إليه، وطلبت الميراث، فقال: أرى أن ذلك السدس بينكما، وهو لمن انفردت منكما، فشرَّكهما فيه (1) .
5 - بنت الابن فأكثر مع البنت الواحدة وعدم المعصب، تكملة للثلثين لما رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن هُزَيل بن شَرَحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأتت ابنَ مسعود، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى الأشعري فقال: لقد ضللت إذن، وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة للثلثين، ومابقي فللأخت.
وزاد أحمد والبخاري: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: «لاتسألوني مادام هذا الحَبْر - العالم العلامة - فيكم» (2) .
6 - الأخت لأب فأكثر مع الأخت الشقيقة وعدم المعصب وعدم الأصل الذكر والفرع، للإجماع على أنه لها تكملة للثلثين - نصيب الأختين.
7 - الأخت لأم أو الأخ لأم عند عدم الفرع الوارث والأصل الذكر، لقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس} [النساء:12/4] .
المبحث الثاني - أحوال أصحاب الفروض:
عرف أن مجموع الوارثين اثنا عشر:
أربعة من الرجال: وهم الأب، والجد أبو الأب، والأخ لأم، الزوج.
وثمانية من النساء: وهن الزوجة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، والأم، والجدة أم الأم أو أم الأب (الجدة الصحيحة) .
وعرف أيضاً أن الورثة أربعة أقسام:
1 - قسم يرث بالفرض فقط: وهم سبعة: الزوج، والزوجة، والأم، والجدة لأم، الجدة لأب، والأخ لأم، والأخت لأم. ويمكن اختصار القول فيهم فيقال: الأم وولداها، والجدتان، والزوجان.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي عن قبيصة بن ذؤيب (نيل الأوطار: 59/6، شرح السراجية: ص49، الرحبية: ص33) ، والخمسة: أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
(2) نيل الأوطار: 58/6.(10/416)
2 - وقسم يرث بالتعصيب فقط: وهم اثنا عشر: العصبة بالنفس عدا الأب والجد، والمعتق، والمعتقة.
3 - وقسم يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب، وقد يجمع بينهما: وهو اثنان: الأب والجد أبو الأب (الجد الصحيح) فكل منهما يرث السدس بالفرض مع الابن أو ابن الابن، ويرث بالتعصيب إذا خلا عن الفرع الوارث، ويجمع بين الفرض والتعصيب إذا كان معه أنثى من الفروع، وفضل أكثر من السدس، فيأخذه تعصيباً.
4 - وقسم يرث مرة بالفرض، ومرة بالتعصيب ولا يجمع بينهما: وهم أربعة: البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب. فإن انفردت كل واحدة عمن يعصبها ورثت بالفرض، وإن كان معها من يعصبها فترث بالتعصيب.
وهؤلاء الورثة: منهم من يرث بسبب القرابة النسبية، ويسمون أصحاب الفروض النسبية، وهم جميع الورثة عدا الزوجين.
ومنهم من يرث بسبب الزوجية، فيسمون بأصحاب الفروض السببية، وهما الزوجان.
وبناء عليه تعرف أحوال أصحاب الفروض تفصيلاً:
أولاً ـ أحوال الرجال:
1 ً - أحوال الأب:
لا يحرم الأب من الميراث أصلاً، ويحجب غيره، ويختلف ميراثه بحسب نوع الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، فيرث مرة بالفرض فقط، ومرة بالتعصيب فقط، وتارة بالفرض والتعصيب معاً، فله أحوال ثلاث (1) :
الأولى ـ السدس فرضاً، يأخذ الأب السدس بالفرض المطلق، عند وجود الفرع الوارث المذكر، وهو الابن وابن الابن مهما نزل.
الثانية - الكل أو الباقي تعصيباً فقط: يأخذ كل التركة أو ما تبقى منها بعد أصحاب الفرض، عند عدم الفرع الوارث مطلقاً ـ ذكراً أو أنثى، فمن ترك أباً فقط أخذ كل التركة ويكون الأب عصبة بنفسه، ومن ترك أباً وزوجة، فللزوجة الربع فرضاً والباقي للأب تعصيباً.
الثالثة ـ السدس فرضاً والباقي تعصيباً عند وجود الفرع الوارث المؤنث: وهو البنت وبنت الابن مهما نزل أبوها، كمن ترك أباً وبنتاً، فيأخذ الأب السدس فرضه، والبنت النصف، والباقي للأب أيضاً.
__________
(1) شرح السراجية: ص 28، تبيين الحقائق: 230/6، القوانين الفقهية: ص 389، مغني المحتاج: 11/3، 14-15، المغني: 177/6.(10/417)
والدليل قوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/4] .
دلت الآية على أن نصيب الأب السدس فقط إذا كان للمتوفى ولد، ذكراً أو أنثى. إن كان الولد ذكراً، فهو عاصب بنفسه يستحق الباقي، ويقدم على الأب؛ لأن البنوة مقدمة على الأبوة. وإن كان الولد أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي تعصيباً؛ لأنه أولى رجل ذكر، فيستحق الباقي للحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
أما إن لم يوجد ولد للمتوفى، فيأخذ الأب كل الباقي؛ لأن شطر الآية الثاني نص على فرض الثلث للأم، وسكت عن نصيب الأب، فدل النص على أن الأب يأخذ الباقي بعد أخذ الأم نصيبها؛ لأن الأصل أن المال الموزع بين اثنين، إذا بيِّن نصب أحدهما منه، كان الباقي للآخر.
ونص القانون المصري (م 9، 21) والسوري (م 266، 280) على أحوال ميراث الأب.
أمثلة:
1 - إذا مات رجل عن زوجة وأب وابن: فللزوجة ثمن التركة، لوجود الفرع الوارث (1) وهو الابن، وللأب سدس التركة فرضاً لا غير، وهي الحالة الأولى، والباقي للابن.
2 - وإذا مات عن زوجة وأب: فللزوجة الربع، لعدم وجود فرع وارث للمتوفى، والباقي كله تعصيباً، وهي الحالة الثانية.
3 - وإذا ماتت امرأة عن زوج وأب وبنت: فللزوج الربع لوجود البنت، وللبنت النصف، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لأنه أولى ـ أقرب ـ رجل ذكر.
4 - وإذا مات رجل عن زوجة وأب وبنت: فللزوجة الثمن، لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف، وللأب السدس أولاً فرضاً، والباقي له ثانياً بطريق التعصيب، وهي الحالة الثالثة.
__________
(1) الفرع الوارث كما أبنت: من يستحق شيئآً من التركة بطريق الفرض كالبنت، أو التعصيب كالابن.(10/418)
2 ً - أحوال الجد:
المراد به هنا الجد العصبي أو الأب، ويسمى الجد الصحيح أو الجد الثابت: وهو الذي لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. ويقابله الجد الرحمي، ويسمى الجد الفاسد أو الجد غير الثابت كأبي الأم: وهو الذي يدلي إلى الميت بأنثى، فهو ليس صاحب فرض ولا عصبة، بل هو من ذوي الأرحام (انظر المادة 265 من القانون السوري) .
والجد كالأب في الأحوال الثلاث المتقدمة (1) ، ولكن لا يرث شيئاً مع وجود الأب، للقاعدة العامة: «من أدلى إلى الميت بواسطة لا يرث مع وجود تلك الواسطة» فيسقط الجد بالأب.
أـ يرث الجد بطريق الفرض وحده إذا كان المتوفى قد ترك ابناً أو ابن ابن فللجد السدس. فإذا مات رجل وترك زوجة وابناً وجداً، كان للزوجة الثمن فرضاَ لوجود الفرع الوارث، وللجد السدس فرضاَ، والباقي للابن تعصيباً.
وإن مات رجل وترك ابن ابن، وجداً، فللجد السدس فرضاً، والباقي لابن الابن بالتعصيب.
ب ـ ويرث بطريق التعصيب وحده إذا لم يكن للمتوفى فرع وارث: فيأخذ الجد كل المال أو الباقي منه بعد أصحاب الفروض.
فإذا مات شخص عن زوجة وجد، كان للزوجة الربع، لعدم وجود الفرع الوارث، وللجد الباقي تعصيباً. وإذا لم يترك الميت سوى الجد فله جميع التركة.
جـ ـ ويرث بالفرض والتعصيب معاً: إذا كان للمتوفى بنت أوبنت ابن، فيأخذ الجد السدس فرضاً، والباقي تعصيباً.
__________
(1) شرح السراجية: ص 29، القوانين الفقهية: ص 390، مغني المحتاج: 15/3، المغني: 216/6.(10/419)
فلو مات شخص عن زوجة وبنت ابن وجد: فللزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث، ولبنت الابن النصف، وللجد السدس فرضاً، والباقي تعصيباً.
ودليل ميراث الجد: قوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} [النساء:11/4] فإن الجد يسمى أباً مجازاً لغة وعرفاً عند عدم الأب.
ـ وما رواه عمران بن حصين: «أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ قال: لك السدس» (1) .
ـ وأجمع الصحابة على أن الجد يرث عند عدم وجود الأب.
ونص القانون المصري (م 9، 21) والسوري (م266، 280) على أحوال ميراث الجد كالأب.
ما يخالف فيه الجد الأب: الجد كالأب إلا في أربع مسائل هي:
1 - الجدة الصحيحة أو أم الأب تحجب بالأب، ولا تحجب بالجد، فلا ترث مع الأب، وترث مع الجد.
2 - مسألة الغرَّآوين: إذا ترك الميت أبويه وأحد الزوجين فللأم ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين. أما لو كان مكان الأب جد، فللأم عند الجمهور خلافاً لأبي يوسف ثلث جميع التركة، فلا تكون غراوية مع الجد، ولها عند أبي يوسف ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين.
3 - يحجب الأب الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب (2) إجماعاً، ولا يحجبهم الجد عند الجمهور (الأئمة الثلاثة والصاحبين) وعند أبي حنيفة: يحجبهم.
4 - أب المعتق مع ابنه يأخذ سدس الولاء عند أبي يوسف، وليس للجد ذلك، بل الولاء كله للابن، ولا فرق بينهما عند سائر الأئمة، إذ لا يأخذان شيئاً من الولاء.
ميراث الجد مع الإخوة:
عرفت أحوال الجد إذا انفرد عن الإخوة، فإن اجتمع الجد مع الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب، فما الحكم؟ هل يرث الجد معهم أو يسقطهم؟ فيه خلاف. أما إن اجتمع الجد مع الإخوة والأخوات لأم، فلا خلاف في أنهم يسقطون بالجد العصبي، كما يسقطون بالأب، وعبارتهم: يسقط بنو الأخياف (أولاد الأم) بالجد بالإجماع.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود.
(2) يقال للإخوة الأشقاء والأخوات الشقيقات: بنو الأعيان؛ لأنهم أكمل أنواع الجنس، وللإخوة لأب والأخوات لأب: بنو العَلاَّت؛ لأنهم من نسوة علات أي ضرائر، ويقال لأولاد الأم: بنو الأخياف؛ لأنهم من أصول مختلفة.(10/420)
هذا ولم يرد في الجد مع الإخوة شيء، من الأدلة النقلية في الكتاب والسنة، وإنما ثبت حكمهم باجتهاد الصحابة، وللصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة مذهبان (1) :
المذهب الأول ـ لأبي بكر الصديق، ومن تابعه من الصحابة كابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وأبي سعيد الخدري ومعاذ ابن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة، ومن التابعين كالحسن وابن سيرين رضي الله عنهم أجمعين:
عدم توريث بني الأعيان وبني العَلاَّت (2) مع الجد، كما لا يرثون مع الأب، بل الجد يستقل بالمال كالأب، أي أن الجد في الميراث كالأب يحجب الإخوة مطلقاً (أشقاء أو لأب أو لأم) .
