|
المؤلف: أ. د. وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ، أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الناشر: دار الفكر - سوريَّة - دمشق
الطبعة: الطَّبعة الرَّابعة المنقَّحة المعدَّلة بالنِّسبة لما سبقها
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]
ـ الكتاب مقابل على المطبوع
أعده للشَّاملة: أبو أكرم الحلبيّ من أعضاء ملتقى أهل الحديث
رضي الله عنه أنه يقطع من خنصر القدم (1) ويبقى له الكعب ليعتمد عليه. وبه قال أبو ثور، والراجح المشهور عملاً هو كون القطع من مفصل الزند ومن مفصل القدم.
وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة، لما روى فضالة بن عبيد، قال: «أتي النبي صلّى الله عليه وسلم بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر فعلقت في رقبته» ولأن في ذلك ردعاً للناس. ويحسم موضع القطع، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بسارق، فقال: اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به، فأتي به، فقال: تب إلى الله تعالى، فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: تاب الله عليك. والحسم: هو أن يغلى الزيت غلياً جيداً، ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق، وينقطع الدم (2) وعلى المحدود أجرة قاطع، وثمن زيت حسم.
صفة حد السرقة: حد السرقة بالاتفاق حق خالص لله تعالى، فلا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ثبوته، فلو أمر الحاكم بقطع السارق، فعفا عنه المسروق منه، كان عفوه باطلاً؛ لأن صحة العفو تعتمد كون العفو عنه حقاً للعافي، والقطع حق خالص لله سبحانه وتعالى. ومن هنا قرر الحنفية هذه القاعدة: «الصلح عن الحدود باطل» (3) .
ويترتب عليه (4) : أنه يجري التداخل في حد السرقة، فلو سرق شخص سرقات، فرفع الأمر فيها كلها أو بعضها إلى الحاكم، فيقام حد واحد هو القطع
__________
(1) المبسوط: 133/9، البدائع: 98/7، بداية المجتهد: 443/2، حاشية الدسوقي: 332/4، مغني المحتاج: 178/4، المغني: 259/8.
(2) المهذب: 283/2، غاية المنتهى: 343/3.
(3) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 147.
(4) البدائع: 55/7، 86، المبسوط: 185/9، المهذب: 263/2، 283.
(7/367)
لكل السرقات؛ لأن الجرائم التي هي من جنس واحد يكتفى فيها بحد واحد، كما في الزنا، إذ المقصود من إقامة الحد هو الزجر والردع، وهو يحصل بإقامة حد واحد.
وإذا ثبت الحد عندالسلطان، لم يجز العفو عنه، ولا تجوز الشفاعة فيه؛ لأن الحد لله، فلا يجوز فيه العفو والشفاعة، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «أتي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بسارق قد سرق، فأمر به فقطع، فقيل: يا رسول الله، ما كنا نراك تبلغ به هذا، قال: لو كانت فاطمة بنت محمد، لأقمت عليها الحد» (1) . وقال الزبير: «إذا بلغ ـ أي الحد ـ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» (2) .
المبحث الثاني ـ شروط السرقة الموجبة للحد:
يشترط لإقامة حد السرقة شروط، بعضها في السارق، وبعضها في المسروق، وبعضها في المسروق منه، وبعضها في المسروق فيه، وهو المكان.
شروط السارق: يشترط في السارق توافر أهلية وجوب القطع: وهي العقل والبلوغ والاختيار والعلم بالتحريم، فلا يقطع الصبي والمجنون، لقوله عليه السلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» . ولأن القطع عقوبة، فيستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية. ولا يحد المكرَه لرفع القلم عنه، ولا يحد من أخذ شيئاً جاهلاً بتحريمه لقرب عهده بالإسلام.
وإذا اشترك الصبي أو المجنون مع جماعة في سرقة، فلا قطع على الجميع عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 135/7 وما بعدها) .
(2) رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن (نيل الأوطار، المرجع السابق) .
(7/368)
وقال أبو يوسف رحمه الله: العبرة بمباشرة إخراج المتاع، فإن أخرجه الصبي أو المجنون، درئ الحد عن الجميع، وإن باشر الإخراج غيرهما قطع، ولا يقطع الصبي أو المجنون؛ لأن الإخراج من الحرز هو الأصل في السرقة، والإعانة كالتابع.
ودليل أبي حنيفة وزفر: أن السرقة واحدة، وقد حصلت ممن يجب عليه القطع وممن لا يجب عليه القطع، فلا يجب القطع على أحد، كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في جريمة، وإخراج السرقة حصل من الكل من ناحية المعنى (1) .
واشتراط البلوغ والعقل في السارق لإقامة الحد متفق عليه، وأضاف الشافعية والحنابلة شرط كونه مختاراً، التزم أحكام الإسلام، فلا يجب الحد على مكره، لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولا تجب على الحربي؛ لأنه لم يلتزم حكم الإسلام. وفي وجوب الحد على المستأمن والمهادن قولان عندهم: أحدهما ـ أنه لا يجب عليه حد السرقة؛ لأنه حق خالص لله تعالى، فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا. والثاني ـ أنه يجب عليه؛ لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي، فوجب عليه كحد القذف.
وأضاف المالكية ألا يكون للسارق على المسروق منه ولادة، فلا يقطع الأب في سرقة مال ابنه لقوة الشبهة الآتية من حديث جابر عند ابن ماجه: «أنت ومالك لأبيك» . وزاد الشافعي وأحمد ومالك الجد، فلا يقطع في مال حفيده، وزاد أبو حنيفة كل ذي رحم محرم، واختلفوا في الزوج والزوجة إذا سرق كل واحد منهما من مال صاحبه، كما سأوضح. وأضاف المالكية أيضاً ألا يضطر السارق إلى السرقة من جوع. وأضاف الحنابلة شرط كون السارق عالماً بمسروق وبتحريمه اعتباراً بما في ظن المكلف (البالغ العاقل) . أما إذا سرق الولد من مال أحد أبويه فيقطع عند المالكية، ولايقطع عند بقية المذاهب، لأن الولد يتبسط في مال والديه عادة، فتكون هناك شبهة في إسقاط الحد.
شروط المسروق: يشترط في المسروق عدة شروط:
1 - أن يكون المسروق مالاً متقوما (2) : والمراد بالمال: ما يتموله الناس ويعدونه مالاً؛ لأن ذلك يشعر بعزته وخطره عندهم، وما لا يتمولونه فهو تافه حقير، ولا تقطع اليد في الشيء التافه، كما كان عليه عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. والمراد بالمتقوم: ما كان له قيمة يضمنها متلفه عند اعتدائه عليه.
وبناء على هذا: لو سرق إنسان صبياً حراً، لا تقطع يده، لأن الحر ليس بمال (3) ، وإنما يعزر. ولو سرق شخص خمراً أو خنزيراً أو جلد ميتة لا تقطع يده أيضاً؛ لأنه لا قيمة للخمر والخنزير في حق المسلم، ولا مالية في جلد الميتة، وهذا شرط متفق عليه. ولا قطع بسرقة أدوات الملاهي كالعدد والمزمار، والأصنام والصلبان؛ لأنها غير متقومة فلا يباح استعمالها، وإزالة المعصية أمر مندوب إليه.
__________
(1) البدائع: 67/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 211/3، فتح القدير: 220/4، المهذب: 277/2، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) البدائع: 67/7، المهذب: 280/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 336/3.
(3) فتح القدير: 230/4.
(7/369)
2 - أن يكون المال المسروق مقدراً: أي له نصاب، فلا يقطع السارق في الشيء التافه. واختلف الفقهاء في مقدار النصاب: فقال الحنفية: نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، أو قيمة أحدهما (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» (2) وقوله أيضاً: «لا تقطع اليد إلا في دينار، أو في عشرة دراهم» (3) . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا يقطع السارق إلا في ثمن المِجَنَّ، وكان يقوَّم يومئذ بعشرة دراهم» (4) .وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: نصا ب السرقة ربع دينار شرعي من الذهب أو ثلاثة دراهم شرعية خالصة من الفضة (5) . أو قيمة ذلك من العروض والتجارات والحيوان، إلا أن التقويم عند المالكية والحنابلة في سائر الأشياء المسروقة عدا الذهب والفضة يكون بالدراهم. وعند الشافعية بالربع دينار. ودليلهم: قوله عليه الصلاة والسلام: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» (6) وأنه
__________
(1) المبسوط: 137/9، البدائع: 77/7، فتح القدير: 220/4.
(2) رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» وفيه نصر بن باب، ضعفه الجمهور. وقال أحمد: لا بأس به. ورواه الطبراني عن ابن مسعود بلفظ: «لا قطع إلا في عشرة دراهم» (راجع جمع الزوائد: 273/6، نصب الراية: 359/3) .
(3) هذا من الآثار عن ابن مسعود: رواه عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه رواه الطبراني في معجمه، وهو موقوف كما قال الهيثمي. وفيه القاسم أبو عبد الرحمن ضعيف، وقد وثق (راجع مجمع الزوائد، المرجع السابق، نصب الراية: 360/3) «وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قطع يد رجل في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم، وهو حديث مرفوع (راجع نصب الراية: 358/3) .
(4) رواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو بلفظ: «لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن، قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم» «وروى النسائي عن أيمن بن أم أيمن الحبشية رضي الله عنهما قال: ولم يقطع النبي صلّى الله عليه وسلم السارق إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار» وفي رواية «عشرة دراهم» قال النسائي: وأيمن ما أحسب أن لحديثه صحة (راجع جامع الأصول: 113/4، نصب الراية: 359/3) .
(5) من المعروف عند هؤلاء أن الدينار اثنا عشر درهماً. والدرهم 975،2 غم. وعند الحنفية: الدينار عشرة دراهم. وبما أن المثقال أو الدينار يساوي 1 و 7/3 درهم، فيساوي الدينار 45،4 غم.
(6) رواه أحمد والموطأ وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة منها لفظ البخاري: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» ومنها لفظ مسلم: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» (راجع جامع الأصول: 310/4، سبل السلام: 18/4، نيل الأوطار: 124/7، التلخيص الحبير: ص 355) .
(7/370)
عليه الصلاة والسلام: «قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» (1) وهي قيمة ربع الدينار (2) .
وبه يظهر أن منشأ الخلاف: هو تقدير ثمن المجن الذي قطع السارق به في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم. فالحنفية يقولون: كان ثمنه ديناراً. والآخرون يقولون: كان ثمنه ربع دينار. والأحاديث الصحيحة تؤيد وترجح رأي الجمهور.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم (المراجع السابقة، جامع الأصول: 311/4، نصب الراية: 355/3) .
(2) المنتقى على الموطأ: 156/7، بداية المجتهد: 437/2، حاشية الدسوقي: 333/4، المهذب: 277/2، مغني المحتاج: 158/4، المغني: 240/8، القوانين الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 337/3.
(7/371)
صفات النصاب:
قال الحنفية: يشترط أن تكون الدراهم جياداً، فلو سرق زيوفاً، أو سرق غيرالدراهم، لا يقطع ما لم تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم جياد.
وأن تكون الدراهم، وزن سبعة مثاقيل (1) ؛ لأن اسم الدرهم عند الإطلاق يقع على ذلك، ولأن هذا أوسط المقادير بين الدراهم الكبار والصغار التي كانت على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وهل ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؟
قال أبو حنيفة: إذا سرق عشرة دراهم ولو كانت تبراً مما يروج بين الناس في معاملاتهم تقطع يده؛ لأن المهم هو الرواج في التعامل بين الناس، ودليله: إطلاق حديث القطع في عشرة دراهم، ورد عليه بأن المطلق يقيد بالعرف والعادة.
__________
(1) المثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم، قال في شرح الدميري: إن كل درهم: ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، والمثقال لم يتغير في جاهلية ولا في إسلام (راجع سبل السلام: 128/2، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 159) .
(7/372)
وقال الصاحبان والكرخي: ينبغي أن تكون الدراهم مضروبة؛ لأن اسم الدراهم في الحديث يطلق على المضروبة عرفاً، وهو ظاهر الرواية، وهو الأصح، وهو قول الجمهور. فلو سرق تبراً (أي فضة غير مضروبة صكاً) أو نُقْره (هي القطعة المذابة من الذهب والفضة أي السبيكة) قيمتها أقل من عشرة دراهم مضروبة لا يقطع، فإذا ساوت قيمتها عشرة دراهم مسكوكة فأكثر، يقطع سارقها (1) .
وقت اعتبار قيمة المسروق:
قال جمهور الحنفية: يجب أن تكون قيمة المسروق عشرة دراهم، من وقت السرقة، إلى وقت القطع، فإن نقص المسروق: فإما أن يكون نقصان العين أو نقصان السعر.
فإذا نقصت قيمة المسروق بانتقاص عينه: بأن دخله عيب أو ذهب بعضه، فيقام الحد؛ لأن نقصان العين هو هلاك بعض المسروق، وهلاك جميع المسروق لا يسقط الحد، فهلاك بعضه لا يسقطه من باب أولى.
وإن كان نقصان السعر: بأن صار يساوي ثمانية دراهم مثلاً، بعد أن كان يساوي عشرة، فهناك روايتان:
ظاهر الرواية: أنه لا يقطع؛ لأن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة؛ لأن العين بحالها لم تتغير، فيحصل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة، بخلاف نقصان العين؛ لأنه يوجب تغير العين، بهلاك بعضها، والهلاك مضمون على السارق، فلا يمكن افتراض وجوده عند السرقة.
وروي عن محمد وهو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى: أنه
__________
(1) فتح القدير: 222/4، حاشية ابن عابدين: 211/3، البدائع: 78/7، المبسوط: 138/9، مغني المحتاج: 158/4.
(7/373)
تعتبر قيمة العين وقت الإخراج من الحرز، ولا يعتبر نقصان السعر بعد أخذ المسروق، قياساً على نقصان العين (1) ، وهذا في تقديري أولى، لاكتمال الجريمة وقت السرقة.
ويجري هذا الخلاف فيما لو سرق الشخص في بلد، وقبض عليه في بلد آخر: لا يقطع في ظاهر الرواية، ما لم تكن قيمة المسروق في البلدين عشرة دراهم.
كون النصاب من حرز واحد:
النصاب الموجب لحد القطع يجب أن يكون مأخوذاً من حرز واحد، سواء أكان المسروق لواحد أم لجماعة؛ لأنها سرقة واحدة. وبناء على هذا، لو سرق خمسة دراهم من دار لرجل، وخمسة من دار أخرى، لا يجب القطع؛ لأنهما سرقتان مختلفتان من حرزين مختلفين، فلا محل للقطع فيهما. وكذلك لو سرق عشرة دراهم على مرتين، لا يقطع؛ لأن المسروق في كل مرة أقل من نصاب (2) .
اشتراك جماعة في السرقة:
اتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب، فعلى كل واحد منهم القطع.
أما إذا كان المسروق كله نصاباً، واشترك جماعة في سرقته:
فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقطع كل واحد منهم (3) ؛ لأن كل واحد منهم
__________
(1) البدائع: 79/7، المنتقى على الموطأ: 158/7.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 78، حاشية ابن عابدين: 212/3.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 78، فتح القدير: 225/4، مغني المحتاج: 160/4، المهذب: 277/2.
(7/374)
لم يسرق نصاباً، فلم تستوجب جنايته عقوبة كاملة، كما لو انفرد بسرقة مادون النصاب، والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذا دليل الشافعي. ولكن هذا الحكم يخالف حكم جريمة الاشتراك في القتل؛ لأنه لو لم يجب القصاص على كل واحد منهم، لكان الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص، بخلاف الأمر في السرقة، فإنه إذا لم يجب القطع على الشركاء في سرقة نصاب، لم يصر الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القطع، لقلة ما يصيب كل واحد منهم، فإذا سرقوا أكثر من نصاب بحيث يصيب كل واحد منهم مقدار نصاب، فإنه يجب القطع. ويقدر المسروق في الحكم عند الحنفية يوم الحكم بالقطع.
وقال المالكية: إن اشترك السارقان أو أكثر في سرقة نصاب: فإن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده، فلا يقطع أحد، وإلا بأن كانوا يحتاجون في إخراجه إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعاً، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، ويقدر المسروق عندهم وعند الشافعية والحنابلة بقيمته يوم السرقة (1) .
وقال الحنابلة: إذا اشترك الجماعة في سرقة، قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا، لضرورة حفظ المال، فإن الواحد والجماعة يستوون في هتك الحرز، وسرقة النصاب فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص.
قال ابن قدامة في المغني: وقول أبي حنيفة والشافعي أحب إلي؛ لأن القطع ههنا لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب، والاحتياط بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 335/3، بداية المجتهد: 439/2، المنتقى على الموطأ: 178/7، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) المغني: 282/8، غاية المنتهى: 337/3 وما بعدها.
(7/375)
3 - أن يكون المسروق محرزاً مطلقاً، مقصوداً بالحرز:
الأصل في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه قوله عليه السلام: «لا قطع في ثَمَر ولا كَثر حتى يؤويه الجرين، فإذا أواه الجرين، ففيه القطع» وفي رواية: «فإذا أواه المُراح أو الجرين» (1) .
والحرز لغة: الموضع الذي يحرز فيه الشيء. وشرعاً: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس كالدار والحانوت والخيمة والشخص (2) . وهو نوعان:
__________
(1) المراح: حرز الإبل والبقر والغنم الذي تأوي إليه ليلاً. والجرين: حرز التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة. والكثر: هو جمار النخل أي الجزء الأبيض الغصن من قلب النخل أو ما يحيط بالبرعمة الرئيسية الكبيرة وهي حلوة المذاق تخلو من الألياف، وقد يبلغ بعضها وزن كيلو غرام أو أكثر حسب حجم رأس النخلة، قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب بهذا اللفظ، وبمعناه ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق (أي الذي بعد في شجره) فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (هو ما تحمله في حضنك) فلا شيء عليه، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» وروى مالك في الموطأ وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل (أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع) فإذا أواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» وهو معضل، وقد روى حديث «لا قطع في ثمر ولا كثر» الترمذي عن الليث بن سعد والنسائي، وابن ماجه عن سفيان بن عيينة من حديث رافع بن خديج، رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه الطبراني في معجمه، وأخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي (راجع جامع الأصول: 318/4 وما بعدها، نصب الراية: 362/3، سبل السلام: 23/4، التلخيص الحبير: ص 356، نيل الأوطار: 127/7) .
(2) هذا ويلاحظ أن المذاهب الأربعة متفقة على أن تحديد الحرز مرجعه إلى العرف والعادة (بداية المجتهد: 440/2، الأم: 135/6 وما بعدها، المغني: 249/8، غاية المنتهى: 339/3، فتح القدير: 238/4، المهذب: 280/2، القوانين الفقهية: ص 360) .
(7/376)
1 - حرز بنفسه: وهو كل بقعة معدة للإحراز، ممنوعة الدخول فيها، إلا بالإذن، كالدور والحوانيت والخيام، والخزائن والصناديق.
2 - حرز بغيره: وهو كل مكان غير معد للإحراز، يدخل إليه بلا إذن، ولا يمنع منه، كالمساجد والطرق والمفاوز.
فالنوع الأول: يكون حرزاً بنفسه، سواء وجد حافظ، أو لا، وسواء أكان الباب مغلقاً، أم مفتوحاً؛ لأن البناء يقصد به الإحراز، وهو معتبر بنفسه بدون صاحبه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء الجرين والمراح من غير شرط وجود الحافظ، لصيرورته حرزاً.
وأما النوع الثاني: فحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ، فإن كان هناك حافظ قريب
(7/377)
من المال يمكنه حفظه، فهو حرز، سواء أكان نائماً، أم يقظان، لأنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان، وصفوان كان نائماً (1) .
والأخذ من الحرز شرط متفق عليه، ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز.
وبناء عليه يعرف حكم الصور الآتية:
أـ لو سرق إنسان عِدلاً موجوداً على ظهر دابة تسير ضمن مجموعة من الدواب مقطورة ببعضها، لم يقطع؛ لأنه أخذ نفس الحرز، ونفس الحرز ليس في الحرز، وكون العدل على ظهر الدابة لا يكفي اعتباره محرزاً؛ لأنه ليس بحرز مقصود؛ لأن قصد قائد الدواب هو قطع المسافة دون الحفظ، وإنما القائد حافظ للدابة التي زمامها بيده فقط، هذا مذهب الحنفية. ويظهر أن هذا الرأي متأثر بالعرف، وعرفنا اليوم أن قائد القافلة مطالب بحفظ المتاع المحمول.
وقال الأئمة الثلاثة: القائد حافظ لكل الدواب التي يقودها إذا كان بحيث يراها إذا التفت إليها، وهو وإن كان يقصد قطع المسافة يقصد أيضاً الحفظ.
__________
(1) المبسوط: 150/9 وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 221/3، فتح القدير: 240/4، البدائع: 73/7، وقد سبق تخريج هذا الحديث في حد القذف.
(7/378)
فإن شق العدل الموجود على الدابة، وأخرج المتاع: قطع؛ لأن العدل حرز لما فيه (1) .
ب ـ إذا علم صاحب الشيء المسروق بالسرقة قبل إخراج المسروق من الحرز، فأخذه منه، لا يقطع، لأنه لم يوجد منه الإخراج من الحرز. أما إن علم به ولم يأخذه منه خوفاً من الاصطدام معه، أو عجز عن أخذه بعد مقاتلته بسلاح ونحوه، فإن كانت السرقة نهاراً لا تقطع يد السارق؛ إذ لا بد من الخفية عند ابتداء وانتهاء الأخذ كما تقدم، أما إن كانت السرقة ليلاً فتقطع يد السارق في هذه الحالة استحساناً عند الحنفية؛ لأنه يكفي في الليل توافر الخفية عند بدء الأخذ لا نهايته؛ لأن أغلب سرقات الليل تصير مغالبة أو مع خوف المالك من المقاومة، لعدم تيسر النجدة والغوث أثناء الليل.
جـ ـ إذا رمى السارق المسروق إلى خارج، فوجده مالكه فأخذه، لا يقطع؛ لأنه لم تثبت يده عليه عند الخروج، لثبوت يد غيره، فإذا رماه من الحرز، ثم خرج وأخذه، يجب القطع، وهذا متفق عليه، خلافاً لزفر، لأنه ثبتت عليه يده حكماً، والرمي حيلة لإتمام السرقة. ودليل زفر: أن الإلقاء غير موجب للقطع، كما لو خرج ولم يأخذه (2) .
د ـ المناولة من الحرز: إذا اشترك اثنان في نَقْب جدار، فدخل أحدهما، وأخذ المتاع، وناوله الآخر، هو خارج الحرز، أو رمى به إليه، فقال أبو حنيفة: لا قطع على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما لم يستقل بالنقب والإخراج اللذين لا تكمل السرقة إلا بهما جميعاً بحسب العرف، فالداخل لم تثبت يده على المسروق حين إخراجه، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد، وهذا هو الراجح لدى الحنفية.
__________
(1) البدائع: 74/7، فتح القدير: 246/4، تبيين الحقائق: 224/3.
(2) فتح القدير: 244/4، مغني المحتاج: 172/4.
(7/379)
وقال محمد: إن أخرج الداخل يده من الحرز، وناول الخارج، يقطع الداخل دون الخارج، فإن أدخل الخارج يده في الحرز، وأخذ المسروق فلا قطع عليهما؛ لأن الداخل لم يوجد منه الإخراج، والآخر لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد.
وقال أبو يوسف: إذا أخرج الداخل يده، فالقطع على الداخل، وأما الخارج إذا أدخل يده وأخذ منه، فيجب القطع عليهما؛ لأنه لا يشترط عنده دخول الحرز (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يقطع الداخل وحده، دون الخارج؛ لأنه هو الذي أخرج المتاع، مع المشاركة في النقب (2) .
هـ ـ إخراج المسروق من الحرز (سرقة النقب) : إذا نقب شخصان حرزاً، ودخل أحدهما، وقرب المتاع إلى النقب وتركه، فأدخل الخارج يده، فأخرجه من الحرز، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع عليهما؛ لأن الداخل لم يوجد منه الإخراج، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز، فلم تتم السرقة من كل واحد منهما، وفي هذه المسألة قال علي رضي الله عنه: «إذا كان اللص ظريفاً لا يقطع» (3) .
وقال أبو يوسف: يقطع الخارج؛ لأن المقصود أخذ المال، لا دخول الحرز (4) .
وقال مالك: يقطع المخرج خاصة، لأنه السارق. وقال الشافعية: لو تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج، أو وضعه ناقب بقرب النقب، فأخرجه آخر،
__________
(1) المبسوط: 147/9، فتح القدير: 243/4، الاختيار: 106/4.
(2) حاشية الدسوقي: 343/4، المهذب: 279/2، المغني: 284/8، غاية المنتهى: 338/3.
(3) هذا ما نقله الحنفية في كتبهم، ويحتاج ذلك إلى مزيد من التثبت.
(4) المبسوط: 147/9، فتح القدير: 245/4، تبيين الحقائق للزيلعي: 223/3.
(7/380)
قطع المخرج، لكن لو وضعه بوسط نقبه فأخذه خارج وهو يساوي نصابين، لم يقطع الاثنان في الأظهر. ولو نقب شخص وأخرج غيره المسروق فلا قطع على واحد (1) .
وقال أحمد: يقطع كل واحد منهما؛ لأنهما اشتركا في هتك الحرز، وإخراج المتاع، فلزمهما القطع، كما لو حملاه معاً فأخرجاه (2) . وهذا لدي أصح الآراء للاشتراك في السرقة. ويجري هذا الخلاف أيضاً فيمن دخل الحرز، وجمع المتاع عند النقب، ثم خرج، وأدخل يده، وأخرج المتاع.
وـ الاشتراك في السرقة أو تحميل المسروق على ظهر واحد من الجماعة: إذا دخل جماعة الدار، فأخذوا متاعاً، وحملوه على ظهر رجل منهم أو رجلين، وخرج الباقون من غير حمل شيء: فالقياس عند الحنفية وهو قول زفر والمالكية والشافعية: ألا يقطع غير الحامل؛ لأن فعل السرقة لا يتم إلا بالإخراج بعد الأخذ (3) .
وفي الاستحسان عندالحنفية وهو قول الحنابلة: يقطعون جميعاً؛ لأن إخراج المسروق تم بمعاونة الجماعة، وهكذا تكون السرقة الجماعية عادة (4) .
ويجري هذا الخلاف فيما لو حملوا المسروق على دابة، حتى خرجت من الحرز، فإنه يجب القطع استحساناً.
ز ـ الطرار والنباش: الطرار: هو النشال وعرفه الحنابلة بقولهم بأنه من يبط (يشق) جيباً أو كماً ويأخذ منه أو بعد سقوطه نصاباً. وقد اتفق الفقهاء على أن
__________
(1) حاشية الدسوقي: 343/4، بداية المجتهد: 440/2، المهذب: 280/2، مغني المحتاج: 171/4 وما بعدها.
(2) المغني: 283/8 وما بعدها، غاية المنتهى: 338/3.
(3) الشرح الكبير: 335/4، الأم: 137/6، مغني المحتاج: 172/4.
(4) فتح القدير: 244/4، المغني: 283/8.
(7/381)
الطرار تقطع يده (1) . وهو الرأي المتفق مع المصلحة. ومعنى الطرار: هو الذي يسرق من جيب الرجل، أو كمه (2) أو صُفْنة (وعاء من أدم يستقى به) سواء بالقطع أو بالشق أو بإدخال اليد في الجيب.
غير أن الحنفية فصلوا في طريقة الطر: فإن كان الطر بالقطع، والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع؛ لأن الحرز هو الكم، والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم، فلم يوجد الأخذ من الحرز.
وإن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم، يقطع؛ لأنها بعد القطع، تقع في داخل الكم، فكان الطر أخذاً من الحرز، وهو الكم، فيقطع.
وإن كان الطر بحل الرباط ينظر: إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم، بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم، لا يقطع؛ لأنه أخذها من غير حرز.
وإن كان بحال إذا حل الرباط تقع الدراهم في داخل الكم، وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للأخذ، يقطع، لوجود الأخذ من الحرز.
والخلاصة: أن الحنفية يتطلبون وجود معنى الحرز حقيقة واقعة، والأولى الأخذ برأي الجمهور تفادياً لخطر هؤلاء اللصوص الخطرين.
__________
(1) فتح القدير، المرجع السابق: ص 245، البدائع: 76/7، حاشية ابن عابدين: 224/3، مختصر الطحاوي: ص 271، بداية المجتهد: 440/2، المهذب: 279/2، المغني: 256/8، غاية المنتهى: 336/3.
(2) الكم ـ بضم الكاف والميم المشددة: مدخل اليد ومخرجها من الثوب، والمراد به هنا: أنه ما يتخد مكاناً لتخبئة الأشياء فيه. والكم بكسر الكاف: وعاء الطلع أو الزهر أو الثمر.
(7/382)
النباش: هو سارق أكفان الموتى، واختلف الفقهاء في حكمه، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا يقطع ولو كان القبر في بيت مقفل في الأصح؛ لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلاً، إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف: تقطع يده؛ لأنه سارق، أو ملحق بسارق مال الحي، والله تعالى يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] ، وقالت عائشة رضي الله عنها: «سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (2) ، وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من حرَّق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه» (3) ، ولأن القبر حرز للكفن، فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر، دون غيره، ويكتفى به في حرزه (4) .
إلا أن الشافعية استثنوا القبر الموجود في برية، فلا قطع في السرقة منه؛ لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يكون الدفن في البرية للضرورة بخلاف المقبرة التي تلي العمران، والراجح رأي الجمهور، منعاً من هذه الدناءات.
ح ـ الدار المشتركة: إذا كانت الدار مشتركة بين عدة سكان، كالغرف المؤجرة في المنازل لأكثر من واحد، فسرق المتاع من غرفة، يقطع عند الحنفية إذا كانت الدار عظيمة بحيث يستغني أهل كل بيت ببيتهم عن صحن الدار.
__________
(1) المبسوط: 159/9، حاشية ابن عابدين: 219/3، مختصر الطحاوي: ص 273، البدائع: 69/7، القوانين الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 340/3.
(2) أخرجه الدارقطني من حديث عمرة عنها.
(3) رواه البيهقي في المعرفة وقال: في هذا الإسناد بعض من يجهل حاله وروى الدارقطني عن عائشة قالت: «سارق أمواتنا كسارق أحيائنا» (راجع نصب الراية: 366/3، التلخيص: ص: 356، 358) .
(4) حاشية الدسوقي: 340/4، بداية المجتهد: 440/2، مغني المحتاج: 169/4، المهذب: 278/2، المغني: 272/8.
(7/383)
وكذلك يقطع عند الحنابلة إذا كان الباب مغلقاً، ويقطع عند مالك والشافعي بإخراج المتاع، ولو لم يخرجه من جميع الدار (1) .
ط ـ الأمتعة في الأسواق: يقطع سارقها عند الحنفية إذا سرق منها ليلاً، ولا يقطع إن سرق منها نهاراً، لاختلال الحرز في النهار بسبب وجود الإذن عادة بالدخول. وقال المالكية والشافعية: يقطع سارق المتاع من حوانيت التجار أو الأسواق إذا كانت الأمتعة قد ضمها أصحابها إلى بعضها في موضع البيت، أوأحرزت في أوعيتها التي تحرز بها عادة، عملاً بالعرف الجاري في إحرازها. وبناء عليه، يقطع - في رأيي - سارق السيارات المتروكة في الشوارع اليوم؛ لأن الشارع هو حرزها، والحرز: هو كل مكان تحفظ فيه الأموال عادة.
وقال أحمد: يقطع سارقها إذا كان في السوق حارس، أو كان مع الأمتعة حارس يشاهدها (2) .
4 - أن يكون المسروق أعياناً، قابلة للادخار والإمساك، ولا يتسارع إليها الفساد:
قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع فيما يسرع إليه الفساد، إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة، كالعنب والتين والسفرجل والرطب والبقول والخبز ونحوها من الأطعمة الرطبة، والطبائخ، واللحم الطري أو اليابس، والنبيذ الحلال، والعصير والألبان، سواء أخذت من حرز أم لا، لعدم قابلية الادخار، ودليلهما قوله عليه الصلاة والسلام: «لا قطع في ثمر ولا كَثَر» (3) .
__________
(1) فتح القدير: 243/4، الموطأ: 50/3، الأم: 136/6، 139، المغني: 256/8، المهذب: 280/2.
(2) فتح القدير: 242/4، الموطأ: 50/3، الأم: 135/6،المغني: 249/8-250.
(3) الثمر: هو ما كان معلقاً في النخل قبل أن يجز ويحرز: وهو اسم جامع للرطب واليابس من الرطب والعنب وغيرهما. والكثر: هو جمار النخل، وهو شحم النخل الذي في وسط النخلة (راجع سبل السلام: 23/4، المنتقى على الموطأ: 182/7) .
(7/384)
ولأن هذه الأشياء لا تعد مالاً عادة، فيقل خطرها عند الناس، فكانت تافهة، ونظراً لأنها معرضة للهلاك أيضاً تشبه ما لم يحرز، فإن كان المسروق مما يبقى من سنة إلى سنة، فيدخر، مثل الجوز واللوز والتمر اليابس والفواكه اليابسة والخل والدبس، فيجب القطع (1) .
وقال أبو يوسف: يجب القطع فيما لا يحتمل الادخار؛ لأنها منتفع بها حقيقة، والانتفاع بها مباح شرعاً على الإطلاق، فكانت مالاً، فيقطع فيها كسائر الأموال (2) . وهذا الرأي يتفق مع عرفنا اليوم، إذ أن الفواكه أصبحت من الأموال المهمة، وليست تافهة، كما كان عليه عرف الناس في الماضي.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجب القطع في كل الأموال المتمولة التي يجوز بيعها، وأخذ العوض عنها، سواء أكانت طعاماً أم ثياباً، أم حيواناً، أم أحجاراً، أم قصباً، أم صيداً، أم زجاجاً، ونحوها، لعموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] ولأن هذا مال يتمول عادة ويرغب فيه، فيقطع سارقه إذا اجتمعت فيه شروط السرقة (3) ، كأن يؤخذ من حرز مثله.
سرقة الثمر المعلق: اتفق العلماء على أنه لا يجب القطع في سرقة الثمر المعلق على الشجر أو الحنطة في سنبلها، إذا لم يكن محرزاً، فإن أحرز وجب فيه القطع. ويرجع في تحديد الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزاً، فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه، وما لا يعرفونه حرزاً لم يقطع بالسرقة منه؛ لأن الشرع دل على اعتبار الحرز، وليس له حد مقرر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى العرف. قال الشافعي: إن حديث رافع: «لا قطع في ثمر» خرج على ما كان عليه عادة أهل المدينة من عدم إحراز حوائطها (بساتينها) فذلك لعدم الحرز. فإذا أحرزت الحوائط (أي البساتين) بالجدران أو الأسلاك الشائكة مثلاً، كانت كغيرها. لكن إذا أخذ الثمر من غير حرز، يجب فيه عند الجمهور دفع قيمته.
__________
(1) المبسوط: 153/9، فتح القدير: 227/4، البدائع: 69/7.
(2) المراجع السابقة.
(3) بداية المجتهد: 441/2، الميزان: 162/2، المهذب: 277/2 وما بعدها، المغني: 246/8، نيل الأوطار: 128/7، غاية المنتهى: 337/3، 341.
(7/385)
وقال الحنابلة: يجب دفع مثلي قيمته، لقوله عليه السلام: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة، أي (لا يخبئ شيئاً في ثنيات ثيابه) فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع» (1) . فإن استحكم جفاف الثمر أو الحنطة، وجذَّ وآواه الجرين، ثم سرق، قطع السارق؛ لأنه صار مالاً مطلقاً، قابلاً للادخار، وإليه أشار الرسول صلّى الله عليه وسلم حيث قال: «لا قطع في ثمر ولا كثَر حتى يؤويه الجرين» الحديث (2) .
5 - أن يكون المسروق شيئاً ليس أصله مباحاً:
إذا كان الشيء في أصله مباحاً، كالطيور والتبن والخشب والحطب والقصب والصيود والحشيش والسمك والزرنيخ والطين الأحمر والنُّورة (3) واللَّبِن والفحم والملح والخزف والزجاج لسرعة كسره، فقد اختلف العلماء في حكم سرقته كما في الشرط السابق.
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرج الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: «إذا مر أحدكم بحائط (أي بستان من النخل) فليأكل ولا يتخذ خبنة» قال الترمذي: غريب، وقال البيهقي: لم يصح، وجاء من أوجه أخرى غير قوية. قال ابن حجر: والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح، وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما دونها (راجع نصب الراية: 363/3، سبل السلام: 97/3، جامع الأصول: 318/4، 296/11، نيل الأوطار: 127/7) .
(2) راجع جامع الأصول: 318/4.
(3) النورة: حجر الكلس ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، ويستعمل لإزالة الشعر (المصباح، والقاموس المحيط) .
(7/386)
قال الحنفية: لا قطع فيما كان أصله مباحاً في دار الإسلام، كهذه الأشياء، واستثنوا منها خشب الساج والأبنوس والصندل والقنا (هو عنقود النخل) والخشب المصنوع. ودليله: أن الناس لا يتمولون تلك الأشياء، وإنما توجد بكثرة، وهي مباحة، فيقل خطرها عندهم، فكانت تافهة كالتراب، إلا ما كان غالي القيمة؛ لأنه يتمول عادة فلا يكون تافهاً، وهو ما استثنوه. ولأنها أيضاً من الأمور التي يشترك فيها الناس جميعاً، فبالنظر للشبهة التي فيها لكل مالك، لا يقطع سارقها، مراعاة لأصلها (1) .
ويلاحظ أن اعتماد أبي حنيفة في هذا الشرط على معنى التفاهة وعدم المالية، لا على إباحة الجنس؛ لأن ذلك موجود في الذهب والفضة.
وعليه إذا أصبحت هذه الأشياء من جملة الأموال المعتبرة وجب الحد بسرقتها.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (2) : يقطع سارق الأموال، سواء أكانت مما أصله مباح، كالصيد والماء والحطب والحشيش والمعادن، أم غير مباح لعموم الآية الموجبة للقطع، وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب، ولأنها مال محرز (3) ، وهذا هوالأرجح لدي، لتمول الناس هذه الأشياء، وإحرازهم لها.
__________
(1) المبسوط: 153/9، فتح القدير: 226/4، تبيين الحقائق: 219/3، البدائع: 68/7، حاشية ابن عابدين: 217/3.
(2) حاشية الدسوقي: 334/4، الميزان: 167/2، بداية المجتهد: 441/2، المهذب: 278/2، المغني: 246/8، المنتقى على الموطأ: 156/7، القوانين الفقهية: ص 359، غاية المنتهى: 337/3.
(3) قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الأصول: ص 186: استصحاب حكم العموم إذا لم يقم دليل الخصوص متعين عند القائلين بالعموم، وعليه بنى الشافعي رضي الله عنه معظم مسائل السرقة. ويتفرع عليه أن حد القطع يتعلق بسرق ما أصله على الإباحة عند الشافعي رضي الله عنه، تمسكاً بعموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] وعموم الآية يقتضي إيجاب القطع في كل ما يسمى آخذه سارقاً، فكل من يطلق عليه اسم السارق مقطوع بحكم العموم إلا ما استثناه الدليل.
(7/387)
6- أن يكون المال المسروق معصوماً، ليس للسارق فيه حق الأخذ ولا تأويل الأخذ، ولا شبهة التناول (انتفاء شبهة الأخذ) :السبب في اشتراط هذا الشرط: أن القطع عقوبة محضة، فيستدعي جناية محضة، وأخذ ما لَه حق أخذه لا يكون جناية أصلاً، فلا يستدعي عقوبة. وكذلك أخذ ما لأخذه فيه تأويل التناول أو شبهة التناول، لا يكون جناية محضة، فلا تناسبه العقوبة المحضة (1) .
ويتفرع على هذا الشرط أنه لا يقام حد القطع فيما يلي:
أـ سائر الأموال المباحة التي لا مالك لها.
ب ـ مال الحربي المستأمن في دار الإسلام، فإنه لا يقطع استحساناً؛ لأنه مال فيه شبهة الإباحة، والقياس أن يقطع؛ لأن هذا المال أصبح معصوماً بسبب الأمان الذي منحه الحربي، ولهذا كان مضموناً بالإتلاف كمال الذمي.
جـ ـ مال المسلم أو الذمي إذا سرقه الحربي المستأمن لاعتقاده إباحته.
د ـ مال الباغي إذا سرقه العادل؛ لأنه ليس بمعصوم في حقه. وكذا مال العادل إذا سرقه الباغي، لأنه أخذه متأولاً.
هـ ـ المال المسروق من الغريم، أي المدين، على التفصيل الآتي:
__________
(1) العقوبات الشرعية وأسبابها للأستاد علي قراعة: ص 146 وما بعدها، البدائع: 70/7-72، فتح القدير: 229/4 وما بعدها، المبسوط: 152/9، 178، غاية المنتهى: 341/3.
(7/388)
إن كان المسروق من جنس حقه، كأن كان له عشرة دراهم، فسرق عشرة دراهم، وكان الدين حالّ الأداء، لم يقطع السارق؛ لأن الأخذ مباح له، لأنه ظفر بجنس حقه، فله أخذه كما هو مقرر، حتى ولو أخذ أكثر من مقدار حقه، لا يقطع؛ لأن بعض المأخوذ حقه على الشيوع، ولا قطع في سرقة حق شائع كما في المال المشترك. فإن كان الدين مؤجلاً لا يقطع استحساناً، ويقطع قياساً.
وجه القياس: أن الدين إذا كان مؤجلاً لم يكن لآخذه حق الأخذ قبل حلول الأجل، فصار كما لو سرقه أجنبي، فيقطع فيه.
ووجه الاستحسان: أن حق الأخذ، وإن لم يثبت قبل حلول الأجل، إلا أن سبب ثبوت حق الأخذ: وهو الدين، قائم، وأما الأجل فتأثيره في تأخير المطالبة، لا في سقوط الدين، فقيام السسبب المذكور يورث شبهة، والشبهة تمنع إقامة الحد.
فإن كان المسروق خلاف جنس حقه، كأن يكون له عشرة دراهم، فسرق ديناراً أو عُروضاً، فيقام عليه حد القطع، كما ذكر الكرخي؛ لأنه أخذ مالاً ليس له حق أخذه. وذكر في كتاب السرقة أنه لا يقطع، وهو قول أبي يوسف والشافعي (1) .
قال ابن عابدين: إن عدم جواز أخذ الدائن شيئاً للمدين من خلاف جنسه حقه، كان في زمانهم ـ أي زمان متقدمي الحنفية ـ لمطاوعتهم في الحقوق، والفتوى اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا لمداومتهم للعقوق (2) .
__________
(1) فتح القدير: 236/4، مغني المحتاج: 162/4، المهذب: 282/2.
(2) رد المحتار: 220/3.
(7/389)
وـ سرقة المصحف الشريف: لا يقطع سارقه؛ لأن له تأويل الأخذ، وهو أنه أخذه لقراءة القرآن العظيم، وهو مذهب الحنابلة أيضاً. وقال مالك والشافعي وأبو يوسف: يقطع بسرقة المصحف؛ لأنه مال متقوم. واستثنى الشافعية في الأصح سرقة المصحف الموقوف على القراءة، فإن سارقه لا يقطع كالسرقة من بيت المال، لوجود الشبهة فيه (1) .
ز ـ الطبل والمزمار، والصليب، والنرد والشطرنج، وجميع آلات اللهو، لا يقطع بسرقتها؛ لأنه يتأول بأخذها منع المالك عن المعصية ونهيه عن المنكر.
7 - ألا يكون للسارق في المسروق ملك ولا تأويل الملك، أو شبهته (انتفاء شبهة الملك) :
السبب في اشتراط هذا الشرط المتفق عليه: هو ما ذكر في الشرط السابق: وهو أن الجناية حينئذ لا تكون متكاملة، فلا تستدعي عقوبة متكاملة، ويتفرع عن هذا أن السارق لا يقطع بسرقة ما أعاره، أو رهنه، أو آجره لغيره؛ لأنه مملوك له، ولايقطع بسرقة المال المشترك بينه وبين المسروق منه؛ لأن له حقاً فيه، ولا يقطع بسرقة مال الولد وإن سفل؛ لأن له تأويل الملك، أو شبهة الملك، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» . وكذا لا يقطع بسرقة مال الأصل كالأب والجد وإن علا، لوجود المباسطة في الدخول في الحرز (2) ، أي أنه لا يقطع بسرقة من عمودي نسبه.
وكذلك لا يقطع السارق من بيت المال؛ لأنه مال العامة، فيكون له فيه ملك
__________
(1) المغني: 247/8، غاية المنتهى: 337/3، المبسوط: 152/9، الدر المختار: 218/3، مغني المحتاج: 163/4، تكملة المجموع: 337/18، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) البدائع: 70/7، فتح القدير: 238/4.
(7/390)
وحق. والدليل هو أن عمر رضي الله عنه لم يقطع من سرق من بيت المال، فقد كتب عامل لعمر يسأله عمن سرق من مال بيت المال، فقال: «لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق» وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال، فبلغ علياً كرم الله وجهه، فقال: «إن له فيه سهماً» ولم يقطعه. وإن سرق ذمي من بيت المال، قطع؛ لأنه لا حق له فيه. وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً، وإن سرق منها غني، قطع؛ لأنه لا حق له فيها. والخلاصة: لا يقطع فيما له فيه شبهة، لحديث «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
وقال مالك: يقطع لعموم الكتاب (1) أي عموم الآية القرآنية الدالة على وجوب قطع أي سارق.
8 - ألا يكون السارق مأذوناً له بالدخول في الحرز، أو فيه شبهة الإذن:
إذا سرق إنسان من ذوي الرحم المحرم (2) ، أو من زوجه، فلا تقطع يده؛ لأنه يدخل عادة بدون إذن، وجرت العادة بالتبسط بين الزوجين في الأموال، فكان له شبهة الإذن، فيختل معنى توفر الحرز، وهذا شرط متفق عليه في الجملة.
__________
(1) فتح القدير: 235/4، المغني: 277/8، غاية المنتهى: 341/3، المهذب: 281/2، المبسوط: 188/9، حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 220/3، مغني المحتاج: 163/4. ويلاحظ أن للشافعية تفصيلاً رجحه النووي في السرقة من بيت المال، فقال: ومن سرق مال بيت المال: إن فرز لطائفة كذوي القربى والمساكين، ليس هو منهم، قطع إذ لا شبهة له في ذلك، وإن لم يفرز لطائفة فالأصح أنه إن كان له حق في المسروق كمال المصالح العامة وكصدقة وهو فقير مثلاً، فلا يقطع، وإن لم يكن له فيه حق، قطع لانتفاء الشبهة.
(2) ذو الرحم المحرم من الشخص: هو الذي لو كان أحدهما رجلاً، والآخر امرأة، لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم التي بينهما.
(7/391)
وكذلك لا قطع على خادم قوم سرق متاعهم، ولا على ضيف سرق متاع مضيفه، ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لأن الإذن في الدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزاً في حقه (1) . وهذا متفق عليه في المذاهب الأربعة، إلا أن الإمام مالك اشترط في الخادم حتى يدرأ عنه الحد أن يلي الخدمة بنفسه.
ووافق الإمام أحمد أبا حنيفة في رواية عنه في ألا قطع بالسرقة من أحد الزوجين.
وقال الشافعي في الأظهر: يجب القطع في السرقة من الأقارب وأحد الزوجين من الآخر، ما عدا قرابة الأصل والفرع، إذا سرق المال المحرز عنه، لعموم آية السرقة والأخبار الواردة فيها، وإلحاقاً للقرابة القريبة، كالأخت والعمة بالقرابة البعيدة، ولأن النكاح عقد على منفعة، فلا يؤثر في درء الحد، كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر المال المحرز عنه (2) . ووافق الإمام مالك الشافعي في القطع بالسرقة بين الزوجين، والمعقول هو الرأي الأول، لوجود التسامح في أخذ المال عادة بين الأقارب.
__________
(1) البدائع: 70/7، 75، المبسوط: 151/9، تبيين الحقائق للزيلعي: 220/3، 222، الدر المختار: 221/3، المهذب: 280/2، القوانين الفقهية: ص 359.
(2) مغني المحتاج: 162/4. ويلاحظ أن الشافعية نبهوا على أن وجوب قطع يد الزوجة بالسرقة من مال زوجها: هو فيما إذا لم تستحق على الزوج شيئاً حين السرقة، أما إذا كانت تستحق النفقة والسكنى في تلك الحالة، فالمتجه أنه لا قطع إذا أخذت بقصد الاستيفاء كما في حق رب الدين الحال إذا سرق نصاباً من المديون، وربما كان الإمام الشافعي في الأم (139/6) أميل لعدم القطع مطلقاً بسبب الشبهة. وقال الإمام مالك (الموطأ: 52/3) : إذا سرق أحد الزوجين من حرز يختص به الآخر كأن كان في بيت لا يسكنان معاً فيه، أو سرق شيئاً أحرزه عنه، يقطع. وعن الإمام أحمد روايتان في ذلك (المغني: 276/8) : إحداهما ـ لا قطع عليه كمذهب أبي حنيفة، والثانية ـ يقطع كمذهب مالك.
(7/392)
9 - أن يكون المسروق مقصوداً بالسرقة لا تبعاً لمقصود:
فلو سرق إنسان كلباً أو هراً في عنقه طوق ذهب أو فضة، أو مصحفاً مرصعاً بالذهب والياقوت، أو سرق صبياً حراً عليه حلي أو ثياب ديباج، أو إناء من ذهب أو فضة فيه شراب أو ماء أو طعام: لا يجب القطع عند أبي حنيفة ومحمد وأحمد وفي وجه للشافعية؛ لأن المقصود بالسرقة هو الكلب أو الصبي، والطعام وغيره تابع له، وإذا كان الأصل المقصود لا يجب فيه القطع لقصور في ماليته، فلا يجب بالتابع.
وقال أبو يوسف وفي وجه آخر للشافعية: ليس هذا بشرط؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من مال، ولأن الطعام الذي في الإناء، ونحوه، إذا كان مما لا يقطع فيه، التحق بالعدم، فيعتبر أخذ الإناء على الانفراد، فيقطع فيه (1) ، ويظهر لي أن هذا هو المعقول، لولا وجود الشبهة في اشتمال السرقة على ما يقطع من أجله وما لا يقطع.
شروط المسروق منه:
يشترط في المسروق منه أن تكون له يد صحيحة، واليد الصحيحة ثلاثة أنواع:
1 - يد الملك.
2 - يد الأمانة، كيد الوديع والمستعير ويد الشريك المضارب.
3 - يد الضمان، كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، ويد المرتهن.
__________
(1) البدائع: 79/7، المهذب: 281/2.
(7/393)
فيجب القطع على السارق من هؤلاء. ولا يجب القطع على السارق من السارق؛ لأن يد السارق ليست بيد صحيحة، فكان الأخذ منه كالأخذ من الطريق (1) .
شروط المسروق فيه:
المسروق فيه: هو مكان السرقة. يشترط أن تكون السرقة في دار العدل، فلو سرق في دار الحرب أو في دار البغي: لا يقطع؛ لأنه لا ولاية للإمام على غير دار العدل، فلم تنعقد السرقة موجبة للقطع (2) .
المبحث الثالث ـ إثبات السرقة:
تثبت السرقة عند القاضي بأحد أمرين: البينة أو الإقرار.
شروط البينة:
يشترط لقبول البينة شروط عامة تعرف في باب الشهادات، وشروط خاصة في الحدود والقصاص، وهي (3) :
1 - الذكورة: فلا تقبل فيها شهادة النساء.
2 - العدالة: فلا تقبل فيها شهادة الفساق.
3 - الأصالة: فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة، لوجود الشبهة.
4 - عدم تقادم العهد، إلا في حد القذف والقصاص: فلو شهدوا بالسرقة بعد حين، لم تقبل شهادتهم، للشبهة.
5 - الخصومة أو الدعوى ممن له يد صحيحة: بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد أمانة، أو يد ضمان، كما بان سابقاً. فلو شهدوا أنه سرق مال فلان الغائب من غير خصومة من المسروق منه، لم تقبل شهادتهم، ولكن يحبس السارق؛ لأن إخبارهم أورث تهمة، ويجوز الحبس بالتهمة.
ويلاحظ أن حق الخصومة ثابت لمن له يد صحيحة في حق ثبوت ولاية استرداد المسروق وإعادته إلى أيديهم، وفي حق القطع عند جمهور الحنفية؛ لأن يد المالك أو الأمين أو الضامن يد صحيحة، والخصومة مظهرة للسرقة، وإذا ظهرت السرقة بخصومة هؤلاء يقطع السارق، لقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 80.
(2) المرجع السابق.
(3) المبسوط: 169/9، فتح القدير: 223/4، 252، البدائع: 81/7، تبيين الحقائق: 213/3، حاشية ابن عابدين: 213/3، غاية المنتهى: 342/3، القوانين الفقهية: ص360 وما بعدها.
(7/394)
وقال زفر: لا تعتبر خصومة غير المالك في حق القطع، ولا يقطع السارق بخصومة الأمين أو الضامن؛ لأن يد غير المالك ليست بيد صحيحة في الأصل، وإنما تثبت لهم ولاية الخصومة لإمكان الرد إلى المالك، فكان ثبوتها لهم بطريق الضرورة، والثابت بالضرورة يكون عدَماً فيما وراء محل الضرورة، لانعدام علة الثبوت، وهي الضرورة.
