أقاموا فيكم الصلاة. وقال: «إلا أن تروا كفراً بواحاً ـ أي ظاهراً ـ عندكم من الله فيه برهان» (1) .وقال المعتزلة والخوارج والزيدية وكثيرمن المرجئة: الخروج واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغي ونقيم الحق، عملاً بقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/5] وقوله: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:49/9] وقوله: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة:124/2] .
وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: السيف واجب إذا اتفق على إمام عادل يخرجون معه لإزالة أهل البغي (2) .
وقال ابن حزم بجواز الخروج؛ لأن الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر؛ لأن هذه الأحاديث وردت في مبدأ الإسلام، ولأن الدليل المحرم يقدم على المبيح عند تعارضهما، ولقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/94] ولأنه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصيته، ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد (3) .
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/2 والحديث باللفظ الأول رواه أحمد ومسلم، والثاني رواه البخاري (نيل الأوطار: 172/6) .
(2) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 445/2 وما بعدها.
(3) الفصل في الملل والنحل لابن حزم: 171/4 ومابعدها، والحديث رواه أحمد وابن حبان وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد بلفظ: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وروى النسائي والضياء عن سويد بن مقرن: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» .(8/318)
ورجح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لأن الأمة الإسلامية موصوفة بأنها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، ترفض الظلم، وتقيم شعائر الله، ولكن بشرط واحد وهو أن يقدر تمام التقدير من يرى وجوب الخروج بالقوة على خليفة يستحق العزل شرعاً ضرورة صيانة وحدة الأمة التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كله، وضرورة تجنيبها الفتنة وإراقة الدماء بلا ضرورة (1) . وهذا الرأي قريب من رأي المعتزلة الذين يوجبون الخروج على السلطان عند القدرة والإمكان (2) .
2 - مناصرة الإمام ومؤازرته:
على المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والازدهار في جميع المجالات الخارجية بالجهاد في المال والنفس، والداخلية، بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية والأخلاقية والاجتماعية، وإقامة المجتمع الخيِّر، وتنفيذ القوانين والأحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (3) ، وتقديم النصيحة، وبذل الجهد بتقديم الآراء والأفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم، وتوعية الناس والدعوة لها في السلم والحرب.
ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام الأساسية المقررة بالتضامن بين الحكومة والأفراد؛ لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم كل ما يخالف الإسلام، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/3] وقال تعالى في شأن اليهود بسبب عدم النهي عن المنكر: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/5] .
وجعلت سمة المؤمنين الاجتماعية هي القيام بهذا الواجب في قوله سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر} [التوبة:71/9] .
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 158 وما بعدها.
(2) مقالات الإسلاميين: 466/2.
(3) انظر الأحكام السلطانية للماوردي: ص 236-249 لتفصيل كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقوق الله (المجتمع) وحقوق الأشخاص.(8/319)
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة بهذا المعنى، من أهمها المبدأ العام وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ... » (1) الحديث. وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، أو ليوشكن الله يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعو الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم..» (3) .
__________
(1) رواه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(3) رواه الأصبهاني، عن ابن عمر (الترغيب والترهيب، 230/3) .(8/320)
المبحث الثامن ـ حدود سلطات الإمام وقواعد نظام الحكم في الإسلام:
تتحدد سلطات الخليفة ضمن الإطار العام لدولة الإسلام، وهو أنها دولة ذات فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية (1) ، وأساس فكرتها مبادئ وغايات واضحة محددة (2) ، تقوم على أساس الإيمان بالله تعالى، وتنظر إلى الكون والحياة والإنسان على هدي هذا الإيمان، وتنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لا تتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين، إلا عند الضرورة، وسيراً على منهاج مرحلي تدريجي يوصل إلى الغاية الكبرى، وهو وحدة المسلمين.
وما على الإنسان أو الخليفة إلا أن يعمل في ضوء كونه مستخلفاً في هذه الدنيا بأمانة الله على الأرض، لقوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام:165/6] .
وبما أن نظر الإنسان محدود، لا يمكنه الإحاطة بطبائع الأشياء ومقتضيات التشريع العامة، كان عليه التزام التشريع الإلهي الشامل الكامل.
وتشريع الإله لا يميز بين صاحب السلطة وأفراد الرعية، فكل منهم له الحق في الاستمتاع بحريته واحترام كرامته الإنسانية، وإنصافه من غيره، ومطالبته بإقامة العدل ومراعاة مبدأ المساواة.
ومن هنا تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في الإسلام بالأسس الآتية (3) :
أولاً ـ يخضع الخليفة للتشريع الإسلامي، ويطالب بتنفيذ أحكامه، وإصدار القوانين التنظيمية طبقاً لمبادئه وقواعده، وليس له أية حصانة في هذا الشأن من دون بقية المسلمين. قال أبو بكر وتبعه من بعده من الراشدين في أول خطبة سياسية له بعد تولي الخلافة: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ... » .
ثانياً ـ ليس للحاكم التشريع؛ لأن التشريع في الإسلام كما بان سابقاً لله ورسوله. ودور الخليفة مع أولي الحل والعقد هو مجرد الاجتهاد في نطاق القرآن والسنة. فلا يستمد المجتهدون سلطتهم من الخليفة، وإنما من مؤهلاتهم الذاتية. وفي هذا أكبر ضمان لشرعية الدولة؛ إذ المسلَّم به أن النظم الاستبدادية تقوم على أساس أن إرادة الدولة هي القانون.
ثالثاً ـ يلتزم الحاكم وأعوانه بقواعد نظام الحكم الإسلامي ومبادئه العامة التي حددها القرآن والسنة، ولم يفصل في شأنها مراعاة لظروف ومقتضيات التطور، وضماناً لقدسية المبدأ بحيث لا يقبل التغير وهذه القواعد هي:
1 - الشورى:
إن نظام الحكم الإسلامي نظام شوري، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/42] وورد في السنة النبوية القولية والعملية ما يوجب المشاورة، مثل: «استعينوا على
__________
(1) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.
(3) راجع السلطات الثلاث للطماوي: ص 281 وما بعدها، النظريات السياسية للريس: ص280 وما بعدها، بحث الدولة الإسلامية للموسوعة الفقهية للمؤلف والآتي بيانه.(8/321)
أموركم بالمشاورة» (1) «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» (2) «المستشار مؤتمن» (3) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «لم يكن أحد أكثر مشورة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (4) وقد استشار النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه في وقائع كثيرة، تطييباً لنفوس أصحابه ولرفع أقدارهم، قائلاً: أشيروا علي أيها الناس. مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه للقتال، ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيارالمكان الملائم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من ماء بدر. وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين.
وقبل موقعة أحد استشار الأصحاب في شأن الخروج من المدينة، وقبل رأي الكثرة الشباب التي أشارت بالخروج، وكانت العاقبة الهزيمة المعروفة.
وقال صلّى الله عليه وسلم في قصة الإفك: «أشيروا علي معشر المسلمين في قوم ... » .
واستشار أيضاً أصحابه في رد سبي هوازن، وفي استطابة أنفسهم بذلك، دون تعويض عن حقهم.
وشاور النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، فترك ذلك (5) .
وفي يوم الأحزاب تمت المشاورة عملاً برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على عدم مصالحة رؤساء غطفان لأخذ شطر ثمار المدينة. ونحو ذلك كثير (6) .
__________
(1) ذكره الماوردي في أدب الدنيا والدين: ص 494.
(2) ورد مرفوعاً، وورد مرسلاً عن الحسن، أخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب، وابن المنذر.
(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(4) رواه الترمذي.
(5) انظر تفسير ابن كثير: 287/1 وما بعدها، 420 في الوقائع المذكورة، وانظر أدب الدنيا والدين للماوردي: ص 496.
(6) راجع سيرة ابن هشام: 253/2 ومابعدها، أحكام القرآن للجصاص: 40/2، تفسير ابن كثير: 420/1، ط الحلبي.(8/322)
وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة الحميدة، فكانوا يجمعون رؤساء الناس، فيستشيرونهم فيما لم يجدوا فيه نصاً من القرآن والسنة.
منها مشاورة أبي بكر في حروب الردة، وفي جمع القرآن. ومشاورة عمر في قضية قسمة سواد العراق بين الغانمين، وفرض الخراج، ونحوها. وأهل الشورى: هم أهل الآراء من الناس والمتدربون فيهم، إذ لا يعقل، ولا يمكن مشاورة كل واحد من الناس (1) ، ففي أمور الدين يجب أن يكون المستشار عالماً دينياً وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. وفي أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير (2) .
نطاقها: إن الأمر المطلق بالمشاورة الموجه للحكام يشمل كل القضايا الدينية والدنيوية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التنظيمية، أي فيما لم يرد به نص تشريعي واضح الدلالة (3) ؛ لأن الأمر القرآني بالمشاورة غير مخصوص بأمر الدين. ولا يصح أن تكون نتيجة الشورى في الأمور الاجتهادية الدينية والدنيوية مخالفة نصوص الشريعة أو مقاصدها العامة ومبادئها التشريعية، لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ً} [الأحزاب:36/33] .
وهي مطلوبة سواء أكانت القضايا محل المشاورة عامة كاختيار الحاكم وإدارة الحكم، وسياسة البلاد، وتنظيم الإدارات ومحاسبة الولاة، وإعلان الحرب، أم خاصة كالنظر في أحكام المعاملات والجنايات وأحوال الأسرة ونحوها. وهذه
__________
(1) تفسير الألوسي: 107/4.
(2) تفسير القرطبي: 250/4.
(3) أحكام القرآن للجصاص: 41/2.(8/323)
يجب على الإمام استشارة أهل العلم في شأنها، لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] وقوله سبحانه: واصفاً المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/42] وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم استشار أصحابه في مختلف شؤون المسلمين، كما حدث في غزوات بدر وأحد والخندق وفي صلح الحديبية.
هيئة الشورى: كان السائد لدى الخلفاء الراشدين أن الخليفة هو الذي يعين أهل المشورة، حسبما يرى من المصلحة، ويعرف الكفاءات العلمية المطلوبة للأمر.
وفي عصرنا الحاضر يمكن الاتفاق بين الحاكم ورؤساء الأمة على وضع مبادئ الاختيار، كالتعيين بحسب الوظائف ذات الصفة التشريعية، أو الانتخاب على وفق ضوابط محددة تنطبق على ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة اللائقة.
حكم الشورى: اختلف الفقهاء في حكم الشورى: هل هي ملزمة للحاكم، أو اختيارية، وهل نتيجتها ملزمة أو اختيارية أيضاً؟.
قال جماعة: إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية، تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار، وتألفاً على الدين؛ لقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/3] والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين، ولأن أبا بكر حينما استشار الناس بمحاربة المرتدين، لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم، وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه.(8/324)
وقال آخرون: إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد عملاً بالأوامر القرآنية، ويصبح الأمر عديم الأثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها. وقد عمل بها الرسول صلّى الله عليه وسلم وصحابته الراشدون من بعده (1) .
ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون (2) لتسير الأمور على وفق الحكمة والمصلحة، ومنعاً من الاستبداد بالرأي؛ لأن حكم الإسلام يقوم على أصل الشورى، وبه تميز، وعلى نهجه سار السلف الصالح، وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل الشورى بأفضلية رأيه، كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين وجمع القرآن، حتى شرح الله صدورهم له، كما قال عمر رضي الله عنه. وكما فعل أيضاً بإقناع مخالفيه في قسمة سواد العراق، حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله، فكان الرأي مجمعاً عليه، كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لاعتماده على الوحي، ومع ذكل فإنه كان يشاور أصحابه تطييباً لقلوبهم وتعليماً لمن بعده (3) . قال الحسن رضي الله عنه: علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/3] أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى، فتوكل على الله في إمضاء أمرك
__________
(1) راجع تفسير الطبري: 343/7-346، والقرطبي: 249/4-253، وابن كثير: 420/1، 118/4 عند تفسير آية {وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159، تفسير الزمخشري: 357/1 وما بعدها، تفسير الألوسي: 106/4 وما بعدها، 46/25، الجصاص، المرجع السابق، البيضاوي: 50/1، 145/4، ط التجارية.
(2) راجع تفسير الطبري: 345/7، ط دار المعارف.
(3) راجع الآراء الأربعة في تحديد المقصود من أمر النبي بالمشاورة في الأحكام السلطانية للماوردي: ص41.(8/325)
على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله، لا أنت ولا من تشاور، والله هو الذي يرشدك للأفضل بالوحي، روى البيهقي عن ابن عباس قال: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غياً» قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/42] . وقال ابن أبي خُوَيزمَنْداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (1) .
ويلاحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية، فإن مجلس الشورى في الإسلام ليس بمشرِّع، وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم الله تعالى، لذا يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة. أما مجلس الشورى في الأنظمة الوضعية فهو مشرع، فيلزم الحاكم برأي الأكثرية.
2 - العدل:
العدل بصفة عامة: هو تنفيذ حكم الله، أي أن يحكم طبقاً لماجاءت به الشرائع السماوية الحقة، كما أوحى بها الله إلى أنبيائه ورسله، وهو واجب على كل حاكم حتى على الأنبياء بإجماع العلماء، وهو أساس نظام الحكم الإسلامي وغايته المقصودة، سواء بين المسلمين، أم بينهم وبين الأعداء؛ لأن العدل قوام
__________
(1) راجع تفسير القرطبي: 249/4 وما بعدها.(8/326)
العالمين في الدنيا والآخرة، وبه قامت السموات والأرضون، وهو أساس الملك. وأما الظلم، فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان (1) .
وقد ورد في القرآن عدة آيات تحث عليه، وأكدت عليه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلم، وطبقه الصحابة فعلاً بين الناس.
فمن الآيات قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/6] . وجاء نص خاص يوجب العدل مع الأعداء وهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولايجرمنكم شنآن (2) قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/5] .
ولم يقتصر القرآن على المطالبة بالعدل، وإنما حرم ما يقابله وهو الظلم تحريماً قطعياً صريحاً، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم:42/14] .
وكذلك الأحاديث النبوية الثابتة أوجبت العدل وحرمت الظلم، قال صلّى الله عليه وسلم: «لاتزال هذه الأمة بخيرما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت
__________
(1) انظر النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 280 وما بعدها، نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 191، بحث الدولة الإسلامية للمؤلف، مقدمة ابن خلدون: ص 319، الفصل 44.
(2) المعنى لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل، فتعتدوا عليهم، بأن تنتصروا منهم، وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء، أو نقض عهد، أو ما أشبه ذلك (الكشاف: 449/1) .(8/327)
رحمت» (1) «أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر» (2) «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» (3) «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (4) .
ومزية الإسلام في المطالبة به أنه عدل مطلق يشمل الحاكم والمحكومين والإنسانية جمعاء. فهو واجب في الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس، وفي توزيع الحقوق والواجبات وإقامة العدالة الاجتماعية، وفي الشهادة والقضاء والتنفيذ وإقامة الحدود والقصاص، وفي القول والكتابة، وفي القول والكتابة، وفي نطاق الأسرة مع الزوجة والأولاد، وفي التعليم والتملك، والرأي والفكر والتصرف.
العدل مع الأقليات الدينية والسياسية: أخصص هذا المطلب للرد على دعاوى القائلين بعدم إمكان الحكم بتشريع الإسلام حماية للأقليات، مع أن الإسلام في ضمانه حقوق هؤلاء واضح صريح متسامح أحياناً أكثر مما يجب واقعياً، فهم مع المسلمين سواء في الحقوق، ولا يلتزمون بكل الواجبات، ويتركون وما يدينون، ولهم حرية في ممارسة شعائر دينهم، ويمتنع إكراه أحد منهم على الإسلام، ولا يجوز الاعتداء على أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم. قال صلّى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهداً، أو نقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا خصمه يوم القيامة» (5) «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (6) .
__________
(1) رواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى بلفظ: «إن هذا الأمر في قريش، ما إذا استُرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا ... » (الترغييب والترهيب: 171/3) .
(2) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري.
(3) رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
(4) رواه مسلم وأحمد والبخاري في الأدب المفرد.
(5) رواه أبو داود والبيهقي.
(6) رواه الخطيب في تاريخه عن أنس، وهو حديث حسن.(8/328)
3 ً - المساواة أمام القانون: العدل بمعناه الشامل يشمل هذا المبدأ الشائع الآن؛ لأن العدل كما تقدم يتطلب التسوية في المعاملة وفي القضاء وفي الحقوق وملكيات الأموال. عبر أبو بكر رضي الله عنه عن ذلك بقوله: «الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق الحق منه إن شاء الله» وفي رسالة عمر المشهورة لأبي موسى الأشعري: «آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك» .
ولقد حمل الرسول صلّى الله عليه وسلم على محاولات التمييز بين الناس أمام القضاء والشريعة، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .
4 ً - حماية الكرامة الإنسانية:
الكرامة حق طبيعي لكل إنسان، رعاها الإسلام، واعتبرها مبدأ الحكم وأساس المعاملة، فلا يجوز إهدار كرامة أحد، أو إباحة دمه وشرفه، سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غير مسلم؛ لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والاستهزاء والشتم وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل بأحد حال الحياة أو بعد الموت، ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها. ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب.
وما أروع إعلان القرآن لمبدأ الكرامة الإنسانية في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70/17] وقال رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (1) .
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكر (سبل السلام: 73/3) .(8/329)
5 ً - الحرية:
الحرية ملازمة للكرامة الإنسانية، فهي حق طبيعي لكل إنسان، وهي أغلى وأثمن شيء يقدسه ويحرص عليه، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: «متى تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وعلى الحاكم توفير الحريات بمختلف مظاهرها الدينية والفكرية والسياسية والمدنية في حدود النظام والشريعة. وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
حرية العقيدة: من أجل حرية الاعتقاد أو الحرية الدينية منع القرآن الإكراه على الدين، فقال عز وجل: {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/2] {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99/10] ؛ لأن اعتناق الإسلام ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر، لا سلطان فيه للسيف أو الإكراه من أحد. وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام، فإن فرضت بالإرغام والسطوة، سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها، قال الله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29/18] .
وتقرير حرية العقيدة يستتبع إقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ لأننا أمرنا بترك الذميين وما يدينون، ولا يعتدى على كنائسهم ومعابدهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا يناقشون في عقائدهم إلا باللين والخطاب الحسن، قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين
ظلموا منهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46/29] .(8/330)
حرية الفكر والقول: رغب الإسلام في التفكير والنظر الطليق والتأمل في أسرار الكون للتوصل بالعقل والمنطق إلى إثبات الصانع وإثبات النبوة وفهم ما جاء به الأنبياء والرسل والإفادة من كنوز الأرض، وجعل التفكير فريضة إسلامية، والآيات القرآنية المطالبة باستخدام الفكر كثيرة، منها قوله سبحانه: {قل: انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/10] وتختتم آيات كثيرة بعد بيان النظم الإسلامية في العقيدة وغيرها بأنها لقوم يعلمون، يعقلون، يتفكرون، يتدبرون، لأولي الألباب، ونحوها.
ومن أجل تثبيت الدعوة إلى الفكر وإقرار أحكام العقل السديد، ندد الله سبحانه بالتقليد في أصول العقائد والشرائع لتكون العقيدة عن وعي وإدراك وإذعان، فقال سبحانه: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/22] .
وحرية الفكر تستتبع حرية الرأي والنقد والقول، وذلك واضح من مبدأ الإسلام في تكوين الشخصية الذاتية، والحض على صراحة القول، والأمر بالمعروف، وعدم إقرار المنكر، والجهر بالحق دون خشية من أحد أو مخافة لومة لائم، فلا يكون النقد حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً في ضوء مفاهيم الإسلام، وضرورة الحفاظ على أحكامه، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة..» (1) الحديث السابق ذكره. وقوله: «لا تكونوا إمَّعة (أي مع الناس) تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (2) «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (3) .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي رقيَّة تميم بن أوس الداري.
(2) رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان.
(3) رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة، ورواه غيرهم.(8/331)
وسيرة الخلفاء الراشدين في احترام حق النقد وضرورته خير شاهد عملي على إبراز قيمته وأهميته في الإسلام، كما قال عمر رضي الله عنه: «أيها الناس، من رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه» فيجيبه أعرابي: والله يا أمير المؤمنين لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا هذه، فيقول أمير المؤمنين مغتبطاً: «الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه إذا اعوج» . وفي حادث آخر قال رجل لعمر: «اتق الله يا أمير المؤمنين، فرد عليه آخر: تقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟! فقال عمر: دعه فليقلها، فإنه لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها منكم» .
والحرية لا تتجزأ في مفهوم الإسلام، ولا ينفصل جانب الدين فيه عن السياسة والمدنية وغيرها، فإن حدث خطأ في تطبيق أحكام الدين، أو خلل في خط السياسة الإسلامية، أو مصادره للحقوق المدنية في المعاملات الحرة والتصرفات الشخصية، كان لأي مسلم توجيه النقد فيه للحاكم ورده إلى الصواب، كما حصل من المرأة التي عارضت سيدنا عمر عندما أراد وضع حد لغلاء المهور، وجواب عمر لها بقوله: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» . وكما حدث
مع الرسول نفسه حينما اعترض رجل بغير حق على قسمته الغنائم قائلاً: «إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله» فيجيب الرسول: «يرحم الله موسى، قد كان أوذي بأكثر من هذا فصبر» . ونحو ذلك كثيرفي السيرة.(8/332)
6 ً - رقابة الأمة ومسؤولية الحاكم:
يخضع الحاكم المسلم لرقابة الأمة التي ولته، فإن عدل ونفذ أحكام الشرع، وجبت طاعته، وإن جار وانحرف خلعته وولت غيره، كما تبين سابقاً. قال الإيجي (1) : «وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه» كأن يوجد ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين. وقال ابن حزم بعد أن ذكر واجبات الخليفة (2) : «فهو الإمام الواجب الطاعة ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإن زاغ عن شيء منهما، منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولِّي غيره» .
يظهر من هذا أن الحاكم مسؤول عن تصرفاته أمام رعيته. كما أنه يشعر بخطورة المسؤولية العظمى أمام الله في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم، وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/8] ويقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته ... » (3) «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة» (4) .
__________
(1) المواقف: 352/8.
(2) الفصل في الملل والنحل: 102/4، وانظر النظريات السياسية الإسلامية: ص292-299.
(3) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(4) رواه مسلم عن معقل بن يسار.(8/333)
ويشعر الخليفة بثقل هذه المسؤولية ويقدرها، كما يمثل لنا ذلك قول عمر رضي الله عنه: «لئن ضلت شاة على شاطئ الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة» .
وإذا عجزت الأمة عن خلع الحاكم، كما حدث في الماضي، فلا يعني عجزها التسليم بشرعية حكمه، وإنما يكون السكوت إقراراً للأمر الواقع، عملاً بمبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» (1) .
علاقة الإمام الحاكم بالناس: تتحدد طبيعة هذه العلاقة بما يأتي:
1 - الإمام مستخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن خلفائه من بعده، فيتقيد بالكتاب والسنة.
2 - الإمام صاحب ولاية عامة على جميع من في دار الإسلام من مسلمين وذميين، فتصرفاته مقيدة بالمصلحة العامة.
3 - للإمام حق الإشراف والرقابة على جميع من دونه من الولاة والوزراء والقضاة فيما وكلَّهم فيه من خدمات.
4 - علاقة الإمام بالأمة أو بالرعية علاقة خادم أمين بمخدومه، فعليه توفير السعادة ونشر الأمن والرخاء للجميع وعليه التحلي بخصال الرحمة والإخلاص، دون إكراه ولا إضرار.
__________
(1) السلطات الثلاث للدكتور سليمان الطماوي: ص 283.(8/334)
المبحث التاسع ـ مصدر السيادة في الإسلام:
السيادة في القوانين الدستورية الحديثة يراد بها المصدر الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حق الامتثال لأمره والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذه من تدبير. والسيادة أو السلطة السياسية من أركان قيام الدولة بالمعنى الحديث، وبموجبها تستطيع إصدار القوانين، وتقييد الحريات، وفرض الضرائب، وزجر الجناة، حتى يتوافر الاستقرار ويسود الأمن وتنعدم الفوضى.
وقد اختلفت آراء السياسيين قديماً وحديثاً في تحديد مصدر السيادة، هل هي من الله، أو من شخص الحاكم أو من الأمة.
فنادت جماعة بنظرية الحق الإلهي المطلق لتأييد سلطان الملوك، وأنه حق طبيعي مقدس مستمد من تفويض إلهي، فالحاكم أو الملك وكيل في تنفيذ أوامر الله وخليفة في الأرض، مما جعله يحكم حكماً استبدادياً مطلقاً دون أن يكون لأحد الحق في نقده، وسادت هذه النظرية قديماً إلى نهاية القرون الوسطى، وهي فترة الحكم الثيوقراطي أو الأتوقراطية، أي الاستبدادي.
والإسلام لا يقر هذه النظرية التي تمنح الحاكم حق الاستبداد بالحكم؛ لأن الله تعالى يقول لرسوله: {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر} [الغاشية:22/88] {وما أرسلناك عليهم حفيظاً} [الشورى:48/42] {وما أنت عليهم بجبار} [ق:45/50] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم لأعرابي ارتعد منه: «لست بملك ولا جبار» (1) وقال عمر للناس: «والله ما أنا بملك فأستعبدكم بملك أو جبرية، وما أنا إلا أحدكم، منزلتي منكم كمنزلة والي اليتيم منه ومن ماله» .
ونادى آخرون مع ظهور نظرية العقد الاجتماعي لروسو بأن الأمة مصدر السلطات، أي هي التي لها حق التشريع، وهي التي تعين الحكام وتمنحهم السلطة والسيادة. ولكن هذه النظرية لم تمنع الاستبداد، وإن أخذت صفة الديمقراطية؛ لأن بعض الحكام استبدوا بالسلطة متذرعين بأنهم يمثلون إرادة الشعب المقدسة.
__________
(1) الحديث ورد عن أبي هريرة وأبي ذر بلفظ: «هوّن عليك، فلست بملك، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» (الإحياء للغزالي: 338/2) . وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بسر: «إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً» .(8/335)
والإسلام لا يقر جعل الأمة مصدر السلطة التشريعية؛ لأن التشريع لله وحده، والأمة وحدها صاحبة الخلافة في الأرض في تنفيذ أحكام الشريعة، والخليفة وأعوانه وقضاته وكلاء عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤونها بحسب شريعة الله ورسوله، ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء، وعزله إن انحرف، فهو يستمد سلطانه من الأمة بعقد البيعة أو الوكالة، ويكون مصدر السيادة حينئذ هو الأمة الموكل الأصلي، لا الوكيل النائب عنها. والأمة في المجتمع المسلم أو الديمقراطية الإسلامية ملتزمة بالقانون السماوي والأخلاقي ومقيدة بمبادئه، فالسيادة في الإسلام مبنية على حق إنساني ناشئ عن جعل شرعي. وبذلك تكون الأمة والشريعة معاً هما صاحبا (السيادة) في الدولة الإسلامية، بمعنى أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيرجع إليه في الأمر والنهي، والسيادة العملية مستمدة من الشعب الذي يعين أهل الحل والعقد أصحاب الرأي والاجتهاد في ضوء مبادئ الشريعة (1) . قال المرحوم الأستاذ عبد الوهاب خلاف (2) : «وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة الإسلامية مكان الرياسة العليا من أية حكومة دستورية؛ لأن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة الممثلة في أولي الحل والعقد، ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم، ولهذا قرر علماء المسلمين أن للأمة خلع الخليفة لسبب يوجبه، وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين» .
__________
(1) راجع النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 320-341، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للأستاذ علال الفاسي: ص 209-215، منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 77-86، نظام الحكم في الإسلام ليوسف موسى: ص 123-127.
(2) السياسة الشرعية: ص 58.(8/336)
المبحث العاشر ـ تنظيم الخليفة للدولة (إدارة الدولة)
المطلب الأول ـ الإدارة في عهد الخلفاء:
الخليفة رئيس الدولة الأعلى، وصاحب مسؤوليات كبرى، يقود الأمة نحو أفضل الغايات، ويخطط لمسيرتها في ضوء أعدل الطرق وأصحها وأيسرها. وبما أنه فرد ذو قدرات محدودة، فهو يحتاج إلى أعوان وأنصار لتسيير الحكم في البلاد، قال الماوردي: «إن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة» (1) ومن هؤلاء الأعوان تتكون السلطة التنفيذية في الإسلام.
ولقد نقل التاريخ أن الخلفاء المسلمين أبدوا نجاحاً باهراً في إدارة البلاد، وأن الإسلام ابتكر وأبدع في الحرب والإدارة والسياسة، كما اخترع وأبدع في العلم والتشريع وأسباب المدنية (2) .
وبدأت نواة الإدارة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ببث الدعوة، وجهاد العدو، وأخذ الغنائم والصدقات والجزى والعشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاد من المهاجرين والأنصار وفقراء المسلمين وتوزيع العمل بين عماله، ومعاملته لهم وللوفود والنساء (3) ، وإرسال القضاة والمعلمين إلى بعض البلدان كاليمن.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 20، ط صبيح.
(2) الإدارة الإسلامية في عز العرب للأستاذ محمد كرد علي: ص 5.
(3) المرجع السابق: ص 22.(8/337)
وسار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمرهم. وقام أبو عبيدة بشؤون المال، وعمر بأمر القضاء. وكان الصديق يشاور أهل الرأي والفقه فيما يعرض له من القضايا. وقسمت جزيرة العرب إلى ولايات أو عمالات كمكة والمدينة والطائف وصنعاء ... إلخ. وقسمت الحجاز إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وتوابعها ولاية. وكان أهم شاغل لأبي بكر في مدة خلافته الوجيزة هو قتال المرتدين وتوطيد دعائم الإسلام، وتثبيت أركان الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم. وكان أيضاً يهتم بمراقبة أحوال العمال (1) ، أي الموظفين الإداريين، وسموا عمالهم لبيان أن العامل ليس مطلق السلطة.
ووضحت صورة التنظيم الإداري في عهد عمر لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، فعين العمال الأكفاء، وراقبهم مراقبة شديدة، وشاطرهم أموالهم، وأحصى القبائل وفرض لها الفروض وأعطاها العطايا، ودون الدواوين التي تشبه الوزارات اليوم، فوضع أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وكان أول من استقضى القضاة، وأحدث التاريخ الهجري، وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، وحجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل، ونحو ذلك من التقسيمات والتنظيمات الإدارية السديدة (2) .
وحافظ عثمان رضي الله عنه على الأوضاع التي وضعها عمر، وعلى العمال الذين عينهم عمر مع أناس من أهله وعشيرته في بدء ولايته. ثم ضعفت الإدارة
__________
(1) المرجع السابق: ص 23-27.
(2) المرجع السابق: ص 27-53.(8/338)
في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات (1) .
وكانت طريقة علي أيضاً في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة.
ثم تبلورت النظم الإدارية في عهد الأمويين والعباسيين بسبب اتصالهم بالحضارات الأخرى، وظهور الطابع الدنيوي عليها (2) ، مما مكَّن فقهاء الإسلام من صياغة الأحكام الإدارية المناسبة.
المطلب الثاني ـ أقسام الولايات في رأي الماوردي:
قسم الماوردي ولايات خلفاء الخليفة أربعة أقسام (3) :
أولاً ـ أصحاب الولايات العامة في الأعمال العامة: وهم الوزراء؛ لأنهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص.
ثانياً ـ أصحاب الولاية العامة في أعمال خاصة: وهم أمراء الأقاليم والبلدان؛ لأن اختصاصهم عام في حدود الإقليم المنوط إدارته بهم.
ثالثاً ـ أهل الولاية الخاصة في الأعمال العامة: وهم قاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور ومستوفي الخراج وجابي الصدقات؛ لأن اختصاص كل واحد خاص في جميع أعماله.
رابعاً ـ ذوو الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة: وهم كقاضي بلد، أوإقليم أو مستوفي خراجه، أو الجابي صدقاته، أو الحامي ثغره، أو نقيب جنده؛ لأن كل واحد خاص النظر خاص العمل.
__________
(1) المرجع السابق: ص 55 ومابعدها.
(2) المرجع نفسه: ص 65 وما بعدها.
(3) الأحكام السلطانية: ص 19.(8/339)
المطلب الثالث ـ وظائف الولاة:
كانت وظائف هؤلاء الولاة على النحو التالي:
أولاً ـ الوزارة. ثانياً ـ إمارة الأقاليم.
أولاً ـ الوزارة:
كان الصحابة أعوان الرسول صلّى الله عليه وسلم في شؤونه، واستمر بعضهم عوناً لبعض في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين، دون معرفة هذا الاصطلاح. ثم استعير هذا اللفظ من الفرس في عهد العباسيين.
وأبان الماوردي أحكام الوزارة، وقسمها نوعين:
1 - وزارة تفويض.
2 - وزارة تنفيذ (1) .
1 - وزارة التفويض: هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده. فهي تشبه رئاسة الوزارة اليوم.
وهذا أخطر منصب بعد الخلافة، إذ يملك الوزير المفوض كل اختصاصات الخليفة كتعيين الحكام والنظر في المظالم وقيادة الجيش وتعيين القائد وتنفيذ الأمور التي يراها، والمبدأ: كل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أمور هي:
أـ ولاية العهد: فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى، وليس ذلك للوزير.
ب ـ للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير.
جـ ـ للإمام أن يعزل من قلده الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام (1) .
وما عدا هذه الثلاثة تنفذ كل تصرفاته بمقتضى التفويض. فإن حدث اختلاف بينه وبين الإمام، يفضُّ على النحو التالي (2) :
إن عارضه الإمام في رد ما أمضاه من أحكام قضائية نفذ على وجهه.
وإن كان تصرفه متصلاً بتوزيع الأموال في حقوقها، لم يجز نقض تصرفه ولا استرجاع ماوزعه برأيه.
وإن كان تصرفه في أمر عام كتقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب، جاز للإمام معارضته بعزل من ولاه، ورد الجيش إلى ثكناته، وتدبير الحرب بما هو أولى؛ لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه، فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره.
ولو قلد الإمام والياً على عمل، وقلد الوزير غيره على ذاك العمل، ينفذ قرار الأسبق في التعيين.
وأما كيفية تنسيق أو تحديد العلاقة بين الإمام ووزير التفويض، فهي مايأتي (3) :
أـ يطالب وزير التفويض بمطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد، لئلا يصبح باستبداده كالإمام.
ب ـ يتصفح الخليفة أفعال الوزير وتدبيره الأمور، ليقر منها ماوافق الصواب، ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة موكول إليه، ومحمول على اجتهاده.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 20.
(2) المرجع السابق: ص 23.
(3) المرجع والمكان نفسه.
(4) المرجع السابق: ص 22-23.(8/340)
وبما أن منصب هذه الوزارة له أهميته وخطورته، اشترط الفقهاء فيمن يقلدها شروط الإمامة نفسها، إلا النسب القرشي وحده؛ لأنه يمضي الآراء وينفذ الاجتهاد، فينبغي أن يكون مجتهداً. والسبب في استثناء شرط النسب هو اقتصار النصوص الواردة بشأنه على الإمامة وحدها، مما دعا أبا بكر أن يقول للأنصار: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء.
وزيد شرط آخر على شروط الإمامة: وهو أن يكون وزير التفويض من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما (1) .
كذلك لا يكفي للتكليف بهذه الوزارة مجرد الإذن، بل لا بد من عقد معين صادر من الخليفة لمن يكلفه بها، والعقود لا تصح إلا بالقول الصريح (2) .
وبما أن لهذا الوزير صلاحية عامة في الأعمال كالإمام فلا يجوز للخليفة تعيين وزيري تفويض في وقت واحد، كما لا يجوز تعيين إمامين،؛ لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل، لكن إن أشرك الخليفة اثنين في النظر المشترك في الأمور، دون أن ينفرد أحدهما بتصرف، بل لا بد من اتفاقهما معاً، فيجوز (3) .
2 - وزارة التنفيذ (4) : هي أقل مرتبة من وزارة التفويض؛ لأن الوزير فيها ينفذ رأي الإمام وتدبيره، وهو وسط بينه وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه أوامره، وينفذ آراءه، ويمضي أحكامه، ويبلغ من قلدهم الولاية أو تجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد منهم، وتجدد من أحداث طارئة. فليس له سلطة الاستقلال بالتوجيه والرأي والاجتهاد، وهو محدد الاختصاص بأمرين:
أحدهما ـ أن يؤدي إلى الخليفة ما يبلغه من قضايا.
الثاني ـ أن يؤدى إليه أوامر الخليفة لتنفيذها.
__________
(1) المرجع نفسه: ص 20.
(2) المصدر نفسه: ص 21.
(3) المصدر نفسه: ص 26.
(4) المصدر نفسه: ص 24-26.(8/341)
ويكفي في تعيينه مجرد الإذن، ولا يشترط إجراء عقد معه لتعيينه. ولا يطلب فيه الحرية، لأنه لا ينفرد بالولاية وتقليد الوظائف لغيره، ولا العلم، أي الاجتهاد لأنه لا يجوز له أن يحكم برأيه.
شروطه: الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ سبعة فقط تتعلق بالأخلاق الفاضلة والتجربة السياسية:
1 - الأمانة: حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه، ولا يغش فيما استنصح فيه.
2 - صدق اللهجة: حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
3 - قلة الطمع: حتى لا يرتشي ولا ينخدع.
4 - أن يكون مسالماً لا عداوة ولا شحناء بينه وبين الناس؛ لأن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من التعاطف.
5 - حاضر البديهة والذاكرة حتى يؤدي إلى الخليفة وعنه؛ لأنه شاهد له وعليه. 6 - الذكاء والفطنة حتى لا تدلس عليه الأمور، فتشتبه، ولا تموه عليه فتلتبس.
7 - ألا يكون من أهل الأهواء، فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل.
ولا يقبل لهذا المنصب ولا لوزارة التفويض والخلافة امرأة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1) ولأن في هذه الوظائف من المهام الخطيرة التي تتطلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء. ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، ولا يجوز لوزارة التفويض. ويجوز تعيين وزيري تنفيذ أو أكثر، على عكس وزارة التفويض. لكن يجوز للخليفة تعيين وزيرين في مهمة وزير تفويض ووزير تنفيذ، فيكون وزير التفويض مطلق التصرف، ووزير التنفيذ مقصوراً على تنفيذ أوامر الخليفة.
الفرق بين الوزارتين: ذكر الماوردي فروقاً ثمانية بين الوزارتين، أربعة منها تتعلق بالشروط، والأربعة الأخرى بالصلاحيات.
أما الفروق العائدة للشروط والمؤهلات فهي:
1 - الحرية: مطلوبة في وزارة التفويض، وغير مطلوبة في وزارة التنفيذ.
2 - الإسلام: مطلوب في وزارة التفويض، دون التنفيذ.
3 - العلم بالأحكام الشرعية (الاجتهاد) : مطلوب في وزارة التفويض لا التنفيذ.
4 - المعرفة بشؤون الحرب والاقتصاد كالخراج: مطلوبة في وزارة التفويض لا التنفيذ.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه والنسائي عن أبي بكرة (نيل الأوطار: 263/8) .(8/342)
وأما الفروق المتعلقة بالاختصاص والصلاحيات فهي:
1 - يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
2 - ويجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتقليد وتعيين الولاة، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
3 - يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
4 - يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بالجباية والصرف، وليس ذلك لوزير التنفيذ.
ثانياً ـ إمارة الأقاليم أو البلاد:
اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه، فقسمت إلى أقسام إدارية كبيرة، فجعلت بلاد الشام قسمين، وبلاد فارس ثلاث ولايات، وأفريقيا ثلاث ولايات أيضاً. وكان على كل إقليم من هذه الأقسام عامل (أو وال أو أمير) يؤم الناس في الصلاة ويفصل في الخصومات، ويقود الجند في الحرب، ويجمع المال، وكان مع الوالي عامل خاص للخراج.
وفي عهد بني أمية حيث بلغت أقصى اتساعها، قسمت إلى خمس ولايات كبرى هي الحجاز واليمن وتوابعها، ومصر بقسميها السفلي والعلوي، والعراقان: العربي (بلاد بابل وآشور القديمة) والعجمي (بلاد فارس) ، وبلاد الجزيرة ويتبعها أرمينية وأذربيجان، وأفريقية الشمالية وبلاد الأندلس وجزر صقلِّية. وحافظ العرب على هذا النظام الإداري في البلاد التي فتحوها، مع إحداث تغيير جزئي فيها اقتضته الروح العربية، ولكن بتقدم الدولة، واتساع حدودها، تعقَّد النظام الإداري جزئياً، وتعددت الدواوين، ولا سيما في عهد العباسيين الذين تأثروا بالفرس(8/343)
كثيراً في نظم الحكم والإدارة (1) .
وأملى هذا التطور على الفقهاء ضرورة البحث في طبيعة هذه الولايات وما يلائمها من أحكام تمس سياسة الدولة.
فقسموا، أي الفقهاء، الولاية أو الإمارة إلى قسمين: عامة وخاصة.
1 - الإمارة العامة: وهي التي تختص بجميع الأمور المتعلقة بالإقليم سواء فيما يتعلق بالأمن وحاجات الدفاع، أم بالقضاء وشؤون المال. وهي نوعان: إمارة استكفاء وإمارة استيلاء.
1 ً) ـ إمارة الاستكفاء (2) : وهي التي يعقدها الإمام لشخص كفء عن رضا واختيار. بأن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أوإقليم ولاية على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل، ومعهوداً من نظر، أي أنه مفوض الصلاحية العامة في كل الأعمال المسندة إليه. وقد بقيت هذه الإمارة من عهد الراشدين بتعيين الولاة على أقاليم مصر أو اليمن أو الشام أو العراق، إلى عصر الأمويين والعهد الذهبي للدولة العباسية. ثم انتشرت إمارة الاستيلاء مند النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، حيث وجدت الدويلات في المشرق والمغرب، كالدولة البويهية والسامانية والغزنوية والسلجوقية في الشرق، والطولونية والإخشيدية والأغلبية في الغرب (3) .
__________
(1) السلطات الثلاث: 296-299.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 27 وما بعدها.
(3) النظريات السياسية للريس: ص 234.(8/344)
وأما الأعمال التي كان يمارسها صاحب هذه الإمارة فهي سبعة (1) وهي:
1 - النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاق الجند، إلا أن يكون الخليفة قدرها، فيعمل بما قرر.
2 - النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام.
3 - جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال لها، وتفريق ما استحق منها.
4 - حماية الدين والذب، أي الدفاع، عن الحريم ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل.
5 - إقامة الحدود في حق الله وحقوق الآدميين.
6 - الإمامة في صلاة الجمع والجماعات بنفسه أو بالاستخلاف عليها.
7 - تسهيل أداء فريضة الحج كل عام.
وهناك واجب ثامن على والي البلاد الساحلية أو المجاورة لحدود العدو (الثغور) : وهو جهاد الأعداء وقسمة الغنائم على وفق أحكام الشرع.
والشروط المطلوبة فيمن يعين لهذه الإمامة: هي ذات الشروط المقررة في وزارة التفويض؛ لأن الفرق بينهما إقليمي بحت، فسلطة وزير التفويض عامة في كل أنحاء الدولة، وأما اختصاص أمير الإقليم فمقيد في نطاق إقليمه. وحينئذ يكون لوزير التفويض الحق في مراقبة أعمال ولاة الأقاليم، بل وله عزلهم أحياناً إذا كان هو الذي عينهم. فإن عينهم الخليفة أو بإذن الخليفة فلا بد من موافقة الخليفة على العزل (2) .
ويجوز لوالي الإقليم أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بإذن الخليفة أو بغير إذن، ولكن لا يجوز له أن يستوزر وزير تفويض إلا بإذن الخليفة؛ لأن وزير التنفيذ معين، ووزير التفويض مستبد، أي مستقل الرأي (3) .
2 ً) ـ إمارة الاستيلاء (4) : وهي التي تعقد عن اضطرار بأن يستولي شخص على السلطة، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر الدويلات، فيقره الخليفة على إمارتها، ويفوض إليه تدبير أمورها وسياستها. ولكن يحتفظ الخليفة بما يتعلق بالدين، فيكون الأمير ـ كما قال الماوردي ـ باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه منفذاً لأحكام الدين، ليخرج من الفساد إلى الصحة ومن الحظر إلى الإباحة.
وهذا اعتراف بالأمر الواقع أو بحكم الضرورة. أما أحكام الدين فلا يجوز التهاون بها، قال الماوردي بعد عبارته السابقة: «وهذا، وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ القوانين الشرعية، وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً، ولا فاسداً معلولاً» .
__________
(1) الماوردي: ص 28.
(2) المرجع السابق: ص 28.
(3) المصدر السابق: ص 29.
(4) المصدر السابق: ص 31.(8/345)
والمعنى أن الفقهاء إزاء تجزؤ الدولة والتطور الحادث أرادوا الحفاظ على مبدأ شرعية الدولة، وشعور الناس بالتالي بأنهم يعيشون في ظل الشرعية، عن طريق الارتباط الاسمي بالخلافة المركزية، فتبقى الوحدة وروح التعاون سائدة في القضايا العامة.
إلا أن إقرار هذا النوع الاستثنائي أو الاعتراف بالأمر الواقع مقيد بسبعة شروط تلزم أغلبها الأمير المستولي، ويلزم بعضها الخليفة نفسه وهي:
1 - حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة، وتدبير أمور الملة، لحفظ أحكام وحدود الشريعة وما تفرع عنها من حقوق.
2 - ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد والانشقاق.
3 - اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم.
4 - أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأقضية نافذة.
5 - أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها.
6 - أن تكون الحدود مستوفاة بحق، وقائمة على مستحق.
7 - أن يكون الأمير في حفظ الدين ورعاً عن محارم الله، يأمر بحقه إن أطيع، ويدعو إلى طاعته إن عصي.
هذه هي شروط الاعتراف بالجزء المنفصل من قبل الخليفة تحفظ بها حقوق الإمامة.
__________
(1) المصدر السابق: ص 32 ومابعدها.(8/346)
الفرق بين إمارتي الاستكفاء والاستيلاء:
هناك أربعة فروق وهي (1) :
1 - إن إمارة الاستكفاء تتم بعقد وتراضٍ واختيار بين الخليفة والمستكفي. أما إمارة الاستيلاء فتنعقد عن اضطرار.
2 - إن إمارة الاستيلاء شاملة البلاد التي غلب عليها المستولي. وأما إمارة الاستكفاء فمقصورة على البلاد التي تضمنها عهد المستكفي.
3 - إمارة الاستيلاء تشتمل على النظر في جميع الأمور: المعهودة والنادرة. وإمارة الاستكفاء خاصة بالمعهود لا النادر.
4 - يجوز لأميرالاستيلاء تعيين وزير تفويض ووزير تنفيذ، ولا يجوز لأمير الاستكفاء تعيين وزير تفويض إلا بإذن الإمام، ولكن له أن يستوزر وزير تنفيذ.
2 - الإمارة الخاصة:
وهي التي تتحدد فيها سلطات الأمير بصلاحيات معينة. وخصصها الماوردي بشؤون الأمن والدفاع. فقال: وهي أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة، أي إقليم الدولة، والذب عن الحريم. وليس له أن يتعرض للقضاء والأحكام ولجباية الخراج والصدقات.
ويلاحظ أن الإمارات كانت صدر الإسلام عامة، ثم بدأت تتخصص بتوسع الدولة وتعقد الجهاز الإداري. فكان عمرو بن العاص صاحب ولاية عامة على مصر. ثم عين الخليفة عمر شخصاً آخر لجباية الخراج هو عبد الله بن أبي سرح. ثم عين قاضياً في الخصومات هو كعب بن سور، فصارت سلطة الوالي مقصورة على قيادة الجيش وإمامة الصلاة (1) .
انتهاء ولاية الإمام: تنتهي ولاية الإمام بأحد أسباب خمسة وهي ما يأتي (2) :
1 ً - الموت: كما تنتهي الوكالة بالموت.
2 ً - الكفر أو الردة: إذا صدر من الإمام ما يجعله كافراً سواء بصريح القول أو بأي فعل أو قول يستلزم الكفر، بطلت إمامته. ولكن لا ينعزل بالفسق، أي بارتكاب معصية أو مخالفة شرعية، منعاً من الفتنة.
3 ً - زوال أهليته أو نقص في أعضائه أو حواسه بحيث يعجز عن القيام بواجبات الإمامة كالجنون المطبق (زوال العقل) وزوال البصر أو السمع وقطع اليدين أو الرجلين ونحو ذلك كما تقدم. واختلف الفقهاء في استمرار ولايته بقطع يد أو رجل فقط.
4 ً - نقص في إمكان التصرف: وهو يكون بأحد أمرين:
الأول ـ الحجر عليه: كأن يستولي عليه بعض أعوانه ممن يستبد بتنفيذ الأمور، فإن كان المستولي يحكم بأحكام الدين ومقتضى العدل، جاز إقراره منعاً من إلحاق الفساد بالأمة وتبقى إمامة الإمام الأصلي. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل، لم يجز إقراره، ووجب إزالة تغلبه.
الثاني ـ القهر: وهوأن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيجب استنقاذه إن أمكن، وإن وقع الإياس من إنقاذه، زالت إمامته.
5 ً - عزله من الأمة أو أن يعزل الإمام نفسه: بأن يستقيل وكان في الأمة من يقوم مقامه، ممن تنطبق عليه شروط الإمامة، فيعزل عن الحكم. وإن لم يوجد في الأمة من يسد مسده، لم تقبل استقالته، وللمسلمين حمله على البقاء في منصبه.
__________
(1) النظم الإسلامية للدكتور حسن إبراهيم: ص 201، السلطات الثلاث للطماوي: ص 302 وما بعدها.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 15-19.(8/347)
الفَصْلُ الثَّالث: السُّلطة القضائيَّة في الإسلام
الكلام في هذا الفصل المتعلق بتنظيم القضاء، لا بموضوعاته السابقة، يتناول:
نشأة القضاء وتاريخه وحكمه، وأنواعه، القضاء العادي وتنظيمه، التحكيم، ولاية المظالم، نظام الحسبة، الدعوى، الإثبات، تنفيذ الأحكام.
المبحث الأول ـ نشأة القضاء وتاريخه وحكمه وأنواعه:
القضاء لغة: الحكم بين الناس. والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (1) . وهو أمر مطلوب في الإسلام لقوله تعالى مخاطباً رسوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/5] {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/5] {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/4] . ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران» (2) «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه» (3) .
__________
(1) الدر المختار: 309/4، الشرح الكبيرللدردير: 129/4.
(2) أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة، ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة ابن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور» لكن في إسناده فرج بن فضالة، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 262/8) .
(3) أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف (نيل الأوطار: 262/8) .(8/348)
وحكمه شرعاً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء:135/4] قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة (1) . وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة» .
وحكمة تشريعه: حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم، وتوفير مصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومنع الظلم والتظالم، ومحاربة الأهواء.
أهمية القضاء:
القضاء منصب عظيم وخطير، وله مكانة في الدين، وهو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26/38] .
وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس، فلم يكن للمسلمين قاض سواه، يصدر عنه التشريع، ثم يشرف على تنفيذه، فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء، وكان قضاؤه اجتهاداً لا وحياً، معتمداً على ما قرره: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ويقول: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل
__________
(1) اللباب شرح الكتاب للميداني: 77/4.(8/349)
بعضكم أن يكون ألحن (1) بحجته من بعض» (2) وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى بعض الصحابة بالقضاء، فبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، وبعث إليها أيضاً معاذ بن جبل رضي الله عنه. وولى عتَّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها.
وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج، فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين لا يأتيه متخاصمان، لما اشتهر عنه من الحزم والشدة. وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولاية الإدارية، وعين القضاة في أجزاء الدولة الإسلامية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (3) . فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة، كماكان أول من وضع الدواوين كما عرفنا، وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري (4) ، وأول من استحدث نظام السجون، وكان الحبس في الماضي هو ملازمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في منزل أو مسجد، وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصوراً في المنازعات المدنية المالية (5) . أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة، وولاة الأقاليم ذوي الولاية العامة. وأما ولاة الإمارة الخاصة، فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق الله تعالى المحضة كحد الزنى جلداً أو رجماً، أو المتعلقة بحقوق الأشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (6) .
__________
(1) أي أفطن بها وأبصر.
(2) الحديث الأول رواه البيهقي والثاني غير ثابت بهذا اللفظ، والحديث الثالث رواه الجماعة عن أم سلمة (نيل الأوطار: 278/8، كشف الخفا: ص 221 وما بعدها) .
(3) القضاء في الإسلام لعارف النكدي: ص 79.
(4) أنظر أعلام الموقعين لابن قيم: 85/1 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص68.
(5) الإسلام والحضارة العربية للأستاذ محمد كرد علي: 154/2.
(6) الماوردي، المصدر السابق: ص 30.(8/350)
وكان عثمان رضي الله عنه أول من اتخذ داراً للقضاء، بعد أن كان القضاء في المسجد.
وكان القضاء يقوم على أساسين:
الأول: نظام القاضي الفرد.
الثاني: عدم تدوين الأحكام في سجلات؛ لأنها تنفذ فوراً بإشراف القاضي (1) .
وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء.
ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالاعتماد على مصادر التشريع الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.
ثم تطور القضاء في عهد الأمويين والعباسيين باستقرار الدولة، فتحددت سلطات القاضي واختصاصاته وتنوع القضاء، وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالباً، وبدأ تسجيل أحكام القضاء في بدء العهد الأموي، واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من تولاه أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة، ويعزلهم، ويراقب أعمالهم وأحكامهم، وظهر أيضاً قضاة المذاهب، فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي، ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي، وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي، وفي مصر على وفق مذهب الشافعي.
__________
(1) السلطات الثلاث للطماوي: ص 306.(8/351)
واتسع سلطان القاضي تدريجياً، فأصبح ينظر بالإضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى كالأوقاف وتنصيب الأوصياء. وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار الضرب وبيت المال (1) .
وكان نظام التحكيم معمولاً به بجانب القضاء. وانفصل قضاء المظالم وولاية الحسبة عن القضاء.
إلا أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما تولاه الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين. ثم ظهر نظام الحسبة في زمن المهدي للنظر في الاعتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به. ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور الولاة والحكام واستبداد الأقوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد إلى أموال الرعية. ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق لا بد من توافر الأسس التالية للقضاء في الإسلام:
أولاً ـ اعتماده على العقيدة والأخلاق: لتربية الضمير والوجدان، وتهذيب النفس، وإعداد الوازع الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى. وهو مطلوب في اختيار القاضي، وعند رفع الدعوى، وفي معاملة الخصوم، وفي إصدار الأحكام وتنفيذها، وفي الإثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة ونحوها.
ثانياً ـ ضرورته في كل دولة: القضاء أمر لازم لكل دولة، كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى الله عليه وسلم له، ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه. فهو إذن يحتل مركزاً مهماً في الدولة، ويعد أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها: «العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في التخاصم وإصدار الأحكام، واستيفاء الحقوق.
ثالثاً ـ استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات: كان القضاء في عهد الرسول وخلافة أبي بكر وجزء من خلافة عمر يقوم به الولاة الإداريون، ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال الولاة، فعين القضاة في المدينة وسائر المدن الإسلامية، وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة. وبه تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة.
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 192 وما بعدها.(8/352)
المبحث الثاني ـ القضاء العادي وتنظيمه:
الكلام في هذا المبحث عن شروط القاضي وواجباته وأنواع القضاة وتنظيم القضاء.
المطلب الأول ـ شروط القاضي:
القضاء ولاية عامة مستمدة من الخليفة كغيره من ولايات الدولة كالوزارة ونحوها، فلا يصلح للتعيين فيه إلا من كان مستكملاً أوصافاً معينة مستلهمة من صنيع الخلفاء الراشدين الذين كانوا يتشددون في اختيار القضاة طبقاً لأهلية معينة (1) . وقد حدد الفقهاء هذه الشروط، فاتفقوا على أكثرها واختلفوا في بعضها (2) .
أما الشروط المتفق عليها بين أئمة المذاهب فهي أن يكون القاضي عاقلاً بالغاً، حراً، مسلماً، سميعاً بصيراً ناطقاً، عالماً بالأحكام الشرعية.
أولاً ـ أهلية البلوغ والعقل: حتى تتحقق فيه المسؤولية عن أقواله وأفعاله، وليستطيع إصدار الحكم في الخصومات على غيره، قال الماوردي: «ولايكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل» .
ثانياً ـ الحرية: لأنه لاتصح ولاية العبد على الحر؛ لما فيه من نقص يمنع انعقاد ولايته على غيره. ولم يعد هذا الشرط ذا موضوع الآن.
ثالثاً - الإسلام: لأن القضاء ولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، فلا تقبل شهادته عليه، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] . وأجاز أبو حنيفة
__________
(1) الطرق الحكمية لابن قيم: ص 238.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 61 وما بعدها، البدائع: 2/7، فتح القدير: 453/5 ومابعدها، 485، الدر المختار: 312/4، 318، بداية المجتهد: 449/2، الشرح الكبير للدردير: 129/4 ومابعدها، تبصرة الحكام: 17/1، مغني المحتاج: 375/4 وما بعدها، المهذب: 290/2، المغني: 39/9 وما بعدها، أعلام الموقعين: 105/1.(8/353)
تقليد غير المسلم القضاء بين أهل دينه (1) .
رابعاً ـ سلامة الحواس من السمع والبصر والنطق ليتمكن من أداء وظيفته، فيميز بين المتخاصمين، ويعرف المحق من المبطل، ويجمع وسائل إثبات الحقوق، ليعرف الحق من الباطل.
خامساً ـ العلم بالأحكام الشرعية: بأن يعلم بفروع الأحكام الشرعية ليتمكن من القضاء بموجبها.
وأما الشروط المختلف فيها فهي ثلاثة: العدالة، والذكورة، والاجتهاد.
__________
(1) ما يجري عليه العمل الآن من تولية الذميين منصب القضاء حتى بين المسلمين مأخوذ مما قررته لجنة مجلة الأحكام العدلية عملاً بقبول شهادته على المسلم للضرورة.(8/354)
أما العدالة (1) : فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية الفاسق، ولا مرفوض الشهادة بسبب إقامة حد القذف عليه مثلاً، لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات:6/49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ فلأن لا يكون قاضياً أولى.
وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، فلو عين قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة ينبغي ألا يقبل القاضي شهادة فاسق، لكن لو قبل ذلك منه جاز، مع وقوعه في الإثم. وأما المحدود في القذف فلا يعين قاضياً ولا تقبل شهادته عندهم.
وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا تولى امرأة القضاء؛ لأن القضاء ولاية، والله تعالى يقول: {الرجال قوامون على النساء} [النساء:34/4] وهو يحتاج إلى تكوين رأي سديد ناضج، والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع والأدلة بسبب نسيانها، فيكون حكمها جوراً، وهي لا تصلح للولاية العامة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2) .
وقال الحنفية: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية؛ لأنه تجوز شهادتها فيها. وأما في الحدود والقصاص، أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها في الجنايات، وأهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة.
__________
(1) العدالة كما قال الماوردي في الأحكام: ص 62: هي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغصب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه» .
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أبي بكرة.(8/355)
وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء لجواز إفتائها (1) ورد عليه الماوردي بقوله: ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [النساء:34/4] يعني في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال (2) .
وأما الاجتهاد (3) : فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، كالقدوري، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية ولا المقلِّد (4) ؛ لأن الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/5] {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/4] {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] ولأن الاجتهاد يستطيع به المجتهد التمييز بين الحق والباطل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق، فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (5) والعامي يقضي على جهل.
وأّهلية الاجتهاد تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة وإجماع الأمة، واختلاف السلف، والقياس، ولسان العرب. ولا يشترط الإحاطة بكل القرآن والسنة أو الاجتهاد في كل القضايا، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع النزاع المطروح أمام القاضي أو المجتهد.
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح عندهم أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب. فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد والاستفتاء. لكن قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي بأدلة الأحكام؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به.
والواقع في زماننا عدم توافر المجتهدين بالمعنى المطلق، فيجوز تولية غير المجتهد، ويولى الأصلح فالأصلح من الموجودين في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة. وهذا ما قاله الشافعية والإمام أحمد، وقال الدسوقي من المالكية: والأصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد.
__________
(1) بداية المجتهد: 458/2.
(2) الأحكام السلطانية: ص 61.
(3) الاجتهاد: عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
(4) المقلد: هو من حفظ مذهب إمامه دون معرفة بأدلته.
(5) رواه ابن ماجه وأبو داود عن بُرَيدة (نيل الأوطار: 263/8 وما بعدها) .(8/356)
المطلب الثاني ـ واجبات القضاة:
عرفنا سابقاً أنه يلتزم القضاة وجوباً بأمور، وندباً أو استحباباً بأمور أخرى. أما الواجبات المفروضة عليهم أساساً فهي (1) :
أولاً ـ بالنسبة للقانون الواجب التطبيق: هو الالتزام بالأحكام الشرعية، فيجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى؛ إما بدليل قطعي: وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو السنة المتواترة، أو المشهورة، أو الإجماع.
وإما بدليل ظاهر للعمل كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء.
فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده إن كان مجتهداً. وإن لم يكن مجتهداً يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب اعتقاده.
والأفضل بسبب تعدد آراء الفقهاء وضع تقنين موحد للأحكام الشرعية، كمجلة الأحكام العدلية في المعاملات المدنية، وكمرشد الحيران والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا.
ثانياً ـ في تكوين رأي القاضي واقتناعه: الالتزام بوسائل الإثبات الشرعية كالشهادة والإقرار والكتابة واليمين والقرائن القطعية والعرفية، حتى يكون حكمه ـ كما هو مقرر بداهة ـ مبنياً على دليل صحيح لا يتعرض للنقض والطعن والتهمة.
ثالثاً ـ منع التهمة: وهو ألا يقضي لخصم يتهم بمحاباته بأن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي. فإن كان ممن لا تقبل شهادته له لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا يصح القضاء. وعلى هذا يجب على القاضي الامتناع والتنحي عن القضاء لنفسه أو لأحد أبويه أو أجداده، أو لزوجته أو لأولاده وأحفاده، أو لكل من لا تجوز شهادته لهم بسبب التهمة. وهو رأي أكثر الفقهاء (2) .
وأما الواجبات المندوبة أو الكمالية للقاضي فهي كثيرة مستمدة في أغلبها من رسالة سيدنا عمر في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وهي تتوخى إقامة العدل المطلق في أكمل وأدق صوره. وبعض هذه الآداب مستمد أيضاً من كتاب علي كرم الله وجهه إلى الأشتر النخعي.
__________
(1) المبسوط: 68/16، البدائع: 5/7 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 327.
(2) بداية المجتهد: 460/2، فتح القدير: 477/5، مغني المحتاج: 393/4، المغني: 107/9.(8/357)
وهذه الآداب نوعان: عامة وخاصة (1) .
فالآداب العامة: كالمشاورة لجماعة من الفقهاء، والتسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال، ورفض قبول الهدايا: «هدايا الأمراء غلول» (2) أي خيانة، والامتناع عن قبول الدعوات الخاصة، أو العامة إذا كان لصاحبها خصومة أو مصلحة.
والآداب الخاصة: كاتساع مكان القضاء (المحكمة) ، وملاءمته المناخ أو الطقس في الحر والبرد، والاستعانة بالمساعدين القضائيين كالكتاب والحارس، والمزكي، والترجمان، والمحضر (الذي يحضر الخصوم ويبلغ الدعاوى) ، ونائب القاضي حالة السفر أو المرض أو أداء فريضة الحج ونحوها، ووكلاء الخصومة (المحامين) . ومن هذه الآداب: ضرورة فهم كل ما يتعلق بالمنازعة أو الخصومة موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً مضطرباً وقت القضاء موضوع الدعوى، وصفاء القاضي نفسياً بألا يكون قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء بسبب الغضب ونحوه من كل ما يشغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين (البول والغائط) . ومنها الاعتماد على مبدأ تزكية الشهود، والأخذ بمبدأ مصالحة الخصمين قبل الحكم لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] .
__________
(1) راجع البدائع: 9/7-13، المبسوط: 61/16-64، فتح القدير: 465/5-470. الدر المختار: 316/4-325،بداية المجتهد: 462/2، الشرح الكبير للدردير: 137/4، مغني المحتاج: 390/4 وما بعدها، المغني: 45/9، الأحكام للماوردي: ص 72.
(2) رواه أحمد والبيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد الساعدي، وإسناده ضعيف (نيل الأوطار: 297/7، 268/8) .(8/358)
وأما حقوق القضاة فمنها المادي ومنها المعنوي. فمن الحقوق المادية: توفير الكفاية المعيشية له ولأسرته بتخصيص مرتب كاف له، كيلا تمتد يده إلى أموال الناس، ولا يتطلع إلى الهدية أو الرشوة. وقد سار النبي وخلفاؤه على هذا النهج. ويضمن بيت المال الضرر الناشئ عن أحكام القضاة دون عمد ولا تقصير أوإهمال. ومن الحقوق المعنوية: توفير الاستقرار للقاضي وعدم عزله إلا بسبب شرعي، تحقيقاً للحصانة القضائية له. وعلى الدولة حماية القاضي من أي تعرض له بسبب حكمه، ومنع مخاصمته في الحكم، ومعاونته في تنفيذ أحكامه.
المطلب الثالث ـ أنواع القضاة واختصاصاتهم:
قسم أقضى القضاة الماوردي قضاة زمانه بحسب عموم ولا يتهم وخصوصها إلى أنواع أربعة وهي:
أولاً ـ القاضي ذو الولاية العامة: وهو القاضي الذي لا تتحدد ولايته بزمان ومكان معين، ولا بأشخاص معينين، وإنما له سلطة مطلقة بالنظر والتصرف فيما يختص بولايته. واختصاصه يشمل عشرة أمور، وهي (1) :
1 - فصل المنازعات وقطع المشاجرة والخصومات، إما صلحاً عن تراض فيما يحل شرعاً، أو بحكم بات ملزم.
2 - استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالإقرار أو البينة ونحوهما من طرق الإثبات الشرعية.
3 - ثبوت الولاية على عديم الأهلية بجنون أو صغر، والحجر على ناقص الأهلية بسبب السفه (التبذير) والإفلاس، حفظاً للأموال، وتصحيحاً للعقود.
4 - النظر في الأوقاف، بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرف ريعها لمستحقيها.
5 - تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع.
6 - تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدِمن الأولياء ودعين إلى النكاح، وهذا مقصور عند الحنفية على تزويج الصغار.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 67 وما بعدها.(8/359)
7 - إقامة الحدود على مستحقيها: فإن كان من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب. وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفاً على طلب مستحقه.
8 - النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها، وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بدعوى من الخصم.
9 - تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم.
10 - التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف، ولا يتبع هواه في تقصير المحق، أو ممايلة المبطل.
ويلاحظ أن هذه الأمور تتضمن بعض التوجيهات العامة بالإضافة إلى تحديد الاختصاصات القضائية.
ثانياً ـ القاضي خاص الولاية: وهو الذي تقتصر ولايته على بعض الاختصاصات المتقدمة، أو تكون ولايته ذات اختصاص موضوعي أضيق، كالحكم بالإقرار دون البينة، أو في الديون، دون الأحوال الشخصية، أو في المقدرات الشرعية، فيتقيد بما خصص فيه، ولا يتعداه إلى غيره (1) .
ثالثاً ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الاختصاص المكاني) : وهو الذي يختص بالنظر في جميع اختصاصات النوع الأول، ولكن في بلدة معينة أو محلة معينة، فتنفذ أحكامه في هذا النطاق فقط (2) .
رابعاً ـ القاضي المحدد الولاية: وهوالذي تقتصر ولايته بالحكم في قضية أشخاص معينين، أو في أيام محدودة، كيوم السبت وحده بالنسبة لجميع الدعاوى بين الخصوم، وتزول ولايته بعدئذ (3) .
__________
(1) المصدر السابق: ص69.
(2) المصدر والمكان السابق.
(3) المصدر السابق: ص 70.(8/360)
المطلب الرابع ـ تنظيم القضاء:
الكلام عن تنظيم القضاء يتناول أموراً كثيرة أهمها:
طرق تعيين القضاة وعزلهم، وتخصص القضاة، وأسلوب القضاء الفردي والجماعي ودرجات التقاضي أو المحاكم.
والتنظيم القضائي: هو مجموعة القواعد والأحكام التي تؤدي إلى حماية الحقوق وفصل الخصومات.
طرق تعيين القضاة وعزلهم:
القضاء ولاية من الولايات المستمدة من الخليفة باعتباره ممثلاً الأمة، فلا بد
للقاضي من تعيين صادر عن الحاكم الأعلى أو نائبه، سواء أكان عادلاً أم جائراً، ولا يصح أن يولي نفسه، أو يوليه جماعة من الرعية. وقد بيَّن الماوردي (1) صيغة قرار التعيين الصريح أو ما يقوم مقامه من الألفاظ الدالة على التقليد أو الاستخلاف أو النيابة، واشترط لتمام الولاية أربعة شروط مجملها:
معرفة المولي توافر الصفات اللازمة في المولَّى، ومعرفة المولَّى بصلاحية المولي للتعيين، وتحديد اختصاص القاضي، وتعيين البلد التي يقضي فيها.
وللحاكم عزل القاضي متى شاء، والأولى ألا يعزله إلا بعذر، كما أن للقاضي عزل نفسه من القضاء إذا شاء، والأفضل ألا يعتزل منصبه إلا بعذر، لما في عمله من تحقيق مصلحة عامة للمسلمين، ولا ينعزل القاضي عند الحنفية بعزل الحاكم إلا بعلمه بذلك، وتظل أحكامه نافذة حتى يبلغه نبأ العزل.
وتنتهي ولاية القاضي كما تنتهي الوكالة العادية بأسباب أخرى كالموت والجنون المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في أمر واحد: وهو أن الموكل العادي إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل. أما ولي الأمر الحاكم إذا مات أو خلع فلا ينعزل قضاته وولاته؛ لأن الحاكم لا يعمل باسمه الشخصي، وإنما بالنيابة عن جماعة المسلمين، وولاية المسلمين تظل باقية بعد موت الإمام (2) .
تخصص القضاة:
يتخصص القضاة زماناً ومكاناً ونوعاً وموضوعاً.
1 - التخصص الزماني: وهو أن يتخصص القاضي بالنظر في وقت معين، كأيام محددة في الأسبوع. وهو حالة من حالات اختصاص القاضي المحدد الولاية كما بيَّن الماوردي.
__________
(1) المصدر نفسه: ص 65 وما بعدها.
(2) الأحكام السلطانية: ص 66، البدائع: 16/7، 37/6 وما بعدها.(8/361)
2 - التخصص المكاني: وهو تقييد القاضي بالقضاء في بلدة معينة أو أكثر، أو ناحية من بلد معين، كما قلد النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب قضاء اليمن، وقلد معاذ بن جبل القضاء في ناحية منها. وهذا هو اختصاص النوع الثالث من أنواع القضاة الذين ذكرهم الماوردي.
3 - التخصص النوعي: وهو تخصيص القاضي عند تعيينه أو بعده ببعض معين من القضايا، كما هو الحادث الآن في دوائر المنازعات المدنية، والأحوال الشخصية، والتجارية، والجنائية ونحوها. أو تخصيصه بقضايا لا تزيد فيها المبالغ المستحقة عن قدر معين. وقد سبق بيانه في النوع الثاني من أنواع القضاة.
4 - التخصص الموضوعي: وهو الاقتصار على سماع دعاوى موضوعات معينة والمنع من سماع دعاوى أخرى، كدعوى الوقف أو الإرث، بسبب مضي المدة أو التقادم الطويل الأمد بلا عذر، وهو مدة (33 أو 36) سنة في الأوقاف وأموال بيت المال، أو 15 سنة في الحقوق الخاصة؛ لأن ترك الادعاء مع الإمكان يدل على عدم الحق ظاهراً.
ومنها عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن، في الفتى دون 18 سنة، وفي الفتاة دون 16 سنة مثلاً.
أسلوب القضاء الفردي والجماعي:
إن أساس القضاء الذي كان سائداً في الإسلام هو الأخذ بنظام وحدة القاضي أو القاضي الفرد كما عرفنا: وهو أن يفصل في الخصومات قاض واحد يعينه الإمام أو نائبه في بلد معين. ولا مانع عند فقهاء الحنفية (1) وبعض الحنابلة والشافعية من الأخذ بنظام قضاء الجماعة: وهو اشتراك أكثر من قاض في نظر الدعاوى؛ لأن القاضي نائب أو وكيل عن الإمام، وللموكل أن يوكل عنه شخصاً أو أكثر، وحينئذ فلا بد من اشتراكهم جميعاً عند النظر في الدعاوى وإصدار الحكم فيها، على أساس الشورى.
وأما غير الحنفية (2) الذين لم يجيزوا تعدد القضاة، فتعللوا بتعذر اتفاق القضاة في الرأي بالمجتهد فيه، مما يؤدي إلى تعذر الفصل في الخصومات. وهذا السبب يمكن التغلب عليه بالأخذ برأي الأكثرية، ولأن القضاة يستندون إلى الرأي الذي صوبه الإمام، كما قال بعض الشافعية.
__________
(1) الفتاوى الهندية: 317/3، التبصرة لابن فرحون: 37/1.
(2) مغني المحتاج: 380/4، المغني: 105/9، حاشية الدسوقي: 134/4.(8/362)
درجات التقاضي أو درجات المحاكم والطعن في الأحكام:
الأصل في القضاء أن يكون على درجة واحدة حسماً للنزاع في أسرع وقت، ولكن ضماناً لسير العدالة وإحقاق الحق، وبسبب قلة الورع، ونقص العلم، جرى العمل حديثاً على تعدد المحاكم.
ولا مانع في الفقه الإسلامي من مبدأ التعدد، بدليل أن سيدنا علياً قضى بين خصمين في اليمن، وأجاز لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتياه فأقر قضاء علي. وقال عمر لأبي موسى الأشعري في رسالته المشهورة: «ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ لأن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل» .
وقد فصل فقهاء المذاهب الأربعة هذا الموضوع في بحث الاجتهاد أو نقض الحكم على النحو التالي:
إذا كان الحكم معتمداً على دليل قطعي من نص أو إجماع أوقياس جلي (1) فلا ينقض؛ لأن نقضه إهمال للدليل القطعي، وهو غير جائز أصلاً.
وأما إذا خالف الحكم دليلاً قطعياً، فينقض بالاتفاق بين العلماء، سواء من قبل القاضي نفسه، أو من قاضٍ آخر، لمخالفته الدليل.
فإن كان الحكم في غير الأمور القطعية، وإنما في مجال الاجتهادات أو الأدلة الظنية، فلا ينقض (أي بحسب نظام القضاة الفردي) حتى لا تضطرب الأحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاة، وتبقى الخصومات على حالها بدون فصل زماناً طويلاً.
__________
(1) وهو ما كانت العلة فيه منصوصة، أو قطع بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الضرب على التأفف في الحرمة.(8/363)
أما في أسلوب تعدد المحاكم، فإن الخصمين يعلمان سلفاً أن الحكم لم يكتسب الدرجة القطعية، وإنما يجوز استئنافه ونقضه، فلم تعد هناك خشية من اضطراب الأحكام؛ لأن الحكم لم يكتمل بعد. ويمكن تأييد ما ذكر بما قرر الفقهاء من جواز نقض الحكم إذا صدر سهواً، أو ظهر فيه خطأ (1) . فإن اكتسب الحكم الدرجة القطعية من محكمة النقض، فلا ينقض الحكم السابق في حادثة مشابهة عملاً بقاعدة: «الاجتهاد لا ينقض بمثله» وأصلها قول عمر: «تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي» .
والخلاصة: إن فقهاءنا عرفوا مبدأ الطعن في الأحكام، ولا يعد تنظيم المحاكم حديثاً مخالفاً لمبادئ الإسلام، وإنما يتمشى معها، عملاً بما قرره الفقهاء فيما يجوز نقضه من الأحكام أو الطعن في الحكم بسبب التهمة الموجهة للقاضي. وقد عرف القضاء في الأندلس فعلياً مبدأ القضاء بالرد.
__________
(1) راجع تبصرة الحكام: 55/1 وما بعدها، فتح القدير: 487/5، البدائع: 14/7، مغني المحتاج: 396/4، المغني: 56/9، العقد المنظم للحكام: 192/2، أصول الفقه للمؤلف 1114/2 ومابعدها.(8/364)
صفة قضاء القاضي:
يلاحظ أخيراً أن حكم القاضي عند جمهور العلماء يعتمد الظاهر في المال وغيره من الأحوال الشخصية، فلا يحل الحرام ولا يحرم الحلال، ولا ينشئ الحقوق وإنما يظهرها ويكشف عنها في الوقائع، عملاً بالحديثين السابقين: «نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر» (1) «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار» (2) .
وقال أبو حنيفة: ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ ظاهراً وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق. فلو ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على ادعائه شاهدي زور، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما، حل للرجل الاستمتاع بها. ولو قضى القاضي بالطلاق فرق بينهما، وإن كان الرجل منكراً. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين: ألا يعلم بكون الشهود زوراً، وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء.
المبحث الثالث ـ التحكيم
التحكيم: أن يحكم المتخاصمان شخصاً آخر لفض النزاع القائم بينهما على هدى حكم الشرع. وقد دل على جوازه قوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/4] وعن أبي شريح قال: «يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني فحكمت بينهم، فرضي عني الفريقان، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا» وعمل الرسول بحكم سعد بن معاذ الذي اتفق مع يهود بني قريظة على تحكيمه فيهم. وأجمع الصحابة على جواز التحكيم.
ويشترط في المحكَّم أن يكون أهلاً للشهادة رجلاً كان أو امرأة، وأن تتوافر فيه هذه الأهلية وقت الحكم، وأن يكون الموضوع في غير الحدود والقصاص لاختصاص الإمام بالنظر فيها وفي استيفائها، فيصح التحكيم في القضايا المالية وفي الأحوال الشخصية من زواج وطلاق.
ويلتزم المتحاكمان بقرار المحكم عند الحنفية والحنبلية. ولكل واحد الرجوع عن التحكيم قبل إصدار الحكم عند الحنفية. والراجح عند المالكية ألا يشترط دوام رضائهما حتى صدور الحكم، فإن رجعا معاً ولم يرتضياه قبل الحكم، فلهما ذلك. وإن رجع أحدهما فله ذلك عند سحنون،
وليس له حق الرجوع عند ابن الماجشون (3) .
__________
(1) لم يثبت بهذا اللفظ.
(2) رواه الجماعة عن أم سلمة.
(3) انظر فتح القدير: 498/5، المبسوط: 62/21، تبصرة الحكام: 43/1، حاشية الدسوقي: 140/4 ومابعدها.(8/365)
المبحث الرابع ـ ولاية المظالم
تعريفها ونشأتها، المختص بالنظر فيها، هيئة مجلسها، اختصاصاتها، الفرق بينها وبين القضاء العادي.
أولاً ـ تعريف ولاية المظالم ونشأتها: ولاية المظالم تشبه إلى حد كبير نظام القضاء الإداري ومجلس الدولة حديثاً، فهي أصلاً للنظر في أعمال الولاة والحكام ورجال الدولة مما قد يعجز عنه القضاء العادي، وقد ينظر واليها في المنازعات التي عجز القضاء عن فصلها، أو في الأحكام التي لا يقتنع الخصوم بعدالتها. ويجتمع فيها القضاء والتنفيذ معاً (1) .
وعرفها الماوردي بقوله (2) : «نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثيرالورع؛ لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين» .
نشأتها: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم في صدر الإسلام أول من نظر المظالم بنفسه، فقضى في شِرْب بين الزبير بن العوام وأنصاري (3) ، وأرسل علياً لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد من قبيلة بني جذيمة بعد أن خضع أهلها وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد» .
ولم يُنتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد؛ لأن الناس كان يقودهم التناصف إلى الحق، ويزجرهم الوعظ عن الظلم.
ولكن عمر رضي الله عنه كان شديد الوطأة على الولاة، ودائم التحذير لهم، فأمر بالاقتصاص من عمرو بن العاص؛ لأنه قال لأعرابي في المسجد: يا منافق، إلا أن يعفو الأعرابي، واقتص من ابن عمرو لإهانته مصرياً قبطياً.
__________
(1) السلطات الثلاث: ص 313، الماوردي: ص 73.
(2) الأحكام السلطانية: ص 73.
(3) الماوردي: ص 73.(8/366)
وحينما تأخرت إمامة علي واختلط الناس فيها وجاروا، احتاجوا إلى صرامة في السياسة، فكان علي رضي الله عنه أول من نظر في مظالم النا س، ولم يعين يوماً محدداً لها.
وعندما تجاهر الناس بالظلم في عهد الدولة الأموية كان عبد الملك بن مروان أول من أفرد للظلامات يوماً يتصفح فيه قصص المتظلمين.
ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة ولم يكفهم إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردها، وراعى السنن العادلة، ورد مظالم بني أمية على أهلها، فلما عوتب في شدته عليهم فيها قال: «كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وُقِيته» .
ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة، أولهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون وكان آخرهم المهتدي، حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها (1) .
وهكذا نشأ نظام المظالم واستقل عن القضاء العادي.
ثانياً ـ صفة ناظر المظالم: كان الخليفة كما تقدم أول من نظر المظالم ومثله الوزراء والأمراء. ويصح النظر في المظالم بتقليد خاص من ولي الأمر لكل من توافرت فيه شروط ولاية العهد، أو وزارة التفويض، أو إمارة الأقاليم إذا كان نظره في المظالم عاماً.
فإن اقتصرت مهمة المقلد للقضاء على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه، جاز أن يكون ناظر المظالم دون مرتبة الوزير والأمير في القدر والخطر، بشرط ألا تأخذه في الحق لومة لائم.
__________
(1) المرجع السابق: ص 73 وما بعدها.(8/367)
هيئة محكمة المظالم: لابد لتكوين مجلس نظر المظالم من خمسة أصناف لا يستغني عنهم ناظر المظالم ولا ينتظم نظره إلا بهم، وهم (1) :
1 - الحماة والأعوان لجذب القوي، وتقويم الجريء.
2 - القضاة والحكام لاستعلام ما ثبت عندهم من الحقوق، ومعرفة ما جرى في مجالسهم بين الخصوم.
3 - الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل، ويسألهم عما اشتبه وأعضل.
4 - الكتّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق.
5 - الشهود: ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم. فإذا استكمل مجلس المظالم بهؤلاء الأصناف شرع الناظر حينئذ في النظر فيها.
ثالثاً ـ اختصاصات ديوان المظالم:
يختص ناظر المظالم باختصاصات متعددة بعضها استشاري يتعلق بمراقبة تطبيق أحكام الشرع، وبعضها إداري يتعلق بمراقبة أعمال الموظفين ولو بدون متظلم من الناس، كما يظهر من الاختصاصات الثلاثةالأولى، وبعضها قضائي يتعلق بفصل الخصومات بين الحكام والرعية، أو بين الرعية أنفسهم. وهذه الاختصاصات تفصيلاً هي ما يأتي (2) :
أولاً ـ النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة.
ثانياً ـ النظر في جور العمال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها، ويأخذ العمال بها، وينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده، وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه.
ثالثاً ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛ لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه لهم، ويوفونه منه.
هذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم.
رابعاً ـ النظر في تظلم المسترزقة (أي الموظفين والجنود) من نقص أرزاقهم أو تأخرهم عنهم.
خامساً ـ رد الغصوب، أي الأموال المغتصبة بدون حق. وهي نوعان:
أـ غصوب سلطانية: وهي التي يأخذها الحكام أو ولاة الجور من أصحابها بدون حق، إما بأخذها للدولة أو لأنفسهم ظلماً. وحكمها أن والي المظالم يأمر بردها إلى أصحابها إن علم بها عند ممارسة إشرافه على الولاة، ولو قبل التظلم إليه، فإذا لم يعلم بها توقف نظره فيها على تظلم أربابها. ويمكنه الاعتماد على ديوان السلطنة في إثبات حق صاحبها، دون حاجة لتقديم الأدلة من مستحقها.
ب ـ غصوب الأقوياء: وهي التي يتغلب عليها ذوو الأيدي القوية من الأفراد المتنفذين ذوي الوجاهة في الدولة، فيتصرفون فيها تصرف الملاك بالقهر والغلبة. وهذا النوع يتوقف النظر فيه على تظلم أربابه.
ولا ينتزع من يد غاصبه إلا بأحد أمور أربعة: وهي اعتراف الغاصب وإقراره أو علم والي المظالم بها، أو بينة تشهد بالغصب، أو تظاهر الأخبار، أي التسامع الذي ينفي عنها التواطؤ ولا يختلج فيها الشك.
__________
(1) المصدر السابق: ص 76.
(2) المصدر السابق نفسه: ص76 ومابعدها.(8/368)
سادساً ـ الإشراف على شؤون الأوقاف وهي نوعان:
أـ أوقاف عامة على مصالح عامة كالمساجد والمدارس ونحوها. وهذه ينظر في شأنها، وإن لم يكن فيها متظلم، ليصرف ريعها في سبلها، وينفذ شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه: إما من دواوين المندوبين لحراسةالأحكام، وإما من دواوين السلطنة، وإما من كتب فيها قديمة يترجح ظن صحتها، وإن لم يشهد الشهود بها.
ب ـ أوقاف خاصة: وهي الموقوفة على أشخاص معينين. فلا ينظر في منازعاتها إلا بتظلم مستحقيها، ولا يحكم بها إلا بطرق الإثبات العادية المقررة شرعاً.
سابعاً ـ تنفيذ أحكام القضاة التي عجزوا عن تنفيذها، لتعزز المحكوم عليه وقوة يده، أو لعلو قدره وعظيم خطره.
ثامناً ـ النظر فيما عجز عنه ناظرو الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه، والتعدي في طريق عجز عن منعه، والتحيف في حق لم يقدر على رده.
تاسعاً ـ مراعاة العبادات الظاهرة كالجُمَع والأعياد والحج والجهاد، من تقصير فيها، وإخلال بشروطها، فإن حقوق الله أولى أن تستوفى، وفروضه أحق أن تؤدى.
عاشراً ـ النظر بين المتشاجرين، والحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه، ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم بها الحكام والقضاة.
رابعاً ـ الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة:
قد يثور التساؤل في تحديد جهة المحكمة المختصة بنظر النزاع، هل ديوان المظالم أو القضاء العادي، مما يدعو إلى توضيح الفروق بينهما وهي عشرة كما أبان الماوردي (1) :
1 - لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة في ردع الخصوم ومنع الظلمة من التسلط.
2 - ناظر المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً.
3 - سلطات ناظر المظالم أوسع في التحقيق والاستدلال وطرق الإثبات المعتمدة على القرائن والأمارات وشواهد الأحوال.
4 - لناظر المظالم أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب، ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب.
5 - له الحق في التأني والتأجيل عند الاشتباه والإبهام ما ليس للحكام إذا طلب منهم أحد الخصمين فصل الحكم وإصدار القرار.
6 - له رد الخصوم لفصل التنازع صلحاً عن تراض، وليس للقاضي الرد إلا إذا رضي الخصمان.
7 - له أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد، ويأذن بالكفالة فيما يسوغ فيه التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.
8 - له أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين.
9 - له إحلاف الشهود عند إرتيابه بهم، ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، وينفي عنه الارتياب، وليس ذلك للحاكم العادي.
10 - له أن يبدأ باستدعاء الشهود، ويسألهم عما عندهم من تنازع الخصوم. وأما عادة القضاة فهي تكليف المدعي إحضار بينة، ولا يسمعونها إلا بعد مسألته وطلبه.
وفيما عدا هذه الأمور العشرة هما متساويان.
__________
(1) الأحكام: ص79 وما بعدها.(8/369)
المبحث الخامس ـ نظام الحسبة أو ولاية الحسبة في الإدارة الإسلامية:
تمهيد في تاريخ الحسبة:
ظهر في العهود الإسلامية الأولى نظام الحسبة إلى جانب نظام القضاء العادي وولاية المظالم، وكان ذلك أحد أنظمة الإدارة الإسلامية الأصلية المنبثقة عن نظام الخلافة التي هي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا.
ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن الخطط الدينية الشرعية، من إمامة الصلاة، والفتيا، والقضاء، والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة، فكأنها الإمام الكبير، والأصل الجامع، وهذه كلها متفرعة عنها، وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة، وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية، وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم (1) .
وهنا أفصل الكلام في ولاية الحسبة على النحو التالي:
1 - حقيقة الحسبة:
وهي تشمل تعريف الحسبة وأساسها وغايتها، وقاعدتها وأصلها، وواضعها والفرق بين المحتسب والمتطوع وشروطها وآدابها.
2 - اختصاصات المحتسب.
3 - مقارنة أوموازنة بين ولاية الحسبة ونظام القضاء وولاية المظالم أو نظر المظالم.
أولاً ـ حقيقة الحسبة:
تتبين حقيقة الحسبة في توضيح الأمور التالية:
1 - تعريفها: الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 195، ط دار الشعب بالقاهرة.(8/370)
ظهر فعله (1) . أو هي وظيفة دينية، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيِّن لذلك من يراه أهلاً له، فيتعيَّن فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزِّر، ويؤدِّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمَّآلين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة) (2) .
قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: وأما الحكم بين الناس فيما لا يتوقف على الدعوى، فهو المسمى بالحسبة، والمتولي له والي الحسبة.
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة، والمتولي لها يسمى والي المظالم، وولاية المال قبضاً وصرفاً بولاية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيراً، وناظر البلد لإحصاء المال وضبطه تسمى ولايته: ولاية استيفاء، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته ولا ية السِّر، والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق، والحكم في الفروج والأنكحة والطلاق والنفقات، وصحة العقود وبطلانها: هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي. وبه يتبين أن ولاية الحسبة: خاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة (3) .
يتبين من هذا أن الحسبة لا تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم، ويصح لأي واحد من الناس تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلاً علاقة غير مشروعة مع امرأة بسبب طلاقها، أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة، أو تعايش معها دون وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما.
كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لأمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من شخص ما.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 240، ط البابي الحلبي بمصر.
(2) مقدمة ابن خلدون: ص 201، ط دار الشعب، 576 ط التجارية بالقاهرة.
(3) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 344، 349، مطبعة المدني بالقاهرة.(8/371)
وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والآداب، وقد تتعلق بالجنايات أحياناً مما يحتاج إلى سرعة في الفصل فيه، من أجل حماية القيم الإنسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل، فهي إذن ضرورة اجتماعية لا بد منها تمثِّل المجتمع وقيمه، وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر الحديث بنظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، إذ لهاجانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخصي، وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف، والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها، والحفاظ على الأعراض والحرمات.
قال ابن خلدون: ولا يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه، وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيِّنة ولا إنفاذ حكم، وكأنها أحكام يُنزَّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية، مثل العبيديين بمصر، والمغرب، والأمويين بالأندلس داخلةً في عموم ولاية القاضي، يولّي فيها باختياره.(8/372)
ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة، وصار نظره عاماً في أمور السياسة، اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية (1) .
2 - أساسها: أساس الحسبة: قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (2) فهي من قواعد الأمور الدينية، وهي ولاية دينية ناشئة من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 - غايتها: غايتها أو مقصودها مثل مقصود جميع الولايات في الإسلام:
أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بتحقيق العبودية لله، والقيام بواجب عبادة الله، وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله، وذلك هو الخير والبر والتقوى، والحسنات والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وهذه مظاهر إيجابية المسلم، ليظل نقياً بنفسه، طاهراً مطهراً من شوائب الانحراف، وجميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة قولاً وعملاً، كلاماً طيباً وعملاً صالحاً.
والطاعة تتطلب أيضاً في شطرها الثاني: البعد عن المعاصي أو الجرائم والفواحش والمنكرات، لأن نقاوة المجتمع ونظافته لا تتوافر إلا بالإقلاع عن هذه الأمور، وذلك مظهر مدني وحضاري رفيع، كما أن للمعاصي انعكاسات سيئة على الفرد والجماعة، لأن الله تعالى أبان لنا بنحو واضح أن المعاصي سبب
__________
(1) مقدمة ابن خلدون، المرجع والمكان السابق.
(2) حديث صحيح أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(8/373)
المصائب، فالمصيبة والجزاء من سيئات الأعمال، والطاعة سبب النعمة، وإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير} [الشورى:30/42] وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء:4/79] وأخبر سبحانه بما عاقب به في الدنيا أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين، وقوم فرعون، وأخبر أيضاً بما يعاقبهم به في الآخرة (1) .
ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان: من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر» (2) .
4 - واضعها: واضع نظام الحسبة تنفيذاً لواجب أو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر في الإسلام وشرعه: هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين. ولكن عرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي (3) :
5 - قاعدتها: قاعدة الحسبة وأصلها: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضّلها لأجله
__________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 4، 75، 104، ط مكة.
(2) المرجع السابق: ص 7.
(3) تاريخ القضاء في الإسلام للقاضي محمود عرنوس: 107، مقدمة ابن خلدون: ص 576، ط التجارية بمصر.(8/374)
على سائرالأمم التي أخرجت للناس، وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب: هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن:16/64] (1) .
6 - الفرق بين المحتسب والمتطوع:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان واجباً عاماً على كل مسلم قادر، كما تقدم، غير أن هناك فرقاً بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه ذكرها الماوردي (2) ، ويمكن إيجازها فيما يأتي:
أحدها ـ الحسبة فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة، فلا يجوز أن يتشاغل عنه، وفرض كفاية على غيره من المسلمين، فهي من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.
الثاني ـ المحتسب مخصص للادعاء فيما يجب إنكاره، وعليه إجابة المدعي المستعدي، وأما غيره فليس مخصصاً لهذا، ولا يلزمه إجابة المستعدي.
الثالث ـ على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة لينكرها على فاعلها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على المتطوع بحث ولا فحص.
الرابع ـ للمحتسب أن يتخذ أعواناً على إنكاره، وله أن يعزِّر في المنكرات الظاهرة وله رزق من بيت المال، وليس للمتطوع ذلك.
الخامس ـ للمحتسب الاجتهاد فيما يتعلق بالعرف دون الشرع، كالقعود في الأسواق، وإخراج الأجنحة (القواعد البارزة) في الشوارع وليس هذا للمتطوع.
__________
(1) الطرق الحكمية لابن القيم: ص 345، ط المدني بالقاهرة.
(2) الأحكام السلطانية: ص 240، ط: البابي الحلبي.(8/375)
7 - شروطها وآدابها:
يشترط في والي الحسبة: أن يكون حراً، عدلاً، ذا رأي وصراحة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، وهذه الضوابط توفر له الهيبة، وتعينه على قمع المنكر، وتجعله نافذ الكلمة، مسموع القول، لا مكان للجدال فيما يأمر به أو ينهى عنه، لأن المهم تحقيق الغاية من وجوده، وإظهار حرمة الشرع، وشيوع الفضيلة، واحترام الأخلاق والآداب العامة.
واختلف الفقهاء وعلماء الأصول في اشتراط كونه من أهل الاجتهاد على قولين، فقال بعضهم وهو أبو سعيد الاصطخري: يشترط، وله بالتالي إلزام الناس برأيه واجتهاده، وقال الأكثرون: لا يشترط، فليس له إلزام الناس برأيه ومذهبه الاجتهادي فيما لا نص صريح فيه. وعلى هذا يجوز في الراجح أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق على تحريمها.
ولابد للمحتسب من الرفق في أموره كلها، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه عبد ابن حميد والضياء عن أنس ـ «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» ولا بد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى، فإن لم يحلم ويصبر، كان مفسداً أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان:17/31] ويضم المحتسب إلى أمره ونهيه الإحسان إلى الغير إحساناً يحصل به مقصوده من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المرّ إلا بنوع من الحلو (1) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 241، الحسبة لابن تيمية: ص 72 وما بعدها، 89، طبع مكة.(8/376)
ثانياً ـ اختصاصات المحتسب:
يتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي لاتحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) وتطفيف المكيال والميزان (بالزيادة له والنقص لغيره) فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم. ويرعى النظام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بهذا كالشرطة أو النيابة العامة (1) .
وتنحصر اختصاصات المحتسب في أمرين:
أحدهما ـ الأمر بالمعروف.
والثاني ـ النهي عن المنكر (2) .
وذلك مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم. وكل ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة أقسام:
أحدها ـ حقوق الله تعالى: والمراد بحق الله تعالى: ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد، ويقابله الحق العام أو حق المجتمع في الاصطلاح القانوني الحديث، ويدخل فيه العبادات وحقوق الجماعة.
وثانيها ـ حقوق العباد أو الآدميين: والمراد بحق العبد: ما يتعلق به مصلحة خاصة، كحق الملكية وحرمة مال الغير، ويقابله في عرفنا اليوم الحق الخاص.
وثالثها ـ حقوق مشتركة بين الله والعباد: وهو ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد، لكن يكون المراعى فيه إما مصالح العباد أو مصلحة المجتمع وإما مصلحة العبد، مثل حق القصاص في رأي الحنفية والمالكية، وحد القذف في رأي الحنفية، والغالب في القصاص حق العبد، والغالب في حد القذف حق الله تعالى، أي حق الجماعة.
وأبيّن أقسام كل منهما لتتضح مهمة المحتسب.
__________
(1) السلطات الثلاث للدكتور سليمان الطماوي: ص 323، مدخل الفقه الإسلامي للأستاذ المرحوم محمد سلام مدكور: ص 407.
(2) انظر الأحكام السلطانية للماوردي: ص 243-252، الحسبة لابن تيمية: 11-29، 31-37، 41-49، 52-57، ط مكة، الطرق الحكمية لابن القيم: ص 349-363، ط المدني بالقاهرة.(8/377)
1 - الأمر بالمعروف:
المعروف: كل ما أمر به الشرع وارتضاه العقل السليم والأعراف الحميدة ويكون الأمر بالمعروف على النحو التالي:
أـ ما يتعلق بحقوق الله الخالصة: وهو إما أن يخص الجماعة أو يخص الأفراد (أو الأشخاص) .
فأما ما يخص الجماعة: فيراقب المحتسب ترك الواجبات الدينية العامة، سواء أكانت من الشعائر، كإقامة الأذان للصلوات، وأداء صلاة الجمعة والجماعة في المساجد، أم من غير الشعائر، كترك فريضة الصيام والصلاة، فيأمر المقصرين بها، ويعاقب من لم يصل أولم يصم بالضرب والحبس.
ويلاحظ أن اعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة: أهم من كل شيء فإنها عماد الدين، وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: «أن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيعها كان لماسواها أشد إضاعة» . وأما ما يخص الأشخاص أو الأفراد: فهو زجر من يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي.
ب ـ ما يتعلق بحقوق العباد: وهو أيضاً نوعان: عام وخاص.
فأما الحقوق العامة: فمثل تعطل مرافق البلد العامة من شِرْب وتهدم أسوار ومساجد، ومراعاة بني السبيل، فيأمر بتأمين هذه المرافق وإشباعها إما من بيت المال، أو من أغنياء المسلمين عند عجز بيت المال.
وأما الحقوق الخاصة: فمثل المماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة من تجب كفالته من الصغار، فيأمر المحتسب بأداء الحقوق عند القدرة واليسار، بشرط ادعاء المستحق لها عنده وإثبات حقه. وكذلك يأمر بالكفالة عند استيفاء شروطها.(8/378)
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كمطالبة الأولياء بإنكاح الأيامى (غير المتزوجات) من أكفائهن إذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العِدَد إذا فورقن، وللمحتسب تأديب من خالف في العدة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء من تزويج الأيامى. وتكليف أرباب البهائم بإطعامها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. وإلزام من التقط لقيطاً بحقوقه أو تسليمه لمن يقوم بها ويلتزمها، وتضمينه الضالة بالتقصير في رعايتها أو تسليمها إلى غيره، وعدم ضمان اللقيط إذا هلك أو سلمه لغيره.
2 - النهي عن المنكر:
أـ ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وتقسم ثلاثة أقسام:
الأول ـ العبادات: ينكر المحتسب الإخلال بشروط الصلاة وآدابها وطهارتها الشرعية، ويؤدب المعاند فيها. ويردع المفطرين في رمضان بغير عذر شرعي من سفر أو مرض، وينكر المجاهرة بالإفطار لئلا يعرض المفطر نفسه للتهمة، ولئلا يقتدي به من ذوي الجهالة ممن لا يقدر العذر.
ويجبي الزكاة جبراً من الممتنع عن أدائها من الأموال الظاهرة، ويعزره على الخيانة بغير عذر. وينكر على المقصر بأداء الزكاة عن الأموال الباطنة، ويؤدبه إن ثبت تقصيره.
كذلك ينكر التسول (السؤال) من غير حاجة، ويؤدب الغني بمال أو عمل، وينكر أيضاً تصدي الجهلة لإفتاء الناس بعلم الشرع، ويمنعهم من ذلك منعاً من التغرير والفتنة والإيقاع في الضلالة.
الثاني ـ المحظورات: وهي التي نهى عنها الله ورسوله. ووظيفة المحتسب: أن يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (1) فيقدم الإنكار ولا يعجل بالتأديب، مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والطرقات والأماكن العامة. والمجاهرة بإظهار الخمر والمسكرات، أو الملاهي المحرمة، فيريق المسكرات على المسلم، ويؤدب الذمي على إظهارها، ويفك أدوات الملاهي حتى تصير خشباً، ويؤدب المجاهر بها، ولا يكسرها إن صلح خشبها للانتفاع به لغير الملاهي.
وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته، نقم حد الله تعالى عليه» (2) .
__________
(1) رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 252. وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصاب حداً فعُجِّل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثنّي على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» .(8/379)
الثالث ـ المعاملات المنكرة: كالربا وعقود الميسر والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه، كالغش والتدليس في الصناعات والبياعات، وبخس الكيل والميزان، والخيانة. وعلى المحتسب إنكاره والمنع منه والزجر عليه والتأديب عليه بحسب الأحوال إذا كان متفقاً على حظره. وأما المختلف فيه بين الفقهاء بالحظر والإباحة، فلا دخل له في إنكاره.
وتعد عقود الزواج المحرَّمة في معنى المعاملات الممنوعة.
ب ـ وأما حقوق الآدميين المحضة، كتعديات الجيران فيما بينهم، بتجاوز حد الجار أو حريم داره، أو تركيب الجذوع على جداره، أو تدلي أغصان الشجرة على دار الجار، ونحو ذلك مما يسمى (التعسف في استعمال الحق) فليس للمحتسب النظر فيها إلا بادعاء شخصي من الجار.
وأما أهل الصنائع: فيقر المحتسب المتقن لها، كالطبيب والمعلم أو الأمين كالصانع والحائك والقصار والصباغ، أو المجيد كالنجار والحذَّآء، وينكر على المقصر أو الخائن أو الرديء.(8/380)
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة: كالمنع من الإشراف على منازل الناس، ومنع أئمة المساجد من إطالة الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء، وينقطع عنها ذوو الحاجات، وتنبيه القضاة الذين يحجبون المتخاصمين من التحاكم بلا عذر مشروع، ومنع أرباب المواشي من استعمالها فيما لا تطيق الدوام عليه، ومنع أصحاب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف من غرقها، ومن السير عند اشتداد الريح، ومن اختلاط الرجال بالنساء فيها، ووضع حائل (حاجز) بينهم.
ويراقب المحتسب الأسواق والطرقات العامة، فيمنع إقامة المباني فيها، ويأمر بهدم ما بني، ولو كان المبني مسجداً، لأن مرافق الطرق للسير لا للأبنية. ويمنع أيضاً وضع الأمتعة وآلات البناء فيها، كما يمنع إخراج الأجنحة والأسبطة ومجاري المياه والآبار الملحية ونحوها إذا أضرت بالناس.
وله منع نقل الموتى من قبورهم حتى لا تنتهك حرماتهم، ويمنع من خصاء البهائم والآدميين ويؤدب عليه، ومن التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي ونحوها من المنكرات.
ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا، وهي ثلاثة أنواع (1) :
أحدها: ما يكون من واحد، كما إذا باعه سلعة بنسيئة، ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقداً، حيلة على الربا.
وثانيها: ما تكون ثنائية: وهي أن تكون من اثنين، مثل أن يجمع إلى القرض بيعاً أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» قال الترمذي: حديث صحيح.
وثالثها: ما تكون ثلاثية: وهي أن يدخلا بينهما محللاً للربا، فيشتري السلعة من آكل الربا، ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل.
ومن المنكرات: تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري، بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل إلى السوق (2) . وفي الحديث: «غبن المسترسل ربا» (3) والمسترسل: هو الذي لا يعرف قيمة السلعة.
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 351 ومابعدها.
(2) الحسبة لابن تيمية: ص 42، الطرق الحكمية لابن القيم: ص 352.
(3) رواه البيهقي عن أنس وعن جابر وعن علي رضي الله عنهم.(8/381)
ويمنع المحتسب الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، روى مسلم عن معمر بن عبد الله العدوي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم هو ظالم لعموم الناس.
ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه (1) .
وأما التسعير: فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز (2) .
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب، لما فيه من إلزامهم بالعدل، ومنعهم من الظلم.
وعلى ولي الأمر توزيع نسب الإنتاج بحسب المصلحة، من زراعة وصناعة وتجارة وبناء وغيرها، لأن توفير الحاجيات أمر مطلوب شرعاً، وتعلم الصناعات فرض على الكفاية، فلولي الأمر أن يلزم الناس بما يحقق الحاجة بأجرة المثل، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.
والقاعدة العامة في هذا كما ذكر ابن تيمية في الحسبة: أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها. لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر (3) .
__________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 29، 41، الطرق الحكمية: ص 354.
(2) الحسبة، المرجع السابق: ص 17-18، 41-43، الطرق الحكمية: ص 355 وما بعدها، 368 ومابعدها.
(3) الحسبة: ص 66 ومابعدها.(8/382)
ثالثاً ـ مقارنة بين الحسبة والقضاء وولاية المظالم:
تشترك هذه الوظائف العامة الثلاث في مهمة القضاء بالمعنى العام، لكن وظيفة المظالم أعلاها، ثم رتبة القضاء العادي، ثم ولاية الحسبة.
أوضح الماوردي أوجه الشبه والاختلاف بين هذه الوظائف (1) .
1 - المقارنة بين الحسبة والقضاء العادي:
هناك أوجه شبه واختلاف بينهما.
فأما أوجه الشبه فمحصورة في أمرين:
الأول ـ جواز الاستعداء (الادعاء الشخصي) إلى المحتسب والقاضي، وسماع كل منهما دعوى المستعدي (المدعي) في حقوق الآدميين ضمن أنواع ثلاثة من الدعاوى فيها، وهي المتعلقة بالبخس والتطفيف في الكيل والوزن، أو بالغش والتدليس في المبيع أو الثمن، أوبالمطل والتأخير في الحقوق والديون مع القدرة. والسبب في انحصار اختصاصه بهذه الدعاوى الثلاث دون ما عداها: هو تعلقها بمنكر ظاهر يختص بإزالته، لأن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، وليس للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات.
والثاني ـ للمحتسب كما للقاضي إلزام المدعى عليه بوفاء الحقوق التي يجوز له سماع الدعوى فيها، متى ثبت ذلك باعتراف وإقرار، وكان في وسعه الوفاء بها لتمكنه وإيساره، لأن في تأخير أدائها منكراً هو منصوب لإزالته.
وأما أوجه الخلاف فهي أربعة:
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 241 وما بعدها.(8/383)
الأول ـ ليس للمحتسب سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فهي من اختصاص القضاء.
الثاني ـ تقتصر الدعاوى التي يسمعها المحتسب على الحقوق المعترف بها، فأما ما يتداخله التجاحد والتناكر، فلا يجوز له النظر فيه، لأن الحاكم فيها يحتاج إلى سماع بيِّنة وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بيِّنة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يميناً على نفي الحق.
وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة أدنى رتبة من القضاء.
الثالث ـ للمحتسب أن ينظر فيما يختص به دون حاجة إلى مدّعٍ متظلم. أما القاضي فلا يحق له النظر في نزاع من دون ادعاء أو شكوى.
الرابع ـ عمل المحتسب يتسم بالشدة والسلاطة والقسوة، لأن الحسبة موضوعة للرهبة. وأما عمل القاضي فيتسم بالحلم والأناة والوقار، لأن القضاء موضوع للمناصفة.
وهذان الوجهان يدلان على أن الحسبة تزيد رتبة عن القضاء.
2 - المقارنة بين الحسبة وولاية المظالم:
هناك أيضاً نواحي شبه واختلاف بين هذين النظامين.
أما أوجه الشبه فهي: الأول ـ موضوعهما يعتمد على الرهبة وقوة الصرامة المختصة بالسلطنة.
الثاني ـ للقائم بهما النظر في حدود اختصاصه من دون حاجة إلى متظلم. وأما أوجه الاختلاف فهي:
الأول ـ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما لاحاجة لعرضه على القضاء.
الثاني ـ يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم.
وهكذا يظهر أن المظالم والقضاء والحسبة يكمل بعضها بعضاً، وتؤدي غاية موحدة هي تحقيق العدل والإنصاف وحفظ الحقوق والأموال والدماء، وتطبيق أحكام الشرع المحققة لسعادة الناس في الدنيا والآخرة، وإقامة المجتمع الإنساني الفاضل.(8/384)
وليس للمحتسب تطبيق العقوبات الشرعية على ترك المعروف والواجبات وفعل المنكر والمحرمات سواء أكان حداً أم تعزيراً، فإن ذلك من اختصاص ولي الأمر، وتكون إقامة الحدود والتعازير، أي العقوبات على فعل محرم، أو ترك واجب على ولاة الأمور فقط، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن «الله يزَع بالسلطان ما يزَع بالقرآن» أي يردع، والتعزير أجناس، فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب.
والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضاً في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع، وأحد قولي الشافعي (1) .
والثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، كما قال الله تعالى:
{إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء:4/149] (2) {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل:126/16] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/2] .
__________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 46-57، الطرق الحكمية: ص 384-391.
(2) الحسبة، المرجع السابق: ص 57 وما بعدها.(8/385)
المبحث السادس ـ أصول التقاضي
تتجلى الصورة العملية للتقاضي في مراحل ثلاث: وهي الدعوى، وطرق الإثبات، والحكم النهائي. فبها يمكن التوصل للحقوق وحسم النزاع واستقرار الأوضاع الحقوقية وإنهاء العدوان.
المرحلة الأولى ـ الدعوى: تعريفها، مشروعيتها، شرائطها، نوعاها، نطاقها، حكمها.
الدعوى: هي إخبار بحق لإنسان على غيره عند الحاكم (1) . أو هي قول مقبول عند القاضي يقصد به صاحبه طلب حق له عند غيره، أو حمايته وإلزامه به. بأن يقول مثلاً: لي على فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها. وهي الوسيلة القضائية المشروعة لطلب الحق، إذ لا يجوز شرعاً للمحق ممارسة أي فعل يؤدي إلى الاعتداء على شخص المدعى عليه، منعاً للفوضى واستئصالاً للمنازعات، واستمرار التعديات، وإماتة الحقوق، ففي امتداد وجود الخصومة والمنازعة فساد كبير، والله تعالى لا يحب الفساد (2) . والأصل في مشروعيتها قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم، ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (3) .
واشترط فقهاء الحنفية لقبول الدعوى الشرائط الآتية (4) :
أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة عليهما. ويشترط توافر صفة البلوغ لممارسة أي حق عند غير الحنفية، أما القاصر فيمارس الدعوى عنه وليه.
ثانياً ـ أن تكون الدعوى في مجلس القضاء؛ لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس، أي المحكمة.
__________
(1) الدر المختار: 437/4، تكملة فتح القدير: 137/6، مغني المحتاج: 461/4، المغني: 271/9.
(2) المبسوط: 28/17، المغني: 272/9، مغني المحتاج، المرجع السابق.
(3) رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين عن ابن عباس.
(4) المبسوط: 39/17، تكملة فتح القدير، المكان السابق، و 141 وما بعدها، البدائع: 222/6، 224، الدر المختار: 438/4.(8/386)
ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى القاضي عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً في مجلس القضاء، أم عن البلد التي فيها القاضي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» (1) وقوله لعلي حين أرسله إلى اليمن:: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر» (2) .
وقال غير الحنفية: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية، لا في الحدود الخالصة لله تعالى (3) لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الإنسان الخاص.
رابعاً: أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وذلك إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً للتحديد، كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بذكر رقم محضر السجل العقاري في التنظيم الحديث الذي يستغنى به عن الحدود والأوصاف في الماضي، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى (الطاحونة) ، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً كالنقود والحبوب؛ لأن الدين لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور.
__________
(1) من حديث أم سلمة الذي رواه الجماعة (نيل الأوطار: 287/8) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن علي (نيل الأوطار: 274/8 وما بعدها) .
(3) البدائع: 222/6، 8/7، تكملة فتح القدير: المكان السابق، المبسوط، المكان السابق، بداية المجتهد: 460/2، المهذب: 3/2، المغني: 110/9.(8/387)
والسبب في اشتراط هذا الشرط، أي العلم بالمدعى به: هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً.
خامساً: أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر. فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم الحاضر عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص بطلب صدقة، أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛
لأن الوكالة عقد غير لازم للموكل، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال. ولأن التبرع لا يلزم عليه الإنسان، وبطلان العقد لا يوجب على العاقد تنفيذ أي التزام ينشئه العقد الصحيح.
سادساً: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخص لمن هو أكبر منه سناً: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر منه سناً. وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه.
وبناء عليه تكون الدعوى نوعين: دعوى صحيحة مقبولة، ودعوى فاسدة مرفوضة.(8/388)
فالدعوى المقبولة: هي التي استكملت شرائط الصحة المتقدمة، ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إلزام الخصم الحضور إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، وإجابته دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي بطرق الإثبات المشروعة، كالبينة (وهي الشهادة أي الإخبار في مجلس القضاء بحق شخصي على غيره) ، ونحوها من اليمين والقرينة.
والدعوى المرفوضة أو الفاسدة الباطلة: هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط القبول المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة من الادعاء، كأن يكون المدعى به مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول.
واستحسن بعض شراح مجلة الأحكام العدلية قسمة الدعوى ثلاثة أقسام: صحيحة وفاسدة وباطلة (1) . الصحيحة: هي المستوفية جميع شرائطها وتتضمن طلباً مشروعاً، كطلب ثمن مبيع أو استرداد مغصوب. والفاسدة: هي المستوفية شرائطها الأساسية ولكن ينقصها بعض النواحي الفرعية كجهالة المدعى به، فلا يردها القاضي فوراً، وإنما يكلف المدعي أولاً تصحيحها بتحديد مدعاه. والدعوى الباطلة: هي غير المشروعة في أصلها كادعاء طلب صدقة من أحد، أو طلب تنفيذ عقد باطل، أو إيفاد دين؛ لأنه من جيران المدين. وهذه لا يترتب عليها حكم، بل يردها القاضي فوراً لعدم إمكان إصلاحها.
وتحديد من هو المدعي والمدعى عليه أمر ضروري في الإسلام، لمعرفة المكلف بالبينة أو اليمين ونحوها. وقد عرِّف كل منهما بتعريفات شتى، منها أن المدعي: هو من لا يجبر على الخصومة إذا
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقا: ف/369.(8/389)
تركها؛ لأنه طالب. والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب. أو المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته. والمدعى عليه: من ينكر ذلك (1) .
وللدعوى أهمية كبرى بدليل اتفاق الفقهاء على أن استيفاء الحقوق وتوقيع العقوبات من قصاص وحدّ وتعزير لا يكون كقاعدة عامة إلا بواسطة الدعوى، ولا يستوفى الحق بغيرها وبغير القضاء إلا في أحوال استثنائية اضطرارية كالظفر بحق الدائن عند المدين المماطل.
ويتحدد نطاق الدعوى فيما اتفق عليه الفقهاء كما يأتي:
أولاً ـ الحسبة والمظالم: لا يشترط فيهما الادعاء، وإنما للمحتسب ووالي المظالم التصدي للنظر في النزاع بمجرد اطلاعه عليه.
ثانياً ـ حقوق الله تعالى: وهي المتعلقة بمصلحة المجتمع كانتهاك الحرمات الدينية بالإفطار في نهار رمضان عمداً بغير عذر، والمجاهرة بالإلحاد، والإخلال بنظام الزواج شرعاً كزواج المسلمة بغير مسلم، والعقد على المحارم من النساء، والعشرة الزوجية بعد الطلاق البائن ثلاثاً، والعقد على المعتدة من طلاق أو وفاة. وارتكاب الجرائم الموجبة لحد يتعلق بحق الله المحض كالزنا وشرب الخمر ونحوهما. هذه الأمور يجوز للقاضي النظر في شأنها من تلقاء نفسه إذا علم بها، أو ادعى أي مسلم ولو لم يمسه الأمر شخصياً وإنما حسبة، كما تقدم في نظام الحسبة.
ثالثاً ـ حقوق العباد (أي الأفراد) الشخصية: وهي التي تمس مصلحة شخصية للإنسان. وهذه لا يختص القاضي بالنظر فيها بدون ادعاء صاحب الحق؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه. وتشمل هذه الحقوق ما يأتي:
أـ المعاملات والتصرفات المدنية من بيع وإيجار وشركة ونحوها.
ب ـ أحكام الأسرة المالية كالنفقة والمهر والسكنى.
وأما أحكام الأسرة غير المالية كادعاء النسب والبينونة والمحرمات والعشرة المحرمة، فلا يشترط فيها الدعوى.
جـ ـ الجرائم والعقوبات التي فيها حق للعبد: كالقصاص والجروح وجرائم التعزير والقذف والسرقة والحرابة.
__________
(1) البدائع: 224/6، المغني لابن قدامة الحنبلي: 271/9.(8/390)
وحكم الدعوى المقبولة: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا، أو نعم. فلو سكت، كان ذلك منه إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه. فإذا أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه. وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقدم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي (1) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خصمين: «ألك بينة؟ قال: لا، فقال النبي: فلك يمينه» أي يمين المدعى عليه (2) .
المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق:
إثبات الحق: هو إقامة الحجة أمام القضاء على الحق أو حدوث الواقعة. ولا يمكن للقاضي الفصل في أي خصومة أو قضية بمجرد الادعاء بدون إثبات بإحدى الوسائل الشرعية المتعددة وأهمها ما يأتي:
1 ً - الشهادة: وهي شرعاً إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء. وهي حجة المدعي لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» (3) وقوله أيضاً لمدعٍ: «شاهداك أو يمينه» (4) . ونظام الشهادة محدد صراحة في القرآن الكريم: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/2] {ولا يأب الشهداء
__________
(1) راجع الدر المختار: 438/4، اللباب شرح الكتاب: 29/4، تكملة فتح القدير: 151/6 وما بعدها.
(2) رواه مسلم والترمذي وصححه عن وائل بن حُجْر، في قصة الخصومة بين رجل من حضرموت ورجل من كندة (نيل الأوطار: 303/8) .
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس.
(4) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/8) .(8/391)
إذا ما دعوا} [البقرة:282/2] {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/2] {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/65] . والبحث في الشهادة يطول، أكتفي هنا بتعداد أهم شروطها؛ لأن الفقهاء اشترطوا شروطاً لتحمل الشهادة وأدائها.
أما شروط تحمل الشهادة فهي ثلاثة عند الحنفية (1) .
أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلاً، أي مميزاً، فلا تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز.
ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى بسبب اختلاط الأصوات عليه وجواز اشتباهها عليه. وأجاز الحنابلة (2) شهادة الأعمى فيما يسمع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف القاضي المتعاقدين وتيقن أنه كلامهما.
ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه، لا بغيره، إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة، لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة.
وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأمور إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ولو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع، لأدى الأمر إلى الحرج وتعطيل الأحكام. والتسامع: هو بأن يشتهر ذلك ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار، بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، ليحصل له نوع من العلم واليقين.
__________
(1) البدائع: 266/6، الدر المختار: 385/4.
(2) المغني: 58/9 وما بعدها.
(3) رواه الخلال في الجامع بإسناده عن ابن عباس.(8/392)
وقال المالكية (1) : تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو وال أووكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة، ووصية.
وأما شروط أداء الشهادة: فكثيرة، منها في نفس الشهادة (2) : وهي أن تكون بلفظ الشهادة، وأن تكون موافقة للدعوى، ومنها في مكان الشهادة (3) : وهي أن تكون في مجلس القضاء، ومنها فيما يخص بعض الشهادات (4) : وهي التعدد، أي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في الحقوق المدنية والأموال كالبيع والإجارة ونحوهما. والاتفاق في الشهادة عند التعدد، فإن حدث اختلاف في جنس الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو في القدر كأن يشهد أحدهما بألفين، والآخر بألف، أو في الفعل كالقتل والغصب، رفضت الشهادة.
ومنها وأهمها ما يشترط في الشاهد وهو سبعة شروط كما تقدم (5) :
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا تقل شهادة المجنون والسكران والطفل.
ثانيها ـ الحرية: فلا تصح شهادة الرقيق على الحر.
ثالثها ـ الإسلام: فلا تقبل شهادة الكافر على مسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية: اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/5] .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 198/4 وما بعدها.
(2) البدائع: 273/6، فتح القدير: 10/6.
(3) المراجع السابقة: البدائع: ص 279.
(4) المراجع السابقة: البدائع: 277/6 وما بعدها، فتح القدير: 52/6 وما بعدها، الدر المختار: 504/4 وما بعدها.
(5) البدائع: 267/6 وما بعدها، بداية المجتهد: 451/2 وما بعدها، الدردير والدسوقي: 165/4، مغني المحتاج: 427/4، المغني: 164/9.(8/393)
رابعها ـ البصر: فلا تقبل شهادة الأعمى عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية، لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى ذلك إلا بنغمة الصوت، وفيها شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وأجاز المالكية والحنابلة وأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأن السمع أحد وسائط العلم.
خامسها ـ النطق: فلا تقبل شهادة الأخرس عند الجمهور، وإن فهمت إشارته؛ لأن الشهادة تتطلب اليقين. وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه.
سادسها ـ العدالة: فلا تصح شهادة الفاسق باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] .
سابعها ـ عدم التهمة: فترد شهادة المتهم بإجماع الفقهاء. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو ضرراً بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة، فلا تقبل شهادة الأب لابنه، أو الأم لابنها، ولا الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم، ولا العدو على عدوه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (1) «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غِمْر ـ حقد ـ على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» (2) والقانع: الذي ينفق على أهل البيت.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر، وهو منقطع، ورواه آخرون مرسلاً (نيل الأوطار: 291/8) .
(2) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر (128/4) .(8/394)
2 - الإقرار: وهو إخبار الشخص عن ثبوت حق للغير على نفسه. وهو إما أن يكون بلفظ صريح، مثل (لفلان علي ألف درهم) أو بلفظ ضمني، مثل: (لي عليك ألف درهم) فيقول المخاطب: (قد قضيتها) أو (أجلني بها) أو (أبرأتني منها) . وقد اتفق الفقهاء (1) على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره. وشروط الإقرار هي ما يأتي:
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون والصبي غير البالغ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (2) .
ثانيها ـ الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (3) .
ثالثها ـ عدم التهمة: فإن اتهم المقر بملاطفة صديق أو نحوه بطل الإقرار.
رابعها ـ أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: «لفلان على واحد منا ألف درهم» لا يصح الإقرار، إذ لا فائدة من هذا الإقرار.
والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه.
__________
(1) البدائع: 222/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 3/5، الدردير: 397/3، المهذب: 343/2، مغني المحتاج: 238/2، المغني: 138/5.
(2) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان.
(3) رواه ابن ماجه عن أبي ذر، ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ: «وضع عن أمتي..» .(8/395)
3 ً - اليمين: وهي الحلف بالله تعالى أمام القاضي لإثبات الحق أو الفعل، أو نفيهما. وهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» (1) ، فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة.
واتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف (2) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (3) . كما أنهم اتفقوا على أن الشخص يحلف على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه، ويطلع عليها، فيقول في البيع مثلاً حالة الإثبات: «والله لقد بعت بكذا» وفي حالة النفي: «والله ما بعت بكذا» .
4 ً - الكتابة: وهي إثبات الحق بواسطة دليل كتابي معد مسبقاً. وهي حجة باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة:282/2] والكتابة من قبيل الإقرار. وقد نص فقهاء الحنفية على أنه يعمل بدفتر السمار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (4) .
5 ً - القرائن: القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. وهي تتفاوت في القوة والضعف، فقد تصل إلى درجة الدلالة القطعية، كالدخان فإنه قرينة قطعية على وجود النار. وقد تضعف حتى تصير مجرد احتمال. فإن كانت القرينة قطعية كانت بينة نهائية كافية للقضاء، كما لو رئي شخص خارجاً من دار وهو مرتبك وفي يده سكين ملوث بالدم، ووجد في الدار شخص مضرج بدمائه، فيعتبر الخارج هو القاتل.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه» (نيل الأوطار: 305/8) .
(2) البدائع: 20/3، بداية المجتهد: 403/1، مغني المحتاج: 321/4، المغني: 763/8.
(3) اللفظ الأول رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة، والثاني رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي.
(4) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 365 وما بعدها.(8/396)
وإذا كانت القرينة غير قطعية الدلالة والبيان، ولكنها ظنية أغلبية كالقرائن العرفية، فإن الفقهاء يعتمدونها دليلاً أولياً مرجحاً حجة الخصم مع يمينه، حتى يثبت خلافها بالبينة المعارضة.
والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملاحظة الظروف المقارنة للواقعة، فلا يمكن حصرها وتحديدها. ومنها الفراسة والقيافة، ووضع اليد، ووصف اللقطة، واللوث في الدماء، ودلائل الأحوال (1) .
6 ً - العلم الشخصي للقاضي نفسه: إذا اطلع القاضي على الحادثة، فهل له القضاء بعلم نفسه؟ اختلف الفقهاء فيه.
قال متقدمو الحنفية: يقضي القاضي بعلم نفسه، بالمعاينة أو بسماع الإقرار أو بمشاهدة الأحوال على النحو الآتي (2) :
له أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء وفي مكانه في الحقوق المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الحقوق الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا بحد القطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي.
فإن علم القاضي بالحادثة قبل أن يتسلم منصب القضاء، فلا يقضي به عند أبي حنيفة؛ لأن علمه حينئذ ليس في معنى البينة. ويقضي به في غير الحدود الخالصة لله عند الصاحبين، قياساً على جواز قضائه فيما علمه في زمن القضاء.
__________
(1) راجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية: ص3، 7، 31،54،66، 108، 113، 214.
(2) المبسوط: 93/16، البدائع: 7/7، مختصر الطحاوي: ص 332، الدر المختار ورد المحتار: 369/4.(8/397)
وقال الشافعية (1) مثل الحنفية تقريباً: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في حدود الله تعالى، فيقضي في الأموال، وفي القصاص وحد القذف، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان، فقضاؤه بعلمه أولى.
وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها.
وقال متأخرو الحنفية والشافعية: المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمان.
وقال المالكية والحنابلة (2) : لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، لا فيما علمه قبل الولاية ولابعدها. ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن أقر الشخص بين يديه طائعاً. ودليلهم قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن ـ أي أفطن ـ بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي السابقة: «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك» .
__________
(1) مغني المحتاج: 398/4.
(2) الدردير والدسوقي: 154/4، بداية المجتهد: 458/2 وما بعدها، المغني: 53/9 ومابعدها.(8/398)
7 ً - الخبرة والمعاينة: الخبرة: هي الاعتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي. والمعاينة: هي الاعتماد على ما يشاهده القاضي بنفسه أو بنائبه من محل النزاع الذي يختصم فيه الخصمان. وهذان يجوز الإثبات بهما باتفاق الفقهاء.
8 ً - كتاب القاضي إلى غيره: اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه. فقد يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي، بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاض، وأن يشهدهم بثبوت الحكم عنده على نحو معين. وذلك في الحقوق المدنية كالديون، أو الشخصية كالنكاح (1) .
وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (2) .
هذه هي إجمالاً أهم وسائل الإثبات الشرعية التي يعتمد عليها القاضي لفصل النزاع، ويظهر منها أن البينة تظهر الحق باتفاق الفقهاء بشرط ثبوت عدالة الشهود عند القاضي، وكذلك الإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً. واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بان له. ويثبت بها عند الإمام مالك حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه.
__________
(1) المبسوط: 95/16، فتح القدير: 477/5، المهذب: 304/2، المغني: 90/9، مغني المحتاج: 452/4.
(2) بداية المجتهد: 458/2، الدردير: 159/4.(8/399)
المرحلة الثالثة ـ الحكم القضائي:
الحكم: هو فصل الخصومة وحسم النزاع بقول أو بفعل يصدر عن القاضي بطريق الإلزام. وهو يعتمد أساساً على حجية الإثبات التي تتوافر لدى القاضي. ويعتبر غاية القضاء ورمز العدالة. وينبغي ـ كما بان في آداب القاضي ـ مراعاة أمرين قبل إصداره.
أولهما ـ مصالحة الخصمين: فلا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة لقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] فكان طلب الصلح طلباً للخير. وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» .
ثانيهما ـ مشاورة الفقهاء: يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام، أو يشكل عليه من القضايا. قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه» (1) .
فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما فعل الراشدون، وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه الشخصي.
وهناك أوصاف للحكم تراعى في الإسلام وهي:
أولاً ـ المسارعة إلى إصدار الحكم بعد ثبوت الحق أمام القاضي، ولا يجوز تأخيره إلا في حالة الريبة، ورجاء الصلح بين الأقارب، وإمهال المدعى عليه فترة محدودة لرد الشهادة.
ثانياً ـ إصدار الحكم حضور ياً أمام الخصوم. إذ لا يجيز الحنفية كما تقدم القضاء على الغائب إلا لضرورة أو مصلحة. وأجاز غير الحنفية القضاء على الغائب وإصدار الحكم الغيابي على المدعى عليه.
ثالثاً ـ تعليل الأحكام: يفضل كون الحكم معللاً مبيناً في أسبابه التي بني عليها.
رابعاً ـ تدوين الأحكام: جرى القضاة على تسجيل الأحكام في سجلات بدءاً من العهد الأموي، حفاظاً عليها، وحرصاً على تنفيذها.
تنفيذ الأحكام: اتفق الفقهاء على أمرين خطيرين في التنفيذ وهما:
1 - حق التنفيذ منوط بالحاكم، أي السلطة التنفيذية في الدولة.
2 - منع الثأر والانتقام الشخصي أوعدم وجود أي سلطة شخصية لصاحب الحق على المسؤول.
ففي نطاق العقوبات الجنائية: الدولة هي المختصة بتطبيق العقاب الجزائي، سواء أكان مقدراً أم غير مقدر، حداً أو تعزيراً أو قصاصاً. وذلك حفظاً للنظام ومنع الفوضى ودرء الفساد وانتشار المنازعات بين الناس وإبطال عادة الأخذ بالثأر.
__________
(1) رواه الترمذي.(8/400)
فلا يجوز لأي إنسان عادي القيام بتنفيذ العقوبة الجنائية، من قصاص وجلد وقطع وحبس وتوبيخ وتشهير أوتجريس، وإذا أراد ولي الدم وهو وارث القتيل ضرب رقبة القاتل، فيتم القصاص بإشراف الدولة، دون أن يكون له الحق في إثبات الجريمة، وإصدار حكم القصاص. وتمكين مستحق القصاص من استيفائه بإشراف الحاكم منوط بكونه يحسن القتل، ففيه شفاء لألم المصاب، دون ضرر بالجاني، وربما يكون ذلك أدعى لرحمة صاحب الحق وعفوه عن القاتل عندما يراه تحت سلطته، وعلى القاضي أن يتفقد آلة القتل منعاً للتعذيب (1) ، أي أن تدخل ولي الدم يقتصر على الدور الذي يقوم به الجلاد أو السياف، دون أن يكون له الحق في تسلم القاتل يفعل به كما يرى، كما تصور بعض الجاهلين.
وفي نطاق القضايا المدنية: يقتصر حق الدائن على المطالبة بحقه بالتراضي، أو بواسطة رفع الدعوى إلى القضاء لاستصدار حكم يجبر المدين على إيفاء دينه في حال يساره وقدرته على الوفاء بالتزامه. وينتظر في حال إعساره وعجزه، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] .
وللقاضي إجبار المدين على الوفاء بدينه بأحد الوسائل الآتية: الحبس، والحجر، والبيع الجبري.
أما الحبس فمشروع إذا امتنع المدين الموسر عن الوفاء بدينه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» (2) أي أن مماطلة الغني تجيز الطعن به ومعاقبته. ويؤيده حديث آخر: «مَطْل الغني ظلم» (3) .
ويظل المدين المماطل عند أبي حنيفة محبوساً حتى يوفي دينه. وقال صاحباه وبقية أئمة المذاهب: يحبس للتضييق عليه، فإذا لم يؤد الدين يحجر عليه ويباع ماله جبراً عنه، ويقسم بين الدائنين قسمة غرماء. وإذا ثبت إعساره يفرج عنه. ونظرة الميسرة والإفراج حال الإعسار دليل على أن الحبس مجرد وسيلة إكراه على الوفاء بالدين، وليس تنفيذاً على شخص المدين، كما هو الحال عند الرومان.
__________
(1) انظر نظرية الضمان للمؤلف: ص 299 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشريد، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان، وأخرجه أحمد وابن ماجه والبيهقي (سبل السلام: 55/3) .
(3) رواه الجماعة: (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 236/5) .(8/401)
وأما الحجر على المدين (أي منعه من التصرف بماله تصرفاً يضر بمصلحة الدائنين) فأجازه صاحبا أبي حنيفة إذا كانت ديونه مستغرقة أمواله، أو كان يماطل في الوفاء بديونه. وأفتى به متأخرو الحنفية سداً للذرائع، أي حماية لمصلحة الدائنين من تصرفات المدين التي تضر بحقوقهم، وعملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» .
وأيد الحجر فقهاء المالكية والمتأخرون من فقهاء المذهب الحنبلي استحساناً. ووافق الإمام الشافعي على جواز الحجر على المدين إذا كانت ديونه مستغرقة. وأما في حالة مماطلته فلا يرى لزوماً له؛ لأن القاضي يستطيع الحكم عليه ببيع أمواله جبراً عنه، وإيفاء ديونه من ثمنها.
ولا حجر على المدين المعسر، كما لا حبس عليه كما سبق. وأما بيع مال المدين جبراً عنه فهو جائز عند الفقهاء الذين أجازوا الحجر عليه في الحالتين السابقتين.
فقد أجاز صاحبا أبي حنيفة بيع أموال المدين إذا قرر القاضي الحجر عليه، ولم يجد مسوغاً لتأجيل البيع، أو متى طلب الدائنون ابتدءً ذلك، وأبدوا أسباباً معقولة لطلبهم. ويقسم الثمن بين الدائنين قسمة غرماء.
ووافق المالكية على رأي الصاحبين، وأجاز الشافعي والحنابلة بيع المال ابتداء للمدين الموسر دون حجر عليه.
ويتم البيع في جميع الأحوال بمعرفة القاضي وبحضور الدائنين والمدين وفي سوق السلعة، أو في غير سوقها بثمن المثل، وبالمزاد العلني للوصول إلى أعلى سعر ممكن.
هذه هي أهم قواعد نظام القضاء في الإسلام، أوجزتها في بحث نظام الحكم في الإسلام، وقد كنت فصَّلت الكلام في القضاء وطرق إثبات الحق في الباب الخامس المتقدم.(8/402)
الفَصْلُ الرَّابع: الدَّولة الإسلاميَّة
نشأتها، وظائفها، علاقاتها الخارجية، حصاناتها، زوالها
يشتمل هذا الفصل على مبحث تمهيدي وخمسة مباحث أصلية:
المبحث التمهيدي ـ مقدمات
المطلب الأول:
أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث.
ثانياً ـ التمييز بين المفهومين.
ثالثاً ـ اتجاه تطور كل من المفهومين.
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية:
1 - عن طريق من بحثوا في تطبيق مفهوم الدولة الحديث على مبادئ الإسلام السياسية والواقع التاريخي لسيادة هذه المبادئ.
2 - وعن طريق من بحثوا أو حاولوا تقديم صورة حديثة لهذا المصطلح للتطبيق في هذا العصر. 3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها:
المطلب الأول: أركان الدولة الإسلامية:
الركن الأول ـ الشعب:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً، وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية.
ثانياً ـ بيان اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر «اللاعنصرية» .
الركن الثاني ـ الإقليم:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وبيان اختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر «اللا إقليمية» .
ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة:
1 - ما هو جزء أساسي من الأقليم:
أـ الأرض.
ب ـ الأنهار الوطنية.
جـ ـ المياه الساحلية ـ المنطقة الملاصقة ـ الامتداد القاري ـ المياه الداخلية (موانئ وخلجان وبحار داخلية) .
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتباراً: وسائل النقل الدولية: (السفن، القطارات، الطائرات) .
3 - ما يعتبر أصلاً جزءاً من إقليم الدولة، ولكن تترتب عليه حقوق ارتفاق لدولة أو لدول أخرى:(8/403)
أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية.
ب ـ طبقات الجو عمودياً وما تستتبعه من حقوق في الملاحة الجوية والمواصلات والإذاعات (اللاسلكية) .
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول.
5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ولا تتناوله سيادة دولة ما، ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة، وتعتبر فيه حقوق مشاعة أو مرافق مشتركة يباح فيها مالا يضر بالآخرين دون ما يضر كتلويث مياه البحار والجو بالإشعاع النووي وغيره:
أـ أعالي البحار.
ب ـ الفضاء الكوني.
الركن الثالث ـ السيادة:
تمهيد:
1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة.
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها كالسلطة الفعلية غير الأصلية، وكحق الملكية وحقوق الارتفاق.
أولاً ـ موقع هذا الركن اعتبارياً في الدولة الإسلامية وبيان اختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر أن الحاكمية لله.
ثانياً ـ نصاب هذه الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق أحكام الإسلام لتحقق مفهوم دار الإسلام.
ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء دار الإسلام؟.
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية:
مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها
أولاً ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية:
1 - نشوء جديد كلية.
2 - نشوء جديد من عناصر قديمة.
ثانياً ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي
النوع الأول ـ الاعتراف الكامل:
1 - بالدولة.
2 - بالحكومة واستلزامه الاعتراف بالدولة.
النوع الثاني ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي:
1 - بالأمة.
2 - بالثورة.
3 - بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى) .
النوع الثالث ـ الاعتراف بحالة الحرب:
ثالثاً ـ شخصية الدولة الإسلامية:
إيضاح الشخصية الاعتبارية للدولة، وبيان موقع الدولة في الذروة من أنواع الشخص الاعتباري.(8/404)
المبحث الثاني: خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة:
المطلب الأول ـ خصائص الدولة الإسلامية:
أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية.
ثانياً ـ كون غايتها أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً.
المطلب الثاني ـ مقارنتها بالدولة الحديثة:
أولاً ـ بيان مدى ارتباط الدول الحديثة بالمبادئ والأديان.
ثانياً ـ مقارنة بالدولة الشيوعية. المبحث الثالث - وظيفة دولة الإسلام: تمهيد:
دراسة مختلف التعاريف التي وضعها العلماء في هذا الصدد.
الوظيفة الأولى ـ وظيفتها في الداخل:
أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات المجتمع.
1 - المحافظة على الأمن والنظام.
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل.
3 - إدارة المرافق العامة.
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة.
ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها:
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها.
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة (وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) .
3 - عمارة الأرض.
4 - صيانة الآداب الإسلامية.
5 - إقامة العدالة الاجتماعية.
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي.
7 - تحقيق المجتمع الخيّر.
8 - العمل باستمرار على تحقيق الأفضل والأصلح والأمثل في جميع نواحي الحياة الإنسانية.
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج.
الوظيفة الثانية ـ وظيفتها في الخارج:
أولاً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية:
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه، وحماية أقلياته.
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية، وتحقيق أقصى روابط الوحدة والتنسيق بينها في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، وحل خلافاتها بصورة منظّمة.
3 - دعم السلام العالمي.
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع.(8/405)
ثانياً ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها:
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين؛ سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب.
2 - الدعوة إلى الإسلام.
3 - دفع شبهات الكنيسة والمستشرقين والملاحدة عموماً، والشيوعيين خاصة.
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج
ـ شرح المراد بالحصانة وتاريخ هذا الاصطلاح
المطلب الأول ـ ما تشمله الحصانات والإعفاءات:
شخصية الدولة ـ سفنها ـ وكالاتها ومؤسساتها ـ وحداتها السياسية ـ سفاراتها.
المطلب الثاني ـ أنواع الحصانات والإعفاءات:
أولاً ـ الحصانة القضائية.
ثانياً ـ الحصانة المالية.
ثالثاً ـ الاستثناءات:
أـ النشاط التجاري ـ الملكية الخاصة.
ب ـ حالة رضا الدولة.
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك
المطلب الأول ـ حالة الدولة الإسلامية:
النوع الأول: التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي:
1 - بالانقلاب.
2 - بحرب أهلية.
3 - بالثورة ـ الفرق بين الانقلاب والثورة. النوع الثاني: التغيير في النطاق الإقليمي (إضافة وانتقاصاً) .
أولاً ـ بما لا يمس إقليم دولة أخرى:
1 - بالإضافة.
2 - بالاستيلاء على أرض غير خاضعة لدولة أخرى.
ثانياً ـ بما يمس إقليم دولة أخرى:
1 - بطريق المعاهدة.
2 - بطريق التقادم.
3 - بالفتح عند قيام موجباته بالنظر الإسلامي (الجهاد) .
المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية:
أولاً ـ الزوال الكلي بزوال واحد أو أكثر من أركان الدولة الإسلامية.
ثانياً ـ الزوال الجزئي بالتجزؤ وزوال وحدة السيادة.
موقف السلطة العليا الأصلية في الحالات الآتية:
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل.
ب ـ حالة العجز عن إخضاعه وما تحتها من احتمالات:
1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة العليا الأصلية وبارتباطه بها ولو اسماً.
2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها.
المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خَلَفها (التعاقب)
أولاً ـ أثره في المعاهدات.
ثانياً ـ أثره في ديون الدولة.
ثالثاً ـ أثره في أملاك الدولة.
رابعاً ـ أثره في التشريع.
خامساً ـ أثره في الأحكام القضائية.
سادساً ـ أثره في جنسية الأفراد.(8/406)
المبحث التمهيدي: مقدمات
وفيه مطلبان:
المطلب الأول:
أولاً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار الإسلام ولمفهوم الدولة الحديث:
فقرة 1 ـ كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة (يثرب) وما سبقها من بيعتي العقبة أساساً في نشأة أو تكوين الدولة الإسلامية، أو دار الإسلام في اصطلاح فقهائنا؛ إذ بذلك تميزت شخصية المسلمين عن المشركين، وتوطدت لهم في المدينة الدعائم الأولى للأمن والاستقرار، وبرزت السلطة السياسية للنبي، وهذه السلطة تعتبر الآن هي العنصر الجوهري في تكوين الدولة (1) .
وكان من مظاهر ممارسة النبي عليه السلام لتلك السلطة أنه قام بموادعة اليهود في المدينة حينما كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم (2) .
وبدأ التشريع القرآني ينظم أوضاع الجماعة الإسلامية لتدبير شؤونها وسياسة ملكها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس سلطانه السياسي في تنفيذ القوانين والأنظمة المشرعة، وتأديب العصاة، ومعاقبة الجناة، وعقد الاتفاقات أو المعاهدات ومحاربة الأعداء؛ إذ أنه بعد اثني عشر شهراً من مقدمه عليه السلام إلى المدينة
__________
(1) النظم السياسية للدكتو ثروت بدوي: 37/1.
(2) سيرة ابن هشام: المجلد الأول/501، ط الحلبي. ولقد كان هذا الاتفاق على إنشاء (أمة) واحدة من أعجب الاتفاقات التي عرفها التاريخ من هذا النوع.(8/407)
وقعت أول غزوة في الإسلام: وهي غزوة الأبواء التي خرج فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يريد قريشاً، فوادعته بنو ضمرة بودَّان (1) .
الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ الإسلام تمخص عنها ميلاد دولة جديدة لم يعرف لهامثال سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلاح (دار الإسلام) ، لأن اصطلاح (الدولة) لم يكن معروفاً وقتذاك، ولأنه كان هناك تلازم بين مفهومي الدولة ودار الإسلام.
ويلاحظ أنه تميزت دولة دار الإسلام في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع كل من استجاب لدعوة الإسلام، وآمن برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم على أساس أن حكم الإسلام أو شرعه يسودها، وإن ولايته الشخصية تمتد إلى مختلف الأقاليم الإسلامية (2) .
فقرة 2 ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد أن تحطمت السلطة البابوية. وانهار النظام الإقطاعي، أو مبدأ الزعامات الإقطاعية الذي كان يقوم على الجمع بين ملكية الأرض وبعض الامتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلاً، دون أن يكون للملك سلطة حقيقية إلا على أرضه التي اقتطعها لنفسه. وقد أدى تجمع سكان الإقطاعات إلى ما يدعى بالأمة كالأمة الإيطالية والأمة الفرنسية، ثم تولد عن ذلك ما يعرف بالدولة بوجود سلطة سياسيةفي المجتمع، لأن السلطة السياسية هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية.
وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة، وتوطدت أركانها الاقتصادية، كما حدث في إنجلترا وفرنسا وأسبانيا، والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج، والمجر وبولندة وروسيا، وأصبحت القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ولا تخضع لسلطة عليا أخرى.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 590/1.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية للدكتور حامد سلطان: ص 157.(8/408)
وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة (1648) م، وكانت مقصورة في أول الأمر على دول غرب أوربا، ثم انضمت إليها سائر الدول المسيحية، غير الأوربية، ثم اتسعت في سنة 1856 م فشملت تركيا الدولة الإسلامية ودولاً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (1) .
ثانياً ـ التمييز بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية:
3 ـ على الرغم مما كان قائماً من وجود التلازم بين مفهومي دار الإسلام والدولة الإسلامية، فإن دار الإسلام تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الأرض أو الاقليم) (2) وأما الدولة الإسلامية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو الاستقلال) والشخصية المعنوية ذات الأهلية والذمة المالية المستقلة عن ذمة أشخاص رعاياها، فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (3) . وكانت الدولة الإسلامية مستقلة لا تخضع لأي سلطة أخرى، كما كانت مستقلة
__________
(1) مبادئ القانون الدولي العام للدكتور حافظ غانم: ص 46 ومابعدها، النظم السياسية المرجع السابق: ص 23 وما بعدها، و 37.
(2) يتضح ذلك من مفهوم دار الإسلام: وهي كما قال أبو منصور البغدادي: كل دار ظهرت فيه دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية، ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة (ر: كتاب أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي المتوفى سنة 429هـ: ص 270، ور أيضاً: دار الإسلام ودار الحرب، بحث المؤلف) .
(3) ر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 187.(8/409)
عن أشخاص الحكام فيها، وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائباً عن الأمة (1) . وهذا هو المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية سندها لا في إنسان، ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والاستقرار والاستقلال عن أشخاص الحكام أنفسهم (2) .
ثالثاً ـ اتجاه تطور مفهومي دار الإسلام والدولة الحديثة:
4 - المبدأ أو الأصل الفقهي أن تكون دولة الإسلام أو دار الإسلام موحدة السياسة وشاملة لجميع الأقاليم الإسلامية، وذلك لتحقيق غاية الإسلام الأساسية: وهي قوة الإسلام والمسلمين بأن يكونوا جميعاً يداً واحدة، فيتجهون، اتجاهاً واحداً، وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع. وقد ظلت الخلافة أو الدولة الإسلامية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلاثة الأولى الهجرية، ثم تجزأت دار الإسلام خلافاً للمبدأ السابق، فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية، وانقسمت الخلافة العباسية إلى دويلات: في العراق نفسها، وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية، ثم فيما بعد في الأندلس، فظهرت في أسبانيا الدولة الأموية الثانية (317-423 هـ) ، وقامت الخلافة الفاطمية (297-567 هـ) ، في المغرب، ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين الله سنة (362 هـ) .
__________
(1) ر: للتفصيل موضوع دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/20.
(2) ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 24 وما بعدها. ومن المعلوم الآن أن من خصاص الدولة تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية، ومن ثم فهي تلزم وتلتزم كالأشخاص الطبيعيين تماماً، ويترتب على الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية، علاوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات تأكيد الانفصال بين الحاكم والسلطة، أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والاستقرار (ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها الإسلام كما تقدم.(8/410)
وهكذا وجدت في وقت واحد ثلاث خلافات إسلامية: خليفة عباسي في العراق، وخليفة أموي في الأندلس، وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلِّية، ثم مصر وقسم كبير من الشام (1) .
وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة الإسلامية هو الفتنة الأولى أو الكبرى التي انتهت بمصرع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته رضي الله عنهم في كربلاء.
وفي وسط هذا الاختلاف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الآراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى دويلات، انقض التتر والمغول على الخلافة العباسية في بغداد، فأزالوا معالمها ثم استولوا على دمشق. ثم جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على البلاد الإسلامية وعاصرت انسلاخ الأندلس وطرد المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو، وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو المشترك أيام (ملوك الطوائف) .
ثم ضعفت الدولة العثمانية: فانقض المستعمرون الغربيون على الأقاليم الإسلامية يتقاسمونها بينهم بالحماية أو الانتداب أو الوصاية مستفيدين من النُّعَرة الوطنية (2) وظل الحال كذلك إلى أن استقل معظم البلاد في وحدات اقليمية أو دويلات متعددة بنحو خمسين دولة إسلامية في الوقت الحاضر.
والخلاصة: إن مفهوم دار الإسلام اتجه خلافاً للمبدأ الإسلامي نحو التجزؤ
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 292، ط مصطفى محمد، الشرع الدولي في الإسلام للدكتور نجيب الأرمنازي: ص 158، مقدمة كتاب السياسة لأبي القاسم المغربي: ص 28.
(2) الكلام عن مآسي الاستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم، وقد شاهد جيلنا الحاضر الكثير من ويلاته بتجزئة الإقليم الواحد إلى أوطان متعددة خاضعة تحت نفوده، وبذر بذور الفتن والتفرقة بين الإخوة عملاً بقاعدة (فرق تسد) .(8/411)
والانقسام في واقع الحياة الإسلامية مما أدى إلى ضعف دولة الإسلام. وبسط نفوذ المتسلطين عليها، ومعاناة مختلف أشكال الاستعمار القديم والجديد.
5 - وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس الإقليمية الضيقة، دأبت على توفير أو استكمال خصائصها أوعناصرها: وهي النظام (1) والسيادة (2)
__________
(1) النظام: معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها. أو بعبارة أخرى: وجود طبقة من الحكام وأخرى من المحكومين. وهذا في الحقيقة هو المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها (راجع موجز القانون الدستوري للأستاذين عثمان خليل والطماوي: ص 14) .
(2) السيادة: وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، ومقتضاها أن سلطة الدولة سلطة عليا لا يسمو عليها شيء، ولاتخضع لأحد، ولكن تسمو فوق الجميع، وتفرض نفسها على الجميع. ومقتضاها أيضاً أن سلطة الدولة سلطة أصيلة، أي لا تستمد أصلها من سلطة أخرى. وللسيادة وجهان: سيادة خارجية، وسيادة داخلية. الأولى خاصة بالعلاقات الخارجية بين الدول، ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لأية دولة أجنبية، والمساواة بين جميع الدول أصحاب السيادة، ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للاستقلال السياسي، وذلك يتوفر باعتراف الجماعة الدولية بها، فهي ذات دور سلبي محض. وأما السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى إيجابي مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا على جميع الأفراد والهيئات الموجودة على إقليمها، وأن إرادتها تسمو على إرادتهم جميعاً، أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني استقلالها الخارجي، وسمو سلطانها في الداخل، وهذا يدل على أنه لا دولة بدون سيادة، وقد حل محل هذه الكلمة في العرف الحديث لفظة (استقلال الدولة) (راجع ثروت بدوي: 40/1-43، حافظ غانم: ص 13، المرجعان السابقان) . ويمكن القول بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الاستقلال السياسي في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] وقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:8/63] والعزة: الأنفة. ومن أّهم مقوماتها الاستقلال الذي هو من مستلزمات التمكين في الأرض الذي وعد الله به المؤمنين الذي يعملون الصالحات.(8/412)
والشخصية القانونية (1) .