وهو رأي أبي حنيفة، فلا مقاسمة بين الجد والإخوة والأخوات على رأيه.
ودليلهم: من القرآن والسنة.
أما من القرآن: فآيات كثيرة أطلق فيها على الجد لفظ الأب، مثل قوله تعالى: {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب} [يوسف:38/12] فيجب أن يأخذ الجد حكم الأب من حجْبه للإخوة مطلقاً. لذا قال عمر: كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟! وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً.
وأما من السنة: فالحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والجد أولى من الإخوة. والقاعدة في العصبات تقديم جهة الأبوة على جهة الأخوة.
المذهب الثاني ـ مذهب علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وفريق من الصحابة
__________
(1) شرح السراجية: ص 142-154، اللباب: 199/4، القوانين الفقهية: ص 390، الشرح الصغير: 634/4-640، مغني المحتاج: 21/3، 23، المغني: 215/6-228.
(2) بنو الأعيان كما تقدم في الصفحة السابقة: الإخوة والأخوات الشقيقات. وبنو العَلاَّت: هم الإخوة والأخوات لأب. وبنو الأخياف: الإخوة والأخوات لأم.(10/421)
رضي الله عنهم: توريث الإخوة مع الجد، فلا يحجب الجد الإخوة الأشقاء أو لأب، بل يقاسمهم في الميراث، وهو مبدأ مقاسمة الجد.
وهو رأي الجمهور (المذاهب الثلاثة والصاحبين) وبه أخذ القانون في مصر وسورية.
ودليلهم ما يأتي:
أولاً ـ إن ميراث الإخوة (من بني الأعيان وبني العَلاَّت) ثبت بالقرآن، فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع، وليس هناك واحد منهما.
ثانياً ـ إن الجد والإخوة متساوون في سبب الاستحقاق؛ إذ كل منهم يدلي إلى الميت بدرجة واحدة هي الأب.
طريق التوريث: اختلف القائلون بتوريث الجد مع الإخوة في طريقة التوريث على مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول ـ لسيدنا علي رضي الله عنه:
للجد مع الإخوة ثلاث حالات:
1 - فرض السدس له: يقاسم الجد الإخوة ما لم ينتقص حقه من السدس، فإذا انتقص، يعطى السدس. فلو كان معه أخوان شقيقان أو ثلاثة، أو أربعة، فالمقاسمة خير له، فإذا كانوا خمسة فالمقاسمة والسدس سواء. وفي جد وأم وزوج وبنت وأخوين: للأم السدس، وللزوج الربع، وللبنت النصف، فيبقى أقل من السدس، فيفرض للجد السدس، وتعول المسألة إلى (13) ، ولا شيء للأخوين.
2 - يرث بالتعصيب: فيأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض. فلو كان معه إناث من الأخوات أو أخت واحدة، فللأخوات الثلثان في حالة التعدد، والنصف في حالة الانفراد، والباقي للجد تعصيباً. فإذا كان مع الجد أخت شقيقة وأخت لأب، فللأولى النصف، وللثانية السدس، وللجد الباقي.
3 - المقاسمة: يقاسم الجد الإخوة على أنه واحد منهم، وله ضعف الأنثى. فإذا كان مع الجد أخ شقيق وأخ لأب، كان المال نصفين بينه وبين الشقيق، والإخوة لأب أو الأخت لأب لايحسبون في القسمة مع الأشقاء. وفي جد وشقيقتين وأخ شقيق، يقاسمهم الجد، وتكون التركة بينهم أثلاثاً.
4 - لا يعصب الجد الأخوات، فتكون الأخت صاحبة فرض، فلو كان مع الجد أخت شقيقة وأخت لأب، فللأولى النصف وللثانية السدس، وللجد الباقي.(10/422)
والمذهب الثاني ـ لابن مسعود رضي الله عنه:
1ً - إن الجد يقاسم الإخوة، ما لم ينتقص حقه من الثلث، وفاقاً لمذهب زيد.
2ً - لا يعتبر بنو العَلاَّت (الإخوة لأب) في مقاسمة الجد، مع بني الأعيان (الإخوة الأشقاء) كما قال علي رضي الله عنه في البند الثالث السابق، فلا تحسب الأخت لأب مع الأخت الشقيقة على الجد، وعبارة الفقهاء: إن بني العلات لا يعدون عليه في القسمة مع بني الأعيان، بخلاف طريقة زيد الآتية: يعد بنو العلات على الجد مع بني الأعيان.
3ً - إن الأخوات المنفردات صاحبات فروض مع جد، وافق به علياً، في البند الثاني. ويلاحظ أن هذه الطريقة جمع بين طريقتي علي وزيد رضي الله عنهم.
والمذهب الثالث ـ لزيد بن ثابت رضي الله عنه:
1ً - إن للجد مع الإخوة أفضل الأمرين من المقاسمة ومن ثلث جميع المال، إذا لم يكن معهم صاحب فرض. فيجعل الجد في القسمة كأحد الإخوة، ويقسم المال بينهم وبين الأخوات، للذكر مثل حظ الأنثيين، ويجعل نصيبه مع الإخوة كواحد منهم ما دامت المقاسمة خيراً له، فإن نقصت عن ثلث المال، أعطيناه الثلث. وإذا كان معه أخ واحد، أخذ نصف المال. والحاصل: إذا لم يكن معهم ذو فرض فللجد الأحظ من المقاسمة أو ثلث جميع المال.(10/423)
2ً - إن بني العَلاَّت (الإخوة والأخوات لأب) يشتركون في القسمة مع بني الأعيان (الأشقاء) ، إضراراً للجد، أي يعدون عليه مع الأشقاء، فإذا أخذ الجد نصيبه، فبنو العَلاَّت لا شيء لهم، والباقي بعد نصيب الجد لبني الأعيان، يتقاسمونه بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذه هي المعادَّة؛ لأنه عَادَّ الجد بالأخ لأب، ثم أخذ منه ما حصل له. ففي جد وأخ شقيق وأخ لأب، يحسب الأخ لأب في العدّ على الجد، لينتقص الجد عن المقاسمة إلى ثلث المال، وبعد أن يأخذ الجد الثلث، يعود الشقيق على الأخ لأب، فيأخذ ما بيده، لحجبه إياه.
3ً - إذا وجدت أخت شقيقة واحدة فتأخذ فرضها، ويأخذ الجد نصيبه، فإن بقي شيء فلبني العلات (الأخوات لأب) وإلا فلا شيء لهم. كجد وأخت شقيقة وأختين لأب، تكون المقاسمة خيراً للجد، فتجعل المسألة من عدد رؤوسهم أي من خمسة: للجد منها سهمان، وللشقيقة نصف الكل سهمان، والسهم الباقي هو للأختين لأب، وتصح المسألة من عشرين.
ولو كان في المثال المذكور بدل الأختين لأب أخت واحدة، لم يبق لها شيء؛ لأن الجد يأخذ بالمقاسمة نصف المال، وهو خير له من الثلث، فبقي النصف الآخر للشقيقة، ولا يبقى للأخت لأب شيء.
4ً - إذا وجد معهم ذو فرض: فإما أن يكون للجد السدس فرضاً، وإما أن يكون له الأحظ من أمور ثلاثة: هي المقاسمة، أو ثلث الباقي، أو سدس جميع المال، وذلك إن بقي بعد الفروض أكثر من السدس.
فإن بقي قدر السدس: كبنتين، وأم، وجد، وإخوة، أو دون السدس كزوج وبنتين وجد وإخوة، أو لم يبق شيء كبنتين وزوج وأم وجد وإخوة، فللجد السدس، وتعول المسألة إن احتيج إلى ذلك.
وتسقط الإخوة إلا الأخت الأكدرية؛ لأنها كدرت مذهب زيد (1) . أما وجوب السدس للجد: فلأن الأولاد لا ينقصون الجد عن السدس إذا كانوا معه، فأولى ألا ينقصه إخوة عنه.
وأما المقاسمة: فلأنها الأصل في جعل الإخوة في درجة الجد.
__________
(1) أو لأنها واقعة امرأة من بني أكدر، وتسمى بالغراء عند أهل العراق لشهرتها فيما بينهم.(10/424)
وأما ثلث الباقي: فلأن صاحب الفرض استحق فرضه، فيصبح الباقي كأنه جميع المال. والمبدأ لا ينقص حظ الجد عن الثلث، فلا ينقص عن ثلث الباقي هنا، قياساً على الأم في مسألة الغراوين.
الأكدرية: أن تتوفى امرأة عن زوج، وأم، وجد، وأخت شقيقة أو لأب. فبناء على مذهب زيد: وهو أن الجد يعصب الإناث من الأخوات، فلا يعتبرن من ذوات الفرض عنده خلافاً لمذهبي علي وابن مسعود، لا يكون للأخت شيء بمقتضى كونها عصبة، والعاصب لا شيء له إذا استغرقت الفروض التركة.
ولكن لما لم يكن هناك مسوغ لسقوط الأخت إذ لا حاجب يحجبها، ولم يمكن تعصيبها بالجد هنا؛ لأنه أصبح ذا فرض، فلو عصبها لنقص عن السدس،
فاستثنى زيد هذه المسألة من أصله في ميراث الجد مع الإخوة، فورّث الأخت مع الجد بالفرض، ففرض لها النصف، والمسألة من ستة.
فيكون للزوج النصف وهو (3) ، وللأم الثلث وهو (2) ، وللجد السدس وهو (1) ، وللأخت النصف وهو (3) ، وتعول إلى (9) .
ولكن يؤدي التقسيم إلى زيادة حصة الأخت على الجد، ولما كان للجد ضعف الأخت إذا اجتمعا، فيجب أن يجمع نصيب الأخت ونصيب الجد، ثم يقتسماه، للذكر ضعف الأنثى، فتصبح المسألة من (27) ، للزوج منها (9) ،وللأم منها (6) ، وللجد (8) وللأخت (4) .
ويتم ذلك بضرب عدد رؤوس الجد مع الأخت وهو (3) في أصل المسألة وهو (9) ، فتصبح من (27) ، للزوج (3×3=9) ثلث المال، وللأم (2×3=6) هي ثلث الباقي، وللجد والأخت: (4×3=12) ، للأخت (4) ثلث باقي الباقي، وللجد (8) هي الباقي.
والخلاصة: مذهب زيد لا يجعل الأخت الشقيقة أو لأب صاحبة فرض مع الجد، بل يجعلها معه عصبة، إلا في هذه المسألة، فإنه يجعلها معه صاحبة فرض، ويقتسمان مجموع النصيبين للذكر مثل حظ الأنثيين.(10/425)
ولو كانَ مكان الأخت: أخ أو أختان، فلا عول، ولا أكدرية؛ لأن سدس جميع المال خير للجد، فيكون السدس الثاني له، ولا شيء للأخ، ولا أكدرية؛ لأن الأخ عصبة. وأما إن كان بدلَ الأخت أختان، فيختلف نصيب الأم، فتأخذ السدس، ويبقى بعد نصيب الزوج سهمان، أي الثلث، فالمقاسمة والسدس سواء، فلا عول ولا أكدرية.