وأما السارق الأول فلا تعتبر خصومته باتفاق الحنفية في حق القطع بالنسبة للسارق الثاني بالاتفاق؛ لأن يده ليست يد ملك، ولا يد ضمان، ولا يد أمانة، فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق. وأما في حق الاسترداد ففيه روايتان: رواية تقرر أن للسارق الأول الاسترداد، إذ من الجائز أن يختار المالك الضمان، ويترك القطع، فيحتاج إلى أن يسترد المسروق من السارق الثاني، ليدفعه إلى المالك، فيتخلص من الضمان. ورواية: ليس له الاسترداد، إذ ليس له يد صحيحة (1) .
ويلاحظ أن مذهب الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين كالحنفية في افتقار حد القطع إلى مطالبة المسروق منه؛ لأن المغلب عندهم في القطع حق المخلوق (2) .
وقال مالك: إنه لا يفتقر إلى مطالبة المسروق منه صيانة لحق المجتمع، ومحافظة على أموالهم (3) .
ولا تثبت السرقة عند القاضي بالنكول عن الحلف من المدعى عليه، ولا تثبت أيضاً بعلم القاضي، في زمان القضاء أو قبله.
شروط الإقرار:
تظهر السرقة عند القاضي بالإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه بالإضرار بها، ويكفي لوجوب القطع الإقرار مرة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد وجمهور العلماء.
وقال أبو يوسف والحنابلة: لا يقطع إلا بالإقرار مرتين، كما أن عدد الشهود اثنان.
ويشترط عند أبي حنيفة ومحمد إقامة دعوى من المسروق منه، فإذا أقر السارق أنه سرق مال فلان الغائب لم يقطع، ما لم يحضر المسروق منه ويخاصمه، كما هو المقرر في البينة.
__________
(1) انظر البدائع: 83/7-84، فتح القدير: 255/4 وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 228/3.
(2) المهذب: 282/2 وما بعدها، المغني: 273/8، غاية المنتهى: 342/3.
(3) بداية المجتهد: 443/2.
(7/395)
وقال أبو يوسف: الدعوى في الإقرار بالسرقة ليست بشرط لوجوب القطع؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه (1) .
المبحث الرابع ـ ما يسقط الحد بعد وجوبه:
يسقط الحد بأنواع هي (2) :
1 - تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة، بأن يقول له: لم تسرق مني.
2 - تكذيب المسروق منه بينته، بأن يقول: شهد شهودي بزور.
3 - رجوع السارق عن الإقرار بالسرقة، فلا يقطع، ويضمن المال؛ لأن الرجوع عن الإقرار يقبل في الحدود، ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار، والحد يسقط بالشبهة، ولا يسقط المال.
4 - رد السارق المسروق إلى مالكه قبل المرافعة في السرقة عند أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وفي رواية أخرى عنه: إن الرد قبل المرافعة لا يسقط الحد؛ لأن السرقة انعقدت موجبة للقطع، فرد المسروق بعدئذ لا يخل بالسرقة الموجودة.
ودليل الطرفين: أن الخصومة شرط لظهور السرقة عند القاضي، ولما رد المسروق على المالك، فقد بطلت الخصومة، بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن المطلوب هو وجود الخصومة لا استمرارها. وعلى هذا، رد المسروق بعد المرافعة وسماع البينة: لا يسقط القطع، سواء أكان الرد قبل القضاء أم بعده.
__________
(1) المراجع السابقة عند الحنفية، المبسوط: 182/9، المهذب: 282/2، القوانين الفقهية: ص 361، غاية المنتهى: 342/3.
(2) البدائع: 88/7 وما بعدها، فتح القدير: 255/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 229/3 وما بعدها.
(7/396)
5 - ملك السارق المال المسروق قبل رفع الأمر إلى القضاء بلا خلاف، فإن ملكه بعدئذ قبل إمضاء الحكم، فاختلف فيه الفقهاء: فقال أبو حنيفة ومحمد: يسقط الحد، كما إذا وهب أو باع المسروق منه المال المسروق للسارق قبل القضاء أو بعده قبل إصدار الحكم.
وقال أبو يوسف والشافعي وأحمد ومالك: إذا وهبه بعد القضاء، أي بعد ما رفع إلى الحاكم، لم يسقط القطع، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» (1) .
ودليل الطرفين: أن الملك في الهبة يثبت من وقت القبض، فيظهر الملك له من ذلك الوقت، أي أن له أثراً رجعياً. وكون المسروق ملكاً للسارق على الحقيقة أو مع الشبهة، يمنع من القطع، ولهذا لم يقطع قبل القضاء، فكذلك بعده؛ لأن القضاء في باب الحدود إمضاؤها، فما لم يمض الحد (أي ينفَّذ فعلاً بأن يقام على المحدود) فكأنه لم يقض. ولو كان لم يقض لا يقطع، فكذلك إذا لم يمض، أي لم ينفَّذ الحد، والمعنى أنهم اعتبروا الحد قبل استيفائه، كما لو كان قبل القضاء به.
زراعة عضو استؤصل في حد: تقدمت ببحث إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1410 هـ1990/م في دورته السادسة مفاده عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حال القصاص، بعملية جراحية، مراعاة لمصلحة المقتص له، وكذلك عدم جواز إعادة العضو المقطوع في حد من الحدود الخالصة للعبد، ورأيت جواز إعادة العضو إذا ثبت الجرم بالإقرار؛ لجواز الرجوع عنه، وكذلك إذا ثبت الجرم
__________
(1) المهذب: 282/2، البدائع، المرجع السابق: ص 89، غاية المنتهى: 337/3، المنتقى على الموطأ: 162/7، والحديث رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس.
(7/397)
بالشهادة في حقوق الله تعالى كحد السرقة والحرابة والزنى والردة، إذا تاب المحدود، وكانت حالات الإعادة قليلة أو نادرة، حتى لا يتجرأ الجناة على الجرائم والفواحش، ثم وافقت على قرار المجمع المذكور بعدم الجواز، حتى لا يتخذ تطبيق الحد عبثاً أو مجالاً للتلاعب والبعد عن الجدية، ولإبقاء آثار تطبيق الحد لزجر المحدود وبقية الناس، وأذكر هنا نص قرار المجمع رقم (6/9/60) :
1 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد؛ لأن في بقاء أثر الحد تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.
2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً للقصاص إلا في الحالات التالية:
أـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه.
3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ.
(7/398)
الفَصْلُ الرّابع: حَدّ الحِرابة أو قَطع الطَّريق وحكم البغاة
تمهيد:
هذا هو الحد الرابع من أنواع الحدود، ونتكلم فيه عن حكم البغاة لوجود التشابه بين جريمتي قطع الطريق والبغي، فقطاع الطرق: هم محاربون على غير التأويل، والبغاة محاربون على التأويل.
وقد ألحق الحنفية حد الحرابة بحد السرقة؛ لأن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى، إلا أنه ليس بسرقة مطلقة، فإن السرقة هي الأخذ خفية كما يتبادر إلى الذهن، وإنما يطلق عليه اسم السرقة مجازاً بسبب الإخفاء عن الإمام أو عن حراسه لحفظ الطريق.
فيسمى سرقة بسبب أخذ المال سراً عن الحارس أو الإمام، وتسميتها «كبرى» ؛ لأن فيه ضرراً على أصحاب الأموال وعامة الناس، ولذا غلظ الحد فيه، وخفف في السرقة العادية المسماة بالسرقة الصغرى؛ لأن ضررها يخص الملاك بأخذ مالهم وهتك حرزهم (1) .
والكلام على حد الحرابة يكون في المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق أو المحاربين، وركن قطع الطريق.
المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق.
المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق.
المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق.
المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد. ثم يكون الكلام عن تعريف البغاة وأحكامهم.
المبحث الأول ـ تعريف قطاع الطرق وركن قطع الطريق:
قاطع الطريق أو المحارب: هو كل من كان دمه محقوناً قبل الحرابة وهو المسلم أو الذمي. والأصل في مشروعية حد قطع الطريق هو قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبُوا، أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوا من الأرض} [المائدة:33/5] .
وقد اتفق العلماء على أن من قتل وأخذ المال، وجب إقامة الحد عليه، ولا يسقط العقاب بعفو ولي المقتول، والمأخوذ منه المال، خلافاً للقتل العادي.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (2) .
فالحرابة إذن: هي كل فعل يقصد به أخذ المال على وجه تتعذر معه الاستعانة عادة (3) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية بحاشيته: 268/4.
(2) الميزان: 168/2، بداية المجتهد: 445/2، حاشية الدسوقي: 350/4، المهذب: 284/2، مغني المحتاج: 183/4، المغني: 290/8.
(3) تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام لابن فرحون: 271/2.
(7/399)
ركن قطع الطريق:
ركنه: هو الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور وينقطع الطريق، سواء أكان القطع من جماعة أم من واحد، بعد أن يكون له قوة القطع، وسواء أكان القطع بسلاح أم غيره من العصا والحجر والخشب ونحوها، وسواء أكان بمباشرة الكل، أم التسبب من البعض بالإعانة والأخذ؛ لأن القطع يحصل بكل ماذكر كما في السرقة، ولأن هذا من عادة قطاع الطرق (1) . وبه يظهر أن قطاع الطرق قوم لهم منعة وشوكة، بحيث لا تمكن للمارة مقاومتهم، يقصدون قطع الطريق، بالسلاح أو بغيره.
المبحث الثاني ـ شروط قطع الطريق:
هناك شروط في القاطع، والمقطوع عليه، وفيهما معاً، وفي المقطوع له، وفي المقطوع فيه.
شروط القاطع:
يشترط في القاطع أن يكون عاقلاً بالغاً، فإن كان صبياً مجنوناً لا حد عليهما؛ لأن الحد عقوبة تستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية.
ويشترط أيضاً أن يكون ذكراً في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، ولو كان بين القطاع امرأة لا يقام الحد عليها في الرواية المشهورة؛ لأن ركن القطع وهو (الخروج على المارة على وجه المحاربة والمغالبة) لا يتحقق من النساء عادة، لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن، فلا يكنَّ من أهل الحرب.
وقال الطحاوي: النساء والرجال في قطع الطريق سواء؛ لأن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر والأنثى كسائر الحدود. وسيأتي بيان المذاهب الأخرى.
__________
(1) البدائع: 90/7 وما بعدها، فتح القدير: 268/4، المبسوط: 195/9.
والمحارب عند المالكية: هو الذي شهر السلاح وقطع الطريق وقصد سلب الناس، سواء أكان في مصر أو قفر. ومن دخل داراً بالليل وأخذ المال بالكره، ومنع من الاستغاثة، فهو محارب، والقاتل غيلة محارب، ومن كان معاوناً للمحاربين كالكمين والطليعة فهو في حكم المحارب عندهم (القوانين الفقهية: ص 362) .
(7/400)
وأما الرجال الذين مع المرأة، فلا يقام عليهم الحد عند أبي حنيفة ومحمد، سواء باشروا معها أو لم يباشروا؛ لأن سبب وجوب الحد شيء واحد، وهو قطع الطريق، وقد حصل ممن يجب عليه، ومن لا يجب عليه، فلا يجب أصلاً كما إذا كان فيهم صبي أو مجنون.
وفرق أبو يوسف بين الصبي وبين المرأة، فقال: إذا باشر الصبي لا حد على من لم يباشر من المكلفين.
وإذا باشرت المرأة يحد الرجال؛ لأن امتناع وجوب الحد على المرأة ليس لعدم الأهلية؛ لأنها من أهل التكليف، بل لعدم المحاربة منها، أو نقصانها عادة، وهذا لم يوجد في الرجال، فلا يمتنع وجوب الحد عليهم (1) . لكن نص ابن عابدين في حاشيته (232/3) على أن المرأة كالرجل في الحرابة في ظاهر الرواية، إلا أنها لاتصلب.
ولم يفرق الجمهور بين الرجل والأنثى، فيقام حد الحرابة على جميع المكلفين الملتزمين ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاح أو غيره، فيغصبون مالاً محترماً مجاهرة (2) .
شروط المقطوع عليه:
يشترط في المقطوع عليه أمران:
1 - أن يكون مسلماً أو ذمياً: فإن كان حربياً مستأمناً، لا حد على القاطع؛ لأن عصمة مال المستأمن ليست عصمة مطلقة، وإنما فيها شبهة الإباحة.
2 - أن تكون يده صحيحة: بأن كانت يد ملك أو يد أمانة أو يد ضمان، فإن لم تكن كذلك كيد السارق، لم يجب الحد على القاطع (3) .
شروط القاطع والمقطوع عليه جميعاً:
يشترط ألا يكون في القطاع ذو رحم محرم من المقطوع عليهم، فإن كان أحدهم ذا رحم من المقطوع عليهم لا يجب الحد على القطاع؛ لأنه يوجد بينهم قريب للمقطوع عليهم. والسبب في منع الحد: هو أنه يكون عادة بين هذا القريب وبين المقطوع عليه تبسط في المال والحرز، لوجود الإذن بالتناول عادة.
واختلف الحنفية مع بقية المذاهب في هذا الشرط، وفي اشتراط الذكورة في القاطع، وفي اشتراك الصبي أو المجنون مع القطاع.
__________
(1) البدائع: 91/7،المبسوط: 197/9، مختصر الطحاوي: ص 277.
(2) غاية المنتهى: 344/3، القوانين الفقهية: ص 362، المهذب: 284/2.
(3) البدائع، المرجع السابق.
(7/401)
فقال الحنفية كما تقدم: يشترط كون القطاع كلهم أجانب مكلفين ذكوراً، حتى إذا كان أحدهم ذا رحم محرم أو صبياً أو مجنوناً، لا يجب عليهم القطع عند
أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحد عقوبة، فتستدعي جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية، كما سبق بيانه، وأما المرأة: فلا يتحقق منها قطع الطريق لضعفها.
وقال أبو يوسف: العبرة بمباشرة القطع، فإذا باشرت المرأة القطع حد الرجل كما تبين، ولا تحد المرأة، فإن قتلت أحداً تقتل قصاصاً، لا حداً، فيجوز لولي القتيل العفو عن القصاص.
وإذا باشر الصبي أو المجنون القطع لا يحد أحد، وإن كانت المباشرة من غيرهما، فيحد العقلاء البالغون، ولا يحد الصبي أو المجنون. ودليله أن القطع هو الأصل في قطع الطريق، والإعانة كالتابع، فإذا وليه الصبي، فقد أتى بالأصل، فإذا لم يجب القطع بالأصل، فكيف يجب بالتابع، فإذا وليه البالغ فقد حصل الأصل منه (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لا يسقط حد القطع عن قطاع الطرق إذا كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه؛ لأن وجود هؤلاء شبهة اختص بها واحد، فلم يسقط الحد عن الباقين، كما لو اشتركوا في وطء المرأة. وعلى هذا فلا حد على الصبي والمجنون وإن باشر القتل وأخذ المال؛ لأنهما ليسا من أهل الحدود، وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما، ودية قتيلهما على عاقلتهما، أي أقاربهما من العصبات.
وأما المرأة إذا كانت مشتركة مع القطاع، فيثبت في حقها حكم المحاربة؛ لأنها تحد في السرقة، فيلزمها حكم المحاربة كالرجل، وتقتل حداً إن قتلت، وأخذت المال (2) .
__________
(1) البدائع: 67/7، 91، فتح القدير: 273/4، تبيين الحقائق: 239/3، المبسوط: 203/9.
(2) حاشية الدسوقي: 348/4، مغني المحتاج: 180/4، الميزان: 169/2، المغني: 297/8.
(7/402)
حكم الردء:
اختلف العلماء أيضاً في الردء، أي العون:
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: إذا اجتمع محاربون، فباشر بعضهم القتل والأخذ، وكان بعضهم ردءاً، كان للردء حكم المحاربين في جميع الأحوال، اكتفاء بوجود المحاربة، سواء باشر بعضهم القتل أم لم يباشر (1) .
وقال الشافعية: لا يجب على الردء بأن كثَّر جمعهم فقط، ولم يزد على ذلك، غير التعزير بالحبس والتغريب ونحوهما؛ لأن المدار في المحاربة على المباشر، لا على من كان ردءاً له (2) .
شروط المقطوع له:
المقطوع له: أي من أجله وهو المال: يشترط فيه الشروط نفسها التي ذكرت في المسروق، وموجزها: أن يكون المأخوذ مالاً، متقوماً، معصوماً، ليس لأحد فيه حق الأخذ، ولا تأويل التناول، ولا تهمة التناول، مملوكاً لا ملك فيه للقاطع، ولا تأويل الملك، ولا شبهة الملك، محرزاً مطلقاً، ليس فيه شبهة الإباحة، نصاباً كاملاً: عشرة دراهم، أو مقدراً بها، لكل من القاطعين (3) .
شروط المقطوع فيه:
المقطوع فيه وهو المكان، يشترط فيه ثلاثة شروط:
1 - أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد، لعدم ولاية الإمام في دار الحرب، فلا قدرة له على إقامة الحد.
__________
(1) المراجع السابقة، فتح القدير: 271/4، القوانين الفقهية: ص 362.
(2) مغني المحتاج: 182/4، المهذب: 285/2.
(3) البدائع: 92/7.
(7/403)
2 - أن يكون القطع عند متقدمي الحنفية خارج المصر. واختلف العلماء في تحقق قطع الطريق في داخل المصر. فقال أبو حنيفة ومحمد وظاهر كلام أحمد: لا يثبت حكم القطع إلا أن يكون خارج المصر؛ لأن القطع لا يحصل بدون الانقطاع، والطريق لا ينقطع في الأمصار وفيما بين القرى؛ لأن الناس يغيثون المقطوع عليه في كثير من الأحيان، فكان القطع في المصر بالغصب أشبه، فعليه التعزير ورد ما أخذ من مستحقه، وهذا أخذ بمقتضى الاستحسان (1) . وهوظاهر الرواية عند الحنفية، لكن المفتى به خلافه كما سأبين.
وقال أبو يوسف والمالكية والشافعية، والحنابلة في المعتمد عندهم: يثبت حكم قطع الطريق داخل المصر، وخارجه على حد سواء. استدل أبو يوسف بمقتضى القياس: وهو أن سبب جوب الحد قد تحقق وهو قطع الطريق، فيجب الحد، كما لو كان في غير مصر.
قال ابن عابدين: أفتى المشايخ برواية أبي يوسف التي تقتضي بأن الحرابة تقع في المصر ليلاً أو نهاراً بسلاح أو بدونه دفعاً لشر المتغلبة المفسدين (2) .
واستدل الجمهور بنحوه، فقالوا: إن محاربة شرع الله عز وجل وتعدي حدوده لا يختلف تحريمها بكونها خارج المصر، أو داخله كغيرها من سائر المعاصي من زنا وشرب خمر وغيرهما (3) .
إلا أن الشافعية قالوا: يشترط في قاطع الطريق أن يكون له شوكة، أي قدرة وقوة مغالبة لغيره، ولا يشترط العدد. والمغالبة: إنما تتأتى بالبعد عن العمران، لا بالقرب منه، بحيث لو قال الشخص: ياغوثاه، أغاثه الناس، وتوجد المغالبة في المصر حال ضعف السلطان.
__________
(1) المرجع السابق، المبسوط: 201/9، الهداية مع فتح القدير: 274/4.
(2) رد المحتار: 232/3، وانظر أيضاً: 815/1.
(3) حاشية الدسوقي: 348/4، القوانين الفقهية: ص 362، بداية المجتهد: 445/2، مغني المحتاج: 181/4، المغني: 287/8، المهذب: 284/2.
(7/404)
3 - أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر، فإن كان أقل منه لم يكونوا قطاع طرق، وهذا الشرط عند أبي حنيفة ومحمد، وأما عند أبي يوسف فليس بشرط. وقد بيّنت في الشرط السابق دليل كل منهم (1) وأن المفتى به هو رأي أبي يوسف.
المبحث الثالث ـ إثبات قطع الطريق:
يثبت قطع الطريق عند القاضي، إما بالبينة، وإما بالإقرار، بعد خصومة صحيحة أي (رفع الدعوى ممن له يد صحيحة) ولا يثبت بعلم القاضي، ولا بالنكول (2) ، على حسب ما ذكر في السرقة. ويشترط عند الحنابلة وأبي يوسف تكرار الإقرا ر مرتين (3) .
المبحث الرابع ـ أحكام قطاع الطرق (عقوباتهم) :
اختلف العلماء في عقوبة قطع الطريق، هل العقوبات المذكورة في آية المحاربة على التخيير، أو مرتبة على قدر جناية المحارب؟.
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن حد قطاع الطريق على الترتيب المذكور في الآية الكريمة السابق ذكرها؛ لأن الجزاء يجب أن يكون على قدر الجناية، ولكنهم اختلفوا في كيفية الترتيب:
فقال الحنفية: إن أخذوا المال، تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ وإن قتَلوا فقط قُتلوا؛ وإن قتلوا وأخذوا المال كان الإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم قتلهم، أو صلبهم، وإن شاء لم يقطع، وإنما يقتل أو يصلب.
__________
(1) البدائع: 92/7.
(2) المرجع السابق: ص 93، والنكول: استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة إليه من القاضي.
(3) غاية المنتهى: 344/3.
(7/405)
وإن أخافوا الطريق فقط دون قتل، ولا أخذ للمال، ينفوا من الأرض، أي يحبسوا ويعزروا (1) .
وما ذكر في الصورة الثالثة وهو (القتل وأخذ المال) هو رأي أبي حنيفة وزفر.
وقال الصاحبان: يقتل الإمام القاطع أو يصلبه، ولكن لا يقطعه؛ لأن الجناية وهي قطع الطريق واحدة، فلا توجب حدين، ولأن ما دون النفس في الحدود يدخل في النفس كحد السرقة والرجم إذا اجتمعا كما سأبين، فيقام حد الرجم فقط.
ورد أبو حنيفة وزفر على ذلك بأن هذه الجناية وإن كانت واحدة، فإن القطع والقتل أيضاً عقوبة واحدة، ولكنها مغلظة لتغلظ سببها، حيث إن قطع الطريق يخل بالأمن على النفس والمال معاً.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا. وإن قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا.
وإن أخافوا، ينفوا من الأرض (2) .
ودليلهم على هذا الترتيب: ما روي عن ابن عباس من قصة أبي بُرْدة الأسلمي بهذه الكيفية (3) . فهم يخالفون الحنفية في الصورة الثالثة فقط.
وقال الإمام مالك (4) : الأمر في عقوبة قطاع الطرق راجع إلى اجتهاد الإمام ونظره ومشورة الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد، وليس ذلك على هوى الإمام.
1 - فإن أخاف القاطع السبيل فقط كان الإمام مخيراً بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف أو نفيه وضربه، على التفصيل الآتي:
فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير والقوة، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه؛ لأن القطع لا يدفع ضرره. وإن كان لا رأي له، وإنما هو ذو قوة وبأس، قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر عقاب فيه وهو الضرب والنفي.
2 - وأما إذا قتل، فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه.
__________
(1) المبسوط: 195/9، البدائع: 93/7، فتح القدير: 270/4، تبيين الحقائق: 235/3، مختصر الطحاوي: ص 276، حاشية ابن عابدين: 233/3 وما بعدها.
(2) المهذب: 284/2، مغني المحتاج: 81/4 وما بعدها، المغني: 288/8، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 78.
(3) هذا أثر عن ابن عباس رواه الشافعي في مسنده وفي إسناده إبراهيم بن محمد أبي يحيى، وهو ضعيف، وأخرجه البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33/5] الآية، ورواه أحمد بن حنبل في تفسيره عن أبي معاوية عن حجاج عن عطية به نحوه. قال الشافعي: «واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم على ما قال ابن عباس إن شاء الله» (راجع التلخيص الحبير: ص 358 وما بعدها، نيل الأوطار: 152/7) .
(4) المنتقى على الموطأ: 172/7، القوانين الفقهية: ص 363.
(7/406)
3 - وأما إن أخذ المال، فلم يقتل، فالإمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه، يفعل مما ذكر ما يراه نظراً ومصلحة ولا يحكم فيه بالهوى.
ودليله: أن حرف «أو» المذكور في آية المحاربة يقتضي في اللغة التخيير، مثل قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة} [المائدة:89/5] (1) .
ويلاحظ أن الجمهور قالوا: إن «أو» للتنويع، فتكون العقوبة بحسب نوع الجناية كما تبين.
كيفية الصلب ووقته ومدته:
قال أبو يوسف والكرخي وهو الأصح في مذهب الحنفية، والراجح عند المالكية أيضاً: يصلب قاطع الطريق حياً، على خشبة تغرز في الأرض، بأن يربط جميعه بها بعد وضع قدميه على خشبة عريضة من الأسفل، وربط يديه على خشبة عريضة من الأعلى. ثم يقتل مصلوباً قبل نزوله بأن يطعن بالحربة؛ لأن الصلب عقوبة مشروعة تغليظاً، وإنما يعاقب الحي، أما الميت فليس من أهل العقوبة. وليس صلبه من قبيل المثْلة المنهي عنها؛ لأن المراد بها قطع بعض الجوارح (2) .
وقال أشهب من المالكية والشافعية والحنابلة والطحاوي من الحنفية: الصلب يكون بعد القتل؛ لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظاً، وفي صلبه حياً تعذيب له وتمثيل به (3) ، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المثلة وعن تعذيب الحيوان، فقال: «
__________
(1) راجع حاشية الدسوقي: 349/4، بداية المجتهد: 445/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 363.
(2) المبسوط: 196/9، فتح القدير: 271/4، البدائع: 95/7، والمراجع السابقة في أحكام القطاع.
(3) المراجع السابقة في بيان مذهب الشافعية والحنابلة، المنتقى على الموطأ: 172/7.
(7/407)
إذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة» (1) . والغرض من صلبه بعد قتله هو التنكيل به، وزجر غيره ليشتهر أمره.
ومدة الصلب عند الجمهور: ثلاثة أيام، ولا يبقى أكثر من ذلك.
وقال الإمام أحمد: يصلب بقدر ما يقع عليه اسم الصلب. قال ابن قدامة: والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي، وهو بقدر ما يشتهر أمره.
النفي:
النفي عند الحنفية: معناه الحبس؛ لأن فيه نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا مع قيام الحياة، إلا عن الموضع الذي حبس فيه، ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفياً عن وجه الأرض، وخروجاً عن الدنيا، كما قال بعض المحبوسين:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها (2) ..... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة..... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وأما التغريب ففيه إضرار ببلد آخر، وتمكين له من الهرب إلى دار الحرب، وتعريض للكفر (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس بلفظ: «إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (راجع الجامع الصغير: 71/1، الأربعين النووية: ص 41، نيل الأوطار: 141/8) .
(2) بتخفيف همزة «أهلها» بحيث تقرأ همزة وصل، لضرورة الشعر.
(3) المبسوط: 135/9 وما بعدها، تبيين الحقائق: 236/3، فتح القدير: 270/4، البدائع: 95/7.
(7/408)
وقال المالكية: النفي أن يخرج من البلد الذي كان فيه إلى بلد آخر ويسجن فيه، إلى أن تظهر توبته. والمسافة بين البلدين: أقل ما تقصر فيه الصلاة (1) . والنفي هنا هو بمعنى التغريب في حد الزنا، وهو الحبس في بلد آخر.
وقال الشافعية: النفي معناه أن يحبسهم الإمام مدة حتى تظهر توبتهم، أو يعزرهم بما يراه رادعاً لهم (2) . أما التغريب في حد الزنا فمعناه: الإبعاد لبلد آخر كما تقدم.
وقال الحنابلة: النفي أن يشردوا، فلا يتركون يأوون إلى بلد. ودليلهم ما روي عن الحسن والزهري: أن النفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلداً (3) . وأما التغريب في حد الزنا فمعناه مثلما قال الشافعية.
صفة حكم قطع الطريق:
حد الحرابة: من حقوق الله الخالصة له، فيجري فيه التداخل ولا يحتمل العفو والإسقاط والإبراء والصلح عنه، على نحو ما بان في حد السرقة. وأما اجتماع الغرم والقطع ففيه خلاف بين العلماء:
اتفق الفقهاء على أنه إذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى، فإن كانت الأموال موجودة ردت إلى مالكها. وإن كانت تالفة أو معدومة، فقال الحنفية: لا يجمع بين الحد والضمان؛ لقوله عليه السلام: «إذا أقيم الحد على
__________
(1) حاشية الدسوقي: 349/4، القوانين الفقهية: ص 363، بداية المجتهد: 446/2، المنتقى على الموطأ: 173/7.
(2) مغني المحتاج: 181/4، المهذب: 284/2.
(3) المغني:294/8.
(7/409)
السارق فلا غرم عليه» (1) ولأن التضمين يقتضي التمليك، والملك يمنع الحد، فلا يجمع بينهما (2) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجتمع الحد والضمان كما في السرقة؛ لأن المال عين يجب ضمانها بالرد، لو كانت باقية، فيجب ضمانها إذا كانت تالفة، كما لو لم يقم عليه الحد، ولأن الحد والغرم حقان يجبان لمستحقين، فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك (3) .
المبحث الخامس ـ ما يسقط حكم القطع، وما يترتب على عدم وجوب الحد أو سقوطه:
يسقط حكم قطع الطريق وهو الحد بعد وجوبه بأمور:
1 - تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق.
2 - رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق.
3 - تكذيب المقطوع عليه البينة.
4 - ملك القاطع الشيء المقطوع له وهو المال قبل الترافع أو بعده عند جمهور الحنفية خلافاً لغيرهم، على نحو ما ذكر في السرقة.
5 - توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه، لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/5] وهذا باتفاق الأئمة (4) .
ويترتب على سقوط الحد بالتوبة، أو على عدم وجوب الحد لمانع بأن فات شرط من شروط الحد السابق ذكرها كنقصان النصاب: أنه إذا كان المال موجوداً يجب رده إلى صاحبه، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً يجب الضمان.
فإن قتلوا بسلاح يجب القصاص عند الحنفية، وإن قتلوا بعصا أو حجر، فعلى عاقلة القاتل الدية لورثة المقتول، ويجب القصاص عند الجمهور في القتل العمد، سواء أكان بسلاح أم بغيره.
وإن جرحوا، فالجراحات فيها القصاص فيما يمكن فيه القصاص، والأرش (أي الضمان) فيما لا يمكن (5) .
__________
(1) اللفظ الصحيح لهذا الحديث المرسل هو: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» وقد سبق تخريجه.
(2) البدائع: 95/7، فتح القدير: 271/4.
(3) حاشية الدسوقي: 350/4، مغني المحتاج: 182/4، المغني: 295/8، 298.
(4) البدائع: 96/7، المنتقى على الموطأ: 174/7.
(5) البدائع، المرجع السابق، فتح القدير: 271/4، المهذب: 285/2، القوانين الفقهية: ص363.
(7/410)
.......................................البغاة..........................................
أولاً ـ تعريف البغي: البغي لغة: إما الطلب كما في قوله تعالى: {ماكنا نبغِ} [الكهف:64/18] أو التعدي. وهو في اصطلاح الفقهاء كما عرفه ابن عرفة المالكي: الامتناع من طاعة من تثبت إمامته في غير معصية بمغالبة، ولو تأولاً (1) . والبغي حرام لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نزع يده من طاعة إمامه، فإنه يأتي يوم القيامة، ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة، فإنه يموت ميتة جاهلية» (2) ، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (3) .
وعرف الحنفية البغاة: بأنهم قوم لهم شوكة ومنعة، خالفوا المسلمين في بعض الأحكام بالتأويل، وظهروا على بلدة من البلاد، وكانوا في عسكر، وأجروا
__________
(1) حاشية الدسوقي: 298/4.
(2) الأحاديث في هذا المعنى كثيرة: منها: ما أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية..» الحديث، ومنها: ما رواه الحاكم عن ابن عمر بلفظ: «من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية» ومنها: ما رواه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً، فمات، فميتته جاهلية» . وفي لفظ: «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً، فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» ومنها: ما روي عن أبي ذر ومعاوية وأبي الدرداء وغيرهم كثير (راجع جامع الأصول: 256/4، مجمع الزوائد: 219/5، 220، 224، نيل الأوطار: 171/7، 173) .
(3) أخرجه أحمد والشيخان من حديث ابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وسلمة بن الأكوع. (راجع نيل الأوطار: 173/7، سبل السلام: 257/3) .
(7/411)
أحكامهم، كالخوارج وغيرهم. أما الخوارج أو الحرورية: فهم قوم خرجوا على علي واستحلوا دمه ودماء المسلمين وأموالهم وسبي نسائهم، وكفروا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورأوا أن كل ذنب كفر (1) ، وكانوا متشددين في الدين تشدداً زائداً.
وأما غيرهم من البغاة فلم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم.
وعرف المالكية البغاة: بأنهم الذين يقاتلون على التأويل، مثل الطوائف الضالة كالخوارج وغيرهم، والذين يخرجون على الإمام، أو يمتنعون من الدخول في طاعته؛ أو يمنعون حقاً وجب عليهم كالزكاة وشبهها (2) . وعرفهم الحنابلة بقولهم: هم الخارجون على إمام ولو غير عدل، بتأويل سائغ ولهم شوكة، ولو لم يكن فيهم مطاع. ويحرم الخروج على الإمام ولو غير عدل (3) .
والفرق بين الباغي والمحارب: أن المحارب يخرج فسقاً وعصياناً على غير تأويل، والباغي: هو الذي يحارب على تأويل، فيقتل ويأخذ المال، وإذا أخذ الباغي ولم يتب، فإنه لا يقام عليه حد الحرابة، ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسراً، إلا أن يوجد بيده شيء بعينه، فيرد إلى صاحبه (4) . ويكون للبغاة قوة ومنعة في مكان يتحصنون فيه.
__________
(1) فتح القدير: 408/4 وما بعدها، تحفة الفقهاء: 251/3 الطبعة الأولى، حاشية ابن عابدين: 338/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 363.
(3) غاية المنتهى: 348/3 وما بعدها.
(4) المقدمات الممهدات: 236/3.
(7/412)
ثانياً ـ أحكام البغاة:
1) ـ قتالهم واستتابتهم:
إذا لم يكن للبغاة منعة، فللإمام أن يأخذهم ويحبسهم حتى يتوبوا.
وإن تأهبوا للقتال، وكان لهم منَعة (مكان محصن) وشوكة (سلاح) ، يدعوهم الإمام إلى التزام الطاعة، ودار العدل، والرجوع إلى رأي الجماعة أولاً، كما يفعل مع أهل الحرب. فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل العدل حتى يهزموهم ويقتلوهم، ويجوز قتل مدبريهم وأسراهم، والإجهاز على جريحهم عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء (1) . ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدؤوه؛ لأن قتالهم لدفع شرهم. ودليل هذه الأحكام: هو قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين} [الحجرات:9/49] وقال صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:
«إنك تقاتل على التأويل، كما تقاتل على التنزيل» (2) .
ولا بأس أن يقاتل البغاة بسلاحهم، ويرتفق بخيولهم إن احتاج المسلمون إليه؛ لأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي أولى.
وأما أموالهم: فيحبسها عنهم الإمام إلى أن يزول بغيهم، فإذا زال ردها إليهم؛ لأن أموالهم لا
__________
(1) حاشية الدسوقي: 300/4، مغني المحتاج: 127/4، المغني: 114/8، الكتاب مع اللباب: 154/4 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وإسناده حسن عن أبي سعيد الخدري قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» وفي رواية «إن منكم» ثم في بعض الروايات عين رسول الله صلّى الله عليه وسلم المقصود بهذا الخطاب، وهو سيدنا علي (راجع مجمع الزوائد: 244/6، 133/9) .
(7/413)
تحتمل التملك بالاستيلاء لكونهم مسلمين (1) .
2) ـ ضمان ما أتلفوه من الأنفس والأموال:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في أظهر القولين عندهم: لايضمن البغاة المتأولون ما أتلفوه حال القتال من نفس ولا مال، بدليل ماروى الزهري، فقال: «كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا ـ أي في وقائعهم كوقعة الجمل وصفِّين ـ على ألا يقام حد على رجل استحل فرجاً حراماً بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دماً حراماً بتأويل القرآن، ولا يغرم مال أتلفه بتأويل القرآن» (2) ؛ ولأن البغاة طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع كتضمين أهل الحرب.
واتفق العلماء أيضاً على أنه لا إثم ولا كفارة على أهل العدل بقتلهم أهل البغي، ولا يضمنون ما أتلفوه عليهم، لخبر الزهري السابق، ولأن العادل قد فعل ما أمر به، وقتل من أحل الله قتله، وأمر بمقاتلته. وكذلك الأموال مهدرة كالأنفس، لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس، فالأموال أولى (3) .
وإذا أتلف البغاة أو العادلون مال بعضهم بعضاً، قبل تمكن المنعة للبغاة، أو بعد انهزامهم، فإنهم يضمنون ما أتلفوه من الأنفس والأموال، لأنهم حينئذ من أهل دار الإسلام، فتكون الأنفس والأموال معصومة.
__________
(1) المبسوط: 124/10وما بعدها، البدائع: 140/7 ومابعدها، فتح القدير: 409/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 295/3، الكتاب مع اللباب: 155/4.
(2) ذكره أحمد في رواية الأثرم واحتج به (راجع نيل الأوطار: 169/7) .
(3) المبسوط: 128/10، البدائع: 141/7، فتح القدير: 414/4، بداية المجتهد: 448/2، حاشية الدسوقي: 300/4، القوانين الفقهية: ص 364، المهذب: 220/2، مغني المحتاج: 125/4، المغني: 113/8،كشاف القناع:128/4، شرح مسلم للنووي: 170/7، غاية المنتهى: 351/3.
(7/414)
وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر، لم يأخذه الإمام ثانياً؛ لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية، ولم يحمهم. فإن صرف البغاة هذا المال في حقه، أجزأ من أخذ منه لوصول الحق إلى مستحقه، وإن لم يكونوا صرفوه في حقه، أفتي أهله فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا دفعه؛ لأنه لم يصل إلى مستحقه (1) .
3) ـ عقوبة جرائم البغاة:
إذا قطع البغاة الطريق على أهل العدل من المسافرين، فلا يجب عليهم الحد؛ لأنه يدعون إباحة أموالهم عن تأويل، ولهم منعة.
ولو سرق الباغي مال العادل لا يقطعه الإمام، لعدم ولايته على دار البغي، ولخبر الزهري السابق الذكر. وفي الجملة: لا تقام الحدود على البغاة عند الحنفية، لعدم ولاية الإمام على دار البغي. ويوافقهم المالكية والحنابلة في عدم ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ولا تقام عليهم الحدود (2) .
وقال الشافعي: يقطع الباغي إذا أصاب شيئاً من أموال المسلمين، ولو في داره؛ لأنه جانٍ، فيستوي في حقه وجود المنعة وعدمها؛ لأن الجاني يستحق التغليظ دون الخفيف.
وإذا سرق الباغي مال العادل في دار الإسلام يقطع، وإن استحله؛ لأنه لا
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 156/4.
(2) القوانين الفقهية: ص 364، المغني: 113/8.
(7/415)
منعة له (1) . وفي الجملة: حكم البغاة عند الشافعية في ضمان النفس والمال والحد في غير حال الحرب حكم أهل العدل. وإن ارتكب الباغي جريمة القتل: الصحيح عندهم أنه لا يتحتم قتله، ويجوز العفو عنه، لقول علي بعد أن جرحه ابن ملجم: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت (2) .
4) ـ الفرق بين قتال البغاة وقتال المشركين:
البغاة باتفاق أئمة المذاهب كما عرفنا: هم الذين يخرجون على الإمام يبغون خلعه، أو منع الدخول في طاعته، أو يبغون منع حق واجب بتأويل في ذلك كله. وبهذا التأويل يمتازون عن المحاربين.
ويفترق حكم قتالهم عن قتال المشركين بأحد عشر وجهاً عند المالكية كما أبان القرافي المالكي (3) :
وهي أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم، ويكف عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان على قتالهم بمشرك، ولا نوادعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعَّادات (المجانيق) ، ولا تحرق عليهم البساتين، ولا يقطع شجرهم. والمعتمد في المذهب المالكي: أن للإمام أن يقاتل البغاة بالسيف والرمي بالنبل والمنجنيق والتغريق والتحريق وقطع الميرة (التموين) والماء عنهم إلا أن يكون فيهم نسوة أو ذراري، فلا نرميهم بالنار، ولا نسبي ذراريهم وأموالهم؛ لأنهم مسلمون.
وقتال الحربيين المشركين كقتال البغاة إلا في خمسة أوجه:
يقاتلون أي الحربيون مدبرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالبون بما استهلكوا من دم أو مال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهم لاستبراء أحوالهم، وما أخذوه من الخراج والزكاة لا يسقط عمن كان عليه كالغاصب إذا أخذ ذلك.
__________
(1) البدائع: 141/7، تحفة الفقهاء: 252/3، المهذب: 221/2. (2) المهذب: 221/2، مغني المحتاج: 129/4، 277/2 وما بعدها.
(3) الفروق: 171/4، وانظر أيضاً القوانين الفقهية: ص 364، الشرح الكبير: 299/4.
(7/416)
الفَصْلُ الخامِس: حدّ الشُّرْب وحدّ السُّكْر والأشربة
خطة الموضوع:
الكلام عن حد الشرب وحد السُّكْر بحسب اصطلاح الحنفية، ثم يأتي بيان رأي غيرهم، في المباحث الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السكر وشروط الحد ومقدار الحد.
المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة المحرمة والمباحة.
المبحث الثالث ـ أحكام الخمر.
المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر.
المبحث الخامس ـ إثبات الشرب.
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام.
المبحث الأول ـ تعريف حد الشرب وحد السكر، وضابط السُّكْر وشروط الحد ومقدار الحد:
اعتبر الحنفية لشرب الأشربة المحرمة نوعين من الحد، وهما حد الشرب وحد السكر، أما حد الشرب: فهو الذي يجب بشرب الخمر خاصة، حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها، ولا يتوقف الوجوب على حصول السكر منها. قال صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه..» (1) والخمر كما سأبين: ماء العنب النيء المتخمر، وسميت الخمر خمراً إما لأنها تخمر العقل، أي تستره، وإما لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، وإما لأنها تخمر نفسها لئلا يقع فيها شيء يفسدها.
وأما حد السكر: فهو الذي يجب عند السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة (2) ، التي سيأتي بيانها.
ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها، فقالوا: كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه (3) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (4) .
__________
(1) روي عن اثني عشر صحابياً: وهم أبو هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وقبيصة بن ذؤيب، وجابر، والشريد بن سويد، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمرو، وجرير بن عبد الله البجلي، وابن مسعود، وشرحبيل بن أوس، وغطيف بن الحارث. فحديث أبي هريرة أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي، وحديث معاوية أخرجوه إلا النسائي، وحديث ابن عمر وجابر أخرجهما النسائي، وحديث قبيصة رواه أبو داود، وحديث الخدري رواه ابن حبان، وحديث غطيف رواه البزار، وأحاديث الصحابة الآخرين رواها الحاكم، فهو متواتر (راجع نصب الراية: 346/3 وما بعدها، جامع الأصول: 333/4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 277/6، نيل الأوطار: 146/7) .
(2) البدائع: 39/7، تبيين الحقائق: 195/3، فتح القدير: 178/4.
(3) بداية المجتهد: 434/2، مغني المحتاج: 187/4، المغني: 304/8، المهذب: 286/2، المنتقى على الموطأ: 147/3.
(4) رواه بهذا اللفظ مسلم والدارقطني عن ابن عمر، ورواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه بلفظ: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» وكذلك رواه ابن حبان وعبد الرزاق والدارقطني. وروي عن صحابة آخرين مثل أنس بن مالك وعمر بن الخطاب، وقرة بن إياس، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وميمونة، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم، حتى إنه بلغ رواة هذا الحديث ستة وعشرين صحابياً أحصيناها في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 449/3، فهو متواتر (وراجع أيضاً نصب الراية: 295/4، التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 57/5، نيل الأوطار: 173/8) .
(7/417)
ضابط السُكْر:
قال أبو حنيفة: إن السكر الذي يتعلق به وجوب الحد، والحرمة: هو الذي يزيل العقل، بحيث لا يفهم السكران شيئاً، ولا يعقل منطقاً، ولا يفرق بين الرجل والمرأة، والأرض من السماء؛ لأن الحدود يؤخذ في أسبابها بأقصاها درءاً للحد، لقوله عليه السلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» . وبناء عليه اعتبر غاية السكر وأكمله هو الموجب للحد.
وقال الصاحبان وباقي الأئمة: السكران هو الذي يكون غالب كلامه الهذيان، واختلاط الكلام؛ لأنه هو السكران في عرف الناس وعادتهم، فإن السكران في متعارف الناس اسم لمن هذى وخلط في كلامه، ولا يعرف ثوبه من ثوب غيره، ولا نعله من نعل غيره.
وقول الصاحبين مال إليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى كما صرح صاحب تنوير الأبصار وغيره (1) ، وهو رأي غير الحنفية.
شروط الحد:
يشترط لحد المسكرات شروط ثمانية (2) وهي:
الأول ـ أن يكون الشارب عاقلاً: فلا يحد المجنون.
الثاني ـ أن يكون بالغاً: فلا يحد الصغير.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 278، فتح القدير: 187/4، البدائع: 118/5، حاشية ابن عابدين: 181/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 361، اللباب مع الكتاب: 193/3، المهذب: 286/2، المغني: 308/8، غاية المنتهى: 330/3.
(7/418)
الثالث ـ أن يكون مسلماً: فلا حد على الكافر في شرب الخمر، ولا يمنع منه.
الرابع ـ أن يكون مختاراً غير مكره.
الخامس ـ ألا يضطر إلى شربه لغصة.
السادس ـ أن يعلم أنه خمر: فإن شربه وهو يظنه شراباً آخر، فلا حد عليه.
السابع ـ أن يعلم أن الخمر محرمة، فإن ادعى أنه لا يعلم ذلك، فاختلف المالكية، هل يقبل قوله أو لا. وقال غيرهم: لا تقبل دعوى الجهل ممن نشأ بين المسلمين.
الثامن ـ أن يكون مذهبه تحريم ما شرب: فإن شرب النبيذ من يرى أنه حلال، فاختلف العلماء: هل عليه حد أو لا. وذكر الحنابلة أن الحد على المسكرات إنما يلزم من شربها إذا كان عالماً أن كثيرها يسكر، فأما غيره فلا حد عليه؛ لأنه غير عالم بتحريمها، ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها، فأشبه من زفت إليه غير زوجته. وهذا قول عامة أهل العلم.
مقدار الحد:
قال جمهور الفقهاء: حد الشرب والسكر ثمانون جلدة (1) ، لقول علي رضي الله عنه: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد
__________
(1) فتح القدير: 185/4، البدائع: 113/5، تبيين الحقائق: 198/3، بداية المجتهد: 435/2، حاشية الدسوقي: 353/4، المنتقى على الموطأ: 143/3، القوانين الفقهية: ص361، المغني: 304/8، نيل الأوطار: 144/7.
(7/419)
المفتري ثمانون» (1) ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً (2) .
وقال الشافعية: حد الخمر وسائر المسكرات أربعون جلدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يعين في ذلك حداً، وإنما كان يضرب السكران ضرباً غير محدود، كما روى أبو هريرة (3) ، فقدروه بأربعين. وروى أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين» (4) . وقال علي كرم الله وجهه: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌ سنة، وهذا أحب إلي» (5) . هذا وقد حرمت الخمر سنة ثمان من الهجرة، كما استظهره الحافظ ابن حجر في فتح الباري. ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب،
__________
(1) رواه الدارقطني ومالك بمعناه والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي رحمه الله، وهو منقطع؛ لأن ثوراً لم يلحق عمر بلا خلاف. ولكن وصله النسائي والحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه عبد الرزاق عن عكرمة، ولم يذكر ابن عباس (راجع جامع الأصول: 331/4،التلخيص الحبير: ص 360، نيل الأوطار: 144/7، وانظر في نصب الراية: 351/3 حديث السائب بن يزيد وغيره في موضوعه) .
(2) إن دعوى الإجماع غير مسلَّمة، فقد اختلف الصحابة في حد الخمر قبل إمارة سيدنا عمر وبعدها، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام مقدار معين (نيل الأوطار: 142/7) .
(3) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة، قال: أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قد شرب، فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان (راجع نيل الأوطار: 138/7) ويؤيده حديث سيأتي تخريجه عن علي في ضمان موت الذي يعزر.
(4) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فجلده بجريدة نحو أربعين ... الحديث. وفي رواية «فجلد بجريدتين نحو أربعين» قال: وفعله أبو بكر. والجريد: سعف النخل (راجع جامع الأصول: 330/4، نيل الأوطار: 138/7، التلخيص الحبير: ص 360) .
(5) رواه مسلم من حديث حصين بن المنذر من قول علي (راجع نيل الأوطار: 138/7 ومابعدها، التلخيص الحبير: ص 360) وراجع في الفقه: مغني المحتاج: 189/4، المهذب: 286/2 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 105.
على ظاهر النص، لحديث أبي هريرة المتقدم. والسوط الذي يضرب به: سوط بين سوطين، ولا يمد ولا يجرد، ولا تشد يده؛ لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد، ولا غَل، ولا صفد» وقد سبق تخريجه.
(7/420)
المبحث الثاني ـ أنواع الأشربة:
أولاً ـ الأشربة المحرمة: سبعة وهي (1) :
1 - الخمر: هو اسم للنيء (أي غير النضيج أو الذي لم تمسه النار) من ماء العنب بعد ما غلى، واشتد وقذف بالزبد (أي الرغوة) ، وسكن عن الغليان، وصار صافياً. وهذا التعريف هو مذهب أبي حنيفة؛ لأن معنى الإسكار لا يتكامل إلا بالقذف بالزبد، فلا يصير خمراً بدونه.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: إذا غلى واشتد فهو خمر، وإن لم يسكن عن الغليان؛ لأن معنى الإسكار يتحقق بدون القذف بالزبد، وهذا هو الأظهر عند الحنفية، سداً لباب الفساد أمام العوام.
ويحرم وينجس عصير غلى، أو أتى عليه ثلاثة أيام بلياليهن. ودليل تحريم الخمر وحكمة التحريم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:90/5-91] وقد نزلت هذه الآية في
__________
(1) راجع نتائج الأفكار تكملة فتح القدير: 152/8 وما بعدها، البدائع: 112/5، حاشية ابن عابدين: 318/5 وما بعدها، المبسوط: 13/24 وما بعدها.
(7/421)
المرحلة الرابعة من مراحل التدرج في تشريع الخمر، التي كان أولها: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكَراً ورزقاً حسناً} [النحل:16/67] وثانيها: {يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير} [البقرة:219/2] وثالثها: {لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون} [النساء:43/4] والحكمة واضحة: وهي دفع الضرر والفساد عن الناس، فالخمر أم الخبائث.
2 - السَّكَر: هونقيع التمر الطري الذي لم تمسه النار، أو هو النيء من ماء الرطب (1) إذ غلى واشتد وقذف بالزبد، وسكن غليانه عند أبي حنيفة.
وعند الصاحبين والأئمة الآخرين: إذا غلى، ولم يسكن غليانه، على الخلاف السابق. ونبيذ التمر إذا لم يطبخ هو السَّكَر كما حقق قاضي زاده في نتائج الأفكار.
3 - الفضيخ: هو اسم للنيء من ماء البُسْر (2) اليابس إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الاختلاف السابق. وسمي فضيخاً؛ لأنه يفضخ أي يكسر ويرض.
4 - نقيع الزبيب: هو اسم للنيء من ماء الزبيب المنقوع في الماء حتى خرجت حلاوته، من غير طبخ، واشتد وقذف بالزبد، أو لم يقذف، على الخلاف السابق.
__________
(1) الرطب: ثمر النخيل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر (المصباح المنير) والبلح أول ما يرطب من البسر. وهكذا يكون أول ثمر النخيل: طَلْع، ثم خَلاَل، ثم بلَح، ثم بُسْر، ثم رُطَب، ثم تَمْر. والزهو: البُسْر الملون، يقال: إذا ظهرت الحمرة والصفرة في النخل، فقد ظهر فيه الزهو.
(2) البسر: ما قد أزهى من ثمر النخل، ولم يبد فيه إرطاب، والرطب ما قد جاوز حد البسر إلى الإرطاب، والتمر اسم جنس يتناول اليابس والرطب والبسر (المصباح المنير، المنتقى على الموطأ: 149/3) .
(7/422)
5 - الطلاء أو المثلَّث: هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مسكراً على ما هو الصواب عند الحنفية، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو والطرب، كما عليه حال الأغلبية الساحقة من الشاربين، فإن قصد بشربه التقوية أو التداوي، وهذا نادر، فيباح شربه عندهما. ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وباقي الأئمة.
6 - الباذَق أو المنصَّف: هو المطبوخ أدنى طبخة من ماء العنب حتى ذهب أقل من الثلثين، سواء أكان أقل من الثلث أم النصف، وصار مسكراً. والدليل على أن الزائد على الثلث حرام: هو ما ثبت عن سيدنا عمر أنه أحل ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فما لم يذهب ثلثاه، فالقوة المسكرة فيه قائمة.
7 - الجمهوري: هو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود إلى المقدار الذي كان في الأصل، ثم طبخ أدنى طبخة، وصار مسكراً، فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا قصد بشر به اللهو، ويحرم مطلقاً عند الصاحبين وبقية الأئمة.