__________
(1) الشخصية القانونية أو المعنوية: هي الخاصة الثانية للدولة، ومعناها أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة، وأن هذه الوحدة لهاطابع الدوام والاستقرار لا تزول بزوال الأفراد الذين يباشرون الحكم، وإن السلطة التي تتمتع بها إنما تقوم من أجل خدمة أغراض الجماعة، لا من أجل تحقيق مآرب شخصية للحاكم. ويترتب على ذلك أن الشخص المعنوي يلزم غيره، ويلتزم في ذمته كالأشخاص الطبيعيين تماماً، أي أن له أهلية التمتع بالحقوق وتحمل الالتزامات، كما أشرت سابقاً (ثروت بدوي، المرجع السابق: ص 52 وما بعدها) .(8/413)
إلا أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لانتقادات جوهرية، وهجرها الكثيرون على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (1) ، وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان الانتقاص من السيادة على الصعيدين: الإقليمي والدولي، ففي مجال التعاون الإقليمي نما الإدراك لدى بعض الشعوب والأمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية، وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية، وظهرت الاتحادات القارِّية كالاتحاد الأمريكي الذي نشأ في أواخر القرن الماضي، ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية، وكالاتحاد الأوربي الذي برز إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية، فنشأ المجلس الأوربي سنة (1949م) ، وعقدت اتفاقية السوق الأوربية المشتركة عام (1957 م) ، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (1955م) (2) . وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق الإقليمي نحو الوحدة أو الاتحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها.
__________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 134.
(2) أحكام القانون الدولي في الشريعة، حامد سلطان: ص 153، الحقوق الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 258.(8/414)
وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد، فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية لا الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها، والذي هو يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيئات الدولية، فمثلاً: تضمَّن ميثاق الأمم المتحدة قيداً على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي، فقضى على حق
الدولة في إعلان الحرب متى شاءت، لأن الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب الأمن والسلم الدولي (1) .
والخلاصة: أن الاتجاه الحالي للدول نحو التجمع والاتحاد يتفق مع أصل الفكرة الشرعية الداعية إلى وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام.
__________
(1) القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان: ص 752 وما بعدها، حافظ غانم، المرجع السابق: ص153.(8/415)
المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة الإسلامية:
1 - السبب في إطلاق مصطلح الدولة الإسلامية على نظم الحكم الإسلامية:
6 - لم يضع العلماء المجتهدون نظرية عامة للدولة تبين أسسها النظرية أو العملية، وإنما كانوا يضعون الحلول ويقدمون الآراء بمناسبة كل حالة طارئة، كما هو الشأن في أغلب أحكام الفقه الإسلامي، لكنهم مع ذلك يلاحظ أنهم يسيرون على هدى مبادئ ونظريات عامة ثابتة، وهكذا فإن الدولة الإسلامية قامت على دعائم جديدة مبتكرة تختلف تماماً عن الدعائم التي قامت عليها بيزنطة وفارس، ومنها أن الإسلام نبذ فكرة سيطرة الحاكم، وفكرة خضوع المحكومين في الشؤون الدينية والدنيوية معاً لغير مبادئ الإسلام، فالله وحده هو صاحب السلطان في شؤون الآخرة من ثواب أو عقاب، ويقوم نظام الحكم في الشؤون الدنيوية على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد بحسب حال الزمان والمكان،
وعلى أسس العدل والشورى والمساواة والمعاملة بالمثل والأخلاق، وعدم التمييز بين الناس في الجنس واللغة أو اللون أو الإقليم (1) .
7 - ونلاحظ أن عناصر الدولة الحديثة نفسها التي تتكون منها الآن كانت متوافرة في تكوين الدولة الإسلامية في الماضي (2) : وهي الجماعة من الناس، والخضوع لنظام معين، والتسليم المحدد، والسلطان أو السيادة، والشخصية المعنوية.
هذه العناصر والخصائص توافرت بذاتها في الحكومة النبوية التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة، فالمسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار هم شعب الدولة، والشريعة الإسلامية هي نظامها، والمدينة هي إقليمها، والنبي صاحب السلطان لا يشاركه فيه سلطة أخرى، والجماعة الإسلامية تمثل الشخصية المعنوية للدولة فيكون لها حقوق، وعليها التزامات، وتظل المعاهدات التي يعقدها الحاكم الأعلى نافذة المفعول لا تنتقض أو لا تنتهي بوفاته.
وكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة (3) على الإيمان بالله وبرسوله، وعلى السمع والطاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وحمايته ونصرته هما الركيزة الأولى في الاتفاق على تكوين دولة المدينة (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 217/4، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 157 وما بعدها، شرح أدب الدنيا والدين: ص 240، 488، تفسير المنار: 11/3 وما بعدها، و 199/4 وما بعدها، و 188/5 وما بعدها، أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 127 وما بعدها.
(2) ر: للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(3) حدثت البيعة الأولى قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، والثانية بعدها بعام واحد في موسم الحج: (سيرة ابن هشام: المجلد الأول/431، 418، ط الثانية للحلبي) .
(4) على الرغم مما كانت عليه هذه الدولة من بساطة، فإنها كانت دولة مستوفية جميع أركانها، كما كان شأن دولة مدينة روما، أو دولة مدينة أثينا في الأزمنة القديمة (انظر مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 451 و 488) .(8/416)
كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة بإطلاق مصطلح الدولة الإسلامية عليها، ويؤكد ذلك ما قام به النبي صلّى الله عليه وسلم من إصلاحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة، فجمع بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ووادع يهود المدينة، وكانت هذه المعاهدة بين المسلمين وغيرهم بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلاقاتهم بغيرهم داخل المدينة وخارجها (1) على نحو أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق الوطني.
__________
(1) سيرة ابن هشام، المرجع السابق: ص 501 وما بعدها.(8/417)
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) ، فكان عن طريق الوحي والاجتهاد الخاص يضع قواعد السلوك للناس في حياتهم الاجتماعية، ويحكم بين الخصوم، ويجبي الصدقات، ويوزع الغنائم، ويولي الأمراء على القبائل والمدن ويحدد لهم الاختصاصات، ويرسل القضاة إلى الأمصار، ويقود المعارك، ويعقد عقود الصلح أو الموادعة.
أنشأ النبي صلّى الله عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيماً أو جهازاً إدارياً بالتدريج توضحت معالمه واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين، حيث أرسل الأمراء والعمال إلى البلاد التي آمنت برسالته، وكان في كل وقت شديد الحرص على مشاورة أصحابه، ويقوم أحد كتاب الوحي عنده بالكتابة إلى الملوك والأمراء، ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم، أو لعلاقات القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن رسولاً فحسب، وإنما كان كذلك حاكماً ورئيساً لدولة (1) .
8 - واستمرت الخلافة الراشدية على الأسس نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة اصلاحات رائعة في عهد عمر بن الخطاب في نظام القضاء والإدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة وتحديد صلاحيات الولاة والعمال في الأمصار الإسلامية (2) .
إلا أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الإدارية بدليل قول أبي عبيدة لأبي بكر: أنا أكفيك المال، وقول عمر له: وأنا أكفيك القضاء.
وكانت الخلافتان الأموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة في العالم مع وضوح التقسيمات الإدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولاة والأمراء.
وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون.
وهكذا ظلت الدولة الإسلامية طوال عشرة قرون مثالاً صحيحاً للدولة نظمت شؤونها على نحو سليم يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الأساسية في الوقت الحاضر، مع ملاحظة فارق التطور والتقدم العلمي الحديث.
__________
(1) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 90-98، مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 451.
(2) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذين علي وناجي الطنطاوي: 224/1 و 263 و 548/2، ط الترقي بدمشق، تاريخ الحضارة العربية للأستاذ راتب الحسامي: ص 54 و 86.(8/418)
2 - صلاحية نظام الحكم الإسلامي للتطبيق في الوقت الحاضر:
9 - الخلافة (أو الإمامة أو إمارة المؤمنين) أو أي نظام شوري يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة كلها ذات مدلول واحد، لا يختلف عما هو متعارف الآن من أنظمة الحكم الدستورية النيابية إلا في أن الخلافة ذات صبغة دينية وسياسية أو
رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ولجميع المسلمين في كل قطر (1) ، فهي تقوم على أساس الشورى أو الانتخاب، ويلتزم فيها تطبيق شريعة الإسلام، وتسود فيها مبادئ المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، مهما اختلفت الأجناس والألوان، وتباينت الأقدار، وتتوخى تطبيق العدالة بحق، وتوفر لأبنائها الحرية الكافية في القول والرأي والنقد في ظل من القيم الخلقية الأصيلة (2) .
والحاكم ليس هو صاحب السيادة، وإنما الأمة والشريعة معاً هما صاحبا السيادة في الدولة الإسلامية (3) .
وهذا كله من الناحيتين النظرية والعملية قابل للتطبيق في الوقت الحاضر كما طبق في عصر صدر الإسلام، بشرط أن يتوافر لدى الناس الاستعداد الكافي وحسن التفهم والإدراك العقلي والتجريبي، مع مراعاة وسائل التطبيق الزمنية، إذ أن من مبادئ الفقه الإسلامي المرونة ومراعاة المصالح، وقابلية التطور في الأحكام الفقهية الاجتهادية، ودفع الضرر، وإقامة العدل ومنع العدوان. وبالتزام هذه المبادئ يتيسر على الناس اختيار شكل الحكم الذي يحقق تلك الأهداف دون تقيد بتسمية معينة كنظام الخلافة، وذلك عملاً بمبدأ نفي الحرج في الإسلام.
__________
(1) ليس صحيحاً أن نظام الخلافة والإجماع الأصولي ضرباً من المحال كما توهم بعض رجال القانون وذلك بدليل وقوعهما بالفعل (قارن الدكتور متولي: ص 548) .
(2) راجع نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 48 وما بعدها.
(3) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 340.(8/419)
3 - هل يوجب الإسلام إقامة دولة؟
10 ـ الإسلام نظام ديني ومدني متكامل، ويتلازم وجود المسلمين مع قيام
الدولة، ومن أهم أركان كل دولة كما أشرت سابقاً وجود سلطة عامة سياسية عليا يخضع لهاجميع الأفراد المكونين للجماعة (1) .
لذلك نرى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا قليلاً منهم، والخوارج ما عدا النجدات) تقرر وجوب إقامة حكومة عليا (أو إمارة أو دولة أو إمامة) . والمراد بالوجوب هنا هو المعروف في علم أصول الفقه المرادف عند جمهور العلماء لمعنى الفرضية، وقد قال العلماء فعلاً: إن الإمامة فرض كفاية (2) .
__________
(1) النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي: 33/1.
(2) مغني المحتاج: 129/4، شرح المواقف للجرجاني: 346/8، شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص142 وما بعدها، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/2، حجة الله البالغة للدهلوي: 110/2، أصول الدين للبغدادي: ص 271 وما بعدها، ط استانبول، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 3، ولأبي يعلى: ص 3، نيل الأوطار: 256/8، مقدمة ابن خلدون: ص 191 وما بعدها، الحسبة لابن تيمية: ص 4-7، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 161، النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 144،إكليل الكرامة في مقاصد الإمامة لصديق حسن خان: ص 7 وما بعدها.(8/420)
قال ابن تيمية: يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لاتتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة (1) .
وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم (2) .إلا أن هؤلاء الموجبين للإمامة فريقان: قال أكثر الأشعرية، والمعتزلة، والعترة؛ إنها تجب شرعاً، لأن الإمام يقوم بأمور شرعية. وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً.
وشذ جماعة (وهم المُحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز الإمامة وأنها لا تجب، قال الأصم: لو تكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام.
واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة لا مجال هنا لذكرها (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية له، المكان السابق.
(2) الفصل في الملل والنحل: 87/4، وانظر المحلى: 438/9، م/1768 ومراتب الإجماع: ص124.
(3) ر: للتفصيل إمامة ـ الإمامة الكبرى. وقد سبق إيراد هذه الأدلة في فصل: نظام الحكم في الإسلام.(8/421)
المبحث الأول ـ أركان الدولة الإسلامية ونشأتها وشخصيتها
المطلب الأول ـ أركان الدولة الإسلامية:
تمهيد:
11 - الدولة في العرف الحديث: مجموع كبير من الناس يقطن بصفة دائمة في إقليم جغرافي معين، ويخضع لسلطة عليا أو تنظيم سياسي معين.
يظهر من هذا التعريف التقليدي للدولة أن عناصرها أو أركانها ثلاثة: هي الشعب أو مجموعة من الأفراد، والإقليم، والسلطة الحاكمة. ويربو عدد الدول الآن على (170) دولة.
وتتصف الدولة بوصفين أو خاصتين: وهما السيادة والشخصية المعنوية أو القانونية، فالسيادة هي المعيار التقليدي للدولة، أي الذي يميزها عن غيرها من الجماعات (1) .
وسأبحث هنا ركنين من أركان دولة الإسلام: وهما الشعب والإقليم (2) وأبحث أيضاً وصف (السيادة) الذي يعتبره بعض فقهاء القانون الدستوري ركناً من أركان الدولة (3) .
فصارت مواضيع هذا المبحث ثلاثة: الشعب والإقليم والسيادة.
__________
(1) النظم السياسية، ثروت بدوي: ص 28 و 40، حافظ غانم، المرجع السابق: ص 124 و 128، أحكام القانون الدولي في الشريعة: ص 212.
(2) من المعلوم أن الدولة الإسلامية سبقت ـ في مظهرها القانوني ـ نشوء الدول الأوربية من حيث اكتمال عنصر الإقليم وعنصر الشعب وعنصر الولاية الذاتية فيها، انظر (أحكام القانون الدولي لحامد سلطان، المرجع السابق: ص 231) .
(3) موجز القانون الدستوري، عثمان خليل والطماوي: ص 10-14.(8/422)
الركن الأول ـ الشعب:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً وأساسيته في مفهوم الدولة الإسلامية:
12 ـ الشعب أو الأمة في المفهوم الحديث يقوم على عنصرين: عنصر مادي وهو الاستقرار على بقعة معينة من الأرض، وعنصر معنوي: وهو الرغبة في الحياة المشتركة. ويعتبر أول عناصر الدولة هو العنصر الإنساني وهو الشعب، وتعد ضخامة عدد أفراد الدولة الحديثة من مميزاتها إذا قورنت بدولة (المدينة) السياسية القديمة.
والشعب في مفهوم تكوين الدولة الإسلامية هو شعب دار الإسلام الذي يتألف من المسلمين الذين يؤمنون برسالة الإسلام ديناً وشرعاً وعقيدة ونظاماً سياسياً ومن الذميين، أي غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في دار الإسلام، فمن هؤلاء جميعاً يتكون شعب الدولة الإسلامية أو رعاياها الذين يرتبطون في المفهوم الحديث برابطة سياسية وقانونية هي رابطة الجنسية أو الرعوية.
وتنحصر غاية المسلمين في توحيد الله والدعوة إليه وإلى تطبيق الدستور الإسلامي في الحياة عامة في كل مكان، دون تمييز بين الناس إلا على أساس العقيدة والفضيلة والكفاية والكفاح التي تجمعها كلمة (التقوى) .
ولقد كان الهدف من تركيز هجرة المسلمين إلى المدينة وتلاقيهم مع الأنصار هو إيجاد ركيزة الشعب المكون للدولة الإسلامية الأولى، إذ لا يمكن لدولة أن تعيش في فراغ عن السكان، كما أن تنفيذ شريعة الإسلام أيضاً يتطلب وجود المكلفين المؤمنين بها. وقد يوجد مع شعب الدولة مؤقتاً مستأمنون أوأجانب بلغة العصر.(8/423)
ثانياً ـ اختلاف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة:
13 - يختلف مدلول الشعب في الدولة الإسلامية عن مدلوله في المفهوم الحديث للدولة، فالشعب أو الأمة في المفهوم الحديث شعب محصور في حدود جغرافية، يعيش في إقليم واحد، تجمع بين أفراده روابط من الدم أو الجنس أو اللون أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العادات والمصالح المشتركة (1) أي أن الشعب يقوم في الغالب على أساس عنصري.
أما الشعب في مفهوم الدولة الإسلامية فإنه يقوم على أساس مبادئ وغايات أساسها ما جاء به الإسلام من نظام صالح للحياة البشرية قائم على محاربة العنصرية أو القبلية أو العصبية الإقليمية أو القومية. والرابطة أصلاً هي الوحدة في العقيدة أي في الفكرة والوجدان، فكل من اعتنق الإسلام من أي جنس أو لون ووطن وكل من التزم أحكام الإسلام من غير المسلمين وأقام في دار الإسلام، فهو أحد مواطني دولة الإسلام، مما يدل على أن نظرة الإسلام إنسانية وأفقه عالمي، لأن أساس تجمع الأفراد المكونين للدولة الإسلامية ليس هو الأرض ولا اللون ولا اللغة ونحوها، وإنما أساس الارتباط بالدولة هو إما الإقرار بعقيدة الإسلام أو الولاء السياسي للدولة الإسلامية.
14 - ومن هنا يتحدد مفهوم الأمة والقومية في الإسلام:
__________
(1) حافظ غانم، المرجع السابق، ص 125 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 29، أحكام القانون الدولي في الشريعة لسلطان: ص 215.(8/424)
أما الأمة في مفهوم الإسلام فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس أو اللون أو اللغة أووحدة المكان. وإنما هي التي تجمع بينها رابطة العقيدة والأخلاق.
وأما القومية في نظر الإسلام فهي رابطة تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود جغرافية متعاونة في تدبير شؤونها ومصالحها المشتركة، دون انعزال عن الأقوام الأخرى التي تقيم في رقعات أرضية أخرى، فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة المنتشرة في بقاع العالم، وليست دعوة للانعزال أو التعصب (1) ، وبعبارة أخرى: هي أن القومية في كل صورها الحديثة تتنافى مع مبادئ الإسلام، لأن الإسلام يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس، ويقيم وحدة المسلمين على أساس الأخوة أو الاشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلاقية واحدة تسمو فوق اعتبارات الجنس والنشأة واللغة، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لأحد فضل على أحد إلا بدين أو تقوى، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» (2) ، وقال أيضاً: «يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، أيها الناس، كلكم من آدم، وآدم من تراب لا فخر للأنساب، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للعجمي على العربي، إن أكرمكم
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور العربي: ص55، النظريات السياسية الإسلامية للريس: ص 339، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 و 52، العرب والإسلام لأبي الحسن الندوي: ص85. حامد سلطان، المرجع السابق: ص 111و 141 و 155 و 183 و 217، نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 92 وما بعدها، منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 71، الإسلام عقيدة وشريعة للأستاذ محمود شلتوت: ص 362 وما بعدها، ط 1959.
(2) رواه أحمد في مسنده (مجمع الزوائد: 266/3) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.(8/425)
عند الله أتقاكم» (1) ، وفي حديث آخر: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (2) .
وذلك يعني أن الإسلام هدم برج العصبية القاتلة، والعنصرية السقيمة البغيضة لأنها تفرق الجماعات، وتولد الأحقاد والشرور والمنازعات، وأحل محلها الإنسانية العالمية، لأنها سبيل الإخاء والمحبة والسلام (3) .
الركن الثاني ـ الإقليم:
أولاً ـ موقع هذا الركن مادياً واختلافه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة:
15 - يشمل إقليم الدولة الإسلامية جميع البلاد الإسلامية، فهو يتحدد بحدود دار الإسلام مهما اتسعت رقعتها، ودار الإسلام: (اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين) (4) . وهذا يعني ضمناً أن حدود إقليم الدولة الإسلامية ليست ثابتة أو دائمة (5) ، إذ أنه يجب شرعاً تبليغ الدعوة الإسلامية إلى العالم،
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ مقارب لهذا (سنن أبي داود: 624/2، جمع الفوائد: 398/2، الترغيب والترهيب: 573/3، 614) .
(2) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (سنن أبي داود: 625/2) .
(3) إذا كان نظام الدولة الحديث يقوم على أساس فكرة الأمة التي يرتبط أفرادها بروابط الجنس واللغة والدين أو بالروابط الاقتصادية أو الجغرافية أو التاريخية، فإن مفهوم الأمة الذي يقوم عليه نظام الدولة المسلمة أوسع مدى، فهي تشمل كل من آمن بالإسلام أو التزم أحكام الإسلام، مهما كان جنسه أو لونه أو أصله أو لغته، لأن رابطة الأخوة الإسلامية فوق رابطة الجنسية ورابطة الإقليمية أو التوطن في بلد معين.
(4) شرح السير الكبير: 81/3، وانظر للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(5) كان ركن الإقليم في دولة المدينة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم عبارة عن المدينة وضواحيها، ثم أخد إقليم الدولة يمتد في عهده، ثم في عهد خلفائه على النحو المعروف.(8/426)
وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان الإسلام إلى البلاد الأخرى، فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين اتسعت الأقاليم الإسلامية. ولا يراد بالوطن عند فقهاء الإسلام إلا مكان إقامة الشخص الدائمة، أي بلده التي يقيم فيها عادة، أو محل سكناه.
فإذا وقف سلطان امتداد الإسلام تحدد الإقليم تحت وطأة الضرورة والظروف بالحدود التي وقف عندها، وأصبحت حدود دار الإسلام مقيدة من الناحية الواقعية بهذه الحدود (1) .
إلا أن الإسلام حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها فكرة الوطن القومي، فإنه لا يلغي فكرة الوطن على الإطلاق، لأن تعلق الإنسان بوطنه أمر فطري، حتى إن حبه يملأ نفسه ومشاعره، لذا فهو أي الإسلام يبقي على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة: معنى التجمع والتآخي والتعاون والنظام والمشاركة في الأفراح والأحزان، والالتفاف مع الإخوان في الوطن حول الهدف الأعلى المشترك (2) ، وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور لا رقعة من الأرض نعيش
__________
(1) أما من الناحية المثالية فإن إقليم الدولة الإسلامي غير محدود، شأنه شأن الخطاب التكليفي غير محدد إطلاقاً بإقليم محصور معين، ولا مقيد برابطة الجنسية أو الموطن، بل هو خطاب مطلق من كل قيد، وموجه إلى المسلمين والبشر جميعاً، بغض النظر عن الروابط الإقليمية، يعني أن الشريعة ليست ذات صبغة إقليمية وإنما هي ذات صبغة عامة أو عالمية. إلا أن سلطة الدولة الإسلامية مقيدة في الواقع بحدود دار الإسلام لعدم قدرتها على التنفيذ الجبري لأحكامها في خارج دار الإسلامي (قارن التشريع الجنائي الإسلامي: 278/1 وما بعدها والإسلام وأوضاعنا السياسية للأستاذ عبد القادر عودة: ص221 وما بعدها، وأحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 111و 184 و 231) .
(2) نحو مجتمع إسلامي لسيد قطب: ص 96، الإسلام والحياة للدكتور محمد يوسف موسى: ص189.(8/427)
فيها، هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من كل جنس ولون وأرض (1) . وكما أن ركن (الشعب) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر (اللاعنصرية) فدولة الإسلام ليست دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر، وإنما هي دولة فكرية تمتد إلى المدى الذي تصل إليه عقيدتها، دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على أساس الجنس أو اللون أو الإقليم (2) ، كذلك فإن ركن (الإقليم) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن الإسلام يقرر مبدأ (اللا إقليمية) (3) .
ثانياً ـ مشمول إقليم الدولة:
16 - يظهر من تعاريف الفقهاء لدار الإسلام أن إقليم الدولة الإسلامية يشمل كل موضع أو جزء من البلاد خاضع لسلطان المسلمين (4) . وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي:
1 - ما هو جزء أساسي من الإقليم:
يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي، وهو مايأتي:
__________
(1) هذا ويلاحظ أن ارتباط الدولة بالإقليم في المفهوم الجديد رابطة حديثة النشأة يرجع وجودها إلى القرن التاسع عشر، وتوثقت في القرن العشرين، فالإقليم لم يكن عنصراً أساسياً من عناصر الدولة عند اليونان والرومان، وإنما بدأت الرابطة بين الدولة وبين الإقليم تظهر في الإدراك القانوني في أواخر القرون الوسطى (حامد سلطان، المرجع السابق: ص 228) .
(2) بحث الفرد والدولة في الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان: ص 14.
(3) ر: للتفصيل دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) ر: دار الإسلام ودار الحرب.(8/428)
أـ الأرض: أي الجزء اليابس أو الرقعة التي يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو ولايتهم، سواء أكانت مدينة أو قرية أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (1) .
وكذلك يعتبر ما في باطن الأرض من محتويات تابعاً للدولة بدليل إيجاب الخمس للمصالح العامة فيما يخرج من الأرض من المعادن والركاز (2) والباقي للمالك. وهذا يعني أن ملك الأرض يستتبع ملك ما تحتها وما فوقها عملاً بالقاعدة الشرعية: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته) .
ب ـ الأنهار الوطنية: وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار الإسلام كأنهار مصر والشام والعراق ونحوها.
جـ ـ المياه الساحلية أو البحر الإقليمي: وهي قسم محدد من البحر ملاصق لأرض الدولة التي تنتهي حدودها إلى البحر. وتابعيتها لدار الإسلام بناء على مبدأ إحراز المباح، لأن من سبق إلى مالم يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم (3) .
وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملاصقة أو التكميلية) (4) تعتبر
__________
(1) رد المحتار: 277/3، ط الحلبي.
(2) ر: زكاة.
(3) رواه أبو داود عن أسمر بن مضرِّس بلفظ: (أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فبايعته، فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (نيل الأوطار: 302/5) .
(4) هذه المنطقة عبارة عن قسم من أعالي البحار يجاور مباشرة البحر الإقليمي تمارس الدولة الساحلية عليه بعض الاختصاصات المحددة في المسائل الاقتصادية والمالية والجمركية، وفي مسائل أمن الدولة والصحة العامة وفي الغنائم وفي الحياد (حافظ غانم، المرجع السابق: ص 402) .(8/429)
جزءاً من دار الإسلام. ومثلها أيضاً الامتداد القاري (1) .
وأما المياه الداخلية القائمة في داخل أراضي دار الإسلام فهي جزء من إقليم الدولة المسلمة بلا نزاع، لأنها خاضعة لنفوذ المسلمين وتحت أيديهم.
2 - ما هو امتداد أو ملحق بالإقليم اعتباراً:
17 - تعتبر وسائل النقل الدولية من سفن وقطارات دولية تمر في أقاليم دولة أخرى، وطائرات، جزءاً ممتداً من إقليم دار الإسلام، فإن كانت هذه الوسائل حربية فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة باتفاق الحنفية وغيرهم قياساً على اعتبارهم أرض المعسكر الإسلامي جزءاً من دار الإسلام. فإن كانت هذه الوسائل تجارية أو مدنية:
ففي أصل المذهب الحنفي الذي يقرر أن لا ولاية للسلطة المسلمة على جرائم دار الحرب: إن كانت في مياه أو أراض أوأجواء تابعة لدار الحرب، فلا تخضع لسيادة الدولة الإسلامية. وإن كانت في مناطق تابعة لدار الإسلام، أو حرة غير تابعة لأحد، كما لو كانت في وسط البحر مثلاً، فتخضع لسيادة الدولة الإسلامية وتطبق عليها الشريعة. وبما أنه يمكن الآن ممارسة ولاية الدولة على هذه الوسائط في أراضي دولة أخرى، فإن هذه الوسائل في جميع الحالات تخضع لسيادة الدولة المسلمة، عملاً بقاعدة: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) .
وفي رأي غير الحنفية القائلين بمعاقبة رعايا الدولة الإسلامية على الجرائم التي
__________
(1) الامتداد القاري: أي الطبقات الأرضية المنحدرة الواقعة في قاع أعالي البحار بجوار مياه الدولة الإقليمية. واهتمام الدول بها مرجعه إلى رغبتها في استغلال الثروات الطبيعية كالبترول مثلاً الموجودة في قاع البحر الممتد أمام شواطئها خارج البحر الإقليمي (حافظـ غانم المرجع السابق: ص 392) .(8/430)
يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار الإسلام: تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة الإسلامية مطلقاً سواء أكانت في مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار الإسلام أو حرة (1) .
3 - ما هو جزء من إقليم الدولة، ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى:
18 - يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة الإسلامية لولايتها وسلطانها عليهما وهما:
أـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من الأنهار الدولية: إذ أن هذا الجزء خاضع لسيادة الدولة الإسلامية، وتمارس سلطانها عليه، وإن كان لا مانع عن طريق الاتفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع الدول الأخرى بالملاحة فيه ونحوها، كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق عليها بسبب الجوار ونحوه.
ب ـ طبقات الجو عمودياً: يشمل إقليم الدولة أعماق الأرض والطبقات الهوائية التي تعلو إقليمها الأرضي والمائي، وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة اختصاصها وحقوقها على الأجواء العليا، سواء في الملاحة الجوية أو المواصلات والإذاعات (اللاسلكية) . والدليل الشرعي العمل بالقاعدة الفقهية السابقة: (من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع ملك ما فوق الأرض من طبقات الجو، وما تحتها من الأعماق، فيبني المالك مثلاً ما شاء فيها من طباق (2) ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم الإضرار بالآخرين، وتأمين مصالحهم الضرورية.
__________
(1) ر: دار الإسلام ودار الحرب: ف/43 و 111-113، التشريع الجنائي الإسلامي: 296/1.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف/635.(8/431)
4 - الأقاليم المشتركة بين عدة دول:
19 - تمارس الدولة المسلمة سيادتها على الأجزاء المشتركة بينها وبين دول أخرى بحسب المعاهدة أو الاتفاق المعقود، كما هو الحال بالنسبة إلى نظام المضايق التركية التي تشرف تركيا بموجبه على مضايق البوسفور والدردنيل بمقتضى معاهدة مونتريه في (26) تموز (يوليو) سنة (1936م) ، مع الحفاظ على مبدأ حرية الملاحة للسفن التجارية. وكما هو شأن مضيق جبل طارق وطنجة الموضوعة في حالة حياد دائم بموجب اتفاقية تدويلها سنة (1923م) وكذلك المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية في الشمال والجنوب الشرقي تحكمها الاتفاقيات المعقودة. وهذا كله يعني أن سيادة الدولة على الإقليم المشترك إما ناقصة أو معدومة فلا تتبع دولة ما بحكم الحياد.
5 - ما لا يعتبر جزءاً من الإقليم ويمكن اعتباره امتداداً مشتركاً مشاعاً لإقليم كل دولة:
20 - إن المناطق الحرة غير التابعة لدولة ما يمكن اعتبارها في الإسلام مشاعة لكل الدول على السواء؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأنها لا تخضع لحيازة أحد، فتنتفع بها كل الدول بشرط عدم الإضرار بالآخرين كتلويث مياه البحار والجو بالغبار الذري، لأن الضرر ممنوع شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1) . وتشتمل هذه المناطق ما يأتي:
__________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده، وابن ماجه والدارقطني في سننهما عن ابن عباس وعبادة (الفتح الكبير وغيره) .(8/432)
أـ أعالي البحار (1) : الأصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكاً لأحد (2) لعدم الحيازة لها، سئل بعض فقهاء الحنفية عن البحر الملح أمن دار الإسلام أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من أحد القبيلين، لأنه لا قهر لأحد عليه (3) . ويؤيد ذلك الاعتماد على بعض قواعد الإسلام لتقرير مبدأ حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول، إذ لا حيازة لإحدى الدول عليها فعلاً أو حكماً مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية البحار والسعي لتقرير مبدأ حريتها (4) .
ب ـ الفضاء الكوني (5) : يعتبر الفضاء الكوني أيضاً حراً يجوز لكل دولة الانتفاع به قياساً على مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم الاستيلاء أو حيازة دولة ما له، ولكن مع مراعاة الشرط السابق وهو عدم الإضرار بالآخرين.
__________
(1) المقصود بأعالي البحار في العرف الحاضر: كل أجزاء البحر التي لا تدخل في البحر الإقليمي أو في المياه الداخلية لدولة من الدول (حافظ غانم، المرجع السابق: ص 405) . ويقصد بحرية البحار: أن يكون لكافة الدول أن تنتفع بها على قدم المساواة. ولا تخضع السفينة الموجودة في أعالي البحار إلا لاختصاص الدولة التي ترفع علمها.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي لعودة: 296/1.
(3) رد المحتار على الدر المختار: 267/3 و 277، ط الحلبي، وانظر التفصيل في بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف.
(4) بدأ رجال الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسهم البابا في العصر الوسيط بإدخال البحار في ملكية ملوك أوربا كي يتسنى لهم محاصرة الدولة الإسلامية عن طريق البحر المكتشف أو الذي سيعرف (ر: أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان: ص 243، نظم الحكم والإدارة في الشريعة والقوانين لعلي منصور: ص 312) .
(5) توصلت بعض الدول الكبرى في عصرنا الحاضر إلى الفضاء الكوني بقذائف صاروخية تحمل كواكب صناعية تدور حول الكواكب السماوية، وتشرف على الكرة الأرضية، وتصور أي جزء منها، وترسل معلومات فلكية عن الفضاء والأشعة الشمسية إلى الدولة التي أطلقتها.(8/433)
الركن الثالث: السيادة:
تمهيد:
1 - نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة:
21 - السيادة فكرة حديثة نسبياً، فلم تكن معروفة حتى القرن السادس عشر، وهي تعني مجموعة من الاختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة، وتجعل منها سلطة آمرة عليا. ولعل أهم هذه الاختصاصات هو قدرتها على فرض إرادتها على غيرها من الهيئات والأفراد بأعمال من جانبها وحدها، تكون نافذة من تلقاء نفسها، دون أي توقف على قبول المحكومين لها.
ولا يصح الخلط بين السلطة السياسية والسيادة؛ إذ أن هناك فرقاً بين السلطة في ذاتها وأوصاف السلطة، فالسيادة في الواقع ليست إلا الصفة التي تتصف بها السلطة السياسية في الدولة، لأن السلطة ركن من أركان الجماعة، أما السيادة فهي وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة.
والمعيار التقليدي للدولة هو السيادة، فالذي يميز الدولة عن غيرها من الجماعات هو تمتعها بالسيادة.
وللسيادة مظهران أو وجهان ذكرتهما سابقاً (1) ، وبينت أيضاً أن نظرية السيادة في المفهوم الحديث أصبحت نسبية؛ إذ أن سيادة الدولة صارت خاضعة داخلياً للخير العام القومي وخارجياً للخير المشترك الدولي.
ووجدت نظريات أخرى تحل محل نظرية السيادة المطلقة، منها نظرية
__________
(1) ر: حاشية ف/5.(8/434)
(لاباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص آخرين، وهذه القوة هي حق خاص للدولة لم تستمده من سلطة أخرى.
ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول: أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الاختصاص، فهي السلطة الوحيدة في الإقليم التي تملك حق وضع دستور ينظم الدولة، ويحدد اختصاص سائر الأشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها.
وقال بعض فقهاء القانون الدولي: يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في أمرين:
1 - عمومية اختصاص الدولة، أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود إقليمها.
2 - الخضوع المباشر للقانون الدولي العام، فتستمد منه حقوقها وواجباتها، وتخضع لما يقيد حريتها في التصرف (1) .
2 - تمييز السيادة عما يشتبه بها:
22 ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض الأنظمة وبعض مظاهر نشاط الدولة التي قد تختلط أو تلتبس بها (2) .
أـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية:
يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من الجائز أن تباشر دولة أو هيئة دولية سلطة فعلية في إقليم لا يخضع لسيادتها، ومثالها نظامان:
1 - الإيجار: ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءاً من إقليمها لدولة أخرى، وتتولى الدولة المستأجرة إدارة الإقليم محل الإيجار، واستخدامه مقابل أجر معين تدفعه للدولة المؤجرة، كاستئجار أمريكا لمدة (90) عاماً بعض مناطق في نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (1941م) .
2 - الإدارة: ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة أخرى، وتتولى الدولة المديرة إدارة الإقليم نيابة عن الدولة الأولى، ولمصلحة هذه الدولة، كنظام الوصاية الدولية تحت إشراف الأمم المتحدة.
__________
(1) حافظ غانم: ص 128-137، ثروت بدوي: ص 40 وما بعدها، حامد سلطان: ص 150، فؤاد شباط: ص 62، المراجع السابقة.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص132 ومابعدها، الشريعة والقانون الدولي، علي منصور ص123.(8/435)
ب ـ التمييز بين السيادة والملكية:
23 ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها، واعتبار هذا الإقليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه، ولا يمكن تشبيه سلطات الدولة واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد من الأفراد. فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية الأفراد أو الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة، وملكية الدولة لبعض الأموال في داخل إقليمها أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة الإقليمية.
بعد هذا التمهيد أذكر أموراً ثلاثة:(8/436)
أولاً ـ فكرة السيادة في الدولة الإسلامية:
24 ـ تتمتع الدولة الإسلامية بصفة السيادة في النطاقين الداخلي والخارجي بدءاً من الحكومة النبوية في المدينة وما تلاها من عهود مستقلة. ففي النطاق الداخلي: للدولة الهيمنة التامة على جميع الأشخاص والهيئات القائمة في دار الإسلام. فتلتزم الرعية بالطاعة والسمع ضمن حدود الشرع. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) (1) . وقال الماوردي: بعد أن ذكر ما يلزم الإمام من الأمور العامة: (وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: (الطاعة والنصرة) ما لم يتغير حاله. والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص بدنه. فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح: وهو ارتكاب للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ... الخ) (2) .
وفي موضوع تقليد الإمارة على الجهاد، قال الماوردي أيضاً: وأما ما يلزمهم -أي الجيش في حق الأمير عليهم - فأربعة أشياء:
ـ أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت.
ـ والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره، حتى لاتختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم، ويفترق جمعهم.
ـ والثالث: أن يسارعوا إلى امتثال الأمر والوقوف عند نهيه وزجره، لأنهما من لوازم طاعته.
__________
(1) رواه مسلم من حديث علي (شرح مسلم للنووي: 226/12 وما بعدها) .
(2) الأحكام السلطانية: ص 15، وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 8، 30.(8/437)
ـ والرابع: أن لا ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه ... ) (1) .
وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره القرآن الكريم من مبدأ توفير العزة والاستقلال الكامل لدولة الإسلام دون السماح لأية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة التسلط عليه، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] . وقال سبحانه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون:63/8] . والعزة تقتضي ـ كما ذكر سابقاً ـ الاستقلال ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على الإمام (تحصين الثغور والحدود بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرق ينتهكون بها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً) (2) .
ثانياً ـ نصاب الحاكمية أو حدها الأدنى في التحقق، والفرق بينه وبين الحد الأدنى في تطبيق الأحكام لتحقق مفهوم دار الإسلام:
25 ـ إن السيادة الثابتة للدولة الإسلامية بالمعنى السابق لا تتقيد إلا بقيود أو حدود الشرع أو بالتعبير الحديث (مبدأ سيادة القانون) ، لأن من أولى واجبات الدولة الإسلامية (حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة) (3) ، والحد الأدنى المطلوب شرعاً لتحقيق سيادة الشرع أو كون الحاكمية لله تعالى يتوافر بما يأتي:
1 - إقرار عقيدة التوحيد: إن أول مظهر للإسلام هو إعلان أصول عقيدته
__________
(1) المرجع السابق: ص 45.
(2) الماوردي، المرجع السابق: ص 14، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 11.
(3) الماوردي: ص 14، أبو يعلى: ص 11.(8/438)
المعروفة: وهي الإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى (1) .
2 - التزام الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع الثبوت قطعي الدلالة، كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الحدود: وهي الزنا والقذف والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان، وتحريم الربا، والميسر، وزواج المحارم، وزواج المسلمة بغير المسلم، وإيجاب الكفارات المقدرة للإيمان أو انتهاك حرمة بعض الأنظمة أوالفروض الدينية (2) .
3 - إنفاذ الأحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في السنة أو في الإجماع كنظام المواريث والأسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما. وطرق الإثبات والقضاء، ونظم السلم والحرب، ونحو ذلك مما يتصل بالتزام الأوامر واجتناب النواهي.
4 - احترام مبادئ الإسلام السياسية والمدنية والاقتصادية: كمبدأ الشورى والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوفاء بالعهود والعقود والالتزامات، والحفاظ على الحقوق، وتحقيق الأمن، ودفع الأذى والضرر ومنع الظلم وجهاد الأعداء، وسد الذرائع إلى الفساد، وحماية الأنفس والأموال
__________
(1) القدر: لا شر فيه بوجه من الوجوه، فإنه علم الله وقدرته وكتابته ومشيئه، وذلك خير محض وكمال من كل وجه، ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، وإنما يدخل الشر الجزئي الإضافي في المقضي المقدر، ويكون شراً بالنسبة إلى محل وخيراً بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شر له من وجه، بل هذا هو الغالب. وهذ ما يحقق معنى التكامل في الحياة (راجع العقيدة الواسطية لابن تيمية) .
(2) انظر كتب أصول الفقه ـ باب الاجتهاد.(8/439)
والأعراض، وإقرار المسؤولية الفردية وضمان الاعتداء أو الضرر، وتحريم الاحتكار والغش والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان (1) ، وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها ذات وظيفة اجتماعية، وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة.
وأما ما عدا ذلك من الأمور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة، فللعلماء المختصين الاجتهاد فيها، عملاً بأن الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة، وفي الأشياء الضارة هو الحظر أو المنع، ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (2) ، ولكن بشرط ألا يصادم الاجتهاد مبدأ أساسياً من مبادئ الإسلام أوأصلاً من أصول الشريعة، أي أنه لا بد لصحة الاجتهاد وسلامته من أن يكون متجاوباً مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية، كما هو معروف في علم أصول الفقه.
والخلاصة: إن الحد الأدنى لحاكمية الله، هو تطبيق الأحكام القطعية والمجمع عليها وإقامة الحدود، وأما بقية الأحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه الحاكمية، إلا أن الإخلال بتطبيق الحد الأدنى لتلك الحاكمية لا يمكننا من الإسراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف الإسلام، لأن الحكم بالتكفير والتبري ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء، ولأن التكفير لا يكون إلا بالترك، اعتقاداً بعدم الصلاحية أو مجاهرة بإعلان الكفر صراحة.
26 - ويلاحظ أن هذا الحد الأدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الأدنى المطلوب لتحقيق مفهوم دار الإسلام، إذ يكفي لتحقيق مدلول دار الإسلام
__________
(1) الحسبة لابن تيمية: ص 29 و 45 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 63 وما بعدها و143 وما بعدها، 155 وما بعدها، المحلى لابن حزم: 440/9 م/1772.
(2) أخرجه مسلم عن أنس وعائشة (شرح مسلم: 118/15) .(8/440)
لتتميز عن دارا لحرب: إقامة شعائر الدين أو غالبها فيها، أو التمكين من أدائها، مثل إقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد وإعلان الأذان (1) .
أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية لله فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة أوامره، واجتناب نواهيه، والتزام الأحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/33] {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] ، إذ بذلك يتحقق المقصود من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح للبشرية.
ثالثاً ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلاد الإسلام؟
27 - إن الأصل العام المقرر عند علماء الأشاعرة والمعتزلة والخوارج أن الإمامة والسلطة السياسية في دار الإسلام في المشرق والمغرب الإسلامي واحدة (2) لأن الإسلام دين الوحدة، ولأن المسلمين أمة واحدة، رائدها التعاون والتضامن، وعدوها التفرق والتنازع والتمزق، قال الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/21] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... } [آل عمران:103/3] {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران:105/3] .
ويؤكد الرسول صلّى الله عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا، فيقول: «المسلم أخو المسلم لا
__________
(1) ر: بحث دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/48.
(2) البحر الزخار: 386/5، أصول الدين للبغدادي: ص 274.(8/441)
يظلمه ولا يخذُله ولا يكذِبه» (1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (2) «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3) «إن المؤمن من أّهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» (4) .
وأجمع الصحابة يوم السقيفة لانتخاب خليفة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم على أنه لا يجوز إمامان في وقت واحد، بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب الحُبَاب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنهما حينما قال: (منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش) : فقال: (سيفان في غمد إذن لا يصلحان) .
وقرر الفقهاء إنه لا يجوز إمامان في بلد واحد، حتى وإن كانت الجهات متباينة لقيام العمال مقام الإمام الآخر في المقصود ولفعل الصحابة (5) الذين امتثلوا أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (6) «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (7) «إنه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، ثم أعطوهم حقهم، وسلوا الله الذي لكم، فإن الله
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (الأربعين النووية) .
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير والجامع الصغير) .
(3) رواه مسلم وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير (المرجعان السابقان) .
(4) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 87/8) .
(5) البحر الزخار، المكان السابق، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/2، ف/180، وانظر للتفصيل في الموسوعة الفقهية: إمامة.
(6) أي أبطلوا البيعة الأخيرة، قال في النهاية: أي أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات، رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي: 242/12) .
(7) رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/12) .(8/442)
سائلهم عما استرعاهم» (1) .
قال الماوردي وتبعه أبو يعلى: (إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد، وإن شذ قوم فجوزوه) (2) .
وقال ابن حزم: (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد، والأمر للأول بيعة) (3) وأضاف أيضاً: (واتفقوا ـ أي الفقهاء ـ أنه لا يجوز على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين، ولا في مكان واحد) (4) .
28 - وأجاز قوم تعدد الأئمة عند تباعد الديار، وكمال الغرض المقصود بهم وهؤلاء القوم: هم (إمام الحرمين وصاحب المواقف وأبو منصور البغدادي، والكرَّامية وأبو الصباح السمرقندي وأصحابه، والإمامية والزيدية، والجاحظ، وعبَّاد الصيمري، والناصر، والإمام يحيى بن حمزة بن علي الحسيني، والمؤيد في قول له من آل البيت) (5) .
وعباراتهم هي ما يأتي:
قال إمام الحرمين: والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع (6)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (شرح مسلم: 231/12، جامع الأصول: 443/4) .
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 7، ولأبي يعلى: ص 9.
(3) المحلى: 439/9، ف/1770.
(4) مراتب الإجماع: ص 124.
(5) الإرشاد لإمام الحرمين: ص 425، ط الخانجي، المواقف وشرحها للإيجي والجرجاني: 353/8، أصول الدين للبغدادي، ص 274، الفصل في الملل والنحل: 88/4، الملل والنحل للشهرستاني: 113/1، البحر الزخار: 386/5.
(6) الصقع: بضم الصاد: الناحية.(8/443)
واحد متضايق الخطط والمخالف (1) غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع (2) النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع (3) .
وقال صاحب المواقف: (ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أما في متسعها بحيث لا يسمع الواحد تدبيره فهو محل الاجتهاد) .
وقال البغدادي: (لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة ... إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخر، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته) .
وذكر الشهرستاني عن الكرامية: (إنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين، وغرضهم إثبات إمامة معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه، وإثبات أمر المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق جماعة من الصحابة ... ) .
وأبان ابن حزم في كتابه: (الفِصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن كرام السجستاني وأبا الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد، واحتج هؤلاء بقول الأنصار، أو من قال منهم يوم السقيفة: «منا أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضاً بأمرعلي والحسين مع معاوية رضي الله عنهم.
ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الأئمة مع تباعد الدار، ثم قال عن مذهب الزيدية: والأصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (4) .
وقال الأشعري في مقالات الإسلاميين: (وقال قائلون: يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد، أحدهما صامت والآخر باطن، فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول الرافضة. وجوز بعضهم ثلاثة أئمة في وقت واحد، أحدهم صامت، وأنكر أكثرهم ذلك) .
وسيأتي في بحث (زوال الدولة الإسلامية) أحكام الأجزاء المنفصلة عن السلطة الأصلية ليعرف مصيرها وصفتها: هل هي دولة إسلامية أو لا؟) .
__________
(1) جمع مخلفة بوزن متربة: وهي الموضع.
(2) الشسوع: البعيد.
(3) أي الأدلة القاطعة التي تفيد اليقين بوجوب وحدة الأمة.
(4) وانظر كتاب الشافعي ـ للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 99.(8/444)
المطلب الثاني ـ نشأة الدولة الإسلامية:
وفيه تمهيد وثلاثة فروع:
تمهيد:
مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها:
29 - تنشأ الدولة الحديثة باستكمال عناصر مادية مكونة لها وهي (الشعب والإقليم والسلطة السياسية الحاكمة) وباعتراف المجتمع الدولي بها.
والدولة هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية، فالجماعات السياسية الأخرى لها نفس المقومات الأساسية التي للدولة الآن، فهي لا تختلف عنها في الطبيعة والكُنْه، وإنما الفروق التي بينها هي فروق كيفية لا تمس الجوهر، لذلك تقوم الدولة كغيرها من المجموعات السياسية على أساس وجود مجموعة كبيرة من الناس يقطنون في إقليم معين، ويخضعون لتنظيم سياسي معين (1) . فإذا وجدت هذه العناصر أو الأركان نشأت الدولة.
وقد عرف التاريخ القديم دولاً بمعنى الكلمة كالدولة المصرية القديمة والدولة الفارسية والدولة الرومانية.
وقامت على هذا النحو في الجزيرة العربية دولة إسلامية بزغ فجرها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة (622م) (2) ، كان فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم يباشر أعمال الحاكم في ضوء رسالة الإسلام، ثم تتابع على حكم هذه الدولة الخلفاء الراشدون، فالأمويون، ثم العباسيون ... إلخ، أي أن نشأة الدولة الإسلامية في صدر الإسلام تمتد بطريقة تدريجية على أساس البيعة والعهد، لأن سيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وتعاليمه الدينية أوجدت نظاماً اجتماعياً معيناً، وهذا النظام الاجتماعي هو الذي أوجد نظام الحكومة (3) .
__________
(1) ثروت بدوي: المرجع السابق: ص 28.
(2) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 100/1.
(3) بحث الدكتور محمد عزيز أحمد عن (مفهوم الدولة في الإسلام) المنشور في مجلة (المسلمون) ـ المجلد الرابع ـ العدد السادس ـ ص 59.(8/445)
يبدو من ذلك أن الدولة الإسلامية (1) تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر المكونة لها عادة من إقليم وسكان وتنظيم سياسي، فالإقليم هو دار الإسلام والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (2) ، والتنظيم السياسي: هو السلطة الإسلامية العليا (أو الخلافة أو الإمامة) أي أن للدولة المسلمة تنظيمها الحكومي الخاص.
الفرع الأول ـ طرق نشأة الدولة الإسلامية:
30 - إن نشأة الدولة الإسلامية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على إحدى صورتين كغيرها من الدول (3) .
آـ نشوء جديد كلية: قد تنشأ الدولة من عناصر جديدة إما بامتلاكها عنوة أو سلماً أو بهجرة مجموعة من الناس واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف، وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل.
__________
(1) يلاحظ أن اصطلاحات الدين والدولة والعقيدة والسياسة ونحوها عند الغربيين يجمعها عندنا كلمة (الدين الإسلامي) الذي يشمل كل هذه المصطلحات متلازمة، غير منفصلة ولا متباعدة، فالعبادة والمعاملات التجارية والقضاء والإدارة والحكم والحرب والسلم كلهاتلتقي في ظل نظام واحد هو نظام الإسلام، وتنبع من عقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام.
(2) أهل الذمة: هم الطوائف الأخرى غير المسلمة التي تقيم في دار الإسلامي بموجب عقد الذمة.
(3) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 266 وما بعدها، الشريعة والقانون الدولي، علي منصور: ص159 وما بعدها.(8/446)
وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها، ومنها الدولة الإسلامية الأولى في المدينة وما جاورها، ثم امتدادها بطريق الفتح إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان الإسلامية المفتوحة، فقد هاجر المسلمون إلى المدينة، ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها، وكونوا لأنفسهم حكومة ونظاماً سياسياً خاصاً يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة: وهذا يكون إما بالانفصال أو بالاتحاد، وقد حدثت الحالة الأولى باستقلال الدول المنفصلة عن الخلافة العباسية، وتكوين دول مستقلة في الأندلس والمغرب ومصر وإيران. ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم الإسلامي الحاضرة إما في شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام الخلافة السابق، وإما في شكل اتحاد فعلي، أو دولة تعاهدية، ويتم التعاهد إما بالاتفاق الاختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلاً.
الفرع الثاني ـ الاعتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي:
ماهية مبدأ الاعتراف ومسوغاته:
31 - إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور الإسلام وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف، لذا كان مرجع تفصيل الأحكام الدولية إلى القانون الدولي العام، إلا أن المبادئ الأصلية والأخلاق الدولية السائدة مقررة بوضوح في الإسلام.
فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها، والاعتراف بالدولة هو من جملة الأحكام السلمية في العلاقات الدولية.(8/447)
وبما أن الإسلام ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علاقاته مع الشعوب الأخرى على أساس أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، أو المعاهدة والأمان، فإن الاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة (دارا لحرب) أمر لا مانع منه استصلاحاً في مبدأ الإسلام وفقهه المتمثل في تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، لأن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في الأصل غير مسالمة للمسلمين ولا متعاهدة معهم، فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من دول دار الحرب، أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقاً واحداً ينص على احترام السلم والأمن الدوليين، وتحريم التدخل في شؤون الدول الأخرى كان ذلك اعترافاً ضمنياً من الدولة الإسلامية بغيرها، فضلاً عن أن الاعتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة.
وهذا موافق لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم} [الأنفال:61/8] ، وموافق أيضاً لرأي الفقهاء القائلين بأن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم (1) .
وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة الاعتراف بدولة غير مسلمة اعترافاً علنياً أو ضمنياً حقوقياً أو واقعياً بحسب الحال.
وكون الدعوة الإسلامية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وبالتالي امتداد سلطان الدولة الإسلامية مع انتشارها في المعمورة: لا يعني تجاهل ظروف الإمكان وضرورات الواقع ومصلحة السلام التي تجعل من دولة الإسلام إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر الاعتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق الإسلام ووحي رسالته.
ويؤكد هذه المسوغات للاعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الآن عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى، وقادرة على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام وتظهر الدول بالاعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة عضواً في الجماعة الدولية (2) .
__________
(1) ر: جهاد أو حرب فيما سبق.
(2) حافظ غانم، المرجع السابق: ص 268.(8/448)
أنواع الاعتراف:
32 ـ للاعتراف أنواع ثلاثة حسبما يقرر فقهاء القانون الدولي الحديث، وهي: الاعتراف الكامل، والاعتراف الناقص، والاعتراف بحالة الحرب (1) .
أولاً - الاعتراف الكامل:
لا يكفي لنشوء الدولة الجديدة ـ كما تقدم ـ توافر وقائع مادية فقط (وهي الشعب والإقليم والسلطة الحاكمة) وإنما لا بد من أن يصاحب هذا النشوء إجراء قانوني هو الاعتراف بالدولة، ومقتضاه التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدول وقبولها كعضو في المجتمع الدولي، وذلك يتم بإحدى صورتين:
أـ الاعتراف بالدولة: يوجد هذا الاعتراف عادة بظهور دولة جديدة مستقلة وهو يتضمن الاعتراف بكل حكومة شرعية تقوم فيها، ويتم إما صراحة أوعلناً بالنص عليه في معاهدة أو في وثيقة دبلوماسية، وإما ضمناً بطريق التعامل مع الدولة الجديدة كتبادل التمثيل السياسي أو القنصلي، أو إبرام معاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة مستقلة.
ب ـ الاعتراف بالحكومة: محل هذا الاعتراف هو حكومة جديدة وجدت في دولة قديمة نتيجة ثورة شعبية، أو انقلاب عسكري (2) يؤدي إلى تغيير نظام الحكم فيها، وإحلال حكومة جديدة محل الحكومة القديمة (3) .
__________
(1) لا مانع في الإسلام من اختيار الحاكم العمل بإحدى هذه الصور في ضوء تقديره للمصالح العامة ومقتضيات السياسة الشرعية مادام كون مبدأ الاعتراف مسلّماً به بحسب قواعد الإسلام كما تقدم.
(2) تنعقد الإمامة عند فقهاء الإسلام بوجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد (أي بالبيعة أو الانتخاب) والثاني: بعهد الإمام من قبل أو يجعل شورى بين قوم. وروي عن الإمام أحمد وغيره: أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، وعبارة الحنفية في ذلك: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة، لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً، وهذا من قبيل التسليم بالواقع اضطراراً منعاً للفوضى مع مخالفة مبدأ الشورى المقرر في الإسلام (راجع المنهاج ومغني المحتاج: 130/4 - 132، الأحكام السلطانية للماوردي: ص4 و 8-9، ولأبي يعلى: ص 6-7، حجة ال البالغة: 111/2، وانظر إمامة أو خلافة في الموسوعة الفقهية) وإقرار الفقهاء لحالات الإمامة الاستثنائية يدل على جواز إقرار حالات واقعية مماثلة.
(3) حافظ غانم: ص 277، علي منصور: ص 162 و 166، المرجعان السابقان.(8/449)
ثانياً ـ الاعتراف الناقص أو التمهيدي:
33 - إذا لم تستكمل الدولة عناصرها، فمن الجائز إصدار اعتراف تمهيدي بالجماعة التي تسعى عن طريق ثورة أو حركة انفصالية (1) إلى إنشاء دولة مستقلة، ويتضمن هذا الاعتراف إقرار الحالة القائمة فعلاً بين جماعة الثورة والدولة الأصل.
ولهذا الاعتراف عند فقهاء القانون صور ثلاث (2) :
__________
(1) لا يجوز الاعتراف في الإسلام بالجماعة الثائرة في وجه الدولة الإسلامية، كما حدث عندما انفصلت الأندلس عن الشرق لم يعترف بها خلفاء بغداد مطلقاً، لأنهم جماعة بغاة ينبغي عدم الإعانة على انشقاقهم أو إنجاح ثورتهم، وعليه فلم يكن الأمويون في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى إلا بغاة يجب إخضاعهم وردهم إلى التزام طاعة الخليفة أو الإمام.
(2) حافظ غانم: ص 271 وما بعدها، علي منصور: ص 164 وما بعدها، الحقوق الدولية العامة، فؤاد شباط: ص 175-178.(8/450)
أـ الاعتراف بالأمة: هذا النوع من الاعتراف خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة، ويتم عادة من الدول أصحاب المصالح مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق الاعتراف بلجنة قومية تشكلت في الخارج، وتتعامل معها بعض الدول الأجنبية، كأنها تمثل (الأمة) التي تنتسب إليها، وذلك مثل اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني.
ب ـ الاعتراف بالثورة: وهو يحصل إذا ما نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من إقليمها عنها، ويقصد بالثورة: الهياج المسلح الذي لا يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الأهلية.
جـ ـ الاعتراف بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى) : وهذا مثل الاعتراف بالأمة يتم باعتراف بعض الدول الأجنبية بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية
تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلاب عسكري يتسلم فيه زعيم الانقلاب مقاليد السلطة في داخل البلاد، وذلك تمهيداً لدخول تلك الحكومة إلى البلاد لطرد جماعة الانقلاب، وممارسة الحكم فيها بالسيطرة على الإقليم والشعب ومباشرة سائر الاختصاصات المتعلقة بالحكم.(8/451)
ثالثاً ـ الاعتراف بحالة الحرب:
34 - وهو يحصل إذا ما اتخذت الثورة شكل الحرب الأهلية، وأصبح للثوار حكومة منظمة تباشر سلطاتها على إقليم معين، وجيش يتبع قواعد الحرب، ويترتب على اعتبار حالة الحرب قائمة بما يتبعها من آثار فيما يتعلق باتباع قواعد الحرب الدولية، والتزام الدولة المعترفة بمراعاة جانب الحياد حتى يتقرر مصير الحرب الدائرة، وينتهي النضال لصالح الإقليم الثائر أو دولة الأصل (1) .
وهذا الوضع يشبه في الفقه الإسلامي حالة البغاة أو دار البغي، فإذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع البغاة، وظلوا مسيطرين على الأماكن التي أعلنوا فيها سلطانهم كان معنى ذلك إمكان صدور اعتراف بهم من الآخرين على أساس الأمر الواقع، مع تقدير أن الاعتراف يسيء إلى الدولة الأصل.
الفرع الثالث ـ شخصية الدولة الإسلامية:
35 - تتمتع الدولة الإسلامية بشخصية مستقلة تعرف حديثاً بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية (2) وقد أقر فقهاء الإسلام مدلول هذا الاصطلاح بدليل ما قرروه من نتائج أو خصائص بالنسبة للدولة ونحوها وهي:
__________
(1) حافظ غانم، وعلي منصور، المرجعان السابقان.
(2) عرف الفقه الدولي الغربي في منتصف القرن العشرين هذا الاصطلاح الذي فرضه لبعض الجهات أو المؤسسات العامة، واعتبر أن الدولة تتمتع بالشخصية المعنوية، ورتب عليها النتائج الآتية:
أـ تعد الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام.
ب ـ حقوق الدولة تظل قائمة مدة بقائها وإن تبدل ممثلوها، والتزاماتها التي تتعهد بها ومعاهداتها واتفاقاتها التي تبرمها تبقى نافذة فيها، وملتزمة بها بالرغم من تغير ممثليها، أو انقراض الأشخاص الذين تعاقدوا باسمها.
جـ ـ تظل القوانين التي تصدرها الدولة قائمة ما دامت لم تلغ أو تعدل صراحة أو ضمناً (حافظ غانم: ص 140 وما بعدها، ثروت بدوي: ص 52 وما بعدها، موجز القانون الدستوري للدكتور عثمان خليل والدكتور سليمان الطحاوي: ص12 ومابعدها، حامد سلطان، المرجع السابق: ص 185، محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور شمس الدين وكيل: ص113) .(8/452)
أـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص الحكام، فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على السلطة يمارسها بصورة مؤقتة، ونيابة عن الأمة، كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم (1) ، والتي يبدو منها أنهم كانوا يمارسون السلطة من أجل مصلحة الجماعة الإسلامية لا من أجل مصالحهم الشخصية، فالخليفة يعتبر نفسه وكيلاً عن الأمة في أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة بحسب شريعة الله ورسوله (2) ، وهو لهذا يستمد سلطانه من الأمة، ولها حق نصحه وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (3) .
وكان العمال أو الموظفون لا ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم، وكذا نائب القاضي لا ينعزل بعزل القاضي ولا بموته؛ لأن القاضي الذي استناب غيره في
__________
(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص 16و 50.
(2) تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم: 203/1 وما بعدها، وقال صلّى الله عليه وسلم واصفاً الإمارة: «إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم عن أبي ذر (شرح مسلم للنووي: 209/12) .
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 15 وما بعدها، حجة ال البالغة: 112/2، نظام الحكم في الإسلام، يوسف موسى: ص 124.(8/453)
القضاء إنما يعمل بولاية الأمة وفي حقوقها، لا بولاية شخصية من السلطان ولا في حقه الخاص؛ لأن الخليفة أو السلطان بمنزلة رسول معبر عن الأمة (1) .
1/35 ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة الإسلامية ثابتة لها، وإن تغير حكامها بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبقى الأراضي المفتوحة على ملكية أهلها، على أن يدفعوا خراجاً دائماً (2) . وأكد معظم الفقهاء هذا المعنى، فقرروا أنها وقف لجماعة المسلمين.
فقال مالك: تصير الأراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفاً على المسلمين حيث غنت.
وقال أبو حنيفة: الإمام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين، فتكون أرضاً عشرية، أو يعيدها إلى أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها، فتكون أرض خراج ويكون المشركون فيها أهل ذمة، أو يقفها على جميع المسلمين.
وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمة هذه الأراضي، ووقفها مقابل خراج دائم يقرر عليها كالأجرة.
وكذلك الأراضي المملوكة عفواً لانجلاء أهلها عنها خوفاً: تصير بالاستيلاء عليها وقفاً. وأيضاً الأراضي المستولى عليها صلحاً على أن ملك الأرض لنا، تصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام، ولايجوز بيعها ولا رهنها (3) .
__________
(1) البدائع: 16/7، و 37/6 وما بعدها، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 262، ف186/.
(2) شرح السير الكبير: 254/3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 و 27 و 35، القسطلاني شرح البخاري: 200/5، الأموال: ص 58، فتوح البلدان للبلاذري: ص 275.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 132 وما بعدها، ولأبي يعلى: ص 130 وما بعدها، وانظر للتفصيل بحث: أموال الحربيين للمؤلف: ف/84-88.(8/454)
وقال الفقهاء أيضاً: (بيت المال وارث من لا وارث له) (1) أي أن هذا حق ثبت له، وبديهي أن بيت المال من أخص حقوق الدولة، بل ومن أهم مقومات وجودها. ومن الأحكام الفقهية: لبيت المال حق الأخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة له (2) .
2/35 - وأما بالنسبة لالتزامات الدولة، فقال عنها فقهاؤنا: تظل قائمة، ففي بحثهم المعاهدات مثلاً قالوا: تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى تنقضي مدتها، أو ينقضها العدو، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (3) [المائدة 1/5] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (4) ، فلو مات الإمام الذي عقد الهدنة أو عزل لم ينتقض العهد، وعلى من بعده الوفاء به، لأن العقد السابق كان باجتهاد، فلم يجز نقضه باجتهاد آخر، كما لم يجز للحاكم نقض أحكام من قبله باجتهاد جديد، بدليل إتمام علي كرم الله وجهه ما عقده لأهل نجران (5) . وهذا يدل على أن الدولة شخص اعتباري يمثله الإمام ويتعاقد باسمه.
ويشير إلى ذلك أيضاً أن أمان الواحد من المسلمين رجلاً أو امرأة يسري على المسلمين جميعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم،
__________
(1) يترك مال من لا وارث له في بيت المال باتفاق المذاهب الأربعة، غير أن الحنفية والحنابلة يقولون: إن هذا ليس بطريق الإرث، وإنما هو من باب رعاية المصلحة على أنه مال ضائع فيصرف في سبيل المصالح العامة. وقال متأخرو المالكية، والراجح عند الشافعية: يكون بيت المال وارثاً بشرط كونه منتظماً (شرح السراجية: ص 11، نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض: ص 20، ط الثانية) .
(2) أسنى المطالب: 265/2، منْح الجليل للشيخ عليش: 584/3.
(3) المائدة: 1.
(4) رواه الحاكم عن أنس وعائشة (الفتح الكبير) ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف «المسلمون على شروطهم..» (نيل الأوطار: 254/5) .
(5) الدر المختار: 25/3، البدائع: 16/7، القوانين الفقهية: ص 155، مغني المحتاج: 261/4، المغني: 462/8، البحر الزخار: 450/5 و 455.(8/455)
وهم يد على من سواهم» (1) ، هذا الحديث يدل على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين يمثلها أحدهم ويعتبر الأمان الصادر منه ملزماً لهم.
ومن الأحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا: (إن على بيت المال نفقة من لا عائل له من الفقراء) (2) .
وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية: إذا أتلف الحاكم شيئاً في غير حالة تطبيق العقوبات الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة، فضمان المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة المسلمين، قال عز الدين بن عبد السلام: «إن الإمام أو الحاكم إذا أتلف شيئاً من النفوس أوالأموال في تصرفهما للمصالح، فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام، ودون عواقلها على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين، صار كأن المسلمين هم المتلفون، ولأن ذلك يكثر في حقهما، فيتضرران به، ويتضرر عواقلهما) (3) .
وذكر فقهاء الحنفية: إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق الله تعالى الخالصة له (أي من حقوق المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر، واستوفى الحد، ثم ظهر أن الشهود ساقطو العدالة، كأن كانوا محدودين في قذف، فالضمان في بيت المال، لأن القاضي عمل في ذلك لعامة المسلمين لعود منفعتها إليهم: وهو الزجر، فكان خطؤه عليهم، فيؤدى (أي تدفع الدية) من بيت مالهم، ولا يضمن القاضي في ماله الخاص (4) .
يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها المكونين لها (5) وهذا هو المراد بالشخصية الاعتبارية للدولة.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً. وفي الصحيحين ومسند أحمد عن علي: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم) .. (نيل الأوطار: 27/7 وما بعدها) .
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 51، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 122، المهذب: 167/2.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 165/2، ط الاستقامة. وانظر للتفصيل: نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي: ص 337.
(4) البدائع: 16/7، رد المحتار: 355/4، ط الحلبي.
(5) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ص 263، المرجع السابق.(8/456)
المبحث الثاني ـ خصائص الدولة الإسلامية ومقارنتها بالدولة الحديثة
المطلب الأول- خصائص الدولة الإسلامية:
وفيه فرعان:
أولاً ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لإصلاح الحياة البشرية:
36 - إن نظرية الدولة في الإسلام تقوم أساساً على أنها دولة فكرية (أي ذات منهج إلهي) مؤسسة على مبادئ وغايات محددة واضحة (1) تنشد إصلاح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة الإسلامية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لاتتأثر بأهواء الواضعين، ولا بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين.
وإنما دستور الإسلام شامل لكل من آمن به من بني الإنسان دون اعتبار لميزات الجنس والعنصر والقوم والوطن بالمعنى الضيق، كما أن الدعوة إلى إقامة دولة في ظل الإسلام لا تعتمد على الروابط العنصرية والأواصر التاريخية التي تعتمد عليها الدول والقوميات في بنائها الحاضر.
__________
(1) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 47 وما بعدها، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور له أيضاً: ص 71 وما بعدها.(8/457)
فدولة الإسلام إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر العقيدة الإسلامية وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة.
تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب: وهي أن الإسلام يريد لها النمو والازدهار والمحافظة على كرامتها والإبقاء على خيراتها ومقدراتها بأيدي أهلها الأصليين، على النقيض تماماً مما تفعله دول الاستعمار الحاضرة، إذ أن الرغبة في نشر فكرة الإسلام لا تنشئ شيئاً من الشر الذي تنشئه الرغبة في نشر نفوذ بقصد الاستغلال الذي يسمونه (الاستعمار) (1) ، فالفكرة إذن هي الإسلام، وفكرة الإسلام التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب لا ينشأ عنها حب استغلال أرض الآخرين، أو طائفة أخرى من الناس.
ثانياً ـ كون غاية الدولة أداء رسالة الإسلام وجوباً اعتقادياً:
37 - إن الغاية الجوهرية للحكم الإسلامي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر رسالة الإسلام، وحفظ الدين والدفاع عنه، حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم على الدين، وإنما هو الهداية وما سواها من الشهادة بالطريق الحسنى وبالاقتناع الحر (2) .
__________
(1) نحو مجتمع إسلامي للمرحوم الأستاذ سيد قطب: ص 97.
(2) مغني المحتاج: 210/4، بجيرمي المنهج: 227/4.(8/458)
قال الماوردي وأبو يعلى: إن أول الأمور التي تلزم الإمام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل) (1) .
وقال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور: منها: حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين) (2) .
وقال ابن تيمية: (إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون، قال الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56/51] وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25/21] . وقال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (:3) [النحل:36/16] .
وقال ابن تيمية أيضاً: المقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم، وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه، ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11.
(2) حجة الله البالغة: 132/2.
(3) الحسبة: ص 4، ط المدينة.(8/459)
فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فقد روي: يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (1) .
من ذلك يتبين أن غاية الدولة الإسلامية إصلاح الدين والدنيا وإقامة العدل وإعلاء كلمة الله تعالى، (أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا تحقق الحكومة الإسلامية المثل الأعلى الذي ينشده الإسلام للبشرية. وهو تنفيذ أحكام الشريعة، وتمكين المسلم من أن يحيا طبقاً لمتطلباتها؛ لأن الدين الإسلامي هو أساس كل التنظيمات في الحياة، فكلمة (دين) تشمل جميع نواحي النشاط الإنساني، سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري، أم في مضار الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها كلها القرآن الكريم (2) . وبكلمة إجمالية: إن مهمة الدولة الإسلامية هي نشر الحضارة ذات الطابع الإنساني الرفيع.
المطلب الثاني- مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الحديثة:
وفيه فرعان:
الفرع الأول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة بالمبادئ والأديان:
38 ـ لا نجد الآن تقسيماً للدول بحسب أديانها، ولا يهتم القانون الدولي
__________
(1) السياسية الشرعية: ص 24، ط دار الكتاب العربي بمصر.
(2) بحث مفهوم الدولة في الإسلام، الدكتور محمد عزيز أحمد المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الرابع، العدد السادس: ص 59.(8/460)
العام بشأن دين الدولة، وإنما يعترف بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي، لكن من المعروف أن الدول بحسب الدين أربع مجموعات رئيسية: (1)
المجموعة الأولى: الدول النصرانية.
المجموعة الثانية: الدول اللادينية (العلمانية) والدول الملحدة.
المجموعة الثالثة: الدول البوذية والهندوكية والبرهمية.
المجموعة الرابعة: الدول الإسلامية.
أما المجموعة الأولى: فلا تكتفي بتعيين دينها، بل هي تصرح في دساتيرها بمذهبها أيضاً، فهناك دول بروتستانية، ودول كاثوليكية، ودول أرثوذكسية. وقد صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ولا سيما دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين الأكثرية وثقافتها مكاناً ممتازاً، وتعمل على حمايتهما وتطورهما (2) . ففي إنجلترا: نصت المادة (7) من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانية بحمل السلاح لحماية أرواحهم في حدود القانون. وفي المادة (8) من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن يرث أو يعتلي العرش البريطاني. وفي المادة (3) من قانون التسوية: على كل شخص يتولى الملك أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ولا يسمح بتاتاً لغير المسيحيين ولا لغير البروتستانيين أن يكونوا أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حامياً للكنيسة البروتستانية في العالم.
وفي اليونان: تنص المادة (1) من دستورها على أن المذهب الرسمي لأمة اليونان هو مذهب الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. وفي المادة (47) من الدستور: كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
وفي الدانمرك تنص المادة (2) البند (5) على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة الانجيلية اللوثرية. وفي المادة (1) البند (3) : إن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في الدانمرك.
وفي إيرلندة: ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكاناً خاصاً للكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة.
__________
(1) انظر بحث (مكان الإسلام في مفهوم الدولة) للأستاذ عبد الرحمن خضر المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد الأول ـ ص 67 وما بعدها.
(2) راجع بحث (عنصر العقيدة في الدستور) للأستاذ ظفر أحمد الأنصاري المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد السابع: ص 59-64.(8/461)
وفي النرويج: ينص البند الثاني من المادة (12) على أنه ستظل الكنيسة الانجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية في الدولة، وفي الفقرة الثانية من البند الأول: يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي السويد: في البند الثاني من المادة (4) : يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب الإنجيلي الخالص، وفي المادة (4) من الدستور: يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب الإنجيلي.
وفي كولومبيا: تنص المادة (53) من الدستور على ضرورة تحسين العلاقات بين الحكومة والكنيسة الكاثوليكية.
وفي جمهورية كوستاريكا: تنص المادة (66) من الدستور على أن المذهب الكاثوليكي هو المذهب الرسمي للدولة.
وفي جمهورية السلفادور: تقرر المادة (12) من الدستور: أن الدولة تعترف بالشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان. وفي إسبانيا: تنص المادة (9) على أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية. وفي المادة (6) : على الدولة رسمياً حماية اعتناق وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها.
وفي البرتغال: تقول المادة (24) البند (2) : لما كانت الجماعات البشرية البرتغالية التي ترعاها الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة في تحقيق الغايات، فإن الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية، وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها مراكز ثقافية هامة.
وفي جمهورية البارجوراي: تنص المادة (3) من الدستور على أن المذهب الرسمي للدولة: هومذهب الكنيسة الكاثوليكية الرسولية. ويجب أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي الأرجنتين: تنص المادة (2) على: أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية.
وفي بورما: تنص المادة (1) من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة للديانة البوذية باعتبارها دين الأكثرية الساحقة.(8/462)
وفي بلاد التايلاند: تنص المادة 7 من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة البوذية ويقدس شعائرها (1) .
1/38 - وأما المجموعة الثانية: الدول العلمانية، فهي قسمان:
القسم الأول: ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) لا دينية، أي تقول بلزوم فصل الدين عن الدولة، مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة أثر ثورة 1789 م، وتبعتها في ذلك تركيا على يد مصطفى كمال. ومن هذا القسم حكومة الهند.
والقسم الثاني: هو الدول الملحدة: وهي الدول التي لا يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) بل يمنع التبشير بالدين، ويجعل الدعاية ضد الأديان حقاً من الحقوق العامة. وأول من أقدم على ذلك اتحاد جمهوريات روسيا السوفياتية. وقد انهار في عام 1989م.
2/38 - وأما المجموعة الثالثة: الدول البوذية والكونفوشية والهندوكية، فهي كاليابان وحكومة الصين القديمة. وأما الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الأديان ومختلف المذاهب. وبعد الاستقلال نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية، ونص دستور الباكستان على أنها من الحكومات الإسلامية.
__________
(1) علق على هذه الظاهرة الأمير شكيب أرسلان، فقال في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس العدد الثالث: ص51-54: (خرافة فصل الدين عن السياسة في أوربا التي لايزال يتشدق بها بعض المضللين في الشرق: ليس لها أصل إلا بالمعنى الإداري الذي هو جار أيضاً في بلاد الإسلام، فالحكومات الكاثوليكية بأجمعها مرتبطة أشد الارتباط بالدين الكاثوليكي إلا فرنسا، بل إن الدولة الإفرنسية التي يزعم بعضهم أنها حكومة لا دينية هي أشد الدول حماية للنصرانية عموماً وللكثلكة خصوصاً. وأما الدول البروتستانية فكلها تعلن أن ثقافتها مسيحية وأن مدنيتها إنجيلية، وأنها لاتحيد عن هذا الطريق.(8/463)
3/38 - وأما المجموعة الرابعة فهي الدول الإسلامية: والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ الإسلام تحكمها، دون أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم، وإنما يشترك في إدارتها كل مسلم كفء للإدارة.
الفرع الثاني - مقارنة الدولة الإسلامية بالدولة الشيوعية:
39 - تلتقي الدولة الإسلامية والدولة الاشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة هي أنهما تقومان على أساس فكرة ودعوة، لا على أساس مصالح مادية أو الارتباط بحدود جغرافية إقليمية، أورابطة قومية عنصرية. فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم، ولا مانع بالنسبة لمن يؤمن بتلك الفكرة أن يكون موالياً لدولة أخرى، أي أن هناك بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجاً في الولاء.
المبحث الثالث ـ وظيفة دولة الإسلام (1)
تمهيد: في تعريف وظيفة الدولة الإسلامية:
40 - امتاز الإسلام عما كان سائداً في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من المصالح اللذين بهما انتظام الملة والمدن، وقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلم لأجلهما، والإمام نائبه، فهو مسؤول عنهما (2) .
لذلك تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في أن مهمتها الحفاظ على أمور الدنيا والدين، وأنه لا فصل بين الدين والدولة كما فعل أتباع الدين المسيحي (3) ، وأن الخليفة أو الإمام كما أنه يلي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية، فإن له أيضاً إمامة الصلاة وإمامة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد، والخطبة في الجمع والأعياد وغير هذا من الشؤون الدينية، باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا (4) .
__________
(1) أكتفي هنا بذكر المبادئ العامة، وأحيل بالنسبة للتفاصيل على موضوعات في الموسوعة الفقهية: إمامة، حقوق الإنسان، الذميون، المستأمنون، ونحو ذلك من البحوث الدستورية والقضائية والاجتماعية.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/2، ط أولى.
(3) قال السيد المسيح عليه السلام: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
(4) الماوردي وابن خلدون، المرجعان الآتيان، السياسة الشرعية للأستاذ خلاف: ص 58 ومابعدها.(8/464)
41 - ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء للخلافة، ومنها ما يأتي (1) :
قال الدهلوي: الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (2) .
وقال في البحر الزخار: الإمامة: رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد (3) .
وقال الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (4) .
وقال السعد التفتازاني في المقاصد: الإمامة: هي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (5) . وهذا فيما يبدو خير التعاريف.
وزاد فخر الدين الرازي قيداً آخر في التعريف، فقال: هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه (6) .
__________
(1) ر: للتفصيل في الموسوعة الفقهية إمامة ـ الإمامة الكبرى.
(2) نقلاً عن (إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة) لصديق حسن خان ص 23.
(3) ر: حـ 374/5.
(4) الأحكام السلطانية: ص 3.
(5) يلاحظ أن الخلافة والإمامة الكبرى وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة بمعنى واحد (النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 92-103، ط الثانية) .
(6) المواقف: 345/8، ط المغربي سنة 1907، الخلافة لرشيد رضا: ص 10، السياسة الشرعية للشيخ محمد البنا: ص 14.(8/465)
واعترض الإيجي على هذا التعريف بأنه قد ينطبق على مقام النبوة، فهي (رياسة عامة في هذه الأمور لشخص واحد) (1) وقال: الأولى أن يقال: (هي خلافة الرسول صلّى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة) (2) .
وذكر ابن خلدون: أن الخلافة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها) ، إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (3) .
وقال بعض العلماء المتأخرين: الخلافة هي الرياسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين والدنيا (4) .
وخلاصة المقال: إن وظيفة الدولة الإسلامية أو وظيفة الخليفة في الماضي أمران: إقامة الدين الإسلامي، وتنفيذ أحكامه، والقيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. أو بعبارة أخرى: الوظيفة واحدة: هي إقامة الإسلام. والإسلام كما هو معروف دين ودولة في اصطلاح العصر.
__________
(1) المواقف، المكان السابق.
(2) الفائدة في هذا التعريف أنه بعد بالإمامة عن الناحية الشخصية، وعاد إلى وجهه نظر الماوردي، وهو لم يختلف عنه إلا في أنه وضع كلمة (إقامة) بدل (حراسة) الدين وربما كانت كلمة (إقامة) أقوى، لأنها تدل على التنفيذ لا مجرد الحفظ، إلا أنه لم يفصح في مسألة سياسية الدنيا (النظريات السياسية الإسلامية، المرجع السابق: ص 116) .
(3) مقدمة ابن خلدون: ص 191، ط التجارية.
(4) التراتيب الإدارية للأستاذ عبد الحي الكتاني: 2/1، ط الأهلية بالرباط.(8/466)
تفصيل واجبات الحاكم أو وظائف الدولة:
42 ـ أوضح الماوردي وأبو يعلى وظائف الدولة أو واجبات الإمام وحدداها بعشرة أمور وهي: (1)
1 - حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، ليكون الدين محروساً من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل.
2 - تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بينهم، حتى تظهر النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
3 - حماية البيضة (الكيان) والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين.
4 - إقامة الحدود لتصان محارم الله عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
5 - تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا يظفر الأعداء بغرَّة ينتهكون بها محرماً، ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد.
6 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.
7 - جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.
8 - تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9 - استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأمور لتكون الأعمال مضبوطة والأموال محفوظة.
10 - أن يباشر مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولايعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص:26/38] فلم يقتصر سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11، وانظر هذه الواجبات أيضاً في حجة الله البالغة للدهلوي: 132/2. وقد عبر الماوردي عن هذه الواجبات بعبارة أخرى وحصرها في سبعة أمور (راجع له أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين لخان زاده: ص234-236) .(8/467)
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» (1) .
هذه هي أهم وظائف الدولة الإسلامية، فالأولى هي الوظيفة الدينية والثالثة والخامسة والسادسة هي الوظيفة الدفاعية، والثانية والرابعة هي الوظيفة القضائية، والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية، والتاسعة والعاشرة هي الوظيفة الإدارية.
ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين: داخلية وخارجية كما سيبين في البحثين التاليين:
الوظيفة الأولى ـ وظيفة الدولة في الداخل
هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الاجتماعية بتأمين المرافق العامة للمجتمع، وإما الغايات الأساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة.
ويبحث ذلك في المطلبين الآتيين:
أولاً ـ تأمين مصالح المجتمع:
43 - لا تختلف وظيفة الدولة الإسلامية عن وظائف الدولة الحديثة كما لاحظنا فيما يلزم الإمام من الأمور العشرة السابق ذكرها، والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها، وهذه الوظائف تشبه حديثاً ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في الوقت الحاضر:
ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقاً سياسية وإدارية وحربية وقضائية (2) .
فالحقوق الإدارية (3) : هي المتعلقة بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع ذلك من حق تعيين وعزل الموظفين. وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من وظائف (الإمام) العشرة، ولا سيما الأخيرتان منها. قال الدهلوي: (إن أمهات المقاصد أمور، منها: تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة. ومنها: منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك) (4) .
والحقوق القضائية كحق العفو الخاص والعام، وكحق التصديق على بعض الأحكام، وهذا من حيث المبدأ قد ذكره الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة، إلا
__________
(1) رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي: 213/12) .
(2) موجز القانون الدستوري للأستاذين الدكتورين عثمان خليل وسليمان الطماوي: ص 243 ط الرابعة.
(3) المبحث هنا مخصص لوظائف الدولة الداخلية، لذا فإن الكلام عن الحقوق السياسية والحربية محله في المبحث الآخر المخصص لوظائف الدولة الخارجية.
(4) حجة الله البالغة: 132/2.(8/468)
أن الفقهاء فصلوا في الأمر، فقال الحنفية: لا يجوز شرعاً للحاكم بعد رفع الأمر إليه العفو عن العقوبات المقدرة (الحدود) ولا الشفاعة فيها (1) . أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو عنها حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها، أو كون الحق فيها للجماعة. وبعبارة أخرى: يجوز للإمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لآدمي (2) ، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (3) .
وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض عليها في الخصومات. وهذه هي مهمة القاضي في الإسلام حيث إنه يقوم بتنفيذ أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة، وقد بلغ تنظيم القضاء في عهد الإسلام شأواً رفيعاً لم يسبق إليه.
وسأفصّل الكلام هنا في أهم وظائف الدولة الداخلية الإدارية والقضائية وهي ما يأتي:
1 - المحافظة على الأمن والنظام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
44 - كان من اختصاص رجال الشرطة الإدارية في العهد الإسلامي أمور منها (4) :
__________
(1) المبسوط: 113/9، فتح القدير: 197/4، البدائع: 56/7، الدر المختار ورد المحتار: 189/4.
(2) الدر المختار: 204/3.
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال العقيلي: له طريق وليس فيها شيء يثبت (التلخيص الحبير: ص 361، جامع الأصول: 344/4، مجمع الزوائد: 282/6، نيل الأوطار: 135/7) .
(4) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني: ص 370، ط الثانية.(8/469)
أـ حفظ النظام: وذلك بمنع الفوضى والتجمعات في الطرق والأماكن العامة، والسهر على المواكب، ومرافقة الأمير أو صاحب السلطان في تنقلاته لإظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي أوامره.
ب ـ حفظ الأمن: وذلك بمراقبتهم الأشرار والدعار واللصوص، وطلبهم في مظانهم، وأخذهم على يد كل من يرتكب عدواناً على غيره، أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة.
قال الماوردي: القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش (1) .
45 - ولكن لا يقتصر دور الدولة الإسلامية على مجرد توفير وضمان الأمن والطمأنينة للأفراد وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي عنهم، والإشراف على إطاعة الأنظمة والأحكام، وإنما على الدولة والأفراد أن يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معاً (2) نحو إيجاد باعث شخصي على احترام حقوق الآخرين، والإذعان للنظام المتبع، وذلك بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الأساسي للشريعة: وهو إصلاح المجتمع، أي الحياة الاجتماعية إصلاحاً جذرياً على نحو يستقر فيه الأمن العام
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 247، ط تركيا.
(2) مثَّل الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة هذا الواجب التكافلي بين الفرد والجماعة بالنهي عن المنكر أروع تمثيل، فقال - فيما رواه البخاري والترمذي - عن النعمان بن بشير: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (جامع الأصول: 340/4، الترغيب والترهيب: 235/3) .(8/470)
والعدل بين الناس، وصيانة الحريات الأساسية بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الآخرين. وكل فرد يعتبر مسؤولاً بنفسه عن الأمر بالمعروف، فإن قصر فهوآثم مخطئ، ويكفل هذا الأصل اليوم ما يسمى بحرية النقد، ويقال له في الاصطلاح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (1) .
لكن الإسلام اعتبر ذلك واجباً، وبين أن النقد له حدود تقيده في الإسلام حتى يكون نقداً بناء غير هدام. قال النووي في المنهاج: (ومن فروض الكفاية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق الشارح بقوله: يجب على الإمام أن ينصب محتسباً (2) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (3) . وقال الماوردي: أكد الله زواجره بإنكار المنكرين لها، فأوجب الأمر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي عن المنكر ـ الحرام (4) . هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء، إلا أن جمهورهم قالوا: هو فرض كفاية كالجهاد. وقال بعضهم: هو فرض عين على المستطيع كالحج (5) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عودة: 86/1 و 491.
(2) يميز بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الثاني واجب ديني، وأما الحسبة فهي نظام واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم يقوم بالرقابة والضبط والردع، وله قواعد وأصول ثابتة في الإسلام غايته تحقيق واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ر: الأحكام السلطانية للماوردي: ص231 ومابعدها، ولأبي يعلى: ص 268 حيث قال كلاهما: الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، الحسبة لابن تيمية: ص 8، إحياء علوم الدين: 274/2، ط العثمانية ـ عبقرية الإسلام في أصول الحكم: ص 335 وما بعدها) .
(3) المنهاج مع مغني المحتاج: 211/4، الحسبة لابن تيمية، المكان السابق.
(4) أدب الدنيا والدين، المرجع السابق: ص 156.
(5) المحلى: 440/9، تفسير الكشاف: 340/1، تفسير ابن كثير: 390/1، تفسير الرازي: 19/3، تفسير الألوسي: 21/4، إحياء علوم الدين: 869/2، أحكام الجصاص: 35/2 وما بعدها و 592، ط البهية المصرية، تفسير الطبري: 38/4، ط الثانية، الحلبي، تفسير القرطبي: 165/4 طبعة مصورة.(8/471)
46 - والأمر بالمعروف: هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله، أو فعله طبقاً لقواعد الإسلام. والنهي عن المنكر: هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه، أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقاً لما رسمه الإسلام (1) .
والمعروف: هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقاً لنصوص الشريعة الإسلامية، ومبادئها العامة وروحها (2) ، كالتخلق بالأخلاق الفاضلة والعفو عند المقدرة، والإصلاح بين المتخاصمين وإيثار الآخرة على الدنيا، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإقامة المعاهد والملاجئ والمستشفيات ونصرة المظلوم والتسوية بين الخصوم في الحكم، والدعوة إلى الشورى، والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ مشيئتها، وصرف الأموال العامة في مصارفها، إلى غير ذلك (3) .
__________
(1) الإسلام وأوضاعنا السياسية للاستاذ عودة: ص 71.
(2) وبعبارة أخرى: المعروف: هو كل هذه الأصول الكلية التي فرضها الإسلام لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يُبنى علىها مما تعرفه العقول الراجحة والفطر السليمة (ر: تفسير المنار: 27/4، التفسير الواضح: 30/9 و 61/10 و 58/14، نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص45 و 61) .
(3) التشريع الجنائي الإسلامي: 492/1.(8/472)
والمنكر: هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف (1) ، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب خمراً فعليه أن يمنعه ويريق خمره، ومن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة، فعليه أن يمنع ذلك (2) ، وعرف الغزالي المنكر: بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (3) .
__________
(1) وبعبارة أخرى: المنكر: هو كل مانهت عنه أصول الشرع الكلية، وكل ما يقاس عليها في إلحاق الأذى بالمجتمع مما تنكره العقول والفطر السليمة (الدكتور العربي، المكان السابق) .
(2) التشريع الجنائي، المكان السابق.
(3) إحياء علوم الدين للغزالي: 285/2، ط العثمانية. قال الغزالي: وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا (أي محذور الوقوع) لأن المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه.(8/473)
47 - وقد أوجب الله على الحكومة والأفراد القيام بواجب الأمر والنهي، لأن في ذلك إقامة أمر الله وهدم كل ما يخالف الإسلام، ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة الإسلام بالقضاء على الشرك ومظاهره، والتمكين لدين الله الحنيف، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور} [سورةالحج:41/22] {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران:110/3] {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة:78/5-79] .
وحرض القرآن الكريم أيضاً على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب، فقال سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة:71/9] .
وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم، فقال صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» (1) ، «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) «إن
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 444/4، الفتح الكبير، مجمع الزوائد: 207/5) .
(2) رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (جامع الأصول: 228/1) .(8/474)
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» (1) ، «أفضل الجهاد كله حق عند سلطان وأمير جائر» (2) ، «والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» (3) .
هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة الإسلامية ليست سلبية، وإنما لها غاية إيجابية أيضاً، أي ليس من مقاصدها المنع من العدوان، وحفظ حرية الناس فقط، بل إن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الذي جاء به كتاب الله، وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع المنكرات التي منعها الله تعالى. قال ابن تيمية: إن صلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس (4) .
48 - ووسائل دفع المنكر كثيرة، منها التعريف والبيان، والوعظ والإرشاد، والدعوة والتبليغ، والتربية والتعليم، والتعنيف، والتغيير باليد، والتهديد بالضرب والقتل، والاستعانة بالغير، والقوة السياسية، والرأي العام والنفوذ
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود من حديث قيس بن أبي حازم عن أبي بكر (جامع الأصول: 233/1) وذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية: ص 75 بلفظ (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) .
(2) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ لأبي داود (جامع الأصول: 235/1) .
(3) رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال: «حديث حسن غريب» ورواه ابن ماجه من حديث حديث عمرو بن أبي عمرو (جامع الأصول، المكان السابق، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي: 270/2 وما بعدها) .
(4) السياسة الشرعية: ص 73.(8/475)
الاجتماعي بحسب الظروف والأحوال (1) .
وعلى الدولة المساهمة البناءة في هذا المضمار، فتخصص لإزالة المنكر ما يعرف في الإسلام بالمحتسب، وهو المسلم المكلف (البالغ العاقل) القادر على الأمر بالمعروف ودفع المنكر ورفع الظلم مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأّهل الديوان ونحوهم (2) . قال ابن تيمية: (وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين، وولاية الحسبة (3)) .
وهناك مسألة فلسفية بحثها العلماء وهي أنه هل وجوب النهي عن المنكر بالعقل أو بالشرع (4) .
__________
(1) إحياء علوم الدين: 277/2، ط العثمانية، مختصر منهاج القاصدين: ص 127 وما بعدها، ط الثانية، التشريع الجنائي الإسلامي: 505/1 وما بعدها، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 45 وما بعدها.
(2) إحياء علوم الدين: 274/2، الأحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى، المكان السابق، التراتيب الإدارية للكتاني: 284/1، منير العجلاني: ص 342.
(3) الحسبة له: ص 8.
(4) قال بعض المتكلمين: (وجب ذلك بالعقل وقال آخرون: وجب ذلك بالشرع دون العقل) (ر: للتفصيل أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 158 وما بعدها) .(8/476)
2 - تنظيم القضاء وإقامة العدل:
49 - إن غاية الدولة الإسلامية هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، وذلك بإقامة التوازن والعدل فيما بينهم، ومنع تعدي بعضهم على بعض.
وبما أن تنظيم القضاء ونصب القضاة مظهر من مظاهر إقامة العدل، كان من
أعظم الواجبات التي اهتم بها فقهاء الإسلام وخلفاؤه، فأبانوا شروطه، ووضعوا خطته وحددوا طرق الفصل بين الناس تحديداً دقيقاً، وكان اختيار الخليفة للقاضي مثلاً فذاً من أمثلة الحفاظ على مصالح الناس (1) ، لأن غاية القضاء التي يمتاز بها في الإسلام هي إقامة العدل باعتبار أن العدل هوقوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به (2) ، فكان العدل هو شعار فض الخصومات والمنازعات بين الناس. ومن أهم ضوابط العدل هو تنفيذ أحكام شريعة الله دون تفرقة بين الحاكم والمحكومين، لأن الكل خاضعون لحكم الله.
فمن تنظيمات القضاء الإسلامي أنه خصص للنظر في محاكمة أصحاب النفوذ والولاة وعمال الدولة ما يعرف المظالم (3) التي تشبه (مجلس الدولة) في بعض اختصاصاته الآن (4) . قال المرجاني في وفية الإسلام (5) : النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية، ونصفة القضاء، بعلو بيِّن، وعظيم رغبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المتعدي، ويمضي ما عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن والإمارات وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصم على الصلح، واستحلاف الشهود، وكان الخلفاء يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي بالله، وربما سلموها إلى قضاتهم. وعلق الأستاذ الكتاني على ذلك بقوله: هذه الوظيفة كان يليها المصطفى صلّى الله عليه وسلم بنفسه؛ لأنه كان ينتقد أحكام قضاته وعماله ويناقشهم (6) .
__________
(1) ر: السياسة الشرعية لابن تيمية: ص: 20 و 152، وباب القضاء في كتب الفقه.
(2) المرجع السابق: ص 156.
(3) قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 73: نظر المظالم: هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة.
(4) التراتيب الإدارية للكتاني: 266/1، النظريات السياسية الإسلامية للدكتور الريس: ص 67.
(5) ص: 366.
(6) التراتيب الإدارية، المكان السابق.(8/477)
وقال الماوردي: «والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام، فالقسم الأول: النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة، فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحاً، وعن أحوالهم مستكشفاً ليقويهم إن أنصفوا، ويكفهم أن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (1) .
50 - إلا أنه لم يكن للقضاة في الإسلام غير النظر في المسائل المدنية (أو نظام الأموال) والأحوال الشخصية. أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة الحدود والنظر في المظالم، فكان من اختصاص الخلفاء والأمراء إلا في عهد معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة إلى قاض خاص.
ولا مانع شرعاً من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ الأحكام، ويضمن لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس (2) . وهو أمر ضروري في كل عصر يقل فيه الورع، وتكثر الأهواء وتزداد الخصومات، وتراعى فيه تطورات الزمن.
51 - ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل المطلق في كل الأحكام العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والإدارة، لا في مجال القضاء فقط، قال الله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل} [النحل:90/16] {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [الأنعام:152/6] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هوأقرب للتقوى} [المائدة:8/5] .
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 76، ولأبي يعلى: ص 61.
(2) السياسة الشرعية للأستاذ خلاف: ص 49 وما بعدها، عبقرية الإسلام في أصول الحكم لمنير العجلاني: ص 440 وما بعدها.(8/478)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً: إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله تعالى، وأبعدهم منه مجلساً: إمام جائر» (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعْتَع» (2) «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (3) .
وقال الماوردي: اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة، وجملة أمورها ملتئمة ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت، وهي دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح (4) .
والخلاصة: أن العدل هو جِمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم الإسلامي، حتى مع الأعداء، قال الفخر الرازي: (اجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل) (5) ، واستشهد بالآيات المذكورة ونحوها، والعدل ـ كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم الله.
__________
(1) رواه الترمذي والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري (جامع الأصول: 447/4) .
(2) رواه الطبراني ورجاله ثقات من حديث معاوية بن أبي سفيان (مجمع الزوائد: 209/5) .
(3) رواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس، قال الهيثمي: وفيه سعد أبو غيلان الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وله ألفاظ أخرى (ر: التلخيص الحبير: 183/4، مجمع الزوائد: ص 193/5) .
(4) أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين للعلامة أويس وفا الأرزنجاني العريف بخان زاده ص 226، وقال في الشرح المذكور: ص 240، العدل مصدر بمعنى العدالة: وهو الاعتدال والاستقامة والميل إلى الحق. وفي الشريعة عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينه، وفي اصطلاح الفقهاء: من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه، واجتنب الأفعال الخسيسة كالأكل في الطريق والبول.
(5) التفسير الكبير: 355/3.(8/479)
3 - إدارة المرافق العامة:
52 - إن طريقة إدارة المرافق العامة في الإسلام كالمساجد والمدارس والمشافي والجسور والبريد والدفاع والعشور (الجمارك) والري وتوريد المياه ونحوها: تلتقي مع الطريقة المتبعة الآن وهي طريقة الاستغلال المباشر. ومقتضاها أن تقوم الدولة نفسها (أو المديرية والمدينة الآن، أو الإمارة أو الولاية في الماضي) بإدارة المرافق العامة مستعينة بأموالها وموظفيها، ومستخدمة في ذلك وسائل القانون العام، وهذه هي الطريقة التي تدار بها جميع المرافق العامة الإدارية في الوقت الحاضر (1) .
والإدارة الإسلامية كانت في الماضي كما تقدم على طريقة جعل الوزارة قسمين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ (2) . والإمارة على البلاد نوعين: إمارة خاصة، وإمارة عامة (3) .
أما وزارة التفويض: فهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأموربرأيه وإمضاءها على اجتهاده. وكان وزير التفويض يوجه سياسة الدولة ويولي الموظفين ويعزلهم ويجبي الأموال وينفقها، ويسير الجيوش ويجهزها، ويجلس للمظالم ويفصل فيها (4) .
وأما وزارة التنفيذ أو بالمعنى الأدق (إدارة التنفيذ) : فهي لتنفيذ ما يصدر عن الإمام لتدبير سياسة الدولة في الداخل والخارج، ويعتبر وزير التنفيذ وسيطاً بين السلطان وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ ما طلب، ويمضي ما حكم،
__________
(1) مبادئ القانون الإداري للدكتور سليمان الطماوي: ص 65، ط 1955م.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 20-26، ولأبي يعلى: ص 13-15.
(3) الماوردي المرجع السابق: ص 27-30، وأبو يعلى: ص 17-21.
(4) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 226.(8/480)
ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش والحماة، ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يؤمر به:
وأما الإمارة الخاصة: فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان الدولة، وحماية حدود البلاد.
وأما الإمارة العامة فهي نوعان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء. فإمارة الاستكفاء تعقد برضا الخليفة واختياره، وصاحبها ينظر في سبعة أمور: هي النظر في تدبير الجيش والأحكام وتقليد القضاة والحكام، وجباية الخراج، وقبض الصدقات وتقليد العمال، وحمايةالحريم والدفاع عن البلاد ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل، وإقامة الحدود في حق الله تعالى، وحقوق الناس خاصة، والإمامة في الجمع والجماعات، وتسيير الحجيج.
وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في ظل سلطان الدولة. وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) .
53 - ويلاحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في الإسلام ملازمتها للصبغة الدينية، فكان الوالي مسؤولاً عن رعاية أركان الإسلام، بل إن ولاية الأمراء كانت تسمى (إمارة الصلاة والخراج) أو (الإمارة على الصلاة) ولم يكن القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط، وإنما كانت تعني الولاية عليهم في جميع الأمور، فعندما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يرسل شخصاً إلى القبائل ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن، كان يعني بذلك إدارة مصالح القبيلة في كل شؤونها (2) .
__________
(1) الماوردي: ص 191-211، أبو يعلى: ص 221-241.
(2) منير العجلاني، المرجع السابق: ص 282، النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح: ص 308.(8/481)
4 - الإعداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع الأسلحة:
54 - إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته ـ هو الدفاع عن كيان الدولة وتحصين الثغور، وحماية الرعية، وإعداد العدة الملائمة والقوة الضاربة وتدريب المقاتلة، وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام السلاح المناسب للزمان والمكان، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم بوصفه القيادي أو كونه حاكماً بالإضافة إلى كونه رسولاً مبلغاً عن الله يقوم بإعداد المسلمين لخوض معارك القتال، مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على الأعداء في غالبية المعارك التي اشترك فيها أو أعد لها.
وعني المسلمون الأوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلات القتال كالسيوف والرماح والنبال والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدرباً وتمرساً واقتناء وتعلماً.
وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلاتها، ويحصنون الثغور من أجل الحفاظ على الأمة ورد العدوان عنها، كما هومعروف من تاريخ الفتوحات الإسلامية.
والإسلام دستور المسلمين يفرض دائماً التزام الحذر من العدو، والاستعداد للقائه وإعداد الجنود والأسلحة الملائمة للإرهاب وخوض المعارك، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعاً} [النساء:71/4] {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال:60/8] .(8/482)
فهذه الآية أمر إيجابي بالإعداد الملائم لكل القوى المادية والمعنوية التي يتحقق بها إرهاب العدو. وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلاح، قال سلمة بن الأكوع: «مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (1) بالسوق، فقال: ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان ... » (2) . وعن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» وقال: «من علم الرمي ثم تركه، فليس منا» (3) .
55 - وأمر عليه الصلاة والسلام أيضاً بصناعة السلاح وحث عليه، فقال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله..» (4) .
وشجع الرسول صلّى الله عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية فقال: «لاسَبْق إلا في خف أو نصل أوحافر» (5) .
واتفق الفقهاء على جواز السباق على جُعْل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق، وقال جمهور الفقهاء: يجوز الجُعل أيضاً من إحدى المتسابقين (6) . واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع، ولا سيما صناعة الأسلحة من
__________
(1) أي يترامون.
(2) رواه أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع (نيل الأوطار: 84/8) .
(3) رواهما أحمد ومسلم عن عقبة (نيل الأوطار: 85/8) .
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ولم يذكر فيه ابن ماجه: أو نصل (نيل الأوطار: 77/8) .
(6) البدائع: 206/6، مغني المحتاج: 313/4 وما بعدها، المهذب: 415/1 وما بعدها. المغني: 654/8 وما بعدها، نيل الأوطار: 78/8.(8/483)
فروض الكفايات على جماعة المسلمين (1) . قال ابن تيمية: (ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه؛ وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب) (2) .
فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق العسكري بحسب متطلبات كل زمان ومكان من تسابق في آلات الحرب وإنتاجها، وتهيئة عُدَد القتال، وتمرن على استعمالها، وحمل الأسلحة بمختلف أنواعها، وإنشاء الصناعات الحربية، ومداومة على التدرب، ونحو ذلك من كل ما فيه إعداد يرهب الأعداء، ويوفر القوة الكافية للمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (3) .
ثانياً ـ الالتزام بخصائص الدولة الإسلامية وتحقيق أهدافها:
تمهيد:
56 - عرفنا أن الدولة الإسلامية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل الإلهي، ويمكن إجمال خصائصها الأولية في ثلاثة (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 213/4، نهايةا لمحتاج: 194/7، رد المحتار على الدر المختار: 40/1، ط الأميرية، غاية المنتهى: 441/1، الطرق الحكمية لابن قيم ص: 247، ط أنصار السنة المحمدية، الشرح الكبير للدردير: 174/2.
(2) السياسة الشرعية: ص 21.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم: 215/16) .
(4) نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 31 و 44 وما بعدها.(8/484)
1 - الحاكم الحقيقي فيها هو الله عز وجل، والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية، وليس لأحد من الناس نصيب من الحاكمية، وإنما الحاكم هم رعايا الله ينوبون عن الأمة في تنفيذ شريعة الإله التي ارتضاها للناس دستوراً دائماً وحكماً فصلاً كما قال تعالى: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام:57/6] {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام:62/6] .
2 - ليس لأحد من دون الله وظيفة تشريعية بغير ما شرع الله للمسلمين لقوله سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/5] .
3 - وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة الله، والحكم بما أنزل الله وتطبيق ما جاء به النبي من عند ربه، واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/4] .
وغاية الدولة الإسلامية وهدفها الأسمى هو تحقيق نظام العدالةالاجتماعية الذي أمر به الله تعالى، أي إقامة نظام الإنسانية العادل على أساس ما أنزل، وأبانه رسول الله، قال عليه السلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» (1) .
ومجمل القول: إن الدولة الإسلامية مقيدة بشريعة الله القائمة على العدل والخير والقوة والنظام والدعوة إلى الإقرار بعقيدة التوحيد، والإيمان بجميع الرسل والأنبياء. قال عليه السلام: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها ... » (2) .
والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات الآتية:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ بلاغاً (جامع الأصول: 186/1) .
(2) أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه (جامع الأصول: 197/1) .(8/485)
1 - تقوية وحدة الأمة وتعاونها وأخوة أبنائها:
57 - علمنا مما سبق أن المسلمين إخوة وأمة واحدة مهما نأت بهم الديار، ومقتضى ذلك أنه يجب عليهم جميعاً المشاركة في الآلام، والسعي لتحقيق الآمال الكبرى، والتعاون البناء في سبيل خير الجماعة، والحفاظ على وحدة الأمة، وتنمية الروابط المشتركة فيما بينها، وعلى الدولة التي تمثل المسلمين أن تسعى دائماً لشد أزر عُرَى التضامن الأخوي، ودعم وحدة الأمة وتعاون أفرادها في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية تنفيذاً لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} [الأنبياء:92/21] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران:103/3] {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح:29/48] .
فبالوحدة تتوصل الدولة المسلمة إلى نهضة حيوية شاملة في جميع مرافق الحياة وتصبح عزيزة الجانب مرهوبة السلطان.
ولقد حذر الإسلام من التفرق والفتن والاختلاف، وذكَّر المسلمين في كل آونة بأنهم إخوة في السراء والضراء للحفاظ على الوحدة المنشودة، فقال: «المسلم أخو المسلم لايظلمه، ولايخذله، ولايكذبه، ولايحقره..» (1) «المؤمن للمؤمن
__________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 609/3 ومابعدها، شرح مسلم: 139/6) وفي رواية أخرى لمسلم عن الزهري عن سالم عن أبيه: «المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (شرح مسلم: 134/16) .(8/486)
كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (2) .
ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر الإسلام في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين متآخين، فبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين (3) ، ثم حقق لهم معنى الإخاء الأكبر الدائم فيما بينهم، وصار العرب بفضل الإسلام كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والأحقاد والإحن القديمة: {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألَّف بينهم، إنه عزيز حكيم} [الأنفال:63/8] .
ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلام إلا بوحدة الصف وتوحيد الهدف، كما حصل مثلاً في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين جالوت، وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلاد المشرق وفتح بيت المقدس.
ومن مزايا الإخاء والاتحاد الإسلامي أنه يحقق للمسلمين تسامياً فوق الاعتبارات الإقليمية الضيقة. أما الدول الحاضرة مثلاً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين، وتحت شعار قومية واحدة، مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة.
__________
(1) رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (الفتح الكبير) .
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم: 138/16.
(3) مجمع الزوائد: 171/8.(8/487)
2 - تحقيق المصالح الأساسية التي تدور عليها الشريعة:
58 - إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها الشريعة وتستهدف تحقيقها: وهي المحافظة على الأصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات، والتي لم تبح في ملة من الملل: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وسميت بالضروريات لأنه يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت، اختل نظام الحياة في الدنيا وضاع النعيم، واستحق العقاب في الآخرة.
وقد حافظت الشريعة على هذه الأصول من ناحيتين:
الأولى: تحقيقها وإيجادها.
الثانية: المحافظة على بقائها.
فتحقيق مبدأ الدين مثلاً بالإتيان بأركان الإسلام الخمسة، والمحافظة عليه بمجاهدة من يريد إبطاله، وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب.
والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع الإنساني، والمحافظة على بقائها تكون بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص. فقد شرع القصاص للحفاظ على النفوس والدماء، لأن القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ المنافع.
والعقل إذا وهبه الله للإنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلامته، وتحريم ما يفسده أو يضعف قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات، وإقامة الحد على الشارب وتعزير متناول الحشيشة والأفيون ونحوهما لغير حاجة طبية.
والنسل شرع لإقامته استحلال البُضْع (1) بطريق مشروع، وللمحافظة عليه شرع حد الزنى وحد القذف لصيانة الأعراض والكرامات.
__________
(1) البضع، بضم الباء جمعه إبضاع: يطلق على الفرج والجماع ويطلق على التزويج أيضاً كالنكاح يطلق على العقد والجماع (ر: المصباح المنير) .(8/488)
والمال شرع لإيجاده السعي في طلب الرزق والمعاملات بين الناس، وللمحافظة عليه شرع حد السرقة بقطع اليد، وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (1) .
قال الغزالي جامعاً المقاصد المذكورة (إن مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهي مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة) (2) .
وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الأساسية للأفراد تعتبر من الدعائم الأولى للحكم الإسلامي التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية، قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (3) «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (4) .
59 - وبالمناسبة أبيِّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل إلى المال، إذ أن الإسلام راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح الإسلام للفرد في الحالات العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى حدوده، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع.
__________
(1) ر: الموافقات للشاطبي: 8/2 وما بعدها، فواتح الرحموت شرح مسلَّم الثبوت: 63/3 التقرير والتحبير: 144/3، شرح العضد على مختصر المنتهى: 240/2، روضة الناظر: 414/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 137، شرح الإسنوي: 63/3، الإبهاج شرح المنهاج: 38/3.
(2) المستصفى: 140/1، ط التجارية، وانظر مثل ذلك في الإحكام للآمدي: 54/3-55 أعلام الموقعين: 14/3.
(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد الله ـ أطول الأحاديث (ر: شرح مسلم: 182/8، 167/11، مجمع الزوائد: 265/3 جمع الفوائد: 472/1 وما بعدها) .
(4) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (شرح مسلم: 120/16، الترغيب والترهيب: 309/3 وما بعدها) .(8/489)
كذلك لا تضيع في نظام الإسلام شخصية الفرد، ولا تهدر مصلحة الجماعة، لأن غاية حياة الإنسان حقيقة في الإسلام هي غاية الجماعة بعينها، أي تنفيذ القانون الإلهي في الدنيا وابتغاء وجهه في الآخرة كما ذكرت. وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلامياً بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين معاً حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة.
ودليل ذلك أن الإسلام حرم كل ما يؤدي إلى الاستغلال والإخلال بتوازن الثروات مثل الربا والاحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس (1) وإنقاص المكيال والميزان واكتناز الذهب والفضة ونحو ذلك.
وألزم الأغنياء بالإنفاق على الفقراء، وأجاز للدولة في مال الأغنياء فرض ما يكفي من التكاليف المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلاد.
ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: «من ضارّ أضر الله به، ومن شاقَّ شاق الله عليه» (2) .
وطلب من ولي الأمر الاهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل
__________
(1) نيل الأوطار: 189/5، 212، 220، سنن أبي داود: 270/2 ط الحلبي.
(2) رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود: 283/2) .(8/490)
في الأمصار والطواف بالليل (1) ومشاطرة الولاة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (2) .
وأجيز لولي الأمر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان الأنصاري لإيذائه قائلاً له: «أنت مضار» (3) ، وكما فعل عمر بالسماح لرجل يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض محمد بن مسلمة قائلاً له: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (4) .
3 - عمارة الأرض:
60 - إن الله سبحانه استخلف البشر في الأرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلال كنوزه وثرواته، والناس في ذلك شركاء، والمسلمون ينفذون أمر الله ومقاصده، قال الله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/11] والاستعمار: معناه التمكين والتسلط، كما هو واضح من قوله سبحانه: {ولقد مكنَّاكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:10/7] . وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] {وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} [الجاثية:13/45] {الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة:22/2] . {الذي جعل لكم الأرض مهداً، وسلك فيها سُبلاً، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} [طه:53/20] {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقه، وإليه النشور} [الملك:15/67] .
واللام في (لكم) تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، أي أن ذلك مختص بكم، مما يدل على أن الانتفاع بجميع مخلوقات الأرض، وما فيها من خيرات مأذون فيه، بل مطلوب شرعاً.
__________
(1) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ علي الطنطاوي وأخيه: 201/1، 309، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 141.
(2) التلخيص الحبير: ص 254، السياسة الشرعية لابن تيمية ص 45 وما بعدها.
(3) رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين، وأخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب (سنن أبي داود: 283/2، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 285) .
(4) الموطأ: 218/2 وما بعدها.(8/491)
واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا من فروض الكفاية (1) ، لأن كل فرد من الأفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه (2) . وخصصوا باباً معيناً للكلام عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلاح الأراضي المتروكة) كما فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز، ووضع الإمام أبو يوسف كتابه (الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الأرض وطرق الري من الأنهار الكبرى وموارد بيت المال من خراج ونحوه (3) .
__________
(1) رد المحتار: 40/1 الطرق الحكمية لابن قيم ص 247، غاية المنتهى: 441/1، الشرح الكبير للدردير: 174/2.
(2) سمع النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك، فقال: لا تقل هكذا، ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى الناس، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: اللهم لاتحوجني إلى شرار خلقك. قلت: يا رسول الله ومن شر خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا أمنوا، وإذا منعوا عابوا. وسمع صلّى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك الصبر. فقال: سألت الله البلاء، فسله العافية. وسمع الإمام أحمد بن حنبل رجلاً يقول: اللهم لاتحوجني إلى أحد من خلقك. فقال: هذا رجل تمنى الموت (مغني المحتاج: 213/4) .
(3) انظر فيه مثلاً: ص 91-102 و 109 وما بعدها.(8/492)
وحض الإسلام عموماً على الضرب في الأرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها، والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر، والإنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس المشروع في كسبها، والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لأن معنى استخلاف الله للبشر وخلافتهم عن الله في الأرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة، ولأن السيطرة على الأرض بتمكين الله للبشرتقتضي استغلال كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع، وإحياء الضرع، وتشجير الأشجار، واستخراج المعادن والزيوت، واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة الله وقدرته لأنه هو مانح الحياة لكل الموجودات.
61 - وذلك على النقيض تماماً من الاتجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية الإنسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها، ولتقدمه العلمي والتقني والفني، مما يؤدي إلى عبادة المادة ويورث الإنسانية كثيراً من القلاقل والاضطرابات، والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة.
لذا فإن عمارة الأرض واستغلالها يتقيدان في الإسلام بإطاعة الله والاهتداء بهديه والامتناع عما نهى عنه، والاعتقاد بأن الناس جميعاً شركاء في منتجات الطبيعة المباحة، فكان لا بد لهم من التراحم والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص، أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر بل والدين أيضاً.
ومن ثم فليس في الإسلام مجال للحقد أو الاستئثار أو الاستعمار بالمعنى الشائع اليوم، أو حجر الآخرين عن الانتفاع الحر بالأرض، لأن البشر هم خلق الله، وأحب خلق الله إلى الله أنفعهم لعياله (1) . فلا معنى لاستغلال جنس من
__________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» رواه البزار والطبراني (مجمع الزوائد: 191/8، الفتح الكبير) وهو ضعيف.(8/493)
الأجناس، أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر، قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم:20/30] . {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين} [يس:60/36] .
قال الماوردي: (القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا: خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال وتشترك فيه ذوو الإكثار والإقلال، لكون الأسعار رخيصة فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل، وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا، وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء) (1) .
4 - صيانة الآداب الإسلامية:
62 - إن صيانة مقاصد الشريعة الأساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية دائمة لها في المجتمع، لأن للأخلاق السائدة تأثيراً كبيراً على الأشخاص وانعكاساً مباشراً في السلوك والتصرفات، لذا كان الدين والخلق أمرين متلازمين في الإسلام، قال صلّى الله عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (2) وذلك حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة، وإلا فسدت الجماعة، وأصابها الوهن والانحلال، واختل الأمن واضطراب النظام.
ومن أصول الأخلاق الإسلامية: إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف، وتحريم كل ذرائع الفساد والشر. قال ابن تيمية: (إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة..، والشر والمعصية ينبغي حسم
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 249.
(2) رواه الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك (الفتح الكبير) .(8/494)
مادته، وسد ذريعته (1) ودفع ما يفضي إليه، إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة.. (2) وقال القرافي: (إن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (3) .
وتلزم الدولة الإسلامية شرعاً بالحفاظ على الآداب وحماية الأخلاق، ومنع المعاصي وردع الفساق وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة الإسلامية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات وأسباب الفوضى والانحراف. قال الماوردي: (الذي يلزم الإمام إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عبادة من إتلاف واستهلاك) (4) ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا بد للناس من إمارة برَّة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين: هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (5) .
5 - إقامة العدالة الاجتماعية:
63 - على الدولة أيضاً تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، لأنها مسؤولة عن الرعية وعن ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره، وتحقيق التعاون على البر والتقوى من استيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ونحوه (6) ، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن
__________
(1) الذريعة: الوسيلة.
(2) السياسة الشرعية: ص 68 و 140 وما بعدها.
(3) الفروق: 33/2 وانظر أيضاً أعلام الموقعين لابن قيم: 147/3.
(4) الأحكام السلطانية ص 14 وقد سبق ذكره.
(5) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 63 وما بعدها.
(6) المرجع السابق: ص 47.(8/495)
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (1) . «من ترك كَلاًّ أو ضَياعاً فأنا وليه» (2) «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره يجوع إلى جنبه» (3) «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (4) «أيما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (5) .
64 - ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها: تهيئة سبل الكسب المشروع، ووسائل العمل الشريف مع تكافؤ الفرص، وتحقيق الحاجات الأساسية من مسكن ومأكل وملبس أولاً. ومن عجز عن العمل فنفقته على أقاربه الموسرين، فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال، كما هو معروف عند الفقهاء.
قال الماوردي: (القاعدة الثالثة مما يصلح به حال الإنسان في الدنيا: المادة الكافية؛ لأن حاجة الإنسان لازمة لا يعرى منها بشر، قال الله تعالى في الأنبياء:
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري ومسلم ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب بلفظ «من ترك كلا فإلي» ورواه أحمد والبيهقي بلفظ «ومن ترك كلاً فإلى الله ورسوله» (صحيح البخاري: 273/8 جامع الأصول 384/10، شرح مسلم 61/11، الفتح الكبير) .
كلاً: أي ثقلاً فيشمل الدين والعيال. والضياع: اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والزمنى الذين لا يقومون بحاجة أنفسهم.
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس وكذا رواه الطبراني وأبو يعلى عنه ورجاله ثقات (مجمع الزوائد: 167/8) .
(4) رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وروي على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أشبه (الترغيب والترهيب: 538/1، مجمع الزوائد: 62/3) .
(5) رواه أحمد والحاكم وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والأول مختلف فيه، والثاني قال عنه ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة واحتج به النسائي (نيل الأوطار: 221/5) .(8/496)
{وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وماكانوا خالدين} [الأنبياء:8/21] . فإذا عدم المادة التي هي قوام نفسه لم تدم له حياة، ولم تستقم له دنيا، وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه والاختلال في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لأن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله، ويختل باختلاله) (1) .
وقد أطلق القرآن للإنسان حرية الاستمتاع بالطيبات المباحة، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [طه:81/20] {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/5] .
ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين إلى حد الكفاية، قال النووي: (من فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين ككسوة عار، وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال) وتساءل شارح المنهاج (هل يكفي سد الضروة، أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟ قال: فيه وجهان: قيل: ما يسد الرمق، والأوجه ما يحقق الكفاية) (2) . وقال ابن حزم: (فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (3) .
فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء رعاية للمصلحة العامة، وله أن يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على
__________
(1) أدب الدنيا والدين مع شرحه: ص 363.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 212/4.
(3) المحلى: 452/6، م 725.(8/497)
الأغنياء بحسب الحاجة بالإضافة إلى فريضة الزكاة (1) . لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (2) وليس هنا مجال التفصيل (3) .
وهذا المبدأ في الإسلام شامل لكل المواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم ذميين كما أوضح الفقهاء (4) بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من أهل الذمة، وفرض له من بيت المال ما يكفيه، وقال للخازن: (انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم) (5) . وجاء في كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طُرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام) (6) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي: 121/2، المستصفى للغزالي: 140/1-142 ط التجارية، تفسير القرطبي: 232/2.
(2) رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس، وقال: إسناده ليس بذاك، وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه قال: (في مالك حق سوى الزكاة) ثم قال: وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة، ثم ذكر أنه لا خلاف في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم وهو ليس بحجة (التلخيص الحبير: ص 177، أحكام القرآن للجصاص: 153/1، سنن الترمذي باب الزكاة: 21/3 ط حمص) .
(3) ر: زكاة، ضريبة.
(4) مغني المحتاج، المكان السابق، نهاية المحتاج: 194/7.
(5) منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 309/2، الخراج لأبي يوسف: ص 126.
(6) الخراج: ص 144.(8/498)
6 - تحقيق الحياة الطيبة للأفراد بالنظر الإسلامي:
65 ـ إن من أهم أصول النظام الاجتماعي الإسلامي هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة للناس، الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة، والقائمة على أساس العمل الصالح مادياً ومعنوياً؛ إذ أن صلاح العمل يرتد أثره بالخير الكامل والسعادة والنعيم على الفرد والمجتمع، بدليل قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97/16] . والمقصود بالحياة الطيبة: توفر السعادة والرخاء والقناعة والغنى عن الغير والاتجاه إلى الله سبحانه، والبعد عن الضنك والتعب، قال عبد الله التستري: (الحياة الطيبة: هي أن ينزع عن العبد تدبيره، ويرد تدبيره إلى الحق) وقيل: هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق.
قال ابن كثير في تفسير الآية السابقة: (هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت (1) .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً» (3) .
66 - وطريق تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا يتجلى من خلال النظرة إلي المال والعمل. أما نظرة الإسلام إلى المال فهو أنه مال الله. وأما نظرته إلى العمل فهو
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 585/2.
(2) رواه مسلم وأحمد (فيض القدير والفتح الكبير) .
(3) رواه مسلم وأحمد وابن عدي والترمذي عن أبي هريرة (كشف الخفا للعجلوني) .(8/499)
وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق، وقد حث القرآن عليه في قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15/67] وطالبت السنة بإتقان الأعمال: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية وعزة النفس، جاء في الأحاديث: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (2) «اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير» (3) «اليد العليا خير من اليد السفلى» (4) «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (5) «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سوي» (6) .
وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في الإسلام، فمعناه العمل الإيجابي لنفع الآخرين ولو بترك السعادة الشخصية أو هو الاقتصار على السبل المشروعة المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي وتنازع المصالح، قال شراح حديث: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» (7) : الزهد: هو الإعراض عن الشيء لاستصغاره وارتفاع الهمة عنه لاحتقاره، لقوله تعالى: {قل متاع
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة، قال السيوطي: حديث ضعيف (فيض القدير شرح الجامع الصغير) .
(2) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 592/1) .
(3) ذكره تمام في فوائده وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن بسر (فيض القدير شرح الجامع الصغير والفتح الكبير) .
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر: (شرح مسلم: 124/7، الترغيب والترهيب: 585/1) .
(5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب المرجع السابق: 589/1) .
(6) رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلام (مجمع الزوائد: 91/3) .
(7) حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي (الأربعين النووية) .(8/500)
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} [النساء:77/4] قيل للزهري: ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث اللِّمة ولا قشف الهيئة، ولكنه صرف النفس عن الشهوة. وقال ابن السَّماك: الزاهد: هو الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح، وإذا أصابته لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي في الخلا، أي عند ذكر الله في الخلوة (1) .
67 - ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه والرخاء الاقتصادي بتشجيع وسائل الإنتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي أفضل المكاسب في الإسلام، كما أنها تفتح مجالات الأمل والعمل لاستنزاف البطالة، وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الأخلاقي، وتوفر للمواطنين الثقة والأمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة، وتحد من سلطان الأطماع الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة، وتزيل كل منافذ الفتنة والإغراء والانحراف، وتقمع كل طرق الشر والفساد، كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين وعهود القوة والازدهار في الدول الإسلامية المتتابعة.
7 - تحقيق المجتمع الخير (Welfare state) :
68 - إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير، والعمل الإيجابي على تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع، وتحقيق الفلاح له في كل آفاق الحياة. وهذا ما يحاول الفقه السياسي في الغرب أن يصل إليه بما يسميه (دولة الفاهية) قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران:104/3] {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/2] {ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات} [آل عمران:114/3] {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا
__________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 145.(8/501)
خاشعين} [الأنبياء:90/21] . ونطاق العمل الإيجابي في سبيل خير الرعية لا حدود له، فهو يشمل مثلاً حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج، والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما يتطلبه من مرافق، وتنمية عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه الإسلام، وتأهيل الناس كافة للعمل والنتاج، تحقيقاً لتكافؤ الفرص في الكسب، ثم بعد ذلك كفالة كل عاجز عن الكسب صوناً لآدميته وكرامته الإنسانية، والعمل على بث مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى لا تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها فيما بينها، كما جاء في التوجيه القرآني: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59] ، وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير التي تتناسب مع الاحتياجات المتطورة للبشرية (1) .
8 - العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع نواحي الحياة البشرية:
69 - لا يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلاح النواحي الاقتصادية أو الاهتمام بمطالب الحياة المادية فحسب كما تقول الشيوعية، وإنما مهمتها شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية الفكرية والنفسية والسياسية والخلقية، لأن الإسلام دين الفطرة (2) والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه النواحي متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة، وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد العمران وترتاح النفوس بتقوية العنصر الأخلاقي الذي يحمي القيم الاقتصادية وغيرها، لأن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير الإسلام ليست أشياء منفصلة عن المظاهر المادية للحياة الإنسانية،
__________
(1) انظر في ذلك نظام الحكم في الإسلام للدكتور محمد عبد الله العربي: ص 60.
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، ثم يقول: اقرؤوا {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم} رواه مسلم والموطأ والترمذي وأبو داود (جامع الأصول: 178/1) .(8/502)
ولأن المقصد من رسالة الإسلام هوإيجاد المجتمع الصالح الذي لا يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع مستوى المعيشة فقط، وإنما لا بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم سلوك الأفراد، وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والآخرة مع الشعور بالارتياح والطمأنينة لا بالقهر والقسر.
وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائماً لتحقيق الأفضل والأصلح لمواطنيها في مختلف جوانب الحياة الإنسانية المادية والأدبية، فتقيم أركان الإسلام وتنشر الأمن وتدفع خطر الأعداء، وتسارع إلى إحراز التفوق في كل مجالات التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء الاقتصادي، وتطوير الإنتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي يريد الإسلام إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية، قال الله عز وجل {وابتغ فيماآتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77/28] .
وجاء في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً» (1) .
__________
(1) فيض القدير: 12/2.(8/503)
9 - إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج:
70 - إن الغاية السامية التي تعمل من أجلها الدولة الفاضلة: هي توحيد الله عز وجل وجمع الناس على الإيمان به، وتطهير الأرض من كل رجس وشرك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. ويجب على الدولة تحقيق ذلك بكل الوسائل وإقامة النظم السياسية والتشريعية والعملية التي تكفل استقرار الناس في ظلال هذه الغاية (1) . والوصول إلى تلك الغاية بتنظيم الدولة طرق الدعوة إلى الإسلام، وإعداد الدعاة الأكفياء المزودين بالعلم والأخلاق قياماً بمهمة الأنبياء، واقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه رسالة السماء، قال تعالى مبيناً تلك المهمة: {إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد} [الرعد:7/13] {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاد لهم بالتي هي أحسن} [النحل:125/16] {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته، والله يعصمك من الناس} [المائدة:67/5] .
والسبب في إيجاب القيام بالدعوة هوأن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية ودعوة عالمية كبرى بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتكون نظام الإنسانية الكامل في حياتها الروحية والمادية، في كل زمان ومكان (2) . فالناس جميعاً مخاطبون بتعاليمها والاستجابة لنظامها (3) ، بدليل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} [سبأ:28/34] {وما أرسلناك إلارحمة للعالمين} [الأنبياء:107/21] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف:158/7] .
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو بها إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم، وكان بعد تفقيه أصحابه وتعليمهم يرسل الدعاة والمعلمين لشرع الله إلى مختلف القبائل التي تُسلم لإرشادها إلى قواعد الإسلام ولتفقيهها في أمور الدين. هذا.. بالإضافة إلى القضاة والفقهاء لتولي الولايات والبلدان الكبرى (4) .
__________
(1) تذكرة الدعاة للبهي الخولي: ص 42، ط دار الكتاب العربي: 1951.
(2) تذكرة الدعاة للخولي: ص 14.
(3) أعلام الموقعين: 211/2، تحقيق محي الدين عبد الحميد، تفسير المنار: 467/6.
(4) تفسير ابن كثير: 254/2 وما بعدها، ط الحلبي، سيرة ابن هشام: المجلد: 590/2، ط الحلبي، التراتيب الإدارية للكتاني: 194/1 وما بعدها.(8/504)
وفي آخر مراحل حياته عليه الصلاة والسلام أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب التبليغ، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب.
وبما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، فكان لزاماً على المسلمين حكاماً ورعية القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية وإعداد الدعاة لها سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه، وذلك بتخصيص فئة متعلمة تدرس الشريعة، وتتمثلها، وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الأجنبية، ثم ترسل إلى سائر البلاد للدعوة في سبيل الله (1) مع دعمها بكتب ومنشورات مبسطة عن الإسلام في عقائده وعباداته، وأحواله المدنية والشخصية، وقانونه الجزائي والدولي، وهذا من فروض الكفاية على الأمة الإسلامية، كما أرشد القرآن إليه في قوله عز شأنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران:104/3] والخير: هو الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122/9] .
قال النووي: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج وحل المشكلات في الدين، وبعلوم الشرع كتفسير وحديث، والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء) (2) . فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف، لأن المخاطب بالآيات القرآنية السابقة هم كل المسلمين، فهم المكلفون أن يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة، فهنا فريضتان: إحداهما على جميع
__________
(1) سأتكلم عن واجب نشر الدعوة خارج الدولة في المبحث الثاني.
(2) المنهاج مع مغني المحتاج: 210/4 وانظر مثل ذلك في غاية المنتهى عند الحنابلة: 441/1 والشرح الكبير للدردير عند المالكية: 174/2، تفسير القرطبي: 165/4، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، تفسير الطبري: 38/4، ط الثانية الحلبي.(8/505)
المسلمين الذين تمثلهم دولتهم، والثانية على الجماعة التي يختارونها للدعوة. وقال الماوردي ـ فيما سبق ذكره ـ: إن أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه (1) . وقال الحنفية: (إن الجهاد الذي هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول) (2) .
71 - والمقصود من الدعوة في العرف: هو حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلى الإسلام وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى ودين الحق. وهذا واجب هذه الأمة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس، وبحكم وصف المؤمنين الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى: {الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41/22] .
النوع الثاني: دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير، لقوله سبحانه: {فلولا نفَر من كل فرقة منهم طائفة..} [التوبة:122/9] الآية.
النوع الثالث: ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض بالدلالة على الخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه (3) ، لقوله عز وجل: {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/103-3] {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/41] أي إلى دين الله.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 14 ولأبي يعلى ص 11.
(2) العناية بهامش شرح فتح القدير: 279/4 وانظر أحكام القرآن للجصاص: 35/2، 592 ط البهية المصرية.
(3) راجع تفسير المنار: 27/4 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ: ص 17 ط العثمانية المصرية.(8/506)
72 - وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد المعلم والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهي خمس عشرة صفة (1) .
1 - العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. وبالقدر الكافي من الأحكام الشرعية، وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها.
2 - العمل بعلمه، فلا يكذب فعله قوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به.
3 - الحلم وسعة الصدر، فكمال العلم بالحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب.
4 - الشجاعة، حتى لا يهاب أحد في الجهر بالحق، ولا تأخذه في نصرة الله لومة لائم.
5 - العفة واليأس مما في أيدي الناس.
6 - القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (2) .
7 - قوة البيان وفصاحة اللسان وإلا كان النفع بعيداً.
8 - الإلمام بالآتي:
__________
(1) تفسير الكشاف: 340/1، تفسير المنار: 26/4-48، الإحياء للغزالي: 49/1 وما بعدها و274/2 وما بعدها، أدب الدنيا والدين ص 108-119، منهاج القاصدين: ص15 وما بعدها و130 وما بعدها، هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ: ص 12-104، تذكرة الدعاة للخولي: ص 35 وما بعدها و 249.
(2) من الصعب في وقتنا تحقيق الزهد بالدنيا بالمعنى الشائع لأننا محاطون بزينة الدنيا ومغرياتها من المال والنساء والجاه والأبناء وغير ذلك، وقد قرر الرسول صلّى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الواقعية فقال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فيها» (تذكرة الدعاة: ص 148) .(8/507)
العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلادهم وأخلاقهم أو ما يعبر عنه في العرف بحالتهم الاجتماعية، ومعرفة التاريخ العام، وعلم النفس، وعلم تقويم البلدان، وعلم الأخلاق، ومعرفة الملل والنحل ومذاهب الأمم، والعلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها وعلى الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال الأمم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في مقدمة ابن خلدون.
9 - قوة الثقة بالله في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة، مهما طال به العلاج وعظمت المصاعب.
10 - التواضع ومجانبة العجب.
11 - أن لا يبخل بتعليم، ولا يمتنع من إفادة ما يعلم، فإن البخل به ظلم ولؤم، والمنع منه حسد وإثم.
12 - الوقار والرزانة بالإمساك عن فضول الكلام، وعن كثرة الإشارة والحركة فيما يستغنى عن الحركة فيه، والإصغاء عند الاستفهام، والتوقف عند الجواب، وعدم التسرع والمبادرة في جميع الأمور.
13 - أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور.
14 - الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى، فهو وصف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
15 - التقوى والأمانة والتحرز بطاعة الله تعالى عن مساخطه، ويعبر عن ذلك في العرف: العدالة والقدوة الحسنة.(8/508)
الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية:
تمهيد:
73 - إن اختصاص الدولة الإسلامية في نطاق العلاقات الخارجية يشبه في كثير من الوجوه اختصاص الدولة الحديثة، لأنها دولة ذات فكرة إنسانية سامية تنشد تحقيقها على صعيد مفتوح وفي ظل من الأمن والسلم، وعلى أساس من الاستقلال الداخلي والخارجي ضمن إطار التعاون الواجب مع الدول الأخرى في سبيل خير البشرية (1) .
ومنهج الإسلام في علاقاته الدولية يقوم على مبدأ التوفيق بين ضرورات الواقع وبين مثالية المبدأ والمسعى الذي يحقق الغاية المنشودة من رسالته، فهو لا يستطيع تجاهل ظروف وضرورات الحياة الدولية لما لها من ثقل تفرض به نفسها على الأحداث والمتطلبات الداخلية، ولا يمكنه أصلاً التخلي عن واجب التبليغ ونشر المبادئ والتضحية في سبيل المبدأ وإثبات الخصائص الذاتية التي يتمتع بها، وإعلام الناس بمحتواها، ومحاولة تنفيذها وتحقيق الأهداف المطلوبة بالسياسة والحكمة والأناة، ومواتاة الفرصة المناسبة.
والبحث هنا يتناول وظيفتين أساسيتين للدولة الإسلامية وهما الوظيفة المتجاوبة مع ضرورات الحياة الدولية، والوظيفة الأصلية التي تحقق أهداف الدولة وخصائصها الذاتية، وذلك في مطلبين:
__________
(1) ر: جهاد.(8/509)
المطلب الأول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية:
74 ـ لا تصادم بين الفكرة الإسلامية المتطلعة إلى الامتداد أو الانتشار وبين المبادئ الدولية القائمة الآن على أساس الاعتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة، ومساواتها بين الدول في المبادئ الأخلاقية أو السلمية، وعدم خضوعها للقضاء الأجنبي والدفاع عن نفسها للحفاظ على وجودها وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها.
وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي الآتية:
1 - الدفاع عن أراضي الإسلام وتحرير شعوبه وحماية أقلياته:
75 - هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، لما لها من حق الحياة والبقاء كالأشخاص العاديين تماماً، ولما يفرضه الواجب من حماية الأتباع والرعايا ولو في خارج إقليم الدولة.
ووسيلة الإسلام في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض ضرورية تفرضها الأحداث وأهمها: (1) .
أـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي دار الإسلام، قال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة:190/2] ، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير} [الأنفال:39/8] {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/2] ، {أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير} [الحج:39/22] .
الجهاد حق وعدل وواجب مقدس، ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلاده وأهله وإعلاء كلمة الله (أي كلمة الإسلام والمسلمين) فهو منافق
__________
(1) ر: للتفصيل والمقارنة في الموسوعة الفقهية: جهاد.(8/510)
في شرعة القرآن، قال تعالى {وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا (1) ، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون} [آل عمران:167/3] .
ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقاً الإعداد دائماً للجهاد وعدم التقاعس عنه إذا وجدت مقتضياته، وتهيأت إمكاناته، وقد ذكرت سابقاً عبارة الماوردي وغيره في هذا الشأن حيث جعل من واجبات الإمام تحصين الثغور وحماية البلاد، وجهاد الأعداء بعد الدعوة إلى الإسلام.
ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين، أو إغاثة المستضعفين المسلمين، أو حماية الأقليات في بلاد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق، وذلك عند القدرة والإمكان، قال الله عز وجل: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء:75/4] {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} [الأنفال:8/72] .
2 - دعم التعاون بين أقاليم الدولة الإسلامية:
76 - يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن الإسلام والمسلمين ضرورة التعاون البنَّاء بين جميع بلاد الإسلام، كما كان عليه حال الأمة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وما تلاه من عهود موحدة، وذلك في مختلف المجالات السياسية والعسكريةوالاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن روابط الإخاء والوحدة في عقيدة الإيمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون على الخير في السراء والضراء.
وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة والتفوق والسيادة، وترتد آثاره الحميدة على البلاد بالخير والسعادة وتحقيق الأماني والآمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد. وبغير ذلك تسوء الأحوال وتؤول الأوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الآن من ويلاته بسبب التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق.
ومن المعروف أن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وأن الأواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} [آل عمران:103/3] {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال:46/8] .
__________
(1) أي دافعو اعن النفس والأهل والوطن (ر: التفاسير) .(8/511)
فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة والعصبيات المغلقة المورثة للمنازعات والخلافات الجزئية؛ لأن رابطة الأخوة القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلاقات الجنسية (التجنس) ومضايقات العنصرية، ولأن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد.
77 - وهذا في الدرجة الأولى من وظائف الدولة، لأن الأوامر السابقة في القرآن الموجبة للتعاون تخاطب ولاة الأمر والأفراد على حد سواء (1) ، وما يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل المقاصد وتأمين المصالح.
ومن صور التعاون في المجالات التي ذكرناها قيام أجزاء البلاد بتوحيد الجهد لإنشاء المشاريع الصناعية والإنتاجية والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والأمية، وتنسيق الخطط الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلات التي تمس مصالح المسلمين.
وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلاد في رد العدوان ودفع الأخطار، وتسوية المنازعات وترميم الأحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والاقتصادية ونحو ذلك، ففي ماضي المسلمين كان تجهيز الجيوش وإمداد المقاتلة، يتم بالتعاون بين أقطار الإسلام، كما كان توزيع الغنائم شاملاً للمسلمين.
__________
(1) هذا هو المفهوم من عموم الخطاب فيها، فآية المائدة مثلاً صدرت بقوله سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام} [المائدة:2/5] وذلك موجه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم القائد وللمؤمنين، ثم قال سبحانه: {وتعاونوا على البر ... } [المائدة:2/5] أي أن الله يأمر المؤمنين ولاسيما أصحاب السلطة بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم (تفسير ابن كثير: 6/2) .(8/512)
3 - دعم السلام العالمي:
78 ـ استأصل الإسلام جذور الأحقاد والعداوات البشرية، فقضى على الفوارق الجنسية (التجنس) والعصبية وتناحر الطبقات، وأحل محلها روح المحبة والإنسانية والتعاون والتسامح، كما أنه انتزع من فكرة القومية تلك (الأنانية) الطاغية التي من شأنها أن تخلق منافسة بين القوميات المتباينة (1) ، وبالتالي نشوب حروب طاحنة بسبب التنازع على الاستئثار بخيرات الأرض. ثم دعا الإسلام بعدئذ، ليس إلى إقامة سلام عالمي فحسب، بل إلى تعايش ودي يدعم السلام، ويتجاوز حدود المسالمة إلى المودة والمصاهرة، والاشتراك في القرابات واختلاط الدماء، وإيجاد زمالة عالمية في ظل المبدأ الإنساني الرفيع: وهو اعتبار الجنس البشري من أب وأم واحدة، وأنهم أبناء أسرة واحدة ينبغي التراحم بين أفرادها، وشيوع الألفة والعدالة في أوساطها للعمل من أجل خير المجموع.
79 - وهذا ما قرره القرآن الكريم بأجلى بيان في قوله سبحانه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير} [الحجرات:13/49] .
وتتوارد الآيات القرآنية في الدعوة إلى السلم ونبذ العدوان كما في قوله عز وجل: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وتوكل على الله} [الأنفال:61/8] {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين} [البقرة:208/2] . {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام: لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء:94/4] . {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:4/90] {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/60] .
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الله العربي: ص 56.(8/513)
ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع، فينهى عن العدوان في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولاتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] وفي هذا إشارة إلى تحريم العدوان والاقتصار على حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (1) .
وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال، ومطالبة بالحرص على السلام، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» (2) . «تألفوا الناس، وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت من مدر
__________
(1) ر: للتفصيل في الموسوعة الفقهية جهاد.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (شرح مسلم: 46/12، جامع الأصول: 185/3، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 323/2) .(8/514)
ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم، وتقتلوا رجالهم» (1) «الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (2) .
80 - وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلام العالمي، سواء أكان التهديد قريباً من حدودها أم بعيداً عن أراضيها، لأن انفجار الحرب ـ لا سيما في عصرنا الحاضر ـ يعرِّض العالم كله إلى هزات عنيفة، ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها، ولأن الإسلام يكره إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إلا للضرورة كما يبين من كلام فقهائنا في الواجب الآتي عند بحث حماية الكرامة الإنسانية.
4 - دعم مبادئ كرامة الإنسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع:
81 - الإسلام ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية حتى تتحقق به الحياة الطيبة، وتتوافر للناس سعادة الدنيا والآخرة، لذا فإنه يقيم نظامه الاجتماعي على أسس ثابتة أهمها ما يأتي:
أـ حماية الكرامة الإنسانية: أعلن الإسلام مبدأ كرامة الإنسان، فهو أكرم مخلوق على الأرض، والكرامة حق طبيعي لكل إنسان، فلا يجوز إهدار كرامته، أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسناً أم مسيئاً، مسلماً أم غيرمسلم، لأن العقاب إصلاح وزجر، لا تنكيل وإهانة، ولا يحل شرعاً السب والشتم والاستهزاء
__________
(1) شرح السير الكبير: 59/1.
(2) رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسعود (مجمع الزوائد 191/8) وقد سبق تخريجه وفيه عمير، وهو أبو هارون القرشي متروك.(8/515)
وقذف الأعراض، كما لا يجوز التمثيل (1) بأحد ولو من الأعداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها، ويحرم التجويع والإظماء والنهب والسلب، لقوله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء:70/17] .
وقال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (2) «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (3) «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» (4) .
ولقد قرر فقهاؤنا أن الأصل في الناس حقن الدماء، فقال الحنفية: (الآدمي معصوم ليتمكن من حمل أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره) وقال مالك: (لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق) (5) . وقال الحنابلة: (إن الأصل في الدماء الحظر إلا بيقين الإباحة) (6) وقال الشافعية (7) : (قتل الآدمي عمداً بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد) .
__________
(1) قال عليه الصلاة والسلام «ولاتمثلوا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة (جامع الأصول: 201/3) .
(2) سبق تخريجه (مجمع الزوائد: 284/6) .
(3) رواه ابن ماجه بسند لين عن ابن عمر، ولابن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمسلم أعظم حرمة منك، قد حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء» (كشف الخفا للعجلوني) .
(4) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو، وهو حديث غريب جداً (تفسير ابن كثير: 52/3) .
(5) اختلاف الفقهاء للطبري ـ تحقيق شخت: ص 195.
(6) القواعد لابن رجب: ص 338.
(7) مغني المحتاج: 2/4 و 210 قال صلّى الله عليه وسلم: «لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا وما فيها» رواه أبو داود بإسناد صحيح.(8/516)
ب ـ مبدأ العدالة:
82 - إن العدالة المطلقة في الإسلام مبدأ من مبادئ نظام الحكم الإسلامي، وأساس كل علاقة إنسانية سواء بين الأصدقاء أم الأعداء؛ لأن العدل قوام العالمين في الدنيا والآخرة، وبالعدل قامت السموات والأرض، والعدل أساس الملك، وأما الظلم فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان، قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/16] وقال صلّى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» (1) .
ومن أخص الحالات التي ينبغي فيها العدل: حالة الحكم والشهادة والقضاء بين الناس، وفي ميدان الحكم والإدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس (أي في الميدان الدستوري والإداري والمالي) وفي نطاق الأسرة والتربية والتعليم، وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8/5] {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء:135/4] .
جـ ـ الحرية:
83 - الحرية: هي أعلى ما يشعر به المرء في هذا الوجود، فهي ملازمة لكرامته الإنسانية، وقد أقر الإسلام مبدأ الحرية في أعدل مظاهرها، قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص: (متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) (2) وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
فمن أجل تقرير حرية الاعتقاد منع الإكراه على الدين: {لا إكره في الدين، قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256/2] وجعل قبول اعتناق الإسلام منوطاً بالاختيار الحر والاقتناع الذاتي بعد استخدام الفكر والعقل السليم وتجنب التقليد ومحاكاة الآخرين بدون حجة، عملاً بقوله تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم:8/30] {قل: انظروا ماذا في السموات والأرض} [يونس:101/10] {وما يذكّرُ إلا أولو الألباب} [آل عمران:3/7] .
وتحريضاً على التفكير والنظر الطليق ندد الله سبحانه بالتقليد في العقائد وتعطيل العقول فقال: {وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} [البقرة:170/2] {أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46/22] .
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر الغفاري (الأربعين النووية) .
(2) سيرة عمر بن الخطاب للأستاذ الطنطاوي وأخيه: 240/1.(8/517)
والنقد البناء ليس حقاً فقط، وإنما هو واجب ديني أحياناً لا سيما عند المساس بالمصالح العامة والأخلاق، قال صلّى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (1) واعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإسلام كما تقدم، وأن الشورى أساس الحكم والإدارة السياسية والحربية، وأن الاجتهاد في أمور الدنيا حق مطلق، وأما في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة الصحيحة، يعني أن للفرد الحرية في الأمور الدنيوية بإبداء ما شاء من الآراء فيها، وأما الأمور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ في غير موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية.
__________
(1) رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري (الأربعين النووية) .(8/518)
د ـ المساواة الكاملة بين الناس:
84 - إن مبدأ المساواة في الإسلام عام شامل دون قيود ولا استثناءات، وأساس في نظام الحكم الإسلامي، وكان ذلك المبدأ جديداً بالنسبة للعرب، بل وكان يتعارض مع الشعور القبلي السائد (1) ، فقررت الشريعة المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة والحقوق السياسية بين الأفراد، والجماعات، والأجناس، وبين الحاكمين والمحكومين، لا فضل لرجل على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، ودون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة (أي في الغنى والفقر) أو القوة والضعف، أو الحسب والنسب. الناس جميعاً في الشريعة متساوون على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، كما هم متساوون في وحدة الأصل البشري (2) وبدليل قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى الله عليه وسلم في قوله: «الناس سواء كأسنان المُشط» (3) . «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى» (4) «كرم الرجل: دينه، ومروءته، وعقله وحسبه وخلقه» (5) .
__________
(1) مبادئ نظام الحكم في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي: ص 822. (2) تفسير ابن كثير: 218/4، تفسير الخازن: 190/6، التشريع الجنائي الإسلامي: 316/1، الديمقراطية الإسلامية للدكتور عثمان خليل ص 35، مبادئ نظام الحكم، المرجع السابق: ص 827.
(3) أخرجه ابن لال والديلمي عن سهل بن سعد، والحسن بن سفيان وأبو بشر الدولابي والعسكري في الأمثال عن أنس (كشف الخفا للعجلوني وغيره) .
(4) رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله وقال: في إسناده بعض من يجهل، ولأحمد عن أبي نضرة في معناه (الترغيب والترهيب: 612/3، مجمع الزوائد: 266/3-273) .
(5) رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد: 251/10) .(8/519)
وطبق الرسول عليه الصلاة والسلام المبدأ أولاً على نفسه، فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو شتمه أو أخذ منه ماله بغير حق (1) ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين، وكان الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد توليه الخلافة. وكان هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديماً نحو الإسلام الكثير من الشعوب الأخرى، كما لاحظ بعض المستشرقين (2) .
ولا شك أن تحقيق المساواة منوط باختصاص الحكومات لا باختصاص الأفراد، لاحتياج المبدأ إلى سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز، ومع تجرد عن الأهواء والغايات الشخصية، قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (3) .