تقسيم على مذهب زيد:
هذا التقسيم يبين أحوال الجد مع الإخوة باعتبار أهل الفرض معهم وجوداً وعدماً:
أولاً ـ إما ألا يكون معهم صاحب فرض:
فللجد خير الأمرين: من ثلث جميع المال، كجد وأخوين وأخت، أو المقاسمة، وتكون خيراً له إذا كان عدد الإخوة والأخوات أقل من مثليه وهي محصورة في خمس مسائل.
كجد وأخ، وجد وأخت، وجد وأختين، وجد وثلاث أخوات، وجد وأخ وأخت.
ثانياً ـ وإما أن يكون معهم صاحب فرض: من الزوجين والأم والجدتين والبنت وبنت الابن، أي ما عدا الأخوات.
1ً - فإما أن يفضل عن الفرض أكثر من السدس، فللجد أفضل أمور ثلاثة: وهي المقاسمة، وثلث الباقي، وسدس جميع المال.
وتكون المقاسمة خيراً له في جد وجدة وأخ، المسألة من (12) ، لكل من الجد والأخ خمسة وللجدة اثنان. وكزوج وجد وأخ، المسألة من (4) .
وثلث الباقي يكون خيراً له في مثل: أم وجد وعشرة إخوة، المسألة من (6) وتصح من (18) ، للأ م (3) ، وللجدة (5) ، والباقي للإخوة.
وكجد وجدة وأخوين وأخت، المسألة من (6) ، وتصح من (18) ، ويتم التقسيم إذا لم يكن للباقي ثلث صحيح، فيضرب مخرج الثلث في أصل المسألة أي (3×6=18) ، للجد (5) ، وللجدة (3) ، وللأخوين (8) ، وللأخت (2) .
وسدس جميع المال يكون خيراً له في مثل: زوجة، وبنتين، وجد، وأخ: للزوجة (3) من (24) ، وللبنتين الثلثان (16) ، ويبقى (5) ، وسدس الجميع 4 خير له من المقاسمة.
2ً - أو يفضل السدس: فيدفع للجد فرضاً، ويسقط الأخ: كزوج وأم وجد وأخ، المسألة من (6) ، للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللجد السدس واحد، ولا شيء للأخ.(10/426)
3ً - أو يفضل أقل من السدس: فيعال الجد بتمام السدس، ويسقط الأخ: كزوج وبنتين وجد وأخ، المسألة من (12) ، وتعول إلى (13) ، للبنتين (8) ، وللزوج (3) ، ويبقى واحد، فيعال بواحد لتمام السدس، ويسقط الأخ.
وكزوج وجد وبنت وأم وأخت لأبوين، تعول إلى (13) ، ولا شيء للأخت، لأنها عصبة مع البنت أو مع الجد، ولم يبق لها شيء بعد أخذ الجد السدس فرضاً.
4ً - أن تستغرق الفروض السدس، ويسقط الأخ، ويزاد في العول: كزوج وبنتين وأم وجد وأخ، المسألة تعول إلى (13) ، ويزاد في العول سدس الجد، فتصير (15) .
موقف القانون من مقاسمة الجد لإخوة:
نص القانون المصري (م 22) والسوري (م 1/279-4) على مقاسمة الجد للإخوة. أما القانون المصري فقد جعل للجد مع الإخوة حالتين:
الأولى ـ أن يكون الموجود مع الجد من الإخوة والأخوات وارثاً بالتعصيب، ذكوراً فقط، أو ذكوراً وإناثاً، أو إناثاً عصبة مع الغير كأخ شقيق؛ أو أخ شقيق مع أخت شقيقة، أو أخ لأب مع أخت لأب؛ أو أخت شقيقة أو لأب مع البنت أو بنت الابن.
فيجعل الجد كالأخ، ويرث معهم بالتعصيب، ويقاسمهم ما لم ينقص عن السدس، فإن نقص عنه يعطى عندئذ السدس فرضاً، فلو كان مع الجد أقل من خمسة كانت المقاسمة خيراً، وإن كان معه خمسة كانت المقاسمة والسدس سواء، وإن كان معه ستة فأكثر، كان السدس خيراً له من المقاسمة، فيعطى السدس فرضاً.
ولايحسب على الجد الإخوة لأب مع الإخوة الأشقاء؛ لأنهم محجوبون بالأشقاء، ففي جد وأخ وشقيق وإخوة لأب، لكل من الجد والشقيق النصف، ويسقط الإخوة.
وهذا أخذ بمذهب علي وابن مسعود.
الثانية ـ أن يكون الموجود من الأخوات مع الجد وارثاً بالفرض: كأخت شقيقة أو لأب أو أكثر، ولا معصب مع الجد.
فيرث الجد بالتعصيب، ويأخذ ما بقي بعد الفروض، ما لم ينقص عن السدس، فإن نقص عنه، فإنه يعطى السدس.(10/427)
ففي جد وأخت شقيقة أو لأب، يكون للأخت النصف فرضاً، والباقي للجد تعصيباً. وفي جد وأختين شقيقتين أو لأب، للأختين الثلثان فرضاً، والباقي للجد تعصيباً. وفي أخت شقيقة، وأخت لأب، وجد، للشقيقة النصف فرضاً، وللأخت لأب السدس فرضاً تكملة للثلثين، وللجد الباقي تعصيباً. وهذا مذهب علي وابن مسعود: وهوأن الجد لا يعصب الأخوات المنفردات.
وأما القانون السوري: فيتفق مع المصري بإعطاء الجد السدس على كل حال، سواء أكان معه ذو فرض أم لا.
ففي الفقرة (1) من المادة (279) نص على الحالة الأولى المتقدمة، وهو رأي أكثر الفقهاء ما عدا أبا حنيفة. ويتفق مع مذهب ابن مسعود وزيد في أن الجد يقاسم الأخوات إذا كن عصبة مع البنات.
وفي الفقرة (2) من المادة المذكورة: نص على الحالة الثانية السابقة، وهو أخذ بمذهب علي وابن مسعود في أن الجد لا يعصب الأخوات المنفردات، بل يأخذن نصيبهن بالفرض، ويكون هو عصبة.
وفي الفقرة (3) من المادة نفسها: نص على أنه لا ينقص نصيب الجد عن السدس سواء أخذ بالمقاسمة أو بالتعصيب. وهذا مأخوذ من مذهب علي الذي يجعل فرض الجد السدس.
وفي الفقرة (4) من المادة: نص على عدم اعتبار الإخوة والأخوات لأب مع الأشقاء. وهذا مأخوذ من مذهب علي وابن مسعود في أن الإخوة لأب لا يعتبرون في المقاسمة إذا كانوا محجوبين بالإخوة الأشقاء.
أمثلة:
1 - مات عن جد وأخ شقيق وأخت شقيقة: المسألة من خمسة، للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم واحد. 2 - مات عن زوجة وأختين شقيقتين: للزوجة الربع، وللأختين الثلثان، وللجد السدس، وتعول المسألة إلى (13) .
3 - مات عن أب وجد وابن: للأب السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للجد.(10/428)
3 ً - أحوال الزوج:
للزوج حالتان (1) :
الأولى ـ النصف عند عدم الولد وولد الابن وإن سفل، فمن تركت زوجاً وأخاً شقيقاً، فللزوج النصف، والباقي للأخ.
الثانية ـ الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، سواء أكان من هذا الزوج أم من غيره، فلو تركت امرأة زوجاً وولداً أو ولد ابن، فللزوج الربع، والباقي للولد أو ولد الابن.
والدليل قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد، فلكم الربع مما تركن، من بعد وصية يوصين بها أو دين} [النساء:12/4] .
ونص القانون المصري (م 11) والسوري (م 268) على حالتي الزوج المذكورتين.
4 ً - أحوال الأخ لأم والأخت لأم (أولاد الأخياف) :
لأولاد الأم ويسمون بني الأخياف أحوال ثلاثة (2) :
الأولى ـ السدس: للواحد منهم، ذكراً أو أنثى، لقوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس} [النساء:12/4] والمراد منه أولاد الأم إجماعاً، ويدل عليه قراءة أبيّ: «وله أخ أو أخت من أم» .
فمن ترك شقيقاً، وأخاً أو أختاً لأم، فللأخ أو الأخت لأم: السدس، والباقي للشقيق.
الثانية ـ الثلث: للاثنين فصاعداً، ذكوراً وإناثاً، لقوله تعالى: {فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/4] ذكورهم وإناثهم في القسمة والاستحقاق سواء، أما في القسمة: فلأن الأنثى منهم تأخذ مثل الذكر، وأما في الاستحقاق: فلأن الواحد منهم مذكراً كان أو مؤنثاً، يستحق السدس.
فمن ترك أما وإخوة أو أخوات لأم، وعماً، فللأم: السدس، وللإخوة أو الأخوات لأم: الثلث، والباقي للعم.
__________
(1) شرح السراجية: ص 31، تبيين الحقائق: 233/6، القوانين الفقهية: ص 388، الرحبية: ص 25، مغني المحتاج: 9/3، 17، المغني: 178/6.
(2) شرح السراجية: ص 30، تبيين الحقائق: 237/6، القوانين الفقهية: ص 388، مغني المحتاج: 11/3، المغني: 183/6.
[التعليق]
أولاد الأخياف: انظر هامش: 10/420
* أبو أكرم الحلبيّ(10/429)
الثالثة ـ حجبهم: يسقطون مع وجود الفرع الوارث ـ الولد وولد الابن وإن سفل، ومع وجود الأصل الوارث المذكر ـ الأب والجد العصبي (الصحيح) بالاتفاق؛ لأنهم من قبيل الكلالة، وقد اشترط في إرثهم عدم الولد والوالد، في قوله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ وله أخ أو أخت..} [النساء:12/4] وقوله سبحانه في حال عدم الولد: {قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت} [النساء:176/4] وفي الأثر: «الكلالة: من ليس له ولد، ولا والد» .
وولد الابن داخل في الولد، لقوله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف:31/7] والجد داخل في الوالد، لقوله تعالى: {كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف:27/7] . فلا إرث لأولاد الأم مع هؤلاء، أي الأولاد والآباء.
ونص القانون المصري (م 10، 26) والسوري (م 262) على أحوال أولاد الأم السابقة، كما نص فيهما على المسألة المشتركة.
أمثلة:
1 - مات عن أب وابن وأخ لأم: للأب السدس، وللابن الباقي، ولا شيء للأخ الأم.
2 - ماتت عن زوج وأخ لأم وأخ شقيق: للزوج النصف، وللأخ لأم السدس، والباقي للأخ الشقيق؛ لأنه عصبة.
3 - ماتت عن زوج وجد وأخوين لأم: للزوج النصف، وللجد الباقي، ولا شيء للإخوة لأم.
مايخالف فيه أولاد الأم غيرهم: يخالف أولاد الأم غيرهم من أصحاب الفروض في أمور هي:
1 - يرثون مع الأم التي أدلوا بها.
2 - ذكورهم وإناثهم في القسمة والاستحقاق سواء.
3 - للواحد منهم السدس، وللأكثر الثلث.
4 - يحجبون الأم التي أدلوا بها لمورث حجب نقصان، من الثلث إلى السدس.
5 - ذكرهم أدلى بأنثى، وورث بالفرض معها.
المسألة المشرَّكة أو الحجرية: أي المشرَّك فيها بين الشقيق وولدي الأم.
المقرر أن العاصب لا يرث إلا بعد استيفاء أصحاب الفروض، للحديث المتقدم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته فلأولى رجل ذكر» .(10/430)
ولكن قد يشترك الأخ الشقيق مع الأخ لأم، فإذا ماتت امرأة عن: زوج، وأم، وأخوين لأم، وأخ شقيق، وأخت شقيقة.