ثانياً ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف: أربعة إذا كان القصد من شربها التقوي واستمراء الطعام والتداوي، وهي ما يأتي (1) :
1 - نبيذ التمر والزبيب إن طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة: وهو أن يطبخ إلى أن ينضج أي أن يطبخ طبخاً يسيراً، وحكمه أنه يحل شربه وإن اشتد إذا شرب منه بلا لهو ولا طرب، وما لم يسكر. فلو شرب ما يغلب على ظنه أنه مسكر فيحرم القدح الأخير الذي يسكر بشربه؛ لأن السكر حرام من كل شراب.
2 - الخليطان من الزبيب والتمر إذا طبخ أدنى طبخة، وإن اشتد: يحل شربه بلا لهو، كأن يكون بقصد التقوي أو استمراء الطعام.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 322/3.
(7/423)
3 - نبيذ العسل والتين والبُر والذرة: يحل سواء طبخ أو لا، بلا لهو وطرب. ويسمى نبيذ العسل (البِتْع) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيذ الحنطة والشعير (الجِعَة) إذا صار مسكراً. ويسمى نبيد الذرة (المِرز) إذا صار مسكراً، وهي مع ذلك حلال عند أبي حنيفة فيما دون الإسكار (1) ، كما سيأتي بيانه.
4 - الطلاء أو المثلث العنبي وإن اشتد: وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه: يحل شربه إذا قصد به استمراء الطعام والتداوي والتقوي على طاعة الله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما.
والرأي المختار عند الحنفية في حكم شرب هذه الأنواع الأربعة: هو الحرمة مطلقاً، عملاً برأي محمد، كما سيبين.
المبحث الثالث ـ أحكام الخمر:
يتعلق بالخمر الأحكام التالية (2) :
1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها إلا عند الضرورة؛ لأنها محرمة العين. قال الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان} [المائدة:90/5] فوصفها الحق تعالى بكونها رجساً، فيدل على أنها محرمة في نفسها.
__________
(1) البدائع: 117/5.
(2) المبسوط: 2/24 وما بعدها، البدائع: 112/5 ومابعدها، نتائج الأفكار: 155/8 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 319/5، القوانين الفقهية: ص 361، المهذب: 286/2 وما بعدها، المغني: 304/8 وما بعدها.
(7/424)
وقال عليه الصلاة والسلام: «حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسَكَر من كل شراب» (1) .
إلا أنه رخص في شربها عند ضرورة العطش أو الإكراه قدر ما تندفع به الضرورة.
ولا يجوز الانتفاع بها للتداوي وغيره؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا، قال صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حَرَّم عليكم» (2) فإنه دل على تحريم التداوي بما حرم الله تعالى، وأنه لم يجعل الشفاء فيه، ولما كانت الخمر محرمة، دل على تحريم التداوي بها.
ويحرم على الرجل أن يسقي الصبيان الخمر، فإذا سقاهم، فالإثم عليه في الشرب، دون الصغير؛ لأن خطاب التحريم موجه إليه. قال عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» (3) وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «الخمر أم الخبائث» (4)
__________
(1) رواه العقيلي من حديث علي بلفظ: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» ويروى: «لعينها» وهو معلول بمحمد بن الفرات وأخرجه النسائي موقوفاً على ابن عباس باللفظ المذكور في الصلب هنا. ورواه البزار موقوفاً أيضاً، وكذلك أخرجه الطبراني في معجمه موقوفاً على ابن عباس، وأخرجه عنه من طريق ابن المسيب مرفوعاً نحوه، وأخرجه أبو نعيم في الحلية. وأخرجه الدارقطني في سننه عن ابن عباس موقوفاً، وقال: وهذا هو الصواب عن ابن عباس؛ لأنه قد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» (راجع نصب الراية: 306/4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 53/5) والسكر: كل ما يسكر، ويطلق على نبيذ الرطب.
(2) أخرجه البيهقي وصححه ابن حبان، وأخرجه أحمد عن أم سلمة، وأخرجه البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، وصححه السيوطي.
(3) رواه البزار عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: «مدمن خمر كعابد وثن» وفي صحيح ابن حبان عن ابن عباس نحوه. ورواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح عن ابن عباس بلفظ: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد الوثن» (راجع نصب الراية: 298/4، مجمع الزوائد: 70/5، 74، نيل الأوطار: 169/8) .
(4) رواه النسائي عن عثمان بن عفان موقوفاً، وكذا رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي في سننه موقوفاً على عثمان، وهو أصح، قال: سمعت رسول الله يقول: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث» الحديث، وفيه قصة عن رجل قديم. وروى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمته وخالته وعمته» وفيه ضعيف (راجع نصب الراية: 297/4، مجمع الزوائد: 67/5، التلخيص الحبير: ص 360) .
(7/425)
وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها» (1) .
2 - يكفر مستحلها؛ لأن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به، وهو نص القرآن الكريم في الآية السابقة: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام (2) رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه، لعلكم تفلحون} [المائدة:90/5] .
3 - يحرم على المسلم تمليكها بسائر أسباب الملك من البيع والشراء والهبة وغيرها؛ لأن كل ذلك انتفاع بالخمر، وإنها محرمة الانتفاع على المسلم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها، ولا يبيعها، فسكبوها في
__________
(1) رواه أبو داود عن ابن عمر، وصححه ابن السكن، ورواه ابن ماجه وزاد: «وآكل ثمنها» وفي موضوعه عن أنس بن مالك وزاد: «وعاصرها والمشتري لها والمشترى له» رواه الترمذي وابن ماجه ورواته ثقات. وعن ابن عباس رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وعن ابن مسعود ذكره ابن أبي حاتم في العلل، ورواه البزار والطبراني وفيه ضعيف. وعن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» رواه أبو داود، وعن عبد الله بن عمر (راجع التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 73/5) وفي بعض ألفاظه: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخمر وشاربها ... الحديث» .
(2) الميسر: القمار، قال مجاهد: كل شيء فيه قمار فهو ميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز. والأنصاب جمع نصب بفتح النون وضمها، وهوحجر أو صنم منصوب يذبحون عنده. والأزلام: القداح، واحدها زلم ـ بفتح الزاي وضمها ـ وهي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على الميسر. والرجس: العذاب أو القذر والنتن، وسميت الأصنام رجساً لأنها سبب الرجس وهو العذاب.
(7/426)
طرق المدينة» (1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (2) ، إلا أنها تورث؛ لأن الملك في الموروث ثبت شرعاً من غير صنع العبد، فلا يكون ذلك من باب التمليك والتملك، والخمر إن لم تكن متقومة، فهي مال قابل للملك في الجملة.
4 - لا يضمن متلفها إذا كانت لمسلم؛ لأنها ليست متقومة في حق المسلم، وإن كانت مالاً في حقه.
5 - إنها نجسة نجاسة مغلظة، حتى إذا أصاب الثوب ـ في رأي الحنفية ـ أكثر من قدر الدرهم، يمنع جواز الصلاة؛ لأن الله تعالى سماها رجساً، فقال سبحانه: {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة:90/5] . والظاهر أن المراد من كلمة (رجس) هو النجاسة المعنوية الشرعية (3) ، إلا أن الأمر بالاجتناب يقتضي الابتعاد عن الخمر ابتعاداً شديداً، وقد حكم الجمهور بنجاسة الخمر وسائر المسكرات المائعة فوق تحريم شربها تنفيراً وتغليظاً، وزجراً عن الاقتراب منها (4) ، يدل لنجاستها حديث أبي ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله، إنا بأرض أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم
__________
(1) الأحاديث في تحريم الخمر متواترة، منها: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري بلفظ: «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية، وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة، فسفكوها» ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن عائشة: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام» والفَرق بإسكان الراء: مئة وعشرون رطلاً، وبفتحها ستة عشر رطلاً. ومنها ما أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان عن جابر: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» . (راجع نيل الأوطار: 169/8، نصب الراية: 296/4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 51/5، فيض القدير: 420/5) .
(2) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس، ورواه الحميدي في مسنده عن أبي هريرة (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق) .
(3) تفسير المنار: 58/7.
(4) الفقه على المذاهب الأربعة: 18/1، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج: 68/1.
(7/427)
تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) . وفي رواية أبي داود: «إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فكلوا اشربوا، وإ ن لم تجدوا غيرها فارحضوها (اغسلوها) بالماء، وكلوا اشربوا» (1) . قال الشوكاني: والأمر بغسل الآنية في حديث أبي ثعلبة ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير، وشربهم الخمر فيها.
ولو سقيت بهيمة خمراً ثم ذبحت، فإن ذبحت ساعة ما سقيت به تحل من غير كراهة؛ لأنها في أمعائها، فتطهر بالغسل، وإن مضى عليها يوم أو أكثر، تحل مع الكراهة عند الحنفية، لاحتمال أنها تفرقت في العروق والأعصاب.
ولو نقعت فيها الحنطة، ثم غسلت، حتى زال طعمها ورائحتها، يحل أكلها. وإن وجد فيها طعم الخمر ورائحتها، لا يحل أكلها.
6 - يحد شاربها قليلاً أو كثيراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2) ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك (3) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني (نصب الراية: 95/1، نيل الأوطار: 19/1) .
(2) روي عن تسعة من الصحابة: وهم عبد الله بن عمرو، وجابر، وسعد بن أبي وقاص، وعلي، وعائشة، وابن عمر، وخوات بن جبير، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، فحديث ابن عمرو رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما، وحديث جابر أخرجه الدارقطني وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان، وحديث عائشة أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وحديث ابن عمر رواه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني في معجمه، وحديث خوات بن جبير أخرجه الحاكم وغيره، وحديث سعد رواه النسائي والدارقطني، وحديث علي أخرجه الدارقطني، وحديث زيد رواه الطبراني في معجمه، وحديث أنس رواه أحمد وأبو يعلى وغيرهما فهو متواتر. (راجع نصب الراية: 301/4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 56/5 وما بعدها، التلخيص الحبير: ص 359، سبل السلام: 35/4، نيل الأوطار: 179/8) .
(3) تفسير المنار: 77/7.
(7/428)
ولو شرب خمراً ممزوجاً بالماء: إن كانت الغلبة للخمر، يجب الحد، وإن غلب الماء عليها حتى زال طعمها وريحها لا يجب الحد، إلا أنه يحرم شرب الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من أجزاء الخمر حقيقة.
7 - إن حد شرب الخمر وحد السكر مقدر بثمانين جلدة في الأحرار، لفعل الصحابة رضي الله عنهم، وقياسهم على حد القذف كما عرفنا، وهذا رأي الجمهور، وقال الشافعية: حد الخمر أو المسكر على الأحرار أربعون جلدة؛ لأن عثمان رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة أربعين، وقال علي: جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمرأربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة (1) .
8 - إذا تخللت الخمر بنفسها يحل شرب الخل بلا خلاف، لقوله عليه الصلاة والسلام: «نعم
__________
(1) أخرج البيهقي قصة جلد الوليد، وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قول علي كرم الله وجهه.
(2) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله، وأخرجه مسلم والترمذي عن عائشة، وأخرجه الحاكم عن أم هانئ، ورواه البيهقي عن أم أيمن. وفي لفظ: «نعم الأدم الخل» (راجع نصب الراية: 310/4، المقاصد الحسنة: ص 447، الجامع الصغير: 188/2) .
(7/429)
الإدام الخل» (2) . ويعرف التخلل بالتغير من المرارة إلى الحموضة بحيث لا يبقى فيها مرارة أصلاً عند أبي حنيفة، فلو بقي فيها بعض المرارة لا يحل؛ لأن الخمر عنده لا يصير خلاً إلا بعد تكامل معنى الخلِّية فيه، كما لا يصير خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية.
وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل الحموضة فيها، اكتفاء بظهور دليل الخلية فيه، كما أن الخمر تصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندها.
أما إذا خلل الخمر صاحبها بإلقاء علاج فيها من خل أو ملح أو غيرهما، حتى صارت حامضاً، فيحل شربها، ويكون التخليل جائزاً عند الجمهور، قياساً على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، ولقوله عليه السلام: «خير خلكم خل خمركم» (1) وقوله أيضاً: «نعم الإدام الخل» ولم يفصل بين تخلل الخمر بنفسها والتخليل، ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح.
وإذا صارت الخمر خلاً يطهر ما يجاورها من الإناء، ويطهر أعلى الإناء إذا غسل بالخل. وقيل: يطهر تبعاً، وهو المفتى به (2) .
وقال الشافعي: لا يحل التخليل بالعلاج، ولا تطهر الخمر حينئذ، لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل اقتراباً من الخمر على وجه التمول، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً (3) .
__________
(1) رواه البيهقي في المعرفة عن جابر وقال: تفرد به المغيرة بن زياد، وليس بالقوي. ويلاحظ أن أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (راجع نصب الراية: 311/4) .
(2) المبسوط: 7/24، البدائع: 113/5 وما بعدها، نتائج الأفكار: 166/8، حاشية ابن عابدين: 320/5.
(3) حاشية قليوبي وعميرة على شرح الجلال المحلي على المنهاج للنووي: 72/1.
(7/430)
وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، فتخللت، تحل عند الجمهور، وكذا عند الشافعية في الأصح.
المبحث الرابع ـ أحكام الأشربة المسكرة غير الخمر:
هذه الأشربة ثلاث فئات:
الفئةالأولى ـ غير المطبوخ غالباً: وهو السَّكَر والفضيح النيء والباذق المطبوخ ونقيع الزبيب والتمر من غير طبخ:
أي نقيع التمر إذا اشتد وقذف بالزبد أو الذي طبخ من ماء العنب، فذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ، فهذه هي الفئة الأولى التي يتعلق بها الأحكام التالية (1) :
1 - يحرم شرب قليلها وكثيرها باتفاق العلماء، لقوله عليه السلام: «الخمر من هاتين الشجرتين» (2) . وأشار إلى النخلة والعنبة، وهذه الفئة إما من التمر أو من العنب، ولأنه إذا ذهب أقل من الثلثين بالطبخ، فالحرام فيه باق، وهو مازاد على الثلث.
2 - لا يكفر مستحلها، ولكن يضلل؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، لثبوتها بدليل غير مقطوع به من أخبار الآحاد، وآثار الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) البدائع: 114/5 وما بعدها، نتائج الأفكار: 158/8 وما بعدها، المبسوط: 4/24.
(2) أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أي الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» (راجع نصب الراية: 295/4، نيل الأوطار: 172/8) .
(7/431)
3 - لا يحد عند الحنفية بشرب قليلها، وإنما يجب الحد بالسُّكر منها؛ لأن نص الحديث السابق: «والسَكَر من كل شراب» حرم السكر وجعله كحرمة الخمر، والمعاني التي حرم من أجلها الخمر في قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون} [المائدة:91/5] هذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب. لهذا قال علي رضي الله عنه: «فيما أسكر من النبيذ ثمانون، وفي الخمر قليلها وكثيرها ثمانون» .
4 - مقدار الحد: ثمانون جلدة عند الجمهور كما عرفنا، وأربعون جلدة عند الشافعية.
5 - يحرم التداوي بها، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن التداوي بالمسكر، فقال: «إن الله تبارك وتعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (1) .
6 - يجوز بيعها عند أبي حنيفة مع الكراهة، ويضمن متلفها؛ لأن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه، وهذه الأشربة مرغوب فيها، إلا أن الخمر مع كونها مرغوباً فيها لا يجوز بيعها بنص الحديث السابق: «يا أهل المدينة، إن الله تبارك وتعالى قد أنزل تحريم الخمر، فمن كتب هذه الآية، وعنده شيء منها، فلا يشربها ولا يبيعها» والنص ورد في الخمر، فيقتصر على مورد النص.
وأيضاً لأن الأخبار تعارضت في هذه الأشربة في الحل والحرمة، قال أبو حنيفة بحرمة شربها احتياطاً، ولكن لا تبطل ماليتها احتياطاً؛ لأن الاحتياط لايجري في إبطال حقوق الناس.
__________
(1) رواه عبد الرزاق والطبراني في معجمه وابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: «إن الله لم يكن ليجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وذكره البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، وأخرجه البيهقي وابن حبان وصححه، وأخرجه أيضاً أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام» وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان عن وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، قال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (راجع نصب الراية: 299/4، التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 72/5، نيل الأوطار: 203/8، سبل السلام: 36/4) .
(7/432)
وقال الصاحبان: لا يجوز بيعها أصلاً، ولا يضمن متلفها، لعدم كونها مالاً متقوماً؛ لأن المال المتقوم: هو ما يباح الانتفاع به حقيقةً وشرعاً، وهي لا يباح الانتفاع بها.
7 - في نجاستها روايتان عن أبي حنيفة: رواية راجحة تعتبر نجاستها مغلظة كنجاسة الخمر؛ لأنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، فلا يعفى عنها أكثر من قدر
الدرهم، ورواية تعتبر نجاستها مخففة فيعفى عنها ما دون ربع الثوب عند الحنفية؛ لأن نجاسة الخمر إنما ثبتت بالشرع، بقوله تعالى: {رجس} [المائدة:90/5] فتختص النجاسة باسم الخمر. وعن أبي يوسف: أن الكثير الفاحش: هو النجس؛ لأن حرمتها دون حرمة الخمر، واختار السرخسي أن نجاسة السكر ونقيع الزبيب مخففة، والمفتى به أن نجاستها كالخمر (1) .
(7/433)
الفئة الثانية ـ المطبوخ وهو المثلث (أو الطلاء) والجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ:
أي أن عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ، وإن لم يذهب ثلثاه، فهذه هي الفئة الثانية.
المثلث: وهو المطبوخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي معتقاً، حكمه وحكم الجمهوري والمطبوخ من الزبيب والتمر أدنى طبخ، أي وإن لم يذهب ثلثاه: أنه يحل شرب القليل منه، ويحرم المسكر منه وهو القدح الأخير الذي يسكر، فإذا سكر يجب الحد، ويجوز بيعه وتمليكه ويضمن متلفه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ودليلهما حديث وآثار: أما الحديث فهو ما روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بنبيذ فشمه، فقطب وجهه لشدته، ثم دعا بماء، فصبه عليه وشرب منه (2) .
__________
(1) نتائج الأفكار: 160/8، البدائع: 115/5، رد المحتار: 321/5.
(2) رواه الطبراني وفيه هود بن عطاب وهو ضعيف، ويؤيده ما رواه الطبراني عن المطلب بن أبي وداعة وفيه رجل ضعيف: أن النبي أتي بإناء فصب عليه الماء، حتى تدفق، ثم شرب منه، وروى العقيلي عن علي، قال: «طاف النبي صلّى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أسبوعاً، ثم استند إلى حائط من حيطان مكة، فقال: هل من شربة؟ فأتي بقعب من نبيذ، فقطب، ورده، فقام إليه رجل من آل حاطب، فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل مكة، قال: فصب عليه الماء، ثم شرب، ثم قال: حرمت الخمر بعينها والسَّكَر من كل شيء» وأعله بمحمد بن الفرات وهو منكر الحديث (راجع نصب الراية: 306/4، مجمع الزوائد: 66/5) .
(7/434)
وأما الآثار، فمنها ماروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد، ومنها: ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أضاف قوماً فسقاهم، فسكر بعضهم، فحده، فقال الرجل: تسقيني ثم تحدني؟ فقال علي: إنما أحدك للسُّكْر (1) . والحقيقة أن هذا الخبر غير صحيح؛ لأن في سنده مدلساً وضعيفاً.
وقد اعتبر أبو حنيفة حل المثلث من علامة مذهب أهل السنة والجماعة، فقال: السنة أن تفضل الشيخين، وتحب الخَتَنين (أي الصهرين) وتمسح على الخفين، ولا تحرم نبيذ الجَرّ، أي المثلث أو الطلاء. والحل محصور في القليل منه أو إذا قصد به التقوي على الطاعة، أو التداوي، أو استمراء الطعام، أما إذا قصد به التلهي، فيحرم.
وقال محمد: لا يحل شرب هذين الشرابين، ولكن لا يجب الحد ما لم يسكر، لقوله عليه السلام: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وبرأيه يفتى عند الحنفية.
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله، وحد شاربه إذا كان مكلفاً مختاراً، لقوله عليه السلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله أيضاً «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» وصحح الترمذي: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2) .
__________
(1) المبسوط: 15/24، البدائع: 116/5، نتائج الأفكار: 162/8 وهذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي. وروى الدارقطني مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه، ورواه العقيلي في كتابه عن عمر أيضاً، وله طرق أخر عند ابن أبي شيبة، وفي الأطراف، وعند عبد الرزاق في مصنفه (راجع نصب الراية: 350/3) ويلاحظ أن هذه القصة غير ثابتة.
(2) مغني المحتاج: 187/4، المهذب: 286/2، بداية المجتهد:434/2 وما بعدها، المغني: 304/8.
(7/435)
الفئة الثالثة ـ الأشربة الحلال في رأي ضعيف: وهي خليط الزبيب والتمر المطبوخ، والمتخذ من غير العنب والتمر:
الأشربة الأربعة الحلال التي ذكرت كالخليطين والمِزْر والجِعة والبِتْع والمثلث بقصد التداوي يحل شربها بلا لهو ولا طرب، قليلاً كان أو كثيراً إذا شرب مالا يسكره، ولا يحد شاربها، وإن سكر منها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه ليس في هذه الأشربة معنى الخمرية، إذ لا شدة فيها، ولأنه عليه السلام قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: يعني النخلة والكرمة» ذكر صلّى الله عليه وسلم الخمر بلام الجنس، فاقتضى اقتصار الخمرية على ما يتخذ من هاتين الشجرتين. وإنما لا يجب الحد وإن سكر منه؛ لأنه سكر حصل بتناول شيء مباح، فلا يوجب الحد، كالسكر الحاصل من تناول البنج، بخلاف ما إذا سكر بشرب المثلث، فإنه يجب الحد؛ لأن السكر فيه حصل بتناول المحظور وهو القدح الأخيرة.
وخلاصة الفرق بين هذه الفئات الثلاث: أن الفئة الأولى يحرم قليلها وكثيرها ويجب الحد بالسكر منها، وأن الثانية يحرم المسكر منه فقط ويجب الحد بالسكر، وأما الثالثة فيحل شربها للتداوي والتقوي، وإن سكر منها، ولا حد فيها وإن سكر منها عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقد حرم محمد رحمه الله تعالى هذه الأشربة الأربعة التي هي حلال عند الشيخين: وهي المتخذة من العسل والتين ونحوهما قليلها وكثيرها، والأصح أنه يحد شاربها بالسكر منها، وبه يفتى في المذهب الحنفي (1) ، وقال الأئمة الثلاثة:
__________
(1) يظن بعض شاربي البيرة ونحوها أن قليلها حلال في مذهب الحنفية. والواقع أن قليلها وكثيرها حرام في كل المذاهب وبإجماع آراء الحنفية، لأن الخلاف فيما يسمى بالأشربة الحلال محصور فيما قصد بشربه تقوية البدن الضعيف. أما إذا كان يؤخذ للهو والتسلية كما يفعل هؤلاء الشاربون فهو حرام كالكثير تماماً، ولو قطرة واحدة (الفقه على المذاهب الأربعة: 2 حاشية ص 7 بتصرف) .
(7/436)
يحد بشرب القليل منها والكثير (1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» وقوله: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وقوله: «كل شراب أسكر فهو حرام» وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (2) .
الحشيش والأفيون والبنج (3) :
يحرم كل ما يزيل العقل من غير الأشربة المائعة كالبنج والحشيشة والأفيون، لما فيها من ضرر محقق، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولكن لا حد فيها؛ لأنها ليست فيها لذة ولاطرب، ولا يدعو قليلها إلى كثيرها، وإنما فيها التعزير لضررها، ولما رواه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر» .
ويحل القليل النافع من البنج وسائر المخدرات للتداوي ونحوه؛ لأن حرمته ليست لعينه، وإنما لضرره (4) .
القهوة والدخان: سئل صاحب العباب الشافعي عن القهوة، فأجاب: للوسائل حكم المقاصد، فإن قصدت للإعانة على قربة كانت قربة، أو مباح فمباحة، أو مكروه فمكروهة، أو حرام فمحرمة. وأيده بعض الحنابلة على هذا التفصيل.
__________
(1) انظر نيل الأوطار: 140/7، البدائع: 117/5، نتائج الأفكار: 160/8 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 322/5 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير، زاد أحمد وأبو داود: «وأنا أنهى عن كل مسكر» (راجع التلخيص الحبير: ص 359، مجمع الزوائد: 56/5، نيل الأوطار: 173/8) .
(3) البَنج: يسمى في العربية شيكران: وهونبات يصدع ويسبت، ويخلط العقل. والأفيون: عصارة الخشخاش. والحشيشة: ورق القنب الهندي.
(4) مغني المحتاج: 187/4، حاشية ابن عابدين: 325/5، المبسوط: 9/24، فتح القدير: 184/4.
(7/437)
وقال الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب غاية المنتهى: ويتجه حل شرب الدخان والقهوة، والأولى لكل ذي مروءة تركهما (1) .
والواقع، لا تقل مرتبة التدخين عن الكراهة أو الكراهة التحريمية، وقد يصبح التدخين حراماً إذا ثبت ضرره بالنفس أو المال أو كان المدخن محتاجاً إلى المال لإنفاقه على قوته أو قوت أهله أو ملبسه أو ملبس أهله وعياله.
وقد حرم الإباضية التبغ؛ لأنه من الخبائث، وأصدرت دولة إيران عام 1991م أمراً بمنعه وتحريمه ومنع توظيف المدخنين، وقد ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه: حكم التدخين عند الأئمة الأربعة وغيرهم (2) سبعة عشر دليلاً على تحريم الدخان، وأبان المفاسد الكثيرة المترتبة على الدخان، وأورد فتاوى علماء المذاهب الإسلامية بالتحريم، وناقش أدلة المبيحين بالتحريم.
وتلك الأدلة بإيجاز:
1 - الدخان من الخبائث المحرمة بنص الكتاب، والخبائث: كل ما تستكرهه النفوس وتنفر منه.
2 - الدخان مضرّ بالأبدان ضرراً بيِّناً لا شك فيه، ولا شبهة الآن عند الحكماء وهو من أهم أسباب سرطان الرئة والقلب وغير ذلك من الأمراض الخطيرة أو المنتنة.
3 - الدخان مؤذ بدخانه الخبيث ورائحته المنتنة لمن لا يتعاطاه من زوجة أو زوج وصاحب.
__________
(1) غاية المنتهى: 331/3.
(2) توزيع مكتبة الغزالي بدمشق، طبع عام 1411هـ ـ 1990م وعنوان الكتاب «إعلان الحجة وإقامة البرهان على منع ما عمَّ وفشا من استعمال عُشبة الدخان» .
(7/438)
4 - الدخان مؤذ برائحته ونتنه للحفظة الكرام الكاتبين وغيرهم من الملائكة المكرمين.
5 - الدخان مضر بدِين صاحبه، شاغل له عن سلوك المسالك التي يرتقي بها.
6 - الدخان فيه إفساد للجسم والبدن وتخدير له وتفتير بالتجربة والمشاهدة.
7 - الدخان مع كونه مفتراً، أي مخدراً للجفون والأطراف، قد يحصل الإسكار منه لبعض الناس في ابتداء التعاطي، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر.
8 - فيه إسراف وتبذير، وهو إضاعة المال من أي نوع كان بإتلافه وإنفاقه في غير فائدة دينية ولا مصلحة دنيوية.
9 - إنه مصادم للفطرة الإنسانية، مؤد إلى تردد القلب وقلقه واضطرابه، فهو مشكوك ومشتبه فيه، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، والبر: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب.
10 - إنه يؤدي إلى أكل المحروق وتسرب أجزاء منه محروقة للحلق كلما تناول المدخن شيئاً منه.
11 - فيه أكل النار الممتزجة بالحطب الذي هو ورقه، أي من جذبه إلى جوفه.
12 - فيه إفساد مزاج من طبعه السوداء أو الصفراء؛ لأنه يجفف الرطوبات البدنية ويحرقها.
13 - فيه عبث ولهو، وهو حرام عندالحنفية.
14 - نهى عنه ملوك الإسلام وسلاطينه في الترك والمغرب والسودان وغيرهم، بل وملوك أوروبا.
15 - إنه من البدع ومحدثات الأمور بعد القرون الثلاثة المشهود بخيريتها وفضلها، بل بعد القرون العشرة، أخرج أبو داود من حديث العرباض بن سارية: «إياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .
(7/439)
16 - فيه غول، وهو ما يعتري شاربه بتركه من القلق والفساد والأذى في عقله ومزاجه وحواسه، وبسببه يعود له ولا يقدر على الترك، وكل ما فيه غول يغتال العقول ويضعف الإرادة يمنع منه، بدليل وصف الحق تعالى خمر الجنة بأنها {لا فيها غول} [الصافات:47/37] .
17 - ما كان مشكوكاً فيه أحرام هو أم حلال، ولم نجد فيه نصاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، يعمل فيه بعمل أهل التقوى والورع واجتناب المشتبهات.
المبحث الخامس ـ إثبات شرب الخمر ونحوها:
اتفق جمهور الفقهاء على أن شرب الخمر ونحوها يثبت بشهادة رجلين مسلمين عدلين يشهدان أنه مسكر أو بالإقرار مرة واحدة، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال. ويكفي في إقرار وشهادة أن يقال: شرب فلان خمراً.
وقال أبو يوسف وزفر: يشترط في الإقرار هنا كما في السرقة: أن يكون مرتين بمجلسين، اعتباراً لعدد الإقرار بعدد الشهود.
ولا يعتبر الإقرار والشهادة بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يحد بالإقرار أو الشهادة بعد ذهاب الرائحة، ولكن دون شهر في الشهادة.
واختلفوا في إثبات الشرب بالرائحة:
فقال المالكية: يجب الحد بالرائحة إذا شمها شاهدان عدلان في فمه أو تقيأها، وشهدا بذلك عند الحاكم؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر (1) ، وتشبيهاً للشهادة على الرائحة بالشهادة على الصوت (2) .
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها؛ لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء، فلما صارت في فمه مجها، أو ظنها لا تسكر، أو كان مكرهاً أو مضطراً أو غالطاً، أو شرب شراب التفاح، فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد بالشك؛ لأن الحد يدرأ بالشبهة، ولا يستوفيه القاضي بعلمه أيضاً (3) .
ويلاحظ أنه لا يقام الحد على السكران حال سكره، وإنما يؤخره إلى الصحو باتفاق الأئمة، ليتحقق مقصود الحد من الانزجار.
__________
(1) رواه الطبراني وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه عن أبي ماجد الحنفي، قال: جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه (أي حركوه تحريكاً عنيفاً لعله يصحو) واستنكهوه، ففعلوا، فرفعه إلى السجن، ثم عاد به من الغد، ودعا بسوط، ثم أمر بثمرته فدقت بين حجرين، حتى صارت درة، ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع تلك، وأعط كل عضو حقه (راجع نصب الراية: 349/3، مجمع الزوائد: 275/6، 279) .
(2) حاشية الدسوقي: 353/4، بداية المجتهد: 436/2، المنتقى على الموطأ: 142/3، القوانين الفقهية: ص 362.
(3) فتح القدير: 180/4، 186، تبيين الحقائق: 196/3، الكتاب مع اللباب: 193/3، مختصر الطحاوي: ص 280، مغني المحتاج: 190/4، المغني: 309/8، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 246/2، غاية المنتهى: 330/3.
(7/440)
المبحث السادس ـ مخاطر المخدرات وأحكامها في الإسلام:
الشرائع الإلهية وخاتمتها الشريعة الإسلامية تنشد في تشريعها لتنظيم حياة الناس وأحوالهم تحقيق المصالح والمنافع البشرية الحقيقية، ودفع أنواع المضار والمفاسد وألوان الأذى والشر، بدليل الاستقراء التام والتتبع الشامل لكل ما جاءت به شريعة القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات الاجتماعية الخاصة والعامة، فلا نجد مطلوباً شرعاً: فرضاً أو مندوباً إلا وكان فيه الخير للفرد والجماعة أو الشخص والأمة، ولا نرى ممنوعاً: حراماً أو مكروهاً إلا وفيه الشر أو شبهة السوء للإنسان والناس قاطبة.
والعقل المجرد غير المتأثر بالهوى أو النفعية الطائشة أو الوقتية غير المنضبطة يدرك تماماً المصلحة المجردة والمضرة الواضحة، ويؤيد ما جاءت به شريعة السماء، إذ لا يخفى على عاقل أن تحصيل المصالح المحضة أو الدائمة الأثر، ودرء المفاسد المحضة أو الآنية التأثير، عن نفس الإنسان وغيره، محمود حسن، كما أنه لا يخفى أيضاً أن درء المفاسد والمضار الراجحة مقدم على المصالح المرجوحة، كما قال العز بن عبد السلام في مقدمة كتابه: «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» .
(7/441)
وهذا ما اتفق عليه الحكماء، وأجمعت عليه الشرائع، فحرّمت الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، واتفقت الملل كلها على الحفاظ على المقاصد الخمسة الكلية الضرورية، وهي الدين والعقل والنفس والنسب أو العرض والمال، ووجهت الأديان ذات المصدر الإلهي إلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال والآداب والأخلاق. وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما. ومن هذا المنطلق حاربت الشريعة الإسلامية وحرمت تناول المسكرات والمخدرات بأنواعها المختلفة، لما فيها من ضرر واضح على الإنسان وصحته وعقله وكرامته وسمعته أو اعتباره الأدبي. روى ابن ماجه والدارقطني مسنداً، والإمام مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث حسن، مفاده أن الضرر ممنوع بالنفس أو بالغير، فلا يجوز لأحد أن يضر نفسه أو غيره بغير حق ولا جناية سابقة، ولايجوز مقابلة الضرر بالضرر، فمن سبَّك أو شتمك فلا تسبّه، ومن ضرّ بك فلا تضرّ به، بل اطلب حقك منه عند الحاكم من غير مسابّة.
وجاء في الإنجيل المتداول الآن من قول السيد المسيح عليه السلام: «السكّيرون والزناة لا يدخلون ملكوت السموات» وإذا كان السكر والزنى ممنوعين لضررهما وقبحهما، فكذلك المخدرات التي تضر العقل، وتفسد النفس والوجدان أو الضمير.
(7/442)
ومن المعلوم أن الضرر الناجم عن تعاطي المسكرات والمخدرات متعدد الجوانب ففيها ضرر بالشخص ذاته، وبأسرته وأولاده، وبمجتمعه وأمته.
أما الضرر الشخصي: فهو التأثير الفادح في الجسد والعقل معاً، لما في المسكر والمخدر من تخريب وتدمير الصحة والأعصاب والعقل والفكر ومختلف أعضاء جهاز الهضم وغير ذلك من المضار والمفاسد التي تفتك بالبدن كله، بل وبالاعتبار الأدبي والكرامة الإنسانية، حيث تهتز شخصية الإنسان، ويصبح موضع الهزء والسخرية، وفريسة الأمراض المتعددة.
وأما الضرر العائلي: فهو ما يلحق بالزوجة والأولاد من إساءات، فينقلب البيت جحيماً لا يطاق من جراء التوترات العصبية والهياج والسب والشتم وترداد عبارات الطلاق والحرام، والتكسير والإرباك، وإهمال الزوجة والتقصير في الإنفاق على المنزل، وقد تؤدي المسكرات والمخدرات إلى إنجاب أولاد معاقين متخلفين عقلياً، وقد شاهدت ذلك بنفسي في حالات كثيرة من أولاد المدمنين.
وأما الضرر العام: فهو واضح في إتلاف أموال طائلة من غير مردود نفعي، وفي تعطيل المصالح والأعمال، والتقصير في أداء الواجبات، والإخلال بالأمانات العامة، سواء بمصالح الدولة أو المؤسسات أو المعامل أو الأفراد.
هذا فضلاً عما يؤدي إليه السكر أو التخدير من ارتكاب الجرائم على الأشخاص والأموال والأعراض، بل إن ضررالمخدرات أشد من ضرر المسكرات؛ لأن المخدرات تفسد القيم الخلقية.
(7/443)
أنواع المخدرات وحكمها الشرعي:
المخدرات والمسكرات أنواع متعددة، يتفنن الناس في تناولها بأسماء مختلفة، ويلجأ بعضهم إلى تعاطي أشياء تحقق الهدف المقصود من تغطية العقل، وكلها تشترك في حكم واحد، وهو التحريم بسبب ما فيها من الضرر المؤكد الحصول.
ومن أشهر أنواع المخدرات: الحشيشة، والأفيون، والكوكايين والمورفين والبنج (نبات سام يستعمل في الطب للتخدير) وجوزة الطيب (ثمر شجرة) والبرش (مركب من الأفيون والبنج) والقات (نبات تمضغ أوراقه، قليله منبه منشط، وكثيره مخدر مثبّط، يورث الكسل والخمول، ويعطل الأعمال) وغير ذلك مما يؤخذ بالحُقَن أو المضغ أو التدخين أو غيرها، فيؤدي إلى تغييب العقل، وإضرار الصحة، وإفساد الأخلاق. والحكم الشرعي للمخدرات أنها حرام في غير حالة التداوي للضرورة أو الحاجة، وفي غير حالة إصلاح البهارات بإضافة بعضها إليها بالقدر القليل فقط مثل خلط شيء قليل من جوزة الطيب مع البهارات أو المقبّلات. وحرمتها كالمسكرات التي جاءت النصوص التشريعية في القرآن والسنة النبوية بتحريمها تحريماً قطعياً.
وأدلة تحريم تعاطي المخدرات كثيرة منها ما يلي:
1ً - إن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة كثيرة كما تقدم، وقد يفوق ضررها ضرر المسكرات؛ لأنها تفسد أخلاق المجتمع وتضر الأمة في اقتصادها وأعمالها ضرراً بليغاً، وتفسد العقل، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ففيها ضرر عقلي وبدني وديني وأخلاقي، وكل ما هو ضار في نتائجه أو ذاته وعينه فهو حرام، والمضِّرات من أشهر المحرمات.
2ً - روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» . والمفتر: كل ما يورث الفتور وارتخاء الأعضاء وتخدير الأطراف. قال ابن حجر: وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه، فإنها تسكر وتخدِّر وتفتر. وفي حديث آخر عند أبي داود عن ابن عباس: «كل مخمِّر وكل مسكر حرام» والمخمِّر: ما يغطي العقل.
(7/444)
3ً - حكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال ابن تيمية: ومن استحلها فقد كفر، وإنما لم تتكلم فيها الأئمة الأربعة رضي الله عنهم؛ لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في آخر المئة السادسة، وأول المئة السابعة حين ظهرت دولة التتار.
4ً - قال ابن تيمية في فتاويه الكبرى: كل ما يغيب العقل فإنه حرام، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين، أي إلا لغرض معتبر شرعاً.
وقال أيضاً في كتابه السياسة الشرعية: إن الحشيشة حرام، يُحَدُّ متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرّمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً أو معنى.
وجاء أيضاً في فتاوى ابن تيمية في مواضع متكررة: «هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه، وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث من مهانة أكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى. وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام.
ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وإن القليل منها حرام أيضاً بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر» .
(7/445)
وأيد ابن القيم أستاذه ابن تيمية في ذلك كله، وقال في زاد المعاد: «إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور ـ أي الحشيشة ـ لأن هذا كله خمر بنص رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: كل مسكر خمر» . وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بخطابة ومراده، بأن الخمر ما خامر العقل.
على أنه لو لم يتناول لفظه صلّى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجهة، حاكماً بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه» .
وقال الصنعاني في سبل السلام: «إنه يحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكون مشروباً، كالحشيشة» . وقال بعض علماء الحنفية: «إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع» .
وقال الحافظ ابن حجر: «إن من قال: إن الحشيشة لا تسكر، وإنما هي مخدر: مكابرٌ، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة» .
وذكر ابن البيطار أن قبائح خصالها كثيرة، وعدّ منها بعض العلماء مئة وعشرين مضرة دينية ودنيوية. وقال: إن قبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار.
(7/446)
وأما القات فهو حرام، وإن زعم بعض أهل اليمن أنه لا يخدر وإنما هو منشط ومفتق للذاكرة، وهذا مجرد وهم وهو غير صحيح؛ لأن العبرة بالنتائج، ولقد أثبت الأطباء، وجاء في قرار اليونيسكو في الأمم المتحدة أنه مخدر وضار، ومن أضراره الواضحة: تخلّف اليمنيين، وتعطيل اقتصادهم، وانشغالهم بشرائه، وتعاطيه من منتصف النهار إلى منتصف الليل، وإهدارهم المال الكثير في سبيل الحصول عليه وبذل الجهود في زراعته على حساب المزروعات الأخرى النافعة. وذهب أبو بكر المقري الشافعي إلى تحريم القات، وقال: إني رأيت من أكلها الضرر في بدني وديني، فتركت أكلها، فقد ذكر العلماء: إن المضِّرات من أشهر المحرمات، فمن ضررها أن آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه، ثم يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق.
وكذلك حرمه الفقيه حمزة الناشري محتجاً بحديث أم سلمة السابق: أنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن كل مسكر ومُفْتِر» وهو الذي يجعل في الجسم فتوراً، أي ضعفاً وانكساراً.
والخلاصة: إن جميع المخدرات الحادثة من قرون بعد القرون الستة الأولى حرام كالخمر، لمخامرتها العقل وتغطيتها إياه. وفيها مفاسد الخمر ومضاره، وتزيد عليها، فهي أكثر ضرراً وأكبر فساداً من الخمر؛ لأنها تضر الأمة ضرراً بليغاً، أفراداً وجماعات، مادياً، وصحياً، وأدبياً. ولا شك بأن الشريعة الإسلامية تحرِّم المفاسد والمضار، وتجيز ما فيه مصالح حقيقية، خالصة أو راجحة. وأما ما يزعمونه من مصالح ومنافع فهي وهمية خادعة.
لذا اتفقت أنظمة العالم على منع المخدرات، ولا نجد إجماعاً دولياً على شيء، مثلما نجده في الإجماع على مقاومة كل وسائل تعاطي المخدرات وتهريبها، وإتلاف الكميات المهربة، وعقاب المهربين بالسجن وغيره.
(7/447)
الاتجار بالمخدرات:
إن الاتجار بالمخدرات بيعاً وشراء وتهريباً وتسويقاً أمر حرام كحرمة تناول المخدرات؛ لأن الوسائل في الشريعة تأخذ حكم المقاصد، ويجب سد الذرائع إلى المحرمات بمختلف الإمكانات والطاقات؛ لأن التاجر يسهِّل رواج المخدرات وتعاطيها، فيكون الثمن حراماً، والمال سُحْتاً، والعمل ضلالاً، والاتجار بها إعانة على المعصية، والبيع باطل، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] .
ويكون النهي عن بيع الخمر والحكم ببطلانه شاملاً المخدرات؛ لما في ذلك من الإعانة على المعصية، والتواطؤ على إفساد الناشئة والأمة، وتدمير أخلاقها وقيمها، وتخريب اقتصادها وإضعافها أمام غيرها. ويكون الربح التجاري المغري سبباً واضحاً في التآمر على وجود الأمة وضعضعة كيانها وتحطيم جهود أبنائها، وخيانتها، والإسهام في تخلفها وهزِّ بنيتها.
زراعة الحشيش والخشخاش والقات وتصنيع الأفيون والكوكايين والهروين:
إن كل ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وكل ما يعين على المعصية، فهو معصية، فتكون زراعة الحشيش وغيرها واستخراج المواد المخدرة والعناية بها حفظاً وتعليباً وتهريباً ونقلاً من مكان إلى آخر أمراً حراماً في شرع الله ودينه، للأسباب التالية:
1 - إن زراعة ما يؤدي إلى الحرام يعد رضاً صريحاً من الزراع بتعاطي الناس له، واتجارهم فيه، والرضا بالمنكر أو المعصية يعد منكراً وعصياناً.
2 - تبين مما ذكر أن كل مافيه إعانة على المعصية يعد معصية، كما أن الزراعة لوسائل المخدرات معصية.
(7/448)
3 - روى أبو داود في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من حَبَس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً، فقد تقحم النار» . وهذا دليل صريح على حرمة زراعة الحشيش والقات وكل ما يؤدي لاستخراج عصارة الأفيون والهروين والكوكايين وغير ذلك.
4 - روى أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد عن ابن مسعود: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «لعَنَ آكل الربا ومُؤكله وشاهديه وكاتبه» . ولفظ النسائي: «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك، ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة» فهؤلاء أربعة لعنوا في أكل الربا.
وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها» فهؤلاء عشرة لعنوا في الخمر وتناولها.
والمتبادر إلى الذهن ألا يكون ملعوناً إلا آكل الربا وشارب الخمر دون من ذكر معهما، ولكن الشرع حرم فعل ثلاثة آخرين في الربا، وتسعة آخرين في الخمر؛ لأنهم كانوا سبباً في المعصية، وعوناً على اقتراف الحرام، فيكون المتسبب والمعين أو المساعد، له حكم الفاعل تماماً.
وبناء عليه يكون تاجر المخدرات والمهرب والناقل وكل من ساعد في تعاطيها آثماً إثماً عظيماً ومرتكباً حراماً ومنكراً شديداً.
(7/449)
ربح المخدرات:
إن الأرباح التي يستفيد منها التجار والمتعاملون في المخدرات كلها سحت وحرام، لما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188/2] وأكل المال بالباطل يتناول جرائم السرقة والخيانة والظلم والغصب، والقمار، والعقود المحرمة من بيع وشراء ونحوهما من التجارات، وكل الخدمات المبذولة في سبيل ارتكاب المعاصي والمنكرات وكل ما حرمه الشرع، وإن رضي به المالك.
2ً - الحديث النبوي وهو ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فكل ما حرم الله الانتفاع به، حرم الانتفاع بعوضه أو ثمنه، بدليل ما رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عباس، والحميدي عن أبي هريرة في بيع الخمر: «إن الذي حرم شربها حرّم بيعها» . وروى مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية ـ أي آية {إنما الخمر والميسر} [المائدة:90/5]ـ وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة، فسفكوها» وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً: «إن الله حرَّم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه» .
عقوبة متناول المخدرات:
أوجب ابن تيمية - كما تقدم- إقامة حد الخمر على من سكر من الحشيشة؛ لأنها تشتهى وتطلب، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس.
وذهب الشافعية إلى أن الأفيون وغيره إذا أذيب واشتد وقذف بالزبد، فإنه يلحق بالخمر في النجاسة وإقامة الحد، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك، بل أولى.
واتفق الفقهاء على تعزير متناول المخدرات بدون عذر كما في حال التداوي والتعزير يكون بالتوبيخ والضرب والحبس والتشهير والتغريم بالمال وغير ذلك مما يراه القاضي أو الحاكم زاجراً ورادعاً الناس عن اقتراف الجرائم والمنكرات.
(7/450)
وأجاز فقهاء الحنفية والمالكية أن تكون عقوبة التعزير هي القتل، ويسمونه القتل سياسة، أي إذا رأى الحاكم المصلحة في ذلك، وكان جنس الجريمة يوجب القتل، كما في حال التكرار أو إدمان المسكرات والمخدرات، واعتياد الإجرام أو اللواط أو القتل بالحجر أو العصا أو الخشب. وهذا يصلح دليلاً أو مستنداً لما أفتى به بعض المفتين المعاصرين من اقتراح مشروع قانون يقضي بعقوبة متعاطي المخدرات بالإعدام شنقاً. وفي ذلك توفير مؤيد أو رادع من قبل السلطة الحاكمة لكل من يتاجر بالمخدرات أو يتعاطاها، أو يقوم بتهريبها.
وقد أصبحت عصابات التهريب وتجار المخدرات خطراً على الدول المختلفة، فلا يجوز التهاون بشأن إنزال أقسى العقوبات في حقهم، لحماية المجتمع من أضرار المخدرات ومفاسدها الجسيمة.
ولا شك بأن إتلاف المخدرات التي تُمسِكُ بها الدولة أمر واجب شرعاً؛ لأن الضار بذاته يجب التخلص منه بمختلف وسائل الإتلاف. والمصادرة، وعقاب المتعاملين فيها.
وإني أرى ضرورة وجود معاهدات دولية لمنع الاتجار بالمخدرات وتهريبها وعقاب تجارها وسماسرتها ووسطائها، كما أرى ضرورة وجود قانون موحد في البلاد العربية والإسلامية ينص على عقوبة شديدة لتجار المخدرات وكل من يتعاطاها أو يتناولها أو يقوم بنقلها بوسائط مختلفة في الحقائب والطائرات والسيارات ووسائل النقل القديمة وغيرها.
(7/451)
ملحق بالحدود:
أولاً ـ تداخل الحدود:
إذا اجتمعت الحدود على شخص، فإما أن تكون حدوداً خالصة لله تعالى، أو حدوداً خالصة للآدمي، أو تجتمع حدود الله، وحدود الآدميين (1) .
فالقسم الأول نوعان:
1 - أن يكون فيها قتل: مثل أن يسرق ويزني وهو محصن، ويشرب الخمر، ويقتل في المحاربة (قطع الطريق) . اختلف العلماء فيها:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: تتداخل الحدود فيقتل الشخص، ويسقط سائر الحدود، لقول ابن مسعود: «إذا اجتمع حدان: أحدهما القتل، أحاط القتل بذلك» .
وقال إبراهيم النخعي: يكفيه القتل، ولأنها حدود خالصة لله تعالى، يراد بها الزجر، ومع القتل لا حاجة إلى زجره.
وقال الشافعي: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل، وجب مع القتل، كقطع اليد قصاصاً، فهي حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل.
2 - ألا يكون فيها قتل: كما لو سرق وزنى وشرب الخمر، فلا تداخل، ويستوفى جميعها، من غير خلاف بين العلماء. ويقدم عند الشافعية والحنابلة الأخف فالأخف، فيقدم حد الشرب أولاً، ثم حد الزنى، ثم قطع اليد للسرقة، ويتداخل القطع للسرقة مع القطع للمحاربة؛ لأن محل القطعين واحد.
وقال المالكية: يقطع، ثم يجلد.
وقال الحنفية: الإمام بالخيار في البداية، إن شاء بدأ بحد الزنى، وإن شاء بحد السرقة، ويؤخر حد الشرب عنهما؛ لأن حد الزنى وحد السرقة ثبتا بنص القرآن، وحد الشرب ثبت بالاجتهاد، ولا يجمع ذلك كله في وقت واحد، بل يقام كل واحد منها بعد البرء من الأول، لئلا يؤدي الحد إلى الهلاك.
وأما القسم الثاني: وهو الحدود الخالصة للآدمي، وهي القصاص وحد القذف (على رأي الجمهور) .
أما عند الحنفية: فإن حد القذف يشتمل على حق الله وحق العبد، إلا أن حق الله فيه غالب، كما عرفنا، وحينئذ يكون عندهم من القسم الأول، فيقدم في الاستيفاء على غيره من الحدود؛ لأن فيه حقاً للعبد أيضاً.
وقال المالكية: كل حد يدخل في القتل كردة أو قصاص أو حرابة إلا القذف، فلا بد من استيفائه أولاً، ثم يقتل. فلو اجتمع حد الزنى والشرب والسرقة، فإن هذه الحدود تسقط وتندرج في القتل.
__________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 62/7، فتح القدير: 208/4، تبيين الحقائق: 207/3، حاشية الدسوقي: 347/4، المنتقى على الموطأ: 145/3، القوانين الفقهية: ص 362، مغني المحتاج: 184/4، الميزان للشعراني: 169/2، المهذب: 288/2، تكملة المجموع: 351/18، حاشية الشرقاوي: 427/2، المغني: 298/8.
(7/452)
وقال الحنابلة والشافعية: يستوفى كل الحدود، ويبدأ بأخفها، فيحد للقذف، ثم يقطع، ثم يقتل؛ لأنها حقوق للآدميين، أمكن استيفاؤها، فوجب كسائر حقوقهم، فإن ما دون القتل حق للآدمي، فلم يسقط به.
وقال الحنفية: يدخل ما دون القتل فيه، احتجاجاً بقول ابن مسعود السابق ذكره، وقياساً على الحدود الخالصة لله تعالى.
وأما القسم الثالث: وهو أن يجتمع حدود الله، وحدود الآدميين: وهذه ثلاثة أنواع:
أحدها ـ ألا يكون فيها قتل: فقال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: تستوفى كلها إلا أن المالكية قالوا بتداخل حد الشرب وحد القذف؛ لأن الغرض من العقوبتين واحد، وهو منع الافتراء.
ثانيها ـ أن يكون فيها قتل: فقال الجمهور: حدود الله تعالى تدخل في القتل. وأما حقوق الآدميين، فتستوفى كلها.
وقال الشافعي: تستوفى الحدود جميعهاً؛ لأنها حدود وجبت بأسباب، فلم تتداخل.
ثالثها ـ أن يتفق الحقان في محل واحد، فإن اجتمع حقان: أحدهما لله، والآخر لآدمي، كالقصاص والرجم في الزنى، قدم القصاص عند العلماء، لتأكد حق الآدمي، وبه يتحقق أيضاً حق الله تعالى.
ثانياً ـ إسقاط الحدود بالتوبة:
إذا تاب العصاة ما عدا المحاربين من شاربي الخمر والزناة والسراق، فلا يسقط الحد عند الحنفية والمالكية والشافعية في الأظهر عندهم، وذلك سواء بعد رفع الأمر إلى الحاكم أو قبله؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يسقط الحد عن ماعز، حينما جاءه، وأقر بالزنى، ولا شك أنه لم يأت، إلا وهو تائب، ونحوه من الحدود، فإنه لم يرد نص في إسقاط الحد عن هؤلاء.
واستثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية، فإنه يسقط بتوبة السارق قبل أن يظفر الحاكم به، وبشرط رد المال إلى صاحبه. وقال ابن عابدين: الظاهر أن التوبة لا تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه. أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق، سواء أكان قبل جنايتهم أم بعدها.
(7/453)
وقال أحمد في أظهر الروايتين عنه: التوبة تسقط الحد عنهم من غير اشتراط مضي الزمان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (2) ، ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي. وبه يظهر أنه ليس هناك إجماع ـ كما زعم بعضهم ـ على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا.
أما حد المحاربة: فلا خلاف بين العلماء كما تقدم: أن قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، فتسقط عنهم حدود الله تعالى، لقوله سبحانه في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} (:3) [المائدة:34/5] .
__________
(1) رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي عن عبد الله بن مسعود، ورجال الطبراني رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة راوي الحديث عن أبيه عبد الله لم يسمع منه، ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً أيضاً من حديث ابن عباس، وزاد «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه» وقد روي بهذه الزيادة موقوفاً ولعله أشبه، بل هو الراجح، كما قال المنذري. وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (راجع الترغيب والترهيب: 97/4،المقاصد الحسنة: ص 152، مجمع الزوائد: 200/10) .
(2) المعروف أن التوبة تصح بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله، وقد ذكر حديث «التوبة تجب ما قبلها» في مغني المحتاج للخطيب: 184/4، وراجع مجمع الزوائد: 31/1، 199/10 وما بعدها، وذكره أيضاً ابن قدامة في المغني: 201/9، كما ذكر حديثاً آخر وهو «الندم توبة» رواه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ورجاله وثقوا وفيهم خلاف (مجمع الزوائد: 199/10) .
(3) راجع البدائع: 96/7، فتح القدير: 272/4، رد المحتار: 154/3، الفروق للقرافي: 181/4، مغني المحتاج: 184/4، المهذب: 285/2، الميزان: 169/2، حاشية قليوبي وعميرة: 201/4، المغني: 295/8 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 357، 362 وما بعدها، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 67، وانظر أعلام الموقعين: 78/2، 19/3، 398/4، وراجع إحياء علوم الدين للغزالي: 14/4 وما بعدها، غاية المنتهى: 345/3 ومابعدها.
(7/454)
وقد رأى الشافعية أن الحدود إذا أقيمت في الدنيا، لم تقم في الآخرة لحديث: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة» (1) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الحدود كفارات لأهلها» (2) .
ويسقط حد تارك الصلاة وحد الردة بالتوبة الصادقة النصوح.
هل تقبل شهادة المحدود بالقذف إذا تاب؟
اختلف الحنفية والجمهور فيه، فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، وإن تاب وأصلح، ومن هنا كانت التوبة عندهم بالنسبة إليه عملاً قلبياً بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه؛ لأنه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة.
وقال الجمهور: إذا تاب المحدود في القذف قبلت شهادته، وتوبة القاذف: إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول: كذبت فيما أقول، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصاب حداً فعجل عقوبته في الدنيا فالله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة. ومن أصاب حداً فستره الله عليه وعفا عنه فال أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (راجع جامع الأصول: 349/4، الجامع الصغير: 164/2) .
(2) الأحاديث في هذا المعنى كثيرة منها: ما رواه الطبراني وأحمد بنحوه عن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما عبد أصاب شيئاً مما نهى عنه، ثم أقيم عليه حده، كفر عنه ذلك الذنب» وفي رواية: «من أصاب ذنباً وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته» وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله ثقات. وروي بمعناه عن ابن عمر مرفوعاً عند الطبراني، وفيه متروك، وقد جاء في القسطلاني شرح البخاري: 380/7: إن الحدود كفارات. وترجم الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بعنوان: «باب: الحدود كفارات لأهلها» : 224/12، وذلك عند شرح حديث عبادة بن الصامت الآتي ذكره في المبحث التالي (راجع مجمع الزوائد: 265/6) .
(7/455)
يقول: كذبت؛ لأنه ربما يكون صادقاً، فيكون قوله: «كذبت» كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
والسبب في أن الشافعي شرط في توبة القاذف التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب: أنه رتب عليها حكماً شرعياً: وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بد من أن يعلم الحاكم بتوبته حتى يقبل شهادته.
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: خلافهم في رجوع الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا} [النور:4/24-5] هل يرجع إلى جميع الجُمَل التي سبقت، فيرتفع رد الشهادة، كما ارتفع الفسق، أو يرجع إلى الجملة الأخيرة وهي الفسق. والخلاف راجع إلى مسألة أصولية مشهورة وهي: هل الاستثناء عقب الجمل المتعاطفة يعود للجميع أو يعود للجملة الأخيرة؟
(7/456)
قال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في القذف أبداً، لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأنها جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سبباً لهذه العقوبة.
ونوقش قولهم بأن العلة في هذه العقوبة هو فسقهم، والفسق علة في رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق بالتوبة، فيلزم منه ارتفاع رد الشهادة الذي هو معلوله؛ لأن الحكم يزول بزوال علته.
وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة المحدود في القذف بالتوبة؛ لأن الاستثناء يرجع إلى الجمل الثلاث المتعاطفة بالواو، فيرتفع رد الشهادة كما ارتفع الفسق بالتوبة. لكن لم يسقط الحد بالتوبة، للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة، لما فيه من حق العبد أو الآدمي، فلا يسقط باستيفائه، لا لخلل في اقتضاء صيغة الاستثناء التي أعقبت الجمل السابقة أن تعم كل الجمل، فبقي الاستثناء في ظاهره عائداً إلى رد الشهادة والتفسيق، وهذا ما قرره الزمخشري، وهو رأي أكثر التابعين وفقهاء الأمصار غير الحنفية (1) .
واختلف الفقهاء في وقت رد شهادة القاذف، فقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم. وقال الشافعي: لا يتوقف رد الشهادة على حد القذف؛ لأن ظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث: الحد، ورد الشهادة، والتفسيق.
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 207 وما بعدها، تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 131/3 وما بعدها، ط 1953، المحرر في الفقه الحنبلي: 251/2 وما بعدها.
(7/457)
هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟
إذا ثبت القتل وجب على القاتل إما القصاص، وإما الدية. ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلِّم نفسه للقود (القصاص) أو يؤدي الدية حين العفو، أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية.
وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟
استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية، فيسقط بالتوبة (1) .
وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب. فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لايطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (2) .
إسقاط التعازير بالتوبة:
بمناسبة بحث أثر التوبة في العقوبات المقدرة (الحدود والقصاص) يحسن الكلام عن أثر التوبة أيضاً على العقوبات غير المقدرة وهي التعازير.
يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (3) ؛ لأن ضابط التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله، أو حقاً للإنسان، أو يشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر.
فإن كان التعزير حقاً خالصاً للإنسان، أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب
__________
(1) رد المحتار: 389/5.
(2) رواه أبو سعيد الخدري (راجع رياض الصالحين: ص 14، كتاب التوابين لابن قدامة: ص 85، ط دمشق) .
(3) رد المحتار: 190/3، 198، 204 وما بعدها، و 209، نهاية المحتاج: 175/7، رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 41، 436-441.
(7/458)
والمواثبة والضرب بغير حق، والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة، كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة، وآكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق، أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع، كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحوها، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي.
وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي المالكي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (1) .
وقال صاحب البحر الزخار الزيدي: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن، لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولامن أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب، وظهوره في فعل أو قول (2) .
__________
(1) الفروق: 181/4.
(2) البحر الزخار، ملخصاً منه: 211/5.
(7/459)
ولعل المراد من هذه العبارات: التعزير الواجب حقاً لله تعالى؛ لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى. أما الحقوق الشخصية فلا تسقط إلا بمسامحة أو إسقاط أصحابها كما هو معروف، فقد قرر الفقهاء أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (1) .
وسيأتي مزيد بيان لموضوع إسقاط العقوبات بالتوبة.
ثالثاً ـ هل الحدود زواجر أو جوابر؟
إن المقصود من مشروعية الحدود والتعزيرات هو زجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات، دفعاً للفساد في الأرض ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (2) . ولكن الفقهاء اختلفوا في أمر آخر: وهو أنه، هل تتكرر العقوبة على الجاني في الآخرة، مع أن العقوبة استوفيت منه في الدنيا؟
قال الحنفية: إن الحدود والتعزيرات شرعت فقط زجراً لأرباب المعاصي من إفساد العلاقات الزوجية، وإضاعة الأنساب، وإتلاف الأعراض والأموال والعقول والنفوس، ولا يحصل التطهر من الذنب في الآخرة إلا بتوبة الجاني. واستدلوا بعموم آيات العقاب التي تدل على أن المذنب يستحق العقاب في النار، مثل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} [النساء:93/4] ومثل قوله سبحانه في قطاع الطرق بعد أن ذكر عقابهم المعروف: {ذلك لهم خزيٌ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} [المائدة:33/5] فقد أخبر
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 600/2، تفسير القرطبي: 200/18.
(2) راجع الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، فتح القدير: 112/4، تبيين الحقائق للزيلعي: 163/3.
(7/460)
الله تعالى أن لهم عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية إلا من تاب، فإن التوبة تسقط عنه العقوبة الأخروية (1) .
وقال أكثر العلماء: إن العقوبات الشرعية فضلاً عن أنها أصلاً للزجر في الدنيا، تعتبر تبعاً بالنسبة للمسلم جوابر لسقوط عقوبتها في الآخرة، إذا استوفيت في الدنيا، وفي الكافر زواجر، فإذا نفذت العقوبة على المسلم في الدنيا، فذلك يقيه عذاب الآخرة، فيكون الهدف منها مزدوجاً، للحديث السابق: «الله أعدل من أن يثني على عبده العقوبة في الآخرة ... » وفي رواية له: «من أذنب فعوقب به في الدنيا لم يعاقب به في الآخرة ... » ولقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئآً من ذلك، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» (2) .
قاعدة الزواجر والجوابر في الشريعة:
قال العز بن عبد السلام والقرافي وصاحب تهذيب الفروق (3) : الجوابر:
__________
(1) فتح القدير، والزيلعي، المرجعان السابقان، البحر الرائق: 3/5، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 154/3، أحكام القرآن للجصاص: 412/2.
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الأصول: 161/1، شرح مسلم للنووي: 223/11 وما بعدها، القسطلاني شرح البخاري: 380/7، مغني المحتاج: 359/3، 2/4، حاشية البجيرمي على الخطيب الشربيني على المنهاج، باب الحدود، الأم للشافعي، باب الحدود، الشرح الكبير للدردير: 136/4، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 150/1، غاية المنتهى: 315/3) .
(3) قواعد الأحكام: 150/1 وما بعدها، الفروق: 213/1، تهذيب الفروق: 211/1.
(7/461)
مشروعة لجلب مافات من المصالح. والزواجر مشروعة لدرء المفاسد. والغرض من الجوابر: جبر ما فات من مصالح حقوق الله، وحقوق عباده. ولا يشترط أن يكون من وجب عليه الجبر آثماً.
ويفرق بينهما من أربعة وجوه:
1ً - إن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة. والجوابر مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة.
2ً - إن معظم الزواجر مقررة على العصاة، زجراً لهم عن المعصية، وزجراً لمن يقدم بعدهم على المعصية. وقد تكون مع عدم العصيان، كما في تأديب الصبيان والمجانين، فإنا نزجرهم ونؤدبهم، لا لعصيانهم، بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم. وكقتال البغاة درءاً لتفريق الكلمة، مع عدم التأثيم؛ لأنهم متأولون.
ومعظم الجوابر تقرر على من لا يكون آثماً، بدليل أنه شرع الجبر في حالات الخطأ والعمد والجهل والعلم والنسيان والتذكر، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر، فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجراً له عن المعصية.
3ً - إن معظم الزواجر إما حدود مقدرة، وإما تعزيرات غير مقدرة، فهي ليست فعلاً للمزجورين، بل يفعلها الأئمة بهم، وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها.
وقد اختلف في بعض الكفارات: هل هي زواجر، لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها، أو هي جوابر؛ لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زجراً، بخلاف الحدود والتعزيرات، فإنها ليست قربات؛ لأنها ليست فعلاً للمزجورين كما علم. والظاهر أنها جوابر؛ لأنها عبادات وقربات لاتصح إلا بالنية.
4ً - إن الجوابر تقع في النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والعبادات والأموال والمنافع، بخلاف الزواجر، فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات، ففي بداية المجتهد لابن رشد (1) : الجنايات التي لها حدود مشروعة خمس:
أحدها: جنايات على الأبدان أو النفوس والأعضاء، وهو المسمى قتلاً وجرحاً.
(7/462)
وثانيها: جنايات على الفروج وهو المسمى زناً وسفاحاً.
وثالثها: جنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذاً بحراب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمي بغياً. وما كان منها مأخوذاً على وجه المغافصة (2) من حرز يسمى سرقة. وما كان منها مأخوذاً بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصباً.
ورابعها: جناية على الأعراض، وهو المسمى قذفاً.
وخامسها: جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب. وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه.
وأمثلة الجوابر فيما ذكر هي ما يأتي:
أما جوابر العبادات: فمثل التيمم مع الوضوء، وسجود السهو للسنن، وجبر ما فات مصلي النوافل من الاتجاه نحو القبلة بالاتجاه جهة السفر أثناء الصلاة، واتجاه الخائف في صلاة الخوف جهة العدو إذا ألجأته الضرورة إلى ذلك، وجبر الصوم بالفدية بمد من الطعام في حق الشيخ الكبير، وجبر ارتكاب محظور من محظورات الحج والعمرة بالصيام، والإطعام، وذبح شاة (وهو النسك) . ويلاحظ أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني. والأموال لا تجبر إلا بجابر مالي، والحج والعمرة يجبران تارة بعمل بدني كالصيام، وتارة يجبران بجابر مالي كذبح النسك والإطعام، والصوم تارة يجبر بمثله في حق من مات وعليه صيام، وتارة يجبر بالمال كالفدية للشيخ الكبير.
وأما جوابر المال: فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان، فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها، وإن ردها ناقصة الأوصاف، جبر أوصافها بالقيمة؛ لأن الأوصاف ليست من الأموال المثلية.
وأما المنافع فنوعان: أحدهما ـ منفعة محرمة كمنافع الملاهي والفروج المحرمة واللمس والمس والتقبيل والضم المحرم، فلا تجبر احتقاراً لها، كما لا تجبر الأعيان النجسة لحقارتها.
__________
(2) انظر حـ 387/2.
(2) غافصه مغافصة: فاجأه وأخذه على غرة منه.
(7/463)
والثاني ـ أن تكون المنفعة مباحة متقومة، فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي حالة التلف في يد معتاد عليها كالغاصب؛ لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال، فلا فرق بين جبرها بالعقود كالإيجارات، وجبرها بالتلف والإتلاف ومنع صاحبها عن الانتفاع بها؛ لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو داراً ضمن قيمة منفعتها طوال مدة الغصب، ولا تضمن منافع المغصوب عند الحنفية، إلا مال اليتيم ومال الوقف والأموال المعدة للاستغلال في رأي المتأخرين من الحنفية.
وأما النفوس، والأعضاء، ومنافع الأعضاء، والجراح: فما رتبه الشارع عليها من ديات أو كفارات أو حكومة عدل (تعويض الجروح بحسب تقدير القاضي) فجوابر. وما رتبه الشارع عليها من قصاص أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر.
مبدأ الستر والشفاعة في الحدود: يستحب الستر مطلقاً على مرتكب المعصية الموجبة للحد قبل الرفع إلى الإمام (1) ، لحديث أبي هريرة عند الترمذي والحاكم: «ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة» وحديث ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» وستأتي أدلة أخرى في بحث الشهادة.
وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم (2) ، أما قبل ذلك فإنه جائز؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (3) وقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحاً» (4) وقد أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم على من شفع في حد ونهاه عن ذلك، قالت عائشة: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد، فكلَّموه، فكلَّم النبي صلّى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: يا أسامة لا أُراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل، ثم قام النبي صلّى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، فقطع يد المخزومية» (5) .
__________
(1) نيل الأوطار: 136/7.
(2) غاية المنتهى: 312/3.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر، وكذا أخرجه أيضاً الحاكم وصححه، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر من وجه آخر صحيح موقوفاً عليه، وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال فيه: «فقد ضادَّ الله في ملكه» (نيل الأوطار: 107/7) .
(4) رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (المرجع السابق) .
(5) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة (نيل الأوطار: 131/7) .
(7/464)
نظام التوبة وأثره في العقوبات
خطة البحث
المطلب الأول ـ نظام التوبة:
أولاً: الباعث على التوبة.
ثانياً: تعريف التوبة.
ثالثاً: شروط التوبة.
رابعاً: حكم التوبة شرعاً.
أـ وجوب التوبة فوراً.
ب ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها.
جـ ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة.
د ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب.
خامساً: التوبة والعقوبة.
أـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام.
ب ـ الهدف من العقوبة.
جـ ـ الحاجة إلى العقوبة.
د ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب.
هـ ـ المعاصي التي يتاب منها، وكيفية التوبة عنها.
التقسيم الأول ـ تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر.
التقسيم الثاني ـ تقسيم الذنب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد.
المطلب الثاني ـ أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية:
1 - توبة الكافر.
2 - توبة المنافق.
3 - توبة الزنديق.
4- توبة المبتدع.
المطلب الثالث ـ أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية:
تمهيد في أنوع العقوبات.
أولاً: آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة.
عقوبة الردة والبغي
عقوبة القذف.
الحقوق الشخصية للناس.
عقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر. ثانياً: هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟.
ثالثاً: إسقاط التعازير بالتوبة.
خاتمة.
(7/465)
المطلب الأول ـ نظام التوبة:
أولاً- الباعث على التوبة:
الإنسان في أصل فطرته ـ وإن كان ميالاً إلى الشر واقتراف الذنوب والمعاصي لكنه كثيراً ما يدرك خطورة انحرافه وشذوذ سلوكه، فيبادر إلى تصحيح مسيرته إرضاء لشعوره الداخلي، وإحساساً بمرارة الألم والضيق الذي يعقب الفعل الجانح واستجابة لنداء الضمير وندماً على التورط في المعصية، وتأثراً بالوازع الديني الفطري المستقر في النفس الإنسانية، وطمعاً في نيل العفو من الله تعالى، وخوفاً من عقاب السلطة الحاكمة في عالم الدنيا.
والتخلص من الخطيئة بالتوبة دليل على قوة الإرادة وبعد النظر وسعة الأفق العقلي. وذلك بسبب قوة تأثير المغريات والشهوات الباعثة على الانحراف، لاسيما إذا اعتادها الإنسان، والعادة طبيعة ثانية، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج عظيم، ولأن الإنسان عادة يتعجل الأمور، وقلما ينتظر المؤجل، إلا بشيء من الأناة والصبر والفهم والتخطيط، لذا لفت القرآن الكريم نظر الناس لطبائعهم، فقال تعالى: {كلاّ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} [القيامة:20/75-21] {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:87/16-17] .
(7/466)
ثانياً - تعريف التوبة:
التوبة: عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً على عدم العود أو تكرار الخطيئة (1) . وتتحقق بأن يرجع الخاطئ عن الفعل القبيح شرعاً وعقلاً، أو عن الإخلال بالواجب في الحال، ويندم على ما مضى، ويعزم على تركه في المستقبل (2) ، قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة» (3) .
والحقيقة أن التوبة لغة هي الرجوع، ولا يلزم أن تكون عن ذنب. وشرعاً: هي الرجوع عن التعويج إلى سنن الطريق المستقيم (4) . وأما الندم والعزم فهما من مقومات الرجوع الصحيح الذي يعد إقلاعاً صادقاً عن المعاصي. ولا بد من أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينياً أو شخصياً أمراً ذاتياً بحتاً مع القدرة والإرادة، فلو رجع لسبب آخر من ضعف بدن أو غرامة مالية أو تهديد بحبس أو إكراه من الدولة، لم تكن التوبة محققة نتائجها الدينية المرجوة، وأخصها تكفير الخطايا في عالم الآخرة، وإن حققت نتيجة مدنية تهتم السلطة بها ألا وهو قمع الإجرام وتوفير الأمن والطمأنينة والاستقرار.
ثالثاً- شروط التوبة:
اشترط العلماء (5) لصحة التوبة شروطاً معينة تختلف بحسب كون المعصية بين الإنسان وبين الله تعالى، أو تتعلق بحقوق الناس. فإن كانت المعصية تمس أمراً بين الإنسان وربه، ولا تتعلق بحق شخصي لإنسان آخر، أي في حقوق الله تعالى فلها ثلاثة شروط:
أحدها ـ الإقلاع عن المعصية في الحال.
ثانيها ـ الندم على المعصية والمخالفة.
ثالثها ـ العزم على ألا يعود إلى مثل تلك المعصية أبداً في المستقبل.
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي: 3/4، 30.
(2) روح المعاني للألوسي: 35/25 وما بعدها.
(3) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود. ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(4) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 131/2.
(5) الإحياء للغزالي: 30/4 وما بعدها، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 187/1، رياض الصالحين للنووي: ص 11، تفسير القرطبي: 91/5، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 131/2.
(7/467)
فالتوبة ذات أركان ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم، فإن فقدت أحد هذه الأركان الثلاثة لم تصح التوبة. إلا أن من عجز عن العزم والإقلاع كتوبة الأعمى عن النظر إلى المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا، فتوبته مجرد الندم، لأن (الميسور لا يسقط بالمعسور) : أي لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة مثلاً بما عجز عنه، عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1) » أي إذا أمرتكم بمأمور تأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه أو ما قدرتم عليه.
وإن كانت المعصية تتعلق بحق شخصي لإنسان، فشروطها أربعة وهي الثلاثة السابقة، ويضاف إليها الخروج من المظالم بأن يبرأ العاصي من حق صاحبها، فإن كانت المعصية أخذ مال أو نحوه بدون حق رده إليه، وإن كان الفعل قذفاً ونحوه مكن المقذوف منه أو طلب عفوه. وإن كان غيبة استحله منها وطلب مسامحته عن طعنه فيه في غيبته.
وأكمل أنواع التوبة ما حدده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك فيما روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما التوبة؟ قال: «اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضيع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعاصي، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء
__________
(1) نص الحديث: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(7/468)
بدل كل ضحك ضحكته» (1) .
والتوبة المستوفية كامل شرائطها هي التوبة النصوح المشار إليها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/66] . {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/20] .
واختلاف العلماء في تحديد هذه التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولاً مجرد اختلاف ظاهري في العبارة، من هذه الأقوال ما قال القرطبي: التوبة النصوح يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الخلاّن (2) .
رابعاً - حكم التوبة شرعاً:
1) ـ وجوب التوبة فوراً:
اتفقت مصادر الشريعة في القرآن والسنة وإجماع الأمة على وجوب المبادرة إلى التوبة فور وقوع الخطيئة، فمن أخرها زماناً صار عاصياً بتأخيرها (3) وذلك حتى يتحقق المقصود الأكمل منها بالتخلص من الأوزار، والظفر بمغفرة الله تعالى في الآخرة، والرضا عن الإنسان في الدنيا، ولتطهير المجتمع من الجرائم، ومنع الاسترسال في الانحراف كيلا تتجدد ظروف العود أو التكرار مرة أخرى في المستقبل، وغير ذلك من وجوه المصلحة المترتبة على التوبة التي يمكن فهمها من الحث المتكرر عليها في القرآن والأحاديث النبوية:
فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور:31/24] {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً} [هود:3/11] {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} [التحريم:8/66] {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/4] {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} [التوبة:74/9] {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله، يجد الله غفوراً رحيماً} [النساء:110/4] .
__________
(1) تفسير الألوسي: 36/25.
(2) انظر تفسير القرطبي: 198/18.
(3) قواعد الأحكام: 188/1، رياض الصالحين: ص 12، وتفسير القرطبي: 197/18.
(7/469)
ومن الأحاديث النبوية المؤكدة للقرآن أو المبينة الموضحة لبعض أحكامه قوله صلّى الله عليه وسلم: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (1) «يا أيها الناس توبوا إلى الله، واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (2) وقد استنبط العلماء من هذين الحديثين أنه يستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على فعله، والعزم على ترك العود إلى مثله، بل ولا يلزم أن تكون التوبة عن ذنب كما ذكرت سابقاً، فلا يعني الحديثان إذن أن النبي صلّى الله عليه وسلم يذنب في كل يوم سبعين مرة أو مئة مرة، بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير (3) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني: 131/2. واستعظام التقصير أو التفريط، أو ارتكاب أي خطيئة مهما صغرت، تشريعاً وتعليماً للأمة وإرشاداً للناس وفتحاً لباب التوبة للأمة، كل على قدر منزلته، وعلو رتبته، ومدى مسؤوليته العامة أو الخاصة. أما النبي صلّى الله عليه وسلم فقد تاب الله عليه من أي شيء.
__________
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم عن الأغر بن يسار المزني.
(3) قواعد الأحكام: 287/1 وما بعدها،
(7/470)
ومن الأحاديث المرغبة في التوبة أيضاً: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» (1) .
2) ـ ما تجب التوبة عنه ووقت قبولها:
تجب التوبة من جميع الذنوب أو المعاصي، فإن تاب المرء من بعضها صحت توبته عند أهل السنة من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي (2) .
والمقصود بالذنب: كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل (3) . ومما يدل على جواز التوبة عن أي مخالفة لأحكام الإسلام قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ... } [النساء:17/4] فإنه يعم الكفر وسائر المعاصي، فكل من عصى ربه، فهو جاهل حتى ينزع أو يقلع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً (4) .
وإيجاب التوبة على الفور هو الأصل المبدئي العام، ومع ذلك يمكن قبول التوبة طوال حياة الإنسان تفضلاً من الله ورحمة، وتيسيراً وسماحة، وفتحاً لباب
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) رياض الصالحين: ص 12، تفسير القرطبي: 90/5
(3) الإحياء: 14/4
(4) تفسير القرطبي: 92/5.
(7/471)
الأمل. وإبعاداً لليأس والقنوط عن النفس، إذ «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (1) . ويرشد لذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (2) أي ما لم تبلغ روحه الحلقوم. وفسر عكرمة قوله تعالى: {ثم يتوبون من قريب} [النساء:17/4] بأن الدنيا كلها قريب. وقال الضحاك: كل ما كان قبل الموت فهو قريب (3) وفي حديث آخر: «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه أدنى من ذلك، وقبل موته بيوم وساعة، ويعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه، إلا قبل منه» (4) .
قال العلماء: إنما صحت التوبة قبل الموت ولو بيوم، لأن الرجاء بإصلاح الإنسان باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل القبيح (5) . أما من صار في حال اليأس من الحياة، كفرعون الذي آمن حينما صار في غمرة الماء والغرق، فلا تنفعه التوبة، أو إظهار الإيمان في ذلك الوقت؛ لأنها حال زوال التكليف الشرعي، قال الله تعالى عن قصة فرعون: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدْواً، حتى إذا أدركه الغرق، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس:90/10-91] . ويؤكد ذلك آية أخرى في موضوعها وهي: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال: إني تبت الآن، ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً} [النساء:18/4] .
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث أنس بن مالك، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(2) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) تفسير ابن كثير: 463/1، تفسير القرطبي: 92/5، تفسير الكشاف: 386/1.
(4) ذكره الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد الله بن عمر.
(5) تفسير القرطبي: 92/5.
(7/472)
دلت الآيتان على عدم قبول التوبة حال اليأس من الحياة، وهو رأي ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين (1) ، لكن قال جماعة من الحنفية: توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس؛ لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى:25/42] (2) .
وقال الشيخ محمد عبده: المراد بالزمن القريب: الوقت الذي تسكن فيه ثورة الشهوة النفسية، أو تنكسر به سورة الغضب، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه، ويرجع إليه دينه وعقله. فالظاهر من آية {من قريب} [النساء:17/4] أنها بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتماً. وأما الآية التالية لها: {وليست التوبة} [النساء:18/4] فإنها بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراف الذنب، كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح (3) .
3) ـ الوعد المضمون الحصول بقبول التوبة:
وعد الله سبحانه وتعالى المغفرة لمن اجتنب الذنوب الكبائر، فقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء:31/4] أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة، جزاء على الامتناع عن الكبائر، والصبر عنها، والحث على الدوام أوالبقاء على طريق الاستقامة. فهذا إخبار من الله سبحانه، وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده. ومثله قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} [التوبة:104/9] وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} [طه:82/20] .
قال القرطبي: فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء. والعقيدة: أنه لا يجب عليه شيء عقلاً، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، والخلاصة: إن الآيات تتضمن وعداً من الله، ولا خُلْف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها، وهي الأربعة السابق ذكرها.
__________
(1) تفسير القرطبي: 93/5.
(2) الدر المختار: 317/3.
(3) تفسير المنار: 440/4 وما بعدها، 448
(7/473)
وأما العقل فلا يوجب قبول التوبة على الله خلافاً للمعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق، ومالكهم والمكلف لهم، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى عن ذلك (1) .
4) ـ المشيئة الإلهية وحرية الاختيار في مغفرة الذنوب:
قد يعفو الله عن السيئات صغيرها وكبيرها من غير اشتراط شيء كالتوبة من الكبائر واجتناب الصغائر. لقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} [الشورى:25/42] .
أي يقبل الله التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي مطلقاً، سواء الصغائر والكبائر لمن يشاء (2) ومشيئة الله: موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه.
__________
(1) تفسير القرطبي: 90/5 وما بعدها.
(2) تفسير الألوسي: 36/25، تفسير القرطبي: 90/5.
(7/474)
وجاءت آية أخرى تستثني الشرك بالله مما يغفره الله تعالى ويراد بالشرك مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم. وذلك لأنه تتولد منه سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات، قال عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48/4] . أي إن مغفرة المعاصي لا لكل الناس، ولكن لمن يشاء الله من عباده الموفقين للإيمان والتوبة والعمل الصالح (1) . {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/11] . {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/39] .
أي إن رأي جماعة من العلماء تقييد المغفرة في هذه الآيات بشرط التوبة، حتى لا يفهم من القرآن الإغراء بالمعصية والتجرئة عليها. والحقيقة أن الآية فوق ذلك، فهي تقارن بين الشرك وغيره، فالشرك معاقب عليه حتماً لإفساده النفوس البشرية، وأما ما عداه فمغفرته ممكنة بحسب المشيئة الإلهية، لأنه لا يصل إلى درجة الشرك في إفساد النفس (2) .
والكلمة الأخيرة في قضية تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة هي أنها تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب. وهذا رأي الغزالي (3) وتبعه الأستاذ الإمام محمد عبده (4) ، فمن صح إيمانه واتجه قصده وإرادته إلى كف النفس عن المعاصي استحق المغفرة والرضوان.
وأما الإضرار بحقوق الناس المالية والأدبية فهو يعتبر كالشرك بالله لا يقبل المغفرة ما لم يسقط صاحبه حقه الشخصي، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء:48/4] وقال: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} [المائدة:72/5] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم تركه، أوصلاة، فإن الله لا يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة» (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 508/1-511، تفسير الكشاف: 424/1.
(2) تفسير المنار: 150/5، تفسير الألوسي: 52/5.
(3) الإحياء: 14/4-20.
(4) تفسير المنار: 51/5.
(7/475)
خامسا ً - التوبة والعقوبة:
1) ـ نوعا الجزاء أو العقوبة في الإسلام:
من المعلوم أن الشريعة الإسلامية تقرر نوعين من العقاب على الجرائم: وهما عقاب دنيوي وعقاب أخروى. فالعقاب الدنيوي: هو الذي تطبقه السلطة الزمنية الحاكمة في الدنيا. والعقاب الأخروي: هو الذي يوقعه الله تعالى على العاصي في عالم الآخرة كالتعذيب في النار ونحوه.
والجنايات الموجبة للعقوبة الدنيوية المحددة هي - كما تقدم - ثلاث عشرة: وهي القتل، والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والبغي، والحرابة (قطع الطريق) ، والردة، والزندقة، وسب الله وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (2) .
والسبب في تنوع العقاب في الإسلام هو الحماية الفعلية للأنظمة والأخلاق والفضائل وقمع الرذائل والقضاء عليها. فمن أفلت من عقاب الحاكم الزمني غفلة منه، أو تحايلاً عليه أو لعدم توافر وسائل الإثبات المطلوبة، أو لم يكن لجريمته عقاب مقرر في القوانين المطبقة كالكذب وخلف الوعد والحقد والحسد والغيبة والنميمة ونحوها، عوقب على مخالفاته في عالم الآخرة بين يدي أحكم الحاكمين الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
كما أن الجزاء الأخروي يمتاز بمكافأة الصالحين على فعل الخير تشجيعاً للفضيلة وحثاً على الاستقامة وصلاح الأعمال في الدنيا. والتوبة النصوح قد تساعد على تطبيق العقوبة في الدنيا بالإقرار بالجريمة أمام القاضي، وقد تسقط الجزاء الأخروي فتساهم في إصلاح المجرم، وإنقاذه من الزلات والأخطاء التي ارتكبها، وتجعله في عداد الصالحين، فيتحقق تلقائياً أو بصفة ذاتية الهدف الجوهري من تشريع العقوبات الزاجرة.
2) ـ الهدف من العقوبة:
يلتقي الفقه الإسلامي كأساس عام مع أفضل المبادئ والنظم التي توصلت إليها المدرستان التقليدية والوضعية لتحديد أساس حق العقاب ووظائف العقوبة قانوناً.
__________
(1) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم وصححه من حديث عائشة.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي: ص 344.
(7/476)
ففي مواجهة المدرسة التقليدية التي تقيم حق العقاب على أساس منفعة الصالح الاجتماعي عن طريق المنع أو الوقاية في المستقبل، نرى فقهاءنا يقررون أن أساس أو مناط العقوبات المقررة شرعاً هو مصلحة الناس العامة وسعادتهم (1) ،فكل ما يحقق مصالح البشرية فهو مشروع مطلوب؛ لأن المقصود الأصلي من مشروعية الحدود والتعزيرات هوزجر الناس وردعهم عن ارتكاب المحظورات وترك المأمورات دفعاً للفساد في الأرض، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات (2) . قال ابن عابدين: إن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم (3) .
ومن حرص الشريعة على تحقيق المصلحة في العقاب: أنها تمنع كل الوسائل التي تؤدي إلى الإجرام كتناول المسكرات والمخدرات، بل واعتبرتها جرائم في ذاتها (4) وتطبيقات مبدأ (سد الذرائع) تؤكد ذلك، فالفاحشة مثلاً حرام، والنظر إلى عورة الأجنبية حرام، لأنها تؤدي إلى الفاحشة.
ثم إنه في مواجهة المدرسة التقليدية الجديدة التي تقول: إن أساس حق العقاب هو العدالة المطلقة مجردة عن فكرة المنفعة، يقرر فقهائنا ضرورة وجود تناسب بين الجريمة وعقوبة التعزير. ولكن دون فصل لمبدأ العدالة عن مراعاة المصلحة. وإنما يستهدف العقاب تحقيق العدالة وحماية المصالح الاجتماعية الثابتة.
__________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة ص 32 وما بعدها، ط الأنجلو المصرية، القصاص في الشريعة الإسلامية للمرحوم الشيخ أحمد إبراهيم: ص 247 وما بعدها.
(2) راجع الأحكام السلطانية للماوردي: ص 213، فتح القدير: 112/4، تبيين الحقائق للزيلعي 163/3، البحر الرائق: 3/5، أحكام القرآن للجصاص: 412/2.
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار: 262/3.
(4) القصاص في الشريعة للأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم: ص 21.
(7/477)
وفي مواجهة المدرسة الوضعية التي تتفق مع المدرسة التقليدية من حيث ارتكازها على المبدأ النفعي، وتطالب بالعناية بشخص المجرم لتقدير درجة خطورته ومدى قابليته للإصلاح، نرى فقهاءنا يقررون ذلك صراحة عند تقدير القاضي العقوبات التعزيرية لأكثر الجرائم الواقعة، وذلك على قدر الجناية وعلى قدر مراتب الجاني. كما أن فقهاءنا يتميزون أساساً سواء في الحدود والتعزيرات بفتح باب التوبة عن المخالفات، ليبادر الجاني إلى إصلاح نفسه إصلاحاً ذاتياً صادراً عن اقتناع واختيار وحرية فكرية.
3) ـ الحاجة إلى العقوبة:
في كل إنسان نزعتا الخير والشر، وبما أن الخير سبيل الإصلاح والتقدم والسعادة وجب تقوية دوافع الخير في الإنسان، وإضعاف عوامل الشر في نفسه، فكان لا بد من تشريع العقاب الزاجر، لأنه يساعد في مقاومة الميل إلى الشر، ويرغب في الخير.
(7/478)
وحينئذ يعتبر تطبيق العقوبة على الجناة محققاً لمبدأ الرحمة العامة، والرحمة العامة في الحقيقة: هي العدل، والعدالة الحقيقية هي الرحمة الحقيقية، ويعني ذلك أن الرحمة والعدالة في الشريعة متلازمتان (1) ، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة أو القانون، بدليل صريح القرآن الكر يم: {وربك الغفور ذو الرحمة، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/18] . فإذا كانت العدالة تقتضي تعجيل العقوبة في الدنيا، فإن الرحمة تستدعي تأخيرها فتحاً لباب الأمل والتوبة والعدول عن المخالفة أمام كل إنسان في الحياة، وبذلك تكون التوبة أثراً من آثار الرحمة الواجب مراعاتها في تشريع العقاب مع مراعاة العدالة، وهذا هو جوهر رسالة الإسلام. قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/21] قال ابن القيم «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها» (2) .
__________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه، المرجع السابق: ص 6-8.
(2) أعلام الموقعين: 14/3.
(7/479)
وقال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام؛ وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع» (1) . واستعرض العز بن عبد السلام مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر من الحدود والتعزيرات بعبارة دقيقة البيان عميقة التحليل (2) .
وقال الشاطبي في الموافقات: «إن أحكام الشريعة ماشرعت إلا لمصلحة الناس، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله» ......
4) ـ فلسفة التوبة أو هل تؤثر التوبة على المصلحة المقصودة من العقاب؟.
إن الشريعة الإسلامية ـ كما هو معروف ـ تستهدف في أحكامها حماية مصالح الدنيا، وحفظ مقاصد الآخرة، بل إن الدنيا في الحقيقة مزرعة الآخرة، كما ورد في الأثر.
وبناء على هذا فلا يتصور أن تكون التوبة سبباً في ضياع مصلحة الجماعة في تطبيق العقوبة، ولا وسيلة تؤدي إلى الإغراء بالمعاصي والتجرئة عليها أو تسهيل ارتكابها، وإنما على العكس تكون التوبة الصادقة مساعدة على استئصال شأفة الجريمة، لأنه إذا كانت الغاية الأولى للعقاب هي إصلاح المجرم، فإن التوبة أقوى تأثيراً في تحقيق تلك الغاية لصدروها عن باعث ذاتي واقتناع داخلي. فهي إذن تفتح باب الأمل أمام المخطئين، وتدفعهم إلى معترك الحياة بروح إيجابية جديدة وحيوية وفعالية منتجة.
ثم إن دور التوبة مقصور ـ باتفاق الفقهاء كما سأبين ـ على الحالة التي لم تعرض فيها قضية الجريمة على محاكم القضاء، وفي حقوق المجتمع المحضة (أي حق الله بتعبير فقهائنا) فإن عرضت القضية على الحاكم لم يكن للتوبة تأثير في إسقاط العقوبة. وإن مست الجريمة حقاً شخصياً للفرد لم يَقبَل الحد (أي العقوبة المقدرة شرعاً) الإسقاط أيضاً بالتوبة ولا بغيرها كالإبراء والعفو والتنازل والصلح والمعاوضة.
__________
(1) انظر رسالته في القياس ص 85 والسياسة الشرعية له: ص 98.
(2) قواعد الأحكام: 163/1-165.
(7/480)
5) ـ المعاصي التي يتاب منها وكيفية التوبة عنها:
يتناول هذا الموضوع أمرين: تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وتقسيم الذنوب إلى ما يكون حقاً لله أو للآدميين.
التقسيم الأول - تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر:
كل معصية في الإسلام تصح التوبة عنها، سواء أكانت من الكبائر أم من الصغائر، ابتداء من جريمة الكفر أو الشرك بالله إلى أدنى المحظورات. والمراد من الصغائر: هي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب، أو نزوة طائشة، ثم يعقبها تأنيب وندم يمحو صفة الإصرار (1) . كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية (أي التي لا قرابة محرمية منها) ، وضرب الخادم بدون ذنب، وسماع الملاهي والأوتار، واللعب بالنرد، ومجالسة شاربي الخمر والفساق والخلوة بالمرأة الأجنبية.
واختلفت عبارات العلماء في تحديد الكبائر:
__________
(1) عن ابن عباس أن رجلاً قال له: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبع مئة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار (تفسير الكشاف: 394/1، تفسير المنار: 50/5، الإحياء: 28/4 وما بعدها.
(7/481)
فقال ابن عمر: كل ما نهي عنه فهو كبيرة.
وقال صحابي آخر: كل ما وعد الله عليه بالنار فهو كبيرة.
وقال بعض السلف: كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة (1) .
وأما غير الصحابة فقال الذهبي: الكبائر: كل ما نهى الله ورسوله عنه في الكتاب والسنة والأثر عن السلف الصالحين (2) . وذكر في كتابه (الكبائر) سبعين كبيرة، من أهمها: الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل ما ل اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (3) ، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والظلم، والغدر، وعدم الوفاء بالعهد، واليمين الغموس (وهي الكاذبة قصداً وعمداً) والرشوة، والقمار، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والغصب، وإيذاء الناس وشتمهم.
وذكر المفسرون في تفسير المعصية الكبيرة آراء أهمها أربعة (4) :
أحدها: إنها المعصية الموجبة للحد.
والثاني: إنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة.
والثالث: قال إمام الحرمين وغيره: كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة.
__________
(1) الإحياء: 15/4، ط العثمانية المصرية.
(2) كتاب الكبائر للحافظ الذهبي: ص 7.
(3) وهذه السبع هي السبع الموبقات في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) تفسير ابن كثير: 487/1، ط البابي الحلبي.
(7/482)
والرابع: ذكر القاضي أبو سعيد الهروي: إن الكبيرة: كل فعل نص الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره. وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.
وإذا كان القول الثاني هو لأكثر المفسرين، فإن الرأي الثالث هو أولى الآراء بالقبول؛ لأن الغزالي اعتمده، واستحسنه الرازي (1) .
فالكبيرة إذن: هي كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به (2) .
التقسيم الثاني - تقسيم الذنوب إلى ما يتعلق بحق الله أو بحق العباد (3) :
تنقسم الذنوب إلى مايكون بين العبد وبين الله تعالى، وإلى ما يتعلق بحقوق الأشخاص (4) .
فأما ما يتعلق بحق الله تعالى: فهو كترك الصلاة والصوم. والتوبة لا تصح منه، حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.
__________
(1) تفسير المنار: 49/5.
(2) صنف أبو طالب المكي الكبائر بسبع عشرة: أربعة في القلب: وهي الشرك بالله، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره. وأربع في اللسان: وهي شهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس، والسحر. وثلاث في البطن: وهي شرب الخمر والمسكر من كل شراب وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم. واثنتان في الفرج، وهما الزنا واللواط. واثنتان في اليد: وهما القتل والسرقة. وواحدة في الرجلين: وهو الفرار من الزحف. وواحدة في جميع الجسد: وهو عقوق الوالدين. وتعقبه الغزالي بأنه تصنيف غير شامل ويمكن الزيادة عليه. وقال: إن الكبائر على ثلاث مراتب: الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر، ويتلوه الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته، ثم يتلوه البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله. المرتبة الثانية: النفوس. المرتبة الثالثة: الأموال. ثم استعرض بقية الجرائم (راجع الإحياء: 15/4-20) .
(3) تفسيرالقرطبي 199/18 وما بعدها، الإحياء 14/4.
(4) المقصود بحق الله تعالى: ما يمس المجتمع وهو مايتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد. وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه. وأما حق العبد: فهو الحق الشخصي: وهو مايتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير ودمه وعرضه.
(7/483)
وأما ما يتعلق بحقوق العباد: فهو كترك الزكاة وقتل النفس وغصب الأموال وشتم الأعراض، والتوبة منه تكون برد الحق لصاحبه. ففي حال التفريط بالزكاة يجب القضاء. وفي القتل تكون التوبة بالتمكين من القصاص إن كان عليه، وكان مطلوباً منه قضاء. وفي القذف ببذل ظهره للجلد إن كان مطالباً به. فإن عفي عنه أو عن القتل مجاناً كفاه الندم والعزم على ترك العود بالإخلاص. فإن عفي عن القتل بمال فعليه أداؤه إن كان واجداً له، قال الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/2] . وكذلك شراب الخمر والسراق والزناة إذا أصلحوا وتابوا سقط الحد عنهم في رأي بعض العلماء كما سيأتي تفصيل الكلام فيه.
وإن كان الذنب من مصالح العباد، فلا تصح التوبة عنه إلا برده إلى صاحبه والخروج عنه ـ عيناً كان أو غيره ـ إن كان قادراً عليه. فإن لم يكن قادراً فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت وأسرعه.
وإن كان العاصي أضر بآخر فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يطلب منه العفو والاستغفار له، فإذا عفا عنه، سقط الذنب عنه.
وإن أساء رجل إلى آخر بأن فزَّعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق أو ضربه بسوط فآلمه، أو شانه بشتم لا حد فيه ثم ندم واستعفى من المضرور، وعزم على ألا يعود فعفا عنه صاحب الحق، سقط عنه ذلك الذنب.
(7/484)
المطلب الثاني - أثر التوبة الصادقة في الجزاءات أو العقوبات الأخروية:
يترتب على التوبة النصوح ـ كما ذكر ـ إسقاط عقوبة المعصية قطعاً فيما بين التائب وبين الله تعالى، لأن التوبة تسقط أثر المعصية (1) ، ولو كانت أعظم الجرائم التي هي الكفر أو الشرك بالله، لأنه يغفر كل ذنب للتائب إلا إذا أصر عليه فلا يغفر (2) ، قال الله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب} [غافر:3/40] وقال سبحانه: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا، فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال:8/38] {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:53/39] : أي بشرط التوبة في رأي الزمخشري وغيره.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص، قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، قلت: ابسط يدك أبايعك فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: (مالك؟) قلت: أردت أن اشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» .
ويؤيد ذلك أحاديث نبوية كثيرة منها: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (3) «لو أخطأتم حتى تبلغ السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم» (4) «والذي نفسي بيده لو
__________
(1) مغني المحتاج: 184/4.
(2) تفسير الألوسي: 52/5، تفسير الكشاف: 401/1، 36/3.
(3) رواه ابن ماجه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً أيضاً من حديث ابن عباس وزاد (والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) .
(4) رواه ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة.
(7/485)
لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» (1) «التوبة تجب ما قبلها» (2) .
وسأذكر هنا نموذجاً من توبة العصاة:
1 - توبة الكافر: الكفر أو الشرك إما في الألوهية أو في الربوبية، فالشرك في الألوهية: هو الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى، وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور. والشرك في الربوبية: هو الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي (3) .
وتوبة المشرك أو الكفر تكون بإعلان الإسلام والإقرار بتوحيد الإله (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) سواء أقدر عليه الحاكم أم لم يقدر عليه، لأن عدم القدرة ليست مشترطة في توبة الكفار. والتوحيد الذي يناقض الشرك: هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية، وجعله حراً كريماً عزيزاً لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسنته الكائنات، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات، فلسنته الحكيمة يخضع، ولشريعته العادلة المنزلة يتبع. وإنما خضوعه هذا لعقله ووجدانه، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه (4) .
وتقبل توبة الكافر اتفاقاً ترغيباً في الإسلام (5) ولقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] .
2 - توبة المنافق: النفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب (1) والمنافق وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام أشد خطراً على المسلمين من الكفار، لأنه يكتم الكفر والكيد للمسلمين ويتربص الدوائر بهم، ويرتكب السيئات بباعث النفاق الظاهر والخبث الباطن، فاستحق العذاب مرتين، وكان في الدرك الأسفل من النار.
__________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة.
(2) ذكره بعض الفقهاء ولم أقف على تخريجه وقد سبق بيان ذلك.
(3) تفسير المنار: 148/5.
(4) المرجع السابق: 149/5.
(5) الفروق للقرافي: 181/4.
(7/486)
وتوبة المنافق تكون بتزكية نفسه ومجاهدتها بقدر الاستطاعة والطاقة، وطلب العفو عما لا طاقة له به، وترك الكفر ظاهراً أو باطناً، وإعلانهم الإيمان بالله ورسوله. ويمكن قبول توبة المنافق لقوله تعالى {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً} [الأحزاب:24/33] {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} ... {عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة:102/9] {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم، وإما يتوب عليهم} [التوبة:106/9] .
3 - توبة الزنديق: الزنادقة هم الدهريون الذين ينكرون وجود الإله ويزعمون أن العالم وجد مصادفة (2) . وقال المالكية: الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويسرّ الكفر (3) . وقال الحنفية: الزنديق: هو من لا يتدين بدين (4) .
واختلف العلماء في توبة الزنديق، فقال العترة من الزيدية، وأبو حنيفة ومحمد والشافعي: تقبل توبة الزنادقة ولا يقتلون؛ لعموم قوله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] .
__________
(1) التعريفات للجرجاني: ص 219، الفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد مع الاشتراك في إبطان الكفر: أن المنافق غير معترف بنبوة نبينا صلّى الله عليه وسلم. والدهري كذلك مع إنكاره إسناد الحوادث إلى الصانع المختار سبحانه وتعالى. والملحد: وهو من مال عن الشرع القويم إلى جهة من جهات الكفر سواء اعترف بالنبوة لمحمد أم لا، أظهر الكفر أو أبطنه، سبق إلى الإسلام أم لا. فهو أوسع فرق الكفر. أما الزنديق في لسان العرب فهو من ينفي الباري تعالى، أو من يثبت الشريك أو من ينكر حكمته، أو بعبارة أخرى كما في الفتح: هو من لا يتدين بدين (رد المحتار: 324/3) .
(2) المنقذ من الضلال للغزالي: ص 10.
(3) القوانين الفقهية: ص 365.
(4) رد المحتار: 201/3، 324.
(7/487)
وقال مالك وأبو يوسف والجصاص: لا تقبل توبتهم، فإذا عثر على الزنديق قتل ولا يستتاب، ولا يقبل منه ادعاء التوبة إذ يعرف منه عادة التظاهر بالتوبة تقيه، بخلاف ما يبطنه، واستثنى الإمام مالك من جاء تائباً قبل ظهور زندقته فتقبل توبته (1) .
والمفتى به في مذهب الحنفية أن الزنديق إذا أخذ قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل، ولو أخذ بعدها قبلت (2) .
قال صاحب البحر الزخار الزيدي: لكن الأقرب العمل بالظاهر، وإن التبس الباطن لقوله صلّى الله عليه وسلم لمن استأذنه في قتل منافق: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله» (3) .
4 - توبة المبتدع: المبتدع: هو الذي أحدث شيئاً في الإسلام ليس منه، ولم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي. أو هو كل من قال قولاً خالف فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة (4) .
فإذا كان ببدعته منكراً لما علم بالتواتر والضرورة (أي البداهة) من الشريعة، فهذا كافر ببدعته، كالمجسمة أو المشبهة، الذين شبهوا معبودهم بإنسان له جسم محدود بسبعة أشبار بشبر نفسه، أو الذين ألهوا أحداً من البشر.
وأما إن كان المبتدع لا يكفر ببدعته، فهو ضال فاسق كأهل البدع والأهواء المخالفين لأهل السنة أو سيرة السلف الصلاح في بعض المسائل الاعتقادية، مثل القدَرية القائلين بخلق الإنسان أفعال نفسه، والخوارج الذين كفروا علياً ومعاوية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة.
وتوبة المبتدع تكون بالتخلص من بدعته والتزام العقيدة الحقة، ولا مانع من قبول توبته وإن كان
__________
(1) البحر الزخار: 207/5، القوانين الفقهية: ص 365.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 324/3.
(3) روى الحديث مسلم عن المقداد بن الأسود.
(4) التعريفات للجرجاني: ص 37، رد المحتار: 201/3.
(7/488)
كافراً، لأن العقل يجوز ذلك، وظاهر الشرع وعموم الآيات القرآنية يدل على إمكان قبول توبة الكفار والمشركين (1) .
والخلاصة: إن قبول التوبة في عالم الآخرة مشروط بعدم الإصرار على المعصية، وعدم التلاعب بالإسلام. وعدم البقاء على الكفر قبل الموت وذلك هو ما يشير إليه القرآن الكريم في الآيات الثلاث الآتية:
1 - {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون} [آل عمران:135/3] .
2 - {إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم، ولا ليهديهم سبيلاً} [النساء:4/137] . {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} [آل عمران:90/3] .
3 - {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به} [آل عمران:91/3] و [البقرة:161/2] .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي: 271/2.