85 - والخلاصة: أن الإسلام يحرص على حماية حقوق الإنسان سواء في دار الإسلام أم في دارالحرب، ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والإخاء والتعاون والمساواة بين كل الناس، فتتعاون الدولة الإسلامية مع غيرها عند الدخول في علاقات تجارية ونحوها مع البلدان الأخرى، أو أثناء الإقامة بدار الحرب، أو وقت الاحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح، أو عند اجتياز الحربيين لبلادنا وتمتعهم بالأمان فيها.
وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس، فقد فقدت المبادئ المذكورة كثيراً من معانيها، وأصبحت معاييرها مضطربة، وصار وجودها في المواثيق والأذهان مقصوراً على الناحية النظرية والمزايدات الإعلامية أو الدعائية في هيئة الأمم وتوابعها. أما في الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف الأقوى دائماً هي القائمة فعلاً، بل إن بعض تلك الدول تمارس أبشع ألوان التمييز العنصري في داخل بلادها أو في مستعمراتها في إفريقية.
__________
(1) هذا معنى حديث رواه الفضل بن عباس (الكامل لابن الأثير: 154/2) .
(2) الدكتور عبد الحميد متولي، المرجع السابق: ص 823.
(3) أخرجه رزين عن يحيى بن سعيد رحمه الله (جامع الأصول: 469/4) ويزع: يردع.(8/520)
المطلب الثاني: وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة الإسلامية وأهدافها:
تمهيد:
86 - إن حفاظ الإسلام على السلم العالمي ودعمه، وحرصه على نشر دعوته السلمية، وفكرته عن وحدة البشرية تجعل منه نظاماً عالمياً صالحاً للاهتداء بتعاليمه في المجتمع، إذ إن نظرته الإنسانية للناس تتخطى حدود القوميات الضيقة، وعصبيات الجنس واللون والوطن، ولأن اعتقاده بوحدة الدين في أصل الرسالات السماوية يشيع جواً ودياً من التسامح.
وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية العقيدة والدعوة والعبادة، أو دفع الظلم عن المستضعفين، أو إزالة الفتنة والفساد في الأرض، لذا فإن الإسلام يقاوم حروب العدوان أو حروب الاستعمار من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم.
وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم سعادة الإنسان ويحقق الخير للبشرية.
ويتجلى ذلك من كلامنا عن وظائف الدولة الآتية في النطاق الخارجي:(8/521)
1 - التعاون مع المخلصين من غير المسلمين:
87 - لا حرج في الإسلام من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من غير المسلمين، سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات الأخرى، وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك والدفاع عن المصالح العامة، والتعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك، ولو على شروط يبدوفيها بعض الإجحاف، عملاً بالمثل الرائع الذ ي وضعه لنا الرسول صلّى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: «والله لا تدعوني قريش إلى خُطة يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (1) .
والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها، فجعلها دعوة بالحجة والبرهان في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل:125/16] وطالبنا بحماية المشركين عبدة الأوثان ورعايتهم حين إقامتهم بدار الإسلام، وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة:6/9] . وكذلك حدد القرآن علاقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله تعالى: {وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/8] . {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [النساء:90/4] .
بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة وعدل وقسط قي قوله عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8/60] .
__________
(1) نيل الأوطار: 34/8، سنن أبي داود: 113/3.(8/522)
88 - ومما يلقي الضوء على أنه لا مانع شرعاً من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف الإسلام من الديانات الأخرى. وخلاصة القول: إن علاقته بالديانات السماوية إما علاقة تصديق وإقرار كلي في صورتها الأولى، أو علاقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها الحالية. وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة، وكل شريعة وملة، حتى الديانات الوثنية تتحدد علاقة الإسلام بها بطابع الإنصاف والتبصر والمحاجة والإقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (1) .
إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما جاء في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... } [الشورى:13/42] قال الدهلوي: (اعلم أن أصل الدين واحد اتفق عليه الأنبياء عليهم السلام، وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج ... الخ) (2) .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (3) .
__________
(1) انظر بحث الدكتور محمد عبد الله دراز (موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها) الذي قدمه إلى الندوة العالمية للإسلاميات في لاهور ـ باكستان في يناير (كانون الثاني) عام 1958 وهو منشور في مجلة (لواء الإسلام) العدد الحادي عشر. السنة الحادية عشرة.
(2) حجة الله البالغة: 68/1.
(3) رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري: 25/5) .(8/523)
وانطلاقاً من وحدة الأصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى الإيمان كما حكى القرآن: {بلى من أسلم وجهه لله، وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} [البقرة:112/2] . {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} (:1) .
وبالرغم من أن الإسلام أو القرآن جاء {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة:48/5] فإنه لا يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على الإسلام لقوله تعالى: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا، اشهدوا بأنا مسلمون} (2) .
89 - وأما غير أهل الكتاب فتحدد علاقة الإسلام بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير والسنة الصالحة. وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
ويمكن التعاون معهم سلمياً بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة أهل الكتاب، فقال عن المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (3) واستعان الرسول صلّى الله عليه وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد الله بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين، بأن استأجره ليرشده مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (4) . وكذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام من سراقة بن
__________
(1) البقرة: 62 ـ ومثلها في في آل عمرن: 113-114.
(2) [آل عمران:64/3] وآيات أخرى مثل: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/2] .
(3) رواه الشافعي عن عمر رضي الله عنه (نيل الأوطار: 56/8) .
(4) سيرة ابن هشام: المجلد الأول: 488.(8/524)
مالك بن جُعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء الأمان الذي أمنه عليه، والاستغفار الذي سأله منه (1) .
واستعار الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضاً يوم حنين أدرعاً من من صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك (2) واستعان كذلك في هذه المعركة للاشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألَّفهم من الغنائم (3) .
وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الاستعانة بالكفار والمشركين في القتال (4) مستدلين باستعانته صلّى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (5) ، وباستعانته صلّى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلّى الله عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين مصالحة الروم، ويغزون جميعاً عدواً وراء المسلمين.
وأجمع الفقهاء على جواز الاستعانة بالمنافقين والفساق، لاستعانته صلّى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وأصحابه (6) .
والخلاصة: إن الإسلام لا يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لإقامة علاقات طيبة مع غير المسلمين لتحقيق التعاون البنَّآء في سبيل الخير والعدل والبر والأمن وحماية الحرمات ونحو ذلك.
__________
(1) المرجع السابق: ص 489.
(2) المرجع السابق: 440/2.
(3) سبل السلام: 50/4.
(4) ر: للتفصيل / جهاد، علماً بأن السيادة والراية تكون للمسلمين لا لغيرهم.
(5) أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلاً (نيل الأوطار: 223/7) والرضخ: العطية القليلة بشيء من الغنيمة.
(6) نيل الأوطار: 223/7 وما بعدها، سبل السلام: 49/4، البدائع: 101/7، مغني المحتاج: 222/4، البحر الزخار: 389/5، الميزان للشعراني: 181/2، الإفصاح لابن هبيرة: ص 438.(8/525)
2 - الدعوة إلى الإسلام:
90 - ليس الإسلام فاتراً ولا منطوياً على نفسه، كما زعم بعض الكتاب الغربيين، وإنما الدعوة إلى الحق والخير وعقيدة التوحيد ركن أصيل من أركان الإسلام، والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة في كل زمان ومكان، فيأمر الله نبيه بتبليغ رسالته، كما تبين في وظيفة إعداد الدعاة (1) ، وبأن يبذل جهده في هذا التبليغ، فقال سبحانه: {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} [الفرقان:52/25] وكان برسل الدعاة إلى الآفاق كما أوضحت، والقرآن يحرِّض المؤمنين على هذه الدعوة: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت:33/41] بل يجعل الفلاح في الدار الآخرة وقفاً على هؤلاء الدعاة: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] {والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر:1/103-3] .
91 - وواجب الدولة الإسلامية أصيل أيضاً في هذا المجال، باعتبار أن ولي الأمر يمثل جانب الخلافة عن الرسول عليه السلام في هذا الشأن، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون ومن بعدهم. خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدَّب بعض رعيته، أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده إلا أقُصُّه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقص من نفسه) (2) .
__________
(1) ر: ف/70.
(2) جامع الأصول: 467/4، سيرة عمر بن الخطاب: 226/1.(8/526)
وقال ابن قيم: الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف:12/ 108] (1) .
وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم من الحكام والأفراد لعموم الخطاب فيها، وهي قوله عز شأنه: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام:19/6] . أي لأنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم، فالإنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه السامع، ويؤكده قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (2) فمهمة الفقيه الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي وإدراك، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «ما عُبد الله بشيء أفضل من الفقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد الدين الفقه) (3) .
3 - دفع شبهات أعداء الإسلام:
92 - إن من أهم واجبات ولاة الأمور هو المحافظة على الدين وعقائده، وإيضاح الشبهات وحل المشكلات ورد المفتريات وتزييف البدع، كما ذكر الماوردي في واجبات الإمام التي بينتها سابقاً.
وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلاد الإسلام قياماً بالواجب الكفائي. قال النووي في منهاجه: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحجج العلمية (1) وحل المشكلات في الدين ودفع الشبهة) (2) وأضاف الشارح: وأما الآن وقد ثارت البدعة ولا سبيل إلى تركها تلتطم، فلا بد من إعداد مايدعى به إلى الملك الحق، وتحل به الشبهة، فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من فروض الكفايات.
__________
(1) أعلام الموقعين: 8/1، ط السعادة.
(2) حديث متواتر رواه الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره (النظم المتناثر من الحديث المتواتر للعلامة جعفر الحسني الكتاني) .
(3) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة (الفتح الكبير) .(8/527)
المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج:
93 - المراد بالحصانة: احترام شخصية الدولة وتوابعها وعدم الاعتداء على أحد ممثليها أوإخضاعها لولاية المحاكم في الدول الأخرى وإعفاؤها من الضرائب الشخصية المباشرة.
ومبنى الحصانة احترام سيادة الدول، وقد وجدت الحصانات من قديم قبل ظهور الدولة الحديثة، وكانت تستند إلى قواعد المجاملة، ثم أضحت اليوم تستند إلى قواعد القانون الدولي والأعراف الدولية.
والكلام عن هذا الفصل في مطلبين:
المطلب الأول - ما تشمله الحصانات والإعفاءات:
94 - تشمل الحصانات والإعفاءات المقررة للدولة بحسب قواعد العرف والمجاملة والمبادئ والأخلاق الإسلامية ما يأتي:
__________
(1) وهي البراهين القاطعة الدالة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات وصدق الرسل، وما ورد به الشرع من الحساب والمعاد والميزان وغير ذلك.
(2) مغني المحتاج: 210/4.(8/528)
أـ شخصية الدولة: لا يتعرض لشؤون دولة أخرى غير مسلمة ما لم يوجد منها عدوان على المسلمين أو بلادهم ومصالحهم، إذ القتال لمن قاتلنا ولا عدوان إلا على الظالمين (1) ، قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] والأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم لا الحرب (2) .
ولا تخضع شخصية الدولة غير المسلمة في بلادها أو أحد ممثليها لقضاء إسلامي أو نظام ضريبي؛ إذ لا سلطان للدولة الإسلامية على دار الحرب.
أما إذا كان رئيس الدولة الأجنبية (3) أو رجال حاشيته في بلاد الإسلام، فإن الشريعة الإسلامية تطبق عليه ويخضعون للقضاء الإسلامي، خلافاً لما يقضي به العرف الدولي الحاضر؛ لأن الشريعة لا تفرق بين الحاكم والمحكومين، والمستأمن في بلادنا قد التزم بدخوله دارنا أحكام الإسلام، ولا حرج من محاكمة غير المسلم الذي ارتكب جريمة في دار الإسلام؛ لأن العدل أساس الحكم في الشريعة حتى مع الأعداء، وأما الخوف من اتخاذ الاتهام ذريعة للضغط فهو خوف في غير محله، لوجود وسائل ضغط أخرى أسرع وأجدى من الاتهام (4) إلا أن أبا حنيفة لا يرى معاقبة المستأمن في دار الإسلام على جريمة تمس حقوق الجماعة، أما الجريمة التي تمس حق الأفراد فيعاقب عليها (5) ، فإن لم تقع جريمة في دار الإسلام من رئيس الدولة الأجنبية فهو في أمان لا يجوز التعرض لشخصه وماله وأسرته وأتباعه أو حاشيته.
__________
(1) رسالة القتال لابن تيمية: 1 ص 118، زاد المعاد لابن قيم: 58/2.
(2) ر: جهاد.
(3) الدولة الأجنبية: هي الدولة المحاربة التي تقوم في دار الحرب، أما الدول الإسلامية فلا تعتبر إحداها أجنبية بالنسبة للأخرى.
(4) التشريع الجنائي الإسلامي: 323/1-325.
(5) ر: للتفصيل في هذا المبحث: دار الإسلام ودار الحرب والتمثيل السياسي في الإسلام للمؤلف.(8/529)
ب ـ السفن والطائرات: تتمتع السفن والطائرات الأجنبية بالأمان في دار الإسلام ما لم تقع حوادث مخالفة منها، فعندئذ تخضع للقضاء الإسلامي.
جـ ـ الوكالات والمؤسسات: يطبق الحكم السابق على الوكالات والمؤسسات الأجنبية مثل مكاتب الطيران والمدارس والمشافي والبعثات التعليمية ومراكز البحوث العلمية وشركات الاستثمار ونحوها من المؤسسات ذات النفع العام بسبب الصفة الدينية أو العلمية أو الإنسانية أو الرياضية المقامة في بلد إسلامي.
د ـ الوحدات السياسية: كالمكاتب والبعثات السياسية ووزير الخارجية والوفود التجارية وممثلي الإدارات والمصالح الأجنبية يعتبر لها من الحصانة الشخصية والمالية في حدود ما يقضي به الأمان على النحو السابق (1) .
هـ ـ السفارات: إن مقر السفارة الأجنبية له نفس حصانة الرسل والسفراء بحكم الأمان (2) . أما السفارات الإسلامية وممثلوها فلا تعتبر في بلاد الإسلام مستأمنة بحال، وإنما يطبق عليها سائر الأحكام المطبقة على المسلمين المقيمين في دار الإسلام.
__________
(1) ر: أمان والموضوعين السابقين.
(2) ر: التمثيل السياسي.(8/530)
المطلب الثاني - أنواع الحصانات والإعفاءات:
95 - تتمتع الدولة الأجنبية وممثلوها وتوابعها بالحصانات المقررة للرسل والسفراء وهي الحصانة الشخصية والمالية، فالأولى تقضي بحرمة التعرض للنفوس
والأسرة والحواشي والأتباع عملاً بالأمان. والثانية تقضي بعدم إخضاع الأموال المملوكة للدول الأجنبية والمخصصة لأغراض عامة والموجودة في دار الإسلام للنظام الضريبي؛ لأن فرض الضريبة خاضع لتقدير ولي الأمر فله أن يقرر شمول الضريبة أو حصرها في نطاق معين.
أما الحصانة القضائية فهذه مما يختلف فيها الإسلام عن العرف الدولي القائم، فلا يعفى الأجانب المستأمنون من تطبيق الشريعة أو من الخضوع للقضاء المحلي (1) .
ثالثاً ـ الاستثناءات:
96 - قد لا تطبق الحصانة المذكورة استثناء في بعض الأحوال وهي ما يأتي:
أ - النشاط التجاري والملكية الخاصة: إذا قامت الدولة الأجنبية بنشاط خاص في مجال التجارة أو الصناعة، أو كان لها ملكيات خاصة في أراضي دار الإسلام، فيمكن إخضاع ذلك النشاط أو الملكية للنظام الضريبي المطبق على جميع المواطنين باعتبار أن الدولة غير ممثلة بشخصها المعنوي الذي يتطلب إعفاءات خاصة بقصد التعاون في الحقل الدولي، ولأن طرح الضريبة في الإسلام مرجعه تقدير ولي الأمر كما ذكرت، وأن الأصل هو عموم الحكم في التطبيق.
ب ـ حالة رضا الدولة: كذلك ترتفع الحصانة بداهة في حالة موافقة الدولة أو قبولها إخضاع أموالها وممتلكاتها وتصرفاتها للنظام الضريبي الإقليمي، باعتبار أن مبدأ الرضا الذي هو في الأصل شرط في كل التزام أمر قائم، وحيث وجد الرضا لم يبق نزاع.
__________
(1) ر: للتفصيل التمثيل السياسي.
[التعليق]
ثالثاً - الاستثناءات:
الظاهر أنّ هذا مطلباً ثالثاً للمبحث فليتنبه لذلك.
*أبو أكرم الحلبيّ.(8/531)
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة الإسلامية وزوالها وآثار ذلك:
97 - قد تطرأ تغيرات على الدولة الإسلامية كغيرها من الدول في العادة، فتؤثر في تكوينها السياسي أو الإقليمي، مع بقاء كيانها الأصلي في سلطة المسلمين، وقد تزول الدولة من بعض أقاليمها زوالاً جزئياً أو كلياً باغتصاب العدو لقطعة من الأرض أو احتلالها عنوة.
وهذا من ما يبحث في المطلبين التاليين:
المطلب الأول- تغير حالة الدولة الإسلامية:
تغير حالة الدولة له نوعان:
98 - النوع الأول ـ التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي:
قد يحدث تغير في نظام الحكم الداخلي أو التكوين الدستوري للدولة الإسلامية مع بقاء شخصية الدولة واستمرار التزاماتها بالنسبة للدول الأخرى. ويتم ذلك بإحدى حالات ثلاث:
1 - الانقلاب: هو استيلاء جماعة مسلحة ذات قوة ومنعة على سلطة الحكم وإبعاد الحكام السابقين. وقد أشرت في بحث الاعتراف بالدولة إلى أن الإمامة قد يتوصل لها استثناء بالقهر والغلبة، ومعناه ـ كما قال الدهلوي (1) : استيلاء رجل جامع لشروط الإمامة على الناس، وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد خلافة النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالعة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يجري من المصلحة، «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم: فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً (2) عندكم من الله فيه برهان (3) .
2- الحرب الأهلية: قد تتقاتل فئتان من المسلمين، فتتغلب إحداهما على الحكم، فينعقد لها بالقهر والغلبة أمر السلطة العليا، كما في حالة الانقلاب السابقة.
3 - الثورة: الثورة تختلف عن الانقلاب، إذ الانقلاب وثبة من داخل القوة المسلحة أو الجيش غالباً، أما الثورة فنطاقها أوسع، إذ هي شعبية نابعة من سخط الجماعة على الحكام. وقد أجاز فقهاء الإسلام الخروج على الحكام في بعض الحالات (4) . قال الدهلوي مضيفاً إلى عبارته السابقة: (وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب، وإلا لا، وذلك لأنه حينئذ (5) فاتت مصلحة نصبه (6) ، بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله، قال صلّى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (7) أي أن مبدأ الثورة هو
__________
(1) حجة الله البالغة: 111/2.
(2) أي ظاهراً.
(3) أي دليل من القرآن والسنة (ر: شرح مسلم: 243/12) .
(4) ويرى الإمام زيد الخروج على أئمة الجور للدعوة إلى نفس الإمام الخارج، كما فعل هو بالكوفة حيث خرج في أيام هشام بن عبد الملك (تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور علي حسن عبد القادر: ص183) .
(5) أي عند كفره.
(6) أي إقامته حاكماً.
(7) حجة الله البالغة: 112/2.(8/532)
ويلاحظ أنه قدم وأخر في عبارة الحديث الذي رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر بلفظ «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (جامع الأصول: 454/4، شرح مسلم: 226/12) . قاعدة أو حديث «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1) .
النوع الثاني ـ التغيير في النطاق الإقليمي:
99 - إن التغييرات التي تطرأ على إقليم الدولة، فتؤدي إلى اتساعه أو نقصه تحدث إما من أراض مباحة لا صلة لها بدولة أخرى، أو مما يمس إقليم دولة أخرى بالحرب ونحوها.
أولاً ـ التغيير بما لا يمس إقليم دولة أخرى:
قد يحدث التغيير في إقليم الدولة إما بالإضافة أو بالاستيلاء:
1 - التغيير بالإضافة (2) : قد تكون طبيعية بظهور جزر جديدة في وسط البحر الإقليمي، أو النهر الكبير الإقليمي، أو بسبب تراكم الطمي في مصب نهر من الأنهار الكبرى عند شواطئ الدولة أو الدلتا التي تتكون عند مصب الأنهار، وقد تكون صناعية بردم الماء في منطقة نهرية أو بحرية إقليمية، كما لو بنت الدولة حاجزاً للأمواج في بحرها الإقليمي أو أقامت فيه منشآت لموانيها.
إذا حدث مثل هذا في دار الإسلام كان جزءاً منها بالالتحاق، إذ أن له حكم المباح، وقد قرر ذلك أبو يوسف في كتابه (الخراج) حينما تكلم عن الجزائر التي تتكون في دجلة والفرات ينضب عنها الماء، وقال: هذا مثل الأرض الموات، ولمن
__________
(1) رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين، ورواه أبو داود والنسائي عن علي بلفظ «طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ورواه أحمد عن أنس بلفظ «لا طاعة لمن لم يطع الله» (شرح مسلم: 227/12، فيض القدير، الفتح الكبير) .
(2) الإضافة في القانون الدولي: معناها اكتساب الدولة للملحقات الطبيعية لإقليمها دون حاجة إلى أن تقوم بعمل أو إجراء خاص لإدخالها في اختصاصها (ر: مبادئ القانون الدولي للدكتور حافظ غانم: ص 330) .(8/533)
جاورها أن يحصنها ويزرع فيها إذا كان ذلك لا يضر بأحد، وإن كان يضر أحداً منع من ذلك، ولم يترك يحصنها ولا يزرع فيها، ويحدث فيها حدثاً إلا بإذن الإمام (1) . ويرشد إليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (2) .
وحكم ابن نجيم بإباحة النهر إذا لم يعرف حاله: هل هو مباح أو مملوك تطبيقاً لقاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) (3) .
2 - التغيير الاستيلاء (4) : للدولة الإسلامية الاستيلاء الفعلي بواسطة عمالها وولاتها على أرض مباحة غير خاضعة لدولة أخرى، لأن من استولى على مال مباح غير مملوك لأحد يملكه كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد (5) .
ثانياً ـ التغيير بما يمس إقليم دولة أخرى:
100 - لهذا التغيير أحوال ثلاث هي:
1- بطريق المعاهدة: إن الصلح أو الاتفاق الصريح أو الضمني مبدأ مقرر في الإسلام سواء في وقت السلم أم في وقت الحرب، وهو من خصائص الخليفة أو الإمام الأعظم، الذي ينوب عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويعتبر تصرف الرسول فيه بطريق الإمامة والسياسة لا بطريق التبليغ والفتوى (6) .
__________
(1) الخراج: ص 91 وما بعدها.
(2) رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب، وقد سبق تخريجه.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 97/1.
(4) الاستيلاء في القانون الدولي: إدخال الدولة لبعض الأقاليم غير التابعة لدولة ما في حيازتها بغرض مباشرة اختصاصاتها الإقليمية عليها (حافظ غانم، المرجع السابق: ص323) .
(5) البدائع: 128/7.
(6) الفروق للقرافي: 207/1.(8/534)
وبالصلح يمكن تغيير وصف البلاد، فتنتقل من كونها بلاداً للحربيين إلى أن تصبح جزءاً من دار الإسلام إما بسبب اعتناق أهلها الإسلام أو بقبولهم عقد الذمة. ومن ذلك الأراضي التي يستولي عليها المسلمون صلحاً، وتتم المصالحة على أن ملك الأرض لنا فتصير بهذا الصلح وقفاً من دار الإسلام (1) . ويشمل هذا القسم أيضاً حالات التنازل (2) ومبادلة أرض بأخرى مقايضة، أو عن طريق صفقة بيع لقاء عوض معين، والاستفتاء الشعبي الناجم من حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أو بإرادته الحرة، إلا أن الاستفتاء نادر الوقوع لأن الشعب المسلم قد فوض الحاكم بانتخابه أن يفعل ما يراه محققاً للعدالة وللمصلحة العامة (3) .
2 - بطريق التقادم (4) : لا يعتبر التقادم سبباً صحيحاً من أسباب كسب الملكية أو الحقوق عموماً، (إذ لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي) وإنما هو فقط مانع للقاضي من سماع الدعوى بالحق، حماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية وتجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات ونحوه، ومدة التقادم في الأموال العامة المانعة من سماع الدعوى به هي 36 سنة (5) ويمكن الأخذ بهذا المبدأ في العلاقات الدولية.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص123 ولأبي يعلى: ص 132 وانظر أموال الحربيين للمؤلف.
(2) التنازل أي تخلي الدولة عن جزء من إقليمها نتيجة لمعاهدة أو اتفاق دولي أو تصريح صادر من الدولة صاحبة الشأن.
(3) قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ص 45 (وأما ما يلزم الرعية في حق الأمير عليهم فأربعة أشياء، أحدها: التزام طاعته والدخول في ولايته، لأن ولايته عليهم انعقدت وطاعته بالولاية وجبت، والثاني: أن يفوضوا الأمر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لاتختلف آراؤهم، فتختلف كلمتهم ويفترق جمعهم ... ) .
(4) التقادم في اصطلاح القانونيين: اكتساب الإقليم عن طريق مباشرة الاختصاص عليه على نحو مستمر وغير متنازع فيه خلال فترة من الزمن تكفي لتولد الشعور بأن الوضع القائم يتفق مع حكم القانون (حافظ غانم، المرجع السابق ص 332) .
(5) ر: الدر المختار ورد المحتار: 356/4 وما بعدها، مذكرة عن المعاملات للأستاذ زيد الأبياني: ص 17 وما بعدها، المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 102، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ف / 156.(8/535)
3 - بالفتح عند قيام موجباته (الجهاد) : الفتح هو الاستيلاء عنوة على إقليم تابع لدولة أخرى، والفتح مشروع في الإسلام عند قيام المسوغ الشرعي له، وهو دفع الاعتداء، لا من أجل الغلب والسيطرة أو للمخالفة في الدين، أو لاستغلال الشعوب واستعمارها بالمعنى الحاضر، أو لفرض أي شكل من أشكاله، أو بسبب التميز العنصري الممقوت القائم في بعض الدول الحديثة.(8/536)
المطلب الثاني ـ زوال الدولة الإسلامية:
101 - تفنى الدولة أو تزول بزوال أحد عناصرها الثلاثة السابق ذكرها وهي: السكان والإقليم والسلطة أو السيادة، إلا أن زوال السكان بالهجرة وبالكوارث الطبيعية، وزوال الإقليم بحادث طبيعي كزلزال أو طوفان شيء نادر الوقوع، والغالب هو زوال السيادة والاستقلال بالضم إلى دولة أخرى أو الحماية أو بالانتداب أو بالوصاية عليها. ويقابل هذا المعنى إجمالاً في الفقه الإسلامي بحث تحول أو تغير وصف الدار من دار إسلام إلى دار حرب، وفيه اختلف الفقهاء:
فقال أبو حنيفة والزيدية، لا يتحقق اختلاف الدارين إلا بتوافر شروط ثلاثة هي:
1 - ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها وحدها.
2 - أن تكون متاخمة لدار الكفر أو الحرب.
3 - ألا يبقى مسلم ولا ذمي آمناً بالأمان السابق قبل استيلاء الكفار، وإنما يصير تحقق الأمان والاستقرار منوطاً بسلطة غير إسلامية. وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: ينقلب وصف الدار أويتحول من دار إسلام إلى دار حرب بإجراء أحكام الشرك فقط (1) .
وهذا يدل على أن زوال الدولة الإسلامية يحدث بزوال سيادة الأحكام والسلطة الإسلامية وهو الأمر الغالب كما أشرت.
وللزوال أو التوارث أو الفناء حالتان:
أولاً ـ الزوال الكلي:
102 - قد تزول الدولة زوالاً تاماً أو كلياً بزوال أحد أركانها المشار إليها سابقاً، وذلك إما بالاختيار كاتفاق الدول الإسلامية المتجزئة على إقامة وحدة سياسية فيما بينها (بالاندماج أو الالتحاق أو الاتحاد) وإما بالإجبار كالانقسام أو الانفصال، كانفصال الدولة الأموية في الأندلس عن الخلافة العباسية في بغداد، أو الفتح أو الاستيلاء أو الاتحاد الجبري، ويترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة.
ويلاحظ أنه بالرغم من زوال الدولة الإسلامية في قطر ما، فإنه قد يبقى الإقليم داراً إسلامية إذا كانت أحكام الإسلام ما زالت مطبقة فيها، كما حدث في بعض أجزاء الهند، وفلسطين لنفاذ أحكام الشريعة فيها، ولأن القاضي فيها مسلم بالرغم من تعيينه من قبل سلطة غير إسلامية.
__________
(1) البدائع: 130/7، وانظر التفصيل في دار الإسلام ودار الحرب للمؤلف: ف/34 وما بعدها.(8/537)
ثانياً ـ الزوال الجزئي:
103 - قد يحدث زوال جزئي يطرأ على بعض أنحاء الدولة نتيجة تجزئة السلطة وانفصال بعض أجزاء إقليم الدولة الأصلية وانضمامه إلى سلطة دولة أخرى، وذلك يصادم الأصل المقرر في الإسلام: وهو وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار الإسلام، كما بينت سابقاً في بحث ركن أو صفة السيادة. ولا يترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة بعكس حالة الزوال الكلي، وإنما يقتصر الأمر على انتقال جزء من الإقليم لدولة أخرى.
ويتحدد موقف السلطة الأصلية (الإمامة أو الخلافة وما في معناهما) من الجزء المنفصل في ضوء الحالتين الآتيتين:
أـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل.
104 ـ إذا انفصل جزء من دار الإسلام وأراد جماعة فيه تكوين حكومة خاصة بهم، دعاهم الخليفة إلى التزام الطاعة والانضمام إلى دار العدل أو الرجوع إلى رأي الجماعة، فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم أو يقتلوهم أو يردوهم قهراً إلى الطاعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (1) وقال أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (2) .
فإن تم إخضاع الجزء المنفصل، كان هو المراد، وتحقق الحفاظ على مبدأ الوحدة الإسلامية.
ب ـ حالة العجز عن إخضاع الجزء المنفصل.
105 - إذا تعذر على الحاكم الأصلي إخضاع الجزء المنفصل، كما حدث بين الخلافة في بغداد وبين إمارة الأمويين في الأندلس، أصبح الواقع القائم في علاقات المسلمين ببعضهم هو الذي يفرض وجوده في ضوء الاحتمالات التالية:
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم: 242/12) .
(2) أخرجه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/12) .(8/538)
1 - إذا كان الجزء المنفصل معترفاً بالسلطة الأصلية ولو اسماً، ولكنه انفصل إدارياً، كما حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر نفوذ الأتراك، حيث ظهرت بعض الدويلات الصغيرة المتنافسة، كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية (1) ، فإنه يظل معتبراً من دار الإسلام، ولا يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ لا مانع فقهاً - كما ذكرت في بحث السيادة - من تعدد السلطات الإدارية لمصلحة أخذاً برأي بعض العلماء، وكانت الولايات الإسلامية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريباً، ولكن مع الحفاظ على مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة، والإبقاء على روابط أوثق من ناحيتي الدفاع والوضع المالي.
2 - إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا، بل يدعي أنه هو صاحبها، فإن كان الجزء المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلاد الإسلامية الباقية تحت سلطة الحاكم الأصلي، فهوزوال جزئي لبعض أجزاء الدولة، وينتظر الوقت المناسب لإعادة إخضاعه إلى الأصل. وهذا كان حال بلاد فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة الأمراء ـ حيث قامت فيها عدة دول كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة، ولكن لم يترتب على الانشقاق زوال الدولة العباسية إلا بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة (656 هـ) (2) .
وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف (422-897 هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلافة الأموية في الأندلس، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى دويلات عديدة، حتى كان لكل مدينة تقريباً أميرها المستقل، مما أدى إلى فقدان البلاد نهائياً وسقوطها بيد الإسبان.
__________
(1) تاريخ الإسلامي السياسي لحسن إبراهيم: 1/3.
(2) المرجع السابق: 26/3.(8/539)
وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الأصل أو مساوياً له، فيمكن اعتباره (دولة إسلامية) (1) إذا توافرت جميع عناصر الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة، ولكنها لا تمثل (الدولة الإسلامية) بمفهومها العام، لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلاد، كما تقضي بذلك مبادئ الإسلام.
وفي الماضي شهدت البلاد تجزئة سياسية من هذا النوع، لا سيما عند إحياء الخلافة الأموية في الأندلس سنة (300 هـ) ، بعد أن كان أمراء بني أمية فيها يلقبون أنفسهم بلقب (الأمير) أو نحوه. وحينئذ أصبح في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ثلاث خلافات: الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في المهدية بتونس، والخلافة الأموية في قرطبة.
106 - والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا الانقسام ويعتبرون الأمويين في الأندلس والأدارسة في المغرب الأقصى بغاة يحاربون، فإنهم في الواقع لم يحكموا بزوال الصفة الإسلامية عن الأجزاء المنفصلة، وإنما هي بلاد إسلام، لأن البغاة ليسوا كفاراً، وإنما يطبقون الأحكام الشرعية مع تأويل بعضها. وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلامية) ينقصها الانضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في القرون الثلاثة الهجرية الأولى التي وصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم بأنها (خير القرون) .
ولكن الذي لا شك فيه أنه نجم عن هذا الانقسام السياسي ضعف الدولة الإسلامية وزوالها التدريجي لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة.
__________
(1) بالتنكير الذي يدل على وحدات جزئية.(8/540)
المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خلفها (التعاقب)
107 - لم يتعرض الفقهاء المسلمون عموماً لتفصيل الأحكام الناجمة عن زوال الدولة الإسلامية زوالاً كلياً أو جزئياً (1) أو بسب التعاقب بين سيادتين: سيادة الدولة القديمة وسيادة الدولة الجديدة التي حلت محل السيادة القديمة.
وفي حال زوال الدولة غير الإسلامية لتحل محلها دولة إسلامية قرر الفقهاء أن بلاد تلك الدولة تصبح غنيمة تؤول ملكيتها للدولة المسلمة، وحينئذ إما أن توزع على المسلمين كالغنائم الحربية، أو تترك الأراضي بيد أهلها مقابل خراج يؤدونه عنها كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق (2) .
وعلى كل فيمكن بحث الآثار المترتبة على تحول الدولة وزوالها في النواحي التالية بالاهتداء بالأحكام العامة في الفقه الإسلامي على الوجه الآتي:
أولاً - بالنسبة للمعاهدات:
108 - أـ إذا كان زوال الدولة الإسلامية كلياً بضمها إلى دولة أخرى، فإن المعاهدات التي كانت قد أبرمتها تصبح منتهية ما لم تكن محققة لمصلحة أو لأغراض إنسانية وتحترمها الدولة الوارثة، كما أقر الرسول صلّى الله عليه وسلم حلف الفضول الإنساني الذي عقد في الجاهلية بحضوره لحماية الفضيلة ورعاية الجار وإكرام الضيف وعدم سفك الدماء ونصرة المظلوم (3) .
__________
(1) حسن إبراهيم، المرجع السابق: 253/3 وما بعدها.
(2) كل ما ذكروه كما عرفنا هو بحث كيفية التحول أو التغير من دار إسلام إلى دار حرب وبحث إمكان تملك العدو بلاد الإسلام بالقهر والاستيلاء أو عدم إمكانه (ر: أموال الحربيين للمؤلف) .
(3) سيرة ابن هشام: مجلد 33/1 وما بعدها.(8/541)
والسبب في انتهاء تلك المعاهدات هو انتهاء الشخصية المعنوية للدولة الزائلة عملاً بالحكم الفقهي المقرر في نطاق العقود المدنية الخاصة، وهوأن الوكالة مثلاً تنتهي بموت الموكل (1) . وبما أن عاقد المعاهدة نائب أو ممثل عن الدولة، فإن المعاهدة التي كان أبرمها تنتهي بزوال شخصيتها التي عقدت المعاهدة من أجلها.
ب ـ وأما في حال الزوال الجزئي، فإن المعاهدة تظل قائمة مع دولة الأصل لبقاء شخصيتها الدولية. وهذا شبيه بما قرره فقهاؤنا من بقاء عقد الصلح أو الموادعة بالرغم من موت العاقد أو عزله (2) .
ثانياً ـ بالنسبة للديون:
109 - في حالة الزوال الكلي تتحمل مبدئياً الدولة الجديدة التزامات وديون الدولة القديمة تطبيقاً للقاعدة الإسلامية المعروفة وهي (الغرم بالغنم) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الديون السابقة مثلاً ثقيلة العبء، وموارد الدولة القديمة لا تكفي لتسديدها، فلا يمكن مطالبة الدولة الجديدة بتحمل كل تلك الديون دفعاً للضرر عنها إذ لا ضرر ولا ضرار، ويستحسن تسوية الأمر باتفاقات مع الدائنين كما يحدث في حالة تصفية أموال المفلس مثلاً.
ب ـ وأما في حالة الزوال الجزئي، فإن الدولة الأصلية هي المسؤولة عن الديون لبقاء شخصيتها الدولية، ولأن ذمتها المالية ضمان عام لجميع الديون بغض النظر عن أوضاع جزء معين من أجزاء الدولة أو مواردها المالية من أية جهة كانت.
لكن تقضي العدالة ـ في تقديري ـ أن تتحمل الدولة الوارثة جزءاً من هذه
__________
(1) البدائع: 38/6.
(2) المغني: 462/8، مغني المحتاج: 261/4، البحر الزخار: 450/5 و 455. الديون إذا كان الجزء المنضم إليها كبيراً، أو كانت الديون من أجل هذا الجزء المضموم.(8/542)
ثالثاً ـ بالنسبة لأملاك الدولة العامة:
110 - أـ إذا زالت الدولة كلياً، انتقلت كل حقوقها المالية وأملاكها العامة والخاصة إلى الدولة الوارثة، لأن الذمة المالية الخاصة بالدولة تلازم شخصيتها، وتتبع المسؤول عنها.
ب ـ وأما إذا كان زوال الدولة جزئياً بانتقال جزء من اقليمها لدولة أخرى، فتنتقل الأملاك العامة والخاصة بذلك الجزء المنضم المملوكة له إلى الدولة الوارثة.
رابعاً ـ بالنسبة للتشريع:
111 - يسري تشريع الدولة الوارثة وأنظمتها السياسية والإدارية والقضائية والمالية لزوال سلطة الدولة المورثة؛ لأن القوانين النافذة فرع عن وجود السلطة، والسلطة تتبع الإقليم، وإذا زال الإقليم لم يبق مجال للسلطة، لكن يستثنى من ذلك عادة الأحكام الخاصة بالعقائدوالأوضاع الدينية والأحوال الشخصية، فهذه تظل القوانين السابقة فيها هي المطبقة منعاً من المشكلات ورعاية لمبدأ الحرية الدينية ما لم يتصادم ذلك مع النظام العام.
خامساً ـ بالنسبة للأحكام القضائية:
112 - إن إصدار وتنفيذ الأحكام القضائية مدنية أو جزائية مرهون بإرادة السلطة الضامة أو الوارثة، لعدم وجود سلطة للدولة المورثة، وقد قرر فقهاؤنا أن العقاب والجزاء والفصل في الخصومات منوط بولي الأمر الحاكم. هذا مع احترام المبادئ المسلم بها قانوناً كحماية الحقوق المكتسبة ورعاية مبادئ الحق والعدالة، وعدم الإخلال بالأمن والنظام واحترام الأعراف الدولية في القضاء والتنفيذ.
سادساً ـ بالنسبة لجنسية الأفراد:
113 - يفقد أفراد الدولة الزائلة جنسيتهم القديمة بداهة بزوال دولتهم ويكتسبون جنسية الدولةالضامة باستثناء العناصر الخطرة، لأن الجنسية علاقة قانونية تنشئها الدولة بالتشريع، إلا أن التشريع لا يهمل إرادة الفرد دائماً، لذا فإنه قد يمكن تخيير الأفراد بين الاحتفاظ بجنسيتهم القديمة أو قبول الجنسية الجديدة.(8/543)
أهم المراجع لهذا الفصل
أـ تفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف:
1 - تفسير الكشاف للزمخشري، طبع البابي الحلبي.
2 - أحكام القرآن لابن العربي، طبع البابي الحلبي.
3 - تفسير ابن كثير، ط الحلبي.
4 - تفسير المنار لرشيد رضا، الطبعة الرابعة.
5 - جامع الأصول لابن الأثير، مطبعة السنة المحمدية بمصر.
6 - مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي، مكتبة القدسي بالقاهرة.
7 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، ط الأولى.
8 - تلخيص الحبير لابن حجر، شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة وأحياناً التلخيص الحبير، طبع الهند.
9 - نيل الأوطار للشوكاني، المطبعة العثمانية المصرية.
10 - سبل السلام للصنعاني، ط البابي الحلبي.
ب - الفقه الإسلامي:
1 - الخراج لأبي يوسف، المطبعة السلفية بالقاهرة.
2 - شرح السير الكبير للسرخسي، ط الأولى.
3 - البدائع للكاساني، ط الأولى.
4 - فتح القدير مع الهداية، ط مصطفى محمد بالقاهرة.
5 - رد المحتار مع الدر المختار، ط البابي الحلبي.
6 - حجة الله البالغة للدهلوي، ط الأولى.
7 - الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي، ط البابي الحلبي.
8 - القوانين الفقهية لابن جُزَيْ، ط فاس.
9 - مغني المحتاج للخطيب الشربيني، ط البابي الحلبي.
10 - الأحكام السلطانية للماوردي، ط صبيح بمصر.
11 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ط البابي الحلبي.
12 - القواعد لابن رجب، ط الصدق الخيرية بمصر.
13 - المغني لابن قدامة الحنبلي، ط الثالثة بمصر.
14 - الحسبة في الإسلام لابن تيمية، المكتبة العلمية بالمدينة.
15 - السياسة الشرعية لابن تيمية، ط الثالثة بدار الكتاب العربي بمصر.
16 - المحلى لابن حزم، ط الإمام بمصر.
17 - البحر الزخار لابن المرتضى، ط الأولى.
18 - الخلاف في الفقه للطوسي، ط الثانية.(8/544)
جـ ـ المؤلفات الحديثة:
1 - السياسة الشرعية للشيخ عبد الوهاب خلاف، ط السلفية بمصر.
2 - النظريات السياسية الإسلامية د: ضياء الدين الريس، ط ثانية.
3 - مبادئ القانون الدولي العام د: حافظ غانم، ط ثانية.
4 - الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، ونظم الحكم والإدارة في الإسلام والقوانين الوضعية للأستاذ علي منصور، طبع القاهرة.
5 - أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية د: حامد سلطان، طبع النهضة العربية.
6 - النظم السياسية د: ثروت بدوي، طبع دار النهضة العربية.
7 - الخلافة والإمامة د: عبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي بمصر.
8 - نظام الحكم في الإسلام د: محمد يوسف موسى، الطبعة الثانية.
9 - السلطات الثلاث، د سليمان محمد الطماوي، طبع معهد الدراسات العربية العالية بمصر.
10 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، للشيخ محمد الخضر حسين، المطبعة السفلية بمصر.
11 - نظام الحكم في الإسلام، د: محمد عبد الله العربي، دار الفكر بلبنان.
12 - المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، د: محمد عزيز شكري، دار الكتاب بدمشق.
13 - منهاج الإسلام في الحكم، محمد أسد، دار العلم للملايين.
14 - الإسلام وأوضاعنا القانونية، الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر عودة، الطبعة الثانية.
15 - نظرية الإسلام وهديه في السياسةوالقانون والدستور لأبي الأعلى المودودي دار الفكر بدمشق.
16 - نحو مجتمع إسلامي، سيد قطب، الطبعة الأولى.
17 - موجز القانون الدستوري د: عثمان خليل وسليمان الطماوي، دار الفكر العربي، ط الرابعة.
18 - عبقرية الإسلام في أصول الحكم، د: منير العجلاني، دار الكتاب الجديد.
19 - النظم الإسلامية، د: صبحي الصالح، دار العلم للملايين.
20 - الشرع الدولي في الإسلام د: نجيب الأرمنازي، مطبعة ابن زيدون بدمشق.
21 - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر بلبنان.
22 - مجموعة الوثائق السياسية د: محمد حميد الله، ط الثانية.
23 - مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، د: محمد عبد الله دراز، مطبعة الأزهر.
24 - التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، الطبعة الثانية بدار العروبة في مصر.
25 - الإسلام وأصول الحكم ـ بحث الخلافة والحكومة في الإسلا م ـ للأستاذ علي عبد الرازق، الطبعة الأولى.
26 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د: عبد الحميد متولي، طبع دار المعارف بمصر سنة 1966.(8/545)
..............................بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ................................
...........................شرعة حقوق الإنسان في الإسلام (1) .........................
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فإن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إيماناً منها بالله رب العالمين، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه فجعله في الأرض خليفة ووكل إليه عمارتها وإصلاحها، وحمّله أمانة التكاليف الإلهية لخيره وتكريماً لإنسانيته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً.
وتصديقاً برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم الذي أرسله الله بالهدى والرحمة ودين الحق لتحرير الإنسان من الاستبداد والاستغلال والطغيان، وتحقيق المساواة بين البشر كافة فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وإلغاء الفوارق العنصرية واللونية والطبقية واستئصال كل ما يزرع الفرقة والحقد والكراهية بين الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة.
وانطلاقاً من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام والتي دعت البشر كافة ألا يعبدوا إلاّ الله ولا يشركوا به شيئاً، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، مما أدى إلى انتفاء عبودية الإنسان للإنسان وتعزيز حريّة البشر وضمان كرامتهم.
وتأكيداً للدور الحضاري للأمة الإسلامية وتجديداً لتاريخها وتعزيزاً لكونها أمة وسطاً تدعو إلى عالم متوازن يصل الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة والعلم بالإيمان.
وإسهاماً بالتصدي لمشكلات الحضارة بتقديم أنجح الحلول لها مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية.
واستكمالاً للجهود البشرية المتعددة في رعاية حقوق الإنسان في العصور الحديثة وبخاصةما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من إعلان واتفاقيات هدفت إلى حماية الإنسان وتوفير حريته وضمان حقوقه.
__________
(1) أقر مؤتمر القمة الإسلامي هذا المشروع بعد إجراء تعديلات طفيفة عليه، وكنت المشارك في إعداده من الناحية الشرعية، مع أساتذة دكاترة آخرين؛ وهم عدنان الخطيب، وشكري فيصل ورفيق جويجاتي، بتكليف من وزارة الأوقاف السورية بدمشق عام 1401هـ / 1980م.(8/546)
ويقيناً منا بأنّ البشرية على ما بلغت من شأوٍ بعيد في مدارج العلم المادي لاتزال في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها ينمّي الوازع الذاتي ويقظة الضمير.
نعلن ما يلي:
1 - الحقوق الأساسية
المادة الأولى
أـ البشر في كل أقطارهم أسرة واحدة، مخلوقون من نفس واحدة، متساوون في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأكرمهم عند الله أتقاهم وأنفعهم لعباده. ب ـ لا تمييز بين الناس بسبب اختلاف العرق أو اللغة أو الديار أو الجنس أو العقيدة (1) أو الانتماء السياسي أو الوضع الإجتماعي.
المادة الثانية
يولد الإنسان حراً، ولا عبودية لغير الله تعالى، وليس لمخلوق أن يستعبده، أو يذله أو يستغله.
المادة الثالثة
أـ حق الحياة مكفول بالشريعة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدولة حماية هذا الحق من كل اعتداء.
ب ـ يُحرّم اللجوء إلى أية وسيلة تفضي لإفناء النوع البشري كلياً أو جزئياً.
جـ ـ استمرار الحياة البشرية أحد أصول الإسلام لا يجوز تعطيله بمناهضة الزواج ولا الانتقاص منه بمنع الإنجاب، ولا إباحة الإجهاض لغير ضرورة شرعية.
د ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمناً على نفسه وأهله وسمعته الاجتماعية وماله متحرراً من كل أنواع الخوف.
المادة الرابعة
أـ التدين حق لكل إنسان، ولا إكراه في الدين. فلا يجوز حرمانه منه، ولا ممارسة أي ضغط عليه للتخلي عنه.
ب ـ يتعين على المسلم ـ وقد اهتدى إلى الإسلام بالإيمان بوجود الله والاعتراف بوحدانيته ـ الثبات عليه.
__________
(1) أي في الحقوق الإنسانية، وأكرمهم عند الله أتقاهم.(8/547)
2 - الحقوق السياسية
المادة الخامسة
أـ حرية الرأي والتعبير عنه بالوسائل المشروعة مصونة، ولكل إنسان حق ممارستها في حدود مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق.
ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة بالحكمة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله أن يشترك مع غيره من الأفراد والجماعات في ممارسة هذا الحق والدفاع عنه لصالح المجتمع وخيره.
المادة السادسة
لكل إنسان الحق في:
أـ أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقاً للأنظمة المقررة بمقتضى الشريعة.
ب ـ أن يشارك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
جـ ـ أن يتقلد الوظائف العامة وفق الضوابط المشروعة.
3 - حقوق الأسرة
المادة السابعة
أـ الأسرة عماد المجتمع المسلم، والزواج أساس وجودها، وهو واجب (1) على الرجال والنساء، يرغّب الإسلام في ممارسته ولا يحول دون التمتع به أي قيد منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إلا لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة.
ب ـ على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج، وتيسير وسائله.
جـ ـ التراضي أساس في عقد الزواج، وإنهاؤه لا يكون إلا وفق أحكام الشريعة.
المادة الثامنة
أـ المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في الإنسانية، ولها من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات.
ب ـ الرجل قيِّم على الأسرة ومسؤول عنها، وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وتحتفظ باسمها ونسبها.
المادة التاسعة
أـ لكل طفل، منذ ولادته، حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية والرعاية المادية والأدبية.
ب ـ على المجتمع والدولة حماية الأمومة وتعهدها برعاية خاصة.
جـ ـ من حق الأب أن يختار لطفله التربية الملائمة في ضوء القيم الأخلاقية والإسلامية.
__________
(1) أي وجوباً اجتماعياً عاماً في الجملة، وإن كان هو تفصيلاً مباحاً أو مندوباً أو واجباً بحسب الأحوال المبينة فقهاً.(8/548)
4 - حق الانتماء والجنسية
المادة العاشرة
حق الإنسان في الانتماء لأبيه وقومه غير قابل للإنكار أو الإسقاط.
المادة الحادية عشرة
حق الإنسان في التمتع بجنسية بلده مصون، ولا يجوز حرمانه منه تعسفاً. وله حق تغيير الجنسية.
5- حقوق التعليم والتربية
المادة الثانية عشرة
أـ طلب العلم فريضة على كل إنسان.
ب ـ التعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليهما تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة الجماعة، ويتيح للإنسان معرفة دين الله تعالى، وحقائق الكون وتسخير الطبيعة لصالح البشرية وغيرها. وهو إلزامي في مراحله الأولى على الأقل.
المادة الثالثة عشرة
على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة، من أسرة ومدرسة وجامعة وأجهزة إعلام وغيرها، أن تعمل على تربية الإنسان دينياً ودنيوياً تربية كاملة ومتوازنة بحيث تقوّي إيمانه بالله تعالى وتنمّي شخصيته، وتعزز احترامه للحقوق وقيامه بالواجبات.
6 - حقوق العمل والضمان الاجتماعي
المادة الرابعة عشرة
أـ العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل المشروع الذي يلائمه.
ب ـ على العامل إتقان عمله والإخلاص فيه، وله حقه في الأجر العادل الكافي مقابل عمله، وله الحق في كل الضمانات المتعلقة بالسلامة والأمن.
جـ ـ إذا اختلف العمال وأرباب العمل فمن حقهم على الدولة والقضاء التدخل دون تمييز، لرفع الظلم وإقرار الحق.
المادة الخامسة عشرة
لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الضمان الاجتماعي بأنواعه المختلفة، بما يمكن له من العيش الكريم في الغذاء والكساء والعلاج والتعليم.(8/549)
7 - حقوق الكسب والانتفاع والملكية الأدبية
المادة السادسة عشرة
لكل إنسان الحق في الكسب المشروع، على ألا يحتكر ولا يغشّ ولا يضرّ بفرد أو جماعة. المادة السابعة عشرة
أـ لكل إنسان الحق في الانتفاع من ثمرات الإنتاج الإنساني في ميادين العلم النظرية والتطبيقية.
ب ـ ولكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني على ألا ينافي هذا الإنتاج مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق.
جـ ـ على الدولة حماية هذه الحقوق.
8 - حقوق التقاضي
المادة الثامنة عشرة
أـ حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع.
ب ـ الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
المادة التاسعة عشرة
الأصل في الإنسان البراءة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تتوافر له فيها كل ضمانات الدفاع، والشبهة تُفسّر لصالحه.
المادة العشرون
ـ مسؤولية الإنسان عن أفعاله في أساسها شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص.
ب ـ لا يجوز، بغير موجب شرعي، القبض على إنسان أو تقييد حريته أو نفيه أو تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي، أو لأي معاملة منافية للكرامة الإنسانية. وكل تدبير أو نص يجيز ذلك يُعد هدراً للحق الإنساني ومنافياً للشرع الإلهي.
المادة الحادية والعشرون
أـ لكل إنسان الحق في الاعتراف له بشخصيته الشرعية من حيث أهليته للإلزام والتزام.
ب ـ لكل إنسان حقه في الاستقلال بحياته الخاصة وأسرته وماله واتصالاته الاجتماعية، ولا يجوز التجسس عليه أو الإساءة إلى سمعته. ويجب على الدولة حمايته من كل تدخل تعسفي.
9 - حق التنقل واللجوء
المادة الثانية والعشرون
أـ لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها مع مراعاة الضوابط المشروعة لذلك.
ب ـ للمضطهد حق اللجوء إلى دولة أخرى، وعلى الدولة التي لجأ إليها أن تجيره حتى يبلغ مأمنه.
10 - حقوق وواجبات أثناء الحروب
المادة الثالثة والعشرون
في حالة الحرب لا يجوز قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمنقطعين للعبادة وغيرهم ممن لا مشاركة لهم في القتال، ولا يقطع الشجر ولا تُنهب الأموال ولا تُخرب المنشآت المدنية ولا يُمثّل بالقتيل. وللجريح الحق في أن يداوى وللأسير أن يُطعم ويؤوى.
11 - حرمة الميت
المادة الرابعة والعشرون
حرمة الموت واجبة شرعاً، وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمان الميت ودفنه وتنفيذ وصاياه وفقاً لأحكام دينه، ومنع التشهير به.(8/550)
12 - حدود هذه الوثيقة الشرعية وتفسيرها
المادة الخامسة والعشرون.
أـ كل الحقوق والحريات والواجبات المقررة في هذه الوثيقة مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
ب - الشريعة الإسلامية بمصادرها الأساسية المعتمدة هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة. ويرجع عند الاختلاف إلى أهل العلم المتخصصين.
انتهى الجزء الثامن
ويليه الجزء التاسع
وأوله الأحوال الشخصية(8/551)
...................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ................................
.........................................الجزء التاسع.....................................
القسْمُ السَّادسُ: الأحوال الشّخْصيَّة
خطة البحث: يشتمل هذا القسم على ستة أبواب:
الباب الأول ـ الزواج وآثاره.
الباب الثاني ـ انحلال الزواج وآثاره، وفيه فصول أربعة عن الطلاق، والخلع، والتفريق القضائي، والعدة.
الباب الثالث ـ حقوق الأولاد: من نسب، ورضاع، وحضانة، وولاية، ونفقات الزوجة والأولاد.
الباب الرابع ـ الوصايا.
الباب الخامس ـ الوقف.
الباب السادس ـ الميراث أو الفرائض
تمهيد
المقصود بالأحوال الشخصية: الأحوال الشخصية اصطلاح قانوني أجنبي يقابل الأحوال المدنية أو المعاملات المدنية، وقسم الجنايات. وقد اشتهر في الجامعات، وأصبح عنوان التأليف في أحكام الأسرة.
ويراد به الأحكام التي تتصل بعلاقة الإنسان بأسرته، بدءاً بالزواج، وانتهاء بتصفية التركات أو الميراث، وهي تشمل ما يأتي:
1ً - أحكام الأهلية والولاية والوصاية على الصغير، وقد بحثت في النظريات الفقهية.
2ً - أحكام الأسرة من خطبة وزواج وحقوق الزوجين من مهر ونفقة، وحقوق الأولاد من نسب ورضاع ونفقات، وانحلال الزواج بإرادة الزوج كالطلاق والخلع، أو بالتفريق القضائي كالإيلاء واللعان والظهار، والتفريق للعيب والغيبة والضرر وعدم الإنفاق.
3ً - أحكام أموال الأسرة من ميراث، ويسمى فقهاً (الفرائض) ، ووصايا وأوقاف ونحوها مما يعد تصرفاً مضافاً لما بعد الموت.
وقد حددت المادة (13) من قانون القضاء في مصر، رقم (147) لسنة (1949م) ما يعد من الأحوال الشخصية، وهي الفئات الثلاث السابقة، وصدرت قوانين الأحوال الشخصية في سورية وتونس والأردن والعراق والمغرب الأقصى متضمنة أحكام الزواج والأهلية والوصاية على الصغير والوصية، والإرث، إلا أن قانون العراق المشتمل على أحكام المذهبين السني والجعفري لم يتضمن كل أحكام الأحوال الشخصية، وهو فيما عدا المذهب الجعفري اختصار لكتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا على مذهب الحنفية. وصدر في مصر قوانين خاصة بالميراث عام (1943م) ، والوقف عام (1946م) ، والوصية عام (1946م) ، وأخيراً صدر قانون في الأحوال الشخصية في أواخر السبعينات في عهد السادات.(9/1)
البَاب الأوَّل: الزّواج وآثاره
فيه فصول سبعة:
الفصل الأول ـ مقدمات الزواج: النظر والخطبة.
الفصل الثاني ـ تكوين الزواج ـ معناه وحكمه، وأركانه وشروطه، وأنواعه وحكم كل نوع، وما يستحب فيه.
الفصل الثالث ـ المحرَّمات من النساء.
الفصل الرابع ـ الأهلية والولاية والوكالة في الزواج.
الفصل الخامس ـ الكفاءة في الزواج.
الفصل السادس ـ آثار الزواج ـ المهر وأحكامه، الخلوة وأحكامها، المتعة المادية بعد الطلاق أو قبل الدخول.
الفصل السابع ـ حقوق الزواج وواجباته.
وأبحث هذه الفصول في المذاهب تباعاً.
الفَصْلُ الأوَّل: مقدّمات الزّواج
الخطبة: معناها، حكمتها، أنواعها، ما يترتب على الخطبة، الخطبة على الخطبة، مقومات المرأة المخطوبة، من تباح خطبتها، خطبة المعتدة، رؤية المخطوبة، مقدار ما يباح النظر إليه، وقت الرؤية وشرطها، تحريم الخلوة بالمخطوبة، العدول عن الخطبة وأثره.(9/2)
أولاً ـ أنواع مقدمات الزواج: ذكر ابن رشد (1) أربع مقدمات للزواج هي حكم الزواج شرعاً، وحكم خُطْبة العقد، والخِطْبة على الخطبة، والنظر إلى المخطوبة قبل التزويج، وسأبحث الأمرين الأولين في بحث تكوين الزواج، وأما الأمران الآخران فمحل بحثهما هنا.
والسبب في عناية الشرع بهذه المقدمات: هوا لحرص على إقامة الزواج على أمتن الأسس، وأقوى المبادئ، لتتحقق الغاية الطيبة منه، وهي الدوام والبقاء، وسعادة الأسرة، والاستقرار ومنع التصدع الداخلي، وحماية هذه الرابطة من النزاع والخلاف، لينشأ الأولاد في جو من الحب والألفة والود والسكينة واطمئنان كل طرف إلى الآخر، قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم:21/30] .
ثانياً ـ معنى الخِطْبة: الخطبة: هي إظهار الرغبة في الزواج بامرأة معينة، وإعلام المرأة وليها بذلك. وقد يتم هذا الإعلام مباشرة من الخاطب، أو بواسطة أهله.
فإن وافقت المخطوبة أو أهلها، فقد تمت الخطبة بينهما، وترتبت عليها أحكامها وآثارها الشرعية التي سأذكرها.
ثالثاً ـ حكمة الخطبة: الخطبة كغيرها من مقدمات الزواج طريق لتعرُّف كل من الخاطبين على الآخر، إذ أنها السبيل إلى دراسة أخلاق الطرفين وطبائعهما وميولهما، ولكن بالقدر المسموح به شرعاً، وهو كاف جداً، فإذا وجد التلاقي والتجاوب أمكن الإقدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة في الحياة، واطمأن الطرفان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلام وأمان، وسعادة ووئام، وطمأنينة وحب، وهي غايات يحرص عليها كل الشبان والشابات والأهل من ورائهم.
__________
(1) بداية المجتهد: 2/2.(9/3)
رابعاً ـ أنواع الخطبة: الخطبة إما أن تكون بإبداء الرغبة فيه صراحة، كأن يقول الخاطب: أريد الزواج من فلانة، وإما أن تكون مفهومة ضمنا أو بالتعريض والقرائن، بمخاطبة المرأة مباشرة، كأن يقول لها: إنك جديرة بالزواج، أو يسعد بك صاحب الحظ، أو أبحث عن فتاة لائقة مثلك، ونحوها.
خامساً ـ ما يترتب على الخطبة: الخطبة مجرد وعد بالزواج، وليست زواجاً (1) ، فإن الزواج لا يتم إلا بانعقاد العقد المعروف، فيظل كل من الخاطبين أجنبياً عن الآخر، ولا يحل له الاطلاع إلا على المقدار المباح شرعاً وهو الوجه والكفان، كما سيأتي. نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م2) على ما يلي: الخطبة والوعد بالزواج وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الهدية، لا تكون زواجاً.
سادساً ـ الخطبة على الخطبة: يترتب على الخطبة أيضاً حرمة التقدم لخطبة المرأة ممن كان يعلم بتمام خطبتها لغيره، فقد أجمع العلماء على تحريم الخطبة الثانية على الخطبة الأولى إذا كان قد تم التصريح بالإجابة، ولم يأذن الخاطب الأول، ولم يترك الخطبة، فإن خطب الثاني وتزوج والحال هذه فقد عصى، باتفاق العلماء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه (2) ، ولا يخطب على خِطْبة أخيه، إلا أن يأذن له» (3) ، وفي رواية البخاري: «نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب» (4) .
هذا النهي صريح في تحريم الخطبة الثانية بعد تمام الموافقة على الخطبة الأولى لخطيب آخر، لما فيها من إيذاء الخاطب الأول، وتوريث عداوته، وزرع الضغينة في نفسه، فإن عدل أحد الطرفين أو أذن لغيره بالتقدم للخطبة، جاز ذلك.
أما إن لم تتم الخطبة الأولى، وكان الأمر في حال مشاورة أو تردد، فالأصح عدم التحريم، ولكن تكره عند الحنفية الخطبة، لإطلاق الأحاديث السابقة الواردة
__________
(1) إن ما يشيع بين الناس من أن قراءة الفاتحة تبيح كل شيء هو غلط محض، ومنكر قبيح وجهل بأحكام الدين، فذلك كله مجرد وعد لا عقد، والعقد وحده هو الذي يبيح ما كان محرماً قبله.
(2) ولكن استثني من ذلك بيع المزايدة: وهو البيع ممن يزيد، فليس من المنهي عنه، وهذه حالة المزاد العلني اليوم (سبل السلام: 23/3) .
(3) رواه أحمد ومسلم عن ابن عمر (نيل الأوطار:167/5-168، سبل السلام: 22/3-23، 113) .
(4) ورواه أيضاً ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني.(9/4)
في النهي عن الخطبة على خطبة الغير، والبيع على البيع أو السوم على السوم، أي بعد الاتفاق على البيع وقبل عقده.
وأباح الجمهور الخطبة الثانية؛ لأن فاطمة بنت قيس خطبها ثلاثة: وهم معاوية، وأبو جهم بن حذافة، وأسامة بن زيد، بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص ابن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه، فجاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فقال: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد» (1) فهذا يدل على جواز تقدم أكثر من خطيب إذا لم تقبل المرأة الخطبة، لكن يظهر أن ذلك إذا لم يعلم الخاطب أن غيره قد تقدم لخطبة تلك المرأة، مما يدل على رجحان الرأي الأول.
وعلى كل حال فالأدب الإسلامي يقضي بالتريث إلى أن تنتهي فترة التردد والمفاوضات والمشاورات التي تحدث عادة، حفاظاً على صلة الود والمحبة بين الناس، وبعداً عن إيجاد العداوة وزرع الأحقاد في النفوس.
__________
(1) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس، وهي امرأة قرشية أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول، كانت ذات جمال وفضل وكمال (سبل السلام: 129/3) .(9/5)
سابعاً ـ مقومات المرأة المخطوبة:
حرص الإسلام على ديمومة الزواج بالاعتماد على حسن الاختيار، وقوة الأساس الذي يحقق الصفاء والوئام، والسعادة والاطمئنان، وذلك بالدين والخلق، فالدين يقوى مع مضي العمر، والخلق يستقيم بمرور الزمن وتجارب الحياة، أما الغايات الأخرى التي يتأثر بها الناس من مال وجمال وحسب، فهي وقتية الأثر، ولا تحقق دوام الارتباط، وتكون غالباً مدعاة للتفاخر والتعالي، واجتذاب أو لفت أنظار الآخرين.
لذا قال عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، ترِبت يداك» (1) أي أن الذي يرغب في الزواج ويدعو الرجال إليه عادة أحد هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بأنه إذا وجدوا ذات الدين، فلا يعدلوا عنها، وإلا أصيب الرجل بالإفلاس والفقر.
ثم نهى صلّى الله عليه وسلم صراحة عن زواج المرأة لغير دينها، وحذر من عاقبة المال والجمال، فقال: «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فلعله يرديهن، ولا لمالهن فلعله يطغيهن، وانكحوهن للدين، ولأمة سوداء خرقاء ذات دين أفضل» (2) .
وورد في صفة خير النساء: «قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ قال: التي تسره إن نظر، وتطيعه إن أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» (3) وللبيئة تأثير كبير، فلا يغترن الشاب بجمال في بيئة ذات تربية وضيعة، روى الدارقطني والديلمي عن أبي سعيد مرفوعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إياكم وخضراء الدِّمَن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» لكن قال الدارقطني: لا يصح من وجه.
وحسن اختيار المرأة ذو هدفين، إسعاد الرجل، وتنشئة الأولاد نشأة صالحة تتميز بالاستقامة وحسن الأخلاق، لذا قال عليه الصلاة والسلام: «تخيروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم» (4) .
__________
(1) متفق عليه بين أصحاب الكتب السبعة (أحمد والكتب الستة) عن أبي هريرة. والحسب: هو الفعل الجميل للرجل وآبائه (سبل السلام: 111/3) .
(2) أخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً (المرجع السابق) .
(3) أخرجه النسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه (المرجع السابق) .
(4) حديث صححه الحاكم عن عائشة، ورواه الحاكم وابن ماجه والبيهقي والدارقطني، وقال عنه أبو حاتم الرازي: ليس له أصل، وقال ابن الصلاح: له أسانيد فيها مقال.(9/6)
ويمكن تلخيص ضوابط مقومات المرأة المخطوبة على النحو الآتي كما أبان الشافعية والحنابلة وغيرهم (1) ، فقالوا: يستحب ما يلي:
1ً - أن تكون المرأة ديِّنة، للحديث السابق: «فعليك بذات الدين» .
2ً - أن تكون ولوداً، لحديث: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (2) . ويعرف كون البكر ولوداً بكونها من نساء يعرفن بكثرة الأولاد.
3ً - أن تكون بكراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لجابر: «فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟» (3) .
4ً - وأن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة؛ لأنه مظنّة دينها وقناعتها.
5ً - وأن تكون حسيبة: وهي النسيبة، أي طيبة الأصل، ليكون ولدها نجيباً، فإنه ربما أشبه أهلها ونزع إليها، لحديث «ولحسبها» .
ولا ينبغي تزوج بنت زنا ولقيطة ومن لا يعرف أبوها، أي أن الزواج حينئذ مكروه. مباح غير حرام، وأما آية: {الزاني لاينكح إلا زانية..} [النور:3/24] فمنسوخة، أو شأنه ذلك.
__________
(1) كشاف القناع: 7/5-8، مغني المحتاج: 126/3 ومابعدها، الشرح الصغير: 341/2.
(2) رواه سعيد بن منصور في سننه، وأبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده عن معقل بن يسار.
(3) متفق عليه.(9/7)
6ً - وأن تكون جميلة؛ لأنها أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأكمل لمودته، ولذلك جاز النظر قبل الزواج، ولحديث أبي هريرة السابق: «قيل: يا رسول الله، أي النساء خير؟ ... » لكن كره الشافعية خطبة المرأة الفائقة الجمال.
7ً - وأن تكون أجنبية غير ذات قرابة قريبة؛ لأن ولدها يكون أنجب، وقد قيل: «إن الغرائب أنجب، وبنات العم أصبر» ولأنه لا يأمن الطلاق، فيفضي مع
القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها، واستدل الرافعي لذلك تبعاً للوسيط بحديث: «لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً» أي نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة.
8ً - ألا يزيد على واحدة إن حصل بها الإعفاف، لما فيه من التعرض للمحرم، قال الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء:129/4] وقال صلّى الله عليه وسلم: «من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وشقه مائل» (1) .فالأصل وحدة الزوجية لا التعدد.
ويكره الزواج بالزانية أي المشهورة بالزنا، وإن لم يثبت عليها الزنا.
ثامناً ـ من تباح خطبتها:
الخطبة ـ كما هو واضح ـ مقدمة الزواج ووسيلته، فإذا كان الزواج بالمرأة ممنوعاً شرعاً، كانت خطبتها ممنوعة أيضاً، وإذا كان الزواج بها مباحاً شرعاً، كانت خطبتها مباحة أيضاً. وقد يوجد مانع شرعي مؤقت من الخطبة والزواج، لذا يشترط لإباحة الخطبة شرطان:
الشرط الأول ـ ألا يحرم الزواج بها شرعاً (2) :
بأن كانت من المحارم المحرمة تحريماً مؤبداً، كالأخت والعمة والخالة، أو تحريماً مؤقتاً، كأخت الزوجة، وزوجة الغير، لما في حالات المؤبد من الضرر بالأولاد والضرر الاجتماعي، ولما في المؤقت من النزاع والفساد.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) .
(2) البدائع: 256/2، 268.(9/8)
خطبة المعتدة: من حالات التحريم المؤقت: أن تكون معتدة، أي في أثناء العدة من زواج سابق (1) : فإنه يحرم باتفاق الفقهاء الخطبة الصريحة أوالمواعدة للمعتدة مطلقاً، سواء أكانت بسبب عدة الوفاة، أم عدة الطلاق الرجعي أم البائن، لمفهوم قوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خطبة النساء، أوأكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سراً، إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/2] .
والتصريح: ما يقطع بالرغبة في الزواج، مثل: أريد أن أتزوجك، وإذا انقضت عدتك تزوجتك.
وسبب تحريم الخطبة بطريق التصريح: أنه ربما تكذب في انقضاء العدة، ولأن في خطبتها اعتداء على حق المُطلِّق، والاعتداء على حق الغير حرام شرعاً، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] .
وأما الخطبة بطريق التعريض: وهو القول المفهم للمقصود وليس بنص فيه، ومنه الهدية، أو هو ما يحتمل الرغبة في الزواج وعدمها، كقوله لها: أنت جميلة، ورب راغب فيك، ومن يجد مثلك، ولست بمرغوب عنك، أو عسى أن ييسر الله لي أمرأة صالحة، أو نحو ذلك:
أـ فإن كان سبب العدة وفاة الزوج، جازت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لانتهاء الزوجية بالوفاة، فلا يكون في خطبتها اعتداء على حق الزوج ولا إضرار به.
ب ـ وإن كان سبب العدة هو الطلاق:
__________
(1) الدر المختار: 380/2، 738، أحكام القرآن للجصاص: 422/1 وما بعدها، البدائع: 268/2 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 178، الشرح الصغير: 343/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 205، المهذب: 47/2، مغني المحتاج: 135/3 وما بعدها، كشاف القناع: 17/5.(9/9)
فإن كان الطلاق رجعياً، حرمت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لأن لمن طلَّقها الحق في مراجعتها أثناء العدة، فتكون خطبتها اعتداء على حقه، فهي زوجة أو في معنى الزوجة.
وإن كان الطلاق بائناً بينونة صغرى أو كبرى، ففي خطبة المعتدة ممن طلّقها بالتعريض رأيان:
رأي الحنفية: تحريم الخطبة؛ لأن لمُطلِّقها في حالة البينونة الصغرى أن يعقد عليها مرة أخرى قبل انقضاء العدة، كما بعدها، فلو أبيحت خطبتها، لكان في ذلك اعتداء على حقوقه، ومع له من العودة إلى زوجته مرة أخرى، كالمطلقة الرجعية. وأما في حالة البينونة الكبرى فتمنع الخطبة في العدة بطريق التعريض، كيلا تكذب المرأة في الإخبار بانتهاء عدتها، ولئلا يظن أن هذا الخاطب كان سبباً في تصدع العلاقة الزوجية السابقة. وأما آية {ولا جناح عليكم} [البقرة:235/2] فهي خاصة بالمعتدات للوفاة بدليل الآية التي قبلها: {والذين يتوفون} [البقرة:234/2] .
رأي الجمهور: جواز الخطبة، لعموم الآية السابقة: {ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به ... } [البقرة:235/2] وقوله: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} [البقرة:235/2] أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض دون التصريح، ولانقطاع سلطنة الزوج عن البائن، فالطلاق البائن بنوعيه يقطع رابطة الزوجية، فلا يكون في خطبتها تعريضاً اعتداء على حق المُطلِّق، فتشبه المعتدة بسبب الوفاة.(9/10)
وأرجح مذهب الجمهور في البينونة الكبرى إذ لا ضغينة في نفس الزوج وقد أكمل الطلاق، وأرجح مذهب الحنفية في البينونة الصغرى. وإذا عقد على المعتدة زواج في العدة، ودخل الزوج بها، فسخ الزواج بالاتفاق، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه عند مالك وأحمد والشعبي، فلا يحل نكاحها أبداً، وبه قضى عمر؛ لأنه استحل ما لا يحل، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.
وقال الحنفية والشافعية: يفسخ النكاح، فإذا انتهت العدة، جاز لهذا الزوج أن يخطبها مرة أخرى ويتزوجها، ولم يتأبد التحريم؛ لأن الأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا دليل من هذا.
الشرط الثاني ـ ألا تكون المخطوبة مخطوبة سابقاً لخاطب آخر: إذ لا تحل خطبة المخطوبة (1) ، للحديث السابق: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن» . وقد فصّلت القول في البند السادس السابق في الخطبة على الخطبة، وظاهر النهي في هذا الحديث وغيره يدل على التحريم، ولأنه نهي عن الإضرار بالإنسان، فكان مقتضاه التحريم كالنهي عن أكل ماله، وسفك دمه.
فإن فعل، فزواجه عند الجمهور صحيح وعليه الإثم، ولا يفرق بين الزوجين عند الجمهور، كالخطبة في العدة؛ لأن النهي ليس متوجهاً إلى نفس العقد، بل هو متوجه إلى أمر خارج عن حقيقته، فلا يقتضي بطلان العقد، كالتوضؤ بماء مغصوب.
وروي عن مالك وداود: أنه لا يصح؛ لأنه نكاح منهي عنه، فكان باطلاً كنكاح الشغار. والمعتمد عند المالكية: أنه إذا رفعت الحادثة لحاكم، وثبت عنده العقد على المخطوبة ببينة أوإقرار، وجب عليه فسخه قبل الدخول بطلقة بائنة.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 178، المهذب: 47/2، القوانين الفقهية: ص 205، الشرح الصغير: 342/2 وما بعدها، المغني: 607/6.(9/11)
تاسعاً ـ رؤية المخطوبة:
حرمة النظر إلى الأجنبية: يحرم نظر كبير بالغ، ولو شيخاً وعاجزاً عن الوطء، عاقل مختار، ولو لغير شهوة أوعند عدم الفتنة إلى عورة امرأة أجنبية (غير محرم) ، والعورة: هي ما عدا الوجه والكفين (1) ؛ لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرك للشهوة، ولقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم ... } [النور:30/24] وقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: «يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخِرة» (2) وقوله صلّى الله عليه وسلم «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة، يجد حلاوتها في قلبه» (3) وقوله أيضاً في الحديث القدسي: «النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي، أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» (4) .
والأصح عند الشافعية: أن المراهق وهو من قارب الحُلُمْ حكمه في نظره للأجنبية كالبالغ، فيلزم الاحتجاب منه، كالمجنون في ذلك لظهوره على العورات. ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته) بشهوة أو بغيرها في الأصح المنصوص عند الشافعية، وأجاز الحنابلة النظر إلى الغلام بغير شهوة؛ لأنه ذكر أشبه الملتحي، ما لم يخف ثوران الشهوة.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 162/4، القوانين الفقهية: ص 193-194، مغني المحتاج: 128/3 وما بعدها، كشاف القناع: 9/5-15، المغني: 552/6-563، أحكام القرآن لابن العربي: 1362/3، أحكام القرآن للجصاص: 318/3، الشرح الصغير: 288/1 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بُريدة (نيل الأوطار: 111/6) .
(3) رواه أحمد.
(4) رواه الطبراني والحاكم عن ابن مسعود (النفحات السلفية شرح الأحاديث القدسية: ص103) .(9/12)
واللائق بمحاسن الشريعة سد الباب والإعراض عن مواطن الشبهات من دخول الأقارب غير المحارم كالأخ وابن العم على بعضهم، والخلوة بالمرأة الأجنبية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو مَحْرم منها، فإن ثالثهما الشيطان» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو؟ قال: الحمو: الموت» (2) ومعنى الحمو: يقال: هو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج كابن العم ونحوه.
وصرح الشافعية أنه يحرم أيضاً النظر إلى الوجه والكفين من كل يد، من رؤوس الأصابع إلى المعصم عند خوف فتنة تدعو إلى الاختلاء بالمرأة لجما ع أو مقدماته بلا جماع، وكذا عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح، لاتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه. ولو نظر إلى الوجه والكفين بشهوة: وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد وأمن الفتنة، حرم قطعاً.
من يحل له النظر: يحل نظر الصبي غير البالغ والمجنون والمستكره، لعدم الشهوة، ولقوله تعالى في آية سورة النور [:31/24] : {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} .
ويحل النظر منها بعين غير أولي الإربة، لقوله تعالى في سورة النور [:31/24] : {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} ... {أو التابعين غير أولي الإربة} والمراد بالإربة هنا: الحاجة إلى النساء، والمراد بالتابعين: الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم، من غير أن تكون لهم لنساء، ولا ميل لهن.
__________
(1) رواه أحمد عن جابر، وفي معناه حديث متفق عليه عن ابن عباس (نيل الأوطار: 111/6) .
(2) رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه عن عقبة بن عامر (المرجع السابق) .(9/13)
واختلف السلف وأئمة المذاهب في تعيين المراد بغيرأولي الإربة من الرجال، فقال ابن عباس: هو المخنث: الذي لا يقوم عليه آلة. وقال مجاهد وقتادة: الذي لا أرب له في النساء.
وذهب الشافعية إلى أن المخنث: وهو المتشبه بالنساء، والمجبوب: وهو مقطوع الذكر فقط، والخصي: وهو من بقي ذكره دون أنثييه، والخنثى المشكل، حكمهم حكم الرجل العادي.
ومذهب الحنفية كالشافعية في المخنث: لا يجوز له النظر، بدليل ما روته عائشة، قالت: كان يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، قالت: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال: أرى هذا يعرف ما ههنا، لا يدخل عليكن، فحجبوه (1) .
هذا يدل على أن النبي حظر دخول المخنث على نسائه؛ لأنه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب، وقد نهى الرجل أن يصف امرأته لغيره (2) ، فكيف إذا وصفها غيرهُ من الرجال؟!.
__________
(1) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم (نيل الأوطار: 115/6) والمراد بالأربع: طيات البطن من كثرة السمن، ولكل طية طرفان، فإذا رآهن الرائي من جهة البطن وجدهن أربعاً، وإذا رآهن من جهة الظهر وجدهن ثماني. والمقصود أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها طيات، وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء، وجرت عادة الرجال غالباً في الرغبة فيمن تكون بتلك الصفة.
والمخنث: هو الذي يلين في قوله، ويتكسر في مشيته، ويتثنى فيها كالنساء، وقد يكون خلقة، وقد يكون تصنعاً من الفسقة، ومن كان ذلك فيه خلقة، فالغالب من حاله أنه لا أرب له في النساء.
(2) روى البخاري ومسلم (الشيخان) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة ُالمرأةَ، فتصفها لزوجها، كأنه ينظر إليها» (رياض الصالحين: ص 567) .(9/14)
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المجبوب والكبير والعنِّين من أولي الإربة، ومثلهم من ذهبت شهوته لمرض لا يرجى برؤه، ودليلهم نفس قصة المخنث السابقة التي يفهم منها أن الشريعة رخصت في ذلك للحاجة الماسة إليه، ولقصد نفي الحرج به.
والراجح أن المراد بغير أولي الإربة: كل من ليس له حاجة إلى النساء وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، ويشمل الشيخ الذي فنيت شهوته، والأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئاً، والمجبوب، والخصي، والممسوح، والعنَّين، وخادم القوم للعيش، والمخنث الذي لا يصف المرأة لغيره، ولايتعين ذلك بنوع من هذه الأنواع. فإذا كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء وأقدر على وصفهن، منع من النظر.
ويحل للرجل بغير شهوة النظر من محرمه الأنثى من نسب أورضاع أو مصاهرة ما عدا ما بين السرة والركبة، فيجوز النظر إلى السرة والركبة؛ لأنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المَحْرَم، ويحرم نظر ما بين السرة والركبة منها إجماعاً، ويحتاط في قرابة الرضاع.
ويحل نظر رجل إلى رجل، وامرأة إلى امرأة إلا ما بين سرة وركبة.
النظر للمرأة لحاجة: يباح للضرورة أو للحاجة وبقدر الحاجة نظر الرجل للمرأة الأجنبية في أحوال الخطبة والمعاملة في بيع وإجارة وقرض ونحوها، والشهادة، والتعليم، والاستطباب، وخدمة مريض أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما، والتخليص من غرق وحرق ونحوهما، وكذا عند الحنابلة حلق عانة من لا يحسن حلق عانته، ونحوها؛ وذلك بقدر الحاجة؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فينظر عند الشافعية في المعاملة إلى الوجه فقط، وعند الحنابلة: إلى الوجه والكفين، ولا يزاد على النظرة الواحدة إلا أن يحتاج إلى ثانية للتحقق، فيجوز.(9/15)
وليكن النظر في أحوال الحاجة هذه مع حضور محرم أو زوج؛ لأنه لا يأمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ويستر منها ما عدا موضع الحاجة؛ لأنها على الأصل في التحريم.
والشرع أباح التعرف على المخطوبة من ناحيتين فقط:
الأولى ـ عن طريق إرسال امرأة يثق الخاطب بها تنظر إليها، وتخبره بصفتها، روى أنس أنه صلّى الله عليه وسلم «بعث أم سُليم إلى امرأة، فقال: انظري إلى عُرْقوبها، وشَمّي معاطفها» (1) وفي رواية «شمي عوارضها» : وهي الأسنان التي في عرض الفم، وهي ما بين الثنايا والأضراس، والمراد اختبار رائحة النكهة. وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق، والعرقوب: عصب غليظ فوق العقب، والنظر إلى العرقوب لمعرفة الدمامة والجمال في الرجلين.
وللمرأة أن تفعل مثل ذلك بإرسال رجل، فلها أن تنظر إلى خاطبها، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها.
الثانية ـ النظر مباشرة من الخاطب للمخطوبة للتعرف على حالة الجمال وخصوبة البدن، فينظر إلى الوجه والكفين والقامة، إذ يدل الوجه على الجمال، والكفان على الخصوبة والنحافة، والقامة على الطول والقصر.
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي، وفيه كلام (سبل السلام: 113/3، نيل الأوطار: 110/6) استنكره أحمد، والمشهور أنه مرسل.(9/16)
ودل الشرع على جواز رؤية من يريد الرجل خطبتها. روى جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» ، قال جابر: «فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها» (1) .
وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (2) أرشد النبي صلّى الله عليه وسلم المغيرة إلى رؤية خطيبته قبل الخطبة، لما في النظر من فائدة هي صلاح حال الزوجين وتحقيق الألفة والمودة بينهما.
وعن أبي حُمَيد أو حميدة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخِطْبة، وإن كانت لا تعلم» (3) .
وعن محمد بن الحنفية عند عبد الرزاق وسعيد بن منصور: «أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقال: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك» . والظاهر أنها صارت امرأته بقول علي.
عاشراً ـ مقدار ما يباح النظر إليه (4) :
يرى أكثر الفقهاء أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه والكفين فقط؛ لأن رؤيتهما تحقق المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمهما، فيدل الوجه على الجمال أو ضده لأنه مجمع المحاسن، والكفان على خصوبة البدن أو عدمها.
وأجاز أبو حنيفة النظر إلى قدميها.
وأجاز الحنابلة النظر إلى ما يظهر عند القيام بالأعمال وهي ستة أعضاء: الوجه والرقبة واليد والقدم والرأس والساق؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ولإطلاق الأحاديث السابقة: «انظر إليها» ولفعل عمر السابق، وفعل جابر أيضاً، وهذا هو الرأي الراجح لدي ولكن لا أفتي به.
وقال الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم.
وقال داود الظاهري: يجوز النظر إلى جميع البدن، لظاهر حديث «انظر إليها» وهذا منكر وشذوذ، يؤدي إلى الفساد.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات، وصححه الحاكم (سبل السلام: 112/3-113) .
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) (نيل الأوطار: 109/6 وما بعدها، سبل السلام: 113/3) ويؤدم، يصلح ويؤلف. والمقصود أن تحصل الموافقة والملاءمة بينكما.
(3) رواه أحمد عن موسى بن عبد الله عن أبي حميد (نيل الأوطار: 110/6) .
(4) المراجع السابقة في البند التاسع.(9/17)
وللزوج النظر إلى جميع بدن زوجته في حال حياتها، ولها أيضاً النظر إلى جميع بدن زوجها، حتى نظر الفرج، لكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الآخر.
حادي عشر ـ وقت الرؤية وشرطها:
قال الشافعية (1) : ينبغي أن يكون نظر الخاطب إلى المرأة قبل الخطبة، وأن تكون خفية بغير علم المرأة أو ذويها، مراعاة لكرامة المرأة وأسرتها، فإذا أعجبته تقدم لخطبتها من غير إيذاء لها وإحراج لأسرتها، وهذا هو المعقول، والراجح عملاً بظاهر الأحاديث التي تدل على أنه يجوز النظر إليها، سواء أكان ذلك بإذنها أم لا.
وقال المالكية (2) : يجوز نظر وجه الزوجة وكفيها خاصة قبل العقد، ليعلم بذلك حقيقة أمرها بعلم منها أو وليها، ويكره استغفالها. والنظر يكون بنفسه أو وكيله إن لم يكن على وجه التلذذ بها، وإلا منع كما يمنع ما زاد على الوجه والكفين لأنه عورة.
الثاني عشر ـ تحريم الخلوة بالمخطوبة:
بينا أن الخطبة ليست زواجاً، وإنما هي مجرد وعد بالزواج، فلا يترتب عليها شيء من أحكام الزواج، ولا الخلوة بالمرأة أو معاشرتها بانفراد؛ لأنها ما تزال أجنبية عن الخاطب، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة عن الخلوة بالأجنبية وعن الجلوس معها إلا مع محرم كأبيها أو أخيها أوعمها، ومن تلك الأحاديث: «لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له، فإن ثالثهما الشيطان، إلا مَحْرمٌ» (3) .
وفي هذا القدر أمان وضمان وبُعْد عن التعرض لمخاطر الاحتمالات في المستقبل من فسخ الخطوبة وغيره، وبه يتحقق المطلوب بالجلوس والتحدث إلى المرأة عند وجود محرم لها، وهذا هو الموقف الحكيم المعتدل دون إفراط ولا تفريط.
وأما المعاشرة قبل الزواج والذهاب معاً إلى الأماكن العامة وغيرها، فهو كله ممنوع شرعاً، بل إنه لا يحقق الغاية المرجوة، إذ كل منهما يظهر بغير حقيقته، كما قيل: (كل خاطب كاذب) . ولأن الخاطب قد يتعجل الأمور، وقد يستجيب الإنسان لتلبية الغريزة، ويضعف عن مقاومتها في حال الانفراد بالمرأة، فيقع الضرر بها، وتتأثر سمعتها عند العدول عن الخطبة.
__________
(1) مغني المحتاج: 128/3.
(2) الشرح الصغير: 340/2، القوانين الفقهية: ص 193-194، مواهب الجليل: 404/3.
(3) رواه أحمد والشيخان عن عامر بن ربيعة (نيل الأوطار: 111/6) .(9/18)
الثالث عشر ـ العدول عن الخطبة وأثره:
بما أن الخطبة ليست زواجاً، وإنما هي وعد بالزواج، فيجوز في رأي أكثر الفقهاء للخاطب أو المخطوبة العدول عن الخطبة (1) ؛ لأنه ما لم يوجد العقد فلا إلزام ولا التزام. ولكن يطلب أدبياً ألا ينقض أحدهما وعده إلا لضرورة أو حاجة شديدة، مراعاة لحرمة البيوت وكرامة الفتاة. وينبغي الحكم على المخطوبة بالموضوعية المجردة، لا بالهوى أو بدون مسوغ معقول، فلا يعدل الخاطب عن عزمه الذي شاءه؛ لأن عدوله هو نقض للعهد أو الوعد، ويستحسن شرعاً وعرفاً التعجيل في العدول إذا بدا سبب واضح يقتضي ذلك، قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34/17] وقال صلّى الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» (2) .
حكم انفساخ الخطبة أو أثره: لا يترتب على انفساخ الخطبة أي أثر ما دام لم يحصل عقد.
وأما ما قدمه الخاطب من مهر: فله أن يسترده، سواء أكان قائماً أم هالكاً أم مستهلكاً، وفي حال الهلاك أو الاستهلاك يرجع بقيمته إن كان قيمياً، وبمثله إن كان مثلياً، أياً كان سبب العدول، من جانب الخاطب أو من جانب المخطوبة. وهذا متفق عليه فقهاً (3) .
ولكن فصّل القانون السوري (م4) بين حالة كون العدول من جهة الخاطب، وحالة كونه من جهة المخطوبة، أخذاً بعرف الناس اليوم. ففي الحالة الأولى: إذا اشترت المرأة جهازاً تخير بين إعادة مثل المهر أو تسليم الجهاز.
وفي الحالة الثانية: يجب عليها إعادة المهر أو قيمته.
__________
(1) نصت المادة (3) من قانون الأحوال الشخصية السوري: «لكل من الخاطب والمخطوبة العدول عن الخطبة» .
(2) رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت، وهو صحيح.
(3) نصت المادة الثامنة من قانون حقوق العائلة العثماني على مايلي: «إذا امتنع أحد الزوجين - أي الخاطبين - أو توفي بعد الرضا بالزواج، فإن كان ما أعطاه الخاطب من أصل المهر موجوداً، يجوز استرداده عيناً، وإن كان قد تلف يجوز استرداده بدلاً» .(9/19)
هدايا الخطبة: أما رد الهدايا ففيه آراء فقهية:
1 - قال الحنفية (1) : هدايا الخطبة هبة، وللواهب أن يرجع في هبته إلا إذا وجد مانع من موانع الرجوع بالهبة كهلاك الشيء أو استهلاكه أو وجود الزوجية. فإذا كان ما أهداه الخاطب موجوداً فله استرداده. وإذا كان قد هلك أو استهلك أو حدث فيه تغيير، كأن ضاع الخاتم، وأكل الطعام. وصنع القماش ثوباً، فلا يحق للخاطب استرداد بدله.
2 - وذكر المالكية (2) : أن الهدايا قبل عقد الزواج أو فيه تتشطر بين المرأة والرجل، سواء اشترطت، أو لم تشترط؛ لأنها مشترطة حكماً.
3 - وفصل الحنابلة (3) بين أن يكون العدول من جهة الخاطب أو من جهة المخطوبة، فإذا عدل الخاطب، فلا يرجع بشيء ولو كان موجوداً. وإذا عدلت المخطوبة، فللخاطب أن يسترد الهدايا، سواء أكانت قائمة أم هالكة، فإن هلكت أو استهلكت وجبت قيمتها. وهذا حق وعدل، لأنه وهب بشرط بقاء العقد، فإن زال العقد، فله الرجوع، فأشبه بذلك.
4 - ورأى الشافعية (4) : أن للخاطب الرجوع بما أهداه؛ لأنه إنما أنفق لأجل تزوجها، فيرجع إن بقي، وببدله إن تلف.
__________
(1) رد المحتار: 599/2.
(2) الشرح الصغير: 456/2.
(3) منار السبيل: 198/2.
(4) إعانة الطالبين، كتاب الهبة 156/3.(9/20)
وأخذ القانون المغربي بمذهب المالكية، والقانون الأردني بمذهب الحنفية، فصرح أنه يجري على هدايا الخطبة حكم الهبة. وسكوت القانون السوري يتضمن العمل برأي الحنفية، إذ نص في المادة (305) على أن «كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون، يرجع فيه إلى القول الأرجح في المذهب الحنفي» . وجاء في (م/4ف3) : تجري على الهدايا أحكام الهبة.
والراجح لدي أن المرأة تستحق جميع ما قدم لها قبل العقد من هدايا، بدليل ما رواه الخمسة إلا الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة نكحت على صداق أو حِبَاء (عطاء) أو عِدَة قبل عصمة النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه» (1) وذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد ومالك، والهادوية من الزيدية.
التعويض عن الضرر: أما التعويض عن الأضرار المادية أو المعنويةالتي تترتب على فسخ الخطبة، كشراء بعض الأمتعة والألبسة، أو ترك وظيفة أو تفويت خاطب آخر، أو الإساءة لسمعتها بمجرد العدول عن خطبة طال أمدها كأربع سنوات مثلاً، فلم ينص عليه فقهاؤنا القدامى.
ويمكن إقراره في الفقه الحديث عملاً بقواعد الشريعة العامة، كقاعدة تحريم التغرير وإيجابه الضمان، وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وما يترتب عليها من تطبيق نظرية التعسف في استعمال الحق التي أخذ بها المالكية والحنابلة، وراعاها أبو حنيفة في حقوق العلو والجوار.
كما يمكن تأصيل التعويض عن ضرر العدول بمبدأ الالتزام في الفقه المالكي في مشهور الأقوال: وهو أنه في الوعد بشيء يقضى بتنفيذ الوعد إن كان مبنياً على سبب ودخل الموعود بالسبب، أي فيجب الوفاء بالوعد المعلق على سبب، وباشر
__________
(1) نيل الأوطار: 174/6.(9/21)
الموعود السبب ونفذه. مثل: اشتر سلعة أو تزوج امرأة، وأنا أسلفك، فإذا تزوج فعلاً وجب عليه إقراضه. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.
والذي استقر عليه القضاء المصري الآن: ما قررته محكمة النقض سنة (1939م) وهو ما يلي:
1 - الخطبة ليست بعقد ملزم.
2 - مجرد العدول عن الخطبة لا يكون سبباً موجباً للتعويض.
3 - إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى، ألحقت ضرراً بأحد الخطيبين، جاز الحكم بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية، أي الخطأ الذي سبب ضرراً بالغير.
وهذا يتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية، وعلى هذا يفرق بين حالتين:
الأولى ـ إذا كان للعادل دخل في الضرر الذي لحق الآخر بسبب عدوله، كأن يطلب الخاطب إعداد جهاز خاص، أو يطلب من المخطوبة ترك وظيفتها، فتتركها بناء على رغبته، أو تطلب المخطوبة إعداد الخاطب مسكناً خاصاً، فيجوز الحكم بالتعويض عن الضرر لعدوله عن الخطبة، لتسبب العادل في الضرر وتغريره الطرف الآخر.
الثانية ـ ألا يكون للعادل دخل في الضرر الذي لحق الطرف الآخر بسبب العدول، فلا يحكم بالتعويض على العادل، إذ لم يوجد منه سبب الضمان من ضرر أو تغرير.(9/22)
الفَصْلُ الثَّاني: تكوين الزّواج
وفيه مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ تعريف الزواج وحكمه في الشرع:
تعريف الزواج (1) : النكاح لغة: الضم والجمع، أو عبارة عن الوطء والعقد جميعاً، وهو في الشرع: عقد التزويج، والزواج شرعاً: عقد يتضمن إباحة الاستمتاع بالمرأة، بالوطء والمباشرة والتقبيل والضم وغير ذلك، إذا كانت المرأة غير مَحْرم بنسب أو رضاع أو صهر. أوهو عقد وضعه الشارع ليفيد ملك استمتاع الرجل بالمرأة، وحل استمتاع المرأة بالرجل. أي أن أثر هذا العقد بالنسبة للرجل يفيد الملك الخاص به فلا يحل لأحد غيره، وأما أثره بالنسبة للمرأة فهو حل الاستمتاع لا الملك الخاص بها، وإنما يجوز أن تتعدد الزوجات فيصبح الملك حقاً مشتركاً بينهن، أي أن تعدد الأزواج ممنوع شرعاً، وتعدد الزوجات جائز شرعاً.
وعرفه الحنفية بقولهم: عقد يفيد ملك المتعة قصداً، أي حل استمتاع الرجل من امرأة، لم يمنع من نكاحها مانع شرعي، بالقصد المباشر.
خرج بكلمة (المرأة) : الذكر والخنثى المشكل لجواز ذكورته، وخرج بقوله «ما لم يمنع من نكاحها ما نع شرعي» : المرأة الوثنية، والمحارم، والجنِّية، وإنسان الماء، لاختلاف الجنس؛ لأن قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} [النحل:72/16] أوضح المراد من قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3/4] وهو الأنثى من بنات آدم، فلا يثبت حل غيرها بلا دليل، ولأن الجن يتشكّلون بصور شتى، فقد يكون ذكراً تشكَّل بشكل أنثى.
وخرج بكلمة (قصداً) حل الاستمتاع ضمناً بواسطة شراء أمة للتسري. ووضع بعضهم كلمة (بطريق الأصالة) بدل كلمة (قصداً) .
وعرفه أيضاً بعض الحنفية بأنه عقد وضع لتمليك منافع البُضْع، أي الفرج.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 339/2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 94/4 وما بعدها، اللباب: 3/3، الدر المختار: 355/2-357، الشرح الصغير: 332/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 123/3، المغني: 445/6، كشاف القناع: 3/5.(9/23)
هل يراد شرعاً بالنكاح الوطء أو العقد؟ النكاح عند أهل الأصول واللغة حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، فحيث جاء في الكتاب أو السنة مجرداً عن القرائن يراد به الوطء، كما في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء:22/4] فتحرم مزنية الأب على الابن، أي على فروعه، وتكون حرمتها على الفروع ثاتبة بالنص القرآني. وأما حرمة التي عقد عليها عقداً صحيحاً على الفروع فبالإجماع. ولو قال لزوجته: إن نكحتك فأنت طالق، تعلق الشرط بالوطء، وكذا لو أبانها قبل الوطء، ثم تزوجها، تطلق بالوطء، لا بالعقد. أما نكاح المرأة الأجنبية فيراد به العقد؛ لأن وطأها لما حرم عليه شرعاً، كانت الحقيقة مهجورة، فتعين المجاز. والنكاح عند الفقهاء ومنهم مشايخ المذاهب الأربعة: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء؛ لأنه المشهور في القرآن والأخبار، وقد قال الزمخشري وهو من علماء الحنفية: ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إلا قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] لخبر الصحيحين: «حتى تذوقي عسيلته» فالمراد به العقد، والوطء مستفاد من هذا الخبر.
الحكم الشرعي للزواج:
الزواج مشروع بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقوله الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] الآية، وقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور:32/24] .
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (1) والباءة: مؤن الزواج وواجباته. وآي قرآنية وأخبار سوى ذلك كثيرة.
وأجمع المسلمون على أن الزواج مشروع.
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود (سبل السلام: 109/3) .(9/24)
وحكمة مشروعيته: إعفاف المرء نفسه وزوجه عن الوقوع في الحرام، وحفظ النوع الإنساني من الزوال والانقراض، بالإنجاب والتوالد، وبقاء النسل وحفظ النسب، وإقامة الأسرة التي بها يتم تنظيم المجتمع، وإيجاد التعاون بين أفرادها، فمن المعروف أن الزواج تعاون بين الزوجين لتحمل أعباء الحياة، وعقد
مودة وتعاضد بين الجماعات، وتقوية روابط الأسر، وبه يتم الاستعانة على المصالح.
وأما نوع أو صفة الزواج شرعاً بحسب طلب الشارع فعله أو تركه، فيعرف عند الفقهاء بحسب أحوال الناس (1) :
1 - الفرضية: يكون الزواج عند عامة الفقهاء فرضاً إذا تيقن الإنسان الوقوع في الزنا لو لم يتزوج، وكان قادراً على نفقات الزواج من مهر ونفقة الزوجة، وحقوق الزواج الشرعية، ولم يستطع الاحتراز عن الوقوع في الفاحشة بالصوم ونحوه؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وطريقه الزواج.
ولا فرق بين الفرضية والوجوب عند الجمهور.
ورأى الحنفية: أن الزواج واجب إذا خاف المرء الوقوع في الفاحشة بعدم الزواج خوفاً دون اليقين، وكان قادراً على مؤن الزواج، من مهر ونفقة، ولايخاف ظلم المرأة ولا التقصير في حقها.
2 - التحريم: يحرم الزواج إذا تيقن الشخص ظلم المرأة والإضرار بها إذا تزوج، بأن كان عاجزاً عن تكاليف الزواج، أو لا يعدل إن تزوج بزوجة أخرى؛ لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وإذا تعارض ما يجعل الزواج فرضاً وما يجعله حراماً بأن تيقن أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج، وتيقن أيضاً أنه سيظلم زوجته، كان الزواج حراماً؛ لأنه إذا
__________
(1) تبيين الحقائق: 95/2، فتح القدير: 342/2، الدر المختار: 358/2، البدائع: 228/2، الشرح الصغير: 330/2، القوانين الفقهية: ص 193، بداية المجتهد: 2/2، المهذب: 33/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 125/3 وما بعدها، المغني: 446/6 وما بعدها، كشاف القناع: 4/5.(9/25)
اجتمع الحلال والحرام، غلب الحرام الحلال، ولقوله تعالى: {وليستعفف الذين لايجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} [النور:33/24] ولحديث «يا معشر الشباب» السابق الذي يرشد إلى الصوم لعصمة النفس من الشهوات. وربما قيل: يفضل الزواج حينئذ؛ لأن الرجل بعد الزواج تلين طباعه، وترتقي معاملته، وتخف قسوته وتزول عُقَده، ولأن في عدم الزواج غلبة الظن في الوقوع بالزنا.
3 - الكراهة: يكره الزواج إذا خاف الشخص الوقوع في الجور والضرر خوفاً لا يصل إلى مرتبة اليقين إن تزوج، لعجزه عن الإنفاق، أوإساءة العشرة، أو فتور الرغبة في النساء. وتكون الكراهة عند الحنفية تحريمية أو تنزيهية بحسب قوة الخوف وضعفه. ويكره عند الشافعية لمن به علة كهرم أو مرض دائم أو تعنين دائم، أو كان ممسوحاً، ويكره أيضاً عندهم نكاح بعد خطبة على خطبة غيره إن عُرِّض فيها بالإجابة، ونكاح المحلل إذا لم يشرط في العقد مايخل بمقصوده، ونكاح الغرور كأن غرر الزوج بإسلام امرأة أو بحريتها أو بنسب معين.
4 - الاستحباب أو الندب في حال الاعتدال: يستحب عند الجمهور غير الشافعي الزواج إذا كان الشخص معتدل المزاج، بحيث لا يخشى الوقوع في الزنا إن لم يتزوج، ولا يخشى أن يظلم زوجته إن تزوج. وحالة الاعتدال هذه هي الغالبة عند أكثر الناس.(9/26)
ودليل كون الزواج سنة الحديث السابق: «يا معشر الشباب» وحديث الرهط الثلاثة الذين عزموا على أمور، الأول ـ أن يصلي الليل أبداً، والثاني ـ أن يصوم الدهر أبداً، والثالث ـ أن يعتزل النساء فلا يتزوج أبداً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني» (1) .
ويؤيده أن الرسول صلّى الله عليه وسلم تزوج وداوم عليه، وكذلك أصحابه تزوجوا وداوموا عليه، وتابعهم المسلمون في الزواج، والمداومة والمتابعة دليل السنية.
وهذا الرأي هو المختار.
وقال الشافعي: إن الزواج في هذه الحالة مباح، يجوز فعله وتركه، وإن التفرغ للعبادة أو الاشتغال بالعلم أفضل من الزواج؛ لأن الله تعالى مدح يحيى عليه السلام بقوله: {وسيداً وحصوراً} [آل عمران:39/3] والحصور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن، فلو كان الزواج أفضل لما مدح بتركه. ورد هذا بأنه شرع من قبلنا، وشريعتنا على خلافه.
وقال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران:14/3] وهذا في معرض الذم.
وإنما لم يجب لقوله تعالى: {فانكحوا ماطاب لكم من النساء} [النساء:3/4] إذ الواجب لايتعلق بالاستطابة، ولقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] ولا يجب العدد بالإجماع، ولقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3/4] .
ورد السبكي التعليل الأول: بأنه ليس المراد بالآية المستطاب، وإنما المراد الحلال؛ لأن في النساء محرمات بآية {حرمت عليكم أمهاتكم ... } [النساء:23/4] الآية.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه (جامع الأصول: 201/1) .(9/27)
إعفاف الوالد: تحقيقاً للترغيب الشرعي في الزواج قال الشافعية على المشهور (1) : يلزم الولد ذكراً كان أو أنثى إعفاف الأب والأجداد؛ لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها شرعاً، والإعفاف: بأن يعطيه مهر امرأة حرة تعفه، أو يقول: تزوج وأعطيك المهر، أو يزوجه بإذنه ويدفع المهر.
ويجب تجديد الإعفاف إذا ماتت الزوجة، أو انفسخ النكاح برده منها، أو فسخ الزوج النكاح بعيب في الزوجة، وكذا إذ اطلق بعذر في الأصح.
وإنما يجب الإعفاف بشرطين:
الأول ـ لمن كان فاقد المهر في الواقع. ولا يلزم الإعفاف إذا كان الأب قادراً على المهر بالكسب.
الثاني ـ للمحتاج إلى الزواج: بأن تتوق نفسه إلى الوطء، وإن لم يخف الزنا، أو كان عنده من لا تعفه كصغيرة وعجوز شوهاء. ويحرم طلب الزواج ممن لم يضر به العزوبة، ولم يشق عليه الصبر.
ولو احتاج لعقد النكاح لا للتمتع، بل للخدمة لنحو مرض، وجب إعفافه إذا تعينت الحاجة إليه، لكن لا يسمى إعفافاً.
هل الزواج عبادة؟ الزواج عند الشافعية من الأعمال الدنيوية كالبيع ونحوه، وهو ليس بعبادة، بدليل صحته من الكافر، ولو كان عبادة لما صح منه، والقصد منه قضاء شهوة النفس، والعمل بالعبادة عمل لله تعالى، والعمل لله تعالى أفضل من العمل للنفس.
ورد ذلك بأنه إنما صح من الكافر، وإن كان عبادة، لما فيه من عمارة الدنيا، كعمارة المساجد والجوامع، فإن هذه تصح من المسلم، وهي منه عبادة، ومن الكافر وليست منه عبادة، ويدل لكونه عبادة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، والعبادة تتلقى من الشرع، فالزواج من قبيل
__________
(1) مغني المحتاج: 211/3-213.(9/28)
العبادة، لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة التي منها تحصين النفس وإيجاد النسل، وقال عنه النبي صلّى الله عليه وسلم: «وفي بُضع أحدكم صدقة» (1) .
ونظراً لضعف هذه الأدلة التي ذكرت للشافعي، قال الإمام النووي: - وهو من العلماء العزاب - إن لم يتعبد فاقد الحاجة للنكاح، واجد الأهبة (وهي مؤن الزواج من مهر وكسوة ونفقة يومه) ، فالنكاح له أفضل من تركه في الأصح، كيلا تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش. وقال: النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته، فإن فقدها استحب تركه، ويكسر شهوته بالصوم، فإن لم يحتج كره إن فقد الأهبة، وإلا فلا يكره له لقدرته عليه.
وقال الظاهرية: إن الزواج في حالة الاعتدال هذه فرض، متى كان الإنسان قادراً عليه، وعلى مؤنه المطلوبة، بدليل ظواهر الآيات السابقة: {فانكحوا ما طاب ... } [النساء:3/4] {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/24] والأحاديث المتقدمة: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» والأمر يفيد الوجوب، فيكون الزواج واجباً. ورد عليهم بأن هذا الوجوب مصروف إلى الندب والاستحباب بدليل قوله: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] وقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء:3/4] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحتم الزواج على كل واحد.
ويؤيد هذا الرأي ما رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن عَكَّاف بن وَدَاعة: «أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: ألك زوجة يا عكاف؟ قال: لا، قال: ولا جارية؟ قال: لا، قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم، والحمد لله، فقال: فأنت إذن من إخوان الشياطين: إن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كنت منا فاصنع كما نصنع، فإن سنتنا النكاح، شراركم عزّابكم، وإن أرذل موتاكم عزابكم» (2) .
ورد بأن إيجاب الزواج على شخص لا يستلزم إيجابه على الناس جميعاً؛ لأن سبب وجوبه وجد في حقه، دون غيره من الناس.
__________
(1) من حديث أبي ذر عند مسلم، ومطلعه: ذهب أهل الدثور بالأجور.
(2) قال الهيثمي: وفيه راوً لم يسم، وبقية رجاله ثقات.(9/29)
المبحث الثاني ـ أركان الزواج:
تمهيد: الركن عند الحنفية: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون جزءاً داخلاً في حقيقته. والشرط عندهم: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ولم يكن جزءاً من حقيقته. والركن عند الجمهور: ما به قوام الشيء ووجوده، فلا يتحقق إلا به، أو ما لا بد منه، وبعبارتهم الشهيرة: هو ما لا توجد الماهية الشرعية إلا به، أو ما تتوقف عليه حقيقة الشيء، سواء أكان جزءاً منه أم خارجاً عنه.
والشرط عندهم: ما يتوقف عليه وجود الشيء، وليس جزءاً منه.
فالإيجاب والقبول ركن بالاتفاق، لأن بهما يترتبط أحد العاقدين بالآخر، والرضا شرط.
وركن الزواج عند الحنفية: الإيجاب والقبول فقط، وأركان الزواج عند الجمهور أربعة: صيغة (وهي الإيجاب والقبول) وزوجة، وزوج، وولي وهما العاقدان. وأما المعقود عليه فهو الاستمتاع الذي يقصده الزوجان من الزواج. وأما المهر فلا يتوقف عليه العقد، وإنما هو شرط كالشهود، بدليل جواز نكاح التفويض، وأما الشهود فشرط أيضاً. وجعل الشهود والمهر ركناً مجرد اصطلاح لبعض الفقهاء.
والإيجاب عند الحنفية: ما يصدر أولاً من أحد العاقدين، سواء أكان الزوج أم الزوجة. والقبول عندهم: ما يصدر ثانياً من الطرف الآخر.
والإيجاب عند الجمهور: هو اللفظ الصادر من قبل الولي أو من يقوم مقامه كوكيل؛ لأن القبول إنما يكون للإيجاب، فإذا وجد قبله لم يكن قبولاً لعدم معناه. والقبول: هو اللفظ الدال على الرضا بالزواج الصادر من الزوج.
فإذا قال الرجل للمرأة: زوجيني نفسك، فقالت: قبلت، كان الأول عند الحنفية إيجاباً، والثاني قبولاً. وعند الجمهور بالعكس؛ لأن ولي المرأة هو الذي يملِّك الزوج حق الاستمتاع، فكلامه هو الإيجاب، والرجل يتملك ذلك، فكلامه هو القبول. وقد نص القانون السوري (م 5) على أنه: ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين، وقبول من الآخر.(9/30)
صيغة الزواج:
أولاً ـ ألفاظ الزواج:
الزواج عقد مدني لا شكليات فيه، والعقد: ربط أجزاء التصرف، أي الإيجاب والقبول شرعاً. والمراد بالعقد هنا هو المعنى المصدري وهو الارتباط، والشرع يحكم بأن الإيجاب والقبول موجودان حساً، يرتبطان ارتباطاً حكمياً.
وكل من الإيجاب والقبول قد يكون لفظاً، وقد يكون كتابة أو إشارة، وألفاظ الإيجاب والقبول، منها ما هو متفق على انعقاد الزواج به، ومنها ما هو متفق على عدم انعقاد الزواج به، ومنها ما هو مختلف فيه (1) .
أما الألفاظ التي اتفق الفقهاء على انعقاد الزواج بها: فهي لفظ: أنكحت وزوجت، لورودهما في نص القرآن في قوله تعالى: {زوجناكها} [الأحزاب:37/33] وقوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء:22/4] .
وأما الألفاظ التي اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بها: فهي التي لا تدل على تمليك العين في الحال ولا على بقاء الملك مدة الحياة، وهي: الإباحة والإعارة والإجارة والمتعة والوصية والرهن والوديعة ونحوها.
وأما الألفاظ التي اختلفوا في انعقاد الزواج بها: فهي لفظ البيع، ولفظ الهبة، ولفظ الصدقة، أو العطية ونحوها مما يدل على تمليك العين في الحال، وبقاء الملك مدة الحياة:
1 - قال الحنفية، والمالكية على الراجح: ينعقد الزواج بها بشرط نية أو قرينة تدل على الزواج، كبيان المهر وإحضار الناس، وفهم الشهود المقصود؛ لأن المطلوب التعرف على إرادة العاقدين، وليس للفظ اعتبار، وقد ورد في الشرع ما يدل على الزواج بلفظ الهبة والتمليك.
__________
(1) الدر المختار: 361/2-372، البدائع: 229/2 ومابعدها، اللباب: 3/3، مواهب الجليل: 419/3-423، الشرح الكبير: 221/2، الشرح الصغير: 334/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص195، مغني المحتاج: 139/3، المهذب: 41/2، بداية المجتهد: 4/2، كشاف القناع: 36/5.(9/31)
الأول ـ في قوله تعالى: {وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب:50/33] والخصوصية للنبي في صحة الزواج بدون مهر، لا باستعمال لفظ الهبة.
والثاني ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلم لرجل لم يملك مالاً يقدمه مهراً: «قد ملكتكها بما معك من القرآن» (1) . وهذا هو الراجح لدي؛ لأن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني.
2 - وقال الشافعية والحنابلة: لا ينعقد الزواج بها، ولا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج، لورودهما في القرآن كما تقدم، فيلزم الاقتصار عليهما، ولا يصح أن ينعقد بغيرهما من الألفاظ؛ لأن الزواج عقد يعتبر فيه النية مع اللفظ الخاص به، وآية: {إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب:50/33] من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلم. وحديث «ملكتكها» إما وهم من الراوي، أو أن الراوي رواه بالمعنى، ظناً منه ترادف هذا اللفظ مع لفظ الزواج، وبتقدير صحة الرواية، فهي معارضة برواية الجمهور: «زوجتكها» .
وخلاصة المذاهب ما يأتي:
ينعقد الزواج عند الحنفية (2) بكل لفظ يدل على تمليك الأعيان في الحال، كلفظ الهبة والتمليك والصدقة والعطية والقرض والسلَم والاستئجار (3) والصلح والصرف، والجعل والبيع والشراء، بشرط نية أو قرينة، وفهم الشهود المقصود. ولا ينعقد بقوله: تزوجت نصفك على الأصح احتياطاً، بل لا بد أن يضيفه إلى كلها أو ما يعبر به عن الكل، ومنه الظهر والبطن على الأشبه.
وينعقد عند المالكية (4) بلفظ التزويج والتمليك، وما يجري مجراهما كالبيع والهبة والصدقة والعطية، ولا يشترط ذكر المهر، لانعقاد العقد، وإن كان لا بد منه، فيكون شرطاً لصحة العقد كالشهود، إلا إذا كان بلفظ الهبة، والألفاظ أربعة: الأول ـ ما ينعقد به الزواج مطلقاً سواء سمى العاقد صداقاً أم لا وهو
__________
(1) متفق عليه عن سهل بن سعد (نيل الأوطار: 170/6) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 364/2-365، 369 وما بعدها.
(3) بأن جعلت المرأة بدلاً، مثل: استأجرت دارك بنفسي أو ببنتي عند قصد النكاح، بخلاف الإجارة مثل: آجرتك نفسي بكذا.
(4) شرح الرسالة: 26/2، الشرح الكبير: 221/2، الشرح الصغير: 350/2.(9/32)
أنكحت وزوجت، والثاني ـ ماينعقد به إن سمى صداقاً وإلا فلا، وهو وهبت فقط، والثالث ـ ما فيه التردد، وهو كل لفظ يقتضي البقاء مدة الحياة، مثل: بعت لك ابنتي بصداق قدره كذا، أو ملكتك إياها أو أحللت أو أعطيت أو منحتك إياها. قيل: ينعقد به إن سمى صداقاً، وقيل: لاينعقد به مطلقاً. والرابع ـ ما لا ينعقد به اتفاقاً: وهو كل لفظ لا يقتضي البقاء مدة الحياة كالحبس والوقف والإجارة والإعارة والعمرى أي أعمرتك، وهوالراجح.
وينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة (1) بلفظ التزويج والنكاح فقط، دون ماعداهما كالهبة والتمليك والإجارة، اقتصاراً على المذكور في القرآن.
المعاطاة: اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بالتعاطي، احتراماً لأمر الفروج، وخطورتها وشدة حرمتها (2) ، فلا يصح العقد عليها إلا بلفظ صريح أو كناية عند الحنفية والمالكية، وبلفظ صريح عند الشافعية والحنابلة كما تقدم. ولا ينعقد الزواج على المختار عند الحنفية بالإقرار، أي أن الإقرار ليس من صيغ العقد، فلو قالت امرأة: أقر بأنك زوجي، ولم تكن قد حدثت زوجية بينها وبين الرجل، فإنه لا يصح، لأن الإقرار إظهار لما هو ثابت وليس بإنشاء.
الألفاظ المصحفة (3) : لا ينعقد الزواج عند الحنفية بالألفاظ المصحفة، مثل (تجوزت) أو جوزت أوزوزت، بدل «تزوجت» لعدم القصد الصحيح، لكن لو اتفق قوم على النطق بهذه الغلطة، بحيث إنهم يطلبون بها الدلالة على حل الاستمتاع، وتصدر عن قصد واختيار منهم، فينعقد بها الزواج؛ لأنه والحالة هذه
__________
(1) المهذب: 41/2، مغني المحتاج: 139/3، كشاف القناع: 37/5، المغني: 532/6.
(2) الدر المختار وابن عابدين: 372/2 وما بعدها.
(3) التصحيف: هو تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المقصود من الوضع اللغوي.(9/33)
يكون وضعاً جديداً منهم (1) ، أي أن اللفظ أصبح دالاً على الزواج عرفاً، فينعقد به الزواج، فلا يفهم العاقدان والشهود من تلك الألفاظ إلا أنها عبارة عن التزويج، ولا يقصد منها إلا ذلك المعنى بحسب العرف.
وقال الشافعية: ينعقد الزواج بالألفاظ المحرفة مثل: جوزتك موكلتي.
الألفاظ غير العربية: اتفق أكثر الفقهاء على أن الأجنبي غير العربي العاجز عن النطق بالعربية يصح انعقاد زواجه بلغته التي يفهمها ويتكلم بها؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، ولأنه عاجز عن العربية، فسقط عنه النطق بالعربية كالأخرس. وعليه أن يأتي بمعنى التزويج أو الإنكاح بلسانه، بحيث يشتمل على معنى اللفظ العربي.
أما إذا كان العاقد يحسن التكلم بالعربية: فيجوز عند الجمهور في الأصح عند الشافعية النطق بكل لغة يمكن التفاهم بها؛ لأن المقصود هو التعبير عن الإرادة، وذلك واقع في كل لغة، ولأنه أتى بلفظه الخاص، فانعقد به، كما ينعقد بلفظ العربية.
وقال الحنابلة: لا يجوز الزواج إلا بالعربية لمن قدر عليها، فمن قدر على لفظ الزواج بالعربية، لم يصح بغيرها؛ لأنه عدل عن لفظي (الإنكاح والتزويج) مع القدرة عليهما، فلم يصح، كما لم يصح بألفاظ الهبة والبيع والإحلال (2) .
وقد أخذ القانون السوري (م 6) برأي الجمهور، فنص على أنه: يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفاً.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 370/2 وما بعدها.
(2) ابن عابدين: 371/2، مغني المحتاج: 140/3، كشاف القناع: 38/5-39، المغني: 533/6 وما بعدها.(9/34)
ثانياً ـ صيغة الفعل:
قد تكون صيغة الإيجاب والقبول بلفظ الماضي أو بلفظ المضارع أو بلفظ الأمر، واتفق الفقهاء على انعقاد الزواج بصيغة الماضي، واختلفوا في المضارع والأمر (1) .
أـ ينعقد الزواج بصيغة الفعل الماضي: كأن يقول ولي المرأة للرجل: زوجتك ابنتي فلانة على مهر كذا، فقال الزوج: قبلت أورضيت؛ لأن المقصود بهذه الصيغة إنشاء العقد في الحال، فينعقد بها العقد من غير توقف على نية أو قرينة.
ب ـ وأما العقد بصيغة المضارع: مثل أن يقول الرجل للمرأة في مجلس العقد: أتزوجك على مهر قدره كذا، فقالت: أقبل أو أرضى، صح العقد عند الحنفية والمالكية إذا كانت هناك قرينة تدل على إرادة إنشاء العقد في الحال، لا للوعد في المستقبل، كأن يكون المجلس مهيئاً لإجراء عقد الزواج، فوجود هذه الهيئة ينفي إرادة الوعد أو المساومة، ويدل على إرادة التنجيز؛ لأن الزواج بعكس البيع يكون مسبوقاً بالخطبة.
فإن لم يكن المجلس مهيئاً لإنجاز العقد، ولم توجد قرينة دالة على قصد إنشاء الزواج في الحال، فلا ينعقد العقد.
ولا ينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة بصيغة المضارع، وإنما لا بد عندهم من لفظ بصيغة الماضي مشتق من النكاح أوالزواج، بأن يقول الزوج: تزوجت أو نكحت أو قبلت نكاحها أو تزويجها، ولا يصح بكناية: كأحللتك ابنتي، إذ لا اطلاع للشهود على النية. ولو قال ولي المرأة: زوجتك، فقال الزوج: قبلت، لم ينعقد الزواج لدى الشافعية على المذهب، وينعقد عند الجمهور غير الشافعية.
جـ ـ ويصح العقد عند الحنفية والمالكية بصيغة الأمر: كأن يقول الرجل لامرأة: زوجيني نفسك، وقصد بذلك إنشاء الزواج، لا الخطوبة، فقالت المرأة: زوجتك نفسي، تم الزواج بينهما.
__________
(1) البدائع: 231/2، الدر المختار ورد المحتار: 378/2 وما بعدها، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 220/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 139/3-141، كشاف القناع: 37/5، المغني: 532/6-534.(9/35)
وتوجيه ذلك عند الحنفية (1) : أن قول الرجل يتضمن توكيل المرأة في أن تزوجه بنفسها، فقولها: زوجتك نفسي، قام مقام الإيجاب والقبول. والتوجيه عند المالكية أن صيغة الأمر تعتبر إيجاباً للعقد عرفاً، ولا تعتبر توكيلاً ضمنياً. وهذا القول أوجه. وعبارة المالكية: ينعقد النكاح بالإيجاب والاستيجاب، أي طلب الإيجاب.
د ـ أما انعقاد الزواج بلفظ الاستفهام مثل قول رجل لآخر: زوجتني ابنتك؟ فقال الآخر: زوجت، أو قال: نعم، فلا يكون عند الحنفية زواجاً، ما لم يقل الموجب بعدئذ: قبلت؛ لأن قوله: زوجتني؟ استفهام أو استخبار، وليس بعقد، بخلاف صيغة الأمر: زوجني، فإنه توكيل ضمني، كما عرفنا.
والخلاصة: لا ينعقد الزواج عند الشافعية إلا بصيغة الماضي، ومن مادة الزواج والنكاح، وينعقد عند المالكية والحنفية بالماضي والمضارع والأمر، إذا دلت القرينة أو دلالة الحال على أنه للإيجاب، لا للوعد.
ولا يشترط عند الجمهور غيرالحنابلة تقديم الإيجاب على القبول، بل يندب، بأن يقول الولي: زوجتك إياها أو أنكحتك. وقال الحنابلة: إذا تقدم القبول على الإيجاب، لم يصح، سواء أكان بلفظ الماضي: تزوجت، أم بلفظ الطلب: زوجني.
__________
(1) وهذا مقتضى الاستحسان عندهم الذي تركوا به القياس لما روي «أن بلالاً رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال: لولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرني أن أخطب إليكم، لما خطبت، فقالوا له: ملكت» ولم ينقل أن بلالاً أعاد القول: ولو فعل لنقل.(9/36)
ثالثاً ـ انعقاد الزواج بعاقد واحد:
قال الحنفية (1) : ينعقد الزواج بعاقد واحد إذا كانت له ولاية من الجانبين، سواء أكانت ولايته أصلية كولاية القرابة، أم طارئة كولاية الوكالة:
1ً - بأن كان العاقد ولياً من الجانبين كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة، والأخ إذا زوج بنت أخيه من ابن أخيه الصغير.
2ً - أو كان أصيلاً وولياً كابن العم إذا تزوج بنت عمه من نفسه.
3ً - أو كان وكيلاً من الجانبين.
4ً - أو كان رسولاً من الجانبين.
5ً - أو كان أصيلاً من جانب، ووكيلاً من جانب آخر، كأن توكل امرأة رجلاً ليزوجها من نفسه، أو وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه.
وأجاز الشافعي انعقاد الزواج في الحالة الأولى ـ حالة الولي من الجانبين ـ كالجد يزوج بنت ابنه من ابن ابنه (2) .
وأجاز المالكية (3) لابن العم ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه.
ولا ينعقد الزواج بعاقد فضولي واحد، ولو بعبارتين؛ لأن تعدد العاقد شرط في كل العقود، سواء أكان التعدد حقيقة بأن يكون هناك شخصان يصدر منهما الإيجاب والقبول، أم حكماً بأن يكون هناك شخص واحد له صفة شرعية وولاية من الجانبين. وينعقد العقد فيما لو قال فضولي: زوجت فلانةمن فلان، وهما غائبان، فقبل فضولي آخر عن الزوج.
وأدلة انعقاد الزواج بعاقد واحد استثناءً من مبدأ تعدد العاقد:
أولاً ـ ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم: أتجعلين أمرك إليَّ؟ قالت: نعم، قال: فقد تزوجتك. فهذا دليل الحالة الأخيرة وهو أن يكون العاقد أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب.
ثانياً ـ ما رواه أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي قال لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه» فهذا دليل الحالة الثالثة: وهوأن يكون وكيلاً من الجانبين.
ثالثاً: يقاس على المذكور في الحديثين السابقين بقية الحالات، لاشتراكها في المعنى، وهو أن للعاقد في الجميع صفة شرعية عند إجراء العقد، إما الولاية على الغير أو الوكالة عن الغير أو الأصالة عن النفس.
__________
(1) البدائع: 231/2، 233.
(2) ولا يزوج ابن العم نفسه، بل يزوجه ابن عم في درجته، فإن فقد فالقاضي (مغني المحتاج: 163/3) .
(3) القوانين الفقهية: ص 200، الشرح الكبير: 233/2.(9/37)
رابعاً ـ انعقاد الزواج بالكتابة والإشارة:
ينعقد الزواج أحياناً بالكتابة أو الإشارة على التفصيل الآتي (1) :
1 ًَ - الناطق في حال الحضور: إن كان العاقدان حاضرين معاً في مجلس العقد وكانا قادرين على النطق: فلا يصح بالاتفاق الزواج بينهما بالكتابةأو الإشارة، ولو كانت الكتابة بينة واضحة، والإشارة مفهمة في الدلالة على إنشاء الزواج، للاستغناء عنها بالنطق، ولأن اللفظ هو الأصل في التعبير عن الإرادة، ولا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة هنا، ولأنه لا يتيسر للشهود سماع كلام العاقدين في حال الكتابة.
2 ً - الناطق في حال الغيبة: إذا كان أحد العاقدين غائباً عن مجلس العقد: ينعقد الزواج عند الحنفية بالكتابة أو إرسال رسول، إذا حضر شاهدان عند وصول الكتاب أو الرسول؛ لأن الكتاب من الغائب خطابه، قال الحنفية (2) : «الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر» .
مثال الكتاب: أن يكتب رجل لخطيبته: تزوجتك أو زوجيني نفسك، فقالت المرأة في مجلس وصول الكتاب: قبلت الزواج، بحضور شاهدين، صح الزواج؛ لأن سماع الشاهدين شطري العقد (الإيجاب والقبول) شرط لصحة الزواج.
ومثال إرسال الرسول: أن يرسل الخاطب إلى خطيبته الغائبة عن المجلس شخصاً يبلغها الإيجاب مشافهة، فإذا قبلت في مجلس بلوغ الرسالة بحضور شاهدين، تم الزواج.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا ينعقد الزواج بكتابة في غيبة أو حضور؛ لأن الكتابة كناية، فلو قال الولي لغائب: زوجتك ابنتي، أو قال: زوجتها من فلان، ثم كتب، فبلغه الكتاب، أي الخبر، فقال: قبلت، لم يصح العقد.
__________
(1) البدائع: 231/2، مغني المحتاج: 141/3، المحرر في الفقه الحنبلي: 15/2، كشاف القناع: 39/5، مواهب الجليل للحطاب: 228/4 وما بعدها، قال الدردير في الشرح الصغير: 350/2: ولا تكفي الإشارة ولا الكتابة إلا لضرورة خرس.
(2) الفتاوى الخانية: 482/1.(9/38)
3 ً - الأخرس: إذا كان أحد العاقدين أخرس أو معتقل اللسان:
أـ فإن كان قادراً على الكتابة، انعقد الزواج بها كما ينعقد بالإشارة، بالاتفاق حتى عند الشافعية؛ لأنها ضرورة، لكن في الرواية الظاهرة عند الحنفية: لا ينعقد بالإشارة، وإنما ينعقد بالكتابة في حال القدرة عليها؛ لأن الكتابة أقوى في الدلالة على المراد، وأبعد عن الاحتمال من الإشارة. وعلى كل حال: الكتابة بالاتفاق أولى من الإشارة؛ لأنها بمنزلة الصريح في الطلاق والإقرار.
ب ـ وإن كان الأخرس أو نحوه عاجزاً عن الكتابة: انعقد الزواج بالإشارة المفهمة المعلومة بالاتفاق؛ لأنها حينئذ الوسيلة المتعينة للتعبير عن الإرادة.
والخلاصة: ينعقد نكاح الأخرس بكتابته أو إشارته عند الفقهاء وتتعين الكتابة عند الحنفية إذا قدر عليها.
وقد نص القانون السوري (م 7) على أنه: يجوز أن يكون الإيجاب والقبول بالكتابةإذا كان أحد الطرفين غائباً عن المجلس.
ونصت المادة (10) على أنه: يصح الإيجاب أو القبول من العاجز عن النطق بالكتابة إذا كان يكتب، وإلا فبإشارته المفهمة.
وجاء في المادة (128) من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية بمصر: «إقرار الأخرس يكون بإشارته المعهودة، ولا يعبر إقراره بالإشارة إذا كان يمكنه الإقرار بالكتابة» .(9/39)
المبحث الثالث ـ شروط الزواج:
أنواع الشروط: بينت سابقاً أن الشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجاً عن حقيقته. وشروط كل عقد، ومنها الزواج، أربعة أنواع: شروط الانعقاد: وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم.
وشروط الانعقاد: هي التي يلزم توافرها في أركان العقد، أو في أسسه. وإذا تخلف شرط منها، كان العقد باطلاً بالاتفاق.
وشروط الصحة: هي التي يلزم توافرها لترتب الأثر الشرعي على العقد. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد عند الحنفية فاسداً، وعند الجمهور باطلاً.
وشروط النفاذ: هي التي يتوقف عليها ترتب أثر العقد عليه بالفعل، بعد انعقاده وصحته. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد عند الحنفية والمالكية موقوفاً.
وشروط اللزوم: هي التي يتوقف عليها استمرار العقد وبقاؤه. فإذا تخلف شرط منها، كان العقد (جائزاً) أو (غير لازم) : وهو الذي يجوز لأحد العاقدين أو لغيرهما فسخه.
والعقد الباطل: لا يترتب عليه أي أثر من آثار العقد الصحيح، فالزواج الباطل لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج، ولو بعد الدخول، ويعتبر في منزلة العدم. فلا يثبت به النسب من الأب، ولا تجب بعده العدة على المرأة، مثل الزواج بإحدى المحارم كالأخت والبنت، والزواج بالمرأة المتزوجة برجل آخر.
والعقد الفاسد: يثبت له عند الحنفية بعض آثار العقد الصحيح، فالزواج الفاسد يثبت به آثار الدخول بالزوجة، فيثبت به النسب، وتجب بالتفريق أو المتاركة العدة على المرأة، مثل الزواج بغير شهود، والزواج المؤقت، والزواج بالأخت على أختها في عصمة الزوج، أو في أثناء العدة.(9/40)
شروط انعقاد الزواج:
يشترط لانعقاد الزواج شروط في العاقدين ـ الرجل والمرأة، وشروط في الصيغة ـ الإيجاب والقبول (1) .
أولاً ـ شروط العاقدين:
يشترط في عاقدي الزواج شرطان:
1ً - أهلية التصرف: أن يكون العاقد لنفسه أو لغيره أهلاً لمباشرة العقد، وذلك بالتمييز فقط، فإذا كان غير مميز كصبي لم يبلغ السابعة ومجنون، لم ينعقد الزواج؛ ويكون باطلاً؛ لعدم توافر الإرادة والقصد الصحيح المعتبر شرعاً.
ولا يشترط البلوغ لانعقاد الزواج وصحته، وإنما هو شرط لنفاذ العقد عند الحنفية.
وأجاز الشافعية للولي من أب أو جد تزويج صغير مميز ولو أكثر من واحدة إن رآه الولي مصلحة؛ لأن تزويجه بالمصلحة؛ وقد تقتضي ذلك (2) . وأجاز الحنابلة (3) أيضاً للأب خاصة تزويج ابنه الصغير أو المجنون ولو كان كبيراً، روى الأثرم: «أن ابن عمر زوج ابنه وهوصغير، فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعاً» وللأب أن يزوج الصغير بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة. وأجاز المالكية (4) للأب والوصي والحاكم تزويج المجنون والصغير لمصلحة كالخوف من الزنا أو الضرر، أو ممن تحفظ له ماله، والصداق على الأب.
2ً - سماع كلام الآخر: أن يسمع كل من العاقدين لفظ الآخر، ولو حكماً كالكتاب إلى امرأة غائبة، ويفهم أن المقصود منه إنشاء الزواج، ليتحقق رضاهما به. والأدق أن يعتبر هذا شرطاً في صيغة العقد. ولا يشترط عند الحنفية توافر حقيقة الرضا، فيصح الزواج مع الإكراه والهزل.
ثانياً ـ شروط المرأة:
يشترط في المرأة لأجل عقد الزواج شرطان:
1ً - أن تكون أنثى محققة الأنوثة: فلا ينعقد الزواج على الرجل أو الخنثى المشكل: وهو الذي لا يستبين أمره، أهو رجل أم أنثى، ويكون الزواج على خنثى باطلاً.
2ً - ألا تكون محرَّمة على الرجل تحريماً قاطعاً لا شبهة فيه: فلا ينعقد الزواج بالمحارم كالبنت والأخت والعمة والخالة، والمتزوجة بزوج آخر، والمعتدة، والمرأة المسلمة بغير المسلم، والزواج في كل هذه الحالات باطل.
__________
(1) البدائع: 232/2، الدر المختار ورد المحتار: 366/2، 367، 373.
(2) مغني المحتاج: 169/3، المهذب: 40/2.
(3) كشاف القناع: 43/5-44.
(4) الشرح الصغير: 396/2.(9/41)
ثالثاً ـ شروط صيغة العقد - الإيجاب والقبول:
الصيغة: هي الإيجاب والقبول، ويشترط فيها بالاتفاق أربعة شروط هي ما يأتي:
1 - اتحاد المجلس إذا كان العاقدان حاضرين: وهو أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن يتحد مجلس الإيجاب والقبول، لا مجلس المتعاقدين؛ لأن شرط الارتباط اتحاد الزمان، فجعل المجلس جامعاً لأطرافه تيسيراً على العاقدين. فإن اختلف المجلس، فلا ينعقد العقد، فإذا قالت المرأة: زوجتك نفسي، أو قال الولي: زوجتك ابنتي، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل يفيد انصرافه عن المجلس، ثم قال: قبلت بعدئذ، فإنه لا ينعقد العقد عند الحنفية. وهذا يدل على أن مجرد الوقوف بعد القعود يغير المجلس. وكذلك إذا انصرف العاقد الأول عن المجلس بعد الإيجاب، فقبل الآخر وهو في المجلس في غيبة الأول أوبعد عودته، لم ينعقد العقد. ويتغير المجلس عند الحنفية بالسير حال المشي أو الركوب على دابة بأكثر من خطوتين، كما يعد نوم العاقدين مضطجعين، لا جالسين، دليل الإعراض عن القبول. لكن لا يشترط الفور في القبول؛ فينعقد العقد وإن طال المجلس. وينعقد إن كان العاقدان على سفينة سائرة؛ لأن السفينة في حكم مكان واحد.
والمعول عليه في الحقيقة في الحد الفاصل بين اتحاد المجلس واختلافه هوالعرف، فما يعتبر في العرف إعراضاً عن العقد أو فاصلاً بين الإيجاب والقبول يكون مغيراً لمجلس العقد، وما لا يعتبر فيه إعراضاً عن العقد أو فاصلاً بين الإيجاب والقبول لا يكون مغيراً للمجلس.
وعند الجمهور (1) : يشترط الفور بألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل كثير (2) ، وعبارة الشافعية: يشترط ألا يطول الفصل في لفظي العاقدين بين الإيجاب والقبول، فإن طال ضر؛ لأن طول الفصل يخرج القبول عن أن يكون جواباً عن الإيجاب. والفصل الطويل: هو ما أشعر بإعراضه عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي
__________
(1) مغني المحتاج: 5/2-6، كشاف القناع: 136/3، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 356/2.
(2) استثنى المالكية من وجوب الفور بين الإيجاب والقبول مسألة: هي أن يقول الرجل في مرضه: إن مت فقد زوجت ابنتي فلانة من فلان، فهذا يصح، طال الأمر أو لا.(9/42)
عن العقد، ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول، وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضاً عن القبول.
وأما في حال غيبة أحد العاقدين عن الآخر، والتعاقد بطريق الكتابة أو الرسالة، فقال الحنفية: مجلس عقد الزواج: وهو مجلس قراءة الكتاب أمام الشهود، أو سماع رسالة الرسول بحضرة الشهود، فعندئذ يتحد المجلس؛ لأن الكتاب بمنزلة الخطاب من الكاتب، ولأن كلام الرسول كلام المرسل؛ لأنه ينقل عبارة المرسل، فكان قراءة الكتاب، وسماع قول الرسول، وكلام الكاتب معنى، وسماع قول المرسل معنى. فإن لم يقرأ الكتاب أو لم يسمع كلام الرسول لا ينعقد العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لاشتراط الشهادة على شطري العقد.
وإن قرأت المرأة الكتاب أو سمعت الرسالة أمام الشهود، ثم قامت من المجلس لقضاء مصلحة أخرى، أو اشتغلت بالحديث في شيء آخر أجنبي عن العقد، ثم قالت: زوجت نفسي من فلان، فلا ينعقد الزواج، لاختلاف المجلس.
لكن لو أعادت المرأة قراءة الكتاب في مجلس آخر، فقبلت أمام الشهود، صح العقد، لبقاء الكتابة، أما لو أعاد الرسول الإيجاب في مجلس آخر، فقبلت، لم يصح؛ لأن رسالته انتهت أولاً بخلاف الكتابة لبقائها.
2 - توافق القبول مع الإيجاب ومطابقته له: يتحقق التوافق باتحاد القبول والإيجاب في محل العقد وفي مقدار المهر، فإذا تخالفا فإن كانت المخالفة في محل العقد، مثل قول أبي الفتاة: زوجتك خديجة، فيقول الرجل: قبلت زواج فاطمة، فلا ينعقد الزواج؛ لأن القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب فيه، فلم يصح، كما لو ساومه بثوب، وأوجب العقد في غيره بغير علم المشتري (1) . وإن كانت
__________
(1) المغني: 546/6 وما بعدها.(9/43)
المخالفة في مقدار المهر، مثل: زوجتك ابنتي على ألف درهم، فقال الزوج: قبلت الزواج بثمانمائة، لا ينعقد العقد، إلا إذا كانت المخالفة لخير، بأن قال الزوج: قبلت بألف ومائة، فيصح العقد عند الحنفية.
وسبب عدم انعقاد العقد في المخالفة بمقدار المهر، وإن لم يكن المهر ركناً من أركان العقد: هو أن المهر إذا ذكر في العقد، التحق بالإيجاب وصار جزءاً منه، فيلزم أن يأتي القبول على وفق الإيجاب، حتى ينعقد العقد.
فإن لم يذكر المهر في العقد، أو صرح بأن لا مهر للمرأة، فلا يكون جزءاً من الإيجاب، ولكن يجب في هذه الحالة مهر المثل؛ لأن المهر في الزواج واجب بإيجاب الشرع، فلا يصح إخلاء الزواج منه.
3 - بقاء الموجب على إيجابه: يشترط عدم رجوع الموجب عن الإيجاب قبل قبول العاقد الآخر، فإن رجع بطل الإيجاب، ولم يجد القبول شيئاً يوافقه.
ولا يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلا إذا اتصل به القبول، كما في البيع، فلو وجد الإيجاب من أحد المتعاقدين، كان له أن يرجع قبل قبول الآخر؛ لأن كلاً من الإيجاب والقبول ركن واحد، فكان أحدهما بعض الركن، والمركب من شيئين لا وجود له بأحدهما.(9/44)
4 - التنجيز في الحال: الزواج كالبيع يشترط فيه كونه في الحال، فلا يجوز في المذاهب الأربعة كونه مضافاً إلى المستقبل، كتزوجتك غداً، أو بعد غد، ولا معلقاً على شرط غير كائن، كتزوجتك إن قدم زيد، أو إن رضي أبي، أو إذا طلعت الشمس فقد زوجتك بنتي؛ لأن عقد الزواج من عقود التمليكات أو المعاوضات، وهي لا تقبل التعليق ولا الإضافة، ولأن الشارع وضع عقد الزواج ليفيد حكمه في الحال، والتعليق والإضافة يناقضان الحقيقة الشرعية (1) . لكن يصح التعليق بشرط ماض كائن لا محالة، فينعقد العقد في الحال، كأن خطب شخص بنتاً لابنه، فقال أبوها: زوجتها قبلك من فلان، فكذبه، فقال: إن لم أكن زوجتها لفلان، فقد زوجتها لابنك، فقبل، ثم علم كذبه، انعقد العقد، لتعليقه بموجود، وكذا إذا وجد المعلق عليه في المجلس. ومثل: تزوجتك إن كان عمرك عشرين، وكانت في الواقع كذلك. ومثل: تزوجتك إن رضي أبي، وكان أبوها في المجلس فرضي، صح العقد.
وذكر الشافعية: أنه لو قال الولي: زوجتك إن شاء الله، وقصد التعليق أو أطلق، لم يصح العقد، وإن قصد التبرك، أو أن كل شيء بمشيئة الله تعالى، صح. ولو قال: إن كان ما ولد لي من ولد أنثى فقد زوجتها، أو قال: إن كانت بنتي طلقت واعتدت، فقد زوجتها، فالمذهب بطلان الزواج في هذه الصور لوجود صورة التعليق.
والحاصل أنه لا يجوز تعليق الزواج بشرط باتفاق المذاهب، لكن قال ابن القيم: «ونص الإمام أحمد على جواز تعليق النكاح بالشرط» (2) والبيع أولى بالجواز. لكن ذكر ابن قدامة أن تعليق النكاح على شرط يبطله (3) . أما القانون فقد نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م 13) على أنه: «لا ينعقد الزواج المضاف إلى المستقبل، ولا المعلق على شرط غير متحقق» .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 367/2، 379، 405، مغني المحتاج: 141/3.
(2) أعلام الموقعين: 28/4، ط محي الدين عبد الحميد.
(3) المغني: 551/6.(9/45)
هل يثبت الخيار في عقد الزواج؟ لا يثبت في الزواج خيار باتفاق أكثر الفقهاء (1) ، سواء في ذلك خيار المجلس وخيار الشرط؛ لأن الحاجة غير داعية إليه، فإنه لا يقع في الغالب إلا بعد ترو وتفكر، ولأن الزواج ليس بمعاوضة محضة، ولأن ثبوت الخيار يؤدي إلى فسخ الزواج، وفي فسخه بعد العقد ضرر بالمرأة، لكن أثبت المالكية خيار المجلس في الزواج إذا اشتُرِط (2) .
مذاهب الفقهاء في الشروط المشترطة في الزواج:
الشروط في الزواج: هي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه غرض. ويراد بها الشروط المقترنة بالإيجاب أو القبول، أي أن الإيجاب يحصل ولكن يصاحبه شرط من الشروط. وللفقهاء تفصيلات فيها، نذكر رأي كل مذهب فيها على حدة. وهذا بخلاف حالة الإيجاب المعلق على شرط، فإن الإيجاب لا وجود له قبل وجود الشرط.
1 - مذهب الحنفية (3) :
أـ إن كان الشرط صحيحاً يلائم مقتضى العقد، ولايتنافى مع أحكام الشرع، وجب الوفاء به، كاشتراط المرأة أن يسكنها وحدها في منزل، لا مع أهله أو مع ضَرَّتها، أو ألا يسافر بها سفراً بعيداً إلا بإذن أهلها.
أو تزوجا على مهر مسمى، وشرط لها شيئاً آخر، بأن تزوجها بألف على ألا يخرجها من بلدها، أو على ألا يتزوج عليها، فإن وفى بالشرط، فلها المهر المسمى؛ لأنه يصلح مهراً، وقد تم رضاها به، وإن لم يف بالشرط، بأن تزوج عليها، أو أخرجها، فلها مهر المثل؛ لأنه سمى لها شيئاً لها فيه نفع، فعند فواته يجب لها مهر المثل، لعدم رضاها به.
ومثله الشرط الذي تأمر به الشريعة، كاشتراطها عليه أن يحسن معاملتها أو لا يخرجها إلى النوادي والمراقص ونحوها.
__________
(1) المغني: 536/6، بداية المجتهد: 7/2 ومابعدها.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 351/2.
(3) الدر المختار: 405/2، تبيين الحقائق: 148/2، فتح القدير: 107/3 ومابعدها.(9/46)
قالوا: ومن الشروط الصحيحة عندهم: لو تزوجها على أن أمرها بيدها، صح. لكن لو قال: زوجني ابنتك على أن أمرك بيدك، لم يكن له الأمر؛ لأنه تفويض قبل النكاح.
ب ـ وأن كان الشرط فاسداً، أي لا يلائم مقتضى العقد، أو لا تجيزه أحكام الشرع، فالعقد صحيح، ويبطل الشرط وحده، مثل اشتراط الخيار لأحد الزوجين أو لكل منهما أن يعدل عن الزواج في مدة معينة، وهذا بخلاف القاعدة العامة: وهي أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية كالبيع يفسدها.
فإن ورد النهي عن الشرط، كاشتراط طلاق ضرتها، كره الوفاء به، لحديث «لا يحل لامرأة تسأل طلاق ضَرتها» .
2 - مذهب المالكية (1) :
الشروط التي تقترن بعقد الزواج نوعان: شروط صحيحة، وشروط فاسدة.
أما الشروط الصحيحة: فنوعان: مكروهة وغير مكروهة.
فالشروط الصحيحة غير المكروهة: هي التي تتفق مع مقتضى العقد، كالإنفاق على المرأة أو حسن معاشرتها، أو أن تطيع الرجل أو ألا تخرج من البيت إلا بإذنه.
ومنها اشتراط كون المرأة سليمة من العيوب التي لا تجيز فسخ الزواج، مثل ألا تكون عمياء أو عوراء أو صماء أو خرساء أو أن تكون بكراً أو بيضاء، ونحوها.
والشروط الصحيحة المكروهة: هي التي لا تتعلق بالعقد، أو لا تنافي المقصود من العقد، وإنما فيها تضييق على الر جل، مثل شرط عدم إخراجها من بلدها، أو عدم السفر بها، أو عدم نقلها من مكان كذا، وشرط عدم التزوج عليها، ونحوها، ولا تلزم الزوج إلا أن يكون فيها يمين بعتق أو طلاق، فإن الشرط يلزمه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص218-220، الشرح الصغير: 384/2-386، 595، بداية المجتهد: 58/2.(9/47)
وأما الشروط الفاسدة: فهي التي تنافي أو تناقض مقتضى العقد أو المقصود من الزواج، مثل شرط ألا يقسم بينها وبين ضَرَّتها في المبيت، أو أن يُؤْثر عليها ضَرّتها أسبوعاً أو أقل أو أكثر تستقل بها عنها. وشرط المرأة عند زواجها بمحجور عليه أن تكون نفقتها على وليه: أبيه أو سيده، أو على نفسها أو أبيها فإنه شرط مناقض لمقصود الزواج، لأن الأصل أن نفقة الزوجة على زوجها، فشرط خلافه مضر. ومثل اشتراط الخيار في الزواج (1) ، أو اشتراط ما يؤثر في جهالة المهر كأن يتزوجها على أن لها من النفقة كذا كل شهر؛ لأنه لا يدري إلى متى تستمر هذه النفقة.
ومثل أن تشترط المرأ ة على الرجل أن يكون أمرها بيدها، تطلق نفسها متى شاءت، أو أن ينفق على ولدها من غيره، أو على أقاربها كأبيها أوأخيها، ونحوها. وحكم هذه الشروط: أنها تبطل العقد ويجب فسخه ما لم يدخل الرجل بالمرأة، فإن دخل بها مضى العقد، وألغي الشرط، وبطل المسمى، ووجب للمرأة مهر المثل. إلا أنه في مسألة جعل المرأة أمرها بيدها قالوا:
أـ إن علق أمر الطلاق بيدها على سبب: فإن كان السبب فعلاً يفعله الزوج فهو جائز لازم للزوج، مثل أن يشرط لها أنه متى ضربها أو سافر عنها، فأمرها بيدها أو بيد أبيها أو غيره، ومثله إن كان الالتزام على يمين بطلاق أو عتق كأن حلف ألا يتزوج عليها، على أن يحدد نوع الطلاق المفوض لها، أهو رجعي أو بائن، أو ثلاث، أو أي طلاق شاءت، فحينئذ يلزم الزوج بالشرط.
ب ـ وإن كان سببه فعل غير الزوج لم ينفذ، ولم يلزم الزوج، والنكاح جائز.
__________
(1) اشتراط الخيار: هو أن يكون للزوجين أو لأحدهما حق العدول عن الزواج بعد مدة معينة.(9/48)
3 - مذهب الشافعية (1) :
الشروط نوعان: صحيحة وفاسدة.
أـ الشروط الصحيحة الواقعة في الزواج: هي التي وافق الشرط فيها مقتضى عقد النكاح، كشرط النفقة والقسم بين الزوجات، أو لم يوافق مقتضى النكاح ولكنه لم يتعلق به غرض، كشرط ألا تأكل إلا كذا. وحكمها: أن الشرط يلغو، أي لا تأثير له في الصورتين لانتفاء فائدته، ويصح النكاح والمهر، كما هو الحكم في البيع.
ب ـ وأما الشروط الفاسدة: فهي التي تخالف مقتضى عقد النكاح ولم يخل بمقصوده الأصلي: وهو الوطء، كشرط ألا يتزوج عليها، أو ألا نفقة لها أو ألا يسافر بها، أوألا ينقلها من بلدها، وحكمها: أن الزواج يصح لعدم الإخلال بمقصوده وهو الوطء أو الاستمتاع، ويفسد الشرط لأنه يخالف مقتضى العقد، سواء أكان لها كالمثال الأول والثالث والرابع، أم عليها كالمثال الثاني، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (2) ، ويفسد المهر أيضاً؛ لأن الشرط إن كان لها، فلم ترض بالمسمى وحده، وإن كان عليها فلم يرض الزوج ببدل المسمى إلا عند سلامة ما شرطه.