للزوج: النصف، وللأم: السدس، وللإخوة لأم والشقيق والأخت جميعاً الثلث، يقسم بينهم بالسوية، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم.
قضى بذلك عمر في آخر الأمر، فقد قضى أولاً بحرمان الإخوة الأشقاء، ثم عرض عليه الأمر مرة أخرى، فقال له بعضهم: هب أبانا حجراً في اليم، أليست أمناً واحداً؟! فقضى عمر أن يشتركوا جميعاً في الثلث، ذكورهم وإناثهم سواء، ووافقه على رأيه زيد بن ثابت وجمع من الصحابة، وبه أخذ المالكية والشافعية والقانون في مصر وسورية.
وسميت لهذا بـ (المشرَّكة) للتشريك فيها بين الجميع في الثلث، وتسمى أيضاً (المشتركة) بمعنى المشترك فيها، والحجرية: نسبة إلى قول بعضهم لعمر: «هب أبانا حجراً في اليم» والحمارية لقول بعضهم: «هب أبانا حماراً» .
وذهب الحنفية والحنابلة إلى إسقاط الإخوة الأشقاء، ويعطى للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، مستدلين بآية الكلالة السابقة: {وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك، فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/4] ولا خلاف في أن المراد بهذه الآية: ولد الأم على الخصوص، فمن شَّرك بينهم، فلم يعط كل واحد منهما السدس، فهو مخالف لظاهر القرآن (1) .
__________
(1) المغني: 180/6 ومابعدها، مغني المحتاج: 17/3 ومابعدها.(10/431)
ثانياً ـ أحوال النساء:
أصحاب الفروض من النساء ثمانية وهن:
الزوجة، والبنت وبنت الابن وإن سفلت، والأخت من أي جهة (الشقيقة أو لأب أو لأم) والأم، والجدة أم الأم أو أم الأب (الصحيحة) .
1 - أحوال الزوجة:
للزوجة حالتان (1) :
الأولى ـ الربع للواحدة فأكثر: عند عدم الفرع الوارث ـ الولد وولد الابن وإن سفل، سواء أكان منها أم من غيرها.
الثانية - الثمن: مع الفرع الوارث - الولد وولد الابن وإن سفل، سواء أكان منها أم من غيرها.
والدليل قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد، فلهن الثمن مما تركتم، من بعد وصية توصون بها أود ين} [النساء:12/4] ففرض الزوجة الواحدة هو فرض الأكثر على السواء، ولو كان أربعاً، لعموم الآية. والولد يتناول ولد الابن بالنص أو الإجماع. فمن مات عن زوجة وبنت وأب: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، وللأب السدس فرضاً والباقي بالتعصيب. ومن مات عن زوجة وأخ وابن بنت: للزوجة الربع، وللأخ الباقي لأنه عصبة، ولا شيء لابن البنت؛ لأنه ذو رحم.
ونص القانون المصري (م 11) والسوري (م 268) على فرض الزوجة في الحالتين ولو مطلقة رجعياً إذا مات الزوج، وهي في العدة. فإن كانت الزوجة معتدة من طلاق بائن فلا شيء لها، لانقطاع الزوجية بالوفاة، إلا إذا كان طلاقها طلاق فرار فترث عند الجمهور خلافاً للشافعية.
ويلاحظ أنه روعي في نصيبي الزوجين أن للذكر منهما حظ الأنثيين، التزاماً لمبدأ العدل في توزيع المسؤوليات بين الرجل والمرأة، فالرجل هو المكلف بالمهر وبالإنفاق على المرأة أماً كانت أو بنتاً أو زوجة، ولا تكلف المرأة بشيء من الواجبات الاجتماعية، ويظل نصيبها محفوظاً عدة للطورئ، تتصرف فيه بحرية واستقلال.
وهذا المبدأ: مبدأ (للذكر مثل حظ الأنثيين) عام؛ لأن الحاجة أساس التفاضل في الميراث، فللابن ضعف نصيب البنت؛ لأن مطالب الابن في الحياة أكثر من مطالب أخته، فهو المكلف بإعالة نفسه، وبمهر زواجه، وبنفقة الزوجية، ونفقة الأولاد، وإعالة الأب والأم الفقيرين، ولا تكلف البنت في حياتها بشيء مما يكلف به أخوها.
__________
(1) شرح السراجية: ص 34، تبيين الحقائق: 233/6، القوانين الفقهية: ص 388، مغني المحتاج: 9/3، 13، كشاف القناع: 450/4.(10/432)
2 - أحوال البنت:
لبنات الصلب أحوال ثلاث (1) :
الأولى ـ النصف للواحدة: إذا انفردت عمن يساويها وعمن يعصبها، كما في أب وبنت، للبنت النصف فرضاً، وللأب الباقي فرضاً وتعصيباً.
الثانية ـ الثلثان للاثنتين فصاعداً: إذا لم يكن معهن من يعصبهن، كأب وبنتين، للبنتين الثلثان فرضاً، وللأب الباقي فرضاً وتعصيباً.
الثالثة ـ التعصيب بالغير: مع الابن الذكر، فيأخذ الذكر ضعف الأنثى، سواء تعددت البنات أو تعدد الأبناء، كما في ابن وبنت: لهما كل التركة على أن للابن ضعف البنت.
والدليل قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن نساء فوق اثنتين، فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء:11/4] نصت على حكم الواحدة والثلاث فأكثر، أما البنتان فعرف حكمهما بالسنة:
روى الخمسة إلا النسائي عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أُحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدَع لهما مالاً، ولا يَنْكِحان إلا بمال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك» (2) ، قالوا: وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.
ونص القانون المصري (م 12، 19) والسوري (م 269، 277) على أحوال البنت المذكورة، وصرحت الفقرة 2 من المادة (277) على أن الإرث بين البنات والأبناء حال التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) السراجية: ص 34، تبيين الحقائق، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص 388 ومابعدها، مغني المحتاج: 14/3، المغني: 172/6.
(2) الحديث حسنه الترمذي، وأخرجه أيضاًً الحاكم (نيل الأوطار: 56/6) والخمسة: أحمد وأصحاب السنن الأربعة.(10/433)
3 - أحوال بنات الابن:
لبنات الابن ستة أحوال، الثلاثة الأولى للبنات، وثلاثة أخرى (1) .
الأولى ـ النصف للواحدة المنفردة عند عدم البنت أو الابن أو من يساويها، كما في أب وأم وبنت ابن: لبنت الابن: النصف، وللأم السدس، والباقي للأب فرضاً وتعصيباً.
الثانية ـ الثلثان للاثنتين فأكثر عند عدم البنت أو الابن أو من يساويهما، فمن مات عن أب وبنتي ابن: لبنتي الابن: الثلثان، وللأب الباقي.
الثالثة ـ التعصيب: مع ابن ابن في درجتها، للذكر ضعف الأنثى، كبنت ابن وابن ابن، لهما كل التركة.
الرابعة ـ السدس للواحدة فأكثر مع البنت الواحدة تكملة للثلثين: لبنت الابن السدس تكملة للثلثين، عملاً بقضاء ابن مسعود السابق: «أقضي بما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت» لأن الشرع جعل الثلثين حقاً للبنات، فإذا وجدت بنت صلبية واحدة، لم تأخذ إلا النصف، وبقي من نصيب البنات السدس، فيعطى لبنت الابن. وذلك إذا لم يوجد المعصب لهن وهو ابن الابن المساوي لها في الدرجة، فإن وجد تصير به عصبة، فتأخذ معه الباقي، للذكر ضعف الأنثى. فمن مات عن بنت وبنت ابن وابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن مع ابن الابن الباقي تعصيباً.
وإن لم يبق من التركة شيء، فلا نصيب لها، ففي: أب، وأم، وزوج، وبنت، وبنت ابن وابن ابن: لكل من الأب والأم السدس، وللزوج الربع، وللبنت النصف، فتستغرق التركة وتعول، فلم يبق شيء لبنت الابن وابن الابن، ولولا وجود ابن الابن لأخذت بنت الابن السدس فرضاً.
الخامسة والسادسة ـ الحجب: تحجب بنت الابن بالابن، ففي ابن وبنت ابن: للابن التركة كلها تعصيباً، ولا شيء لبنت الابن.
__________
(1) السراجية: ص 35، تبيين الحقائق: 234/6، القوانين الفقهية: ص 389، مغني المحتاج: 14/3.(10/434)
وتحجب وتسقط بالبنتين الصلبيتين فأكثر إلا أن يكون معها أو أسفل منها ولد ذكر، فيعصبها، ويكون الباقي حينئذ بينهم للذكر ضعف الأنثى. في أب وأم وبنتين وبنت ابن: لكل من الأبوين: السدس، وللبنتين الثلثان، ولا شيء لبنت الابن؛ إذ استنفدت البنتان نصيبهما.
فإن وجد مع بنت الابن ابن ابن، أو ابن ابن ابن فيعصبها كل منهما، لحاجتها إليه، فإن لم تحتج إلى الثاني، بأن بقي لها شيء من نصيب البنات، فإن ابن ابن الابن لا يعصبها، وتأخذ هي فرضها، ويبقى هو عصبة بنفسه، يأخذ الباقي بعد الفروض.
والدليل:
1 - النصوص الدالة على أحكام إرث البنت؛ لأن المراد بأولادكم في النص {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:11/4] فروعكم المولودون لكم إما مباشرة أو بواسطة أبنائكم.
2 - قضاء ابن مسعود السابق الذي رواه الستة إلا النسائي عن هزيل بن شرحبيل، إذ قضى لابنة الابن بالسدس، تكملة للثلثين. ونص القانون المصري (م 12، 19) والسوري (269، 277) على أحوال بنات الابن، ولا سيما استحقاق الواحدة فأكثر السدس مع البنت أو بنت الابن الأعلى درجة.
أمثلة:
أـ مات عن بنت وبنت ابن وأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً.
ب ـ مات عن بنت ابن وابن ابن، لهما التركة، للذكر ضعف الأنثى.
جـ ـ مات عن بنت وبنت ابن وابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخير؛ لأنه عصبة.
د ـ مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن: للبنتين الثلثان، ولبنت الابن مع ابن ابن الابن الباقي؛ لأنها بحاجة إليه، ويسمى بالغلام المبارك.(10/435)
هـ ـ مات عن زوج وأب وأم وبنت وبنت ابن وابن ابن: للزوج الربع، وللأب السدس، وللأم السدس، وللبنت النصف، ولا شيء لبنت الابن؛ لأنها صارت عصبة مع أخيها، ولم يبق لهما شيء، ولو كانت وحدها أخذت السدس، فوجود أخيها حرمها من الميراث، وهذا يسمى بالغلام المشؤوم. لكن في القانون السوري والمصري يأخذان بالوصية الواجبة. وذلك بأن يفرض الولد الذي مات في حياة أصله حياً، ويقدر نصيبه كما لو كان موجوداً، ثم يخرج النصيب من التركة، ويعطى لصاحب الوصية بشرط ألا يزيد عن الثلث، ثم يقسم باقي التركة على أنه كل التركة، بين الورثة بحسب الفريضة الشرعية. فإذا مات شخص عن ثلاثة أبناء وأب وأم وبنت ابن متوفى في حياة أبيه، يفرض وجود المتوفى حياً، فيعطى لبنته وصية واجبة سهم من ستة أسهم، ثم يقسم الباقي بين الورثة وهو خمسة، فيعطى للأب السدس وللأم السدس من خمسة لا من ستة، والباقي يوزع بين الأبناء الثلاثة بالسوية، لكل ابن سهم من خمسة. وتصح المسألة من (108) أسهم، يكون للأب (15) وللأم (15) ولكل واحد من الأبناء الثلاثة (20) ولبنت الابن المتوفى (18) . وجاءت الزيادة للأبناء مما بقي من حصة ذوي الفروض؛ لأن الباقي بعد الوصية هو (90) سهماً من أصل (108) . والتصحيح يكون بضرب (6) في (3) عدد رؤوس الأبناء، فيصير (18) ثم يضرب (6) في (18) فيكون الجواب وهو (108) أصلاً للمسألة، ثم يضرب (18) في (5) في المسألة الجديدة بعد الوصية فيكون (90) سهماً، لكل واحد من الأبوين سدس الـ (90) .