(7/489)
المطلب الثالث - أثر التوبة في الجزاءات أو العقوبات الدنيوية:
تمهيد في أنواع العقوبات:
العقوبات الدنيوية بحسب نوع المصلحة المقصودة منها ثلاثة أنواع وهي (1) :
1 - الحدود: وهي العقوبات المقدرة شرعاً الواجبة حقاً لله تعالى في الشريعة، أي التي تستوجبها المصلحة العامة: وهي دفع الفساد عن الناس، وتحقيق الصيانة والسلامة لهم. وتطبق على جرائم سبعة: الزنا، القذف، شرب المسكرات، السرقة، الحرابة، الردة، البغي.
2 - القصاص والدية: أما القصاص فهو معاقبة الجاني على جريمة القتل أو القطع أو الجراح عمداً بمثلها. وأما الدية فهي العوض المالي الواجب دفعه بدل النفس. وقد شرع القصاص مراعاة للحقين: حق الجماعة العام في أصل العقاب، وحق المجني عليه الخاص في نوع العقاب.
3 - التعازير: وهي العقوبة المشروعة على معصية أو جناية لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجناية على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان وترك الصلاة، وطرح الأقذار في طريق الناس ونحو ذلك، أو على حق شخصي للعباد كأنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، وغير ذلك من مختلف أنواع جرائم الاعتداء على الأموال والأنفس التي لا حد فيها.
وتعدّ أغلب الجرائم التي نص عليها قانون العقوبات في مصر وسورية داخلة تحت عقوبات التعزير الشرعية، سواء أكانت جنايات وجنحاً مضرة بالمصلحة العامة، أو تحصل لآحاد الناس، أو كانت مخالفات عادية.
__________
(1) راجع التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم الأستاذ عبد القادر عودة: 78/1 وما بعدها.
(7/490)
وأبحث هنا أثر التوبات في هذه العقوبات.
أولاً - آراء الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة:
اتفق الفقهاء على أن الحدود إذا رفعت إلى ولي الأمر أو نائبه القاضي، ثم تاب المتهم عن جريمته بعد ذلك، لم يسقط الحد عنه، بل تجب إقامة الحد وإن تاب المجرم حينئذ، سواء أكان قاطع طريق أم لصاً أم زانياً أم قاذفاً وغيرهم، إذ لا يجوز تعطيل الحد، لا بعفو، ولا بشفاعة، ولا بهبة، ولا غير ذلك (1) لأن الجريمة تمس مصلحة الجماعة، والتصرف على الرعيةمنوط بالمصلحة العامة. ويرشد لذلك من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقبل العفو عن سارق رداء صفوان بن أمية، وقال لصفوان: «فهلا قبل أن تأتيني به؟» ثم قطع يده (2) يريد النبي صلّى الله عليه وسلم أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان العفو سائغاً جائزاً.
وذكر في الموطأ عن عثمان رضي الله عنه. أنه قال: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» .
وفي سنن أبي داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» .
واتفق الفقهاء أيضاً على قبول توبة المحارب (قاطع الطريق) قبل قدرة السلطان عليه: وهو أن يأتي إلى الحاكم عن طوع واختيار ويظهر التوبة عنده، ويسقط عنه الحبس، لأن الحبس للتوبة، وقد تاب فلا معنى للحبس (3) . ودليلهم
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 66، رد المحتار لابن عابدين: 154/3، البحر الزخار: 158/5.
(2) رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس.
(3) البدائع: 96/7، فتح القدير: 272/4، أحكام القرآن للجصاص: 413/2، المنتقى على الموطأ: 174/7، بداية المجتهد: 447/2، أحكام القرآن لابن العربي: 600/2، القوانين الفقهية: ص 363، مغني المحتاج: 183/4، تكملة المجموع: 342/18، المغني لابن قدامة: 295/8، أعلام الموقعين: 78/2، غاية المنتهى: 345/3، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 68، كشاف القناع: 124/6، الإفصاح: 424، الخلاف في الفقه للطوسي: 482/2، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 304، البحر الزخار: 202/5، شرح النيل: 643/7.
(7/491)
صريح قوله تعالى في حق المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة:34/5] .
ومفهوم الآية ألا يسقط عنه شيء بالتوبة بعد الظفر عليه، لأن الظاهر أن التوبة قبل ذلك توبة إخلاص، ولترغيبه في التوبة، وبعده الظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه، ولا حاجة لترغيبه في التوبة؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة.
أما ما يسقط عنه بالتوبة: فاختلفوا فيه (1) ، فقال فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية في أرجح الآراء لديهم: تسقط بتوبة المحارب حقوق الله تعالى كحد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر؛ لأنها حدود الله تعالى، فتسقط بالتوبة كحد المحاربة، ولأن في إسقاطها ترغيباً في التوبة.
ولا تسقط عنه حقوق الناس الشخصية كحد القذف والقصاص وضمان الأموال، إذ لا دليل على إسقاطها.
وهناك آراء أخرى، قال الهادي من الزيدية، والإباضية: يسقط عنه ما قد أتلف ولو حقاً لآدمي في نفس أو مال أو قتل، لعموم الآية: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/5] .
وقال بعضهم: ترفع التوبة جميع حقوق الله، ولكن يؤاخذ بالدماء (أي جراح النفس من قتل وضرب وجرح) والأموال بما وجد بعينه في يده، ولا تتبع ذمته. وهو قول لمالك.
__________
(1) المراجع السابقة.
(7/492)
وبعضهم قال: إن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده، وهو قول الليث بن سعد ورجحه ابن جرير الطبري (1) .
وشدد بعضهم وهو قول عند الشافعية وللإمام مالك. فقال: لا تسقط التوبة عن المحارب إلا حد الحرابة فقط، ويؤاخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين.
عقوبة الردة والبغي:
الردة: ترك الدين الإسلامي والخروج عليه بعد اعتناقه. والبغي: الخروج عن طاعة الحاكم بثورة مسلحة، أو الخروج على الإمام مغالبة.
اتفق الفقهاء على إسقاط عقوبة الباغي (وهي القتل) بالتوبة؛ لأن القصد من عقابه توفير الطاعة والولاء والعدول عن البغي (2) .
كما أن عقوبة المرتد (وهي القتل ومصادرة ماله) تسقط أيضاً بالتوبة بأن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام أو عما انتقل إليه من مذهب الكفر، لأن الغاية هي رجوعه إلى الإسلام، لذا استحب الحنفية استتابته وعرض الإسلام عليه قبل القتل، لاحتمال أن يسلم، وأوجب جمهور الفقهاء حصول الاستتابة قبل القتل ثلاث مرات (3) ، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب وجب عليه القتل.
وأضاف الزيدية وأئمة المذاهب أن من تكرر منه الردة والإسلام حتى كثر فهو مقبول التوبة، لقوله تعالى: {يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] ولم يفصل النص بين من تكرر منه ذلك أو لم يتكرر (4) .
ذكر النسائي عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: هل من توبة؟ فنزلت آيات من سورة آل عمران آخرها (5) {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم} قال ابن عباس: فأرسل إلى الرجل فأسلم.
عقوبة القذف:
اتفق العلماء على أن التوبة لا تسقط حد القذف، لأنه حق آدمي (6) .
الحقوق الشخصية للناس:
يظهر مما سبق أن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة ما لم ترد المظالم لأصحابها، كما أنه لا يغفرها الباري سبحانه إلا بمغفرة صاحبها، ولا يسقطها إلا بإسقاطه (7) .
عقوبة السرقة والزنا وشرب الخمر:
__________
(1) تفسير الطبري: 287/1 وما بعدها، شرح الأزهار: 378/4، شرح النيل: 643/7.
(2) فتح القدير: 409/4، الدر المختار ورد المحتار: 340/3، الشرح الكبير للدردير: 299/4، مغني المحتاج: 127/4، المغني: 114/8.
(3) المبسوط للسرخسي: 98/10، فتح القدير: 385/4، البدائع: 134/7، تبيين الحقائق: 284/3، بداية المجتهد: 448/2، الشرح الكبير للدردير: 304/4، مغني المحتاج: 139/4، المغني: 124/8، كشاف القناع: 144/6، القوانين الفقهية: ص 364، شرح النيل: 643/7.
(4) البحر الزخار: 208/5.
(5) الآيات: 86 - 89.
(6) بداية المجتهد: 434/2، المغني: 296/8.
(7) أحكام القرآن لابن العربي: 600/2، تفسير القرطبي: 200/18.
(7/493)
اختلف الفقهاء في إسقاط عقوبات هذه الحدود بالتوبة على رأيين:
الرأي الأول: قال الحنفية (1) والمالكية والشافعية والظاهرية والزيدية والإباضية في أرجح الآراء لديهم (2) : إن التوبة لا تسقط سائر الحدود المختصة بالله تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر، سواء بعد رفع الأمر الى الحاكم أو قبله واستدلوا بالأدلة الآية:
1 - عموم الآيات القرآنية التي تقرر عقوبة هؤلاء العصاة مثل قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/24] {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] فكل نص منهما عام في التائبين وغيرهم، ولا يستثنى إلا حد الحرابة كما أبنت، وحد تارك الصلاة لو تاب سقط القتل قطعاً، ولو بعد رفعه إلى الحاكم؛ لأن عقابه على الإصرار على الترك لا على مجرد الترك في الماضي. وكذلك إذا زنى الكافر ثم أسلم يسقط عنه الحد.
2 - أقام النبي صلّى الله عليه وسلم الحد على من جاءه تائباً، إذ رجم ماعزاً والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة، وقد جاؤوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سمى فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (3) . وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني فأقام الرسول الحد عليه.
3 - إن الحد كفارة، فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولو جاز إسقاط الحد بالتوبة، لتمكّن كل مجرم من إسقاط العقوبة عنه بادعاء التوبة، وفي ذلك تشجيع على الإجرام والفساد.
4 - لا تقاس الحدود على حد الحرابة لأن مرتكبها مقدور عليه، فلا تسقط التوبة عنه الحد المقرر، كالمحارب بعد القدرة عليه.
__________
(1) استثنى الكاساني في البدائع حد السرقة العادية فقال: أنه يسقط إذا تاب السارق قبل أن يظفر به، ورد المال إلى صاحبه، بخلاف سائر الحدود لأن الخصومة (أي الادعاء بالحق) شرط في السرقة الصغرى والكبرى (أي الحرابة) والخصومة تنتهي بالتوبة.
(2) البدائع: 96/7، فتح القدير: 272/4، الدر المختار: 154/3، الفروق للقرافي: 181/4، تفسير القرطبي: 174/6 وما بعدها، مغني المحتاج: 184/4، المهذب: 285/2، حاشية قليوبي وعميرة: 201/4، القوانين الفقهية: ص 362، شرح النيل: 650/7، المحلى: 156/11-159، البحر الزخار: 158/5.
(3) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه من حديث عمران بن الحصين.
(7/494)
الرأي الثاني: قال الحنابلة في الأرجح عندهم (1) والشيعة الإمامية (2) وبعض علماء الحنفية (3) والمالكية (4) والشافعية (5) والزيدية (6) : إن التوبة تسقط حد الزنا والسرقة وشرب الخمر عن العصاة من غير اشتراط مضي زمان قبل رفع الأمر إلى الحاكم أو قبل القدرة عليهم أو قبل البينة وثبوت الحد عليهم، واستدلوا بما يأتي:
__________
(1) المغني: 296/8، غاية المنتهى: 345/3، قال ابن تيمية في فتاويه: 253/4 من وجب عليه حد الزنا أو السرقة أو شرب الخمر فتاب قبل أن يرفع إلى الإمام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه كما يسقط عن المحاربين بالإجماع إذا تابوا قبل القدرة.
(2) قال الطوسي: كل من وجب عليه حد من حدود الله من شرب الخمر أو الزنا أو السرقة من غير المحاربين ثم تاب من قبل قيام البينة عليه بذلك فإنها بالتوبة تسقط (الخلاف في الفقه: 482/2، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 297-303) .
(3) قال ابن عابدين من الحنفية: الظاهر أن التوبة لا تسقط الحد الثابت عند الحاكم بعد الرفع إليه، أما قبله فيسقط الحد بالتوبة حتى في قطاع الطرق، سواء كان قبل جنايتهم على نفس أو عضو أو مال أو كان بعد شيء من ذلك. ونقل عن شرح الأشباه: إذا تاب شارب الخمر توبة نصوحاً أرجو ألا يحد في الآخرة، فإنه لا يكون أكثر من الكفر والردة، وإنه يزول بالإسلام والتوبة (رد المحتار: 154/3) .
(4) الفروق للقرافي: 181/4، قال فيه: (إن الحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة) مما يدل على وجود قول آخر بالسقوط.
(5) للشافعي قول بأن هذه الحدود تسقط بالتوبة قياساً على حد المحاربة. لكن قال النووي لا تسقط سائر الحدود عدا حد الحرابة بالتوبة في الأظهر (مغني المحتاج: 184/4، تكملة المجموع: 343/18، المهذب: 285/2) .
(6) جاء في كتاب الوافي في الفقه عند الزيدية: يسقط حد الزنا بالتوبة لخبر ماعز (البحر الزخار: 158/5) .
(7/495)
1 - ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل، فأعاد قوله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك» ففي هذا دليل على أن التائب غفر الله له، ولم يكن بحاجة لإقامة الحد عليه مادام أنه اعترف به.
2 - قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» ومن لا ذنب له لا حد عليه. وقال في ما عز لما أخبر بهربه: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه؟» وإقامة الحد عليه بالرغم من توبته تجاوب مع ما اختاره بنفسه كما اختارته المرأة الغامدية، قال ابن تيمية: إن الحد مطهر، وإن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد، فأجابهما النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك (1) .
3 - صرح القرآن الكريم بإسقاط حد الزنا بالتوبة في قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/4] وبإسقاط حد السرقة أيضاً في قوله سبحانه: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/5] .
4 - لا فرق بين حد الحرابة وبقية الحدود، فإذا أسقطت التوبة حد الحرابة مع شدة ضررها وتعدي المحارب، فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] .
__________
(1) أعلام الموقعين: 79/2.
(7/496)
قال ابن القيم: الله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعاً وقدراً، فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة (1) .
والكلمة الأخيرة: إن ظواهر القرآن والسنة والعمل بمبدأ الستر في الإسلام تؤيد الرأي الثاني الذي يسقط الحدود بالتوبة إذا كانت خالصة لله تعالى، أي لمصلحة الجماعة، ولم تكن متعلقة بالحقوق الشخصية للناس. وليس في هذا الرأي إخلال بمصالح المجتمع؛ لأن التائب بتوبته يحقق المصلحة المنشودة، لا سيما إذا لا حظنا اشتراط كون التوبة صادقة نصوحاً.
قال الحنابلة: إذا قلنا بسقوط الحد بالتوبة، فهل يسقط بمجرد التوبة أو بهما مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط بمجردها، وهو ظاهر قول أصحابنا، لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
والثاني: يعتبر إصلاح العمل، لقول الله تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} [النساء:16/4] وقال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه} [المائدة:39/5] . فعلى هذا القول: يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته، وليست مقدرة بمدة معلومة (2) .
__________
(1) أعلام الموقعين: 78/2، 19/3، 398/4.
(2) المغني: 296/8 وما بعدها.
(7/497)
ثانياً- هل التوبة مسقطة للقصاص والدية؟
إذا ثبت القتل وجب على القاتل: إما القصاص، وإما الدية، ولا يسقط القصاص إلا بعفو أولياء المقتول على أن يأخذوا الدية أو بدون شيء، فلا يسقط القصاص أو الدية إذن بالتوبة لتعلق الحق الشخصي به لأولياء الدم. وبناء عليه لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود (القصاص) ، أو يؤدي الدية حين العفو أو حالة القتل الخطأ. وتوبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط، بل يتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً لا بد من أن يمكنهم من القصاص منه، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا عفوا عنه مجاناً، فإن عفوا عنه كفته التوبة. وبالعفو عنه يبرأ من العقوبة الدنيوية.
وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى؟.
استظهر ابن عابدين أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به، فيخاصم القاتل يوم القيامة. وأما ظلم القاتل لنفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بالتوبة (1) .
وقال الإمام النووي وأكثر العلماء: إن ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة بالعقوبة عن القاتل إذا تاب، فقد دلت أحاديث نبوية على أنه لا يطالب، من أشهرها الحديث المروي في الصحيحين الذي ذكر فيه توبة القاتل مئة نفس في الأمم السابقة، وقبول الله توبته (2) .
ثالثاً ـ إسقاط التعازير بالتوبة:
يظهر مما ذكره الفقهاء في إسقاط الحدود بالتوبة ضرورة التفرقة في التعزيرات بين حقوق الله وحقوق الأفراد (3) ، لأن ضابط التعزير هو: كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة. فقد يكون التعزير حقاً لله أو حقاً للفرد. ويشترك فيه الحقان وأحدهما غالب على الآخر.
__________
(1) رد المحتار: 389/5.
(2) رواه أبو سعيد الخدري (رياض الصالحين: ص 14، كتاب التوابين لابن قدامة: ص 85، ط دمشق) وانظر فتاوى ابن تيمية: 184/4 وما بعدها، ط 1329.
(3) وانظر رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 41، 436-441، رد المحتار: 190/3، 198، 204 وما بعدها، 209، نهاية المحتاج: 175/7.
(7/498)
فإن كان التعزير حقاً خالصاً للفرد أو الغالب فيه حقه كالشتم والسب والمواثبة والضرب بغير حق والتزوير وشهادة الزور ونحوها مما يتوقف على الادعاء الشخصي، فلا يسقط بالتوبة كما لا يسقط بعفو القاضي، إلا أن يصفح المعتدى عليه.
وأما إن كان التعزير حقاً لله تعالى كتعزير مفطر رمضان عمداً بدون عذر، وتارك الصلاة وأكل الربا ظاهراً، ومن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق أو كان حق الله فيه غالباً كمباشرة امرأة أجنبية فيما دون الجماع كتقبيل وعناق وخلوة بها ونحو ذلك، فيسقط بالتوبة، كما يسقط بعفو القاضي. وهذا التفصيل في الواقع هو رأي الحنفية والشافعية.
ولكن وردت عبارات لبعض الفقهاء يفهم منها بعمومها أن التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة باتفاق الفقهاء.
قال القرافي: إن التعزير يسقط بالتوبة، ما علمت في ذلك خلافاً (1) .
وقال في البحر الزخار: يسقط التعزير بالتوبة، ويقرب أنه إجماع المسلمين الآن لكثرة الإساءات فيما بينهم، ولم يعلم أن أحداً طلب تعزير من اعتذر إليه واستغفر، ولا من أقر بأنه قارف ذنباً خفيفاً، ثم تاب منه، ولاستلزامه تعزير أكثر الفضلاء، إذ لم يخل أكثرهم عن مقارفة ذنب وظهوره في فعل أو قول (2) . ولعل المراد من هذه العبارات التعزير الواجب حقاً لله تعالى، لأن الخلاف بين التعزير والحد هو في حقوق الله تعالى.
__________
(1) الفروق: 181/4.
(2) البحر الزخار ملخصاً: 211/5.
(7/499)
.....................................خاتمة.........................................
يتبين من هذا البحث أن للتوبة نظاماً دقيقاً في الشريعة الإسلامية، إذ إنه قد يُكشَف عن الجريمة، فيبادر الجاني إلى الإقرار بمعصيته أمام القاضي، وللقاضي حينئذ توقيع العقوبة عليه، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم فيمن أقر بالزنا أمامه، وهو رأي ابن تيمية وابن القيم.
وقد تساعد التوبة على التقليل من الجرائم بإصلاح الجاني من نفسه ورده الحقوق لأصحابها بدافع ذاتي واقتناع داخلي، إذا توافرت شرائط التوبة الشرعية، فكانت توبة صادقة نصوحاً.
ثم إنه قد تكون التوبة دليلاً على تحقيق الولاء والطاعة السياسية فتحقن دماء كثيرة، ولا تهدر الكرامة الإنسانية في سبيل دعم الحكم، فتتخلص الأمة من شر كبير وفساد عظيم وقعت به في الماضي حين قام بعض الحكام بالبطش بخصومهم المعارضين لسياستهم، كما يظهر في توبة البغاة والخوارج وقطاع الطرق.
وقد تكون التوبة أيضاً سبيلاً سهلاً لتوفير احترام العقيدة والنظام الإسلامي، كما في توبة المنافقين والمرتدين والزنادقة.
لهذا كله أقِرّ الرأي القائل بإسقاط الحدود والتعزيرات بالتوبة إذا كانت الجريمة ماسة بمصلحة المجتمع (حق الله) ما لم يرفع في شأنها دعوى إلى القضاء، أما إذا كانت الجريمة متعلقة بحق شخصي (حق الفرد) أو رفع في شأنها دعوى إلى القضاء، فمن العدل والمنطق ألا تسقط التوبة العقوبة إطفاء لنار الفتنة. ودفعاً للضرر عن المجني عليه، وشفاء لألم المصاب، واستئصالاً للجريمة، فلا يتجرأ أحد على الاعتداء على حقوق الآخرين في نفس أو مال أو عرض. وهذا هو رأي الحنابلة والشيعة الإمامية وبعض فقهاء المذاهب الأخرى في نطاق الحدود الثلاثة: (حد الزنا والسرقة وشرب الخمر) ، وهو رأي الفقهاء عامة فيما يبدو بالنسبة للتعازير، وبقية الحدود الأخرى.
وفي ذلك مصلحة للمؤمنين بشرائع الإسلام في وقت عطلت فيه الحدود الشرعية، ولم يبق أمام المؤمن الصادق سوى التوبة لتكفير خطاياه.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط، أخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله: «يا ابن آدم، إنك مادعوتني ورجوتني غفرت لك على ماكان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو لقيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لاتشرك بي شيئاً، لأتيتك بقُرابها مغفرة» .
(7/500)
الفَصْلُ السّادس: حدّ الرِّدّة وأحكام المرتدّين
الكلام هنا عن معنى الردة وشرائطها وأحكام المرتدين: حكم قتل المرتد، وحكم تملك أمواله وتصرفاته، وحكم ميراثه.
معنى الردة: الردة لغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهي أفحش الكفر وأغلظه حكماً، ومحبطة للعمل إن اتصلت بالموت عند الشافعية، وبنفس الردة عند الحنفية، قال الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة:217/2] .
وهي شرعاً: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، سواء بالنية أو بالفعل المكفر أو بالقول، وسواء قاله استهزاءً أو عناداً أواعتقاداً.
وعلى هذا فالمرتد: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، مثل من أنكر وجود الصانع الخالق، أو نفى الرسل، أو كذب رسولاً، أو حلل حراماً بالإجماع كالزنا واللواط وشرب الخمر والظلم، أو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه، كأنه نفى ركعة من الصلوات الخمس المفروضة، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كزيادة ركعة من الصلوات المفروضة، أو وجوب صوم شيء من شوال، أو عزم على الكفر غداً، أو تردد فيه. ومثال الفعل المكفر: إلقاء مصحف أو كتاب حديث نبوي على قاذورة، وسجود لصنم أو شمس (1) .
والخلاصة: للردة أسباب ثلاثة كبرى وهي:
1 - إنكار حكم مجمع عليه في الإسلام، كإنكار وجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإنكار تحريم الخمر والربا وكون القرآن كلام الله.
2 - فعل بعض أفعال الكفار: كإلقاء مصحف في قاذورة متعمداً، وكذلك إلقاء كتب التفسير والحديث، وكالسجود لصنم وممارسة بعض عبادات الكفار أو خصائصهم في اللباس والشراب.
3 - التحلل من الإسلام بسب الإله أو سب نبي أو سب الدين، أو استباحة تعري المرأة ومنع الحجاب.
__________
(1) راجع مغني المحتاج: 133/4 وما بعدها، المهذب: 288/2، غاية المنتهى: 332/3،المغني: 123/8، 131، فتح القدير: 385/4، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 301/4.
(7/501)
المرتد والزنديق والسابّ والساحر:
المرتد: هو المكلف الذي يرجع عن الإسلام طوعاً إما بتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه.
وأما الزنديق: فهو الذي يظهر الإسلام ويُسرّ الكفر. فإذا عثر عليه قتل ولا يستتاب، ولا يقبل قوله في ادعاء التوبة إلا إذا جاء تائباً قبل ظهور زندقته.
وأما الساحر: فيقتل إذا عثر عليه كالكافر، واختلف في قبول توبته أم لا.
وأما من سب الله تعالى أو النبي صلّى الله عليه وسلم أو أحداً من الملائكة أو الأنبياء، فإن كان
مسلماً قتل اتفاقاً. واختلف هل يستتاب أو لا، المشهور عند المالكية عدم الاستتابة وإن كان كافراً، فإن سب بغير ما به كفر، فعليه القتل، وإلا فلا قتل عليه (1) .
شروط صحة الردة: اتفق العلماء على اشتراط شرطين لصحة الردة:
الأول ـ العقل: فلا تصح ردة المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط الأهلية في الاعتقادات وغيرها.
وأما السكران الذاهب العقل، فلا تصح ردته استحساناً عند الحنفية؛ لأن الأمر يتعلق بالاعتقاد والقصد، والسكران لا يصح عقده ولا قصده، فأشبه المعتوه، ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم، ولأنه غير مكلف، فلم تصح ردته كالمجنون (2) .
وقال الشافعية على المذهب عندهم، والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: تصح ردة السكران المتعدي بسكره، وإسلامه، كما يصح طلاقه وسائر تصرفاته، ولأن الصحابة أوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره، وأقاموا مظنة الافتراء مقامه (3) ، ولكن لا يقتل وهو سكران إن ارتد حتى يستتاب بعد بلوغ وصحو ثلاثة أيام. وأما البلوغ فليس بشرط عند أبي حنيفة ومحمد والمالكية والحنابلة، فتصح ردة الصبي المميز، لكن عند أبي حنيفة ومحمد: لا يقتل ولا يضرب، وإنما يعرض عليه الإسلام جبراً (4) عند البلوغ ويحبس ويضرب. وإذا
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 364 وما بعدها، غاية المنتهى: 359/3، 362.
(2) البدائع: 134/7، الدر المختار: 311/3 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 137/4، المغني: 147/8 وما بعدها.
(4) وهذا مثل الصبي الذي حكم بإسلامه تبعاً لأبويه، ثم بلغ كافراً، ولم يسمع منه الإقرار بالردة بعد البلوغ، فإنه يجبر على الإسلام، ولايقتل. فإن أقر بالإسلام بعد البلوغ ثم ارتد يقتل. (الدر المختار ورد المحتار: 335/3)
(7/502)
حكم بصحة ردته بانت منه امرأته، ولا تطبق عليه العقوبات المقررة للمرتد؛ لأنه ليس أهلاً لالتزام العقوبات في الدنيا.
وقال الشافعي وأبو يوسف: البلوغ شرط، فلا تصح ردة الصبي المميز، ولا المجنون لعدم تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما، أي لا يصح أيضاً عندهما إسلام الصبي، لحديث «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ ... » وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي أبي يوسف كما في الفتح وغيره.
وقال الجمهور غير الشافعية: يصح إسلام الصبي المميز لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة..» (1) .
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة» (2) . والخلاصة: أنه يصح إسلام المميز وردته عند الجمهور، ولا يصح إسلامه ولا ردته عند الشافعية.
وأرجح رأي الجمهور في قبول إسلام المميز بدليل إسلام سيدنا علي رضي الله عنه وهو صغير، والأولى الأخذ برأي الشافعي وأبي يوسف في عدم صحة ردة المميز؛ إذ لا تكليف قبل البلوغ.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ «ما من مولود إلا يولد ... » ورواه أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع بلفظ «كل مولود يولد ... » (جامع الأصول: 178/1، نيل الأوطار: 200/7، الجامع الصغير: 94/2) والفطرة: أنه يكون متهيئاً للإسلام.
(2) البدائع، مغني المحتاج، المرجعان السابقان، المغني، المرجع نفسه: ص 133، 135 وما بعدها، وأما حديث «من قال: لا إله إلا الله» فرواه البزار عن أبي سعيد الخدري، وهو حديث صحيح متواتر روي عن 34 صحابياً بلفظ «من شهد أن لا إله إلا الله، وجبت له الجنة» (النظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: ص 28، الجامع الصغير: 177/2، مجمع الزوائد: 81/10 وما بعدها) .
(7/503)
وأما الذكورة فليست بشرط اتفاقاً، فتصح ردة المرأة.
الشرط الثاني: الاختيار أو الطواعية: فلا تصح ردة المكره اتفاقاً إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، كما سبق ذكره في بحث الإكراه (1) .
أحكام المرتد: للمرتد أحكام منها:
1 - قتل المرتد:
لا يقتل المرتد إلا إذا كان بالغاً عاقلاً، لم يتب من ردته، وثبتت ردته بإقرار أو شهادة. وقد اتفق العلماء على وجوب قتل المرتد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» (2) وقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس،
__________
(1) المراجع السابقة، المغني: ص 145، غاية المنتهى: 353/3، 358.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عكرمة عن ابن عباس. وقد سبق تخريجه (راجع نيل الأوطار: 190/7) .
(7/504)
والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) . وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وكذا تقتل المرأة المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية، بدليل أن امرأة يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب، إن تابت وإلا قتلت» (2) وقد وقع في حديث معاذ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن، قال له: أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام، فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها» (3) . قال الحافظ ابن حجر: «وإسناده حسن، وهو نص في موضوع النزاع، فيجب المصير إليه» .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه (سبل السلام: 231/3، الإلمام: ص 443) .
(2) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر، وإسناده ضعيف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة (نيل الأوطار: 192/7، نصب الراية: 458/3، تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 49/4) .
(3) رواه الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل، قال الحافظ ابن حجر: وسنده حسن (نيل الأوطار: 193/7، نصب الراية: 457/3) .
(7/505)
وقال الحنفية: لا تقتل المرأة المرتدة، ولكنها تجبر على الإسلام، وإجبارها يكون بالحبس إلى أن تسلم أو تموت؛ لأنها ارتكبت جرماً عظيماً، وتضرب في كل ثلاثة أيام مبالغة في الحمل على الإسلام، ولو قتلها قاتل لا يجب عليه شيء للشبهة. ودليلهم على عدم جواز قتل المرأة المرتدة هو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة» وفي حديث صحيح آخر أن النبي عليه السلام نهى عن قتل النساء، ولأن القتل لدفع شر الحرابة لا بسبب الكفر، إذ جزاؤه أعظم من القتل عند الله تعالى، فيختص القتل لمن يتأتى منه المحاربة، وهو الرجل دون المرأة لعدم صلاحية بنيتها (1) .
أما الاستتابة قبل القتل: فيستحب عند الحنفية أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب؛ لأن دعوة الإسلام قد بلغته، فإن أسلم فمرحباً به، وإن أبى نظر الإمام في شأنه: فإن تأمل توبته أو طلب هو التأجيل أجله ثلاثة أيام، فإن لم يتأمل توبته، أو لم يطلب هو التأجيل، قتله في الحال، بدليل ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه: «أنه قدم على رجل من جيش المسلمين، فقال: هل عندكم من مُغربةِ خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه، فقتلناه، فقال عمر: هلا حبستموه في بيت ثلاثة أيام، وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً لعله يتوب، ثم قال: اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض» (2) ، إلا أن الكمال بن الهمام قال: لكن ظاهر تبري عمر يقتضي الوجوب.
__________
(1) راجع المبسوط: 98/10 وما بعدها، فتح القدير: 385/4 وما بعدها، البدائع: 134/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 384/3 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 312/3، 326.
(2) رواه مالك في الموطأ، والشافعي والبيهقي من طريقه عن محمد بن عبد الله بن عبد القادر، قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى.. الحديث (نصب الراية: 460/3، نيل الأوطار: 191/7) .
(7/506)
وكيفية توبة المرتد: أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه، لحصول المقصود به، وتكون توبة المرتد وكل كافر بإتيانه بالشهادتين (1) .
وقال جمهور العلماء: تجب استتابة المرتد والمرتدة قبل قتلهما ثلاث مرات، بدليل حديث أم مروان السابق ذكره، وثبت عن عمر وجوب الاستتابة، ولا يعارض هذا: النهي عن قتل النساء الذي استدل به الحنفية، لأن ذلك محمول على الحربيات، وهذا محمول على المرتدات (2) .
والخلاصة: أنه يعرض الإسلام استحباباً عند الحنفية (3) ، ووجوباً عند غيرهم على المرتد، فإن كانت له شبهة كشفت له، إذ الظاهر أنه لا يرتد إلا من له شبهة. ويحبس ثلاثة أيام ندباً عند الحنفية، ويعرض عليه الإسلام في كل يوم، فإن أسلم فبها، وإن لم يسلم قتل، لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (4) .
ولا يقتل المرتد إلا الإمام أو نائبه، فإن قتله أحد بلا إذنهما، أساء وعزر، ولكن لا ضمان بقتله ولو كان القتل قبل استتابته، أو كان مميزاً، إلا أن يلحق بدار الحرب فلكل أحد قتله وأخذ مامعه.
2 - حكم مال المرتد وتصرفاته:
لا خلاف في أن المرتد إذا أسلم تكون أمواله على حكم ملكه السابق، ولا خلاف أيضاً في أنه إذا مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب، تزول أمواله عن ملكه.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 149/4، غاية المنتهى: 360/3.
(2) بداية المجتهد: 448/2، الشرح الكبير للدردير: 304/4، مغني المحتاج: ص 139 وما بعدها، المغني: 124/8 وما بعدها، غاية المنتهى: 358/3.
(3) الكتاب مع اللباب: 148/4.
(4) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد سبق تخريجه.
(7/507)
واختلف في أن زوال ملكه عن أمواله بالموت أو القتل أو اللحاق بدار الحرب: هل من وقت الردة، أي بأثررجعي، أو عند حدوث هذه الأسباب؟
قال أبو حنيفة (وقوله هو الصحيح في مذهبه) ، والشافعي في أظهر أقواله الثلاثة، ومالك على الراجح في مذهبه، وظاهر كلام أحمد: تصبح أموال المرتد بمجرد الردة موقوفة، أي يحجر عليه بالارتداد إلى أن يتقرر مصيره، فإن أسلم تبينا بقاء ملكه، وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه، تبينا زوال ملكيته عن أمواله بمجرد ردته، وعند أبي حنيفة: ينتقل ماكان اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين؛ لأن ردته بمنزلة موته، فيتحقق شرط توريث المسلم من المسلم، ويصبح مااكتسبه في حال ردته فيئاً للمسلمين، فيوضع في بيت المال؛ لأن كسبه حال ردته كسب مباح الدم ليس فيه حق لأحد، فكان فيئاً كمال الحربي.
وكذلك تكون تصرفات المرتد حال ردته بالبيع والشراء والهبة والوصية ونحوها موقوفة عند أبي حنيفة: إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحاً، وإن قتل أو مات على ردته كان تصرفه باطلاً، إلا أن الشافعية قالوا: إذا كان التصرف يحتمل الوقف كالوصية فهو موقوف، وإن لم يحتمل الوقف كالبيع والهبة والرهن، كان التصرف باطلاً؛ لأنهم يقولون ببطلان وقف العقود.
(7/508)
ودليل الشافعية: أن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة، فيجب قتله، وكذا تزول عصمة ماله، لأنها تبع لعصمة النفس، فتزول ملكيته عن ماله، ولأنه معرض للقتل، والقتل يؤدي به إلى الموت، والموت تزول به الملكية، بأثر رجعي أي (مستند إلى الماضي) يمتد إلى السبب الذي أدى إلى الموت وهو الردة، غير أنه يدعى إلى الإسلام. ونظراً لاحتمال عودته إلى الإسلام نحكم بتوقف زوال ملكه في الحال، فإن أسلم تبين أن الردة لم تكن سبباً لزوال الملك، وإن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب، تبين أنها وقعت سبباً لزوال الملك من حين حدوثها، والحكم لا يتخلف عن سببه.
وقال الصاحبان، والحنابلة في الراجح عندهم: لا يزول ملك المرتد بمجرد ردته، وإنما يزول بالموت أو القتل، لأن تأثير الردة يظهر في إباحة دمه، لا في زوال ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص، ولأنه مكلف، فيكون كامل الأهلية، فيحكم ببقاء ملكه. وزوال العصمة عن النفس لا يلزم منه زوال الملك بدليل المحكوم عليه بالرجم ونحوه.
إلا أن الحنابلة قالوا: لو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، وإنما يباح قتله لكل واحد من غير استتابة، ويباح أخذ ماله لمن قدر عليه، لأنه صار حربياً، حكمه حكم الحربيين. وتصبح تصرفات المرتد حينئذ موقوفة. قال ابن مفلح الحنبلي في المبدع: تكون تصرفات المرتد من البيع والهبة والوقف ونحوه موقوفة على المذهب؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فكان التصرف فيه موقوفاً كتبرع المريض، والمذهب أنه يمنع من التصرف فيه. فإن أسلم ثبت ملكه وتصرفاته، وكان ذلك صحيحاً وإلا بطلت، أي إذا مات أو قتل في ردته، كان تصرفه باطلاً، تغليظاً عليه، بقطع ثوابه، بخلاف المريض.
(7/509)
أما الصاحبان فقالا: تزول ملكية المرتد عن أمواله بمجرد اللحاق بدار الحرب مثل الموت أو القتل، وتنتقل كل أمواله لورثته. وتعتبر تصرفات المرتد نافذة في أمواله، إلا أن أبا يوسف قال: تنفذ تصرفاته كتصرف الإنسان العادي الصحيح البدن؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى الإسلام، فيتخلص عن القتل. أما المريض: فلا يمكنه دفع المرض عن نفسه، فلا تشابه بينهما. وقال محمد: تنفذ تصرفاته كالمريض مرض الموت، أي لا تنفذ تبرعاته بالنسبة للورثة إلا في حدود الثلث؛ لأن المرتد معرض للموت بتنفيذ العقاب عليه وهو القتل، فأشبه المريض مرض الموت.
ويلاحظ أن خلاف أبي حنيفة مع صاحبيه هو في المرتد، أما المرتدة فلا يزول ملكها عن أموالها بلا خلاف عندهم، وتنفذ تصرفاتها في مالها؛ لأنها لا تقتل عندهم، فلم تكن ردتها سبباً لزوال ملكها عن أموالها، فتنفذ تصرفاتها (1) .
3 - حكم ميراث المرتد:
إذا مات المرتد أو قتل، فإنه يبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته وقريبه؛ لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها.
وما بقي من ماله يكون فيئاً لجماعة المسلمين يجعل في بيت المال، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» (3) .
__________
(1) راجع الموضوع في المبسوط: 101/10، الكتاب مع اللباب: 150/4 وما بعدها، البدائع: 136/7، فتح القدير: 390/4-397، تبيين الحقائق: 285/3، الدر المختار: 328/3، الشرح الكبير للدردير: 305/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 142/4 وما بعدها، المغني: 128/8 وما بعدها، غاية المنتهى: 361/3، المبدع شرح المقنع لابن مفلح المؤرخ الحنبلي: (916 -984 هـ) طبع المكتب الإسلامي بدمشق.
(2) الشرح الكبير للدردير: ص 304، مغني المحتاج، المغني، المراجع السابقة.
(3) رواه أحمد في مسنده وأصحاب الكتب الستة عن أسامة بن زيد، وهو حديث صحيح (تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 84/3، سبل السلام: 98/3، الإلمام: ص 388) .
(7/510)
وقال أبو حنيفة: إذا مات المرتد أو قتل، أو لحق بدار الحرب، وترك ماله في دار الإسلام، انتقل ما اكتسبه في الإسلام إلى ورثته، وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً يوضع في بيت مال المسلمين؛ لأن الإرث له أثر رجعي يمتد إلى الماضي، فما اكتسبه في حال إسلامه يورث لوجود الكسب قبل الردة، فيكون للإرث أثر رجعي بالنسبة إليه، فيتم شرط توريث المسلم من المسلم، وما اكتسبه حال ردته يكون فيئاً؛ لأنه زال ملكه بالردة، فكان الكسب لا مالك له، فلا يورث، إذ لا يمكن هنا أن يكون للإرث أثر رجعي بالنسبة لكسب الردة، لعدم الكسب قبل الردة.
وقال الصاحبان: كل مال للمرتد يملكه ورثته، سواء أكان الكسب قبل الردة أم بعدها؛ لأن القاعدة عندهما أن المرتد لا تزول ملكيته عن أمواله، وإنما ملكه باق له؛ لأنه كما عرفنا أهل للملك، وإذا ثبت ملكه فتنتقل أمواله إلى ورثته بالموت أو ما في معناه، ويعتبر للتوريث أثر رجعي إلى ما قبيل ردته، فيجعل كأنه اكتسبه في حال الإسلام، فورثه ورثته منه حال الإسلام، فينطبق شرط توريث المسلم من المسلم.
ثم اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في أهلية الوراثة: هل يعتبر حال الوارث إسلاماً وغيره وقت الردة أو وقت الموت؟
قال الصاحبان: تعتبر أهلية الوراثة وقت الموت أو القتل؛ لأن ملك المرتد يزول عندهما بالموت أو ما في معناه، فإن كان الوارث مسلماً حراً يرث، وإلا فلا.
وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية: يعتبر حال الردة فقط، فلو كان حينئذ أهلاً للإرث ورث، وإن زالت أهليته بعدئذ.
(7/511)
وفي رواية: يعتبر حال الردة مع الدوام على الأهلية إلى وقت الموت أو القتل، فمن كان وارثاً حال الردة، بأن كان حراً مسلماً، وبقي كذلك إلى وقت الموت أو اللحاق بدار الحرب، فإنه هو الذي يرث. والأصح كما قال في المبسوط هو اعتبار حال الوارث عند الموت أو القتل، أوالحكم باللحاق بدار الحرب؛ لأن الحادث بعد انعقاد سبب الملكية ولكن قبل تمام السبب كالحادث عند وجود أصل السبب، فمثلاً إن الزيادة المتولدة من المبيع كالولد، والثمرة قبل قبض المشتري للمبيع، تعتبر ملحقة بالمبيع، فتصير معقوداً عليها، وكأنها موجودة عند ابتداء العقد، ويعتبر الثمن موزعاً على الأصل وعلى الزيادة معاً (1) .
وإن لحق المرتد بدار الحرب، وحكم القاضي بلحاقه، حلت ديونه المؤجلة التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام عند الحنفية إلى ورثته المسلمين.
هل يشترط قضاء القاضي بلحاق المرتد بدار الحرب؟
فيه عند الحنفية روايتان: في رواية: أنه لا بد لاستقرار لحاقه بدار الحرب من قضاء القاضي لاحتمال عودته إلى دار الإسلام. وظاهر الرواية: أنه لا يحتاج للقضاء.
إلا أن الصاحبين ـ في حالة القضاء باللحاق ـ اختلفا في أهلية الوراثة باللحاق بدار الحرب: هل تعتبر الأهلية وقت القضاء باللحاق أو وقت اللحاق؟
عند أبي يوسف: يعتبر وقت القضاء؛ لأن الملك لا يزول إلا بالقضاء، ومجرد اللحاق يعتبر غيبة. وهذا هو الأرجح.
وعند محمد: يعتبر وقت اللحاق؛ لأن اللحاق هو سبب زوال الملك، فالملك يزول به، والقضاء إنما يكون لتقرر اللحاق بإزالة احتمال عودة المرتد إلينا.
__________
(1) المبسوط: ص 102، فتح القدير: ص 391، تبيين الحقائق: ص 286، البدائع: ص 138، الدر المختار: ص 328 وما بعدها، المراجع السابقة.
(7/512)
وإذا افترضنا أن المرتد بعد لحاقه بدار الحرب، عاد مسلماً إلى دار الإسلام: فإن كان قبل قضاء القاضي بلحاقه، فماله على حاله، وإن كان بعد القضاء، فما وجد من ماله في يد وارثه فهو أحق به، ويأخذه منه بطريق القضاء؛ لأن حكم القاضي باللحاق صير المال ملكاً لورثة المرتد، فلا يعود الملك له إلا بالقضاء أو بالتراضي.
وإذا كان المال قد خرج عن ملك الوارث بالتمليك، أو بالاستهلاك، فلا يحق للمرتد الرجوع على وارثه بذلك (1) .
أما ديون المرتد: فتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته يقضى مما اكتسبه في حال ردته. وهذه رواية عن أبي حنيفة، وقول زفر.
__________
(1) المراجع السابقة، الدر المختار: ص 331، فتح القدير: ص 394، تبيين الحقائق: 288، البدائع: ص 138، المبسوط: ص 103.
(7/513)
البَابُ الثّاني: التَّعزِير
بعد انتهاء الكلام عن الحدود: وهي العقوبات المقدرة في الشرع، أبيِّن عقوبات الجرائم التي ليس لها حد مقدر شرعاً: وهوما يعرف بالتعزير، وأتكلم عنه بإيجاز عن تعريفه، وشروط وجوبه، وقدره وصفته، وطرق إثبات موجبه، وضمان موت المعزر (1) .
تعريف التعزير وموجبه ومنفِّذه وكيفيته:
الأصل في التعزير لغة: المنع، ومنه التعزير بمعنى النصرة؛ لأنه منع لعدوه من أذاه، ثم اشتهر معنى التعزير في التأديب والإهانة دون الحد؛ لأنه يمنع الجاني من معاودة الذنب. وهوشرعاً: العقوبة المشروعة على معصية أو جناية لا حد فيها، ولا كفارة (2) ، سواء أكانت الجناية على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر (3) ، وترك الصلاة في رأي الجمهور، والربا، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس ونحوها، أم على حق العباد كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما دون النصاب، أو السرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة والرشوة، أو القذف بغير الزنى من أنواع السب والضرب والإيذاء بأي وجه، مثل أن يقول الرجل لآخر: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، ونحوها. سئل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن التعزير، وليس فيهن حد.
ومن موجبات التعزير: الجناية التي لا قصاص فيها، أو وطء الزوجة في الدبر، أو أثناء الحيض، أو النهب أو الغصب أو الاختلاس.
ولو قال شخص لآخر: يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا ثور، لا يعزر في أصل مذهب الحنفية؛ لأنه قذفه بما لا يتصور، فيرجع عار الكذب إليه. وبعضهم
__________
(1) من أراد التفصيل فليرجع إلى رسالة الدكتوراه للزميل عبد العزيز عامر وموضوعها: «التعزير في الشريعة الإسلامية» طبعة البابي الحلبي.
(2) إن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحد ولا كفارة فيه، كالسرقة والشرب والزنا والقذف، فالحد فيه مغن عن التعزير. ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه، كالوطء في نهار رمضان عند الشافعية والحنابلة بعكس الحنفية والمالكية، والوطء في الإحرام. ونوع ثالث لا حد فيه ولا كفارة: مثل قبلة الأجنبية والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك، وهذا النوع فيه التعزير، ولا يجوز للإمام تركه في قول الجمهور كما بينا، وقال الشافعي: إنه راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه، كما يرجع إلى اجتهاده في قدره (أعلام الموقعين: 99/2) .
(3) ذكر الحنابلة أنه يعزر بعشرين سوطاً لشرب مسكر نهار رمضان مع الحد (غاية المنتهى: 333/3) .
(7/514)
قال: يعزر في عرفنا، وهذا هو المناسب لعصرنا، إذا كان مثله يتأذى بذلك، ويعزره القاضي بناء على طلب المشتوم، ويؤيد هذا الاتجاه (1) أن الشافعية قالوا: من الألفاظ الموجبة للتعزير قوله لغيره: يا فاسق، يا كافر، يا فاجر، يا شقي، يا كلب، يا حمار، يا تيس، يا رافضي، يا خبيث، يا كذاب، يا خائن، يا قواد، يا ديوث (2) .
ويقوم بالتعزير ولي الأمر أو نائبه. ويكون التعزير إما بالضرب، أو بالحبس أو بالتوبيخ، ونحوها بحسب ما يراه ولي الأمر رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس.
متى يشرع الحبس؟
قال جماعة من الفقهاء بمشروعية الحبس، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة، ثم خلى عنه (3) ، وهذا هو الحبس الاحتياطي. وقال عليه السلام: «لي الواجد يُحلَّ عِرْضه وعقوبته» (4) . وثبت أن عمر بن الخطاب كان له سجن، وتبعه في ذلك عثمان، وعلي رضي الله عنهم. واستدل الحنفية على مشروعية الحبس بقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة:5/33] قالوا: والمقصود من النفي هو الحبس (5) .
__________
(1) البحر الرائق: 240/8.
(2) تكملة المجموع: 361/18.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن بهز بن حكيم. والتهمة: الظن بما نسب إلى إنسان (نيل الأوطار: 150/7) .
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الشريد. واللي: المطل، والواجد: الغني، يحل: يجوز وصفه بكونه ظالماً، وعرضه: شكايته، وعقوبته: حبس. وقد استدل بالحديث على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه إذا كان قادراً على القضاء تأديباً له وتشديداً عليه، لا إذا لم يكن قادراً (نيل الأوطار: 240/5) .
(5) تبيين الحقائق: 208/3، أحكام القرآن للجصاص: 412/2، المغني: 328/9.
(7/515)
ويشرع الحبس في ثمانية مواضع، كما أبان القرافي المالكي (1) :
الأول ـ يحبس الجاني لغيبة المجني عليه، حفظاَ لمحل القصاص.
الثاني ـ حبس الآبق سنة، حفظاً للمالية رجاء أن يعرف صاحبه.
الثالث ـ يحبس الممتنع عن دفع الحق إلجاء إليه.
الرابع ـ يحبس من أشكال أمره في العسر واليسر، اختباراً لحاله، فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسراً أو يسراً.
الخامس ـ الحبس للجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله تعالى.
السادس ـ يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي لا تدخله النيابة، من حقوق العباد، كحبس من أسلم متزوجاً بأختين أو عشر نسوة، أو امرأة وابنتها، وامتنع من تعيين واحدة.
السابع ـ من أقر بمجهول، عيناً أو في الذمة، وامتنع من تعيينه، فيحبس حتى يعينه، فيقول: العين هو هذا الثوب أو هذه الدابة ونحوها، أو الشيء الذي أقرت به هو دينار في ذمتي.
الثامن ـ يحبس الممتنع في حق الله تعالى الذي لا تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم. وعند المالكية: يقتل كالصلاة.
قال القرافي: وما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه، ولا يجوز الحبس ي الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه، فإن امتنع المدين من دفع الدين، وعرف ماله، أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله، أو داره، أو شيء يباع له في الدين، رهناً كان أو غيره، فعلنا ذك ولا نحبسه؛ لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم.
__________
(1) الفروق: 79/4، الاعتصام: 120/2، وانظر الطرق الحكمية لابن القيم: ص 101 ومابعدها.
(7/516)
التعزير بالقتل سياسة:
أجاز الحنفية والمالكية (1) : أن تكون عقوبة التعزير كما في حال التكرار (العود) أو اعتياد الإجرام، أو المواقعة في الدبر (اللواطة) ، أو القتل بالمثقل عند الحنفية: هي القتل، ويسمونه القتل سياسة، أي إذا رأى الحاكم المصلحة فيه، وكان جنس الجريمة يوجب القتل.
وقد أفتى أكثر فقهاء الحنفية بناء عليه بقتل من أكثر من سب النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل الذمة، وإن أسلم بعد أخذه، وقالوا: يقتل سياسة. وأجمع العلماء كما قال القاضي عياض في الشفا على وجوب قتل المسلم إذا سب النبي صلّى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} [الأحزاب:57/33] .
وقالوا أيضاً: إن للإمام قتل السارق سياسة إذا تكررت منه جريمة السرقة، وله قتل من تكرر منه الخنق في ضمن المصر، لسعيه بالفساد في الأرض، ومثله كل من لا يدفع شره إلا بالقتل يقتل سياسة. وذكلك يقتل الساحر عند أكثر العلماء، والزنديق الداعي إلى زندقته، إذا قبض عليه، ولو تاب. وقد روى الترمذي عن جندب موقوفاً ومرفوعاً: «أن حد الساحر ضربه بالسيف» .
وأجاز المالكية والحنابلة وغيرهم (2) قتل الجاسوس المسلم، إذا تجسس للعدو على المسلمين. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي هذا القتل. وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة.
واتفق الفقهاء على أنه يقتل الجاسوس الحربي الكافر، وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف، وقد ورد في السنة ما يدل على جواز قتل الجاسوس إذا كان مستأمناً أو ذمياً، قال سلمة بن الأكوع: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 196/3، الشرح الكبير للدردير: 355/4.
(2) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 114، الحسبة لابن تيمية: ص 48، غاية المنتهى: 334/3، المهذب: 242/2.
(7/517)
عَيْن، وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث، ثم انسل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اطلبوه فاقتلواه، فسبقتهم إليه، فقتلته، فنفلني سلبه» (1) .
ومن لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قُتل، مثل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى البدع في الدين، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً} [المائدة:32/5] وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» ، وروى مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعي رضي الله عنه: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» . وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتل رجل تعمد عليه الكذب، وسأله ديلم الحميري ـ فيما يرويه أحمد في المسند ـ عمن لم ينته عن شرب الخمر في المرة الرابعة، فقال: «فإن لم يتركوه فاقتلوهم» .
والخلاصة: أنه يجوز القتل سياسة لمعتادي الإجرام ومدمني الخمر ودعاة الفساد ومجرمي أمن الدولة، ونحوهم.
التعزير بالمال: لا يجوز التعزير بأخذ المال في الراجح عند الأئمة (2) لما فيه م تسليط الظلمة على أخذ مال الناس، فيأكلونه. وأثبت ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي، كما دلت عليه سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثل أمره بمضاعفة غرم ما لا قطع فيه من الثمر المعلَّق والكثَر (جمّار النخل) ، وأخذه شطر مال مانع الزكاة، عزمة مات الرب تبارك وتعالى، ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر، ونحوه كثير. ومن قال كالنووي وغيره: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط في نقل مذاهب
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن سلمة (نيل الأوطار: 7/7) .