فإن أخل الشرط بمقصود الزواج الأصلي: كأن شرط ألا يطأها الزوج أصلاً، أوألا يطأها إلا مرة واحدة مثلاً في السنة، أو شرطت المرأة ألا يطأها إلا ليلاً فقط أو إلا نهاراً فقط، أوشرط أن يطلقها ولو بعد الوطء، بطل الزواج؛ لأنه شرط ينافي مقصود العقد فأبطله. فإن شرط الزوج ألا يطأها ليلاً لم يبطل العقد؛ لأن الزوج يملك الوطء ليلاً ونهاراً وله أن يترك، فإن شرط ألا يطأها فقد شرط ترك ما له تركه، وأما المرأة فيستحق عليها الوطء ليلاً ونهاراً، فإذا اشترطت ألا يطأها فقد شرطت منع الزوج من حقه، وهو ينافي مقصود العقد، فبطل.
وكذا لو شرط الرجل أنها لا ترثه، أو أنه لا يرثها، أو أنهما لا يتوارثان، أو أن النفقة على غير الزوج، بطل الزواج أيضاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 226/3 ومابعدها، المهذب: 47/2.
(2) متفق عليه من حديث عائشة في قصة بريرة (نيل الأوطار: 91/6) .(9/49)
4 - مذهب الحنابلة (1) :
الشروط عندهم كالشافعية: إما صحيحة أو فاسدة، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول ـ الشروط الصحيحة: وهي التي يقتضيها العقد أو لا يقتضيها العقد ولكن فيها منفعة لأحد العاقدين، ولم يرد في الشرع ما ينهى عنها ما دامت لا تخل بالمقصود من العقد، وحكمها: أنه يلزم الوفاء بها، لما فيها من منفعة وفائدة.
مثل أن تشترط المرأة على الرجل أن ينفق عليها أو أن يحسن معاشرتها، أو ألا يتزوج عليها، أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها، أو ألا يسافر بها.
ومثل أن يشترط الرجل في المرأة أن تكون بكراً أو جميلة أو متعلمة أو خالية من العيوب التي لا يثبت فيها الخيارفي فسخ الزواج كالعمى والخرس والعرج ونحوها.
ودليل لزوم الوفاء بهذه الشروط: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (2) وحديث «المسلمون على شروطهم» (3) ، وروى الأثرم بإسناده: «أن رجلاً تزوج امرأة، وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها، فقال الرجل: إذن تطلقينا؟ فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط» ولأنه شرط لها فيه منفعة، ولا يمنع المقصود من الزواج، فكان لازماً، كما لو شرطت زيادة في المهر أو غير نقد البلد.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» أي ليس في حكم الله وشرعه، وهذا مشروع.
وأما الشروط غير الصحيحة: فهي التي ورد عن الشرع نهي عنها أو التي تنافي مقتضى العقد، وتشمل النوعين الثاني والثالث.
النوع الثاني ـ ما يبطل الشرط ويصح العقد: مثل أن يشترط الرجل ألا مهر للمرأة، أو ألا ينفق عليها، أو إن أصدقها رجع عليها.
__________
(1) المغني: 548/6-552، كشاف القناع: 98/5 ومابعدها.
(2) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) وسعيد بن منصور عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار: 142/6) .
(3) رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن عوف المزني (سبل السلام: 59/3) .(9/50)
أو تشترط المرأة على الرجل ألا يطأها أو يعزل عنها أو يقسم لها أقل من قَسمْ صاحبتها أو أكثر، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل، أو شرط على المرأة أن تنفق عليه أو تعطيه شيئاً.
فهذه الشروط كلها باطلة في نفسها؛ لأنها تنافي مقتضى العقد، ولأنها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، فلم يصح.
ومن هذا النوع: إن شرطت عليه أن يطلق ضرتها، لم يصح الشرط، لنهي الشرع عنه، لما روى أبو هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تشترط المرأة طلاق أختها» (1) وفي لفظ: «لا تسأل المرأة لتنكح» أو «لتكفئ ما في صحفتها أو إنائها، فإنما رزقها على الله» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأنها شرطت عليه فسخ عقده، وإبطال حقه وحق امرأته، فلم يصح، كما لو اشترطت عليه فسخ بيعه.
النوع الثالث ـ ما يبطل الزواج من أصله: مثل اشتراط تأقيت الزواج، وهو نكاح المتعة، أو أن يطلقها في وقت بعينه، أو يعلقه على الشرط، مثل أن يقول الولي: زوجتك إن رضيت أمها، أو فلان، أويشترط الخيار في الزواج لهما أو لأحدهما.
هذه شروط باطلة في نفسها، ويبطل بها الزواج، ومنها أن يجعل صداقها تزويج امرأة أخرى، وهو نكاح الشغار. أما إن شرط الخيار في الصداق خاصة، فلا يفسد الزواج؛ لأن الزواج ينفرد عن ذكر الصداق.(9/51)
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على صحة الشروط التي تلائم مقتضى العقد، وعلى بطلان الشروط التي تنافي المقصود من الزواج أو تخالف أحكام الشريعة. واتفق الحنفية والمالكية والحنابلة على صحة الشروط التي يكون فيهاتحقيق وصف مرغوب فيه، أو خلو المرأة من عيب لا يثبت الخيار في فسخ الزواج. واختلفوا في الشروط التي لا تكون من مقتضى العقد، ولكنها لا تنافي حكماً من أحكام الزواج، وفيها منفعة لأحد العاقدين، كاشتراط ألا يتزوج عليها أو ألا يسافر بها، أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها ونحوها:
فالحنابلة يقولون: إنها شروط صحيحة يلزم الوفاء بها.
والحنفية يقولون: إنها شروط ملغاة، والعقد صحيح.
والمالكية يقولون: إنها شروط مكروهة لا يلزم الوفاء بها، بل يستحب فقط.
والشافعية يقولون: إنها شروط باطلة، ويصح الزواج بدونها.
ورأي الحنابلة هو الراجح لدي، للأدلة السابقة التي ذكروها، لذا أخذ به القانون السوري.
وأما تأثير الشرط الفاسد على العقد: فعند الحنفية: الشرط الفاسد لا يفسد العقد، وإنما يلغى الشرط وحده، ويصح العقد. والحنابلة يوافقون الحنفية فيما ذكر إلا في بعض الشروط فإنها تبطل العقد، منها توقيت العقد، واشتراط طلاق المرأة في وقت معين، واشتراط الخيار في فسخ الزواج في مدة معينة. وهذا هو النوع الثالث عندهم. وأما عند الشافعية: فإن الشرط الفاسد يفسد العقد إذا أخل بمقصود الزواج الأصلي، وإلا فسد الشرط وحده. لكن قال المالكية: يجب فسخ العقد ما دام الرجل لم يدخل بالمرأة، فإن دخل بها مضى العقد وألغي الشرط، وبطل المسمى، ووجب للمرأة مهر المثل.
__________
(1) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 142/6) .(9/52)
موقف القانون من شروط الانعقاد:
نص القانون السوري (م 1/11) على أربعة شروط لانعقاد الزواج هي:
1 - أن يتفق الإيجاب والقبول من كل وجه.
2 - أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول.
3 - أن يسمع كل من المتعاقدين كلام الآخر ويفهمه، وقد ذكر في شروط العاقدين.
4 - ألا يوجد من أحد الطرفين قبل القبول ما يبطل الإيجاب، بأن يرجع الموجب عن إيجابه قبل أن يقبل الطرف الآخر.
ونصت الفقرة الثانية من هذه المادة على أنه: يبطل الإيجاب قبل القبول بزوال أهلية الموجب، وبكل ما يفيد الإعراض من أحد الطرفين.
وهناك شرطان آخران للانعقاد، ذكر أحدهما في الأهلية، وذكر الآخر ضمناً في أنواع الزواج، وهما:
1 - أن يكون كل من العاقدين ممن تحققت فيه الأهلية الكاملة لعقد الزواج، وذلك بالعقل والبلوغ، فلا يصح عقد الزواج من مجنون، ولا صبي غير بالغ، وعدم صحة زواج المجنون متفق عليه بين الفقهاء، وأما غير البالغ فقد أخذ فيه القانون برأي ابن شبرمة وعثمان البتّي.
2 - أن يكون الزوج مسلماً بالنسبة إلى المسلمة: فلا ينعقد زواج المسلمة بغير المسلم، بل هو عقد باطل، ولا يترتب عليه أي أثر.
موقف القانون من شروط الزواج غير شروط الانعقاد:
نص قانون الأحوال الشخصية السوري (م 14) على شروط الزوج مراعياً فيها ما اتفق عليه الفقهاء، ومذهب الحنابلة بصفة خاصة، فقسم الشروط ثلاثة أقسام:
1 - شروط صحيحة يلزم الوفاء بها: وهي التي يكون فيها مصلحة مشروعة للزوجة، ولا تمس حقوق غيرها، ولا تقيد حرية الزوج في عمله الخاص المشروع، مثل ألا يسافر بها أو ألا ينقلها من بلدها أو دارها. ويحق للزوجة فسخ الزواج إن لم ينفذ الشرط، وهذا مأخوذ من مذهب الحنابلة.
2 - شروط صحيحة لا يلزم الزوج تنفيذها قضاء، وهي ما يأتي من الحالات:
أـ أن تشترط الزوجة ما يقيد حرية الزوج في عمله الخاص المشروع، كشرط ألا يسافر أو ألا يتوظف أو ألا يتزوج عليها.
ب ـ أن تشترط ما يمس حقوق غيرها: كاشتراطها أن يطلق زوجته الأخرى.(9/53)
الشرط في هاتين الحالتين صحيح، لكن لا يلزم الزوج الوفاء به، فإن لم يف، كان للزوجة طلب فسخ الزواج. وهذا موافق لمذهب الحنابلة إلا في اشتراط تطليق الضرة، فالعقد صحيح والشرط باطل.
3 - شروط باطلة لا يحق الوفاء بها، ويكون العقد معها صحيحاً: وهي أن يقيد الزواج بقيد ينافي في نظامه الشرعي، كاشتراط عدم المهر، أو إنفاق الزوجة على الزوج، أو ينافي مقاصده الشرعية، كاشتراط عدم الاستمتاع الزوجي، أو يكون الشرط محظوراً شرعاً، كاشتراط أن تسافر المرأة وحدها. وهذا موافق للمذاهب بالاتفاق.
شروط صحة الزواج:
يشترط لصحة الزواج عشرة شروط، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه (1) .
الأول ـ المحلية الفرعية، والثاني ـ التأبيد في صيغة العقد، والثالث ـ الشهادة، والرابع ـ الرضا والاختيار، والخامس ـ تعيين الزوجين، والسادس ـ عدم الإحرام بالحج أو العمرة، والسابع ـ أن يكون بصداق، والثامن ـ عدم التواطؤ على الكتمان، والتاسع ـ ألا يكون أحد الزوجين أو كلاهما في مرض مخوف، والعاشر ـ الولي.
الشرط الأول ـ المحلية الفرعية: ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤقتاً، أو تحريماً فيه شبهة، أو خلاف بين الفقهاء، كتزويج المعتدة من طلاق بائن، وتزوج أخت المطلقة التي لا تزال في العدة، والجمع بين اثنتين كلتاهما محرم للأخرى، كتزوج العمة على ابنة أخيها، والخالة على ابنة أختها، فإذا لم تتحقق هذه المحلية الفرعية كان العقد فاسداً عند الحنفية.
أما المحلية الأصلية: وهي ألا تكون المرأة محرمة على الرجل تحريماً مؤبداً، كالأخت والبنت والعمة والخالة، فهي شرط لانعقاد الزواج، فإذا لم تتحقق هذه المحلية، كان العقد باطلاً بالاتفاق، ولا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 373/2-379، 835، البدائع: 351/2-357، 363 وما بعدها، 385 وما بعدها، تبيين الحقائق: 98/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 236/2-240، الشرح الصغير: 335/2-340، 372-382، شرح الرسالة:26/2، مغني المحتاج: 144/3-147، المهذب: 40/2، المغني: 450/6-453، كشاف القناع: 41/5-74، القوانين الفقهية: ص 197-200.(9/54)
وعلى هذا إذا كان التحريم قطعياً، كان سبباً من أسباب البطلان، وإذا كان التحريم ظنياً، كان سبباً من أسباب الفساد عند الحنفية.
الزواج في حال انعدام المحلية الفرعية فاسد، يترتب عليه بالدخول بعض الآثار، لكن يحرم الدخول بالمرأة في حال فساد العقد، ويجب فيه التفريق بين الرجل والمرأة جبراً إن لم يتفرقا اختياراً.
وإذا حصل دخول بعد هذا الزواج الفاسد بالرغم من تحريمه وكونه معصية، ووجوب التفريق، فتترتب عليه بعض الآثار، فيجب فيه للمرأة أقل الأمرين من المهر المسمى ومهر المثل، وتجب عليها العدة، ويثبت به نسب الولد إن حدث حمل، ولكن لا يثبت به حق التوارث بين الزوجين.
الشرط الثاني ـ أن تكون صيغة الإيجاب والقبول مؤبدة غير مؤقتة: فإن أقِّت الزواج بمدة بطل، بأن يكون بصيغة التمتع مثل: تمتعت بك إلى شهر كذا، فتقول: قبلت، أو بالتأقيت إلى مدة معلومة أو مجهولة، مثل: تزوجتك إلى شهر أو سنة كذا، أو مدة إقامتي في هذا البلد. والنوع الأول يعرف بنكاح المتعة، والثاني يعرف بالنكاح المؤقت.
لكن قال المالكية: نكاح المتعة أوالنكاح لأجل سواء عين الأجل أم لا، يعاقب فيه الزوجان، ولا يحدان على المذهب، ويفسخ بلا طلاق، والمضرّ بيان ذلك في العقد للمرأة أو وليها، وأما لو أضمر الزوج في نفسه أن يتزوجها ما دام في هذه البلدة أو مدة سنة ثم يفارقها، فلا يضر، ولو فهمت المرأة من حاله ذلك (1) .
وقال الحنفية أيضاً: من تزوج امرأة بنية أن يطلقها إذا مضى سنة لا يكون متعة (2) .والمعتمد عند الحنابلة خلافاً لابن قدامة: أن نية الطلاق بعد مدة تبطل العقد كالتصريح بذلك.
__________
(1) الشرح الصغير: 387/2.
(2) شرح المجلة للأتاسي: 415/2.(9/55)
اتفقت المذاهب الأربعة وجماهير الصحابة على أن زواج المتعة ونحوه حرام باطل، وكونه باطلاً عند الحنفية بالرغم من أن هذا الشرط من شروط الصحة؛ لأنه منصوص على حكمه في السنة، إلا أن الإمام زفر اعتبر الزواج المؤقت صحيحاً وشرط التأقيت فاسداً أو باطلاً، أي لا عبرة بالتأقيت ويكون الزواج صحيحاً مؤبداً؛ لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. ورد عليه بأن العقد المؤقت في معنى المتعة، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ.
وقال الشيعة الإمامية (1) : يجوز زواج المتعة أو النكاح المنقطع بالمرأة المسلمة أو الكتابية، ويكره بالزانية، بشرط ذكر المهر، وتحديد الأجل أي المدة، وينعقد بأحد الألفاظ الثلاثة: وهي زوجتك، وأنكحتك، ومتعتك. ولا يشترط الشهود ولا الولي لهذا العقد. وأحكامه هي:
1 - الإخلال بذكر المهر مع ذكر الأجل يبطل العقد، وذكر المهر من دون الأجل يقلبه دائماً.
2 - لا حكم للشروط قبل العقد، ويلزم لو ذكرت فيه.
3 - يجوز اشتراط إتيانها ليلاً أو نهاراً وألا يطأها في الفرج، والعزل من دون إذنها، ويلحق الولد بالأب وإن عزل، لكن لو نفاه لم يحتج إلى اللعان.
4 - لا يقع بالمتعة طلاق بإجماع الشيعة، ولا لعان على الأظهر، ويقع الظهار على تردد.
5 - لا يثبت بالمتعة ميراث بين الزوجين، وأما الولد فإنه يرثهما ويرثانه من غير خلاف.
__________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 205-207، الروضة البهية: 103/2 وما بعدها.(9/56)
6 - إذا انقضى الأجل المتفق عليه، فالعدة حيضتان على الأشهر. وعدة غير الحائض خمسة وأربعون يوماً، وعدة الوفاة لو مات عنها في أشبه الروايتين أربعة أشهر وعشرة أيام.
7 - لا يصح تجديد العقد قبل انقضاء الأجل، ولو أراده وهبها ما بقي من المدة واستأنف.
الأدلة:
أدلة الإمامية: استدل الإمامية على مشروعية النكاح المنقطع أو المتعة بما يلي:
1ً - بقول الله تعالى: {فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء:24/4] فإنه عبر بالاستمتاع دون الزواج، وبالأجور دون المهور، مما يدل على جواز المتعة، فالاستمتاع والتمتع بمعنى واحد، وإيتاء الأجر بعد الاستمتاع يكون في عقد الإجارة، والمتعة هو عقد الإجارة على منفعة البضع. أما المهر فإنه يجب بنفس عقد النكاح قبل الاستمتاع.
2ً - ثبت في السنة جواز المتعة في بعض الغزوات منها عام أوطاس، وفي عمرة القضاء، وفي خيبر، وعام الفتح، وفي تبوك (1) ، قال ابن مسعود: «كنا نغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله (أي ابن مسعود) : {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة:87/5] (2) ، الآية.
__________
(1) نيل الأوطار: 136/6-137.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 133/6) .(9/57)
وفي صحيح مسلم عن جابر: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... وأبي بكر، حتى نهى عمر في شأن عمرو بن حريث» (1) .
وكان يقول بجواز المتعة ابن عباس وجماعة من السلف، منهم بعض الصحابة (أسماء بنت أبي بكر، وجابر وابن مسعود ومعاوية وعمرو بن حريث، وأبو سعيد وسلمة ابنا أمية بن خلف) ومنهم بعض التابعين (طاوس وعطاء، وسعيد بن جبير، وسائر فقهاء مكة ومنهم ابن جريج) .
وأجاز المتعة الإمام المهدي، وحكاه عن الباقر والصادق والإمامية (2) . وأما الشيعة الزيدية فيقولون كالجمهور بتحريم نكاح المتعة، ويؤكدون أن ابن عباس رجع عن تحليله (3) .
وأجيب عن هذه الأدلة بما يأتي (4) :
1 - إن المراد بالاستمتاع في آية {فما استمتعتم} [النساء:24/4] : النكاح؛ لأنه هو المذكور في أول الآية وآخرها، حيث بدئت بقول تعالى: {ولا تنكحوا مانكح آباؤكم} [النساء:22/4] وختمت بقوله سبحانه: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} [النساء:25/4] فدل على أن المراد بالاستمتاع هنا ما كان عن طريق النكاح، وليس المراد به المتعة المحرمة شرعاً.
وأما التعبير بالأجر: فإن المهر في النكاح يسمى في اللغة أجراً، لقوله تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف} [النساء:25/4] أي مهورهن، وقوله سبحانه: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن} [الأحزاب:50/33] أي مهورهن.
وأما الأمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع، والمهر يؤخذ قبل الاستمتاع، فهذا على طريقة في اللغة من تقديم وتأخير، والتقدير: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن، أي إذا أردتم الاستمتاع بهن، مثل قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} [الطلاق:1/65] أي إذا أردتم الطلاق، ومثل {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة:6/5] أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
__________
(1) نصب الراية: 181/3.
(2) نيل الأوطار: 135/6 وما بعدها.
(3) البحر الزخار: 22/3.
(4) الأحوال الشخصية للدكتور مصطفى السباعي: 83/1 وما بعدها.(9/58)
2 - وأما الإذن بالمتعة في السنة النبوية في بعض الغزوات، فكان للضرورة القاهرة في الحرب، وبسبب العُزْبة في حال السفر، ثم حرمها الرسول صلّى الله عليه وسلم تحريماً أبدياً إلى يوم القيامة، بدليل الأحاديث الكثيرة، منها:
أـ «يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» (1) .
ب ـ قال سلمة بن الأكوع: «رخص لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» (2) .
جـ ـ قال سَبْرة بن معبد: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة» (3) .
__________
(1) رواه مسلم وأحمد عن سَبْرة بن معبد الجهني.
(2) رواه مسلم وأحمد.
(3) رواه أحمد وأبو داود.(9/59)
د ـ عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحُمر الأهلية زمن خيبر (1) .
وأما ابن عباس: فكان يجيز المتعة للمضطر فقط، روى عنه سعيد بن جبير أنه قال: سبحان الله، ما بهذا أفتيت، وإنما هي كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأما الشيعة فقد توسعوا فيها وجعلوا الحكم عاماً للمضطر وغيره، وللمقيم والمسافر.
ومع ذلك فقد أنكر عليه الصحابة، مما يجعل رأيه شاذاً تفرد به، فقد أنكر عليه علي رضي الله عنه قائلاً له: إنك امرؤ تائه (2) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحُمر الإنسية، وأنكر عليه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، روى مسلم عنه أنه قام بمكة فقال: «إن إناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ـ يعرِّض برجل هو عبد الله بن العباس ـ فناداه ابن عباس، فقال له: إنك لجِلْف (3) جاف، فلعمري، لقد كانت المتعة تفعل في عهد أمير المتقين ـ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ـ فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك، فوالله لو فعلتها لأرجمنك بأحجارك» .
ثم نقل المحدثون عن ابن عباس أنه رجع عن قوله، روى الترمذي عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر مايرى أنه يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت هذه الآية: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6/23] ، قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام» .
__________
(1) رواه أحمد والشيخان (راجع نيل الأوطار: 134/6، نصب الراية: 177/3، في كل هذه الأحاديث) .
(2) أي حائر حائد عن الطريق المستقيم.
(3) الجلف: الغليظ الطبع القليل الفهم.(9/60)
وروى البيهقي أيضاً وأبو عوانة في صحيحه رجوع ابن عباس (1) .
والقول برجوعه هو الأصح لدى كثير من العلماء، ويؤكده إجماع الصحابة على التحريم المؤبد، ومن المستبعد أن يخالفهم، روى الحازمي في الناسخ والمنسوخ من حديث جابر بن عبد الله قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام، جاءت نسوة، فذكرنا تمتعنا، وهن تطفن في رحالنا، فجاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنظر إليهن، وقال: من هؤلاء النسوة؟ فقلنا: يارسول الله، نسوة تمتعنا منهن، قال: فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، وتمعَّر وجهه، وقام فينا خطيباً، فحمد لله وأثنى عليه، ثم نهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء، ولم نعد، ولا نعود لها أبداً، فبها سميت يومئذ: ثنية الوداع» (2) .
وروى أبو عوانة عن ابن جريج أنه قال في البصرة: اشهدوا أني قد رجعت عن المتعة، بعد أن حدثهم فيها ثمانية عشرة حديثاً أنه لا بأس بها (3) .
كل هذا يدل على نسخ إباحة المتعة، ولعل ابن عباس ومن وافقه من الصحابة والتابعين لم يبلغه الدليل الناسخ. فإذا ثبت النسخ وجب المصير إليه، أو يقال: إن إباحة المتعة كانت في مرتبة العفو التي لم يتعلق بها الحكم كالخمر قبل تحريمها، ثم ورد النص القاطع بالتحريم.
__________
(1) نيل الأوطار: 135/6.
(2) نصب الراية: 179/3.
(3) نيل الأوطار: 136/6.(9/61)
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على تحريم نكاح المتعة بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول:
1ً - أما القرآن: فقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم، أو ماملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:5/23-6] هذه الآىة حرمت الاستمتاع بالنساء إلا من طريقين: الزواج وملك اليمين، وليست المتعة زواجاً صحيحاً، ولا ملك يمين، فتكون محرمة، ودليل أنها ليست زواجاً أنها ترتفع من غير طلاق، ولا نفقة فيها، ولا يثبت بها التوارث.
2ً - وأما السنة: فالأحاديث الكثيرة السابقة المتفق عليها التي ذكرتها عن علي وسَبْرة الجهني وسلمة بن الأكوع وغيرهم رضي الله عنهم، والمتضمنة النهي الصريح عن نكاح المتعة عام خيبر، وبعد فتح مكة بخمسة عشر يوماً، وفي حجة الوداع.
3ً - وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة إلا الإمامية على الامتناع عن زواج المتعة، ولو كان جائراً لأفتوا به. قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، أي في المتعة، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها، إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال القاضي عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها، إلا الروافض (1) .
4ً - أما المعقول: فإن الزواج إنما شرع مؤبداً لأغراض ومقاصد اجتماعية، مثل سكن النفس وإنجاب الأولاد وتكوين الأسرة، وليس في المتعة إلا قضاء الشهوة بنحو مؤقت، فهو كالزنا تماماً، فلا معنى لتحريمه مع إباحة المتعة.
وبه يتبين رجحان أدلة الجمهور والقول بتحريم المتعة وبطلان زواجها وبطلان الزواج المؤقت، وهذا ما يتقبله المنطق وروح الشريعة، ولا يمكن لأي إنسان متجرد محايد إلا إنكار المتعة والامتنا ع عنها نهائياً.
__________
(1) نيل الأوطار: 136/6.(9/62)
الشرط الثالث ـ الشهادة:
الكلام عن هذا الشرط في أربعة مواضع: آراء الفقهاء في اشتراط الشهادة على الزواج، وقت الشهادة، حكمتها، شروط الشهود.
أولاً ـ آراء الفقهاء في اشتراط الشهادة:
اتفقت المذاهب الأربعة (1) على أن الشهادة شرط في صحة الزواج، فلا يصح بلا شهادة اثنين غير الولي، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما روته عائشة: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (2) وروى الدارقطني حديثاً عن عائشة أيضاً: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدين» وروى الترمذي عن ابن عباس من قوله عليه الصلاة والسلام: «البغايا: اللاتي يَنْكحن أنفسهن بغير بينة» (3) .
ولأن في الشهادة حفاظاً على حقوق الزوجة والولد، لئلا يجحده أبوه، فيضيع نسبه، وفيها درء التهمة عن الزوجين، وبيان خطورة الزواج وأهميته.
نكاح السر: تأكيداً لشرط الشهادة قال المالكية (4) : يفسخ نكاح السر (وهو الذي يوصي فيه الزوج الشهود بكتمه عن امرأته، أو عن جماعة ولو أهل منزل) بطلقة بائنة إن دخل الزوجان، كما يتعين فسخ النكاح بدخول الزوجين بلا إشهاد، ويحدان معاً حد الزنا جلداً أو رجماً إن حدث وطء وأقرَّا به، أو ثبت الوطء بأربعة شهود كالزنا، ولا يعذران بجهل.
ولكن لا يجب الحد عليهما إن فشا النكاح وظهر بنحو ضرب دُفّ أو وليمة، أو بشاهد واحد غير الولي، أو بشاهدين فاسقين ونحو ذلك للشبهة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات» (5) .
وقال الحنابلة: لا يبطل العقد بتواص بكتمانه، فلو كتمه ولي وشهود وزوجان، صح وكره (6) .
وهناك قول شاذ لابن أبي ليلى وأبي ثور وأبي بكر الأصم: لا تشترط الشهادة في الزواج ولا تلزم؛ لأن الآيات الواردة في شأن الزواج لا تشترط الإشهاد، مثل {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3/4] {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/24] فيعمل بها على إطلاقها، والأحاديث الواردة لا تصلح مقيدة.
وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية (7) ، فإنهم قالوا: يستحب الإعلان والإظهار في النكاح الدائم والإشهاد، وليس الإشهاد شرطاً في صحة العقد عند علمائنا أجمع.
وهذا القول باطل لا يعول عليه؛ لأن أحاديث الإشهاد على الزواج مشهورة، فيصح أن يقيد بها مطلق الكتاب.
__________
(1) هذا هو المعتمد في مذهب المالكية، بخلاف ما تنقله بعض الكتب القديمة والحديثة من أنه لا يشترط الإشهاد عند مالك، بل يكفي الإعلان ولو بالدف. وهذا هو المشهور عن أحمد أنه لا ينعقد النكاح إلا بشاهدين.
(2) رواه الدارقطني وابن حبان في صحيحه.
(3) لم يرفعه غير عبد الأعلى وهو ثقة (نيل الأوطار: 125/6) .
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي: 236/2، الشرح الصغير: 336/2 وما بعدها.
(5) رواه ابن عدي في الكامل عن ابن عباس، ورواه أبو مسلم الكجي وابن السمعاني عن عمر بن عبد العزيز مرسلاً، ورواه مسدد في مسنده عن ابن مسعود موقوفاً (الجامع الصغير) ..
(6) غاية المنتهى: 27/3.
(7) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 194.(9/63)
ثانياً ـ وقت الشهادة:
يرى الجمهور غير المالكية: أن الشهادة تلزم حين إجراء العقد، ليسمع الشهود الإيجاب والقبول عند صدورهما من المتعاقدين. فإن تم العقد بدون الشهادة وقع فاسداً، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» وظاهره عند النكاح، وبه تتحقق حكمة الشهادة، ولأن الشهادة ـ كما قال الحنفية ـ شرط ركن العقد، فيشترط وجودها عند الركن.
ويرى المالكية: أن الشهادة شرط لصحة الزواج، سواء أكانت عند إبرام العقد، أم بعد العقد وقبل الدخول، ويستحب فقط كونها عند العقد، فإن لم تصح الشهادة وقت العقد أو قبل الدخول، كان العقد فاسداً، والدخول بالمرأة معصية، ويتعين فسخه كما بينت، فالشهادة عندهم شرط في جواز الدخول بالمرأة، لا في صحة العقد، وهذا محل الخلاف بين المالكية وغيرهم.
ثالثاً ـ حكمة الإشهاد:
الحكمة من اشتراط الإشهاد على الزواج بيان خطورته وأهميته، وإظهار أمره بين الناس لدفع الظِّنة والتهمة عن الزوجين.(9/64)
ولأن بالشهادة على الزواج التمييز بين الحلال والحرام، فشأن الحلال الإظهار، وشأن الحرام التستر عليه عادة. ويتحقق بالشهادة التوثق لأمر الزواج والاحتياط لإثباته عند الحاجة إليه. لهذا كله ندب الشرع إلى إعلان النكاح والدعوة إلى وليمته، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح» «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغِربال» أي الدُّف، «أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة، فإذا خطب أحدكم امرأة وقد خَضِب بالسواد، فليُعْلمها لا يَغرُّها» (1) .
رابعاً ـ شروط الشهود: ينبغي توافر أوصاف معينة في الشهود وهي أولاً ـ أن يكونوا أهلاً لتحمل الشهادة وذلك بالبلوغ والعقل، وثانياً ـ أن يتحقق بحضورهم معنى الإعلان، وثالثاً ـ أن يكونوا أهلاً لتكريم الزواج بحضورهم.
أما الأهلية: فتشترط في الشهود على الزواج بالاتفاق الأهلية الكاملة، وسماع كلام العاقدين وفهم المراد منهم، وتكون شروط الشهود هي ما يأتي:
1ً - العقل: فلا تصح شهادة المجنون على عقد الزواج، إذ لا تتحقق الغاية من الشهادة وهي الإعلان وإثبات الزواج في المستقبل عند الجحود والإنكار.
2ً - البلوغ: فلا تصح شهادة الصبي ولو كان مميزاً، لأنه لا يتحقق بحضور الصبيان الإعلان والتكريم، ولا يتناسب حضورهم مع خطورة الزواج.
وهذان الشرطان متفق عليهما بين الفقهاء، ويمكن جمعهما بشرط واحد وهو كون الشاهدين مكلفين، واختلفوا في شروط أخرى بحسب المقصود من الشهادة، أهو الإعلان فقط كما قال الحنفية، أم صيانة العقد من الجحود والإنكار كما قال الشافعية.
__________
(1) الحديث الأول رواه أحمد وصححه الحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير، والثاني أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة، وفي رواته ضعيف، والثالث أخرجه الترمذي أيضاً من حديث عائشة، وقال: حسن غريب. قال الصنعاني: الأحاديث في إعلان النكاح واسعة وإن كان في كل منها مقال، إلا أنها يعضد بعضها بعضاً (سبل السلام: 116/3 ومابعدها) .(9/65)
3ً - التعدد: شرط باتفاق الفقهاء، فلا ينعقد النكاح بشاهد واحد، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .
وذكر الحنفية (1) : أن من أمر رجلاً بأن يزوج ابنته الصغيرة فزوجها والأب حاضر بشهادة رجل واحد سواهما، جاز النكاح؛ لأن الأب يجعل مباشراً للعقد لاتحاد المجلس، ويكون الوكيل سفيراً ومعبراً، فيبقى المزوج شاهداً.
وإن كان الأب غائباً لم يجز الزواج؛ لأن المجلس مختلف، فلا يمكن أن يجعل الأب مباشراً.
وإذا زوج الأب ابنته البالغة بمحضر شاهد واحد: إن كانت حاضرة جاز، وإن كانت غائبة لم يجز.
4ً - الذكورة: شرط عند الجمهور غير الحنفية، بأن يكون الشاهدان رجلين، فلا يصح الزواج بشهادة النساء وحدهن ولا بشهادة رجل وامرأتين، لخطورة الزواج وأهميته، بخلاف الشهادة في الأموال والمعاملات المالية، قال الزهري: «مضت السنّة ألا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق» (2) ولأنه عقد ليس بمال، ولا يقصد منه المال، ويحضره الرجال في غالب الأحوال، فلا يثبت بشهادة النساء كالحدود.
وقال الحنفية: تجوز شهادة رجل وامرأتين في عقد الزواج، كالشهادة في الأموال؛ لأن المرأة أهل لتحمل الشهادة وأدائها، وإنما لم تقبل شهادتها في الحدود والقصاص فللشبهة فيها بسبب احتمال النسيان والغفلة وعدم التثبت، والحدود تدرأ بالشبهات.
__________
(1) فتح القدير: 356/2.
(2) رواه أبو عبيد في الأموال. والمقصود بالسنة: سنة النبي صلّى الله عليه وسلم.(9/66)
5ً - الحرية: شرط عند الجمهور غير الحنابلة، بأن يكون الشاهدان حرين، فلا يصح الزواج بشهادة عبدين، لخطورة عقد الزواج، ولأن العبد لا ولاية له على نفسه، ولا شهادة له لعدم الولاية، فلا تكون له ولاية على غيره، والشهادة من قبيل الولايات.
وقال الحنابلة: ينعقد الزواج بشهادة عبدين؛ لأن شهادة العبيد مقبولة عندهم في سائر الحقوق، ولم يثبت نفيها في كتاب أو سنة أو إجماع، قال أنس بن مالك: ما علمت أحداً رد شهادة العبد، والله يقبلها على الأمم يوم القيامة، فكيف لا تقبل هنا؟ وتقبل روايته في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا كان عدلاً ثقة، فكيف لا تقبل فيما دون ذلك؟ والمعول عليه في الشهادة الثقة بخبر الشاهد، فإذا كان العبد ثقة عدلاً فتقبل شهادته.
6ً - العدالة ولو ظاهرة: أي الاستقامة واتباع تعاليم الدين، ولو في الظاهر بأن يكون مستور الحال غير مجاهر بالفسق والانحراف. وهي شرط عند الجمهور في أرجح الروايتين عن أحمد، وفي الصحيح عند الشافعية، فلا يصح الزواج بشهادة الفاسق، للحديث السابق: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ولأن الشهادة من باب الكرامة لتكريم الزواج وإظهار شأنه، والفاسق من أهل الإهانة فلا يكرم العقد به، وهذا هو الراجح.
وقال الحنفية: العدالة ليست بشرط في الشهود، فيصح العقد بشهادة العدول وغير العدول من الفساق؛ لأن هذه الشهادة تحمّل، فصحت من الفاسق كسائر التحملات، وهو من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة. وهذا رأي الشيعة الإمامية أيضاً؛ لأن الشهادة عندهم ليست شرطاً لصحة العقد، بل هي مندوب إليها (1) .
__________
(1) قالوا: لا يشترط حضور شاهدين ولا ولي إذا كانت الزوجة بالغة رشيدة على الأصح، وإنما يستحب الإشهاد والإعلان والإظهار في النكاح الدائم (المختصر النافع: ص 194) .(9/67)
7ً - الإسلام: شرط بالاتفاق، بأن يكون الشاهدان مسلمين يقيناً، ولا يكفي مستور الإسلام، واشتراطه إذا كان الزوجان مسلمين، واكتفى الحنفية بهذا الشرط إذا كانت الزوجة مسلمة. فإن تزوج مسلم ذمية بشهادة ذميين صح عندهم؛ لأن شهادة الكتابي على مثله جائزة، ولا يصح عند غيرهم؛ لأن الزوج مسلم، ولا بد من معرفة الزواج في أوساط المسلمين.
والسبب في اشتراط إسلام الشهود في نكاح المسلمين: أن لهذا العقد خطورة واعتباراً دينياً، فلا بد من أن يشهده مسلم، لينشر خبره بين المسلمين.
وأما إن كان الزوجان غير مسلمين، فتقبل شهادة الكتابيين عند الحنفية.
8ً - البصر: شرط عند الشافعية في الأصح، فلا تقبل شهادة الأعمى؛ لأن الأقوال لا تثبت إلا بالمعاينة كالسماع، وهو لا يقدر على التمييز بين المدعي والمدعى عليه.
وليس البصر بشرط عند الجمهور، فتصح شهادة الأعمى إذا سمع كلام العاقدين وميز صوتهما على وجه لا يشك فيهما؛ لأنه أهل للشهادة، وهذه شهادة على قول، فتصح كما تصح في المعاملات.
9ً - سماع الشهود كلام العاقدين وفهم المراد منه: شرط عند أكثر الفقهاء، فلا ينعقد بشهادة نائمين أو أصمين؛ لأن الغرض من الشهادة لا يتحقق بأمثالهما.
كذلك لا يصح بشهادة السكران الذي لا يعي ما يسمع ولا يتذكره بعد الصحو.
ولا يصح أيضاً بشهادة غير عربي في عقد بالعربية إذا كان لا يعرف اللغة العربية؛ لأن القصد من الشهادة فهم كلام العاقدين، وأداء الشهادة عند اللزوم والاختلاف. وهذا هو المذهب الراجح عند الحنفية.
ولا يصح الزواج بشهادة الله ورسوله، بل قيل: إنه يكفر؛ لأنه اعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عالم الغيب.(9/68)
هذا ولا يشترط في الشهود أن يكونوا ممن لا ترد شهادتهم للزوجين في القضاء، فيصح الزواج بشهادة ابني الزوجين أوابني أحدهما إلا عند الحنابلة فلا يصح، وبشهادة عدويهما؛ لأن الولد والعدو من أهل الشهادة. ويصح بشهادة الحواشي والأعمام إذا كان الولي عند غير الحنفية غيرهم، فالولي عند الجمهور شرط كالشهود، والشهود غير الولي.
وقد وضع الحنفية ضابطاً لمن تقبل شهادته في الزواج ومن لا تقبل، فقالوا: كل من صلح أن يكون ولياً في الزواج بولاية نفسه (1) ، صلح أن يكون شاهداً فيه.
وكما يشترط الإشهاد على صحة الزواج، يستحب أيضاً عند الجمهور غير الحنفية على رضا المرأة بالزواج، بأن قالت: رضيت أو أذنت فيه، حيث يعتبر رضاها بأن كانت غير مجبرة، وذلك احتياطاً ليؤمن إنكارها.
__________
(1) هذا القيد لإخراج المكاتب، فإنه وإن ملك تزويج أمته، لكن لا بولاية نفسه، بل بما استفاده من المولى. قال ابن عابدين: وهذا يقتضي عدم انعقاده بالمحجور عليه، ولم أره.(9/69)
موقف القانون من الشهادة: أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري (م12) بمذهب الحنفية في الشهادة، فنص على أنه: «يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين رجلين، أو رجل وامرأتين، مسلمين عاقلين بالغين، سامعين الإيجاب والقبول، فاهمين المقصود بهما» ، أي أن هذا في الزواج بين مسلمين، أما بين كتابيين فيصح بشهادة شاهدين من أهل الكتاب، ولو كانا مخالفين لدين الزوجة، كشهادة نصرانيين على الزواج بيهودية.
الشرط الرابع ـ الرضا والاختيار من العاقدين أو عدم الإكراه:
هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج بغير رضا العاقدين، فإن أكره أحدهما على الزواج بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس المديد، كان العقد فاسداً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) . وأخرج النسائي عن عائشة: «أن فتاة ـ هي الخنساء ابنة خِدَام الأنصارية ـ دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته (2) ، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء» (3) والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزويج. فدل الحديثان على أن الرضا شرط لصحة الزواج، والإكراه يعدم الرضا، فلا يصح معه الزواج. وهذا هو الراجح؛ لأن التراضي أصل في العقود، والعقد للزوجين، فاعتبر تراضيهما به كالبيع.
وقال الحنفية: حقيقة الرضا ليس شرطاً لصحة النكاح، فيصح الزواج ومثله الطلاق مع الإكراه والهزل؛ لأن المستكره قاصد عقد الزواج، لكنه غير راض بالحكم الذي يترتب عليه، فهو مثل الهازل، والهزل لا يمنع صحة الزواج، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث جِدهن جد، وهَزْلهن جِد: النكاح، والطلاق، والرجعة» (4) . لكن هذا القياس يصادم الثابت في السنة.
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس.
(2) الخسيس: الدنيء، يقال: رفعت خسيسته: إذا فعلت به فعلاً يكون فيه رفعته.
(3) سبل السلام: 122/3 وما بعدها.
(4) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه (كشف الخفا: 389/1) .(9/70)
الشرط الخامس ـ تعيين الزوجين:
ذكر الشافعية والحنابلة هذا الشرط، فلا يصح العقد إلا على زوجين معينين؛ لأن المقصود في النكاح أعيانهما أو التعيين، فلم يصح بدون تعيينهما، فلو قال الولي: زوجتك ابنتي، لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة أو بالإشارة، فإن سماها باسم يخصها، أو وصفها بما تتميز به عن غيرها، بأن تكون الصفة لا يشركها فيها غيرها من أخواتها، كبنتي الكبرى أو الصغرى أو الوسطى أو البيضاء ونحوه، أوأشار إليها بأن قال: هذه، صح العقد، ولو سماها الولي في حال الإشارة، بغير اسمها، أو لم يكن له إلا بنت واحدة صح أيضاً؛ لأن مع التعيين بالإشارة لا حكم للاسم، فلو قال: زوجتك بنتي فاطمة هذه، وأشار إلى خديجة، فيصح العقد على خديجة؛ لأن الإشارة أقوى. وفي حال انفرادها عنده لا جهالة؛ لأن عدم التعيين إنما جاء من التعدد، ولا تعدد هنا. فإن حدث خطأ في الإيجاب والقبول بأن نوى الولي البنت الكبيرة، ونوى الزوج البنت الصغيرة، لم يصح العقد، كما تقدم؛ لأن الإيجاب في امرأة، والقبول في أخرى.
الشرط السادس ـ عدم الإحرام بالحج أو العمرة من أحد الزوجين أو الولي:
هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج إذا كان أحد العاقدين محرماً بحج أو عمرة، ولايجوز نكاح المحرم ولا إنكاحه لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه عثمان: «لايَنْكح المُحْرِم،(9/71)
ولايُنْكح» (1) وفي رواية لمسلم: «ولا يخطُب» أي لنفسه أو لغيره. فهذا نهي صريح للمحرم بحج أو عمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، ولأن الإحرام انقطاع للعبادة، والزواج سبيل إلى المتعة، فيتنافى مع الإحرام، فيمنع أثناءه.
وأضاف المالكية أنه يفسخ وإن دخل الزوج وولدت، وفسخه بغير طلاق.
وقال الحنفية: ليس هذا شرطاً لصحة الزواج، فيصح مع الإحرام، سواء أكان المحرم هو الزوج أم الزوجة أم الولي، أي يجوز نكاح المحرم وإنكاحه، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس تزوج ميمونة بنت الحارث، وهو محرم (2) .
والحق رجحان الرأي الأول، لورود رواية أخرى من طرق شتى عن ميمونة نفسها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال» (3) فإذا تعارض الخبران رجحت رواية الكثرة، فيكون الوهم إلى الواحد أقرب منه إلى الجماعة، وحديث عثمان صحيح في منع المحرم، فهو المعتمد. وقد تؤول حديث ابن عباس بأن معنى (وهو محرم) أي داخل في الحرم، أو في الأشهر الحرم (4) .
__________
(1) رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه.
(2) متفق عليه عن ابن عباس.
(3) رواه مسلم عن ميمونة نفسها (انظر سبل السلام: 124/3) في الأحاديث الثلاثة.
(4) سبل السلام: 14/3، وقد جزم بهذا التأويل ابن حبان في صحيحه، لكن قيل عنه: هو تأويل بعيد لا تساعد عليه ألفاظ الحديث.(9/72)
الشرط السابع ـ أن يكون الزواج بصداق:
هذا الشرط والشرطان الآتيان بعده مما اشترطه المالكية، وهو أن يكون الزواج بصداق (مهر) ، فإن لم يذكر حال العقد، فلا بد من ذكره عند الدخول، أو يتقرر صداق المثل بالدخول.
الشرط عندهم وجود الصداق، فلا يصح الزواج بدونه، لكن لا يشترط ذكره عند العقد، بل يستحب فقط، لما فيه من اطمئنان النفس، ودفع توهم الاختلاف في المستقبل. فإن لم يذكر المهر حين العقد صح الزواج، ويسمى الزواج حينئذ زواج التفويض.
زواج التفويض: هو عقد بلا ذكر ـ أي تسمية ـ مهر ولا إسقاطه (1) ، وهو جائز عند المالكية، أما لو تزوج رجل امرأة، وتراضيا على الزواج بدون مهر، أو اشترطا عدم المهر أو سميا شيئاً لا يصلح مهراً كالخمر والخنزير، فلا يصح الزواج، ويجب فسخه قبل الدخول، وإن دخل الرجل بالمرأة ثبت العقد، ووجب للزوجة مهر المثل (2) ، أي إن حدث الدخول على إسقاط المهر، فليس من التفويض، بل هو نكاح فاسد.
وقال الجمهور (3) : لا يفسد العقد بالزواج بدون مهر، أو باشتراط عدم المهر، أو بتسمية شيء لا يصلح مهراً؛ لأن المهر ليس ركناً في العقد ولا شرطاً له، بل هو حكم من أحكامه، فالخلل فيه لا تأثير له على العقد. وهذا هو الراجح، إذ
__________
(1) قال المالكية: جاز بلا خلاف نكاح التفويض، ونكاح التحكيم.
(2) الشرح الكبير: 313/2، القوانين الفقهية: ص 203، الشرح الصغير: 449/2.
(3) مغني المحتاج: 229/3، المهذب: 60/2، المغني: 716/6، كشاف القناع: 174/5، فتح القدير: 434/3، رد المحتار لابن عابدين: 461/2.(9/73)
لو كان المهر شرطاً في العقد لوجب ذكره حين العقد، وهو لا يجب أن يذكر حين العقد لكن يجب مهر المثل.
لهذا كان زواج التفويض (وهوإخلاء النكاح عن المهر) صحيحاً بالاتفاق (1) .
الشرط الثامن ـ عدم تواطؤ الزوج مع الشهود على كتمان الزواج:
هو شرط أيضاً عند المالكية، فإذا حدث التواطؤ بين الزوج والشهود على كتمان الزواج عن الناس أو عن جماعة، بطل الزواج. وهذا ما يعرف ـ كما تقدم ـ بنكاح السر: وهو ما أوصى فيه الزوج الشهود بكتمه عن زوجته أو عن جماعة، وأهل منزل، أو زوجة قديمة، إذا لم يكن الكتم خوفاً من ظالم أو نحوه. وحكمه: أنه يجب فسخه إلا إذا دخل بالمرأة.
فإن كان الإيصاء للشهود بالكتمان من الولي فقط، أو الزوجة فقط، دون الزوج، أو اتفق الزوجان والولي على الكتم دون إيصاء الشهود، أو أوصى الزوج الولي والزوجة معاً، أو أحدهما على الكتم، لم يضر، ولم يبطل العقد (2) .
وقال الجمهور: ليس هذا شرطاً لصحة العقد، فلو اتفق الزوج مع الشهود على كتمان الزواج عن كل الناس أو عن بعضهم، لم يفسد العقد؛ لأن إعلان الزواج يتحقق بمجرد حضور الشاهدين.
الشرط التاسع ـ ألا يكون أحد الزوجين مريضاً مرضاً مخوفاً:
هو شرط أيضاً عند المالكية، فلا يصح نكاح المريض والمريضة المخوف عليهما، على المشهور، والمرض المخوف: هو ما يتوقع منه الموت عادة، ويفسخ الزواج إن وقع ولو بعد الدخول، إلا إن صح المريض قبل الفسخ، فإن لم يدخل الزوج فليس للمرأة صداق، وإن دخل فلها الصداق المسمى. ولو مات أحدهما قبل الفسخ ولو بعد الدخول لا يرثه الآخر؛ لأن سبب فساده إدخال وارث في التركة لم يكن موجوداً قبل المرض. لكن إن مات الزوج قبل فسخ الزواج بعد الدخول، فللزوجة الأقل من ثلث التركة ومن المسمى ومن مهر المثل؛ لأن الزواج في المرض
__________
(1) مغني المحتاج: 229/3، المهذب: 60/2، المغني: 716/6، كشاف القناع: 174/5، فتح القدير: 434/3، رد المحتار لابن عابدين: 461/2.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 236/2-237.(9/74)
المخوف تبرع، وتبرع المريض مرض الموت لا ينفذ إلا من الثلث (1) .
الشرط العاشر ـ حضور الولي:
هو شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا يصح الزواج إلا بولي، لقوله تعالى: {فلا تعضُلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/2] قال الشافعي: هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي» (2) وهو لنفي الحقيقة الشرعية، بدليل حديث عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (3) .
ولا يصح حمل الحديث الأول على نفي الكمال؛ لأن كلام الشارع محمول على الحقائق الشرعية، أي لا نكاح شرعي أو موجود في الشرع إلا بولي.
__________
(1) الشرح الكبير: 240/2، الشرح الصغير: 382/3.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أبي موسى الأشعري، وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان وأعله بإرساله (سبل السلام: 117/3) .
(3) رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه الترمذي وأبو عوانة، وابن حبان والحاكم، وابن معين وغيره من الحفاظ (سبل السلام: 127/3 وما بعدها) .(9/75)
ولا يفهم من الحديث الثاني صحة الزواج بإذن الولي؛ لأنه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له؛ لأن الغالب أن المرأة إنما تزوج نفسها بغير إذن وليها.
ويؤكده حديث ثالث: «لا تزوج المرأة ُ المرأة َ، ولا تزوج المرأة نفسها» (1) فإنه يدل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجاباً ولا قبولاً، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيرها، ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة. والخلاصة: أن الجمهور يقولون: لا ينعقد النكاح بعبارة النساء أصلاً، فلو زوجت امرأة نفسها، أو غيرها، أو وكلت غير وليها في تزويجها ولو بإذن وليها، لم يصح نكاحها لعدم وجود شرطه وهو الولي.
وقال الحنفية في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: للمرأة العاقلة البالغة تزويج نفسها وابنتها الصغيرة، وتتوكل عن الغير، ولكن لو وضعت نفسها عند غير كفء، فلأوليائها الاعتراض. وعبارتهم: ينعقد نكاح الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها ولي، بكراً كانت أم ثيباً، عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في ظاهر الرواية، والولاية مندوبة مستحبة فقط. وعند محمد: ينعقد موقوفاً (2) .
ودليلهم من القرآن: إسناد النكاح إلى المرأة في آيات ثلاث هي: {فإن طلقها فلا تحل له مِنْ بَعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] ، {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضُلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/2] فالخطاب للأزواج، لا للأولياء كما قال الجمهور، وآية: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة:234/2] هذه الآيات صريحة في أن زواج المرأة يصدر عنها.
ودليلهم من السنة: حديث «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها» (3) وفي رواية «لا تنكح الأيم ـ التي فارقت زوجها بطلاق أو موت ـ حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» (4) الحديث صريح في جعل الحق للمرأة الثيب في زواجها، والبكر مثلها، ولكن نظراً لغلبة حيائها اكتفى الشرع باستئذانها بما يدل على رضاها، وليس معناه سلب حق مباشرتها العقد، بما لها من الأهلية العامة.
وهناك رأي وسط للفقيه أبي ثور من الشافعية (5) : وهو أنه لا بد في الزواج من رضا المرأة ووليها معاً، وليس لأحدهما أن يستقل بالزواج بدون إذن الآخر ورضاه، ومتى رضيا فلكل واحد إجراء العقد؛ لأن المرأة كاملة الأهلية في التصرفات.
__________
(1) رواه ابن ماجه والدارقطني ورجاله ثقات، عن أبي هريرة (سبل السلام: 129/3 وما بعدها) .
(2) فتح القدير: 391/2 وما بعدها، البدائع: 237/2-247.
(3) رواه مسلم عن ابن عباس (سبل السلام: 119/3) .
(4) متفق عليه عن أبي هريرة (سبل السلام: 118/3) .
(5) المهذب: 35/2.(9/76)
شروط النفاذ:
اشترط الحنفية لنفاذ عقد الزواج وترتب آثاره عليه بالفعل بعد انعقاده صحيحاً الشروط الخمسة التالية (1) :
1ً - أن يكون كل من الزوجين كامل الأهلية إذا تولى عقد الزواج بنفسه، أو بوكيل عنه، وكمال الأهلية بالعقل والبلوغ والحرية، فمتى كان كل من الزوجين عاقلاً بالغاً حراً، نفذ العقد وترتبت آثاره عليه، من حل الدخول ووجوب المهر وغيرهما، وقال محمد كما تقدم: إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها بدون ولي، كان زواجها موقوفاً على إجازة الولي.
أما إن باشر عقد الزواج صبي مميز أو عبد، فيتوقف العقد عند الحنفية والمالكية على إجازة الولي من أب ونحوه، أو سيد. وإن باشره مجنون أوغير مميز فلا ينعقد أصلاً.
وعند الشافعية والحنابلة: لا تنعقد تصرفات العبد والصبي المميز وغير المميز أصلاً، بل هي باطلة.
2ً - أن يكون الزوج رشيداً، إذا تولى الزواج بنفسه: هذا شرط عند المالكية، فإن كان سفيهاً غير رشيد: وهو الذي لا يحسن التصرف في ماله، وتزوج بدون إذن الولي، توقف عقد زواجه عند المالكية على إجازة وليه (2) .
وقال الشافعية والحنابلة (3) : الرشد شرط لصحة الزواج، فلو تزوج السفيه بغير إذن وليه، كان الزواج باطلاً؛ لأنه تصرف يجب به مال، وفي الزواج ودفع المهر والنفقة إتلاف للمال أو مظنة إتلافه.
وقال الحنفية (4) : ليس الرشد شرطاً لصحة الزواج ولا لنفاذه، فإن تزوج السفيه امرأة جاز زواجه؛ لأنه من حوائجه الأصلية وتصرفاته الشخصية، والحجر
__________
(1) البدائع: 233/2 وما بعدها، الدر المختار: 379/2، الشرح الصغير: 391/2، الشرح الكبير: 241/2.
(2) الشرح الصغير: 387/3، الشرح الكبير والدسوقي: 231/3، 294-297، القوانين الفقهية: ص197.
(3) مغني المحتاج: 171/2، كشاف القناع: 441/3.
(4) الكتاب مع اللباب: 70/2.(9/77)
إنما هو على التصرفات المالية المحضة. والقاعدة عندهم: أن كل ما لا يؤثر فيه الهزل كالعتق والنكاح، لا يؤثر فيه الحجر، لكن لا يثبت للمرأة أكثر من مهر المثل إذا كان السفيه هو الزوج، ويثبت فيه مهر المثل على الأقل إذا كانت الزوجة هي السفيهة.
3ً - ألا يكون العاقد ولياً أبعد مع وجود الولي الأقرب المقدم عليه: شرط نفاذ عند الحنفية، فإن زوج الولي الأبعد مع وجود الأقرب منه، كان العقد موقوفاً على إجازة الولي الأقرب.
وهو شرط صحة عند الشافعية والحنابلة (1) ، فلا يصح زواج الولي الأبعد مع وجود الأقرب إلا إذا كان هناك مانع كالجنون واختلال النظر بهرم أو خَبَل (فساد في العقل) ، والصغر، والحجر بسفه، والعضل (أي المنع من الزواج بغير حق) .
وقال المالكية (2) : إن كان الولي الأقرب غير مجبر كالابن والأخ والجد والعم، كان العقد صحيحاً مكروهاً. وإن كان الأقرب ولياً مجبراً (وهو الأب) فسخ العقد أبداً، إلا إذا أجازه الولي الأقرب، وكان الذي تولاه مفوضاً إلىه الأمر بالبينة.
4ً - ألا يخالف الوكيل موكله فيما وكله به: فإذا وكل شخص غيره ليزوجه فتاة معينة أو بمهر معين، فزوجه فتاة غيرها، أوزوجه بمهر أكثر، لم ينفذ العقد، وكان موقوفاً على إجازة الموكل. فلو لم يعلم حتى دخل بقي الخيار له بين إجازته وفسخه، ويكون للمرأة عند الحنفية الأقل من المسمى ومهر المثل؛ لأن الموقوف كالفاسد.
5ً - ألا يكون العاقد فضولياً: والفضولي: هو من لا يكون له ولاية التزويج وقت العقد. وهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية. فإذا زوج شخص امرأة لرجل وقبل عنه، دون ولاية ولا وكالة عنه وقت العقد، كان الزواج موقوفاً على إجازة الزوج عندهم.
وأما عند الشافعية والحنابلة فتصرف الفضولي من بيع وزواج باطل.
__________
(1) مغني المحتاج: 154/3.
(2) الشرح الصغير: 358/2، 363 وما بعدها.(9/78)
شروط اللزوم:
معنى لزوم العقد: ألا يكون لأحد العاقدين أو لغيرهما حق فسخه بعد انعقاده، بأن يخلو العقد من الخيار. ويشترط للزوم الزواج أربعة شروط هي (1) :
1ً - أن يكون الولي المزوج لفاقد الأهلية كالمجنون والمعتوه، أو ناقصها وهو الصغير والصغيرة: هو الأب أو الجد، وهو شرط عند أبي حنيفة ومحمد. فلو كان المزوج لهما غيرهما كالأخ والعم، كان لكل منهما حق فسخ العقد عند زوال المانع أي الإفاقة من الجنون أو العته، والبلوغ بعد الصغر، حتى ولو كان الزواج بالكفء وبمهر المثل (2) ؛ لأن قرابة غير الأصل والفرع قرابة حواشي، فلا يساوون الأصل والفرع بالشفقة، فيقدر زواجهم بالمصلحة الظاهرة، ويعطى المتزوج خيار الفسخ.
ودليل أبي حنيفة ومحمد: ما روي أن قدامة بن مظعون زوَّج بنت أخيه: عثمان بن مظعون، من عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فخيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد البلوغ، فاختارت نفسها، حتى روي أن ابن عمر قال: إنها انتزعت مني بعد ما ملكتها.
وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط، ويلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت الخيار للمولى عليه؛ لأن هذا النكاح صدر من ولي، فيلزم، كما إذا صدر عن الأب والجد، لأن ولاية التزويج ولاية نظر في حق المولى عليه، وقد اجتهد الولي في تحقيق المصلحة، ونظر فيما هو الأولى والأصلح.
__________
(1) البدائع: 315/2-322، المهذب: 39/2، كشاف القناع: 71/5، القوانين الفقهية: ص 197، الشرح الصغير: 399/2 وما بعدها.
(2) الكفء لغة: المساوي لغيره والمماثل له، واصطلاحاً: أن يساوي الرجل زوجته في أمور الدين والحرية والمال والحرفة. ومهر المثل: هو المهر الذي تتزوج به امرأة من أقارب أبي الزوجة، وتماثلها وقت العقد في صفات مخصوصة.(9/79)
فإذا زوج الحاكم فاقد الأهلية أو ناقصها، فلا خيار للمولى عليه في رأي أبي حنيفة خلافاً لمحمد؛ لأن ولاية الحاكم أعم من ولاية الأخ والعم؛ لأنه يملك التصرف في النفس والمال، فكانت ولايته شبيهة بولاية الأب والجد، وولايتهما ملزمة، فتلزم ولاية الحاكم.
2ً - أن يكون الزوج كفئاً للزوجة إذا زوجت المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها من غير رضا الأولياء بمهر مثلها، وكان لها ولي عاصب (1) لم يرض بهذا الزواج، فلهذا الولي طلب فسخ الزواج من القاضي. وهذا شرط عند الحنفية في ظاهر الرواية.
وكذلك قال أئمة بقية المذاهب: الكفاءة في الزوج شرط للزوم الزواج، لا لصحته، فيصح النكاح مع فقدها، وهي حق للمرأة والأولياء كلهم القريب والبعيد، لتساويهم في لحوق العار بفقد الكفاءة، فلو زوجت المرأة بغير كفء، فلمن لم يرض بالنكاح الفسخ، فوراً أو تراخياً، سواء من المرأة أو الأولياء
__________
(1) الولي العاصب: هو القريب الذي لا تكون قرابته للمرأة بواسطة الأنثى وحدها، كالأب والجد وأبي الأب، والأخ والعم وابن العم.(9/80)
جميعهم؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه كخيار البيع، ويملكه الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم به، ومع رضا الزوجة، دفعاً لما يلحقه من لحوق العار.
والدليل على أن الكفاءة شرط لزوم لا شرط صحة أنه صلّى الله عليه وسلم: «أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه، فنكحها بأمره» (1) وروت عائشة «أن أبا حذيفة ابن عقبة بن ربيعة تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه: الوليد بن عقبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار» (2) وعن أبي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت: «رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال» (3) .
3ً - أن يكون المهر بالغاً مهر المثل إذا زوجت الحرة العاقلة البالغة نفسها من غير كفء، بغير رضا الأولياء، وألا يقل عن مهر المثل إذا زوجت المرأة نفسها من كفء. وهذا عند أبي حنيفة، فللأولياء حق الاعتراض وطلب فسخ الزواج، إلا إذا قبل الزوج زيادة المهر إلى مهر المثل، فلا يكون للولي حينئذ حق الفسخ، وبناء عليه إما أن يزيد الزوج إلى مهر المثل أو يفرق بينهما.
وعند أبي يوسف ومحمد: ليس هذا بشرط، ويلزم النكاح بدونه.
4ً - خلو الزوج عن عيب الجب والعنة عند عدم الرضا من الزوجة بهما.
هذه هي شروط الزواج الشرعية، أما الشروط القانونية الموضوعة لإجراء عقد الزواج رسمياً ولسماع دعوى الزوجية، لمنع الناس من تزويج الصغار، ومحاولة ادعاء الزوجية زوراً، فهي مجرد قيود قانونية.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه البخاري وأبو داود والنسائي.
(3) رواه الدارقطني.(9/81)
خلاصة شروط الزواج في كل مذهب على حدة:
الحنفية: للزو اج شروط في الصيغة وفي العاقدين وفي الشهود:
أما شروط الصيغة: (وهي الإيجاب والقبول) فهي:
1 - أن تكون بألفاظ مخصوصة: وهي إما صريحة وإما كناية، فالصريحة: هي ما كانت بلفظ التزويج والإنكاح وما اشتق منهما، سواء بلفظ الماضي، أم بلفظ المضارع بقرينة تدل على الحال، لا طلب الوعد، أم بلفظ الأمر: زوجني. والكناية: هي التي تحتاج إلى نية وأن تقوم قرينة على هذه النية، وهي ألفاظ الهبة أو الصدقة أو التمليك أو الجعل، والبيع والشراء، مع نية معنى الزواج. ولا ينعقد بلفظ الإجارة والوصية، ولا بلفظ الإباحة والإحلال والإعارة والرهن والتمتع والإقالة والخلع.
2 - أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد.
3 - ألا يخالف القبول الإيجاب.
4 - أن تكون الصيغة مسموعة للعاقدين.
5 - ألا يكون اللفظ مؤقتاً بوقت كشهر، وهونكاح المتعة.
وأما شروط العاقدين وهما الزوج والزوجة فهي:
1 - العقل: وهو شرط في انعقاد الزواج، فلا ينعقد زواج المجنون والصبي غير المميز.
2 - البلوغ والحرية وهما شرطان للنفاذ.
3 - أن يضاف الزواج إلى المرأة أو إلى جزء يعبر به عن الكل كالرأس والرقبة. فلا ينعقد الزواج بقوله: زوجني نصفها أو يدها أو رجلها.
وأما الشهادة: فهي شرط لصحة الزواج، وتكون بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولو كانا محرمين بالنسك، وشروط الشهود خمسة:
1-3- العقل والبلوغ والحرية: فلا يصح بشهادة مجنون أو صبي أو عبد.
4 - الإسلام في أنكحة المسلمين: فلا يصح زواج المسلمين بشهادة الذميين، إلا إذا كانت المرأة ذمية، والرجل مسلماً، فيصح زواجها بشهادة ذميين. وإذا كان الزوجان غير مسلمين صح الزواج بشهادة غير المسلمين، سواء أكان الشاهدان موافقين للزوجين في الملة أم مخالفين.
5 - أن يسمع الشهود كلام العاقدين معاً، فلا يصح بشهادة نائمين. وتصح شهادة الأخرس وفاقد النطق إذا كان يسمع ويفهم، ولا يشترط فهم الشهود معنى اللفظ بخصوصه، وإنما يشترط أن يعلموا أن هذا اللفظ ينعقد به الزواج. فإذا تزوج عربي بحضرة أعجميين، صح الزواج إذا عرفا أن الإيجاب والقبول ينعقد بهما الزواج، وينعقد بحضرة السكارى إذا كانا يعرفان أن هذا ينعقد به الزواج.
ولا تشترط العدالة، فيصح الزواج بشهادة عدول أو غير عدول أو محدودين في القذف.
ولا يشترط في الزواج اختيار العاقدين، فلو أكره أحدهما على النكاح انعقد، ومثله الطلاق والعتق؛ لأن هذه الثلاثة تنعقد في حال الجد والهزل.
المالكية:
يشترط في الصيغة ما يلي:
1 - أن تكون بألفاظ مخصوصة: وهي أن يقول الولي: زوجت أو أنكحت، أو يقول الزوج: زوجني فلانة. ويكفي في القبول أن يقول: قبلت أو رضيت أو نفذت أو أتممت.
2 - الفور: ألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل طويل، ولا يضر الفاصل اليسير.
3 ـ ألا يكون اللفظ مؤقتاً بوقت: وهذا هو نكاح المتعة.(9/82)
4 - ألا يكون مشتملاً على الخيار، أو على شرط يناقض العقد، ويشترط في الزواج أن يكون بصداق، فإن لم يذكر حال العقد، فلا بد من ذكره عند الدخول. وأن يكون الصداق مما يملك شرعاً، فلا يصح بخمر أو خنزير أو ميتة، أو مما لا يصح بيعه كالكلب أو كان جزء ضحية.
وتشترط الشهادة، ولكن لا يلزم أن يحضر الشهود عند العقد، بل يندب ذلك فقط.
ويشترط في الزوجين: الخلو من الموانع كالإحرام، وألا تكون المرأة زوجة للغير أو معتدة منه، وألا يكونا محرمين بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
ويشترط في الزوج لصحة الزواج أربعة شروط وهي:
الإسلام في نكاح مسلمة، والعقل، والتمييز، وتحقق الذكورة، تحرزاً من الخنثى المشكل فإنه لا يَنْكح ولا يُنكَح.
ويشترط في الزوج لاستقرار الزواج خمسة شروط وهي: الحرية، والبلوغ، والرشد، والصحة، والكفاءة. وإذا أكره أحد الزوجين على الزواج، لم يلزم، وليس للمكرَه أن يجيزه؛ لأنه غير منعقد (1) .
الشافعية:
اشترطوا شروطاً في الصيغة وفي الزوجين وفي الشهود:
أما شروط الصيغة: فهي ثلاثة عشر شرطاً تشترط في العقود وهي ما يأتي:
1 - الخطاب: بأن يخاطب كل من العاقدين صاحبه.
2 - أن يكون الخطاب واقعاً على جملة المخاطب، فلا يصح على جزئه.
3 - أن يذكر المبتدئ بأحد شرطي العقد العوض والمعوض عنه كالثمن والمثمن.
4 - أن يقصد العاقد معنى اللفظ الذي ينطق به. فإن جرى على لسانه فلا يصح.
5 - ألا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي.
6 - ألا يتخلل الإيجاب والقبول سكوت طويل: وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول.
7 - ألا يتغير كلام البادئ قبل قبول الآخر.
8 - أن يكون كلام كل واحد من العاقدين مسموعاً لصاحبه ولمن يقرب منه من الحاضرين. فإن لم يسمعه من كان قريباً لا يكفي، وإن سمعه العاقد.
9 - أن يتوافق القبول مع الإيجاب معنى.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 197 وما بعدها.(9/83)
10 - ألا يعلق الصيغة بشيء لا يقتضيه العقد، مثل إن شاء فلان أو إن شاء الله.
11 - ألا يؤقت كلامه بوقت.
12 - أن يكون القبول ممن وجه له الخطاب لا غيره.
13 - أن تستمر أهلية المتكلمين بالصيغة إلى أن يتم القبول، فلو جُنَّ أحدهما مثلاً قبل قبول الآخر بطل العقد.
يظهر من هذه الشروط: أنه يشترط في الزواج عدم التعليق مثل: زوجتك ابنتي إن بعتني الأرض الفلانية. ويشترط فيه عدم التأقيت، مثل زوجيني نفسك مدة شهر، وهو نكاح المتعة.
ويضاف إلى هذه الشروط: أن صيغة الزواج مقيدة بلفظي التزويج والإنكاح دون غيرهما، في الإيجاب والقبول. ولا بد من أن تكون الصيغة بلفظ الماضي، ولا يصح بلفظ المضارع؛ لأنه يحتمل الوعد ما لم يقل: الآن. ويصح العقد بالألفاظ المحرفة مثل: جوزتك موكلتي، حتى ولو لم تكن لغته على المعتمد، ويصح بلفظ الأمر: زوجني ابنتك، فيقول له: زوجتك، كما يصح بقول الولي: تزوج بنتي، فيقول له: تزوجت.
وأما شروط الزوج: فهي أن يكون غير مَحْرم للمرأة، كأخ أو خال، من نسب أو رضاع أو مصاهرة. وأن يكون مختاراً غير مكره، وأن يكون معيناً فلا يصح نكاح المجهول، وألا يكون جاهلاً حِلَّ المرأة له، فلا يجوز أن يتقدم لنكاح امرأة وهو جاهل بحلها. وأما شروط الزوجة: فهي ألا تكون محرماً للزوج، وأن تكون معينة، وأن تخلو من الموانع الشرعية كالمتزوجة والمعتدة.
وأما شروط الشهود: فهي الحرية والذكورة والعدالة والسمع والبصر، وكون الشاهد غير ولي متعين في الزواج، فلا يصح الزواج بشهادة عبد أو امرأة أو فاسق أو أصم أو أعمى أو خنثى مشكل، أو ولي يباشر العقد، فلا يكون الولي شاهداً، كالزوج ووكيله، فلا تصح شهادته مع وجود وكيله. وينعقد النكاح بابني الزوجين وأبويهما وعدويهما لثبوت النكاح بهما، وبمستوري العدالة.
والشهود والولي ركنان في عقد الزواج.(9/84)
الحنابلة:
للزواج خمسة شروط:
1ً - تعيين الزوجين؛ لأن النكاح عقد معاوضة، أشبه تعيين المبيع في البيع، ولأن المقصود في النكاح التعيين، فلم يصح بدونه. ويشترط في الصيغة أن تكون بلفظ النكاح أو التزويج، لكن يكفي في القبول، كما قال المالكية، وخلافاً للشافعية أن يقول: قبلت أو رضيت، ولا يشترط فيه أن يقول: قبلت زواجها أو نكاحها. ولا يصح أن يتقدم القبول على الإيجاب، ويشترط الفور، فإن تأخر القبول عن الإيجاب حتى تفرقا أو تشاغلا بما يقطعه عرفاً فإنه لا يصح. ولا يشترط أن يكون اللفظ عربياً، فيصح بغير العربية من العاجز عن النطق بالعربية بشرط أن يؤدي معنى الإيجاب والقبول بلفظ التزويج أو النكاح. ولا يصح النكاح بالكتابة ولا بالإشارة إلا من الأخرس، فيصح منه بإشارته المفهمة.
2ً - الرضا والاختيار من الزوجين أو من يقوم مقامهما، فإن لم يرضيا لم يصح النكاح، فلا يصح زواج المكره.
3ً - الولي: فلا يصح نكاح إلا بولي.
4ً - الشهادة على النكاح: فلا يصح إلا بشهادة ذكرين بالغين عاقلين عدلين ولو كانت عدالتهما ظاهراً، ولو رقيقين. وأن يكونا متكلمين مسلمين سميعين، فلا تصح بشهادة الأصم والكافر، وتصح شهادة الأعمى، وشهادة عدوي الزوجين، ويشترط أن يكونا من غير أصل الزوجين وفرعيهما، فلا تصح شهادة أبي الزوجة أو الزوج أو أبنائهما؛ لأن شهادتهما لا تقبل.
5ً - خلو الزوجين أوأحدهما من مانع المحرمية بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو مانع اختلاف الدين بأن يكون مسلماً وهي مجوسية ونحوه، أو كون المرأة في عدة ونحو ذلك، كأن يكون أحدهما محرماً بحج أو عمرة.(9/85)
المبحث الرابع ـ أنواع الزواج وحكم كل نوع:
يتنوع الزواج بحسب اختلاف المذاهب في شروط الزواج، فهو عند الحنفية خمسة أنواع:
وهي الزواج الصحيح اللازم، والصحيح غير اللازم، والموقوف، والفاسد، والباطل. وعند المالكية أربعة أنواع: وهي الزواج اللازم، وغير اللازم، والموقوف، والفاسد أو الباطل.
وعند الشافعية والحنابلة ثلاثة أنواع: وهي الزواج اللازم، وغير اللازم، والفاسد أو الباطل. وأما الزواج المكروه فهو بالاتفاق من أنواع الزواج الصحيح اللازم. والمقصود بالزواج اللازم: هو الذي استوفى أركانه وشروط صحته ونفاذه ولزومه.
والزواج غير اللازم: هو ما استوفى أركانه وشروط صحته ونفاذه وفقد شرطاً من شروط اللزوم.
والزواج الموقوف: هو الذي استكمل أركانه وشروط صحته، وفقد شرطاً من شروط النفاذ.
والزواج الباطل عند الجمهور: هو ما فقد ركناً من أركانه أو شرطاً من شروط صحته. وأما عند الحنفية: فهو ما فقد ركناًمن أركانه أوشرطاً من شروط انعقاده.
والزواج الفاسد عند الحنفية: هو ما استوفى أركانه وشروط انعقاده وتخلف فيه شرط من شروط الصحة.
ولا فرق عند الجمهور بين الفاسد والباطل.
والمقصود بحكم الزواج هنا: الأثر المترتب على العقد، تبعاً لاستيفاء أركانه وشرائطه الشرعية وعدم استيفائه، وأبين هنا حكم كل نوع من أنواع الزواج السابقة.
أنواع الزواج وحكمها في القانون:
نص قانون الأحوال الشخصية السوري على أنواع الزواج وحكم كل نوع منها. ففي المادة (47) نص على الزواج الصحيح: «إذا توافرت في عقد الزواج أركانه وسائر شرائط انعقاده، كان صحيحاً» . ونصت المادة (49) على آثار الزواج الصحيح وهي:
«الزواج الصحيح النافذ تترتب علىه جميع آثاره من الحقوق الزوجية كالمهر ونفقة الزوجة ووجوب المتابعة وتوارث الزوجين، ومن حقوق الأسرة كنسب الأولاد وحرمة المصاهرة» أي أنه تثبت أحكام ستة بمجرد عقد الزواج الصحيح: وهي وجوب المهر، واستحقاق النفقة الزوجية، ومتابعة الزوجة لزوجها، واستحقاق الإرث، وثبوت نسب الأولاد من الأب، وحرمة المصاهرة.
وفي المادة (50) نص على أثر الزواج الباطل:
«الزواج الباطل لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح، ولو حصل فيه دخول» .
«ونصت المادة 2/48 على أن: زواج المسلمة بغير المسلم باطل» .(9/86)
ونصت الفقرة (1) من هذه المادة على الزواج الفاسد: «كل زواج تم ركنه بالإيجاب والقبول واختل بعض شرائطه، فهو فاسد» .
ونصت المادة (51) على آثار الزواج الفاسد:
1 - الزواج الفاسد قبل الدخول في حكم الباطل.
2 - ويترتب على الوطء فيه النتائج التالية:
أـ المهر في الحد الأقل من مهر المثل والمسمى.
ب ـ نسب الأولاد بنتائجه المبينة في المادة (133) من هذا القانون.
جـ ـ حرمة المصاهرة.
د ـ عدة الفراق في حالتي المفارقة أو موت الزوج، ونفقة العدة دون التوارث بين الزوجين.
3 - تستحق الزوجة النفقة الزوجية مادامت جاهلة فساد النكاح.
ونصت المادة (52) على حكم الزواج الموقوف قبل الإجازة:
الزواج الموقوف حكمه قبل الإجازة كالفاسد.
ولم ينص هذا القانون على أحكام الزواج غير اللازم، إلا ما ذكر في بحث الكفاءة، حيث نصت المادة (27) على أن للولي حق الفسخ إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير كفء.
ونصت المادة (30) على أن المرأة إذا حملت يسقط حق الفسخ لعدم الكفاءة.(9/87)
أحكام الزواج عند الفقهاء:
حكم الزواج الصحيح اللازم:
للزواج اللازم أو التام الذي استوفى أركانه وشروطه كلها آثار هي (1) :
1 - حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر على النحو المأذون فيه شرعاً، ما لم يمنع منه مانع. والمأذون فيه شرعاً، ما لم يمنع منه مانع. والمأذون فيه ما يأتي:
أـ حل الوطء في القبل لا الدبر: ولا يحل الوطء في حالة الحيض والنفاس، والإحرام، وفي الظهار قبل التكفير (إخراج الكفارة) لقوله سبحانه: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:23/5-6] ولقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل: هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة:222/2] والنفاس أخو الحيض. وقوله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/2] أي في أي وقت وكيفية شئتم في المكان المعروف وهو القبُل (2) . وقول سبحانه: {والذين يظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [المجادلة:58/3] .
وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ملعون من أتى امرأة في دُبُرها» (3) «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم» (4) وقوله أيضاً: «واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوانٍ (5) ، لا يملكن لأنفسهن شيئاً ... وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل» (6) وكلمة الله المذكورة في كتابه العزيز: لفظة الإنكاح والتزويج.
لكن لا تطلق المرأة بالوطء في دبرها، وإنما يحق لها طلب الطلاق من القاضي بسبب الأذى والضرر.
__________
(1) البدائع: 331/2-334.
(2) يعني مقبلات ومدبرات ومستلقيات في موضع إنجاب الولد، جاء في رواية مسلم: «إن شاء مُجَبِّية ـ أي باركة ـ وإن شاء غير مجبِّية، غير أن ذلك في صِمام واحد» والتجبية: الانكباب على الوجه (نيل الأوطار: 203/6-204) .
(3) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 200/6) .
(4) رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وقال: فقد برئ مما أنزل، من حديث أبي هريرة (المرجع السابق) .
(5) أي أسيرات، من عنا: إذا ذل وخضع.
(6) رواه أحمد عن أبي حرة الرقاشي، وثقة أبو داود، وفيه علي بن زيد وفيه كلام (مجمع الزوائد: 265/3-266) .(9/88)
ما يقتضيه وطء الحائض في القبل: يلاحظ أن الوطء في الدبر حرام في أثناء الحيض وغيره، ويسن لمن وطئ الحائض أو النفساء في قبلها إذا كان عامدا عالماً بالتحريم بالحيض أن يتصدق بدينار إن وطئها في إقبال الدم، وبنصف دينار إن وطئها في إدباره (1) ، لخبر: «إذا واقع الرجل أهله، وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» (2) .
ب ـ حل النظر والمس من رأسها إلى قدميها في حال الحياة؛ لأن إحلال الوطء إحلال للمس والنظر من طريق الأولى. وأما بعد الموت فلا يحل له المس والنظر عند الحنفية، ويحل عند الجمهور.
جـ ـ ملك المتعة: وهو اختصاص الزوج بمنافع بُضع الزوجة وسائر أعضائها استمتاعاً. وهو عوض عن المهر، والمهر على الرجل، فيكون هذا الحكم على الزوجة خاصاً بالزوج.
2 - ملك الحبس والقيد: أي صيرورة المرأة ممنوعة عن الخروج إلا بإذن الزوج، لقوله تعالى: {أسكنوهن} [الطلاق:65/6] والأمر بالإسكان نهي عن الخروج، وقوله عز وجل: {وقَرْن في بيوتكن} [الأحزاب:33/33] وقوله سبحانه: {لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن} [الطلاق:56/1] .
3 - وجوب المهر المسمى على الزوج للزوجة: فهو حكم أصلي للزواج لا وجود له بدونه شرعاً؛ لأن المهر عوض عن ملك المتعة.
4 - وجوب النفقة بأنواعها الثلاثة: وهي الطعام والكسوة والسكنى، مالم تمتنع الزوجة عن طاعة زوجها بغير حق، فإن امتنعت سقطت نفقتها. ودليل الإلزام بالنفقة قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:2/233] وقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدر عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7/65] وقوله عز وجل: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدكم} [الطلاق:65/6] والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأنها لا تمكَّن من الخروج للكسب، لكونها عاجزة بأصل الخلقة لضعف بنيتها.
__________
(1) تحفة الطلاب بشرح متن تحرير تنقيح اللباب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 227.
(2) رواه أبو داود والحاكم وصححه.(9/89)
5 - ثبوت حرمة المصاهرة: وهي حرمة الزوجة على أصول الزوج وفروعه، وحرمة أصول الزوجة وفروعها على الزوج، لكن تثبت الحرمة في بعض الحالات بنفس عقد الزواج، وفي بعضها يشترط الدخول.
6 - ثبوت نسب الأولاد من الزوج: بمجرد وجود الزواج في الظاهر، لقوله صلّى الله عليه وسلم «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (1) وفي لفظ للبخاري: «لصاحب الفراش» .
7 - ثبوت حق الإرث بين الزوجين: إذا مات أحد الزوجين أثناء الزوجية أو في العدة من طلاق رجعي، بالاتفاق، أو من طلاق بائن في مرض الموت عند الجمهور غير الشافعية، حتى ولو بعد العدة عند المالكية والحنابلة. والدليل قوله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم..} [النساء:4/12] إلى قوله عز وجل: {ولهن الثمُن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين} [النساء:4/12] .
__________
(1) رواه الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 279/6) .(9/90)
8 - وجوب العدل بين النساء في حقوقهن عند التعدد (1) :
إذا كان للرجل أكثر من امرأة، فعليه عند الجمهور غير الشافعية العدل بينهن في حقوقهن من البيتوتة والنفقة (المشروب والملبوس) والكسوة والسكنى، أي التسوية بينهن فيما ذكر. فقد ندب سبحانه وتعالى إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزيادة، فدل على أن العدل بينهن في القَسْم (وهو توزيع الزمان ليلاً ونهاراً إلا لحاجة على زوجاته إن كن اثنتين فأكثر) والنفقة واجبة، قال تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء:3/4] أي إن خفتم ألا تعدلوا في القسم والنفقة في نكاح المثنى والثلاث والرباع، فواحدة، وقال تعالى: {ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء:3/4] أي تجوروا، والجور حرام، فكان العدل واجباً ضرورة.
وقالت عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلُمني فيما تملك ولا أملك» (2) قال الترمذي: يعني به الحب والمودة، وأخرج البيهقي عن ابن عباس في قوله {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء:4 /129] قال: في الحب والجماع.
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كانت له امرأتان، يميل لإحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة، يجرُّ أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً» (3) .
والبداءة في القسم وفي مقدار الدور إلى الزوج، ويطوف إلى نسائه في منازلهم اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويمنع جمع المرأتين مع الرجل في فراش واحد، وإن بدون وطء، فلو كان عمل الزوج ليلاً كالحارس، ذكر الشافعية أنه يقسم نهاراً، قال الحنفية: وهو حسن.
__________
(1) البدائع: 332/2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 179/2 وما بعدها، فتح القدير: 516/2-519، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 546/2-553، القوانين الفقهية: ص 212، الشرح الصغير: 505/2-511، المهذب: 67/2-69، مغني المحتاج: 251/3-256، كشاف القناع: 213/5-233.
(2) رواه الخمسة إلا أحمد (نيل الأوطار: 217/6) .
(3) رواه الخمسة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 216/6) .(9/91)
حال المرض: والمريض في وجوب القسم عليه كالصحيح البالغ العاقل ولو مجبوباً؛ لأن «رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها» (1) .
لكن قال المالكية: إن لم يقدر مريض على القسم لشدة مرضه، فعند من شاء منهن، بلا تعيين.
نوع القسم: ولا يجب القسم في الوطء، وإنما في المبيت إلا إذا أراد إضرار امرأة، فيجب عليه ترك الضرر، فعماد القسم الليل، لقوله عز وجل: {وجعلنا الليل لباساً} [النبأ:78/10] قيل في التفسير: الإيواء إلى المساكن، ولأن النهار للمعيشة، والليل للسكون. لكن يستحب القسم في الاستمتاع؛ لأنه أكمل في العدل.
القسم في السفر: قال الحنفية: لا قسم على الزوج إذا سافر، ولا يجب عليه أن يبيت عند الأخرى مقابل أيام السفر؛ لأن مدة السفر ضائعة، لكن الأفضل أن يقرع بينهن، فيخرج بمن خرجت قرعتها تطييباً لقلوبهن دفعاً لتهمة الميل عن نفسه، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» (2) .
ورأى المالكية كالحنفية أن الزوج إذا أراد سفراً اختار منهن للسفر معه من شاء، إلا إذا أراد السفر في قُرْبة أي عبادة كحج، فيُقرع بينهما أو بينهن. والحاصل أن الحنفية والمالكية لا يوجبون القرعة؛ لأنها من باب الخطر والقمار.
__________
(1) متفق عليه عن عائشة (المرجع السابق: ص 217) .
(2) متفق عليه عن عائشة (المرجع السابق) .(9/92)
لكن الحنابلة والشافعية قالوا: إنه لا يجوز للزوج اصطحاب إحداهن معه بغير قرعة، فإذا أراد السفر أقرع بينهن، فمن خرجت عليها القرعة، سافر بها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم: «كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها خرج بها معه» (1) .
أثر سفر المرأة على القسم: إن سافرت المرأة بغير إذن الزوج، سقط حقها من القسم والنفقة؛ لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد منعت ذلك بالسفر. فإن سافرت بإذن الزوج، قال الشافعية في الجديد: إن كان لغرضه يقضي لها، وإن كان لغرضها لا يقضي.
وكذلك قال الحنابلة: يسقط حق المرأة في القسم والنفقة إن سافرت بغير إذنه لحاجتها أوغيرها، أو امتنعت من المبيت عنده، أو سافرت بإذنه لحاجتها. ولا يسقط حقها من نفقة ولا قسم إن بعثها الزوج لحاجته، أو انتقلت من بلد إلى بلد بإذنه. وقالوا أيضاً: لو سافر الزوج عن المرأة لعذر وحاجة، سقط حقها من القسم والوطء، وإن طال سفره للعذر.
هبة المرأة حقها: اتفق الفقهاء على أن للمرأة أن تهب حقها من القسم في جميع الزمان، وفي بعضه، لبعض ضرائرها، وعلى أنه إن رضيت بترك قسمها، جاز؛ لأنه حق ثبت لها، فلها أن تستوفي، ولها أن تترك، فقد ثبت أن سودة بنت زَمْعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة (2) .
ولكن لا تجوز الهبة بغير رضا الزوج، فإذا رضيت الواهبة ورضي الزوج، جاز بلا خلاف؛ لأن الحق لا يخرج عنهما. ولا يلزم الزوج الرضا بالهبة؛ لأنها لا تملك إسقاط حقه من الاستمتاع، فله أن يبيت عندها في ليلتها.
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه عن عائشة (المرجع السابق: ص 218) .(9/93)
وإذا أخذت الواهبة مالاً على ترك نوبتها، لم يجز أخذه، ويلزمها رده إلى من أخذته منه، وعلى الزوج أن يقضي لها زمن هبتها؛ لأنها تركته بشرط العوض، ولم يسلم العوض لها، فترجع بالمعوض؛ لأن هذا معاوضة القسم بالمال، فيكون في معنى البيع، ولا يجوز هذا البيع.
حق البكر والثيب والجديدة والقديمة: قال الحنفية: البكر والثيب، والجديدة والقديمة، والمسلمة والكتابية سواء في القسم، لإطلاق الآيات، وهي قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل} [النساء:129/4] أي لن تستطيعوا أن تعدلوا في المحبة، فلا تميلوا في القسم، كما قال ابن عباس. وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] وغايته القسم، وقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا} [النساء:3/4] ولإطلاق أحاديث النهي عن الميل وعدم القسم، ولأن القسم من حقوق الزواج، ولا تفاوت بين النساء في الحقوق.
وأما ما روي من نحو: «للبكر سبع وللثيب ثلاث» فيحتمل أن المراد التفضيل في البداءة دون الزيادة، فوجب تقديم الدليل القطعي، وهو الآيات.
وقال الجمهور: تختص وجوباً البكر الجديدة عند الزفاف بسبع ليال متوالية، بلا قضاء للباقيات. وتختص وجوباً الزوجة الثيب بثلاث ليال متوالية، بلا قضاء، ثم يقسم بعدئذ، لخبر ابن حبان في صحيحه: «سبع للبكر، وثلاث للثيب» (1) ،
__________
(1) ورواه الدارقطني أيضاً (نيل الأوطار: 214/6) بلفظ: «للبكر سبعة أيام، وللثيب ثلاث، ثم يعود إلى نسائه» .(9/94)
وعن أبي قلابة عن أنس قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعاً، ثم قَسَم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً، ثم قسم» قال أبو قلابة: «ولو شئتُ لقلت: إن أنساً رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (1) .
9 - وجوب طاعة الزوجة لزوجها إذا دعاها إلى الفراش، لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] قيل: لها المهر والنفقة وعليها أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته. وقد أمر الشرع في قوله تعالى: {فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34/4] بتأديبهن بالهجر والضرب غير المبرح (غير المؤذي) عند عدم طاعتهن، ثم قال تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/4] فدل على لزوم إطاعتهن الأزواج.
10 - ولاية التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته: بأن نشزت، أو خرجت بلا إذن، أو تركت حقوق الله كالطهارة والصلاة، أوأغلقت الباب دونه، أو خانته في نفسها أو ماله. ويبدأ بالترتيب بما يلي:
الوعظ والنصح بالرفق واللين: وهوذكر ما يقتضي رجوعها عما ارتكبته من الأمر والنهي برفق، ثم الهجر والاعتزال وترك الجماع والمضاجعة، ثم الضرب غير المبرح ولا الشائن: وهو الضرب بالسواك ونحوه فقط. والدليل قوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع، واضربوهن} [النساء:34/4] فظاهر الآية، وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل الترتيب.
فإن نفع الضرب، وإلا رفع الأمر، لبعث حكمين أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، كما قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/4] .
__________
(1) متفق عليه (المرجع السابق) .(9/95)
11 - المعاشرة بالمعروف من كف الأذى وإيفاء الحقوق وحسن المعاملة: وهو أمر مندوب إليه، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (1) وقوله: «استوصوا بالنساء خيراً» (2) والمرأة أيضاً مندوبة إلى المعاشرة الجميلة مع زوجها بالإحسان، واللطف في الكلام، والقول المعروف الذي يطيب به نفس الزوج.
ومن العشرة بالمعروف: بذل الحق من غير مطل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطْل الغني ظلم» (3) .
ومن العشرة الطيبة: ألا يجمع بين امرأتين في مسكن إلا برضاهما؛ لأنه ليس من العشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة. ومنها ألا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأنه دناءة وسوء عشرة. ومنها ألا يستمتع بها إلا بالمعروف، فإن كانت نِضْو الخلق (هزيلة) ولم تحتمل الوطء، لم يجز وطؤها لما فيه من الإضرار.
__________
(1) رواه الترمذي عن عائشة، وابن ماجه عن ابن عباس، والطبراني عن معاوية، وهو حديث صحيح (نيل الأوطار: 206/6) .
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 205/6) .
(3) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (نصب الراية: 59/4) .(9/96)
حكم الاستمتاع أو هل الوطء واجب؟
قال الحنفية (1) : للزوجة أن تطالب زوجها بالوطء؛ لأن حله لها حقها، كما أن حلها له حقه، وإذا طالبته يجب على الزوج.
وقال المالكية (2) : الجماع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر.
وقال الشافعية (3) : ولا يجب عليه الاستمتاع إلا مرة؛ لأنه حق له، فجاز له تركه كسكنى الدار المستأجرة، ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة، فلا يمكن إيجابه، والمستحب ألا يعطلها، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: «أتصوم النهار؟ قلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسّ النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (4) ولأنه إذا عطلها لم يأمن الفساد ووقع الشقاق.
وقال الحنابلة (5) : يجب على الزوج أن يطأ الزوجة في كل أربعة أشهر مرة إن لم يكن عذر؛ لأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين (أي يمين الإيلاء) على تركه واجباً كسائر ما لا يجب، ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما، وهو مفض إلى دفع ضرر الشهوة من المرأة، كإفضائه إلى دفعه عن الرجل، فيكون الوطء حقاً لهما جميعاً، ولأنه لو لم يكن لها فيه حق لما وجب استئذانها في العزل. فإن أبى الرجل الوطء بعد انقضاء الأربعة الأشهر، أو أبى البيتوتة في ليلة من أربع ليال للحرة، حتى مضت الأربعة الأشهر بلا عذر لأحدهما، فرِّق بينهما بطلبهما، كمن حلف يمين الإيلاء، وكما لو منع النفقة وتعذرت عليها من قبله، ولو كان ذلك قبل الدخول بالمرأة.
والخلاصة: أن الجمهور يوجبون الوطء على الرجل وإعفاف المرأة، والشافعية لا يوجبونه إلا مرة واحدة، والرأي الأول أرجح.
__________
(1) البدائع: 331/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 211.
(3) المهذب: 66/2، تكملة المجموع: 568/15.
(4) رواه أبو داود الطيالسي عن ابن عمرو، والبزار عن ابن عباس، وفيه ضعيف، ووثقه بعضهم.
(5) كشاف القناع: 214/5.(9/97)
العزل: وهو الإنزال خارج الفرج بعد النزع منه، لا مطلقاً. ومن المعاشرة الطيبة: ألا يعزل عن امرأته الحرة بغير إذنها، فيكره العزل بالاتفاق بغير رضاها؛ لأن الوطء عن إنزال سبب لحصول الولد، ولها في الولد حق، وبالعزل يفوت الولد (1) .
ودليل جواز العزل قول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» (2) ولمسلم: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك، فلم ينهنا» .
ودليل كراهية العزل: حديث جُذَامة بنت وهب الأسدية بلفظ: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أناس، وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي، وهي: وإذا الموءودة سئلت» (3) .
__________
(1) البدائع: 234/2، الدر المختار: 521/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 212، المهذب: 66/2، تكملة المجموع: 578/15، كشاف القناع، المكان السابق.
(2) متفق عليه عن جابر (نيل الأوطار: 195/6) .
(3) رواه أحمد ومسلم، والمراد بالغيلة: أن يجامع امرأته وهي مرضع، وقال ابن السكّيت: هي أن ترضع المرأة وهي حامل، وذلك لما يحصل للرضيع من الضرر بالحمل حال إرضاعه (نيل الأوطار: 196/6) .(9/98)
وقال متأخرو الحنفية (1) : يجوز العزل بغير إذن المرأة لعذر، كأن يكون في سفر بعيد، أو في دار الحرب، فخاف على الولد، أو كانت الزوجة سيئة الخلق ويريد فراقها، فخاف أن تحبل.
الإسقاط: وقالوا أيضاً: يباح إسقاط الولد قبل أربعة أشهر، ولو بلا إذن الزوج.
وقال المالكية (2) : إذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح، فإنه قتل نفس إجماعاً.
هذا ... وقد نصت المادة (49) من القانون السوري على أحكام الزواج الصحيح: «الزواج الصحيح النافذ تترتب عليه جميع آثاره من الحقوق الزوجية كالمهر ونفقة الزوجة ووجوب المتابعة وتوارث الزوجين، ومن حقوق الأسرة كنسب الأولاد وحرمة المصاهرة» .
حكم الزواج غير اللازم:
حكم الزواج غير اللازم مثل حكم الزواج اللازم إلا أنه يثبت فيه الحق للزوج أو الزوجة بالفسخ، ويكون الزواج قابلاً للفسخ.
حكم الزواج الموقوف:
الزواج الموقوف مع كونه صحيحاً لا يترتب عليه أي أثر من آثار الزواج قبل إجازته ممن له حق الإجازة، فلا يحل فيه الدخول بالزوجة، ولا تجب فيه نفقة ولا طاعة، ولا يثبت به حق التوارث بموت أحد الزوجين. فإن أجيز صار نافذاً وترتبت عليه أحكام الزواج اللازم، عملاً بالقاعدة الفقهية: (الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة) . ومثاله نكاح الفضولي: الذي يعقد لغيره من غير ولاية تامة عليه ولا وكالة عنه. ومثل تزوج الصغير والصغيرة المميزين بدون إذن الولي. وقال محمد: تزوج العاقلة بنفسها أو بوكيلها من غير إذن وليها يكون موقوفاً.
وإن حصل دخول قبل الإجازة، كان معصية، ولكن تترتب عليه عند الحنفية آثار الزواج الفاسد الآتية، فيسقط الحد ويثبت النسب، ويجب الأقل من المسمى ومهر المثل، لكن لا عدة في زواج موقوف قبل الإجازة، ولا في باطل. وقد نص القانون السوري (م 52) على أحكام هذا النوع: «الزواج الموقوف حكمه قبل الإجازة كالفاسد» .
__________
(1) الدر المختار ورد المختار: 522/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 212.(9/99)
حكم الزواج الفاسد وأنواعه عند الحنفية (1) :
الزواج الفاسد عند الحنفية: هو مافقد شرطاً من شروط الصحة، وأنواعه: هي الزواج بغير شهود، والزواج المؤقت، وجمع خمس في عقد، والجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها، وزواج امرأة الغير بلا علم بأنها متزوجة، ونكاح المحارم مع العلم بعدم الحل: فاسد عند أبي حنيفة، وباطل عند الصاحبين، وهو الراجح.
وليس للزواج الفاسد حكم قبل الدخول، فلا يترتب عليه شيء من آثار الزوجية، فلا يحل فيه الدخول بالمرأة، ولا يجب فيه للمرأة مهر ولا نفقة، ولا تجب فيه العدة، ولا تثبت به حرمة المصاهرة، ولا يثبت به النسب، ولا التوارث.
ويجب على الزوجين أن يتفرقا بأنفسهما، وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليحكم بالتفريق بينهما، ويجوز فيه دعوى الحسبة لإزالة المنكر من غير أن يكون للمدعي مصلحة شخصية، ويثبت لكل واحد منهما فسخه، ولو بغير حضور صاحبه، دخل بها أو لا في الأصح، خروجاً عن المعصية، وهذا لا ينافي وجوب التفريق بينهما من قبل القاضي.
وإذا حصل دخول بالمرأة، كان الدخول معصية، ووجب التفريق بينهما، ولكن لا يقام عليهما حد الزنا، وإنما يعزرهما القاضي بمايراه زاجراً لهما، لوجود شبهة العقد، والحدود تدرأ بالشبهات. لكن يجب الحد في الدخول بالمحارم عند الصاحبين، ورأيهما هو الراجح؛ لأن التزوج في كل وطء حرام على التأبيد لايوجب شبهة، وما ليس بحرام على التأبيد كالمحرم بالصهرية كالأخت والعمة والنكاح بغير شهود، يكون العقد فيه شبهة. ولكن لو وطئها بعد التفريق يلزمه الحد، ولو دخلته شبهة.
__________
(1) البدائع:335/2، الدر المختار ورد المحتار: 481/2-484، 835، مختصر الطحاوي: ص174.(9/100)
وكذلك يجب الحد بالدخول في نكاح منكوحة الغير ومعتدته، مع العلم بالحرمة، لكونه زنا.
وبالرغم من كون الدخول في الزواج الفاسد معصية، فإنه عند الحنفية تترتب عليه ـ أي بالوطء في القبل لا بغيره كالخلوة (1) ـ الأحكام التالية:
1 - وجوب المهر: يجب فيه ولو تكرر الوطء عند جمهور الحنفية ما عدا زفرالأقل من مهر المثل ومن المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى في العقد، وجب مهر المثل مهما بلغ، لفساد التسمية. ووجوب المهر في الزواج الفاسد وإن كان في الأصل لا يجب لأنه ليس بنكاح حقيقة، إلا أنه قد وجب بسبب الدخول، والقاعدة الفقهية: (كل وطء (وقاع) في دار الإسلام، لا يخلو عن عَقْر أي حد، أوعُقْر أي مهر) وبما أن الحد قد انتفى لشبهة العقد، فيكون الواجب هو المهر. وكون المهر لا يزيد عن المسمى فلأن المرأة رضيت بذلك القدر، والعاقدان لم يقوِّما المنافع بأكثر من المسمى، فلا تتقوم بأكثر من المسمى. وكون الواجب هو الأقل من المهرين فلأن الأصل وجوب مهر المثل بسبب فساد العقد، ويجب فيه عند زفر مهر المثل بالغاً ما بلغ.
2 - ثبوت نسب الولد من الرجل إن وجد، احتياطاً لإحياء الولد وعدم ضياعه.
3 - وجوب العدة على المرأة من حين التفريق بينهما عند جمهور الحنفية وهو الصواب في المذهب؛ لأن النكاح الفاسد بعد الوطء منعقد في حق الفراش، والفراش لا يزول قبل التفريق. وعليه تجب العدة بعد الوطء لا الخلوة، للطلاق لا للموت من وقت التفريق أو متاركة الزوج وإن لم تعلم الزوجة بالمتاركة في الأصح.
وقال زفر: يبدأ وقت وجوب العدة من آخر وطء وطئها؛ لأن العدة تجب بالوطء، وتطلب لمعرفة استبراء الرحم، والحمل يكون بالوطء. ولا عدة في نكاح المحارم ومنكوحة الغير ومعتدته، إن علم أنها للغير؛ لأنه لم يقل أحد بجوازه، فلم ينعقد أصلاً، كما أن نكاح المحارم باطل على الأظهر.
__________
(1) عبارة مشايخ الحنفية: الخلوة الصحيحة في النكاح الفاسد كالخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح.(9/101)
4 - ثبوت حرمة المصاهرة: فيحرم على الرجل الزواج بأصول المرأة وفروعها، وتحرم المرأة على أصول الرجل وفروعه. ولا تترتب على الزواج الفاسد أحكام أخرى، فلا تجب به نفقة ولا طاعة، ولا يثبت به حق التوارث بين الرجل والمرأة.
وقد نص القانون السوري (م 51) على أحكام الزواج الفاسد:
1 - الزواج الفاسد قبل الدخول في حكم الباطل.
2 - ويترتب على الوطء فيه النتائج التالية: أـ المهر في الحد الأقل من مهر المثل والمسمى. ب ـ نسب الأولاد بنتائجه المبينة في المادة (133) من هذا القانون. جـ ـ حرمة المصاهرة. د ـ عدة الفراق في حالتي المفارقة أو موت الزوج، ونفقة العدة دون التوارث بين الزوجين.
3 - تستحق الزوجة النفقة الزوجية ما دامت جاهلة فساد النكاح.
حكم الزواج الباطل وأنواعه:
1 - حكم الزواج الباطل عند الحنفية:
الزواج الباطل عند الحنفية: هو ـ كما تقدم ـ الذي حصل خلل في ركنه أو في شرط من شروط انعقاده، كزواج الصبي غير المميز والزواج بصيغة تدل على المستقبل، والزواج بالمحارم كالأخت والعمة على الرأي الراجح، والمرأة المتزوجة برجل آخر مع العلم بأنها متزوجة، وزواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بغير الكتابية كالمجوسية والوثنية، ونحوها.
وحكم الزواج الباطل: أنه لا يترتب عليه شيء من آثار الزواج الصحيح، فلا يحل فيه الدخول بالمرأة، ولا يجب به مهر ولا نفقة ولا طاعة، ولا يثبت به توارث ولا مصاهرة، ويجب عدم التمكين من الدخول بينهما، فإن دخلا فرَّق القاضي بينهما جبراً، ولا عدة فيه بعد التفريق كالموقوف قبل إجازته. وقد نص القانون السوري (م 2/48) علي ما يلي: زواج المسلمة بغير المسلم باطل، ونصت المادة (50) على أحكام الزواج الباطل: الزواج الباطل لا يترتب علىه شيء من آثار الزواج الصحيح، ولو حصل فيه دخول.(9/102)
2 - حكم الزواج الباطل وأنواعه عند المالكية:
الباطل والفاسد بمعنى واحد عند الجمهور غير الحنفية، فالزواج الباطل أو الفاسد عند المالكية: هو ما حصل خلل في ركن من أركانه أو شرط من شروط صحته، وهو ينقسم إلى نوعين:
أـ زواج اتفق الفقهاء على فساده: كالزواج بإحدى المحارم من نسب أو رضاع أو مصاهرة.
ب ـ وزواج اختلف الفقهاء في فساده: وهوما يكون فاسداً عند المالكية وصحيحاً عند بعض الفقهاء بشرط أن يكون الخلاف قوياً، كزواج المريض فإنه لا يجوز، على المشهور عند مالك.
فإن كان الخلاف ضعيفاً كزواج المتعة، وزواج المرأة الخامسة، كان من المجمع على فساده.
وللزواج الفاسد أو الباطل أحكام هي ما يأتي (1) :
1 - التحريم ووجوب فسخه في الحال: رفعاً للمعصية، فإن تم الفسخ فليس للمرأة شيء، سواء أكان العقد متفقاً على فساده أم مختلفاً في فساده؛ لأن القاعدة الكلية تقول: «كل نكاح فسخ قبل الدخول، فلا شيء فيه، كان متفقاً على فساده أو مختلفاً فيه، كان الفساد لعقده أو لصداقة أو لهما» فليس الفسخ قبل الدخول مثل الطلاق قبل الدخول في الزواج الصحيح. فلا شيء من الصداق بالفسخ قبل الدخول، إلا في نكاح الدرهمين، أو ما قل عن الصداق الشرعي إذا امتنع الزوج من إتمامه، ففسخ قبل الدخول، ففيه نصفهما على قول، وإلا في حال ادعاء الزوج الرضاع مع المرأة، ولم يدخل بها، ففسخ لإقراره بالرضاع، فيلزمه نصف المسمى، لاتهامه أنه قصد فراقها بلا شيء.
فإن دخل الرجل بالمرأة فهل يفسخ العقد أو لا؟ العقد الفاسد بالنسبة لاستحقاق الفسخ بعد الدخول ثلاثة أنواع:
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 204-211، بداية المجتهد: 31/2-49، 57-59، الشرح الكبير: 236/2-241، الشرح الصغير: 382/2-391.(9/103)
أـ نوع يجب فسخه أبداً وإن طال الزمان بعد الدخول: وهو ما يكون الفساد فيه لخلل في الصيغة أو في العاقدين أو في محل العقد، كالزواج بإحدى المحارم من نسب أو رضاع أو مصاهرة، وزواج المتعة، والزواج بأكثر من أربع زوجات، والزواج بغير ولي أو بغير شهود، وزواج مريض الموت، فنكاح المريض لا يجوز في المشهور عن مالك، ويفسخ وإن صح.
ب ـ ونوع لا يجب فسخه بل يبقى: وهو ما كان الفساد فيه بسبب فساد الصداق، كالزواج بدون صداق، أو بصداق مجهول، أو كان الفساد بسبب اقتران العقد بشرط يناقض المقصود من الزواج، مثل الزواج بشرط ألا يعاشرها ليلاً أو نهاراً، أو ألا ينفق عليها، أو ألا يقسم لها مع زوجته الثانية.
جـ ـ ونوع يجب فسخه إن لم يطل الزمان بعد الدخول، ولا يفسخ إن طال الزمن، وهو محصور في ثلاثة عقود هي:
زواج الصغيرة اليتيمة إذا زوّجت مع فقد شرط من شروطها، وزواج الشريفة بالولاية العامة مع وجود الولي الخاص، وزواج السر (1) ، لكن الطول في اليتيمة والشريفة يكون بمرور ثلاث سنوات فأكثر أو ولادة ولدين في بطنين، والطول في زواج السر يكون بحسب العرف: وهو ما يحصل فيه الاشتهار والظهور بين الخاص والعام عادة.
والفسخ قبل الدخول أو بعده طلاق، فإن أعاد العقد بعده صحيحاً بقي له طلقتان فقط، وإن أعاده صحيحاً قبله، استمر على ما هو عليه.
2 - وجوب المهر بالدخول، لا بمجرد الخلوة: سواء أكان متفقاً على فساده، أم مختلفاً في فساده.
والمهر المستحق: هو المسمى إن كان مسمى، أو مهر المثل إن لم يسم تسمية صحيحة، أو كان الفساد بسبب شرط يناقض المقصود من الزواج.
3 - ثبوت النسب للولد بأبيه إن كان العقد مختلفاً في فساده، وكذا إن كان متفقاً على فساده، ولم يعتبر الوطء زنا، إذا لم يكن الرجل عالماً بالحرمة. فإن كان عالماً بالحرمة اعتبر زنا ووجب الحد، ولا يثبت النسب.
__________
(1) وهو ما أوصى فيه الزوج الشهود بكتمه عن زوجته أو عن جماعة، ولو أهل منزل، إذا لم يكن الكتم خوفاً من ظالم أو نحوه.(9/104)
وعليه يندرئ الحد عن الواطئ في نكاح المعتدة، وذات الرحم المحرم والرضاع إن كان غير عالم بالحرمة، فإن علم بأنها ذات محرم أو ذات رضاع أو أنها معتدة أو أنها خامسة، حَدَّ، إلا المعتدة أي العالم بأنها معتدة، ففي حده قولان.
ولا حد في الوطء بناء على عقد اختلف فيه العلماء، كنكاح المحرم بحج أو عمرة، والشغار، وتزويج المرأة نفسها بدون ولي.
4 - ثبوت الإرث بين الرجل والمرأة في حال الفساد المختلف فيه: فلو مات أحدهما قبل فسخ العقد ورثه الآخر، دخل الرجل بالمرأة أو لم يدخل، وذلك إلا زواج المريض مرض الموت، فإنه لا يجوز عند المالكية خلافاً للجمهور فإنه صحيح؛ لأن سبب فساده هو إدخال وارث في التركة لم يكن موجوداً عند المرض، فلو ثبت به الإرث، لفات الغرض الذي من أجله حكم بفساد العقد.
ولا يثبت حق التوارث في حالة الفساد المتفق عليه؛ لأنه زواج غير منعقد أصلاً.
5 - ثبوت حرمة المصاهرة (1) بالدخول (الوطء) (2) أو مقدماته، إذا كان العقد مختلفاً في فساده. وكذلك تثبت بهما إذا كان العقد متفقاً على فساده، بشرط ألا يعتبر الوطء زنا موجباً للحد، فإن اعتبر زنا موجباً للحد لا تثبت به حرمة المصاهرة به على المعتمد.
وكذلك مجرد العقد الفاسد المختلف فيه يحرِّم المرأة على أصول الرجل وفروعه، ويحِّرم على الرجل أصولها؛ لأن العقد على البنات يحرم الأمهات، ولا يحرم عليه فروعها؛ لأن العقد على الأمهات لا يحرم البنات، فإذا دخل بالأم حرمت البنت أيضاً.
6 - وجوب العدة إذا دخل الرجل بالمرأة أو اختلى بها خلوة يتمكن فيها من الاتصال الجنسي، ثم فسخ العقد، سواء أكان العقد متفقاً على فساده أم مختلفاً فيه، وتبدأ العدة من وقت الفرقة بينهما بعد الفسخ.
__________
(1) وهي تحريم المرأة على أصول الرجل وفروعه، وتحريم أصول المرأة وفروعها على الرجل.
(2) المراد بالوطء: ما يشمل إرخاء الستور، ولو تقارروا على عدم الوطء، ومثل الوطء مقدماته.(9/105)
أنواع الأنكحة الفاسدة المختلف فيها:
هناك أنكحة فاسدة أربعة، ورد النهي فيها صراحة، وهي نكاح الشغار، ونكاح المتعة، والخطبة على خطبة أخيه، ونكاح المحلِّل (1) .
أما نكاح الشغار: فهو أن يُنكح موليته: بنته أوأخته، على أن ينكحه الآخر موليته،،ولا صداق بينهما إلا بُضْع هذه ببضع الأخرى. اتفق العلمآء على معناه هذا، وعلى أنه نكاح غير جائز لثبوت النهي عنه، لخلوه عن المهر. واختلفوا إذا وقع، هل يصحح بمهر المثل أو لا؟
فقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصحح ويفسخ أبداً قبل الدخول وبعده، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشغار» (2) ، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق.
وقال أبو حنيفة: يصح نكاح الشغار بفرض صداق المثل. أما النهي عنه في السنة فمحمول على الكراهة، والكراهة لا توجب فساد العقد، فيكون الشرع أوجب فيه أمرين: الكراهة ومهر المثل.
ومنشأ الخلاف: هل النهي عن الشغار معلل بعدم العوض أو غير معلل؟ فإن قلنا: غير معلل، لزم الفسخ على الإطلاق. وإن قلنا: العلة عدم الصداق، صح بفرض صداق المثل، مثل العقد على خمر أو خنزير.
والخلاصة: أن نكاح الشغار باطل عند الجمهور، صحيح مكروه تحريماً عند
__________
(1) بداية المجتهد: 57/2 وما بعدها، الدر المختار: 457/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 239/2، الشرح الصغير: 388/2، 446، القوانين الفقهية: ص 204، المهذب: 46/2، مغني المحتاج: 142/3، المغني: 641/6-648، اللباب: 20/3، مختصر الطحاوي: ص 181.
(2) رواه الجماعة عن نافع عن ابن عمر (نيل الأوطار: 140/6) .(9/106)
الحنفية، فإن وقع فسخ النكاح عند الجمهور قبل الدخول وبعده، على المشهور عند المالكية، ويدفع الرجل لمن دخل بها مهر المثل، وتقع به حرمة المصاهرة، والوراثة، وإن وقع جاز عند الحنفية بمهر المثل.
وأما نكاح المتعة (وهو أن يقول لامرأة: أتمتع بك لمدة كذا) والنكاح المؤقت (وهو أن يتزوج امرأة عشرة أيام مثلاً) فهو باطل، أما الأول فبالإجماع ما عدا الشيعة عملاً عندهم برأي ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وأما الثاني فبطلانه عند الجمهور؛ لأنه أتى بمعنى المتعة، والعبرة في العقود للمعاني، وأجازه زفر والشيعة، وقول زفر: هو أنه صحيح لازم؛ لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. وقد سبق تفصيل الكلام فيه.
وأما الخطبة على خطبة الغير: فعند الجمهور يعد الزواج حينئذ صحيحاً، ولا يفرق بين الزوجين؛ لأن النهي ليس متوجهاً إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارج عن حقيقته، فلا يقتضي بطلان العقد، كالتوضؤ بماء مغصوب، وعند مالك على المعتمد، يجب الفسخ قبل الدخول بطلقة بائنة.
وأما نكاح المحلِّل: (وهو الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الذي طلقها) فهو حرام باطل مفسوخ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (1) . وهو نكاح صحيح وإن كان موجباً للإثم عند أبي حنيفة والشافعية؛ لأن العقد في الظاهر قد استكمل أركانه وشروطه الشرعية.
وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم الحديث السابق «لعن الله المحلل» فمن فهم من اللعن: التأثيم فقط، قال: النكاح صحيح. ومن فهم من التأثيم فساد العقد، تشبيهاً بالنهي الذي يدل على فساد المنهي عنه، قال: النكاح فاسد.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.(9/107)
3 - أنواع الأنكحة الباطلة عند الشافعية:
الباطل: ما اختل ركنه، والفاسد: ما اختل شرطه، وطرأ له الفساد بعد انعقاده، وحكمهما عند الشافعية واحد غالباً، وهو أنه لا يترتب على واحد منهما أي أثر من آثار الزواج الصحيح، فلا مهر ولا نفقة ولا حرمة مصاهرة ولا نسب ولا عدة. والأنكحة الباطلة للنهي عنها كثيرة، أهمها تسعة (1) :
1 ً - نكاح الشغار: كأن يقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، وبُضْع (2) كلٍ منهما صداق الأخرى، وإن سميا مع ذلك مهراً في الأصح لوجود التشريك المذكور، فإن لم يجعلا البضع مهراً بأن سكتا عنه، صح في الأصح لعدم التشريك المذكور، ولكل واحدة مهر المثل. وبطلانه للنهي عنه في حديث ابن عمر السابق وغيره، مثل «لا شغار في الإسلام» (3) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
2 ً - نكاح المتعة: وهو النكاح إلى أجل. وإن تزوج بشرط الخيار بطل العقد؛ لأنه عقد يبطله التوقيت، فبطل بالخيار كالبيع.
3 ً - نكاح المُحْرم: فلا يصح النكاح في إحرام أحد العاقدين أو الزوجة، بحج أو عمرة، أو بهما، أو مطلقاً صحيحاً أو فاسداً، وإن عقده الإمام، أو كان بين التحللين، للخبر السابق: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكح» .
لكن يجوز في الإحرام الرجعة والشهادة على الزواج؛ لأن الرجعة استدامة لا ابتداء عقد، ولأن ارتباط النكاح بالشهادة ارتباط توثق، وارتباطه بغيرها من الولاية، وكونه عاقداً أو معقوداً عليه ارتباط مباشرة.
__________
(1) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب لزكريا الأنصاري: 233/2-248، مغني المحتاج: 142/3، المهذب: 46/2-47.
(2) البضع يطلق على عقد النكاح والجماع معاً، وعلى الفرج (النهاية لابن الأثير: 133/1) .
(3) رواه مسلم عن ابن عمر، وروى أحمد ومسلم حديثاً آخر عن أبي هريرة «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الشغار (نيل الأوطار: 140/6) .(9/108)
4 ً - تعدد الأزواج: وهو إنكاح وليين امرأة زوجين، ولم يعرف سبق أحدهما معيناً. فإن دخل بها أحدهما لزمه مهر مثلها، وإن دخلا بها فلها على كل منهما مهر مثلها. فإن عرف عين السابق فهو الصحيح.
5 ً - نكاح المعتدة والمستبرأة من غيره ولو من وطء شبهة، فإن دخل بها حُدّ حَد الزنا، إلا إن ادعى الجهل بحرمة النكاح في العدة والاستبراء من غيره، فلا حد عليه. ويعذر الجاهل إن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء.
6 ً - نكاح المرتابة بالحمل قبل انقضاء عدتها: يحرم نكاحها حتى تزول الريبة، وإن انقضت الأقراء (الأطهار) ، للتردد في انقضاء عدتها. فلو نكحها رجل أو من ظنها معتدة أو مستبرأة، أو مُحْرمة بحج أو عمرة، أو مَحْرماً، ثم بان خلافه، فالنكاح باطل، للتردد في الحل.
7 - نكاح المسلم كافرة غير كتابية أصلاً كوثنية ومجوسية وعابدة شمس أو قمر، ومرتدة، أوغير كتابية خالصة كمتولدة بين كتابي ومجوسية وعكسه، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة:221/2] وتغليباً للتحريم في المتولدة بين كتابي ومجوسية.
أما الكتابية: فإن كانت إسرائيلية، حل زواجها إن لم تدخل أصولها في اليهودية بعد نسخها، أو شك في ذلك.
وإن كانت غير إسرائيلية وهي النصرانية، حل زواجها إن علم دخول أصولها في دين النصرانية قبل نسخه، ولو بعد تبديله إن تجنبوا المبدَّل. ودليل إباحة الزواج باليهودية والنصرانية بالشرط المذكور قوله تعالى: {والمحصَنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة:5/5] أي حِلّ لكم، والمراد من الكتاب: التوراة والإنجيل دون سائر الكتب قبلهما كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام.(9/109)
8 - المنتقلة من دين إلى آخر: لا يحل نكاحها، ولا يقبل منها إلا الإسلام.
9 - زواج المسلمة بكافر، وزواج المرتدة: فلا تحل مسلمة لكافر بالإجماع، لقوله تعالى: {ولا تُنكحوا المشركين} [البقرة:221/2] ولا تحل مرتدة لأحد، لا لمسلم؛ لأنها كافرة لا تقر على ردتها، ولا لكافر لبقاء تعلق الإسلام بها.
وإن ارتد أحد الزوجين أو كلاهما قبل الدخول، بطل النكاح، وإن كان بعد الدخول ينتظر: فإن جمعهما الإسلام في العدة دام النكاح، وإن لم يجمعهما الإسلام في العدة، فلا يدوم النكاح.
هذا وهناك أنكحة مكروهة مثل النكاح بعد الخطبة على الخطبة، ونكاح المحلل بنية التحليل دون الاشتراط في العقد، فإن تزوجها بشرط أنه إذا وطئها طلقها، بطل النكاح، ومثل نكاح المغرر بحرية المرأة أو نسبها.
4 - أنواع النكاح الفاسد عند الحنابلة:
الزواج الفاسد نوعان (1) :
النوع الأول ـ يبطل النكاح من أصله، وهو أربعة عقود:
1 - نكاح الشغار: وهو أن يزوجه وليَّته، على أن يزوجه الآخر وليته، ولا مهر بينهما، أو يجعل بُضْع كل واحدة مع دراهم معلومة مهراً للأخرى. فإن سموا مهراً مستقلاً ولو قل صح، وإن سمي لأحدهما صح نكاحها فقط.
2 - نكاح المحلل: وهو أن يتزوجها على أنه إذا أحلها طلقها، أو فلا نكاح بينهما، أو ينويه الزوج، أو يتفقا عليه قبله، فيحرم النكاح، ولا يصح ولا تحل لزوجها الأول.
3 - نكاح المتعة: وهو أن يتزوجها إلى مدة، أو يشترط طلاقها فيه بوقت، أو ينويه بقلبه، أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج، أو يقول: أمتعيني نفسك، فتقول: أمتعتك بلا ولي ولا شهود. فمن تعاطى ماذكر، عزر ولحقه النسب.
4 - النكاح المعلَّق: كزوجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت أمها، أو إن وضعت زوجتي بنتاً فقد زوجتكها، ويصح بقوله: زوجتكها إن كانت بنتي، أو كنت وليها، أو إن انقضت عدتها، وهما يعلمان ذلك، أو شئت، فقال: شئت، وقبلت مثل زوجت، وقبلت إن شاء الله تعالى.
__________
(1) غاية المنتهى: 42/3، المغني: 455/6 وما بعدها.(9/110)
ومن الأنكحة الباطلة: نكاح المرأة المتزوجة أو المعتدة، أو شبهه، فإذا علم الزوجان التحريم، فهما زانيان، وعليهما الحد، ولا يلحق النسب به.
وأما الزواج الفاسد المختلف في إباحته كالنكاح بغير شهود أو بغير ولي، فلا يجب به الحد، سواء اعتقد حله أم حرمته؛ لأنه مختلف في إباحته، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، والاختلاف فيه أقوى الشبهات.
النوع الثاني ـ يصح النكاح دون الشرط:
كما إذا شرط ألا مهر أو لا نفقة، أو أن يقسم لها أكثر من ضرتها أو أقل، أو إن شرط كلاهما أو أحدهما عدم وطء أو دواعيه، أو أن تعطيه شيئاً أو أن تنفق عليه، أوإن فارق رجع بما أنفق، أو شرط كلاهما أو أحدهما خياراً في عقد أو مهر، أو إن جاء بالمهر في وقت كذا، وإلافلا نكاح بينهما، أوأن يسافر بها، أو أن تستدعيه لوطء عند إرادتها، أو ألا تسلم نفسها إلى مدة كذا، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو يعزل عنها، أو يسكن بها حيث شاءت أو شاء أبوها ونحوه.
وإن شرطها مسلمة، فبانت كتابية، أو شرط بكراً أو جميلة أو نسيبة، أو شرط نفي عيب لا يفسخ به النكاح، فبانت بخلافه، فله الخيار، ويرجع بعد الدخول على من غرّه (الغار) .
وإن شرط صفة، فبانت أعلى ككتابية، فبانت مسلمة، فلا خيار.(9/111)
المبحث الخامس ـ مندوبات عقد الزواج أو ما يستحب له:
يستحب للزواج ما يأتي (1) :
1 - أن يخطب الزوج قبل العقد عند التماس التزويج خُطبة (2) مبدوءة بالحمد لله والشهادتين، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مشتملة على آية فيها أمر بالتقوى وذكر المقصود، عملاً بخطبة ابن مسعود، قال: «علَّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم التشهد في الصلاة، وخطبة الحاجة: الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» ويقرأ ثلاث آيات، فسرها سفيان الثوري: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102/3] .
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء:1/4] .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ... } الآية (3) [الأحزاب:70/33-71] .
ثم يقول: وبعد: فإن الله أمر بالنكاح، ونهى عن السفاح، فقال مخبراً وآمراً: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم..} [النور:32/24] لآية.
ويجزئ عن ذلك أن يحمد الله، ويتشهد ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا دعي ليزوج قال: الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، إن فلاناً يخطب إليكم فلانة، فإن أنكحتموه فالحمد لله، وإن رددتموه فسبحان الله.
والمستحب خطبة واحدة، لما تقدم، لا خطبتان اثنتان: إحداهما من العاقد، والأخرى من الزوج قبل قبوله؛ لأن المنقول عنه صلّى الله عليه وسلم وعن السلف خطبة واحدة، وهوأولى ما اتبع.
ويبين الزوج قصده بنحو: قد قصدنا الانضمام إليكم ومصاهرتكم والدخول في خدمتكم ونحوه، ويقول الولي: قد قبلناك ورضينا أن تكون منا وفينا، وما في معناه.
__________
(1) الشرح الصغير: 338/2 وما بعدها، 499-503، مغني المحتاج: 137/3، المهذب: 41/2، 63-65، المغني: 536/6 وما بعدها، كشاف القناع: 30/5 وما بعدها، تكملة المجموع: 548/15-559، غاية المنتهى: 76/3.
(2) الخُطبة: هي الكلام المفتتح بحمد الله والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المختتم بالوصية والدعاء، لخبر أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: «كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم» .
(3) رواه الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي.(9/112)
فإن عقد الزواج من غير خطبة جاز، فالخطبة مستحبة غير واجبة، لما روى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» (1) ولم يذكر خطبة، وروى أبو داود بإسناده عن رجل من بني سليم قال: «خطبت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب، فأنكحني من غير أن يتشهد» ولأن الزواج عقد معاوضة، فلم تجب فيه خطبة كالبيع.
2 - أن يدعى للزوجين بعد العقد، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير (2) . وأن يهنَّأ الزوجان بنحو: مبارك إن شاء الله، ويوم مبارك ونحو ذلك.
3 - أن يعقد النكاح يوم الجمعة مساء، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «أمسوا بالمِلاَك، فإنه أعظم بركة» (3) ، ولأن الجمعة يوم شريف ويوم عيد، والبركة في النكاح مطلوبة، فاستحب له أشرف الأيام طلباً للبركة، والإمساء به؛ لأن في آخر النهار من يوم الجمعة ساعة الإجابة.
4 - إعلان الزواج والضرب فيه بالدف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح» (4) وفي رواية الترمذي عن عائشة: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغِرْبال» أي بالدف، وعند النسائي: «فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت والدف في النكاح» .
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين: البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود والترمذي وصححه وحسنه وابن ماجه.
(3) رواه أبو حفص. والأصح لغة: الإملاك أي التزويج، وليس المِلاَك: يقال: أملكنا فلاناً فلانة، أي زوجناه إياها.
(4) رواه أحمد وصححه الحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير. وأما حديث عائشة عن الترمذي ففيه ضعيف (سبل السلام: 116/3) .(9/113)
ولا بأس بالغناء المباح أو الغزل البريء غير المخصص بشخص ما، في العرس، لما روى ابن ماجه عن عائشة: أنها زوجت يتيمة رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت، فلما رجعنا، قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما قلتم يا عائشة؟ قالت: سلّمنا ودعونا بالبركة، ثم انصرفنا، فقال: إن الأنصار قوم فيهم غَزَل، ألا قلتم يا عائشة: أتيناكم أتيناكم، فحيَّانا وحيَّاكم؟» .
والمالكية الذين لم يشترطوا الإشهاد عند العقد، قالوا: يندب الإشهاد عند العقد، للخروج من الخلاف، إذ كثير من الأئمة لا يرى صحته إلا بالشهادة حال العقد، وهم يرون وقوعه صحيحاً في نفسه، وإن لم تحصل الشهادة حال العقد كالبيع، ولكن لا تتقرر صحته، ولا تترتب ثمرته من حل التمتع إلا بحصولها قبل البناء، فجاز أن يعقد فيهما سراً، ثم يخبرا به عدلين، كأن يقولا لهما: قد حل منا العقد، فلان على فلانة. أو أن الولي يخبر عدلين، والزوج يخبر عدلين غيرهما، ولا يكفي أن يخبر أحدهما عدلاً، والثاني عدلاً غيره؛ لأنهما حينئذ بمنزلة الواحد.
5 - ذكر الصداق أي تسميته عند العقد، لما فيه من اطمئنان النفس، ودفع توهم الاختلاف في المستقبل، وندب أيضاً كون المهر حالاً، بلا تأجيل لبعضه.
6 - الوليمة (وهي طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها) : وهي سنة مستحبة مؤكدة عند جماهير العلماء وهو مشهور مذهبي المالكية والحنابلة، ورأي بعض الشافعية؛ لأنه طعام لحادث سرور، فلم تجب كسائر الولائم.
وفي قول مالك، والمنصوص في الأم للشافعي ورأي الظاهرية: أن الوليمة واجبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» (1) وظاهر الأمر الوجوب.
__________
(1) متفق عليه عن أنس (نيل الأوطار: 175/6) .(9/114)
وقد اختلف السلف في وقت الوليمة، هل هو عند العقد، أوعقبه، أوعند الدخول أو عقبه أو من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟
قال النووي: اختلفوا، فحكى القاضي عياض أن الأصح عند المالكية استحبابها بعد الدخول، وعن جماعة منهم: عند العقد، وعند ابن جندب: عند العقد وبعد الدخول. قال السبكي: والمنقول من فعل النبي صلّى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول. وفي حديث أنس عند البخاري وغيره التصريح بأنها بعد الدخول لقوله: أصبح عروساً بزينب، فدعا القوم (1) . وهذا هو المعتمد عند المالكية. وقال الحنابلة: تسن بعقد، وجرت العادة بفعلها قبل الدخول بيسير.
وأما النُثار (ما ينثر من السكر واللوز والجوز في النكاح أو غيره) فيكره عند الشافعي والمالكية؛ لأن التقاطه دناءة وسخف، ولأنه يأخذه قوم دون قوم، وتركه أحب.
وأما الإجابة: فتسن عند الحنفية إجابة الدعوة.
وقال الجمهور: الإجابة إلى الوليمة واجبة وجوباً عينياً عند المالكية والشافعية على المذهب، والحنابلة، حيث لا عذر من نحو برد وحر وشغل، لحديث «من دعي إلى وليمة ولم يجب، فقد عصى أبا القاسم» (2) وحديث «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليأتها» (3) .
والإجابة واجبة حتى على الصائم، لكن لا يلزمه الأكل، لما رواه أحمد
__________
(1) نيل الأوطار: 176/6.
(2) نص الحديث عند مسلم عن أبي هريرة: «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى عليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» .
(3) رواه مسلم وأحمد.(9/115)
ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم» .
أما الأعذار: فقال الشافعية: إن دعي الشخص إلى موضع فيه منكر من زمر أو طبل أو خمر: فإن قدر على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة، ولإزالته المنكر، وإن لم يقدر على إزالته، لم يحضر، لما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يجلس على مائدة تدار فيها الخمر» (1) .
وقال الحنابلة: تكره إجابة من في ماله حرام كأكله منه، ومعاملته وقبوله هديته وهبته وصدقته، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلّته. ويستحب بالاتفاق أكله ولو صائماً صوماً غير واجب؛ لأنه يدخل السرور على من دعاه. ومن دعاه أكثر من واحد، أجاب الكل إن أمكنه، وإلا أجاب الأسبق قولاً، فالأدين فالأقرب رحماً، فجواراً، ثم أقرع، أي لجأ إلى القرعة.
وقال المالكية: تجب الإجابة على من عيّن للوليمة بالشخص، إن لم يكن في المجلس من يُتأذى منه لأمر ديني، كمن شأنه الخوض في أعراض الناس، أو من يؤذيه، أو كان في المجلس منكر كفرش حرير يجلس عليه، وآنية ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو تبخير أو نحوها، أو كان هناك سماع غانية ورقص نساء وآلة لهو غير دف وزمارة وبوق، وصور حيوان كاملة لها ظل، لا منقوشة بحائط أو فرش؛ لأن تصاوير الحيوانات تحرم إجماعاً إن كانت كاملة لها ظل مما يطول استمراره، بخلاف ناقص عضو لا يعيش به لو كان حيواناً، وبخلاف ما لا ظل له، كنقش في ورق أو جدار. والنظر إلى الحرام حرام، وتصوير غير الحيوان كالسفن والأشجار لا حرمة فيه.
ومن الأعذار المسقطة لوجوب الإجابة: كثرة زحام، أو إغلاق باب دونه إذا قدم، وإن لمشاورة.
ومنها: العذر الذي يبيح التخلف عن الجمعة: من كثرة مطر، أو وحل أو خوف على مال أو مرض أو تمريض قريب ونحوها.
__________
(1) رواه أبو داود عن ابن عمر بلفظ «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة عليها الخمر..» .(9/116)
حكم آلات اللهو عند المالكية: قالوا: تكره الزُّمارة والبوق إذا لم يكثر جداً حتى يلهي كل اللهو، وإلا حرم كآلات الملاهي وذوات الأوتار، والغناء المشتمل على فحش القول، أو الهذيان.
ولايكره الغربال أو الدُّف إذا لم يكن فيه صراصير، وإلا حرم، ولا يكره الكُبَر أي الطبل الكبير المدور، المغش من الجهتين.
قال العز بن عبد السلام: أما العود والآلات المعروفة ذوات الأوتار كالربابة والقانون، فالمشهور من المذاهب الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام، والأصح أنه من الصغائر. وذهبت طائفة من الصحابة والتابعين ومن الأئمة المجتهدين إلى جوازه. قال الغزالي (1) : وقد دل النص والقياس جميعاً على إباحة سماع الغناء والآلات كالقضيب والطبل والدف وغيره، ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها (2) لا للذتها، إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان.
وأما الرقص: فاختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، وطائفة إلى الإباحة، وطائفة إلى التفريق بين أرباب الأحوال وغيرهم، فيجوز لأرباب الأحوال ويكره لغيرهم، قال العز بن عبد السلام: وهذا القول هو المرتضى، وعليه أكثر الفقهاء المسوغين لسماع الغناء. وقد أبنت سابقاً أنه حرام مع التثني والتكسر.
7 - أن يقول الزوج إذ ازفت إليه عروسه ما ثبت في السنة وهو ما يأتي:
أـ روى صالح بن أحمد عن أبي سعيد مولى أبي أسيد، قال: «تزوج، فحضر عبد الله بن مسعود وأبو ذر وحذيفة وغيرهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقدموه، وهو مملوك، فصلى بهم، ثم قالوا له: إذا دخلت على أهلك، فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي في، وارزقهم مني، وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك» .
ب ـ وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة، أواشترى خادماً، فليقل: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه، وليقل مثل ذلك» ، وهذا يقال عند شراء السيارة والدار ونحوهما.
__________
(1) الإحياء: 238/2 وما بعدها، 109/3.
(2) روى البخاري تعليقاً عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري: «ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف» والمعازف: الملاهي.(9/117)
الفَصْلُ الثَّالث: المحرَّمات من النِّساء أو الأنكحة المحرَّمة
عرفنا في شروط الزواج: أنه يشترط ألا تكون المرأة محرمة على الرجل الذي يريد الزواج بها، بأن تكون محلاً لورود العقد عليها، والمحلية نوعان عند الحنفية: أصلية وفرعية، والنوع الأول: شرط في انعقاد الزواج فإذا لم يتوافر بطل العقد؛ لأن التحريم قطعي، والنوع الثاني: شرط في صحة الزواج، فإذا فات فسد العقد؛ لأن التحريم ظني.
ومحل عقد الزواج: كل امرأة تحل في الشرع، بوجهين: إما بنكاح أو بملك يمين.
والمحرمات من النساء نوعان: نوع يحرم حرمة مؤبدة، ونوع يحرم حرمة مؤقتة. والتحريم المؤبد إما من جهة النسب، أو من جهة المصاهرة، أو من جهة الرضاع (1) .
__________
(1) البدائع: 256/2-272، 2/4-5، تبيين الحقائق: 101/2-105، فتح القدير: 357/2-390، غاية المنتهى: 30/3-38، الدر المختار: 380/2-405، بداية المجتهد: 31/2-34، 39-49، 57-59، القوانين الفقهية: ص 204-210، مغني المحتاج: 174/3-190، المهذب: 42/2، المغني: 543/6، 567 -650، كشاف القناع: 74/5-97.(9/118)
والنساء المحرمات عند المالكية (48) امرأة، خمس وعشرون مؤبدات: سبع من النسب: الأم والبنت والخالة والأخت والعمة وبنت الأخ وبنت الأخت، ومثلهن من الرضاع. وأربع بالصهر: أم الزوجة وبنتها، وزوجة الأب والابن، ومثلهن من الرضاع. ونساء النبي صلّى الله عليه وسلم، والملاعنة، والمنكوحة في العدة.
وغير المؤبدات: ثلاث وعشرون: المرتدة، وغير الكتابية، والخامسة، والمتزوجة، والمعتدة، والمستبرأة، والحامل، والمبتوتة، والأمة المشتركة (1) ، والأمة الكافرة، والأمة المسلمة لواجد الطَّوْل (المهر) ، وأمة الابن وأمة نفسه، وسيدته، وأم سيده، والمحرمة بالحج، والمريضة، وأخت زوجته، وخالتها، وعمتها، فلا يجوز الجمع بينهما. والمنكوحة يوم الجمعة عند الزوال، والمخطوبة بعد الركون للغير، واليتيمة غير البالغ.
النوع الأول ـ المحرمات المؤبدة: هي التي تحرم على الرجل أبداً، لسبب دائم فيها، كالبنوة والأمومة والأخوة، وتنحصر في ثلاثة أسباب: القرابة، المصاهرة، الرضاع.
1 - حرمة القرابة أو المحرمات بسبب النسب:
المحرمات بسبب النسب على التأبيد: هن اللاتي تحرم على الشخص بالقرابة النسبية، وهن أربعة أنواع:
أـ أصول الإنسان وإن علون: وهي الأم، والجدة: أم الأم، وأم الأب، لقوله تعالى: {حرِّمت عليكم أمهاتكم} [النساء:23/4] . والأم لغة: الأصل، فتشمل الأم والجدة.
__________
(1) لا يجوز للرجل أن يتزوج بجاريته التي يملكها ولا بجارية مشتركة بينه وبين غيره، وكذلك لا يجوز للمرأة أن تتزوج عبدها ولا العبد المشترك بينها وبين غيرها.(9/119)
ب ـ فروع الإنسان وإن نزلن: وهي البنت وبنت البنت، وبنت الابن وإن نزل، لقوله تعالى: {حرمِّت عليكم أمهاتكم وبناتكم} [النساء:23/4] .
جـ ـ فروع الأبوين أو أحدهما وإن بعدت درجتهن: وهي الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم، وبناتهن، وبنات أولاد الإخوة والأخوات وإن نزلن، لقوله تعالى: {وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء:23/4] .
د ـ الطبقة الأولى أو المباشرة من فروع الأجداد والجدات: وهن العمات والخالات، سواء كن عمات للشخص نفسه وخالات له، أم كن عمات وخالات لأبيه أو أمه، أوأحد أجداده وجداته، لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم} [النساء:23/4] .
أما الطبقة الثانية أو غير المباشرة من هذه الفروع فلا تحرم، كبنات العمات والأعمام، وبنات الخال أو الخالة، لدخولهن في مضمون قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/4] ولقوله سبحانه: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} [الأحزاب:50/33] .
ونصت المادة (33) من القانون السوري على هذه المحرمات: «يحرم على الشخص أصوله وفروعه، وفروع أبويه، والطبقة الأولى من فروع أجداده» . وتكون المحرمات بالقرابة سبع فرق: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.(9/120)
وحكمة تحريم الزواج بهؤلاء: إقامة نظام الأسرة على أساس من الود والحب الخالص الذي لا تشوبه مصلحة، فبالتحريم تنقطع الأطماع، ويتم الاجتماع والاختلاط البريء. وفي الزواج بإحدى هؤلاء إفضاء إلى قطع الرحم بسبب ما يحدث عادة بين الزوجين من نزاع وتخاصم، وقطع الرحم حرام، والمفضي إلى الحرام حرام، كما قال الكاساني (1) .
هذا فضلاً عما يؤدي إليه الزواج بالقريبات من ضعف النسل والمرض، بعكس الزواج بالأباعد يأتي بنسل قوي، كما ثبت طباً وشرعاً. وفي الأثر: «اغتربوا لا تَضْووا» أي تزوجوا البعيدة لئلا يأتي النسل ضاوياً، أي هزيلاً ضعيفاً.
2 - حرمة المصاهرة: المحرمات بسبب المصاهرة على التأبيد أربعة أنواع أيضاً:
أـ زوجة الأصول وإن علوا، عصبة كانوا أم ذوي أرحام، سواء دخل بها الأصل أم عقد عليها ولم يدخل، كزوجة الأب، والجد أبي الأب أو أبي الأم، لقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} [النساء:22/4] والمراد بالنكاح في (نكح) : العقد، فهو سبب للتحريم سواء دخل بها أم لم يدخل. والأب يطلق لغة على الجد وإن علا.
والمحرم بهذه الآية هو زوجة الأب فقط، أما بنتها أو أمها فلا تحرم على الابن، فيجوز أن يتزوج الرجل امرأة، ويتزوج ابنه بنتها أو أمها.
وسبب التحريم: تكريم واحترام الأصول وتحقق صلاح الأسر ومنع الفساد، من تطلع الابن لزوجة أصله، في حالة الاختلاط التي تحدث عادة بين الأب وابنه وسكناهما غالباً في مسكن واحد.
__________
(1) البدائع: 257/2.(9/121)
ب ـ زوجة فروعه وإن نزلوا، سواء كن عصبات أم ذوي رحم، وسواء دخل بها الفرع أم لم يدخل ولو بعد أن فارقها بالطلاق أو الوفاة، كزوجة الابن أوابن الابن أو البنت وإن نزلوا، لقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23/4] ويكون العقد عليها باطلاً لا يترتب عليه أي أثر، فإنهم قالوا: تثبت الحرمة بنفس العقد في منكوحة الأب وحليلة الابن. والحليلة: هي الزوجة، ويتحقق هذا الوصف بمجرد العقد الصحيح.
وألحق الحنفية بتحريم زوجة الأصل والفروع: موطوءة الأصل أو الفرع بالزنا أو الزواج الفاسد؛ لأن مجرد الوطء كاف عندهم في التحريم على الرجل.
ولا فرق بين أن يكون الابن من النسب أو الرضاع، فزوجة الابن أو ابن البنت من الرضاع تحرم على أبيه وجدِّه تحريماً مؤبداً، كما تحرم زوجة الابن من النسب؛ لأنه «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (1) ولقوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} [النساء:23/4] .
جـ ـ أصول الزوجة وإن علون، سواء دخل بزوجته أم لم يدخل، كأم الزوجة وجدتها، وسواء أكانت الجدة من جهة الأب أم من جهة الأم، فمجرد العقد على الزوجة يحرِّم أصولها على الرجل، ويكون العقد عليها ولو بعد الطلاق أو الموت باطلاً، لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} [النساء:23/4] وهو في آية المحرمات في سورة النساء (23) شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب.
__________
(1) رواه الجماعة عن عائشة، وهذا لفظ ابن ماجه (نيل الأوطار: 317/6) .(9/122)
د ـ فروع الزوجة وإن نزلن أي الربائب، إذا دخل الرجل بالزوجة، فإن لم يدخل بها، ثم فارقها بالطلاق أو الوفاة، فلا تحرم البنت ولا واحدة من فروعها على الزوج. لقوله تعالى: {وربائبكم (1) اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن، فلا جناح عليكم} [النساء:4/23] سواء أكانت بنت الزوجة ساكنة في بيت زوج أمها أم لا، وأما القيد المذكور في الآية {في حجوركم} [النساء:4/23] فهو مستمد من الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون مع أمها، وسبب التحريم كون نكاحها مفضياً إلى قطيعة الرحم، سواء أكانت في حجره أم لم تكن.
ويلحق بتحريم أصول الزوجة وفروعها عند الحنفية: أصول الموطوءة وفروعها في وطء حرام أو فيه شبهة.
ويلاحظ مما سبق في حرمة المصاهرة أن العقد وحده على المرأة يحرم ما عدا فروع الزوجة، وقد قرر الفقهاء فيه قاعدة مشهورة هي: (العقد على البنات يحرِّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرّم البنات) وسبب التفرقة أن الإنسان يحب ابنه أو بنته كنفسه بعكس حب الأصل، فلا تتألم الأم لو عقد على بنتها بعد العقد عليها.
وحكمة التحريم بالمصاهرة كما أبان الدهلوي (2) : منع التنازع والتصارع الذي قد يحدث بين الأقارب من هذا النوع إما بفك ارتباط زوجة بزوجها أو بالتنازع على زوج.
__________
(1) الربائب جمع ربيبة: وهي بنت المرأة من رجل آخر، وسميت بذلك لأن زوج الأم يربها أي يقوم بأمرها ويرعى شؤونها. فالربائب: هن بنات زوجة دخل بها.
(2) حجة الله البالغة: 97/2.(9/123)
ما يلحق بحرمة المصاهرة: ألحق الحنفية كما تقدم بالعقد الصحيح أو بالدخول:
1ً - حالة الدخول بالمرأة بعقد فاسد كالزواج بغير شهود.
2ً - وحالة الدخول بالمرأة بناء على شبهة، كمن زفت إليه امرأة أخرى غير التي عقد عليها، وقيل له: إنها زوجته، فدخل بها، بناء عليه، ثم تبين أنها ليست زوجته التي عقد عليها ولم يكن قد رآها، وهي التي تسمى بالمرأة المزفوفة.
3ً - وكذلك ألحقوا مع الحنابلة (1) الزنا، ومثله عند الحنفية مقدمات الزنا من تقبيل ومس بشهوة، فقالوا: تثبت حرمة المصاهرة بالزنا والمس والنظر بدون النكاح والملك وشبهته؛ لأن المس والنظر سبب داع إلى الوطء فيقام مقامه احتياطاً، وألحق الحنابلة اللواط بالزنا، فقالوا: الحرام المحض وهو الزنا يثبت به التحريم، ولا فرق بين الزنا في القبل والدبر؛ لأنه يتعلق به التحريم فيما إذا وجد في الزوجة والأمة. وإن تلوط بغلام يتعلق به التحريم أيضاً، فيحرم على اللائط أمُّ الغلام وابنته، وعلى الغلام أم اللائط وابنته؛ لأنه وطء في الفرج، فنشر الحرمة كوطء المرأة، ولأنها بنت من وطئه وأمه، فحرمتا عليه، كما لو كانت الموطوءة أنثى.
ويترتب على هذا الرأي: أنه يحرم على الرجل نكاح بنته من الزنا وأخته، وبنت ابنه وبنت بنته وبنت أخيه وأخته من الزنا، وتحرم أمها وجدتها، فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها وأمها. ولو زنى الزوج بأم زوجته أو ببنتها، حرمت عليه زوجته على التأييد.
واستدلوا بدليلين:
الأول ـ ما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني قد زنيت بامرأة في الجاهلية، أفأنكح ابنتها؟ قال: «لا أرى ذلك، ولا يصلح أن تنكح امرأة تطّلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها» . ولكن هذا الحديث مرسل ومنقطع كما قال ابن الهمام في فتح القدير.
__________
(1) البدائع: 260/2، المغني: 577/6 ومابعدها، فتح القدير: 365/2 وما بعدها.(9/124)
الثاني ـ إن الزنا سبب للولد، فيثبت به التحريم قياساً على غير الزنا، وكون الزنا حراماً لا يؤثر، بدليل أن الدخول بالمرأة بناء على عقد فاسد تثبت به حرمة المصاهرة بالاتفاق، وإن كان الدخول حراماً. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الزنا يجب به الحد ولا يثبت به النسب، بخلاف الوطء في الزواج، لذا قال الشافعي لمحمد بن الحسن: «إن الزواج أمر حمدت عليه، والزنا فعل رجمت عليه، فكيف يشتبهان؟!» .
وقال المالكية على المشهور والشافعية (1) : إن الزنا والنظر والمس لا تثبت به حرمةالمصاهرة، فمن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها، ولا الزواج بأمها أو ببنتها، ولا تحرم المزني بها على أصول الزاني وفروعه، ولو زنى الرجل بأم زوجته أو ببنتها لا تحرم عليه زوجته. وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته، ولكن يكره ذلك كله.
واستدلوا بأدلة أربعة هي:
الأول ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوجها أو يتزوج ابنتها، فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح» (2) فهذا كما قال الدميري: يدل لمذهب الشافعي أن الزنا لا يثبت حرمة المصاهرة، حتى يجوز للزاني أن ينكح أم المزني بها.
__________
(1) الشرح الصغير: 347/2، مغني المحتاج: 175/3، 419.
(2) أخرجه البيهقي عن عائشة وضعفه، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر.(9/125)
ويؤيده أحاديث أخرى منها: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» (1) وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلم على رجل يريد أن يتزوج بزانية: {الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} (:2) [النور:3/24] .
الثاني ـ المصاهرة نعمة؛ لأنها تلحق الأجانب بالأقارب، وفي الحديث: «المصاهرة لحمة كلحمة النسب» (3) ، وأما الزنا فمحظور شرعاً، فلا يكون سبباً للنعمة.
الثالث ـ القصد من إثبات حرمة المصاهرة قطع الأطماع بين الرجل والمرأة، لتحقيق الألفة والمودة، والاجتماع البريء من غير ريبة، أما المزني بها فهي أجنبية عن الرجل ولا تنسب إليه شرعاً، ولا يجري بينهما التوارث، ولا تلزمه نفقتها، ولا سبيل للقاء معها، فهي كسائر الأجانب، فلا وجه لإثبات الحرمة بالزنا.
الرابع ـ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/4] يفيد صراحة حل ما عدا المذكورات قبلها، وليس المزني بها منهن، فتدخل في عموم الحل.
وبالنظر في أدلة الفريقين، وبمعرفة ضعف أدلة الفريق الأول، يتبين لنا ترجيح رأي الفريق الثاني، تمييزاً بين الحلال المشروع والحرام المحظور.
ونصت المادة (34) من القانون السوري على المحرمات بسبب المصاهرة ونصها: يحرم على الرجل:
1 - زوجة أصله أو فرعه أو موطوءة أحدهما.
2 - أصل موطوءته أو فرعها، وأصل زوجته.
وقد اقتصر النص على أصل الزوجة دون فرعها؛ لأنه إن دخل الزوج بالزوجة، فيشمل فرع الزوجة قوله: «أصل موطوءته وفرعها» وإن لم يدخل بها، فلا يحرم عليه فرعها وهي الربيبة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، وقال في الفتح: رجاله ثقات.
(2) رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، قال الهيثمى: ورجال أحمد ثقات. والمرأة يقال لها أم مهزول.
(3) المعروف حديث البخاري عن ابن عباس: «حَرُم من النسب سبع، ومن الصِّهْر سبع» (جامع الأصول: 144/12) .(9/126)
3 - حرمة الرضاع:
المحرمات بسبب الرضاع هن المحرمات بسبب النسب، وهو أربعة أنواع من جهة النسب، وأربعةأنواع من جهة المصاهرة، فصار المجموع ثمانية. ودليل التحريم: قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23/4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (1) وكما تحرم القريبات من الرضاع، تحرم الأصهار من الرضاع أيضاً، قياساً على النسب، وأخذاً من مفهوم الآية والحديث المتقدمين، فأصبحت القاعدة: يحرم بسبب الرضاع ما يحرم بسبب النسب وسبب المصاهرة إلا في حالتين سأذكرهما يختلف فيهما حكم النسب والرضاع.