والخلاصة: أنه تعمل مسألة جديدة للورثة بعد استخراج الوصية الواجبة.
وـ مات عن بنتين وبنت ابن وابن ابن: للبنتين الثلثان، والباقي بين الأخيرين، ولولا وجود ابن الابن لم ترث بنت الابن شيئاً، لاستكمال البنتين الثلثين، ولكن وجوده عصبها، فتأخذ معه الثلث وهو الباقي، وهذا هو الغلام المبارك.(10/436)
ز ـ لو ترك الميت ثلاث بنات ابن بعضهن أعلى من بعض، أو بعضهن أسفل من بعض، وترك أيضاً ثلاث بنات ابن ابن ابن، بعضهن أسفل من بعض، بالصورة الآتية (1) : بأن يكون لرجل ثلاثة بنين، أما الفريق الأول فلأحدهم ابن وبنت، ولهذا الابن ابن وبنت، ولهذا الابن الثاني ابن وبنت. وأما الفريق الثاني فللابن ابن، ولابنه ابن وبنت، ولهذا الابن ابن وبنت، ولهذا ابن وبنت، وأما
الفريق الثالث فللابن ابن ولابنه ابن، ولهذا ابن وبنت، ولهذا الابن الأخير ابن وبنت، ولهذا ابن وبنت.
..........الفريق الأوّل...................الفريق الثّاني...................الفريق الثّالث....
................ابن..............................ابن...........................ابن........
.....ابن ـ بنت (2) ـ العليا.................ابن.............................ابن.........
.....ابن ـ بنت ـ الوسطى...........ابن ـ بنت ـ العليا..................ابن..........
.....ابن ـ بنت ـ السفلى...........ابن ـ بنت ـ الوسطى.........ابن ـ بنت ـ العليا
......................................ابن ـ بنت ـ السفلى........ابن ـ بنت ـ الوسطى
....................................................................ابن ـ بنت ـ السفلى
فتقوم العليا مقام البنت، ومن دونها مقام بنت الابن في الأحوال المقررة المذكورة، فتأخذ العليا النصف، وتأخذ الوسطى السدس تكملة الثلثين، وتسقط السفلى، إلا أن يكون معها ابن ابن في درجتها أو دونها، فيعصبها. وإن كان مع الوسطى ابن ابن في درجتها أو دونها، عصبها، وحجب من دونها من ذكر أو أنثى.
وإن كانت العليا اثنتين فأكثر، فلهما الثلثان، وتسقط الوسطى، ومن دونها، إلا إن كان معهن ذكر في درجتهن أو أسفل منهن.
وعلى هذا تأخذ العليا من الفريق الأول النصف؛ لأنها قامت مقام بنت الصلب عند عدمها.
وللوسطى من الفريق الأول مع من توازيها وهي العليا من الفريق الثاني السدس، تكملة للثلثين؛ لأن العليا من الفريق الأول، لما قامت مقام البنت الصلبية، قامت من دونها بدرجة واحدة مقام بنت الابن.
ولا شيء للسفليات: وهي الست الباقية من البنات التسع؛ لأنه قد كمل الثلثان لتلك الثلاث، فلم يبق للباقيات فرض، وليس لهن عصوبة قطعاً، فلا يرثن من التركة أصلاً إلا أن يكون معهن غلام، فيعصب من كانت معه بحذائه ومن كانت فوقه.
__________
(1) السراجية: ص37، القوانين الفقهية: ص389، مذكرات أستاذنا المرحوم الشيخ حسن الشطي القاضي الفرضي.
(2) تقرأ هكذا من اليسار إلى اليمين: بنت ابن.(10/437)
4 - أحوال الأخوات الشقيقات (أولاد الأعيان) :
للأخت الشقيقة خمس أحوال، منها الثلاث التي للبنات، وهي ما يأتي (1) :
الأولى ـ النصف: للواحدة إذا انفردت عمن يساويها وعمن يعصبها، أي إذا لم يكن معها أخ شقيق يعصبها، كزوج وشقيقة، لكل منهما النصف فرضاً.
الثانية ـ الثلثان: للاثنتين فصاعداً، عند عدم المعصب. فمن مات عن إخوة لأم وشقيقتين، للإخوة لأم الثلث، وللشقيقتين الثلثان. ومن مات عن أم وشقيقتين: للأم السدس فرضاً، وللأختين الثلثان، ثم يرد الباقي على الأم والأختين بنسبة سهام كل واحدة.
الثالثة ـ التعصيب بالغير: إذا كان مع الأخت الشقيقة فأكثر أخ شقيق فأكثر، فللذكر مثل حظ الأنثيين، كما في أخ شقيق وأخت شقيقة، تكون التركة بينهما، على أن للأخ ضعف الأخت.
الرابعة ـ التعصيب مع الغير: إذا كان مع الأخت فأكثر بنت أو بنت ابن، أو هما معاً واحدة فأكثر، ولم يكن مع الأخت أخ شقيق يعصبها. فيكون للأخت الشقيقة أو الأكثر الباقي بعد أنصباء أصحاب الفروض، ترثه بطريق التعصيب، عملاً بالقاعدة الشرعية: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة) (2) .
وقال الشيعة الإمامية: لا تصير الأخت عصبة مع البنت، ويرد الباقي على البنت إذا انفردت.
ففي بنت وأخت شقيقة: للبنت النصف فرضاً، والباقي للأخت تعصيباً.
وفي بنت وبنت ابن وأخت شقيقة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وللشقيقة الباقي تعصيباً.
وفي بنت وبنت ابن وزوج وأم وشقيقتين: لا شيء للشقيقتين إذا لم يبق شيء بعد الفروض، بل في المسألة عول، للزو ج الربع، وللأم السدس فرضاً، وللبنتين الثلثان فرضاً.
وفي بنتين وأختين شقيقتين: للبنتين الثلثان فرضاً، وللأختين الباقي تعصيباً.
وفي أختين شقيقتين وبنت ابن: لبنت الابن النصف فرضاً، وللأختين الباقي تعصيباً.
__________
(1) السراجية: ص 40، تبيين الحقائق: 236/6، القوانين الفقهية: ص 392، مغني المحتاج: 17/3 ومابعدها، المغني: 174/6.
(2) هذا ماقضى به عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما (نيل الأوطار: 58/6) وحديث ابن مسعود عن هُزَيْل بن شَرَحبيل رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي، وحديث معاذ عن الأسود رواه أبو داود والبخاري بمعناه. قال الشوكاني: وفيه دليل على أن الأخت مع البنت عصبة، تأخذ الباقي بعد فرضها إن لم يكن معها ابنة ابن كما في حديث معاذ، وتأخذ الباقي بعد فرضها وفرض بنت الابن كما في حديث هذيل، وهذا مجمع عليه.
[التعليق]
أولاد الأعيان: انظر هامش: 10/420
* أبو أكرم الحلبيّ(10/438)
وإذا كان في الورثة إخوة لأم أو أخوات لأم مع إخوة أشقاء، فهذه هي المسألة المشرَّكة: وهي زوج وأم وولدا أم وأخ شقيق، فيشارك الأخ ولدي الأم في الثلث كما تقدم. ولو كان بدل الشقيق أخ لأب سقط.
الخامسة ـ السقوط بالفرع الوارث المذكر وهو: الابن وابن الابن وإن نزل، وبالأب اتفاقاً وبالجد الصحيح عند أبي حنيفة، خلافاً للصاحبين والمذاهب الأخرى، وبه أخذ القانون في مصر وسورية.
والدليل قوله تعالى: {يستفتونك، قل الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك، ليس له ولد، وله أخت، فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/4] والكلالة كما عرفنا: أن يموت الرجل وليس له ولد ولا والد. وقد بينت الآية الكريمة الثلاثة الأولى، والحالة الخامسة، ففيها النص على فرضي النصف والثلثين، والتعصيب بالغير، والسقوط بالابن ويدخل تحته ابن الابن، والسقوط بالأب ومثله الجد عند أبي حنيفة، وهو يستفاد من قول تعالى: {ليس له ولد وله أخت} [النساء:176/4] ومن لفظ الكلالة.(10/439)
وأما الحالة الرابعة وهي تعصيب الأخوات مع البنات فمستفاد مما رواه الجماعة إلا النسائي عن هزيل بن شرحبيل أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت، فجعل للبنت: النصف، ولبنت الابن: السدس، وللأخت الباقي. والقاعدة المقررة: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة) .
ونص القانون المصري (م 13، 19، 20) والسوري (م 270، 277، 280) على أحوال الشقيقات.
ويلاحظ أن الأخوات من ذوي الفروض، وأما الإخوة فهم عصبات، ويطلق على الإخوة والأخوات: الحواشي فإذا انفردوا عن الإخوة لأب، ورثوا كأولاد الصلب: للذكر الواحد فأكثر كل المال، وللأنثى النصف، وللثنتين فصاعداً الثلثان، وعند اجتماع الصنفين: للذكر مثل حظ الأنثيين.
أمثلة:
أـ مات عن: أم وأخت شقيقة وزوجة: للأم الثلث، وللشقيقة النصف، وللزوجة الربع، من (12) وتعول إلى (13) .
ب ـ مات عن: ابن وأخت شقيقة وأب: للأب السدس، والباقي للابن، ولا شيء للشقيقة؛ لأنها محجوبة بالابن والأب.
جـ ـ ماتت عن: زوج، وأخت شقيقة، وجد وجدة: للزوج النصف، وتحجب الشقيقة بالجد على مذهب أبي حنيفة. وأما عند الجمهور (على رأي زيد) فيأخذ الجد الأفضل من المقاسمة وثلث الباقي والسدس، والأفضل له هنا المقاسمة، والمسألة من ستة، وتصحح من (18) ، للزوج (9) ، وللجدة (3) ، وللجد (4) ، وللشقيقة (2) للذكر مثل حظ الأنثيين.
د ـ مات عن: بنت وأخت شقيقة وأم: للأم السدس، وللبنت النصف، وللشقيقة الباقي تعصيباً مع البنت.
هـ ـ مات عن: بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أخ شقيق: للبنت: النصف، ولبنت الابن: السدس تكملة للثلثين، والباقي للأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.(10/440)
5 - أحوال الأخوات لأب (أولاد العَلاَّت) :
للأخوات لأب ستة أحوال، منها الخمسة التي للأخوات الشقيقات:
الأولى ـ النصف: للواحدة إذا انفردت عن مثلها، ولم يكن معها أخ لأب أو شقيقة، استدلالاً بنفس الآية السابقة في توريث الشقيقة، كما في: زوج، وأخت لأب: لكل منهما النصف.
الثانية ـ الثلثان: للاثنتين فأكثر عند عدم الأخ لأب، أو الأخوات الشقيقات، كما هو شأن الشقيقات. مثل: إخوة لأم، وأختين لأب، فللإخوة لأم: الثلث، وللأختين لأب: الثلثان.