(2) البدائع: 63/7، فتح القدير: 212/4، تبيين الحقائق: 207/3، حاشية ابن عابدين: 195/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 191/4، المهذب: ص 288، حاشية الدسوقي: 354/4، المغني: 324/8، أعلام الموقعين: 99/2، الاعتصام للشاطبي: 123/2 ومابعدها، ط السعادة.
(7/518)
الأئمة والاستدلال عليها (1) .
معنى التعزير بأخذ المال:
روي عن أبي يوسف: أنه يجوز للسلطان التعزير بأخذ المال. ومعنى التعزير بأخذ المال على القول عند من يجيزه: هو إمساك شيء من مال الجاني عنه مدة، لينزجر عما اقترفه، ثم يعيده الحاكم إليه، لا أن يأخذه الحاكم لنفسه، أو لبيت المال، كما يتوهم الظلمة؛ إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي.
قال ابن عابدين: وأرى أن يأخذ الحاكم مال الجاني، فيمسكه عنده، فإن أيس من توبته، يصرفه إلى ما يرى من المصلحة.
وأما مصاردة السلطان لأرباب الأموال فلا تجوز إلا لعمال بيت المال، على أن يردها لبيت المال (2) . وصادر عمر طعاماً من سائل وجده أكثر من كفايته، وتصادر الأموال من كسب غير مشروع.
أقسام العقوبات المالية عند ابن تيمية:
تقسم العقوبات المالية في رأي ابن تيمية إلى ثلاثة أقسام: الإتلاف، والتغيير، والتمليك (3) .
1 ً - الإتلاف: هو إتلاف محل المنكرات من الأعيان والصفات تبعاً لها، مثل إتلاف مادة الأصنام، بتكسيرها وتحريقها، وتحطيم آلات الملاهي عند أكثر الفقهاء، وتكسير وتخريق أوعية الخمر، وتحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر، على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرها، عملاً بما فعله عمر من تحريق حانوت خمار، وبما فعله علي من تحريق قرية كما يباع فيها الخمر؛ لأن مكان البيع مثل الأوعية.
__________
(1) راجع شرح مسلم للنووي: 218/12، الحسبة في الإسلام لابن تيمية: ص 49 وما بعدها، أعلام الموقعين: 98/2 والطرق الحكمية لابن قيم: ص 266 ومابعدها، وانظر التعزير في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد العزيز عامر: ص 32 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين: 195/3 ومابعدها.
(3) الحسبة لابن تيمية: ص 52 وما بعدها.
(7/519)
ومثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع، وبه أفتى طائفة من الفقهاء. ومثله إتلاف المغشوشات في الصناعات كالثياب الرديئة النسج.
2 ً - التغيير: قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشيء، مثل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين (1) ، كالدراهم والدنانير، إلا إذا كان بها بأس، فإذا كان بها بأس كسرت.
ومثل فعل النبي عليه السلام في التمثال الذي كان في بيته، والستر الذي به تماثيل، إذ أمر بقطع رأس التمثال فصار كهيئة الشجرة، وبقطع الستر، فصار وسادتين يوطآن.
وهكذا اتفق العلماء على إزالة وتغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم، مثل تفكيك آلات الملاهي، وتغيير الصورة المصورة.
لكن العلماء اختلفوا في جواز إتلاف محل هذه الأشياء تبعاً للشيء الحال فيها، قال ابن تيمية: والصواب جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد وغيرهما.
3 ً - التمليك: مثل ما روى أبو داود وغيره من أهل السنن عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثمر المعلق، قبل أن يؤويه إلى الجرين، أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين. وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح أن عليه جلدات نكال، وغرمه مرتين، وكذلك قضاء عمر بن الخطاب في الضالة المكتومة: أن يضعف غرمها على كاتمها.
وقال بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد وغيره.
وأضعف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع، أضعف الغرم على سيدهم ودرأ عنه القطع.
وأضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمي عمداً، أضعف عليه الدية، فتجب عليه الدية الكاملة، إذ إن دية الذمي نصف دية المسلم. وأخذ به أحمد بن حنبل.
__________
(1) رواه أبو داود عن عبد الله بن عمر.
(7/520)
وأجاز المالكية (1) العقوبة في المال إذا كانت جناية الجاني في نفس ذلك لمال أو
في عوضه، فيتصدق بالزعفران المغشوش على المساكين، وإذا اشترى مسلم من نصراني خمراً، فإنه يكسر وعاؤه على المسلم، ويتصدق بالثمن، تأديباً للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه.
نوعا التغريم من حيث الضبط وعدمه:
تغريم المال أو العقوبات المالية كما أبان ابن القيم (2) نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط. فالمضبوط: ما قابل الشيء المتلف، إما لحق الله تعالى كإتلاف الصيد في الإحرام، أو لحق الآدمي كإتلاف ماله. وقد نبه الله سبحانه وتعالى على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله: {ليذوق وبال أمره} [المائدة:95/5] . ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه، وعقوبة الموصى له ببطلان وصيته، وعقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها.
وغير المضبوط: هو غير المقدر المتروك لاجتهاد الأئمة بحسب المصالح. ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام، وقدر محدد كالحدود. وقد اختلف فيه الفقهاء: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة.
شروط وجوب التعزير:
يشترط العقل فقط لوجوب التعزير بارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع، فيعزر كل عاقل، ذكر أو أنثى، مسلماً أو كافراً، بالغاً أو صبياً عاقلاً؛ لأن هؤلاء غير الصبي من أهل العقوبة، أما الصبي فيعزر تأديباً لا عقوبة (3) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي: 124/2.
(2) أعلام الموقعين: 98/2.
(3) البدائع: 63/7.
(7/521)
وضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (1) .
قدر التعزير:
يكون التعزيرعلى قدر الجناية، وعلى قدر مراتب الجاني بحسب اجتهاد الحاكم إما بالتغليظ في القول أي الكهر، أو بالحبس، أو بالضرب، أو بالصفع، أو بالقتل، كما في الجماع في غير القبل عند المالكية (2) ، أو بالعزل من الولاية، وبإقامته من المجلس، وبالنيل من عرضه مثل: يا ظالم، يا معتدي، ولا بأس بتسويد وجهه، ونداء عليه بذنبه، ويطاف به مع ضربه، ويجوز صلبه، ولايمنع من أكل ووضوء، ويصلي بالإيماء ولا يعيد. وحرم تعزير بحلق لحية، وقطع طرف، وجرح، وكذا بأخذ مال وإتلافه عند الحنابلة. وتعزر تعزيراً بليغاً القوادة التي تفسد النساء والرجال، وينبغي شهر ذلك بحيث يستفيض في الناس.
وأقل التعزير في الضرب: ثلاثة أسواط فصاعداً، ويمكن أن يكون أقل من ثلاثة بحسب الأشخاص، فليس لأقل التعزير حد معين. واختلف العلماء في أقصاه: فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود المشروعة، فينقص منه سوط، وأدنى الحدود عند الشافعية بالنسبة للأحرار هو أربعون جلدة وهو حد الخمر، وعند الآخرين هو بالنسبة للماليك: وهو أربعون جلدة، وهو حد القذف للعبيد، لقوله عليه السلام: «من بلغ حداً في غير
__________
(1) رد المحتار: 199/3، 203، 206. تكملة المجموع: 357/18.
(2) القوانين الفقهية لابن جزي: ص 358.
(7/522)
حد فهو من المعتدين» (1) ، ولأن العقوبة على قدر الإجرام والمعصية، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها، فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأموين عقوبة أعظمهما.
وقال أبو يوسف: لا يبلغ الحد ثمانين، وينقص منه خمسة أسواط؛ لأنه حمل الحد المذكور في الحديث السابق: «من بلغ حداً ... » على الأحرار؛ لأن الأحرار هم المقصودون في الخطاب، وغيرهم ملحق بهم (2) . وقد أخذ برأي الإمام علي في أنه ينقص عن الثمانين جلدة خمسة أسواط.
وقال المالكية: يضرب الإمام في التعزير أي عدد أداه إليه اجتهاده، حتى ولو تجاوز أعلى الحدود، فيجوز العزير بمثل الحدود وأقل وأكثر على حسب الاجتهاد؛ لما روي أن معن بن أوس عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال، فأخذ منه مالاً، فبلغ عمر رضي الله عنه، فضربه مائة وحبسه، فكلم فيه، فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه ونفاه (3) . وكان جلد عمر لمعن على عدة جنايات: وهي تزويره الخاتم، وأخذ المال من بيت المال، وفتحه باب الاحتيال لغيره من الناس. ويؤيد رأي المالكية أيضاً ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه جلد من وجد مع امرأة من غير زنا مائة سوط إلا سوطين.
__________
(1) رواه البيهقي عن النعمان بن بشير، وقال: المحفوظ المرسل، ورواه ابن ناجيه في فوائده، ورواه محمد بن الحسن مرسلاً، ورواه الطبراني بلفظ: «من جلد حداً ... » قال الهيثمي: وفيه محمد بن الحسين القصاص والوليد بن عثمان خال مسعر، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات (راجع نصب الراية: 354/3، مجمع الزوائد: 281/6) .
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 64، فتح القدير: 214/4، تبيين الحقائق: 209/3، حاشية ابن عابدين: 190/3، 198 ومابعدها، 204 وما بعدها، تكملة المجموع: 357/18، المهذب: 288/2، المغني: 324/8، غاية المنتهى: 333/3، 335، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 112، الطرق الحكمية: ص 265، نهاية المحتاج: 175/7، مغني المحتاج: 193/4.
(3) حاشية الدسوقي: 355/4، القوانين الفقهية: ص 358، وقصة معن ذكرها ابن قدامة في المغني: 325/8.
(7/523)
صفات التعزير:
للتعزير صفات (1) أولها ـ أنه عند المالكية والحنابلة: حق واجب لله تعالى إذا رآه الإمام، فلا يجوز للحاكم في الجملة ترك التعزير؛ لأنه زاجر مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد.
وعند الشافعية: ليس التعزير واجباً، فيجوز للسلطان تركه إذا لم يتعلق به حق لآدمي، فهم كالحنفية، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (2) ، ولأن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها، فقال: «أصليت معنا؟!» قال: نعم، فتلا عليه: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/11] (3) . وقال رجل للرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله» (4) ، فلم يعزره، فلو لم يجز
__________
(1) المغني: 326/8، غاية المنتهى: 333/3، البدائع: 64/7، حاشية ابن عابدين: 204/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 193/4، قواعد الأحكام: 158/1، المهذب: 288/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي عن عائشة، وقال العقيلي: له طرق وليس فيها شيء يثبت، وذكره ابن طاهر عن أنس، وقال: الإسناد باطل، ورواه الشافعي وابن حبان وصححه وابن عدي والبيهقي من حديث عائشة بلفظ: «أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم» وقال الشافعي: «سمعت من أهل العلم من يعرف هذا الحديث، ويقول: يتجافى للرجل ذي الهيئة عن عثرته، مالم يكن حداً» وقال في تفسير الهيئة: من لم تظهر منه ريبة. ورواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات بلفظ: «أقيلوا الكرام عثراتهم» وروي في معناه عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس (راجع التلخيص الحبير: ص 361، جامع الأصول: 344/4، مجمع الزوائد: 282/6، نيل الأوطار: 135/7) .
(3) رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك، ولأحمد ومسلم من حديث أبي أمامة نحوه، وفي موضوعه عن ابن مسعود عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي (راجع نيل الأوطار: 100/7، أعلام الموقعين: 78/2) .
(4) وذلك حينما آثر الرسول رجالاً هم المؤلفة قلوبهم وهم ناس من قريش، أسلموا يوم الفتح إسلاماً ضعيفاً، فقال رجل اسمه: «معتِّب بن قشير من بني عمرو بن عوف» وكان من المنافقين: «والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله» . رواه أحمد والشيخان عن ابن مسعود (راجع نيل الأوطار: 290/7 وما بعدها) .
(7/524)
ترك التعزير، لعزره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قال، ويؤيده قصة أخرى رواها عبد الله ابن الزبير: أن رجلاً خاصم الزبير عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شراج الحرة (1) الذي يسقون به النخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير: اسق أرضك الماء، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: ىا رسول الله، وأن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير، اسق أرضك الماء، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: فوالله، إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء:65/4] ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قال (2) . والخلاصة: أنه إذا كان التعزير حقاً لله كما في حالة انتهاك الحرمات الدينية فلا يجب تنفيذه، أما إن كان حقاً للعبد ولم يعف عنه مستحقه، فهو واجب التنفيذ.
وأما الحنفية فقالوا: إن التعزير إذا كان حقاً شخصياً لإنسان، فهو واجب لا عفو فيه؛ لأن حقوق العباد ليس للقاضي إسقاطها، وإن كان حقاً لله تعالى فهو مفوض إلى رأي الإمام: إن ظهر له المصلحة فيه أقامه، وإن ظهر عدم المصلحة، أو علم انزجار الجاني بدونه، يتركه أي أن العفو فيه للإمام. وعبارة الكمال بن الهمام فيه هي: «ما وجب من التعزير حقاً لله تعالى يجب على الإمام، ولا يحل له تركه إلا فيما علم أنه انزجر الفاعل قبل ذلك» (3) .
__________
(1) شراج الحرة: هي مسايل الماء من بين الحجارة إلى السهل.
(2) متفق عليه بين الشيخين وغيرهما.
(3) راجع فتح القدير: 212/4-213، حاشية ابن عابدين: 205/3.
(7/525)
ويترتب على أن التعزير حق العبد عند الشافعية: أنه يحتمل العفو والصلح والإبراء؛ وأنه يورث كالقصاص وغيره من سائرحقوق العباد؛ وأنه لا يتداخل؛ لأن حقوق العبد لا تحتمل التداخل.
ويؤخذ فيه الكفالة؛ لأن التكفيل للتوثيق والتعزير حق العبد، فكان التوثيق ملائماً له، بخلاف الحدود على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ثاني الصفات: أن التعزير أشد الضرب؛ لأنه جرى فيه التخفيف من حيث العدد، فلا يخفف من حيث الوصف، كيلا يؤدي إلى فوات المقصود منه وهو الزجر، ثم يليه حد الزنى ثم حد الشرب، ثم حد القذف (1) كما سبق بيانه.
طرق إثبات جريمة التعزير:
تثبت جريمة التعزير عند الحنفية بماتثبت به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة، والنكول، وعلم القاضي، وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي. وسيأتي في بحث القضاء أن المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي في الحوادث مطلقاً في زماننا، منعاً للتهمة، وسداً للباب بسبب فساد قضاة الزمان.
وروي عن أبي حنيفة أنه لا تقبل فيه شهادة النساء. قال الكاساني: والصحيح هو الأول؛ لأنه حق العبد على الخلوص، فيظهر بما يظهر به حقوق العباد (2) .
ضمان موت المعزر أو المحدود:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: إذا عزر الإمام رجلاً، أو حدَّه فمات من التعزير أو الحد، فلا ضمان عليه؛ لأن التعزير عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم
__________
(1) فتح القدير: 216/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 210/3، حاشية ابن عابدين: 199/3.
(2) البدائع: 65/7، حاشية ابن عابدين: 205/3.
(7/526)
يضمن من تلف بها كالحد، ولأن الإمام مأمور بالحد والتعزير، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة (1) .
وقال الشافعي: لا يجب على الإمام ضمان موت المحدود؛ لأن الحق قتله، سواء في ذلك الجلد والقطع، وسواء جلده في حر وبرد مفرطين أم لا، وسواء أكان الجلد في مرض يرجى برؤه أم لا، إلا أن تكون المرأة حاملاً، فيموت الجنين، فيجب الضمان؛ لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره. ويجب ضمان موت المعزَّر، لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: «ما من رجل أقمت عليه حداً، فمات، فأجد في نفسي أنه لا دية عليه، إلا شارب الخمر، فإنه لو مات وديته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسنَّه» (2) ، أي لم يسن مقداراً معيناً في جلد شارب الخمر، وإنما فعل أفعالاً مختلفة يجوز جميعها، ومنها: أنه عليه السلام حد في الخمر أربعين كما روى علي نفسه (3) ، وهذا أمر متفق عليه، والخلاف بين الفقهاء إنما هو في الزيادة على الأربعين، فليس المراد إذن من حديث علي أن الشخص مات من الحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حد في الخمر، كما ذكرت، فثبت أنه أراد بقوله: «لو مات وديته» أي من
__________
(1) فتح القدير: 217/4، تبيين الحقائق: 211/3، مجمع الضمانات: ص 201، حاشية ابن عابدين: 208/3، حاشية الدسوقي: 355/4، المغني: 310/8 وما بعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه وفي روايتهما قال: «لا أدي ـ أي لا أعطي ديته ـ أو ما كنت أدي من أقمت عليه الحد إلا شارب الخمر، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يسن فيه شيئاً، وإنما هو شيء قلناه نحن» ومعنى «لم يسنه» : لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه، ففيه دليل على أن الخمر لم يكن فيه حد محدود من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو من باب التعزيرات، فإن مات ضمنه الإمام. (راجع جامع الأصول: 337/4، نصب الراية: 352/3، سبل السلام: 38/4، نيل الأوطار: 143/7) .
(3) رواه مسلم في قصة الوليد بن عقبة الذي شهد عليه رجل أنه رآه يتقيأ الخمر، فأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بجلده، كما روى حصين بن المنذر، وعلي يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال: «جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلى» (راجع التلخيص الحبير: ص 360، سبل السلام: 30/4، نيل الأوطار: 138/7) .
(7/527)
الزيادة على الأربعين، وهذا تعزير، ولأن التعزير ضرب جعل إلى اجتهاد الإمام، فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته، إذ أن التعزير مشروط بسلامة العاقبة، باعتبار أن المقصود هو التأديب لا الهلاك، فإذا حصل به هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع. والهلاك الحاصل إن كان بضرب يقتل غالباً، فيجب فيه القصاص إذا لم يكن الضارب أصلاً (أباً أو جداً) للمضروب. وإن لم يكن الضرب قاتلاً في الغالب، فيجب دية شبه العمد على العاقلة (العصبات) .
(7/528)
حق التأديب:
وأما إذا ضرب الأب ولده تأديباً، أو ضرب الزوج زوجته، أو المعلم إذا ضرب الصبي تأديباً، فتلف من التأديب المشروع، فإن أبا حنيفة والشافعي قالا في هذه الحالات: إنه يجب الضمان، ودليلهما عرفناه في الحالة السابقة، ولأنه تأديب مباح، فيتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق ونحوه. وقال مالك وأحمد والصاحبان: لا ضمان عليه في هذه الحالات؛ لأن التأديب فعل مشروع للزجر والردع، فلا يضمن التالف به كما في الحدود (1) .
التعزير للإمام: التعزير كالحدود منوط بالإمام، وليس لأحد حق التعزير إلا لثلاثة: الأب، والسيد، والزوج.
أما الأب: فله تأديب ولده الصغير وتعزيره للتعلم والتخلق بالأخلاق الفاضلة وزجره عن سيئها، وللأمر بالصلاة والضرب عليها عند الاقتضاء. والأم مثل الأب في أثناء الحضانة والكفالة، وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيهاً.
والسيد: يعزر رقيقه في حق نفسه وفي حق الله تعالى.
والزوج: له تعزير زوجته في أمر النشوز وأداء حق الله تعالى كإقامة الصلاة وصيام رمضان بما يراه مناسباً في إصلاح زوجته من زجر؛ لأن كل هذا من باب إنكار المنكر، والزوج من جملة المكلفين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) .
__________
(1) راجع المهذب: 271/2، 289، نيل الأوطار: 140/7-145، الميزان: 172/2، مغني المحتاج: 191/4، 199 ومابعدها، المبسوط: 13/16، الدرا لمختار: 401/5، درر الحكام: 77/2، المغني: 327/8، غاية المنتهى: 285/3، رحمة الأمة بهامش الميزان: 160/2.
(2) سبل السلام: 38/4، المهذب: 275/2.
(7/529)
البَابُ الثَّالث: الجنايات وعقوباتها: القصاص والدّيات
خطة البحث:
الكلام عن الجنايات طويل ذو فروع متعددة وتفصيلات متشعبة، ويمكن ضبطه والإحاطة به على وفق الخطة التالية في فصول خمسة:
الفصل الأول ـ الجناية على النفس (القتل بأنواعه وعقوبة القصاص والدية) .
الفصل الثاني ـ الجناية على ما دون النفس (الشجاج والجراح والدية والأرش) .
الفصل الثالث ـ الجناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين أو الإجهاض) .
الفصل الرابع ـ حالات طارئة من الاعتداء بطريق التسبب (جناية الحيوان، وجناية الحائط المائل) .
الفصل الخامس ـ طرق إثبات الجناية (الشهادة، الإقرار، القسامة ... إلخ) .
تمهيد:
تعريف الجناية: الجناية أو الجريمة لغة: هي الذنب أو المعصية، أو كل مايجنيه المرء من شر اكتسبه. ولها في الشرع معنى عام وخاص. أما الأول فالجناية: هي كل فعل محرَّم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أو غيرهما (1) . وعرفها الماوردي (2) بقوله: الجرائم: محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير. والمحظور: إما إتيان منهي عنه، أو ترك مأمور به.
وأما المعنى الثاني فهو اصطلاح خاص للفقهاء، وهو إطلاق الجناية على الاعتداء الواقع على نفس الإنسان أو أعضائه. وهو القتل والجرح والضرب (3) . ويبحثه الفقهاء إما تحت عنوان «كتاب الجنايات» كالحنفية، أو «كتاب الجراح» كالشافعية والحنابلة الذين اعتبروا الجراحة هي السبب الغالب في الاعتداء. وينتقدهم الشراح بقولهم (4) : التبويب بالجنايات أولى لشمولها الجناية بالجرح وغيره كالقتل بمثقل كالعصا والحجر، وبمسموم، وسحر.
أو بعنوان «باب الدماء» كالمالكية، ناظرين إلى نتيجة الجريمة غالباً.
أنواع الجناية: الجناية بصفة عامة نوعان (5) : جناية على البهائم والجمادات، وتبحث عادة في باب الغصب والإتلاف. وجناية على الإنسان الآدمي، وهي محل البحث هنا.
والجناية على الإنسان بحسب خطورتها أنواع ثلاثة: جناية على النفس وهي القتل، وجناية على ما دون النفس وهي الضرب والجرح، وجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهي الجناية على الجنين، أو الإجهاض في اصطلاح القانونيين. وسميت كذلك؛ لأن الجنين يعد جزءاً من أمه، غير مستقل عنها في الواقع، ومن جهة أخرى يعد نفساً مستقلة عن أمه بالنظر للمستقبل؛ لأن له حياة خاصة، وهو يتهيأ لأن ينفصل عنها بعد حين، ويصبح ذا وجود مستقل (6) .
والجنايات على النفوس بحسب القصد وعدمه ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ. فإذا قصد الجاني الجريمة أو الاعتداء، وترتب على فعله حدوث الأثر المقصود، كانت الجريمة عمداً. أما إذا تعمد الاعتداء ولم يقصد حدوث النتيجة، كانت الجريمة شبه عمد (أي ضرباً مفضياً للموت) . فإن لم يقصد الاعتداء أصلاً كانت الجريمة خطأ.
__________
(1) للقانونيين اصطلاح آخر في معنى الجناية: وهي الجريمة المعاقب عليها إما بالإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو السجن من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة.
(2) الأحكام السلطانية: ص 211 ط صبيح.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي: 97/6.
(4) مغني المحتاج: 2/4.
(5) البدائع: 233/7.
(6) كشف الأسرار على أصول البزدوي: ص 1359 وما بعدها، ط حسين حلمي.
(7/530)
الفَصْلُ الأوَّل: الجِناية على النَّفس الإنسانيَّة (القتل وعقوبته)
فيه مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ معنى القتل وتحريمه وأنواعه.
المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه.
المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته.
المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته.
المبحث الأول ـ تعريف القتل وتحريمه وأنواعه:
تعريف القتل: القتل هو الفعل المزهق أي القاتل للنفس أو المميت (1) ، أو هو فعل من العباد تزول به الحياة (2) ، أي أنه هدم للبنية الإنسانية.
تحريم القتل: القتل إذا كان عمداً عدواناً جريمة كبرى، ومن السبع الموبقات التي يترتب عليها استحقاق العقاب في الدنيا والآخرة، وذلك بالقصاص، والخلود في نار جهنم؛ لأنه اعتداء على صنع الله في الأرض، وتهديد لأمن الجماعة وحياة المجتمع.
__________
(1) مغني المحتاج: 3/4.
(2) تكملة فتح القدير: 244/8.
(7/531)
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة في شأن تحريم القتل، منها قوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوماً، فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الاسراء:17/33] . ودلت جريمة ابن آدم (قابيل) على أن القتل اعتداء على الإنسانية، فقال سبحانه: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس، أوفساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً} [المائدة:5/32] .
ودليل القصاص قوله جل ثناؤه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى (1) ، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون} [البقرة:2/178] . وكان القصاص أيضاً مقرراً في الشرائع السماوية السابقة كشريعة اليهود. بدليل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها (2) أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون}
[المائدة:5/45] .ونص القرآن العظيم على العذاب الأخروي للقاتل عمداً في قوله تعالى:
__________
(1) أوجبت الآية مبدأ المماثلة في القصاص إذا أريد قتل القاتل، ومنع العدوان والظلم، فلا يقتل غير القاتل، منعاً من عادة الأخذ بالثأر التي كانت في الجاهلية. ويرى الحنفية: أن قوله {الحر بالحر..إلخ} [البقرة:178/2] تأكيد لصدر الآية، فلا يقتل غير القاتل، وإنما يقتل القاتل دون غيره. وبناء عليه فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر القاتل بقتله العبد. أو لا يقتل الرجل بالمرأة وبالعكس. وقال المالكية والشافعية: إن الله أوجب المساواة. ثم بين المساواة المعتبرة، فالحر يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن دل الإجماع على أن الرجل يقتل المرأة.
(2) أي في التوراة.
(7/532)
{ومن يقتلْ مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، غضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً} . [النساء:4/93]
وأوضحت السنة النبوية حالات القتل المأذون به شرعاً أي المباح للحاكم، لا للأفراد، فقال النبي عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) . وفي رواية: «لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» . ورويت أحاديث كثيرة في تحريم القتل والانتحار، وتحريم الدماء والأموال والأعراض، منها: «قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا» (2) ومنها: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (3) ومنها: «اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» (4) الحديث.
وحددت السنة عقوبة القتل العمد فقال صلّى الله عليه وسلم: «العمد قوَد، إلا أن يعفو ولي المقتول» (5) أي أن القتل العمد يوجب القود (أي القصاص) إلا عند العفو.
وأجمع العلماء على تحريم القتل، فإن فعله إنسان متعمداً فسق، وأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم خلافاً لابن عباس (6) ، بدليل قوله تعالى:
__________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي والضياء عن بريدة.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) المغني: 636/7.
(7/533)
{إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:4/116] فجعل التوبة عن القتل وغيره داخلاً في المشيئة، وقال تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر:39/53] وحديث القاتل مائة نفس التائب من جرائه معروف مشهور (1) صريح في قبول توبة التائب.
وأما آية الخلود في جهنم للقال، فهي محمولة على من لم يتب، أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه الله، وله العفو إذا شاء.
ويلاحظ أن تحريم القتل هو في حالة كون القتل ظلماً، بخلاف حالة غير الظلم وهي القتل بحق، كقتل القاتل والمرتد، فالقتل عموماً نوعان: قتل محرم: وهو كل قتل عدوان، وقتل بحق. ويرى الشافعية أنه يمكن انقسام القتل إلى الأحكام الخمسة: واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح (2) .
فالقتل الواجب: هو قتل المرتد إذا لم يتب، والحربي إذا لم يسلم أو لم يعط الجزية.
والقتل الحرام: هو قتل معصوم الدم بغير حق، أي بصفة العدوان، وكان المقتول مؤمناً أو أمناً؛ لأن العصمة بإيمان أو أمان، فهي عصمة مخصوصة.
والقتل المكروه: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا لم يسب الله أو رسوله.
والمندوب: هو قتل المجاهد قريبه الكافر إذا سب الله أو رسوله.
والمباح: هو قتل المقتص منه أو قتل الإمام الأسير؛ لأنه مخير في قتله حسبما يرى من المصلحة. ومنه القتل دفاعاً عن النفس ضمن ضوابط الدفاع الشرعي. وعدَّ الحنفية (3) ما يأتي من القتل المباح، فقالوا: لو دخل رجل بيته فرأى رجلاً مع
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري (راجع جامع الأصول لابن الأثير: 68/3) .
(2) مغني المحتاج: 3/4.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 197/3، 397/5.
(7/534)
امرأته أو محرمه يزني بها فقتله، حل له ذلك، ولا قصاص عليه. وهو رأي الحنابلة والشافعية والمالكية أيضاً (1) . وإذا كان الزنى طواعية باختيار منهما، كان له عند الحنفية والحنابلة قتلهما جميعاً، فلو أكرهها فله قتله، ودمه هدَر إذا لم يمكنها التخلص منه بصياح أو ضرب. أما لو وجد رجلاً مع امرأة لا تحل له، فله قتله إن كان يعلم أنه لا ينزجر بصياح وضرب بما دون السلاح، فإن كان ينزجر بما ذكر لا يحل القتل.
أنواع القتل:
أولاً ـ يقول الحنفية (2) : القتل خمسة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب.
فالعمد: ما تعمد فيه القاتل ضرب غيره بسلاح، كالسيف والسكين والرمح والرصاص، أو ما أجري مجرى السلاح في تفريق أجزاء الجسد، كالمحدد من الخشب، والحجر، والنار، والإبرة في مقتل.
وذلك لأن العمد معناه القصد وهو أمر خفي لا يمكن الإطلاع عليه ولا معرفته، إلا بدليل يدل عليه، وهو استعمال الآلة القاتلة، فجعلت الآلة دليلاً على القصد، وأقيمت مقامه باعتبارها مظنة لوجوده، كما أن السفر مظنة المشقة.
وشبه العمد عند أبي حنيفة: أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح، أي بما لا يفرق الأجزاء، كاستعمال العصا والحجر والخشب
__________
(1) المغني: 332/8، المهذب: 225/2، الشرح الكبير: 357/4.
(2) تكملة فتح القدير: 244/8 وما بعدها، البدائع: 233/7، الدر المختار: 375/5، اللباب شرح الكتاب: 141/3.
(7/535)
الكبيرين، أي أن القتل بالمثقل يعتبر شبه عمد؛ لأنه لا يقتل به غالباً، ويقصد به التأديب، والفتوى بقول الإمام.
وقال الصاحبان: القتل بالمثقل كالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة عمد. وشبه العمد: أن يتعمد ضربه بما لا يقتل غالباً كالحجروالخشب الصغيرين، أو كالعصا الصغيرة، أو اللطمة.
وبناء عليه يكون الضرب بما لا يغلب فيه الهلاك كالعصا والحجر الصغيرين والسوط واللطمة متفقاً على كونه شبه عمد بين أئمة الحنفية الثلاثة. واختلفوا في الحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوهما، كالإلقاء من سطح أو جبل ولا يرجى منه النجاة، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة، عمد عند الصاحبين.
والقتل الخطأ: هو الذي لا يقصد به القتل أو الضرب، وهو نوعان:
1 - خطأ في القصد أو ظن الفاعل: وهو أن يرمي شيئاً، يظنه صيداً، فإذا هو إنسان، أو يظنه حربياً فإذا هو مسلم، أي أن الخطأ راجع إلى فعل القلب وهو القصد.
2 - خطأ في الفعل نفسه: وهو أن يرمي غرضاً (الغرض: هو الهدف الذي يرمي إليه) أو صيداً، فيصيب آدمياً، أو يقصد رجلاً، فيصيب غيره، أي أن الخطأ راجع إلى أداة الرمي.
وما أجري مُجرى الخطأ: هو المشتمل على عذر شرعي مقبول، كانقلاب نائم على آخر فيقتله.
والقتل بالتسبب: هو الحاديث بواسطة غير مباشرة، كمن حفر حفرة أو بئراً في غير ملكه، في طريق عام بغير إذن السلطات، فوقع فيها فيها إنسان ومات، أو وضع حجراً أو خشبة على قارعة الطريق، فعثر به إنسان، فمات، ومثل شهود القصاص إذا رجعوا عن شهادتهم، بعد قتل المشهود عليه (1) .
ثانياً ـ يرى أكثر العلماء ومنهم الشافعية والحنابلة (2) : أن القتل ثلاثة أنواع: قتل عمد، وشبه عمد (3) ، وخطأ.
__________
(1) البدائع: 139/7.
(2) مغني المحتاج: 3/4، المغني: 636/7 وما بعدها.
(3) سمي بذلك، لأنه أشبه العمد في القصد، ويسمى أيضاً خطأ عمد، وعمد خطأ، وخطأ شبه عمد.
(7/536)
والقتل العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما يقتل غالباً، جارحٍ، أو مثقل، مباشرة، أو تسبباً، كحديد وسلاح وخشبة كبيرة، وإبرة في مقتل، أو غير مقتل كفخذ وألية إن حدث تورم وألم واستمر حتى مات، أو كأن قطع إصبع إنسان، فسرت الجراحة إلى النفس ومات.
وشبه العمد: هو قصد الفعل العدوان والشخص بما لا يقتل غالباً، كضرب بحجر خفيف أو لكمة باليد، أو بسوط، أو عصا صغيرين أو خفيفين، ولم يوال بين الضربات، وألا يكون الضرب في مقتل، أو كان المضروب صغيراً أو ضعيفاً، وألا يكون حر أو برد مساعد على الهلاك، وألا يشتد الألم ويبقى إلى الموت. فإن كان شيء من ذلك فهو عمد؛ لأنه يقتل غالباً. ولا قصاص في شبه العمد، وإنما فيه دية مغلظة أبيّنها في بحث الديات.
والخطأ: هو القتل الحادث بغير قصد الاعتداء لا للفعل، ولا للشخص، كأن وقع شخص على آخر فمات، أو رمى شجرة أودابة، فأصابت الرمية إنساناً فمات، أو رمى آدمياً فأصاب غيره فمات.
وبما أن هذا التقسيم أشهر التقاسيم فإني سأعتمده في بحث أنواع القتل وعقوباته.
(7/537)
ثالثاً ـ مشهور مذهب المالكية (1) : أن القتل نوعان: عمد، وخطأ، لأنهما المذكوران فقط في القرآن الكريم، لبيان حكم نوعي القتل، فمن زاد قسماً ثالثاً أو رابعاً زاد على النص، وأنكر مالك شبه العمد.
أما العمد: فهو أن يقصد القاتل القتل مباشرة بضرب بمحدد أو مثقل، أو تسبباً بإحراق أو تغريق أو خنق، أو سُمّ أو غيرها، كمنع طعام أو شراب قاصداً به موته، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، سواء بما يقتل غالباً أو بما لا يقتل غالباً، إن فعل ذلك لعداوة أو غضب لا على وجه التأديب. فإن كان القتل بسبب الضرب على وجه اللعب أو التأديب فهو من الخطأ، إن كان الضرب بنحو قضيب، لا بنحو سيف.
وأما الخطأ: فهو ألا يقصد الضرب ولا القتل، كما لو سقط إنسان على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً.
وشبه العمد: هو أن يقصد الضرب ولا يقصد القتل، والمشهور عندهم أنه كالعمد (2) .
ويلاحظ مما سبق أن الفقهاء اتفقوا على بعض حالات القتل العمد كالقتل بسلاح، وعلى حالة القتل الخطأ، واختلفوا في حالات ثلاث: هي القتل شبه العمد، وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب.
كما يلاحظ أن الفقهاء اعتمدوا في إثبات العمد وشبه الخطأ، على الآلة المستعملة في القتل باعتبارها دليلاً مادياً أو حسياً على توافر القصد أي (العمد) وعدم توفره. وفي عصرنا الحاضر حيث تعددت أساليب القتل، ينبغي البحث في ظروف القتل وملابساته، وفي قرائن الأحوال، للحكم على نية القاتل، أهو متعمد، أم مخطئ.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 242/4، القوانين الفقهية: ص 344، بداية المجتهد: 390/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 345.
(7/538)
المبحث الثاني ـ القتل العمد وعقابه
وفيه مطلبان ـ المطلب الأول ـ أركان القتل العمد.
المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد.
المطلب الأول ـ أركان القتل العمد:
للقتل العمد أركان ثلاثة: هي أن يكون القتيل آدمياً حياً معصوم الدم، وأن يحدث القتل نتيجة لفعل الجاني، وأن يقصد الجاني إحداث الوفاة (1) .
الركن الأول ـ القتيل آدمي حي معصوم الدم:
القتل العمد الموجب للقصاص: هو الحادث اعتداء على آدمي حي معصوم الدم (2) على التأبيد، فلا قصاص بالاعتداء على غير الإنسان، أو على الميت الذي فارق الحياة، أو على غير معصوم الدم عصمة مؤقتة غير دائمة، كالمرتد أو الحربي (3) ، أو المستأمن (4) في دار الإسلام؛ لأن المستأمن لم تثبت له عصمة مطلقة دائمة، وإنما عصمته مؤقتة أثناء إقامته في دار الإسلام، فهو في الأصل حربي، ودخل دار الإسلام لحاجة عارضة، ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكان في عصمة دمه شبهة الإباحة بالعود إلى دار الحرب، فلا يقتص من قاتله عمداً، وإنما يعزر، لافتئاته على مصلحة الحاكم.
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم الأستاذ عبد القادر عودة: 12/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 336/7، 252، الدر المختار: 375/5، اللباب شرح الكتاب: 143/3، مغني المحتاج: 8/4.
(3) الحربي: عدو، وهو الذي ينتمي لدولة محاربة، أو هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرابة، والإجماع على أنه مهدر الدم والمال، أي مباح الدم والمال.
(4) المستأمن: هو من دخل دار الإسلام بأمان مؤقت فيما دون السنة.
(7/539)
كذلك لا قصاص عند الجمهور بقتل الباغي (1) لعدم العصمة، واعتقاد أهل العدل (جماعة المسلمين في دار الإسلام) إباحة دمه. وتلك الإباحة عند غير الحنفية (2) مقصورة على حالة الحرب الدائرة بين قومه البغاة وبين أهل العدل. ويرى الحنفية أن عدم عصمة البغاة مطلقة في أي حال بمجرد البغي (3) .
وأساس العصمة عند الحنفية (4) : هو الوجود في دار الإسلام، فيعد المسلم والذمي والمستأمن معصوم الدم بسبب وجوده في دار الإسلام. أما الحربي أو المسلم في دار الحرب، فليس معصوماً، ولا عقاب على قاتله، لكونه في دار الحرب.
وأما عند الجمهور غير الحنفية (5) : فأساس العصمة هو الإسلام أو الأمان. فيعدّ المسلم والذمي والمستأمن والمهادن معصوماً، إما بسبب الإسلام بالنسبة للمسلم ولو كان في دار الحرب، أو بسبب الأمان بالنسبة لغير المسلم المعاهد، فلا
__________
(1) الباغي: هو أحد البغاة الخارجين على الإمام يبغون خلعه، وكان له منعة وشوكة، معتمدين على تأويل سائغ لنص شرعي.
(2) الشرح الكبير للدردير: 300/4، المهذب: 220/2، مغني المحتاج: 125/4، المغني: 113/8 وما بعدها. قال ابن قدامة: الصحيح أن الخوارج يباح قتلهم، فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله.
(3) البدائع: 236/7.
(4) تكملة الفتح: 255/8، البدائع: 252/7، اللباب مع شرح الكتاب: 144/3.
(5) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 239/4، مغني المحتاج: 14/4، المغني: 648/7.
(7/540)
تباح دماؤهم ولا أموالهم، ويعاقب قاتلهم على القتل العمد، إلا أنه لا يقتل المسلم بالكافر عندهم (1) كما سيتضح فيما بعد، ويقتل قاتل المسلم ولو كان في دار الحرب. ويظهر أثر الخلاف بين الرأيين في قتل المسلم في دار الحرب.
ووقت العصمة عند الحنفية: مختلف فيه بين الإمام وصاحبيه (2) . فأبو حنيفة: يرى أن وقت العصمة هو وقت الفعل أي فعل القاتل لا غير، فمن رمى إنساناً مسلماً فجرحه، ثم ارتد المجروح بعد الجرح، ومات وهو مرتد، لا يقتص منه؛ لأن فعل الجاني لا يصير قتلاً إلا بفوات حياة القتيل، وقد فاتت حياة المقتول في وقت لم يكن فيه معصوماً، فكان دمه هدراً، لكن على الجاني دية المقتول عند أبي حنيفة؛ لأنه يسأل عن الجرح الذي أحدثه في معصوم عند بدء فعله.
وقال الصاحبان: وقت العصمة هو وقت الفعل ووقت الموت جميعاً؛ لأن للفعل تعلقاً بالقاتل والمقتول، فهو فعل القاتل، وأثره يظهر في المقتول بفوات الحياة، فلا بد من ملاحظة العصمة في الوقتين جميعاً، فلا قصاص على الجاني في المثال السابق ولا دية عليه عندهما. فالإمام وصاحباه اتفقوا على عدم القصاص واختلفوا في إيجاب الدية.
وقال زفر: إن وقت العصمة هو وقت الموت لا غير.
كذلك اختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في تحديد وقت العصمة عند الرمي. فقال أبو حنيفة: العبرة بوقت الرمي لا وقت الإصابة، لأن الإنسان يسأل عن فعله، ولا فعل منه سوى الرمي.
وقال الصاحبان: العبرة بوقت الإصابة لا وقت الرمي؛ لأن المعول عليه هو وقت التلف، ووقت التلف هو وقت الإصابة.
فمن رمى غيره برصاصة، فارتد المرمي بعد الرمي وقبل الإصابة، يكون الجاني مطالباً بالدية عند أبي حنيفة؛ لأنه كان معصوماً عند الرمي، وليس مطالباً عند الصاحبين؛ لأن المجني عليه لم يكن معصوماً وقت الإصابة.
__________
(1) المغني: 652/7.
(2) البدائع: 253/7، التشريع الجنائي الإسلامي: 23/2 وما بعدها.
(7/541)
واتفق غير الحنفية (مالك والشافعي وأحمد) (1) مع الصاحبين في رأيهما بتحديد وقت العصمة، وهو وقت الفعل (ضرباً أو جرحاً) ووقت الموت معاً، أي حال البدء وحال الانتهاء، فيشترط كون المجني عليه معصوماً من حين الضرب أو الجراح إلى حين الموت. فلو قطع شخص يد مسلم، فارتد، ثم مات بسراية الجرح، فالنفس هَدَر، أي لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون.
لكن اختلف غير الحنفية في تحديد وقت العصمة حال الرمي، فقال المالكية والشافعية: إنه وقت الرمي. وقال الحنابلة: إنه حالة الإصابة.
الركن الثاني ـ القتل نتيجة لفعل الجاني:
لا تعد الجريمة قتلاً إلا إذا ارتكب الجاني فعلاً من شأنه إحداث الموت. فإن حدث الموت بفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني، أو لم يكن فعله مما يحدث الموت، فلا يعد الجاني قاتلاً.
والفعل القاتل يصح أن يكون ضرباً أو جرحاً، أو ذبحاً أو حرقاً أو خنقاً أو تسميماً أو غير ذلك (2) . والبحث في هذا الركن في أمرين: أداة القتل، والأفعال المكونة للقتل العمد.
أداة القتل:
تختلف أدوات القتل قوة وضعفاً في مدى التأثير على الجسم والتأثر بها، لذا حدد الفقهاء لكل منها حكماً وأثراً معيناً، واختلفوا فيما بينهم في ترتيبها كما ذكرت في بيان أنواع القتل إجمالاً.
أولاً ـ رأي الحنفية (3) :
اشترط أبو حنيفة في أداة القتل العمد: أن تكون مما يقتل غالباً، ومما يعد للقتل، وهي كل آلة جارحة أوطاعنة ذات حد لها مَوْر في الجسم، أي تفرق أجزاء الجسم، سواء كانت من الحديد أو الرصاص أو النحاس، أو الخشب المحدد أو الحجر المحدد، أو نحوها كالسيف والبندقية والسكين والرمح، والإبرة في مقتل، أو ما يعمل عمل هذه الأشياء في الجرح والطعن، كالنار والزجاج وليطة القصب (4) والمروة المحددة (5) ، والرمح الذي لاسنان له ونحوها.
وسواء أكان الحديد وشبهه من المعادن مما له حد يبضع (يقطع الجلد ويشق اللحم) بضعاً، أم هو مثقل ليس له حد يرض رضاً، كالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمروة، ونحوها.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 238/4 وما بعدها، 249، مغني المحتاج: 23/4، المغني: 653/7-656.
(2) التشريع الجنائي، عودة: 25/2.
(3) البدائع: 233/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 97/6 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 244/8، الدر المختار ورد المحتار: 375/5.
(4) الليطة: قشر القصب اللازق به.
(5) المروة: حجر أبيض براق يقدح به النار.
(7/542)
أما أداة القتل شبه العمد: فهي كل آلة تقتل غالباً، ولكنها ليست جارحة ولا طاعنة كالخشبة الكبيرة، والحجر الثقيل، ويقصد به غير القتل كالتأديب ونحوه، فإن قصد به الإتلاف فهو عمد.
ودليل الإمام قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتل ُ السوط أو العصا، فيه مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» (1) .
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أن القتل شبه عمد في حالتين وهما:
1 - أن يقصد الجاني القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو بلطمة، أو بسوط ضرب به ضربة أو ضربتين ولم يوال الضربات، ونحوها مما لا يقتل غالباً.
2 - الضرب بالسوط الصغير الذي يوالي به الضربات حتى يموت المجني عليه. وقيل في الحالة الثانية عند الصاحبين: إنها عمد محض.
واختلف الإمام مع صاحبيه في حالتين أخريين هما:
1 - استعمال العصا الكبيرة والحجر الكبير والمدقة الكبيرة ونحوها.
2 - الإلقاء في بئر أو من سطح أو جبل، ولا يرجى منه النجاة.
عند الإمام: هما شبه عمد. وعند الصاحبين: هما عمد. قال الحنفية (2) : والصحيح قول الإمام، وبه يفتى في شبه العمد.
أما التغريق في الماء القليل وموت الغريق، فليس عمداً ولا شبه عمد، باتفاق الحنفية.
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن عبد الله بن عمرو.
(2) رد المحتار: 376/5، اللباب شرح الكتاب: 142/3، تبيين الحقائق: 101/6.
(7/543)
ثانياً ـ مذهب الشافعية والحنابلة: اكتفى الشافعية والحنابلة (1) في تحديد أداة القتل العمد: بأن تكون مما يقتل غالباً، سواء أكان القتل بمحدد أم بمثقّل.
والمحدد: هو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين ونحوهما من أي معدن كحديد ورصاص ونحاس وذهب وفضة، أوغير معدن كزجاج وحجر وقصب وخشب له حد قاطع. والمحدد لا ينظر فيه إلي غلبة الظن في حصول القتل، بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات، كان عمداً.
والمثقل: هو ما ليس له حد يجرح ولا سن يطعن، كالعصا والحجر، فإن كان المثقل مما يقتل غالباً، أي يغلب على الظن حصول الموت به عند استعماله، كان القتل عمداً موجباً للقصاص. وإن كان المثقل مما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد موجباً للدية.
وبناء عليه يكون القتل عمداً إذا استعمل الجاني سلاحاً نارياً أو سلاحاً أبيض كالسيف ونحوه، أو معدناً أو غير معدن له حد جارح يقطع الجلد واللحم، أو له مور (2) وغور في الجسم كالمسلّة والنشاب، أو الإبرة المغروزة في مقتل. أو استعمل ما يقتل غالباً كالعصا الغليظة والعمود والخشبة الكبيرة والحجر، أو كانت الأداة مما تقتل كثيراً كالعصا والسوط والحجر الصغير، واللكزة واللطمة، إذا كرر الضرب بما ذكر حتى قتله، أو ضربه في مقتل أو كانت تقتل نادراً في بعض الظروف كما في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر، أو في زمن حر أو برد مفرط، أو اشتد الألم وبقي إلى الموت.
فإن استعمل الجاني أداة لا تقتل غالباً كالضرب بالسوط أو العصا الخفيفين، ولم يوال الضربات، ولم يكن الضرب في مقتل، أو المقتول صغيراً أو ضعيفاً، ولم يكن حرأو برد معين على الهلاك، ولم يشتد الألم ويستمر إلى الموت، كان القتل شبه عمد.
__________
(1) مغني المحتاج: 3/4-4، المهذب: 175/2، المغني: 637/7-640، كشاف القناع: 587/5.
(2) أي يفرق أجزاء الجسد.
(7/544)
ودليل الشافعية والحنابلة: هو نفس الحديث الذي استدل به الحنفية وهو «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل» وقالوا: إن الحديث محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط، وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما. واستدلوا أيضاً بحديث آخر: «إن جارية وُجدت، وقد رُضَّ رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا، أفلان أو فلان، حتى سمي يهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم برض رأسه بالحجارة» (1) قالوا: فثبت القصاص في هذا أي في المثقل، بالنص، وقيس عليه الباقي، مما يدل على شرعية القصاص في القتل بالمثقل.
ثالثاً ـ مذهب المالكية: إن أداة القتل العمد عند المالكية (2) : هي كل آلة يقتل بها غالباً كالمحدد مثل السلاح، والمثقل مثل الحجر، أو ما لا يقتل بها غالباً كالعصا والسوط ونحوهما، سواء قصد الجاني بالضرب قتل المجني عليه، أو لم يقصد قتلاً، وإنما قصد مجرد الضرب، أو قصد قتل شخص معتقداً أنه (زيد) فإذا هو (عمرو) : إن حصل الضرب لعداوة أو غضب لغير تأديب، ففي كل ذلك القَوَد (3) .
ويعتبر كالضرب: الإحراق أو التغريق أو الخنق أو التسميم، أو منع الطعام أو الشراب، سواء قصد الموت أم مجرد التعذيب.
__________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو دليل أيضاً على أنه يقتل الرجل بالمرأة، وعليه إجماع العلماء. ودليل أيضاً على أنه يجوز القود بمثل ما قتل به المقتول، وإليه ذهب الجمهور.
(2) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 242/4، القوانين الفقهية: ص 344.
(3) القود: القصاص، وسمي بذلك؛ لأن الجاني المقتص منه كانوا في الغالب يقودونه بشيء يربط به أو بيده، كالحبل وغيره (المغني: 683/7، رد المحتار: 376/5) .
(7/545)
فإن كان الضرب على وجه اللعب أو التأديب، فهو قتل خطأ، إن كان بنحو قضيب (أي عصا) ، لا بنحو سيف، وكما لو سقط على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً.
وهذا في غير الأب، وأما الأب فلا يقتل بولده، ما لم يقصد إزهاق روحه، كأن يضجعه ويذبحه.
وبه يتبين أن القتل عند مالك نوعان فقط كما بان سابقاً: عمد، وخطأ، وليس هناك ما يسمى (شبه العمد) فقد أنكره مالك، وقال: «ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا» وجعله من قسم العمد.
الأفعال المكونة للقتل العمد:
القتل العمد الموجب للقصاص في الجملة، مع اختلاف الفقهاء في بعض أنواعه: هو تسعة أقسام (1) ، أبحثها هنا، مع بيان الرأي الأرجح في عصرنا الحاضر.
1 - القتل بمحدد: المحدد: هو كل آلة جارحة أوطاعنة لها مور في البدن، أي تفرق أجزء الجسد، مثل الأسلحة النارية الحديثة المختلفة، والسلاح الأبيض، والأخشاب والأحجار المحددة والزجاج والعظم ونحوها.
ويكاد يكون هناك اتفاق بين الفقهاء على أن القتل بالمحدد هو قتل عمد موجب للقصاص، مع ملاحظة ضوابط المذاهب في بيان ما يوجب القصاص، على ما بان في المبحث السابق.
- الحنفية اشترطوا أن تكون قاتلة غالباً ومعدة للقتل.
- واكتفى الشافعية والحنابلة بأن تكون الآلة محددة، ولم يشترطوا غلبة الظن في حصول القتل بها.
ولم يشترط المالكية شيئاً في آلة القتل، وإنما يكفي وجود العدوان.
وبناء عليه: إذا أحدث الجاني جرحاً كبيراً، فهوقتل عمد بالاتفاق، وإن أحدث جرحاً صغيراً في مقتل كالعين والقلب والخاصرة، باستعمال إبرة أوشوكة، فهو قتل عمد اتفاقاً.
__________
(1) راجع كشاف القناع: 587/5 وما بعدها، المغني: 637/7-646.
(7/546)
وإن استعمل الإبرة في غير مقتل كفخذ وألية فهو شبه عمد عند الحنفية؛ لأن الإبرة معدة للخياطة، ولا تستعمل في القتل عادة (1) ،وعمد عند الشافعية (2) إن تورم محل الغرز وتألم، واستمر الأمران حتى مات. فإن لم يظهر للغرز أثر، بأن لم يشتد الألم، ومات في الحال، فهو قتل شبه عمد، وقيل: هو عمد. ويعد الغرز عند الحنابلة (3) في غير مقتل قتل عمد إن بالغ الجاني في إدخال الإبرة في البدن؛ لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل. وكذا إن كان الغور يسيراً، أو الجرح لطيفاً، واستمر حتى مات يكون عمداً فيه القود. وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما - لا قصاص فيه، والثاني - فيه القصاص، وبه يظهر أن مذهبي الشافعية والحنابلة متفقان في حال استعمال الإبرة.