وأنواع المحرمات بالرضاع الثمانية هي ما يأتي:
الأول ـ أصول الإنسان من الرضاع مهما علون: وهي الأم من الرضاعة والجدة أو الجدات، أي أم المرضعة وأم زوج المرضعة.
الثاني ـ الفروع من الرضاع مهما نزلن: وهي البنت رضاعاً وبنتها، وبنت الابن رضاعاً وبنتها وإن نزلت؛ لأنهن بنات إخوته وأخواته.
الثالث ـ فروع الأبوين من الرضاع: وهي الأخوات من الرضاعة، وبنات الإخوة والأخوات مهما نزلن؛ لأنهن بنات الأخ والأخت.
الرابع ـ الفروع المباشرة للجد والجدة من الرضاع: وهي العمات والخالات رضاعاً. والعمة من الرضاعة: هي أخت زوج المرضعة، والخالة من الرضاعة: هي أخت المرضعة. ولا تحرم بنات العمات والأعمام وبنات الخالات والأخوال من الرضاعة، كما لا تحرم من النسب.
الخامس ـ أم الزوجة وجداتها من الرضاعة مهما علون، سواء أكان هناك دخول بالزوجة أم لم يكن.
السادس ـ زوجة الأب والجد من الرضاع، وإن علا، سواء دخل الأب والجد بها أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أبيه من النسب.
__________
(1) رواه الجماعة عن عائشة، وهذا لفظ ابن ماجه، ولفظ الآخرين «من الولادة» بدل «من النسب» وروى أحمد والشيخان اللفظ الأول أيضاً عن ابن عباس، وفي لفظ «من الرحم» (جامع الأصول: 146/12، نيل الأوطار: 317/6) .(9/127)
السابع ـ زوجة الابن وابن ابن البنت من الرضاع، وإن نزلوا، سواء دخل الابن ونحوه بالزوجة أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أولاده من النسب.
الثامن ـ بنت الزوجة من الرضاعة. وبنات أولادها مهما نزلن، إذا كانت الزوجة مدخولاً بها، فإن لم يكن دخول بها، فلا تحرم فروعها من الرضاع على الزوج، كما في النسب.
ما يختلف فيه حكم الرضاع عن حكم النسب:
استثنى الحنفية (1) حالتين من التحريم بالنسب، لا تحريم فيهما من جهة الرضاع، وهما:
1ً - أم الأخ أو الأخت من الرضاع: فإنه يجوز الزواج بها، ولا يجوز الزواج بأم الأخ أو الأخت من النسب لأبيه، كأن ترضع امرأة طفلاً، وكان لها ابن من النسب، فيجوز لهذا الابن أن يتزوج بأم هذا الطفل، وهي أم أخيه من الرضاع.
وذلك لأن أم الأخ أو الأخت من النسب إما أن تكون أمه إن كانا شقيقين أو أخوين لأم، أو زوجة أبيه إن كانا أخوين لأب، وهذا لم يوجد في الرضاع.
2ً - أخت الابن أو البنت من الرضاع: فإنه يحل للأب أن يتزوج بها، ولا يحل له أن يتزوج بأخت ابنه أو بنته من النسب، كأن ترضع امرأة طفلاً، فلزوج هذه المرأة أن يتزوج بأخت هذا الطفل، ولأبي هذا الطفل أن يتزوج بنت هذه المرضعة.
وحرمة أخت الابن أو البنت من النسب؛ لأنها إما أن تكون بنته أو بنت زوجته المدخول بها، وكلتاهما يحرم الزواج بها، وهذا لم يوجد في الرضاع.
أخت الأخ وأم الرضيع والمرضعة:
ذكر الحنفية أيضاً أنه يجوز للرجل الزواج بأخت الأخ من الرضاع، وأخت الأخ من النسب، وأم الرضيع من النسب، وبالمرضعة. أما أخت الأخ من الرضاع فكأن يرضع طفل من امرأة، فيجوز لأخي هذا الطفل الذي لم يرضع أن يتزوج بنت هذه المرأة، وهي أخت أخيه من الرضاع، وهذا معنى قول العوام: افلت رضيعاً وخذ أخاه. ومثلها أخت أخته من الرضاع.
__________
(1) البدائع: 4/3-5، اللباب: 33/3.(9/128)
وأما صورة أخت أخيه من النسب: فكأن يوجد أخوان لأب، ولأحدهما أخت من أمه، فيحل لأخيه الآخر أن يتزوج بها، وهي أخت أخيه من النسب، إذ لا صلة بين هذه الأخت وبين الرجل، لا بنسب ولا رضاع، وإنما هي بنت زوجة أبيه. وكذلك لو كان هناك أخوان لأم، ولأحدهما أخت نسبية من الأب، فإنها تحل لأخيه من الأم.
ويجوز لزوج المرضعة أن يتزوج أم الرضيع من النسب؛ لأن الرضيع ابنه، كما يجوز أن يتزوج أم ابنه من النسب.
ولأب الرضيع من النسب أن يتزوج المرضعة؛ لأنها أم ابنه من الرضاع، فهي كأم ابنه من النسب.
موقف القانون من الرضاع:
نصت المادة (1/35) من القانون السوري على أصناف المحرمات بالرضاع وهي: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إلا ما قرر فقهاء الحنفية استثناءه» .
ونصت الفقرة (2) من هذه المادة على شروط الرضاع المحرم: «يشترط في الرضاع للتحريم أن يكون في العامين الأولين، وأن يبلغ خمس رضعات متفرقات، يكتفي الرضيع في كل منها، قل مقدارها أو كثر» .
وهذا يعني أن شروط الرضاع المحرِّم هي ما يأتي:
1 - أن يقع الرضاع خلال العامين الأولين من حياة الرضيع، فلو رضع بعدهما لا تثبت به الحرمة. وهذا رأي الجمهور لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» (1) ، وضم الإمام مالك لمدة العامين مدة أقصاها شهران؛ لأن الطفل قد يحتاج لهذه المدة للتدرج في تحويل غذائه من اللبن إلى الطعام، وذلك إذا لم يفطم عن الرضاع قبل هذه المدة، فإن فطم وأكل الطعام ثم رضع فلا يكون الرضاع محرِّماً.
وقدر الإمام أبو حنيفة مدة الرضاع بسنتين ونصف، ليتدرج الطفل في نصف العام على تحويل غذائه من اللبن إلى غيره.
__________
(1) رواه الدارقطني عن ابن عباس (نيل الأوطار: 315/6) .(9/129)
2 - أن يرضع الطفل خمس رضعات متفرقات بحسب العادة، بحيث يترك الثدي باختياره من غير عارض كتنفس أو استراحة يسيرة أو شيء يلهيه عن الرضاع فجأة ولا يشترط كونها مشبعات. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في الراجح عندهم.
آراء العلماء في رضاع الكبير والصغير:
ورد عن السيدة عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا وقد بلغ ما يبلغ الرجال «فقال: أرضعيه تحرمي عليه» . رواه مسلم (1) .
وفي سنن أبي داود «فأرضعيه خمس رضعات» فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة وهو معارض لذلك.
وهو يدل على أن رضاع الكبير يحرم مع أنه ليس داخلاً تحت الرضاعة من المجاعة، وبيان القصة أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالماً وزوجه، وكان سالم مولى لامرأة من الأنصار فلما أنزل الله {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5/33] الآية. كان من له أب معروف نسب إلى أبيه، ومن لا أب له معروفاً، كان مولى وأخاً في الدين، فعند ذلك جاءت سهلة تذكر ما نصه الحديث.
وقد اختلف السلف في هذا الحكم:
1 - ذهبت السيدة عائشة رضي الله عنها، وروي هذا عن علي وعروة وداود الظاهري: إلى ثبوت حكم التحريم وإن كان الراضع بالغاً عاقلاً بل لقد ورد أن السيدة عائشة كانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ـ رواه مالك.
وأما حجتهم فهي:
أـ حديث سهلة هذا وهو حديث صحيح لا شك فيه.
ب ـ قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء:23/4] فإنه مطلق غير مقيد بوقت.
2 - وقال الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الصغر مع اختلافهم في تحديد الصغر.
__________
(1) رواه مسلم في الرضاع، باب: رضاع البالغ، رقم (1453) .(9/130)
1ً - الجمهور قالوا: مهما كان في الحولين فإن رضاعه يحرم، ولا يحرم ما كان بعدهما، مستدلين بقوله تعالى: {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة:233/2] .
2ً - وحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» ولا يصدق ذلك إلا على من يشبعه اللبن، ويكون غذاءه لا غير، فلا يدخل الكبير لاسيما وقد ورد بصيغة الحصر.
3 - قال جماعة: الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يقدروه بزمان.
4 - وقال الأوزاعي: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين، لم يحرم هذا الرضاع شيئاً وإن تمادى رضاعه ولم يفطم فما يرضع وهو في الحولين حرّم، وما كان بعدهما لا يحرم وإن تمادى إرضاعه.
5 - وهناك أقوال أخرى عارية عن الاستدلال.
وأجاب الجمهور عن حديث سالم بأنه خاص بقصة سهلة كما يدل له قول أم سلمة للسيدة عائشة: «لا نرى هذا إلا خاصاً بسالم» . ولا ندري لعله رخصه لسالم أو أنه منسوخ.
ـ وأجاب القائلون بتحريم رضاع الكبير بأن الآية وحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» واردان لبيان الرضاعة الموجبة لنفقة المرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان كما يرشد إلى ذلك آخر الآية: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] .
وعائشة هي الراوية لحديث «إنما الرضاعة من المجاعة» وهي التي قالت برضاع الكبير وأنه يحرم، فدل على أنها فهمت ما ذكرناه في معنى الآية والحديث. قالوا: ولو كان حديث سالم خاصاً به لذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذعة من المعز.
وأما القول بأنه منسوخ فيدفعه أن قصة سهلة متأخرة عن نزول آية الحولين فإن سهلة قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فإن هذا السؤال منها استنكار لرضاع الكبير دال على أن التحليل بعد اعتقاد التحريم. وقد دفع ابن تيمية التعارض فقال:(9/131)
«إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير الذي أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر» . وهو جمع بين الأحاديث حسن وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها بالاختصاص ولا نسخ ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث (1) .
لبن الفحل: الفحل: الرجل المتزوج بالمرأة المرضعة إذا كان لبنها منه. والحكم المقرر لدى جمهور الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد: أن اللبن للفحل فهو الذي يتعلق به التحريم، أي أنه حق الرجل، وقد حدث بسببه، ولا تنقطع نسبة اللبن عن زوج مات أو طلق، فبه يصبح زوج المرضع أباً للرضيع، وتصبح المرضع به أيضاً أماً للرضيع، ويحرم الطفل على الرجل وأقاربه، كما يحرم ولده من النسب، ويصير أولاد الزوج كلهم إخوة الرضيع، سواء أكانوا من تلك الزوجة المرضع، أم من زوجة أخرى غيرها (2) ، أخرج الأئمة الستة عن عائشة، قالت: «دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس، فاستترت منه، فقال: تستترين مني وأنا عمك؟ قالت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي، قالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل، فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: إنه عمك، فليلج عليك» .
حكمة التحريم بالرضاع:
يحدث التحريم بالرضاع بسبب تكوّن أجزاء البنية الإنسانية من اللبن، فلبن المرأة ينبت لحم الرضيع، وينشز عظمه أي يكبر حجمه، كما جاء في الحديث: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم» (3) فإن إنشاز العظم، وإنبات اللحم، إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن، وبه تصبح المرضع أما ً للرضيع؛ لأنه جزء منها حقيقة.
وسأذكر إن شاء الله في بحث الرضاع شروط الرضاع المحرم عند الفقهاء وطرق إثبات الرضاع.
__________
(1) سبل السلام: 213/3-216.
(2) المغني: 572/6، اللباب: 32/3، القوانين الفقهية: ص 206، مغني المحتاج: 418/3، المقدمات الممهدات لابن رشد: 492/1.
(3) نيل الأوطار: 316/6.(9/132)
النوع الثاني ـ المحرمات المؤقتة:
وهن اللاتي يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة لسبب معين، فإذا زال السبب زالت الحرمة، وتلك خمسة أنواع هي:
المطلقة ثلاثاً، المشغولة بحق زوج آخر بزواج أوعدة، التي لا تدين بدين سماوي، أخت الزوجة ومن في حكمها، الخامسة لمتزوج بأربع.
واقتصر القانون السوري على أربعة أصناف، ولم يذكر المرأة التي لا تدين بدين سماوي، فنص في المواد (36-39) على ذلك:
م (36 - 1) - لا يجوز أن يتزوج رجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر، دخل بها فعلاً.
2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة.
(م 37) - لا يجوز أن يتزوج الرجل خامسة حتى يطلّق إحدى زوجاته الأربع، وتنقضي عدتها.
(م 38) - لا يجوز التزوج بزوجة آخر ولا بمعتدته.
(م 39) - لا يجوز الجمع بين امرأتين، لو فرضت كل منهما ذكراً حرمت عليه الأخرى، فإن ثبت الحل على أحد الفرضين، جاز الجمع بينهما.
وأضاف الحنفية المرأة الملاعنة: وهي التي قذفها زوجها بالفجور، أو نفي نسب ولدها إليه، فترافعا إلى القاضي، وتلاعنا أمامه، ففرق بينهما. فتصبح المرأة حراماً على الرجل، فإن أكذب نفسه وبرأها مما نسبه إليها، جاز زواجه بها عند أبي حنيفة ومحمد. وقال الجمهور: التحريم مؤبد،(9/133)
لما صح في السنة أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً (1) .
وأبيّن هنا تباعاً هذه الأنواع ما عدا الملاعنة فمحل بحثها في اللعان.
1 ً - المطلقة ثلاثاً (المبتوتة أو البائن بينونة كبرى) بالنسبة لمن طلقها: فمن طلق زوجته ثلاث طلقات، فلا يحل له أن يعقد عليها مرة أخرى، إلا إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها، وانقضت عدتها منه، بأن طلقها باختياره أو مات عنها، فتعود إلى الزوج الأول بزوجية جديدة، ويملك عليها ثلاث طلقات جديدة (2) ، بعد أن اختبرت المرأة زوجاً آخر، وقامت بتجربة أخرى، وأحس الزوج بصعوبة الفراق، فيعودان إلى الحياة المشتركة بروح وصفحة جديدة، وتسارع المرأة في إرضاء زوجها، وتجنب أسباب تصدع الزوجية السابقة. قال تعالى مبيناً طريق حل المبتوتة: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] .. إلى أن قال سبحانه: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} [البقرة:230/2] .
والدليل على اشتراط دخول الزوج الثاني بالمرأة المطلقة ثلاثاً: حديث العسيلة، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة القُرَظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: كنت
__________
(1) رواه أبو داود عن سهل بن سعد، وروى الدارقطني ذلك عن سهل بن سعد وابن عباس وعلي وابن مسعود (نيل الأوطار: 271/6) .
(2) المحرر في الفقه الحنبلي لابن تيمية: 85/2، المغني: 261/7 وما بعدها، 274 وما بعدها.(9/134)
عند رفاعة، فطلقني، فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هَدْبة الثوب (1) ، فقال: أتريدين أن ترجعي إلفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك (2) فيه دليل على أن وطء الزوج الثاني لا يكون محللاً ارتجاع الزوج الأول للمرأة، إلا أن كان حال وطئه منتشراً، فلو لم يكن كذلك، أوكان عنيناً أو طفلاً، لم يكف في الأصح من قولي أهل العلم.
شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول:
يشترط لحل المطلقة ثلاثاً للزوج الأول ثلاثة شروط (3) :
أحدها: أن تنكح زوجاً غيره، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] .
الثاني ـ أن يكون النكاح صحيحاً: فإن كان فاسداً لم يحلها الوطء فيه، باتفاق المذاهب الأربعة، لقوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح.
الثالث ـ أن يطأها في الفرج: فلو وطئها دونه أو في الدبر، لم يحلها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علق الحل ـ في الحديث المتقدم ـ على ذوق العسيلة منهما، ولا يحصل ذلك إلا بالوطء في الفرج. وأدناه تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به. ولو أولج الحشفة من غير انتشار، لم تحل له؛ لأن الحكم يتعلق بذوق العسيلة، ولا تحصل من غير انتشار. ويجزئ قدر الحشفة من مقطوع الذكر، وتحل بوطء الخصي؛ لأنه يطأ كالفحل، ولم يفقد إلا الإنزال، وهوغير معتبر في الإحلال. وذكر الحنفية أنها لو تزوجت بمجبوب (مقطوع الذكر كله) فإنها لا تحل حتى تحبل لوجود الدخول حكماً، حتى إنه يثبتُ النسب من الثاني.
واشترط الحنابلة والمالكية شرطاً رابعاً: وهو أن يكون الوطء حلالاً، فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو وأحدهما صائم فرضاً، لم تحل؛ لأنه وطء حرام لحق الله تعالى، لم يحصل به الإحلال، كوطء المرتدة، لا يحلها سواء وطئها في حال ردتهما، أو ردتها.
__________
(1) أي طرف الثوب الذي لم ينسج، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار.
(2) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار: 253/6) وتصغير العسيلة إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل المطلوب، بأن يقع تغييب الحشفة في الفرج.
(3) المغني: 275/7 وما بعدها.(9/135)
ولم يشترط الحنفية والشافعية هذا الشرط، قال ابن قدامة الحنبلي: وهذا أصح إن شاء الله تعالى، لظاهر قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] وهذه قد نكحت زوجاً غيره، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: «حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» وهذا قد وجد، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام، فأحلها كالوطء الحلال، وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة، أو وطئها مريضة يضرها الوطء.
وهل نكاح التحليل المؤقت (1) يحل المطلقة ثلاثاً:
قال الحنفية والشافعية (2) : تحل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول بنكاح التحليل، لكن يكره عند الحنفية تحريماً التزوج الثاني إن كان بشرط التحليل، مثل: تزوجتك
__________
(1) نكاح المحلل ـ كما ذكر الحنابلة ـ هو أن يتزوج الرجل المطلقة ثلاثاً على أنه إذا أحلها طلقها، أو فلا نكاح بينهما، أو ينويه الزوج، أو يتفقا عليه قبله (غاية المنتهى: 40/3) .
(2) الدر المختار: 738/2-749، المهذب: 46/2، تكملة المجموع: 405/15-411.(9/136)
على أن أحلك. لحديث: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له» (1) ، ويصح الزواج، ويبطل الشرط، فلا يجبر الثاني على الطلاق. فإن أضمر الزوج الأول والثاني التحليل، أو كان الثاني مأجوراً لقصد الإصلاح، لا مجرد قضاء الشهوة ونحوها، لا يكره.
وذكر الشافعية أن نكاح المحلل باطل إن نكحها على أنها إذا وطئها فلا نكاح بينهما، أو أن يتزوجها على أن يحلل للزوج الأول، لما روى هزيل عن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة، والواشمة والموشومة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومطعمه» (2) ولأنه نكاح شرط انقطاعه، دون غايته، فأشبه نكاح المتعة. وأما إن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها، فيكره ذلك، لما روى الحاكم والطبراني في الأوسط عن عمر: أنه جاء إليه رجل، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل تحل للأول؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة وروى أبو مرزوق التجيبي مثله عن عثمان، أي إن تزوج على نية التحليل بدون شرط صح النكاح؛ لأن العقد إنما يبطل بما شرط، لا بما قصد.
والخلاصة: إن زواج المحلل بلا شرط، أي بدون شرط صريح في العقد على التطليق، وإنما بالنية والقصد الباطن صحيح مكروه عند الشافعية؛ لأن العقد استوفى أركانه وشروطه في الظاهر، ولا يتأثر العقد بالباعث الداخلي أي أنهم لا يقولون بمبدأ سد الذرائع بالقصد الداخلي.
وقال المالكية والحنابلة (3) : إن نكاح المحلل أونكاح التيس المستعار ولو بلا شرط: وهو الذي يتزوجها ليحلها لزوجها حرام باطل مفسوخ، لا يصح ولا تحل لزوجها الأول، والمعتبر نية المحلل لا نية المرأة، ولا نية المحلل له.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه عن ابن مسعود، ورواه الخمسة إلا النسائي من حديث علي مثله (نيل الأوطار: 138/6) .
(2) أخرجه النسائي والترمذي وصححه.
(3) القوانين الفقهية: ص 209، غاية المنتهى: 40/3.(9/137)
ودليلهم الحديث السابق عن ابن مسعود: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلل له» وحديث عقبة بن عامر: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى، يارسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلل والمحلل له» (1) . فهذا يدل على تحريم التحليل؛ لأن اللعن إنما يكون على ذنب كبير. وهذا يتفق مع مبدئهم بسد الذرائع، وهو الراجح لدي. وخص الفريق الأول التحريم والإبطال بما إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها الثاني بانت منه، أو شرط أنه يطلقها أو نحوذ لك.
2 ً - المشغولة بحق زوج آخر: وهي التي تعلق بها حق الغير بزواج أو عدة، وهذا يشمل ما يأتي:
1 ً) ـ المرأة المتزوجة: فلا يحل لأحد أن يعقد عليها ما دامت متزوجة لتعلق حق الغير بها، سواء أكان الزوج مسلماً أم غير مسلم؛ لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24/4] أي المتزوجات، واستثنى النص المملوكات بملك اليمين: وهن المسبيات في حرب مشروعة، فإذا سبيت المرأة، وقعت الفرقة بينها وبين زوجها بسبب اختلاف الدار، فيحل الزواج بها. وهذا هو مانع الزوجية من أربعة عشر مانعاً عند المالكية سأذكرها.
وحكمة تحريم المتزوجة واضحة وهي منع الاعتداء على حق الغير، وحفظ الأنساب من الاختلاط.
__________
(1) الحديث الأول رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، والثاني رواه ابن ماجه والحاكم وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بالإرسال (نيل الأوطار: 138/6 وما بعدها)(9/138)
2 ً) ـ المرأة المعتدة: وهي التي تكون في أثناء العدة من زواج سابق، سواء عدة طلاق أو وفاة. فلا يحل لأحد غير زوجها الأول التزوج بها حتى تنقضي عدتها، ويشمل ذلك عدة الزواج الفاسد أوبشبهة، لثبوت نسب الولد. لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة:235/2] أي لا تعقدوا الزواج على المعتدة من وفاة حتى تنتهي عدتها. ولقوله سبحانه: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228/2] أي أطهار أو حيضات على رأيين في التفسير والفقه، أي يجب على المرأة المطلقة الانتظار ثلاثة أطهار أو حيضات، فلا يحل الزواج بها، وقال علي وابن عباس وعَبيدة السلماني: «ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر، وألا تنكح امرأة في عدة أختها»
وحكمة تحريم المعتدة بقاء آثار الزواج السابق، ورعاية حقوق الزوج القديم، ومنع اختلاط الأنساب.
وهل يترتب على الدخول بالمعتدة تحريمها على الرجل تحريماً مؤبداً؟
اختلف الفقهاء على رأيين (1) ، فقال الجمهور: إن الدخول بالمعتدة لا يحرمها عليه، بل إذا انقضت عدتها حل له الزواج بها؛ لأن الرجل لو زنى بامرأة لا يحرم عليه الزواج بها بالاتفاق، فكذلك لو دخل بها وهي في العدة أو بعدها، لا يحرم عليه الزواج بها بعد انتهاء العدة، ولأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: يفرق بينهما، ثم يخطبها بعد العدة إن شاء. وروي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال المالكية: الدخول بالمعتدة يحرمها على الرجل تحريماً مؤبداً، فيفرق
__________
(1) بداية المجتهد: 46/2 وما بعدها.(9/139)
بينهما ولاتحل له أبداً، بدليل ما روى مالك عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي لما تزوَّجها في العدة من زوج ثان، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً. قال ابن المسيب: ولها مهرها بما استحل منها. وهذا هو مانع العدة عند المالكية من أربعة عشر مانعاً.
3 ً) - المرأة الحامل من الزنا عند الحنفية، ومانع الزنا عند المالكية (1) :
يحل بالاتفاق للزاني أن يتزوج بالزانية التي زنى بها، فإن جاءت بولد بعد مضي ستة أشهر من وقت العقد عليها، ثبت نسبه منه، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت العقد لا يثبت نسبه منه، إلا إذا قال: إن الولد منه، ولم يصرح بأنه من الزنا. إن هذا الإقرار بالولد يثبت به نسبه منه لاحتمال عقد سابق أو دخول بشبهة، حملاً لحال المسلم على الصلاح وستراً على الأعراض.
أما زواج غير الزاني بالمزني بها، فقال قوم كالحسن البصري: إن الزنا يفسخ النكاح. وقال الجمهور: يجوز الزواج بالمزني بها. ومنشأ الخلاف آية: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرِّم ذلك على المؤمنين} [النور:3/24] الفريق الأول يأخذ بظاهر الآية، والكلام خرج مخرج التحريم. والفريق الثاني (الجمهور) حملوا الآية على الذم، لا على التحريم، لما روى أبوداود والنسائي عن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس ـ
__________
(1) بداية المجتهد: 39/2 وما بعدها، البدائع: 269/2، المهذب: 43/2، المغني: 601/6-604.(9/140)
كناية عن عدم العفة عن الزنا ـ قال: غرِّبها ـ أي أبعدها ـ قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال: فاستمتع بها» (1) ولما أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة: «لا يحرم الحرام الحلال» .
ثم اختلف الجمهور في التفصيل، فقال الحنفية: إذا كانت المزني بها غير حامل، صح العقد عليها من غير الزاني، وكذلك إن كانت حاملاً يجوز الزواج بها عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لا يطؤها، أي لا يدخل بها حتى تضع الحمل، للأدلة الآتية:
أولاً ـ لم تذكر المزني بها في المحرمات، فتكون مباحة، لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/4] .
ثانياً ـ لا حرمة لماء الزنا، بدليل أنه لا يثبت به النسب، للحديث السابق: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» (2) ، وإذا لم يكن للزنا حرمة، فلا يكون مانعاً من جواز النكاح.
وإنما امتنع الدخول بالحامل من الزنا حتى تضع الحمل، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقين ماءه زرع غيره» (3) يعني وطء الحوامل من غيره،
وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز العقد على الحامل من الزنا؛ لأن هذا الحمل يمنع الوطء، فيمنع العقد أيضاً، كما يمنع الحمل الثابت النسب، أي كما لا يصح العقد على الحامل من غير الزنا، لا يصح العقد على الحامل من الزنا.
__________
(1) نيل الأوطار: 145/6، وإسناده صحيح، قال المنذري: ورجال إسناده يحتج بهم في الصحيحين.
(2) رواه الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 279/6) .
(3) رواه الترمذي عن رويفع، وهو حسن، ولكن بلفظ: «ولد غيره» بدل: «زرع غيره» ورواه أبو داود أيضاً بلفظ: «زرع غيره» .(9/141)
وقال المالكية: لا يجوز العقد على الزانية قبل استبرائها من الزنا بحيضات ثلاث أو بمضي ثلاثة أشهر، فإن عقد عليها قبل الاستبراء، كان العقد فاسداً، ووجب فسخه، سواء ظهر بها حمل أم لا، أما الأول (ظهور الحمل) فللحديث السابق: «فلا يسقين ماءه زرع غيره» وأما الثاني فللخوف من اختلاط الأنساب.
وقال الشافعية: إن زنى بامرأة، لم يحرم عليه نكاحها، لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء:24/4] ولحديث عائشة السابق: «لا يحرم الحرام الحلال» .
وقال الحنابلة: إذا زنت المرأة، لم يحل لمن يعلم ذلك نكاحها إلا بشرطين:
أحدهما ـ انقضاء عدتها، فإن حملت من الزنا، فقضاء عدتها بوضعه، ولا يحل نكاحها قبل وضعه، للحديث السابق: «فلا يسقي ماءه زرع غيره» والحديث الصحيح: «لا توطأ حامل حتى تضع» وهذا رأي مالك.
والثاني ـ أن تتوب من الزنا، للآية السابقة: {وحرِّم ذلك على المؤمنين} [النور:3/24] وهي قبل التوبة في حكم الزنا، فإذا تابت زال التحريم لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) . ولم يشترط باقي الأئمة هذا الشرط.
__________
(1) المغني: 603/6 وما بعدها.(9/142)
زنا أحد الزوجين: اتفق عامة أهل العلم على أنه إن زنت امرأة رجل، أوزنى زوجها، لم ينفسخ النكاح، سواء أكان قبل الدخول أم بعده؛ لأن دعواه الزنا عليها لا يُبينها، ولو كان الزواج ينفسخ به، لانفسخ بمجرد دعواه كالرضا، ولأنها معصية لا تخرج عن الإسلام فأشبهت السرقة. أما اللعان فإنه يقتضي الفسخ بدون الزنا بدليل أنها إذا لاعنته فقد قابلته، فلم يثبت زناها، وقد أوجب النبي صلّى الله عليه وسلم الحد على من قذفها، والفسخ واقع باللعان.
ولكن استحب الإمام أحمد للرجل مفارقة امرأته إذا زنت، وقال: «لا أرى أن يمسك مثل هذه، وذلك أنه لا يؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولداً ليس منه» وقال أحمد أيضاً: ولا يطؤها الزوج حتى يستبرئها بثلاث حيضات، للحديث السابق: «فلا يسقى ماءه زرع غيره» يعني إتيان الحبالى، ولأنها ربما تأتي بولد من الزنا، فينسب إليه. قال ابن قدامة: والأولى أنه يكفي استبراؤها بالحيضة الواحدة؛ لأنها تكفي في استبراء الإماء (1) .
3 ً - المرأة التي لا تدين بدين سماوي (2) :
لا يحل للمسلم الزواج بالمرأة المشركة أو الوثنية: وهي التي تعبد مع الله إلهاً غيره، كالأصنام أو الكواكب أو النار أوا لحيوان، ومثلها المرأة الملحدة أو المادية: وهي التي تؤمن بالمادة إلهاً، وتنكر وجود الله، ولا تعترف بالأديان السماوية، مثل الشيوعية والوجودية، والبهائية والقاديانية والبوذية.
وذلك لقوله تعالى: {ولا تَنْكحوا المشركات، حتى يؤمنَّ، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} [البقرة:221/2] .
وألحق الحنفية والشافعية وغيرهم المرأة المرتدة بالمشركة، فلا يجوز لأحد أصلاً مسلم أو كافر أن يتزوجها؛ لأنها تركت ملة الإسلام، ولا تقر على الردة، فإما أن تموت أوتسلم، فكانت الردة في معنى الموت، لكونها سبباً مفضياً إليه، والميت لا يكون محلاً للزواج.
والخلاصة: لا يحل بالاتفاق نكاح من لا كتاب لها كوثنية (وهي عابدة الوثن أو الصنم) ومجوسية (وهي عابدة النار) إذ لا كتاب بأيدي أهلها الآن، ولم نتيقنه من قبل فنحتاط.
__________
(1) المغني: 603/6 وما بعدها.
(2) الدين السماوي: الدين الذي له كتاب منزل ونبي مرسل.(9/143)
والسبب في تحريم الزواج بالمشركة ونحوها: عدم تحقق الانسجام والاطمئنان والتعاون بين الزوجين؛ لأن تباين العقيدة يسبِّب القلق والاضطراب والتنافر بين الزوجين، فلا تستقيم الحياة الزوجية القائمة على دعائم المودة والرحمة والمحبة، وغايتها الهدوء والاستقرار. ثم إن عدم الإيمان بدين يسهل على المرأة الخيانة الزوجية والفساد والشر، ويرفع عنها الأمانة والاستقامة والخير؛ لأنها تؤمن بالخرافات والأوهام، وتتأثر بالأهواء والطبائع الذاتية غير المهذبة، فلا دين يردعها، ولا رادع لها من إيمان بالله وباليوم الآخر وبالحساب والبعث.
زواج المسلمة بالكافر: يحرم بالإجماع زواج المسلمة بالكافر، لقوله تعالى: {ولا تُنْكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة:221/2] وقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات، فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن} [الممتحنة:10/60] ولأن في هذا الزواج خوف وقوع المؤمنة في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها عادة إلى دينه، والنساء في العادة يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال، ويقلدونهم في الدين، بدليل الإشارة إليه في آخر الآية: {أولئك يَدْعون إلى النار} [البقرة:221/2] أي يدعون المؤمنات إلى الكفر، والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار؛ لأن الكفر يوجب النار، فكان زواج الكافر المسلمة سبباً داعياً إلى الحرام، فكان حراماً باطلاً. والنص وإن ورد في المشركين، لكن العلة وهي الدعاء إلى النار يعم الكفرة أجمع، فيتعمم الحكم بعموم العلة.
وعليه لا يجوز زواج الكتابي بالمسلمة، كما لا يجوز زواج الوثني والمجوسي بالمسلمة أيضاً؛ لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] فلو جاز تزويج الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل، وهذا لا يجوز.(9/144)
الزواج بالكتابيات: الكتابية: هي التي تؤمن بدين سماوي، كاليهودية والنصرانية. وأهل الكتاب: هم أهل التوراة والإنجيل، لقوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام:156/6] .
وقد أجمع العلماء على إباحة الزواج بالكتابيات، لقوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [المائدة:5/5] والمراد بالمحصنات في الآية: العفائف، ويقصد بها حمل الناس على التزوج بالعفائف، لما فيه من تحقيق الود والألفة بين الزوجين، وإشاعة السكون والاطمئنان.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم تزوجوا من أهل الذمة، فتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية، وأسلمت عنده، وتزوج حذيفة رضي الله عنه بيهودية من أهل المدائن. وسئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص.
والسبب في إباحة الزواج بالكتابية بعكس المشركة: هو أنها تلتقي مع المسلم في الإيمان ببعض المبادئ الأساسية، من الاعتراف بإله، والإيمان بالرسل وباليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب. فوجود نواحي الالتقاء وجسور الاتصال على هذه الأسس يضمن توفير حياة زوجية مستقيمة غالباً، ويرجى إسلامها؛ لأنها تؤمن بكتب الأنبياء والرسل في الجملة. والحكمة في أن المسلم يتزوج باليهودية والنصرانية، دون العكس: هي أن المسلم يؤمن بكل الرسل، وبالأديان في أصولها الصحيحة الأولى، فلا خطر منه على الزوجة في عقيدتها أو مشاعرها، أما غير المسلم فلا يؤمن بالإسلام فيكون هناك خطر محقق بحمل زوجته على التأثر بدينه، والمرأة عادة سريعة التأثر والانقياد، وفي زواجها إيذاء لشعورها وعقيدتها.(9/145)
كراهة الزواج بالكتابيات: يكره ـ عند الحنفية والشافعية، وعند المالكية في رأي ـ للمسلم الزواج بالكتابية الذمية، وقال الحنابلة: زواجه بها خلاف الأولى؛ لأن عمر قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: «طِّلقوهن» فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: «طلقها» قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة، طلقها، قال: تشهد أنها حرام؟ قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة، ولكنها لي حلال. فلما كان بعد، طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي. ولأنه ربما مال إليها قلبه ففتنته، وربما كان بينهما ولد، فيميل إليها.
أما الحربية: فيحرم تزوجها عند الحنفية إذا كانت في دار الحرب؛ لأن تزوجها فتح لباب الفتنة، وتكره عند الشافعية، وعند المالكية، والزواج بها خلاف الأولى عند الحنابلة.
والواقع، في الزواج بالكتابيات وبالأولى الحربيات: مضار اجتماعية ووطنية ودينية، فقد ينقلن لبلادهن أخبار المسلمين، وقد يرغبن الأولاد في عقائد وعادات غير المسلمين، وقد يؤدي الزواج بهن إلى إلحاق ضرر بالمسلمات بالإعراض عنهن، وقد تكون الكتابية منحرفة السلوك، بدليل ما يأتي:
روى الجصاص في تفسيره: أن حذيفة بن اليمان تزوج بيهودية، فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا، ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن، يعني العواهر. وروى الإمام محمد هذا الأثر في كتابه «الآثار» على النحو الآتي:
إن حذيفة تزوج بيهودية بالمدائن، فكتب إليه عمر: أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: أحرام يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا، حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختارون نساء أهل الذمة لجمالهن، وكنَّ بذلك فتنة لنساء المسلمين.(9/146)
يتبين من ذلك أن عمر رضي الله عنه منع حذيفة من الزواج بالكتابية، لما فيه من الضرر، وهو إما الوقوع في زواج المومسات منهن، أو تتابع المسلمين في زواج الكتابيات، وترك المسلمات بلا زواج.
رأي الشافعية في زواج الكتابية: هذا هو حكم الزواج بالكتابيات، يجوز عند الجمهور بلا شرط، لكن قيد الشافعية الزواج بالكتابية بقيد، فقالوا (1) :
تحل كتابية، لكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح، لما في الميل إليها من خوف الفتنة، والكتابية: يهودية أو نصرانية، لا متمسكة بالزبور وغيره كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليه السلام.
فإن كانت الكتابية إسرائيلية: فيحل الزواج بها إذا لم يعلم دخول أول من تدين من آبائها في دين اليهودية بعد نسخه وتحريفه، أو شك فيها، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً، وإلا فلا تحل لسقوط فضيلة ذلك الدين.
وإن كانت النصرانية: فالأظهر حلها للمسلم إن علم دخول قومها، أي آبائها أي أول من تدين منهم في ذلك الدين ـ أي دين عيسى عليه السلام، قبل نسخه وتحريفه، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً. فإن دخلوافيه بعد التحريف فالأصح المنع، وإن تمسكوا بغير المحرف فتحل في الأظهر.
والراجح لدي هو قول الجمهور، لإطلاق الأدلة القاضية بجواز الزواج بالكتابيات، دون تقييد بشيء.
__________
(1) مغني المحتاج: 187/3 وما بعدها، المهذب: 44/2.(9/147)
الزواج بالمجوسيات: قال أكثر الفقهاء (1) : ليس المجوس أهل كتاب، للآية المتقدمة {أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} [الأنعام:156/6] فأخبر تعالى: أن أهل الكتاب طائفتان، فلو كان المجوس أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف.
وأيضاً إن المجوس لا ينتحلون شيئاً في كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤون كتاب زرادشت، وكان متنبياً كذاباً، فليسوا إذن أهل كتاب.
ويدل له: أن عمر ذكر المجوس بالنسبة لأخذ الجزية منهم، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» رواه الشافعي، وهو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب (2) .
السامرة والصابئة: السامرة: طائفة من اليهود، والصابئة: طائفة من النصارى.
قال أبو حنيفة والحنابلة: إنهم أهل كتاب، فيجوز للمسلم الزواج بالصابئات؛ لأن الصابئة قوم يؤمنون بكتاب، فإنهم يقرؤون الزبور، ولا يعبدون الكواكب، ولكن يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في الاستقبال إليها، ولكنهم يخالفون غيرهم من أهل الكتاب في بعض دياناتهم، وهذا لا يمنع الزواج كاليهود مع النصارى.
وقال الصاحبان: لا يجوز الزواج بهن؛ لأن الصابئة قوم يعبدون الكواكب، وعابد الكواكب كعابد الوثن، فلا يجوز للمسلمين مناكحتهم.
وقيل: ليس هذا باختلاف في الحقيقة، وإنما الاختلاف لاشتباه مذهبهم. لذا من اعتبر الصابئة من عبدة الأوثان: وهم الذين يعبدون الكواكب، حرم مناكحتهم. ومن فهم أن منا كحتهم حلال، فهم أن لهم كتاباً يؤمنون به.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 327/2، المغني: 591/6، البدائع: 271/2.
(2) نيل الأوطار: 56/8، وروى سفيان عن الحسن بن محمد، قال: كتب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مجوس هَجَر يدعوهم إلى الإسلام، قال: فإن أسلمتم فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم.(9/148)
وهذا هو الحق ويتفق مع رأي الشافعية القائلين: إن خالفت السامرة اليهود، والصابئون النصارى في أصل دينهم، حَرُمن، وإلا فلا، أي إن وافقت السامرة اليهود، والصابئة النصارى في أصل دينهم حلت. وهذا هو ما قرره القدوري في الكتاب، وهو حجة لدى الحنفية، فقال: يجوز تزوج الصابئيات إذا كانوا يؤمنون بنبي ويقرون بكتاب، وإن كانوا يعبدون الكواكب، ولا كتاب لهم، لم تجز مناكحتهم (1) .
المتولد من وثني وكتابية: إذا كان أحد أبوي الكافرة كتابياً والآخر وثنياً، لم يحل نكاحها؛ لأنها ليست كتابية خالصة، ولأنها مولودة بين من يحل وبين من لا يحل، فلم تحل، تغليباً للتحريم؛ لأنه إذا اجتمع الحلال والحرام، غلب الحرام الحلال (2) .
__________
(1) اللباب: 7/3.
(2) مغني المحتاج: 189/3، المغني: 592/6، المهذب: 44/2.(9/149)
تغيير الكتابي دينه إلى دين آخر: إذا انتقل الكتابي أو المجوسي إلى دين آخر غير دين أهل الكتاب كالوثنية، أي توثن، لم يقر عليه، ويقتل في أحد الرأيين إن لم يرجع، لعموم الحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (1) وفي رأي آخر: لا يقتل، بل يكره على العودة إلى دينه السابق بالضرب والحبس.
وإذا انتقلت امرأة المسلم الذمية إلى دين غير دين أهل الكتاب، فهي كالمرتدة، ينفسخ نكاحها مع المسلم إن لم تعد إلى دينها في أثناء العدة عند الشافعية والحنابلة.
وأما إذا انتقل الكتابي إلى دين كتابي آخر، كأن تهود النصراني أو تنصر اليهودي، لم يقر بالجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام في الأظهر عند الشافعية، وفي رواية عن أحمد، لقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه} [آل عمران:85/3] وقد أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه، فلا يقر عليه، كما لو ارتد المسلم.
ويقر عليه في قول أبي حنيفة ومالك، وفي الراجح من الروايتين عند الحنابلة؛ لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فلا نتعرض له. وأما حديث «من بدل دينه فاقتلوه» فهو محمول على دين الإسلام، إذ هو الدين المعتبر شرعاً.
ولو تهود وثني أو تنصر، لم يقر عند الشافعية، ويتعين الإسلام في حقه، كمسلم ارتد، فإنه يتعين في حقه الإسلام. ويقر عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة في الراجح (2) ، لأن الكفر كله ملة واحدة. إذ هو تكذيب الرب تعالى فيما أنزل على رسله عليهم السلام.
ارتداد الزوجين أوأحدهما: قال الشافعية، والحنابلة والمالكية: لو ارتد الزوجان أو أحدهما قبل الدخول تنجزت الفُرْقة، أي انفسخ النكاح في الحال. وإن كانت الردة بعد الدخول، توقفت الفرقة أو الفسخ على انقضاء العدة، فإن جمعهما الإسلام في العدة، دام النكاح، وإن لم يجمعهما في العدة انفسخ النكاح من وقت الردة، لكن لو وطئ الزوج لا حد عليه للشبهة، وهي بقاء أحكام النكاح، وتجب العدة منه. وإذا أسلمت المرأة قبل الرجل فأسلم في عدتها، أو أسلما معاً، فتتقرر الزوجية بينهما، وإن أسلم أحدهما ولم يتبعه الآخر في العدة، انفسخ زواجهما. وكذلك
__________
(1) رواه الجماعة إلا مسلماً عن ابن عباس (نيل الأوطار: 190/7) .
(2) البدائع: 271/2-272، اللباب: 26/3-28، العناية على فتح القدير: 396/4، الشرح الصغير: 422/2، الشرح الكبير: 301/4، مغني المحتاج: 189/3-191، المغني: 189/3-191، المغني: 593/6 وما بعدها، 130/8، المهذب: 52/2.(9/150)
قال الحنفية: تقع الفرقة بين الزوجين إذا حكم بصحة الارتداد (1) ، وقد صح أن رجلاً من بني تغلب وكانوا من النصارى، أسلمت زوجته، وأبى هو، ففرق عمر بينهما، وقال ابن عباس: «إذا أسلمت النصرانية قبل زوجها، فهي أملك لنفسها» .
أنكحة الكفار غير المرتدين: هل عقود زواج غير المسلمين بعضهم مع بعض صحيحة أو فاسدة؟
للفقهاء رأيان: فقال المالكية (2) : أنكحة غير المسلمين فاسدة؛ لأن للزواج في الإسلام شرائط لا يراعونها، فلا يحكم بصحة أنكحتهم.
وقال الجمهور (3) : أنكحة الكفار غير المرتدين صحيحة يقرون عليها، إذا أسلموا، أو تحاكموا إلينا إذا كانت المرأة عند الشافعية والحنابلة ممن يجوز ابتداء الزواج بها، بأن لم تكن من المحارم، فنقرهم على ما نقرهم عليه لو أسلموا، ونبطل ما لا نقر، والأصح عند الحنفية أن كل نكاح حرم لحرمة المحل كمحارم، يقع جائزاً. واتفق هؤلاء الجمهور على أنه لا يعتبر فيه صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، وأشباه ذلك، فيجوز في حقهم ما اعتقدوه، ويقرون عليه بعد الإسلام.
وينبني على رأي الجمهور أن تثبت أحكام الزواج المقررة كالمسلمين من وجوب النفقة ووقوع الطلاق ونحوهما من عدة ونسب وتوارث بزواج صحيح، وحرمة مطلقة ثلاثاً. ويجوز نكاح أهل الذمة بعضهم لبعض وإن اختلفت شرائعهم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة.
ودليلهم قوله عز وجل: {وقالت امرأة فرعون} [القصص:9/28] وقوله سبحانه: {وامرأته حمَّالة الحطب} [المسد:4/111] ولو كانت أنكحتهم فاسدة، لم تكن امرأته حقيقة، ولأن النكاح سنة آدم عليه السلام، فهم على شريعته، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «ولدت من
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الصغير: 422/2.
(3) البدائع: 272/2، الدر المختار: 506/2، 530 وما بعدها، مغني المحتاج: 193/3-195، المغني: 613/6.(9/151)
نكاح، لا من سفاح» (1) أي لا من زنا، والمراد به نفي ما كانت عليه الجاهلية من أن المرأة تسافح رجلاً مدة ثم يتزوجها، فإنه صلّى الله عليه وسلم سمى ما وجد قبل الإسلام من أنكحة الجاهلية نكاحاً، ولو قلنا بفساد أنكحتهم لأدى إلى أمر قبيح هو الطعن في نسب كثر من الأنبياء.
ولحديث غيلان الثقفي وغيره ممن أسلم وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره صلّى الله عليه وسلم باختيار أربع منهن، ومفارقة الباقي (2) ، ولم يسأل عن شرائط النكاح، فلا يجب البحث عن شرائط أنكحتهم، فإنه صلّى الله عليه وسلم أقرهم عليها، وهو لا يقر أحداً على باطل.
4 ً - أخت الزوجة ومحارمها (الجمع بين الأخت وعمتها أو خالتها أوغيرها من المحارم) (3) : يحرم على الرجل أن يجمع بين الأختين، أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو كل من كان مَحْرماً لها: وهي كل امرأة لو فرضت ذكراً حرمت عليها الأخرى. وذلك سواء أكانت المحرم شقيقة، أم لأب، أم لأم.
لقوله تعالى في بيان محرَّمات النساء: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} [النساء:23/4] ولأن الجمع بين ذوات الأرحام يفضي إلى قطيعة الرحم، بسبب ما يكون عادة بين الضرتين من غَيْرة موجبة للتحاسد والتباغض والعداوة، وقطيعة الرحم حرام، فما أدى إليه فهو حرام.
والجمع بين المرأة وابنتها حرام أيضاً، كالجمع بين الأختين، بل هوأولى؛ لأن قرابة الولادة أقوى من قرابة الأخوة، فالنص الوارد في الجمع بين الأختين وارد هنا من طريق أولى.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم وابن عساكر عن علي بلفظ «خرجت من النكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي» تكلم في راو من رواته وبقية رجاله ثقات (مجمع الزوائد: 214/8) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي عن ابن عمر (نيل الأوطار: 159/6 وما بعدها) .
(3) الجمع بين الزوجات نوعان: جمع بين ذوات الأرحام، وجمع بين الأجنبيات بأكثر من أربع.(9/152)
وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها أوخالتها حرام أيضاً كالجمع بين الأختين؛ لأن العمة بمنزلة الأم لبنت أخيها، والخالة بمنزلة الأم لبنت أختها. وصرحت السنة بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، عن أبي هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» (1) وفي رواية الترمذي وغيره: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» ولا يخفى أن هذا الحديث خصص عموم قوله تعالى:
__________
(1) رواه الجماعة (سبل السلام: 124/3، نيل الأوطار: 146/6) ..(9/153)
{وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24/4] (1) ، ولأن الجمع بين ذواتي محرم في النكاح سبب لقطيعة الرحم؛ لأن الضرتين يتنازعان ولا يختلفان ولا يأتلفان عرفاً وعادة، وهو يفضي إلى قطع الرحم، وإنه حرام، والنكاح سبب لذاك فيحرم، حتى لا يؤدي إليه. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلم إلى علة النهي في رواية ابن حبان وغيره: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» .
قاعدة الجمع بين المحارم: استنبط الفقهاء من النصين: القرآني والنبوي قاعدة لتحريم الجمع بين المحارم هي: «يحرم الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً، لا يجوز له نكاح الأخرى من الجانبين جميعاً» أو «يحرم الجمع بين كل امرأتين أيتهما قدِّرت ذكراً، حرمت عليه الأخرى» (2)
لا يحل الجمع بين الأختين؛ لأننا لو فرضنا كل واحدة منهما رجلاً، لم يجز له التزوج بالأخرى؛ لأنها أخته. ولا يحل الجمع بين المرأة وعمتها؛ لأن كل واحدة لو فرضت رجلاً، كان عماً للأخرى، ولا يجوز للرجل أن يتزوج بعمته. وكذلك يحرم الجمع بين المرأة وخالتها، إذ لو فرضنا كل واحدة منهما رجلاً كان خالاً للأخرى، ولا يصح للرجل أن يتزوج بنت أخته.
فإن فرض كون كل منهما رجلاً، وجاز له أن يتزوج بالأخرى كالمرأة وابنة عمها، جاز الجمع بينهما، لأنها تكون ابنة عمه، وللرجل أن يتزوج بابنة عمه.
وإن كان تحريم الزوج على فرض واحد من أحد الجانبين دون الآخر، فلا يحرم الجمع بينهما، كالمرأة وابنة زوج كان لها من قبل من غيرها، وكالمرأة وزوجة كانت لأبيها؛ لأنه لا رحم بينهما، فلم يوجد الجمع بين ذواتي رحم، إذ لو فرضنا في المثال الأول البنت رجلاً، لم يجز له أن يتزوج بهذه المرأة؛ لأنها زوجة أبيه، أما عند فرض المرأة: زوجة الأب رجلاً، فتزول عنه صفة زوجة الأب، فيجوز له الزواج بالبنت، إذ هي أجنبية عنه. وقد جمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بين زوجة عمه علي، وهي ليلى بنت مسعود النهشلية، وبين ابنته من غيرها وهي أم كلثوم بنت السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
__________
(1) قيل: ويلزم الحنفية أن يجوزوا الجمع بين من ذكر؛ لأن أصولهم تقديم عموم الكتاب على أخبار الآحاد، إلا أنه أجاب صاحب الهداية بأنه حديث مشهور، والمشهور له حكم القطعي سيما مع الإجماع من الأمة، وعدم الاعتداد بالمخالف. ووصفه صاحب البدائع بأنه حديث مشهور.
(2) البدائع: 262/2، الدر المختار: 391/2، مغني المحتاج: 180/3، اللباب: 6/3، المهذب: 43/2، بداية المجتهد: 40/2-42، المغني: 574/6، كشاف القناع: 80/5.(9/154)
ويجوز الجمع بين ابنتي العم وابنتي الخال أو الخالة من عمين أو خالين أو خالتين بالاتفاق، لعدم النص فيهما بالتحريم، ودخولهما في عموم قوله تعالى: {وأحل لكم ماوراء ذلكم} [النساء:24/4] ولأن إحداهما تحل لها الأخرى لو كانت ذكراً. وفي كراهة زواجهما رأيان: رأي بالكراهة خوف قطيعة الرحم، وهو مروي عن ابن مسعود والحسن البصري، وأحمد في رواية عنه، ورأي بعدم الكراهة؛ إذ ليست بينهما قرابة تحرم الجمع، وهو منقول عن الشافعي والأوزاعي.
حكم العقد الواحد أو العقدين على الأختين ونحوهما:
إذا تزوج رجل امرأتين بينهما محرمية كالأختين وكالبنت وخالتها، والبنت وعمتها، ففي حكم الزواج تفصيل (1) :
أـ إن تزوجهما معاً في عقد واحد، فسد زواجهما معاً ولم يبطل؛ لأن إحداهما ليست أولى بفساد الزواج من الأخرى، فيفرق بينه وبينهما، ثم إنه إن كان التفريق قبل الدخول فلا شيء لهما، أي لا مهر لهما، لا عدة فيهما؛ لأن الزواج الفاسد لا حكم له قبل الدخول، وكذلك بعد الخلوة.
وإن كان قد دخل بهما، فلكل واحدة منهما عند الحنفية مهر المثل على ألا يزيد عن المسمى، لرضاها به، كما هو حكم الزواج الفاسد، وعليهما العدة؛ لأن هذا هو حكم الدخول في الزواج الفاسد.
ب ـ وإن تزوج كلاً منهما بعقد مستقل، الواحدة بعد الأخرى، صح زواج الأولى وفسد زواج الثانية؛ لأن الجمع حصل بزواج الثانية، فاقتصر الفساد عليه، ويفرق بينه وبين الثانية. فإن تم التفريق قبل الدخول فلا شيء لها ولا عدة عليها، وإن تم التفرق بعد الدخول، وجب لها مهر المثل على ألا يزيد عن المسمى لرضاها به؛ لأن «الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر ـ أي حد زاجر ـ أو عُقْر ـ أي مهر جابر» وقد سقط الحد بشبهة العقد، فيجب مهر المثل دون زيادة على المسمى. وعليها العدة.
__________
(1) البدائع: 263/2، اللباب مع الكتاب: 22/3.(9/155)
ويحرم على الزوج أن يطأ الأولى، أي قربان زوجته الأولى حتى تنقضي عدة الثانية، لئلا يكون جامعاً بينهما، والجمع بين المحارم حرام.
جـ ـ وإن تزوج كلاً منهما بعقدين لا يدري أيهما الأول، يفرق بينه وبينهما؛ لأن زواج إحداهما فاسد بيقين، وهي مجهولة، ولا يتصور حصول مقاصد الزواج من المجهولة، فلا بد من التفريق. فإن ادعت كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها، يقضى لها بنصف المهر؛ لأن الزواج الصحيح أحدهما، وقد حصلت الفرقة قبل الدخول، لا بسبب المرأة، فكان الواجب نصف المهر، ويكون بينهما لعدم الترجيح، إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى. وقال الجمهور: إن جمع بين الأختين ونحوهما من رضاع أو نسب بعقد واحد بطل نكاحهما، وإن كان مرتباً بطل الثاني، ولمن دخل بها مهر المثل عند الشافعية والحنابلة. وصداقها المسمى عند المالكية (1) .
الجمع بين الأختين ونحوهما في العدة (2) :
اتفق الفقهاء على أنه يجوز الجمع بين المرأة ومحارمها بعد الفرقة بسب وفاة إحداهما، فلو ماتت زوجة رجل، جاز له أن يتزوج بأختها أو عمتها مثلاً من غير انتظار مدة بعد الوفاة.
واتفقوا أيضاً على عدم جواز الجمع بين المرأة ومحارمها في أثناء العدة من طلاق رجعي، فلو طلق زوجته طلاقاً رجعياً، لم يجز له الزواج بواحدة من قريباتها المحارم إلا بعد انقضاء العدة؛ لأنها باقية في حكم الزواج السابق.
__________
(1) مغني المحتاج: 180/3، القوانين الفقهية: ص 209، كشاف القناع: 81/5، المقدمات الممهدات: 458/1.
(2) الدر المختار: 390/2، اللباب: 6/3، القوانين الفقهية: ص 209، المهذب: 43/2، كشاف القناع: 81/5-82.(9/156)
واختلفوا في الجمع بين المحارم إذا كانت إحداهن معتدة من طلاق بائن. فقال الحنفية والحنابلة: يحرم الجمع بين الأختين ومن في حكمهما إذا كانت واحدة منهما في أثناء العدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجمع ماءه في رحم أختين» (1) ، ولأن البائن ممنوعة من الزواج في العدة لحق الزوج، فأشبهت الرجعية، ولأن الزواج بالأخت ونحوها من المحارم في العدة يؤدي إلى قطيعة الرحم، التي أمر الله بوصلها. وهذا الرأي هو الراجح.
وقال المالكية والشافعية: يصح الزواج بأخت المطلقة ومن في حكمها من المحارم في أثناء العدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى، لانقطاع أثر الزواج السابق، فلا تحل لمن طلقها إلا بعقد جديد، وحينئذ لا تجتمع المرأتان في حكم فراش واحد.
وذكر الحنابلة (2) : أنه لو أسلم زوج المجوسية أو الوثنية، أو انفسخ النكاح بين الزوجين بخلع أو رضاع، أو فسخ بعيب أو إعسار أو غيره، لم يكن له أن يتزوج أحداً ممن يحرم الجمع بينه وبين زوجته، حتى تنقضي عدتها.
وإن أسلمت زوجته، فتزوج أختها في عدتها، ثم أسلما في عدة الأولى، اختار منهما واحدة، كما لو تزوجهما معاً. وإن أسلم الرجل بعد انقضاء عدة الأولى، بانت منه، وثبت نكاح الثانية.
وإن زنى الرجل بامرأة، فليس له أن يتزوج بأختها، حتى تنقضي عدتها. وحكم العدة من الزنا، والعدة من وطء الشبهة، كحكم العدة من النكاح.
فإن زنى بأخت امرأته، فقال أحمد: يمسك عن وطء امرأته حتى تحيض المزني بها ثلاث حيضات. وقد ذكر عن أحمد في المزني بها: أنها تستبرأ بحيضة واحدة؛ لأنه وطء من غير نكاح، ولا أحكامه أحكام النكاح.
وإذا ادعى الزوج أن امرأته أخبرته بانقضاء عدتها في مدة يجوز انقضاؤها فيها، وكذبته، أبيح له نكاح أختها، وأربع سواها في الظاهر. أما في الباطن فيبني على صدقه في ذلك؛ لأنه حق فيما بينه وبين الله تعالى، فيقبل قوله فيه.
__________
(1) كشاف القناع: 81/5.
(2) المغني: 544/6 وما بعدها.(9/157)
5ً - المرأة الخامسة لمتزوج بأربع سواها (الجمع بين الأجنبيات) :
لا يجوز للرجل في مذهب أهل السنة أن يتزوج أكثر من أربع زوجات في عصمته في وقت واحد ولو في عدة مطلقة، فإن أراد أن يتزوج بخامسة، فعليه أن يطلق إحدى زوجاته الأربع، وينتظر حتى تنقضي عدتها، ثم يتزوج بمن أراد؛ لأن النص القرآني لا يبيح للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع في وقت واحد، وهو قوله تعالى:
{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا} [لنساء:3/4] والمعنى: إن علمتم الوقوع في ظلم اليتامى، فلم تعدلوا في مهورهن أو في نكاحهن، أو تحرجتم من الولاية عليهم، فخافوا أيضاً من ظلم النساء عامة، وقللوا عدد الزوجات، واقتصروا على أربع منهن، وإن خفتم الجور في الزيادة على الواحدة، فاقتصروا على زوجة واح، ويلاحظ أن لفظ «مثنى» معدول به عن اثنين اثنين، تقول: جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين. وهكذا ثلاث ورباع، بياناً لأنواع الزيجات وفئات الناس وما يباح لهم أثناء تعدد الزوجات، فالعطف بالواو للتخيير لا للجمع.
ويوضح مدلول الآية حديث ابن عمر، قال: «أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً» (1) .
وروى أبو داود وابن ماجه عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمانُ نسوة، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: اختر منهن أربعاً.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي عن ابن عمر (نيل الأوطار: 159/6 ومابعدها) .(9/158)
وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أمسك أربعاً، وفارق الأخرى (1) .
ولم ينقل عن أحد من السلف في عهد الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، فدل العمل على وفق السنة على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع نسوة، ولأحاديث في مجموعها لا تقتصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال، كما ذكر الشوكاني.
وذهب بعض المتأولين الشذاذ إلى أنه يجوز للرجل أن يتزوج تسعاً، أخذاً بظاهر الآية: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] لأن الواو للجمع لا للتخيير، أي يكون المجموع تسعاً. وأجيب عن ذلك بأن الآية محمولة على عادة العرب في خطاب الناس على طريق المجموعات، وأريد بها التخيير بين الزواج باثنتين وثلاث وأربع، كما في قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} [فاطر:1/35] أي أنهم فئات، فمنهم ذو الجناحين، ومنهم ذو الثلاثة أجنحة، ومنه ذو الأربعة أجنحة؛ لأن المثنى ليس عبارة عن الاثنين، بل أدنى ما يراد بالمثنى مرتان من هذا العدد، وأدنى ما يراد بالثلاث ثلاث مرات من العدد، وكذا الرباع.
السبب في الاقتصار على أربع: إن إباحة الزواج بأربع فقط قد يتفق في رأينا مع مبدأ تحقيق أقصى قدرات وغايات بعض الرجال، وتلبية رغباتهم وتطلعاتهم مع مرور كل شهر، بسبب طروء دورة العادة الشهرية بمقدار أسبوع لكل واحدة
__________
(1) راجع الحديثين في نيل الأوطار: 149/6، لكن في حديث قيس ضعيف. وفي إسناد حديث نوفل رجل مجهول.(9/159)
منهن، ففي المشروع غنى وكفاية، وسد للباب أمام الانحرافات، أوما قد يتخذه بعض الرجال من عشيقات أو خدينات أو وصيفات، ثم إن في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن القيام بحقوقهن؛ لأن الظاهر أن الرجل لايقدر على الوفاء بحقوقهن، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله عز وجل: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء:3/4] أي لا تعدلوا في القَسْم والجماع والنفقة في زواج المثنى، والثلاث، والرباع، فواحدة، فهوأقرب إلى عدم الوقوع في الظلم (1) .
وهكذا فإن الاقتصار على أربع عدل وتوسط، وحماية للنساء من ظلم يقع بهن من جراء الزيادة، وهو بخلاف ما كان عليه العرب في الجاهلية والشعوب القديمة حيث لا حد لعدد الزوجات وإهمال بعضهن.
وهذه الإباحة أضحت أمراً استثنائياً نادراً، فلا تعني أن كل مسلم يتزوج أكثر من واحدة، بل أصبح مبدأ وحدة الزوجة هو الغالب الأعظم.
قيود إباحة التعدد:
اشترطت الشريعة لإباحة التعدد شرطين جوهريين هما:
1 - توفير العدل بين الزوجات: أي العدل الذي يستطيعه الإنسان، ويقدر عليه، وهو التسوية بين الزوجات في النواحي المادية من نفقة وحسن معاشرة ومبيت، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء:3/4] فإنه تعالى أمر بالاقتصار على واحدة إذا خاف الإنسان الجور ومجافاة العدل بين الزوجات.
وليس المراد بالعدل ـ كما بان في أحكام الزواج الصحيح ـ هو التسوية في العاطفة والمحبة والميل القلبي، فهوغير مراد؛ لأنه غير مستطاع ولا مقدور لأحد، والشرع إنما يكلف بما هو مقدور للإنسان، فلا تكليف بالأمور الجبلِّية الفطرية التي لا تخضع للإرادة مثل الحب والبغض.
__________
(1) البدائع: 266/2.(9/160)
ولكن خشية سيطرة الحب على القلب أمر متوقع، لذا حذر منه الشرع في الآية الكريمة: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء، ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة} [النساء:129/4] وهو كله لتأكيد شرط العدل، وعدم الوقوع في جور النساء، بترك الواحدة كالمعلقة، فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجية، ولا هي مطلقة. والعاقل: من قدَّر الأمور قبل وقوعها، وحسب للاحتمالات والظروف حسابها، والآية تنبيه على خطر البواعث والعواطف الداخلية، وليست كما زعم بعضهم لتقرير أن العدل غير مستطاع، فلا يجوز التعدد، لاستحالة تحقق شرط إباحته.
2 - القدرة على الإنفاق: لا يحل شرعاً الإقدام على الزواج، سواء من واحدة أو من أكثر إلا بتوافر القدرة على مؤن الزواج وتكاليفه، والاستمرار في أداء النفقة الواجبة للزوجة على الزوج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... » والباءة: مؤنة النكاح.
حكمة تعدد الزوجات:
إن نظام وحدة الزوجة هو الأفضل وهو الغالب وهو الأصل شرعاً، وأما تعدد الزوجات فهو أمر نادر استثنائي وخلاف الأصل، لا يلجأ إليه إلا عند الحاجة الملحة، ولم توجبه الشريعة على أحد، بل ولم ترغب فيه، وإنما أباحته الشريعة لأسباب عامة وخاصة.
أما الأسباب العامة: فمنها معالجة حالة قلة الرجال وكثرة النساء، سواء في الأحوال العادية بزيادة نسبة النساء، كشمال أوربا، أم في أعقاب الحروب، كما حد ث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أصبحت نسبة النساء للرجال واحداً إلى أربعة أو إلى ستة، فقامت النساء الألمانيات بمظاهرات يطالبن بالأخذ بنظام تعدد الزوجات، بعد أن قتلت الحرب معظم رجال ألمانيا، وبعد أن كثر اللقطاء في الشوارع والحدائق العامة.(9/161)
وحينئذ يصبح نظام التعدد ضرورة اجتماعية وأخلاقية، تقتضيها المصلحة والرحمة، وصيانة النساء عن التبذل والانحراف، والإصابة بالأمراض الخطيرة مثل مرض فقد المناعة (الإيدز) ، والإيواء في ظل بيت الزوجية الذي تجد فيه المرأة الراحة والطمأنينة، بدلاً من البحث عن الأصحاب الوقتيين، أو حمل لافتات في مواطن إشارات المرور يعلن فيها عن الرغبة في الاتصال الجنسي، أو العرض الرخيص في واجهات بعض المحلات في الشوارع العامة كما في ألمانيا وغيرها.
ومن هذه الأسباب: احتياج الأمة أحياناً إلى زيادة النسل، لخوض الحروب والمعارك ضد الأعداء، أو للمعونة في أعمال الزراعة والصناعة وغيرها.
وقد أباحت اليهودية تعدد الزوجات، ولم يرد في المسيحية نص يمنع التعدد، وأذنت به الكنيسة في عصرنا للأفارقة المسيحيين.
ومن هذه الأسباب: الحاجة الاجتماعية إلى إيجاد قرابات ومصاهرات لنشر الدعوة الإسلامية كما حدث للنبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه عدد زوجاته التسع في سن الرابعة والخمسين من أجل نشر دعوته وكسب الأنصار لدين الله الجديد. وبقي إلى هذه السن على زوجة واحدة هي السيدة خديجة رضي الله عنها.
وأما الأسباب الخاصة فكثيرة منها:
1 - عقم المرأة أو مرضها، أو عدم توافق طباعها مع طباع الزوج:
قد تكون المرأة عقيماً لا تلد، أو أن بها مرضاً منفراً يحول بينها وبين تحقيق رغبات الزوج، أو أن طبعها لم ينسجم مع طبع الزوج، فيكون من الأفضل والأرحم ومن المروءة أن تظل هذه الزوجة في رباط الزوجية؛ لأنه أكرم لها وأحب إلى نفسها، وتعطى الفرصة للرجل بالزواج من ثانية تحقق له السعادة بإنجاب الأولاد، وإرواء غريزة حب الأولاد. وقد يزول مرض المرأة، وتتحسن طبائعها وأخلاقها مع مرور الزمن ونضوج العقل، فتجد في زوجها الأمل، وتنأى به عن الحرمان واليأس والعُقَد النفسية، وذلك في حدود أربع نسوة تتناسب مع طاقة الرجل وقدرته في عيشه على تحمل أعباء الحياة الزوجية.(9/162)
وقد بينت أن سبب الاقتصار على أربع هو كونه أقرب إلى تحقيق العدل والرحمة بالمرأة التي ينقطع عنها زوجها ثلاث ليال ثم يعود إليها.
أما ما قد يؤدي إليه التعدد من فساد الأسرة بسبب التحاسد والتنافر بين الضرائر، أوتشرد الأولاد، فهو ناشئ غالباً من ضعف شخصية الرجل، وعدم التزامه بقواعد الشرع وما يوجبه عليه من عدل وقَسْم في المبيت، وعناية بالأولاد، وإحساس كبير بمطالب الحياة الزوجية، فإذا عدل الرجل بين زوجاته، وسوّى بين أولاده في التربية والتعليم والنفقة، ووضع حداً لكل زوجة لا تتجاوزه، فإنه يساهم إلى حد كبير في استئصال كل بذور الفتنة والسوء، والضغينة والبغضاء بين أفراد أسرته، وهو خير كبير له، فيريح فكره من الهموم وحل المشكلات، ويتفرغ لواجباته المعيشية وأعماله خارج المنزل.
فإن بقي بعدئذ شيء في نفس المرأة والأولاد من الغيرة الطبيعية الذاتية، فهو شيء عادي لا تخلو عنه كل المجتمعات الصغيرة، ويمكن التغلب على آثاره بالحكمة والعدل وعدم الإصغاء لتدخلات الجيران والمعارف.
أما منع تعدد الأزواج: ففيه توفير مصلحة المرأة نفسها، إذ تكون عادة مبعث نزاع حاد بين الرجال، وتنافس وتزاحم بين الشركاء يلحق بها ضرراً ومتاعب، وفي هذا التعدد ضرر اجتماعي، وفساد كبير، بسبب ضياع الأنساب، واختلاط أصول الأولاد، وضياعهم في نهاية الأمر، إذ قد يتخلى كل هؤلاء الرجال عن إعالتهم، بحجة أنهم أبناء الآخرين.
2 - اشتداد كراهية الرجل للمرأة في بعض الأوقات: قد ينشأ نزاع عائلي بين الزوج وأقارب زوجته، أو بينه وبين زوجته، وتستعصي الحلول، وتتأزم المواقف، ويتصلب الطرفان، فإما فراق نهائي يأكل كبد المرأة للأبد، وإما صبر وقتي من الرجل، تتطلبه الأخلاق والوفاء، والحكمة والعقل، ولا شك أن اتخاذ الموقف الثاني بإبقاء الزوجة في عصمة زوجها مع زوجة أخرى أهون بكثير من الطلاق: «أبغض الحلال إلى الله» .(9/163)
3 - ازدياد القدرة الجنسية لبعض الرجال: قد يكون بعض الناس ذا طاقة جنسية كبيرة، تجعله غير مكتفٍ بزوجة واحدة، إما لكبر سنها، أو لكراهيتها الاتصال الجنسي، أو لطول عادتها الشهرية ومدة نفاسها، فيكون الحل لمثل هذه الظروف ومقتضى الدين الذي يتطلب التمسك بالعفة والشرف هو تعدد الزوجات، بدلاً من البحث عن اتصالات غير مشروعة، بما فيها من سخط الله عز وجل، وضرر شخصي واجتماعي عام مؤكد الحصول بشيوع الفاحشة أو الزنا.
والخلاصة: أن إباحة تعدد الزوجات مقيد بحالة الضرورة أو الحاجة أو العذر، أو المصلحة المقبولة شرعاً.
الدعوة إلى جعل تعدد الزوجات بإذن القاضي:
ظهرت دعوات جديدة في عصرنا تمنع تعدد الزوجات إلا بإذن القاضي، ليتأكد من تحقق ما شرطه الشرع لإباحة التعدد، وهو العدل بين الزوجات والقدرة على الإنفاق؛ لأن الناس وخصوصاً الجهلة أساؤوا استعمال رخصة التعدد المأذون بها شرعاً لغايات إنسانية كريمة. لكن تولى المخلصون دحض مثل هذه الدعوات لأسباب معقولة هي ما يأتي (1) :
1 - إن الله سبحانه وتعالى أناط بالراغب في الزواج وحده تحقيق شرطي التعدد، فهو الذي يقدر الخوف من عدم العدل، لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا، فواحدة} [النساء:3/4] فإن الخطاب فيه لنفس الراغب في الزواج، لا لأحد سواه، من قاض أوغيره، فيكون تقدير مثل هذا الخوف من قبل غير الزوج مخالفاً لهذا النص. وكذلك البحث في توافر القدرة على الإنفاق، فإنه منوط بالراغب في الزواج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..» فهو خطاب للأزواج، لا لغيرهم.
__________
(1) الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، للأستاذ الشيخ زكي الدين شعبان: ص 196 وما بعدها.(9/164)
2 - إن إشراف القاضي على الأمور الشخصية أمر عبث، إذ قد لا يطلع على السبب الحقيقي، ويخفي الناس عادة عنه ذلك السبب، فإن اطلع على الحقائق، كان اطلاعه فضحاً لأسرار الحياة الزوجية، وتدخلاً في حريات الناس، وإهداراً لإرادة الإنسان، وخوضاً في قضايا ينبغي توفير وقت القضاة لغيرها، ومنعاً وأمراً في غير محله، فالزواج أمر شخصي بحت، يتفق فيه الزوجان مع أولياء المرأة، لا يستطيع أحد تغيير وجهته، وتبديل قيمه. وإن أسرار البيت المغلقة لا يعلم بها أحد غير الزوجين.
3 - إن تعدد الزوجات ليس بهذه الكثرة المخيفة، وإنما هو على العكس محدود ونادر لا يتجاوز نسبة 4% في مصر وليبيا في الخمسينات، وفي سورية بنسبة 1%، ومثل هذه النسب لا تستوجب إصدارقوانين خاصة بها، بل إنه إذا صدرت القوانين فلن يتغير من الأمر شيء؛ لأن هذه القضايا تحتاج لضوابط وكوابح داخلية هي الدين والوجدان والأخلاق.
4 - ليس تعدد الزوجات هو السبب في تشرد الأطفال، كما يزعمون، وإنما السبب يكمن في إهمال الأب تربية النشء، وإدمان الخمر، وتعاطي المخدرات، والانصراف في إرواء اللذات طيشاً وعبثاً، وفعل الميسر وارتياد المقاهي، وإهمال شأن الأسرة، وغيرها من الأسباب. وكانت نسبة المتشردين بسبب تعدد الزوجات لا تزيد في مصر في الخمسينات عن (3%) ، ويرجع التشرد في الحقيقة إلى الفقر في الدرجة الأولى. وعلاج مساوئ التعدد يكون بأمرين:
أولاً ـ تربية الجيل تربية دينية وخلقية حصينة، بحيث يدرك الزوجان خطورة رابطة الزوجية المقدسة، وارتكازها على أساس الود والرحمة، كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21/30] .(9/165)
ثانياً ـ معاقبة من يظلم زوجته، أو يقصر في حقوقها، أو يهمل تربية أحد أولاده، فمن فرط في واجبه يؤاخذ في الدنيا والآخرة.
خلاصة موانع الزواج الشرعية كما ذكرها المالكية:
يحسن تلخيص الموانع الشرعية للزواج في فقه المالكية، لتصنيفها البديع لديهم، فإنهم قسموا كغيرهم هذه الموانع إلى موانع مؤبدة وموانع غير مؤبدة.
والموانع المؤبدة تنقسم إلى متفق عليها، ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة: نسب وصهر ورضاع. والمختلف فيها: الزنا واللعان.
وغير مؤبدة تنقسم إلى تسعة:
أحدها: مانع العدد، والثاني: مانع الجمع، والثالث: مانع الرق، والرابع: مانع الكفر، والخامس: مانع الإحرام، والسادس: مانع المرض، والسابع: مانع العدة، على اختلاف في عدم تأبيده، والثامن: مانع التطليق ثلاثاً للمطلق. والتاسع: مانع الزوجية. وتكون الموانع الشرعية أربعة عشر مانعاً (1) .
1 - أما مانع النسب: فاتفق الفقهاء على أن النساء المحرمات من قبل النسل: السبع المذكورات في القرآن، وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت. والأم: كل أنثى لها عليك ولادة، من جهة الأم أو من جهة الأب. والبنت: كل أنثى لك عليها ولادة من قبل الابن أو من قبل البنت أو مباشرة. والأخت: كل أنثى شاركتك في أحد أصليك، أو في مجموعهما أي الأب أو الأم، أو في كليهما. والعمة: كل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة. والخالة: أخت أمك، أوأخت كل أنثى لها عليك ولادة. وبنات الأخ: كل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة. وبنات الأخت: كل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة، أو من قبل أمها أو من قبل أبيها.
2 - وأما مانع المصاهرة: فيحرم أربع بالمصاهرة: زوجات الآباء، وزوجات الأبناء، وأمهات النساء، وبنات الزوجات (الربائب) ، واتفقوا على أن اثنين منهن يحرمن بنفس العقد: وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء، وواحدة تحرم بالدخول وهي ابنة الزوجة، وأما أم الزوجة فتحرم عند الجمهور بالعقد على البنت، دخل بها أو لم يدخل. وفي رأي ضعيف أم الأم إلا بالدخول على البنت، كالحال في البنت، وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من طرق ضعيفة.
__________
(1) بداية المجتهد: 31/2-49، القوانين الفقهية: ص 204-210، الشرح الصغير: 402/2-428.(9/166)
3 - وأما مانع الرضاع: فاتفقوا على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، أي أن المرضعة تنزَّل منزل الأم، فتحرم على المرضع هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب.
واتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن لبن الفحل يحرِّم، أي يصير الرجل الذي له اللبن، وهو زوج المرأة أباً للمرضع، فيحرم بينهما ومن جهتها ما يحرم من الآباء والأبناء الذين من النسب.
4 - وأما مانع الزنا أي زواج الزانية: فأجازه الجمهور، ومنعه قوم، ومنشأ اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: {والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين} [النور:3/24] هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟
5 - وأما مانع العدد: فاتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء، ورأى الجمهور أنه لا تجوز الخامسة، لقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] ولقوله عليه الصلاة والسلام لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة: «أمسك أربعاً، وفارق سائرهن» وقال الشيعة والظاهرية: يجوز تسع، ومذهبهم مذهب الجمع، أي جمع الأعداد في قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} [النساء:3/4] .
6 - وأما مانع الجمع: فاتفقوا على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد زواج، لقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء:23/4] واتفقوا أيضاً على أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لحديث أبي هريرة المتواتر كما قال ابن رشد، أو المشهور كما قال الحنفية: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» .
والعمة: هي كل أنثى هي أخت لذكر له عليك ولادة، إما بنفسك، وأما بواسطة ذكر آخر. والخالة: هي كل أنثى هي أخت لكل أنثى لها عليك ولادة، إما بنفسها، وإما بتوسط أنثى غيرها، وهن المحرمات من قبل الأم.(9/167)
7 - وأما مانع الرق: فاتفقوا على أنه يجوز للعبد أن ينكح الأمة، وللحرة أن تنكح العبد إذا رضيت به هي وأولياؤها. ولا يجوز نكاح الحر الأمة إلا بشرطين عند الجمهور غير ابن القاسم المالكي: وهما الخوف على نفسه العَنت أي الزنا، والعجز عن طَوْل الحرة أو الكتابية، أي المهر الذي يتزوجها به من عين أو عرض، لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ... {ذلك لمن خشي العَنت منكم} [النساء:4/25] . وهذا هو الراجح كما في شروح خليل، ولكن قال ابن رشد: رأي ابن القاسم هو المشهور من مذهب مالك وهو أنه يجوز زواج الحر من الأمة بإطلاق.
8 - وأما مانع الكفر: فاتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية، لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة:10/60] ، واتفقوا على أنه يجوز أن ينكح الكتابيةالحرة إلا ما روي في ذلك عن ابن عمر. وقال الشيعة الإمامية (1) في الأظهر من القولين: لا يجوز نكاح الكتابية غبطة، ويجوز متعة.
9 - وأما مانع الإحرام: فلا يجوز عند الجمهور نكاح المحرم، فلا يَنْكح المحرم ولا يُنكح، فإن فعل فالنكاح باطل. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك، لتعارض حديثين: حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم، وحديث ميمونة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال. وإذا قلنا: تعارض الفعل فسقط الاستدلال به، فيرجح القول، وهو حديث «لا ينكح المحرم ولا ينكح» .
__________
(1) المختصر النافع: ص 203.(9/168)
10 ـ وأما مانع المرض: فقال مالك في المشهور عنه: لا يجوز نكاح المريض مرض الموت، وقال الجمهور: إنه يجوز، وسبب اختلافهم تردد النكاح بين البيع وبين الهبة؛ لأنه لا تجوز هبة المريض إلا من الثلث، ويجوز بيعه. ولاختلافهم أيضاً سبب آخر: وهل هو يتهم في إضرار الورثة بإدخال وارث زائد، أو لا يتهم؟
11 - وأما مانع العدة: فاتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة، سواء أكانت عدة حيض أم عدة حمل، أم عدة أشهر، وسواء من نكاح أم شبهة نكاح. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، فقال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما، ولا تحل له أبداً، وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد: يفرق بينهما، وإذا انقضت العدة، فلا بأس في تزوجه إياها مرة ثانية. وسبب اختلافهم اختلاف أقوال الصحابة، فالفريق الأول أخذ بقول عمر رضي الله عنه حينما فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشد الثقفي، لما تزوجها في العدة من زوج ثان، وقال: «أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرِّق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطباً من الخطاب، وإن كان دخل بها، فرِّق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً» .
واحتج الفريق الثاني بقول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، خلافاً لرأي عمر رضي الله عنه، فلم يقضيا بتحريمها عليه.
12 - وأما مانع الزوجية: فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة، وكذا بين الذميين، لقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} [النساء:24/4] .
13 - وأما مانع اللعان: فتقع به عند الجمهور غير الحنفية الفرقة المؤبدة، فلا تحل له أبداً، وإن أكذب نفسه. والفرقة عند أبي حنيفة تنتهي إذا أكذب نفسه.(9/169)
14 - وأما مانع التطليق ثلاثاً للمطلق: فاتفقوا على أنه لا يجوز للمطلق أن يعقد عليها مرة أخرى حتى تتزوج زواجاً طبيعياً بزوج آخر، ثم يطلقها بنحو طبيعي، ثم تنقضي عدتها من الثاني، لقوله تعالى: {فإن طلقها، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] .
المحارم من النساء في القانون السوري:
أـ الحرمات المؤبدة:
المادة (33) - يحرم على الشخص أصوله وفروعه وفروع أبويه والطبقة الأولى من فروع أجداده.
المادة (34) - يحرم على الرجل:
1 - زوجة أصله أو فرعه وموطوءة أحدهما.
2 - أصل موطوءته وفرعها وأصل زوجته.
المادة (35) - «1 يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب إلا ما قرر فقهاء الحنفية استثناءه. 2 - يشترط في الرضاع للتحريم أن يكون في العامين الأولين، وأن يبلغ خمس رضعات متفرقات، يكتفي الرضيع في كل منها، قل مقدارها أو كثر» .
ب ـ الحرمات المؤقتة:
المادة (36) - «1 - لا يجوز أن يتزوج الرجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها فعلاً.
2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة» .
المادة (37) - لا يجوز أن يتزوج الرجل خامسة حتى يطلق إحدى زوجاته الأربع، وتنقضي عدتها.
المادة (38) - لا يجوز التزوج بزوجة آخر ولا بمعتدته.
المادة (39) - لا يجوز الجمع بين امرأتين لو فرضت كل منهما ذكراً، حرمت عليه الأخرى، فإن ثبت الحل على أحد الفرضين جاز الجمع بينهما.(9/170)
الفَصْلُ الرّابع: الأهليَّة والولاية والوكالة في الزّواج
فيه مباحث ثلاثة:
المبحث الأول ـ أهلية الزوجين:
يرى ابن شبرمة وأبو بكر الأصم وعثمان البتي رحمهم الله أنه لا يزوج الصغير والصغيرة حتى يبلغا، لقوله تعالى: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/4] فلو جاز التزويج قبل البلوغ، لم يكن لهذا فائدة، ولأنه لا حاجة بهما إلى النكاح. ورأى ابن حزم أنه يجوز تزويج الصغيرة عملاً بالآثار المروية في ذلك. أما تزويج الصغير فباطل حتى يبلغ، وإذا وقع فهو مفسوخ (1) .
ولم يشترط جمهور الفقهاء لانعقاد الزواج: البلوغ والعقل، وقالوا بصحة زواج الصغير والمجنون.
الصغر: أما الصغر فقال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة، بل ادعى ابن المنذر الإجماع على جواز تزويج الصغيرة من كفء، واستدلوا عليه بما يأتي (2) :
1 - بيان عدة الصغيرة ـ وهي ثلاثة أشهر ـ في قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق:4/65] فإنه تعالى حدد عدة الصغيرة التي لم تحض بثلاثة أشهر كاليائسة، ولا تكون العدة إلا بعد زواج وفراق، فدل النص على أنها تزوج وتطلق ولا إذن لها.
2 - الأمر بنكاح الإناث في قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النور:32/24] والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة.
__________
(1) المحلى: 560/9، 565.
(2) المغني: 487/6، المبسوط للسرخسي: 212/4، البدائع: 240/2، 246، القوانين الفقهية: ص198، مغني المحتاج: 168/3 ومابعدها.(9/171)
3 - زواج النبي بعائشة وهي صغيرة، فإنها قالت: «تزوجني النبي وأنا ابنة ستٍ، وبنى بي وأنا ابنة تسع» (1) وقد زوجها أبوها أبو بكر رضي الله عنهما. وزوج النبي صلّى الله عليه وسلم أيضاً ابنة عمه حمزة من ابن أبي سلمة، وهما صغيران.
4 - آثار عن الصحابة: زوَّج (أي عقد) علي ابنته أم كلثوم، وهي صغيرة من عروة بن الزبير، وزوج عروة بن الزبير بنت أخيه من ابن أخيه وهما صغيران. ووهب رجل بنته الصغيرة لعبد الله بن الحسن بن علي، فأجاز ذلك علي رضي الله عنهما، وزوجت امرأة بنتاً لها صغيرة لابن المسيب بن نخبة، فأجاز ذلك زوجها عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.
5 - قد تكون هناك مصلحة بتزويج الصغار، ويجد الأبُ الكفءَ، فلا يفوت إلى وقت البلوغ.
وهناك رواية: معقولة: وهي بنت ثلاث عشرة.
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 120/6) وفي رواية عند البخاري ومسلم: تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع سنين.(9/172)
من الذي يزوج الصغار؟
اختلف الجمهور القائلون بجواز تزويج الصغار فيمن يزوجهم.
فقال المالكية والحنابلة (1) : ليس لغير الأب أو وصيه أو الحاكم تزويج الصغار، لتوافر شقفة الأب وصدق رغبته في تحقيق مصلحة ولده، والحاكم ووصي الأب كالأب، لأنه لا نظر لغير هؤلاء في مال الصغار ومصالحهم المتعلقة بهم، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها، وإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» (2) وفي رواية أحمد: «.. لم تكره» وروي عن ابن عمر أن قدامة ابن مظعون زوج ابن عمر ابنة أخيه عثمان، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنها يتيمة ولا تُنكح إلا بإذنها» (3) واليتيمة: هي الصغيرة التي مات أبوها، لحديث: «لا يُتْم بعد احتلام» (4) دل الحديث على أن الأب وحده هو الذي يملك تزويج الصغار.
وقال الحنفية (5) : يجوز للأب والجد ولغيرهما من العصبات تزويج الصغير والصغيرة، لقوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء:4/3] أي في نكاح اليتامى، بإلحاق الظلم بهم، فالآية تأمر الأولياء بتزويج اليتامى، وأجاز أبو حنيفة في رواية عنه خلافاً للصاحبين لغير العصبات من قرابة الرحم كالأم والأخت والخالة تزويج الصغار إن لم يكن ثمة عصبة، ودليله عموم قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين} [النور:32/24] من غير تفرقة بين العصبات وغيرهم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 199، الشرح الصغير: 353/2، 356 وما بعدها، المغني: 489/6 وما بعدها، كشاف القناع: 43/5-47.
(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 121/6) .
(3) رواه أحمد والدارقطني عن ابن عمر (نيل الأوطار: 121/6 وما بعدها) .
(4) رواه أبو داود وحسنه النووي.
(5) البدائع: 240/2، المبسوط: 213/4 وما بعدها.(9/173)
وقال الشافعية (1) : ليس لغير الأب والجد تزويج الصغير والصغيرة، لخبر الدارقطني: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها أبوها» والجد كالأب عند عدمه؛ لأن له ولاية وعصوبة كالأب.
والخلاصة:
المالكية قالوا: القياس ألا يجوز تزويج الصغار إلا أنا تركنا ذلك في حق الأب للآثار المروية فيه، فبقي ما سواه على أصل القياس. والحنابلة رأوا أن الأحاديث مقصورة على الأب. والشافعية استدلوا بالأحاديث، لكنهم قاسوا الجد على الأب، والحنفية أخذوا بعموم الآيات القرآنية التي تأمر الأولياء بتزوج اليتامى أو بتزويجهن من غيرهم.
واشترط أبو يوسف ومحمد في تزويج الصغار الكفاءة ومهر المثل؛ لأن الولاية للمصلحة، ولا مصلحة في التزويج من غير كفء ولا مهر مثل.
وكذلك اشترط الشافعية في تزويج الصغير وجود المصلحة، وفي تزويج الأب الصغيرة أو الكبيرة بغير إذنها شروطاً سبعة هي:
الأول ـ ألا يكون بينه وبينها عداوة ظاهرة.
الثاني - أن يزوجها من كفء.
الثالث ـ أن يزوجها بمهر مثلها.
الرابع ـ أن يكون من نقد البلد.
الخامس ـ ألا يكون الزوج معسراً بالمهر.
السادس ـ ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته كأعمى وشيخ هرم.
السابع ـ ألا يكون قد وجب عليها الحج، فإن الزوج قد يمنعها لكون الحج على التراخي، ولها غرض في تعجيل براءتها، ويجوز أن يزوج الصغير أكثر من واحدة.
وأجاز المالكية للأب تزويج البكر الصغيرة، ولو بدون صداق المثل، ولو لأقل حال منها، أو لقبيح منظر، وتزوج البالغ (أو البالغة) بإذنها، إلا اليتيمة الصغيرة التي بلغت عشر سنين، فتزوج بعد استشارة القاضي على أن يكون الزواج بكفء وبمهر المثل.
ورأى الحنابلة: أن يزوج الأب ابنه الصغير والمجنون بمهر المثل وغيره، ولو كرهاً؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها، وهذا مثله، فإنه قد يرى المصلحة في تزويجه، فجاز له بذل المال فيه كمداواته فهذا أولى. وإذا زوج الأب ابنه الصغير، فيزوجه بامرأة واحدة لحصول الغرض بها، وله تزويجه بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة، وضعَّف بعض الحنابلة هذا، إذ ليس فيه مصلحة، بل مفسدة، وصوِّب أنه لا يزوجه أكثر من واحدة. أما الوصي فلا يزوجه أكثر بلا خلاف؛ لأنه تزويج لحاجة، والكفاية تحصل به، إلا أن تكون غائبة أو صغيرة أو طفلة، وبه حاجة، فيجوز أن يزوجه ثانية. ولسائر الأولياء تزويج بنت تسع سنين فأكثر بإذنها، لما روى أحمد عن عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة» أي في حكم المرأة.
__________
(1) مغني المحتاج: 149/3، 169.(9/174)
العقل: وأما العقل فليس شرطاً بالاتفاق، فيجوز للولي أباً أو غيره عند الحنفية (1) أن يزوج المجنون أوالمجنونة أو المعتوه أو المعتوهة (2) صغيراً أم كبيراً، بكراً أم ثيباً.
وللأب عند المالكية (3) تزويج المجنون أو المجنونة ونحوهما، في حال الصغر أو الكبر، ولو ثيباً، لعدم التمييز، ولا كلام لولدهما معه إن كان لهما ولد رشيد، إلا من يفيق أو تفيق من جنونها أحياناً، فتنتظر إفاقتها لتستأذن ولا تجبر، وذلك إذا لم يلزم على تزويج المجنونة ضرر عادة، كتزويجها من خصي أو ذي عاهة، كجنون وبرص وجذام، مما يردّ الزوج به شرعاً.
ورأى الشافعية (4) : أنه لا يزوَّج مجنون صغير أو كبير، إلا لحاجة للزواج، ويزوجه امرأة واحدة فقط الأب، ثم الجد، ثم السلطان، دون سائر العصبات كولاية المال. ويزوج الأب أو الجد لوفور شفقتهما المجنونة الصغيرة أو الكبيرة إن ظهرت مصلحة في تزويجها، ولا تشترط الحاجة قطعاً، فإن لم يكن أب أو جد لم تزوج في صغرها، فإن بلغت زوجها السلطان في الأصح للحاجة للزواج، لا لمصلحة في الأصح، كتوفر المؤن.
وقال الحنابلة (5) : لسائر الأولياء تزويج المجنونة إذا ظهر منها الميل إلى الرجال؛ لأن لها حاجة إلى الزواج لدفع ضرر الشهوة عنها، وصيانتها عن الفجور. ويعرف ميلها إلى الرجال من كلامها وتتبعها الرجال وميلها إليهم ونحوه من قرائن الأحوال، وكذا إن قال الأطباء (ثقة أو اثنان) : إن علتها تزول بتزويجها. فإن لم يكن لها ولي إلا الحاكم زوَّجها.
وإن احتاج المجنون البالغ أو الصغير العاقل إلى الزواج أو لغيره كالخدمة، زوجهما الحاكم عند عدم الأب والوصي، وليس لغير الأب ووصيه والحاكم التزويج، ولا يجوز التزويج إن لم يحتج المجنون والصغير إليه؛ لأنه إضرار بهما بلا منفعة.
__________
(1) البدائع: 241/2.
(2) العته: ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والإدراك. أما الجنون فهو اختلال في العقل ينشأ عنه اضطراب أو هيجان.
(3) الشرح الصغير: 355/2.
(4) مغني المحتاج: 168/3 ومابعدها.
(5) كشاف القناع: 46/5 وما بعدها.(9/175)
موقف القانون السوري من زواج الصغير والمجنون:
أخذ القانون السوري بما يخالف رأي الجمهور في زواج الصغار والمجانين بالاعتماد على مبدأ الاستصلاح، فأخذ برأي ابن شبرمة ومن وافقه في عدم صحة زواج الصغار، مراعاة لأوضاع المجتمع، وتقديراً لمخاطر مسؤوليات الزواج. ولم يصحح القانون زواج المجنون أو المعتوه مطلقاً، إلا إذا ثبت طبياً أن زواجه يفيد في شفائه، فللقاضي الإذن بالزواج.
وهذا ما نصت عليه المادة (15) :
1 - يشترط في أهلية الزواج العقل والبلوغ.
2 - للقاضي الإذن بزواج المجنون والمعتوه إذا ثبت بتقرير هيئة من أطباء الأمراض العقلية أن زواجه يفيد في شفائه.
سن البلوغ: كذلك أخذ القانون السوري بما يخالف رأي جمهور الفقهاء في تحديد سن البلوغ، ففي الأحوال المدنية أو الشؤون المالية نص القانون المدني (م 2/46) على أهلية الشخص الطبيعي، وهي بلوغ سن الثامنة عشرة، للذكر والأنثى على السواء عملاً بمبدأ الاستصلاح. ونص المادة هو
:1 - كل شخص بلغ سن الرشد متمتعاً بقواه العقلية، ولم يحجر عليه، يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية.
2 - وسن الرشد: هي ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة. أما في الأحوال الشخصية أو الزواج: فقد نص قانون الأحوال الشخصية على أن أهلية الفتى ثمانية عشر عاماً، والفتاة سبعة عشر عاماً. وذلك في المادة (16) وهي:
تكمل أهلية الزوج في الفتى بتمام الثامنة عشرة، وفي الفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر.
لكن أجاز هذا القانون أيضاً للقاضي: أن يأذن بزواج الفتى بعد إكماله سن الخامسة عشرة، والفتاة بعد إكمالها سن الثالثة عشرة، إذا طلبا الزواج، وادعيا البلوغ، وتبين له صدقهما في ادعاء البلوغ. وهذا مراعاة لمصلحة الشباب في التبكير بالزواج، صوناً لهم عن الانحراف.
ونص القانون (م 18) ما يأتي:
1 - إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة، أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشرة، وطلبا الزواج، يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما.
2 - إذا كان الولي هو الأب أو الجد، اشترطت موافقته.
أما رأي فقهائنا في سن الزواج: فإنهم اتفقوا على عدم انعقاد زواج الصغير غير المميز، أما الصبي المميز فينعقد زواجه موقوفاً عند الحنفية على إجازة وليه، ويبطل زواجه كسائر عقوده عند الجمهور، وإنما يزوجه وليه، فإذا بلغ خمسة عشر عاماً تزوج بنفسه، وعند أبي حنيفة إذا بلغ سن الثامنة عشرة.(9/176)
المبحث الثاني ـ الولاية في الزواج:
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الزواج أن يكون لمن يتولاه ولاية إنشائه، إما بالنفس وإما بالغير، فإذا وجدت هذه الولاية، صح العقد ونفذ، وإن فقدت بطل العقد عند الجمهور، وكان موقوفاً عند الحنفية.
فإن تم العقد من الرجل بالأصالة عن النفس صح العقد بالاتفاق، وإن تم بإنابة من الشارع، صح أيضاً بصفة الولاية، وإن وجد الزواج بالنيابة عن الشخص، صح بصفة الوكالة.
ونبحث في الولاية: معناها، أنواعها، اشتراطها في زواج المرأة، شروط الولي، من له الولاية، المولى عليه، ترتيب الأولياء، كيفية إذن المرأة بالزواج، عضل الولي، غيبة الولي وأسره أو فقده.
أولاً ـ معنى الولاية وسببها:
الولاية لغة إما بمعنى المحبة والنصرة، كما في قوله تعالى: {ومن يتول الله ورسوله، والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة:5/56] وقول سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/9] .
وإما بمعنى السلطة والقدرة، يقال: (الولي) أي صاحب السلطة.
وفي اصطلاح الفقهاء: القدرة على مباشرة التصرف من غيرتوقف على إجازة أحد. ويسمى متولي العقد (الولي) ومنه قوله تعالى: {فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/2] .
وسبب مشروعية ولاية تزويج القصر والمجانين (ولاية الإجبار) : هو رعاية مصالح هؤلاء، وحفظ حقوقهم بسبب عجزهم وضعفهم حتى لا تضيع وتهدر.(9/177)
ثانياً ـ أقسام الولاية:
قسم الحنفية الولاية ثلاثة أقسام: ولاية على النفس، وولاية على المال، وولاية على النفس والمال معاً.
والولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية، كالتزويج والتعليم والتطبيب والتشغيل، وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء.
والولاية على المال: هي تدبيرشؤون القاصر المالية من استثمار وتصرف وحفظ وإنفاق. وتثبت للأب والجد ووصيهما، ووصي القاضي.
والولاية على النفس والمال: تشمل الشؤون الشخصية والمالية، ولا تكون إلا للأب والجد فقط.
ومحل البحث في الزواج هو الولاية على النفس.
نوعا ولاية النفس: تنقسم ولاية النفس إلى نوعين: ولاية إجبار، وولاية اختيار، أو ولاية حتم وإيجاب، وولاية ندب واستحباب (1) .
1 - ولاية الإجبار: هي تنفيذ القول على الغير. وهي بهذا المعنى العام تثبت بأربعة أسباب: القرابة والملك، والولاء، والإمامة.
ولاية القرابة: تثبت لصاحبها بسبب قرابته من المولى عليه، إما بقرابة قريبة كالأب والجد والابن، أو بقرابة بعيدة كابن الخال وابن العم.
وولاية المِلْك: هي الولاية التي تثبت للسيد على مملوكه، فله تزويج عبده أو أمته جبراً عنهما، ويتوقف نفاذ زواجهما على إذنه.
وشرط ثبوت هذه الولاية للسيد: أن يكون عاقلاً بالغاً، فلا ولاية للمجنون والمعتوه ولا للصبي قبل البلوغ على تزويج العبد أو الأمة.
وولاية الولاء نوعان: ولاء عتاقة، وولاء موالاة.
وولاء العتاقة: هو الحق الشرعي الذي يثبت للمعتق على عتيقه، حتى إنه يرثه به، وله أن يزوجه إذا كان العتيق صغيراً أو كبيراً مجنوناً أو معتوهاً. وشرط ثبوت هذه الولاية أن يكون المعتق عاقلاً بالغاً.
وولاء الموالاة: هو الذي يثبت بناء على عقد بين اثنين على أن يناصره، ويغرم عنه إذا جنى، ويرثه إذا مات. وتثبت بهذا العقد ولاية تزويجه. ويشترط لثبوت هذه الولاية أن يكون الولي عاقلاً بالغاً حراً، وألا يكون للمولى عليه أحد يرثه من النسب أو العصبة السببية.
__________
(1) البدائع: 241/2-247، الدر المختار: 406/2 وما بعدها.(9/178)
وولاية الإمامة: هي ولاية الإمام العادل ونائبه، كالسلطان والقاضي، فلكل منهما تزويج عديم الأهلية أو ناقصها بشرط ألا يكون له ولي قريب، للحديث السابق: «السلطان ولي من لا ولي له» (1) . وولاية الإجبار بالمعنى الخاص: هي حق الولي في أن يزوج غيره بمن شاء.
وتثبت ولاية الإجبار بهذا المعنى عند الحنفية: على الصغيرة ولو كانت ثيباً، وعلى المعتوه والمجنونة والأمة المرقوقة. ويقال لصاحبها: ولي مُجْبر.
2 - وأما ولاية الاختيار: فهي حق الولي في تزويج المولى عليه بناء على اختياره ورضاه، ويقال لصاحبها: ولي مُخَيِّر. وهي مستحبة عند أبي حنيفة وزفر في تزويج المرأة الحرة البالغة العاقلة، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، رعاية لمحاسن العادات والآداب التي يراعيها الإسلام، إذ للمرأة عندهم أن تتولى تزويج نفسها باختيارها وإرادتها، لكن يستحب لها أن تولي أمر العقد لوليها. وشرط ثبوت هذه الولاية هو رضا المولى عليه لا غير.
والخلاصة: أنه لا ولي عند الحنفية إلا الولي المجبر، فليس عندهم ولي غير مجبر يتوقف عليه العقد، وكل ولي: مجبر.
أنواع الولاية عند المالكية:
الولاية عند المالكية قسمان: خاصة وعامة (2) :
1 - الولاية الخاصة: هي التي تثبت لأناس معينين، وهم ستة أصناف: الأب، ووصيه، والقريب العصبة، والمولى، والكافل، والسلطان. وأسباب هذه الولاية ستة هي:
الأبوة، والإيصاء، والعصوبة، والملك، والكفالة، والسلطنة. أما الولاية بالكفالة: فهي أن يكفل رجل امرأة فقدت والدها. وغاب عنها أهلها، فقام بتربيتها مدة خاصة، فيكون له عليها حق الولاية في تزويجها، ويشترط لثبوت هذه الولاية شرطان.
__________
(1) أخرجه الأربعة إلا النسائي عن عائشة، وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم (سبل السلام: 118/3) .
(2) القوانين الفقهية: ص 198 وما بعدها، الشرح الصغير: 351/2-363، الشرح الكبير: 221/2-232، 241 وما بعدها.(9/179)
أحدهما: أن تمكث عنده زمناً يوجب حنانه وشفقته عليها عادة وبالفعل، فلا حاجة لتقدير زمن معين كأربع سنوات أو عشر على الأظهر.
والثاني: ألا تكون شريفة، والشريفة: هي ذات الجمال أو المال، فإن كانت ذات جمال فقط أو ذات مال فقط، زوجها الحاكم. ورجح بعض المالكية أن ولاية الكفيل عامة تشمل الشريفة والدنيئة.
2 - والولاية العامة: تثبت بسبب واحد هو الإسلام، فهي تكون لكل مسلم، على أن يقوم بها واحد منهم، بأن توكل امرأة أحد المسلمين ليباشر عقد زواجها، بشرط ألا يكون لها أب أو وصيه، وبشرط أن تكون دنيئة لا شريفة. والدنيئة: هي الخالية من الجمال والمال والحسب والنسب. والخالية من النسب: بنت الزنا أو الشبهة أو المعتوقة من الجواري. والحسب: هو الأخلاق الكريمة كالعلم والتدبير والكرم ونحوها من محاسن الأخلاق.
يصح الزواج بالولاية العامة في امرأة دنيئة، مع وجود ولي خاص غير مجبر، كأب وابن عم، كما يصح زواج شريفة بالولاية العامة مع وجود ولي خاص غير مجبر إن دخل الزوج بها، وطال الدخول مدة هي أن يمضي زمن تلد فيه الأولاد كثلاث سنين، كطول مدة زواج الصغيرة التي لا أب لها إذا زوجت مع فقد الشروط أو بعضها. وتجوز الولاية العامةإذا تعذرت الولاية الخاصة.
وتثبت ولاية الإجبار عند المالكية بأحد سببين: البكارة، والصغر فيقع، الإجبار للبكر وإن كانت بالغاً، وللصغيرة وإن كانت ثيباً، ويستحب استئمارها.
والولي المجبر عندهم أحد ثلاثة: مالك الأمة أو العبد، فالأب، فوصي الأب عند عدم الأب. والولي غير المجبر: يشمل العصبة، ثم المولى (من أعتق المرأة ثم عصبته) ثم الكافل، ثم الحاكم.
وقرابة العصبة كالابن والأخ والجد وابن العم، لا يزوجون إلا البالغة بإذنها، وتأذن الثيب بالكلام، والبكر بالصمت.
والولي غير المجبر يزوج البالغ لا الصغيرة بإذنها ورضاها، سواء أكانت البالغ بكراً أم ثيباً.(9/180)
أنواع الولاية عند الشافعية:
الولي عن المرأة مطلقاً شرط عند الشافعية (1) لصحة أي عقد من عقود الزواج، فلا تزوِّج امرأة نفسها بإذن وليها، ولا غيرها بوكالة، ولا تقبل زواجاً لأحد.
والولاية نوعان: ولاية إجبارية وولاية اختيارية:
أما ولاية الإجبار: فتثبت للأب، وللجد عند عدمه، فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، ويكفي في البكر البالغة العاقلة إذا استؤذنت في تزويجها سكوتها في الأصح. ودليلهم خبر الدارقطني: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها» ورواية مسلم: «والبكر يستأمرها أبوها، وإذنها سكوتها» وقد حملت رواية مسلم على الندب، ولأن البكر شديدة الحياء إذ لم تمارس الرجال بالوطء.
وأما ولاية الاختيار: فتثبت لكل الأولىاء العصبات في تزويج المرأة الثيب،
__________
(1) مغني المحتاج: 147/3-150، المهذب: 35/2.(9/181)
فليس للولي تزويج الثيب إلا بإذنها، فإن كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ؛ لأن إذن الصغيرة غير معتبر، فامتنع تزويجها إلى البلوغ، وتزوج الثيب البالغة بصريح الإذن، ولا يكفي سكوتها. بدليل خبر الدارقطني السابق، وخبر «لا تنكحوا الأيامى حتى تستأمروهن» (1) ولأنها عرفت مقصود الزواج، فلا تجبر بخلاف البكر. ودليل صراحة الإذن: حديث: «ليس للولي مع الثيب أمر» (2) ولو أذنت بلفظ التوكيل جاز؛ لأن المعنى فيهما واحد.
والحاصل: أن الفرق بين البكر والثيب هوفي حكم الإذن ونوعه، فالبكر يستحب استئذانها، وإذنها صماتها، والثيب يجب استئذانها، بصريح الإذن.
وأما المجنونة فيزوجها الأب، والجد عند عدمه قبل بلوغها للمصلحة.
أنواع الولاية عند الحنابلة:
لا يصح نكاح المرأة إلا بولي عند الحنابلة (3) كالشافعية والمالكية، فلو زوَّجت امرأة نفسها، أو زوَّجت غيرَها كبنتها وأختها، أو وكلت امرأة غير وليها في تزويجها ولو بإذن وليها في الصور الثلاث، لم يصح النكاح لعدم وجود شرطه، ولأنها غير مأمونة على البُضْع لنقص عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، فلا يصح أن توكل فيه، ولا أن تتوكل فيه، فإن حكم بصحته حاكم أو كان المتولي العقد حاكماً يراه، لم ينقض كسائر الأنكحة الفاسدة، إذا حكم بها من يراها، لم ينقض؛ لأنه يسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم بها.
وولاية الإجبار: تثبت لأب، ووصيه، ثم الحاكم، كما قال المالكية، ولا تثبت للجد وسائر الأولىاء، وذلك عند تزويج الصغيرة فقط.
وولاية الاختيار: تثبت لسائر الأولياء عند تزويج امرأة حرة مكلفة (كبيرة بالغة) ثيباً كانت أو بكراً بإذنها، وإذن البكر: الصمت، وإذن الثيب: الكلام، بدليل حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال:
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
(2) رواه أبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 120/6) .
(3) المغني: 456/6، كشاف القناع: 46/5 وما بعدها.(9/182)
أن تسكت» (1) وحديث «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» (2) .
ولسائر الأولياء تزويج بنت تسع سنين فأكثر بإذنها، ولهاإذن صحيح معتبر، لحديث عائشة: «إذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» (3) وروي مرفوعاً عن ابن عمر. ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه، فأشبهت البالغة.
والخلاصة: يزوج الرجل البالغ العاقل نفسه بالاتفاق بالأصالة عن نفسه، ويزوج الولي الصغار والمجانين والمعتوهين بالاتفاق بالولاية عن الشارع.
واختلف الفقهاء في زواج المرأة البالغة العاقلة، فقال الحنفية: لها أن تتزوج بنفسها، وقال الجمهور: يزوجها وليها، لكن عند الحنابلة بإذنها سواء أكانت بكراً أم ثيباً، وعند المالكية والشافعية: بإذنها إذا كانت ثيباً، وبغير إذنها إذا كانت بكراً صغيرة أم كبيرة.
وكل ولي مجبر عند الحنفية، والمجبر عند المالكية والحنابلة: الأب ووصيه والحاكم، والمجبر عند الشافعية: الأب، والجد فقط عند عدم الأب.
ويستحب استئذان البنت البكر عند المالكية والشافعية، ولا إذن للصغيرة بحال عند الحنابلة، وليس عندهم للحاكم ولسائر الأولياء تزويج بنت دون تسع سنين.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الأثرم وابن ماجه.
(3) رواه أحمد بسنده.(9/183)
ثالثاً ـ اشتراط الولاية في زواج المرأة:
للفقهاء كما عرفنا رأيان في انعقاد الزواج بعبارة النساء، رأي الحنفية: أنه يصحح العقد بعبارتها، بدون ولي، ورأي الجمهور: أنه يبطل العقد بدون ولي (1) .
أما الرأي الأول ـ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في ظاهر الرواية: ينفذ نكاح حرة مكلفة (بالغة عاقلة) بلا رضا ولي، فللمرأة البالغة العاقلة أن تتولى عقد زواجها، وزواج غيرها، لكن إذا تولت عقد زواجها، وكان لها ولي عاصب، اشترط لصحة زواجها ولزومه أن يكون الزوج كفئاً، وألا يقل المهر عن مهر المثل. فإذا تزوجت بغير كفء، فلوليها حق الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه إذا سكت حتى ولدت أو حملت حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض على الزواج ويفسخه القاضي، إلا أنه إذا سكت حتى ولدت أو حملت حملاً ظاهراً، سقط حق الولي في الاعتراض وطلب التفريق، حفاظاً على تربية الولد، ولئلا يضيع بالتفريق بين أبويه، فإن بقاءهما مجتمعين على تربيته أحفظ له بلا شبهة.
والمفتى به أن المرأة إذا تزوجت بغير كفء، وقع العقد فاسداً، فلو رضي الولي بعد العقد لا ينقلب صحيحاً.
ودليله كما سبق: أولاً ـ حديث «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها» والأيم: التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً، فدل على أن للمرأة الحق في تولي العقد.
ثانياً ـ للمرأة أهلية كاملة في ممارسة جميع التصرفات المالية من بيع وإيجار ورهن وغيرها، فتكون أهلاً لمباشرة زواجها بنفسها؛ لأن التصرف حق خالص لها.
وأما الرأي الثاني ـ رأي الجمهور: فهو أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت ولو كانت بالغة عاقلة رشيدة، لم يصح النكاح، وهو رأي كثير من الصحابة كابن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم. وإليه ذهب سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن المبارك، وعبيد الله العنبري وإسحاق وأبو عبيدة رحمهم الله تعالى.
وأدلتهم: أولاً ـ حديث عائشة وأبي موسى وابن عباس: «لا نكاح إلا بولي» (2) وحديث عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (3) . وحديث أبي هريرة: «لا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» (4) .
ثانياً ـ إن الزواج عقد خطير دائم ذو مقاصد متعددة من تكوين أسرة، وتحقيق طمأنينة واستقرار وغيرها، والرجل بما لديه من خبرة واسعة في شؤون الحياة أقدر على مراعاة هذه المقاصد، أما المرأة فخبرتها محدودة، وتتأثر بظروف وقتية، فمن المصلحة لها تفويض العقد لوليها دونها.
__________
(1) فتح القدير: 391/2 وما بعدها، تبيين الحقائق: 98/2 وما بعدها، الدر المختار: 407/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 353/2، القوانين الفقهية: ص 198، المهذب: 35/2، مغني المحتاج: 147/3 وما بعدها، كشاف القناع: 49/5 وما بعدها، المغني: 449/6.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة (نصب الراية: 183/3، سبل السلام: 117/3) .
(3) أخرجه أحمد والأربعة إلا النسائي، وصححه أبو عوانة وابن حبان والحاكم وابن معين وغيره من الحفاظ (نصب الراية: 184/3، سبل السلام: 118/3) .
(4) أخرجه الدارقطني، وفي إسناده كلام (نصب الراية: 188/3) .(9/184)
رابعاً ـ شروط الولي:
يشترط في الولي شروط متفق عليها بين الفقهاء وهي (1) :
1ً - كمال الأهلية: بالبلوغ والعقل والحرية، فلا ولاية للصبي والمجنون والمعتوه (ضعيف العقل) والسكران، وكذا مختل النظر بهرَم، (وهو كبر السن) أو خبَل (وهو فساد في العقل) ، والرقيق؛ لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء على نفسه، لقصور إدراكه وعجزه في غير الرقيق فلا تكون له ولاية على غيره؛ لأن الولاية تتطلب كمال الحال. وأما الرقيق فلأنه مشغول بخدمة مولاه، فلا يتفرغ للنظر في شؤون غيره.
2ً - اتفاق دين الولي والمولى عليه: فلا ولاية لغيرا لمسلم على المسلم، ولا للمسلم على غير المسلم، أي لا يزوج عند الحنابلة والحنفية كافر مسلمة ولا عكسه، وقال الشافعية وغيرهم: يزوج الكافر الكافرة، سواء أكان زوج الكافرة كافراً أم مسلماً، وقال المالكية: يزوج الكافرة الكتابية مسلم. ولا ولاية للمرتد على أحد مسلم أو كافر، لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/9] وقوله سبحانه: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/8] وقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}
__________
(1) البدائع: 239/2، الشرح الصغير: 369/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 154/3 وما بعدها، كشاف القناع: 55/5 وما بعدها، المهذب: 2/36.(9/185)
[النساء:141/4] ولحديث «الإسلام يعلو ولا يعلى» (1) ، والسبب في اشتراط اتحاد الدين: هو اتحاد وجهة النظر في تحقيق المصلحة، ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة الكافر.
ويستثنى من ذلك الإمام أو نائبه؛ لأن له الولاية العامة على جميع المسلمين. وقد اقتصر القانون السوري (م 22) على شرط كمال الأهلية: «يشترط أن يكون الولي عاقلاً بالغاً» ولم يشترط اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه.
وهناك شروط أخرى في الولي مختلف في اشتراطها وهي:
3 - الذكورة: شرط عند الجمهور غير الحنفية، فلا تثبت ولاية الزواج للأنثى؛ لأن المرأة لا يثبت لها ولاية على نفسها، فعلى غيرها أولى.
وقال الحنفية: ليست الذكورة شرطاً في ثبوت الولاية، فللمرأة البالغة العاقلة ولاية التزويج عنده بالنيابة عن الغير، بطريق الولاية أو الوكالة.
وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم في مسألة انعقاد الزواج بعبارة النساء.
4 - العدالة: وهي استقامة الدين، بأداء الواجبات الدينية، والامتناع عن الكبائر كالزنا والخمر وعقوق الوالدين ونحوها، وعدم الإصرار على الصغائر. وهي شرط عند الشافعية على المذهب وعند الحنابلة، فلا ولاية لغير العدل وهو الفاسق، لما روي عن ابن عباس: «لا نكاح إلا بشاهدي عدل، وولي مرشد» (2) لأنها ولاية تحتاج إلى النظر وتقدير المصلحة، فلا يستبد بها الفاسق كولاية المال.
__________
(1) رواه الدارقطني في سننه والروياني في مسنده عن عايذ بن عمرو المزني مرفوعاً، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن عمر وأسلم به سهل في تاريخ واسط عن معاذ مرفوعاً، وعلقه البخاري في صحيحه (المقاصد الحسنة: ص 58) .
(2) قال الإمام أحمد: أصح شيء في هذا قول ابن عباس مرفوعاً: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة نكحها ولي مسخوط عليه، فنكاحها باطل» وروى البرقاني بإسناده عن جابر مرفوعاً: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .(9/186)
ويكفي العدالة الظاهرة، فيكفي مستور الحال؛ لأن اشتراط العدالة ظاهراً وباطناً حرج ومشقة، ويفضي إلى بطلان غالب الأنكحة.
ويستثنى من هذا الشرط: السلطان، يزوج من لا ولي لها، فلا تشترط عدالته للحاجة، والسيد يزوج أمته، فلا تشترط عدالته؛ لأنه تصرف في أمته، كإيجارها ونحوه.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العدالة ليست شرطاً في ثبوت الولاية، فللولي عدلاً كان أو فاسقاً تزويج ابنته أو ابنة أخيه مثلاً؛ لأن فسقه لا يمنع وجود الشفقة لديه ورعاية المصلحة لقريبه، ولأن حق الولاية عام، ولم ينقل أن ولياً في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ومن بعده منع من التزويج بسبب فسقه. وهذا الرأي هو الراجح؛ لأن حديث ابن عباس ضعيف، ولأن (المرشد) ليس معناه العدل، بل الذي يرشد غيره إلى وجوه المصلحة، والفاسق أهل لذاك.
5 - الرشد: ومعناه هنا عند الحنابلة: معرفة الكفء ومصالح النكاح، لا حفظ المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. ومعناه عند الشافعية: هو عدم تبذير المال.
والرشد شرط عند الشافعية على المذهب والحنابلة في ثبوت الولاية؛ لأن المحجور عليه بسفه لا يلي أمر نفسه في الزواج، فلا يلي أمر غيره، فإن لم يكن السفيه محجوراً عليه جاز له تزويج غيره على المعتمد عند الشافعية.(9/187)
وقال الحنفية والمالكية: ليس الرشد بمعنى حسن التصرف في المال شرطاً في ثبوت الولاية، فيصح للسفيه ولو محجوراً عليه أن يتولى تزويج غيره. لكن يستحب عند المالكية أن يكون التزويج من السفيه ذي الرأي بإذن موليته، وبإذن وليه، فإن زوج ابنته مثلاً بغير إذن وليه، ندب أن ينظر الولي لما فيه المصلحة، فإن كان صواباً أبقاه وإلا رده، فإن لم ينظر فهو ماض. وأضاف المالكية شرطين آخرين هما:
خلو الولي من الإحرام بحج أو عمرة، فالمحرم بأحدهما لا يصح منه تولي عقد النكاح. وعدم الإكراه: فلا يصح الزواج من مكره، لكن هذا الشرط لا يختص بولي عقد النكاح، بل هو عام في جميع العقود الشرعية. وبه تصبح شروط الولي عندهم سبعة: هي الذكورة والحرية والبلوغ والعقل، والإسلام في المرأة المسلمة والخلو من الإحرام وعدم الإكراه. وليست العدالة والرشد شرطين.
وهي أيضاً عند الحنابلة والشافعية سبعة: الحرية والذكورة واتحاد الدين بين الولي والمولى عليها، والبلوغ، والعقل، والعدالة، والرشد: وهو عند الحنابلة معرفة الكفء ومصالح النكاح، وليس حفظ المال؛ لأن رشد كل مقام بحسبه. وعند الشافعية: عدم تبذير المال.
وعند الحنفية أربعة هي: العقل والبلوغ والحرية واتحاد الدين، وليست العدالة والرشد شرطين.
خامساً ـ من له الولاية وترتيب الأولياء:
قال الحنفية (1) : الولاية هي ولاية الإجبار فقط، وتثبت للأقارب العصبات (2) ، الأقرب فالأقرب؛ لأن «النكاح إلى العصبات» كما روي عن علي رضي الله عنه، وذلك على الترتيب الآتي: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم الإمام والحاكم، أي بالترتيب التالي:
1 - الابن وابنه وإن نزل.
2 - الأب والجد العصبي (الصحيح) وإن علا.
__________
(1) البدائع: 240/2 وما بعدها، فتح القدير: 405/2، 413-416، الدر المختار: 429/2-431.
(2) وهم الذكور الذين لا ينتسبون لقريبهم بواسطة الأنثى وحدها.(9/188)
3 - الأخ الشقيق والأخ لأب وأبناؤهما وإن نزلوا.
4 - العم الشقيق والعم لأب وأبناؤهما وإن نزلوا.
ثم يأتي بعد هؤلاء المعتق ثم عصبته النسبية.
ثم السلطان أو نائبه وهو القاضي؛ لأنه نائب عن جماعة المسلمين، للحديث المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وبهذا نطقت المادة (24) من القانون السوري: «القاضي ولي من لا ولي له» .
وليس للوصي تزويج الصغير أو الصغيرة، ولو كان الأب قد أوصى إليه بذلك، على المعتمد.
وليس للقاضي تزويج الصغيرة من نفسه، ولا ممن لا تقبل شهادته له، وهذا ما نصت عليه المادة (25) من القانون السوري.
وإذا زوج الولي من مرتبة مع وجود من هو أقرب منه، كان العقد موقوفاً على إجازة الأقرب، إلا أن يكون هذا الأقرب صغيراً أو مجنوناً، فينفذ عقد الولي الأبعد. وقد نص القانون السوري (م 1/22) على أنه: «إذا استوى وليان في القرب، فأيهما تولى الزواج بشرائطه، جاز» .
وترتيب الأولياء على هذا النحو هو رأي الصاحبين، وقال أبو حنيفة: لغير العصبات من الأقارب ولاية التزويج عند عدم العصبات، أي تثبت الولاية لذوي الأرحام، الأقرب فالأقرب، فإن لم يكن عصبة فالولاية للأم، ثم أم الأب، ثم أم الأم، فإن لم يوجد أحد من الأصول انتقلت الولاية للفروع، على أن تقدم البنت على بنت الابن لقربها، وتقدم بنت الابن على بنت البنت لقوة قرابتها. ثم الجد الرحمي (غير الصحيح) : وهو أبو الأم، وأبو أم الأب. ثم الأخوال ثم الخالات وأولادهم.
فإن لم يوجد أحد من ذوي الأرحام، انتقلت الولاية إلى الحاكم: وهو القاضي الآن.
وإذا اجتمع في المجنونة أبوها وابنها، فالولي في نكاحها ابنها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الابن هو المقدم في العصوبة ولا عبرة بزيادة الشفقة. وقال محمد: الولي أبوها؛ لأنه أوفر شفقة من الابن.(9/189)
وبه يظهر أن الحنفية يخالفون غيرهم في ثبوت الولاية للأقارب غير الأب والجد، لإثبات الولاية لابن العم في القرآن في قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء، قل: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن} [النساء:127/4] فإن هذه الآية نزلت ـ كما قالت السيدة عائشة ـ في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في زواجها، ولا يقسط في صداقها. وهذا الولي المتصور هو ابن العم، فتثبت لمن هو أقرب منه كالأخ والعم بالأولى. ولعموم قول علي رضي الله عنه: «النكاح إلى العصبات» والعصبات لفظ عام يشمل الأب وغيره.
ويخالف الحنفية غيرهم أيضاً في عدم ثبوت ولاية التزويج للوصي، لقول علي السابق: «النكاح إلى العصبات» والوصي ليس من الأقارب العصبة، فلا تثبت له الولاية.
وأخذ القانون السوري (م21) برأي الجمهور في قصر الولاية على العصبات، ونص المادة: «الولي في الزواج: هو العصبة بنفسه على ترتيب الإرث، بشرط أن يكون محرماً» ويلاحظ أنه قصر الولاية على العصبات المحارم ليمنع ابن العم من التحكم في زواج بنت عمه.
مذهب المالكية في ترتيب الأولياء:
قال المالكية (1) : هنا ك ولي مجبر، وولي غير مجبر. فولاية الإجبار تثبت لأحد ثلاثة بالترتيب الآتي:
1ً - السيد المالك ولو أنثى: فله أن يجبر أمته أو عبده على الزواج بشرط عدم الإضرار بهما، كالتزويج من ذي عاهة كالجذام أو البرص، فلا جبر للمالك، ويفسخ وإن طال، والسيد مقدم على الأب.
2ً - الأب: رشيداً كان أو سفيهاً ذا رأي، فله تزويج البكر ولو عانساً: بلغت من العمر ستين سنة فأكثر، فله تزويج البنت البكر جبراً عنها، ولو بدون مهر المثل، أو من غير كفء، كأن يكون أقل حالاً منها، أو قبيح منظر.
__________
(1) الشرح الصغير: 353/2-364، القوانين الفقهية: ص 199-200، الشرح الكبير: 221/2-227، شرح الرسالة: 31/2-32.(9/190)
وليس للأب جبر ابنته إذا رشَّدها، أي جعلها رشيدة، أو أطلق الحجر عنها، لصيرورتها حسنة التصرف، أو أقامت سنة فأكثر في بيت زوج بعد أن دخل بها، ثم تأيمت وهي بكر، فلا جبر للأب عليها؛ تنزيلاً لإقامتها ببيت الزوج سنة منزلة الثيوبة.
وكذلك ليس للأب الجبر إن زالت بكارة البنت بنكاح فاسد يدرأ (يمنع) الحد عنها لشبهة، فإن لم يدرأ الحد عنها فله جبرها.
وللأب جبر البنت الثيب الصغيرة، بأن تأيمت بعد أن أزال الزوج بكارتها، إذ لا عبرة لثيوبتها في هذه الحالة مع صغرها.
وله جبرها إن زالت بكارتها بزنا ولو تكرر، أو ولدت من الزنا، أوزالت بكارتها بعارض كوثبة أو ضربة أو بعود ونحوها.
وللأب جبر المجنونة جنوناً مطبقاً ولو كانت ثيباً أو ولدت أولاداً، أما التي تفيق فتنتظر إفاقتها إن كانت ثيباً، فتزوج برضاها، وأما البكر فيجبرها ولا تنتظر إفاقتها.
3ً - وصي الأب عند عدم الأب بشروط ثلاثة هي:
أـ أن يعين الأب للوصي الزوج، بأن يقول له: زوجها من فلان، أو يأمره بجبرها صراحة، مثل: اجبرها على الزواج، أو ضمناً، مثل: زوجها قبل البلوغ وبعده، أو على أي حالة شئت.
أو أن يأمره بالزواج دون أن يعين له الزوج ولا الإجبار، كأن يقول له: زوجها أو أنكحها، أوزوجها ممن أحببت، أو لمن ترضاه.
أو أن يقول له: أنت وصيي على بنتي، أو بناتي، أو على بعضها أو بعضهن، فله الجبر على الأرجح. أما لو قال: أنت وصيي على مالي فلا جبر بالاتفاق.
ب ـ ألا يقل المهر عن مهرا لمثل.
جـ ـ ألا يكون الزوج فاسقاً.(9/191)
والخلاصة: إن الذي يجبر في عصرنا: هو الأب ووصيه، ولا جبر لغير السيد والأب ووصيه من الأولياء في تزويج البكر والصغيرة والمجنونة، أو أي أنثى صغيرة أو كبيرة، إلا في مسألة واحدة هي البكر الصغيرة اليتيمة، للولي غيرا لمجبر تزويجها بمشورة القاضي إذا خيف عليها الفساد في دينها، بأن يتردد عليها أهل الشر والفسق، أو لعدم وجود من ينفق عليها، أو لخوف ضياع ما لها، بشرط بلوغها عشر سنوات؛ لأنها صارت في سن من توطأ، وبشرط خلوها من الموانع الشرعية، ككونها زوجة أو في عدة من زوج آخر، وبشرط رضاها بالزوج، وكونه كفئاً لها في الدين والحرية والمال، وأن المهر مهر مثلها.
فإذا فقد شرط من هذه الشروط المذكورة، بأن لم يخف عليها فساداً ولا ضياعاً أو لم تبلغ عشر سنوات، فسخ زواجها إلا إذا دخل الزوج بها، وطال الزمن بعد الدخول والبلوغ. وطول الزمن: بمضي ثلاث سنين بعد الدخول والبلوغ، أو بولادة أولاد كاثنين في بطنين.
ودليل المالكية على إثبات ولاية الإجبار للأب دون غيره من الأولياء: هو الإجماع على أن للأب أن يزوج ابنته البكر الصغيرة، بدليل تزويج أبي بكر ابنته عائشة، وهي بنت ست أو سبع، للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقوله صلّى الله عليه وسلم «والبكر يستأمرها أبوها» فقصر الاستئمار على الأب.
ودليلهم على أن وصي الأب كالأب: هو أنه نائب عن الأب، فكما يجوز للأب توكيل غيره في حال الحياة، يجوز له أن يوصي عنه لنائبه عنه بعد الوفاة.
وأما الولي غير المجبر أو ولاية الاختيار:
فتثبت للبنوة ثم الأبوة المباشرة، ثم الأخوة ثم الجدودة ثم العمومة على النحو التالي:
ـ الابن فابنه وإن نزل.
ـ ثم الأب. ـ ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب.
ـ ثم الجد (أبو الأب) . ويلاحظ أنه جعل في المرتبة الرابعة، أما عند الحنفية فهو في المرتبة الثانية بعد الأب.
ـ ثم العم ثم ابن العم، على أن يقدم الشقيق على غيره.(9/192)
ـ ثم أب الجد، ثم العم لأب فابنه، ثم عم الجد فابنه.
ـ ويقدم الأفضل عند التساوي في الرتبة، فإن تساوى اثنان في الرتبة والفضل كإخوة كلهم علماء، قدم الحاكم إن وجد من يراه، فإن لم يكن حاكم أقرع بينهم.
ـ ثم المولى الأعلى: وهو من أعتق المرأة، ثم عصبته.
ـ ثم الكافل للمرأة غير العاصب: وهو من قام بتربية الفتاة وهي صغيرة حتى بلغت عنده، أو بلغت عشراً، بشرطين:
أولهما ـ أن يكفلها مدة توجب الحنان والشفقة عليها عادة، دون تحديد زمن معين على الأظهر.
ثانيهما ـ أن تكون الفتاة وضيعة (دنيئة) لا شريفة: وهي التي لا مال لها ولا جمال ولا نسب ولا حسب (الأخلاق الكريمة كالعلم والحلم والتدبير والكرم ونحوها) ،كما تقدم. فإن كانت شريفة زوجها القاضي.
ـ ثم الحاكم أو القاضي الشرعي اليوم.
ـ ثم كل مسلم بالولاية العامة إن لم يوجد أحد من الأولياء السابقين، ومنهم الخال، والجد من جهة الأم، والأخ لأم، فلكل مسلم تزويج المرأة الشريفة أو الوضيعة بإذنها ورضاها. لقوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/9] . وإذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب (1) نفذ الزواج.
ويجوز لابن العم، والمولى، ووكيل الولي، والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه، ويتولى طرفي العقد. وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها وإنكارها.
والحاصل: أن المالكية يخالفون غيرهم في جعل الجد في المرتبة الرابعة بعد الإخوة، وليس بعد الأب، وأن الولي المجبر هو الأب فقط لا الجد، ويخالفونهم أيضاً في ثبوت الولاية بالإيصاء والكفالة، وبالولاية العامة بسبب الإسلام. ويتفق الفقهاء في إثبات الولاية بسبب الملك، والأبوة والعصوبة غير الأبناء، والسلطنة.
__________
(1) المراد بالأبعد: المؤخر في الرتبة، وبالأقرب: المتقدم فيها، ولو كانت جهتهما متحدة، فيشمل ذلك تزويج الأخ لأب مع وجود الشقيق.(9/193)
ترتيب الأولياء عند الشافعية:
الولي عند الشافعية: إما مجبرأو غير مجبر (1) :
فالولي المجبر أحد ثلاثة: الأب، والجد وإن علا، والسيد.
فللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحب استئذانها، وليس له تزويج ثيب إلا بإذنها، فإن كانت الثيب صغيرة لم تزوَّج حتى تبلغ.
والجد كالأب عند عدمه.
وللسيد تزويج أمته، سواء أكانت بكراً أم ثيباً، صغيرة أم كبيرة، عاقلة كانت أم مجنونة؛ لأن الزواج عقد يملكه عليها بحكم الملك، فكان إلى المولى، كالإجارة.
والولي غير المجبر: هو الأب والجد وباقي العصبات.
وترتيب الأولياء على النحو التالي: الأبوة، الأخوة، العمومة، ثم المعتق ثم السلطان، أي الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب وإن سفل، ثم العم، ثم سائر العصبة من القرابة كالإرث.
ثم المعتق، ثم عصبته بترتيب الإرث. ويزوج عتيقة المرأة من يزوج المعتقة مادامت حية، ولا يعتبر إذن المعتقة في الأصح، فإن ماتت فلمن له الولاء.
ثم السلطان، لخبر: «السلطان ولي من لا ولي له» (2) .
ولا تثبت الولاية للأبناء، فلا يزوج ابن أمه وإن علت ببنوة محضة، خلافاً للأئمة الثلاثة والمزني تلميذ الشافعي؛ لأنه لا مشاركة بينه وبينها في النسب، إذ انتسابها إلى أبيها، وانتساب الابن إلى أبيه.
واستدل الجمهور بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لما أراد أن يتزوج أم سلمة، قال لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3) ورد الشافعية بأجوبة: أحدها أن نكاحه صلّى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى ولي، وإنما قال له ذلك استطابة لخاطره.
ثانيها ـ أن عمر بن أبي سلمة ولد في أرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وزواجه صلّى الله عليه وسلم بأم سلمة كان في السنة الرابعة.
ثالثها ـ بتقدير صحة أنه زوج وهو بالغ، فيكون ببنوة العم. فإن كان الابن ابن عم أو معتقاً أوقاضياً، زوَّج بالبنوة، لأنها غير مقتضية لا مانعة، فإذا وجد معها سبب آخر يقتضي الولاية لم تمنعه.
والحاصل: أن الابن ليس ولياً عند الشافعية، خلافاً للجمهور.
__________
(1) مغني المحتاج: 149/3-152، المهذب: 37/2 وما بعدها.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن عائشة (نيل الأوطار: 118/6) .
(3) رواه أحمد والنسائي عن أم سلمة، وأعل بأن عمر المذكور كان عند تزوجه صلّى الله عليه وسلم بأمه صغيراً، له من العمر سنتان؛ لأنه ولد في الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وتزوجه عليه الصلاة والسلام بأمه كان في السنة الرابعة (نيل الأوطار: 124/6) .(9/194)
ترتيب الأولياء عند الحنابلة:
الولي عند الحنابلة إما مجبر أوغير مجبر (1) .
والولي المجبر: هو الأب، ثم وصي الأب بعد موته، ثم الحاكم عند الحاجة.
والولي غير المجبر: بقية الأقارب العصبات، الأقرب فالأقرب كالإرث.
وترتيب الأولياء: الأبوة، ثم البنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، ثم المعتق، ثم عصبته، ثم السلطان، على النحو التالي:
1 - الأب: فهو أحق الناس بتزويج المرأة الحرة؛ لأنه أكمل نظراً وأشد شفقة.
2 - ثم الجد أبو الأب وإن علا، فهو أحق بالولاية من الابن وسائر الأولياء؛ لأن الجد له إيلاد وتعصيب، فيقدم على الابن كالأب.
3 - ثم الابن وابنه وإن سفل: فهو أولى بتزويج أمه، لحديث أم سلمة السابق.
4 - ثم الأخ الشقيق: لكونه أقرب العصبات بعد الأب والابن.
5 - ثم الأخ لأب مثل الشقيق.
6 - ثم أولاد الإخوة وإن سفلوا.
7 - ثم العمومة ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم عمومة الأب.
8 - ثم المعتق، ثم أقرب عصبته منه.
9 - ثم السلطان، فلا خلاف بين أهل العلم في أن للسلطان ولاية تزويج المرأة عند عدم أوليائها، أو عضلهم، لحديث عائشة المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» والسلطان هنا: هو الإمام أو الحاكم أو من فوض إليه الولاية.
والخلاصة: إن البنوة تقدم على الأبوة عند الحنفية والمالكية، وتقدم الأبوة على البنوة عند الحنابلة، وليس للأبناء ولاية عند الشافعية.
__________
(1) كشاف القناع: 52/5 وما بعدها، المغني: 456/6-460.(9/195)
سادساً ـ المولى عليه أو من تثبت عليه الولاية:
الولاية عند الجمهور غيرالحنفية تنقسم إلى ولاية إجبار وولاية اختيار كما تقدم، ولكل منهما أصناف تثبت عليها.
من تثبت عليه ولاية الإجبار: تثبت ولاية الإجبار على من يأتي (1) :
1ً - عديم الأهلية أو ناقصها بسبب الصغر أو الجنون أو العته: تثبت ولاية الإجبار عند الجمهور غير الحنفية على الصغار والمجانين والمعتوهين من غير فرق بين ذكر وأنثى، وبين بكر وثيب، إلا أن المالكية استثنوا صاحبة الجنون المتقطع، فتنتظر إفاقتها لتستأذن، فإن أفاقت زوَّجها الولي برضاها، فعلِّة ولاية الإجبار عند المالكية: إما البكارة أو الصغر.
واستثنى الشافعية الثيب الصغيرة، فلا إجبار عليها؛ لأن علة ثبوت ولاية الإجبار عندهم هي البكارة فقط، وهذه العلة لا تتحقق في الثيب الصغيرة، وحكمها: أنها لا تزوج حتى تبلغ، وتأذن لوليها في زواجها، للحديث السابق: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها سكوتها» ورد عليهم بأن المراد من الثيب هنا البالغة فقط.
__________
(1) البدائع: 241/2، الشرح الصغير: 351/2-357، مغني المحتاج: 149/3 وما بعدها، كشاف القناع: 43/5-49، الشرح الكبير: 221/2-224، الدر المختار: 407/2-415.(9/196)
وقال الحنابلة مثل المالكية: علة ولاية الإجبار إما البكارة أو الصغر، فللأب تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ، بغير إذنهم؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً عند أبي داود: «الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها» فلما قسم النساء قسمين، وأثبت الحق لأحدهما، دل على نفيه عن الآخر وهي البكر، فيكون وليها أحق منها بالولاية.
وللأب أيضاً تزويج ثيب دون تسع سنين؛ لأنه لا إذن لها.
وليس ذلك للجد ولا لسائر الأولياء، كما أنه ليس لسائر الأولياء غير الأب تزويج حرة كبيرة بالغة ثيباً كانت أوبكراً إلا بإذنها، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ... » إلا المجنونة فلسائر الأولياء تزويجها إذا ظهر منها الميل إلى الرجال، بسبب الحاجة ودفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها عن الفجور.
ويتفق الحنفية مع المالكية والحنابلة في ثبوت الولاية على الصغير والصغيرة، والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة، سواء أكانت الصغيرة بكراً أم ثيباً، فلا تثبت هذه الولاية على البالغ العاقل، ولا على العاقلة البالغة؛ لأن علة ولاية الإجبار عندهم هي الصغر وما في معناه، وهذه العلة متحققة في الصغار والمجانين دون غيرهم.
2ً - البكر البالغة العاقلة: تثبت عليها عند الجمهور غير الحنفية ولاية الإجبار: لأن العلة هي البكارة، للمفهوم من حديث: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها» فقد جعلت الثيب أحق بنفسها من وليها، ولم يجعل البكر أحق بنفسها من وليها كالثيب، وهذا هو الإجبار بعينه.(9/197)
ولا تثبت عليها هذه الولاية عند الحنفية، لحديث: «والبكر تستأمر في نفسها» وفي رواية: «والبكر يستأمرها أبوها» والاستئمار: معناه طلب الأمر منها وهو الإذن، فيكون استئذانها أمراً ضرورياً، ولا يصح أن تزوج إلا برضاها. وقد أخرج النسائي وغيره عن عائشة: «أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه، يرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قال: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء» (1) والظاهر أنها بكر (2) . وهو يدل على أن البكر البالغة العاقلة لا تزوج إلا برضاها.
3ً - الثيب البالغة العاقلة التي زالت بكارتها بأمر عارض كالضرب والوثب والعود ونحوها، أو زالت بكارتها بالزنا أوالغصب على المشهور عند المالكية: يزوجها الولي المجبر (الأب ووصيه) ولو عانساً بلغت ستين سنة أو أكثر؛ لأن ثبوت الولاية إنما هو للجهل بأمور الزواج ومصالحه، ومن زالت بكارتها بغير الزواج الصحيح، أو الفاسد الذي يدرأ الحد لشبهة لاتزال جاهلة بهذه الأمور، فتبقى الولاية عليها كالبكر البالغة.
__________
(1) سبل السلام: 122/3 وما بعدها، نيل الأوطار: 127/6.
(2) ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً ابن أخيه، ونصه: «أن جارية بكراً أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأعل بالإرسال.(9/198)
والجمهور لا يقولون بثبوت ولاية الإجبار على الثيب البالغة، مهما كان سبب الثيوبة غير السقطة ونحوها. قال الحنفية: من زالت بكارتها بوثبة أي نطة أو درور حيض أو حصول جراحة أوتعنيس أي كبر: بكر حقيقة، وتعد بكراً بالتفريق بجب أو عُنة أو طلاق أو موت بعد خلوة قبل وطء. وتعد الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد ثيباً. ومن زنت مرة فقط ولم تحد بالزنا بكر حكماً فيكتفى بسكوتها.
وقال الحنابلة: الثيب: من وطئت في القبل لا في الدبر، بآلة الرجال، لا بآلة غيرها، ولو كانت وطئت بزنا. وقال الشافعية: الثيب: من زالت بكارتها، سواء زالت البكارة بوطء حلال كالنكاح، أو حرام كالزنا، أو بشبهة في نوم أو يقظة، ولا أثر لزوالها بلا وطء في القبل كسقطة وحدة طمث، وطول تعنيس وهو الكبر، أو بأصبع ونحوه في الأصح، فحكمها حينئذ حكم الأبكار.
من تثبت عليه ولاية الاختيار:
تثبت ولاية الاختيار عند المالكية على أصناف أربعة، هي ما يأتي بمقارنتها مع المذاهب الأخرى (1) :
1ً - الثيب البالغة التي زالت بكارتها بزواج صحيح، أو فاسد ولو مجمع على فساده إن درأ الحد لشبهة: فهذه لا تزوج بالاتفاق إلا برضاها وإذنها، لصريح الحديث المتقدم: «الثيب أحق بنفسها من وليها» وفي رواية «والثيب تشاور» فإنه يدل على أن الثيب البالغة لا تزوج إلا برضاها.
2ً - البكر البالغة التي رشَّدها أبوها أو وصيه: بأن جعلها رشيدة، أو رفع الحجر عنها، لما قام بها من حسن التصرف. ويتفق الحنفية مع المالكية في الولاية
__________
(1) الشرح الصغير: 353/2-357، الشرح الكبير: /223 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 198 وما بعدها، البدائع: 247/2، مغني المحتاج: 149/3، كشاف القناع: 46/5 وما بعدها.(9/199)
عليها؛ لأن البالغة العاقلة عند أبي حنيفة وزفر لا تزوج إلا برضاها، بكراً كانت أو ثيباً، لكن الولاية عليها في رأي الحنفية هي ولاية ندب واستحباب.
ويخالف الشافعية والحنابلة في صفة الولاية فيجعلون الولاية عليها ولاية جبر.
3ً - البكر البالغة التي أقامت مع الزوج سنة، ثم تأيمت وهي بكر: لأن إقامة المرأة في بيت الزوج سنة تنزل منزلة الثيوبة في تكميل المهر، فتنزل كذلك في الرضا بالزواج. والحنفية مع المالكية في هذا كالحالة السابقة، ويخالفهم الشافعية والحنابلة، فيجعلون الولاية عليها ولاية جبر.
4ً - اليتيمة (1) الصغيرة التي خيف عليها، إما لفساد يلحقها في دينها، بأن كان يتردد عليها أهل الفسوق، أو كانت تتردد هي عليهم، أو لفساد في دنياها كضياع مالها، أو فقرها وقلة الإنفاق عليها، فللولي غير الأب ووصيه أن يزوجها إذا بلغت عشر سنين، بعد مشاورة القاضي، ليثبت عنده سنها، ويتأكد أنها خلية من زوج وعدة وغيرهما من الموانع الشرعية، ورضاها بالزوج، وأنه كفئها في الدين والحرية والحال، وأن المهر مهر مثلها، فيأذن لوليها في العقد، ولا يتولى العقد بنفسه مع وجود غيره من الأولياء.
سابعاً ـ كيفية إذن المرأة بالزواج:
اتفق الفقهاء على كيفية صدور الإذن والرضا من المرأة بالزواج بحسب حالها بكراً أو ثيباً (2) ، عملاً بالأحاديث الكثيرة، منها: «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر
__________
(1) غير المجبرة متى كانت صغيرة كانت يتيمة، إذ لو كان لها أب، لكان مجبراً لها.
(2) البدائع: 242/2، الدر المختار: 411/2-414، الشرح الصغير: 366/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 150/3، كشاف القناع: 47/5-48.(9/200)
رضاها صمتها» (1) ، ومنها «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» (2) وفي رواية لهذا الحديث لأبي داود والنسائي: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر، وصمتها إقرارها» سواء أكان الإذن واجباً بالنسبة للولي غير المجبر أم مستحباً بالنسبة للولي المجبر.
وبناء عليه، إذا كانت المرأة بكراً: فرضاها يكون بالسكوت (3) ؛ لأن البكر تستحي عادة من إظهار الرضا بالزواج صراحة، فيكتفى منها بالسكوت، محافظة على حيائها. ويندب عند المالكية إعلامها بأن سكوتها رضا وإذن منها، فلا تزوج إن منعت، بأن قالت: لا أرضى أو لا أتزوج، أو ما في معناه.
ومثل السكوت: كل مايدل على الرضا كالضحك بغير استهزاء، والتبسم، والبكاء بلا صوت أو صياح أو ضرب خد، فإن كان التبسم أو الضحك للاستهزاء، وكان البكاء بصياح أو ضرب خد، لم يكف ولم يعد إذناً ولا رداً؛ لأنه يشعر بعدم الرضا، فلو رضيت صراحة بعده، انعقد العقد.
أما إن كانت المرأة ثيباً: فرضاها لا يكون إلا بالقول الصريح، للحديث السابق: «الثيب تعرب عن نفسها» أي تفصح عن رأيها وعما في ضميرها من رضا أو منع، ولا يكتفى منها بالصمت؛ لأن الأصل ألا ينسب إلى ساكت قول، وألا يكون السكوت رضا، لكونه محتملاً في نفسه، وإنما اكتفي به في البكر للضرورة؛ لأنها تستحي عادة من التصريح عن رغبتها في الزواج، والثابت بالضرورة يتقدر
__________
(1) رواه الأثرم وابن ماجه.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس (نيل الأوطار: 120/6) .
(3) قال الحنفية: إن زنت المرأة مرة ولم يتكرر زناها، ولم تحد به، فهي بكر حكماً أي يكتفى بسكوتها كيلا تتعطل مصالحها عليها، وقد ندب الشارع إلى ستر الزنا، فكانت بكراً شرعاً. بخلاف ما إذا اشتهر زناها.(9/201)
بقدرها، ولاضرورة في حق الثيب؛ لاعتيادها معاشرة الرجال، فلا تستحي عادة من إعلان رضاها أو رفضها، فلا يكتفى بسكوتها عند الاستئذان.
وقال المالكية: يشارك الثيب أبكار ستة، لا يكتفى منهن بالصمت، بل لا بد من الإذن بالقول الصريح كالثيب وهن:
1ً - البكر التي رشدها أبوها أو وصيه: بأن أطلق الحجر عنها في التصرف المالي، وهي بالغ، فلا بد من إذنها بالقول، وقد تقدم أنه لا جبر لأبيها عليها.
2ً - البكر التي عُضِلت: أي منعها وليها من الزواج بدون مسوغ، ورفعت أمرها إلى القاضي، فتولى تزويجها، فلا بد من إذنها بالقول.
3ً - البكر المُهْمَلة التي لا أب لها ولا وصي: إذا زوجت بشيء من العروض (الأمتعة) ، وهي من قوم لا يزوجون بالعروض، سواء أكان كل الصداق أم بعضه، أو يتزوج قومها بعَرَض معين، فزوجها وليها بغيره، فلا بد من نطقها بأن تقول: رضيت بذلك المهر العرض.
4ً - البكر ولو كانت مُجْبَرة إذا زوجت برقيق، فلا بد من إذنها بالقول؛ لأن العبد ليس بكفء للحرة.
5ً - البكر، ولو كانت مجبَرة إذا زوجت برجل فيه عيب يوجب لها الخيار كجذام وبرص وجنون وخصاء، فلا بد من نطقها بأن تقول: رضيت به.
6ً - البكر غيرالمجبرة التي افتات (1) (تعدى) عليها وليها غير المجبر، فعقد
__________
(1) يصح الافتيات (عدم الاستئذان) على المرأة مطلقاً بكراً أو ثيباً، وعلى الزوج أيضاً بشروط ستة:
الأول ـ أن يقرب الرضا من العقد: كأن يكون العقد بالمسجد أو بالسوق مثلاً، ويبلغها الخبر من وقته، قبل مضي اليوم.
الثالث ـ ألا يرد الزواج قبل الرضا ممن افتيت عليه منهما، فإن رده الزوج فلا يصح منه الرضا بعدئذ. وإذا وقع من المرأة رد قبل الرضا، فلا عبرة برضاها بعده.
الرابع ـ أن يكون من افتيت عليها بالبلد حال الافتيات والرضا، فإن كان في بلد آخر، لم يصح.
الخامس ـ ألا يقر الولي بالافتيات حال العقد: بأن سكت أو ادعى أنه مأذون، فإن أقرّ به لم يصح.
السادس ـ ألا يكون الافتيات على الزوجين معاً: فإن كان عليهما معاً لم يصح، ولا بد من فسخه (الشرح الصغير: 368/2 وما بعدها، الدسوقي: 228/2) .(9/202)
الثاني ـ أن يكون الرضا بالقول، أي بالنطق: فلا يكفي الصمت. = عليها بغير إذنها، ثم بلغها خبر زواجها، فرضيت، ويصح الزواج، ولا بد من رضاها بالقول صراحة، حتى ولو كانت قد رضيت به بالخطبة، فلا بد على كل حال من استئذانها في العقد؛ لأن الخطبة غير لازمة، فلا تغني عن استئذانها في العقد وتعيين الصداق.
ويتفق الحنابلة مع المالكية في هذا فإنهم قالوا: إذا زوجت التي يعتبر إذنها بغير إذنها، وقلنا: يقف على إجازتها، فإجازتها بالنطق أو ما يدل على الرضا من التمكين من الوطء أو المطالبة بالمهر والنفقة (1) .
ثامناً ـ عضل الولي وحكمه:
العضل: هو منع الولي المرأة العاقلة البالغة من الزواج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه. وهو ممنوع شرعاً ويحتاج لبيان حكمه عند الفقهاء (2) .
أما المنع الشرعي عنه: فقد نهى الله تعالى جميع الأولياء عن العضل بقوله: {وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة:232/2] قال معقل بن يسار: «زوجت أختاً لي من رجل فطلّقها، حتى إذا
__________
(1) المغني: 476/6.
(2) البدائع: 248/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 232/2، مغني المحتاج: 153/3 وما بعدها، كشاف القناع: 50/5، 57.(9/203)
انقضت عدتها، جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ولا تعضلوهن} [البقرة:232/2] فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه» (1) . ولكن النهي في رأي الفقهاء ليس مطلقاً.
وليس للولي العضل عند الشافعية والحنابلةوأبي يوسف ومحمد، لنقصان المهر، أو لكونه من غير نقد البلد إذا رضيت به، فسواء طلبت التزويج بمهر مثلها أم دونه، لم يجز العضل؛ لأن المهر محض حقها، وعوض يختص بها، فلم يكن للأولياء الاعتراض عليها فيه؛ ولأنها لو أسقطته بعد وجوبه سقط كله، فبعضه أولى.