الثالثة ـ السدس: للواحدة مع الشقيقة، تكملة للثلثين، إذا لم يكن مع الأخت لأب أخ لأب يعصبها، كما في زوجة، وشقيقة، وأخت لأب: للزوجة الربع، وللشقيقة النصف فرضاً، وللأخت لأب: السدس فرضاً، ويرد الباقي على الأختين.
الرابعة ـ التعصيب بالغير: إذا كان معها أخ لأب، كأخ لأب وأخت لأب، والعصبة: يأخذ ما أبقى ذوو الفرض، فإذا استغرقت الفروض جميع التركة، فلا شيء للأخ والأخت من الأب.
الخامسة ـ التعصيب مع الغير: وذلك مع البنت أو بنت الابن أو هما معاً، واحدة فأكثر. فتأخذ الباقي بعد هؤلاء، كبنت أو بنت ابن وأخت لأب. فلو ترك شخص بنتاً، وزوجة، وأماً وأختين لأب، كان للبنت النصف فرضاً، وللزوجة الثمن فرضاً، لوجود الفرع الوارث، وللأم السدس فرضاً لذلك ولوجود الأختين، وللأختين الباقي تعصيباً يقسم بينهما بالسوية.
السادسة ـ الحجب عن الميراث: تحجب الأخت لأب بما تحجب به الأخت الشقيقة، من وجود الفرع الوارث (الابن أو ابن الابن مهما نزل) وبالأب. وتزيد الأخت لأب بحجبها: بالأخ الشقيق: كزوج وأخ شقيق وأخت لأب.
وبالشقيقتين فأكثر: كزوج وشقيقتين وأخت لأب، إلا إذا كان مع الأخت لأب من يعصبها وهو الأخ لأب، فإذا كان معها ويسمى الأخ المبارك، فتأخذ معه ما بقي من أصحاب الفروض، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وبالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع غيرها: كبنت وشقيقة وأخت لأب.
__________
[التعليق]
أولاد العَلاَّت: انظر هامش: 10/420
* أبو أكرم الحلبيّ(10/441)
ولا تسقط الأخت لأب بالجد العصبي (الصحيح) خلافاً لأبي حنيفة. ودليل توريث الأخوات لأب: هو دليل توريث الأخوات الشقيقات في الحالات المشتركة بينهن؛ لأن المراد بقوله تعالى: {يستفتونك قل: الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت} [النساء:176/4] بالاتفاق هي الأخت الشقيقة أو لأب.
وأما سقوط الأخت لأب بالأخ الشقيق، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه» (1) وبنو الأعيان كما تقدم: هم الأشقاء، وبنو العلات: هم الإخوة والأخوات لأب.
ونص القانون المصري (م 13، 19، 20) والسوري (م 270، 277، 278) على الأحوال الستة للأخوات لأب.
أمثلة:
أـ مات شخص عن: أم، وبنت، وأخت شقيقة، وأخت لأب: للأم السدس، وللبنت النصف، وللشقيقة الباقي، ولا شيء للأخت لأب لسقوطها بالشقيقة المتعصبة بالبنت.
ب ـ مات عن: أختين شقيقتين، وأختين لأب، وأخ لأب: للشقيقتين الثلثان، وللأختين لأب والأخ لأب: الباقي؛ لأنهن صرن عصبة به.
جـ ـ مات عن: زوجة، وبنت، وأخت لأب: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، والباقي للأخت لأب؛ لأنها تصبح عصبة مع البنت.
د ـ ماتت امرأة عن: بنت، وأخ شقيق، وأخت لأب: للبنت النصف، والباقي للأخ الشقيق؛ لأنه عصبة، ولا شيء للأخت لأب؛ لأنها محجوبة به.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي عن علي رضي الله عنه.(10/442)
6 - أحوال الأخت لأم:
تقدم بيانها في أحوال أولاد الأم؛ لأن الأنثى والذكر سواء.
7 - أحوال الأم:
للأم أحوال ثلاثة (1) :
الأولى ـ السدس: عند وجود الفرع الوارث، مطلقاً ـ وهو الولد أو ولد الابن وإن سفل، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا، لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} [النساء:11/4] ولقوله سبحانه: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/4] .
الثانية: ثلث التركة كلها: عند عدم المذكورين في الحالة الأولى من الفرع الوارث والعدد من الإخوة ولم يكن مع الأبوين أحد الزوجين، لقوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [النساء:11/4] .
دلت الآية في الحالتين على فرض الأم مع وجود الولد وعند عدمه، وعند وجود الجمع من الإخوة، ويشمل ذلك الأخوات؛ لأن لفظ الإخوة يطلق حقيقة على الذكور، وبطريق التغليب على الذكور والإناث، وعد د الاثنين في الميراث في حكم الجمع بإجماع الصحابة، وكما في ميراث الأخوين لأم، حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» (2) . ولم ينص في الآية على حكم الأم مع الأب وأحد الزوجين، فاختلف فيه الصحابة كما يأتي:
الثالثة - ثلث الباقي إذا كان مع الأبوين أحد الزوجين، وهي المسألة العمرية أو الغراء، كما في زوج وأب وأم، أو زوجة وأب وأم، ففي الأولى للزوج النصف ثلاثة من ستة وللأب الباقي تعصيباً، وللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج، وهو سهم من ستة. وفي الثانية للزوجة الربع من 12 لعدم الفرع الوارث وللأب الباقي تعصيباً وهو ستة، وللأم ثلث الباقي وهو ثلاثة أسهم.
ولو كان مكان الأب جد، فللأم ثلث جميع المال، وهي إحدى المسائل التي يخالف فيها الجد الأب.
وتسمى هاتان المسألتان بالغراوين تثنية الغراء، تشبيهاً لهما بالكوكب الأغر لشهرتهما، وبالعمريتين لقضاء عمر رضي الله عنه فيهما بذلك.
__________
(1) السراجية: ص44-48، تبيين الحقائق: 231/6، الشرح الصغير: 622/4ومابعدها، مغني المحتاج: 15/3، الرحبية: ص30-31، المغني: 176/6، القوانين الفقهية: ص389.
(2) رواه ابن ماجه وابن عدي عن أبي موسى، ورواه أحمد والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة، ورواه الدارقطني عن ابن عمرو، بلفظ «اثنان..» .(10/443)
والدليل:
1ً - قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء:11/4] إذ يجب أن يكون المراد بالثلث فيه ثلث مايستحقه الأبوان، لا ثلث جميع المال، لئلا يكون قوله: {وورثه أبواه} [النساء:11/4] خالياً عن الفائدة، وثلث مايستحقانه هنا هو ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين.
2ً - لو أخذت الأم هنا ثلث جميع المال، لكان لها ضعف الأب، إن كان معهما زوج، أو قريب من نصيبه لو كان معهما زوجة، وهذا لايتفق مع النص الذي يقتضي أن يكون للأنثى نصف الذكر.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للأم في مسألة الغراوين ثلث التركة، لظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد، وورثه أبواه، فلأمه الثلث} [النساء:11/4] إذ يجب أن يكون المراد بالثلث فيه ثلث جميع التركة؛ لأن السدس منسوب إلى الكل، ولا فرض إلا بنص. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والأم ههنا ذات فرض مسمى، والأب عاصب بنفسه، فوجب أن تأخذ فرضها كاملاً، ويكون الباقي للأب قل أو كثر.
وأجاب الجمهور: بأن معنى الآية: وورثه أبواه خاصة، وعن الحديث بأن العصوبة لم تتمحض في الأب.
ونص القانون المصري (م14) والسوري (م271) على أحوال الأم الثلاثة، وأخذ برأي الجمهور في مسألتي الغراوين.(10/444)
8 - أحوال الجدة:
الجدة: هي التي لايدخل في نسبتها إلى الميت جد رحمي، وهي أم أحد الأبوين، كأم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وأم أم الأم، وأم أم الأب. وتسمى بالجدة الصحيحة أو الثابتة. ويقابلها الجدة الرحمية أو الفاسدة: وهي التي يدخل في نسبتها إلى الميت جد رحمي كأم أبي الأم وأم أبي أم الأب، وهذه ليست من ذوات الفروض، وإنما هي من ذوات الأرحام. والجدة للأب أو الجدة للأم لها حالتان (1) :
الأولى - السدس للواحدة فأكثر عند عدم الأم، سواء من أي جهة كانت، أبوية أو أمية أو من جهتهما (ذات قرابتين) إذا كن في حالة التعدد متحاذيات (متساويات) في الدرجة كأم أم، مع أم أب، فإنهما يقتسمان السدس بالسوية بينهما.
فإن كن متفاوتات في الدرجة، فالقربى تحجب البعدى.
الثانية - الحجب أو السقوط: تحجب الجدة مطلقاً (أبوية أو أمية أو من جهتهما ذات قرابتين) بالأم، وتحجب الجدة الأبوية بالأب. فمتى وجدت الأم فلا ترث واحدة من الجدات شيئاً، ومتى وجد الأب لاترث الأبوية، وكذلك لاترث الأبوية مع الجد إذا أدلت به كأم أبي الأب وإن لم تُدْل به فلا يحجبها وإن علت كأم أم الأب، فإنها ليست من قبله، بل هي زوجته أو أم زوجته.
وأما الجدة الأمية: فلا تسقط بالأب، فلو توفي عن أب، وأم أم، ورثت معه السدس؛ لأنها لم تنتسب به.
والجدة ذات القرابتين: أن تزوج امرأة ابن ابنها بنت ابنها، فيلد منهما ولد، فهذه المرأة جدة لهذا الولد من جهة أبيه؛ لأنها أم أب أبيه، وهي جدة له من جهة أمه؛ لأنها أم أم أبيه. وذات القرابة الواحدة هي المحاذية لهذه الجدة، وهي أم أم أب الولد.
والسبب في حجب الجدة مطلقاً بالأم، وأنه لم تحجب بالأب إلا الأبويات:
__________
(1) السراجية: ص 48 - 51، تبيين الحقائق: 231/6، الشرح الصغير: 625/4، مغني المحتاج: 16/3، المغني: 206/6-212.(10/445)
هو أن كلاً من اتحاد السبب والإدلاء له تأثير في الحجب، فأم الأب تحجب بالأب للإدلاء فقط، وتحجب بالأم لاتحاد السبب وهو الأمومة. وأما أم الأم فترث مع الأب، لانعدام كل من الإدلاء واتحاد السبب، وتحجب بالأم لوجود كلا الأمرين، فالملاحظ دائماً في الحجب أحد أمرين: الإدلاء أو اتحاد السبب.
والدليل على إرث الجدة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس (1) ، وأنه قضى للجدتين من الميراث بالسدس (2) ، وأنه جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم (3) ، وأنه أعطى ثلاث جدات السدس، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قِبَل الأم (4) ، وجعل أبو بكر السدس للجدة من قبل الأم (4) .
معرفة الجدة الوارثة: وأما طريق معرفة الجدة الوارثة عند تعدد الجدات: فهو أنه إذا اجتمع جدات، فالوارث منهن من قبل الأم واحدة أبداً؛ لأنه متى تخللهن أب يكون فاسداً، وإنما يقع التعدد في التي من قبل الأب، ويتعدد ذلك بتعدد الدرجة، ففي الدرجة الثانية للجدودة يرث من الميث اثنتان أبويتان إذ يصبح لكل أب وأم أب وأم، وفي الدرجة الثالثة، أي التي تبعد عن الميت بثلاث درجات يرث منه ثلاث أبويات، وفي الرابعة أربعة، وفي الخامسة خمس، وهكذا في كل درجة لاتزيد إلا وارثة واحدة، والجدة القربى من أي جهة كانت تحجب البُعْدى من أي جهة كانت. فأم الأب تحجب أم أم الأم، وأم أب الأب، وأم أم الأب؛ لأنها أقرب منهن درجة، فتقدم عليهن في الإرث.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي عن قبيصة بن ذؤيب، وصححه الترمذي.