__________
(1) رد المحتار: 375/5.
(2) مغني المحتاج: 4/4-5.
(3) المغني: 637/7-638.
(7/547)
وجعل مالك الجرح والغرز قتلاً عمداً، في مقتل أو غير مقتل إذا لم يكن الفعل على وجه اللعب أوا لتأديب (1) .
2 - القتل بالمثقَّل، أو بغير المحدد: هو ما ليس له حد، كالعصا والحجر. واختلف الفقهاء في شأنه، هل يوجب القود؛ لأنه عمد، أو الدية؛ لأنه شبه عمد؟
قال أبو حنيفة: القتل بمثقل إلا الحديد وما في معناه من نحاس وصنجة ميزان (2) شبه عمد (3) . واستثناء الحديد لأنه يعمل عمل السلاح، لقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس} [الحديد:25/57] . ودليله حديث «ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مئة من الإبل» فإذا أوجب الرسول عليه السلام فيه الدية، كان شبه عمد وليس عمداً.
وقال الصاحبان: القتل بمثقل كحجر عظيم أوخشبة عظيمة إذا كان مما يقتل غالباً عمد؛ لأنه لما كان يقتل غالباً، صار بمنزلة الآلة الموضوعة له. فإذا لم يكن المثقل قاتلاً غالباً، كان القتل شبه عمد، ولو توالى الضرب.
ورأى الشافعية والحنابلة (4) : أن القتل بالمثقل الذي يقتل غالباً، سواء كان كبيراً، أم صغيراً وكان في مقتل أو في مرض أو حر أو برد شديدين، أم والى الضربات: هو قتل عمد؛ لأنه يقتل غالباً، ولعموم الآيات الدالة على وجوب القصاص في القتل، ولإيجاب النبي عليه الصلاة والسلام القصاص على يهودي قتل امرأة بحجر، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُوديَ، وإما أن يقاد» (5) . وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة السابق فهو محمول على المثقل الصغير؛ لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما، كما تقدم.
وقال المالكية (6) : القتل بمثقل قتل عمد، سواء أكان مما يقتل غالباً أم لا يقتل غالباً، ما دام الفعل عدواناً، لا على وجه اللعب والتأديب.
والحقيقة أن الذي يلاحظ حالات القتل العمد العدوان وظروفه من غيظ وحقد وعصبية جامحة يرجح رأي المالكية في القتل بمحدد أو بمثقل.
3 - القتل بالمباشرة:
المباشرة: ما أثر في التلف وحصله دون واسطة، وكان علة للموت، والقتل بالمباشرة: أن يقصد الجاني عين المجني عليه بالفعل المؤدي إلى الهلاك بلا واسطة (7) ، كالجرح أو الذبح بالسكين، والخنق، فإنه يؤدي بذاته إلى موت المجني عليه.
وقد اتفق الفقهاء على أن القتل بطريق المباشرة موجب للقصاص، واشترط الحنفية (8) لإيجاب القصاص أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً.
والمباشرة إما أن تكون من قاتل واحد، أو من جماعة. فإن حدث القتل من شخص واحد بانفراده، وجب القصاص من القاتل. وأما إن حدث القتل من جماعة اشتركوا في الجريمة، فإما أن يتم الاشتراك في حال التعاقب أو في وقت واحد.
__________
(1) الشرح الكبير: 242/4.
(2) سنجة الميزان بالسين أفصح من الصاد.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 375/5، اللباب شرح الكتاب: 141/3 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 4/4، المغني: 638/7.
(5) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأصحاب الكتب الستة من حديث أبي هريرة.
(6) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 242/4.
(7) مغني المحتاج: 6/4.
(8) البدائع: 239/7.
(7/548)
قتل الجماعة بالواحد:
يجب شرعاً باتفاق الأئمة الأربعة قتل الجماعة بالواحد، سداً للذرائع، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلاً، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سبباً للتخلص من القصاص. ثم إن أكثر حالات القتل تتم على هذا النحو، فلا يوجد القتل عادة إلا على سبيل التعاون والاجتماع.
وقد بادر الصحابة إلى تقدير هذا الأمر، فأفتوا بالقصاص الشامل. وأول حادثة حدثت هي في عهد عمر، وهي أن امرأة بمدينة صنعاء، غاب عنها زوجها، وترك عندها ابناً له من غيرها، فاتخذت لنفسها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله، فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة، ورجل آخر، والمرأة وخادمها، فقطعوه أعضاء، وألقوا به في بئر. ثم ظهر الحادث وفشا بين الناس، فأخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن اقتلهم جميعاً، وقال: «والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً» (1) . وحكم حالتي الاشتراك في القتل يظهر فيما يأتي (2) :
__________
(1) أخرجه مالك في موطئه عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفراً: خمسة، أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» وعن مالك رواه محمد بن الحسن في موطئه والشافعي في مسنده والبخاري في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني في سننه والطحاوي والبيهقي.
(2) البدائع: 238/7، تكملة الفتح: 278/8، اللباب شرح الكتاب: 150/3، الدر المختار: 394/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 114/6 وما بعدها.
(7/549)
أولاً ـ القتل المباشر على التعاقب: كأن يشق رجل بطن آخر، ثم يأتي غيره فيحز رقبته، فالقصاص على الثاني إن كان عمداً، وإن كان خطأ فالدية على عاقلته؛ لأنه هو القاتل، لا الأول، فإن عليه التعزير فقط.
وتتم هذه الحالة بانفراد كل من المشتركين عن الآخر، لا مجتمعين، فلا يكون بينهما توافق أو تمالؤ سابق.
ثانياً ـ القتل المباشر حالة الاجتماع: كأن تحدث جراحات معاً من عدة جناة، فيجرح كل منهم جرحاً مهلكاً، أو يطلق كل منهم عياراً نارياً، فيصيب المجني عليه إصابة قاتلة، فيجب القصاص عند الحنفية على كل المشتركين إذا باشروا القتل؛ لأن كل واحد منهم يعد قاتلاً عمداً. يظهر من هذا أن الحنفية لا يفرقون بين حالة التوافق (وهو قصد القتل دون اتفاق سابق) وبين التمالؤ (وهو في اصطلاح المالكية قصد القتل بعد اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة) ، وإنما المهم حدوث الإصابة فعلاً وأن يكون فعل الجاني قاتلاً، بدليل قولهم في القتل العمد: «وتشترط المباشرة من الكل، بأن جرح كل واحد جرحاً سارياً» وقال التمرتاشي: «ويقتل جمع بمفرد إن جرح كل واحد جرحاً مهلكاً، وإلا لا» أي أن المهم عندهم هو حدوث مباشرة القتل.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1) : تقتل الجماعة غير المتمالئين (أي غير المتفقين سابقاً) بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به، فيما لو انفرد بالجناية ومات المجني عليه، وضربوه عمداً عدواناً، أي لا بد من كون فعل كل واحد من الجماعة قاتلاً. وفي هذه الحالة يتفق الجمهور مع الحنفية. وكذلك
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 245/4، القوانين الفقهية لابن جزي: ص 345، المهذب: 174/2، مغني المحتاج: 12/4، 20، 22، المغني: 671/7 وما بعدها، كشاف القناع: 598/5، بداية المجتهد: 392/2.
(7/550)
يقتل عند الجمهور الجماعة المتمالئون (المتواطئون) على القتل بالواحد إن قصد الجميع الضرب، وإن لم يصلح فعل كل واحد من الجماعة للقتل، أي ولو لم يكن فعل كل واحد قاتلاً، كأن ضربوه بسياط أو بحجر صغير، فمات، لئلا يتخذ التواطؤ (الاتفاق السابق) ذريعة إلى درء القصاص. وهذا هو الأصح عند الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يخالفون المالكية في اشتراط كون كل مشترك في ارتكاب الفعل له صفة الفاعل للجريمة، ويكفي عند المالكية حضور الجميع، وإن لم يتول القتل إلا واحد، إذا كان غير الضارب مستعداً للضرب، ولو لم يضرب غيره، وإنما كان ربيئة أي رقيباً.
وبه يظهر أن الجمهور يختلفون مع الحنفية في هذه الحالة (القتل بالتمالؤ) لكني أرجح مذهب الجمهور، لفعل عمر رضي الله عنه في قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وإجماع الصحابة على فعله.
والخلاصة: أنه إذا باشر الجميع القتل يقتل الجميع باتفاق المذاهب.
وأما الشريك: الذي لم يباشر فعلاً من أفعال القتل، وإنما اقتصر على الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو على التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فيعاقب بالتعزير، ومنه القتل إذا شاء الإمام عند غير المالكية. ويعاقب بالقصاص عند المالكية.
معنى التمالؤ: هذا ويلاحظ أن الفقهاء اختلفوا في تحديد معنى التمالؤ (1) .
قال الحنفية والشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم: التمالؤ ـ في اصطلاحهم هو توافق إرادات الجناة على الفعل ولو دون أن يكون بينهم اتفاق سابق، بحيث
__________
(1) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 245/4، الشرح الصغير: 344/4، وراجع التشريع الجنائي الإسلامي: 39/2-42، 126 وما بعدها.
(7/551)
يباشرون الجناية، أي يجتمعون على ارتكاب الفعل في فور واحد ولو دون سابقة من تدبير أو اتفاق. وقال المالكية: التمالؤ: التعاقد والاتفاق، وهو أن يقصد شخصان فأكثر قتل شخص وضربه، فالتمالؤ يتطلب اتفاقاً سابقاً على ارتكاب الفعل، وإن التوافق على الاعتداء لا يعتبر تمالؤاً، لكن يقتل الجميع إذا قصدوا الضرب، وحضروا الجناية، وإن لم يتول القتل إلا واحد منهم، وكان الآخر رقيباً مثلاً، بشرط أن يكونوا بحيث لو استعين بهم أعانوا.
ويقتل عند المالكية أيضاً الجمع غير الممالئين بقتل شخص واحد إذا ضربوه عمداً عدواناً ومات مكانه، ولم تتميز الضربات، أو تميزت ولكن لم تعرف الضربة القاتلة.
قتل الواحد بالجماعة ـ تعدد القتلى:
يقتل أيضاً الواحد بالجماعة قصاصاً، ولا يجب عند الحنفية (1) والمالكية (2) مع القود شيء من المال، فليس للجماعة إلا القصاص؛ لأن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به، فكذلك إذا قتلهم واحد، قتل بهم، كالواحد بالواحد. وحق أولياء المقتول في القتل مقدور الاستيفاء لهم، فلو أوجبنا معه المال، لكان زيادة على القتل، وهذا لا يجوز. وإني أميل لهذا الرأي.
وقال الشافعية (3) : لا يقتل القاتل إلا بواحد، سواء اتفق أولياء الدم على طلب القصاص، أو لم يتفقوا؛ لأن المماثلة مشروطة في القصاص، ولا مماثلة بين
__________
(1) البدائع: 239/7، الدر المختار: 395/5، تبيين الحقائق: 115/6، تكملة الفتح: 278/8.
(2) المغني: 699/7، الميزان الكبرى للشعراني: 143/2، القوانين الفقهية: ص 345.
(3) مغني المحتاج: 22/4، المهذب: 183/2.
(7/552)
الواحد والجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة، وإنما يقتل الواحد بالواحد، وتجب الديات للباقين. واشتراك أولياء الدم في حق المطالبة بالقصاص لايوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق.
وبناء عليه، إن قتل الواحد جماعة على الترتيب، قتل بأولهم، إن لم يعف لسبق حقه. وإن قتلهم معاً دفعة واحدة، كأن جرحهم أو هدم عليهم جداراً، فماتوا في وقت واحد، أو أشكل أمر المعية والترتيب، فيقتص من الجاني لواحد من القتلة بالقرعة وجوباً، وللباقين من المستحقين الديات، لتعذر القصاص عليه، كما لو مات الجاني مثلاً.
وقال الحنابلة (1) : إن اتفق أولياء القصاص على القود أو قتل الجاني قتل بهم، وإن أراد أحدهم القود، والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطي الباقون الدية من مال الجاني، سواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين، ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فمن قتل له قتيل، فأهله بين خِيرَتين: إن أحبوا قَتَلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل» (2) أي الدية، ولأن الجنايات المتعددة لا تتداخل في حالة الخطأ، فلا تتداخل في حالة العمد.
__________
(1) المغني: 699/7 وما بعدها.
(2) سبقت الإشارة لتخريجه إجمالاً وقد رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة بلفظ: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل» ولفظ الترمذي: «إما أن يعفو، وإما أن يقتل» وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه عن أبي شريح الخزاعي: «فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو» قال ابن عباس: «فالعفو أن يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف» .
(7/553)
4 - القتل بالتسبب:
السبب: ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله، أي أنه المؤثر في الموت لا بذاته، ولكن بواسطة، كحفر بئر في طريق عام دون إذن من السلطات وتغطيتها بحيث يسقط المار فيها ويموت، وشهادة زور على بريء بالقتل، وإكراه رجل على قتل رجل آخر، وحكم جائر من حاكم على رجل بالقتل.
السبب أنواع ثلاثة (1) :
الأول ـ حسي: كالإكراه على القتل.
الثاني ـ شرعي: كشهادة الزور على القتل، وحكم الحاكم على رجل بالقتل كذباً أو مع العلم بالتهمة متعمداً الأذى.
الثالث ـ عرفي: كتقديم الطعام المسموم لمن يأكله، وحفر بئر وتغطيتها في طريق القتيل.
وحكم القتل بالتسبب إجمالاً: أنه عند الحنفية (2) لا يوجب القصاص؛ لأن القتل تسبيباً لا يساوي القتل مباشرة، والعقوبة قتل مباشر. فمن حفر حفرة أو بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيها إنسان، ومات، لا قصاص على الحافر؛ لأن الحفر قتل بالسبب لا بالمباشرة. كما لا قصاص على شهود الزور إذا رجعوا عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه. أما الإكراه على القتل فيوجب القصاص عند الحنفية على المُكرِه؛ لأنه قتل مباشرة، والإكراه يجعل المستكره آلة بيد المكره، ولا قصاص على الآلة.
وقال الجمهور غير الحنفية (3) : يجب القصاص بالسبب، إذا قصد المتسبب
__________
(1) مغني المحتاج: 6/4.
(2) البدائع: 239/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 101/6 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 253/8.
(3) الشرح الكبير للدردير: 243/4، 246، مغني المحتاج: 6/4، المهذب: 176/2 ومابعدها، المغني: 645/7، كشاف القناع: 591/5-593، 601 وما بعدها.
(7/554)
إحداث الضرر، وهلك المقصود المعين بالسبب المتخذ، كما في حالة الحفر ورجوع الشهود عن شهادتهم، والتسميم، والإكراه.
ولا بد من توضيح الكلام في الإكراه على القتل، والتسميم.
الإكراه على القتل: إذا أكره رجل غيره على قتل آخر بأن هدده بما يلحق ضرراً بنفسه أو ماله، فقال أبو حنيفة ومحمد: يجب القصاص على المكرِه، دون المستكره المباشر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ولأن المستكره آلة للمكره، والقاتل معنى هو المكرِه، والموجود من المستكره صورة القتل فقط.
وقال أبو يوسف: لا قصاص على أحد، سواء المكره والمستكره، للشبهة؛ لأن المكره ليس بمباشر للقتل، وإنما هو مسبب له، وإنما القاتل هو المستكره.
وقال زفر: القصاص على المستكره؛ لأن القتل وجد منه في الحقيقة والواقع. وبه يتبين أن في المذهب الحنفي (2) آراء ثلاثة أرجحها الأول.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الأظهر عندهم، والحنابلة) (3) : يجب القصاص على المكره والمستكره جميعاً؛ لأن المكره متسبب في القتل بما يفضي إليه غالباً، والمستكره مباشر القتل عمداً عدواناً، ومؤثرْ في فعله استبقاء نفسه. وإني أرجح هذا الرأي.
لكن لو قال له: اقتلني وإلا قتلتك، فلا قصاص عند الشافعية إذا قتله؛ لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحد.
__________
(1) رواه ابن ماجه عن أبي ذر، والطبراني والحاكم عن ابن عباس، والطبراني أيضاً عن ثوبان بلفظ: «إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
(2) البدائع: 179/6، تكملة فتح القدير: 302/7، اللباب شرح الكتاب: 112/4.
(3) الشرح الكبير للدردير: 244/4، مغني المحتاج: 9/4، المهذب: 177/2، المغني: 645/7، كشاف القناع: 601/5 وما بعدها.
(7/555)
أما لو أمره بقتل نفسه، بأن قال له: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، لم يجب القصاص؛ لأن هذا ليس إكراهاً، فصار كأنه مختار له، في رأي الشافعية. ويلاحظ أن الإكراه على القتل لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق وكذا لا يباح الزنى بالإكراه.
الأمر بالقتل:
فرَق الفقهاء بين الإكراه على القتل وبين الأمر بالقتل، لاختلاف طبيعة الحالتين، ففي حالة الإكراه يكون المباشر مجبراً على تنفيذ الفعل، وفي حالة الأمر يكون المباشر مختاراً ارتكاب الجريمة؛ لذا كان في حكمه تفصيل:
1 - إذا كان المأمور غير مميز كصبي أو مجنون، فلا قصاص على الآمر عند الحنفية؛ لأنه قتل بالتسبب، والقتل بالتسبب لا قصاص فيه، وإنما فيه الدية، كما بينت سابقاً.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (1) : يقتص من الآمر؛ لأنه متسبب في القتل. وأما المباشر فهو مجرد آلة يحركها الآمر كيف يشاء.
2 - وإذا كان المأمور مميزاً، أو كبيراً بالغاً عاقلاً، فإما أن يكون للآمر سلطان عليه، أو لا سلطان له عليه.
__________
(1) بداية المجتهد: 388/2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 244/4، المهذب: 177/2، كشاف القناع: 602/5 ومابعدها، المغني: 757/7، القوانين الفقهية: ص 345.
(7/556)
فإن لم يكن سلطان للآمر على المأمور، فقال مالك والشافعي وأحمد (1) : يقتص من المباشر المأمور، ويعزر الآمر.
وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أي المباشر، كسلطة الأب على ولده الصغير، وسلطة الحاكم على من هو تحت إمرته، بحيث يخاف المأمور أن يقتله الآمر لو لم يطع أمره، فيقتص عند مالك (2) من الآمر والمأمور معاً؛ لأن الأمر في هذه الحالة يعتبر إكراهاً.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : إن علم المأمور أن القتل بغير حق، فيقتص من المأمور المباشر؛ لأنه غير معذر في فعله، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (4) ، ويعزر الآمر بالقتل ظلماً لارتكابه معصية. وإن لم يعلم المأمور أن القتل بغير حق، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير معصية، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق.
وعند أبي حنيفة (5) : لا قصاص على الآمر إلا إذا كان مُكرِهاً، كما لا قصاص على المأمور إذا كان الأمر صادراً ممن يملكه؛ لأن الأمر أو الإذن شبهة تدرأ القصاص، فإن كان الأمر صادراً ممن لا حق له فيه، فعلى المأمور القصاص.
التسميم:
التسميم: تسبب لقتل النفس، فلا يوجب القصاص عند الحنفية (6) . فإن دس شخص لآخر السم في طعام أو شراب، فأكله أو شربه ولم يعلم به، ومات منه، فلا قصاص عليه، ولا دية، لكن يلزمه الاستغفار والحبس والتعزير، لارتكابه معصية بتسببه لقتل النفس، وتغريره بالمجني عليه.
أما في حالة الإكراه على تناول السم، كأن أوجر (صب في الحلق) شخص السم في حلق آخر على كره منه، أو ناوله إياه وأكرهه على شربه حتى شرب، فالفعل قتل شبه عمد؛ لأنه حصل بما لا يجرح، فلا قصاص فيه عند أبي حنيفة، وإنما تجب الدية على عاقلته (أهل ديوانه أو حرفته أو
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بداية المجتهد: 389/2.
(3) المهذب، كشاف القناع، المرجعان السابقان، والمكان السابق.
(4) رواه الحاكم وأحمد في مسنده عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
(5) البدائع: 236/7.
(6) الدر المختار: 385/5، تبيين الحقائق: 101/6.
(7/557)
نقابته) (1) .
والتسميم أو تقديم مسموم عند المالكية (2) موجب للقصاص، إن مات متناوله، وكان مقدمه عالماً بأنه مسموم، وإلا فلا شيء عليه لأنه معذور، كما لا شيء على مقدِّمه إن علم المتناول بسميته؛ لأنه يكون حينئذ قاتلاً لنفسه.
وكذلك يعتبر التسميم عند الحنابلة (3) قتلاً عمداً موجباً للقصاص إذا كان مثله يقتل غالباً، لأن التسميم يتخذ كثيراً طريقاً إلى القتل، فيوجب القصاص، وبدليل أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها النبي صلّى الله عليه وسلم وبشر بن البراء بن معرور، فلما مات بشر، أرسل إليها النبي صلّى الله عليه وسلم، فاعترفت، فأمر بقتلها (4) .
وعند الشافعية (5) : يعد تسميم الصبي غير المميز (دون السابعة) والمجنون قتلاً عمداً موجباً للقصاص، وكذلك يجب القصاص إن سقى السم بالغاً عاقلاً مكرَهاً، فمات، لأنه سبب يقتل غالباً.
فإن سقاه مميزاً أو بالغاً عاقلاً في غير حالة الإكراه، ولم يعلم المتناول حال الطعام، فهو في الأصح قتل شبه عمد، يوجب الدية فقط لا القصاص؛ لأن آخذه تناوله باختياره من غير إلجاء.
والخلاصة: إن التسميم قتل عمد عند المالكية والحنابلة، وعمد عند الشافعية في حالة الإكراه، وإعطائه غير المميزأو المجنون، وشبه عمد عند الحنفية في حالة الإكراه، وكذا في غير حالة الإكراه عند الشافعية، ويوجب التعزير فقط عند الحنفية في غير حالة الإكراه.
__________
(1) وأما على رأي الصاحبين، فمن الفقهاء من قال: إنه قتل شبه عمد عندهما أيضاً، ومنهم من قال: عندهما تفصيل: إن كان ما أوجر من السم مقداراً يقتل مثله غالباً فهو عمد، وإلا فخطأ العمد.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 244/4.
(3) المغني: 643/7، كشاف القناع: 591/5 وما بعدها.
(4) رواه أبو داود عن أبي هريرة. وانظر سيرة ابن هشام: 338/2.
(5) مغني المحتاج: 6/4، المهذب: 176/2.
(7/558)
حالات اشتراك المتسبب مع المباشر في جناية القتل:
بينت سابقاً حالة الاشتراك المباشر بين اثنين فأكثر في بحث قتل الجماعة بالواحد، وأبين هنا حالة اشتراك المتسبب مع المباشر، كما سأبين في مبحث تالٍ حالة الاشتراك بين من يجب عليه القصاص وبين من لا يجب عليه.
أما حالة اشتراك المتسبب مع المباشر في جريمة القتل، فيخضع حكمها لما قرره الفقهاء من القواعد الفقهية العامة في بحث الضمان (1) . وأمثلتها: اشتراك الممسك مع القاتل، والدال مع المدلول، والحافر حفرة مع المردي، والملقي من شاهق مع القاد.
أولاً ـ ضمان المباشر وحده:
المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي تدخل فعل شخص آخر مختار، ويكون مسؤولاً عن فعله في ضوء قاعدتين عند الحنفية هما:
1 - «المباشر ضامن وإن لم يتعمد» : فمن باشر القتل بسلاح وجب عليه القصاص إذا كان القتل عمداً عدواناً. ومن باشر القتل بغير سلاح كحجر وخشب، أو أطلق عياراً نارياً إلى طائر فأصاب إنساناً، أو انقلب نائم على إنسان فقتله أو سقط من حائط على إنسان في الطريق فقتله، كان القتل شبه عمد في القتل بغير سلاح، وخطأ في الإطلاق على طائر، ومما جرى مجرى الخطأ في الوقوع على إنسان، ويجب عليه الدية (2) والأصح أن يقال في القاعدة: «وإن لم يتعدّ» .
2 - «إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر» : يلزم المباشر بالضمان أو المسؤولية إذا كان هو المؤثر الأقوى في إحداث العدوان، وكان دور السبب ضعيفاً لا يعمل بانفراده في الهلاك. كمن حفر حفرة أو بئراً في الطريق العام دون إذن السلطات، وجاء آخر وأردى غيره (دفعه أو ألقاه) في البئر، أوألقى حيواناً فيها، ضمن المردي أو الدافع أو الملقي، ووجب عليه الدية أو التعويض، لأنه مباشر للتلف بالذات، وأما حافر البئر فهو متسبب فقط؛ لأن حفره البئر، وإن أفضى إلى التلف، لكنه لا ينفرد بالإتلاف ما لم يوجد الدفع الذي هو المباشر (3) . ومثله من دل غيره على شخص فقتله المدلول كان الثاني عند أبي حنيفة هو المسؤول. ومثَّل الشافعية والحنابلة (4) لهذه القاعدة بمن أمسك شخصاً فقتله آخر أو
__________
(1) انظر كتابنا نظرية الضمان: ص 44 ومابعدها، 188 ومابعدها.
(2) مجمع الضمانات: ص 146-154، 161، 165، جامع الفصولين لابن قاضي سماوة: 113/2، 124 ومابعدها، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 99/2، الدر المختار: 375/5-377.
(3) البدائع: 275/7، المبسوط: 185/26، الدر المختار: 422/5، جامع الفصولين: 115/2، مجمع الضمانات: ص 153.
(4) المهذب: 192/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 8/4 ومابعدها، المغني: 684/7، كشاف القناع: 601/5.
(7/559)
حفر بئراً فرداه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقدَّه (قطعه نصفين مثلاً قبل وصوله الأرض) فالقصاص على القاتل والمردي والقادّ فقط (1) .
وبناء عليه لو أمسك رجل شخصاً ليقتله آخر، يضمن القاتل فقط عند الحنفية (2) ، فيقتص منه إن قتله بسلاح؛ لأنه باشر القتل،، ويجب التعزير على الممسك من غير حبس.
وقال الشافعية، والراجح عند أحمد (3) : يقتل القاتل، ويعزر الممسك عند الشافعية بحسب ما يرى الحاكم من المدة. وقال الحنابلة: يحبس الممسك حتى يموت، لقوله عليه السلام: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ، حتى جاء آخر، فقتله، قتل القاتل وحبس الممسك» (4) وقوله أيضاً: «إن من أعتى الناس على الله عز وجل: من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصَّر عينيه في النوم ما لم تبصره» (5) .
__________
(1) وهذا هو المعروف من الأفعال المؤثرة في زهوق الروح بالشرط، لأن الذي له دخل من الأفعال بالزهوق إما مباشرة: وهي ما يؤثر في الهلاك ويحصله بالذبح بسكين، وإما شرط: وهو مالا يؤثر في الهلاك ولا يحصله، بل يحصل التلف عنده بغيره، ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه، كالحفر مع التردي، فإنه لا يؤثر في التلف ولا يحصله، وإنما التردي هو المحصل للتلف، لكن لولا الحفر لما حصل التلف، ولذا سمي شرطاً، ومثله الإمساك للقاتل. وإما سبب: وهو ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله كشهادة الزور على بريء بالقتل، فإنها علة أو مؤثر في الحكم عليه بالإعدام، ولكنها لا تجلب بذاتها الإعدام، وإنما الذي يجلبه فعل الجلاد (مغني المحتاج: 6/4) .
(2) الدر المختار ورد المحتار: 384/5، البدائع: 274/7.
(3) مغني المحتاج: 8/4، المهذب: 176/2، المغني: 755/7.
(4) رواه الدارقطني عن ابن عمر، وهو حديث مرسل، ورواه الشافعي من فعل علي. قال في بلوغ المرام: رجاله ثقات، وصححه ابن القطان.
(5) رواه أحمد والدارقطني والطبراني والحاكم من حديث أبي شريح الخزاعي. ورواه آخرون عن عائشة، وابن عباس.
(7/560)
لكن المالكية (1) قالوا: إذا اجتمعت المباشرة والسبب، فالقصاص عليهما معاً، فيشارك القاتل والممسك في الضمان أو القصاص، لتسبب الممسك ومباشرة القاتل. ومثله الدال الذي لولا دلالته ما قتل المدلول عليه، قياساً على الممسك. كذلك يقتص عندهم من الحافر والمردي معاً.
والخلاصة: إن المباشر ضامن إذا تغلبت المباشرة على السبب.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 245/4 وما بعدها، لكن في إتلاف الأموال يقدم المستكره على المكره، والمردي على الحافر في تعلق الضمان به وحده (الشرح الكبير: 444/3) .
(7/561)
ثانياً ـ ضمان المتسبب وحده:
المتسبب: هو الذي يحدث أمراً يؤدي إلى تلف شيء آخر بحسب العادة، إلا أن التلف مباشرة لا يقع منه، وإنما بواسطة أخرى هي فعل فاعل مختار. ويضمن المتسبب وحده إذا كان متعدياً، عملاً بقاعدة «المتسبب لايضمن إلا بالتعدي» سواء أكان بقصد أم لا، أو بقاعدة «يضاف الفعل إلى المتسبب إن لم يتخلل واسطة» ، وذلك إذا تعذر تضمين المباشر لكونه غير مسؤول أو غير موجود أو غير معروف، أو كان فعل المتسبب أقوى من المباشر. فمن دفع إلى صبي سكيناً ليمسكه له، فوقع عليه، فجرحته، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن السبب هنا يشتمل على معنى التعدي، لكون الصبي لم يباشر فعلاً معيناً، فهو غير مسؤول، والسكين بطبيعتها آلة جارحة.
ومن طرح على قارعة الطريق حية، فلدغت إنساناً بمجرد إلقائها، فمات، فهو ضامن ديته؛ لأنه متعد في هذا السبب. ومثله لو ألقى عقرباً أوزنبوراً ونحوهما على حيوان أو إنسان، فأتلفه، كان على الملقي الضمان. وشهود الزور في قتل إنسان يضمنون الدية عند الحنفية، ويجب عليهم القصاص عند غير الحنفية؛ لأنهم تسببوا في موت المشهود عليه، ولو كان الحاكم هو المباشر.
ولو دفع إنسان رجلاً على آخر، فعطب الآخر، كان الضمان (الدية) على الدافع؛ لأن المدفوع كالآلة، والقاعدة فيه هي «المدفوع كالآلة في الضمان» .
ولو عثر شخص بحجر لم يعرف واضعه، فوقع في بئر، يكون حافر البئر ضامناً الدية، لتعذر معرفة المباشر، ولأن صاحب البئر متسبب.
ومن حفر بئراً في داره، وغطاها، أوربط كلباً قرب باب الدار، ثم أذن لرجل بالدخول، فوقع في البئر ومات، أو عقره الكلب، فمات وجب عليه الضمان (الدية عند الحنفية، وفي الأصح عند الشافعية) (1) .
والخلاصة: أن المتسبب هو الضامن إذا تغلب السبب على المباشر.
__________
(1) المبسوط: 14/16 وما بعدها، 185/26، البدائع: 273/7، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 197/1، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 168، المهذب: 193/2.
(7/562)
ثالثاً ـ تضمين المتسبب والمباشر معاً:
يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في الإتلاف متى انفرد عن المباشرة، أي إذا تعادلت قوة التسبب والمباشرة، أو اعتدل السبب والمباشر بأن تساوى أثرهما في الفعل، كان المتسبب والمباشر مسؤولين معاً عن القتل، كأن اجتمع على قيادة دابة سائق وراكب عليها، فما أحدثته من تلف، كان الضمان عليهما؛ لأن سوق الدابة وحده يؤدي إلى التلف، وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها. وكذلك إذا نخس رجل الدابة بأمر راكبها، يكون الضمان على الاثنين؛ لأن الناخس بمنزلة السائق.
وعند الجمهور غير الحنفية يقتص في حالة الإكراه من المكره والمستكره معاً؛ لأن المكره متسبب، والمستكره مباشر، كما بان سابقاً.
وعند المالكية خلافاً لبقية المذاهب: يقتص من الممسك والقاتل؛ لأن الممسك متسبب، والقاتل مباشر، كما أوضحت سابقاً.
(7/563)
حالة اشتراك من يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القصاص:
القاعدة المقررة في هذه الحالة عند الحنفية هي أن «القصاص لا يتجزأ» (1) فلو اشترك اثنان في قتل رجل: أحدهما ممن يجب عليه القصاص، لو انفرد بالجريمة وحده، والآخر لا يجب عليه، لو انفرد لعدم انطباق شروط القصاص عليه كما سيأتي، مثل اشتراك صبي مع بالغ، ومجنون مع عاقل، ومخطئ وعامد في قتل شخص (2) ، أو اشتراك الأب مع شخص أجنبي في قتل الابن، أو اشتراك زوج مع أجنبي في قتل زوجته وله منها ولد، أو اشتراك رجل مع سبعٍ أو حية في إماتة إنسان، كأن يجرحه سبع أو تلدغه حية، ويجرحه إنسان عمداً، فيموت بسببها، أو يجرح الشخص نفسه، ويجرحه أجنبي أيضاً، فمات، ففي كل هذه الحالات لا قصاص على أحد في مذهبي الحنفية والحنابلة (3) ، سواء من توافرت فيه شرائط القصاص أو لم تتوافر فيه لمانع شرعي، لوجود الشبهة في فعل كل واحد منهما، ولا يطبق القصاص مع الشبهة، لكن تجب الدية عليهما.
أما صاحب أهلية القصاص كالبالغ فتجب الدية في ماله. والذي لا يجب عليه القصاص كالمخطئ، تجب الدية على عاقلته.
وهذا عند الحنفية في حالة غير شريك الأب، أما في حالة اشتراك الأب والأجنبي، فتجب الدية في مالهما؛ لأن الأب لو انفرد بالقتل تجب الدية في ماله.
ورأى الحنابلة: أن على عاقلة الصبي والمخطئ نصف الدية، وعلى البالغ، والمتعمد نصف الدية في ماله. وفي شريك السبع وشريك جارح نفسه وجهان في إيجاب القصاص عليه: أحدهما وهو الأصح: لا قصاص عليه، والثاني: عليه القصاص. وأما شريك الأب فعليه القصاص، كشريك الأجنبي.
__________
(1) راجع الدر المختار: 380/5، وكتابنا نظرية الضمان: ص 304.
(2) أو أحدهما بالسيف والآخر بالعصا عند أبي حنيفة، لأن الاشتراك بالعصا يجعل المشترك مرتكباً قتلا شبه العمد.
(3) البدائع: 235/7، الفتاوى الهندية: 4/6، الدر المختار ورد المحتار: 397/5، المغني: 676/7، 677، 681، كشاف القناع: 605/5.
(7/564)
وقال الشافعية (1) بتفصيل آخر: لا يقتل شريك المخطئ، وشبه العمد بسبب الشبهة في القصاص، وإنما تجب الدية عليهما، أما المتعمد فعليه نصف الدية مغلظة في ماله، وغير المتعمد عليه نصف الدية مخففة. ويقتل شريك الأب في قتل ولده (أي كما قال الحنابلة) ، وشريك جارح نفسه، كأن جرح الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما. وكذلك يقتل شريك دافع الصائل (2) في الأظهر، وشريك صبي مميز أو مجنون، وشريك السبع والحية القاتلين غالباً، لصدور الجريمة منه، وهو القتل العمد، وأما امتناع القصاص على الآخر فهو لعذر أو مانع خاص به، فلا يتعدى إلى الآخر، ويجب عليه القصاص جزاء لفعله. والأظهر عند الشافعية أن من ألقى غيره في ماء مُغرق كالبحر فالتقمه حوت، وجب القصاص عليه؛ لأنه بسببه، فإن كان الماء غير مغرق فلا قصاص عليه.
وقال المالكية (3) : إن اشترك في القتل عامد ومخطئ، أو مكلف وغير مكلف مثل رجل عامد وصبي، أو عامد ومجنون، إن تمالآ على قتله، فعلى العامد القصاص، وعلى عاقلة المخطئ والمجنون والصبي نصف الدية؛ لأن عمد الصبي كخطئه، رعاية للمصلحة وصيانة للدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالجريمة.
__________
(1) مغني المحتاج: 20/4، المهذب: 174/2.
(2) أي المدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه ضد الباغي المعتدي.
(3) بداية المجتهد: 389/2، 405، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 246/4 ومابعدها.
(7/565)
فإن لم يتمالأا على قتله، وتعمد الاثنان قتل المجني عليه أوتعمد الكبير، فعلى الكبير نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة الصبي نصفها أي كما قال الحنفية. فإن قتلاه خطأ، أو أخطأ الكبير، فعلى عاقلة كل منهما نصف الدية. وفي حالة عدم التمالؤ هناك قولان عند المالكية في أربع مسائل: هي شريك سبع، وشريك جارح نفسه جرحاً يعقبه الموت غالباً، ثم ضربه كبير قاصداً قتله، وشريك حربي، وشريك مرض بعد الجرح، بأن جرح شخص غيره، ثم حصل للمجروح مرض ينشأ عنه الموت غالباً. ثم مات، ولم يدر، أمات من الجرح أو من المرض.
والقولان هما: قول بعدم القصاص من الشريك، ولكن على الشريك نصف الدية في ماله، ويضرب مئة، ويحبس عاماً، وقول بالقصاص. والراجح في شريك المرض القصاص في حالة القتل العمد، والدية في الخطأ. ولكن بعد حلف أيمان القسامة الخمسين. وأما المسائل الثلاث الباقية فالقولان فيها على حد سواء. ولعل رأي المالكية أرجح الآراء صوناً للدماء.
5 - الإلقاء في مهلكة:
إذا جمع شخص بين إنسان وبين أسد أونمر في مكان ضيق كزُبية (1) ونحوها، أوأمام كلب فينهشه، أو يرمي عليه حية أوعقرباً فتلدغه، فهل يعتبر فعله قتلاً عمداً، فيسأل عنه، أو لا يسأل عنه؟ هناك آراء ثلاثة في المذاهب.
__________
(1) زبية الأسد: حفرة تحفر له شبه البئر، أو حفرة في مكان عال يصاد فيها الأسد.
(7/566)
قال الحنفية (1) : لا قود فيه ولا دية، وإنما يعزر ويضرب ويحبس إلى أن يموت. ويروى عن أبي حنيفة أن عليه الدية. وإن فعل ذلك بصبي فعليه الدية.
وإن ربط صبياً وألقاه في الشمس أو البرد حتى مات، فعلى عاقلته الدية.
وقال المالكية (2) : الفعل العدوان في هذه الحالة قتل عمد فيه القود، سواء أكان فعل الحيوان بالإنسان مما يقتل غالباً كالنهش، أم مما لا يقتل غالباً ومات الآدمي من الخوف. ولا يقبل الادعاء بأنه قصد بفعله اللعب. وكذلك قال الحنابلة (3) : الفعل قتل عمد موجب للقصاص إن فعل الحيوان المفترس أو المتوحش بالإنسان ما يقتل به غالباً، أو فعل به فعلاً يقتل مثله. فإن فعل به فعلاً لو فعله الآدمي لم يكن قتلاً عمداً، لم يجب القصاص به؛ لأن السبع صار آلة للآدمي، فكان فعله كفعله.
وعلى هذا، إن ألقاه مكتوفاً بين يدي أسد أو نمر، فقتله، فهو عمد. وكذا إن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق، فنهشته، فقتلته، فهو عمد. ولو لسعه عقرب من القواتل، فهو عمد. ورأي المالكية والحنابلة أولى في تقديري.
وقال الشافعية (4) : إن جمع بين شخص وبين السبع في زُبية أو بيت صغير ضيق، أو أغراه به، أو أمسكه وعرضه لمجنون فقتله، وجب عليه القود؛ لأن السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق. أما إن كتّف رجلاً وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع (أي في مكان واسع مثل البرية) فقتله، لم يجب القود؛ لأنه سبب غير ملجئ.
وإن كتَّفه وتركه في موضع فيه حيات، فنهشته، فمات لم يجب القود، سواء أكان المكان ضيقاً أم واسعاً؛ لأن الحية تهرب عادة من الآدمي، فلم يكن تركه معها ملجئاً إلى قتله، بخلاف السبع فإنه يثب على الإنسان في المكان الضيق دون المتسع.
وإن أنهشه سبعاً أو حية يقتل مثلها غالباً، فمات منه، وجب عليه القود؛ لأنه ألجأه إلى قتله.
__________
(1) الدر المختار: 386/5.
(2) الشرح الكبير للدردير: 244/4.
(3) المغني: 641/7 ومابعدها، كشاف القناع: 589/5 وما بعدها.
(4) نهاية المحتاج للرملي: 14/7، المهذب: 176/2، مغني المحتاج: 9/4.
(7/567)
6 - التغريق والتحريق:
يفرق الحنفية بين التحريق والتغريق، فالتحريق بالنار عندهم قتل عمد؛ لأن النار كالسلاح في تفريق أجزاء الجسد، فتشق الجلد، وتعمل عمل الذبح. وألحقوا بالنار: الماء المغلي أو الحار، والمعدن المصهور، والتنور أو الفرن المحمي وإن لم يكن فيه نار (1) .
وأما التغريق بالماء الكثير فهو عند أبي حنيفة قتل شبه عمد، لأنه كالقتل بالمثقل. وعند الصاحبين: هو قتل عمد موجب للقود؛ لأنه مما يقتل به غالباً، واستعماله دليل العمدية (2) ، ويدل لهما قوله عليه السلام: «من غرَّق غرقناه» (3) . وهذا إذا كان الماء عظيماً بحيث لا تمكن النجاة منه. فلو كان الماء قليلاً لا يقتل غالباً، أو عظيماً تمكن النجاة منه بالسباحة، والملقى بالماء يحسن السباحة، فالقتل ليس شبه عمد باتفاق الحنفية.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 375/5، 386، نتائج الأفكار ـ تكملة فتح القدير: 245/8 وما بعدها.
(2) نتائج الأفكار: 267/8، الدر المختار: 385/5.
(3) رواه البيهقي من حديث البراء بن عازب، لكن في إسناده من يجهل حاله.
(7/568)
ويرى المالكية (1) : أن التحريق والتغريق قتل عمد موجب للقصاص، إذا كان التغريق عدواناً أو لعباً لغير المحسن للعوم، أوعداوة لمحسن العوم وكان الغالب عدم النجاة لشدة برد، أو طول مسافة، فغرق. فإن كان التغريق لمحسن العوم لعباً، فعليه دية مخففة (مخمسة) لا مغلظة. وقال الشافعية والحنابلة (2) : إذا ألقى أو طرح شخص غيره في نار أو ماء، لا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء أو النار أولعجزه عن التخلص لعدم إحسانه السباحة، أو مع إحسانها، وكان مكتوفاً أو ضعيفاً أو مريضاً أو صغيراً، فمات، كان القتل عمداً موجباً القصاص. وإن ألقاه في ماء مغرق، فالتقمه حوت، وجب القصاص في الأظهر عند الشافعية؛ لأنه ألقاه في مهلكه، وفيه وجهان عند الحنابلة، أصحهما وجوب القود على الملقي. فإن كان الماء يسيراً غير مغرق والتقمه الحوت فلا قصاص، وعليه دية القتل شبه العمد عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه هلك بفعله.
وإن أمكنه التخلص من الغرق بسباحة أو تعلق بزورق، فتركها، فلا قود ولا دية؛ أي أنه هدر عند الحنابلة، وفي الأظهر عند الشافعية؛ لأنه مهلك لنفسه. كذلك لا دية في الأظهر عند الشافعية إذا ألقاه في نار يمكنه الخلاص منها، فمكث فيها حتى مات. وفي إيجاب ضمان ديته وجهان عند الحنابلة، والصواب إلزامه الدية؛ لأنه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الهلاك. ورأي الشافعية والحنابلة أولى بالاتباع، ويقترب منه رأي المالكية؛ لأن مثل هذا الفعل الذي يباشره المعتدي قاتل غالباً.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 243/4.
(2) مغني المحتاج: 8/4، نهاية المحتاج: 10/7، المهذب: 176/2،192، المغني: 641/7، كشاف القناع: 590/5.
(7/569)
7 - الخنِق (1) :
الخنق عند أبي حنيفة قتل شبه عمد موجب للدية؛ لأنه ليس وسيلة معدة للقتل. وشرط القتل العمد عنده استعمال آلة قاتلة غالباً، ومعدة للقتل. وهو قتل عمد موجب للقصاص عند الصاحبين؛ لأنه في رأيهما وسيلة معدة للقتل، وذلك عندهما بشرط أن يدوم الجاني على الخنق بمقدار ما يموت منه الإنسان غالباً. فإن لم يتحقق هذا الشرط فلا قصاص باتفاق الحنفية (2) .
وقال المالكية (3) : الخنق عمد، سواء قصد به الجاني موت المجنى عليه، فمات، أو قصد مجرد التعذيب، ما دام هناك عدوان. فإن كان على وجه اللعب أو التأديب، فهو من القتل الخطأ.
وقال الشافعية والحنابلة (4) : الخنق عمد فيه القصاص، إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالباً، فمات، أي كما قال الصاحبان. وإن فعله في مدة لا يموت في مثلها غالباً، فمات، فهو عمد الخطأ أي شبه العمد، إلا أن يكون ذلك يسيراً في العادة بحيث لا يتوهم الموت منه، فلا يوجب ضماناً؛ لأنه بمنزلة لمسه.
وإن خنقه وتركه متألماً مثلاً حتى مات، ففيه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته. وإن تنفس وصح بعدئذ، ثم مات، فلا قود؛ لأن الظاهر أنه لم يمت بالخنق. ورأي غير أبي حنيفة أولى سداً للباب أمام المعتدين.
__________
(1) الخنِق ـ بكسر النون، ولا يقال بالسكون: مصدر خنق من باب نصر: إذا عصر حلقه أي حبس أنفاسه، ومنع خروج الهواء من رئتيه، سواء بالشنق، أو باليدين أو بالحبل أو بالوسادة. والخناق بكسر الخاء: حبل يخنق به.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 385/5 وما بعدها.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 242/4.
(4) المغني: 640/7، مغني المحتاج: 6/4.
(7/570)
8 - القتل بالترك أو الحبس ومنع الطعام والشراب:
إذا حبس شخص إنساناً في مكان، ومنع عنه الطعام أو الشراب، أو الدفء في الشتاء ولياليه الباردة، حتى مات جوعاً أو عطشاً أوبرداً في مدة يموت في مثلها غالباً، وتعذر عليه الطلب، ففيه آراء:
قال أبو حنيفة: لا شيء على الحابس؛ لأن الموت حدث بالجوع ونحوه، لا بالحبس.
وقال الصاحبان: تجب عليه الدية؛ لأنه قاتل شبه عمد؛ لأن الطعام والشراب والدفء من لوازم الإنسان، وتتوقف عليها حياته، فمن منعه إياها أهلكه بمنعه. وكونهما لم يعتبرا الفعل قتل عمد، فلأن الحبس في تقديرهما ليس وسيلة معدة للموت، وإن كان في ذاته وسيلة قاتلة غالباً (1) .
واعتبر المالكية (2) القتل في هذه الحالة كالخنق قتلاً عمداً، ما دام قد صدر على وجه العدوان.
واعتبر الشافعية والحنابلة (3) القتل حينئذ عمداً موجباً القصاص، إذا مضت مدة يموت مثله فيها غالباً جوعاً أو عطشاً؛ لظهور قصد الإهلاك به؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عندئذ، فإذا تعمده الإنسان، فقد تعمد القتل، وهذا الرأي وسط معتدل.
وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفاً، والزمان حراً وبرداً؛ لأن فقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد.
فإن كان لا يموت في مثلها غالباً، كان القتل شبه عمد عند الحنابلة. وفصل النووي في المنهاج في هذه الحالة، فقال: إن لم يكن به جوع وعطش سابق فشبه عمد. وإن كان به بعض جوع أو عطش، وعلم الحابس الحال، كان القتل عمداً، لظهور قصد الاهلاك.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 386/5، التشريع الجنائي لعودة: 73/2.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 242/4.
(3) نهاية المحتاج: 7/7 ومابعدها، مغني المحتاج: 5/4 وما بعدها، المهذب: 176/2، المغني: 643/7، كشاف القناع: 591/5.
(7/571)
9 ـ القتل تخويفاً أو إرهاباً:
يحدث القتل أحياناً بفعل معنوي غير مادي، كالتخويف والإرهاب، والصيحة الشديدة ونحوها من الأمثلة التالية:
ـ من شهر سيفاً في وجه إنسان، أو دلاَّه من مكان شاهق، فمات من روعته، أو ذهب عقله.
ـ لو صاح إنسان بصبي أو مجنون أو معتوه صيحة شديدة، وهو على سطح أو حائط ونحوهما، فوقع فمات، أو ذهب عقله.
ـ لو تغفل أحد بالغاً عاقلاً، فصاح به، فأصابه ذلك.
ـ لو طلب الحاكم امرأة إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها.
ـ لو ألقى على إنسان حية، ولو كانت ميتة، فمات فزعاً ورعباً.
ففي كل هذه الأحوال: لا ضمان لديته عند الحنفية لعدم تعدي السبب، أي لم يكن المذكور سبباً كافياً للضمان، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً، وذلك إذا لم يكن التخويف فجأة. فإن كان الصياح ونحوه على إنسان فجأة، فمات من صيحته أو قال له: قع، فوقع، فهو قاتل له قتلاً شبه عمد، فتجب الدية (1) .
وقال المالكية (2) : يكون المتسبب فيما ذكر في غير حال الإجهاض قاتلاً عمداً يجب عليه القصاص إن كان على وجه العداوة. أما إن كان على وجه اللعب أو التأديب فعليه الدية.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : إن فعل ما ذكر عمداً فهو شبه عمد موجب الدية، وإلا فهو خطأ؛ لأنه سبب إتلافه. ووافق الشافعية على هذا في الصبي. ولهم في البالغ قولان: تجب الدية؛ لأن الفاعل مسؤول عن فعله ما دام قد أدى للموت، والبالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي. وقيل في وجه آخر: لا تجب الدية؛ لأن البالغ بما يتميز به عادة من ضبط الأعصاب لا يفزع مع الغفلة، وإن فزع فنادراً، ولا حكم للنادر.
إلا أن هذين المذهبين اختلفا في حالة الاجهاض من الفزع، فإن أجهضت المرأة، فاتفقا على ضمان الجنين إذا ألقته أمه ميتاً، لقصة عمر الآتية. وأما إن فزعت المرأة فماتت، فقال الشافعية: لم تضمن ديتها؛ لأن ما حدث ليس بسبب لهلاكها في العادة.
وقال الحنابلة: تجب ديتها أيضاً؛ لأن الحاكم أفزعها، فكان متسبباً في موتها.
__________
(1) الدرالمختار: 397/5، مجمع الضمانات: 172، اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية بهامش جامع الفصولين: 112/2، ط الأولى بالأزهرية.
(2) الشرح الكبير للدردير: 244/4 وما بعدها.
(3) المهذب: 192/2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 230، المغني: 832/7 وما بعدها، مغني المحتاج: 4/4.
(7/572)
وأما قصة عمر: فهي أنه أرسل إلى امرأة مُغِيبة (1) ، كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر، فبينا هي في الطريق فزعت، فجاءها الطلق (2) ، فألقت ولداً، فصاح الصبي صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال ومؤدب، وصمت علي. فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقته، فقال عمر: أقسمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك، أي قريش.
__________
(1) المرأة المُغِيبة: هي التي غاب عنها زوجها. يقابلها: امرأة مُشْهِد: وهي التي زوجها شاهد حاضر.
(2) الطلق: وجع الولادة.
(7/573)
الركن الثالث ـ القصد الجنائي:
لا يكون القتل عمداً عند جمهور الفقهاء (الحنفية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3)) إلا إذا قصد الجاني قتل المجني عليه، أو ضربه بفعل مزهق (أي قصد الفعل العدوان بما يقتل غالباً) . فإن لم يتوافر القصد الجنائي، فلا يعد الفعل قتلاً عمداً. ولو قصد الجاني مجرد الاعتداء على المجني عليه، دون إزهاق روحه، بما لا يقتل غالباً، كان القتل شبه عمد.
وبما أن هذا القصد أو النية أمر باطني خفي لا يمكن الاطلاع عليه، أناط الفقهاء حكم القتل العمد بوصف ظاهر يمكن معرفته، وهو استعمال أداة القتل المناسبة؛ لأن الجاني غالباً يختار الآلة المناسبة لتنفيذه قصده الجرمي. فاستعمال الآلة القاتلة غالباً هو المظهر الخارجي لنية الجاني، وهو الدليل المادي الذي لا يكذب في الغالب؛ لأنه من صنع الجاني، لا من صنع غيره. ومن ثم اشترط الفقهاء أن تكون الآلة قاتلة غالباً؛ لأنها دليل على قصد القتل عند الجاني (4) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 97/6، 100، البدائع: 233/7 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 375/5.
(2) مغني المحتاج: 3/4، المهذب: 172/2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 222.
(3) كشاف القناع: 587/5، المغني: 637/7.
(4) التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عودة: 79/2 وما بعدها.
(7/574)
وأما المالكية (1) ، فاشترطوا للقصاص من الجناية وجود العدوان، ولم يشترطوا في القصاص قصد القتل، فسواء قصد الجاني قتل المجني عليه، أو تعمد الفعل بقصد العدوان المجرد عن نية القتل، فهو قاتل عمداً (2) ، إذا لم يرتكب الفعل على وجه اللعب أو التأديب، فيكون حينئذ خطأ.