وقال أبو حنيفة: للأولياء منع المرأة من التزويج بدون مهر مثلها؛ لأن عليهم فيه عاراً، وفيه ضرراً على نسائها لنقص مهر مثلهن.
ويرى المالكية أن العضل يتحقق في مسألتين: الأولى: إذاطلبها كفء ورضيت به، طلبت التزويج به أو لا، والثانية: إذا دعت لكفء، ودعا وليها لكفء آخر.
وحصر الشافعية في الأصح والحنابلة العضل في المسألة الأولى، فقالوا: لو عينت المرأة كفئاً، وأراد الأب غيره، فله ذلك.
وأضاف الحنابلة صورة أخرى للعضل وهي: إذا امتنع الخُطاب لشدة الولي، لكن الظاهرأنه لا حرمة على الولي هنا؛ لأنه ليس له فعل ذلك المنع.
__________
(1) رواه البخاري.(9/204)
ممن يكون العضل؟
أـ إن كان الولي أباً مجبراً وامتنع من تزويج ابنته المجبرة، فلا يعد عاضلاً إلا إذا تحقق منه الإضرار بها، وظهر الضرر بالفعل، كأن يمنعها من الزواج لتقوم بخدمته، أو ليستثمرها بأن يستولي على مرتبها الوظيفي، ويخشى أن تقطعه عنه لو تزوجت.
أما مجرد رد خاطب كفء رضيت به ابنته المجبرة، فلا يعد عضلاً، بل لا يعد عاضلاً لمجبرته برده لكفئها رداً متكرراً، سواء أكان الخاطب واحداً أم أكثر؛ لأن ما جبل عليه الأب من الحنان والشفقة على بنته، مع جهل البنت بمصالح نفسها، يجعله لا يرد الخاطب إلا إذا علم من حالها أو من حاله ما لا يوافق، أو ما يدعو إلى الرد، وقد روي أن الإمام مالك منع بناته من الزواج، وقد رغب فيهن خيار الرجال، وفعل مثله العلماء قبله كابن المسيب وبعده، ولم يكن قصدهم الضرر ببناتهم، فلم يعد واحداً منهم عاضلاً.
ويعد كالأب عند المالكية: وصي الأب المجبر، لا يكون عاضلاً بمجرد رد الخاطب الكفء الذي رضيت به المرأة، إلا إذا تحقق منه الإضرار بالمرأة. وقيل: إن الوصي المجبر يعد عاضلاً برد أول كفء.
ب ـ أما إن كان الولي غير مجبر، سواء أكان أباً أم غيره، فإنه يعد عاضلاً في المسألتين السابقتين اللتين ذكرهما المالكية، وفي المسألة الأولى عند الشافعية والحنابلة.
حكم العضل:
يفسق الولي بالعضل إن تكرر منه؛ لأنه معصية صغيرة. وإذا عضل الولي تنتقل الولاية عند الإمام أحمد إلى الأبعد؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو جن، ولأنه يفسق بالعضل ـ كما سبق ـ فتنتقل الولاية عنه، كما لو شرب الخمر. فإن عضل الأولياء كلهم، زوج الحاكم. وقال الحنفية والمالكية والشافعية، وفي رواية عن أحمد: إذا عضل الولي ولو كان مجبراً، تنتقل الولاية للسلطان، أي القاضي الآن، ولا تنتقل للأبعد، للحديث السابق: «فإذا اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له» ، ولأنه بالعضل خرج من أن يكون ولياً، ويصبح ظالماً، ورفع الظلم موكول للقاضي.(9/205)
تاسعاً ـ غيبة الولي وأسره أو فقده:
للفقهاء آراء ثلاثة في غيبة الولي: رأي الحنفية والحنابلة، ورأي المالكية، ورأي الشافعية (1) : أما رأي الحنفية والحنابلة: فهو إن غاب الولي غيبة منقطعة، ولم يوكل من يزوج، تنتقل الولاية لمن هو أبعد منه من العصبات، فلوغاب الأب فللجد تزويج المرأة، دون الحاكم، للحديث المتقدم: «السلطان ولي من لا ولي له» وهذه المرأة لها ولي، ولأن هذه ولاية تحتاج إلى نظر وتقدير مصلحة، وليس من النظر التفويض إلى من لا ينتفع برأيه، ففوض النظر إلى الأبعد، وهو مقدم على السلطان، كما إذا مات الأقرب.
وأخذ القانون السوري (م 23) بهذا الرأي، فنص على أنه: إذا غاب الولي الأقرب، ورأى القاضي أن في انتظار رأيه فوات مصلحة في الزواج، انتقلت الولاية إلى من يليه.
والغيبة المنقطعة في رأي الحنفية: أن يكون في بلد لا تصل إليها القوافل في السنة، إلا مرة واحدة، وهو اختيار القدوري، وقيل: أدنى مدة السفر، أي مسافة القصر (89 كم) ؛ لأنه لا نهاية لأقصاه، وهو اختيار بعض المتأخرين.
ويتفق الحنابلة مع الرأي الثاني، فتكون الغيبة المنقطعة فوق مسافة القصر؛ لأن من دونها في حكم الحاضر.
وأما رأي الشافعية: فهو إن غاب الولي الأقرب نسباً، إلى مرحلتين، أي مسافة القصر، ولا وكيل له حاضر في البلد، زوج السلطان أونائبه أي سلطان بلدها لا سلطان غير بلدها، ولا الأبعد على الأصح؛ لأن الغائب ولي، والتزويج حق له، فإذا تعذر استيفاؤه منه ناب عنه الحاكم. فإن غاب دون مسافة القصر لا يزوج إلا بإذنه في الأصح، لقصر المسافة، فيراجع فيحضر، أو يوكل كما لو كان مقيماً.
وأما رأي المالكية ففيه تفصيل: بحسب غيبة الولي المجبر، وغيبة الولي غير المجبر.
__________
(1) فتح القدير: 415/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 229/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 157/3، المغني: 478/6 وما بعدها، كشاف القناع: 57/5، القوانين الفقهية: ص200.(9/206)
أـ فإن كان الغائب هو الولي المجبر وهو الأب ووصيه: فإما أن تكون الغيبة قريبة أو بعيدة. فإن كانت الغيبة قريبة كعشرة أيام ذهاباً، فلا تزوج المرأة التي في ولايته حتى يعود، إذا كانت النفقة جارية عليها أي تجد النفقة الكافية، ولم يخش عليها الفساد، وكانت الطريق مأمونة، وإلا زوجها القاضي.
وإن كانت الغيبة بعيدة كثلاثة أشهر فأكثر، كالسفر في الماضي إلى أفريقية: فإن كان يرجى قدومه، كمن خرج لتجارة أو حاجة، فلا تزوج المرأة حتى يعود. وإن كان لا يرجى قدومه، فللقاضي دون غيره من الأولياء أن يتولى تزويجها إذا كانت بالغاً، ولو دامت نفقتها على الراجح، وإذنها صمتها على الصواب. فإن لم تكن بالغاً، لا يزوجها ما لم يخف عليها الفساد، فإن خيف فسادها، زوجها ولو جبراً على المعتمد، سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، ولو كانت غيبة الولي قريبة.
ب ـ وإن كان الغائب هو الولي غير المجبر كالأخ والجد:
فإن كانت الغيبة قريبة كثلاثة أيام من بلد المرأة ونحوها، ودعت إلى الزواج بكفء، وأثبتت ما تدعيه من الغيبة والمسافة والكفاءة، زوجها الحاكم دون الولي الأبعد؛ لأن الحاكم وكيل الغائب.
وإن كانت الغيبة دون الثلاث، أرسل إليه الحاكم، فإن حضر أو وكل أحداً عنه، تم المطلوب، وإلا زوجها الولي الأبعد دون القاضي.
وإن كانت الغيبة بعيدة كأكثر من ثلاثة أيام، فللقاضي أن يزوجها؛ لأنه وكيل الغائب، ولو زوجها الولي الأبعد صح مع الكراهة. وهذا إذا لم يكن للغائب وكيل مفوض، فإن كان له وكيل مفوض تولى الزواج؛ لأنه مقدم على غيره إذ هو بمثابة الأصيل.
الغيبة بسبب الأسر أو الفقد:
المشهور من مذهب المالكية: أنه إذا كانت الغيبة بسبب أسر الولي الأقرب أو فقده، ولم يعلم مكانه، ولم يعرف خبره، زوج الولي الأبعد، ولا تنتقل إلى القاضي، من غير فرق بين الولي المجبر وغير المجبر؛ لأن الأسر أو الفقد بمنزلة الموت.
وكذلك قال الحنابلة: إن كان الولي القريب محبوساً أو أسيراً في مسافة قريبة لا تمكن مراجعته، فهو كالبعيد، فتنتقل الولاية للأبعد.(9/207)
المبحث الثالث ـ الوكالة في الزواج:
يستمد الوكيل سلطته من الموكل، فينفذ تصرفه عليه، فتكون الوكالة نوعاً من الولاية، لنفاذ تصرف الوكيل على الموكل كنفاذ تصرف الولي على المولى عليه. وأبحث هنا الأمور التالية: حكم التوكيل بالزواج، مدى صلاحية الوكيل، حقوق العقد في الوكالة بالزواج، انعقاد الزواج بعاقد واحد (1) .
أولاً ـ حكم التوكيل بالزواج:
يرى الحنفية: أنه يصح التوكيل بعقد الزواج من الرجل والمرأة إذا كان كل منهما كامل الأهلية أي بالغاً عاقلاً حراً؛ لأن للمرأة عندهم أن تزوج نفسها، فلها أن توكل غيرها في العقد؛ عملاً بالقاعدة الفقهية القائلة: كل ما جاز للإنسان أن يباشره من التصرفات بنفسه، جاز له أن يوكل غيره فيه، إذا كان التصرف يقبل النيابة.
ويصح التوكيل بالعبارة أو الكتابة، ولا يشترط بالاتفاق الإشهاد عند صدور التوكيل، وإن كان يستحسن للوكيل أن يشهد على التوكيل، للاحتياط خوفاً من الإنكار عند النزاع.
ويرى الجمهور غيرالحنفية: أنه لا يصح للمرأة توكيل غير وليها في الزواج؛ لأنها لا تملك إبرام العقد بنفسها، فلا تملك توكيل غيرها فيه. لكن يجوز لولي المرأة المجبر التوكيل في التزويج بغير إذنها، كما يزوجها بغير إذنها. ولا يشترط تعيين الزوج، فيجوز التوكيل مطلقاً ومقيداً، فالمقيد: التوكيل في تزويج رجل بعينه. والمطلق: التوكيل في تزويج من يرضاه أو من يشاء.
ويوكل الولي مثله في الذكورة والبلوغ والحرية والإسلام وعدم الإحرام بحج أو عمرة، وعدم العَتَه (ضعف العقل) .
__________
(1) فتح القدير: 427/2-433، تبيين الحقائق: 132/2-135، الشرح الصغير: 372/2، الشرح الكبير: 231/2-232، مغني المحتاج: 157/3 وما بعدها، المغني: 462/6 وما بعدها، المهذب: 38/2.(9/208)
وأباح المالكية للزوج أن يوكل من قام به مانع من موانع الولاية غير مانع الإحرام بحج أو عمرة، والعَتَه (ضعف العقل) فيجوز له أن يوكل نصرانياً أو عبداً أو امرأة أوصبياً مميزاً على عقد نكاحه.
وأما الولي غير المجبر: فلا يجوز له التوكيل عند الشافعية إلا بإذن المرأة، فإن قالت له: وكِّلُ وكَّلَ، وإن نهته فلا يوكل. وإن قالت له: زوجني، فله التوكيل في الأصح؛ لأنه بالإذن متصرف بالولاية، فأشبه الوصي والقيم، وهما يتمكنان من التوكيل بغير إذن. ولو وكل الولي غير المجبر قبل استئذان المرأة في النكاح، لم يصح في الصحيح، لأنه لا يملك التزويج بنفسه حينئذ، فكيف يوكل غيره؟
وقال الحنابلة: لا يعتبر في صحة الوكالة إذن المرأة في التوكيل، ولا حضور شاهدين، سواء أكان الموكل أباً أم غيره؛ لأنه إذن من الولي في التزويج، فلم يفتقر إلى إذن المرأة، ولا إلى إشهاد، كإذن الحاكم، لكن يثبت للوكيل ما يثبت للموكل، فإن كان الولي مجبراً لم يحتج لاستئذان المرأة، وإن كان غير مجبر احتاج إلى إذنها ومراجعتها؛ لأنه نائب.
وعبارة وكيل الولي في عقد الزواج كما أوضح الشافعية: هي أن يقول: زوجتُك بنت فلان. ويقول الولي لوكيل الزوج: زوجت بنتي فلاناً، فيقول وكيله: قبلت نكاحها له.
ثانياً ـ مدى صلاحية الوكيل:
الوكيل في الزواج كالوكيل في سائر العقود، فلا يجوز له عند الحنفية أن يوكل غيره؛ لأن الموكل رضي برأيه لا برأي غيره، إلا إن أذن له الموكل، بأن يوكل عنه من شاء، أو فوض إليه أمر زواجه، فله حينئذ أن يوكل عنه.
وتتحدد صلاحيات الوكيل عند الحنفية بحسب نوع الوكالة مطلقة أو مقيدة؛ لأن الوكيل يستمد سلطته من الموكل، فلا يملك إلا ما وكله، وينفذ عليه تصرفه فيما وكله فيه، ويكون فضولياً فيما عداه، فيتوقف نفاذ التصرف على إجازة الموكل، والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.(9/209)
1 - الوكالة المقيدة: بأن يقيد الموكل الوكيل في التزويج بأوصاف معينة. فيتقيد فيها الوكيل بما قيده به الموكل، وليس له أن يخالفه فيما قيده به، إلا إذا كانت المخالفة لخير الموكل، فحينئذ ينفذ العقد على الموكل. وإن تقيد بالقيد نفذ العقد أيضاً، وإن خالف القيد توقف عند الحنفية والمالكية نفاذ العقد على إجازة الموكل، حتى ولو حصل دخول بالمرأة دون أن يعلم الموكل بالمخالفة.
وعلى هذا إن قيده بامرأة معينة بالاسم، أو من الأسرة الفلانية، فإن زوجه بها نفذ العقد عليه، وإن خالف فزوجه غيرها كان مخالفاً، وتوقف نفاذ العقد على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل؛ لأن الوكيل يصبح بالمخالفة فضولياً، وعقد الفضولي عند الحنفية والمالكية موقوف على إجازة صاحب الشأن فيه.
وإن قيده بمهر معين، فزوجه به، كان العقد نافذا على الموكل، وإن خالف كان العقد موقوفاً على إجازة الموكل، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير الموكل، فيصح العقد وينفذ، كأن قال: زوجني بألف فزوجه بأقل من ألف، نفذ العقد من غير إجازة الموكل. ومن أمر رجلاً أن يزوجه امرأة، فزوجه اثنتين في عقد واحد، لم تلزمه واحدة منهما؛ لأنه لا وجه إلى تنفيذهما للمخالفة، ولا إلى التنفيذ في إحداهما لا على التعيين، للجهالة، ولا إلى تعيين واحدة منهما، لعدم الأولوية، فتعين التفريق.(9/210)
2 - الوكالة المطلقة: بأن لم يعين الموكل امرأة معينة ولا وصفاً معيناً ولا مهراً. اختلف أئمة الحنفية فيها:
رأى أبو حنيفة: أن للوكيل أن يزوجه بأية امرأة ولو غير كفء له، وبأي مهر، إلا إذا كان التصرف موضع تهمة؛ لأن القاعدة فيه عنده أن المطلق يجري على إطلاقه، فيرجع إلى إطلاق اللفظ وعدم التهمة، فله أن يزوجه بمقدار مهر المثل أو أكثر، أو يزوجه عمياء أو شلاء أو شوهاء، وإذا كان الموكل هو المرأة فينفذ العقد عليها متى كان الزوج كفئاً (1) سواء أكان الزواج بمهر المثل أم أقل، وسواء أكان الزوج صحيحاً أم مشوهاً، عملاً بالإطلاق، فأبو حنيفة يراعي عبارة الموكل ولفظه.
ورأى الصاحبان وباقي المذاهب: أنه يتقيد الوكيل بالمتعارف استحساناً؛ لأن الإطلاق مقيد عرفاً وعادة بالكفء وبالمهر المألوف، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا زوجه امرأة كفئاً ملائمة له، وهي السليمة من العيوب وبمهر لا غبن فيه، كان الزواج نافذاً على الموكل، وإن زوجه بعمياء أو مقطوعة اليدين أو مفلوجة أو مجنونة أو رتقاء، أو بمهر مصحوب بغبن فاحش، توقف العقد عند الصاحبين والمالكية على إجازة الموكل، لمخالفته المعروف بين الناس في الوكالات. ولم يصح العقد عند الشافعية والحنابلة.
وهذا هو الرأي الراجح، وينبغي أن تكون عليه الفتوى عند الحنفية، وهو المعمول به في محاكم مصر. وبه يتبين أن الصاحبين يحكمان العرف والعادة.
ولكن هناك مسائل اتفق عليها أبو حنيفة مع صاحبيه وهي:
أـ إذا كانت المرأة هي الموكلة فعلى الوكيل أن يزوجها بكفء؛ لأن المرأة لا ترغب عادة إلا في الكفء، لمصلحة نفسها، ولئلا يعترض عليها أولياؤها.
ب ـ إذا وكل رجل غيره أن يزوجه امرأة عمياء، فزوجه مبصرة، فإن العقد ينفذ عليه؛ لأنها مخالفة إلى خير مما عين الموكل.
__________
(1) الفرق بين الرجل والمرأة: أن المرأة تعير بغير الكفء، فيتقيد إطلاقها به، بخلاف الرجل فإنه لا يعيره أحد بعدم كفاءتها له: لأنه مستفرش واطئ لا يغيظه دناءة الفراش.(9/211)
جـ ـ إذا وكل الرجل آخر أن يزوجه، فزوجه صغيرة لا يجامع مثلها، جاز اتفاقاً. فإن كانت الصغيرة بنتاً له أو بنت أخيه التي في ولايته، لم ينفذ العقد على الموكل لتحقق التهمة المانعة من نفاذ العقد، وهي العمل لمصلحته.
وإن كانت بنتاً له كبيرة برضاها لم ينفذ العقد عند أبي حنيفة لتحقق التهمة، وينفذ عند الصاحبين؛ لأنه ليس له عليها ولاية إجبار.
أما إن زوجه الوكيل أختاً له كبيرة برضاها، نفذ العقد بالاتفاق، لانتفاء التهمة.
د ـ إذا وكله أن يزوجه فلانة أو فلانة، فزوجه إحداهما، نفذ العقد؛ لوجود التخيير في التوكيل.
هـ ـ إذا وكلت امرأة رجلاً في تزويجها، فزوجها من نفسه، لم ينفذ العقد عليها إلا بالإجازة. وكذا إذا وكل الرجل امرأة أن تزوجه فزوجته من نفسها، لم ينفذ العقد عليه إلا بإجازته، لتحقق التهمة في الحالتين. وكذا لا ينفذ العقد عند أبي حنيفة إن زوج الوكيل موكلته من أبيه أو ابنه لتحقق التهمة بسبب البنوة. وينفذ العقد عند الصاحبين؛ لأن البنوة ليست من التهمة عندهما. وتلافى المالكية بعض هذه الخلافات فقالوا: إذا وكلت وليها غير المجبر أن يزوجها ممن أحب، وجب عليه أن يعين لها الزوج قبل العقد، لاختلاف أغراض النساء في أعيان الرجال. فإن لم يعين الزوج لها، كان العقد موقوفاً على إجازتها، سواء زوجها من نفسه كابن العم والكافل والحاكم، أو زوجها من غيره، لاختلاف أغراض النساء من الرجال.(9/212)
ثالثاً ـ حقوق العقد في الوكالة بالزواج:
حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها لتنفيذ مقتضى العقد، كالتسليم والتسلم والإيفاء والاستيفاء. ومن المتفق عليه أن حقوق عقد الزواج ترجع إلى الأصيل، وأما الوكيل فهو مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا ترجع إليه حقوق العقد، فلا يطالب بإزفاف المرأة إلى زوجها، ولا بأداء المهر ولا غيره من الواجبات كالنفقة إلا أن يكون كفيلاً بما ذكر، وهذا بخلاف البيع أو الشراء، فإن حقوق العقد ترجع عند الجمهور غير الحنابلة إلى الوكيل لا إلى الموكل.
وحكم الرسول في الزواج كالوكيل.
وبناء عليه، تطالب الزوجة بزفافها إلى زوجها، ويطالب الزوج نفسه بأداء المهر إلى زوجته، وتقبض المرأة مهرها، وليس لوكيلها قبضه إلا بإذن منها صراحة أو دلالة، وإذا قبضه الأب أو الجد ولم تطالب به المرأة، كان سكوتها عند الحنفية إذناً دلالة للأب أوالجد بالقبض، فيصح قبضه وتبرأ ذمة الزوج من المهر، عملاً بما هو المعتاد بين الناس أن يقبض الآباء مهور بناتهم. وإذا كانت الزوجة ثيباً، فلا بد من الإذن الصريح بالقبض إذا كان الوكيل غيرا لأب أو الجد، ولا يعد سكوتها رضا بالقبض. وفصل المالكية بين المرأة المجبرة وغير المجبرة، فإذا كانت مجبرة، فلوليها المجبر قبض مهرها بدون توكيل منها، وإذا كانت رشيدة غير مجبرة، فليس لوليها قبض المهر إلا بتوكيل صريح منها بالقبض.(9/213)
رابعاً ـ انعقاد الزواج أحياناً بعاقد واحد:
الأصل في العقود تعدد العاقدين، لكن أجاز جمهور الحنفية غير زفر انعقاد الزواج أحياناً بعاقد واحد، وهو كما بان سابقاً في أحوال خمسة هي (1) :
الأولى ـ أن يكون متولي العقد أصيلاً عن نفسه وولياً من الجانب الآخر: فيجوز لابن العم أن يزوج بنت عمه من نفسه؛ لأن الوكيل في النكاح سفير ومعبر عن الأصيل، ولا يرجع إلىه شيء من حقوق العقد.
الثانية ـ أن يكون العاقد أصيلاً عن نفسه ووكيلاً عن الطرف الآخر: كما لو وكلته امرأة أن يزوجها من نفسه، فقال أمام الشهود: قد وكلتني فلانة بنت فلان أن أزوجها من نفسي، فاشهدوا أني تزوجتها.
وهذا بخلاف ما لو وكلته بتزويجها من رجل، فزوجها من نفسه، أو من أبيه أو ابنه عند أبي حنيفة، لم يصح زواجها؛ لأنها نصبته مزوجاً لا متزوجاً. وكذا لو وكلته في أن يتصرف في أمرها أو قالت له: زوج نفسي ممن شئت، لم يصح تزويجها من نفسه.
الثالثة ـ أن يكون ولياً للجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه ابن ابنه الآخر، وكأن يزوج بنته الصغيرة لابن أخيه الصغير الذي هو في ولايته.
الرابعة ـ أن يكون وكيلاً للجانبين: كأن يوكله رجل وامرأة في زواجهما، فيقول: زوجت فلانة من فلان.
الخامسة ـ أن يكون ولياً من جانب ووكيلاً من الجانب الآخر: كأن يوكله رجل أن يزوجه بنته الصغيرة، فيزوجه إياها.
أما الفضولي فلا يصح عند أبي حنيفة ومحمد أن يتولى العقد من الجانبين ولو تكلم بكلامين، أي بإيجاب وقبول، في أحوال أربعة: هي أن يكون فضولياً من الجانبين، أو فضولياً من جانب وأصيلاً من جانب آخر، أو فضولياً من جانب وولياً من جانب آخر، أو فضولياً من جانب ووكيلاً من جانب آخر، فمن قال مثلاً: اشهدوا أني تزوجت فلانة، فبلغها الخبر فأجازت، فهو باطل. وإن قال آخر: اشهدوا أني قد زوجتها منه فبلغها الخبر جاز.
إذ أنه ليس في مسائل الفضولي الأربع قرينة تدل على أنه قام مقام الأصيل، وأنه يملك التعبير عنه، فعبارته لا تقوم مقام عبارتين، ولم يحدث بعبارته إلا الإيجاب وحده، وهو شطر العقد، وشطر العقد لا يتوقف على ما وراء المجلس، فيحدث القبول من الغائب دون أن يجد إيجاباً يلتقي معه؛ لأنه أصبح هدراً.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 446/2-452.(9/214)
أما في المسائل الأولى في حال الولاية أو الوكالة، فقد دلت مقارنة على أن العاقد قام مقام الأصيل، وأنه معبر عنه، فتقوم عبارته مقام عبارة الأصيل، وتصبح عبارته مفيدة معنى الإيجاب والقبول.
وأجاز أبو يوسف انعقاد الزواج بعاقد واحد في هذه المسائل كلها، فإذا زوجت المرأة نفسها غائباً فبلغه الخبر، فأجاز، جاز عنده؛ لأنه لا مانع أن تقوم عبارة العاقد الواحد مقام عبارتين، كالمقرر بحكم الوكالة أو الولاية الثابتتين حال العقد، ويكون العقد فيما وراء المجلس موقوفاً على إجازة صاحب الشأن، ولا محذور؛ لأن حقوق عقد الزواج ترجع إلى الأصيل. وإذا جرى العقد بين فضوليين أو بين فضولي وأصيل، جاز باتفاق الحنفية، ويكون موقوفاً على إجازة الغائب؛ لأن عبارة كل واحد منهما تقوم مقام عبارة الأصيل، لتعدد العاقد حقيقة، فيكون ما جرى بين الفضوليين عقداً تاماً لوجود الإىجاب والقبول، والعقد الكامل يتوقف على ما وراء مجلس العقد. هذا والفضولي قبل الإجازة لا يملك نقض النكاح، بخلاف البيع؛ لأنه في البيع ترجع إليه حقوق العقد، أما في النكاح فترجع الحقوق إلى المعقود له.
وقرر زفر والشافعي والجمهور: أنه لا يجوز الزواج بعاقد واحد؛ لأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون مُملِّكاً ومتملكاً، لكن استثنى الشافعي مسألة الولي كالجد يزوج بنت ابنه من ابن ابنه الآخر، فيجوز للضرورة، ولا ضرورة في حق الوكيل وغيره من الأحوال الأخرى.
وأجاز المالكية لابن العم والمولى ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه، ويتولى طرفي العقد، وليشهد كل واحد منهم على رضاها خوفاً من منازعتها، بشرط أن يعين لها أنه الزوج، فرضيت بالقول إن كانت ثيباً ومن في حكمها من الأبكار الستة المتقدمة، أو بالصمت إن كانت بكراً ليست من الستة المتقدمة، ويتم الزواج بقوله: تزوجتك بكذا من المهر، وترضى به، ولا بد من الإشهاد على رضاها بالعقد ولو بعد عقده لنفسه بعد أن كانت مقرة بالعقد، ولا يحتاج لقوله: قبلت نكاحك بنفسي بعدئذ؛ لأن قوله «تزوجتك» فيه قبول.(9/215)
الفَصْلُ الخامس: الكفاءة في الزَّواج
معناها وآراء الفقهاء في اشتراطها، نوع شرط الكفاءة، صاحب الحق في الكفاءة، من تطلب في جانبه الكفاءة، ما تكون فيه الكفاءة أو أوصاف الكفاءة، وتبحث في مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ معنى الكفاءة وآراء الفقهاء في اشتراطها:
الكفاءة لغة: المماثلة والمساواة، يقال: فلان كفء لفلان أي مساو له. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (1) أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. ومنه قوله تعالى: {ولم يكن له كُفُواً أحد} [الإخلاص:4/112] أي لا مثيل له.
وفي اصطلاح الفقهاء: المماثلة بين الزوجين دفعاً للعار في أمور مخصوصة، وهي عند المالكية: الدين، والحال (أي السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار) . وعند الجمهور: الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناع) ، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) (2) .
ويراد منها تحقيق المساواة في أمور اجتماعية من أجل توفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة بين الزوجين، بحيث لا تعير المرأة أو أولياؤها بالزوج بحسب العرف.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي كرم الله وجهه.
(2) الدسوقي: 248/2، كشاف القناع: 72/5، مغني المحتاج: 164/3، اللباب: 12/3، حاشية ابن عابدين: 436/2.(9/216)
وأما آراء الفقهاء في اشتراط الكفاءة، فلهم رأيان (1) :
الرأي الأولي ـ رأى بعضهم كالثوري، والحسن البصري، والكرخي من الحنفية: أن الكفاءة ليست شرطاً أصلاً، لا شرط صحة للزواج ولا شرط لزوم، فيصح الزواج ويلزم سواء أكان الزوج كفئاً للزوجة أم غير كفء، واستدلوا بما يأتي:
1ً - قوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى» (2) فهو يدل على المساواة المطلقة، وعلى عدم اشتراط الكفاءة، ويدل له قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً} [الفرقان:54/25] وحديث: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» (3) .
ورد عليه بأن معناه أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى، أما فيما عداها من الاعتبارات الشخصية التي تقوم على أعراف الناس وعاداتهم، فلا شك في أن الناس يتفاوتون فيها، فهناك تفاضل في الرزق والثروة: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] وهناك تفاضل في العلم يقتضي التكريم: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11/58] وما يزال الناس يتفاوتون في منازلهم الاجتماعية ومراكزهم الأدبية، وهو مقتضى الفطرة الإنسانية، والشريعة لا تصادم الفطرة والأعراف والعادات التي لا تخالف أصول الدين ومبادئه.
__________
(1) فتح القدير: 417/2 وما بعدها، البدائع: 317/2، تبيين الحقائق: 128/2، الدسوقي مع الشرح الكبير: 248/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/5 وما بعدها، المغني: 480/6 وما بعدها.
(2) أخرجه ابن لال بلفظ قريب عن سهل بن سعد «الناس كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى» (سبل السلام: 129/3) .
(3) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح عن أبي نضرة (مجمع الزوائد: 266/3) .(9/217)
2ً - الحديث المتقدم: وهو أن بلالاً رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قل لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني» أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة، ولو كانت معتبرة لما أمر؛ لأن التزويج من غير كفء غير مأمور به.
ويؤكده أن سالم مولى امرأة من الأنصار زوجه أبو حذيفة من ابنة أخيه: هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة (1) . وكذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة قرشية هي فاطمة أخت الضحاك بن قيس، وهي من المهاجرات الأول أن تتزوج أسامة قائلاً لها: «انكحي أسامة» (2) ، وروى الدارقطني أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال.
ويدل له: «أن أبا هند حجم النبي صلّى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه» (3) . ورد على الأحاديث بمعارضتها بأحاديث أخرى تتطلب الكفاءة فتكون محمولة على الندب والأفضل، وبأن التسوية بين العرب وغيرهم إنما هو في أحكام الآخرة، أما في الدنيا فقد ظهر فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا.
3ً - الدماء متساوية في الجنايات، فيقتل الشريف بالوضيع، والعالم بالجاهل، فيقاس عليها عدم الكفاءة في الزواج، فإن كانت الكفاءة غير معتبرة في الجنايات، فلا تكون معتبرة في الزواج بالأولى.
ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن التساوي في القصاص في مسائل الجنايات، إنما طلب لمصلحة الناس وحفظ حق الحياة، حتى لا يتجرأ ذو الجاه أو النسب على قتل من دونه ممن لا يكافئه. أما الكفاءة في الزواج فلتحقيق مصالح الزوجين من دوام العشرة مع المودة والألفة بينهما، ولا تتحقق تلك المصالح إلا باشتراط الكفاءة.
__________
(1) رواه البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة (نيل الأوطار: 128/6) .
(2) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3) .
(3) رواه أبو داود عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 128/6) .(9/218)
الرأي الثاني - رأى جمهور الفقهاء (منهم المذاهب الأربعة) : أن الكفاءة شرط في لزوم الزواج، لا شرط صحة فيه، عملاً بالأدلة التالية من السنة والمعقول:
1ً - السنة: حديث علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفئاً» (1) .
وحديث جابر: «لا تنُكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجوهن إلا الأولىاء، ولا مهردون عشرة دراهم» (2) .
وحديث عائشة: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء» (3)
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم عن علي (نيل الأوطار: 128/6) .
(2) رواه الدارقطني عن جابر بن عبد الله، وفيه مبشر بن عبد الله متروك الحديث (نصب الراية: 196/3) .
(3) روي من حديث عائشة، ومن حديث أنس، ومن حديث عمر بن الخطاب، من طرق عديدة كلها ضعيفة (نصب الراية: 197/3) .(9/219)
وحديث ابن عمر: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل إلا حائك أو حجام» (1) .وحديث عائشة وعمر: «لأمنعن تزوّج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء» (2) .
وحديث أبي حاتم المزني: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (3) وفيه دليل على اعتبار الكفاءة.
وحديث بريدة المتقدم الذي جعل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم الخيار لفتاة زوجها أبوها ابن أخيه ليرفع بها خسيسته (4) .
وحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (5) وحديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقُهوا» (6) .
قال الشافعي: أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة، فقد خيرها النبي صلّى الله عليه وسلم، لما لم يكن زوجها كفئاً لها بعد أن تحررت، وكان زوجها عبداً.
وقال الكمال بن الهمام (7) : هذه الأحاديث الضعيفة من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فتصبح حجة بالتضافر والشواهد، وترتفع إلى مرتبة الحسن، لحصول الظن بصحة المعنى، وثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم، وفي هذا كفاية.
2 - المعقول: وهو أن انتظام المصالح بين الزوجين لا يكون عادة إلا إذا كان هناك تكافؤ بينهما؛ لأن الشريفة تأبى العيش مع الخسيس، فلا بد من اعتبار الكفاءة من جانب الرجل، لا من جانب المرأة؛ لأن الزوج لا يتأثر بعدم الكفاءة عادة، وللعادة والعرف سلطان أقوى وتأثير أكبر على الزوجة، فإذا لم يكن زوجها كفئاً لها، لم تستمر الرابطة الزوجية، وتتفكك عُرى المودة بينهما، ولم يكن للزوج صاحب القوامة تقدير واحترام. وكذلك أولىاء المرأة يأنفون من مصاهرة من لا يناسبهم في دينهم وجاههم ونسبهم، ويعيرون به، فتختل روابط المصاهرة أو تضعف، ولم تتحقق أهداف الزواج الاجتماعية، ولا الثمرات المقصودة من الزوجية.
وهذا الرأي هو المعمول به في أغلب البلاد الإسلامية كمصر وسورية وليبيا. والذي يظهر لي رجحان مذهب الإمام مالك في هذا الشأن، وهو اعتبار الكفاءة فقط في الدين والحال، أي السلامة من العيوب التي توجب للمرأة الخيار في الزواج، وليس الحال بمعنى الحسب والنسب وإنما يندب ذلك فقط، والسبب هو ضعف أحاديث الجمهور، ولأن الدليل الأقوى للجمهور وهو المعقول يعتمد على العرف، فإذا كان العرف بين الناس كمافي عصرنا الحاضر هو عدم النظر إلى الكفاءة، وأصبح مبدأ المساواة هو الأساس في التعامل، وزالت المعاني القبلية والتمييز الطبقي بين الناس، فلم يعد هناك مسوغ للكفاءة.
__________
(1) رواه الحاكم عن عبد الله بن عمر، وهو حديث منقطع (نصب الراية، نيل الأوطار، المكان السابق) .
(2) رواه الدارقطني (نيل الأوطار: 127/6) .
(3) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وعده أبو داود في المراسيل (نيل الأوطار: 127/6) .
(4) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث ابن بريدة (نيل الأوطار: 127/6) .
(5) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء، وضعفه الدارقطني في العلل (نيل الأوطار: 128/6) .
(6) متفق عليه (رياض الصالحين: ص 164) .
(7) فتح القدير: 417/2 وما بعدها) .(9/220)
المبحث الثاني ـ نوع شرط الكفاءة:
هل الكفاءة شرط صحة أو شرط لزوم؟
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الراجح عند الحنابلة والمعتمد عند المالكية والأظهر عند الشافعية (1) على أن الكفاءة شرط لزوم في الزواج، وليست شرطاً في صحة النكاح، فإذا تزوجت المرأة غير كفء، كان العقد صحيحاً، وكان لأوليائها حق الاعتراض عليه وطلب فسخه، دفعاً لضرر العار عن أنفسهم، إلا أن يسقطوا حقهم في الاعتراض فيلزم، ولو كانت الكفاءة شرط صحة لما صح، حتى ولو أسقط الأولياء حقهم في الاعتراض؛ لأن شرط الصحة لا يسقط بالإسقاط.
وأخذ القانون السوري (م 26) باعتبار كون الكفاءة شرط لزوم، ونص هذه المادة: «يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة» ونصت المادة (27) على أنه: «إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً، لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح» وهذا هو المختار لدى واضعي قانون الأحوال الشخصية في مصر.
تفصيل رأي الحنفية في شرط الكفاءة:
الكفاءة عند الحنفية في الجملة تعد شرط لزوم (2) ، لكن المفتى به عند المتأخرين أن الكفاءة شرط لصحة الزواج في بعض الحالات، وشرط لنفاذه في بعض الحالات، وشرط للزومه في حالات أخرى.
__________
(1) البدائع: 317/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 71/2، المغني: 480/6، فتح القدير: 419/2، اللباب: 12/3.
(2) الدر المختار: 437/2.(9/221)
أما الحالات التي تكون الكفاءة فيها شرطاً لصحة الزواج، فهي ما يأتي (1) :
1ً - إذا زوجت المرأة البالغة العاقلة نفسها من غير كفء أوبغبن فاحش، وكان لهاولي عاصب لم يرض بهذا الزواج قبل العقد، لم يصح الزواج أصلاً، لا لازماً ولا موقوفاً على الرضا بعد البلوغ.
2ً - إذا زوج غير الأصل (الأب والجد) أو الفرع (الابن) عديم الأهلية أو ناقصها، أي المجنون والمجنونة أو الصغير والصغيرة من غير كفء، فإن الزواج فاسد؛ لأن ولاية هؤلاء منوطة بالمصلحة، ولا مصلحة في التزويج بغير الكفء.
3ً - إذا زوج الأب أو الابن المعروف بسوء الاختيار (2) عديم الأهلية أو ناقصها، من غير كفء أو بغبن فاحش، لم يصح النكاح اتفاقاً. وكذا لو كان سكران، فزوج المرأة من فاسق أو شرير أو فقير أو ذي حرفة دنيئة، لظهور سوء اختياره، وانعدام المصلحة في هذا الزواج.
ويلزم النكاح ولو بغبن فاحش بنقص مهرها وزيادة مهره، أو زوجها بغير كفء إن كان الولي المزوج أباً أو جداً أو ابن المجنونة إذا لم يعرف منهما سوء الاختيار.
وتكون الكفاءة شرطاً لنفاذ الزواج:
إذا وكلت المرأة البالغة العاقلة شخصاً في زواجها، سواء أكان ولياً أم أجنبياً عنها، فزوَّجها بغير كفء، كان العقد موقوفاً على إجازتها؛ لأن الكفاءة حق للمرأة ولأوليائها، فإذا لم يكن الزوج كفئاً لها، لا ينفذ العقد إلا برضاها (3) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 418/2-420، 436.
(2) سوء الاختيار والرأي: أن يكون الشخص فاسقاً أوماجناً لا يبالي بما يصنع، أو يكون سفيهاً طماعاً (رد المحتار لابن عابدين: 418/2) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 436/2.(9/222)
وتكون الكفاءة شرطاً للزوم الزواج في ظاهر الرواية:
إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها من كفء، كان الزواج لازماً، وليس لوليها حق الاعتراض وطلب الفسخ، فإن زوجت نفسها من غير كفء، كان لوليها العاصب حق الاعتراض (1) .
يتبين من هذا أن الكفاءة تشبه عند الحنفية ولاية الزواج، ففي حالات قد تكون الولاية شرطاً في صحة الزواج، وقد تكون شرطاً في نفاذه، وقد تكون شرطاً في لزومه.
ومن المعلوم أن شروط لزوم الزواج عند الحنفية أربعة هي باختصار:
1ً - أن يكون الولي في تزويج الصغير والصغيرة هو الأب أو الجد. أما غيرهما كالأخ والعم إذا زوج الصغار، فلا يلزم الزواج في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويكون لهم الخيار بعد البلوغ. وقال أبو يوسف: يلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء، فلا يثبت للصغار الخيار بعد البلوغ (2) .
2ً - أن يكون الزوج خالياً من العيوب الجنسية، كما يتبين في بحث الطلاق.
3ً - أن تزوج المرأة نفسها بمهر المثل، فإذا زوجت نفسها بغبن فاحش، لم يلزم العقد، وكان للأولىاء عند أبي حنيفة حق الاعتراض، حتى يتم لها مهر مثلها أو يفارقها؛ لأن الأولياء يفتخرون بغلاء المهور ويتعيرون بنقصانه، فأشبه الكفاءة. وقال الصاحبان: ليس لهم ذلك؛ لأن ما زاد على العشرة دراهم حقها، ومن أسقط حقه لا يعترض عليه (3) .
4ً - أن يكون الزوج كفئاً للمرأة، فإن زوجت المرأة نفسها من غير كفء لها، كان للأولياء حق الاعتراض، ويفسخ القاضي العقد إن ثبت له عدم كفاءة الزوج دفعاً للعار. وهذا متفق عليه بين المذاهب كما تقدم.
__________
(1) المرجع السابق، البدائع: 317/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 315/2.
(3) فتح القدير: 424/2، البدائع: 322/2، الدر المختار: 445/2-446.(9/223)
المبحث الثالث ـ صاحب الحق في الكفاءة:
اتفق الفقهاء (1) على أن الكفاءة حق لكل من المرأة وأوليائها، فإذا تزوجت المرأة بغير كفء، كان لأوليائها حق طلب الفسخ، وإذا زوجها الولي بغير كفء، كان لها أيضاً الفسخ؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه، فأشبه خيار البيع، ولما روي: أن فتاة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابنَ أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (2) . والحاصل: أن المرأة إن تركت الكفاءة فحق الولي باق، وبالعكس.
ترتيب الحق بين الأولياء ووقت سقوط حق الاعتراض:
يثبت هذا الحق عند الحنفية للأقرب من الأولياء العصبة فالأقرب، فإذا لم يرضوا فلهم أن يفرقوا بين المرأة وزوجها، ما لم تلد، أو تحمل حملاً ظاهراً في ظاهر الرواية، وإذا زوجها الولي بغير كفء برضاها، لزم النكاح، وإذا رضي الأولياء فقد أسقطوا حق أنفسهم بالاعتراض والفسخ.
وقال المالكية: للأولياء الفسخ ما لم يدخل الزوج بالمرأة، فإن دخل فلا فسخ. والاعتراض حق مشترك لكل الأولياء، فلو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين، لم يلزم النكاح، وهذا خلافاً للحنفية والشافعية.
__________
(1) البدائع: 318/2، الدر المختار ورد المحتار: 436/2، 443، 424/2، اللباب: 12/3، الشرح الكبير: 249/2، المهذب: 38/2، كشاف القناع: 72/5، المغني: 481/6، مغني المحتاج: 164/3.
(2) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه (نيل الأوطار: 127/6) .(9/224)
وقال الشافعية: لو زوجها الولي الأقرب برضاها، فليس للأبعد اعتراض؛ إذ لا حق له الآن في التزويج. وإذا تساوى الأولياء في الدرجة، فزوجها أحدهم برضاها دون رضاهم، لم يصح الزواج؛ لأن لهم حقاً في الكفاءة، فاعتبر رضاهم كرضا المرأة. ولو زوجها الولي غير كفء برضاها، أو زوجها بعض الأولياء المستوين في الدرجة برضاها ورضا الباقين، صح الزواج.
وقال الحنابلة: يملك الاعتراض والفسخ الأبعد من الأولياء مع رضا الأقرب منهم بالزوج، ومع رضا الزوجة أيضاً دفعاً لما يلحقه من العار؛ لأن الكفاءة عندهم كما جاء في كشاف القناع حق للمرأة والأولياء جميعهم، فلو زوج الأب بنته بغير كفء برضاها، فللإخوة الفسخ؛ لأن العار في تزويج من ليس بكفء عليهم أجمعين.
ولو زالت الكفاءة بعد العقد، فللزوجة عندهم الفسخ فقط دون أوليائها؛ لأن حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته، وهذا بخلاف رأي المذاهب الأخرى، فإن الكفاءة تعتبر عند الجمهور عند ابتداء العقد، فلا يضر زوالها بعده، فلو كان وقت العقد كفئاً، ثم صار غير كفء، لم يفسخ العقد.
رضا بعض الأولياء المستوين في الدرجة دون البعض:
إن تعدد الأولياء الأقارب كالإخوة الأشقاء، ورضي بعضهم بالزواج، ولم يرض الآخرون، كان رضا البعض عند أبي حنيفة ومحمد مسقطاً لحق الآخرين؛ لأن هذا حق واحد لا يتجزأ؛ لأن سببه وهو القرابة لا يقبل التجزئة، والقاعدة المقررة أن إسقاط بعض مالا يتجزأ إسقاط لكله، فإذا أسقط أحد الأولياء حقه، سقط حق الباقين، قياساً على حق القصاص الثابت لجماعة، فإنه حق لا يقبل التجزئة، فإذا عفا بعضهم سقط حق الباقين. وأجيب عنه بأن القصاص لا يثبت لكل واحد كاملاً، فإذا سقط بعضه تعذر استيفاؤه.
وقال الجمهور (وهم المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف وزفر) : إن رضي بعض الأولياء المتساوين، لم يسقط حق الآخرين في الاعتراض؛ لأن الكفاءة حق مشترك ثبت للكل، وإذا أسقط أحد الشريكين حق نفسه، لا يسقط حق صاحبه، كالدين المشترك.
وأجيب عنه: بأن قياس الكفاءة على الدين المشترك قياس مع الفارق؛ لأن الدين حق يقبل التجزئة، وحق الكفاءة لا يقبل التجزئة.
ولا فرق عند الحنابلة بين أن يكون الأولياء متساوين في الدرجة أم متفاوتين؛ لأن الكفاءة عندهم حق الكل.(9/225)
المبحث الرابع: من تطلب الكفاءة في جانبه:
يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة تطلب للنساء لا للرجال، بمعنى أن الكفاءة تعد في جانب الرجال للنساء، فهو حق في صالح المرأة لا في صالح الرجل، فيشترط أن يكون الرجل مماثلاً أو مقارباً لها في أمور الكفاءة. ولا يشترط في المرأة أن تكون مساوية للرجل أو مقاربة له، بل يصح أن تكون أقل منه في أمور الكفاءة؛ لأن الرجل لا يعير بزوجة أدنى حالاً منه، أما المرأة وأقاربها فيعيرون بزوج أقل منها منزلة (1) . لكن يستثنى من هذا الأصل مسألتان تشترط فيهما الكفاءة من جانب المرأة، ذكرتا سابقاً وهما:
الأولى ـ أن يزوج غير الأب أو الجد عديم الأهلية أو ناقصها، أويزوجه الأب أو الجد الذي عرف قبل العقد بسوء الاختيار، فإنه يشترط لصحة هذا الزواج أن تكون الزوجة مكافئة له، احتياطاً لمصلحة الزواج، وإلا لم يصح الزواج.
الثانية ـ أن يوكل الرجل غيره في تزويجه وكالة مطلقة، فإنه يشترط لنفاذ العقد على الموكل في رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد أن تكون الزوجة كفئاً له.
المبحث الخامس ـ ما تكون فيه الكفاءة، أو أوصاف الكفاءة:
اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة، فهي عند المالكية اثنان: وهما الدين والحال، أي السلامة من العيوب المثبتة للخيار، لا الحال بمعنى الحسب والنسب.
وعند الحنفية ستة: هي الدين والإسلام والحرية والنسب والمال والحرفة (2) .
__________
(1) البدائع: 320/2، الدسوقي: 249/2، مغني المحتاج: 164/3، كشاف القناع: 72/5.
(2) نظم العلامة الحموي ما تعتبر فيه الكفاءة، فقال:
إن الكفاءة في النكاح تكون في..... ..... ست لها بيت بديع قد ضبط
نسب وإسلام كذلك حرفة..... ...... حرية وديانة مال فقط(9/226)
ولا تكون الكفاءة عندهم في السلامة من العيوب التي يفسخ بها البيع كالجذام والجنون والبرص، والبخَر والدفَر إلا عند محمد في الثلاثة الأولى.
وعند الشافعية خمسة: هي الدين أو العفة، والحرية، والنسب، والسلامة من العيوب المثبتة للخيار، والحرفة.
وعند الحنابلة خمسة أيضاً: هي الدين، والحرية، والنسب، واليسار (المال) ، والصناعة أي الحرفة (1) .
فهم متفقون على الكفاءة في الدين، واتفق غير المالكية على الكفاءة في الحرية والنسب والحرفة، واتفق المالكية والشافعية على خصلة السلامة من العيوب المثبتة للخيار، واتفق الحنفية في ظاهر الرواية والحنابلة على خصلة المال، وانفرد الحنفية بخصلة إسلام الأصول.
__________
(1) البدائع: 318/2-320، الدر المختار ورد المحتار: 437/2-445، فتح القدير: 419/2-424، اللباب: 13/3، الشرح الكبير: 249/2 وما بعدها، المهذب: 39/2، مغني المحتاج: 165/3-167، كشاف القناع: 72/5 وما بعدها، المغني: 482/6-486.(9/227)
1 - الديانة، أو العفة أو التقوى: المراد بها الصلاح والاستقامة على أحكام الدين، فليس الفاجر والفاسق كفئاً لعفيفة أو صالحة بنت صالح، أو مستقيمة، لها ولأهلها تدين وخلق حميد، سواء أكان معلناً فسقه، أم غير معلن أي لا يجهر بالفسق لكن يشهد عليه أنه فعل كذا من المفسقات؛ لأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، وهو نقص في إنسانيته، ولأن المرأة تعير بفسق الزوج أكثر ما تعير بضعة نسبه، فلا يكون كفئاً لامرأة عدل، بالاتفاق ما عدا محمد بن الحسن، لقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً، لا يستوون} [السجدة:18/32] وقوله سبحانه: {الزاني لا ينكح إلا زانية} [النور:3/24] ونوقش الاستدلال بالآيتين، أما الأولى فهي في حق المؤمن والكافر، وأما الثانية فهي منسوخة، والأصح الاستدلال بحديث أبي حاتم المزني المتقدم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» .
وقال محمد: إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكاً يصفع ويسخر منه، أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتنى عليه أحكام الدنيا.
وهل يكون الفاسق كفئاً لفاسقة بنت صالح، قال بعض الحنفية: لا يكون الفاسق كفئاً لها، وقال ابن عابدين: إن المفهوم من كلامهم اعتبار صلاح الكل أي الفتاة والأب، وإن من اقتصر على صالحة أو صلاح آبائها نظر إلى الغالب من أن صلاح الولد والوالد متلازمان، فعلى هذا لا يكون الفاسق كفئاً لصالحة بنت صالح، بل يكون كفئاً لفاسقة بنت فاسق، وكذا لفاسقة بنت صالح، لأن ما يلحقه من العار ببنته أكثر من العار بصهره. وإذا كانت صالحة بنت فاسق، فزوجت نفسها من فاسق، فليس لأبيها حق الاعتراض؛ لأنه مثله، وهي قد رضيت به.(9/228)
2 - الإسلام: شرط انفرد به الحنفية بالنسبة لغير العرب، خلافاً للجمهور، والمراد به إسلام الأصول أي الآباء، فمن له أبوان مسلمان كفء لمن كان له آباء في الإسلام، ومن له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئاً لمن له أبوان في الإسلام؛ لأن تمام النسب بالأب والجد. وألحق أبو يوسف الواحد بالمثنى.
ومن أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لمن له أب واحد في الإسلام؛ لأن التفاخر فيما بين الموالي (غير العرب) بالإسلام.
ودليل الحنفية على هذه الخصلة: أن تعريف الشخص يكون كاملاً بالأب والجد، فإذا كان الأب والجد مسلماً، كان نسبه إلى الإسلام كاملاً.
ولا تعتبر هذه الخصلة إلا في غير العرب؛ لأنهم بعد إسلامهم صار فخرهم بالإسلام، وهو شرفهم الذي قام مقام النسب. أما العرب فلا يعتبر فيهم التكافؤ في إسلام الآباء؛ لأن العرب يتفاخرون بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم، فالعربي المسلم الذي ليس له أب مسلم كفء للعربية المسلمة التى لها أب وأجداد مسلمون.(9/229)
3 - الحرية: شرط في الكفاءة عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فلا يكون العبد ولو مبعضاً كفئاً لحرة ولو كانت عتيقة؛ لأنه منقوص بالرق، ممنوع من التصرف في كسبه، غير مالك له، ولأن الأحرار بمصاهرة الأرقاء كما يعيرون بمصاهرة من دونهم في النسب والحسب.
واشترط الحنفية والشافعية أيضاً حرية الأصل، فمن كان أحد آبائه رقيقاً ليس كفئاً لحر الأصل، أو لمن كان أبوها رقيقاً ثم أعتق، ومن كان له أبوان في الحرية ليس كفئاً لمن كان له أب واحد في الحرية.
وأضاف الحنفية والشافعية أن العتيق ليس كفئاً لحرة أصلية؛ لأن الأحرار يعيرون بمصاهرة العتقاء، كما يعيرون بمصاهرة الأرقاء.
وقال الحنابلة: العتيق كله كفء للحرة.
وأما المالكية فلم يشترطوا الحرية في الكفاءة، وقالوا: في كفاءة العبد للحرة، وعدم كفاءته لها على الأرجح تأويلان: المذهب أنه ليس بكفء، والراجح أنه كفء، وهو الأحسن؛ لأنه قول ابن القاسم.
وقال الدسوقي: والظاهر التفصيل: فما كان من جنس الأبيض فهو كفء؛ لأن الرغبة فيه أكثر من الأحرار، وبه الشرف في عرف مصرنا، وما كان من جنس الأسود فليس بكفء؛ لأن النفوس ـ على حد تعبيره ـ تنفر منه، ويقع به الذم للزوجة. وهذا حكاية لعرف الناس في عصره، وليس أمراً مقرراً في الشرع.
لذا أرى أن هذا الرأي خاص بالدسوقي، فإن مبادئ الشريعة تناقض هذا القول إذ لا تفرقة في أحكامها بين الناس بسبب اللون، وما اعتمده من عرف مصر هو عرف فاسد، لمصادمته مبادئ الشريعة، أو أنه مجرد أهواء نفسية وميول خاصة لا يقرها الشرع؛ لأن الناس سواء في دين الله تعالى.(9/230)
4 - النسب: وسماه الحنابلة: المنصب.
المراد بالنسب: صلة الإنسان بأصوله من الآباء والأجداد. أما الحسب: فهو الصفات الحميدة التي يتصف بها الأصول أو مفاخر الآباء، كالعلم والشجاعة والجود والتقوى. ووجود النسب لا يستلزم الحسب، ولكن وجود الحسب يستلزم النسب. والمقصود من النسب أن يكون الولد معلوم الأب، لا لقيطاً أو مولى إذ لا نسب له معلوم. ولم يعتبر المالكية الكفاءة في النسب، أما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض الزيدية) فقد اعتبروا النسب في الكفاءة، لكن خصص الحنفية النسب في الزواج من العرب؛ لأنهم الذين عنوا بحفظ أنسابهم، وتفاخروا بها، وحدث التعيير بينهم فيها.
أما العجم فلم يعنوا بأنسابهم ولم يفتخروا بها، ولذا اعتبر فيهم الحرية والإسلام. والأصح عند الحنفية أن العجمي لا يكون كفئاً للعربية ولو كان عالماً أو سلطاناً.
وبناء على هذا الرأي: لا يكون العجمي كفئاً للعربية، لقول عمر: «لأمنعن أن تزوج ذات الأحساب إلا من الأكفاء» (1) ، ولأن الله اصطفى العرب على غيرهم، ولأن العرب فضلت الأمم برسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وقريش عند الحنفية وفي رواية عن أحمد بعضهم أكفاء بعض، وبقية العرب بعضهم أكفاء بعض، واستثنى بعضهم بني باهلة لخستهم. ودليلهم قول ابن عباس: قريش بعضهم أكفاء بعض.
ويرى الشافعية وفي رواية أخرى عن أحمد: أن غير الهاشمي والمطلبي ليس
__________
(1) رواه الخلال والدارقطني.(9/231)
كفئاً لباقي قريش كبني عبد شمس ونوفل، وإن كانا أخوين لهاشم، لخبر: «إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (1) .
ويتفق الجمهور على أن قريشاً وهم أولاد النضر بن كنانة أفضل نسباً من سائر العرب، فالقرشية لا يكافئها إلا قرشي مثلها، والقرشي كفء لكل عربية. وأن المرأة العربية غير القرشية يكافئها أي عربي من أي قبيلة كانت، ولكن لا يكافئها غير العربي أي العجمي.
ودليل الجمهور حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلا حائك أو حجام» (2) .
والحق أن اعتبار النسب في الكفاءة ليس صحيحاً، والصحيح قول المالكية؛ لأن مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنسبية، ولأن انتشار الإسلام بين الناس غير العرب إنما كان أساساً لهذه المزية، وإعلان حجة الوداع واضح وهو أن الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.
أما الحديث الذي اعتمد عليه الجمهور فهو ضعيف، لذا فإن تفضيل قريش على سائر العرب، ثم تفضيل العرب على العجم، لم يدل عليه شيء من السنة، بل ورد في السنة خلافه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان، وزوج أبا العاص بن
__________
(1) رواه الترمذي عن واثلة، وهو صحيح.
(2) رواه الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر، ولكنه حديث منقطع (نصب الراية: 197/3، سبل السلام: 128/3) .(9/232)
ربيع زينب، وهما من بني عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وزوج النبي بنت عمته زينب وهي قرشية زيد بن حارثة، وهو من الموالي، وتزوج أسامة ابن زيد فاطمة بنت قيس وهي من قريش، بعد أن طلقها زوجها: أبو عمر بن حفص بن المغيرة، فأخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» (1) .
وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي، وتزوج المصعب بن الزبير أختها سكينة، وتزوجها أيضاً عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنة الزبير بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وزوج أبو بكر أخته أم فروة الأشعث بن قيس، وهما كنديان (2) .
ولأن العجم والموالي بعضهم لبعض أكفاء، وإن تفاضلوا، وشرف بعضهم على بعض، وكذلك العرب.
وإذا حرص العرب على أنسابهم وتفاخروا بها، فإن غير العرب قد حرصوا على أنسابهم، وتتعير المرأة منهم إذا تزوجت من لا يساويها في الحسب والنسب.
5 - المال أو اليسار: المراد به القدرة على المهر والنفقة على الزوجة، لا الغنى والثراء، فلا يكون المعسر كفئاً لموسرة. وحدد بعض الحنفية هذه القدرة على نفقة شهر، وصحح بعضهم الاكتفاء بالقدرة عليها بالكسب.
واشترط اليسار في الكفاءة الحنفية والحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الحديث السابق لفاطمة بنت قيس: «أما معاوية فصعلوك لا مال له» ، ولأن الناس
__________
(1) رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس (سبل السلام: 129/3) .
(2) المغني: 483/6 وما بعدها.(9/233)
يتفاخرون بالمال أكثر من التفاخر بالنسب، ولأن الموسرة تتضرر في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولاده، ولهذا ملكت الفسخ بإعساره بالنفقة، ولأن عدم اليسار نقص في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب.
وقال الشافعية في الأصح والمالكية: لا يعد اليسار في خصال الكفاءة؛ لأن المال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر.
والراجح لدي هو هذا الرأي؛ لأن الغنى لا دوام له، والمال غاد ورائح، والرزق مقسوم منوط بالكسب، والفقر شرف في الدين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً» (1) .
6 - المهنة أو الحرفة أو الصناعة:
والمراد بها العمل الذي يمارسه الإنسان لكسب رزقه وعيشه، ومنه الوظيفة في الحكومة.
وذكر الجمهور غير المالكية الحرفة في خصال الكفاءة، بأن تكون حرفة الزوج أو أهله مساوية أو مقاربة لحرفة الزوجة أو أهلها. فلا يكون صاحب حرفة دنيئة كالحجام والحائك والكسَّاح والزبال والحارس والراعي والفقَّاط كفئآً لبنت صاحب صناعة جليلة أو رفيعة كالتاجر والبزاز، أي الذي يتجر في البَزّ وهو القماش، والخياط، ولا تكون بنت التاجر والبزاز كفئاً لبنت العالم والقاضي نظراً للعرف فيه. وأما أتباع الظلمة فأخسّ من الكل. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض؛ لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر.
والمعول عليه في تصنيف الحرف هو العرف، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأمكنة، فقد تكون الحرفة دنيئة في زمن، ثم تصبح شريفة في زمن آخر. وقد تكون الحرفة وضيعة في بلد، وتكون رفيعة في بلد آخر.
ولم يذكر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة؛ لأنها ليست بنقص في الدين، ولا هي وصف لازم، كالمال، فأشبه كل منهما الضعف والمرض والعافية والصحة. وهذا هو الراجح لدي.
__________
(1) رواه الترمذي من حديث أنس، وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد الخدري (تخريج أحاديث الإحياء للعراقي: 167/4) .(9/234)
7 - السلامة من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: كالجنون والجذام والبرص. اعتبرها المالكية والشافعية من خصال الكفاءة، فمن كان به عيب منها رجلاً أو امرأة ليس كفئاً للسليم من العيوب؛ لأن النفس تعاف صحبة من به بعضها، ويختل بها مقصود النكاح.
ولم يعتبر الحنفية والحنابلة السلامة من العيوب من شروط الكفاءة، ولكنها تثبت الخيار للمرأة دون أوليائها؛ لأن الضرر مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم والأبرص والمجنون. وهذا الرأي هو الأولى؛ لأن خصال الكفاءة حق لكل من المرأة والأولياء.
هذه هي خصال الكفاءة، أما ما عداها كالجمال والسن والثقافة والبلد والعيوب الأخرى غير المثبتة للخيار في الزواج كالعمى والقطع وتشوه الصورة، فليست معتبرة، فالقبيح كفء للجميل، والكبير كفء للصغير، والجاهل كفء للمثقف أو المتعلم، والقروي كفء للمدني، والمريض كفء للسليم.
لكن الأولى مراعاة التقارب بين هذه الأوصاف، وبخاصة السن والثقافة؛ لأن وجودهما أدعى لتحقيق الوفاق والوئام بين الزوجين، وعدمهما يحدث بلبلة واختلافاً مستعصياً، لاختلاف وجهات النظر، وتقديرات الأمور، وتحقيق هدف الزواج، وإسعاد الطرفين.
الكفاءة في القانون: إن خصال الكفاءة المطلوبة عند الفقهاء روعي فيها عرف المجتمعات الماضية، فكل ما أدى إلى الإضرار بسمعة المرأة وأوليائها، كانت الكفاءة فيه شرطاً لازوم العقد.
واليوم ينبغي أن يعتبر العرف الحاضر أيضاً، فإنه زال اعتبار كفاءة النسب والمال ونحوهما. لذا نص القانون السوري على ما يلي:
(م 26) : يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفئاً للمرأة.
(م 27) : إذا تزوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفئاً لزم العقد، وإلا فللولي طلب فسخ النكاح.(9/235)
(م 28) : العبرة في الكفاءة لعرف البلد.
(م 29) : الكفاءة حق خاص للمرأة وللولي.
(م 30) : يسقط حق الكفاءة لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة.
(م 31) : تراعى الكفاءة عند العقد، فلا يؤثر زوالها بعده.
(م 32) : إذا اشترطت الكفاءة حين العقد، أوأخبر الزوج أنه كفء، ثم تبين أنه غير كفء كان لكل من الولي والزوجة طلب فسخ العقد.
ويلاحظ أن هذه الأحكام يتفق أغلبها مع مذهب الحنفية، فالمادة الأولى في أن الكفاءة من جانب الرجل لا من جانب المرأة، أو من الجانبين، والثانية لتقرير أن الكفاءة شرط لزوم، لا شرط صحة، والثالثة مراعاة مبنى الكفاءة في الأصل وهو العرف، والرابعة كون الكفاءة حقاً لكل من المرأة والولي، والخامسة تحديد وقت سقوط حق الكفاءة عملاً بمشهور مذهب الحنفية، والسادسة وقت مراعاة الكفاءة وهو عند العقد، لا بعده، والسابعة التغرير بالكفاءة عند الاشتراط أو الإخبار بها.(9/236)
الفَصْلُ السّادس: آثار الزّواج
وفيه مباحث ثلاثة: في المهر، والخلوة، والمتعة.
المبحث الأول ـ المهر وأحكامه:
تمهيد: الزواج ككل عقد ينشأ عنه حقوق وواجبات متبادلة يلزم بها كل من الزوج والزوجة، وقد نص القرآن الكريم على هذا المبدأ، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من واجبات، وأن أساس تقرير هذه الحقوق والواجبات هو العرف المستند إلى فطرة كل من الرجل والمرأة.
ونص قانون الأحوال الشخصية السوري على جميع الحقوق المالية التي تستحقها الزوجة على زوجها: وهي المهر والنفقة والسكن. أما الحقوق غير المالية أو الأدبية كالعدل والإحسان في المعاملة، والمعاشرة بالمعروف، وطاعة الزوجة لزوجها بالمعروف، وحماية الزوجة من ألوان الأذى والمهانة، فلم يتعرض لها هذا القانون؛ لأنها مبادئ أخلاقية، وإنما نص القرآن الكريم على بعضها، ونصت السنة النبوية على بعضها الآخر.
وأتكلم هنا عن المهر: تعريفه وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به، ومقداره، وشروطه أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح، أنواعه وحالات وجوب كل نوع، صاحب الحق في المهر، وقبضه وما يترتب على القبض، تعجيله وتأجيله، الزيادة والحط من المهر، متى يجب المهر ومتى يتأكد وجوبه، ومتى يتنصف، ومتى يسقط، تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه وتعييبه وزيادته، الاختلاف في المهر، الملزم بالجهاز والاختلاف فيه، ميراث الصداق وهبته.
أولاً ـ تعريف المهر وحكمه وحكمته وسبب إلزام الرجل به:
المهر: هو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها حقيقة. وعرفه صاحب العناية على هامش الفتح: هو المال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة البُضْع إما بالتسمية أو بالعقد. وعرفه بعض الحنفية: بأنه ما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء.
وعرفه المالكية: بأنه ما يجعل للزوجة في نظير الاستمتاع بها.
وعرفه الشافعية: بأنه ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بُضْع قهراً، كرضاع ورجوع شهود. وعرفه الحنابلة: بأنه العوض في النكاح، سواء سمي في العقد أو فرض بعده بتراضي الطرفين أو الحاكم، أو العوض في نحو النكاح كوطء الشبهة ووطء المكرهة (1) .
وله أسماء عشرة: مهر، وصداق أو صدقة، ونِحْلة، وأجر، وفريضة، وحِبَاء، وعُقْر، وعلائق، وطَوْل، ونكاح، لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً} [النساء:225/4] وقوله سبحانه: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} [النور:33/24] نظم بعضهم ثمانية منها في بيت:
صداق، ومهر، نحلة، وفريضة
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 434/2، الدر المختار ورد المحتار: 452/2، الشرح الصغير: 428/2، مغني المحتاج: 220/3، كشاف القناع: 142/5.(9/237)
وحكمه: أنه واجب على الرجل دون المرأة، ويجب كما دلت التعاريف بأحد أمرين؛ إذ الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن عَقْر (حد) أو عُقْر (مهر) ، احتراماً لإنسانية المرأة:
الأول ـ مجرد العقد الصحيح: وقد يسقط كله أو نصفه ما لم يتأكد بالدخول أو بالموت، أو بالخلوة عند الحنفية والحنابلة.
الثاني ـ الدخول الحقيقي: كما في حالة الوطء بشبهة، أو في الزواج الفاسد. ولا يسقط حينئذ إلا بالأداء أو بالإبراء.
ونص القانون السوري (م 53) على أنه: يجب للزوجة المهر بمجرد العقد الصحيح، سواء أسمي عند العقد أم لم يسم أم نفي أصلاً.
وأدلة وجوب المهر: ما يأتي (1) :
1 ً - القرآن: قال تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء:4/4] أي عطية من الله مبتدأة أو هدية. والمخاطب به الأزواج عند الأكثرين، وقيل: الأولىاء؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يأخذونه، ويسمونه نحلة، وهو دليل على أن المهر رمز لإكرام المرأة، والرغبة في الاقتران.
وقال سبحانه: {فما استمتعتم به منهن، فآتوهن أجورهن فريضة} [النساء: 24/4] وقال تعالى: {وآتوهن أجورهن} [النساء:25/4] {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} [النساء:24/4] .
2 ً - السنة: قال صلّى الله عليه وسلم لمريد التزوج: «التمس ولو خاتماً من حديد» (1) ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لم يخل زواجاً من مهر.
وتسن تسمية المهر في العقد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يخل نكاحاً عنه، ولأنه أدفع للخصومة، ولئلا يشبه نكاح الواهبة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم.
3 ً - وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح:
__________
(1) المغني: 679/6، المهذب: 55/2.(9/238)
والحكمة من وجوب المهر: هو إظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وتقديم الدليل على بناء حياة زوجية كريمة معها، وتوفير حسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، ودوام الزواج. وفيه تمكين المرأة من التهيؤ للزواج بما يلزم لها من لباس ونفقة.
وكون المهر واجباً على الرجل دون المرأة: ينسجم مع المبدأ التشريعي في أن المرأة لا تكلف بشيء من واجبات النفقة، سواء أكانت أماً أم بنتاً أم زوجة، وإنما يكلف الرجل بالإنفاق، سواء المهر أم نفقة المعيشة وغيرها؛ لأن الرجل أقدر على الكسب والسعي للرزق، وأما المرأة فوظيفتها إعداد المنزل وتربية الأولاد وإنجاب الذرية، وهو عبء ليس بالهيِّن ولا باليسير، فإذا كلفت بتقديم المهر، وألزمت السعي في تحصيله اضطرت إلى تحمل أعباء جديدة، وقد تمتهن كرامتها في هذا السبيل.
ووضع القرآن مبدأ توزيع المسؤوليات المالية بين الرجل والمرأة، فقال سبحانه: {الرجال قوَّامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء:34/4] .
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد (نيل الأوطار: 170/6) .(9/239)
المهر ليس ركناً ولا شرطاً في الزواج:
أوضحت في شروط الزواج أن المهر ـ وإن كان واجباً في العقد ـ إلا أنه ليس ركناً ولا شرطاً من شروط الزواج (1) ، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، لذا اغتفر فيه الجهل اليسير والغرر الذي يرجى زواله؛ لأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع، فإذا تم العقد بدون مهر صح، ووجب للزوجة المهر اتفاقاً.
والدليل قوله تعالى: {لاجناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/2] فإنه أباح الطلاق قبل الدخول وقبل فرض المهر، مما يدل على أن المهر ليس ركناً ولا شرطاً.
وثبت في السنة عن علقمة قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدّة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بَرْدَع بنة واشق بمثل ما قضى» (2) .
ويؤكده حديث عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل: «إني أزوجك فلانة؟ قال: نعم، قال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم،
__________
(1) البدائع: 274/2، كشاف القناع: 144/5، 174، المهذب: 55/2، 60، مغني المحتاج: 229/3، بداية المجتهد: 25/2، الشرح الصغير: 449/2.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه أيضاً ابن مهدي (نيل الأوطار: 172/6) .(9/240)
فزوج أحدهما من صاحبه، فدخل عليها ولم يُفرض لها به صداق؛ فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقاً، ولم أعطها شيئاً، وإني قد أعطيتها عن صداقي سهمي بخيبر، فأخذت سهمه، فباعته بمائة ألف» (1) .
وبناء عليه: لو اتفق الزوجان بدون مهر، أو سميا ما لا يملك شرعاً كالخمر والخنزير والنجس كروث دواب، صح العقد عند الجمهور غير المالكية، ووجب للمرأة مهر المثل، بالدخول أو الموت. وقال المالكية: إن اتفق الزوجان على إسقاط المهر فهو نكاح فاسد.
نكاح التفويض: قال ابن رشد وغيره (2) : أجمع الفقهاء على أن نكاح التفويض جائز: وهو أن يعقد النكاح دون صداق، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/2] . لكن نكاح التفويض يشمل عند الجمهور حالة الاتفاق على عدم المهر، وعدم تسمية المهر، وأما عند المالكية فيقتصر على الحالة الثانية، وأما الاتفاق على إسقاط المهر فيفسد الزواج.
ثانياً ـ مقدار المهر ـ التغالي في المهور:
ليس للمهر حد أقصى بالاتفاق (3) ؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على تحديده بحد أعلى، لقوله تعالى: { ... وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً} [النساء:20/4] .
تنبهت امرأة إلى هذه الآية، حينما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحديد المهور، فنهى أن يزاد في الصداق على أربع مئة درهم، وخطب الناس فيه، فقال (4) : لا تُغْلوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية ـ أي من الفضة (5) ـ فمن زاد على أربعمائة شيئاً، جعلت الزيادة في بيت المال، فقالت له امرأة من قريش بعد نزوله من على المنبر: ليس ذلك إليك يا عمر، فقال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً} [النساء:20/4] فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ. ورواه أبو يعلى في الكبير: فقال: اللهم غفراً، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس، إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب (6) .
ولكن يسن تخفيف الصداق وعدم المغالاة في المهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» (7) وفي رواية «إن أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً» وروى أبو داود وصححه الحاكم عن عقبة بن عامر حديث: «خير الصداق أيسره» .
__________
(1) أخرجه أبو داود والحاكم.
(2) بداية المجتهد: 25/2، القوانين الفقهية: ص 203، البدائع: 274/2، الدر المختار: 460/2، مغني المحتاج: 228/3.
(3) البدائع: 286/2، الدر المختار: 452/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 202، المهذب: 55/2، كشاف القناع: 142/5.
(4) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه وأحمد وابن ماجه (الخمسة) عن أبي العجفاء (نيل الأوطار: 168/6) .
(5) الأوقية: أربعون درهماً.
(6) مجمع الزوائد: 283/4 وما بعدها، سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين نقلاً عن سيرة عمر لابن الجوزي: 321/1، تكملة المجموع: 482/15.
(7) رواه أحمد عن عائشة، وفيه ضعيف (نيل الأوطار: 168/6) .(9/241)
والحكمة من منع المغالاة في المهور واضحة وهي تيسير الزواج للشباب، حتى لا ينصرفوا عنه، فتقع مفاسد خلقية واجتماعية متعددة، وقد ورد في خطاب عمر السابق: «وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه» .
أقل المهر: أما الحد الأدنى للمهر فمختلف فيه على آراء ثلاثة: قال الحنفية (1) : أقل المهر عشرة دراهم، لحديث: «لا مهر أقل من عشرة دراهم» (2) وقياساً على نصاب السرقة: وهو ما تقطع به يد السارق فإنه عندهم دينار أو عشرة دراهم، إظهاراً لمكانة المرأة، فيقدر المهر بما له أهمية. وأما حديث «التمس ولو خاتماً من حديد» فحملوه على المهر المعجل؛ لأن العادة عندهم تعجيل بعض المهر قبل الدخول، وقد منع صلّى الله عليه وسلم علياً أن يدخل بفاطمة رضي الله عنها حتى يعطيها شيئاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء، فقال: أعطها درعك، فأعطاها درعه (3) .
وقال المالكية (4) : أقل المهر ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فضة خالصة من الغش، أو ما يساويها مما يقوم بها من عروض أو من كل طاهر لا نجس، متمول شرعاً من عرض أو حيوان أو عقار، منتفع به شرعاً، أي يحل الانتفاع به لا كآلة لهو، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً، ودليلهم أن المهر وجب في الزواج إظهاراً لكرامة المرأة ومكانتها، فلا يقل عن هذا المقدار الذي هو نصاب السرقة عندهم، مما يدل على خطره، فلو تزوج رجل امرأة بأقل من هذا المقدار، وجب لها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها قيل له: إما أن تتم المهر أو تفسخ العقد.
__________
(1) الدر المختار: 452/2، البدائع: 275/2.
(2) رواه البيهقي بسند ضعيف، ورواه ابن أبي حاتم، وقال الحافظ ابن حجر: إنه بهذا الإسناد حسن.
(3) رواه أبو داود والنسائي.
(4) الشرح الصغير: 428/2.(9/242)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا حد لأقل المهر، ولا تتقدر صحة الصداق بشيء، فصح كون المهر مالاً قليلاً أو كثيراً، وضابطه: كل ما صح كونه مبيعاً أي له قيمة صح كونه صداقاً، وما لا فلا، ما لم ينته إلى حد لا يتمول، فإن عقد بما لا يتمول ولا يقابل بما يتمول كالنواة والحصاة، فسدت التسمية ووجب مهر المثل. ودليلهم:
أـ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/4] فلم يقدره الشرع بشيء، فيعمل به على إطلاقه.
ب ـ الحديث المتقدم: «التمس ولو خاتماً من حديد» فيدل على أن المهر يصح بكل ما يطلق عليه اسم المال.
جـ ـ روى عامر بن ربيعة أن امرأة من فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رضيتِ من مالك ونفسك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه» (2) وأخرج أبو داود عن جابر موقوفاً: «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يده طعاماً، كانت له حلالاً» .
د ـ إن المهر حق المرأة، شرعه الله إظهاراً لمكانتها، فيكون تقديره برضا الطرفين، ولأن المهر بدل الاستمتاع بالمرأة، فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها.
وهذا هو الرأي الراجح لقوة دليله من القرآن والسنة، وقال أصحاب هذا الرأي: يسن أن يكون المهر من أربع مئة درهم إلى خمس مئة درهم، وألا يزيد على
__________
(1) المهذب: 55/2، مغني المحتاج: 220/3، كشاف القناع: 142/5 وما بعدها، المغني: 680/6 وما بعدها، و 739.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.(9/243)
ذلك، لما روت أم حبيبة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تزوجها وهي بأرض الحبشة ... ولم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم» (1) ، وروت عائشة: «أن صداق النبي صلّى الله عليه وسلم على أزواجه خمسمائة درهم» (2) والمستحب الاقتداء به عليه السلام، والتبرك بمتابعته.
وإن زاد الصداق على خمسمائة درهم فلا بأس، لما روت أم حبيبة في الحديث المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بأرض الحبشة، زوَّجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حَسَنة، فلم يبعث لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيء» ولو كره ذلك لأنكره.
ويكره ترك تسمية المهر في العقد؛ لأنه قد يؤدي إلى التنازع في فرضه.
ويستحب ألا ينقص عن عشرة دراهم، خروجاً من خلاف من قدر أقله بذلك.
مهر السر ومهر العلانية: إن تزوجها على صداقين: صداق في السر، وصداق في العلانية، فالواجب عند الشافعية والمالكية والحنفية، ما عقد به العقد؛ لأن الصداق يجب بالعقد، فوجب ما عقد به؛ ولأن إظهار العلانية ليس بعقد، ولا يتعلق به وجوب شيء.
ويؤخذ بالعلانية عند الحنابلة، وإن كان صداق السر قد انعقد به النكاح؛ لأنه إذا عقد في الظاهر عقد بعد عقد السر، فقد وجد منه بذل الزائد، على مهر السر، فيجب الزائد عليه، كما لو زادها على صداقها.
اختلاف القبول عن الإيجاب: إن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، وقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة، وجب مهر المثل عند الشافعية؛ لأن الزوج لم يقبل بألف، والولي لم يوجب بخمسمائة، فسقط الجميع، ووجب مهر المثل.
وأخذ القانون السوري (م 54) برأي الشافعية والحنابلة.
ونص المادة: 1 - لا حد لأقل المهر ولا لأكثره. 2 - كل ما صلح التزامه شرعاً صلح أن يكون مهراً.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار: 169/6) .
(2) رواه مسلم.(9/244)
ثالثاً ـ شروط المهر أو ما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح:
يشترط في الصداق شروط ثلاثة (1) :
الأول ـ أن يكون مما يجوز تملكه وبيعه من العين (الذهب) والعروض ونحوها، فلا يجوز بخمر وخنزير وغيرهما مما لا يتملك.
الثاني ـ أن يكون معلوماً: لأن الصداق عوض في حق معاوضة، فأشبه الثمن، فلايجوز بمجهول إلا في نكاح التفويض: وهو أن يسكت العاقدان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما أو إلى غيرهما. ولا يجب عند المالكية والحنفية خلافاً للشافعي وأحمد وصف العروض. وإن وقع على غير وصف فلها الوسط.
الثالث ـ أن يسلم من الغرر: فلا يجوز فيه عبد آبق ولا بعير شارد وشبههما.
وزاد الحنفية شرطاً رابعاً: وهو أن يكون النكاح صحيحاً، فلا تصح التسمية في النكاح الفاسد، فلا يلزم المسمى؛ لأن الفاسد ليس بنكاح، ويجب مهر المثل بالوطء.
وبناء عليه وضع الفقهاء ضوابط لما يصلح أن يكون مهراً وما لا يصلح:
فقال الحنفية (2) : المهر: هو كل مال متقوم معلوم مقدور على تسليمه. فيصح كون المهر ذهباً أو فضاً، مضروبة أو سبيكة، أي نقداً أو حلياً ونحوه، ديناً أوعيناً، ويصح كونه فلوساً أو أوراقاً نقدية، مكيلاً أو موزوناً، حيواناً أوعقاراً، أو عروضاً تجارية كالثياب وغيرها.
ـ ويصح أيضاً كونه منفعة شخص أو عين يستحق في مقابلها المال، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وركوب السيارة ونحوها.
__________
(1) البدائع: 277/2-287، الشرح الكبير: 294/2، القوانين الفقهية: ص 201، كشاف القناع: 147/5، مغني المحتاج: 220/3 وما بعدها.
(2) البدائع، المكان السابق، الدر المختار: 253/2، 458-461، أحكام القرآن للجصاص: 143/2.(9/245)
ـ أما الزواج على أن يعلمها القرآن أو بعضه أو بعض أحكام الدين من حلال وحرام، فلا يصح عند متقدمي الحنفية، لقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} [النساء:24/4] ولأن المسمى ليس بمال؛ لأن تعليم القرآن ونحوه من الطاعات قربة إلى الله تعالى، لا يصح الاستئجار عليها عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولايصح أن يقابل التعليم بالمال، وحينئذ لا تصح التسمية، ويجب مهر المثل؛ لأنها منفعة لا تقابل بمال.
وأفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القران وأحكام الدين، للحاجة إليه بسبب تغير الأحوال واشتغال الناس بشؤون المعيشة، فلا يتفرغ المعلم من غير أجر. وعليه يجوز جعل المهر تعليم القرآن أو أحكام الدين، ويدل له حديث سهل بن سعد، الذي جاء فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن، فقال: «قد زوجتُكها بما معك من القرآن» (1) وفي رواية متفق عليها: «قد ملكتكها بما معك من القرآن» .
ـ ولا يصح كون المهر ما ليس مالاً متقوماً كأن يتزوج مسلم مسلمة على التراب أو الدم أو الخمر أو الخنزير؛ لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم، ولا يصح زواج امرأة على طلاق امرأة أخرى أو على العفو عن القصاص؛ لأن الطلاق ليس بمال، وكذا القصاص.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 170/6) .(9/246)
ـ ولا يصح نكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل أخته لآخر، على أن يزوجه الآخر أخته، أو يزوجه ابنته، هذه التسمية فاسدة؛ لأن كل واحد منهما جعل بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال، ففسدت التسمية، ووجب لكل واحدة منهما مهر المثل، والنكاح صحيح عندهم. وعند الجمهور: فاسد أو باطل؛ لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار. والنهي يوجب فساد المنهي عنه. ووجهة الحنفية: أن هذا الزواج مؤبد، أدخل فيه شرط فاسد، حيث شرط فيه أن يكون بُضْع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع لا يصلح مهراً، والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة، كما إذا تزوج امرأة على أن يطلقها، وعلى أن ينقلها من منزلها ونحوه. أما النهي عن نكاح الشغار فهو الخالي عن العوض، وعندهم هو نكاح بعوض وهو مهر المثل، فلا يكون شغاراً.
ـ ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة، كرعي غنمها سنة، فالتسمية فاسدة، ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المنافع ليست بأموال متقومة عندهما، فلم تكن عندهما مضمونة بالغصب والإتلاف، وإنما يثبت لها التقوم إذا ورد العقد عليها، للضرورة، دفعاً للحاجة بها.
وعند الشافعي وباقي الأئمة: التسمية صحيحة، وللمرأة خدمة سنة؛ لأن المبدأ عندهم: كل ما يجوز أخذ العوض عنه، يصح تسميته مهراً، ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها؛ لأن إجارة الحر جائزة بلا خلاف فصح تسميتها، والمنافع عندهم أموال متقومة.
ـ ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على منافع الأعيان مدة معلومة، كما تقدم، مثل سكنى داره، وركوب دابته والحمل عليها، وزراعة أرضه ونحوها؛ لأن هذه المنافع أموال، أو التحقت بالأموال شرعاً في سائر العقود للحاجة.(9/247)
ـ ويصح الزواج على متقوم مجهول جهالة يسيرة؛ لأن المال غير مقصود في الزواج، فيتسامح فيه بما لا يتسامح في المعاوضات المالية، ولا يصح الزواج على ما هو مجهول جهالة فاحشة؛ لأنه يفضي إلى النزاع، وكل ما يفضي إلى المنازعة يفسد العقد.
والفرق بين نوعي الجهالتين: أن الجهالة الفاحشة: ما كان الجنس أو النوع أو المقدار فيها مجهولاً، كأن يتزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب؛ لأن كل واحد منها جنس يدخل تحته أنواع مختلفة. أو يتزوج على قطن دون بيان نوعه، أو على دار دون بيان حجمها؛ لأن للقطن أنواعاً مختلفة، وتختلف الدارفي الصغر والكبر، والبلد والموقع، والهيئة والطريق.
وأما الجهالة اليسيرة: ما كان المسمى معلوم الجنس والنوع، مجهول الصفة كطن حنطة أو قنطار قطن، دون بيان الوصف، فجهالة الوصف عند الحنفية والمالكية لا تضر؛ لأنها يسيرة، ويجب الوسط من النوع المعين أو قيمته من غير إجحاف بالزوجة أو الزوج؛ لأنه هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين. وقال الشافعية والحنابلة: جهالة الوصف تضر؛ لأنها تفضي إلى المنازعة كجهالة الجنس.
ضابط ما يصلح مهراً عند المالكية:
قال المالكية (1) : المهر: هو كل متموَّل شرعاً من عَرَض أو حيوان أو عقار، طاهر لا نجس إذ لا يقع به تقويم شرعاً، منتفع به شرعاً، إذ غير المنتفع به كآلة اللهو لا يقع به تقويم، مقدور على تسليمه للزوجة، معلوم قدراً وصنفاً وأجلاً.
فلا يصح كون المهر غير متمول: كقصاص وجب للزوج على زوجته، فتزوجها على تركه، فيفسخ قبل الدخول، فإن دخل وجب صداق المثل، ويرجع للدية. ومثل سمسرة كأن يتزوجها سمساراً في بيع سلعة لها.
ولا يصح على ما لا يملك شرعاً كخمر وخنزير ونجس كروث دابة.
ولا على غير مقدور على تسليمه كآبق، وما فيه غرر كجنين وثمرة لم يبد صلاحها على أن تبقى حتى تطيب. فإن شرط أخذها من هذا الوقت بالجداد (صِرَام النخل) جاز.
__________
(1) الشرح الصغير: 429/2-432، وانظر أيضاً ص 385، القوانين الفقهية: ص 201، بداية المجتهد: 20/2، 27.(9/248)
ولا على مجهول كشيء أو ثوب لم يعين نوعه، أو دنانير لم يبين قدرها، أو شيء لم يبين أجل تسليمه، أو فرس من أفراسه يختاره هو لا هي؛ لاحتمال اختياره الأدنى أوالأعلى. أما إذا كان الاختيار لها، على أنها لا تختار إلا الأحسن فيجوز، إذ لا غرر.
وجاز المهر الذي فيه جهالة يسيرة أو غرر يسير، لبناء الزواج على المكارمة والتسامح، كأن يتزوجها على مهر مثلها، أو على جهاز البيت المعلوم بينهم وهو ما يسمى: شَوْرة: أي متاع البيت، ويقع على الوسط، أي وسط ما يتناكح به الناس.
وجاز المهر على عدد معلوم كعشرة من إبل وغنم، ويقع على الوسط، ويعتبر الوسط في السن وفي الجودة والرداءة.
ولا يجوز المهر على منفعة لا يستحق في مقابلها المال، فلا تصح مهراً، كأن يتزوجها ويجعل مهرها طلاق ضَرتها، أوألا يتزوج عليها، أو ألا يخرجها من بلدها، فإن كل منفعة من هذه المنافع لا تصلح أن تكون مهراً؛ لأنها لا تقابل بمال، ولا يجوز في المشهور عندهم كالحنفية النكاح على الإجارة كالخدمة وتعليم القرآن، وقيل: يجوز وفاقاً للشافعي وابن حنبل.(9/249)
ضابط ما يصلح مهراً عند الشافعية والحنابلة (1) :
قالوا: كل ما صح مبيعاً صح صداقاً، أو كل ما صح ثمناً أو أجرة، صح مهراً وإن قل، وهو كل متمول سواء أكان عيناً أم ديناً، معجلاً ومؤجلاً، عملاً ومنفعة معلومة، كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوبها، ورد آبقها من موضع معين، وخدمة مدة معينة، وتعليم القرآن أو شيء من الشعر المباح أو الأدب، أو تعليم كتابة أو صنعة وغيرها من المنافع المباحة، لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حِجَج} [القصص:27/28] ولأن الزواج عقد على المنفعة فجاز بما ذكر كالإجارة، ولأن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، فجازت صداقاً، وللحديث المتقدم: «قد زوجتكها بما معك من القرآن» .
فإن طلقها قبل الدخول وقبل استيفاء المنفعة، فعليه نصف أجرة النفع الذي جعله صداقاً لها.
والحاصل: أن المهر على أن يخدم الرجل المرأة بنفسه في البيت أو غيره لا يجوز عند الحنفية، ويجوز عند الشافعية، ويجوز عند الحنابلة لمدة معينة. ويصح أن يتزوج الرجل امرأة على عمل معلوم، كخياطة ثوب معين منه ومن غيره، فإن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل.
ولا يجوز أن يكون المهر شيئاً محرَّماً والزوجان مسلمان أو المرأة كتابية، مثل الخمر والخنزير والمغصوب، وتعليم التوراة أو الإنجيل أو شيء منهما، فإن تزوج الرجل بمحرَّم، صح النكاح ووجب مهر المثل لفساد التسمية، بانتفاء كون الخمر والخنزير مالاً، وانتفاء كون المغصوب ملكاً للزوج، ولأن المذكور من التوراة أو الإنجيل منسوخ مبدل محرم، فهو كما لو أصدقها محرماً.
__________
(1) مغني المحتاج: 220/3، 225، المهذب: 56/2، كشاف القناع: 143/5-147، المغني: 687/6، 694-698.(9/250)
ولا يصح كون المهر فيه غرر كالمعدوم والمجهول، ولا ما لا يتم تملكه له كالمبيع قبل القبض، ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والبعير الشارد والطير الطائر؛ لأنه عوض في عقد، فلا يجوز به كالعوض في البيع والإجارة. فإن تزوج على شيء منه لم يبطل النكاح؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه أي عدم المهر، فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم ترض من غير بدل، ولم يسلم لها البدل، وتعذر رد المعوض، فوجب رد بدله، كما لو باع سلعة بمحرم وتلفت في يد المشتري.
وتضر الجهالة الفاحشة بأن كانت هناك جهالة في الجنس أو النوع أو المقدار أو الصفة، فإن أصدقها داراً غير معينة، أو دابة مبهمة، أو شيئاً لم يعينه ولم يصفه، أو أصدقها مجهولاً كمتاع بيته، وما يحكم به أحد الزوجين أو ما يحكم به زيد، أو ما يثمر شجره ونحوه، لم يصح. وإن أصدقها ما لا منفعة فيه كالحشرات، أو أصدقها ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء، أو ما لا يتمول عادة كقشرة جوزة وحبة حنطة، لم يصح الإصداق للجهالة أو الغرر أو عدم التمول.
وجوب مهر المثل عند فساد المهر: يتبين مما سبق أن المهر إذا فسدت تسميته يجب مهر المثل باتفاق الفقهاء، ويفسد العقد أيضاً عند المالكية ويجب فسخ الزواج إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فإن دخل بها وجب مهر المثل. وقال الجمهور: إذا فسد المهر لا يفسد العقد، بل يكون صحيحاً، فإن حصلت الفرقة قبل الدخول، كان لها المتعة، وإن حصلت الفرقة بعد الدخول كان لها مهر المثل؛ لأن فساد المهر ـ كما تقدم ـ لا يزيد على عدم تسميته عند العقد، فإذا صح العقد مع عدم المهر، صح بفساد المهر؛ لأن ذكره كالعدم.(9/251)
رابعاً ـ أنواع المهر وحالات وجوب كل نوع:
المهر عند الفقهاء نوعان: مهر مسمى ومهر المثل (1) :
أما المهر المسمى: فهو ما سمي في العقد أو بعده بالتراضي، بأن اتفق عليه صراحة في العقد، أو فرض للزوجة بعده بالتراضي، أو فرضه الحاكم، لعموم قوله تعالى: {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] .
ويعد من المهر المسمى في العقد: ما يقدمه الزوج عرفاً لزوجته قبل الزفاف أو بعده، كثياب الزفاف أو هدية الدخول أو بعده؛ لأن المعروف بين الناس كالمشروط في العقد لفظاً، ويجب إلحاقه بالعقد، ويلزم الزوج به إلا إذا شرط نفيه وقت العقد.
ونص المالكية (2) على أن ما يهدى للمرأة قبل العقد أو حال العقد، يعد من المهر، ولو لم يشترط، وكذا ما أهدي إلى وليها قبل العقد، فلو طلقت قبل الدخول، كان للزوج أن يرجع بنصف ما أهداه، أما ما أهدي إلى الولي بعد العقد فيختص به، وليس للزوجة ولا للزوج أخذه منه.
__________
(1) البدائع: 274/2، 277، 280، 287، الدر المختار: 460/2، 487 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 22/3 وما بعدها، الشرح الكبير: 300/2، 313، الشرح الصغير: 449/2، 452 وما بعدها، مغني المحتاج: 227/3-239 وما بعدها، كشاف القناع: 174/5، 178، المغني: 712/6-716، المهذب: 60/2.
(2) الشرح الصغير: 255/2 وما بعدها.(9/252)
وأما مهر المثل:
فقد حدده الحنفية: بأنه مهر امرأة تماثل الزوجة وقت العقد من جهة أبيها، لا أمها إن لم تكن من قوم أبيها، كأختها وعمتها وبنت عمها، في بلدها وعصرها. وتكون المماثلة في الصفات المرغوبة عادة: وهي المال والجمال والسن والعقل والدين؛ لأن الصداق يختلف باختلاف البلدان، وباختلاف المال والجمال والسن والعقل والدين، فيزداد مهر المرأة لزيادة مالها وجمالها وعقلها ودينها وحداثة سنها، فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه الصفات، ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها. فإن لم يوجد من تماثلها من جهة أبيها، اعتبر مهر المثل لامرأة تماثل أسرة أبيها في المنزلة الاجتماعية. فإن لم يوجد فالقول للزوج بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي تدعيها المرأة.
ويشترط لثبوت مهر المثل: إخبار رجلين، وامرأتين، ولفظ الشهادة، فإن لم يوجد شهود عدول، فالقول للزوج بيمينه، لما ذكر.
وحدد الحنابلة مهر المثل: بأنه معتبر بمن يساويها من جميع أقاربها، من جهة أبيها وأمها، كأختها وعمتها، وبنت عمتها، وأمها، وخالتها وغيرهن القربى
فالقربى، لحديث ابن مسعود السابق في المرأة المفوضة (1) : «لها مهر نسائها» ولأن مطلق القرابة له أثر في الجملة، فإن لم يكن أقارب اعتبر شبهها بنساء بلدها، فإن عدمن اعتبر أقرب النساء شبهاً بهاً من أقرب البلاد إليها.
وحدد المالكية والشافعية مهر المثل: بأنه ما يرغب به مثله ـ أي الزوج ـ في مثلها ـ أي الزوجة ـ عادة.
__________
(1) المفوضة بكسر الواو وفتحها، من التفويض وهو الرد أو التصيير إليه، وهو نوعان عند الحنابلة: تفويض البضع: وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق. وتفويض المهر: وهو أن يتزوجها الرجل على ماشاءت أو على ما شاء الزوج أو الولي أو على ما شاء أجنبي غير الزوجين (كشاف القناع: 174/5 وما بعدها) .(9/253)
ويعتبر مهر المثل عند الشافعية بمهر نساء العصبات، لحديث علقمة: قال: «أتي عبد الله ـ أي ابن مسعود ـ في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: أرى لها مثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العدة، فشهد مَعْقِل بن سنان الأشجعي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في بردع بنة واشق بمثلما قضى» (1) ، وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن، وأقربهن الأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام، فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر بأقرب النساء إليها من الأمهات والخالات؛ لأنهن أقرب إليها، فإن لم يكن لها أقارب، اعتبر بنساء بلدها، ثم بأقرب النساء شبهاً بها.
ويعتبر مهر المثل عند المالكية (2) بأقارب الزوجة وحالها في حسبها ومالها وجمالها، مثل مهر الأخت الشقيقة أو لأب، لا الأم ولا العمة لأم أي أخت أبيها من أمه، فلا يعتبر صداق المثل بالنسبة إليهما؛ لأنهما قد يكونان من قوم آخرين.
وتعتبر المساواة باتفاق المذاهب كما ذكر عند الحنفية: في التدين والمال والجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والبلد والنسب والحسب: وهو ما يعد من مفاخر الآباء من كرم وعلم وحلم ونجدة وصلاح وإمارة ونحوها من كل ما يختلف لأجله الصداق.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي وابن حبان، وصححه أيضاً ابن مهدي (نيل الأوطار: 172/6) .
(2) الشرح الكبير: 316/2-317، القوانين الفقهية: ص 204.(9/254)
وتلاحظ هذه الأوصاف في النكاح الصحيح يوم العقد، وفي النكاح الفاسد يوم الوطء؛ لأنه الوقت الذي يتقرر به صداق المثل، كوطء الشبهة، فإنه يجب صداق المثل فيه بحسب الأوصاف يوم الوطء.
قال الحنابلة: وإن كانت عادة أقاربها تخفيف المهر، لوحظ التخفيف، وإن كانت عادتهم تسمية مهر كثير لا يستوفونه قط، فوجوده كعدمه. وإن كانت عادتهم التأجيل فرض مؤجلاً؛ لأنه مهر نسائها، وإن لم يكن عادتهم التأجيل فرض حالاً؛ لأنه بدل متلف، فوجب أن يكون حالاً كقيم المتلفات. فإن اختلفت عادتهن في الحلول والتأجيل، أو اختلفت مهورهن قلة وكثرة، أخذ بالوسط منها؛ لأنه العدل، وأخذ بنقد البلد الحالي، فإن تعدد فمن غالبه؛ لأنه بدل متلف، فأشبه قيمة المتلفات.
حالات وجوب مهر المثل: يجب مهر المثل للزوجة في الأحوال التالية:
1 - نكاح التفويض: أن يكون العقد صحيحاً، ولكن بدون تسمية المهر، وتسمى المرأة مفوَّضة بكسر الواو أو فتحها، ففي حالة الكسر: ينسب التفويض إلى المرأة، أي فهي التي فوضت تقدير المهر إلى الزوج، وفي حالة الفتح: ينسب الفعل إلى الولي، فتكون المرأة قد فوض أمرها إلى الزوج، ويسمى العقد عقد تفويض.
والتفويض عند الحنفية (1) : أن يتزوج رجل امرأة دون أن يسمي لها مهراً، فالمفوضة: هي من فوضت أمرها لوليها وزوجها بلا مهر، أو هي من فوضها وليها إلى الزوج بلا مهر، كأن يقول الرجل لولي المرأة: زوجني فلانة، فيقول: قبلت، ولا يذكران مهراً، فإن دخل بها أو مات قبل تسمية المهر وجب لها مهر المثل، وإن طلقت قبل الدخول فلا شيء لها من المهر، وإنما يجب لها المتعة اتفاقاً.
__________
(1) البدائع: 274/2، الدر المختار ورد المحتار: 460/2 وما بعدها.(9/255)
والتفويض عند المالكية (1) : عقد بلا تسمية مهر، ولا دخول على إسقاطه، ولا تفويض الصداق لحكم أحد، فإن دخل الزوجان مع الاتفاق على إسقاطه، فليس من التفويض، بل نكاح فاسد. أو هو بعبارة أخرى: أن يسكت الطرفان عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض التعيين إلى أحدهما، أو إلى غيرهما، ثم لا يدخل بها حتى يتعين. فإن فرضه أحدهما بعد تفويض الآخر، لزمه، ويلزم المرأة إن فرض لها صداق المثل أو أكثر، أما إن فرض لها الأقل فلا تلزم به إلا برضاها.
وإن لم يرض الزوج، كان مخيراً بين أمور ثلاثة: إما أن يبذل صداق المثل، أو يرضى بفرضها، أو يطلق. فإن مات قبل الدخول وقبل الفرض، فلا صداق لها، ولها الميراث اتفاقاً. وإن طلقها قبل الدخول فلا نصف لها إلا إن كان قد فرض لها، فإن فرض لها صداق المثل أو ما رضيت به قبل الدخول تشطر المهر أي تنصف. وإن فوض الصداق لحكم أحد جاز أيضاً ويسمى نكاح تحكيم، وهو كنكاح التفويض: عقد زواج بلا تسمية مهر ولا دخول على إسقاطه.
والتفويض عند الشافعية (2) : هو كما عند الحنفية تفويض البُضْع، وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 203، الشرح الكبير: 313/2-317، الشرح الصغير: 449/2.
(2) المهذب: 60/2، مغني المحتاج: 228/3-231.(9/256)
المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عن المهر أوشرط نفيه، ولايصح تفويض غير رشيدة، وحكمه على الصحيح عنده أنه لا يجب لها المهر بالعقد؛ لأنه لو وجب لها المهر بالعقد، لتنصف بالطلاق، ويفرض لها ما يتفقان عليه، ومتى فرض لها المهر، صار المفروض كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت، والتنصف بالطلاق؛ لأنه مهر مفروض، فصار كالمفروض في العقد. وللمرأة قبل الدخول مطالبة الزوج بأن يفرض لها مهر، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ويجوز فرض مؤجل في الأصح، وفوق مهر المثل، ولو امتنع من الفرض أوتنازعا فيه فرض القاضي مهر المثل. فإن لم يفرض لها مهر حتى طلقها، لم يجب لها شيء من المهر، كما قال المالكية، لقوله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] فدل على أنه إذا لم يفرض المهر لم يجب النصف.
وإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل.
وإن مات الزوجان أو أحدهما قبل الفرض، وجب مهر المثل في الأظهر كما رجح النووي؛ لأن الموت كالوطء في تقرير المسمى، ولأن بَرْوَع بنت واشق نكحت بلا مهر، فمات زوجها قبل أن يفرض لها، فقضى لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمهر نسائها وبالميراث (1) .
والحاصل: أنه بالتفويض لا يجب شيء بنفس العقد، وإنما يجب مهر المثل بالوطء، ويتقرر مهر المثل بحال العقد في الأصح، ويشترط رضاها بما يفرضه الزوج، ولا يصح فرض أجنبي من ماله في الأصح؛ لأنه خلاف ما يقتضيه العقد، وإن طلق قبل فرض ووطء فلا شطر، أي لا تأخذ نصف المهر، لمفهوم الآية، والأظهر وجوب مهر المثل بالموت قبل فرض مهر.
__________
(1) رواه أبو داود وغيره، وقال الترمذي: حسن صحيح.(9/257)
والتفويض عند الحنابلة نوعان (1) كما يقول المالكية:
1 - تفويض البضع (2) : وهو الذي ينصرف الإطلاق إليه، وهو أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عند الصداق أم شرط نفيه، فيصح العقد، ويجب لها مهر المثل، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:237/2] ولقضائه صلّى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، كما تقدم.
2 - تفويض المهر: وهو أن يتزوجها على ما شاءت، أو على ماشاء الزوج أو الولي، أو على ما شاء أجنبي غير الزوجين، أو يقول الولي: زوجتكها على ما شئنا أو على حكمنا ونحوه، فالنكاح صحيح في جميع هذه الصور، ويجب مهر المثل؛ لأنها لم تأذن في تزويجها إلا على صداق، لكنه مجهول فقط.
ووجب مهر المثل في النوعين بالعقد؛ لأنها تملك المطالبة به، فكان واجباً كالمسمى، ولأنه لو لم يجب بالعقد لما استقر بالموت أو يجب بعد دخوله بها، فإن دخل الزوج بالمفوضة قبل الفرض استقر به مهر المثل.
فإن تراضى الزوجان المكلفان الرشيدان على فرض المهر، لزم ما اتفق عليه، وصار حكمه حكم المسمى في العقد، قليلاً كان أو كثيراً. وإن لم يتراضيا على شيء، فرض الحاكم بقدر مهر المثل، كما قال الشافعية.
وصار المفروض بالاتفاق أو بالقضاء كالمسمى في العقد، يتنصف بالطلاق قبل الدخول، ولا تجب المتعة معه، لعموم آية {وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] .
وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وقبل الفرض، ورثه صاحبه، وكان للمفوضة مهر المثل. وإن فارق الزوج المفوضة قبل الدخول بطلاق أو غيره لم يكن لها إلا المتعة، لعموم قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قَدَره، وعلى المقتر قَدره} [البقرة:236/2] والأمر يقتضي الوجوب.
والخلاصة: إن نكاح التفويض يوجب مهر المثل بالاتفاق، والمتعة فقط، قبل الدخول ما لم يفرض مهر، ويستقر مهر المثل بالدخول، ويجب مهر المثل بالموت قبل الدخول وقبل فرض المهر في رأي الجمهور، وخالف المالكية فيه، فقالوا: لا يجب لها مهر بالموت.
__________
(1) كشاف القناع: 174/5-177، المغني: 712/6 وما بعدها.
(2) سمي بذلك لأن المرأة فوضت بضع (أي زواج) نفسها، بأن أذنت لوليها أن يزوجها بلا مهر.(9/258)
2 - الاتفاق على عدم المهر: كأن يتزوج رجل امرأة على ألا مهر لها، فتقبل، فيجب لها مهر المثل بالدخول أو بالموت عند الجمهور غير المالكية كما تقدم؛ لأن هذا الاتفاق باطل، واشتراط نفي المهر فاسد، والشرط الفاسد لا يفسد الزواج عند الحنفية، ونفي المهر لا يفسده أيضاً عند الشافعية والحنابلة.
وقال المالكية: إذا اتفق الزوجان على إسقاط المهر، فسد العقد، لكن يجب لها بالدخول مهر المثل. ولا يجب لها شيء بالطلاق أو موت أحدهما قبل الدخول.
3 - التسمية غير الصحيحة للمهر: بأن يكون المسمى غير مال أصلاً كالميتة وحبة القمح وقطرة الماء ونحوها مما لا ينتفع به أصلاً، أو ينتفع به على نحو لا يعتد به. أو يكون المسمى مالاً غير متقوم أو مشتملاً على غرر كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلم ولو كانت الزوجة كتابية، أو على شيء معجوز التسليم، كالطير في الهواء والمعادن في باطن الأرض. أو يكون المسمى مجهولاً جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى النزاع، وهي عند الحنفية كما تقدم: جهالة الجنس أو النوع. يجب في هذه الحالات عند الجمهور مهر بالدخول أو بالموت قبل الدخول.
وقال المالكية (1) : إذا سمي ما لا يصح مهراً، فسد العقد، ولا تستحق المرأة مهر المثل إلا بالدخول، أما إن فارقها قبل الدخول بالموت أو الطلاق، فلا يجب لها شيء كما ذكرت.
__________
(1) الشرح الصغير: 440/2-441.(9/259)
حالة وجوب المهر المسمى، وماذا يجب في الزواج الفاسد:
يجب المهر المسمى إذا كانت التسمية صحيحة، وكان العقد صحيحاً أيضاً، سواء أتمت التسمية في العقد أم بعده بالتراضي.
فإن كان الزواج فاسداً بسبب آخر غير فساد تسمية المهر كالزواج بلا شهود وكزواج المحلل والزواج المؤقت، وجب المهر بالدخول الحقيقي، لقوله صلّى الله عليه وسلم عن عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها..» (1) .
لكن ما هذا المهر الواجب؟ اختلفت الآراء الفقهية في تحديده (2) :
قال أبو حنيفة: للمرأة مهر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا تلاحظ التسمية في حقها، فالتحقت التسمية بالعدم.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) : لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها من المسمى، لرضاها بالمسمى.
واتفق الحنفية على أن الواجب للمرأة في الوطء بشبهة أو في نكاح المتعة هو مهر المثل على ألا يزاد على المسمى، وكذا في نكاح الشغار: الواجب هو مهر المثل؛ لأن الزواج صحيح، فحكمه حكم أي زواج فسدت تسمية المهر فيه كما تقدم. والخلوة عندهم في الزواج الفاسد لا توجب الصداق.
وقال المالكية: الواجب في نكاح الشغار لمن دخل بها الأكثر من المسمى وصداق المثل، ويجب صداق المثل في كل زواج فسدت تسمية المهر فيه. أما إذا فسد العقد بسب آخر غير تسمية الصداق كزواج المحلل مثلاً، فيجب للمرأة المهر المسمى بالدخول، أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل. ويجب الصداق المسمى لكل واحدة من الأختين إذا دخل بهما حال الجمع بينهما.
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عائشة (نيل الأوطار: 118/6) .
(2) البدائع: 286/2، الدر المختار: 457/2، اللباب: 22/3، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 413/2، 446 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 204، مغني المحتاج: 228/3، كشاف القناع: 179/5، المغني: 750/6.(9/260)
وقال الشافعية: المهر الواجب بالوطء هو مهر المثل، مهما بلغ؛ لأن الشرع جعل المهر للمرأة في الزواج الباطل بسبب الوطء، لا بسبب العقد، والوطء يوجب مهر المثل، ولأنه إذا فسدت التسمية لا يلتفت إليها، ويرجع إلى مهر المثل.
وقال الحنابلة: المهر الواجب في النكاح الفاسد بالدخول أو بالخلوة: هو المهر المسمى، لما وقع في بعض ألفاظ حديث عائشة المتقدم: «ولها الذي أعطاها بما أصاب منها» (1) ، ولأن النكاح مع فساده ينعقد ويترتب عليه أكثر أحكام الصحيح، من وقوع الطلاق ولزوم عدة الوفاة بعد الموت ونحوهما، فلزم المسمى فيه كالصحيح. أما الوطء بشبهة فيوجب مهر المثل.
والخلاصة: يجب المهر للمنكوحة نكاحاً صحيحاً والموطوءة في نكاح فاسد، والموطوءة بشبهة، بغير خلاف، ويجب للمكرهة على الزنا، إلا أن الواجب في فساد الزواج عند المالكية والحنابلة: هو المسمى، وعند أبي حنيفة والشافعية هو مهر المثل، وعند الصاحبين: الأقل من المسمى ومهر المثل، واتفق الفقهاء على أن الوطء بشبهة يوجب مهر المثل؛ لأن الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر.
وقال الحنفية (2) : الوطء في دار الإسلام لا يخلو عن حد أو مهر إلا في مسألتين:
الأولى ـ الصبي المراهق إذا تزوج امرأة بلا إذن وليه، ودخل بها، فرد أبوه نكاحها، فلا يجب على الصبي حد ولا عُقْر (مهر) ، أما الحد فلأنه في حال الصبا، وأما المهر (العُقْر) فلأنها إنما زوجت نفسها منه مع علمها أن نكاحه لا ينفذ، فقد رضيت ببطلان حقها.
الثانية: من باع أمته، ووطئها قبل التسليم إلى المشتري، فلا حد عليه ولا مهر؛ لأنه من شبهة المحل، لكونها في ضمانه ويده، إذ لو هلكت عادت إلى ملكه، والخراج بالضمان (الغنم بالغرم) فلو وجب عليه المهر استحقه.
__________
(1) رواه أبو بكر البرقاني وأبو محمد الخلال بإسنادهما.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 507/2 وما بعدها، اللباب: 22/3.(9/261)
خامساً ـ صاحب الحق في المهر:
هناك حقوق ثلاثة في حالة الابتداء تتعلق بالمهر، وحق واحد يتعلق بالمهر حالة البقاء. والمقصود بالابتداء: ابتداء عقد الزواج، وبالبقاء: بقاء أو استمرار الزواج.
أما الحقوق المتعلقة بالمهر حالة الابتداء: فهي حق الله وحق الزوجة وحق الأولياء.
أما حق الله تعالى: فهو وجوب المهر أثراً للعقد، بحيث لا يخلو عنه، ولا يقل عن عشرة دراهم عند الحنفية، وربع دينار أو ثلاثة دراهم عند المالكية، ولا حد لأقله عند الشافعية والحنابلة، فلو انعقد الزواج بدون مهر وجب مهر المثل بحكم الشرع بالدخول. وإن لم يدخل بها، كان مخيراً عند المالكية بين إتمام المهر وبين الفسخ، فإن فسخ وجب للمرأة نصف المسمى.
وأما حق الزوجة: فهو ثبوت ملكها للمهر بالقبض، وألا يقل عن مهر مثلها، فلو زوجها بأقل من مهر مثلها وكانت رشيدة عند الحنفية، وغير مجبرة عند المالكية، فلها حق الاعتراض على هذا الزواج ويبطل تزويج الأب البنت البكر بدون مهر المثل. أما المجبرة أو عديمة الأهلية أو ناقصتها كالصغيرة والمجنونة: فإن كان المزوج لها الأب فليس لها الاعتراض عند المالكية والحنابلة؛ لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها وإن كان المزوج لها غير الأب من الأولياء، فلا يزوجها إلا بمهر المثل. وأثبت الشافعية للمرأة مطلقاً حق الاعتراض إن زوجها وليها بأقل من مهر المثل (1) .
وأما حق الأولياء: فهو عند أبي حنيفة ألا يقل المهر عن مهر المثل، فلو زوجت البكر البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر مثلها، كان لوليها العاصب عنده أن يعترض على هذا العقد ويطلب فسخه؛ لأن الأولياء يعيرون بأقل من مهر المثل، ورضا المرأة بإسقاط حقها لا يسقط حق وليها، فإن أتم الزوج مهر مثلها، لزم العقد وسقط حق الفسخ.
__________
(1) الدر المختار: 419/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 353/2، مغني المحتاج: 149/3، 227، كشاف القناع: 43/5، القوانين الفقهية: ص 203.(9/262)
وأما ما يتعلق بالمهر حالة البقاء: فهو حق المرأة، فيكون ملكاً خالصاً لها لا يشاركها فيه أحد، فلها أن تتصرف فيه، كما تتصرف في سائر أموالها متى كانت أهلاً للتصرف، فلها حق إبراء الزوج منه أو هبته له.
اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه: بناء عليه، قال الشافعية (1) : لو نكح رجل امرأة بألف، على أن لأبيها ألفاً أو أن يعطيه الزوج ألفاً، فالمذهب فساد الصداق في الصورتين؛ لأنه جعل بعض ما التزمه في مقابل البضع لغير الزوجة، ووجوب مهر المثل فيهما لفساد المسمى.
ولكن الحنابلة (2) قالوا: يجوز لأبي المرأة الذي يصح تملكه دون سواه أن يشترط شيئاً من صداق ابنته لنفسه؛ لأن شعيباً زوَّج موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام ابنته على رعاية غنمه، واشتراط ذلك لنفسه، ولأن للوالد الأخذ من مال ولده، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك» ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (3) . ويكون الأخذ أخذاً من مالها، فإذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح الاتفاق، وكان الكل مهرها، ولا يملكه الأب إلا بالقبض مع النية لتملكه، كسائر مالها، وشرطه ألا يجحف بمال البنت. فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، ولم يكن على الأب شيء مما أخذه من مال إن قبضه بنية التملك؛ لأنه أخذه من مال ابنته، فلا رجوع عليه بشيء منه كسائر مالها. وإن طلقها الزوج قبل قبض الصداق المسمى، سقط عن الزوج نصف المسمى، ويبقى النصف للزوجة، يأخذ الأب من النصف الباقي لها ما شاء بشرط ألا يجحف بمال البنت.
وإن فعل ذلك أي اشتراط الصداق أو بعضه غير الأب كالجد والأخ والأب الذي لا يصح تملكه، صحت التسمية ولغا الشرط، والكل لها؛ لأن جميع ما اشترطه عوض في تزويجها، فيكون صداقاً لها، كما لو جعله لها.
__________
(1) مغني المحتاج: 226/3.
(2) كشاف القناع: 151/5 وما بعدها، المغني: 696/6 وما بعدها.
(3) هذا الحديث واحد، الكلام الثاني منه معطوف على الأول، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن (نيل الأوطار: 12/6) .(9/263)
سادساً ـ تعجيل المهر وتأجيله:
أجاز الفقهاء تأجيل المهر، فقال الحنفية (1) : يصح كون المهر معجلاً أو مؤجلاً كله أو بعضه إلى أجل قريب أو بعيد أو أقرب الأجلين: الطلاق أو الوفاة، عملاً بالعرف والعادة في كل البلدان الإسلامية، ولكن بشرط ألا يشتمل التأجيل على جهالة فاحشة، بأن قال: تزوجتك على ألف إلى وقت الميسرة، أو هبوب الرياح، أوإلى أن تمطر السماء، فلا يصح التأجيل، لتفاحش الجهالة.
وإذا اتفق صراحة على تقسيط المهر، عمل به؛ لأن الاتفاق من قبيل الصريح، والعرف من قبيل الدلالة، والصريح أقوى من الدلالة.
وإذا لم يتفق على تعجيل المهر أو تأجيله، عمل بعرف البلد؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
وإذا لم يكن هناك عرف بالتعجيل أو التأجيل، استحق المهر حالاً؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل؛ لأن الأصل أن المهر يجب بتمام العقد، لأنه أثر من آثاره، فإذا لم يؤجل صراحة أو عرفاً عمل بالأصل؛ لأن هذا عقد معاوضة، فيقتضي المساواة من الجانبين.
وأجاز الشافعية والحنابلة (2) تأجيل المهر كله أو بعضه لأجل معلوم؛ لأنه عوض في معاوضة. فإن أطلق ذكره اقتضى الحلول، وإن أجل لأجل مجهول كقدوم زيد ومجيء المطر ونحوه لم يصح؛ لأنه مجهول، وإن أجل ولم يذكر الأجل، فالمهر عند الحنابلة صحيح ومحله الفرقة أو الموت، وعند الشافعية: المهر فاسد ولها مهر المثل.
وفصّل المالكية (3) في حكم التأجيل فقالوا: إن كان المهر معينا حاضراً في البلد كالدار والثوب والحيوان، وجب تسليمه للمرأة أو وليها يوم العقد، ولا يجوز تأخيره في العقد، ولو رضيت بالتأخير، فإن اشترط التأجيل في العقد، فسد العقد، إلا إذا كان الأجل قريباً كاليومين والخمسة. ويجوز للمرأة التأجيل من غير شرط، ويكون تعجيله من حقها.
وإن كان المهر العين غائباً عن بلد العقد، صح النكاح إن أجل قبضه بأجل قريب بحيث لا يتغير فيه غالباً، وإلا فسد النكاح.
وإن كان المهر غير معين كالنقود والمكيل والموزون غير المعين، فيجوز تأجيله كله أو بعضه، ويجوز التأجيل إلى الدخول إن علم وقته كالحصاد أو الصيف أو قطاف الثمر، والتأجيل إلى الميسرة إذا كان الزوج غنياً، بأن كان له سلعة ينتظر قبض ثمنها، أو له أجر في وظيفة، فإن كان فقيراً لم يصح العقد، ويجوز التأجيل إلى أن تطلبه المرأة منه، فهو كتأجيله للميسرة.
وعليه يشترط لجوزا التأجيل شرطان:
الأول - أن يكون الأجل معلوماً: فإن كان مجهولاً كالتأجيل للموت أو الفراق فسد العقد، ووجب فسخه، إلا إذا دخل الرجل بالمرأة، فيجب حينئذٍ مهر المثل.
الثاني - ألا يكون الأجل بعيداً جداً كخمسين سنة فأكثر، لأنه مظنة إسقاط الصداق، والدخول على إسقاط الصداق مفسد للزواج.
وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية، فنص على ما يلي:
(م 55) : يجوز تعجيل المهر أو تأجيله كلاً أو بعضاً، وعند عدم النص يتبع العرف.
(م 56) : التأجيل في المهر ينصرف إلى حين البينونة أو الوفاة، ما لم ينص في العقد على أجل آخر.
__________
(1) البدائع: 288/2، الدر المختار: 493/2.
(2) مغني المحتاج: 222/3، كشاف القناع: 178/5، المغني: 693/6.
(3) الدسوقي مع الشرح الكبير: 2/297، الشرح الصغير: 2/432-433.(9/264)
حكم إعسار الزوج بالمهر:
إذا عجز الزوج عن دفع معجل المهر، لم يكن للزوجة عند الحنفية وفي الأصح عند الحنابلة (1) الحق في طلب فسخ الزواج بأي حال، سواء أكان ذلك قبل الدخول أم بعده، وإنما لها الحق في منع نفسها من الزوج، وعدم التقيد بإذنه في الخروج لزيارة أهلها، والسفر معه، ونحوهما.
وقال المالكية والشافعية (2) : للزوجة الحق في طلب الفسخ حينئذ، والصحيح عند الشافعية أن لها فسخ الزواج قبل الدخول وبعده، وعند المالكية قبل الدخول لا بعده.
وذكر الحنفية (3) أنه إن اشترط تأجيل المهر كله مدة معينة كسنة، فإن اشترط الزوج الدخول
__________
(1) الدر المختار: 492/2 وما بعدها، كشاف القناع: 183/5.
(2) الشرح الصغير: 434/2، المهذب: 61/2، بداية المجتهد: 51/2.
(3) الدر المختار: 493/2، فتح القدير: 472/2.(9/265)
قبل حلول الأجل، فليس للزوجة الحق في الامتناع، وإن لم يشترط الدخول، فليس لها الامتناع أيضاً عند أبي حنيفة؛ لأنها لما رضيت بتأجيل المهر كله، كان ذلك رضا منها بإسقاط حقها في تعجيل المهر.
وقال أيو بوسف: للزوجة أن تمنع نفسها حتى يحل أجل تسليم المهر؛ لأن الزوج رضي بإسقاط حقه بالاستمتاع. والفتوى استحساناً على هذا القول.
ضمان الولي المهر:
يرى الحنفية (1) أنه إذا ضمن ولي الزوجة أو وكيلها المهر لها، صح ضمانه؛ لأنه من أهل الالتزام، والولي والوكيل في النكاح سفير ومعبر، ولذا ترجع حقوق العقد إلى الأصيل، وللمرأة الخيار في مطالبة زوجها أو وليها، كسائر الكفالات. ويرج الولي إذا أدى على الزوج إن كان الضمان بأمره، كما هو المقرر في الكفالة.
سابعاً ـ قبض المهر وما يترتب عليه:
قبض المهر حق خالص للزوجة كما بينا، فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض مهرها المعجل كله، على الخلاف والتفصل الآتي:
قال الحنفية (2) : للمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنع الزوج عن الدخول أو عن الانتقال إلى بيته حتى يعطيها جميع المهر المعجل بأن تزوجها على صداق عاجل، أو كان مسكوتاً عن التعجيل والتأجيل؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل، ثم تسلم نفسها إلى زوجها، وإن كانت قد انتقلت إلى بيت زوجها؛ لأن المهر عوض عن بُضْعها، كالثمن عوض عن المبيع، وللبائع حق حبس المبيع
لاستيفاء الثمن، فكان للمرأة حق حبس نفسها لاستيفاء المهر. وإن استوفت معجل المهر بتمامه سقط حقها في منع نفسها منه.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 22/3، الدر المختار: 490/2، فتح القدير: 471/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 2 288/-289.(9/266)
أما إذا دخل الزوج بها أو خلا بها، برضاها، وهي مكلفة (بالغة عاقلة) فلها أيضاً في رأي أبي حنيفة أن تمنع نفسها من الاستمتاع بها حتى تأخذ المهر، ولها أن تمنعه أن يخرجها من بلدها؛ لأن المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البُضْع في جميع أنواع الاستمتاع التي توجد في هذا الملك.
ويكون رضاها بالدخول أو بالخلوة قبل قبض معجل مهرها إسقاطاً لحقها في منع نفسها في الماضي، وليس لحقها في المستقبل. وهذا هو الراجح عند الحنفية، فللمرأة منع نفسها من الوطء ودواعيه، ومن السفر بها، ولو بعد وطء وخلوة رضيتهما؛ لأن كل وطأة معقود عليها، فتسليم البعض لا يوجب تسليم الباقي.
وفي رأي الصاحبين: ليس لها أن تمنع نفسها، لأنها بالوطء مرة واحدة أو بالخلوة الصحيحة، سلمت جميع المعقود عليه برضاها، وهي من أهل التسليم، فبطل حقها في المنع، كالبائع إذا سلم المبيع، فرضاها بالوطء إسقاط لحقها في طلب المهر قبل الدخول، فيسقط حقها في الامتناع، فإذا امتنعت كانت ناشزة، فيسقط حقها في النفقة.
ووافق المالكية (1) الصاحبين، فقالوا: للمرأة ولو كانت معيبة بعيب رضي به منع نفسها من الدخول ومن الاختلاء بها ومن السفر مع زوجها قبل الدخول حتى يسلم لها زوجها المهر المعين أو الصداق المعجل، أو المؤجل الذي حل أجل تسليمه. أما إن سلمت نفسها له قبل القبض بعد الوطء أو التمكين منه، فليس لها منع نفسها بعدئذ من وطء ولا سفر معه، سواء أكان موسراً أم معسراً، وإنما لها المطالبة به فقط ورفعه للحاكم كالمدين.
__________
(1) الشرح الصغير: 434/2، القوانين الفقهية: ص 434، الشرح الكبير: 297/2 وما بعدها.(9/267)
ووافق الحنابلة والشافعية (1) أيضاً رأي الصاحبين، أما الحنابلة فوافقوا في الدخول والخلوة، وأما الشافعية فوافقوا في الدخول.
قال الشافعية: للمرأة ولو كانت مفوضة حبس نفسها لتقبض المهر المعين والحالّ، لا المؤجل (2) ، فلو حل الأجل قبل تسليم نفسها للزوج، فلا حبس في الأصح، لوجوب تسليمها نفسها قبل الحلول، فلا يرتفع الوجوب لحلول الحق. ولو بادرت الزوجة فمكنت الزوج من نفسها، طالبته بالمهر؛ لأنها بذلت ما في وسعها، فإن لم يطأ، أي ولو خلا بها، جاز لها الامتناع من تمكينه حتى يسلم المهر؛ لأن القبض في النكاح بالوطء دون التسليم. وإن وطئها بتمكينها منه مختارة مكلفة، ولو في الدبر، فلا يحق لها الامتناع، كما لو تبرع البائع بتسليم المبيع، ليس له استرداده ليحبسه. أما إذا وطئت مكرهة أو غير مكلفة لصغر أو جنون فلها الامتناع، لعدم الاعتداد بتسليمها.
وإن بادر الزوج، فسلَّم المهر، وجب على الزوجة تسليم نفسها، فإن امتنعت الزوجة من تمكين زوجها بلا عذر منها، لم يسترد المهر منها على الراجح؛ لأنه تبرع بالمبادرة، فكان كتعجيل الدين المؤجل، لا يسترد.
وعبارة الحنابلة: للمرأة منع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها الحالّ كله أو الحالّ منه، ولها المطالبة بحالّ مهرها ولو لم تصلح للاستمتاع لصغر أو نحوه.
فإن وطئها الزوج مكرهة قبل دفع الحالّ من صداقها، لم يسقط به حقها من الامتناع، كما قال الشافعية؛ لأن وطأها مكرهة كعدمه.
وإذا جاز لها منع نفسها فلها السفر بغير إذنه، ولها النفقة زمن المنع إن صلحت للاستمتاع، ولو كان معسراً بالصداق؛ لأن الحبس من قبله.
__________
(1) مغني المحتاج: 222/3 وما بعدها، كشاف القناع: 181/5-183.
(2) واستدلوا بحديث: «أول ما يسأل عنه المؤمن من ديونه صداق زوجته» وحديث «من ظلم زوجته في صداقها، لقي الله تعالى يوم القيامة، وهو زانٍ» .(9/268)
وإن كان الصداق مؤجلاً، لم تملك منع نفسها حتى تقبضه؛ لأنها لا تملك الطلب به. ولو حلّ المهر قبل الدخول، فليس لها منع نفسها، كما قال الشافعية؛ لأن التسليم قد وجب عليها، فاستقر قبل قبضه، فلم يكن لها أن تمتنع منه.
وإن تبرعت الزوجة بتسليم نفسها، ثم أرادت الامتناع بعد دخول أو خلوة، لم تملكه؛ لأن التسليم استقر به العوض برضا المسلِّم. فإن امتنعت بعد أن سلمت نفسها، فلا نفقة لها؛ لأنها ناشز.
وبحث الشافعية والحنابلة مسألة مهمة: هي أنه لو أبى كل من الزوجين التسليم الواجب عليه، فقال كل منهما: لا أسلم حتى تسلِّم، فالأظهر عند الشافعية أنهما يجبران، فيؤمر الزوج بوضع المهر عند عدل ـ شخص ثالث محايد ـ وتؤمر الزوجة بالتمكين، فإذا سلمت أعطاها العدل المهر، لمافيه من فصل الخصومة. وقال الحنابلة: يجبر الزوج على تسليم الصداق، ثم تجبر الزوجة على تسليم نفسها؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع (محل المتعة) .
والخلاصة: اتفق الفقهاء على أحقية المرأة بمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض مهرها المعجل، وليس لها الحق بالنسبة للمؤجل. واختلفوا على رأيين في منع نفسها بعد الدخول، فقال أبو حنيفة: لها الحق بالمنع، وقال الجمهور: ليس لها الحق. والخلوة أو التمكين من الوطء كالوطء عند غير الشافعية.
قابض المهر: المرأة الرشيدة هي التي تقبض المهر وتتصرف فيه، لكن أقرت الشريعة عملاً بالعرف والعادة للولي إذا كان أباً أو جداً قبل المهر، ويكون قبضه نافذاً عليها، إلا إذا منعته من القبض. ونص القانون السوري (م 60) عليه:
ينفذ على البكر ولو كانت كاملة الأهلية قبض وليها لمهرها إن كان أباً أو جداً عصبياً، ما لم تنه الزوج عن الدفع إليه. ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي: المهر حق للزوجة ولا تبرأ ذمة الزوج منه إلا بدفعه إليها بالذات، إن كانت كاملة الأهلية، ما لم توكل في وثيقة العقد وكيلاً خاصاً بقبضه.(9/269)
فإن كانت المرأة غير رشيدة كالصغيرة والمحجور عليها لسفه أو جنون أو غفلة، فولي مالها يتولى قبض المهر، وولي المال عند الحنفية أحد الستة: الأب ثم وصيه، ثم الجد ثم وصيه، ثم القاضي ثم وصيه.
وقال المالكية (1) : ولي الزوجة المجبر (وهو الأب ووصيه) : هو الذي يتولى قبض المهر، فإن لم يكن لها ولي مجبر وكانت رشيدة، فهي التي تتولى قبض مهرها، أو يقبضه لها بتوكيل منها. وإن كانت سفيهة تولى ولي مالها قبض مهرها، فإن لم يكن لها ولي فالقاضي أو نائبه يقبض مهرها.
والظاهر عند الشافعية والحنابلة: أن المرأة الرشيدة هي التي تقبض مهرها؛ فإن كانت غير رشيدة قبض وليها المهر بالنيابة عنها.
التصرف في المهر: اتفق الفقهاء على أن للمرأة الرشيدة أن تتصرف في مهرها بما تشاء بيعاً أو هبة ونحوهما، وتصرفها نافذ؛ لأن المهر ملكها فتتصرف فيه كما تتصرف في سائر أملاكها.
__________
(1) الشرح الصغير: 463/2.(9/270)
ثامناً ـ الزيادة أو الحط من المهر:
قد تحدث زيادة في المهر أو حط منه بعد العقد، والمقصود بالزيادة في المهر: أن يضاف إليه شيء بعد تمام العقد. وأما النقص أوالحط من المهر: فهو إنقاص جزء من المهر أو إسقاط كله بعد تمام العقد.
أما الزيادة في المهر:
فقال الحنفية (1) : إذا زاد الزوج الرشيد أو ولي الصغير (الأب أو الجد) على المهر المسمى شيئاً بعد تمام العقد وتراضي الطرفين على المهر، لزمت الزيادة بالوطء أو بالموت عن الزوجة، وتصبح جزءاً من أصل المهر، وتتأكد بالدخول أو الموت، وتتنصف عند الجمهور غير الحنفية بالطلاق قبل الدخول كأصل المهر، وتبطل بموت الزوج أو تفليسه قبل قبضها عند المالكية؛ لأنها كالهبة، والهبة تبطل بالموت والإفلاس قبل القبض.
ولا تلزم هذه الزيادة إلا بالشروط الآتية التي أبانها الحنفية وهي أربعة:
1ً - أن يكون الزوج رشيداً: لأن الزيادة على المسمى تبرع، فلا تصح إلا من أهل التبرع.
2ً - أن تكون الزيادة معلومة: فلو كانت مجهولة بأن قال: زدت، في مهرك، ولم يعين شيئاً، لم تصح الزيادة للجهالة.
3ً - أن تأتي الزيادة في حال بقاء الزوجية حقيقة أي أثناء الزواج، أوحكماً أي أثناء العدة من الطلاق الرجعي. وتصح الزيادة أيضاً في رواية عن أبي حنيفة بعد موت الزوجة، أو بعد الطلاق البائن وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي، والظاهر عدم صحة هذه الزيادة.
4ً - قبول الزوجة أو قبول ولي الصغيرة أو المجنونة في المجلس الذي حدثت فيه؛ لأن هذه الزيادة هبة، فلا بد لها من القبول في مجلس الإيجاب.
ويتفق رأي الحنابلة مع رأي الحنفية في أن الزيادة في الصداق بعد العقد تلحق به. وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة بالعقد، فإن زادها فهي هبة تفتقر إلى شروط الهبة، وإن طلقها بعد هبتها لم يرجع بشيء من الزيادة؛ لأن الزوج ملك البضع بالمسمى في العقد، فلم يحصل بالزيادة شيء من المعقود عليه، فلا تكون عوضاً في النكاح، كما لو وهبها شيئاً (2) .
واستدل الحنابلة بقوله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} [النساء:24/4] ولأن ما بعد العقد زمن لفرض المهر، فكان حالة الزيادة كحالة العقد، وبهذا فارق الزواج البيع والإجارة.
وأما الحط من المهر والإبراء عنه:
فرأي الحنفية (3) : أنه يصح للزوجة الرشيدة غير المريضة مرض الموت دون أبيها الحط من المهر كله أوبعضه عن الزوج بعد تمام العقد، سواء قبل أم لا، لكنه يرتد بالرد. أما أبوها فلا يصح الحط منه إذا كانت صغيرة، ويتوقف الحط على إجازتها إن كانت كبيرة، ولا بد من رضاها.
لكن فرق الحنفية بين الإبراء والهبة في الحط من المهر، فقالوا: الإبراء لا
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 463/2 وما بعدها.
(2) المغني: 744/6.
(3) الدر المختار وابن عابدين: 464/2 وما بعدها، 474.(9/271)
يكون إلا في دين ثابت في الذمة كالنقود، والمكيلات والموزونات غير المتعينة؛ لأن الديون تتعلق بالذمة، والتنازل عنها يكون بالإبراء. ولا يشترط لصحته قبول الزواج، وإنما يكفي عدم الرد كهبة الدين ممن عليه الدين، فقد يردُّ الإبراء دفعاً للمنة؛ لأن الحط من المهر ليس تمليكاً على وجه الهبة الصريحة، وإنما هو إسقاط وإبراء للزوج. أما إذا ورد الإبراء على عين، فلا يسقط شيء من المهر، بل يصير أمانة في يد الزوج، ويسقط عنه الضمان إذا هلك؛ لأن الإبراء ليس من الألفاظ الصريحة في تمليك الأعيان، فيحمل على نفي الضمان.
لكن إذا قصدت الزوجة بالإبراء إعفاء الزوج مما عليه كله أو بعضه، ففي الوقت الحاضر الذي لا يميز فيه الناس بين المصطلحات الفقهية يمكن جعل الإبراء تمليكاً، ويكون حكمه حكم الهبة.
وأما الهبة: فتصح سواء أكان المهر ديناً، أم عيناً كالدار المعينة والحيوان أو الثوب المعين، وسواء قبل القبض أم بعده. ولا بد حينئذ من قبول الزوج في المجلس، ولا يكتفى بسكوته عن القبول أو الرد.
ورأى المالكية (1) : أنه إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء.
وذهب الشافعية (2) إلى أنه ليس للولي عفو عن صداق موليته، على الجديد، كسائر ديونها، إذ لم يبق للولي بعد العقد عُقدة، أي كلام. وإذا أبرأت المرأة زوجها من المهر، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء على المذهب، كما قال الشافعية في الهبة؛ لأنها لم تأخذ منه مالاً، ولم تتحصل منه على شيء، وهو بخلاف هبة العين، فإنها لو وهبت زوجها المهر المعين كدار معينة أو حيوان معين، رجع عليها بنصف الصداق إذا طلقها قبل الدخول.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 203، بداية المجتهد: 25/2.
(2) مغني المحتاج: 240/3.(9/272)
وقرر الحنابلة (1) : أنه لا عفو لأب وغيره عن مهر محجورة؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وإذا عفت المرأة لصاحبها عن مهرها، وهي جائزة التصرف، برئ منه، سواء بلفظ عفو أو بلفظ إسقاط، وصدقة، وترك، وإبراء لمن العين في يده.
ولو أبرأت مفوضة زوجها، ثم طلقت قبل الدخول، رجع بنصف مهر المثل.
وأخذ القانون السوري بمذهب الحنفية في جواز الزيادة والنقصان من المهر، إذا حدثت الزيادة من الزوج والحط من الزوجة إذا كان كل منهما كامل الأهلية، ويعد ذلك برضا الطرفين ملحقاً بأصل العقد. نصت المادة (57) على ما ذكر بقولها: «للزوج الزيادة في المهر بعد العقد، وللمرأة الحط منه إذا كانا كاملي أهلية التصرف، ويلحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الآخر» .
ثم عدلت هذه المادة سنة (1975) على النحو التالي:
«لا يعتد بأي زيادة أو إنقاص من المهر، أو إبراء منه إذا وقعت أثناء قيام الزوجية، أوفي عدة الطلاق، وتعتبر باطلة ما لم تجر أمام القاضي، ويلتحق أي من هذه التصرفات الجارية أمام القاضي بأصل العقد إذا قبل به الزوج الآخر» .
تاسعاً ـ أحوال وجوب المهر وتأكده وتنصيفه وسقوطه:
وجوب المهر: اتفق الفقهاء (2) على أن المهر يجب بنفس العقد إن كان الزواج صحيحاً، والواجب هو المسمى إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل إن لم تكن هناك تسمية، أو كانت التسمية فاسدة، أو كان هناك اتفاق على نفي المهر.
وعبر الجمهور غير الحنفية عنه بقولهم: تملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحاً، إلا أن المالكية رأوا أنه على المذهب تملك النصف بالعقد.
__________
(1) غاية المنتهى: 67/3.
(2) البدائع: 287/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 300/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 202، المهذب: 57/2، كشاف القناع: 156/5، الشرح الصغير: 440/2 وما بعدها.(9/273)
وإذا كان عقد الزواج فاسداً، أو الوطء بشبهة كالمزفوفة إليه امرأة غير زوجته، وقال له النساء: إنها زوجتك، وجب المهر أي مهر المثل بالدخول الحقيقي أي الوطء، وجوباً مؤكداً لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء.
تأكد المهر:
اتفق الفقهاء على أنه يتأكد وجوب المهر في العقد الصحيح بالدخول أو الموت، سواء أكان المهر مسمى أم مهر المثل، حتى لا يسقط شيء بعدئذ إلا بالإبراء من صاحب الحق.
واختلفوا في تأكده بأمرين: الخلوة الصحيحة، وإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء.
قال الحنفية والحنابلة: يتأكد المهر أيضاً بالخلوة الصحيحة، وخالفهم المالكية والشافعية فيه.
وقال المالكية خلافاً لغيرهم وهم الجمهور: يتقرر أي يثبت ويتحقق المهر بإقامة الزوجة سنة بعد الزفاف بلا وطء.
وأضاف الحنابلة أن المهر يتأكد أيضاً بطلاق الفرار قبل الدخول في مرض الموت (1) .
وتوضيح الكلام في كل واحد من هذه الأسباب فيما يأتي:
1 ً - الدخول الحقيقي: هو الوطء أو الاتصال الجنسي ولو كان حراماً في القبل أو في الدبر بتغييب حشفة أو قدرها من مقطوعها، أو في حالة الحيض أو النفاس أو الإحرام أو الصوم أو الاعتكاف. يتأكد به وجوب المهر أو يستقر على الزوج، لاستيفاء مقابله، فإن الزوج استوفى حقه بالدخول، فيتقرر حق الزوجة في المهر جميعه، سواء أكان مسمى في العقد، أم فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي، ولقوله عز وجل: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/4] وفسر الإفضاء بالجماع.
ويترتب على استقرار المهر بالدخول: أنه لا يسقط شيء منه بعدئذ إلا بالأداء لصاحبه، أو بالإبراء من صاحب الحق.
__________
(1) البدائع: 291/2-295، الدسوقي مع الشرح الكبير: 300/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 437/2، المهذب: 57/2-60، كشاف القناع: 161/5، 168 ومابعدها، 174، مغني المحتاج: 224/3 ومابعدها: 229-231، المغني: 716/6، الشرح الصغير: 449/2.(9/274)
2 ً - موت أحد الزوجين قبل الدخول في نكاح صحيح بالاتفاق، وقبل الخلوة الصحيحة عند الحنفية والحنابلة. فإذا مات أحد الزوجين قبل الوطء في نكاح صحيح، استحقت المرأة المهر كله باتفاق الفقهاء إذا كان النكاح نكاح تسمية، أي كان المهر مسمى في العقد؛ لأن العقد لا ينفسخ بالموت، وإنما ينتهي به، لانتهاء أمده وهو العمر، فتتقرر جميع أحكامه بانتهائه، ومنها المهر. ولإجماع الصحابة على استقرار المهر بالموت.
أما في نكاح التفويض، أي النكاح الذي لم يسم فيه المهر، ومات بعده أحد الزوجين فلا شيء فيه عند المالكية، قياساً للموت على الطلاق، والطلاق قبل الدخول والخلوة وقبل تسمية المهر، لا شيء فيه، فمثله الموت.
وقال الجمهور في الأظهر عند الشافعية: يجب فيه مهر المثل، للحديث السابق وهو أن ابن مسعود قضى في امرأة لم يفرض لها زوجها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات، فقال: لها صداق مثلها، ولا وَكْس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فقال مَعْقِل بن سنان: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بَرْوع بنت واشق مثل ماقضيت» (1) ، ولأنه عقد مدته العمر، فبموت أحدهما ينتهي، فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة، ومتى استقر لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا غيره. ولأن الموت يكمل به المهر المسمى، فيكمل به مهر المثل للمفوضة كالدخول.
وهذا الرأي هو الراجح، لقوة أدلته، وعلق الشافعي في الأم القول به على صحة الحديث. وفرق بين الموت والطلاق؛ لأن الموت ينتهي به عقد الزواج، أما الطلاق فيقطع الزواج قبل إتمامه، لذا وجبت العدة بالموت قبل الدخول، ولم تجب بالطلاق، وكمل المسمى بالموت، ولم يكمل بالطلاق.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.(9/275)
وهل القتل مثل الموت؟
إذا حدث القتل من أجنبي لأحد الزوجين، أو قتل أحد الزوجين الآخر، أو قتل أحدهما نفسه، فهو كالموت، يستقر به المهر؛ لأن النكاح قد بلغ غايته، فقام الموت مقام استيفاء المنفعة.
وخالف الشافعي وزفر من الحنفية فيما إذا قتلت الزوجة نفسها عمداً، فقالا: لا تستحق شيئاً من المهر؛ لأن قتلها نفسها يشبه ارتدادها عن الإسلام، وبالردة يسقط حقها من المهر.
وأجيب عنه من قبل الجمهور بأن قياس الانتحار على الردة غير صحيح؛ لأن المهر في حال الردة لا يتعلق به حق لغير الزوجة، فيجوز أن يسقط بفعلها، أما في حالة القتل، فإن المهر يتعلق به حق الورثة، فلا يجوز أن يسقط بفعل من جانبها.
وهل تستحق الزوجة المهر بقتل زوجها عمداً قبل الدخول والخلوة أو يسقط؟
للفقهاء رأيان: قال الحنابلة والحنفية ما عدا زفر: لا يسقط حقها في المهر، بل يتأكد بالقتل كل المهر؛ لأن جزاء القتل العمد شرعاً هو القصاص، ولم يرد دليل بسقوط المهر بهذا القتل.
وقال المالكية والشافعية وزفر: يسقط مهرها بالقتل؛ لأن قتل زوجها جناية، والجنايات لا تؤكد الحقوق، ولأنها بهذه الجناية أنهت الزواج بمعصية، وإنهاء الزواج بمعصية من الزوجة قبل الدخول يسقط المهر كله، كإسقاطه بالردة، ولم يتعلق بالمهر حق لأحد، وهذا هو الراجح لقوة دليله.
3 ً - الخلوة الصحيحة: احتراز عن الخلوة الفاسدة، والصحيحة هي: أن يجتمع الزوجان بعد العقد الصحيح في مكان يتمكنان فيه من التمتع الكامل، بحيث يأمنان دخول أحد عليهما، وليس بأحدهما مانع طبيعي أو حسي أو شرعي يمنع من الاستمتاع (1) عملاً بما روي عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر، روى أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال: «قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً أو أرخى ستراً، فقد أوجب المهر، ووجبت العدة» .
والمانع الطبيعي: وجود شخص ثالث عاقل صغير أو كبير، والمانع الحسي: وجود مرض بأحدهما يمنع الوطء، ومنه الرتق (التلاحم) ، والقَرَن (العظم) والعَفَل (غدة) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 465/2، كشاف القناع: 168/5.(9/276)
والمانع الشرعي: كأن يكون أحدهما صائماً في رمضان، أو محرماً بحج أو عمرة فرض أو نفل.
ويتأكد المهر كله للزوجة عند الحنفية والحنابلة: بالخلوة الصحيحة بشروطها المذكورة، فلو طلق الرجل زوجته، وجب لها بالخلوة ولو لم يحصل وطء المسمى كاملاً إن كانت التسمية صحيحة، ومهر المثل كاملاً إن لم تكن هناك تسمية أو كانت التسمية فاسدة.
وقال المالكية، والشافعية في الجديد: لا يتأكد وجوب المهر بالخلوة وحدها، بدون وطء، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب نصف المسمى، والمتعة إن لم يكن المهر مسمى.
وسأذكر في المطلب التالي أدلة الرأيين بمشيئة الله تعالى.
4 ً - إقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء: يتقرر المهر أيضاً عند المالكية إذا تزوج رجل امرأة، وزفت إليه، وأقامت عنده سنة، بلا وطء، بشرط إطاقتها، وبلوغه، واتفاقهما على عدم الوطء؛ لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء.
ولا يتأكد المهر بها عند الشافعية. ويتقرر المهر بمجرد الخلوة الصحيحة كما تقدم عند الحنفية والحنابلة.
5 ً - طلاق الفرار في مرض الموت قبل الدخول: يتقرر المهر كاملاً أيضاً عند الحنابلة بطلاق المرأة في مرض موت الزوج المخوف قبل دخوله بها إذا طلقها فراراً من ميراثها، ثم مات، فيتقرر عليه الصداق كاملاً بالموت، لوجوب عدة الوفاة عليها في هذه الحالة، ما لم تتزوج أو ترتد.
والخلاصة: يتأكد المهر عند الحنفية بأحد أسباب ثلاثة: الدخول والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين. وعند المالكية بأحد أسباب ثلاثة: هي الدخول، أي الوطء لمطيقة من بالغ وإن حرم، وموت أحد الزوجين، وإقامة سنة بعد الدخول بلا وطء بشرط بلوغه وإطاقتها. وعند الشافعية: يستقر المهر بأحد أمرين: الوطء وإن حرم، وموت أحد الزوجين،، لا بخلوة في الجديد. وعند الحنابلة: يتقرر المهر بأحد أمور أربعة: الدخول، والخلوة والموت أو القتل، والطلاق في مرض موت الزوج قبل الدخول بالزوجة.(9/277)
تنصيف المهر:
اتفق الفقهاء (1) على وجوب نصف المهر للزوجة بالفرقة قبل الدخول، سواء عند الشافعية والحنابلة أكانت الفرقة طلاقاً أم فسخاً، إذا كان المهر مسمى حين العقد، وكانت التسمية صحيحة والفرقة جاءت من قبل الزوج. من أمثلة الفسخ: الفرقة بسبب الإيلاء أو اللعان، أو بسبب ردة الزوج، أو إباء الزوج اعتناق الإسلام بعد إسلام زوجته.
ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] وهذا في الطلاق، وباقي أنواع الفرق مقيس عليه؛ لأنه في معناه.
فإن لم يسم المهر في العقد أصلاً كالمفوضة، أو اتفق الزوجان على الزواج بدون مهر، أو كانت التسمية غير صحيحة، وحصلت الفرقة بتراضي الزوجين أو بحكم القاضي وكانت الفرقة قبل الدخول، وقبل الخلوة عند الحنفية والحنابلة، لم يجب للزوجة شيء من المهر، وإنما تجب لها المتعة؛ لأن النص القرآني السابق إنما
__________
(1) البدائع: 296/2، الدر المختار: 463/2-464، الشرح الصغير: 454/2 وما بعدها، بداية المجتهد: 23/2، القوانين الفقهية: ص 202 وما بعدها، مغني المحتاج: 231/3، 234، المهذب: 59/2، كشاف القناع: 165/5، 171، 176.(9/278)
ورد بتنصيف أو تشطير المسمى، ووجوب المتعة لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/2] وباقي الفرق مقيس على الطلاق؛ لأنه في معناه.
وقال المالكية: إن فسخ النكاح أو رده الزوج بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء. واختلف هل يجب إذا ردته هي بعيب في الزوج. وقال الحنفية: الفرقة بغير طلاق قبل الدخول والخلوة تسقط المهر كما سأبين.
واختلف الفقهاء في مسألتين حول التنصيف قبل الدخول: مسألة تنصيف المفروض بعد العقد، ومسألة الزيادة في المهر بعد العقد.
أما المسألة الأولى ـ وهي إذا لم يذكر المهر حين العقد، وإنما فرض بعده بالتراضي أو بقضاء القاضي.
فقال الحنفية: لا يتنصف المفروض من المهر بعد العقد، لاختصاص التنصيف بالمفروض في العقد بالنص القرآني المتقدم، بل تجب المتعة فقط للمرأة، فلو حدثت الفرقة قبل الدخول والخلوة، وجب لها المتعة فقط.
وقال الجمهور: يتنصف المفروض بعد العقد كالمسمى في العقد، فلو حصلت الفرقة قبل الدخول. وقبل الخلوة عند الحنابلة، كان للمرأة نصف المفروض لا المتعة.
وأما المسألة الثانية ـ وهي الزيادة الحادثة من الزوج بعد العقد على المهر المسمى.