(2) رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت.
(3) رواه الدارقطني مرسلاً عن عبد الرحمن بن يزيد.
(4) رواه مالك في الموطأ عن القاسم بن محمد (راجع الكل في نيل الأوطار: 59/6) .(10/446)
وأم الأم تحجب أم أب الأب، وأم أم الأب، وأم أم الأم وهكذا؛ لأنها أقرب منهن درجة.
ويعرف عدد الجدات الوارثات: بأن تذكر بمقدار العدد الذي تريده بلفظ (أم) ثم تبدل الأم الأخيرة من طرف الميت بأب، في كل مرتبة إلى أن يبقى أم واحدة، فلو سئل إنسان عن أربع جدات وارثات مثلاً، قال: أم أم أم أم، أم أم أم أب، أم أم أب أب، أم أب أب أب، فالأولى أمية، والباقي أبويات.
ونص القانون المصري (م14) والسوري (م272) على حالات الجدة.
أمثلة:
أ - مات شخص عن: أم، أم أم، أب: للأم الثلث، ولا شيء لأم الأم؛ لأنها محجوبة بالأم، وللأب الباقي.
ب - مات عن: أب أب، أب أم، أم أب الأب: المال كله لأبي الأب، ولاشيء لأبي الأم؛ لأنه جد رحمي، ولا لأم أبي الأب؛ لأنها محجوبة بأبي الأب.
جـ - مات عن أربع جدات: وهن أم أم أم، وأم أم أب، وأم أب أب، وأم أبي الأم، وعم: ترث الجدات الثلاث الأوائل السدس مشتركاً بينهن، ولا شيء للجدة الرابعة؛ لأنها جدة رحمية (فاسدة غير صحيحة) أدلت إلى الميت بجد رحمي (فاسد) والباقي للعم؛ لأنه عصبة.
أمثلة عامة مع حلها وتعليلها:
1 - ماتت امرأة، وتركت: زوجاً، وأختاً شقيقة، وأخاً لأب. للزوج النصف، وللأخت النصف، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه عصبة لم يبق له شيء.
2 - مات رجل وترك: ابناً، وزوجة، وأباً، وأماً: للزوجة الثمن، وللأب السدس، وللأم السدس، والباقي 24/13 للابن؛ لأنه عصبة.
3 - ماتت امرأة عن زوج وأب وأم وابن: للزوج الربع هنا بسبب الابن، وللأب السدس، وللأم السدس، والباقي 12/5 للابن العاصب النسبي.
4 - ماتت امرأة عن ابنين، وزوج، وأب، وجدة أم أم: للزوج الربع، ولكل من الأب والجدة السدس، والباقي 24/10 للابنين لكل منهما: 5.(10/447)
5 - مات رجل عن: زوجة، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن، وأم: للزوجة الثمن، وللبنت النصف، ولبنت الابن: السدس تكملة الثلثين، وللأم السدس، والباقي 24/1 لابن ابن الابن.
6 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وبنتين، وابن ابن ابن: للزوجة الثمن بسبب البنتين، وللأب السدس، وللبنتين الثلثان، والباقي 24/1 لابن ابن الابن تعصيباً.
7 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وأم، وبنتين: للزوجة الثمن، وللبنتين الثلثان، وللأم السدس، وللأب السدس فرضاً، ولاشيء له يأخذه تعصيباً، وتعول المسألة من (24 إلى 27) .
8 - ماتت امرأة عن أب وبنتين وزوج:
للزوج الربع، وللبنتين الثلثان، وللأب السدس، ولاشيء له يأخذه تعصيباً، وتعول المسألة من (24 إلى 27) .
9 - مات رجل عن: زوجة، وأب، وبنت، وبنت ابن، وابن ابن: للزوجة الثمن، وللأب السدس، وللبنت النصف، والباقي 24/5 لبنت الابن وابن الابن؛ لأنهما عصبة بالغير، فتأخذ بنت الابن 72/5، وابن الابن 72/10.
10 - ماتت امرأة عن: زوج وبنت ابن: للزوج الربع فرضاً، ولبنت الابن النصف فرضاً، والباقي وهوالربع بالرد.
11 - ماتت امرأة عن: زوج، وبنت ابن، وشقيقة، وأم: للزوج الربع فرضاً، وللأم السدس فرضاً، والباقي 12/1 للشقيقة مع بنت الابن عصبة مع الغير.
12 - ماتت امرأة عن: زوج، وأخت شقيقة، وأخت لأب، وأخت لأم: للزوجة النصف فرضاً، وللأخت لأم السدس فرضاً، وللشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس، تكملة الثلثين، وتعول المسألة من (6 إلى 8) .
13 - مات رجل عن: زوجة، وأخت شقيقة، وأم: الجميع من أصحاب الفروض، فللزوجة الربع، وللشقيقة النصف، وللأم الثلث؛ إذ ليس معها فرع وارث للميت، ولا اثنان من الإخوة والأخوات، وتعول المسألة من (12 إلى 13) .(10/448)
الفَصْلُ التَّاسع: العصبات:
تعريف العصبة، وتقسيم العصبات، وأنواعها، وحكم إرث كل نوع (1) .
العصبات جمع عصبة، وهو الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أنثى، فعصبة الرجل: أبوه وبنوه وقرابته لأبيه. وسموا عصبة؛ لأنهم يحيطون بالإنسان القريب ويذودون عنه.
وقد استعمل الفقهاء لفظ (العصبة) في الواحد؛ لأنه يقوم مقام الجماعة في إحراز جميع المال، مع أن الأصل في لفظ العصبة جمع. وقالوا في مصدرها: العصوبة.
والذكر يعصِّب الأنثى، أي يجعلها عصبة، ويطلق العصبة على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ويجمع على عصبات.
والعصبة في علم الميراث: كل من يحوز التركة إذا انفرد بها، أو يحوز ما أبقاه أصحاب الفرائض، وإذا لم يبق عنهم شيء، فلا يرث شيئاً. فهم في المرتبة بعد أصحاب الفرائض.
وبإيجاز: العصبة في عرف الفرضيين: من لم يكن له نصيب مقدر.
وحكمه: أن يأخذ ما أبقت الفروض، ويستقل بالكل إذا انفرد.
تقسيم العصبة:
تنقسم العصبة إلى قسمين: عصبة نسبية، وعصبة سببية.
1 ً - العصبة السببية: هي عصبة المعتق لمن أعتقه، ثم عصبته على ترتيب العصبة بالنفس الآتي. فهو أي مولى العتاقة يرث من أعتقه إن لم يكن له وارث صاحب فرض ولا عصبة نسبية، فهي قرابة حكمية، سببها العتق لإنعام السيد على العبد. ولا داعي لبحث هذا النوع لعدم وجود الرقيق، ويحتاج إليه المتخصص فقط.
__________
(1) السراجية: ص 70-82، تبيين الحقائق: 237/6 ومابعدها، اللباب: 193/4 ومابعدها، الشرح الصغير: 625/4-631، مغني المحتاج: 17/3-20، الرحبية: ص 38، المغني: 168/6، 175، 182، الدرا لمختار:546/5-550، كشاف القناع: 470/4-476.(10/449)
وترتيب عصبة المعتق هو أن ابن المعتق أولى عصباته، ثم ابن ابنه، وإن سفل، ثم أبوه، ثم جده وإن علا، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لُحْمة كلُحمة النَّسَب» (1) لأن المعتِق سبب لإحياء المعتَق، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، كما أن الأب سبب لإيجاد الولد، باعتبار أن الحرية حياة الإنسان، لإثبات صفة المالكية له، والرق تلف وهلاك، وكما أن الولد يصير منسوباً لأبيه، كذلك المعتَق يصير منسوباً إلى معتقه بالولاء، وبما أن الإرث بالنسب، فكذلك يثبت بالولاء. وذلك في حدود المعتق وعصبته، فالشرع جعل صلة المعتق بعتيقه في حكم صلة القريب بقريبه، فيرث منه جميع المال إذا انفرد، والباقي بعد أصحاب الفروض إذا وجدوا.
ولا شيء للإناث من ورثة المعتِق، إلا بسبب ولاء عتيقهن، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس للنساء من الوَلاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن ... » (2) .
وذكر سابقاً دليل الإرث بسبب العتق، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الولاء لمن أعتق» .
ومرتبة العصبة السببية بعد مرتبة العصبة النسبية، وقبل مرتبة الرد على ذوي الفروض، وإرث ذوي الأرحام.
وروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة والتابعين أن إرث العصبة السببية مؤخر عن إرث ذوي الأرحام.
وأخذ القانون المصري بمذهب ابن مسعود ومن معه، فأصبح العاصب السببي لا يرث، إلا إذا لم يوجد للمتوفى وارث أصلاً بالقرابة أو الزوجية.
__________
(1) رواه الطبري عن عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وتتمته: «لا يباع ولا يوهب» وهوصحيح.
(2) أخرج ابن أبي شيبةوعبد الرزاق والدارمي والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال: «ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن» (نيل الأوطار: 69/6) وقال في الدر المختار (550/5) عن حديث «ليس للنساء ... » : وهو وإن كان فيه شذوذ (انفراد راو به) لكنه تأيد بكلام كبار الصحابة، فصار بمنزلة المشهور.(10/450)
2 ً - العصبة النسبية وأنواعها وحكم كل نوع:
تعريف العصبة النسبية: هم أقارب الميت الذكور، الذين لا تتوسط بينهم وبين الميت أنثى، كالابن والأب والأخ والعم، والبنت بأخيها، والأخت مع البنت. وهم يرثون ما أبقى ذوو الفروض، فإن تخللت أنثى في النسبة إلى الميت، كان الشخص من ذوي الأرحام كأبي الأم، وابن البنت، أو من ذوي الفروض كالأخ لأم.
ودليل توريثهم: قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11/4] ثم بين نصيب الأب والأم، فدل على أن الأولاد يأخذون الباقي بعد نصيب الأب والأم.
ودل قوله سبحانه: {وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:176/4] على أن جهة الأخوة من جهات العصبة النسبية.
ودلت الآيتان أيضاً على أن الأنثى صاحبة الفرض تصبح عصبة بأخيها، احتفاظاً بمبدأ كون حصة الذكر ضعف الأنثى.
وصرحت السنة بإثبات التعصيب لكل قريب من الرجال يتصل بالميت عن طريق الرجال، في قوله عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر» والمراد أولوية القرابة.(10/451)
أنواعها: تنقسم العصبة النسبية إلى ثلاثة أنواع:
1 - العصبة بالنفس:
وهي كل ذكر قريب للمتوفى، لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى. وهم أربع جهات مقدم بعضها على بعض، ينحصرون في اثني عشر نفساً، على الترتيب التالي عند الإمام أبي حنيفة:
أـ جهة البنوة: وهي جزء الميت، من الابن وابن الابن مهما نزل.
ب ـ جهة الأبوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب.
ج ـ جهة الأخوة: وهي جزء أبي الميت، من الأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب.
د ـ جهة العمومة: وهي جزء جد الميت، من العم الشقيق ثم لأب، وبعدهما ابن العم الشقيق ثم لأب مهما نزل درجة بعد درجة، ثم عم أبيه الشقيق أو لأب، أو ابن عم أبيه الشقيق أو ابن عم أبيه لأب، ثم عم الجد، ثم ابنه. ويقدم القريب على البعيد.