فقال الحنفية: تسقط هذه الزيادة عن الزوج، ولا تتنصف قبل الدخول والخلوة. وقال الجمهور: لا تسقط هذه الزيادة عن الزوج وتتنصف كالمسمى في العقد. والحاصل: أن الذي يتنصف عند الحنفية هوالمسمى في العقد، لا المفروض بعده ولا مازيد على المفروض بعد العقد، والجمهور على خلافهم في المسألتين. ومنشأ الاختلاف: تفسير المراد من قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] : فرأى الحنفية: أن المقصود منه المفروض وقت العقد، لا غير، عملاً بالمتعارف بين الناس: وهو إطلاق المفروض على المسمى وقت العقد. ورأى الجمهور: أن المقصود منه المفروض مطلقاً، عملاً بمقتضى اللغة؛ لأن الفرض هو التقدير، وهو يشمل كل ما قدر، سواء أكان وقت العقد أم بعده. وهذا هو الراجح؛ لأن كلاً من المفروض وقت العقد أو بعده يسمى مفروضاً في العرف، كما هو مقتضى اللغة.(9/279)
سقوط المهر كله:
ذكر الحنفية أنه يسقط المهر كله عن الزوج بأحد أربعة أسباب (1) :
1ً - الفرقة بغير طلاق قبل الدخول بالمرأة وقبل الخلوة بها: كل فرقة حصلت بغير طلاق قبل الدخول وقبل الخلوة: تسقط جميع المهر، سواء أكان من قبل المرأة أم من قبل الزوج، كأن ارتدت المرأة عن الإسلام، أو أبت الإسلام وأسلم زوجها، أو اختارت فسخ الزواج لعيب في الزوج. ومثله إذا فسخ ولي المرأة الزواج لعدم كفاءة الزوج، ففي هذه الأحوال التي يتم بها فسخ الزواج قبل الدخول يسقط جميع المهر؛ لأن الفرقة بغير طلاق تكون فسخاً للعقد، وفسخ العقد قبل الدخول يوجب سقوط كل المهر؛ لأن فسخ العقد رفعه من الأصل، وجعله كأنه يكن.
__________
(1) البدائع: 295/2-296.(9/280)
وقال المالكية (1) : إن فسخ الزوج النكاح أو رده بعيب في الزوجة قبل الدخول، لم يجب لها شيء، فهم يوافقون الحنفية به، ولا شيء لها أيضاً في نكاح التفويض عنده إذا مات الزوج أو طلق قبل الدخول.
وفصَّل الشافعية والحنابلة (2) بين ما إذا كانت الفرقة بسبب من الزوجة، وبين ما إذا كانت بسبب من غيرها، فقالوا: الفرقة الحاصلة من جهة الزوجة قبل الدخول بها تسقط المهر المسمى والمفروض ومهر المثل، كإسلامها بنفسها، أو بالتبعية كإسلام أحد أبويها، أو فسخ الزوج بعيب في الزوجة، أوردتها أوإرضاعها زوجة للزوج صغيرة.
وأما الفرقة الحاصلة قبل الدخول لا بسبب الزوجة كطلاق وخلع ولو باختيارها كأن فوض الطلاق إليها فطلقت نفسها، أو علق الطلاق بفعلها ففعلت، أو أسلم الزوج أو ارتد أو لاعن أو أرضعت أمه زوجته أو أرضعت أمها له وهو صغير، فلا تسقط المهر، وإنما تشطره، فيثبت لها نصف المهر. أما في حالة الطلاق فلآية: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة:237/2] وأما الباقي فبالقياس عليه.
2ً - الخلع على المهر قبل الدخول أو بعده: إذا خالع الرجل امرأته على مهرها، سقط المهر كله، فإن كان المهر غير مقبوض، سقط عن الزوج، وإن كان مقبوضاً ردته على الزوج. وإن خالعها على مال سوى المهر يلزمها المال، ويبرأ الزوج عن كل حق وجب لها عليه بالعقد كالمهر والنفقة الماضية في قول أبي حنيفة؛ لأن في الخلع ـ وإن كان طلاقاً بعوض ـ معنى البراءة.
3ً - الإبراء عن كل المهر قبل الدخول أو بعده: يسقط به المهر إذا كانت المرأة من أهل التبرع، وكان المهر ديناً في الذمة: وهو النقود وجميع المكيلات والموزونات إذا لم تكن متعينة مقصودة لذاتها؛ لأن الإبراء إسقاط، والإسقاط ممن هو أهل له في محل قابل له يوجب السقوط.
4ً - هبة الزوجة كل المهر للزوج: متى كانت أهلاً للتبرع، وقبل الزوج الهبة في المجلس، سواء أكانت الهبة قبل القبض أم بعده.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 203، الشرح الصغير: 437/2.
(2) مغني المحتاج: 234/3، كشاف القناع: 165/5-167.(9/281)
وتختلف الهبة عن الإبراء: في أنها ترد على الدين والعين، أي الثابت في الذمة كالنقود، أو الذي يتعين بالتعيين كثوب أو حيوان معين. أما الإبراء فلا يرد إلا على الدين.
وكذلك يسقط المهر بالهبة عند المالكية، لكنهم قالوا: إذا وهبت المرأة لزوجها جميع صداقها، ثم طلقها قبل الدخول، لم يرجع عليها بشيء. فإن أراد الدخول بها، وجب لها أقل المهر وهو ربع دينار أو قيمته، أما إن وهبته بعد الدخول فلا يلزمه شيء؛ لأن حقها في المهر قد تقرر بالدخول ثم أسقطته بالهبة (1) .
وقال الشافعية على الصحيح: إن كان المهر عيناً كفرس معينة، ثم وهبته من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول، فيرجع عليها بالنصف؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فلم يسقط حقه من النصف بالطلاق، كما لو وهبته لأجنبي، ثم وهبه الأجنبي منه (2) .
وقال الحنابلة (3) : إذا أبرأت المرأة الزوج من صداقها، أو وهبته له، ثم طلقها قبل الدخول، رجع الزوج عليها بنصفه؛ لأن عود نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، وهو غير الجهة المستحق بها الصداق أولاً، فهو كما لو أبرأ إنساناً من دين عليه، ثم استحق عليه مثل ما أبرأه منه بوجه آخر، فلا يتساقطان بذلك.
وإن أبرأته من نصف الصداق، أو وهبته نصف الصداق، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع في النصف الباقي؛ لأنه وجد نصف ما أصدقها بعينه، فأشبه ما لو لم تهبه له.
وإن قبضت المرأة صداقها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع بنصف عينه إن كان باقياً بحاله، لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] .
ولو جعل الزوج الخيار لامرأته منه، فاختارت نفسها قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأن الفرقة تمت بفعلها، وإن جعل لها بغير سؤالها وطلبها، لم يسقط الصداق باختيارها نفسها قبل الدخول، بل يتنصف؛ لأنها نائبة عنه، ففعلها كفعله.
سقوط نصف المهر:
قال الحنفية (4) : ما يسقط به نصف المهر نوعان:
النوع الأول ـ الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر، والمهر دين لم يقبض بعد، للآية المتقدمة: {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] أوجب سبحانه وتعالى نصف المفروض.
النوع الثاني ـ ما يسقط به نصف المهر معنى، والكل صورة: وهو كل طلاق تجب فيه المتعة: وهو كل فرقة جاءت من جهة الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه. كما سأبين في بحث المتعة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 203.
(2) المهذب: 59/2.
(3) كشاف القناع: 157/5، 163، 167.
(4) البدائع: 296/2-303.(9/282)
عاشراً ـ تبعة ضمان المهر وحكم هلاكه واستهلاكه واستحقاقه وتعييبه وزيادته:
اتفق الفقهاء على أن تبعة ضمان المهر إذا هلك تكون على من بيده المهر، فإذا هلك قبل القبض ضمنه الزوج، وإذا هلك بعد القبض أو استهلكته المرأة، ضمنته هي:
فإن هلك المهر في يد الزوج، بآفة سماوية، ضمن الزوج عند الحنفية والمالكية مثله أو قيمته.
وإن هلك بفعل الزوجة وهو في يد زوجها، أو بآفة سماوية بعد القبض، أصبحت مستوفية له بهذا الهلاك.
وإذا هلك بفعل أجنبي، فالمرأة بالخيار بين تضمين الأجنبي وبين تضمين الزوج، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بما ضمن.
وإن استحق المهر بأن تبين أنه ليس ملكاً للزوج، فالزوج ضامن له؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه ملك غيره، فترجع بمثله إن كان مثلياً، وبقيمته إن كان قيمياً يوم عقد النكاح.
وإن اطلعت الزوجة على عيب قديم فيه، كان لها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله في المثلي، وبقيمته في القيمي يوم الزواج.
وذكر الحنفية (1) : أن المرأة إذا قبضت المهر، فإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة، أو كان مكيلاً أو موزوناً في الذمة، ثم طلقها قبل الدخول بها، فعليها رد نصف المقبوض، وليس عليها رد عين ما قبضت؛ لأن عين المقبوض لم يكن واجباً بالعقد، فلا يكون واجباً بالفسخ.
__________
(1) البدائع: 298/2، 301.(9/283)
وإن حدث تعيب أو نقصان فاحش في المهر:
أـ فإن كان بفعل أجنبي قبل القبض، فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت الشيء الناقص، واتبعت الجاني بالأرش (التعويض عنه) وإن شاءت تركت وأخذت من الزوج قيمة الشيء يوم العقد، ثم يرجع الزوج على الأجنبي بضمان النقصان وهو الأرش.
ب ـ وإن كان النقصان بآفة سماوية: فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها غيره، وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد؛ لأن المهر مضمون على الزوج بالعقد، والأوصاف لا تضمن بالعقد لعدم ورود العقد عليها موصوفاً، فلا تضمن في حقها، وإنما يضمن الأصل لورود العقد عليه.
وإنما ثبت لها الخيار لتغير المعقود عليه وهو المهر عما كان عليه.
جـ ـ وإن كان النقصان بفعل الزوج: ففي ظاهر الرواية إن شاءت أخذته ناقصاً، وأخذت معه أرش النقصان، وإن شاءت أخذت قيمته يوم العقد.
د ـ وإن كان النقصان بفعل المرأة: فقد صارت قابضة بالجناية على الشيء، فجعل كأن النقصان حصل في يدها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع، إنه يصير قابضاً له.
هذا في النقصان الفاحش، وأما في النقصان اليسير فلا خيار لها.
وذكر المالكية (1) : أنه إن تلف الصداق، وكان مما يُغَاب عليه (أي يمكن إخفاؤه ويتطلب الحراسة) ولم تقم على هلاكه بينة، فيضمنه الذي بيده، فيغرم نصفه لصاحبه إن حدث طلاق قبل الدخول.
وإن لم تقم بينة على هلاكه، فتلف وكان مما لا يُغاب عليه (لا يمكن إخفاؤه) كالبساتين والزرع والحيوان، وطلق الرجل قبل الدخول، فلا رجوع لكل منهما على الآخر، ويحلف من هو بيده أنه ما فرط إن اتهم.
وكذا إن هلك الصداق بعد العقد، كأن مات أو حرق أو سرق أو تلف من غير تفريط أحد من الزوجين، وثبت هلاكه ببينة أو بإقرارهما عليه، سواء أكان مما يغاب عليه أم لا، وسواء أكان بيد الزوج أم الزوجة أم غيرهما، لا رجوع لأحدهما على الآخر.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 295/2، الشرح الصغير: 457/2، القوانين الفقهية: ص203.(9/284)
والحاصل: أن الصداق إن تلف في يد أحد الزوجين: فإن كان مما لا يغاب عليه فخسارته على الزوجين، وأما ما يغاب عليه فخسارته على من هو في يده إن لم تقم بينة على هلاكه. فإن قامت بينة على هلاكه، فخسارته عليهما.
وإن استحق المهر من يد الزوجة: فترجع بمثل المثلي، وقيمة القيمي، يوم عقد النكاح.
وإن اطلعت على عيب قديم في المهر، فلها الخيار بين إمساكه أو رده والرجوع بمثله أو قيمته.
وإن استحق بعض المهر أو تعيب بعضه: فإن كان فيه ضرر بأن كان أزيد من الثلث، كان لها أن ترد الباقي وتأخذ من الزوج قيمته، أو تحسب ما بقي، وترجع بقيمة ما استحق. وأما إن كان المستحق منه الثلث أو الشيء التافه الذي لا ضرر فهي، فترجع بقيمة ما استحق فقط.
وفصّل الشافعية القول (1) : إن كان الصداق عيناً كدار معينة أو ثوب أو حيوان معين فتلف في يد الزوج قبل القبض، ضمنه ضمان عقد لا ضمان يد؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فأشبه المبيع في يد البائع، والفرق بين ضماني العقد واليد في الصداق: أنه على الأول يضمن بمهر المثل، وعلى الثاني يضمن بالبدل الشرعي: وهو المثل إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً.
وعلى الأول: ليس للمرأة بيعه قبل قبضه كالمبيع، وعلى الثاني يجوز بيعه. وتصح الإقالة على الأول دون الثاني.
لهذا.. لو تلف الشيء المعين في يد الزوج بآفة سماوية، وجب مهر المثل على الأول لانفساخ عقد الصداق، ولا ينفسخ على الثاني.
وإن أتلفت الزوجة المهر، فتعد قابضة إذا كانت أهلاً؛ لأنه أتلفت حقها، وإن كانت غير رشيدة فلا تعد قابضة؛ لأن قبضها غير معتدّ به.
وإن أتلفه أجنبي، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، فإن فسخت الصداق أخذت من الزوج مهر المثل، وإن لم تفسخه غَرَّمت المتلف المثل أوا لقيمة.
__________
(1) مغني المحتاج: 221/3 وما بعدها، 235 وما بعدها، المهذب: 57/2.(9/285)
وإن أتلفه الزوج فهو كتلفه بآفة سماوية، يوجب مهر المثل.
وإن تعيَّب الصداق المعين قبل قبضه بآفة سماوية كالعمى أو قطع يد، تخيرت الزوجة على المذهب بين فسخ الصداق وإبقائه، كما تقدم.
وإن قبضت المرأة الصداق، فوجدت به عيباً، فردته، أو خرج مستحقاً، رجعت على الزوج في المذهب الجديد بمهر المثل.
وإن كان الصداق تعليم الزوج لها سورة من القرآن، فتعلمت من غيره، أو لم تتعلم لسوء حفظها، فهو كالصداق المعين إذا تلف، فترجع إلى مهر المثل على الجديد.
والمنافع الفائتة في يد الزوج لا يضمنها، وكذا المنافع التي استوفاها بركوب الدابة التي أصدقها، ولبس الثوب الذي أصدقه، لا يضمنها على المذهب.
وإن طلبت الزوجة من الزوج تسليم المهر، فامتنع منه، ضمن ضمان العقد.
وإن طلق الرجل والمهر تالف بعد قبضه، فعليها نصف بدله له من مثل أو قيمة. وإن تعيب في يدها، فإن قنِع بالنصف معيباً، فلا أرش له، كما لو تعيب المبيع في يد البائع، وإن لم يقنع به: فإن كان قيمياً فعليها نصف قيمته، وإن كان مثلياً فعليها مثل نصفه؛ لأنه لا يلزمه الرضا بالمعيب، فله العدول إلى بدله. وإن تعيب بآفة سماوية قبل قبضها له، وقنعت به، فله نصفه ناقصاً بلا أرش ولا خيار. وإن تعيب بفعل أجنبي ضمنت جنايته وأخذت أرشها، والأصح أن له نصف الأرش مع نصف عين المهر.
وقرر الحنابلة (1) : أنه إن أخذت المرأة الصداق، فوجدته معيباً، فلها منع نفسها من الزفاف حتى يبدله، أو يعطيها أرشه؛ لأن صداقها صحيح.
وإن سلمت نفسه ثم بان الصداق معيباً، كان لها أيضاً منع نفسها عن الاستمتاع حتى تقبض بدله أو أرشه؛ لأنها إنما سلمت نفسها ظناً منها أنها قبضت صداقها، فتبين عدمه.
وإن كان الصداق مكيلاً أو موزوناً، فنقص في يد الزوج قبل تسليمه إليها، أو كان غير المكيل والموزون، فمنعها أن تتسلمه فالنقص عليه؛ لأنه من ضمانه.
__________
(1) البدائع: 299/2 وما بعدها.(9/286)
وأما زيادة المهر:
ففيها تفصيل عند الفقهاء، أما رأي الحنفية (1) فهو ما يأتي:
1ً - إن كانت الزيادة متولدة من الأصل كالولد والصوف والثمر والزرع، أو في حكم المتولد كالأرش (عوض الجراحة) فهي مهر، سواء أكانت متصلة بالأصل كالسمن والكبر والجمال، أم منفصلة عنه كالولد ونحوه.
فلو طلقها قبل الدخول بها يتنصف الأصل والزيادة جميعاً بالاتفاق؛ لأن الزيادة تابعة للأصل، لكونها نماء الأصل، والأرش بدل جزء هو مهر، فيقوم مقامه.
2ً - وأما إن كانت الزيادة غير متولدة من الأصل: فإن كانت متصلة بالأصل كالثوب إذا صبغ، والأرض إذا بني فيها بناء، فإنها تمنع التنصيف، وعليها نصف قيمة الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر؛ لأنها لم تتولد من المهر، فلا تكون مهراً، فلا تتنصف، ولا يمكن تنصيف الأصل بدون تنصيف الزيادة.
وإن كانت منفصلة عن الأصل كالهبة والكسب، فالزيادة ليست بمهر وهي كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصف، ويتنصف الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر، وإنما هي مال المرأة، فأشبهت سائر أموالها.
وعند الصاحبين: هي مهر، فتتنصف مع الأصل؛ لأن هذه الزيادة تملك بملك الأصل، فكانت تابعة للأصل، فتتنصف مع الأصل، كالزيادة المتولدة من الأصل كالسمن والولد.
هذا إذا كان المهر في يد الزوج، فحدثت فيه الزيادة.
__________
(1) البدائع: 299/2 وما بعدها.(9/287)
أما إذا كان المهر في يد المرأة قبل الفرقة: فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وللزوج عليها نصف القيمة يوم سلمه إليها؛ لأن هذه الزيادة لم تكن موجودة عند العقد، ولا عند القبض؛ فلا يكون لها حكم المهر، فلا يمكن فسخ العقد عليها بالطلاق قبل الدخول؛ لأن الفسخ إنما يرد على ما ورد عليه العقد. وقال محمد: لا تمنع التنصيف، ويتنصف الأصل مع الزيادة، لظاهر آية {فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] وليس نصف قيمة المفروض.
وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل، فإنها تمنع التنصيف باتفاق أئمة الحنفية الثلاثة، وعليها نصف قيمة الأصل إلى الزوج.
وإن كانت الزيادة منفصلة غير متولدة من الأصل، فهي للمرأة خاصة، والأصل بينهما نصفان اتفاقاً.
وإن حدثت الزيادة بعد الطلاق قبل القبض: فالأصل والزيادة بينهما نصفان.
وإن حدثت بعد القبض وبعد القضاء بالنصف للزوج: فكالحالة السابقة هما بينهما نصفان. وإن كانت الزيادة قبل القضاء بالنصف للزوج: فالمهر في يدها كالمقبوض بعقد فاسد، تكون الزيادة لها؛ لأن الملك كان لها، وقد فسخ ملكها في النصف بالطلاق.
وقال المالكية (1) : ما حدث في الصداق من زيادة ونقصان قبل الدخول: فالزيادة للزوجين، والنقصان عليهما، وهما شريكان في ذلك. ومعنى هذا أن الزيادة بعد الدخول للمرأة.
ورأى الشافعية (2) : أن للمرأة زيادة منفصلة حدثت بعد الإصداق، كثمرة وولد وأجرة؛ لأنها حدثت في ملكها.
ولها الخيار في زيادة متصلة، كسِمَن وتعلم حرفة، فإن لم تسمح بها، فعليها نصف قيمة المهر، بأن يقوَّم بغير زيادة، ويعطى الزوج نصفه، وإن سمحت بها لزمه قبول الزيادة، وليس له طلب بدل النصف؛ لأن حقه مع زيادة لا تتميز، ولا تفرد بالتصرف، بل هي تابعة، فلا تعظم فيها المنة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 203.
(2) مغني المحتاج: 236/3.(9/288)
وإن زاد المهر ونقص: كطول نخلة بحيث يؤدّي إلى هرمها وقلة ثمرها: فإن اتفق الزوجان على الرجوع بنصف العين، فذاك؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإلا فنصف قيمة العين خالية عن الزيادة والنقص؛ لأنه العدل، ولا تجبر هي على دفع نصف العين، للزيادة، ولا هو على قبوله للنقص.
وذهب الحنابلة (1) : إلى أنه يدخل المهر في ملك المرأة بمجرد العقد، فإن زاد فالزيادة لها، وإن نقص فعليها. وإذا كان المهر غنماً فولدت، فالأولاد زيادة منفصلة، تكون لها؛ لأنه نماء ملكها، ويرجع قبل الدخول في نصف الأمهات، إن لم تكن نقصت ولا زادت زيادة متصلة؛ لأنه نصف ما فرض لها، وقد قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] .
وإن نقصت الأغنام بالولادة أوبغيرها، فله الخيار بين أخذ نصفها ناقصاً؛ لأنه راض بدون حقه، وبين أخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها؛ لأن ضمان النقص عليها. وهذا موافق للشافعي.
وقال أبو حنيفة كما تقدم: لا يرجع في نصف الأصل، وإنما يرجع في نصف القيمة؛ لأنه لا يجوز فسخ العقد في الأصل دون النماء؛ لأنه موجب العقد، فلم يجز رجوعه في الأصل بدونه.
واستدل الحنابلة: بأن هذا نماء منفصل عن الصداق، فلم يمنع رجوع الزوج، كما لو انفصل قبل القبض. وردوا على دليل أبي حنيفة بأن الطلاق ليس برفع للعقد، ولا النماء من موجبات العقد، إنما هو من موجبات الملك، فلا فرق بين كون الولادة قبل تسليم المهر إلى الزوجة أو بعده، إلا أن يكون قد منعها قبضه، فيكون النقص من ضمانه، والزيادة لها، فتنفرد بالأولاد.
وإن نقصت الأمهات خيِّرت المرأة بين أخذ نصفها ناقصة، وبين أخذ نصف قيمتها أكثر ما كانت من يوم أصدقها إلى يوم طلقها. وإن أراد الزوج أخذ نصف قيمة الأمهات من المرأة، لم يكن له الأخذ.
__________
(1) المغني: 746/6-749.(9/289)
وإن كان الصداق بهيمة غير حامل (حائلاً) ، فحملت، فالحمل فيها زيادة متصلة، إن بذلتها له بزيادتها لزمه قبولها، وليس الحمل معدوداً نقصاً، فلا يرد به المبيع. وإن اتفقا على تنصيفها جاز. وإن أصدقها حاملاً، فولدت فقد أصدقها شيئين: الأم وولدها، وزاد الولد في ملكها، فإن طلقها فرضيت ببذل النصف من الأم والولد جميعاً، أجبر على قبولهما؛ لأنها زيادة غير متميزة، وإن لم تبذله، لم يجز له الرجوع في نصف الولد لزيادته، ولا في نصف الأم لما فيه من التفرقة بين الأم وبين ولدها، ويرجع بنصف قيمة الأم. وفي نصف الولد وجهان: أحدهما ـ لا يستحق نصف قيمته، والثاني ـ له نصف قيمته.
وإذا أصدقها أرضاً، فبنتها داراً، أو ثوباً فصبغته، ثم طلقها قبل الدخول، رجع بنصف قيمته وقت ما أصدقها إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ، فيكون له النصف، أو تشاء هي أن تعطيه زائداً فلا يكون له غيره.
وإذا أصدقها نخلاً غير مثمر، فأثمرت في يده، فالثمرة لها؛ لأنها نماء ملكها.
حادي عشر ـ الاختلاف في المهر:
الاختلاف في المهر له أحوال ثلاثة: اختلاف في تسمية المهر، واختلاف في مقدار المهر أو جنسه أو نوعه أو صفته، واختلاف في قبض المهر (1) .
__________
(1) البدائع: 304/2-308، فتح القدير: 475/2-479، الدر المختار: 496/2-499، الشرح الصغير: 491/2-496، القوانين الفقهية: ص 204، بداية المجتهد: 29/2-31، المهذب: 61/2-62، مغني المحتاج: 242/3-244، كشاف القناع: 171/5-173، المغني: 707/6-711.(9/290)
الحالة الأولى ـ الاختلاف في تسمية المهر وعدم تسميته:
اختلفت آراء الفقهاء في كيفية فصل النزاع في هذا الموضوع، بأن ادعى أحد الزوجين أو الورثة تسمية المهر، وأنكر الآخر، فقال الأول: سُمي المهر، وقال الآخر: لم نسم مهراً.
قال الحنفية: إذا كان الاختلاف في حال حياة الزوجين، حلف منكر التسمية، عملاً بالقاعدة المقررة: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر) . فإن نكل عن اليمين ثبتت التسمية، وإن حلف يجب مهر المثل باتفاق أئمة الحنفية، فإن كان الاختلاف بعد الطلاق قبل الدخول تجب المتعة باتفاقهم أيضاً.
وكذلك إن وقع الاختلاف بعد موت أحد الزوجين، فهو كالاختلاف في حال حياة الزوجين، فمن كان القول له لو كان حياً يكون القول لورثته، فيحكم بالمسمى إن ثبت، وبمهر المثل إن لم يثبت.
وقال المالكية: إن أقام المدعي البينة على ما يدعيه قضي له بما ادعى، وإن لم يقم البينة، كان القول قول من يشهد له العرف في التسمية وعدمها مع يمينه، فإن ادعى الزوج أنه تزوج المرأة تفويضاً بدون تسمية عند معتادي التفويض، وادعت هي التسمية، فالقول له بيمينه، ولو بعد الدخول أو الموت أو الطلاق، فيلزمه أن يفرض لها صداق المثل بعد الدخول، ولا شيء عليه في الطلاق أو الموت قبل الدخول. فإن كان المعتاد هو التسمية فالقول قول المرأة بيمينها، وثبت النكاح.
وقال الحنابلة: إن اختلف الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما وولي الآخر أو وارثه في تسمية المهر فقال: لم نسم مهراً، وقالت: سمي لي مهر المثل، فالقول قول الزوج بيمينه في أصوب الروايتين؛ لأنه يدعي ما يوافق الأصل، ولها مهر المثل بالدخول أوالموت، فإن طلق ولم يدخل بها، فلها المتعة؛ لأن القول قوله في عدم التسمية، فهي مفوضة.
أما الشافعية فقالوا: لو ادعت المرأة تسميته، فأنكر زوجها قائلاً: لم تقع تسمية، ولم يدّع تفويضاً، تحالفا في الأصح؛ لأن حاصله الاختلاف في قدر المهر؛ لأن الزوج يقول: الواجب مهر المثل، وهي تدعي زيادة عليه. وبالتحالف: ينتفي بيمين كل واحد منهما دعوى صاحبه، فيبقى العقد بلا تسمية، فيجب حينئذ مهر المثل.(9/291)
الحالة الثانية ـ الاختلاف في مقدار المهر المسمى:
إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر المسمى، فقال الزوج: ألف، وقالت الزوجة: ألفان، والخلاف في حال قيام النكاح:
فقال أبو حنيفة ومحمد: القول لمن شهد له مهر المثل بيمينه، وأيهما أقام البينة تقبل، فإن أقام الاثنان البينة، قدمت بينتها إن كان مهر المثل شاهداً للزوج؛ لأنها تثبت الزيادة، وتقدم بينته إن كان مهر المثل شاهداً للمرأة؛ لأنها تثبت الحط، والأصل في هذا أن البينة تثبت خلاف الظاهر أي ما ليس بثابت ظاهر. وإن كان مهر المثل بينهما تحالفا، فإن حلفا أو برهنا قضي به، وإن برهن أحدهما قبل برهانه، لأنه أوضح دعواه بإقامة برهانه. والحاصل: أن أبا حنيفة ومحمداً يحكّمان مهر المثل. لكن إذا كان الاختلاف في جنس المهر أو نوعه أو صفته من الجودة والرداءة، فيقضى بقدر قيمته.
وقال أبو يوسف ـ والعمل جار على رأيه في مصر ـ: تعتبر الزوجة مدعية؛ لأنها تدعي الزيادة على الزوج، والزوج منكر، فتطبق القاعدة: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فتطالب الزوجة بإقامة البينة على ما تدعيه، فإن أقامت البينة على ما ادعت قضي لها به، وإن عجزت عن إقامة البينة وطلبت تحليف الزوج اليمين، وجهت إليه اليمين. فإن امتنع عن الحلف قضي لها بما ادعت، وإن حلف قضي بقدر ما ذكره، إلا أن يأتي بشيء قليل أي ما لا يتعارف مهراً لها، فيقضى حينئذ بمهر المثل. والحاصل: أن أبا يوسف لا يحكِّم مهر المثل، بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه إلا أن يأتي بشيء مستنكر، أي غير متعارف.(9/292)
وقال المالكية: إذا تنازع الزوجان في مقدار الصداق: فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وبدئت هي باليمين، ويقضى لمن كان قوله أشبه بالمتعارف المعتاد بين أهل بلديهما، ومن نكل منهما عن اليمين قضي عليه مع يمين صاحبه أي حلف الآخر، وقضي له بما ادعاه، ولا يفرق بينهما. وإن لم يكن قول أحدهما يشبه المتعارف تحالفا، فيحلف كل منهما على ما ادعى، ونفي ما ادعاه الآخر؛ لأن كلاً منهما يعتبر مدعى ومدعى عليه، فإن حلفا أو امتنعا عن اليمين، فرّق القاضي بينهما بطلقة.
وإن كان الخلاف بعد الدخول، فالقول قول الزوج مع يمينه.
وقرر الشافعية: أنه إن اختلف الزوجان في قدرالمهر أو صفته أو أجله، تحالفا، ويتحالف وارثاهما، أو وارث أحدهما والآخر، ثم يفسخ المهر، ويجب مهر المثل، ولم ينفسخ النكاح.
ورأى الحنابلة: أنه إن اختلف الزوجان في قدر المهر بعد العقد، ولا بيِّنة لأحدهما على مقداره، فالقول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل، فالقول قولها، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر، فالقول قوله. وهذا موافق لرأي أبي حنيفة ومحمد.(9/293)
الحالة الثالثة ـ الاختلاف في قبض المهر المعجل:
إذا اختلف الزوجان في قبض المعجل من المهر، بأن ادعى الزوج أنه وافاها كل المعجل، وقالت الزوجة: لم تقبض شيئاً منه، أو قبضت بعضه. فقال الحنفية: إن كان الخلاف بينهما قبل الدخول، كان القول للزوجة بيمينها، وعلى الزوج أن يثبت ما يدعيه بالبينة. وإن كان الخلاف بينهما بعد الدخول؛ فإن لم يكن هناك عرف بتقديم شيء، فالقول قول الزوجة بيمينها، وإن كان هناك عرف فيحكم العرف في النزاع على أصل القبض، بأن قالت الزوجة: لم تقبض شيئاً، فإن جرى العرف بتقديم النصف أو الثلثين، قضي عليها به، ويكون العرف مكذباً للزوجة في ادعائها عدم قبض شيء من المهر قبل الزفاف. وقد أفتى متأخرو الحنفية (1) بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض؛ لأن العرف جرى بأن المرأة تقبض المعجل قبل الزفاف. وإن كان النزاع في قبض بعض المعجل، بأن قالت الزوجة: إنها قبضت بعض مهرها، وادعى الزوج أنه سلمها كامل المهر، فالقول قول الزوجة بيمينها؛ لأن الناس يتساهلون عادة في المطالبة بتسليم كل المهر بعد قبض بعضه، ويتم الزفاف قبل قبضه.
ووافق المالكية الحنفية في حالة الخلاف في قبض المعجل قبل الدخول أي القول قولها، وأما بعد الدخول: فالقول قوله بعد الدخول بيمينه، إلا إذا كان هناك عرف فيرجع إليه.
ووافق الشافعية والحنابلة الحنفية بدون تفرقة بين ما قبل الدخول وبعده، فقالوا: إن اختلف الزوجان في قبض المهر، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض، وبقاء المهر.
وإن كان الصداق تعليم سورة، فادعاه الزوج، وأنكرت المرأة، فإن كانت لا تحفظ السورة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما ـ أن القول قولها؛ لأن الأصل أنه لم يعلمها. والثاني ـ أن القول قوله؛ لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره.
__________
(1) رسائل ابن عابدين: 126/2.(9/294)
والخلاصة: إن اختلف الزوجان في القبض، فقالت الزوجة: لم أقبض، وقال الزوج: قد قبضت، فقال الجمهور (الشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور) القول قول المرأة. وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك؛ لأن العرف بالمدينة كان عندهم ألا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق. فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف، كان القول قولها أبداً، والقول بأن القول قولها أبداً أحسن؛ لأنها مدعى عليها. ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج.
وإن اختلف الزوجان فيما يرسله الرجل إلى زوجته، فادعى أنه المهر، وادعت المرأة أنه هدية، فالقول قوله بيمينه، والبينة لها عند الحنفية والشافعية.
ثاني عشر ـ الملزم بالجهاز والاختلاف فيه:
الجهاز: هو أثاث المنزل وفراشه وأدوات بيت الزوجية، وهناك رأيان للفقهاء في الملزم بالجهاز:
قال المالكية (1) : الجهاز واجب على الزوجة بمقدار ما تقبضه من المهر، فإن لم تقبض شيئاً فلا تلزم بشيء إلا إذا اشترط الزوج التجهيز عليها، أو كان العرف يلزمها به. ودليلهم أن العرف جرى على أن الزوجة هي التي تعد بيت الزوجية وتجهزه بما يحتاج إليه، وإن الزوج إنما يدفع المهر لهذا الغرض. ويلزمها أن تتجهز بالمهر على العادة من حضر أو بدو، ولا يلزمها أن تتجهز بأزيد منه إلا لشرط أو عرف.
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 458/2 وما بعدها.(9/295)
وخالفهم الحنفية (1) : فرأوا أن الجهاز واجب على الزوج، كما يجب عليه النفقة وكسوة المرأة، والمهر المدفوع ليس في مقابلة الجهاز، وإنما هو عطاء ونحلة كما سماه الله في كتابه، أو هو في مقابلة حل التمتع بها، فهو حق على الزوج لزوجته.
لكن إن دفع الزوج مقداراً من المال في مقابلة الجهاز:
فإن كان المال زائداً على المهر مستقلاً عنه، فتلزم الزوجة بإعداد الجهاز لأنه كالهبة بشرط العوض.
وأما إن كان المال غير مستقل عن المهر، بأن سمى مهراً زائداً على مهر المثل، فالصحيح كما قال ابن عابدين أن الزوجة لا يلزمها شيء من الجهاز؛ لأن الزيادة متى جعلت من ضمن المهر، التحقت به، وصار كله حقاً خالصاً للزوجة، فلا تطالب بإنفاق شيء منه في الجهاز جبراً عنها.
وأما الاختلاف في الجهاز أو متاع البيت: وهو المفروشات والأواني وغيرها، فالمقرر فيه لدى المالكية (2) :
إذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فادعى كل واحد منهما أنه له، ولا بينة لهما ولا لأحدهما، فما كان من متاع النساء كالحلي والغزل وثياب النساءوخمرهن، حكم به للمرأة مع يمينها. وما كان من متاع الرجال كالسلاح والكتب وثياب الرجال، حكم به للرجل مع يمينه، وما كان يصلح لهما جميعاً كالدنانير والدراهم، فهو للرجل مع يمينه. وقال سحنون: مايعرف لأحدهما فهوله بغير يمين.
ووافق أبو حنيفة ومحمد (3) المالكية فقالا: ما كان يصلح للرجال كالعمامة والقلنسوة والسلاح وغيرها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ وما يصلح للنساء مثل الخمار والملحفة والمغزل ونحوها، فالقول فيه قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر شاهد لها. وما يصلح لهما جميعاً كالدراهم والدنانير والعروض والبسط والحبوب ونحوها، فالقول فيه قول الزوج مع يمينه؛ لأن يد الزوج على ما في البيت أقوى من يد المرأة؛ لأن يده يد تصرف في المتاع، وأما يد المرأة فهي للحفظ فقط، ويد التصرف أقوى من يد الحفظ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 505/2 ومابعدها، و 889.
(2) القوانين الفقهية: ص 213، الشرح الصغير: 496/2-498.
(3) البدائع: 308/2 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 504/2.(9/296)
وقال أبو يوسف: يكون القول قول الزوجة مع يمينها في مقدار ما يجهز به مثلها عادة، والقول قول الزوج في الباقي؛ لأن الغالب ألا تزف الزوجة إلى زوجها إلا بجهاز يليق بمثلها، فيكون الظاهر شاهداً للمرأة في مقدار جهاز مثلها، فيكون القول قولها في هذا المقدار، وما زاد عنه، يكون القول فيه للزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر يشهد له فيه.
وهذا الرأي يتفق مع عرف البلاد التي تجهز فيه الزوجة بيت الزوجية.
ونقل الكاساني عن مالك والشافعي: أن كل المتاع بين الزوجين نصفان.
وإذا مات الزوجان، فاختلف ورثتهما، فالحكم حينئذ كالحكم عند اختلاف الزوجين، ففي قول أبي حنيفة ومحمد: القول قول ورثة الزوج. وفي قول
أبي يوسف: القول قول ورثة المرأة في مقدار جهاز مثلها، وقول ورثة الزوج في الباقي؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث، فصار كأن المورثين اختلفا بأنفسهما وهم حيان.
وإن مات أحد الزوجين، واختلف الآخر الحي وورثة الميت، فالحكم لا يختلف في رأي أبي يوسف ومحمد ومالك، ففي رأي أبي يوسف: القول للزوجة إن كانت موجودة، ولورثتها إن كانت ميتة، بقدر جهاز مثلها، والزائد عنه يكون القول فيه للزوج أو لورثته. وفي رأي مالك ومحمد: يكون القول للزوج بيمينه إن كان موجوداً، ولورثته بعد موته.
وأما رأي أبي حنيفة: فهو أن القول يكون للحي من الزوجين مع يمينه، فإن كان الزوج كان القول قوله مع يمينه؛ لأن يده على ما في البيت أقوى من يد المرأة. وإن كانت الزوجة فالقول لها مع يمينها؛ لأن يدها كانت ضعيفة حال حياة الزوج، وصارت قوية بعد موت الزوج، فكان الظاهر شاهداً لها.(9/297)
ثالث عشر ـ ميراث الصداق وهبته:
قال المالكية (1) : المهر حق خالص للمرأة، فلها أن تهبه لزوجها أو لأجنبي، ويرثه عنها ورثتها. وتفصيله ما يأتي:
إن طلقت المرأة قبل الدخول بها حسب ما أنفقته على نفسها من المهر مما يخصها من النصف.
ولو ادعى الأب أو غيره أن بعض الجهاز له، وخالفته البنت أو الزوج، قُبلت دعوى الأب أو وصيه فقط في إعارته لها إن كانت دعواه في السنة التي حدث فيها الدخول من يوم الدخول، وكانت البنت بكراً، أو ثيباً هي في ولايته، أما الثيب التي ليست في ولايته، فلا تقبل دعواه في إعارته بعض الجهاز لها.
وأما إن ادعى الأب ذلك بعد مضي سنة من الدخول، فلا تقبل دعواه إلا أن يشهد على أن الشيء عارية عند ابنته عند الدخول أو في وقت قريب منه.
ولو جهز رجل ابنته بشيء زائد عن صداقها، ومات قبل الدخول أو بعده، اختصت به البنت عن بقية الورثة إن نقل الجهاز لبيتها أو أشهد لها الأب بذلك قبل موته، أو اشتراه الأب لها ووضعه عند غيره كأمها أو عندها هي.
وإن وهبت امرأة رشيدة صداقها للزوج قبل قبضه منه، جبر الزوج على دفع أقل المهر لها وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو بقدر قيمتها، لئلا يخلو النكاح من صداق.
ويجوز للمرأة الرشيدة أن تهب للزوج جميع الصداق الذي تقرر به النكاح؛ لأنها ملكته، وتقرر بالوطء، سواء قبضته منه أم لم تقبضه، لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً، فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] .
وإن وهبت المرأة الرشيدة الصداق لزوجها، أو أعطته مالاً من عندها بقصد دوام العِشْرة واستمرارها معه، ففسخ النكاح لفساده، أو طلقها قبل تمام سنتين، رجعت عليه بما وهبته من الصداق، وبما أعطته من مالها، لعدم تمام غرضها.
وإن أعطت سفيهة غير رشيدة مالاً لرجل ليتزوجها به، صح الزواج ولم يفسخ، وعليه أن يعطيها من ماله مثل ما أعطته، إن كان مثل مهرها فأكثر، فإن كان أقل من مهر مثلها، أعطاها من ماله قدر مهر مثلها.
__________
(1) الشرح الصغير: 459/2-463.(9/298)
المبحث الثاني ـ المتعة:
معناها، حكمها، مقدارها (1) .
معنى المتعة: المتعة مشتقة من المتاع: وهو ما يستمتع به، وتطلق على أربعة معان:
أحدهما ـ متعة الحج، وقد ذكرت في الحج.
الثاني ـ النكاح إلى أجل.
الثالث ـ متعة المطلقات، وهي محل البحث هنا.
الرابع ـ إمتاع المرأة زوجها في مالها على ما جرت به العادة في بعض البلاد، قال المالكية: فإن كان شرطاً في العقد لم يجز، وإن كان تطوعاً بعد تمام العقد جاز.
والمتعة المرادة هنا: هي الكسوة أو المال الذي يعطيه الزوج للمطلقة زيادة على الصداق أو بدلاً عنه كما في المفوضة، لتطيب نفسها، ويعوضها عن ألم الفراق. وعرفها الشافعية: بأنها مال يجب على الزوج دفعه لامرأته المفارقة في الحياة بطلاق وما في معناه، بشروط تأتي.
وعرفها المالكية: بأنها الإحسان إلى المطلقات حين الطلاق بما يقدر عليه المطلق بحسب ماله في القلة والكثرة.
__________
(1) البدائع: 302/2-304، الدر المختار: 461/2-462، اللباب: 17/3، فتح القدير: 448/2، الشرح الصغير: 616/2، القوانين الفقهية: ص 210، 239، 240، مغني المحتاج: 241/3 وما بعدها، المهذب: 63/2، كشاف القناع: 176/5 وما بعدها، المغني: 712/6-717، غاية المنتهى: 73/3.(9/299)
حكم المتعة:
للفقهاء آراء في حكم المتعة.
أما الحنفية فقالوا: قد تكون المتعة واجبة، وقد تكون مستحبة. فتجب المتعة في نوعين من الطلاق.
1ً - طلاق المفوضة قبل الدخول، أو المسمى لها مهراً تسمية فاسدة: أي الطلاق الذي يكون قبل الدخول والخلوة في نكاح لا تسمية فيه، ولا فرض بعده، أو كانت التسمية فيه فاسدة، وهذا متفق عليه عند الجمهور غيرا لمالكية، لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن، أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن} [البقرة:236/2] أمر بالمتعة، والأمر يقتضي الوجوب، وتأكد في آخر الآية بقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/2] ولأن المتعة في هذه الحالة بدلاً عن نصف المهر، ونصف المهر واجب، وبدل الواجب واجب؛ لأنه يقوم مقامه، كالتيمم بدلاً عن الوضوء.
2ً - الطلاق الذي يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر، وإنما فرض بعده، في رأي أبي حنيفة ومحمد، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن} [الأحزاب:49/33] والآية السابقة {ومتعوهن} [البقرة:236/2] فالآية الأولى أوجبت المتعة في كل المطلقات قبل الدخول، ثم خص منها من سمي لها مهر، فبقيت المطلقة التي لم يسم لها مهر، والآية الثانية أوجبت المتعة لمن لم يفرض لها فريضة، وهو منصرف إلى الفرض في العقد.
ورأى أبو يوسف والشافعي وأحمد: أنه يجب للمطلقة قبل الدخول التي فرض لهامهر نصف مهر، سواء أكان الفرض في العقد أم بعده؛ لأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد، وبما أن المفروض في العقد يتنصف فكذا المفروض بعده.
وتستحب المتعة عند الحنفية في حالة الطلاق بعد الدخول، والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية؛ لأن المتعة إنما وجبت بدلاً عن نصف المهر، فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول، فلا داعي للمتعة.
وأوجب الشافعية المتعة في الطلاق بعد الدخول، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:2/241] .(9/300)
والخلاصة: تستحب المتعة عند الحنفية لكل مطلقة إلا لمفوضة فتجب: وهي من زوجت بلا مهر، وطلقت قبل الدخول، أو من سمي لها مهر تسمية فاسدة أو سمي بعد العقد.
ومذهب المالكية: أن المتعة مستحبة لكل مطلقة، لقوله تعالى: {حقاً على المتقين} [البقرة:2/241] وقوله: {حقاً على المحسنين} [البقرة:2/236] فإنه سبحانه قيد الأمر بها بالتقوى والإحسان، والواجبات لا تتقيد بهما.
وقالوا: المطلقات ثلاثة أقسام: مطلقة قبل الدخول وقبل التسمية (المفوضة) فلها المتعة وليس لها شيء من الصداق. ومطلقة قبل الدخول وبعد التسمية، فلا متعة لها. ومطلَّقة بعد الدخول، سواء أكانت قبل التسمية أم بعدها، فلها المتعة. ولا متعة في كل فراق تختاره المرأة، كامرأة المجنون والمجذوم والعنين. ولا في الفراق بالفسخ، ولا المختلعة، ولا الملاعنة.
ومذهب الشافعية عكس المالكية تماماً: المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء أكان الطلاق قبل الدخول أم بعده، إلا لمطلقة قبل الدخول سمي لها مهر فإنه يكتفى لها بنصف المهر، فتجب لمطلقة قبل دخول إن لم يجب شطر مهر، وتجب أيضاً في الأظهر لمدخول بها، ولكل فُرْقة لا بسبب الزوجة كطلاق، بأن كانت الفرقة بسبب الزوج كردته ولعانه وإسلامه. أما من وجب لها شطر مهر فلها ذلك، وأما المفوضة ولم يفرض لها شيء فلها المتعة. وعبارتهم بإيجاز (1) : لكل مفارقة متعة إلا التي فرض لها مهر، وفورقت قبل الدخول، أو كانت الفرقة بسببها، أو بملكه لها، أو بموت، وفرقة اللعان بسببه، والعنة بسببها.(9/301)
ودليلهم قوله تعالى: {ومتعوهن} [البقرة:236/2] وقوله {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/2] فإنه أوجب المتعة لكل مطلقة، سواء أكانت مدخولاً بها أم لا، سمي لها مهر أم لا. ويؤكده تمتيع زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم وكن مدخولاً بهن، في قوله تعالى: {قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/33] . أما إذا فرض للمرأة في التفويض شيء فلا متعة لها؛ لأن الزوج لم يستوف منفعة بُضعها، فيكفي شطر مهرها لما لحقها بالطلاق من الاستيحاش والابتذال.
ومذهب الحنابلة موافق لمذهب الحنفية في الجملة: المتعة تجب على كل زوج حر وعبد، مسلم وذمي، لكل زوجة مفوضة، طلقت قبل الدخول، وقبل أن يفرض لها مهر، للآية المتقدمة {ومتعوهن} [البقرة:236/2] ولا يعارضه قوله {حقاً على المحسنين} [البقرة:236/2] لأن أداء الواجب من الإحسان، فليس للمفوضة إلا المتعة.
وتستحب المتعة عندهم لكل مطلقة غير المفوضة التي لم يفرض لها مهر، لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/2] ولم تجب؛ لأنه تعالى قسم المطلقات قسمين، وأوجب المتعة لغير المفروض لهن، ونصف المسمى للمفروض لهن، وهو يدل على اختصاص كل قسم بحكمه.
ولا متعة للمتوفى عنها؛ لأن النص لم يتناولها، وإنما تناول المطلقات.
وتسقط المتعة في كل موضع يسقط فيه كل المهر، كردتها وإرضاعها من ينفسخ به نكاحها ونحوه؛ لأنها أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في كل موضع يسقط فيه.
وتجب المتعة للمفوضة في كل موضع يتنصف فيه المسمى، كردته قياساً على الطلاق، ولا تجب المتعة فيما يسقط به المسمى من الفرق كاختلاف الدين والفسخ بالرضاع ونحوه إذا جاء من قبل المرأة؛ لأن المتعة أقيمت مقام نصف المسمى، فسقطت في موضع يسقط.
__________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 231.(9/302)
ومن وجب لها نصف المهر، لم تجب لها متعة، سواء أكانت ممن سمي لها صداق، أم لم يسم لها، لكن فرض بعد العقد. وهذا موافق للجمهور غير أبي حنيفة ومحمد، كما تقدم.
ولا متعة للمسمى لها مهراً بعد الدخول أو المفوضة أو المفوض لها بعد الدخول، لكن يستحب لها المتعة، وتستحب أيضاً لمن سمي لها صداق فاسد كالخمر والمجهول وطلقت قبل الدخول.
والخلاصة: أوجب الشافعية المتعة إلا للمطلقة قبل الدخول، التي سُمي لها المهر، والجمهور استحبوا المتعة، لكن المالكية استحبوها لكل مطلقة، والحنفية والحنابلة استحبوها لكل مطلقة إلا المفوضة التي زوجت بلا مهر فتجب لها المتعة. والظاهر رجحان مذهب الشافعية لقوة أدلتهم، ولتطييب خاطر المرأة، وتخفيف ألم الفراق، ولإيجاد باعث على العودة إلى الزوجية إن لم تكن البينونة كبرى.
مقدار المتعة ونوعها:
لم يرد نص في تقدير المتعة ونوعها، فاجتهد الفقهاء في مقدارها.
قرر الحنفية: أنها ثلاثة أثواب: دِرْع (ما تلسبه المرأة فوق القميص) وخمار (ما تغطي به المرأة رأسها) ومِلْحفة (ما تلتحف به المرأة من رأسها إلى قدمها) لقوله تعالى: {متاعاًبالمعروف حقاً على المحسنين} [البقرة:236/2] والمتاع: اسم للعروض في العرف، ولأن لإيجاب الأثواب نظيراً في أصول الشرع وهو الكسوة التي تجب لها حال قيام الزوجية وأثناء العدة، وأدنى ما تكتسي به المرأة وتستتر به عند الخروج: ثلاثة أثواب.
ولا تزيد هذه الأثواب عن نصف مهر المثل لو كان الزوج غنياً، لأنها بدل عنه، ولا تنقص عن خمسة دراهم لو كان الزوج فقيراً. والمفتى به أن المتعة تعتبر بحال الزوجين كالنفقة، فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب، وإن كانا فقيرين فالأدنى، وإن كانا مختلفين فالوسط.(9/303)
وقال الشافعية: يستحب ألا تنقص المتعة عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وهذا أدنى المستحب، وأعلاه خادم، وأوسطه ثوب. ويسن ألا تبلغ نصف مهر المثل، فإن بلغته أو جاوزته جاز لإطلاق الآية: {ومتعوهن} [البقرة:236/2] .
فإن تنازع الزوجان في قدرها، قدَّرها القاضي باجتهاده بحسب ما يليق بالحال، معتبراً حال الزوجين كما قال الحنفية، من يسار وإعسار ونسب وصفات، لقوله تعالى: {ومتعوهن، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره} [البقرة:236/2] {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/2] .
وذهب المالكية والحنابلة: إلى أن المتعة معتبرة بحال الزوج يساراً أوإعساراً، على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، للآية السابقة المصرحة بكون المتعة على حسب حال الزوج، فأعلاها خادم أي قيمة خادم في زمنهم إذا كان موسراً، وأدناها إذا كان فقيراً: كسوة كاملة تجزيها في صلاتها أي أقل الكسوة، وهي درع وخمار، أو نحو ذلك، أقلها ثلاثة أثواب عند الحنفية: درع (قميص) وخمار يستر رأسها، وملاءة. لقول ابن عباس: «أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة» . والظاهر رجحان هذا القول.
ونص القانون السوري على بعض أحكام المتعة في المادة (2/61) : «إذا وقع الطلاق قبل الدخول والخلوة الصحيحة، فعندئذ تجب المتعة» وفي المادة (62) : «المتعة: هي كسوة مثل كسوة المرأة عند الخروج من بيتها، ويعتبر فيها حال الزوج على ألا تزيد على نصف مهر المثل» .(9/304)
المبحث الثالث ـ الخلوة الصحيحة وأحكامها:
معناها، آراء الفقهاء فيها، أحكامها (1) :
معنى الخلوة: الخلوة الصحيحة: هي أن يجتمع الزوجان بعد عقد الزواج الصحيح في مكان يأمنان فيه من اطلاع الناس عليهما كدار أو بيت مغلق الباب. فإن كان الاجتماع في شارع أو طريق أو مسجد أو حمام عام أو سطح لا ساتر له أو في بيت مفتوح الباب والنوافذ أو في بستان لا باب له، فلا تتحقق الخلوة الصحيحة. ويشترط فيها ألا يكون بأحد الزوجين مانع طبعي أو حسي أو شرعي يمنع من الوطء أو الاتصال الجنسي.
والمانع الحسي: مثل مرض بأحد الزوجين يمنع الوطء من رتَق (تلاحم) ، وقرَن (عظم) ، وعفَل (غدة) ، أما خلوة الخصي (مسلوب الخصية) والعنين (العاجز عن الجماع) فهي صحيحة، وأما خلوة المجبوب فهي صحيحة عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين.
والمانع الطبيعي: ما يمنع النفس بطبيعتها عن الجماع، مثل وجود شخص ثالث عاقل، ولو كان أعمى أو نائماً أو صبياً مميزاً أو زوجة أخرى. فإن كان هناك غير مميز أو مجنون أو مغمى عليه، فالخلوة صحيحة.
والمانع الشرعي: أن يكون هناك ما يحرم الوطء شرعاً كالصوم في رمضان، والإحرام بحج أو عمرة، والاعتكاف، والحيض والنفاس، والدخول في صلاة الفريضة، والخلوة في المسجد؛ لأن الجماع في المسجد حرام.
وأما عدم معرفة الرجل للمرأة فقال فيه ابن عابدين: إن هذا المانع بيده إزالته، بأن يخبرها أنه زوجها، فلما جاء التقصير من جهته، يحكم بصحة الخلوة، فيلزم المهر.
فإن لم تتوافر هذه الشروط فالخلوة فاسدة، بأن يكون الزواج فاسداً، أو الخلوة في مكان يمكن لأحد الناس الدخول عليهما (عدم صلاحية المكان) أو وجود مانع من الجماع. وبه يكون معنى الخلوة الفاسدة: هي كل خلوة وجد فيها مانع من الموانع الثلاثة السابقة، أو وجود شخص ثالث عاقل مع الزوجين، أو عدم صلاحية المكان، أو فساد الزواج.
__________
(1) البدائع: 291/2-294، الدر المختار: 454/2، 465-473، الشرح الكبير: 301/2، القوانين الفقهية: ص 202، مغني المحتاج: 225/3، كشاف القناع: 155/5، 179، المغني: 455/6 وما بعدها، غاية المنتهى: 69/3.(9/305)
آراء الفقهاء في أحكام الخلوة:
للفقهاء رأيان في الخلوة، فمذهب المالكية والشافعية في الجديد: الخلوة وحدها بدون جماع وإرخاء الستور لا تؤكد المهر للزوجة، فلو خلا الزوج بزوجته خلوة صحيحة، ثم طلقها قبل الدخول بها، وجب فقط نصف المهر المسمى، أوالمتعة إن لم يكن المهر مسمى، علماً بأن المتعة عند المالكية مستحبة لا واجبة.
ودليلهم قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم} [البقرة:237/2] والمس: كناية عن الاتصال الجنسي، وفسروا آية {وقد أفضى بعضكم إلى بعض} [النساء:21/4] بأن الإفضاء معناه الجماع.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل المهر للمرأة بما استحل من فرجها أي أصابها.
لكن قال المالكية: للخلوة الصحيحة حكمان:
الأول ـ وجوب العدة على المرأة، حتى ولو اتفق الزوجان على عدم وقوع الوطء فيها؛ لأن العدة حق الله تعالى، فلا تسقط باتفاق الزوجين على نفي الوطء، مع اعترافهما بالخلوة.
الثاني ـ صيرورتها قرينة على الوطء عند اختلاف الزوجين في حدوثه: فإذا اختلى الرجل بزوجته خلوة اهتداء، وهي المعروفة عندهم بإرخاء الستور: وهي أن يسكن كل واحد من الزوجين للآخر، ويطمئن إليه. ثم يطلقها، ويختلفان في حصول الوطء، صدقت الزوجة بيمينها فيما تدعيه. فإن امتنعت عن اليمين حلف الزوج، ولزمه نصف الصداق. وإن نكل عن اليمين، لزمه جميع الصداق؛ لأن الخلوة بمنزلة شاهد، والنكول عن اليمين بمنزلة شاهد آخر.(9/306)
ومذهب الحنفية والحنابلة: الخلوة كالوطء في تكميل مهر، ولزوم عدة، وثبوت نسب، وتحريم أخت، وأربع سواها حتى تنقضي عدتها. ويعد اللمس والتقبيل بشهوة عند الحنابلة كالدخول أيضاً. وعليه يكون الطلاق بعد الخلوة الصحيحة طلاقاً بائناً، تترتب عليه الأحكام التالية:
1 - ثبوت كامل المهر: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، استحقت كل المهر المسمى، ومهر المثل إن لم تكن التسمية صحيحة.
2 - ثبوت النسب: فلو طلقها بعد الخلوة الصحيحة، وجاءت بولد ثبت نسبه منه إن جاءت به لأكثر من ستة أشهر بعد الخلوة.
3 - وجوب العدة: فإن طلقها بعد الخلوة ولو كانت فاسدة عند الحنفية، وجب عليهاالعدة المقررة بعد الدخول والفرقة.
4 - لزوم نفقة العدة على الزوج المطلق: وهي الطعام والسكنى والكسوة.
5 - حرمة التزوج بامرأة محرم لها أو بأربع سواها ما دامت في العدة، أو التزوج بخامسة في عدتها إذا كانت رابعة، كما يحرم الزواج خلال العدة من طلاق بعد الدخول.
6 - تطليقها في الطهر: إذا أراد الزوج طلاق الزوجة بعد الخلوة الصحيحة، لزمه مراعاة وقت الطلاق، وهو كونه في طهر، كالمقرر في الطلاق السني بعد الدخول.
والخلاصة: أن ثبوت المهر والعدة من أحكام الخلوة المحضة، وأما ثبوت النسب فهو عند الحنفية من أحكام العقد مطلقاً، وأما بقية الأحكام فهي من آثار العدة.
ولا تكون الخلوة كالوطء أو الدخول فيما يأتي:
1 - الإحصان: فالخلوة الصحيحة لا تجعل الزوجين محصنين لإقامة حد الرجم، وإنما لا بد من الدخول.
2 - الغسل: لا يجب الغسل على أحد الزوجين بمجرد الخلوة، بخلاف الوطء.
3 - حرمة البنت: الخلوة لا تحرم البنت على الزوج، وله أن يتزوجها بعد طلاق أمها، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي بالأم لتحريم ابنتها على الزوج.
4 - التحليل: الخلوة الصحيحة مع الزوج الثاني لا تحل المرأة لزوجها الأول، وإنما لا بد من الدخول الحقيقي (ذوق العسيلة) ثم طلاقها.(9/307)
5 - حصول الرجعة: الخلوة بالمطلقة لا تكون رجعة، فمن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم اختلى بها من غير أن يرجع بالقول، أو بالفعل كوطء وتقبيل، لا يكون بالخلوة مراجعاً لها، أما الدخول فإنه يحقق المراجعة.
6 - العودة للزوجية بدون عقد جديد: الطلاق بعد الخلوة يكون بائناً، فلا تعاد إلى المطلق إلا بعقد ومهر جديدين. أما الطلاق بعد الدخول فيقع رجعياً إذا لم يكمل الثلاث، فيمكن للرجل مراجعة امرأته من غير عقد جديد.
7 - الميراث: يقع الطلاق بائناً بعد الخلوة، فإذا مات أحد الزوجين في أثناء العدة من هذا الطلاق فلا يرثه الآخر، إذ لا ميراث في الموت في عدة الطلاق البائن. إذا طلق الرجل امرأته طلاقاً غير مكمل للثلاث، ومات أحدهما في عدة هذا الطلاق، فإن الآخر يرثه؛ لأن الطلاق حينئذ رجعي، والموت في عدة الطلاق الرجعي كالموت حال قيام الزوجية. 8 - تزوجها كالأبكار على المختار عند الحنفية: فمن طلق امرأته بعد الخلوة، فحكمها في الزواج كحكم الأبكار؛ لأنها بكر في الحقيقة. أما المدخول بها حقيقة فيكون تزوجها بغير الزوج الأول بعد الفراق كتزوج الثيبات. ويلاحظ ما يأتي:
أـ إن أحكام الخلوة المذكورة لا تثبت إلا إذا كان عقد الزواج صحيحاً، فإن كان فاسداً فلا يثبت للخلوة بعده شيء من تلك الأحكام.
ب ـ والعدة في المعتمد في المذهب الحنفي قد تجب في بعض حالات الخلوة الفاسدة: وهي التي يكون فسادها لمانع طبيعي أو شرعي؛ لأن الوطء ممكن في ذاته، بخلاف حالة المانع الحسي.
جـ ـ تجب العدة في الخلوة في القضاء فقط، لا في الديانة، أما العدة بعد الدخول الحقيقي فتجب قضاء وديانة.(9/308)
أدلة الحنفية والحنابلة:
استدل هؤلاء على جعل الخلوة بمثابة الدخول بما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} [النساء:20/4-21] نهى الشرع عن أخذ شيء من المهر بعد الإفضاء، والإفضاء ـ كما قال الفراء ـ هو الخلوة، سواء دخل بها أم لم يدخل.
2ً - الحديث النبوي: «من كشف خمار امرأته، ونظر إليها فقد وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» (1) وهو ظاهر الدلالة على المطلوب.
3ً - الآثار: قال زرارة بن أبي أوفى: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل بها (2) .
4ً - المعقول: أن الزوجة بتمكينها من الخلوة مع عدم المانع من الجماع، قد سلمت المبدل وهو مقابل المهر، فيجب على زوجها تسليمها البدل وهو المهر، كما في البيع والإجارة، وتقصير الزوج في استيفاء حقه لا تؤاخذ هي به، كما أن تقصير المستأجر والمشتري في الاستلام بعد التخلية ورفع الموانع، لا يمنع من حصول التسليم.
__________
(1) رواه الدارقطني. (2) رواه أحمد والأثرم بإسنادهما.(9/309)
الفَصْلُ السّابع: حقوق الزّواج وواجباته
عرفنا أن الزواج كغيره من العقود ينشئ بين العاقدين الزوجين حقوقاً وواجبات متبادلة، عملاً بمبدأ التوازن والتكافؤ وتساوي أطراف التعاقد الذي يقوم عليه كل عقد. وقد أشار القرآن الكريم لهذا المبدأ وثبوت هذه الحقوق والواجبات، فقال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] أي أن للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال على النساء من واجبات، وأساس توزيع تلك الحقوق والواجبات هو العرف والفطرة، ومبدأ: كل حق يقابله واجب.
وفي هذا الفصل مباحث ثلاثة:
الأول ـ حقوق الزوجة.
الثاني ـ حقوق الزوج.
الثالث ـ الحقوق المشتركة بين الزوجين.
المبحث الأول ـ حقوق الزوجة:
للزوجة حقوق مالية وهي المهر والنفقة، وحقوق غير مالية: وهي إحسان العشرة والمعاملة الطيبة، والعدل. أما المهر: فقد تكلمت عنه تفصيلاً، وعُلم أنه حق خاص للمرأة بالقرآن والسنة، لقوله تعالى: {وآتوا النساء صدُقاتهن نحلة} [النساء:4/4] ، وثبت في السنة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يخل زواجاً من مهر.
وأما النفقة: فيخصص لها مبحث خاص بها، وهي أمر مقرر في القرآن والسنة أيضاً، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] وعن معاوية القشيري: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سأله رجل: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: تُطعمها إذا طعِمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت» (1) أي لا تقل لامرأتك: قبحها الله، والهجر يكون في المضجع، لا أن يتحول الرجل عن المرأة إلى دار أخرى، أو يحولها إليها.
والمراد من العشرة: ما يكون بين الزوجين من الألفة والاجتماع، ويلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة، وكف الأذى، وألا يمطله حقه مع قدرته، ولا يظهر الكراهة فيما يبذله له، بل يعامله ببشر وطلاقة، ولا يتبع عمله مِنَّة ولا أذى (2) ؛ لأن هذا من المعروف، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] وقوله سبحانه: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] قال أبو زيد: «تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله فيكم» وقال ابن عباس: «إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي» ؛ لأن الله تعالى يقول: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 211/6) .
(2) كشاف القناع: 205/5.(9/310)
وثبت في السنة الأمر بمعاملة النساء خيراً، وورد فيها بيان حقوق وواجبات كل من الزوجين، قال صلّى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عندكم عوانٍ (1) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مُبَيِّنة، فإن فَعلْنَ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرِّح (2) ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً» .
«إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً.
فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون.
ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» (3) .
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» (4) . «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم» (5) .
ومن أهم حقوق الزوجة بإيجاز لما سبق بيانه في هذا الشأن (6) :
1ً - إعفاف الزوجة أو الاستمتاع: قال المالكية: الجماع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر. وقال الشافعي: لايجب إلا مرة؛ لأنه حق له، فجاز له تركه كسكنى الدار المستأجرة، ولأن الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة، فلا يمكن إيجابه، والمستحب ألا يعطلها، ليأمن الفساد.
__________
(1) عوان: جمع عانية، والعاني: الأسير.
(2) أي غير شديد ولا موجع.
(3) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص (نيل الأوطار: 210/6) .
(4) رواه الترمذي وصححه عن عائشة (نيل الأوطار: 206/6) .
(5) رواه أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة (المرجع السابق) .
(6) البدائع: 334/2، الدر المختار: 521/2، 546-553، القوانين الفقهية: ص 211 وما بعدها، المهذب: 65/2-69، كشاف القناع: 205/5-228.(9/311)
وقال الحنابلة: يجب على الزوج أن يطأ الزوجة في كل أربعة أشهر مرة، إن لم يكن عذر؛ لأنه لو لم يكن واجباً لم يصر باليمين (الإيلاء) على تركه واجباً، كسائر ما لا يجب، ولأن النكاح شرع لمصلحة الزوجين، ودفع الضرر عنهما، وهو مفض إلى دفع ضرر الشهوة من المرأة كإفضائه إلى دفعه عن الرجل، فيكون الوطء حقاً لهما جميعاً، فإن أبى الوطء بعد انقضاء الأربعة الأشهر، أو أبى البيتوتة في ليلة من أربع ليال للمرأة الحرة، بلا عذر لأحد الزوجين، فرِّق بينهما كما يفرق بسبب الإيلاء، وكما لو منع النفقة، ولو قبل الدخول، أي يفرق بينهما إن لم يطأ بعد الزفاف لمدة أربعة أشهر، وكما لو ظاهر من زوجته، ولم يكفر عن الظهار، بل إن الفسخ لتعذر الوطء أولى من الفسخ لتعذر النفقة.
لكن إن سافر الزوج عن المرأة لعذر وحاجة، سقط حقها من القسم والوطء وإن طال سفره للعذر. وإن لم يكن للمسافر عذر مانع من الرجوع وغاب أكثر من ستة أشهر، فطلبت قدومه، لزمه القدوم، لما روى أبو حفص بإسناده عن يزيد بن أسلم قال: بينا عمر بن الخطاب يحرس المدينة، فمرَّ بامرأة وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسودَّ جانبه..... ..... وطال علي أن لا خليل ألاعبه
فو الله لولا خشية الله والحيا..... ..... لحرك من هذا السرير جوانبُه(9/312)
فسأل عنها، فقيل له: زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها امرأة تكون معها، وبعث إلى زوجها، فأقفله، ثم دخل على حفصة فقال: بُنَيَّة، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: سبحان الله، مثلك يسأل مثلي عن هذا؟ فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين، ما سألتك، فقالت: خمسة أشهر، ستة أشهر، فوقَّت للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً، ويقيمون أربعة أشهر، ويرجعون في شهر. ولزوم قدوم الزوج: إن لم يكن له عذر في سفره كطلب علم أو كان في جهاد أو حج واجبين أو في طلب رزق يحتاج إليه، فإن وجد عذر لم يلزمه القدوم؛ لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره.
ويكتب الحاكم للزوج الغائب ليقدم، فإن أبى أن يقدم من غير عذر، بعد مراسلة الحاكم إليه، فسخ الحاكم نكاحه؛ لأنه ترك حقاً عليه يتضرر به.
2 - يحرم الوطء في الدبر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها» (1) وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، أو أتى عرافاً فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد» (2) وفي حديث آخر: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (3) .
ويحرم وطء الحائض، ويسن لمن وطئ الحائض أن يتصدق بدينار إن وطئها في مقتبل الدم، وبنصف دينار في إدباره، لما روى أبو داود والحاكم وصححه: «إذا واقع الرجل أهله وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» .
ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، لقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/23-6] .
__________
(1) رواهما ابن ماجه وأحمد (نيل الأوطار: 200/6) .
(2) رواه الأثرم وأحمد والترمذي. ورواه أبو داود بلفظ «فقد برئ مما أنزل» (المرجع السابق) .
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود، وأخرجه الشافعي بنحوه عن خزيمة بن ثابت، وفي إسناده مجهول (المرجع السابق) .(9/313)
ويجوز وطؤها في الفرج مدبرة، لما روى جابر قال: «كان اليهود يقولون: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها، جاء الولد أحول» فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/2] من بين يديها ومن خلفها، غير ألا يأتيها إلا في المأتى وفي لفظ: «يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج» (1) .
فإن أتاها في الدبر عزر إن علم تحريمه، لارتكابه معصية لا حد فيها ولا كفارة.
قال الحنابلة: وإن تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر، فُرِّق بينهما. وكذا إن أكره الرجل زوجته على الوطء في الدبر، ونهي عنه فلم ينته، فرَّق بينهما، كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه.
3 - العزل (إلقاء مني الرجل خارج الفرج) قال الشافعية: يكره العزل، لما روت جُذَامة بنت وهب، قالت: «حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألوه عن العزل، فقال: ذلك الوأد الخفي، وهو: {وإذا الموءودة سئلت} [التكوير:8/81] (2) .
وقال الغزالي: يجوز العزل، وهو المصحح عند المتأخرين لقول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل» (3) والقول بجواز العزل متفق عليه بين المذاهب الأربعة، لحديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً عند أحمد: «إنا نأتي النساء ونحب إتيانهن، فما ترى في العزل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله تعالى فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد» .
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه أحمد ومسلم (نيل الأوطار: 196/6) .
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم (متفق عليه) (نيل الأوطار: 195/6) .(9/314)
ويكره العزل عن المرأة الحرة إلا بإذنها، لما روي عن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» (1) .
4 - المعاشرة بالمعروف: يجب على الزوج معاشرة الزوجة بالمعروف، لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء:19/4] . ويجب عليه بذل ما يجب من حقها من غير مطل، للآية السابقة، ومن العشرة بالمعروف: بذل الحق من غير مطل، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطل الغني ظلم» (2) .
5 - العدل بين النسوة في المبيت والنفقة كما تقدم: فمن كان له امرأتان أو أكثر، فيجب عليه عند الجمهور غير الشافعية العدل بينهن، والقسم لهن، فيجعل لكل واحدة يوماً وليلة، سواء أكان الرجل صحيحاً أم مريضاً أم مجبوباً، وسواء أكانت المرأة صحيحة أم مريضة أم حائضاً أم نفساء أم محرمة بإحرام أم كتابية لقصد الأنس، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قسم لنسائه، وكان يقسم في مرضه، مع أن القسم لم يكن واجباً عليه.
قالت عائشة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة يومها وليلتها (3) ، وقالت عائشة أيضاً: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقسم بيننا فيعدل، ويقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك» (4) . فإن شق على المريض القسم، استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن، لما روت عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث إلى
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه.
(2) رواه أصحاب السنن إلا الترمذي، ورواه البيهقي، كلهم عن عمرو بن الشريد عن أبيه بلفظ: «ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» ورواه أحمد وأصحاب الكتب الستة وابن أبي شيبة والطبراني في معجمه الوسط عن أبي هريرة باللفظ المذكور في الأصل.
(3) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم.
(4) رواه أبو داود.(9/315)
نسائه فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنَّ لي، فأكون عند عائشة، فعلت، فأذنَّ له» (1) فإن لم يأذنَّ له أن يقيم عند إحداهن أقام عند إحداهن بقرعة أو اعتزلهن جميعاً إن أحب ذلك تعديلاً بينهن.
وقال الشافعية: لا يجب ابتداء القسم على الرجل؛ لأن القسم لحقه، فجاز له تركه، فإذا بات عند واحدة، لزمه المبيت للأخريات، ولو عنيناً أو مريضاً، اقتداءً بفعل النبي.
والبدء بالقسم يكون بالقرعة، فلا يجوز للرجل أن يبدأ بواحدة من نسائه من غير رضا البواقي إلا بقرعة، لحديث أبي هريرة المتقدم عند أبي داود: «من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة، وأحد شقيه ساقط» ولأن البداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور.
وإذا قسم لواحدة، لزمه القضاء للبواقي؛ لأنه إذا لم يقض، مال، فدخل في الوعيد.
والقسم مطلوب عند الشافعية والحنابلة حتى في السفر، فلا يسافر مع واحدة إلا بقرعة، كما ذكر سابقاً، ولم يوجب الحنفية والمالكية القسم في السفر، واستثنى المالكية سفر القربة، فيقرع الرجل بين نسائه.
وإن سافرت المرأة بغير إذن الزوج، سقط حقها من القسْم والنفقة؛ لأن القسْم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد منعت المرأة ذلك بالسفر.
وعماد القسم الليل؛ لأنه يأوي فيه الإنسان إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام على فراشه مع زوجته عادة، والنهار للمعاش، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ:10/78-11] .
ولإحدى الزوجات أن تهب حقها لبعض ضرائرها مؤقتاً أو دائماً، لقول عائشة السابق: «غير أن سودة وهبت ليلتها لعائشة تبتغي بذلك رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .
وقد ذكرت أن الزوجة الجديدة لها عند الجمهور غير الحنفية سبع ليال إذا كانت بكراً، وثلاث ليال إذا كانت ثيباً. وسوى الحنفية بين الجديدة والقديمة، فلا تختص واحدة منهما بشيء.
أما واجب الزوجة: فلا يجب عليها خدمة زوجها في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها من الخدمات، وعليه أن يأتيها بطعام مهيأ إن كانت ممن لا تخدم نفسها؛ لأن المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه، لكن لا يجوز لمن تخدم نفسها وتقدر على الخدمة أخذ الأجرة على عمل البيت، لوجوبه عليها ديانة، حتى ولو كانت شريفة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قسم الأعمال بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، فجعل أعمال الخارج على علي، والداخل على فاطمة مع أنها سيدة نساء العالمين.
__________
(1) رواه أبو داود.(9/316)
المبحث الثاني ـ حقوق الزوج:
إن أهم حقوق الزوج ما يأتي (1) :
1 ً - طاعة الزوجة لزوجها في الاستمتاع والخروج من المنزل: فإذا تزوج رجل امرأة، وكانت أهلاً للجماع وجب تسليمها نفسها بالعقد إذا طلب، ويجب عليه تسلمها إذا عرضت عليه؛ لأنه بالعقد يستحق الزوج تسليم العوض، وهو أن يسلمها مهرها المعجل. وقد نص الإمام أحمد على أن التي يمكن الاستمتاع بها هي بنت تسع سنين فأكثر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين» .
وتمهل الزوجة مدة بحسب العادة لإصلاح أمرها كاليومين والثلاثة؛ لأنه من حاجتها، فإذا منع الرجل منه كان تعسيراً، فوجب إمهالها طلباً لليسر والسهولة، والمرجع فيه إلى العرف بين الناس؛ لأنه لا تقدير فيه، فوجب الرجوع فيه إلى العرف. ولا تمهل لعمل جهاز ونحوه.
__________
(1) المراجع السابقة في بدء المطلب السابق.(9/317)
وعلى الزوجة طاعة زوجها إذا دعاها إلى الفراش، ولو كانت على التنور أو على ظهر قتَب، كما رواه أحمد وغيره، ما لم يشغلها عن الفرائض، أو يضرها؛ لأن الضرر ونحوه ليس من المعاشرة بالمعروف. ووجوب طاعتها له لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة:228/2] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (1) وقوله «أيما امرأة ماتت، وزوجها راض عنها، دخلت الجنة» (2) وقوله: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة، حتى تصبح» (3) . ومن الطاعة: القرار في البيت متى قبضت معجل مهرها وهو تفرغها لشؤون الزوجية والبيت ورعاية الأولاد في الصغر والكبر، فليس للزوجة الخروج من المنزل ولو إلى الحج إلا بإذن زوجها، فله منعها من الخروج إلى المساجد وغيرها، لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وقالت: «يارسول الله، ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت، لعنها الله وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب حتى تتوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله، وإن كان لها ظالماً؟ قال: وإن كان
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، عن أبي هريرة.
(2) رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، عن أم سَلَمة.
(3) متفق عليه بين الشيخين عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 207/6، رياض الصالحين: ص 134 وما بعدها) لمراجعة هذه الأحاديث.(9/318)
لها ظالماً» (1) ولأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب.
لكن يكره ـ كما ذكر الشافعية ـ منعها من عيادة أبيها إذا أثقل في مرضه، وحضور مواراته إذا مات؛ لأن منعها مما ذكر يؤدي إلى النفور ويغريها بالعقوق، وأجاز الحنفية للمرأة الخروج بغير إذن زوجها إذا مرض أحد أبويها.
ويجب على المرأة في حال الخروج التزام الستر الشرعي، لا تظهر شيئاً من جسدها غير الوجه والكفين؛ لأن في كشف شيء مما أوجب الله ستره تعريضاً للفتنة والتطلع إليها، قال تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب:33/33] . ومن التبرج: المشي بتكسر وحركات مثيرة، ومن التبرج أيضاً أن تلبس المرأة ثوباً رقيقاً يصف ما تحته، قال صلّى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات (2) ، على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة (3) ، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» (4) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «أيما امرأة استعطرت، فخرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية» (5) .
__________
(1) رواه أبو داود الطيالسي عن ابن عمر.
(2) المراد بالكاسيات العاريات: اللاتي يلبسن الثياب الرقيقة التي لا تستر ما تحتها. والمراد بالمائلات المميلات: اللاتي يتمايلن ويتبخترن في مشيهن للافتتان بهن.
(3) البخت: نوع من الإبل المشهورة بكبر سنامها، والمراد أن النساء يعتنين بشعورهن وبعظمنّ ذلك، بلف عمامة أو عصابة أو نفش الشعر ونحوه.
(4) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة.
(5) رواه الحاكم عن أبي موسى.(9/319)
والتزام المرأة البيت لا بمعنى حبسها فيه أو التضييق عليها هو خير شيء للمرأة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها، وهي في قعر بيتها» (1) وهو يدل على وجوب الستر وعدم إظهار المرأة شيئاً من بدنها، وأن في الخروج العمل على إغواء الشياطين لها وإغراء الرجال بها حتى تقع الفتنة.
وليس للزوجة صوم نفل أو تطوع إلا بإذن الزوج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» (2) وروى البزار عن ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، أخبرني ما حق الزوج على الزوجة، فإني امرأة أيّم، فإن استطعت وإلا جلست أيَّماًَ؟ قال: فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها، وهي على ظهر قتب ألا تمنعه، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا تقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت: لا جرم، لا أتزوج أبداً» (3) .
ومنشأ حق الطاعة بالمعروف: إثبات الله درجة القوامة للرجال على النساء في قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء:34/4] أي إنما استحقوا هذه المزية لتميزهم برجاحة العقل وقوة الجسد، وبما يلزمون به من الإنفاق على النساء من أموالهم بتقديم المهر والنفقة الزوجية الدائمة.
__________
(1) رواه الترمذي عن ابن مسعود.
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (رياض الصالحين، المكان السابق، نيل الأوطار: 211/6) .
(3) رواه البزار، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش، وهو ضعيف، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله ثقات ولا جرم، أي حقاً.(9/320)
2 ً - الأمانة: على الزوجة أن تحفظ غيبة زوجها في نفسها وبيته وماله وولده، لحديث ابن الأحوص السابق: «أما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده» وفي لفظ: «خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش» (1) ويؤكده الحديث المعروف: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (2) فعليها أن تحسن تربية أولادها على الدين والفضيلة والقيام بالواجب.
3 ً - المعاشرة بالمعروف: يجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى وغيره، كما عليه معاشرتها بالمعروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلكِ الله، فإنما هو عندكِ دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا» (3) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» (4) .
4 ً - حق التأديب (5) : للزوج الحق في تأديب زوجته عند نشوزها أو عصيانها أمره بالمعروف لا في المعصية؛ لأن الله عز وجل أمر بتأديب النساء بالهجر والضرب عند عدم طاعتهن، فإن تحققت الطاعة وجب الكف عن التأديب لقوله
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (جامع الأصول: 134/10) .
(2) متفق عليه بين الشيخين عن ابن عمر (رياض الصالحين: ص 135) .
(3) رواه الترمذي عن معاذ بن جبل، وقال: حديث حسن (رياض الصالحين: ص 135) .
(4) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد (المرجع السابق) .
(5) البدائع: 334/2، القوانين الفقهية: ص 212 ومابعدها، مغني المحتاج: 257/3-261، المهذب: 69/2 وما بعدها، كشاف القناع: 233/5-236.(9/321)
عز وجل: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/4] ولا تحتاج المرأة الصالحة لتأديب لقوله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} [النساء:34/4] وأما غير الصالحة وهي التي تخل بحقوق الزوجية وتعصي الزوج فهي التي تكون بحاجة إلى التأديب.
إن ولاية التأديب للزوج تكون إذا لم تطعه زوجته فيما يلزم طاعته، بأن كانت ناشزة، والنشوز: معصيتها إياه فيما يجب عليها، وكراهة كل من الزوجين صاحبه، والخروج من المنزل بغير إذن الزوج، لا إلى القاضي لطلب الحق منه. وأمارات النشوز: إما بالفعل كالإعراض والعبوس والتثاقل إذا دعاها بعد لطف وطلاقة وجه، وإما بالقول، كأن تجيبه بكلام خشن بعد أن كان بلين.
ويبدأ الزوج بالتأديب عند ظهور أمارات النشوز بالترتيب التالي:
أولاً ـ الوعظ والإرشاد: بأن يتكلم معها بكلام رقيق لين، بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، أو: اتقي الله في الحق الواجب لي عليك، واحذري العقوبة، لقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن، فعظوهن} [النساء:34/4] وذلك بلا هجر ولا ضرب، ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة والقسم مع ضرائرها، فلعلها تبدي عذراً، أو تتوب عما وقع منها بغير عذر. والخوف هنا بمعنى العلم، والأولى بقاؤه على ظاهره، فمن ظهر له أمارة نشوز أو تحققه، وعظها.
ثانياً ـ الهجر في المضجع والإعراض: إن تحقق النشوز بأن عصيته وامتنعت من إطاعته، أو خرجت من بيته بغير إذنه ونحوه، هجرها في المضجع ما شاء، لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [النساء:34/4] قال ابن عباس: «لا تضاجعها في فراشك» و «قد هجر النبي صلّى الله عليه وسلم نساءه، فلم يدخل عليهن شهراً» (1) .
__________
(1) متفق عليه.(9/322)
وهجرها في الكلام ثلاثة أيام، لا فوقها، لحديث أبي هريرة: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (1) والهجر: ضد الوصل، والتهاجر: التقاطع.
ولا يضربها عند الجمهور، وقال النووي: الأظهر يضرب، لقوله تعالى: {فاهجروهن في المضاجع واضربوهن} [النساء:34/4] والمراد: واهجروهن إن نشزن، واضربوهن إن أصررن على النشوز، أي إن لم يتكرر نشوز الزوجة وعظها الزوج وهجرها في المضجع وضربها في رأي الشافعية.
ثالثاً ـ الضرب غير المخوف: إن أصرت على النشوز ضربها عندئذ ضرباً غير مبرح ـ أي غير شديد ـ ولا شائن، للآية السابقة {واضربوهن} [النساء:34/4] فظاهر الآية وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو يحتمل ذلك.
ويجتنب في أثناء الضرب: الوجه تكرمة له، ويجتنب البطن والمواضع المخوفة خوف القتل، ويجتنب المواضع المستحسنة لئلا يشوهها، ويكون الضرب ـ كما أبان الحنفية ـ عشرة أسواط فأقل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحدكم فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (2) وقوله: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم» (3) . فإن تلفت من الجلد فلا ضمان عليه عند الحنابلة والمالكية؛ لأن الضرب مأذون فيه شرعاً. وقال أبو حنيفة والشافعي: إنه يضمن؛ لأن استيفاء الحق مقيد بشرط السلامة للآخرين.
ويكون الضرب أيضاً بيد على الكتف مثلاً، أو بعصا خفيفة أو بسواك ونحوه
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي بإسناد على شرط البخاري ومسلم (الترغيب والترهيب: 455/3) .
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين وأصحاب السنن الأربعة عن أبي بردة بن نيار، وهوصحيح.
(3) متفق عليه في الصحيحين (نيل الأوطار: 212/6) .(9/323)
إن رأى الزوج هذا. والأولى الاكتفاء بالتهديد وعدم الضرب، لما قالت عائشة: «ما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة له ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا في سبيل الله، أو تنتهك محارم الله، فينتقم لله» (1) .
رابعاً ـ طلب إرسال الحكمين: إن نفع الضرب لبعض النساء الشاذات، فبها ونعمت، وإن لم ينفع وادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه ولا بينة لهما، رفع الأمر إلى القاضي لتوجيه حكمين إليهما، حكماً من أهله وحكماً من أهلها، للإصلاح أو التفريق، لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/4] .
والحكمان: حران مسلمان ذكران عدلان مكلفان فقيهان عالمان بالجمع والتفريق؛ لأن التحكيم يفتقر إلى الرأي والنظر، ويجوز أن يكونا من غير أهلهما؛ والأولى أن يكونا من غير أهلهما؛ لأن القرابة ليست شرطاً في الحكم ولا الوكالة. وينبغي لهما أن ينويا الإصلاح لقوله تعالى: {إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} [النساء:35/4] ، وأن يلطفا القول، وأن ينصفا، ويرغبا ويخوفا، ولا يخصا بذلك أحد الزوجين دون الآخر، ليكون أقرب للتوفيق بينهما.
وينفذ عند المالكية تصرف الحكمين في أمر الزوجين بما رأياه من تطليق أو خلع، من غيرإذن الزوج ولا موافقة الحاكم، بعد أن يعجز عن الإصلاح بينهما، وإذا حكما بالفراق فهي طلقة بائنة.
وقال الشافعية والحنابلة: الحكمان وكيلان عن الزوجين، فلا يملكان تفريقاً إلا بإذن الزوجين، فيأذن الرجل لوكيله فيما يراه من طلاق أوإصلاح، وتأذن المرأة لوكيلها في الخلع والصلح على ما يراه.
__________
(1) رواه النسائي (نيل الأوطار: 211/6) .(9/324)
وقال الحنفية: يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي، والقاضي هو الذي يوقع الطلاق، وهو طلاق بائن، بناء على تقريرهما، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه.
5 ً - الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة: قال الشافعية والحنابلة: للزوج إجبار الزوجة، ولو كانت ذمية على الغسل من الحيض والنفاس؛ لأنه يمنع الاستمتاع الذي هو حق له، فيملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقه. وله إجبار الزوجة المسلمة البالغة على غسل جنابة؛ لأن الصلاة واجبة عليها، ولا تتمكن منها إلا بالغسل؛ ولأن النفس تعاف من وطء الجنب، ولا يجبر الزوجة الذمية على غسل الجنابة كالمسلمة التي دون البلوغ؛ لأن الاستمتاع لا يتوقف عليه، لإباحته بدونه.
وأضاف الحنابلة: أن للزوج إجبار الزوجة على غسل نجاسة؛ لأنه واجب عليها، وله أيضاً إجبارها على اجتناب محرَّم لوجوبه عليها، وله إجبارها عى أخذ شعر وظفر تعافه النفس، وإزالة وسخ؛ لأن المذكور يمنع كمال الاستمتاع.
وذكر الشافعية في التنظيف والاستحداد (حلق العانة) وغسل الجنابة وجهين: وجه يملك إجبارها عليه؛ لأن كمال الاستمتاع يقف عليه. والثاني: لا يملك إجبارها عليه؛ لأن الوطء لا يقف عليه.
6 ً - السفر بالزوجة: عرفنا أن للزوج بعد أداء كل المهر المعجل أن يسافر بزوجته إذا كان مأموناً عليها (1) .
__________
(1) الدر المختار: 495/2.(9/325)
المبحث الثالث ـ الحقوق المشتركة بين الزوجين:
أغلب الحقوق السابقة خصوصاً حق الاستمتاع وما يتبعه هي حقوق مشتركة بين الزوجين، لكن حق الزوج على زوجته أعظم من حقها عليه، لقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} [البقرة:228/2] وللحديث السابق عند أبي داود: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق» .
ويسن لكل من الزوجين تحسين الخُلُق لصاحبه والرفق به واحتمال أذاه وسوء طباعه، لقوله تعالى: {والصاحب بالجنب} [النساء:36/4] أي الإحسان له، وللحديث المتقدم: «استوصوا بالنساء خيراً» وحديث «خياركم خياركم لنسائه» (1) .
وليكن الزوج غيوراً من غير إفراط، لئلا ترمى بالشر من أجله.
وينبغي إمساك المرأة مع الكراهة لها، لقوله تعالى: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيراًَ} [النساء:19/4] قال ابن عباس: «ربما رزق منها ولداً، فجعل الله فيه خيراً كثيرا» . وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها خلقاً آخر» أي لايبغضها.
ولا ينبغي للرجل أن يعلم امرأته قدر ماله، ولا يفشي إليها سراً يخاف إذاعته؛ لأنها تفشيه. ولا يكثر من الهبة لها، فإنه متى عودها شيئاً لم تصبر عنه (2) .
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) كشاف القناع: 206/5.(9/326)
البَابُ الثَّاني: انحلال الزَّواج وآثاره
فيه أربعة فصول:
الأول ـ في الطلاق.
الثاني ـ في الخلع.
الثالث ـ في التفريق القضائي.
الرابع ـ في العِدَّة والاستبراء.
الفَصْلُ الأوَّل: الطَّلاق
ويشتمل على تمهيد وستة مباحث وملحق:
الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته وحكمه وركنه وحكمته وسبب جعله بيد الرجل.
الثاني ـ شروط الطلاق، أو مالك الطلاق وقدره ومحله (من يقع عليه) وما يقع به (صيغته) .
الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعاً.
الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه.
الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع.
السادس ـ الشك في الطلاق وإثباته.
ملحق ـ عن زواج التحليل والرجعة.
تمهيد ـ في معنى انحلال الزواج وأنواع الفُرَق الزوجية:
انحلال الزواج: هو إنهاؤه باختيار الزوج، أو بحكم القاضي، والفُرْقة لغة بمعنى الافتراق، وجمعها فرق، واصطلاحاً: هي انحلال رابطة الزواج، وانقطاع العلاقة بين الزوجين بسبب من الأسباب. والفرقة نوعان: فرقة فسخ وفرقة طلاق. والفسخ إما أن يكون بتراضي الزوجين وهو المخالعة، أو بواسطة القاضي.
وذكر المالكية (1) أن الفراق بين الزوجين يقع على خمسة عشر وجهاً: وهي الطلاق على اختلاف أنواعه، والإيلاء إن لم يفئ الزوج عن يمينه، واللعان، والردة، وملك أحد الزوجين الآخر، والإضرار بالزوجة، وتفريق الحَكَمين بين الزوجين، واختلاف الزوجين في الصداق قبل الدخول، وحدوث الجنون أو الجذام أو البرص في الزوج، ووجود العيوب في أحد الزوجين، والإعسار بالنفقة، أو الصداق، والتغرير، والفقد، وعتق الأمة زوجة العبد، وتزوج أمة على الحرة.
الفرق بين الفسخ والطلاق:
يفترق الفسخ عن الطلاق من ثلاثة أوجه:
الأول ـ حقيقة كل منهما: الفسخ: نقض للعقد من أساسه وإزالة للحل الذي يترتب عليه، أما الطلاق: فهو إنهاء للعقد ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى (الطلاق الثلاث) .
الثاني ـ أسباب كل منهما: الفسخ يكون إما بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج، أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل. فمن أمثلة الحالات الطارئة: ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام، أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها، أو بين الزوجة وأبي زوجها أو ابنه مما يحرم المصاهرة، وذلك ينافي الزواج، ومن أمثلة الحالات المقارنة: أحوال خيار البلوغ لأحد الزوجين، وخيار أولياء المرأة التي تزوجت من غير كفء أو بأقل من مهر المثل عند الحنفية، ففيها كان العقد غير لازم.
أما الطلاق: فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم، وهو من حقوق الزوج، فليس فيه ما يتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 227.(9/327)
الثالث ـ أثر كل منهما: الفسخ لا ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل، أما الطلاق فينقص به عدد الطلقات.
وكذلك فرقة الفسخ لا يقع في عدتها طلاق، إلا إذا كانت بسبب الردة أو الإباء عن الإسلام، فيقع فيهما عند الحنفية طلاق زجراً وعقوبة. أما عدة الطلاق فيقع فيها طلاق آخر، ويستمر فيها كثير من أحكام الزواج. ثم إن الفسخ قبل الدخول لا يوجب للمرأة شيئاً من المهر، أما الطلاق قبل الدخول فيوجب نصف المهر المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى استحقت المتعة.
متى تكون الفرقة فسخاً ومتى تكون طلاقاً؟
للفقهاء آراء في بيان أحوال الفسخ وأحوال الطلاق.
يرى الحنفية (1) : أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي:
1ً - تفريق القاضي بين الزوجين بسبب إباء الزوجة الإسلام بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي؛ لأن المشركة لا تصلح لنكاح المسلم، والفرقة جاءت من قبلها، والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقاً؛ لأنها لا تتولى الطلاق، فيجعل فسخاً.
أما إن كان الإباء من الزوج، فتكون الفرقة طلاقاً في قول أبي حنيفة ومحمد، وفسخاً في قول أبي يوسف.
2ً - ردة أحد الزوجين.
3ً - تباين الدارين حقيقة وحكماً: بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، وترك الآخر كافراً في دار الحرب قياساً على الردة لعدم التمكين من الانتفاع عادة. أما إن خرج أحدهما مستأمناً وبقي الآخر كافراً في دار الحرب فلا تقع الفرقة. وقال غير الحنفية: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين.
4ً - خيار بلوغ الصغير أو الصغيرة. هذه الفرقة لا تقع إلا بتفريق القاضي. فإن كانت الفرقة بسبب اختيار المرأة نفسها لعيب الجب والعنة والخصاء والخنوثة، فهي فرقة بطلاق من طريق القاضي.
__________
(1) فتح القدير: 21/3، البدائع: 336/2-340، رد المحتار لابن عابدين: 571/2.(9/328)
5ً - خيار العتق: بأن تعتق الأمة ويبقى زوجها عبداً، فلها الخيار بالبقاء أو إنهاء الزواج، وتثبت الفرقة بنفس الاختيار؛ لأن الفرقة وقعت بسبب وجد منها وهو اختيارها نفسها، واختيارها نفسها لا يجوز أن يكون طلاقاً؛ لأنها لا تملك الطلاق، إلا إذا مُلِّكت كالمخيَّرة.
6ً - التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر: تكون الفرقة فسخاً؛ لأنها فرقة حصلت لا من جهة الزوج، فلا يمكن أن يجعل ذلك طلاقاً؛ لأنه ليس لغير الزوج ولاية الطلاق، فيجعل فسخاً، ولا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي كالفسخ بخيار البلوغ.
وما عداها من أنواع الفرق التي تكون من قبل الزوج أو بسبب منه يكون طلاقاً، ومنه المخالعة. وعليه فإن ضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق عند أبي حنيفة ومحمد: هو أن كل فرقة بسبب من جانب المرأة تكون فسخاً، وكل فرقة من جانب الرجل أو بسبب منه مختص بالزواج فهي طلاق، إلا أن أبا حنيفة خلافاً لمحمد يعتبر الفرقة بسبب ردة الزوج فسخاً؛ لأنه يرى أن الردة كالموت من حيث إن صاحبها مهدر الدم، فتشبه الفرقة بالموت، والفرقة بالموت لا يمكن جعلها طلاقاً. وبه يظهر أن الغالب كون الفرقة طلاقاً.
وقال المالكية (1) : إما أن تكون الفرقة من زواج صحيح أو زواج فاسد.
أولاً ـ إن كات الفرقة من زواج صحيح: فإنها تكون طلاقاً إلا إذا كانت بسبب أمر طارئ يوجب التحريم المؤبد، سواء من أحد الزوجين أو من القاضي.
ثانياً ـ وإن كانت الفرقة من زواج فاسد:
فإن كان مجمعاً على فساده: فإن الفرقة فيه تكون فسخاً، لا طلاقاً، كالفرقة من زواج المتعة، والزواج بإحدى المحارم، والزواج بالمعتدة، ونحوها.
__________
(1) بداية المجتهد: 70/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 364/2.(9/329)
وإن كان مختلفاً في فساده: وهو ما يكون فاسداً عند المالكية صحيحاً عند غيرهم، كزواج المرأة بدون ولي فهو فاسد عندهم صحيح عند الحنفية، فإن الفرقة فيه تكون طلاقاً لا فسخاً. ومنه زواج السر (وهو الذي يوصي الزوج الشهود بكتمان العقد عن الناس أو عن بعضهم) فهو فاسد عندهم صحيح عند باقي الأئمة.
وعلى هذا تكون الفرقة فسخاً فيما يأتي:
1 - إذا وقع العقد غير صحيح، كالزواج بالأخت أو إحدى المحارم، والزواج بزوجة الغير أو معتدته.
2 - إذا طرأ على الزواج ما يوجب الحرمة المؤبدة كالاتصال الجنسي بشبهة من أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه، مما يوجب حرمة المصاهرة.
3 - الفرقة بسبب اللعان: لأنه تترتب عليه الحرمة المؤبدة، لحديث «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» (1) .
4 - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام بعد أن أسلمت زوجته، أو إباء الزوجة غير الكتابية الإسلام بعد إسلام زوجها؛ لأن ذلك في معنى طروء مفسد على الزواج.
وتكون الفرقة طلاقاً فيما يأتي:
1ً - إذا استعمل لفظ الطلاق في الزواج الصحيح، أوالمختلف في فساده.
2ً - إذا حدثت الفرقة بالخلع في الزواج أوالمختلف في فساده.
3ً - الفرقة بسبب الإيلاء: وهو أن يحلف الزوج ألا يقرب زوجته أكثر من أربعة أشهر. فإن لم يعد عن يمينه بعد أمر القاضي له عقب ادعاء الزوجة فرّق بينهما، وكانت الفرقة طلاقاً.
4ً - الفرقة لعدم كفاءة الزوج، سواء أكانت من الزوجة أم من وليها.
5ً - الفرقة لعدم الإنفاق أو للغيبة، أو للضرر وسوء العشرة.
6ً - الفرقة بسبب ردة أحد الزوجين عن الإسلام: فإنها طلاق في مشهور المذهب؛ لأنها فرقة بسبب أمر طارئ يوجب التحريم غير المؤبد الذي ينتهي بالرجوع عن الإسلام. وبه يظهر أن أغلب الفُرق تكون طلاقاً.
__________
(1) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وفي معناه أحاديث كثيرة (نيل الأوطار: 271/6) .(9/330)
ومذهب الشافعية (1) : هو أن فرقة النكاح طلاق وفسخ:
والطلاق أنواع: الطلاق المعهود صراحة أو كناية، والخلع، وفرقة الإيلاء، والحَكَمين. والفسخ أنواع سبعة عشر: فرقة إعسار مهر، وإعسار نفقة أو كسوة أو مسكن بعد إمهال الزوج ثلاثة أيام، وفرقة لعان، وفرقة خيار عَتيقة (2) ، وفرقة عيوب (3) بعد رفع الأمر إلى الحاكم، وثبوت العيب، والفسخ به فوري إلا العُنَّة فتؤجل سنة من يوم ثبوتها، وفرقة غرور (4) ، ووطء شبهة كوطء أم زوجته أو ابنتها، وسبْي للزوجين أو أحدهما قبل الدخول أو بعده؛ لأن الرق إذا حدث أزال الملك عن النفس، فيكون عن العصمة أولى، وفرقة إسلام أحد الزوجين، أو ردته، وإسلام الزوج على أختين أو أكثر من أربع، أو أمتين، وملك أحد الزوجين الآخر، وعدم الكفاءة بأن أطلقت المرأة الإذن فبان الرجل غير كفء، وانتقال من دين إلى آخر كالانتقال من اليهودية إلى النصرانية، وفرقة رضاع بشرط كونه خمس رضعات متفرقات قبل مضي حولين.
__________
(1) تحفة الطلاب: ص 236، حاشية الشرقاوي: 294/2 - 296.
(2) خيار العتيقة: هو أن تعتق الأمة زوجة الرقيق، فيثبت لها الخيار فوراً بدون رفع الأمر إلى الحاكم إلا إذا كان عتقها قبل الوطء في مرض الموت، وكان ثلث ماله لايتحمل سقوط المهر مع قيمتها.
(3) العيوب المثبتة للخيار في الزواج: هي جنون وجذام وبرص بأحد الزوجين، ورتق وقرن بالزوجة، وجب وعنة بالزوج.
(4) من الأنكحة المكروهة: نكاح المغرور بحرية امرأة أو نسبها أو إسلامها وهو يجيز الفسخ والرجوع بالغرامة على من غرّه لا بالمهر؛ لأنه الموقع له في الغرامة، فلو شرط رجل حرية امرأة في العقد، فبان رقمها، وهو ممن لا يحل له نكاح الأمة فهو باطل، وإلا فصحيح، وللحر الخيار. وإن بان نسب المرأة دون المشروط صح، وإن بان دون نسبه فللرجل الخيار (تحفة الطلاب: ص 220) .(9/331)
وقال الحنابلة (1) : يكون الفسخ في حالات، منها ما يأتي:
1 - الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق، أو بغير نيةا لطلاق.
2 - ردة أحد الزوجين.
3 - الفرقة لعيب مشترك وهو الجنون والصرع، أو مختص بالمرأة كالرتق والقرن والبخر والقروح السيالة، وانخراق ما بين السبيلين، أو مختص بالرجل كالجب والعنة. ولا يفسخ الزواج إلا حاكم.
4 - إسلام أحد الزوجين.
5 - الفرقة بسبب الإيلاء بواسطة القاضي، إن انقضت المدة وهي أربعة أشهر، ولم يطأ الزوج زوجته، ولم يطلق بعد أن يأمره الحاكم بالطلاق.
6 - الفرقة بسبب اللعان: لأن اللعان يوجب التحريم بين الزوجين على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي.
وأما الفرقة بسبب الطلاق: فهي ما كانت بألفاظ الطلاق صريحاً أو كناية.
الفُرَق التي تتوقف على القضاء والتي لا تتوقف على القضاء:
قد تحتاج الفرقة سواء أكانت طلاقاً أم فسخاً إلى قضاء القاضي، وقد لا تحتاج، ويظهر أثر التوقف على القضاء وعدمه في بعض الأحكام، كالإرث، فإن وجد سبب الفرقة، ثم مات أحد الزوجين قبل صدور حكم قضائي، فإن احتاجت الفرقة إلى القضاء، فإن الآخر يرثه، وإن لم تحتج إلى قضاء فلا يرثه الآخر، لانتهاء الزوجية بمجرد وجود سبب الفرقة.
أما الفُرَق التي تتوقف على القضاء فهي نوعان: فرق الطلاق وفرق الفسخ.
وفرق الطلاق المتوقفة على القضاء هي عند الحنفية ما يأتي:
__________
(1) المغني: 56/7 ومابعدها، غاية المنتهى: 46/3، 56 ومابعدها، 103.(9/332)
1ً - الفرقة بسبب اللعان. وقال المالكية في المشهور: لا تتوقف هذه الفرقة على القضاء.
2ً - الفرقة بسبب عيوب الزوج وهي الجب والعنة والخصاء، ويفسخ العقد عند الجمهور بسبب هذه العيوب أو عيب الرتق والقرن ونحوهما في الزوجة، بعد رفع الأمر للحاكم.
3ً - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام في رأي أبي حنيفة ومحمد. وزيد في مصر وسورية التفريق لغيبة الزوج أو حبسه، ولعدم الإنفاق على زوجته، وللشقاق بين الزوجين أو الإضرار بالزوجة.
وفُرَق الطلاق غير المتوقفة على القضاء هي:
1 - الفرقة بلفظ الطلاق، ومنه تفويض أمر الطلاق إلى الزوجة بالاتفاق.
2 - الفرقة بسبب الإيلاء عند الحنفية والمالكية.
3 - الفرقة بالخلع عند الجمهور غير الحنابلة.
وأما فرق الفسخ المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفرقة بسبب عدم الكفاءة.
2 - الفرقة بسبب نقصان المهر عن مهر المثل.
3 - الفرقة بسبب إباء أحد الزوجين الإسلام إذا أسلم الآخر، لكن الفرقة بسبب إباء الزوجة متفق عليه، وبسبب إباء الزوج متفق عليه في غير رأي أبي حنيفة ومحمد. وأما في رأي أبي يوسف فهي فسخ.
4 - الفرقة بسبب خيار البلوغ لأحد الزوجين عند الحنفية إذا زوَّجهما في الصغر غير الأب والجد.
5 - الفرقة بسبب خيار الإفاقة من الجنون عند الحنفية إذا زوَّج أحد الزوجين في الصغر غير الأب والجد والابن.
وأما فُرَق الفسخ غير المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفسخ بسبب فساد العقد في أصله كالزواج بغير شهود، والزواج بالأخت.
2 - الفسخ بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أوفروعه اتصالاً يوجب حرمة المصاهرة.
3 - الفسخ بسبب ردة الزوج في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن ارتد الزوجان فلا يفرق بينهما بمجرد الردة في الراجح عند الحنفية.
4 - الفسخ بسبب خيار العتق للزوجة.
5 - الفسخ بسبب ملك أحد الزوجين للآخر.
هذا ويلاحظ أمران:
الأول ـ أن الفرقة بسبب الاتصال الذي يوجب حرمة المصاهرة توجب حرمة مؤبدة، والفرقة بسبب خيار البلوغ أو الردة أو الإباء عن الإسلام أو ملك أحد الزوجين الآخر توجب حرمة مؤقتة. وأما فرقة اللعان فتوجب حرمة مؤبدة عند الحنابلة وأبي يوسف والشافعية والمالكية، وتوجب حرمة مؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد إذا خرج أحد الزوجين عن أهلية اللعان، أو كذب الرجل نفسه فيما قذف به المرأة. الثاني ـ كل فرقة من جهة الزوجة تسقط المهر عند الحنفية إلا إذا تأكد العقد بالدخول أو الخلوة، فإن كانت الفرقة من الزوج أو بسببه، فلا تسقط شيئاً للزوجة حالة الدخول وعدمه.(9/333)
المبحث الأول ـ معنى الطلاق ومشروعيته، وحكمه، وركنه، وحكمته، وسبب جعله بيد الرجل:
معنى الطلاق: الطلاق لغة، حل القيد والإطلاق، ومنه ناقة طالق، أي مرسلة بلا قيد، وأسير مطلق، أي حل قيده وخلي عنه، لكن العرف خص الطلاق بحل القيد المعنوي، وهو في المرأة، والإطلاق في حل القيد الحسي في غير المرأة.
وشرعاً: حل قيد النكاح، أو حل عقْد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه. أو رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص (1) . فحل رابطة الزواج في الحال يكون بالطلاق البائن، وفي المآل أي بعد العدة يكون بالطلاق الرجعي. واللفظ المخصوص: هو الصريح كلفظ الطلاق، والكناية كلفظ البائن والحرام والإطلاق ونحوها. ويقوم مقام اللفظ: الكتابة والإشارة المفهمة، ويلحق بلفظ الطلاق لفظ «الخلع» وقول القاضي: «فرقت» في التفريق للغيبة أو الحبس، أو لعدم الإنفاق أو لسوء العشرة. وقد أخرج باللفظ المخصوص: الفسخ، فإنه يحل رابطة الزواج في الحال، لكن بغير لفظ الطلاق ونحوه، والفسخ كخيار البلوغ، وعدم الكفاءة، ونقصان المهر، والردة.
ولا يصح الرجوع في الطلاق أو العدول عنه كسائر الأيمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قيلولة في الطلاق» (2) .
__________
(1) الدر المختار: 570/2، مغني المحتاج: 279/3، المغني: 66/7، كشاف القناع: 261/5.
(2) أخرجه العقيلي من حديث صفوان بن عمران الطائي (نيل الأوطار: 238/6) .(9/334)
مشروعيته: الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] وقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلَّقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطَّلاق:1/65] .
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبغض الحلال إلى الله: الطلاق» (2) . وقال عمر: «طلق النبي صلّى الله عليه وسلم حفصة، ثم راجعها» (3) .
وأجمع الناس على جواز الطلاق، والمعقول يؤيده، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء الزواج مفسدة محضة، وضرراً مجرداً، بإلزام الزوج والنفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل الزواج، لتزول المفسدة الحاصلة منه.
حكمة تشريع الطلاق: تظهر حكمة تشريع الطلاق من المعقول السابق، وهو الحاجة إلى الخلاص من تباين الأخلاق، وطروء البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فكان تشريعه رحمة منه سبحانه وتعالى (4) . أي أن الطلاق علاج حاسم، وحل نهائي أخيراً لما استعصى حله على الزوجين وأهل الخير والحكمين، بسبب تباين الأخلاق، وتنافر الطباع، وتعقد مسيرة الحياة المشتركة بين
__________
(1) رواه ابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس (نيل الأوطار: 238/6) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم وصححه، عن ابن عمر (المرجع السابق: ص 220) .
(3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه، وهو لأحمد من حديث عاصم بن عمر (المرجع السابق: ص 219) .
(4) فتح القدير: 21/3.(9/335)
الزوجين، أو بسبب الإصابة بمرض لا يحتمل، أو عُقْم لا علاج له، مما يؤدي إلى ذهاب المحبة والمودة، وتوليد الكراهية والبغضاء، فيكون الطلاق منفذاً متعيناً للخلاص من المفاسد والشرور الحادثة.
الطلاق إذن ضرورة لحل مشكلات الأسرة، ومشروع للحاجة ويكره عند عدم الحاجة، للحديث السابق: «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (1) . ومن أسبابه المبيحة له طاعة الوالدين فيه، قال ابن عمر: «كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلِّقها فأبيتُ، فذُكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا عبد الله بن عمر: طلِّق امرأتك» (2) وصرح الحنابلة (3) : أنه لا يجب على الرجل طاعة أبويه ولو عدلين في طلاق أو منع من تزويج.
وما قد يترتب على الطلاق من أضرار، وبخاصة الأولاد، يحتمل في سبيل دفع ضرر أشد وأكبر، عملاً بالقاعدة: «يختار أهون الشرين» .
لكن رغب الشرع الأزواج في الصبر وتحمل خلق الزوجة، فقال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئاً، ويجعل الله فيه خيراً كثيرا} [النساء:19/4] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلُقاً، رضي منها آخر» (4) .
وشرع الشرع طرقاً ودية لحل ما يثور من نزاع بين الزوجين، من وعظ
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي عن ثوبان (المرجع السابق: ص 220) .
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي، وصححه الترمذي (المرجع السابق: ص 220) .
(3) غاية المنتهى: 112/3.
(4) رواه مسلم عن أبي هريرة.(9/336)
وإرشاد، وهجر في المضجع وإعراض، وضرب، وإرسال حكمين من قبل القاضي إذا عجز الزوجان عن الإصلاح وإزالة الشقاق الذي بينها، وقد بينت ذلك في بحث حقوق الزوجين، وهي كلها مأخوذة من آيات ثلاث هي: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا، فإن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء:128/4] {وإن خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما، إن الله كان عليماً خبيراً} [النساء:35/4] {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، إن الله كان علياً كبيراً} [النساء:34/4] .ولا يلجأ إلى الطلاق لأول وهلة ولأهون الأسباب، كما يفعل بعض الجهلة الذين يقدمون عليه لطيش بيِّن، أو حماقة، أو غضب موقوت، أو شهوة جارفة أو هوى مستبد، فهو كله خروج عن تعاليم الإسلام وآدابه، وموجب للإثم والمعصية والتأديب والتعزير، وإنما الطلاق تشريع استثنائي للضرورة بعد أن يسلك الزوج المراحل الآتية:
وهي المعاشرة بالمعروف والصبر وتحمل الأذى، ثم الوعظ والهجر والضرب اليسير، ثم إرسال الحكمين.(9/337)
فإن وقع الطلاق فيمكن العودة إلى الزواج بالرجعة بغير شهود ما دامت المرأة في العدة، أو بعقد جديد بعد انتهاء العدة، وذلك لمرتين بعد الطلقة الأولى، وبعد الطلقة الثانية، فتلك فترتان متكررتان لمراجعة الحساب، وتقدير الظروف، ومحاكمة الأمور، وتعقل النتائج والآثار، وهذا يحدث غالباً، فكل من الزوجين يندم ويتنازل عن أمور، ويقلع عن أخلاق، ويرضى بالعيش في ظل حياة زوجية لا توفر له كل ما يرغب بالمقارنة مع حياة العزلة والانفراد، والاتكال على الأهل الذين يضايقهم عادة تحمل أعباء جديدة من النفقة والخدمة وغيرها، هذا فضلاً عما في الفراق من تعريض سمعة المرأة للطعن والنقد، إذ لو كانت حسنة الأخلاق، لما طلقت، وبه يكون إحصاء عدد الرجعات بعد الطلاق مما ينقص كثيراً من إحصائيات الطلاق.
السبب في جعل الطلاق بيد الرجل:
جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد الزوجة بالرغم من أنها شريكة في العقد حفاظاً على الزواج، وتقديراً لمخاطر إنهائه بنحو سريع غير متئد؛ لأن الرجل الذي دفع المهر وأنفق على الزوجة والبيت يكون عادة أكثر تقديراً لعواقب الأمور، وأبعد عن الطيش في تصرف يلحق به ضرراً كبيراً، فهو أولى من المرأة بإعطائه حق التطليق لأمرين:
الأول ـ إن المرأة غالباً أشد تأثراً بالعاطفة من الرجل، فإذا ملكت التطليق، فربما أوقعت الطلاق لأسباب بسيطة لا تستحق هدم الحياة الزوجية.
الثاني ـ يستتبع الطلاق أموراً مالية من دفع مؤجل المهر، ونفقة العدة، والمتعة، وهذه التكاليف المالية من شأنها حمل الرجل على التروي في إيقاع الطلاق، فيكون من الخير والمصلحة جعله في يد من هو أحرص على الزوجية. وأما المرأة فلا تتضرر مالياً بالطلاق، فلا تتروى في إيقاعه بسبب سرعة تأثرها وانفعالها.(9/338)
ثم إن المرأة قبلت الزواج على أن الطلاق بيد الرجل، وتستطيع أن تشرطه لنفسها إن رضي الرجل منذ بداية العقد، ولها أيضاً إن تضررت بالزوج أن تنهي الزواج بواسطة بذل شيء من مالها عن طريق الخلع، أو عن طريق فسخ القاضي الزواج بسبب مرض منفر، أو لسوء العشرة والإضرار، أو لغيبة الزوج أو حبسه، أو لعد م الإنفاق.
وليست الدعوة المعاصرة إلى جعل الطلاق بيد القاضي ذات فائدة؛ لمصادمة المقرر شرعاً، ولأن الرجل يعتقد ديانة أن الحق له، فإذا أوقع الطلاق، حدثت الحرمة دون انتظار حكم القاضي. وليس ذلك في مصلحة المرأة نفسها؛ لأن الطلاق قد يكون لأسباب سرية ليس من الخير إعلانها، فإذا أصبح الطلاق بيد القاضي انكشفت أسرار الحياة الزوجية بنشر الحكم، وتسجيل أسبابه في سجلات القضاء، وقد يعسر إثبات الأسباب لنفور طبيعي وتباين أخلاقي.
ركن الطلاق: قال الحنفية (1) : ركن الطلاق: هو اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة: وهو التخلية والإرسال، ورفع القيد في الصريح، وقطع الوصلة ونحوه في الكناية، أو شرعاً: وهو إزالة الحل؛ أو ما يقوم مقام اللفظ من الإشارة.
وقال غير الحنفية (2) : للطلاق أركان، علماً بأن كلمة «ركن الطلاق» مفرد مضاف، فيعم، فيصح الإخبار عنه بالمتعدد، فيقال: أركانه أربعة مثلاً. والمراد بالركن عند الجمهور: ما تتحقق به الماهية، ولو لم يكن داخلاً فيها.
أما المالكية فقالوا: أركان الطلاق أربعة: أهل له: أي موقعه من زوج أو نائبه أو وليه إن كان صغيراً، وقصد: أي قصد النطق باللفظ الصريح والكناية الظاهرة، ولو لم يقصد حل العصمة بدليل صحة طلاق الهازل. ومحل: أي عصمة مملوكة، ولفظ صريح أو كناية. وعدها ابن جزي ثلاثة: هي المطلِّق، والمطلَّقة، والصيغة: وهي اللفظ وما في معناه.
__________
(1) البدائع: 98/3.
(2) الشرح الكبير: 365/2، الشرح الصغير: 279/2، القوانين الفقهية: ص 227، غاية المنتهى: 112/3.(9/339)
وأما الشافعية والحنابلة فقالوا: أركان الطلاق خمسة: مطلِّق، وصيغة، ومحل، وولاية، وقصد، فلا طلاق لفقيه يكرره، وحاكٍ ولو عن نفسه. ويلاحظ أن الولاية أدخلها المالكية في الركن الأول وهو الأهلية. وزاد الشافعية والحنابلة على المالكية ركن المحل.
حكم الطلاق: ذهب الحنفية على المذهب (1) : إلى أن إيقاع الطلاق مباح لإطلاق الآيات، مثل قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء} [البقرة:236/2] ولأنه صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، لا لريبة (أي ظن الفاحشة) ولا كبر، وكذا فعله الصحابة، والحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر النكاح والطلاق. وأما حديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فالمراد بالحلال: ما ليس فعله بلازم، ويشمل المباح والمندوب والواجب والمكروه، وقال ابن عابدين: إن كونه مبغوضاً لا ينافي كونه حلالاً، فإن الحلال بهذا المعنى يشمل المكروه، وهو مبغوض.
وقال الكمال بن الهمام: الأصح حظر الطلاق أي منعه، إلا لحاجة كريبة وكبر. ورجح ابن عابدين هذا الرأي، وليست الحاجة مختصة بالكبر والريبة، بل هي أعم.
وذكر الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) : أن الطلاق من حيث هو جائز، والأولى عدم ارتكابه، لما فيه من قطع الأ لُفة إلا لعارض، وتعتريه الأحكام الأربعة من حرمة، وكراهة، ووجوب، وندب، والأصل أنه خلاف الأولى.
فيكون حراماً: كما لو علم أنه إن طلق زوجته وقع في الزنا لتعلقه بها، أو لعدم قدرته على زواج غيرها، ويحرم الطلاق البدعي وهو الواقع في الحيض ونحوه كالنفاس وطهر وطئ فيه.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 571/2-572، فتح القدير: 21/3-22.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 361/2، الشرح الصغير: 533/2 وما بعدها، المهذب: 78/2، كشاف القناع: 261/5، المغني: 97/7 وما بعدها.(9/340)
ويكون مكروهاً: كما لو كان له رغبة في الزواج، أو يرجو به نسلاً ولم يقطعه بقاء الزوجة عن عبادة واجبة، ولم يخش زناً إذا فارقها. ويكره الطلاق من غير حاجة إليه، للحديث السابق عن ابن عمر: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق» .
ويكون واجباً: كما لو علم أن بقاء الزوجة يوقعه في محرم من نفقة أو غيرها. ويجب طلاق المولي (حالف يمين الإيلاء) بعد انتظار أربعة أشهر من حلفه إذا لم يفئ، أي يطأ.
ويكون مندوباً أو مستحباً: إذا كانت المرأة بذيِّة اللسان يخاف منها الوقوع في الحرام لو استمرت عنده. ويستحب الطلاق في الجملة لتفريط الزوجة في حقوق الله الواجبة، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها على تلك الحقوق، ويستحب الطلاق أيضاً في حال مخالفة المرأة من شقاق وغيره ليزيل الضرر، أوإذا كانت غير عفيفة، فلا ينبغي له إمساكها؛ لأن فيه نقصاً لدينه، ولا يأمن إفسادها فراشه، وإلحاقها به ولداً من غيره.
ويستحب الطلاق أيضاً لتضرر الزوجة ببقاء النكاح لبغض أو غيره، ويستحب كون الطلاق طلقة واحدة؛ لأنه يمكنه تلافيها، وإن أراد الطلاق الثلاث، فَّرق الطلقات في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف، فإن عند أبي حنيفة لا يجوز جمعها، ولأنه يسلم من الندم. والخلاصة: أن الطلاق البدعي إما حرام أو مكروه، والطلاق السني إما واجب أو مندوب أو خلاف الأولى. وسيأتي بيان البدعي والسني.
لزوم الطلاق: الطلاق كاليمين متى توافر ركنه وشروطه، لزم المطلِّق في زوجته، ولا رجوع عنه بوقوعه، ويحسب عليه إن طلقها ثم تزوجها ثانية، وكذلك في المرة الثالثة حتى تكون ثلاث تطليقات (1) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 219.(9/341)
المبحث الثاني ـ شروط الطلاق وقدره ومحله وصيغته:
يشترط في كل ركن من أركان الطلاق ـ في اصطلاح غيرا لحنفية ـ شروط:
شروط الركن الأول وهو المطلِّق: يشترط أن يكون زوجاً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً بالاتفاق، وأن يكون عند المالكية مسلماً، وأن يعقل الطلاق عند الحنابلة (1) .
فلا يصح الطلاق من غير زوج، ولا من صبي مميز أو غير مميز، وأجاز الحنابلة طلاق مميز يعقل الطلاق ولو كان دون عشر سنين، بأن يعلم أن زوجته تبين منه وتحرم عليه إذا طلقها، ويصح توكيل المميز في الطلاق وتوكله فيه؛ لأن من صح منه مباشرة شيء، صح أن يوكل وأن يتوكل فيه. ولا يصح عند الفقهاء أن يطلِّق الولي على الصبي أو المجنون بلا عوض، لأن الطلاق ضرر.
__________
(1) فتح القدير: 21/3، 38-40، البدائع: 99/3، الشرح الكبير: 365/2، بداية المجتهد: 81/2-83، الشرح الصغير: 526/2-542 وما بعدها، المهذب: 77/2، مغني المحتاج: 279/3-289، كشاف القناع: 262/5-265، القوانين الفقهية: ص 227 ومابعدها، المغني: 113/7-124.(9/342)
طلاق المجنون والمدهوش: ولا يصح طلاق المجنون، ومثله المغمى عليه، والمدهوش: وهو الذي اعترته حال انفعال لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجة يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله، بسبب فرط الخوف أو الحزن أو الغضب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (1) والإغلاق: كل ما يسد باب الإدراك والقصد والوعي، لجنون أو شدة غضب أو شدة حزن ونحوها.
ودليل اشتراط البلوغ والعقل: حديث «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» (2) وحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» (3) ، ولأن الطلاق تصرف يحتاج إلى إدراك كامل وعقل وافر، وهذا لا يتوافر في الصبي والمجنون، ولأن الطلاق تصرف ضار، فلا يملكه الصبي ولو كان مميزاً أو أجازه الولي.
لكن الحنابلة أنفذوا طلاق المميز ولو دون عشر، لعموم الحديث المتقدم: «إن الطلاق لمن أخذ بالساق» وحديث «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه، والمغلوب على عقله» وعن علي: «اكتموا الصبيان النكاح» فيفهم منه أن فائدته ألا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق، فوقع كطلاق البالغ.
طلاق الغضبان: يفهم مما ذكر أن طلاق الغضبان لا يقع إذا اشتد الغضب، بأن وصل إلى درجة لا يدري فيها ما يقول ويفعل ولا يقصده. أو وصل به الغضب إلى درجة يغلب عليه فيها الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، وهذه حالة نادرة. فإن ظل الشخص في حالة وعي وإدراك لما يقول فيقع طلاقه، وهذا هو الغالب في كل طلاق يصدر عن الرجل؛ لأن الغضبان مكلف في حال غضبه بما يصدر منه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق وطلاق وغيرها.
طلاق غير الزوج: لا يصح طلاق غير الزوج، لحديث «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار: 235/6، نصب الراية: 223/3) .
(2) قال عنه الزيلعي: حديث غريب، وأخرج الترمذي عن أبي هريرة: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله» وفيه ضعيف، وروى ابن أبي شيبة عن علي قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه» (نصب الراية: 221/3-222) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بلفظ آخر (الجامع الصغير: 24/2) .(9/343)
ملك» (1) .
طلاق السكران: السكران الذي وصل إلى درجة الهذيان وخلط الكلام، ولا يعي بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، لا يقع طلاقه باتفاق المذاهب إن سكر سكراً غير حرام ـ وهو نادر ـ كشرب مسكر للضرورة، أو للإكراه، أو لأكل بنج ونحوه ولو لغير حاجة عند الحنابلة؛ لأنه لا لذة فيه، فيعذر لعدم الإدراك والوعي لديه، فهو كالنائم.
أما السكران بطريق محرَّم ـ وهو الغالب ـ بأن شرب الخمر عالماً به، مختاراً لشربه، أو تناول المخدر من غير حاجة أو ضرورة عند الجمهور غيرا لحنابلة، فيقع طلاقه في الراجح في المذاهب الأربعة، عقوبة وزجراً عن ارتكاب المعصية، ولأنه تناوله باختياره من غير ضرورة.
وقال زفر والطحاوي من الحنفية، وأحمد في رواية عنه، والمزني من الشافعية وعثمان وعمر بن عبد العزيز (2) : لا يقع طلاق السكران، لعدم توافر القصد والوعي والإرادة الصحيحة لديه، فهوزائل العقل كالمجنون، والنائم فاقد الإرادة كالمكره، فتصبح عبارته ملغاة لا قيمة لها، وللسكر عقوبة أخرى هي الحد، فلا مسوغ لضم عقوبة أخرى عليه، قال عثمان رضي الله عنه: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق، وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز، وقال علي: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه (3) .
وأخذ القانون في سورية ومصر بهذا الرأي، نص قانون رقم (25) لسنة (1929) في مصر على أنه «لا يقع طلاق السكران» ونص القانون السوري م (89) على ما يلي:
«1 - لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره.
2 - المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول» .
طلاق غير المسلم: يقع طلاق غير المسلم كالمسلم عند الجمهور؛ لأنه عند غير الحنفية مكلف بفروع الشريعة. وقال المالكية: لا يصح الطلاق من كافر، ويشترط الإسلام لنفاذ طلاق المطلِّق.
طلاق المرتد: طلاق المرتد بعد الدخول موقوف، فإن أسلم في العدة تبينا وقوعه، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة أو ارتد قبل الدخول فطلاقه باطل؛ لانفساخ النكاح قبله، باختلاف الدين.
__________
(1) رواه ابن ماجه عن مسور بن مَخْرمة، وأخرجه الحاكم عن جابر مرفوعاً بلفظ «لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك» (نيل الأوطار: 240/6) .
(2) وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء وبعض التابعين أيضاً، وروي عن علي ومعاوية رضي الله عنهما.
(3) ذكرهن البخاري في صحيحه (نيل الأوطار: 235/6) .(9/344)
طلاق السفيه: ينفذ طلاق السفيه المحجور إذا كان بالغاً باتفاق المذاهب ولو بغير إذن وليه؛ لأن موضع الحجر هو التصرفات المالية، والطلاق وأثره ليس من التصرفات المالية، والرشد ليس شرطاً لوقوع الطلاق.
والسفيه: هو خفيف العقل الذي يتصرف في ماله على خلاف مقتضى العقل السليم. وقال الشيعة الإمامية وعطاء: يتوقف طلاق السفيه على إذن الولي؛ لأنه تصرف ضار ضرراً محضاً.
طلاق المكره: لا يقع عند الجمهور طلاق المكره؛ لأنه غير قاصد للطلاق، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طلاق في إغلاق» (2) معناه في إكراه. وهذا هو الراجح لقوة دليله.
ورأى الحنفية: أن طلاق المكره واقع؛ لأنه قصد إيقاع الطلاق وإن لم يرض بالأثر المترتب عليه، كالهازل، فإن طلاقه يقع لحديث: «ثلاث جِدّهن جِدّ، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (3) .
مالك الطلاق: يتبين مما سبق أن الذي يملك الطلاق إنما هو الزوج متى كان بالغاً عاقلاً، ولا تملكه الزوجة إلا بتوكيل من الزوج أو تفويض منه. ولا يملكه القاضي إلا في أحوال خاصة للضرورة.
ويلاحظ أن القانون المصري جعل الأهلية في سنة الحادية والعشرين، والقانون السوري في سن الثامنة عشرة، وبناء عليه تكون أهلية الطلاق قانوناً في تلك السن المقررة، إلا إذا سمح القاضي لمن هودون هذه السن إذا كان بالغاً بإيقاع الطلاق. ونص القانون السوري (م 85) على الأهلية:
«1 ـ يكون الرجل متمتعاً بالأهلية الكاملة للطلاق في تمام الثامنة عشرة من عمره.
2 - يجوز للقاضي أن يأذن بالتطليق، أو يجيز الطلاق الواقع من البالغ المتزوج قبل الثامنة عشرة إذا وجدت المصلحة في ذلك» .
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس.
(2) رواه أبو داود والأثرم عن عائشة، وقد سبق تخريجه ومعناه.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي عن أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم وصححه والدارقطني، وفي إسناده ابن أزدك، وهو مختلف فيه (نيل الأوطار: 234/6 وما بعدها، نصب الراية في الهامش: 223/3) .(9/345)
ما يشترط في الركن الثاني للطلاق وهو القصد:
يشترط بالاتفاق القصد في الطلاق (1) : وهو إرادة التلفظ به، ولو لم ينوه، أي إرادة لفظ الطلاق لمعناه، بألا يقصد بلفظ الطلاق غير المعنى الذي وضع له، ولايشترط في هذا الركن إلا تحقيق المراد به، فلا يقع طلاق فقيه يكرره، ولا طلاق حاكٍ عن نفسه أو غيره؛ لأنه لم يقصد معناه، بل قصد التعليم والحكاية، ولا طلاق أعجمي لُقِّن لفظ الطلاق بلا فهم منه لمعناه. ولا يقع طلاق مرَّ بلسان نائم أو من زال عقله بسبب لم يعص به، ويلغو، وإن قال بعد إفاقته أو استيقاظه: أجزته أو أوقعته للحديث المتقدم: «رفع القلم عن ثلاث، ومنها: النائم حتى يستيقظ» ولانتفاء القصد.
ولا تشترط عند الحنابلة النية للطلاق في حال الخصومة أو في حال الغضب.
طلاق الهازل: الهازل هو من قصد اللفظ دون معناه، واللاعب: هو من لم يقصد شيئاً (2) ، كأن تقول الزوجة في معرض دلال أو ملاعبة أواستهزاء: طلقني،
__________
(1) فتح القدير: 39/3، الدر المختار: 584/2، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 543/2 ومابعدها، 567، القوانين الفقهية: ص 230، مغني المحتاج: 287/3 ومابعدها، كشاف القناع: 263/5، 277-278،المغني: 135/7.
(2) اللعب والهزل في اصطلاح الفقهاء كما أبان الشافعية متغايران، وأما في اللغة فهما مترادفان.(9/346)
فيقول لها لاعباً أو مستهزئاً: طلقتك، ومثله من خاطبها بطلاق وهو يظنها أجنبية عنه وليست زوجته، بسبب ظلمة أو من وراء حجاب. والحكم أن يقع طلاق هؤلاء جميعاً؛ لأن كلاً من الهازل واللاعب أتى باللفظ عن قصد واختيار، وإن لم يرض بوقوعه، فعدم رضاه بوقوعه، لظنه أنه لا يقع: لا أثر له لخطأ ظنه. والدليل كما ذكر الحنابلة وغيرهم هو الحديث المتقدم: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» وفي رواية «والعتاق» وفي رواية: «واليمين» ، وقال علي كرم الله وجهه: «ثلاثة لا لعب فيهن: الطلاق والعتاق والنكاح» ولأن الهازل أتى بالسبب، وهو لفظ الطلاق، وترتيب الأحكام على أسبابها إنما هو للشارع لا للعاقد.
طلاق المخطئ أو من سبق لسانه: وهو الذي يريد أن يتكلم بغير الطلاق، فزلَّ لسانه، ونطق بالطلاق من غير قصد أصلاً، بأن أراد أن يقول: طاهر أو أنت طالبة، فقال خطأ: أنت طالق.
وحكمه: لا يقع طلاقه عند الشافعية، لعدم القصد.
وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يقع طلاقه في الفتوى والديانة، أي فيما بينه وبين الله تعالى، ويقع في القضاء. لكن قيد المالكية وقوعه قضاء بأن لم يثبت سبق لسانه بالبينة، وإلا فلا يلزمه في فتوى ولا في قضاء.
وسبب التفرقة بين الهازل والمخطئ: أن الهازل قصد اللفظ، فاستحق العقوبة والزجر عن اللعب بأحكام الدين، وأما المخطئ فلا قصد له أصلاً، فلم يستحق العقوبة والزجر، حتى يحكم بوقوع طلاقه.(9/347)
ما يشترطه في الركن الثالث ـ محل الطلاق أو من يقع عليه الطلاق:
المرأة هي التي يقع عليها الطلاق، إذا كانت في حال زواج صحيح قائم فعلاً، ولو قبل الدخول، أو في أثناء العدة من طلاق رجعي؛ لأن الطلاق الرجعي لا تزول به رابطة الزوجية إلا بعد انتهاء العدة.
فإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى، فلا يلحقها طلاق آخر في أثناء العدة، لاستنفاد حق الزوج في الطلاق. لأنه لا يملك أكثر من ثلاث طلقات، فلا تكون هناك فائدة من الطلاق.
وإن كانت معتدة من طلاق بائن بينونة صغرى. فلا يلحقها أيضاً طلاق آخر عند الجمهور غير الحنفية، لانتهاء رابطة الزوجية بالطلاق البائن، فلا تكون محلاً للطلاق. ويلحقها طلاق آخر في رأي الحنفية في أثناء العدة، لبقاء بعض أحكام الزواج من وجوب النفقة، والسكنى في بيت الزوجية، وعدم حل زواجها برجل آخر في العدة، فتكون محلاً للطلاق إذ هي زوجة حكماً. وعبارة الحنفية فيه: «الصريح يلحق الصريح، ويلحق البائن بشرط العدة، والبائن يلحق الصريح» .
فإن كان الزواج فاسداً، أو انتهت عدة المرأة مطلقاً، فلا يقع عليها طلاق آخر، حتى ولو كان معلقاً بانتهاء العدة، كأن يقول لها: إذا انتهيت من عدتك، فأنت طالق، فلا يقع به طلاق.
ونص القانون السوري (م 86) على محل الطلاق فيما يأتي: «محل الطلاق: المرأة التي في نكاح صحيح، أو المعتدة من طلاق رجعي، ولا يصح على غيرهما الطلاق، ولو كان معلقاً» .
وإذا طلقت المرأة قبل الدخول والخلوة، فلا عدة عليها، لقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/33] ويكون الطلاق بائناً. ويرى الحنفية (1) : أنه لا يلحقها طلاق آخر، فلو قال الرجل لزوجته التي لم يدخل ولم يختل بها: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» لا تقع إلا طلقة واحدة؛ لأنها بالطلاق الأول، صارت بائنة من زوجها، وأصبحت أجنبية، فلا يلحقها آخر. وهذا رأي الشافعية أيضاً، فإنهم قالوا: إذا قال ذلك لغير المدخول بها فتقع طلقة واحدة بكل حال؛ لأنها تبين بالأولى فلا يقع ما بعدها (2) .
وقال المالكية والحنابلة (3) : يقع بهذه الألفاظ المتتابعة ثلاث طلقات؛ لأنه نسق أي غير مفترق؛ لأن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها، فيكون الرجل موقعاً للثلاث جميعاً، فيقعن عليها، كقوله: أنت طالق ثلاثاً، أو طلقة معها طلقتان، إلا أنه إذا قصد بالثانية والثالثة تأكيد ما قبلها، فيصدق عند المالكية قضاءً بيمين، وديانةً بغير يمين.
__________
(1) الدر المختار: 624/2 وما بعدها، 645.
(2) مغني المحتاج: 297/3.
(3) المغني: 233/7، القوانين الفقهية: ص 229.(9/348)
إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة أو جزء الطلقة:
إذا أضاف الرجل الطلاق للزوجة بأن قال: أنت طالق، أو طلقتك، وقع الطلاق اتفاقاً.
ويقع الطلاق أيضاً في الجملة إذا أضاف الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة على التفصيل التالي:
قال الحنفية (1) : يقع الطلاق أيضاً إذا أضافه الرجل إلى ما يعبر به عن كل المرأة أو ذاتها، كالرقبة والعنق والروح والبدن والجسد، والأطراف جميعاً (وهي اليدان والرجلان) والفرج (القُبُل) والوجه والرأس والأست (العجز) ، أو أضافه إلى جزء شائع من المرأة كنصفها وثلثها إلى عشرها؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ولا يقع الطلاق إذا أضافه إلى البُضْع (الفرج) والدبر، إذ لا يعبر بهما عن الكل، بخلاف الأست والفرج، فإنه يعبر بهما عن الكل.
ولا يقع لو أضافه إلى اليد إلا بنية المجاز، أي إطلاق البعض على الكل إذا لم يكن مشتهراً، فلو اشتهر لا حاجة إلى نية المجاز، وكاليد: الرجل والشعر والأنف والساق والفخذ والظهر والبطن واللسان والأذن والفم والصدر والذقن والسن والريق والعرق والثدي والدم؛ لأنه لا يعبر به عن الجملة. فلا يقع الطلاق لو قال: يدك طالق أو رجلك طالق، ونحوهما.
ويقع الطلاق بإضافته إلى جزء الطلقة كالسدس والربع والنصف، ولو من ألف جزء، بأن يقول: أنت طالق جزءاً من ألف طلقة؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ومذهب المالكية (2) : لو أضاف الطلاق إلى نصف المرأة أو سدسها، أو ثلثها، أو عضو من أعضائها، نفذ، ولو قال: نصف طلقة أو ربع طلقة كملت عليه، فهم كالحنفية. واختلف المالكية على رأيين في إضافته إلى شعر المرأة وكلامها وروحها وحياتها، والراجح أنه يلزم الطلاق إذا أضيف لما يعد من محاسن المرأة، مثل شعرك أو كلامك أو ريقك طالق، ولا يلزم بما لا يعد من المحاسن، نحو بُصاق ودمع وسعال.
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين: 598/2-601، فتح القدير: 52/3 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 228، الشرح الصغير: 572/2.(9/349)
ورأى الشافعية (1) أنه يقع الطلاق إن طلق جزءاً من المرأة، كقوله: يدك أو رجلك طالق أو نحو ذلك من أعضائها المتصلة بها، ولو من غير نية المجاز خلافاً للحنفية، وكقوله: ربعُك أو بعضُك أو جزؤك أو شعرك أو ظفرك طالق، وكذا دمُك على المذهب؛ لأن الطلاق لا يتبعض، ولا يقع إن أضافه إلى فضلة كريق وعَرَق وبول، وكذا لا يقع إن أضافه إلى مني ولبن في الأصح؛ لأنها غير متصلة بها اتصال خلقة.
ولو قال لمقطوعة يمين: يمينك طالق، لم يقع على المذهب، لفقدان الذي يسري منه الطلاق إلى الباقي. ولو قال: أنت طالق بعض طلقة، وقعت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض.
وأضاف الشافعية أن الرجل في خطاب المرأة لو حذف المفعول كأن قال: «طلقت» أو حذف المبتدأ: «أنتِ» أو حذف حرف النداء «يا» فلم يقل: «يا طالق» لم يقع الطلاق، كما هو ظاهر كلامهم.
والحنابلة قالوا (2) : تطلق إن أضاف الطلاق إلى جزء من المرأة مثل قوله: يدك أو دمك أو أصبعك أو رأسك طالق؛ لأنه أضافه إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح، فأشبه الإضافة إلى الجزء الشائع مثل نصفك وثلثك. أما لو قال: لعديمة الإصبع أو اليد: أصبعك طالق، أو يدك طالق، لم تطلق.
__________
(1) مغني المحتاج: 280/3، 291، المهذب: 80/2-85.
(2) كشاف القناع: 298/5-301، المغني: 242/7-246.(9/350)
ولا تطلق لو قال لها: شعرك أو ظفرك أو سنك أو لبنك أو منيك طالق؛ لأن تلك الأجزاء تنفصل عنها مع السلامة، فلا تطلق بإضافة الطلاق إليها كالحمل، فهم خالفوا الشافعية في غير اللبن والمني.
ولا تطلق أيضاً إن قال: سوادك أو بياضك طالق؛ لأنه أمر عارض. ولا إن قال: ريقك أو دمعك أو عرقك طالق؛ لأن المذكور ليس جزءاً منها، ولا إن قال: روحك طالق؛ لأن الروح ليست عضواً ولا شيئاً يستمتع به، فأشبهت السواد والبياض. ولا إن قال: حملك طالق؛ لأنه عرض كالبياض والسواد.
وأما لو قال: حياتك طالق، فتطلق؛ لأنه لا بقاء لها بدونها، فأشبه ما لو قال: رأسك طالق.
وجزء الطلقة كالطلقة، فإذا قال: أنت طالق نصف طلقة أو ثلثها ونحوه، طلقت طلقة؛ لأن الطلاق لا يتبعض.
والخلاصة: اتفق الفقهاء على أن جزء الطلقة طلقة، واختلفوا في إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة. ولا يقع الطلاق عند جمهور الحنفية فيما لا يعبر به عن جملة المرأة كاليد والرجل والإصبع والدبر، ويقع بها عند زفر ومالك والشافعي وأحمد.
إضافة الطلاق إلى نفس الزوج:
قال الحنفية والحنابلة (1) : من قال لامرأته: «أنا منك طالق» فليس بشيء، وإن نوى طلاقاً. ولو قال: أنا منك بائن، أو أنا عليك حرام، ناوياً الطلاق فهي طالق عند الحنفية وفي أحد الوجهين عند الحنابلة؛ لأن الطلاق لإزالة القيد، والقيد في المرأة دون الزوج، فلا تطلق في الحالة الأولى، لأنه أضاف الطلاق إلى غير محله، فيلغو. أما الإبانة فهي لإزالة الوصلة، والتحريم لإزالة الحل، وهما مشتركان بين الزوجين، فصح إضافتهما إلى الزوجين، ولايصح إضافة الطلاق إلا إليها.
__________
(1) فتح القدير: 70/3 وما بعدها، المغني: 133/7 وما بعدها، الدر المختار: 613/2.(9/351)
وقال المالكية والشافعية (1) : لو قال الرجل: أنا منك طالق، تطلق إن نوى تطليقها؛ لأن المرأة مقيدة والزوج كالقيد عليها، والحَلّ يضاف إلى القيد، كما يضاف إلى المقيد، فيقال: حلّ فلان المقيّد، وحل القيد عنه. وإن لم ينو طلاقاً فلا تطلق؛ لأن اللفظ خرج عن الصراحة بإضافته إلى غير محله، فشرط فيه ما شرط في الكناية من قصد الإيقاع.
وكذا لو قال: أنا منك بائن، اشترط نية الطلاق، كسائر الكنايات. وعليه، فإن الطلاق المنسوب إلى الزوج يقع ـ على هذا الرأي ـ بالنية، سواء بلفظ الطلاق أم بالإبانة.
ما يشترط في الركن الرابع عند الشافعية والحنابلة ـ الولاية على محل الطلاق:
محل الطلاق كما عرفنا هو الزوجة، وكأن هذا الركن الذي ذكره الشافعية فرع عن الركن السابق وهو محل الطلاق، والمقصود منه بيان حكم طلاق الأجنبية. فإن طلاقها قبل زواجها مختلف في وقوعه بعد تزوجها، كما يتبين من عبارات الفقهاء وهو موضوع تعليق الطلاق على الملك.
تعليق الطلاق على الملك أو على النكاح. فيه ثلاثة آراء للفقهاء:
قال الحنفية (2) : إذا أضاف رجل الطلاق إلى النكاح، وقع عقيب النكاح، مثل أن يقول لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق» أو «كل امرأة أتزوجها فهي طالق» ؛ لأن هذا الطلاق معلق على شرط، فلا يشترط لصحته وجود الملك في حال الطلاق، وإنما يكفي وجوده عند تحقق الشرط، والملك متيقن حينئذ أي عند
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 228، المهذب: 80/2، مغني المحتاج: 292/3.
(2) فتح القدير: 127/3-131.(9/352)
وجود الشرط، وإذا كان الملك متيقناً عنده، وقع الطلاق؛ لأن المعلق بالشرط كالملفوظ لدى الشرط، فهو كما لو أضاف الطلاق في حال الزواج إلى شرط، فإنه يقع عقيب الشرط، مثل أن يقول لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق؛ لأن الملك قائم في الحال، والظاهر بقاؤه إلى وقت الشرط؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان، وهو استصحاب الحال. وأما حديث: «لا طلاق قبل النكاح» (1) الذي رواه الشافعي، فمحمول على نفي التنجيز في الحال، لا نفي الطلاق المعلق.
وعلى هذا، فلا تصح إضافة الطلاق إلى امرأة إلا أن يكون الحالف مالكاً، أويضيفه إلى ملك، فإن قال لامرأة أجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها، فدخلت الدار، لم تطلق؛ لأن الحالف ليس مالكاً، ولم يضف الطلاق إلى الملك أو سبب الملك وهو التزوج، ولا بد من واحد منها.
والحاصل: أن الطلاق عند الحنفية يتعلق بشرط التزويج، سواء عمم المطلِّق جميع النساء أو خصص.
وقال المالكية (2) : إن عمَّ المطلق جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، فمن قال: (كل امرأة أتزوجها من بني فلان، أو من بلد كذا، فهي طالق) أو قال (في وقت كذا) ، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا تزوجهن الرجل المطلق. أما لو قال: (كل امرأة أتزوجها، فهي طالق) فلا تطلق امرأة تزوَّجها. وسبب الفرق بين التعميم والتخصيص: استحسان مبني على المصلحة؛ لأنه إذا عمم فأوجبنا عليه
__________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه عن المسور بن مخرمة بلفظ: «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتق قبل ملك» وفيه أحاديث كثيرة بمعناه (نصب الراية: 230/3 وما بعدها) .
(2) بداية المجتهد: 83/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 232.(9/353)
التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً به وحرجاً، وكأنه من باب نذر المعصية. وأما إذا خصص فليس الأمر كذلك إذا ألزمناه الطلاق، وليس من شرط الطلاق إلا وجود الملك فقط، ولا يشترط وجود الملك المتقدم بالزمان على الطلاق.
وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية (1) : خطاب الأجنبية بطلاق مثل «أنت طالق» ومثل «كل امرأة أتزوجها فهي طالق» وتعليق الطلاق بنكاح، مثل (إن تزوجتك فأنت طالق) ، أو بغير نكاح، مثل (إن دخلت الدار فأنت طالق) لغو، ويحكم بإبطال اليمين، فلا تطلق على من يتزوجها، أما الطلاق المنجز على الأجنبية فلا يقع بالاتفاق، وأما المعلق على الزواج فلانتفاء الولاية من القائل على محل الطلاق، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق إلا بعد نكاح» .
وعليه، فإن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلاً، سواء عم المطلِّق أو خص. وهو قول علي ومعاذ وجابر بن عبد الله وابن عباس وعائشة، وهو الراجح لدي عملاً بهذا الحديث الصحيح، ولا عبرة بما طعن به بعضهم بعد تحسين الترمذي. وبناء عليه إن قال رجل لزوجته ولأجنبية: إحداكما طالق، أو كانت له زوجة اسمها زينب، وجارة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، وقال: أردت الأجنبية، لم يقبل قوله، وتطلق زوجته في الحالتين؛ لأنه لا يمكن طلاق غيرها.
الأدلة إجمالاً (2) :
استدل الحنفية بما يأتي:
__________
(1) مغني المحتاج: 292/3 وما بعدها، المهذب: 98/2، المغني: 135/7 وما بعدها، بداية المجتهد: 83/2 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 44/3 وما بعدها، 87 وما بعدها، البدائع: 101/3-112، بداية المجتهد: 73/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 228 وما بعدها، الشرح الصغير: 559/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 279/3 وما بعدها، المهذب: 80/2-83، المغني: 121/7-138، كشاف القناع: 276/5-782، غاية المنتهى: 120/3-122، حاشية ابن عابدين: 590/2-594، 635-637، المحلى: 226/10.(9/354)
1 - الإجماع على صحة تعليق الظهار بالملك، والطلاق مثله، إذ لا قائل بالفرق.
2 - آثار عن التابعين: أخرج ابن أبي شيبة عن سالم والقاسم بن محمد والنخعي والزهري ومكحول الشامي وغيرهم أنهم قالوا في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق: هو كما قال.
3 - تعليق الطلاق لازم كتعليق العتق والوكالة والإبراء، فلا يشترط لصحته قيام الملك في الحال.
واستدل المالكية على التفصيل بالاستحسان وبناء الحكم على المصلحة، فقالوا: إذاعمم فأوجبنا عليه التعميم، لم يجد سبيلاً إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتاً وحرجاً، فكأنه نذر المعصية، وقد عرف من الشرع: «إذا ضاق الأمر اتسع» . أما إذا خص فهو بسبيل من زواج غير من خصها بالتعليق، فلا موجب لإلغاء كلامه.
واستدل الشافعية والحنابلة بما يأتي:
1ً - حديث «لا طلاق قبل نكاح» المروي من طرق مختلفة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن. وبلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ في هذا، فإن الله يقول: نكحتم المؤمنات، ثم طلقتموهن، ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن.
2ً - المعقول: وهو أن التعليق طلاق، والطلاق حل القيد وإبطال الملك، ولا قيد ولا ملك في الأجنبية حتى يصح حله وإبطاله، فكان لغواً. أما أن التعليق طلاق، فلأن الطلاق عند وجود الشرط يقع به إذا لم يوجد كلام آخر سواه، فلو لم يكن التعليق تطليقاً، لم يقع الطلاق عند الشرط. ثم إن هذا التعليق إنشاء تصرف في محل في حال لا ولاية له عليه فيلغو، كتعليق الصبي، وتعليق البالغ طلاق الأجنبية حاصل بغير الملك. وقد رجحت هذا الرأي عملاً بالحديث الثابت.(9/355)
شرط الركن الخامس ـ الصيغة أو ما يقع به الطلاق:
اتفق الفقهاء على أن الزواج ينتهي بالطلاق بالعربية أو بغيرها، سواء باللفظ أم بالكتابة أم بالإشارة (1) .
واللفظ إما صريح أو كناية:
الطلاق الصريح: هو اللفظ الذي ظهر المراد منه وغلب استعماله عرفاً في الطلاق، كالألفاظ المشتقة من كلمة (الطلاق) مثل: أنت طالق، ومطلقة، وطلقتك وعلي الطلاق. ومنه قول الرجل: «أنت علي حرام أو حرمتك أو محرمة» ؛ لأنه وإن كان في الأصل كناية، فقد غلب استعماله بين الناس في الطلاق، فصار من الألفاظ الصريحة فيه. هذا مذهب الحنفية. وصريح الطلاق عند الحنابلة: لفظ الطلاق وماتصرف منه، لاغير، أما لفظ الفراق والسراح فهو كناية.
وقال المالكية: الكناية الظاهرة لها حكم الصريح، وهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبه ذلك.
وقال الشافعية والظاهرية: إن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسرح، لورودها في القرآن، قال تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] وقال: {فأمسكوهن بمعروف}
__________
(1) مقارنة المذاهب للأستاذين شلتوت والسايس: ص 104-108.(9/356)
[البقرة:231/2] وقال: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} [النساء:130/4] وقال سبحانه: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/33] ولو اشتهر لفظ للطلاق مثل الحلال أو حلال الله علي حرام، فالأصح كما قال النووي أنه كناية، ثم أصبح قول الرجل (علي حرام) من باب الطلاق الصريح كما أفتى به ابن حجر وغيره. وقال الحنابلة: لو قال: عليَّ الحرام، أو يلزمني الحرام، أو الحرام يلزمني، فهو لغو، لا شيء فيه: لأنه يقتضي تحريم شيء مباح بعينه، فإن اقترن معه نية تحريم الزوجة أو دلت قرينة على إرادة ذلك، فهو ظهار؛ لأنه يحتمله.
أما لفظة الإطلاق مثل أطلقتك وأنت مُطْلَقة، فليست صريحة في الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة وإنما هي كناية تحتاج إلى نية؛ لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الاستعمال، فأشبهت سائر كناياته.
يفهم مما ذكر أنه يشترط لإيقاع الطلاق ما يأتي:
1 - استعمال لفظ يفيد معنى الطلاق لغة أو عرفاً، أو بالكتابة أو الإشارة المفهمة.
2 - أن يكون المطِّلق فاهماً معناه، ولو بلغة أعجمية، فإذا استعمل الأعجمي صريح الطلاق، وقع الطلاق منه بغير نية، وإن كانت كناية احتاج إلى نية. ولو لُقِّن رجل صيغة الطلاق بلغة لا يعرفها، فتلفظ بها، وهو لا يدري معناها، فلا يقع عليه شيء.
3 - إضافة الطلاق إلى الزوجة، أي إسناده إليها لغة، بأن يعينها بأحد طرق التعيين، كالوصف، أو الاسم المسماة به، أو الإشارة والضمير، فيقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق، أو يشير إليها بقوله: هذه طالق، أو أنت طالق، أو يقول: هي طالق، في أثناء حديث عنها؛ أو إسناده إليها عرفاً مثل: علي الطلاق أو الحرام إن أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني إن لم أفعل كذا، فالطلاق هنا مضاف إلى المرأة في المعنى، وإن لم يضف إليها في اللفظ، وذلك خلافاً للحنابلة.(9/357)
4 - ألا يكون مشكوكاً في عدد الطلاق أو في لفظه. ويقع الطلاق الصريح ولو بالألفاظ المصحفة، نحو طلاغ، وتلاغ، وطلاك، وتلاك، أو بأحرف الهجاء: ط، ا، ل، ق.
حكم الطلاق الصريح:
يقع الطلاق باللفظ الصريح بدون حاجة إلى نية أو دالة حال، فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق، وقع الطلاق، ولا يلتفت لادعائه أنه لا يريد الطلاق.
طلاق الكناية:
هو كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره، ولم يتعارفه الناس في إرادة الطلاق. مثل قول الرجل لزوجته: الحقي بأهلك، اذهبي، اخرجي، أنت بائن، أنت بتّة، أنت خلية، برية، اعتدي، استبرئي رحمك، أمرك بيدك، حبلك على غاربك (1) أي خليت سبيلك كما يخلى البعير في الصحراء، وزمامه على غاربه، ونحوها من الألفاظ التي لم توضع للطلاق، وإنما يفهم الطلاق منها بالقرينة أو دلالة الحال: وهي حالة مذاكرة الطلاق، أو الغضب.
ومن الكناية في أصل المذهب عند الشافعية والحنابلة: أنت علي حرام أو حرَّمتك، فإن نوى طلاقاً أو ظهاراً حصل، وإن نواهما تخير وثبت ما اختاره. لكن -كما أفتى ابن حجر - أصبح لفظ (علي الحرام) من الطلاق الصريح في العرف والعادة الجارية. وقد حصر المالكية الكناية بالكناية المحتملة مثل: الحقي بأهلك واذهبي وابعدي عني وما أشبه ذلك، أما الكناية الظاهرة فلها حكم الصريح، كما بينا مثل لفظ التسريح والفراق، وأنت بائن أو بتة أو بتلة وما أشبهها.
__________
(1) الغارب: ما بين السنام إلى العنق.(9/358)
حكم الطلاق بالكناية:
قال الحنفية والحنابلة: لا يقع قضاء الطلاق بالكناية إلا بالنية، أو دلالة الحال على إرادة الطلاق، كأن يكون الطلاق في حالة الغضب، أو في حالة المذاكرة بالطلاق.
وفصَّل الحنفية في وقوع الطلاق قضاء بألفاظ الكنايات، فقالوا: في حالة الرضا المجرد عن مذاكرة الطلاق وطلبه لا يحكم بوقوع الطلاق بأي لفظ كنائي إلا بالنية، وفي حالة الرضا ومذاكرة الطلاق وطلبه: يقع الطلاق من غير توقف على نية في لفظ (اعتدي) وألفاظ (بائن، بتة، خلية، برية) وأما ألفاظ (اذهبي، اخرجي، قومي، اغربي، تقنعي) فتحتاج إلى نية. وأما في حالة الغضب فيقع الطلاق بلفظ (اعتدي) من غير نية، وأما الألفاظ الأخرى فتحتاج إلى نية.
ورأى المالكية والشافعية: أن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، ولا عبرة بدلالة الحال، فلا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله في ذلك بيمينه، فإن حلف أنه ما أراد باللفظ الطلاق، لم يقع، وإن امتنع عن اليمين حكم عليه بالطلاق.
واشترط الشافعية في نية الكناية اقترانها بكل اللفظ، فلو قارنت أوله، وغابت عنه قبل آخره، لم يقع طلاق. وقسم المالكية والحنابلة (1) الكناية إلى نوعين:
كناية ظاهرة: وهي ما شأنها أن تستعمل في الطلاق وحل العصمة، مثل قوله: أنت بتة، وحبلك على غاربك، ويقع بهما ثلاث طلقات، دخل بها أم لا، ولها حكم الصريح.
وكناية خفية: وهي ما شأنها أن تستعمل في غير الطلاق وحل العصمة، مثل اعتدي، ويقع بها طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من ذلك في المدخول بها، بل لايقع بها طلاق إلا إذا نواه.
ومن الكناية الظاهرة التي يقع بها ثلاث طلقات في المدخول بها إن لم ينو أقل: ألفاظ: بائنة، وميتة، وخلية، وبرية، ووهبتك لأهلك، وأنت حرام، وخليت سبيلك، ووجهي من وجهك حرام أو على وجهك حرام.
ولو قال الزوج: «أنت طلاق» أو «أنت الطلاق» أو «أنت طالق طلاقاً» فيقع بها عند الحنفية والمالكية والحنابلة (2) طلقة واحدة رجعية إن لم ينو شيئاً، فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وهذه عندهم من الألفاظ الصريحة، لأنه صرح بالمصدر، والمصدر يقع على القليل والكثير، وإنه نوى بلفظه ما يحتمله.
وعند الشافعية (3) في الأصح: ليس قوله: أنت طلاق أو الطلاق، من الألفاظ الصريحة، بل هما كنايتان؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعاً.
ما عدا الصريح والكناية: ذكر المالكية (4) أن ما عدا التصريح والكناية من الألفاظ التي لا تدل على الطلاق، كقوله: اسقني ماء أو ما أشبه ذلك: فإن أراد به الطلاق، لزمه على المشهور، وإن لم يرده لم يلزمه.
__________
(1) الشرح الصغير: 559/2-567، منار السبيل:217/2.
(2) الدر المختار:594/2، اللباب: 41/3، المغني: 237/7، الشرح الصغير: 559/2.
(3) مغني المحتاج: 280/3.
(4) القوانين الفقهية: ص 229.(9/359)
الطلاق بالكتابة إلى الغائب:
اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة على التفصيل التالي:
عبارة الحنفية (1) : الكتابة إما مستبينة أو غير مستبينة، والكتابة المستبينة: هي الكتابة الظاهرة التي يبقى لها أثر كالكتابة على الورق والحائط والأرض. والكتابة غير المستبينة: هي التي لا يبقى لها أثر، كالكتابة على الهواء أو على الماء، وكل شيء لا يمكن فهمه وقراءته، وحكمها: أنه لا يقع بها طلاق وإن نوى.
أما الكتابة المستبينة فهي نوعان: كتابة مرسومة: وهي التي تكتب مصدَّرة ومعنونة باسم الزوجة وتوجه إليها كالرسائل المعهودة، كأن يكتب الرجل إلى زوجته قائلاً: إلى زوجتي فلانة، أما بعد فأنت طالق، وحكمها: حكم الصريح إذا كان اللفظ صريحاً، فيقع الطلاق ولو من غير نية.
وأما الكتابة غير المرسومة: فهي التي لا تكتب إلى عنوان الزوجة أو باسمها ولا توجه إليها كالرسائل المعروفة، كأن يكتب الرجل في ورقة: «زوجتي فلانة طالق» . وحكمها حكم الكناية ولو كان اللفظ صريحاً، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية.
والطلاق بالرسالة، أي بإرسال رسول: هي أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها ويبلغها الرسالة على النحو المكلف
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 589/2.(9/360)
به، وحكمها: حكم الطلاق الصريح باللفظ، يقع عليها الطلاق؛ لأن الرسول ينقل كلام المرسل، فكان كلامه ككلامه (1) .
وعبارة المالكية (2) : من كتب الطلاق عازماً عليه، لزمه إذا لم يكن متردداً فيه، فإن كتب الطلاق عازماً عليه أو لم يكن له نية، لزمه بمجرد كتابة (طالق) وإن لم يكن عازماً الطلاق حال الكتابة، بل كان متردداً أو مستشيراً، فلا يقع ما لم يخرج الكتاب من يده، ويعطيه لمن يوصله، فيصل إليها أو لوليها، فإن أخرجه من يده عازماً الطلاق، فيقع بمجرد إنفاذه، ولو لم يصل. وإن أخرجه غير عازم ولم يصل، فالأرجح عدم اللزوم.
ويلزم الطلاق بمجرد إرساله مع رسول ولو لم يصل، فمتى قال للرسول: أخبرها بأني طلقتها، لزمه الطلاق.
والخلاصة: أن العبرة عندهم في كتاب الطلاق النية.
وقال الشافعية (3) مثل المالكية: إذا كتب رجل طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينوه، فهو لغو لم يقع به الطلاق؛ لأنه الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها. وإن نوى الطلاق فالأظهر وقوعه، ولا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب.
وإن كتب شخص في كتاب طلاق زوجته صريحاً أو كناية، ونوى الطلاق، ولكنه علق الطلاق ببلوغ الكتاب، كقوله: (إذا بلغك كتابي، فأنت طالق) . فإنما تطلق ببلوغه لها، مكتوباً كله، مراعاة للشرط. فإن انمحى كله قبل وصوله، لم تطلق، كما لوضاع.
وإن كتب الرجل: إذا قرأت كتابي فأنت طالق، وكانت تقرأ، فقرأته طلقت، لوجود المعلَّق عليه. وإن قرئ عليها فلا تطلق في الأصح، لعدم قراءتها مع إمكان القراءة. وإن لم تكن قارئة، فقرئ عليها، طلقت؛ لأن القراءة في حق الأمي محمولة على الاطلاع على ما في الكتاب، وقد وجد، بخلاف القارئة.
__________
(1) البدائع: 126/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 230، الشرح الصغير: 568/2.
(3) المهذب: 83/2، مغني المحتاج: 284/3 وما بعدها.(9/361)
وكذلك قال الحنابلة (1) مثل الشافعية والمالكية: إذا كتب الرجل الطلاق، فإن نواه طلقت زوجته؛ لأن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق، فإذا أتى فيها بالطلاق، وفهم منها المراد، ونواه، وقع كالطلاق باللفظ، ولأن الكتابة تقوم مقام الكاتب، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ رسالته، فحصل المقصود في حق البعض بالقول، وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف، ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق.
وإن كتب الطلاق من غير نية، قيل: يقع، وقيل: لا يقع إلا بنية، وهو الظاهر.
وإن كتب بشيء لا يبين مثل: أن يكتب الطلاق بأصبعه على وسادة أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد أنه لا يقع.
ورأيهم كالشافعية تماماً في اشتراط وصول الكتاب دون أن ينمحي ذكر الطلاق، إذا علق الطلاق ببلوغه، وفي تعليقه بالقراءة.
والخلاصة: يقع الطلاق عند الجمهور بالكتابة مع النية، ويقع عند الحنفية في الكتابة المرسومة كالصريح، وفي غير المرسومة كالكناية تحتاج إلى نية. ولا يقع الطلاق بالكتابة على الماء أو الهواء ونحوه بالاتفاق.
ومن طلق في قلبه لم يقع، وإن تلفظ به أو حرك لسانه، وقع ولو لم يسمعه.
الطلاق بالإشارة:
اتفق الفقهاء (2) على وقوع الطلاق بالإشارة المفهمة بيد أو رأس، المعهودة عند العجز عن النطق، كالأخرس ونحوه، دفعاً للحاجة، فإذا طلق الأخرس بالإشارة طلقت زوجته.
لكن قال الحنفية: إذا كان الأخرس يحسن الكتابة، لا تجوز إشارته.
أما الناطق القادر على الكلام، فلا يصح عند الجمهور طلاقه بالإشارة، كما لا يصح نكاحه بها، فلا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس، وقال المالكية: إشارة القادر على الكلام كالكناية تحتاج إلى نية، ويصح بها حينئذ الطلاق.
__________
(1) المغني: 239/7 وما بعدها، غاية المنتهى: 158/3.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 584/2، القوانين الفقهية: ص 230، الشرح الصغير: 568/2، مغني المحتاج: 284/3، المهذب: 83/2، المغني: 238/7 وما بعدها.(9/362)
صيغة الطلاق في القانون السوري:
نصت المادة (1/87) من هذا القانون على ما يلي: يقع الطلاق باللفظ وبالكتابة ويقع من العاجز عنها بإشارته المعلومة.
ومعناها: أن الطلاق يقع بنفس الأسلوب الذي ينعقد به الزواج:
1 - يقع بالألفاظ الصريحة بوضع اللغة أو الموضوعة عرفاً للدلالة على الطلاق.
2 - ويقع بالكتابة، كأن يكتب لزوجته كتاباً يخبرها فيه بطلاقه لها.
3 - ويقع من الأخرس أو معتقل اللسان بالإشارة الواضحة التي تدل على إيقاع الطلاق في إشارات الخرس، إذا كان عاجزاً عن الكتابة.
وأخذ القانون السوري برأي الحنفية في أن الطلاق يقع بلفظ صريح يدل عليه لغة، كقوله: أنت طالق، أو عرفاً كقوله: أنت علي حرام، وبألفاظ الكناية مع النية، ونصت المادة (93) على ذلك: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون حاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية» .
قدر الطلاق:
عدد الطلاق (1) : هو طلقة واحدة واثنتان وثلاث، فإن صدر الطلاق مطلقاً، أي بالصيغة فقط، كأن قال الرجل: طلقتك أو أنت طالق، وقعت طلقة واحدة، عملاً بمقتضى الصيغة عند الحنفية، ويقع ما نواه عند الجمهور. وإن نوى بكلامه عدداً معيناً كواحدة أو اثنتين، أو صرح بعدد قرن بالطلاق، وقع ما نواه أو ما صرح به من العدد، فلو ماتت المرأة قبل تمام العدد، لغا الطلاق عند الحنفية؛ لأن الوقوع بالعدد، ولو مات الزوج أو أخذ أحد فمه قبل ذكر العدد، وقع الطلاق واحدة عملاً بالصيغة؛ لأن الوقوع بلفظه لا بقصده. وقال الشافعية أيضاً: لو ماتت المرأة قبل تمام كلمة (طالق) لم يقع شيء.
__________
(1) الدر المختار: 588/2، 627، القوانين الفقهية: ص 226، مغني المحتاج: 294/3، المغني: 229/7، 278، 280، غاية المنتهى: 127/3.(9/363)
وتنفذ الطلقات الثلاث بالاتفاق، سواء طلق الرجل المرأة واحدة بعد واحدة، أم جمع الثلاث في كلمة واحدة بأن قال: أنت طالق ثلاثاً، عند الجمهور خلافاً للظاهرية.
والمعول عليه عند الحنفية اعتبار عدد الطلاق بالنساء، فطلاق الحرة ثلاث، وطلاق الأمة ثنتان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» (1) .
وعند الجمهور: المعتبر هو الرجال، فللعبد طلقتان، وللحر ثلاث طلقات، لما روى الدارقطني مرفوعاً: «طلاق العبد اثنتان» وروي عن عثمان وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما من الصحابة، كما روى الشافعي.
والإسلام في أمر الزواج والطلاق التزم الحق والاعتدال، وصحح أخطاء الجاهلية، فقد كان النكاح في الجاهلية أربعة أنحاء (2) : النكاح المعروف بعقد بعد خطبة، ونكاح الاستبضاع أي طلب الزوجة المباضعة وهو الجماع من رجل آخر بطلب زوجها، ونكاح الرهط دون العشرة، ثم تلحق المرأة الولد بمن أحبت منهم، ونكاح البغايا، ثم إلحاق الولد بواحد من الزناة بالقافة (3) .
وأما الطلاق، فلم يكن مقيداً بعدد في الجاهلية، قالت عائشة رضي الله عنها: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته، إذا راجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مئة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبينين مني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك، راجعتك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل الله عز وجل: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان} (:4) [البقرة:229/2] . دلّت الآية على أن عدد الطلقات ثلاث، وجعلت للزوج حق مراجعة زوجته بعد الطلقة
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن عائشة مرفوعاً، وقال الترمذي: حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغيرهم.
(2) رواه البخاري وأبو داود عن عروة عن عائشة (نيل الأوطار: 158/6) .
(3) القافة جمع قائف: وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد بالآثار الخفية.
(4) تفسير ابن كثير: 271/1.(9/364)
الأولى والثانية، وبه حمى الإسلام المرأة من الضرر الذي كان يلحق بها، وراعى مصلحة الرجل حيث جعل للزوج حق الطلاق ثلاث مرات، وحرص الشرع على إبقاء العشرة بين الزوجين من طريق المراجعة مرتين فقط، لتحقق الكفاية فيهما لتدارك ما فرط، فقد يطلق الرجل لغضب سريع ثم يندم، وقد يطلق لسبب ثم يزول السبب، وقد يطلق لسوء عشرة المرأة، فتتألم من الفراق، وقد يكون لها أولاد، فتحرم من رؤيتهم، أو تتضايق من تربيتهم.
واشتراط التحليل، أي الزواج برجل آخر، لحل رجوع المرأة إلى المطلِّق بعد الطلقة الثالثة، يحمل الزوج على الإمساك عن إيقاع الطلقة الثالثة، ويدفعه إلى الحرص على إبقاء الزوجية؛ لأن الرجل بحكم الغَيرة والحمية يأنف من مثل هذا الفعل، فكأنه في حكم الباب المسدود، وكأنه إحالة على شيء عسير الحصول بعيد التحقق.
ماالذي تعود به المرأة بعد التحليل؟
من طلق طلقة واحدة أو اثنتين، فنكحها زوج غيره، ودخل بها، ثم نكحها الأول، بنى الأول عند المالكية والشافعية والحنابلة (1) على ما كان من عدد الطلقات، أي فتعود إليه بما بقي له من الطلاق، فلو طلقها ثلاثاً ثم نكحها بعد زوج غيره، استأنف عدد الطلقات كنكاح جديد، أي فتعود له بطلقات ثلاث: لأن الزواج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث، ويهدم الثلاث؛ لأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول فيما دون الثلاث، فلا يغير حكم الطلاق، ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث، فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني. وهذا رأي محمد أيضاً؛ لأنه لا إنهاء للحرمة قبل الثبوت.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 226، مغني المحتاج: 293/3، المغني: 261/7.(9/365)
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (1) : الزواج الثاني يهدم مطلقاً، فتعود بطلقات ثلاث للزوج الأول، سواء أكان زواجها بزوج ثان بعد الطلقتين أم بعد الثلاث؛ لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلاً يتسع لثلاث تطليقات كما يتسع لما دون الثلاث؛ لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث، فأولى أن يهدم ما دونها، وقد سمى النبي صلّى الله عليه وسلم الزوج الثاني محلِّلاً، وهو المثبت للحل، في حديث: «لعن الله المحلل والمحلل له» (2) .
عدد الطلاق في بعض الألفاظ:
اتفق الفقهاء على أن الطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ، واللفظ الصادر عن المطلِّق متنوع، يتحدد عدد الطلاق فيه إما بالنية أو بالصيغة أو بالعدد المقترن به صراحة. وهذه نماذج يعرف بها عدد الطلاق بالإضافة لما سبق بيانه.
1 ً - اللفظ المُطْلَق: إذا خاطب الرجل امرأته بقوله: أنت طالق أو بائن أو بتة: ففي رأي المالكية والشافعية والحنابلة (3) : يقع ما نواه، فإن نوى طلقتين أو ثلاثاً، وقع، لما روي أنه رُكانَة بن عبد يزيد طلق امرأته سُهَيْمة البتة، فأخبر النبيَّ صلّى الله عليه وسلم بذلك، فقال: والله ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان (4) .
__________
(1) فتح القدير: 178/3.
(2) روي من حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي، وحديث علي عند أبي داود والترمذي وابن ماجه، وحديث جابر عند الترمذي، وحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه، وحديث أبي هريرة عند أحمد والبزار، وحديث ابن عباس عند ابن ماجه، كلها بلفظ «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» إلا حديث عقبة فهو بلفظ: «لعن الله المحلل والمحلل له» (نصب الراية: 238/3-240) .
(3) المهذب: 84/2، غاية المنتهى: 127/3، الشرح الصغير: 560/2.
(4) رواه الشافعي وأبو داود والترمذي، وقال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن حبان والحاكم (نيل الأوطار: 226/6) .(9/366)
وفي رأي الحنفية (1) : يقع الطلاق عند عدم العدد بالصيغة، وقول الرجل: أنت طالق البتة، من كنايات الطلاق التي يقع بها الطلاق عندهم بائناًً؛ لأنه اقترن بوصف الشدة أو القوة أو بما يفيد البينونة.
2 - تحديد المقصود بالإشارة: إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع، وقع الثلاث عند الشافعية والمالكية والحنابلة (2) ؛ لأن الإشارة بالأصابع مع قوله (هكذا) بمنزلة النية في بيان العدد. وإن قال: أردت بعدد الأصبعين المقبوضتين، قبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. ولوقال: أنت طالق وأشار بالأصابع، ولم يقل (هكذا) وقال: أردت واحدة ولم أرد العدد فهي واحدة، أي يقبل قوله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وكذلك يقع ثلاثاً بالإشارة عند الحنفية (3) ؛ لأن الطلاق الثلاث يقع عندهم إذا كان مقروناً بعدد الثلاثة نصاً أو إشارة، أو موصوفاً بصفة تنبئ عن البينونة أو ما يدل عليها.
__________
(1) الدر المختار: 617/2، 627.
(2) المهذب: 84/2، غاية المنتهى: 128/3.
(3) رد المحتار: 592/2، 615.(9/367)
3 - واحدة في اثنتين: قرر الشافعية عملاً بمبدئهم في تحكيم النية (1) : إن قال الرجل: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن نوى طلقة واحدة مع اثنتين، وقعت ثلاث؛ لأن (في) تستعمل بمعنى (مع) لقوله عز وجل: {فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر:29/89-30] أي مع عبادي. فإن لم يكن له نية: فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب، طلقت طلقة واحدة بقوله: (أنت طالق) ولا يقع بقوله: (في اثنتين) شيء؛ لأنه لا يعرف مقتضاه، فلم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعرف معناه. وإن نوى مقتضاه في الحساب وهو غير عالم به، فالمذهب أنه لا يقع إلا طلقة واحدة؛ لأنه إذا لم يعلم مقتضاه، لم يلزمه حكمه كالأعجمي إذا طلق بالعربية، وهولا يعلم وقال: أردت مقتضاه في العربية. فإن كان عالماً بالحساب: فإن نوى موجبه في الحساب، طلقت طلقتين لأنه موجبه في الحساب طلقتان. وإن لم يكن له نية، فالمنصوص أنها تطلق طلقة؛ لأن هذا اللفظ غير متعارف عند الناس، ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين، ويحتمل طلقة في طلقتين باقيتين، فلا يجوز أن يوقع بالشك.
ومذهب الحنفية (2) : يقع بقوله: (واحدة في ثنتين) طلقة واحدة إن لم ينو أو نوى الضرب؛ لأنه يكثر الأجزاء لا الأفراد، وإن نوى واحدة وثنتين فيقع ثلاثاً في المدخول بها، وواحدة في غير المدخول بها.
4 - طالق طلقة بل طلقتان: رأى الشافعية (3) : أنه إن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتان، ففيه وجهان: أحدهما ـ يقع طلقتان، كما إذا قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان. والوجه الثاني ـ يقع الثلاث؛ لأن الطلاق إيقاع، فلا يجوز أن يوقع الطلاق الواحد مرتين، فحمل على طلاق مستأنف.
5 - اقتران الطلاق بلفظ الثلاث، وتكراره:
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية (4) على أنه إذا قال الرجل لغير المدخول بها:
__________
(1) المهذب: 84/2.
(2) الدر المختار: 603/2.
(3) المرجع السابق.
(4) المهذب: 84/2، اللباب: 49/3، الدر المختار: 632/2، القوانين الفقهية: ص 229، مغني المحتاج: 297/3، المغني: 233/7-235، المحلى: 213/10، مسألة 1951، و1952.(9/368)
«أنت طالق ثلاثا» وقع الثلاث؛ لأن الجميع صادف الزوجية، فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها.
واتفقوا أيضاً على أنه إن قال الزوج لامرأته: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» وتخلل فصل (1) بينها، وقعت الثلاث، سواء أقصد التأكيد أم لا؛ لأنه خلاف الظاهر. وإن قال: قصدت التأكيد صدق ديانة، لا قضاء.
وإن لم يتخلل فصل: فإن قصد تأكيد الطلقة الأولى بالأخيرتين، فتقع واحدة؛ لأن التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً. وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث، عملاً بظاهر اللفظ.
وكذا تطلق ثلاثاً إن قالت: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو عطف بالواو أو بالفاء.
6 - تطليق الجماعة: لو قال الرجل لنسائه الأربع: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة، فمذهب الحنفية والشافعية (2) : طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقة، وتكمل بالسراية. وكذا إن قال: بينكن تطليقتان أو ثلاث أو أربع، وقع على كل واحدة طلقة، إلا أن ينوي قسمة كل واحدة منهن، بأن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين، وقع على كل واحدة طلقتان، وإن قال: أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات، فتطلق كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ، واللفظ محتمل له.
وإن قال: بينكن خمس طلقات، وقع على كل واحدة طلقتان، وهكذا إلى
__________
(1) المراد بالفصل: أن يسكت فوق سكتة النفَس.
(2) الدر المختار: 630/2 وما بعدها، المهذب: 85/2.(9/369)
ثمان تطليقات. فإن زاد عليها، بأن قال: أوقعت عليكن تسعاً، طلقت كل واحدة ثلاثاً.
وإن قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأنه لما عطف وجب أن يقسم كل جزء من ذلك بينهن، ثم يكمل.
أما إن قال الرجل لنسائه: إحداكن طالق أو قال لإحدى امرأتيه: إحداكما طالق، طلقت واحدة، ويرجع إلي تعيينه اتفاقاً (1) .
7 - الطلاق ملء الدنيا أوأشد الطلاق: مذهب الشافعية والحنابلة (2) : إن قال الرجل لامرأته: أنت طالق ملء الدنيا، أو أنت طالق أطول الطلاق أو أعرضه، وقعت طلقة؛ لأن شيئاً مما ذكر لا يقتضي العدد، وقد تنصف الطلقة الواحدة بالمذكور كله.
وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه، وقعت طلقة؛ لأنه قد تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه، لتعجلها أو لحبه لها أو لحبها له، فلم يقع ما زاد بالشك. ومذهب الحنفية: تقع طلقة واحدة بائنة.
وإن قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره، وقع الثلاث؛ لأنه كل الطلاق وأكثره، وهذا متفق عليه.
وإن قال: أنت طالق على مذهب السنة والشيعة واليهود والنصارى، أو على سائر المذاهب، أو أنت طالق لا يردك عالم ولا قاض، وقعت واحدة رجعية. وهذا باتفاق المذاهب (3) .
__________
(1) المغني: 340/6.
(2) غاية المنتهى: 129/3، المهذب: 85/2.
(3) الدر المختار: 618/2، 631، 633.(9/370)
8 - طلقة قبل طلقة أو بعدها طلقة:
يرى الشافعية (1) : أنه لو قال: (طلقة قبل طلقة) أو (بعدها طلقة) أو (طلقة بعد طلقة) أو (قبلها طلقة) فتقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها، إذ مقتضاه في المدخول بها إيقاع طلقتين: إحداهما في الحال، وتعقبها الأخرى، أما في غير المدخول بها فتبين في الطلقة الأولى، فلم تصادف الثانية محلاً وهوالنكاح.
ولو قال: (طلقة في طلقة) وأراد (مع) فيقع طلقتان كما في قوله تعالى: {ادخلوا في أمم} [الأعراف:38/7] ، وإن أراد الظرف أو الحساب، أو أطلق، فتقع طلقة واحدة في الجميع، إذ مقتضى الظرف والحساب واحدة.
ولو قال: (أنت طالق نصف طلقة) فتقع طلقة بكل حال من إرادة المعية أو الظروف أو الحساب أو عدم إرادة شيء؛ لأن الطلاق لا يتجزأ.
ولو قال: (أنت طالق طلقة في طلقتين) وقصد بـ (في) معية، فتقع ثلاث، وإن قصد ظرفاً فواحدة، أو حساباً وعرفه، فثنتان. وإن جهله وقصد معناه فطلقة.
ويتفق الحنابلة (2) مع الشافعية في قول الرجل: (أنت طالق طلقة قبلها طلقة) ونحوه، يقع طلقتان في المدخول بها، وطلقة في غير المدخول بها. وإن قالت: (أنت طالق طلقة بعدها طلقة) وقال: أردت أني أوقع بعضها طلقة، يصدق ديانة، وهل يصدق قضاءً؟ خلاف، الصحيح أنه إن وجد له طلاق في نكاح آخر، أو من زوج قبله، صدق، وإن لم يوجد لا يقبل قوله؛ لأنه لا يحتمل ما قاله.
__________
(1) مغني المحتاج: 297/3 وما بعدها، المهذب: 86/2.
(2) المغني: 231/7 وما بعدها.(9/371)
ووافق الحنفية (1) الشافعية أيضاً في قول الرجل: (أنت طالق واحدة قبلهاواحدة) أو قال: (واحدة بعد واحدة) أو (مع واحدة أو معها واحدة) تقع طلقتان؛ لأن في المثال الأول الملفوظ به أولاً موقع آخراً؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن قبلها واحدة سابقة، فوقعتا معاً؛ لأن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال. وفي المثال الثاني أوقع في الحالة الأولى طلقة واحدة وأخبر أنها بعد واحدة سابقة، وأما في الحالتين الأخيرتين؛ فلأن (مع) للمقارنة، فكأنه قرن بينهما، فوقعتا.
أما لو قال: (أنت طالق واحدة قبل واحدة) فتقع واحدة؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير؛ لأنه أوقع واحدة، وأخبر أنها قبل أخرى ستقع، وقد بانت بهذه، فلغت الثانية. وكذا إن قال: (واحدة بعدها واحدة) وقعت واحدة أيضاً؛ لأن الملفوظ به أولاً موقع أولاً، فتقع الأولى لا غير، لأنه أوقع واحدة، وأخبر أن بعدها أخرى ستقع.
وإن قال لها: (إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وواحدة) أو (فواحدة) فدخلت الدار، وقعت عليها واحدة عند أبي حنيفة؛ لأن المعلق بالدخول كالمنجز، في حالة تقديم الشرط. فإن أخر الشرط يقع ثنتان؛ لأن الشرط إذا تأخر بغير صدر الكلام، فيتوقف عليه، فيقعن جملة، أما إن تقدم الشرط فتقع طلقة واحدة، لتعلقها بالشرط دفعة واحدة.
وإذا قال لها: أنت طالق بمكة، فهي طالق في الحال في كل البلاد، وكذلك إن قال: أنت طالق في الدار، تطلق في الحال؛ لأن الطلاق لا يتخصص بمكان دون مكان، كما أبان الحنفية. وإن عنى به (إذا أتيت مكة) يصدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى الإضمار، وهو خلاف الظاهر.
وإن قال لها: أنت طالق إذا دخلت مكة، لم تطلق حتى تدخل مكة؛ لأنه علقه بالدخول.
وإن قال لها: أنت طالق غداً، وقع الطلاق عليها بطلوع الفجر؛ لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد، فيقع في أول جزء منه. ولو نوى آخر النهار، صدق ديانة لا قضاء؛ لأنه نوى التخصيص في العموم، وهويحتمله مخالفاً لظاهر الكلام.
__________
(1) اللباب مع الكتاب: 49/3 وما بعدها، الدرالمختار: 628/2.(9/372)
9 - الطلاق غير المعين: قال الحنفية (1) : لو قال: امرأتي طالق، وله امرأتان أو ثلاث، تطلق واحدة منهن، وله خيار التعيين.
ولو قال: (نساء الدنيا طوالق) لم تطلق امرأته. أما لو قال: نساء المحلة والدار والبيت، فتطلق امرأته، ولو قال: نسائي طوالق، ولا نية له، طلقن كلهن بغير خلاف؛ لأن لفظه عام.
ولو قالت امرأة لزوجها: طلقني، فقال: فعلت أي طلقت بقرينة الطلب، طلقت واحدة. فإن قالت: زدني، فقال: فعلت، طلقت أخرى. ولو قالت: طلقني، طلقني، طلقني، فتقع واحدة إن لم ينو الثلاث. ولو عطفت بالواو، فثلاث؛ لأنه قرينة التكرار، فيطابقه الجواب.
ولو قالت: طلقت نفسي، فأجاز، طلقت؛ لأنه يملك إنشاء الطلاق عليها، فيملك الإجازة التي هي أضعف، بالأولى. وكذا لو قالت: أبنت نفسي، فأجاز، طلقت إن نوى ولو ثلاثاً. أما لو قالت المرأة: اخترت نفسي منك، فقال الزوج: أجزت، ونوى الطلاق، لا يقع شيء؛ لأن قولها (اخترت) لم يوضع للطلاق، لا صريحاً ولا كناية.
10 - عدد الطلاق في ألفاظ الكناية عند المالكية:
الكناية عند المالكية ظاهرة ومحتملة (2) :
أما الكناية المحتملة أو الخفية: فهي كقول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، واذهبي، وابعدي عني وما أشبه ذلك. فهذا لا يلزمه الطلاق إلا إن نواه. فإن قال: إنه لم ينو الطلاق، قبل قوله فيه.
وأما الكناية الظاهرة: فهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة، كلفظ التسريح والفراق، وكقوله: أنت بائن، أو بتة، أو بتلة، وما أشبه ذلك. وحكمها حكم الصريح. وهي سبعة أنواع:
الأول: ما يلزم فيه طلقة واحدة، إلا إن نوى أكثر في المرأة المدخول بها، وهو: (اعتدّي) وأما غير المدخول بها فلا عدة عليها، فإن قال لها: اعتدي، فهو من الكناية الخفية أو المحتملة، لا يقع إلا بنية.
الثاني: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً وهو: بتة، و: حبلك على غاربك.
الثالث: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وواحدة في غيرها إن لم ينو أكثر، فإن نوى ثلاثاً لزمه، أو أقل لزمه ما نواه، وهوأنت طالق واحدة بائنة.
__________
(1) الدر المختار: 629/2-633 وما بعدها، المغني: 169/7-170.
(2) القوانين الفقهية: ص 229، الشرح الصغير: 560/2-565.(9/373)
الرابع: مايلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وغيرها إن لم ينو أقل، وهي وهبتك لأهلك، أو رددتُك أولا عصمة لي عليك، وأنت حرام، أو خلية لأهلك أي من الزوج، أو ميتة أو كالدم أو كلحم الخنزير، أو بريّة، أو خالصة، أي مني لا عصمة لي عليك، أوبائنة، أو أنا بائن منك، أو خلي أوبري أو خالص، فإن نوى الأقل لزمه ما نواه، وحلف إن أراد نكاحها أنه ما أراد إلا الأقل، لا إن لم يرده.
الخامس: ما يلزم فيه الثلاث مطلقاً، ما لم ينو أقل، وهو: خليت سبيلك.
السادس: ما يلزم فيه الثلاث في المدخول بها، وينوي في غيرها، وهو (وجهي من وجهك حرام) أو (وجهي على وجهك حرام) فلا فرق بين (من) و (على) ومثله: لا نكاح بيني وبينك، أولا ملك لي عليك، أولا سبيل لي عليك، فيلزمه الثلاث في المدخول بها فقط، إلا إن كان الكلام لعتاب، فلا شيء عليه.
السابع: ما يلزم فيه واحدة مطلقاً سواء دخل أم لا إلا لنية أكثر، وهو: فارقتك، يقع بها طلقة رجعية في المدخول بها.
وكل ذلك ما لم تدل القرائن على عدم إرادة الطلاق، فيصدق الرجل في نفي الطلاق إن دلت القرينة على النفي في جميع الكنايات الظاهرة. والحاصل: أن لفظي (اعتدي وفارقتك) يقع بهما طلقة واحدة، وبقية ألفاظ الكناية الظاهرة المذكورة يقع بها الثلاث.(9/374)
11 - الطلاق المقيد بالاستثناء:
ذهب علماء المذاهب الأربعة (1) : إلى أنه إذا استثنى المطلِّق بلسانه صح، ولم يقع ما استثناه. فإذا قال الرجل لامرأته: (أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة) تطلق طلقتين. وإذا قال: (أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين) طُلِّقت واحدة.
وإذا قال: (أنت طالق البتة إلا ثنتين إلا واحدة) يلزمه اثنتان؛ لأن (البتة) ثلاث، والاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، فأخرج من (البتة) اثنتين، ثم أخرج منهما واحدة، تضم للواحدة الأولى، واشترط الفقهاء لصحة الاستثناء الاتصال في الكلام، أي اتصال لفظ المستثنى بالمستثنى منه عرفاً بحيث يعد كلاماً واحداً، ولا يضر فصل يسير كتنفس ونحوه كسعال وعطاس.
واشترطوا أيضاً عدم استغراق المستثنى منه، فلو قال: «أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً» لم يصح الاستثناء، وطلقت ثلاثاً بلا خلاف؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثُنيا، ومعناه أنه تكلم بالمستثنى منه.
واشترط الشافعية في الأصح والحنابلة، أن ينوي الاستثناء قبل فراغ اليمين أي قبل تمام المستثنى منه؛ لأن اليمين إنما تعتبر بتمامها. واشترطوا أيضاً في التلفظ بالاستثناء إسماع نفسه عند اعتدال سمعه، فلا يكفي أن ينويه بقلبه من غير أن يسمع نفسه.
وبناء عليه يكون للاستثناء أحوال ثلاثة:
أـ استثناء القليل من الكثير: يصح بالاتفاق، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، وتقع ثنتان، ومن قال: أنت طالق أربعاً إلا اثنتين، لزمه اثنتان.
ب ـ استثناء العدد بعينه: مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، أو أنت طالق اثنتين إلا اثنتين، طلقت ثلاثاً في الأول، واثنتين في الثاني، وكذا لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا طلقة وطلقة وطلقة، يقع ثلاثاً؛ لأنه استثناء الكل من الكل.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين وواحدة، وقعت واحدة، ويلغو ما حصل به الاستغراق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث.
جـ ـ استثناء الأكثر من الأقل: مثل أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، صح الاستثناء عند الجمهور وتقع طلقة واحدة. وقال أحمد في الأصح: الاستثناء لا يصح؛ لأن الاثنتين أكثر الثلاث.
ويصح الاستثناء من الاستثناء مثل: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، ويقع به طلقتان؛ لأن الاستثناء في الأصح ينصرف إلى الملفوظ به؛ لأنه لفظ فيتبع به موجب اللفظ.
__________
(1) الأحوال الشخصية للأستاذ زكي الدين شعبان: ص 378.(9/375)
المبحث الثالث ـ قيود إيقاع الطلاق شرعاً:
قيد الشرع الطلاق بقيود شرعية منعاً للشطط والتسرع، وحفظاً على الرابطة الزوجية؛ لأن هذا الرباط مقدس، يختلف عن كل العقود الأخرى، ولأن الطلاق يؤثر تأثيراً بالغاً في حياة المرأة، فإن جوهر ما تملكه أصبح هدراً، وربما عاشت أيِّما لا تتزوج أبداً، وفي التأيم غالباً مفاسد كثيرة أو تعريض للفساد والشر والمعصية.
فإن توافرت هذه القيود كان الطلاق موافقاً للشرع لا إثم فيه، وإن فقد واحد منها، كان إيقاعه موجباً للإثم والسخط الإلهي.
والقيود ثلاثة (1) :
1ً - أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة.
2ً - أن يكون في طهر لم يجامعها فيه.
3ً - أن يكون مفرّقاً ليس بأكثر من واحدة.
وأبحث هذه القيود وأثر مخالفتها عند فقهائنا:
أولاً ـ أن يكون الطلاق لحاجة مقبولة شرعاً وعرفاً:
يرى الحنفية في أصل المذهب (2) كما تبين سابقاً: أن الأصل في الطلاق هو الإباحة، لإطلاق الآيات القرآنية الواردة فيه، مثل قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236/2] وقوله: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم طلق حفصة، وفعله الصحابة، ولو كان الطلاق محظوراً لما أقدموا عليه.
__________
(1) فتح القدير: 147/3، اللباب: 53/3، بداية المجتهد: 80/2، الشرح الصغير: 576/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 300/3 ومابعدها، المهذب: 86/2 ومابعدها، كشاف القناع: 305/5-309، المغني: 160/7-164.
(2) الدر المختار: 571/2 وما بعدها، فتح القدير: 21/3-22.(9/376)
ونوقشت هذه الأدلة، أما الآية الأولى فهي لبيان إباحة الطلاق قبل الدخول وقبل تسمية المهر، وأما الآية الثانية فبيان وقت الطلاق المفضل شرعاً وهو وقت ابتداء أو استقبال العدة. وأما طلاق حفصة وطلاق بعض الصحابة، فلم يثبت أنه كان لغير حاجة أو سبب يدعو إليه. والظاهر هو أنه لحاجة؛ لأن الطلاق لغير حاجة كفر بنعمة الزواج، وإيذاء محض بالزوجة وأهلها وأولادها.
ويرى الجمهور غير الحنفية منهم الكمال بن الهمام وابن عابدين (1) : أن الأصل في الطلاق هو الحظر والمنع وخلاف الأولى، والأولى أن يكون لحاجة كسوء سلوك الزوجة أوإيذائها أحداً، لما فيه من قطع الألفة، وهدم سنة الاجتماع، والتعريض للفساد، ولقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء:34/4] وللحديث السابق: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» (2) ففيه دليل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها محرم عليها تحريماً شديداً؛ لأن من لم يرح رائحة الجنة غير داخل إليها أبداً، وكفى بذنب يبلغ بصاحبه إلى ذلك المبلغ مشيراً إلى خطورته وشدته، كما قال الشوكاني (3) .
وهذا هو الراجح لاتفاقه مع مقاصد الشريعة، ولمخاطر الطلاق المتعددة، قال ابن عابدين: الأصل في الطلاق الحظر، بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه، والإباحة للحاجة إلى الخلاص، فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقاً، وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإىذاء بها وبأهلها وأولاده.
__________
(1) الدسوقي: 361/2، المهذب: 78/2، كشاف القناع: 261/5، المغني: 97/7 وما بعدها.
(2) وفي حديث آخر رواه الطبراني عن أبي موسى: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لايحب الذواقين ولا الذواقات» لكنه ضعيف.
(3) نيل الأوطار: 221/6.(9/377)
وإذا وجدت الحاجة المبيحة وهي أعم من الكبَر والريبة، أبيح الطلاق، وعليها يحمل ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم ومن أصحابه وغيرهم من الأئمة، صوناً لهم من العبث والإيذاء بلا سبب.
أثر مخالفة هذا القيد: إذا حدث الطلاق من غير حاجة أو سبب يدعو إليه، فإنه يقع بالاتفاق، ولكن المطلِّق يأثم؛ لأن الحاجة قد تكون تقديرية، أو نفسية خفية لا تخضع للإثبات الظاهر في القضاء، وقد تكون مما يجب ستره، حفظاً لسمعة المرأة ومنعاً من التشهير بها. لهذا كان الأصح ألا يحكم على الرجل بتعويض مادي للمطلقة، بسبب كون الطلاق تعسفاً، ويكتفى بما يقرره الشرع بدفع مؤخر الصداق، ونفقة العدة، والمتعة التي هي تعويض عن الضرر الناجم عن الطلاق.
ثانياً ـ أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه:
هذا القيد متفق عليه بين الفقهاء (1) ، فإذا أوقع الزوج الطلاق في حال الحيض أو النفاس، أو في طهر جامعها فيه، كان الطلاق عند الجمهور حراماَ شرعاً وعند الحنفية مكروهاً تحريمياً، وهو المسمى طلاقاً بدعياً، واقتصر المالكية على القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره في غيرهما. ودليل هذا القيد: أن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «مُرْه،
__________
(1) فتح القدير: 28/3-34، الشرح الصغير: 537/2، مغني المحتاج: 307/3 ومابعدها، المغني: 98/7-103.(9/378)
فليراجعها أو ليطلّقْها طاهراً أو حاملاً» (1) . وفي رواية عنه: «أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم، فتغيَّظ فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعْها، ثم يمسكْها حتى تطهُر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها، فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله تعالى» . وفي لفظ: «فتلك العدة التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساء» فهو يدل على أن الطلاق جائز حال الطهر الذي لم يجامع فيه.
وهذا متفق مع الآية القرآنية: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] أي مستقبلات عدتهن.
والسبب هو عدم إطالة العدة على المرأة، ففي الطلاق في أثناء الحيض أو في طهر جامعها فيه ضرر بالمرأة بتطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب من العدة، وزمان الحيض زمان النفرة، وبالجماع مرة في الطهر تفتر الرغبة.
وبه يتبين أن الطلاق البدعي يكون للمرأة التي دخل بها زوجها، وكانت ممن تحيض، أما التي لم يدخل بها الزوج أو كانت حاملاً أو لا تحيض، فلا يكون طلاقها بدعياً قبيحاً شرعاً، قال ابن عباس: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فأما اللذان هما حلال: فأن يطلق الرجل امرأته طاهراً من غير جماع، أو يطلقها حاملاً مستبيناً حملها، وأما اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضاً أو يطلقها عند الجماع، لا يدري، اشتمل الرحم على ولد أم لا (2) .
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عمر (نيل الأوطار: 221/6) .
(2) رواه الدارقطني (المرجع السابق: ص 222) .(9/379)
أثر مخالفة هذا القيد: يقع الطلاق باتفاق المذاهب الأربعة في حال الحيض أو في حال الطهر الذي جامع الرجل امرأته فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بمراجعة امرأته التي طلقها، وهي حائض، والمراجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، ويؤيده رواية: «وكان عبد الله طلَّق تطليقة، فحسبت من طلاقها» .
وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن تيمية وابن القيم (1) : يحرم الطلاق في أثناء الحيض أو النفاس أو في طهر وطئ الرجل زوجته فيه، ولا ينفذ هذا الطلاق البدعي، بدليل ما يأتي:
1ً - ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ: «طلق عبد الله ابن عمر امرأته وهي حائض، قال عبد الله: فردها علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يرها شيئاً» . وهذا الحديث صحيح كما صرح به ابن القيم وغيره.
ونوقش بأنه قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبي الزبير لسائر الحفاظ، وقال ابن عبد البر: قوله «ولم يرها شيئاً» : منكر لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه، ولو صح فمعناه عندي ـ والله أعلم ـ ولم يرها شيئاً مستقيماً، لكونها لم تكن على السنة.
وقال الخطابي: وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة.
2ً - حديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) والطلاق في حال الحيض مخالف لأمر الشارع، فيكون مردوداً لا أثر له. ونوقش بأن المردود هو بسبب مخالفة ركن أو شرط من أركان أو شروط العمل. وأما المخالفة بسبب تطويل العدة أو عدم وجود الحاجة إلى الطلاق، فليس أحدهما ركناً أو شرطاً للطلاق، فلا تستوجب الرد وعدم وقوع الطلاق.
3ً - هذا الطلاق منهي عنه شرعاً غير مأذون فيه، فلا يكون مملوكاً للزوج كالوكيل بالطلاق إذا خالف أمر الموكل، فإن طلاقه لا يقع، والمنهي عنه لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضي الفساد، والفاسد لا يثبت حكمه.
__________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 221، نيل الأوطار: 226/6، المحلى: 197/10، مسألة 1949، 1953.
(2) رواه مسلم وأحمد عن عائشة، وهو صحيح شامل لكل مسألة مخالفة لما عليه أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم.(9/380)
وأجيب بأن النهي عن الطلاق في الحيض ونحوه ليس راجعاً إلى نفس الطلاق، ولا إلى صفة من صفاته، وإنما هو راجع إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو عدم الحاجة إلى الطلاق، أو ما يترتب عليه من إيذاء الزوجة بإطالة العدة، والنهي لأمر خارج عن المنهي عنه لا يدل على فساده إذا وقع، كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة. والقياس على الوكيل قياس مع الفارق؛ لأن الوكيل في الطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل، فلا يملك غير ما فوض إليه، أما الزوج فلا يوقع الطلاق نيابة عن غيره ولا عن الله عز وجل، وإنما يوقعه عن نفسه.
4ً - هناك مرجحات لهذا الرأي بعدم الوقوع من القرآن، منها قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه، لم يطلق لتلك العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
ومنها قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] ولم يرد إلا المأذون، فدل على أن ما عداه ليس بطلاق، لما في هذا التركيب من الصيغة الصالحة للحصر أي تعريف المسند إليه باللام الجنسية.
ومنها قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/2] ولا أقبح من التسريح الذي حرمه الله.(9/381)
وأقول: إن هذه إرشادات لما هو الأفضل، وليس فيها دلالة على عدم وقوع الطلاق، بل المقرر في السنة وقوع الطلاق، مع مخالفة هذه الإرشادات. وفي تقديري أن رأي الجمهور أرجح، لضعف أدلة الفريق الثاني، وقد اتفق الجمهور على أن الزوج يؤمر بمراجعة الزوجة إن طلق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، وهذه المراجعة واجبة عند المالكية، وفي الأصح عند الحنفية، وإذا امتنع الزوج عن المراجعة أجبره الحاكم في رأي المالكية عليها بالحبس أو بالضرب حتى يراجع، فإن لم يراجعها ارتجعها الحاكم عليه. ولا يقول الحنفية بصحة الرجعة من الحاكم، وإنما للحاكم معاقبة الزوج إن لم يرتجع بما يراه زاجراً؛ لأن كل معصية لا حد ولا كفارة فيها، فالواجب فيها التعزير. وتستحب المراجعة عند الشافعية والحنابلة، ولا تجب؛ لأن الزوج بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق، ولأنه طلاق لا يرتفع بالرجعة، فلم تجب عليه الرجعة فيه.
ثالثاً ـ أن يكون الطلاق مفرقاً ليس بأكثر من واحدة:
اتفق الفقهاء (1) على أن الطلاق السني المشروع هو الواقع بالترتيب مفرقاً، الواحد بعد الآخر، لا بإيقاع الثلاث دفعة واحدة، لظاهر قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] أي أن الطلاق المباح ما كان مرة بعد مرة، فإذا جمع الرجل الطلقات الثلاث بكلمة واحدة، أو بألفاظ متفرقة في طهر واحد، يكون بدعياً محظوراً في قول الحنفية والمالكية وابن تيمية وابن القيم. ولا يحرم ولا يكره عند الشافعية والحنابلة في الراجح من الروايات، وكذا عند أبي ثور وداود الظاهري، وإنما يكون تاركاً للاختيار والفضيلة.
__________
(1) فتح القدير: 35/3، بداية المجتهد: 60/2 ومابعدها، المهذب: 78/2، مغني المحتاج: 311/3 ومابعدها، المغني: 104/7.(9/382)
ويؤيد الرأي الأول ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان، ثم قال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل، فقال: يا رسول الله، ألا أقتله» (1) ويؤكده ما سبق معرفته عند جمهور الفقهاء أن الأصل في الطلاق الحظر، ولكنه أبيح للحاجة الاستثنائية لتنافر الطباع وتباين الأخلاق أو لغيرها من الأسباب، وتتحقق الحاجة بالطلقة الواحدة، ويتمكن بعدها من مراجعة زوجته عند الندم، وهو الغالب.
أثر مخالفة هذا القيد:
إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في طهر واحد، يكون آثماً مستحقاً لعقوبة يراها القاضي، لكن الطلاق يقع ثلاثاً في المذاهب الأربعة.
أقوال الفقهاء في الطلاق الثلاث بلفظ واحد:
للفقهاء آراء ثلاثة في جمع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وهي (2) :
الأول ـ قول الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة والظاهرية: يقع به ثلاث طلقات، وهو منقول عن أكثر الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون غير أبي بكر، والعبادلة الأربعة (ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وابن مسعود) وأبو هريرة وغيرهم، ومنقول عن أكثر التابعين، لكن لا يسن أن يطلق الرجل أكثر من واحدة عند الحنفية والمالكية كما تقدم؛ لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تنقضي عدتها.
الثاني ـ قول الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء.
__________
(1) قال ابن كثير: إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواته موثوقون (نيل الأوطار: 227/6) .
(2) المراجع السابقة، المختصر النافع: ص 222، المحلى: 204/10، مسألة 1949. أعلام الموقعين: 41/3-52.(9/383)
الثالث ـ قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن إسحاق وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
وأخذ القانون في مصر وسورية بهذ الرأي، نص القانون السوري على ما يلي:
(م 91) - يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات.
(م 92) - الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً.
وقد عدلت لجنة الإفتاء بالرياض عن هذا القول واختارت بالأكثرية القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً (1) .
أدلة هذه الأقوال:
أما أدلة الإمامية القائلين بأنه لا يقع شيء: فهي الأدلة نفسها التي استدلوا بها على عدم وقوع الطلاق في الحيض، لأن كلاً منهما غير مشروع.
وكذلك قوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:231/2] يدل على أن شرط وقوع الطلقة الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك. وإذا لم يصح الإمساك إلا بعد المراجعة، لم تصح الثالثة إلا بعدها لما ذكر، وإذا لزم في الثالثة لزم في الثانية.
وأما أدلة الزيدية وابن تيمية وابن القيم القائلين بوقوع طلاق واحد، فهي ما يأتي:
1ً - آية {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] إلى قوله تعالى في الطلقة الثالثة: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] أي أن المشروع تفريق الطلاق مرة بعد مرة، لأنه تعالى قال: {مرتان} [البقرة:229/2] ولم يقل «طلقتان» .
وليس مشروعاً كون الطلاق كله دفعة واحدة، فإذا جمع الطلاق الثلاث في لفظ واحد، لا يقع إلا واحدة، والمطلّق بلفظ الثلاث مطلق بواحدة، لا مطلق ثلاث.
ويرد عليه بأن الآية ترشد إلى الطلاق المشرو ع أو المباح، وليس فيها دلالة على وقوع الطلاق وعدم وقوعه إذا لم يكن مفرقاً، فيكون المرجع إلى السنة، والسنة بينت أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثاً.
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية ـ المجلد الأول ـ العدد الثالث، عام 1397 هـ، ص 165 وما بعدها.(9/384)
ومما جاء في السنة في قصة ابن عمر الذي طلق امرأته في أثناء الحيض: أنه قال: «يا رسول الله، أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك، وتكون معصية» (1) .
2ً - حديث ابن عباس قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاقُ الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليه، فأمضاه عليهم» (2) فهو واضح الدلالة على جعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة، وعلى أنه لم ينسخ لاستمرار العمل به في عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، ولأن عمر أمضاه من باب المصلحة والسياسة الشرعية.
وأجيب عنه بأنه محمول على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول: (أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق) فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، فكان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار، لم يظهر فيهم خب ولا خداع، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد، فلما رأى عمر في زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيرت، وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل، ألزمهم الثلاث في صورة التكرير، إذ صار الغالب عليهم قصدها، وقد أشار إليه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» .
ثم إن هذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فإن كل واحد يعامل فيها بنيته. ومخالفة عمر لما مضى لا شيء فيها؛ لأنها ترجع إلى تغير الحكم بسبب تغير العرف وحال الناس. والحق أن في هذا الحديث نظراً.
__________
(1) رواه الدارقطني عن الحسن عن ابن عمر، لكن في إسناده ضعيف (نيل الأوطار: 227/6-228) .
(2) رواه أحمد ومسلم عن طاوس عن ابن عباس (نيل الأوطار: 230/6) .(9/385)
3ً - حديث ابن عباس عن رُكانة: «أنه طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله النبي صلّى الله عليه وسلم، كيف طلقتها؟ فقال: ثلاثاً في مجلس واحد، فقال له صلّى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها» (1) .
وأجيب عنه بأجوبة:
منها ـ أن في إسناده محمد بن إسحاق، ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام مثل هذا الإسناد.
ومنها ـ معارضته لفتوى ابن عباس، فإنه كان يفتي من سأله عن حكم الطلاق بلفظ الثلاث بأنه يقع ثلاثاً. ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه.
ومنها ـ أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتة، كما تقدم لدينا. ويمكن أن يكون من روى «ثلاثاً» حمل «البتة» على معنى الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر، والحديث نص في محل النزاع.
أدلة الجمهور القائلين بوقوع ثلاث طلقات:
استدل فقهاء المذاهب الأربعة وموافقوهم على وقوع ثلاث طلقات بما يأتي من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والقياس:
1ً - الكتاب: منه قوله تعالى: {الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] فهو يدل على وقوع الثلاث معاً مع كونه منهياً عنه؛ لأن قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] تنبيه إلى الحكمة من التفريق، ليتمكن من المراجعة، فإذا خالف الرجل الحكمة، وطلق اثنتين معاً، صح وقوعهما إذ لا تفريق بينهما، ثم إن قوله تعالى: {فلا تحل له من بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] يدل على تحريمها عليه بالثالثة بعد الاثنتين، ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه (نيل الأوطار: 232/6) .(9/386)
ومنه {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] إلى قوله تعالى: {وتلك حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/65] والطلاق المشروع ما يعقبه عدة، وهو منتف في إيقاع الثلاث في العدة، وفيها دلالة على وقوع الطلاق لغير العدة، إذ لو لم يقع لم يكن ظالماً لنفسه بإيقاعه لغير العدة، ومن لم يطلق للعدة بأن طلق ثلاثاً مثلاً، فقد ظلم نفسه. ومنه آية {وللمطلقات متاع بالمعروف} [البقرة:241/2] وغيرها من آيات الطلاق. تدل ظواهر هذه الآيات على ألا فرق بين إيقاع الطلقة الواحدة والثنتين والثلاث.
وأجيب: بأن هذه عمومات مخصصة، وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع ما فوق الطلقة الواحدة.
2ً - السنة: منها حديث سهل بن سعد في الصحيحين في قصة لعان عويمر العجلاني، وفيه: «فلما فرغا قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ولم ينقل إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم. وأجيب: إنما لم ينكره عليه؛ لأنه لم يصادف محلاً مملوكاً له ولا نفوذاً.
ومنها ـ حديث محمود بن لبيد عند النسائي السابق، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم غضب من إيقاع الثلاث دفعة في غير اللعان، وقال: «أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟» هذا يدل على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يكون ثلاثاً، ويلزم المطلّق بها، وإن كان عاصياً في إيقاع الطلاق بدليل غضب النبي عليه الصلاة والسلام.
وأجيب بأنه حديث مرسل؛ لأن محمود بن لبيد لم يثبت له سماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كانت ولادته في عهده عليه السلام. وهذا مردود؛ لأن مرسل الصحابي مقبول.(9/387)
ومنها ـ حديث ركانة بن عبد يزيد المتقدم أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: والله ما أردتُ إلا واحدة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والله ما أردتَ إلا واحدة؟» قال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة، فردها إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1) .
وهو من أصرح الأدلة وأوضحها على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لقول ركانة واستحلاف النبي له على أنه لم يرد بلفظ (البتة) إلا واحدة، فهو يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت.
ونوقش الحديث بأنه حديث ضعَّف الإمام أحمد جميع طرقه، كما ذكر المنذري، وكذلك ضعفه البخاري، وأن قصة ركانة أنه طلقها البتة لا ثلاثاً.
ومنها ـ ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث عبادة بن الصامت قال: «طلَّق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما اتقى الله جدك، أما ثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وتسعون، فعدوان وظلم، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له» وأجيب بأن راويه ضعيف، وبأن والد عبادة بن الصامت لم يدرك الإسلام، فكيف بجدِّه؟
3ً - الإجماع: أجمع السلف على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً. وممن حكى الإجماع على لزوم الثلاث في الطلاق بكلمة واحدة: أبو بكر الرازي والباجي وابن العربي وابن رجب.
وأجيب بأنه لم يثبت الإجماع، فقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه يجعل الثلاث واحدة، وبأن طاوساً وعطاء قالا: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، فهي واحدة» .
__________
(1) رواه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم.(9/388)
4ً -الآثار: نقل عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوقعوا الطلاق الثلاث ثلاثاً، منها ما روى أبو داود عن مجاهد، قال: «كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه ردها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، وإن الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق:2/65] ، وإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك» . ومنها ـ ما روى مالك في الموطأ أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود، فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات، فقال: ما قيل لك؟ فقال: قيل لي: بانت منك، قال: هو مثل ما يقولون.
ومنها ـ ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أن رجلاً جاء إلى عثمان بن عفان، فقال: إني طلقت امرأتي مئة، فقال: ثلاث تحرمها عليك، وسبع وتسعون عدوان» .
وروى أيضاً: «أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب فقال: إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: بانت منك بثلاث» .
وثبت مثله عن صحابة آخرين، وعن التابعين ومن بعدهم.
5ً - القياس: قال ابن قدامة (1) : إن النكاح ملك يصح إزالته متفرقاً، فصح مجتمعاً كسائر الأملاك. وناقشه ابن القيم بأن المُطلّق إذا جمع ما أمر بتفريقه، فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه.
وقال القرطبي (2) : وحجة الجمهور من جهة اللزوم ظاهرة جداً: وهو أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعاً. ونوقش بأن من قال: (أحلف بالله ثلاثاً) لا يعد حلفه إلا يميناً واحدة، فليكن المطلق مثله. ورد عليه باختلاف الصيغتين، فإن عدد الطلاق ثلاث، وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه، فافترقا.
والذي يظهر لي رجحان رأي الجمهور: وهو وقوع الطلاق ثلاثاً إذا طلق الرجل امرأته دفعة واحدة، لكن إذا رجح الحاكم رأياً ضعيفاً صار هو الحكم الأقوى، فإن صدر قانون، كما هو الشأن في بعض البلاد العربية بجعل هذا الطلاق واحدة، فلا مانع من اعتماده والإفتاء به، تيسيراً على الناس، وصوناً للرابطة الزوجية، وحماية لمصلحة الأولاد، خصوصاً ونحن في وقت قل فيه الورع والاحتياط، وتهاون الناس في التلفظ بهذه الصيغة من الطلاق، وهم يقصدون غالباً التهديد والزجر، ويعلمون أن في الفقه منفذاً للحل، ومراجعة الزوجة.
__________
(1) المغني: 105/7.
(2) فتح الباري: 365/9.(9/389)
المبحث الرابع ـ التوكيل في الطلاق وتفويضه:
يرتبط هذا البحث بنوعي الطلاق: الصريح والكناية؛ لأن تفويض الطلاق للزوجة أو غيرها إما أن يكون صريحاً وهو قول الرجل: طلقي نفسك، أو كناية وهو قوله: اختاري نفسك أو أمرك بيدك (1) .
والرجل كما يملك الطلاق بنفسه يملك إنابة غيره فيه، ويجوز تفويض الطلاق للزوجة بالإجماع؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم خيَّر نساءه بين المقام معه وبين مفارقته، لما نزل قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} [الأحزاب:28/33] فلو لم يكن لاختيارهن الفرقة أثر، لم يكن لتخييرهن معنى.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 653/2.(9/390)
النيابة في الطلاق في المذاهب:
لفقهاء المذاهب اصطلاحات في إنابة الزوج غيره في الطلاق وهي ما يأتي:
مذهب الحنفية (1) : إيقاع الطلاق من غير الزوج بإذنه: إما تفويض أو توكيل أو رسالة.
والتوكيل: إنابة الزوج عنه غير الزوجة بتطليق امرأته، كأن يقول له: وكلتك في طلاق زوجتي، فإذا قبل الوكيل الوكالة ثم قال لزوجة موكله: أنت طالق، وقع الطلاق.
والتفويض: جعل الأمر باليد أو تمليك الطلاق لزوجته بطلاق نفسها منه، أو تعليق الطلاق على مشيئة شخص أجنبي، كأن يقول له: طلق زوجتي إن شئت.
والرسالة: نقل كلام المرسل، كأن يقول الزوج لرجل: اذهب إلى فلانة، وقل لها: إن زوجك يقول لك: اختاري (2) . أو أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان، فيذهب الرسول إليها، ويبلغها الرسالة على وجهها، فيقع عليها الطلاق. فالرسول معبر وسفير وناقل كلام المرسل لا غير.
وألفاظ التفويض ثلاثة: أمر بيد، وتخيير، ومشيئة، وكل منها يفيد تمليك الطلاق من المرأة وتخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها.
والأمر باليد: أن يقول لها: أمرك بيدك، فيصير الأمر بيدها في الطلاق؛ لأنه جعل الأمر بيدها في الطلاق، وهو أهل لذاك، والمحل قابل للجعل. ويصير الأمر بيدها بشرطين:
أحدهما ـ نية الزوج الطلاق؛ لأنه من كنايات الطلاق، فلا يصح من غير نية الطلاق.
والثاني ـ علم المرأة بجعل الأمر بيدها، فلا يصير الأمر بيدها ما لم تسمع أو يبلغها الخبر؛ لأن معنى هذا التفويض ثبوت الخيار لها بين الطلاق أو الزوج.
والتخيير: أن يقول الزوج لامرأته: اختاري، وهو لا يختلف عن الأمر باليد إلا في شيئين:
أحدهما ـ أن الزوج إذا نوى الطلاق الثلاث في قوله (أمرك بيدك) يصح، وأما في قوله (اختاري) فلا يصح نية الثلاثة.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 653/2، البدائع: 113/3، 118، 121-122.
(2) هذا يمنح المرأة حق الاختيار بين الطلاق الرجعي وغيره، وهو يفيد التمليك، ويتم بإرادة المملك وحده.(9/391)
والثاني ـ أن في قوله (اختاري) لا بد من ذكر النفس إما في كلام الزوج أو في جواب المرأة، بأن يقول لها: اختاري نفسك، فتقول: اخترت، أو يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت نفسي. أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها: اختاري، فتقول: اخترت الطلاق. أو ذكر ما يدل على الطلاق: وهو تكرار التخيير من الزوج، بأن يقول لها: اختاري اختاري. أو ذكر (الاختيارة) في كلام الزوج أو في كلام المرأة، بأن يقول لها الزوج: اختاري اختيارة، فتقول المرأة: اخترت اختيارة.
والمشيئة: أن يقول الرجل: أنت طالق إن شئت، وهو مثل قول: اختاري؛ لأن كل واحد منهما تمليك الطلاق، إلا أن الطلاق ههنا رجعي، وهناك بائن؛ لأن المفوَّض ههنا صريح، وهناك كناية.
وأما قوله (طلقي نفسك) فهو تمليك عندهم، سواء قيده بالمشيئة أم لا، ويقتصر أثره على المجلس، كقوله: أنت طالق إن شئت.
وذهب المالكية (1) إلى أن التفويض (وهو إنابة الزوج غيره في الطلاق) يتنوع إلى ثلاثة أنواع: توكيل وتخيير وتمليك. والتوكيل: هو جعل الزوج حق إنشاء الطلاق لغيره: زوجة أو غيرها، مع بقاء الحق له في منع الوكيل من إيقاع الطلاق. فإذا وكل الرجل المرأة على طلاقها، فلها أن تفعل ما وكلها عليه من طلقة واحدة، أو أكثر، وله أن يعزلها ما لم تفعل الموكل فيه إلا لتعلق حقها بالوكالة كما سأبين قريباً. وهو بخلاف التمليك والتخيير، ليس له عزلها؛ لأن فيهما قد جعل لها ما كان يملكه ملكاً لها، أما التوكيل فإنه جعلها نائبة عنه في إيقاع الطلاق.
والتمليك: هو أن يملِّك الرجل المرأة أمر نفسها، كأن يقول لها: جعلت أمرك أو طلاقك بيدك، وليس له أن يعزلها عنه. ولها أن تفعل ما جعل بيدها من طلقة واحدة أو أكثر. ويظهر قبولها للتمليك بالقول أو بالفعل. أما القول: فهو أن توقع الطلاق بلفظها. وأما الفعل: فهو أن تفعل ما يدل على الفراق، مثل نقل أثاثها أو غيره.(9/392)
وكل من التمليك والتخيير لا يتقيد في المجلس الذي صدر فيه، وفي كل منها لا يملك الرجل الرجوع عما منح المرأة.
والتخيير: هو أن يخيرها بين البقاء معه أو الفراق، بأن يقول لها: اختاريني أو اختاري نفسك. فلها أن تفعل من الأمرين ما أحبت. فإن اختارت الفراق، كان طلاقها بالثلاث. وإن أرادت طلقة أو اثنتين لم يكن لها، إلا أن يخيرها في طلقة واحدة أو طلقتين معاً، فتوقعها، وليس له عزلها. ويصح التفويض بأنواعه الثلاثة لغير الزوجة بشرط كونه حاضراً في البلد أو قريب الغيبة كاليومين وإلا انتقل التفويض للزوجة على الراجح، وإن فوض الزوج لأكثر من واحد، لم تطلق إلا باجتماعهما أي الاثنين أو باجتماعهم إن زادوا على اثنين.
والفرق بين التمليك والتخيير: أن المرأة في التمليك يكون لها القضاء بما قضت إلا أن ينكر عليها الزوج، فيقول: لم أرد إلا طلقة واحدة، فيحلف على ذلك.
وأما في التخيير فلا يكون الطلاق إلا ثلاثاً في المدخول بها؛ لأنه خيَّرها بين البقاء معه في العصمة أو الخروج عنها، فإن اختارت أقل من ذلك لم يقع شيء.
أما غير المدخول بها فهي كالمملَّكة، لها أن تطلق نفسها بما دون الثلاث؛ لأنها تبين منه بذلك.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 233، الشرح الصغير: 593/2-603، المقدمات الممهدات: 587/1 ومابعدها.(9/393)
ورأى الشافعية (1) : أن تفويض الطلاق تمليك له في المذهب الجديد، فيشترط لوقوعه تطليقها نفسهاعلى الفور، وإذا ملكت المرأة نفسها، فلا رجعة عليها. والتفويض: إما صريح مثل طلقي نفسك، أو كناية مثل: أبيني نفسك، اختاري نفسك، ونوى، فقالت: طلقت، وقع الطلاق؛ لأنها فوضت الطلاق، وقد فعلته في الحالين.
ولو قال لها: طلقي نفسك ونوى ثلاثاً، فقالت: طلقت ونوتهن، وقد علمت نيته أو وقع العلم بنيته صدفة، فتقع الثلاث؛ لأن اللفظ يحتمل العدد، فإن لم ينوياه فتقع واحدة في الأصح؛ لأن صريح الطلاق كناية في العدد.
ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فوحدت أي طلقت نفسها واحدة، أو عكسه، كقوله: طلقي نفسك واحدة، فثلثت أي طلقت نفسها ثلاثاً، تقع واحدة.
وقال الحنابلة (2) : من صح طلاقه صح توكيله، فإن وكل الزوج المرأة في الطلاق، صح توكيلها، وطلاقها لنفسها؛ لأنه يصح توكيلها في طلاق غيرها، فكذا في طلاق نفسها. وللوكيل أن يطلق متى شاء، إلا أن يحد له الموكل حداً كاليوم أو نحوه، فلا يملك الطلاق في غيره. ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة؛ إلا أن يجعل الموكل إليه أن يطلق أكثر من واحدة بلفظة أو نية، فلو وكله في ثلاث، فطلق واحدة، وقعت. ولو وكله في طلقة واحدة، فطلق ثلاثاً، طلقت واحدة، عملاً بالمأذون فيه.
وإن خير الموكل الوكيل بأن قال له: طلق ما شئت من ثلاث، ملك اثنتين فأقل؛ لأن لفظه يقتضي ذلك؛ لأن (من) للتبعيض، وكذا لو خيَّر زوجته، فقال لها: اختاري من ثلاث ما شئت، لم يكن لها أن تختار أكثر من اثنتين.
وإن قال لامرأته: طلقي نفسك، فلها الطلاق كالوكيل. وإن قال لها: (أنت طالق إن شئت) ونحوها من أدوات الشرط، لم تطلق حتى تشاء، وتنطق بالمشيئة بلسانها، فتقول: قد شئت؛ لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان، فتعلق الحكم بما يتعلق به دون ما في القلب، فلو شاءت بقلبها دون نطقها، لم يقع طلاق.
وكذلك إن علق الطلاق بمشيئة غيرها، فمتى وجدت المشيئة باللسان، وقع الطلاق، سواء أكان على الفور أم على التراخي. وذلك خلافاً للشافعية الذين اشترطوا إعلان المشيئة في الحال؛ لأن هذا تمليك للطلاق، فكان على الفور كقوله (اختاري) ، كما تقدم. ورد الحنابلة بأن هذا تعليق للطلاق على شرط، فكان على التراخي كسائر التعليق، ولأنه إزالة ملك معلق على المشيئة، فكان على التراخي كالعتق. وهو بخلاف كلمة (اختاري) فإنه ليس بشرط، إنما هو تخيير، فتقيد بالمجلس كخيار المجلس.
__________
(1) مغني المحتاج: 285/3-287، المهذب: 80/2.
(2) كشاف القناع: 268/5 وما بعدها، 354 وما بعدها، المغني: 212/7.(9/394)
حكم الوكيل بالطلاق:
قرر الحنفية أن الوكيل بالطلاق مقيد بالعمل برأي الموكل، فإذا تجاوزه لم ينفذ تصرفه إلا بإجازة الموكل. وللوكيل أن يطلق متى شاء ما لم يقيده الموكل بزمن معين، وللموكل أن يعزل الوكيل متى شاء.
لكن الوكيل بالطلاق مجرد سفير ومعبر عن الموكل كالوكيل في الزواج، فلا يطالب بشيء من حقوق الطلاق، كدفع مؤخر المهر أو المتعة أو نفقة العدة، وإنما يطالب بها الزوج نفسه.
ويرى المالكية (1) : أن الموكل لا يملك عزل الوكيل بالطلاق إذا تعلق حق الزوجة بتلك الوكالة، كماإذا قال الرجل لزوجته: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك، فليس له عزلها عن الوكالة لتعلق حقها بالتوكيل؛ لأن رفع الضرر عنها قد تعلق بالتوكيل، فليس له عزلها عنه.
صفة حكم التفويض بالطلاق للزوجة أو غيرها:
يرى الحنفية (2) : أن التفويض لازم من جانب الزوج، فلا يملك الرجوع عنه ولا منع المرأة مما جعل إليها، ولا فسخه؛ لأنه ملَّكها الطلاق، ومن ملَّك غيره شيئاً، فقد زالت ولايته من الملك، فلا يملك إبطاله بالرجوع والمنع والفسخ، ولأن التفويض تعليق للطلاق من جانب الزوج على مشيئة الزوجة أو غيرها، والتعليق يمين، والأيمان بعد صدورها لا يمكن الرجوع فيها كما ذكرت سابقاً.
وأما التفويض من جانب المرأة: فهو غير لازم في حق المرأة، فتملك رده صراحة أو دلالة؛ لأن جعل الأمر بيدها تخيير لها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها، والتخيير ينافي اللزوم.
__________
(1) الشرح الصغير: 595/2.
(2) البدائع: 113/3-116، فتح القدير: 115/3.(9/395)
لكن ليس لها أن تختار إلا مرة واحدة؛ لأن قول الرجل لها: (أمرك بيدك) لا يقتضي التكرار إلا إذا قرن به ما يقتضي التكرار، بأن قال: أمرك بيدك كلما شئت، فيصير الأمر بيدها فيما ذكر وغيره، ولها أن تطلق نفسها في كل مجلس تطليقة واحدة، حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيقتضي تكرار التمليك عند تكرار المشيئة، إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها في كل مجلس إلا تطليقة واحدة؛ لأن تفويضه الطلاق لها يقتضي حصره في كل مجلس مرة.
زمن التفويض بالنسبة للمرأة:
أضاف الحنفية (1) : إما أن يكون التفويض مطلقاً عن التقييد بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو طلقي نفسك، أو يكون مقيداً بزمن معين، مثل: اختاري نفسك أو أمرك بيدك مدة شهر أو يكون مفيداً التكرار في جميع الأزمان، مثل طلقي نفسك متى شئت.
خيار المخيَّرة: أـ إن كان التفويض مطلقاً: فحق الطلاق مقيد في مجلس علم المرأة بالتفويض، فما دامت في مجلسها، فالأمر بيدها؛ لأن جعل الأمر بيدها تمليك الطلاق منها، وجواب التمليك مقيد بالمجلس، فإن تغير المجلس أو ظهر ما يدل على الإعراض عن مقتضى التفويض، سقط حقها. وقد اتفق الشافعية والحنابلة كما تقدم مع الحنفية في هذا؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا للمخيَّرة الخيار ما دامت في المجلس. ولا يتغير المجلس بالقيام أو القعود، والقعود في البيت والركوب في السفينة لا يغير حكم المجلس أثناء المشي، لكن السير على الدابة يغير حكم المجلس؛ لأن السفينة لا يستطيع الراكب إيقافها، أما الدابة فيستطيع إيقافها، فإن سارت بطل خيارها.
__________
(1) البدائع: 113/3-116، فتح القدير: 115/3.(9/396)
وذهب المالكية (1) : إلى أنه يثبت الخيار للزوجة أبداً إلى أن يعلم أنها أسقطته، بتمكين الزوج من نفسها، فإن لم تجب بشيء رفع الزوج الأمر إلى القاضي ليأمرها بإيقاع الطلاق أو إسقاط التمليك، فإن أبت أسقطه القاضي، ولا يمهلها وإن رضي الزوج بالإمهال لحق الله تعالى، لما فيه من البقاء على عصمة مشكوكة.
ب ـ وإن كان التفويض مقيداً بزمن معين كيوم أو شهر أو سنة: ثبت حق الطلاق للمفوض إليه في الوقت المخصص إلى نهايته؛ لأنه فوض الأمر إلى زوجته مثلاً في جميع الوقت المذكور، فيبقى ما بقي الوقت.
ولو اختارت نفسها في الوقت المحدد مرة، ليس لها أن تختار مرة أخرى؛ لأن اللفظ يقتضي التحديد بالوقت، ولا يقتضي التكرار.
وإن أضيف التفويض إلى وقت في المستقبل بأن قال: أمرك بيدك غداً، أو رأس شهر كذا، فلا يصير الأمر بيدها إلا بمجيء الوقت المخصص. وإن علَّق التفويض بشرط، بأن قال: إذا قدم فلان، فأمرك بيدك، فلا يصير الأمر بيدها إلا بقدومه، فإن قدم فالأمر بيدها إذا علمت في مجلسها الذي يقدم فيه فلان؛ لأن المعلق بشرط كالمنجز عند الشرط، فيصير قائلاً عند القدوم: أمرك بيدك، وتملك الطلاق في مجلس علمها بالقدوم. فلو لم تعلم بقدومه حتى مضى الوقت المخصص، ثم علمت، فلا خيار لها بهذا التفويض أبداً؛ لأنها مقيدة بمدة، وقد انتهت، فلا خيار لها بعد فوات زمنه.
جـ ـ وإن كان التفويض بما يقتضي التكرار، بأن قال لها: أمرك بيدك كلما شئت، أو طلقي نفسك متى شئت، فلها أن تطلق نفسها في أي وقت تشاء، سواء في مجلس التخيير أو بعده، لكنها في قوله: (إذا، ومتى) لا تملك أن تختار إلا مرة واحدة، فإذا طلقت نفسهامرة انتهى التفويض؛ لأن (إذا ومتى) لا تفيد التكرار. أما إن قال (كلما) فلها أن تطلق نفسها أكثر من مرة إلى ثلاث؛ لأن (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، فيتكرر التفويض عند تكرار المشيئة.
__________
(1) الشرح الصغير: 595/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 233.(9/397)
عدد الطلاق الواقع بألفاظ التفويض ونوعه:
ذهب الحنفية (1) : إلى أنه لا تملك المرأة إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة بقوله لها: طلقي نفسك، أو كلما شئت؛ لأنه فوض إليها الصريح حيث نص عليه، وكلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي هنا المشيئة، وإيقاع الثلاث دفعة واحدة لا تكرار فيه، فلا يقع بها شيء في قوله (كلما) عند أبي حنيفة، وتقع طلقة واحدة عند الصاحبين.
ولو قال الزوج للمرأة: أمرك بيدك، ونوى الثلاث، فطلقت نفسها ثلاثاً، كان ثلاثاً؛ لأنه جعل أمرها بيدها مطلقاً، فيحتمل الواحد ويحتمل الثلاث، فإن نوى الثلاث، فقد نوى ما يحتمله مطلق الأمر، فصحت نيته. وإن نوى اثنتين، فهي واحدة عند أئمة الحنفية ما عدا زفر.
وأما نوع الطلاق الواقع: فإن كان التفويض بصريح الطلاق، كان الطلاق رجعياً، فلو قال لها: طلقي نفسك، فقال: طلقت نفسي، وقع الطلاق رجعياً. وكذا لو قال: أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة، فاختارت نفسها، طلقت واحدة رجعية؛ لتفويضه إليها بالصريح، والمفيد للبينونة إذا قرن بالتصريح، صار رجعياً.
__________
(1) البدائع: 117/3-118، فتح القدير: 114/3 وما بعدها، اللباب: 51/3، الدر المختار: 660/2 وما بعدها.(9/398)
وإن كان التفويض بلفظة الاختيار أو الأمر باليد، كان الطلاق بائناً، فلو قال لها: اختاري أو أمرك بيدك، ناوياً الطلاق، ولم ينو الثلاث، فقالت: اخترت نفسي أو طلقت نفسي؛ وقع الطلاق بائناً، وكان طلاقاً واحداً؛ لأن المرأة لا يتم لها الاختيار أو الأمر باليد إلا بالطلاق البائن، فلا تصير مالكة نفسها إلا بالبائن، أما بالطلاق الرجعي فيتمكن الزوج من رجعتها بدون رضاها.
ويرى المالكية (1) كما تقدم أن الطلاق الواقع بالتفويض عند اختيار الزوجة أو تطليقها نفسها هو الطلاق الثلاث إذا كان التفويض بالتخيير. أما إذا كان التفويض بالتمليك فإن الواقع هو الطلاق الثلاث، ولكنه يحتمل الواحدة والاثنتين. والفرق أن حالة التخيير تقتضي ألا يكون للزوج سبيل على المرأة إذا اختارت نفسها، وهذا لا يتحقق إلا بوقوع الطلاق الثلاث. وأما في حالة التمليك فقد ملكها ما يملكه، فإذا أوقعت طلقة واحدة أو اثنتين أو الثلاث، كانت عاملة بمقتضى اللفظ.
ونظراً لهذا الفرق، قال المالكية: إذا كان التفويض تخييراً، فليس للزوج أن ينازع زوجته (أو يناكرها) إذا أوقعت الثلاث، وأما إذا كان التفويض تمليكاً، فللزوج أن ينازع زوجته، ويدعي أنه أراد واحدة، عندما تطلق نفسها ثلاثاً. ويكون القول قوله مع يمينه.
__________
(1) الشرح الصغير: 597/2.(9/399)
بدء التفويض:
يصح التفويض عند الحنفية مقارناً لإنشاء عقد الزواج أو بعده أثناء الزوجية، واشترطوا لصحة التفويض المقارن للعقد: أن يكون الإيجاب صادراً من الزوجة أو وكيلها، كأن تقول للرجل: تزوجتك على أن الطلاق بيدي، أو متى شئت أو كلما شئت، ويقبل الرجل التفويض.
فإن بدأ الرجل بالإيجاب، فقال للمرأة: تزوجتك على أن أمرك بيدك أو تطلقين نفسك متى شئت، وقبلت المرأة الإيجاب، يصح الزواج، ولا يصح التفويض؛ لأن الزوج في هذه الحالة قد ملّكها تطليق نفسها قبل أن يتم عقد الزواج، ولا يملك الزوج الطلاق قبل تمام الزواج، وليس للشخص أن يملك غيره شيئاً لايملكه هو.
وإذا صح التفويض بإيجاب المرأة وقبول الرجل، حين العقد، وكان مطلقاً عن التقييد بزمن معين، كأن تقول له: «تزوجتكَ على أن طلاقي بيدي» فيقول: قبلت، تقيد ملكها الطلاق بمجلس إنشاء العقد، فإذا انتهى مجلس العقد، لم يكن لها الحق في طلاق نفسها بعدئذ.
حق الزوج في الطلاق مع التفويض:
التفويض بالرغم من أنه تمليك عند الحنفية، فهو يشبه التوكيل، فيبقى للزوج حق إيقاع الطلاق، بعد أن يفوض الطلاق إلى زوجته، كما يحق للموكل التصرف في الأمر الموكل فيه بعد التوكيل. الفرق بين التوكيل والتفويض:
التوكيل والتفويض وإن كان كل منهما عند الحنفية لا يسلب الزوج حقه في إيقاع الطلاق، إلا أنهم يفرقون بينهما من وجوه (1) :
1 - إن التفويض بعد صدوره لا يملك الزوج الرجوع عنه، أما التوكيل فيملك الموكل الرجوع عنه، ما دام الوكيل لم ينفذ ما وكل به.
2 - يعمل المفوض إليه في التفويض العمل باختياره وبمشيئة نفسه؛ لأن الزوج ملكه هذا الحق، أما في التوكيل فيعمل الوكيل بمشيئة غيره وعلى وفق هذه المشيئة؛ لأن الوكيل يعد ممثلاً الموكل ونائباً عنه، لا مالكاً الحق الموكل فيه.
3 - يتقيد التفويض المطلق بالمجلس، أما التوكيل فللوكيل بالطلاق أن يطلق في مجلس التوكيل وما بعده إذا كانت الوكالة مطلقة.
4 - لا يبطل التفويض بجنون الزوج؛ لأنه في معنى التعليق. أما التوكيل فيبطل بجنون الزوج؛ لأن الجنون يخرجه عن الأهلية، وخروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية يبطل الوكالة.(9/400)
المبحث الخامس ـ أنواع الطلاق وحكم كل نوع:
ينقسم الطلاق عدة تقسيمات باعتبارات متنوعة:
فهو من حيث الصيغة ينقسم إلى صريح وكناية، وقد بينت ذلك.
ومن حيث الرجعة وعدمها ينقسم كل من الصريح والكناية إلى رجعي وبائن.
ومن حيث الموافقة للسنة ومخالفتها ينقسم إلى سني وبدعي.
ومن حيث الزمن المرتبط به ينقسم إلى منجز أو معجل، ومعلق، ومضاف إلى المستقبل. ويلحق بهذا المطلب حكم طلاق المريض مرض الموت.
تقسيم الطلاق من حيث السنة والبدعة:
ينقسم الطلاق من حيث موافقته السنة ومعارضتها، أي البدعة: إلى سني وبدعي، والسنة: ما أذن الشارع فيه، والبدعة: ما نهى الشرع عنه. وأصل البدعة: الحدث في الشيء بعد الإكمال.
والأصل في التقسيم قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] قال ابن مسعود وابن عباس: طاهرات من غير جماع.
وحديث ابن عمر المتقدم لما طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمسّ» .
وللفقهاء ـ مع اتفاقهم على التقسيم ـ آراء في تحديد الطلاق السني والبدعي، ونوع الحكم في البدعي.
فذهب الحنفية (2) إلى أن التقسيم ثلاثي، أي أن الطلاق ثلاثة أنواع: أحسن الطلاق، والطلاق الحسن، والطلاق البدعي.
أحسن الطلاق: أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة، في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون ألا يزيد الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة، فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثاً عند كل طهر واحدة، ولأنه أبعد من الندامة، لتمكنه من التدارك، وأقل ضرراً بالمرأة.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 100/3، رد المحتار: 653/2.
(2) البدائع: 91/3-96، الكتاب: 37/3-40، فتح القدير: 22/3-37، الدر المختار: 574/2-578.(9/401)
والطلاق الحسن: هو طلاق السنة: وهوأن يطلق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، في كل طهر تطليقة، يستقبل الطهر استقبالاً، عملاً بأمره صلّى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدم.
وطلاق البدعة: أن يطلقها ثلاثاً أواثنتين بكلمة واحدة، أو يطلقها ثلاثاً في طهر واحد؛ لأن الأصل في الطلاق الحظر، لما فيه من قطع الزواج الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية، والإباحة إنما هي للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع في الثلاث، أو في طهر واحد؛ لأن الحاجة تندفع بالواحدة، وتمام الخلاص في المفرق على الأطهار، والزيادة إسراف، فكان بدعة. فإذا فعل ذلك وقع الطلاق، وبانت المرأة منه، وكان آثماً عاصياً، والطلاق مكروه تحريماً؛ لأن الحظر أو النهي لمعنى في غير الطلاق وهو فوات مصالح الدين والدنيا، مثل البيع وقت النداء لصلاة الجمعة صحيح مكروه لمعنى في غيره، والصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة مكروهة لمعنى في غيرها، وكذا إيقاع أكثر من طلقة، إذ لا حاجة إليه. لذا تجب رجعة المطلقة في الحيض أو النفاس، على الأصح رفعاً للمعصية وللأمر السابق: «مره فليراجعها» فإذا طهرت طلقها إن شاء، أوأمسكها.
وطلاق السنة: إما من ناحية الوقت أو من ناحية العدد. فالسنة في العدد يستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها. والسنة في الوقت: تثبت في المدخول بهاخاصة، وهو: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه. وأما غير المدخول بها، فيطلقها في حال الطهر أو الحيض، على حد سواء.
وإذا كانت المرأة لا تحيض من صغر أو كبر، فأراد أن يطلقها طلاق السنة، طلقهاواحدة، فإذا مضى شهر طلقها أخرى، فإذا مضى شهر طلقها طلقة أخرى، فتصير ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ لأن الشهر في حقها قائم مقام الحيض. ويحسب الشهر بالأهلة إن كان الطلاق في أول الشهر، وبالأيام إن كان في وسط الشهر، كما هو المقرر في العدة.
ويجوز طلاق الحامل عقيب الجماع؛ لأنه لا يؤدي إلى اشتباه وجه العدة؛ لأن عدتها تنتهي حتماً بوضع الحمل. وطلاق السنة الثلاث للحامل كالتي لا تحيض، يكون في ثلاثة أشهر، يفصل بين كل تطليقتين بشهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإباحة لعلة الحاجة، والشهر دليل الحاجة كالمقرر في حق الآيسة والصغيرة.(9/402)
ألفاظ طلاق السنة والبدعة: إن من ألفاظ طلاق السنة التي هي نص فيه القول: أنت طالق للسنة، فلو قال رجل لامرأته المدخول بها التي تحيض: أنت طالق ثلاثاً أو ثنتين للسنة، وقع عند كل طهر طلقة، وتقع أولاها في طهر لا جماع فيه. أما لو كانت المرأة غير مدخول بها أو لا تحيض، فتقع طلقة واحدة في الحال، ثم إن غير المدخول بها تبين منه بلا عدة؛ لأنه طلاق قبل الدخول، ولا تقع طلقةغيرها ما لم يتزوجها، وأما التي لا تحيض فتقع طلقة أخرى عند مضي شهر.
وإن نوى أن تقع الثلاث في الحال، أو عند رأس كل شهر واحدة، صحت نيته؛ لأن ذلك يحتمله كلامه.
ومن ألفاظ طلاق البدعة: أن يقول الرجل: أنت طالق للبدعة أو طلاق الجور أو طلاق المعصية أو طلاق الشيطان، فإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث؛ لأن إيقاع الثلاث في طهر واحد لا جماع فيه بدعة، وإيقاع الطلقة الواحدة في طهر جامعها فيه بدعة، والطلاق في حال الحيض بدعة، فإذا نوى به الثلاث، فقد نوى ما يحتمله كلامه، فصحت نيته.
وذهب المالكية (1) : إلى أن الطلاق السني ما توافرت فيه أربعة شروط: وهي أن تكون المرأة طاهراً من الحيض والنفاس حين الطلاق، وأن يكون زوجها لم يمسها في ذلك الطهر، وأن تكون الطلقة واحدة، وألا يُتبعها الزوج طلاقاً آخر حتى تنقضي عدتها، فإن أتبعها كان بدعة؛ لأن الأصل في الطلاق هو الحظر.
والشرطان الأولان متفق عليهما، والثالث يخالف فيه الشافعية فيباح عندهم جمع الطلقات الثلاث، والرابع يخالف فيه الحنفية فيما يترتب عليه، فإنهم قالوا: يجوز تطليق المدخول بها ثلاثاً في ثلاثة أطهار، كما تقدم.(9/403)
والطلاق البدعي: ما نقص منه أحد هذه الشروط أو كلها. والطلاق البدعي إما حرام وإما مكروه، فيحرم الطلاق في الحيض أو النفاس، ويكره وقوعه بغير حيض ونفاس، لو أوقع ثلاثاً أو في طهرجامعها فيه. ويقع الطلاق في الحيض ونحوه، ويمنع وإن طلبته المرأة من زوجها في حيضها أو نفاسها.
ومن طلق زوجته وهي حائض أجبر على أن يراجعها إن كان الطلاق رجعياً، حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر منها، فإذا دخلت في الطهر الثاني، فإن شاء أمسكها، وإن شاء طلقها. فإن أبى الرجعة هدد بالسجن، فإن أبى سجن فعلاً، فإن أبى هدد بالضرب، فإن أبى ضرب بالفعل، يفعل ذلك كله في مجلس واحد. فإن أبى الارتجاع، ارتجع الحاكم، بأن يقول: ارتجعتها لك.
ولا يجبراتفاقاً على الرجعة فيما إذا طلق في طهر مسها فيه أو بعد الحيض قبل الاغتسال منه. والمرأة مصدقة في دعوى الحيض للتمكين من الرجعة.
وجاز طلاق الحامل في الحيض أي إن حاضت؛ لأن عدتها وضع حملها، فلا تطويل فيها.
وجاز طلاق غيرالمدخول بها في الحيض، لعدم العدة من أصلها.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 225، الشرح الصغير: 537/2-541.(9/404)
ورأى الشافعية (1) : أن الطلاق سني وبدعي، ولا سني ولا بدعي. أما القسم الثالث: فهو طلاق الصغيرة، والآيسة، والمختلعة، والتي استبان حملها من الزوج، وغير المدخول بها. فهذا لا سنة فيه ولا بدعة؛ لأنه لا يوجد تطويل العدة.
وأما الطلاق السني: فهوالمستحب شرعاً، وهو أن يطلق الرجل امرأته طلقة واحدة، وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة، ليخرج من الخلاف، وإن جمع الطلقات الثلاث في طهر واحد جاز ولا يحرم، لأن عويمراً العجلاني، لما لاعن امرأته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، طلقها ثلاثاً قبل أن يخبره صلّى الله عليه وسلم أنها تبين باللعان (2) ، فلو كان إيقاع الثلاث حراماً، لنهاه عن ذلك ليعلمه هو ومن حضره؛ ولأن فاطمة بنت قيس شكت للنبي صلّى الله عليه وسلم أن زوجها طلقها البتة، قال الشافعي رضي الله عنه: يعني والله أعلم: ثلاثاً، ولم نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وقد فعله جمع من الصحابة، وأفتى به آخرون.
لكن يسن الاقتصار على طلقة في القُرْء لذات الأقراء، وفي ظهر لذات الأشهر ليتمكن من الرجعة أو التجديد إن ندم، فإن لم يقتصر على طلقة، فليفرق الطلقات على الأيام، ويفرق الطلاق على الحامل بطلقة في الحال ويراجع، وأخرى بعد النفاس، والثالثة بعد الطهر من الحيض.
ولو قال الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثاً أو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وفسر الثلاث في الصورتين بتفريقها على أقراء، لم يقبل قوله ظاهراً على الصحيح المنصوص، والأصح أنه يقبل قوله ديانة بينه وبين الله تعالى.
والحاصل: أن طلاق الثلاث طلاق سني عند الشافعية والحنابلة، بدعي حرام عند المالكية والحنفية.
وأما الطلاق البدعي: فهو اثنان: أحدهما ـ طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل، لقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1/65] أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وزمن الحيض لا يحسب من العدة، وسبب الحرمة: تضررها بطول العدة، فإن بقية الحيض لا تحسب منها. والنفاس كالحيض. ويؤيده حديث أمر ابن عمر بمراجعة امرأته التي طلقها في الحيض.
__________
(1) المهذب: 79/2، 89، مغني المحتاج: 307/3-312.
(2) متفق عليه.(9/405)
والثاني ـ طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل؛ لأنه إذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل، لم يأمن أن تكون حاملاً، فيندم على مفارقتها مع الولد، ولأنه لا يعلم هل علقت بالوطء، فتكون عدتها بالحمل، أو لم تعلق، فتكون عدتها بالأقراء (الأطهار) .
ويسن خلافاً للمالكية والحنفية مراجعة المرأة المطلقة بدعياً، ثم إن شاء طلق بعد طهر.
ولو قال لحائض: أنت طالق للبدعة، وقع الطلاق في الحال. وإن قال لها: أنت طالق للسنة، فيقع الطلاق حين تطهر من الحيض أو النفاس، بأن تشرع في الطهر، ولا يتوقف على الاغتسال، لوجود الصفة قبله.
ولو قال لمن في طهر لم تجامع فيه وهي مدخول بها: أنت طالق للسنة، وقع في الحال لوجود الصفة. وإن جومعت فيه ولم يظهر حملها، فيقع الطلاق حين تطهر بعد حيض، لشروعها حينئذ في العدة.
ولو قال لمن في طهر: أنت طالق للبدعة، فيقع الطلاق في الحال إن جومعت فيه أو في حيض قبله ولم يظهر حملها، لوجود صفة البدعة، فإن لم تجامع على النحو المذكور فيقع الطلاق حين تحيض.
ولو قال: أنت طالق طلقة حسنة أو أحسن الطلاق أو أجمله أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للسنة، فإن كانت في حيض لم يقع حتى تطهر، أو في طهر لم تجامع فيه، وقع في الحال، أو جومعت فيه، وقع حين تطهر بعد حيض.
وإن وصف الطلاق بصفة ذم، كأنت طالق طلقة قبيحة أو أقبح الطلاق أو أفظعه أو أشرّه أو أفحشه أو نحوها، فهو كقوله: أنت طالق للبدعة، فإن كانت في حيض أو في طهر جامعها فيه، وقع في الحال، وإلا فحين تحيض. ولو نوى بالطلاق طلاق السنة لحسن خلقها، وكانت في زمن البدعة، دُيِّن، ولم يقبل قوله ظاهراً، أي يقبل قوله ديانة لا قضاء.(9/406)
وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، في كل قرء طلقة، فإن كانت طاهراً طلقت طلقة؛ لأن ما بقي من الطهر قرء، وإن كانت حائضاً لم تطلق حتى تطهر، ثم يقع في كل طهر طلقة. وإن كانت من القسم الثالث ممن لا سنة لها ولا بدعة: فإن كانت حاملاً طلقت في الحال طلقة؛ لأن الحمل قرء يعتد به، وإن كانت تحيض على الحمل، لم تطلق في أطهارها؛ لأنها ليست بأقراء، فإن راجعها قبل الوضع، وطهرت في النفاس، وقعت طلقة أخرى، فإن حاضت وطهرت، وقعت الطلقة الثالثة. وإن كانت غير مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت، فإن كانت صغيرة مدخولاً بها طلقت في الحال طلقة، فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت، وإن راجعها لم تطلق في الطهر بعد الرجعة؛ لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق.
ووافق الحنابلة (1) الشافعية في رأيهم بتحديد الطلاق السني والبدعي وألفاظهما وحكمهما، واستحباب مراجعة المطلقة في حيض، ووجوب إمساكها حتى تطهر، ثم استحباب إمساكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، على ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عمر المتقدم.
تقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن:
ينقسم كل من الطلاق الصريح والكناية من حيث إمكان الارتجاع وعدمه إلى رجعي وبائن.
أما الطلاق الرجعي: فهو الذي يملك الزوج بعده إعادة المطلقة إلى الزوجية من غير حاجة إلى عقد جديد ما دامت في العدة، ولو لم ترض. وذلك بعد الطلاق الأول والثاني غير البائن إذا تمت المراجعة قبل انقضاء العدة، فإذا انتهت العدة انقلب الطلاق الرجعي بائناً، فلا يملك الزوج إرجاع زوجته المطلقة إلا بعقد جديد.
وأما الطلاق البائن: فهونوعان: بائن بينونة صغرى، وبائن بينونة كبرى.
والبائن بينونة صغرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعقد جديد ومهر. وهو الطلاق قبل الدخول أوعلى مال أو بالكناية عند الحنفية أو الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء.
__________
(1) المغني: 98/7-113، كشاف القناع: 269/5-276.(9/407)
والبائن بينونة كبرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إلى الزوجية إلا بعد أن تتزوج بزوج آخر زواجاً صحيحاً، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يفارقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه. وذلك بعد الطلاق الثلاث حيث لا يملك الزوج أن يعيد زوجته إليه إلا إذا تزوجت بزوج آخر.
ضابط الطلاق الرجعي والبائن:
للفقهاء آراء في تحديد حالات الطلاق الرجعي والبائن:
رأي الحنفية (1) : كل طلاق رجعي إلا الطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق بالكناية المقترن بلفظ ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة أو الحرمة، والطلاق المكمل للثلاث.
وعليه، يكون الطلاق رجعياً فيما يأتي:
1 - الطلاق الصريح بعد الدخول الحقيقي: بلفظ من مادة الطلاق أو التطليق غير مقترن بعوض، ولا بعدد الثلاث، ولا موصوف بوصف الشدة أو القوة أو البينونة أو نحوها. فمن قال: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك، يقع به الطلاق الرجعي، ولا يقع به إلا واحدة، وإن نوى أكثر من ذلك، ولا يفتقر إلى النية.
أما لو قال: أنت طالق، أوأنت طالق الطلاق، أو أنت طالق طلاقاً، فإن لم تكن له نية، فهي طلقة واحدة رجعية، وإن نوى به ثلاثاً كان ثلاثاً. ولو قال: أنت طالق على المذاهب الأربعة، أو أنت طالق لا يرد ك عالم ولا قاض، يقع به طلقة رجعية.
ومن ألفاظ الطلاق التي هي في حكم الصريح عرفاً قول الرجل: علي الطلاق، وعلي الحرام، والطلاق يلزمني، والحرام يلزمني، فإنه يقع بلا نية للعرف، وبه أصبح لفظ: حرام وخالص، من قسم الصريح.
2 - الطلاق الكنائي بعد الدخول الذي لايفيد معنى الشدة والبينونة مثل قوله: اعتدي، أو استبرئي رحمك، أو أنت واحدة، يقع بهذه الألفاظ طلقة واحدة رجعية، إذا نوى الزوج بها الطلاق.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 592/2، 617-621، اللباب: 41/3-44، البدائع: 109/3-112.(9/408)
3 - الطلاق الذي يوقعه القاضي لعدم الإنفاق، أو بسبب الإيلاء، فإن الأول يكون رجعياً؛ لأن قدرة الزوج على الإنفاق متوقعة في أي وقت، والثاني يكون رجعياً أيضاً؛ لتمكين الزوج من العودة إلى معاشرة الزوجة.
والدليل على أن الأصل العام في كون الطلاق رجعياً آيتان: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/2] {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ... {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} [البقرة:2/228] فكلتا الآيتين تدلان على إمكان الرجعة ما دامت المرأة في العدة، إلا ما دل الدليل على استثنائه: وهو الطلاق الثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، والطلاق لرفع الضرر عن الزوجة، والطلاق بلفظ ينبئ عن الشدة والانفصال التام.
ويكون الطلاق بائناً فيما يأتي:
أولاًـ البائن بينونة صغرى:
1 - الطلاق قبل الدخول الحقيقي أو بعد الخلوة الصحيحة المجردة، فالأول يكون بائناً، لأنه لا تجب به العدة ولا يقبل الرجعة، بدليل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49/33] وإذا لم تجب العدة فلا تمكن المراجعة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا في العدة، فيكون الطلاق بائناً غير رجعي.
وأما بعد الخلوة الصحيحة التي لم يحدث فيها اتصال جنسي، فيقع الطلاق بائناً، وإن وجبت العدة؛ لأن وجوب العدة إنما هو للاحتياط لثبوت النسب، والحكم بصحة الرجعة ليس فيه احتياط، بل الاحتياط يقتضي الحكم بعدم صحة الرجعة.(9/409)
2ً - الطلاق الكنائي المقترن بما ينبئ عن الشدة أو القوة أو البينونة: أي أن كل طلاق بالكناية إذا نوى به الطلاق، ما عدا الألفاظ الثلاثة المتقدمة (اعتدي، استبرئي رحمك، أنت واحدة) يكون طلقة واحدة بائنة، وإن نوى به اثنتين، إذ لا دلالة للفظ على عدد الثنتين، فيثبت الأدنى وهو الواحدة، فإن نوى به الثلاث كان ثلاثاً؛ لأن البينونة نوعان: مغلظة وهي الثلاث، ومخففة وهي الواحدة، فأيهما نوى وقعت لاحتمال اللفظ.
وهذه الألفاظ مثل قوله: أنت طالق طلقة شديدة أو قوية أو طويلة أو عريضة؛ لأن المراد بالطول والعرض والشدة والقوة.
ومثل: أنت بائن، وبتة، وبتلة، وخلية، برية، حرة، وحبلك على غاربك، والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعي، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي (1) ، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك.
وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية.
والحقي بأهلك، وسرحتك وفارقتك، وتقنعيى، وتخمري واستتري، واعزُبي واغرُبي، وابتغي الأزواج، ونحو ذلك.
وقد أصبح: أنت خالصة، وأنت حرام، أو علي الحرام من الطلاق الصريح عرفاً، ويقع به طلقة رجعية.
3ً - الطلاق على مال: وذلك إذا خالع الرجل امرأته أو طلقها على مال؛ لأن الخلع بعوض طلاق على مال عندهم، وكان طلاقاً بائناً؛ لأن المقصود أن تملك المرأة أمرها، وتمنع الزوج من مراجعتها، ولا يتحقق هدفها إلا بالطلاق البائن.
4ً - الطلاق الذي يوقعه القاضي لا لعدم الإنفاق أو بسبب الإيلاء، وإنما بسبب عيب في الزوج أو للشقاق بين الزوجين، أو لتضرر الزوجة من غيبة الزوج أو حبسه؛ لأن التجاء الزوجة إلى القضاء لا يكون إلا لدفع الضرر عنها وحسم الزواج، ولا يتحقق المقصود إلا بالطلاق البائن.
__________
(1) اعزبي من العزوبة: وهي عدم الزواج، واغربي من الغربة: وهي البعد.(9/410)
ثانياً ـ البائن بينونة كبرى:
أن يكون طلاقاً ثالثاً، سواء أكان مكملاً للثلاث تفريقاً، بأن يطلق الرجل زوجته كل مرة طلقة، أم مقترناً بالثلاث لفظاً أو إشارة، مثل أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق ويشير بأصابعه الثلاث، أم مكرراً ثلاث مرات في مجلس واحد أو في مجالس متعددة، بأن يقول لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فيقع ثلاثاً إلا إذا قصد تأكيد الطلقة الأولى السابقة، فلا يقع إلا طلقة واحدة.
والإشارة لها حكم العبارة، فإن أشار بأصبع واحدة فهي واحدة رجعية، وإن أشار باثنتين فهي اثنتان، وإن أشار بثلاث فهي ثلاث؛ لأن الإشارة متى تعلقت بها العبارة نزِّلت منزلة الكلام، لحصول ما وضع له الكلام بها وهو الإعلام، بدليل العرف والشرع، أما العرف فواضح، وأما الشرع، فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الشهر هكذا وهكذا، وأشار صلّى الله عليه وسلم بأصابع يده كلها، فكان بياناً أن الشهر يكون ثلاثين يوماً، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: الشهر هكذا وهكذا، وحبس إبهامه في المرة الثالثة، فكان بياناً أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً (1) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر (جامع الأصول: 182/7 وما بعدها، نصب الراية: 228/3) .(9/411)
رأي المالكية (1) : البائن يكون في أربعة مواضع:
وهي طلاق غير المدخول بها، وطلاق الخلع، والطلاق بالثلاث، والمبارأة: وهي التي يملِّك الناس بها أمر نفسها، ويجعلونها واحدة بائنة من غير خلع. والثلاثة الأولى متفق عليها.
والرجعي: هو ما عدا هذه المواضع.
رأي الشافعية والحنابلة (2) : يتفق مع رأي المالكية فيما عدا المبارأة. فيقولون: كل طلاق يقع رجعياً إلا إذا كان قبل الدخول، أو كان على مال كما في الخلع، أو كان مكملاً للثلاث أو مقترناً بعدد الثلاث.
وعلى هذا لا يقع عند الجمهور غير الحنفية بطلاق الكنايات إلا الطلاق الرجعي، ولو نوى بها البائن؛ لأن الصريح لا يقع به إلا الطلاق الرجعي، فالكناية التي هي أضعف من التصريح لاحتمالها الطلاق وغيره، يكون الطلاق الواقع بها رجعياً بالأولى، ولأن الطلاق وضع شرعي لا يتأثر بالنية، فقصد البينونة بالكناية يكون تغييراً للوضع الشرعي.
موقف القانون: أخذ القانون في مصر وسورية برأي الجمهور في بيان الطلاق الرجعي والبائن، فنصت المادة (94) من القانون السوري على ما يلي «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على بدل، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون» والذي نص هذا القانون على كونه بائناً هو التفريق القضائي للعيب أو العلة، والتفريق للشقاق بين الزوجين. فالقول بأن كل طلاق يقع رجعياً مخالف لمذهب الحنفية؛ لأن كنايات الطلاق عندهم كما تقدم يقع بها الطلاق بائناً ما عدا ألفاظاً ثلاثة. ونصت المادة (93) من القانون السوري كما ذ ُكر على أن النية هي مدار طلاق الكناية: «يقع الطلاق بالألفاظ الصريحة فيه عرفاً دون الحاجة إلى نية، ويقع بالألفاظ الكنائية التي تحتمل معنى الطلاق وغيره بالنية» وهذا عمل برأي المالكية والشافعية الذين يوقعون طلاق الكناية بالنية لا بدلالةالحال، خلافاً للحنفية والحنابلة الذين يوقعون بالنية أو القرائن ودلالات الحال.
وهذا هو المعمول به نفسه في القانون المصري، فقد نصت المادة الرابعة من قانون رقم (25) لسنة (1929) على ما يلي: «كنايات الطلاق: وهي ما تحتمل الطلاق وغيره، لا يقع بها الطلاق إلا بالنية» .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 226، الشرح الصغير: 526/2.
(2) مغني المحتاج: 337/3، المغني: 274/7، 278.(9/412)
ونصت المادة الخامسة على ما يأتي: «كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وما نص على كونه بائناً في هذا القانون والقانون رقم (25) لسنة 1920» .
وما نص على كونه بائناً في قانون (1929) : هو التفريق الذي يكون من القاضي بسبب ضرر الزوجة، والشقاق بينها وبين زوجها، وبسبب غيبة الزوج أو حبسه مدة طويلة.
وما نص على كونه بائناً في قانون (1920) : هو تفريق القاضي أيضاً بسبب عيوب الرجل من مثل الجنون والجذام والبرص وغيرها من العيوب في الراجح عند الحنفية، وهي عيوب الجب والعنة والخصاء.
والقانون متفق مع الفقه، ولكن كل من القانون المصري والسوري قد خالف المذاهب الأربعة في الطلاق الثلاث المقترن بعدد الثلاث، يقع ثلاثاً في المذاهب، وواحدة في القانون، فنصت المادة الثالثة من قانون عام (1929) في مصر، والمادة (92) من القانون السوري على أن «الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحداً» .
حكم الطلاق الرجعي والبائن:
يشترك الطلاق الرجعي والبائن في أحكام، منها:
وجوب نفقة العدة للمطلقة، وثبوت نسب ولدها الذي تلده للمطلق، ويهدم الزوج الثاني إذا تزوجت المطلقة بزوج آخر ما كان من الطلاق في الزواج الأول، سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أكان الطلاق ثلاثاً أم أقل، وقال باقي الفقهاء: إنه يهدم الثلاث لا غير، فتعود إلى الأول بزوجية جديدة يملك فيها ثلاث طلقات. وينفرد الطلاق الرجعي عن البائن بأحكام.
حكم الطلاق الرجعي:
اتفق الفقهاء على أن الطلاق الرجعي له آثار هي (1) :
1ً ـ نقص عدد الطلقات: يترتب على الطلاق أنه ينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج، فإذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً بقي له طلقتان، وإذا طلق طلاقاً آخر بقي له طلقة واحدة.
2ً - انتهاء رابطة الزوجية بانتهاء العدة: إذا طلق الرجل طلاقاً رجعياً وانقضت العدة من غير مراجعة بانت منه بانقضاء العدة، وحينئذ يحل مؤخر الصداق.
__________
(1) الدر المختار: 645/2، 738، القوانين الفقهية: ص 226، 234، مغني المحتاج: 340/3، المغني: 279/7، غاية المنتهى: 180/3، الشرح الصغير: 606/2.(9/413)
3ً - إمكان المراجعة في العدة: يملك المطلّق مراجعة مطلقته بالقول اتفاقاً، وكذا بالفعل عند الحنفية والحنابلة والمالكية، ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة بانت منه، فلم يملك رجعتها إلا بإذنها.
4ً - المرأة الرجعية زوجة يلحقها طلاق الرجل وظهاره وإيلاؤه ولعانه، ويرث أحدهما صاحبه بالاتفاق. وإن خالعها صح خلعه عند الحنابلة والحنفية؛ لأنها زوجة صح طلاقها، فصح خلعها كما قبل الطلاق، وليس مقصود الخلع التحريم، بل الخلاص من مضرة الزوج ونكاحه الذي هو سببها، والنكاح باق، ولا نأمن رجعته.
وقال الشافعي في الأظهر: يصح خلع المرأة الرجعية في أثناء العدة؛ لأنها في حكم الزوجات في كثير من الأحكام (1) .
5 - حرمة الاستمتاع عند الشافعية: قال الشافعية، والمالكية في المشهور: يحرم الاستمتاع بالمرأة المطلقة طلاقاً رجعياً بوطء وغيره حتى بالنظر ولو بلا شهوة؛ لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع فيحرمه الطلاق؛ لأنه ضده، فإن وطئ الزوج المطلقة فلا حد، ولا يعزر إلا معتقد تحريمه. وهذا هو الحق عندي.
وقال الحنفية والحنابلة: الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء، فيجوز الاستمتاع بالرجعية ولو وطئها لاحد عليه؛ لأنه مباح، لكن تكره الخلوة بها تنزيهاً. ومن عبارات الحنفية فيه: الطلاق الرجعي لا يزيل الملك ولا الحل ما دامت في العدة. والمقصود بالملك: حل الاستمتاع وسائر حقوق الزواج، والمقصود بالحل: بقاء المطلقة حلالاً لمن طلقها ولا تحرم عليه بسبب من أسباب التحريم.
__________
(1) مغني المحتاج: 265/3.(9/414)
حكم الطلاق البائن:
أولاً ـ البائن بينونة صغرى: يظهر أثر الطلاق البائن بينونة صغرى فيما يأتي بالاتفاق.
اً - زوال الملك لا الحل بمجرد الطلاق: يحرم الاستمتاع مطلقاً والخلوة بعده ساعة الطلاق، ولا يحق مراجعة المرأة إلا بعقد جديد، ولكن يبقى الحل، سواء في العدة أم بعدها بعقد جديد.
2ً - نقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج كالطلاق الرجعي.
3ً - يحل بمجرد الطلاق الصداق المؤجل إلى أحد الأجلين: الموت أو الطلاق.
4ً - منع التوارث بين الزوجين: إذا مات أحدهما أثناء العدة لا يرثه الآخر؛ لأن الطلاق البائن ينهي الزوجية بمجرد صدوره، إلا إذا كان الطلاق في مرض الموت وقامت قرينة على أن الزوج يقصد حرمان الزوجة من الميراث، فإنها عند الجمهور غير الشافعية ترثه إن مات في العدة، وكذا بعد العدة عند المالكية، معاملة له بنقيض مقصوده، وهذا هو طلاق الفرار.
5ً - يلحق الطلاق الصريح عند الحنفية الطلاق البائن في أثناء العدة، ويلحق البائن الصريح أيضاً بشرط العدة إلا إذا كان الطلاق الثاني بائناً بلفظ الكناية يحتمل الإخبار عن البينونة الأولى.
ثانياً ـ البائن بينونة كبرى:
هذا يزيل الملك والحل معاً، ولا يبقى للزوجية أثر سوى العدة وما يتبعها، فيحل به الصداق المؤجل إلى الطلاق أو الوفاة، ويمنع التوارث بين الزوجين إلا إذا كان طلاق فرار عند غير الشافعية كالبائن بينونة صغرى، فيعامل بنقيض مقصوده وتحرم به المطلقة على الزوج تحريماً مؤقتاً، ولا تحل له حتى تتزوج بزوج آخر، ويدخل بها دخولاً حقيقياً، ثم يطلقها أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه.
البينونة الكبرى كالصغرى إلا في أمرين:
الأول ـ أن البينونة الكبرى لا محل بعدها بالاتفاق لوقوع طلاق آخر.
الثانية ـ أن المرأة في البينونة الكبرى لا يمكن أن ترجع إلى زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر غيره.(9/415)
حكم الطلاق الرجعي والبائن في القانون السوري:
نصت المادة (118) من هذا القانون على حكم الطلاق الرجعي، وانقلابه بائناً بانتهاء العدة وهي:
1 - الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية، وللزوج أن يراجع مطلقته أثناء العدة بالقول أو الفعل، ولا يسقط هذا الحق بالإسقاط.
2 - تبين المرأة وتنقطع الرجعة بانقضاء عدة الطلاق الرجعي. ونص هذا القانون أيضاً على آثار الطلاق البائن، فنصت المادة (119) على ما يلي:
الطلاق البائن دون الثلاث يزيل الزوجية حالاً، ولا يمنع من تجديد عقد الزواج.
ونصت المادة (120) على الطلاق البائن بينونة كبرى:
الطلاق المكمل للثلاث يزيل الزوجية حالاً، ويمنع من تجديد العقد ما لم تتوافر الشرائط المبينة في المادة (36) من هذا القانون. ونص المادة (36) هو ما يلي:
1 - لا يجوز أن يتزوج الرجل امرأة طلقها ثلاث مرات إلا بعد انقضاء عدتها من زوج آخر دخل بها فعلاً.
2 - زواج المطلقة من آخر يهدم طلقات الزوج السابق، ولو كانت دون الثلاث، فإذا عادت إليه يملك عليها ثلاثاً جديدة.
تقسيم الطلاق إلى منجز ومعلق ومضاف للمستقبل:
ينقسم الطلاق بالنظر إلى الصيغة من حيث اشتمالها على التعليق على أمر مستقبل أو الإضافة إلى زمن في المستقبل وعدم اشتمالها على التعليق إلى ثلاثة أنواع: منجز، ومعلق، ومضاف (1) .
أولاً ـ الطلاق المنجز أو المعجل: هو ما قصد به الحال، كأن يقول رجل لامرأته: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك. وحكمه: وقوعه في الحال وترتب آثاره عليه بمجرد صدوره، متى كان الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، والزوجة محلاً لوقوعه.
ثانياً ـ الطلاق المضاف: هو ما أضيف حصوله إلى وقت في المستقبل، كأن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق غداً، أو أول الشهر الفلاني أو أول سنة كذا.
وحكمه: وقوع الطلاق عند مجيء أول جزء من أجزاء الزمن الذي أضيف
__________
(1) فتح القدير: 22/3، 61، 143، البدائع: 157/3، الدر المختار: 606/2-609، 677-690، اللباب: 46/3، 53، القوانين الفقهية: ص231 ومابعدها، الشرح الصغير: 576/2-583، مغني المحتاج: 302/3، 313-334، و718/8، المهذب: 86/2-96، غاية المنتهى: 147/3-165، المغني: 164/7-171، 193-228، كشاف القناع: 333/5-358، بداية المجتهد: 78/2، المحلى: 264/10، مسألة 1973.(9/416)
إليه، إذا كانت المرأة محلاً لوقوع الطلاق عليها عند ذلك الوقت، وكان الرجل أهلاً لإيقاعه؛ لأنه قصد إيقاعه بعد زمن، لا في الحال.
فقوله: أنت طالق غداً، يقع بأول جزء منه وهو عند طلوع الفجر، وقوله: أنت طالق ليلاً إذا مضى يوم، فيقع عند غروب شمس غده، إذ به يتحقق مضي اليوم. وإن قال: نهاراً، ففي مثل وقته من غده تطلق لأن اليوم حقيقة في جميعه، وإن قال لزوجته: أنت طالق في شهر كذا كرمضان، وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه، وهو حين تغرب الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبله وهو شهر شعبان.
وإن قال: أنت طالق أمس أو أنت طالق قبل أن أتزوجك، وقصد أن يقع في الحال مستنداً إلى الأمس، وقع في الحال عند الحنفية، والشافعية على الصحيح والحنابلة، ولغا قصد الاستناد إلى أمس لاستحالته؛ لأن الإنشاء في الماضي في الحال.
وظاهر كلام أحمد: أن الطلاق لا يقع إذا لم يكن له نية. وإن أراد الإخبار بأنه كان قد طلقها هو، أو زوجٌ قبله في الزمان المذكور، وكان قد وجد الطلاق، قبل منه. وإن لم يوجد وقع طلاقه.
وإن قال: أنت طالق قبل أن أخلق أو قبل أن تخلقي، أو طلقتك وأنا صبي أو نائم، أو مجنون، كان لغواً؛ لأن حاصله إنكار الطلاق.(9/417)
كذلك رأى الحنفية والشافعية والحنابلة: إن قال: أنت طالق قبل موتي بشهرين أو أكثر، فمات قبل مضي شهرين، لم تطلق لانتفاء الشرط، ولأن الطلاق لا يقع في الماضي. وإن مضى شهران ثم مات بعدهما ولو بساعة طلقت مستنداً لأول المدة لا عند الموت، وفائدة الطلاق: أنه لا ميراث لها؛ لأن العدة قد تنتهي بشهرين، بثلاث حيضات عند الحنفية ومن وافقهم.
وإن قال: أنت طالق قبل موتي، ولم يزد شيئاً، طلقت في الحال؛ لأن ما قبل موته من عقد صفة الطلاق، محل للطلاق، فوقع في أوله.
وإن قال لزوجته: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه، وقع مستنداً (أي بأثر رجعي) قبل الشهر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن قوله يراد به إيقاع الطلاق بعد عقده، لأنه أوقع الطلاق في زمن على صفة، فإذا حصلت الصفة وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر أو قبل موتك بشهر.
وقال الحنفية ما عدا زفر: يقع الطلاق مقتصراً (أي من غير أثر رجعي) عند قدوم زيد؛ لأنه جعل الشهر شرطاً لوقوع الطلاق، فلا يسبق الطلاق شرطه.
ثالثاً ـ الطلاق المعلق:
هو ما رتب وقوعه على حصول أمر في المستقبل، بأداة من أدوات الشرط أي التعليق، مثل إن، وإذا، ومتى، ولو ونحوها، كأن يقول الرجل لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو إذا سافرت إلى بلدك فأنت طالق، أو إن خرجت من المنزل بغير إذني فأنتي طالق، أو متى كلمت فلاناً فأنت طالق.
ويسمى يميناً مجازاً؛ لأن التعليق في الحقيقة إنما هو شرط وجزاء، فإطلاق اليمين عليه مجاز، لما فيه من معنى السببية، ولمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر. والتعليق إما لفظي: وهو الذي تذكر فيه أداة الشرط صراحة، مثل إن وإذا.(9/418)
وإما معنوي: وهو الذي لا تذكر فيه أداة الشرط صراحة، بل تكون موجودة من حيث المعنى، كقول الزوج: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا. فالمقصود منها بحسب العرف: لزوم الطلاق إن حصل المحلوف عليه، أم لم يحصل.
أنواع الشرط المعلق عليه:
الشرط الذي يعلق الطلاق عليه إما أن يكون أمراً اختيارياً يمكن فعله والامتناع عنه، أو أمراً غير اختياري.
فإن كان الشرط أمراً اختيارياً يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون: فإما أن يكون فعلاً من أفعال الزوج، مثل إن دخلت دار فلان أو كلمت فلاناً فامرأتي طالق، أو إن لم أدفع حق فلان غداً فزوجتي طالق، ففي المثال الأول يكون التعليق لحمل نفسه على الامتناع من الدخول، وفي المثال الثاني يكون التعليق لحمل نفسه على دفع الدين أو الحق في الغد.
أو يكون فعلاً من أفعال الزوجة، مثل إن سافرت أو دخلت دار فلان فأنت طالق. ومثل: أنت طالق إن شئت، لم تطلق حتى تسافر أو تدخل الدار أو تشاء. أو يكون فعلاً لغير الزوجين، مثل: إن سافر أخوك فأنت طالق. وإن كان الشرط أمراً غير اختياري للإنسان فهو كالتعليق بمشيئة الله تعالى، وطلوع الشمس وموت فلان، ودخول الشهر، وولادة فلانة ونحوها.
شروط التعليق:
يشترط لصحة التعليق ما يأتي:
1ً - أن يكون الشرط المعلق عليه الطلاق معدوماً على خطر الوجود، أي يحتمل أن يكون وألا يكون. فلو كان موجوداً كان طلاقها منجزاً، مثل إن خرجت أمس فأنت طالق، وقد خرجت فعلاً فتطلق في الحال. وإن كان المعلق عليه أمراً مستحيلاً عادة كالطيران وصعود السماء، مثل إن صعدت السماء فأنت طالق، ومنه التعليق بمشيئة الله تعالى، كأن يقول: أنت طالق إن شاء الله تعالى، فلا يقع عند الحنفية؛ لأن التعليق لا يصح، واليمين لغو، ووافقهم بقية المذاهب في التعليق بمستحيل عادة.(9/419)
ووافقهم أيضاً المالكية والشافعية والظاهرية في التعليق بمشيئة الله، لا يقع الطلاق عندهم إن قصد التعليق، وقال الحنابلة: يقع الطلاق، لأن ما لا يمكن الاطلاع عليه يكون منجزاً ويقع في الحال، وسقط حكم تعليقه، قال ابن عباس: «إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق» وقال ابن عمرو وأبو سعيد: «كنا معشر النبي صلّى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزاً في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق» وذكر الشافعية: أنه لو قال: يا طالق إن شاء الله، وقع في الأصح نظراً لصورة النداء المشعر بحصول الطلاق حالته، والحاصل لا يعلق، بخلاف أنت طالق إن شاء الله وقصد التعليق فإنه لم يقع.
ورأي غير الحنابلة أصح لدي لحديث ابن عمر: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» (1) وحديث ابن عباس: «من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو لغلامه: أنت حر، أو قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن شاء الله، فلا شيء عليه» (2) .
2ً - أن يحصل المعلق عليه والمرأة محل لوقوع الطلاق عليها: بأن تكون في حال الزوجية فعلاً، أو حكماً في أثناء العدة باتفاق الفقهاء، أو في أثناء العدة من الطلاق البائن بينونة صغرى عند الحنفية، خلافاً لباقي المذاهب، فلو قال الرجل لامرأة أجنبية: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فكلمته، لم يقع الطلاق وكذا لو تزوجها ثم كلمت فلاناً، لا تطلق؛ لأنها وقت التعليق لم تكن محلاً لإيقاع الطلاق.
ولو قال لامرأته المطلقة طلاقاً رجعياً في أثناء العدة: إن كلمت فلاناً، فأنت طالق، فكلمته في العدة، وقع الطلاق عليها باتفاق الفقهاء، وكذا تطلق لو كانت عند الحنفية في عدة طلاق بائن بينونة صغرى، ولا تطلق حينئذ في المذاهب الأخرى.
ولا يشترط عند حصول المعلق عليه أن يكون الزوج أهلاً لإيقاع الطلاق، فلو طلق طلاقاً معلقاً ثم جن أو عته، ووجد المعلق عليه، وقع الطلاق؛ لأن الصيغة صدرت من أهلها مستوفية شروطها، فيترتب عليها أثرها.
__________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن (نصب الراية: 234/3) .
(2) أخرجه ابن عدي، وهو معلول بإسحاق الكعبي (نصب الراية: 235/3) .(9/420)
حكم الطلاق المعلق أو اليمين بالطلاق:
اختلف الفقهاء في اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق على ثلاثة أقوال (1) ، كأن يعلق طلاق زوجته على أمر المستقبل، ويوجد المعلق عليه، مثل: إن دخلت الدارفأنت طالق، أو كلمت زيداً، أو إن قدم فلان من سفره، فأنت طالق. أو يقول لها في العرف الشائع اليوم: علي الطلاق إن ذهبت لبيت أهلك، أو سافرت، أو ولدت أنثى، أو علي الطلاق إن لم أتزوج زوجة أخرى ونحوه.
1 - فقال أئمة المذاهب الأربعة: يقع الطلاق المعلق متى وجد المعلق عليه، سواء أكان فعلاً لأحد الزوجين، أم كان أمراً سماوياً، وسواء أكان التعليق قسمياً: وهو الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم شرطياً يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط.
2 - وقال الظاهرية والشيعة الإمامية: اليمين بالطلاق أو الطلاق المعلق إذا وجد المعلق عليه لا يقع أصلاً، سواء أكان على وجه اليمين: وهو ما قصد به الحث على فعل شيء أو تركه أو تأكيد الخبر، أم لم يكن على وجه اليمين: وهو ما قصد به وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه.
__________
(1) فتح القدير: 76/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص231، مغني المحتاج: 314/3 ومابعدها، المغني: 178/7 ومابعدها، المحلى: 258/10 ومابعدها، مسألة 1969، المختصر النافع من فقه الإمامية: ص222، أعلام الموقعين: 66/3 ومابعدها، مقارنة المذاهب للأستاذين شلتوت والسايس: ص108 ومابعدها.(9/421)
3 - وقال ابن تيمية وابن القيم بالتفصيل: إن كان التعليق قسمياً أو على وجه اليمين ووجد المعلق عليه، لا يقع، ويجزيه عند ابن تيمية كفارة يمين إن حنث في يمينه، ولا كفارة عليه عند ابن القيم، وأما إن كان التعليق شرطياً أو على غير وجه اليمين، فيقع الطلاق عند حصول الشرط.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول: استدل أئمة المذاهب الأربعة بالكتاب والسنة والمعقول:
1 - الكتاب: استدلوا بإطلاق الآيات الدالة على مشروعية الطلاق وتفويض الأمر فيه إلى الزوج، مثل قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة:229/2] ، فهي لم تفرق بين منجز ومعلق، ولم تقيد وقوعه بشيء، والمطلق يعمل به على إطلاقه، فيكون للزوج إيقاع الطلاق حسبما يشاء منجزاً أو مضافاً أو معلقاً على وجه اليمين أو غيره.
2 - السنة: استدلوا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» وبوقائع كثيرة حدثت في عصر النبي والصحابة، منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: «طلق رجل امرأته البتة إن خرجت» فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء.
ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود في رجل قال لامرأته: إن فعلتْ كذا وكذا، فهي طالق، ففعلته: فقال: هي واحدة، وهو أحق بها.
ومنها: ما صح عن أبي ذر الغفاري أن امرأته لما ألحت عليه في السؤال عن الساعة التي يستجيب الله فيها الدعاء يوم الجمعة قال لها: «إن عدت سألتِني فأنت طالق» .
ومنها: ما أسنده ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كل يمين وإن عظمت، ففيها الكفارة إلا العتق والطلاق» .
ومنها: ما رواه البيهقي عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سنة، قال: يستمتع بها إلى سنة. وهذا الأثر في التعليق الشرطي، وكل ما سبق قبله في التعليق القسمي.(9/422)
وعن الحسن البصري فيمن قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضرب غلامي فأبق الغلام (هرب) ، قال: هي امرأه يستمتع بها، ويتوارثان، حتى يفعل ما قال. فإن مات الغلام قبل أن يفعل ما قاله، فقد ذهبت منه امرأته.
وروى البيهقي عن أبي الزناد عن فقهاء أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: أيما رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت حتى الليل، فخرجت امرأته قبل الليل بغير علمه، طلقت امرأته. فكل هذه الآثار تدل على وقوع الطلاق المعلق عند حدوث الشرط المعلق عليه.
3 - المعقول: قد تدعو الحاجة إلى تعليق الطلاق كما تدعو إلى تنجيزه، زجراً للمرأة، فإن خالفت كانت هي الجانية على نفسها. ويقاس الطلاق القسمي على المداينة إلى أجل والعتق إلى أجل.
أدلة القول الثاني:
استدل الظاهرية والإمامية على قولهم بأن تعليق الطلاق يمين، واليمين بغير الله تعالى لا تجوز، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله» (1) ثم قالوا: ولا طلاق إلا ما أمر الله عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واليمين بالطلاق ليس مما سماه الله تعالى يميناً، والله تعالى يقول: {ومن يتعدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق:1/65] ولم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق المعلق.
ورد هذا: بأن تسمية الطلاق المعلق يميناً إنما هو على سبيل المجاز، من حيث إنه يفيد ما يفيده اليمين بالله تعالى: وهو الحث على الفعل، أو المنع منه، أو تأكيد الخبر، فلا يكون الحديث المذكور متناولاً الطلاق المعلق. ثم إن السنة وردت بوقوع الطلاق المعلق.
واستدلوا أيضاً بما رواه ابن حزم وابن القيم عن علي وشريح أنهم كانوا يقولون: «الحلف بالطلاق ليس بشيء» ورد عليه بأن المروي عن علي في حال الاضطهاد، والمروي عن شريح في حالة عدم وقوع الأمر المعلق عليه، والمروي عن طاوس مؤوّل بأنه ليس شيئاً مستقيماً في السنة بمعنى لا ينبغي أن يحصل.
__________
(1) رواه أبو عبيد عن ابن عمر.(9/423)
واستدلوا كذلك بأن كل طلاق لا يقع حين إيقاعه دون تقييد بشرط أو صفة لا يقع بعدئذ. ورد هذا بأن المعلِّق ليس موقعاً للطلاق حين التلفظ، وإنما عند تحقق الشرط.
وقاسوا الطلاق على النكاح، فكما لا يصح تعليق النكاح لا يصح تعليق الطلاق. ورد عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن تعليق النكاح مناف للمقصود منه، أما الطلاق فإنه لا ينافيه.
أدلة القول الثالث:
استدل ابن تيمية وابن القيم على رأيهم التفصيلي:
1ً - بأن الطلاق المعلق القسمي إذا كان المقصود منه الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، كان في معنى اليمين، فيكون داخلاً في أحكام اليمين في قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:2/66] وقوله سبحانه: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة:89/5] . وإن لم تكن يميناً شرعية كانت لغواً.
ورد عليهما بأن الطلاق المعلق لا يسمى يميناً لا شرعاً ولا لغة، وإنما هو يمين على سبيل المجاز، لمشابهة اليمين الشرعية في إفادة الحث على الفعل أو المنع منه أو تأكيد الخبر، فلا يكون له حكم اليمين الحقيقي: وهو الحلف بالله تعالى أو صفة من صفاته، بل له حكم آخر: وهو وقوع الطلاق عند حصول المعلق عليه.
2 - وبأن عائشة وحفصة وأم سلمة وابن عباس أفتوا ليلى بنت العجماء بأن تكفِّر عن يمينها حينما حلفت بالعتق فقالت: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إن لم يطلق مولاها أبو رافع امرأته، أو يفرق بينه وبينها، فيكون الحلف بالطلاق مثله وهو أولى. ورد عليهما بأن الآثار المروية عن الصحابة في الاعتداد بالتعليق أقوى من هذا؛ لأن رواتها من رجال الصحيح.
3 - وبما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وَطَر والعتق: ما ابتغي به وجه الله» أي أن الطلاق إنما يقع ممن غرضه إيقاعه، لا ممن يكره وقوعه كالحالف المكره.
وأجيب بأن معنى الوطر ليس هو كما ذكرتم، بل معناه: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز.
وفي تقديري أن القول الأول هو الأصح دليلاً، لكن يلاحظ أن الشبان غالباً يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلني أميل إلى القول الثالث، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (25 لسنة 1929) ، وفي سورية، نصت المادة الثانية من القانون المصري والمادة (90) من القانون السوري على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم:
«لا يقع الطلاق غير المنجز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القسم لتأكيد الإخبار لا غير» .(9/424)
ملحق ـ حكم طلاق المريض مرض الموت:
أبحث هنا حكم طلاق المريض مرض الموت ونحوه، وشروط ثبوت ميراث زوجته منه، وبعض الأحكام الفرعية في مرض الموت (1) .
المقصود بمريض الموت: كل من غالب حاله الهلاك بمرض أو غيهر له حكم مرض الموت، ويسمى طلاقه طلاق الفارّ أو الفرار، لفراره من إرث زوجته، فيرد عليه قصده إلى تمام عدتها عند الحنفية، ولو بعد انقضاء العدة عند المالكية، وما لم تتزوج في المشهور عند الحنابلة.
ومريض الموت كما قال الحنفية: هو من أضناه مرض عجز به عن إقامة مصالحه المعتادة خارج البيت، كعجز العالم الفقيه عن الإتيان إلى المسجد وعجز التاجر عن الإتيان إلى دكانه. وأما المرأة المريضة: فهي التي عجزت عن مصالحها المعتادة داخل البيت كطبخ ونحوه. واستمر المرض في حدود السنة دون تزايد، وأعقبه الموت، فالمراد من مرض الموت: هو الذي يتحقق فيه أمران:
__________
(1) فتح القدير: 150/3 ومابعدها، الدر المختار: 715/2-723، اللباب: 52/3، القوانين الفقهية: ص228، مغني المحتاج: 294/3، المغني: 329/6-339، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 223، المحلى: 266/10، مسألة 1976.(9/425)
الأول ـ أن يكون الغالب فيه الهلاك عادة، الثاني ـ أن يتصل به الموت. ويلحق به من يترقب الموت كالمحكوم عليه بالإعدام، والمشرف على الغرق في سفينة.
حكمه: له أحكام، منها: أنه لا يصح تبرعه إلا من ثلث التركة، ومنها نفاذ طلاقه وإرث امرأته منه إذا مات وهي في العدة عند الحنفية، وتفصيل حكم طلاقه ما يأتي:
اتفق الفقهاء على أن الرجل المريض إذا طلق امرأته، فطلاقه نافذ كالصحيح، فإن مات من ذلك المرض ورثته المطلقة ما دامت في العدة من طلاق رجعي، كما ترثه فيها في طلاقها في حال الصحة؛ لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاق الزوج وظهاره وإيلاؤه، ويملك إمساكها بالرجعة ولو بغير رضاها، ولا ولي ولا شهود ولاصداق جديد.
أما إن طلقها في حال الصحة طلاقاً بائناً أو رجعياً، فبانت منه بانقضاء عدتها، فلم يتوارثا إجماعاً. واتفق الفقهاء أيضاً على أن الرجل إذا طلق امرأته في مرض الموت ثم ماتت، لم يرثها وإن ماتت في العدة.
واختلفوا في إرث الزوجة المطلقة طلاقاً بائناً إذا مات الزوج في أثناء العدة من هذا الطلاق. وهذا محل البحث هنا، وهو حكم طلاق الفرار.
فقال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والإمامية) : إنها ترثه، وقال الشافعي في الجديد: لا ترثه. وقال الظاهرية: طلاق المريض كطلاق الصحيح ولا فرق، فإذا مات أو ماتت فلا توارث بينهما بعد الطلاق الثلاث، ولا بعد تمام العدة في الطلاق الرجعي.
الأدلة:
استدل الشافعي على أن المرأة المطلقة في عدة طلاق بائن لا ترث من زوجها الذي طلقها: بانقطاع آثار الزوجية بالطلاق البائن، والميراث لا يثبت بعد زوال سببه، بخلاف المطلقة في عدة طلاق رجعي، فإنها ترث بالاتفاق لبقاء آثار الزوجية، كلحوق الطلاق لها والإيلاء منها ونحوهما.
واستدل الجمهور بالأثر والمعقول:(9/426)
أما الأثر: فإن عثمان رضي الله عنه ورَّث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، الذي كان قد طلقها في مرضه، فبتَّها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً منهم.
وأما المعقول: فهو أن تطليقها ضرار محض، وهو يدل على قصده حرمانها من الإرث، فيعاقب بنقيض قصده، كما يرد قصد القاتل إذا قتل مورثه بحرمانه من الإرث، فترث المرأة حينئذ بسبب الزوجية دفعاً للضرر عنها.
وقت الإرث: لكن اختلف الجمهور في وقت الإرث، فقال الحنفية: إنها ترث إذا مات وهي في العدة من هذا الطلاق البائن، لبقاء بعض أحكام الزواج فيبقى حق إرثها منه، فإن مات بعد انقضاء العدة، فلا ميراث لها؛ لأنه لم يبق بينهما علاقة، وصارت كالأجنبية، ففي أثناء العدة: ترث بسبب الإمكان وهو بقاء بعض أحكام الزوجية، وبعد انقضاء العدة: لا ترث لعدم الإمكان وانقطاع آثار الزوجية السابقة.
وقال المالكية: إنها ترث وإن انقضت عدتها وتزوجت، لما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف «أن أباه طلق أمه، وهو مريض، فمات، فورثته بعد انقضاء العدة» ولأن سبب توريثها فراره من ميراثها، وهذا المعنى لا يزول بعد انقضاء العدة.
وعند الإمامية، والمشهور عند أحمد: أنها ترثه في العدة وبعدها ما لم تتزوج، لما روي عن الحسن البصري، ولأن هذه المطلقة وارثة من زوج، فلا ترث زوجاً سواه كسائر الزوجات، فلو ورثت بعد الزواج بغيره لأدى ذلك إلى توريثها من زوجين في بعض الأحوال، والمرأة لا تكون زوجة لاثنين شرعاً، والتوارث من حكم النكاح فلا يجوز اجتماعه مع نكاح آخر، ولأنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الزوج الأول لها، فأشبه ما لو كان فسخ النكاح من قبلها.(9/427)
شروط ثبوت الميراث: يشترط لثبوت ميراث المرأة في طلاق الفرار مايأتي:
1ً - ألا يصح الزوج من ذلك المرض، وإن مات منه بعد مدة.
2ً - أن يكون المرض مخوفاً يحجر عليه فيه.
3ً - أن يكون الطلاق البائن بعد الدخول الحقيقي: فلو كان الطلاق قبل الدخول ولو بعد الخلوة الصحيحةلا يعتبر المطلِّق فارّاً ولا تستحق الزوجة الميراث؛ لأن العدة لا تجب بهذا الطلاق. ووجوب العدة بعد الخلوة عندا لحنفية ومن وافقهم للاحتياط محافظة على الأنساب، والميراث حق مالي لا يثبت للاحتياط.
4ً - أن يكون الطلاق بدون رضا الزوجة: أي منه لا منها ولا بسببها، فلو كان برضاها لا يثبت لها الميراث، ولا يوصف المطلِّق بالفرار. وعليه لو كان الطلاق بالتمليك والتخيير بأن قال لها: اختاري، والخلع بأن اختلعت منه على مال دفعته له في سبيل تطليقها، والتفريق القضائي لعيب في الزوج، ثم مات وهي في العدة، لم ترثه، لتحقق رضاها بإبطال حقها في الميراث.
5ً - أن تكون الزوجة أهلاً للميراث من زوجها وقت الطلاق، وأن تستمر هذه الأهلية إلى وقت الموت. فإذا لم تكن أهلاً للميراث وقت الطلاق، بأن كانت كتابية وهو مسلم، فلا يثبت لها الميراث، لعدم تحقق صفة الفرار. ولو كانت مسلمة وقت الطلاق، ثم خرجت عن هذه الأهلية قبل الموت فارتدت، فإنها لا ترث؛ لأنها بالردة سقط حقها في الميراث، ولا يعود لها عند الجمهور غير المالكية هذا الحق بالإسلام؛ لأن الساقط لا يعود.
وقال مالك: لو عادت إلى الإسلام بعد أن ارتدت ثم مات الزوج في عدتها، فإنها ترثه؛ لأنها مطلَّقة في المرض، فأشبه ما لو لم ترتد.(9/428)
الفرقة من جهة الزوجة المريضة مرض الموت: إذا حدثت الفرقة من جهة الزوجة وهي مريضة مرض الموت ونحوه مما يغلب فيه الهلاك، فإنها تعد فارَّة من ميراث زوجها، فتعامل بنقيض مقصودها، ويرثها الزوج إذا ماتت وهي في العدة، ولا ترث هي منه إذا مات ولو كانت في العدة. وإذا قصدت الزوجة بالفرقة إبطال حق الزوج، رد عليها قصدها وثبت له الميراث، كأن يكون لهاخيار الفسخ، أو ترتكب مع أحد أصول الزوج أو فروعه في مرض موتها ما يوجب حرمة المصاهرة، أو ترتد عن الإسلام وهي في مرض موتها، فإنها تعتبر فارَّة من الميراث، فيرثها زوجها إذا ماتت قبل انقضاء عدتها؛ لأن الفرقة جاءت بسبب من جهتها.
ومما يوجب حرمة المصاهرة عند الحنفية والحنابلة: أن يستكره الابن امرأة أبيه على ما ينفسخ به نكاحها من وطء أو غيره في مرض أبيه، فمات أبوه من مرضه المذكور، ورثته ولم يرثها إن ماتت. فإن طاوعته على الحرام، لم ترث؛ لأنها مشاركة فيما ينفسخ به نكاحها، فأشبه ما لو خالعته.
وكذلك الحكم فيما إذا وطئ المريض من ينفسخ نكاحه بوطئها، كأم امرأته أو ابنتها، فإن امرأته تبين منه وترثه إذا مات في مرضه، ولا يرثها، سواء طاوعته الموطوءة أو أكرهها، فإن مطاوعتها ليس للمرأة فيه فعل، فيسقط به ميراثها.
ولا يرى الشافعي فسخ النكاح بالوطء الحرام.
وإن فعلت المريضة ما ينفسخ نكاحها، كرضاع امرأة صغيرة لزوجها، أو رضاع زوجها الصغير، أو ارتدت أو نحوها، فماتت في مرضها، ورثها الزوج ولم ترثه عند الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي: لا يرثها.
زواج المريض المطلِّق بأخرى: إذا طلق المريض امرأته، ثم نكح أخرى ومات من مرضه في عدة المطلقة، ورثتاه عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: الميراث كله للمطلقة؛ لأن نكاح المريض عنده غير صحيح.(9/429)
المبحث السادس ـ الشك في الطلاق وإثبات الطلاق:
الشك في الطلاق: الشك لغة ضد اليقين، واصطلاحاً: تردد على السواء، والمراد هنا مطلق التردد، سواء أكان على السواء بين الاحتمالين أم ترجح أحد الاحتمالين. وحكمه باتفاق الفقهاء (1) : أن اليقين لا يزول بالشك، وعدم الشك من الزوج في الطلاق هو شرط الحكم بوقوع الطلاق، فلو شك فيه لا يحكم بوقوعه، ولا يعتزل امرأته.
ـ فمن شك في طلاقه، هل طلق أو لا، لم تطلق امرأته؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، ووقع الشك في زواله بالطلاق، فلا يحكم بزواله بالشك، كحياة المفقود، إنها لما كانت ثابتة، ووقع الشك في زوالها، لا يحكم بزوالها بالشك، والحاصل: أن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك.
ـ ومن شك في صفة الطلاق: أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها.
ـ ومن شك في عدد الطلاق بنى على اليقين، وهو الأقل، فمن شك في طلاق ثلاث، فيحكم عند الجمهور غير المالكية بوقوع طلقة واحدة حتى يستيقن؛ لأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه، فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق، وتبقى أحكام المطلق دون الثلاث من إباحة الرجعة، وإذا راجع، وجبت النفقة وحقوق الزوجية.
وقال المالكية: إن تيقن الطلاق، وشك في العدد، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنها تحتمل طلاقاً ثلاثاً.
ـ وإن حلف بالطلاق ثم شك: هل حنث أو لا، أمر عند المالكية بالفراق.
ـ وإن شك في وجود الشرط الذي علق عليه الطلاق، مثل: أنت طالق إن فعلت كذا، أو أنت طالق إن لم أفعل كذا اليوم، فمضى اليوم وشك في فعله، لم تطلق؛ لأن النكاح ثابت بيقين، فلا يزول بالشك.
__________
(1) البدائع: 126/3، القوانين الفقهية: ص 230، المهذب: 100/2، مغني المحتاج: 303/3 وما بعدها، كشاف القناع: 381/5 وما بعدها، المغني: 247/7.(9/430)
ـ ومن طلق إحدى امرأتيه بذاتها، ثم نسيها أو خفيت عليه ذاتها، بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب، رجع إليه عند الشافعية في تعيينها، ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين، والوطء ليس بياناً ولا تعييناً، ولو ماتت المرأتان أو إحداهما يطالب بالتعيين لبيان الإرث، ولو مات فالأظهر قبول بيان وارثه لا تعيينه، وقال الحنابلة: تعين إحداهما بقرعة.
وإن طلق إحدى امرأتيه، ولم ينو معينة، لزمه التعيين عند الشافعية. وأخرجت المطلقة بالقرعة عند الحنابلة، خلافاً لما ذهب إليه أكثر العلماء، عملاً بما روي عن علي وابن عباس، ولأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية، فتدخله القرعة كالعتق، ولأن الحق لواحد غير معين، فوجب تعيينه بقرعة كإعتاق عبيده في مرضه، وكالسفر بإحدى نسائه، وكالمنسية، ولا يملك إخراج امرأة بتعيينه بغير القرعة، ويجوز له وطء الباقي من نسائه بعد القرعة لبقاء نكاحهن، ولا يجوز وطء إحداهن قبل القرعة إن كان الطلاق بائناً، لاحتمال أن تكون هي التي تقع عليها القرعة، وإن كان الطلاق رجعياً جاز وطء الكل، وبه تحصل الرجعة.
ـ ولو قال: إن كان الطائر غراباً فأنت طالق، وشك هل كان غراباً أو لا، فلا نحكم بوقوعه. ولو قال شخص آخر: إن لم يكن هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وجهل حال الطائر، لم يحكم بطلاق المرأة، لجواز أنه غير غراب، والأصل بقاء النكاح، فتعليق الطلاق لا يغير حكمه. وقال الحنابلة: من قال عن طائر: إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق، وإن لم يكن غراباً ففلانة طالق، وجهل أي المرأتين طلق، فالمطلقة منهما كالمنسية، يقرع بينهما؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عيناً أو بالذات، فهما سواء، والقرعة طريق شرعي لإخراج المجهول.(9/431)
الورع التزام الطلاق: لكن يلاحظ أن الشافعية والحنابلة نبهوا على أن الورع في حال الشك هو التزام الطلاق والأخذ بالأسوأ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (1) وقوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (2) . فمن شك في الطلاق، يراجع إن كان له الرجعة، وإلا فيجدد نكاحها إن كان له فيها رغبة، وإلا فلينجز طلاقها لتحل لغيره يقيناً. ومن شك في عدد الطلاق في أنه طلق ثلاثاً أم ثنتين، لم ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره. ولو شك: هل طلق ثلاثاً أو لم يطلق شيئاً، طلقها ثلاثاً لتحل لغيره يقيناً.
أدلة العمل بالمتيقن: والأصل في طرح الشك والعمل بالمتيقن حديث عبد الله ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاًَ» (3) فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك، ولأنه شك طرأ على يقين، فوجب اطراحه، كما لو شك المتطهر في الحدث، أو شك المحدث في الطهارة.
وبناء عليه قرر الفقهاء ما سبق وخلاصته: إن وقع الشك في أصل الطلاق: لا يحكم بوقوعه؛ لأن النكاح كان ثابتاً بيقين، إن وقع في قدر الطلاق أو عدده، يحكم بالأقل عند الجمهور غير المالكية؛ لأنه متيقن به، وفي الزيادة شك. وإن وقع الشك في وصف الطلاق أنه طلقها رجعية أو بائنة، يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين، فكانت متيقناً بها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير.
(2) رواه الترمذي وصححه.
(3) متفق عليه.(9/432)
إثبات الطلاق:
إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، وأنكر هو، فمذهب المالكية (1) : أنه إن أتت بشاهدين عدلين نفذ الطلاق، وإن أتت بشاهد واحد، حلّف الزوج وبرئ، وإن لم يحلف سجن حتى يقر ويحلف.
وإن لم تأت بشاهد فلا شيء على الزوج، وعليها منع نفسها منه بقدر جهدها.
وإن حلف بالطلاق وادعت أنه حنث، فالقول قول الزوج بيمينه.
وذكر الحنابلة (2) : إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها، فالقول قول الزوج بيمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، إلا أن يكون لها بما ادعته بينة، ولا يقبل فيه إلا عدلان؛ لأن الطلاق ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال كالحدود والقصاص. فإن لم تكن بينة يستحلف الرجل على الصحيح لحديث: «اليمين على من أنكر» .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 231.
(2) المغني: 259/7.(9/433)