وتقدم جهة البنوة على جهة الأبوة، وجهة الأبوة على جهة الأخوة، وهذه تقدم على جهة العمومة.
والترجيح يكون أولاً بالجهة، ثم بقرب الدرجة، ثم بقوة القرابة، قال العلامة الجعبري:
فبالجهة التقديم، ثم بقربه..... ..... وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
أي أن التقديم يكون بالجهة أولاً من الجهات السابقة، ثم بالقرب إلى الميت، ثم بالقوة أي الشقيق مقدم على الذي لأب.
أولاً ـ الترجيح بالجهة: يرجح أولاً بالجهة، فإذا كان بعض العصبة من جهة البنوة، والآخر من جهة الأبوة، فتقدم الأولى على الثانية، أي جهة الفرع مقدمة على جهة الأصل، وهذه مقدمة على جهة الأخوة، وهذه مقدمة على جهة العمومة.
فابن الميت وابن ابنه وإن نزل مقدمان في الميراث بالعصوبة على أصوله، والأصول مقدمون على الإخوة وبينهم، وهؤلاء مقدمون على الأعمام وبنيهم.
فلو ترك الميت ابناً وأباً، أو ترك أباً وأخاً، أو ترك أخاً وعماً، قدم الابن فأخذ الباقي بالعصوبة، وأخذ الأب فرضه وهو السدس فقط. وفي المثال الثاني: المال كله للأب بالتعصيب، ولا شيء للأخ. وفي المثال الثالث: المال كله للأخ تعصيباً، ولاشيء للعم.(10/452)
والسبب في تقدم البنين على الأب: هو أن فرع الإنسان أشد اتصالاً به من أصوله، ولقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك، إن كان له ولد} [النساء:11/4] فإنه جعل الأب صاحب فرض، والولد عصبة.
وقدم بنو البنين وإن نزلوا على الأب؛ لأنهم من جهة البنوة وهي مقدمة على الأبوة.
والأصول أقرب الى الإنسان من الإخوة، إذ الأصول واسطة في صلة الأخوة، فقدموا عليهم في الإرث.
ثانياً ـ الترجيح بقرب الدرجة إلى الميت: ثم يرجح بقرب الدرجة، فمن كان أقرب درجة، قدم على غيره، فيقدم الابن على ابن الابن، والأب على الجد، والأخ على ابن الأخ، والعم على ابن العم، وعم الميت على عم أبيه. ولا اعتبار حينئذ لقوة القرابة، فالأخ لأب يحجب ابن الأخ الشقيق، والعم لأب يحجب ابن العم الشقيق.
ثالثاً ـ الترجيح بقوة القرابة: ثم يرجح بقوة القرابة من المتوفى إذا اتحدت الدرجة، فيقدم ذو القرابتين على ذي القرابة الواحدة، كالأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق يقدم على ابن الأخ لأب، والعم لأبوين على العم لأب، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب، وهكذا الحال في عم أبيه وعم جده.
فإذا استوى العصبات في الجهة والدرجة وقوة القرابة، استحق الجميع على السواء، فلو ترك ابن أخ وعشرة بني أخ آخر، قسم المال بينهم باعتبار رؤوسهم لا أحوالهم.
ترتيب العصبات عند الجمهور: كان الترتيب السابق مذهب أبي حنيفة، أما الجمهور (وهم الأئمة الثلاثة والصاحبان) وبه أخذ القانون في مصر وسورية، فاعتبروا الجد مع الإخوة في منزلة واحدة من العصوبة، إذ أن الإخوة الأشقاء لايحجبهم من الأصول غير الأب عندهم.
ويكون ترتيب العصبات عندهم بحسب الآتي:
1 - جهة البنوة أو جزء الميت: وهم البنون وأبناؤهم وإن نزلوا.
2 - جهة الأبوة أو أصل الميت: وهي قاصرة على الأب فقط.
3 - الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب، دون أبنائهم.
4 - أبناء الإخوة الذكور الأشقاء أو لأب، مهما نزلوا.
5 - جهة العمومة: وتشمل كما تقدم أعمام الميت وأعمام أبيه وجده، مهما علوا، وبنوهم.(10/453)
2 - العصبة بالغير:
هي كل أنثى لها فرض مقدر وجد معها ذكر من درجتها، فتصير به عصبة. ولا يكون هذا النوع إلا فيمن فرضه النصف عند الانفراد والثلثان عند التعدد، وهي أربعة فقط:
(1) البنت الواحدة فأكثر مع الابن من درجتها. أما مع ابن الابن فتكون ذات فرض.
(2) بنت الابن الواحدة فأكثر مع ابن الابن من درجتها، سواء أكان أخاها أو ابن عمها، وكذا مع ابن ابن الابن أنزل منها، تتعصب به إذا احتاجت إليه بأن لم يكن لها شيء من الثلثين، ولو كان أدنى منها درجة، حتى لاتحرم من الميراث، وتأخذه من هي أدنى منها. فإن لم تحتج إليه كبنت وبنت ابن فلا يعصبها. وإذا كان ابن الابن أعلى درجة من بنت الابن فيحجبها، كبنت ابن ابن مع ابن ابن.
(3) الأخت الشقيقة بشقيقها. فإن كان معها أخ لأب فلها النصف فرضاً، وللأكثر الثلثان.
(4) الأخت لأب مع الأخ لأب، سواء أكان شقيقاً لها أم لا. أما الأنثى التي لافرض لها وأخوها عصبة كالعمة مع العم، وبنت العم مع ابن العم، وبنت الأخ مع ابن الأخ، فلا تكون عصبة بأخيها؛ لأنها ليست صاحبة فرض.
3 - العصبة مع الغير:
هي كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع أنثى أخرى، ولها حالتان فقط:
(1) الأخت الشقيقة واحدة فأكثر، مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن. (2) الأخت لأب واحدة فأكثر، كذلك مع بنت أو بنات، أو بنت ابن أو بنات ابن، فالباقي عن البنت أو البنات أو بنت الابن أو بنات الابن، للأخت أو للأخوات بالتعصيب معهن، للقاعدة السابقة: (اجعلوا البنات مع الأخوات عصبة) ولقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم للأخت مع البنت وبنت الابن بما بقي.
وتصبح الأخت الشقيقة التي تصير عصبة مع البنت أو بنت الابن، كأخ شقيق، فتحجب الإخوة لأب مطلقاً.(10/454)
وتصبح الأخت لأب التي تصير عصبة مع الغير، أي مع البنت أو بنت الابن كأخ لأب، فتحجب ابن الأخ الشقيق، فمن بعده.
أما إن كان مع الأخت أخوها، فتصير عصبة بالغير، لا مع الغير، كما بينت، ويكون الباقي بينها وبينه للذكر مثل حظ الأنثيين.
مثال الحالة الأولى: بنت، بنت ابن، أخت شقيقة، أخ لأب: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وللأخت الباقي، ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه محجوب بالشقيقة حيث صارت عصبة مع البنت وبنت الابن.
وأما القانون المصري (م16-22) والسوري (م274-280) فنصا على أنواع العصبة بالنفس، وطريق الترجيح، وأحوال الجد مع الإخوة على النحو السابق المقرر فقهاً.
أمثلة:
1 - مات عن: أب وابن وبنت وأخت شقيقة: للأب السدس فقط، ولا شيء له تعصيباً، لوجود الابن، وللابن والبنت للذكر ضعف الأنثى، ولا شيء للشقيقة لسقوطها بالابن وبالأب. 2 - مات عن: جد، وبنت، وأخ شقيق: للبنت النصف، والباقي للأخ والجد.
3 - ماتت عن: زوج، وأخ لأم، وأخ شقيق، وأخت شقيقة: للزوج النصف، وللأخ لأم السدس، والباقي بين الأخ والأخت للذكر ضعف الأنثى.
4 - مات عن: بنت، بنت ابن، ابن ابن، ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن مع ابن الابن الباقي، ولا شيء للأخير.
5 - مات عن: بنت ابن، أخت لأب، عمة: لبنت الابن النصف، وللأخت لأب الباقي تعصيباً مع ابنة الابن، ولا شيء للعمة.
6 - زوج وبنت ابن وأخت شقيقه وجدة: للزوج الربع، ولبنت الابن النصف، وللجدة السدس من (12) ، وللشقيقة الباقي؛ لأنها عصبة مع بنت الابن.
7 - مات عن: بنت، وأخت لأب وأخ لأب، وزوجة: للبنت النصف، وللزوجة الثمن، وللأخت لأب والأخ لأب الباقي عصبة بالغير.
8 - مات عن: بنتين، وبنتي ابن، وبنت ابن، وابن ابن، وبنت ابن ابن، وأب: للبنتين الثلثان، وللأب السدس، ولبنتي الابن مع ابن الابن الباقي تعصيباً، ولا شيء لبنت ابن الابن لحجبها بابن الابن.
9 - مات عن: بنت، وبنت ابن وأخت شقيقة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللشقيقة الباقي عصبة مع الغير.
10 - زوج، شقيقة، وأخت لأب، وأخ لأب: للزوج النصف، وللشقيقة النصف، والأخيران عصبة، لاشيء لهما إذ لم يبق لهما شيء، ولولا الأخ لأخذت الأخت السدس. 11 - بنت، وبنت ابن، وابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخير عصبة، لاستغناء بنت الابن عنه.
12 - بنت، بنت ابن، بنت ابن ابن، ابن ابن ابن ابن: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخيرين عصبة، لاحتياجها إليه.
13 - زوج، وأم، وأخ لأم، وشقيقة، وشقيق: للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ لأم السدس، والباقي للأخيرين عصبة.
14 - زوج، بنت، جدة، أخت لأب: للزوج الربع، وللبنت النصف، وللجدة السدس، والباقي للأخت لأب تعصيباً.(10/455)
الفَصْلُ العاشر: المسائل الشّواذ:
هناك مسائل شاذة مستثناة من القواعد العامة للميراث، أهمها مايأتي: المنبرية، والغراوان، والخرقاء، والأكدرية، والمالكية وأختها، والمشرَّكة (1) ، أوضحها هنا بنحو مستقل لتسهيل الرجوع إليها، وإن أشير إليها في مواضع أخرى، علماً بأن حديث المشتركة أخرجه البيهقي عن زيد بن ثابت، وحديث الحمارية أخرجه الحاكم والبيهقي عن زيد، وحديث الخرقاء أخرجه البيهقي أيضاً، وحديث الأكدرية أخرجه البيهقي أيضا ً، وحديث المنبرية أخرجه البيهقي كذلك عن علي (2) .
1 - المنبرية:
هي مسألة من مسائل العول، تعول فيها الـ (24 إلى 27) عند اجتماع الثمن والسدس، كما في زوجة وبنتين وأم وأب: للزوجة الـ 8/1، وللبنتين الـ 3/2، وللأم الـ 6/1، وللأب الـ 6/1، تكون المسألة من 24، وتعول إلى 27. وتسمى المنبرية؛ لأن علياً رضي الله عنه أفتى فيها وهو على المنبر.
__________
(1) السراجية: ص 46، 153، القوانين الفقهية: ص 389-393، 397، الشرح الصغير: 623/4، 638، الشرح الكبير: 462/4، مغني المحتاج: 15/3، 17، 23، الرحبية: ص 33، 47، 52، 59، 60، المغني: 179/6-180، 223، 226، كشاف القناع: 475/4 وما بعدها، غاية المنتهى: 387/2.
(2) نصب الراية: 429/4.(10/456)