القصد المحدود وغير المحدود: لا فرق عند الحنفية والحنابلة (3) بين القصد المحدود وغير المحدود، فسواء قصد الجاني قتل شخص معين، أو ضرب جماعة ولو لم يقصد شخصاً معيناً من الجماعة، فهو قاتل عمد.
وفرق الشافعية والمالكية (4) بين نوعي القصد، فإن قصد معيناً فهو قتل عمد، وإن قصد غير معين فهو قتل شبه عمد عند الشافعية، وخطأ عند المالكية.
الرضا بالقتل أو الإذن بالقتل:
يرى بعض الفقهاء أن الرضا أو الإذن بالقتل لا يبيح القتل؛ لأن الإنسان غير مالك نفسه، وإنما هي مملوكة لله عز وجل، فلا تباح عصمة النفس إلا بما نص عليه الشرع. ورأي فقهاء آخرون أن الإذن يبيح القتل. وبناء عليه اختلف الفقهاء في عقوبة القاتل المأذون له بالقتل، كما لو قال رجل لآخر: اقتلني، فقتله.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 237/4، 242.
(2) وبذلك يتسع مذهب المالكية لما يسمى عند القانونيين بالقصد الاحتمالي في جريمة القتل العمد: وهو كون الجاني مسؤولاً عن كل ما يتوقع حدوثه، مما هو ممكن الوقوع. بل إن هذا المذهب يتسع لأكثر من القصد الاحتمالي، فيشمل كل ما يتصوره الفاعل ممكن الوقوع، أو ممتنع الوقوع؛ لأن القتل العمد عندهم: هو كل فعل قصد به مجرد العدوان، ولو لم يقصد به القتل.
(3) الدر المختار: 375/5، كشاف القناع: 587/5.
(4) الشرح الكبير للدردير: 243/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 4/4، نهاية المحتاج: 4/7.
(7/575)
قال الحنفية ما عدا زفر (1) : القتل شبه عمد، يوجب الدية؛ لأن الإذن بالقتل الموجود بالفعل أورث شبهة، والحدود ومنها القصاص تدرأ بالشبهات. وقال زفر: لا يصلح الإذن شبهة، فلا يدرأ القصاص، ويجب تطبيقه.
وقال المالكية (2) : الإذن بالقتل لا يمنع وجوب القصاص، وإنما يلزم القود.
وقال الشافعية في الأظهر عندهم والحنابلة (3) : لا قصاص ولا دية، ودم المقتول أو جرحه هدر؛ لأن الحق له فيه، وقد أذنه في إتلافه، كما لو أذن له في إتلاف ماله.
المطلب الثاني ـ عقوبات القتل العمد:
عقوبة القتل العمد: هي الجزاء المترتب على الاعتداء على النفس.
وللقتل العمد عقوبات: أصلية، وبدلية (عن الأصلية) ، وتبعية.
واتفق الفقهاء على أن قاتل النفس عمداً يجب عليه أمور ثلاثة: الأول ـ الإثم العظيم لورود القرآن بتخليده في نار جهنم، والثاني ـ القود لآية القصاص، والثالث ـ الحرمان من الميراث لحديث: «لا يرث القاتل شيئاً» .
النوع الأول ـ العقوبة الأصلية:
نص الشرع على عقوبة أصلية للقتل العمد وهي القصاص أو القود (4) ، وهي
__________
(1) البدائع: 236/7، الدر المختار: 388/5.
(2) الشرح الكبير للدردير: 240/4.
(3) مغني المحتاج: 11/4، كشاف القناع: 602/5 وما بعدها.
(4) سمي قوداً؛ لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى محل استيفاء القصاص.
(7/576)
عقوبة متفق عليها بين الفقهاء، قال الحنفية (1) : موجَب العمد: القود عيناً، أي فلا ينتقل عنه إلى المال إلا بالتراضي.
وأضاف الشافعية دون غيرهم من الفقهاء عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الكفارة، قياساً على عقوبة القتل الخطأ التي نص عليها القرآن الكريم صراحة.
العقوبة الأصلية الأولى المتفق عليها ـ القصاص:
الكلام عن القصاص يتناول بحث معناه ومشروعيته، والفرق بينه وبين الحدود الأخرى، وشروطه، وموانعه، وكيفية وجوبه، وصاحب الحق فيه، وولاية الاستيفاء، وكيفية الاستيفاء، ومسقطاته.
أولاً ـ معنى القصاص: القصاص والقصص لغة: تتبع الأثر، واستعمل في معنى العقوبة؛ لأن المقتص يتبع أثر جناية الجاني، فيجرحه مثلها. وهو أيضاً المماثلة، ومن هذا المعنى أخذت عقوبة «القصاص» شرعاً، أي مجازاة الجاني بمثل فعله، وهو القتل.
ويلزم القصاص، سواء كان القتل مع سبق الإصرار أو الترصد أم لا.
ثانياً ـ مشروعية القصاص: ثبتت مشروعية القصاص بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول.
أما القرآن، ففيه ـ كما ذكر سابقاً ـ آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/2] ومنها أيضاً: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ... } [المائدة:45/5] {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/2] .
وفي السنة أحاديث متعددة أيضاً منها: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (2) ومنها حديث ابن عباس مرفوعاً: « ... ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل» (3) .
وأجمعت الأمة على وجوب القصاص.
والعقل يقضي بتشريع القصاص، إما عدالة بأن يفعل بالقاتل مثل جنايته، وإما مصلحة بتوفير الأمن العام وصون الدماء، وحماية الأنفس، وزجر الجناة، ولا يتحقق ذلك إلا به، فلا يلتفت إلى الدعاوى والمزاعم القائلة بأن فيه تهديماً جديداً للبنية الإنسانية؛ لأن في تشريعه صون حق الحياة للمجتمع: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/2] .
هل القصاص يكفر إثم القتل؟ اختلف العلماء في أمره (4) كما اختلفوا في الحدود، هل هي زواجر أو جوابر؟
قال الجمهور: القصاص من القاتل أو العفو عنه يكفر إثم القتل؛ لأن «الحدود كفارات لأهلها» (5) وهذا عام لم يخصص قتلاً من غيره. قال النووي: ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة بالعقوبة في الآخرة.
وقال الحنفية: القصاص أو العفو لا يكفر إثم القتل؛ لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما القصاص منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة:179/2] .
__________
(1) الدر المختار: 376/5.
(2) أخرجه أحمد والأئمة الستة من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) رواه أبو داود والنسائي. والصرف: التوبة، والعدل: الفدية.
(4) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 239/4 وما بعدها، رد المحتار: 389/5.
(5) يذكره الفقهاء حديثاً، روى مسلم في صحيحه عن عبادة بما في معناه: «من أصاب شيئاً من ذلك ـ أي المعاصي كالزنا والسرقة والقتل ـ فعوقب به فهو كفارة له» ورويت أحاديث أخرى في هذا المعنى، منها ما رواه الترمذي وصححه الحاكم عن علي بن أبي طالب وفيه: «من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا، فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة» وهو عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه «من أصاب ذنباً أقيم عليه حد ذلك الذنب، فهو كفارة له» وللطبراني عن ابن عمر مرفوعاً: «ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب» (راجع نيل الأوطار: 50/7، 53) .
(7/577)
ثالثاً ـ الفرق بين القصاص والحدود الأخرى:
الحدود كحد الزنا وحد المسكر حقوق خالصة لله تعالى، أي للمجتمع أو للجماعة، والقصاص حق شخصي للعباد، وفيه عند الحنفية والمالكية حق لله تعالى، أي للجماعة، وحد القذف مشتمل على الحقين: حق الله وحق العبد (الآدمي) . وبناء على هذا ذكر الحنفية بين الحدود والقصاص فروقاً سبعة هي ما يأتي (1) :
1 - القصاص يورث، والحد لا يورث.
2 - القصاص يصح العفو عنه، والحد لا يعفى عنه.
3 - التقادم لا يمنع قبول الشهادة بالقتل، بخلاف الحد ما عدا القذف، فإن التقادم يمنع الشهادة. والتقادم في الشرب بذهاب الريح، وفي حد غيره بمضي شهر.
4 - تجوز الشفاعة في القصاص، ولا تجوز في الحد بعد الوصول للحاكم،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 390/5، نقلاً عن الأشباه والنظائر لابن نجيم.
(7/578)
أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده، فتجوز الشفاعة فيه لإطلاق سراح المتهم (1) .
5 - لا بد في القصاص من رفع الدعوى إلى القضاء من ولي الدم، أما الحد ما عدا القذف والسرقة، فلا يشترط فيه الادعاء الشخصي من صاحب المصلحة فيه، وإنما يصح الحسبة فيه.
6 - يثبت القصاص بإشارة الأخرس أو كتابته، أما الحد فلا يثبت بهما، لاشتمالهما على الشبهة.
7 - يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي في القصاص دون الحدود، وهذا عند متقدمي الحنفية، وأفتى المتأخرون بعدم القضاء بالعلم مطلقاً سداً للذريعة أمام قضاة السوء، سواء في القصاص والحدود أم في الأموال وغيرها.
وأضاف بعض الحنفية فروقاً ثلاثة أخرى هي:
8 - استيفاء الحدود يكون بواسطة الإمام الحاكم، وأما القصاص فيجوز لولي الدم استيفاؤه بشرط وجود الحاكم.
9 - يجوز الاعتياض في القصاص، بخلاف الحدود ومنها حد القذف. وأجاز الشافعية المعاوضة عنه.
10 - يصح الرجوع عن الإقرار في الحد، دون القصاص.
__________
(1) تجوز الشفاعة لأرباب الحوائج المباحة كدفع الظلم وتخليص من خطأ، أو العفو عن ذنب ليس فيه حد إذا لم يكن المذنب مصراً، فإن كان مصراً فلا يجوز حتى يرتدع عن الذنب والإصرار. ودليل الشفاعة حديث: «اشفعوا تؤجروا» ولا يتناول هذا الحديث الحدود، فإن هناك أحاديث أخرى تمنع من الشفاعة فيها، مثل حديث عائشة في المرأة المخزومية السارقة ورد شفاعة أسامة فيها: «أتشفع في حد من حدود الله؟» .
(7/579)
رابعاً ـ شروط القصاص:
يشترط لوجوب القصاص شروط في القاتل والمقتول ونفس القتل وولي القتيل.
شروط القاتل:
يشترط في القاتل الذي يقتص منه شروط أربعة (1) :
1 - أن يكون مكلفاً (أي بالغاً عاقلاً) ، فلا قصاص ولا حد على الصبي أو المجنون؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأنها لا تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية. ومثلهما زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوهما؛ ولأن هؤلاء ليس لهم قصد صحيح، فهم كالقاتل خطأ.
القصاص من السكران: ويقتص من السكران بشراب محرم باتفاق المذاهب الأربعة (2) ؛ لأن السكر لا ينافي الخطاب الشرعي أي التكليف، فتلزمه كل أحكام الشرع، وتصح عباراته كلها في العقود كالبيع، وفي الإسقاطات كالطلاق، وفي الإقرارات، وإنما ينعدم بالسكر القصد دون العبارة، فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحساناً عند الحنفية.
والقصاص من السكران واجب؛ لأنه حق آدمي، وقياساً على إيجاب حد الشرب عليه، وسداً للذرائع أمام المفسدين الجناة، فلو لم يقتص منه لشرب ما يسكره، ثم يقتل ويزني ويسرق، وهو بمأمن من العقوبة والمأثم، ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه.
__________
(1) البدائع: 234/7 ومابعدها، الدر المختار: 378/5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 98/6، الشرح الكبير للدردير: 242/4، بداية المجتهد: 388/2، القوانين الفقهية: ص 345، المهذب: 173/2، مغني المحتاج: 15/4، المغني: 664/7 وما بعدها، كشاف القناع: 606/5.
(2) التلويح على التوضيح: 186/2، كشف الأسرار على أصول البزدوي: 1472/2-1475، القوانين الفقهية: ص 345، المهذب: 173/2، مغني المحتاج: 5/4، المغني: 665/7، الدردير: 237/4.
(7/580)
2 - أن يكون متعمداً القتل: أي قاصداً إزهاق روح المجني عليه، فإن كان مخطئاً، فلا قصاص عليه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «العمد قود» (1) أي القتل العمد يوجب القود، فالحديث شرط العمد لوجوب القود. ولم يشترط المالكية العمد بالذات، وإنما يكفي وجود العدوان.
3 - أن يكون تعمد القتل محضاً: أي لا شبهة في عدم إرادة القتل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم شرط العمد مطلقاً في قوله «العمد قود» . وهو يعني اكتمال وصف العمدية، ولا كمال مع وجود شبهة انتفاء قصد القتل، كما في حالة تكرار الضرب بما لا يقتل عادة، لا يراد به القتل، بل التأديب والتهذيب.
4 - أن يكون القاتل عند الحنفية مختاراً: فلا قصاص على المستكره على القتل عند الحنفية ما عدا زفر، وقال الجمهور: عليه مع المكره القصاص، كما بان سابقاً.
شروط المقتول:
يشترط لإيجاب القصاص في المعتدى عليه المقتول شروط هي ما يأتي (2) :
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث ابن عباس بلفظ: «العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول» .
(2) البدائع: 235/7 ومابعدها، الدر المختار: 378/5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 254/8 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 237/4، 242 وما بعدها، مواهب الجليل: 232/6، القوانين الفقهية: ص 345، بداية المجتهد: 391/3، مغني المحتاج: 15/4 وما بعدها، المهذب: 173/2، الروضة للنووي: 148/9، المغني: 648/7، 652، 657، كشاف القناع: 585/5، 587، 607.
(7/581)
1 - أن يكون معصوم الدم أو محقون الدم (1) أي يحرم الاعتداء على حياته. فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي، ولا بالمرتد، ولا بالزاني المحصن، ولا بالزنديق، ولا بالباغي؛ لأن هؤلاء مباحو الدم إما بسبب الحرابة أو الردة أو الزنا أو البغي، فكل واحد منها سبب لإهدار الدم، أي إباحته.
والعصمة عند الحنفية تكون ـ كما بان سابقاً ـ بالإسلام والإقامة في دار الإسلام، فمن أسلم في دار الحرب، وبقي مقيماً فيها، لا يقتص من قاتله هناك؛ لأن كمال حقن الدم بالعصمة المقومة والمؤثمة، وبالإسلام حصلت المؤثمة دون المقومة؛ لأن هذه تحصل بالإقامة في دار الإسلام (2) .
وأما العصمة عند الجمهور (غير الحنفية) : فتكون بالإيمان (الإسلام) أو الأمان بعقد الذمة أو الهدنة، فمن قتل مسلماً في دار الحرب عامداً عالماً بإسلامه، فعليه القود، سواء أكان قد هاجر أم لم يهاجر إلى دار الإسلام.
وصرح الحنفية بأن العصمة لمحقون الدم يجب أن تكون «على التأبيد» لإخراج المستأمن، فلا يقتص من قاتله؛ لأن عصمته مؤقتة أثناء الأمان، لا مؤبدة، ففي دمه شبهة الإباحة.
ويتفق الجمهور مع الحنفية على هذا القيد، لأنهم يقولون: لا يقتل مسلم بكافر، سواءأكان مستأمناً أم ذمياً أم معاهداً؛ لأن الكافر ليس بمحقون الدم على التأبيد، فأشبه الحربي (3) .
قتل الوالد بالولد وبالعكس:
2 - ألا يكون المجني عليه جزء القاتل، أي ألا تكون هناك رابطة الأبوة والبنوة، فلا قصاص على أحد الوالدين (الأب والجد، والأم أو الجدة وإن علوا) بقتل الولد أو ولد الولد وإن سفلوا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقاد الوالد بالولد» (4) . قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفاً (5) .
ولأن في القصاص من الأب شبهة آتية من حديث: «أنت ومالك لأبيك» (6) والقصاص يدرأ بالشبهات.
ولأن الأوامر المطالبة بالإحسان إلى الآباء تمنع القصاص منهم، فقد كان الأب سبباً في إيجاد ولده، فلا يكون الابن سبباً في إعدامه.
وإذا لم يقتل الأب بابنه وجب عليه الدية.
وهذا الحكم متفق عليه بين أئمة المذاهب (7) إلا أن المالكية استثنوا حالة واحدة: هي أن يتحقق أن الأب أراد قتل ابنه، وانتفت شبهة إرادة تأديبه وتهذيبه،
__________
(1) الحقن هو المنع، وحقن دمه: إذا منعه أن يسفك.
(2) رد المحتار: 378/5.
(3) المغني: 652/7 ومابعدها، المهذب: 241/2.
(4) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب، وفي بعض أسانيده طعن، وصحح البيهقي والحاكم بعض طرقه. وروي عن آخرين وهم ابن عباس وسراقة بن مالك وعمرو بن شعيب عن أبيه عند جده.
(5) المغني: 666/7.
(6) رواه ابن ماجه عن جابر، والطبراني عن سمرة وابن مسعود، وهو ضعيف.
(7) البدائع: 235/7، تكملة الفتح: 258/8 وما بعدها، بداية المجتهد: 293/2، الشرح الكبير للدردير: 242/4، مغني المحتاج: 18/4، المهذب: 174/3، المغني: 666/7 ومابعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 222.
(7/582)
كأن يضجعه فيذبحه، أو يبقر بطنه أو يقطع أعضاءه، فيقتل به لعموم القصاص بين المسلمين. فلو ضربه بقصد التأديب، أو في حالة غضب، أو رماه بسيف أو عصا، فقتله لا يقتل به.
واتفق الفقهاء على أنه يقتل الولد بقتل والده، لعموم القصاص وآياته الدالة على وجوبه على كل قاتل، إلا ما استثني بالحديث السابق (1) .
وعلة التفرقة بين الأب والابن في هذا الحكم: هو قوة المحبة التي بين الأب والابن، إلا أن محبة الأب غير مشوبة بشبهة مادية بقصد انتظار النفع منه، فتكون محبته له أصيلة لا لنفسه، فتقتضيه بالطبيعة الحرص على حياته. أما محبة الولد لأبيه فهي مشوبة بشبهة انتظار المنفعة؛ لأن ماله له بعد وفاة أبيه، فلا يحرص عادة على حياته، فتكون محبته لنفسه، فقد يقتله.
التكافؤ:
3 - اشتراط الجمهور (غير الحنفية) (2) أن يكون المقتول مكافئاً للقاتل في الإسلام والحرية، فلا يقتل قصاصاً مسلم بكافر، ولا حر بعبد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» (3) وقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مؤمن بكافر» (4) وقوله عليه الصلاة والسلام في العبد: «لا يقتل
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الكبير للدردير: 238/4، 241، بداية المجتهد: 391/2، القوانين الفقهية: ص 345، مغني المحتاج: 16/4، المهذب: 173/2، المغني: 652/7، 658، كشاف القناع: 609/5.
(3) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي جحيفة.
(4) رواه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث علي رضي الله عنه.
(7/583)
حر بعبد» (1) وقول علي رضي الله عنه: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» (2) .ولم يشترط الحنفية (3) التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التساوي في الإنسانية، لعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/2] وقوله سبحانه {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/5] ولعموم حديث «العمد قَوَد» وصوناً لحق الحياة، وتحقيق ذلك في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم، لما بينهما من العداوة الدينية، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد مؤمناً بكافر، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» (4) ، ولأن العبد آدمي معصوم الدم فأشبه الحر، والقصاص يتطلب فقط المساواة في العصمة.
وأما المراد من قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة:178/2] بعد قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/2] فاختلف فيه الفقهاء، فقال الحنفية: المراد به الرد علي ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حراً، وفي امرأتهم إلا رجلاً، على ما جاء في حديث الشعبي، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة. وقال الجمهور: إن الله قد أوجب المساواة في القصاص، ثم بيَّن المساواة المعتبرة، فبين أن الحر يساويه الحر، والعبد يساويه
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً. (2) رواه الإمام أحمد بإسناده عن علي، وأخرجه البيهقي.
(3) البدائع: 237/7، تبيين الحقائق: 102/6 وما بعدها.
(4) رواه الدارقطني في سننه عن ابن عمر من طريق عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف. وروي مرسلاً عند محمد بن الحسن، والشافعي وعبد الرزاق وأبي داود من طريق البيلماني.
(7/584)
العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن جاء الإجماع على أن الرجل يقتل بالمرأة. فمناط الاستدلال عندهم كلمة {القصاص} الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل، ومناط الاستدلال عندالحنفية كلمة {القتلى} الموجبة حصر القصاص في القاتل، لا في غيره.
وأما حديث «لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» فمعناه عند الحنفية أنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي؛ لأن المراد بالكافر هو الحربي بدليل جعل الحربي مقابلاً للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهداً مثله من الذميين إجماعاً، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد في المعطوف؛ لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقاً، ويكون التقدير: لا يقتل مسلم بكافر حربي ولا ذو عهد بكافر حربي؛ لأن الذمي أو المعاهد إذا قتل ذمياً قتل به، فعلم أن المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي. ولا يقال كما يرى الجمهور، معناه: لا يقتل ذو عهد مطلقاً، أي لا يحل قتله، بمعنى أنه يصبح كلاماً مستأنفاً مبتدأ به؛ لأن المراد من الحديث نفي القتل قصاصاً، لا نفي مطلق القتل، فيكون المعطوف مثل المعطوف عليه.
وأيد الحنفية قولهم بالقياس أيضاً وهو أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه.
(7/585)
لكن رد الجمهور على أدلة الحنفية بأن حديث «أنا أحق من وفى بذمته» ضعيف. وتوجد شبهة في إباحة دم الذمي، بسبب الكفر المبيح للدم، ولا قصاص مع الشبهة. وحديث «ولا ذو عهد في عهده» كلام تام لا يحتاج إلى تقدير، وهي جملة مستأنفة، لبيان حرمة دماء أهل الذمة والعهد بغير نقض، ولو سلمنا أنها للعطف، فالمشاركة في أصل النفي لا من كل وجه، فلو سلمنا تقدير الحربي في الجملة الثانية، فلا يسلم تخصيص الكافر بالحربي. وأما القياس فهو في مقابلة النص: «لا يقتل مسلم بكافر» . ثم إن حد السرقة حق الله، والقصاص يشعر بالمساواة، ولا مساواة بين المسلم والكافر.
واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالأنثى، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، وسليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل، أي أنه لا يشترط التكافو في الجنس والعقل والبلوغ والشرف والفضيلة وكمال الذات أو سلامة الأعضاء (1) .
وهل يقتل الباغي قصاصاً بالعدل وبالعكس؟: قال الحنفية (2) والمالكية (3) والحنابلة (4) في وجه هو الراجح: لا يقتل الباغي بالعدل وبالعكس؛ لأن كلاً منهما غير معصوم الدم في زعم الآخر، لاستحلاله الدم بتأويل. قال الزهري: «وقعت الفتنة والصحابة متوافرون، فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع» .
وقال الشافعية (5) : يقتص من الباغي بقتل العادل وبالعكس في غير حال القتال؛ لأن المقتول معصوم الدم مطلقاً؛ لأن الإسلام حقن دماء البغاة في غير حال القتال. وحكم البغاة في ضمان النفس والمال والحد إن لم يكن في قتال حكم أهل
__________
(1) البدائع، بداية المجتهد، المهذب، كشاف القناع، المكان السابق، المغني: 648/7.
(2) البدائع: 236/7.
(3) القوانين الفقهية: ص 364، الشرح الكبير والدسوقي: 300/4.
(4) المغني: 115/8، غاية المنتهى: 350/3، قال ابن قدامة: في القصاص وجهان: أحدهما: يجب لأنه مكافئ معصوم، والثاني: لا يجب لأن في قتلهم اختلافاً بين الأئمة، فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص، لأنه مما يندرئ بالشبهات.
(5) المهذب: 221/2، مغني المحتاج: 128/4 وما بعدها.
(7/586)
العدل، فإذا أتلفوه في غير قتال ضمنوه، وإلا فلا. لكن الصحيح عند الشافعية (1) أنه لا يتحتم قتل الباغي ويجوز العفو عنه، لقول علي رضي الله عنه بعد أن جرحه ابن ملجم قبل استشهاده: «أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمه: أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به» وقال الشافعي رضي الله عنه والحنابلة: يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي، وأضاف الشافعي: وحكم دار البغي دار الإسلام، فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد، أقامه الإمام إذا استولى عليها.
قتل الغيلة: هو القتل لأخذ المال، سواء أكان القتل خفية، كما لو خدعه، فذهب به لمحل، فقتله فيه لأخذ المال، أم كان القتل ظاهراً على وجه يتعذر معه الغوث، وقد يسمى الثاني (أي القتل ظاهراً) حرابة (2) .
وحكم هذا القتل كبقية أنواع القتل الأخرى عند الجمهور (3) (غير المالكية) في القصاص والعفو عنه، واشتراط التكافؤ بين القاتل والمقتول.
وقال المالكية: يقتل هذا القاتل بسبب الفساد والحرابة، لا قصاصاً، وبما أن هذا القتل يعاقب عليه فاعله بسبب الحرابة والفساد، لا للقصاص، رأى المالكية (4) : أنه لا يشترط فيه شرط التكافؤ، فيقتل الحر بالعبد، والمسلم بالكافر ولا عفو فيه، ولا صلح، وصلح ولي القتيل مردود، والحكم فيه إلى الإمام.
__________
(1) وقال في مغني المحتاج: أرجح الوجهين كما قال البلقيني: الوجوب أي وجوب القصاص على البغاة.
(2) وعرفه صاحب المغني ابن قدامة بقوله: أن يخدع الإنسان فيدخل بيتاً أو نحوه، فيقتل أو يؤخذ ماله. وذكر أن ذلك عند مالك.
(3) المغني: 648/7.
(4) الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 238/4، 242.
(7/587)
شرط القتل:
اشترط الحنفية (1) في القتل نفسه الموجب للقصاص: أن يكون مباشرة، لاتسبباً، فإن كان تسبباً ففيه الدية، كمن حفر بئراً على قارعة الطريق، فوقع فيه إنسان ومات، فعلى الحافر الدية. وإذا رجع شهود القصاص عن شهادتهم بعد قتل المشهود عليه، فتجب عليهم الدية؛ لأنه لم يوجد منهم القتل مباشرة، وإنما وجد منهم سبب القتل.
ولم يشترط غير الحنفية هذا الشرط، وإنما قالوا ـ في الجملة ـ: يجب القصاص بالسبب كالمباشرة؛ لأنهما متماثلان، على النحو الذي بان سابقاً. وملخصه:
إنه يجب عند الجمهور القصاص بالسبب الحسي كالإكراه على القتل، وبالسبب الشرعي كشهود الزور، وفي بعض أحوال السبب العرفي كتقديم الطعام المسموم إلى الضيف الصبي غير المميز أو المجنون. واختلفوا في تسميم المميز أو البالغ العاقل، فقال المالكية والحنابلة: على فاعله القصاص. وقال الشافعية في أرجح الأقوال: لا يقتص منه، وإنما عليه الدية (دية شبه العمد) . كما اختلفوا في حالة الشرط (وهو مالا يؤثر في الهلاك ولا يحصله بل يحصل التلف عند هـ بغيره، ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه) كالحفر مع التردي، والإمساك مع القتل، والدلالة على المجني عليه. فقال غير المالكية: يقتص من مباشر القتل، ويعزر المتسبب. وقال المالكية: يقتص من الاثنين معاً. واختلفوا أيضاً في حالة اشتراك الفاعل والشريك: فمن اتفق أو حرض أي اشترك في الجريمة ولم يباشر القتل فعليه
__________
(1) البدائع: 239/7.
(7/588)
التعزير عند الأئمة ما عدا مالكاً، وكذلك من أعان على القتل ولم يباشر القتل، عليه القصاص عند مالك، والتعزير عند باقي الأئمة (1) .
شرط ولي القتيل:
اشترط الحنفية (2) في ولي القتيل صاحب الحق في القصاص: أن يكون معلوماً، فإن كان مجهولاً لا يجب القصاص؛ لأن القصد من إيجاب القصاص هو التمكين من استيفاء الحق، والاستيفاء من المجهول متعذر، فتعذر الإيجاب له. وخالف فيه باقي الأئمة.
خامساً ـ موانع القصاص:
يفهم من المبحث السابق في شروط القصاص أن هناك حالات مانعة من القصاص، وهي ستة، يمكن إدخالها تحت مفهوم الشبهة التي تدرأ الحدود ومنها القصاص.
1 - حالة الأبوة عند فقهاء المذاهب ما عدا حالة إرادة القتل إذا ثبتت ثبوتاً قاطعاً عند المالكية. أما رابطة الزوجية فلا تمنع القصاص باتفاق المذاهب الأربعة، خلافاً للزهري والليث بن سعد (3) .
2 - عدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه: في الإسلام والحرية عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية. أما الكفار فيقتلون، بعضهم ببعض دون تفريق، فيقتل الذمي بالذمي، أو المجوسي، أو الحربي، أو المستأمن.
3 - حالة الاشتراك الجرمي أو الاتفاق الجنائي: أي حالة الاتفاق على القتل دون حضور القتل، أو التحريض أو الإعانة على القتل دون مباشرة القتل، فلا قصاص على من لم يباشر القتل، وإنما يعزر عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكية الذين قالوا: يقتص ممن حضر أو أعان ولم يباشر كالربيئة أو حارس الأبواب ومفارق الطرق.
أما في حالة اشتراك الجماعة بالقتل ومباشرتهم القتل فيقتص من الجميع باتفاق المذاهب.
4 - القتل بالتسبب عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة.
5 - أن يكون ولي القتيل مجهولاً عند الحنفية دون غيرهم من الأئمة.
6 - أن يكون القتل في دار الحرب عند الحنفية دون غيرهم.
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 132/2.
(2) البدائع: 240/7.
(3) المغني: 668/7.
(7/589)
فلا قصاص عند الحنفية على من قتل مسلماً في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام على دار الحرب، سواء أكان القتيل ممن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، أم كان مسلماً من أهل دار الإسلام، لكنه دخل دار الحرب بأمان، أو بإذن كالتاجر والأسير. وتجب الدية عند الصاحبين بقتل التاجر أو الأسير؛ لأنهما من أهل دار الإسلام، والأسر أمر طارئ. وعند أبي حنيفة: تجب دية التاجر، لا الأسير: لأن الأسير مقهور في يد أهل الحرب، فصار تابعاً لهم، فلم يعد متقوماً (1) . وأوجب غير الحنفية القصاص من القاتل في كل هذه الأحوال، كما بان سابقاً.
__________
(1) البدائع: 133/7، 237.
(7/590)
سادساً ـ كيفية وجوب القصاص (أو مدى لزوم القصاص، أو موجب العمد) :
يجب القصاص من القاتل إلا إذا عفا عنه ولي القتيل. فإذا عفا، هل يلزم القاتل بالدية أو لا؟
قال الحنفية والمالكية، والشافعية في ظاهر مذهبهم الراجح عندهم وفي رواية عن أحمد (1) : موجَب (2) القتل العمد هو القَود عيناً أي متعيناً، لقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/2] وهذا يفيد تعين القصاص واجباً متعيناً للعمد، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل عمداً فهو قَود» (3) ، ولأن القصاص بدل شيء متلف، فتعين الجزاء من جنسه، كسائر المتلفات.
ويحسن إيراد عبارة الشافعية فيه وهي: موجب العمد القود عيناً، والدية بدل عند سقوطه، وفي قول: موجب العمد: أحدهما (القصاص والدية) مبهماً، وعلى القولين: للولي عفو على الدية بغير رضا الجاني، وعلى الأول: لو أطلق العفو فالمذهب لا دية.
وبناء على هذا الرأي: قال الحنفية والمالكية والشافعية على المذهب: لو عفا ولي القتيل عن القصاص مطلقاً، أي دون مطالبة بالدية، لا يلزم الجاني بالدية جبراً عنه، وإنما له باختياره أن يدفعها في مقابل العفو عنه. وللولي أن يعفو مجاناً أو يقتص، أي ليس له إن أراد أخذ جزاء الجناية إلا القود، لا الدية. ويجوز العفو على الدية أو أكثر أو أقل برضا الجاني، وتعد الدية حينئذ بدلاً عن القصاص. ولو تعدد الأولياء فبادر أحدهم، فقتل الجاني قبل إبداء الآخرين رأيهم، سقط حق الباقين في القصاص ولا دية لهم، ويترتب على اعتبار الدية بدلاً من القصاص أنه لا يجوز للقاضي أن يجمع بين عقوبة وبدلها جزاء عن فعل واحد.
وقال الحنابلة عملاً برواية أخرى عن أحمد هي الراجحة عندهم (4) ، وفي قول عند الشافعية: ليس القصاص واجباً عيناً، وإنما الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية. وللولي خيار التعيين: إن شاء استوفى القصاص، وإن شاء أخذ الدية من غير توقف على رضا القاتل. ويعتبر التعزير بدلاً عن الدية. ودليلهم قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/2] ومعناه فليتتبع القاتل، وليؤد القاتل الدية، فالله أوجب الاتباع بمجرد العفو، ولو أوجب العمد القصاص عيناً، لم تجب الدية عند العفو المطلق. ثم إن الدية أحد بدلي النفس، فكانت بدلاً عنها، لا عن بدلها كالقصاص. وأما حديث «من قتل عمداً فهو قود» فالمراد به وجوب القود. ويخالف القتل سائر المتلفات؛ لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه، والقتل بخلافه.
وأضاف الحنابلة أدلة أخرى، منها قول ابن عباس: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة:178/2] (5) وعن أبي هريرة مرفوعاً: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يُودِي (6) ، وإما أن يقاد» (7) .
__________
(1) البدائع: 241/7، الدر المختار: 376/5، الشرح الكبير للدردير: 239/4، بداية المجتهد: 394/2، مغني المحتاج: 48/4، المهذب: 188/2، المغني: 752/7، كشاف القناع: 633/5.
(2) موجب العمد، أي مقتضاه في الاعتداء على نفس أو غيرها.
(3) رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.
(4) كشاف القناع: 633/5.
(5) رواه البخاري.
(6) وديت القتيل: إذا أعطيت ديته. واتديته: أخذت ديته.
(7) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(7/591)
ويترتب على هذا الرأي: أن الولي لو عفا عن القصاص مطلقاً، أو إلى الدية بدلاً عنه، وجبت الدية؛ لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر، وإن اختار الدية سقط القصاص، وإن اختار القصاص تعين. وفي هذه الحالة الأخيرة: هل له بعدئذ العفو على الدية؟ قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: له ذلك؛ لأن القصاص أعلى، فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلاً عن القصاص. ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه أسقط الدية باختياره القود، فلم يعد إليها.
سابعاً ـ صاحب الحق في القصاص:
صاحب الحق في القصاص أو مستوفيه أو ولي الدم: هو عند الحنفية والحنابلة، والصحيح عند الشافعية (1) : كل وارث يرث المال، سواء أكان من ذوي الفروض أم العصبة، أي جميع الورثة نساءً ورجالاً، أزواجاً وزوجات.
وقال المالكية (2) : مستحق القصاص هو العاصب الذكر، أي جميع العصبة بالنفس، يقدم الأقرب فالأقرب من العصبة في إرثه إلا الجد والإخوة، فهم في درجة متساوية في القصاص والعفو، فلا دخل في القصاص للبنات والأخوات والزوجات والزوج؛ لأن القصاص لرفع العار، فاختص بالعصبات كولاية الزواج.
وقد تكون المرأة مستحقة القصاص عند المالكية بشروط ثلاثة وهي:
1 - أن تكون وارثة المقتول كبنت أو أخت، فخرج العمة والخالة ونحوهما من ذوي الأرحام.
__________
(1) البدائع: 242/7 وما بعدها، الدر المختار: 383/5، حاشية الشلبي علي الزيلعي: 114/6، مغني المحتاج: 39/4 وما بعدها، المهذب: 183/2 وما بعدها، المغني: 739/7، 743، كشاف القناع: 621/5 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 256/4، بداية المجتهد: 395/2، الشرح الصغير: 358/4.
(7/592)
2 - ألا يساويها عاصب في الدرجة وفي القوة معاً: بأن لم يوجد أصلاً، أو وجد عاصب أنزل منها درجة، كعم مع بنت أو أخت. فتخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ، فلا كلام لها معه في عفو ولا قود، أي ليس لها حينئذ طلب القصاص، لتساويهما في الدرجة والقوة معاً، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، لها الكلام معه؛ لأنه وإن ساواها في الدرجة هو أنزل منها في القوة.
3 - أن تكون عصبة فيما لو فرض كونها ذكراً، فلا كلام للأخت لأم، والزوجة، والجدة لأم (1) . وللأم المطالبة باستيفاء القصاص، لأنها لو ذكِّرت، كانت أباً؛ لأنها والدة، لكن لا لاكلام لها مع وجود الأب، لمساواة العاصب لها.
وإذا تعدد الورثة، هل يثبت حق القصاص لكل وارث على سبيل الاستقلال، أو على سبيل الشركة؟ رأيان:
الرأي الأول ـ لأبي حنيفة ومالك (2) : وهو أن القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الاستقلال والكمال؛ لأنه حق مبتدأ لهم بوفاة القتيل؛ لأن المقصود من القصاص في القتلى هو التشفي، والميت لا يتشفى، فيثبت للورثة ابتداء. ثم إن حق القصاص لا يتجزأ، وما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة، يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال، كأنه ليس معه غيره، كولاية التزويج وولاية الأمان.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب، والصاحبين (3) : وهو أن حق القصاص يثبت لكل وارث على سبيل الشركة؛ لأن الحق في القصاص أصلاً
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 258/4، الشرح الصغير: 360/4 وما بعدها.
(2) البدائع: المرجع السابق والمكان السابق، الدردير: 257/4، الشرح الصغير للدردير: 360/4.
(3) مغني المحتاج: 40/4، المهذب: 188/2، المغني: 739/7، كشاف القناع: 621/5، البدائع: 242/7.
(7/593)
هو للمقتول، وبما أنه عجز بالموت عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بالإرث عنه، ويكون مشتركاً بينهم، كما يشتركون في إرث المال.
ويتفرع عن هذا الاختلاف على رأيين: أنه إذا تعدد الأولياء، هل ينتظر لاستيفاء القصاص بلوغ أحد الأولياء إذا كان صغيراً، أو عودته إذا كان غائباً، أو إفاقته من جنونه إذا كان مجنوناً؟
فعلى الرأي الأول: لا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ويكون الحق في الاستيفاء للكبير، والعاقل، وأما الغائب فينتظر لاحتمال عفوه.
وأما على الرأي الثاني: فينتظر بلوغ الصبي، وكمال المجنون بإفاقته، وقدوم الغائب، ولا يجوز حينئذ للكبير أو للحاضر الاستقلال باستيفاء القصاص. وفي هذه الحالة يحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويكمل الصبي والمجنون، ولا يخلى بكفيل.
وإذا لم يكن للمقتول وارث غير جماعة المسلمين، كان الأمر باتفاق الفقهاء إلى السلطان، عملاً بالقاعدة الشرعية: «السلطان ولي من لا ولي له» (1) فإن رأ ى السلطان القصاص اقتص، وإن رأى العفو على مال عفا؛ لأن الحق للمسلمين، فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة؛ لأن «تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة» فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لأنه تصرف لا مصلحة فيه للمسلمين، فلم يملكه (2) .
__________
(1) هذا نص حديث نبوي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، وحسنه الترمذي، ورواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.
(2) المهذب: 188/2، البدائع: 245/7، المغني: 754/7.
(7/594)
ثامناً ـ ولاية استيفاء القصاص:
الكلام فيمن يلي استيفاء القصاص يحتاج لتفصيل بحسب ما إذا كان المستحق منفرداً أو متعدداً.
1 - إذا كان مستحق القصاص منفرداً فإما أن يكون كبيراً أو صغيراً:
أـ فإن كان كبيراً فله استيفاء القصاص؛ لقوله تعالى: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/17] .
ب ـ وإن كان صغيراً أو مجنوناً، ففي انتظار كماله عند مشايخ الحنفية رأيان (1) : قال بعضهم: ينتظر بلوغه أو كماله. وقال آخرون: يستوفيه القاضي نيابة عنه.
وقال المالكية (2) : لا ينتظر البلوغ أو الإفاقة، ولولي الصغير أو المجنون أو وصيهما النظر بالمصلحة في استيفاء القصاص، وفي أخذ الدية كاملة.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون؛ لأن القصاص للتشفي، فحقه التفويض إلى اختيار المستحق، فلا يحصل المقصود باستيفاء غيره من ولي أو حاكم أو بقية الورثة.
2 - إذا تعدد مستحقو القصاص: فإما أن يكون الكل كباراً أو فيهم صغير.
أـ فإن كان الجميع كباراً حاضرين، فلكل واحد منهم ولاية استيفاء القصاص، حتى لو قتله أحدهم صار القصاص مستوفى للجميع؛ لأن القصاص إن كان حق الميت (كما يرى الصاحبان وموافقوهما) فكل واحد من الورثة خصم في استيفاء حق الميت، كما هو الحال في استيفاء المال.
وإن كان القصاص حق الورثة ابتداءً واستقلالاً (كما يرى أبو حنيفة ومالك) فكل واحد من الورثة يملك حق القصاص على سبيل الكمال.
لكن يشترط عند الحنفية حضور جميع المستحقين عند استيفاء القصاص، لاحتمال العفو من الغائب. فإن بادر أحد المستحقين بقتل الجاني، صار القصاص عند الحنفية مستوفى للجميع؛ لأن القصاص واجب عيناً، وليس لباقي الورثة شيء من المال، وإنما يعزر المقتص لافتئاته على إمام المسلمين.
__________
(1) البدائع: 243/7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 258/4.
(3) مغني المحتاج: 40/4، المغني: 739/7.
(7/595)
وقال الحنابلة، والأظهر عند الشافعية (1) : إنه لا قصاص في هذه الحالة على من بادر فقتل الجاني، ولكن للباقين من المستحقين نصيبهم من الدية من تركة الجاني، لسقوط حقهم بغير اختيارهم، وكون ذلك من تركة الجاني لا من المبادر على الأرجح؛ لأن المبادر فيما وراء حقه كالشخص الأجنبي، ولو بادر أجنبي فقتل الجاني، أخذ الورثة الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي.
ب ـ وأما إذا كان مستحقو القصاص كباراً وصغاراً، أو فيهم مجنون أو بعضهم غائب. فللكبار استيفاء القصاص عند أبي حنيفة ومالك (2) ، ولا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون (3) ؛ لثبوت حق القصاص للورثة ابتداء على سبيل الكمال والاستقلال، ولأن القصاص حق لا يتجزأ، لثبوته بسبب لا يتجزأ، وهو القرابة. ويؤيده اقتصاص الحسن لأبيه علي من ابن ملجم، وكان في ورثة علي كرم الله وجهه صغار.
وأما الغائب فينتظر عودته لاحتمال عفوه حال غيبته، فتقع الشبهة، ولا قصاص مع الشبهة، بعكس الصغير؛ لأن العفو من الصغير ميئوس منه حال استيفاء القصاص؛ لأنه ليس من أهل العفو. وانتظار الغائب عند المالكية هو في حال الغيبة القريبة، بحيث تصل إلىه الأخبار إن أراد الحاضر القصاص. أما في حال الغيبة البعيدة بحيث يتعذر وصول الخبر إليه كأسير ومفقود فلا ينتظر.
وللأب والجد عند الحنفية والمالكية استيفاء القصاص عن الصغير، وأضاف المالكية دون الحنفية تلك الولاية للوصي أيضاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 41/4، المغني: 741/7.
(2) البدائع: 243/7 وما بعدها، الدر المختار: 383/5، الشرح الكبير للدردير: 257/4، تكملة فتح القدير: 265/8.
(3) هذا عند المالكية إذاكان الجنون مطبقاً مستمراً، أما من يفيق أحياناً فتنتظر إقامته، كما ينتظر المغمى عليه.
(7/596)
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (1) : ليس لبعض أولياء القتيل استيفاء القصاص إلا بإذن الباقين، فإن كان فيهم صغير ينتظر بلوغه، أو مجنون تنتظر إفاقته، أو غائب ينتظر قدومه؛ لأن القصاص حق مشترك بينهم، ولا يملك أحدهم إبطال حق غيره، فيؤخر إلى وقت كمال القاصر، كما يؤخذ لعودة الغائب.
وليس للولي أباً أو جداً، ولا للوصي ولا للحاكم استيفاء القصاص للصغير أو المجنون؛ لأن القصد من القصاص هو التشفي، وترك الغيظ، ولايحصل المقصود باستيفاء الأب أو غيره، بخلاف الدية، فإن الغرض يحصل باستيفائه.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 265/8، مغني المحتاج: 40/4، المغني: 740/7 وما بعدها، كشاف القناع: 621/5.
(7/597)
تاسعاً ـ كيفية استيفاء القصاص (أداة القصاص) :
هناك رأيان في الفقه في كيفية القصاص.
1 - قال الحنفية، والأصح عن الحنابلة (1) : لا يكون القصاص في النفس إلا بالسيف (2) ، سواء أكان ارتكاب جريمة القتل بالسيف ونحوه، أم بمحرم لذاته كسحر وتجريع خمر ولواط، أم بمثقل كحجر وعصا، أم بتغريق أم تحريق أم هدم حائط عليه، أم حبس أم خنق أم قطع عضو ثم ضرب عنقه، أم جنى عليه جناية غير ما ذكر فمات، وتوافرت شروط القصاص بحسب كل مذهب، على ما بان، فمن له قود قاد بالسيف، ولا يفعل بالمقتص منه كما فعل إذا كان القتل بغير السيف لأنه مُثْلة، وقد نهي عن المثلة، ولأن فيه زيادة تعذيب، لكن لو قام ولي الدم بإلقاء الجاني في بئر، أو قتله بحجر، أو بنوع آخر عزر، وكان مستوفياً حقه في القصاص.
واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا قَود إلا بالسيف» (3) .
2 - وقال المالكية والشافعية (4) : يقتل القاتل بالقِتْلة التي قتل بها، أي بمثل الفعل الذي فعله بالقتيل، من ضربه بمحدد كحديد أو سيف، أو بمثقل كحجر، أو رمي من شاهق، أو خنق أو تجويع أو تغريق أو تحريق أو غيرها. لكن إن عدل الولي عن هذه الوسائل إلى السيف، جاز بل هو أولى للخروج من الخلاف.
ويتعين السيف عند هؤلاء إذا كان القتل بسحر أو خمر، أو لواط؛ لأن هذا محرم لعينه، فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف.
كما يتعين السيف أيضاً عند المالكية إذا طال تعذيب الجاني بمثل فعله، أو ثبت القصاص بالقسامة، واختلف المالكية على رأيين في القتل بالنار والسم إذا كان القاتل قتل بهما، فقيل: يقتل بالسيف، وقيل: يقتل بما قتل به، وهذا هو مشهور مذهب المالكية.
واستدلوا على مذهبهم بالقرآن والسنة والمعقول:
أما من القرآن فآيات مثل قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/16] وقوله سبحانه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/42] .
__________
(1) البدائع: 245/7، الدر المختار: 382/5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 98/6، كشاف القناع: 628/5، المغني: 685/7، 688.
(2) قال الحنفية: المراد بالسيف: السلاح.
(3) رواه ابن ماجه والبزار في مسنده، وقال: لا نعلم أحداً أسنده بأحسن من هذا الإسناد، ورواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن النعمان بن بشير من غير طريق، وقال أحمد: ليس إسناده بجيد.
(4) بداية المجتهد: 396/2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 265/4، مغني المحتاج: 44/4، المهذب: 186/2، القوانين الفقهية لابن جزي: ص 345، الشرح الصغير: 369/4 وما بعدها.
(7/598)
ومن السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: «من حرَّق حرقناه، ومن غرَّق غرَّقناه» (1) وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «رضَّ رأس يهودي بين حجرين، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار (2) » .
ومن المعقول: أن القصاص معناه المماثلة في الفعل، فوجب أن يستوفى من الجاني مثل ما فعل، ثم إن المقصود من القصاص هو التشفي، ولا يكمل المطلوب إلا إذا قتل القاتل بمثل ما قتل. وأما حديث النهي عن المثلة فمحمول على من وجب قتله، لا على وجه المكافأة.
تنفيذ القصاص بواسطة ولي القتيل:
استيفاء القصاص بالسيف ونحوه قد يكون بالجلاد المتخصص إذا رغب عنه مستوفي القصاص، وقد يكون بنفس مستحق القصاص، فيمكَّن من السيف، ولكن بإشراف الحاكم؛ لأن المبدأ الشرعي المتفق عليه أن تنفيذ عقوبات الحدود والقصاص والتعزيرات يكون من اختصاص الإمام، فيشترط وجوده عند استيفاء العقوبة (3) . وتعتبر مشاركة ولي الدم في القصاص سبيلاً لإطفاء لوعته وإزالة حقده، فتهدأ نفسه، ويوصد الباب أما م أسرته، كيلا تبادر إلى الاقتتال مع أسرة القاتل، قال الله تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/17] .
وإذا سلِّم القاتل لولي الدم لأجل استيفاء القصاص منه، وجب على الحاكم أن ينهاه عن العبث بالجاني، فلا يشدد عليه بحبس أو تخشيب أو تكتيف قبل القصاص ولا يمثل به بعد القصاص (4) .
وعليه، يشترط لاستيفاء ولي المقتول القصاص بنفسه شرطان:
1 - أن يكون ذلك بإذن الإمام، وإلا عزر.
2 - أن يكون القصاص في قتل النفس، لا في الأطراف والأعضاء.
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن من حديث البراء بن عازب. لكن في إسناده من يجهل حاله كبشر وغيره.
(2) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك.
(3) راجع البدائع: 96/7، الدر المختار: 389/5 وما بعدها، حجة الله البالغة: 132/2، الشرح الكبير للدردير: 354/4، مغني المحتاج: 277/2، 31/4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، المهذب: 184/2، كشاف القناع: 626/5، المغني: 690/7.
(4) الشرح الكبير للدردير: 259/4.
(7/599)
استعمال وسيلة قصاص غير السيف:
بما أن القصد من استعمال السيف كونه أسرع أداة في القتل، وأيسر وسيلة لتفادي الألم والعذاب، فلا مانع شرعاً من استعمال أداة أخرى أسرع من السيف،
وأقل إيلاماً، وأبعد عن المُثْلة، مثل المِقْصلة التي هي من قبيل السلاح المحدد، والكرسي الكهربائي التي تسرع في الصعق (1) ، والشنق لعدم إسالة الدم فيه، والاعتماد على إيقاف القلب به، والإعدام بغاز معين شبيه بالمخدر.
عاشراً ـ مسقطات القصاص:
يسقط القصاص بأحد أربعة أسباب هي ما يأتي: موت الجاني، العفو، الصلح، إرث القصاص (2) .
1 - موت الجاني (فوات محل القصاص) : إذا مات من عليه القصاص، أو قتل ظلماً بغير حق، أو بحق بالردة أو القصاص، سقط القصاص؛ لأن محله هو نفس القاتل، ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله.
وفي هذه الحالة، هل تجب الدية في مال الجاني أو لا؟
قال الحنفية والمالكية (3) : إذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية في مال القاتل؛ لأن القصاص واجب عيناً، فإذا مات سقط الواجب. وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل. ولا تجب الدية إلا برضا القاتل واختياره.
وقال الحنابلة (4) : إذا سقط القصاص بالموت، بقي الخيار للولي في أخذ الدية؛ لأن الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القود أو الدية، فإن اختار أخذ الدية
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 154/2 نقلاً عن لجنة الفتوى بالأرهر، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقا: ف/328. (2) البدائع: 246/7 وما بعدها، الدر المختار: 394/5، الشرح الكبير: 262/4 ومابعدها، الشرح الصغير: 366/4 وما بعدها.
(3) البدائع، المكان السابق، الشرح الكبير للدردير: 239/4.
(4) كشاف القناع: 633/5.
(7/600)
وجبت ولو لم يرض الجاني. وبالرغم من أن الراجح في المذهب الشافعي وهو أن القصاص واجب عيناً، إلا أن الشافعية قالوا: الدية بدل عن القصاص عند سقوطه بعفو أو غيره كموت الجاني، فيثبت حق المجني عليه في الدية؛ لأن ما ضمن بسببين على سبيل البدل، إذا تعذر أحدهما ثبت الآخر، كذوات الأمثال (1) . وتلزم الدية حال العفو عن القصاص على الدية باختيار ولي المجني عليه، لا برضا الجاني. وبه يظهر أن الشافعية والحنابلة يقررون بقاء الدية في التركة بموت القاتل.
2 - العفو: الكلام فيه يتناول مشروعيته، وركنه، ومعناه وشروطه، وأحكامه.
مشروعيته: يجوز العفو عن القصاص، وهو أفضل من استيفاء القصاص (2) ، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتِّباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/2] وقال سبحانه: {والجروحَ قصاص، فمن تصدَّق به فهو كفارة له} [المائدة:45/5] وقال تعالى في مناسبة إسقاط الحق في شيء من المهر قبل الدخول: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/2] .
ومن السنة قول أنس: «ما رفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو» (3) . وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به إلا رفعه الله درجة، وحط به عنه خطيئة» (4)
__________
(1) مغني المحتاج: 48/4، نهاية المحتاج: 48/7، المهذب: 188/2.
(2) المغني: 742/7، كشاف القناع: 633/5.
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي، وإسناده لابأس به.
(4) رواه ابن ماجه والترمذي، وقال عنه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(7/601)
وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً» (1) .
وجعل القصاص قابلاً للسقوط بالعفو مزية فريدة للتشريع الإسلامي، إذ به يقلص من حالات تنفيذ هذه العقوبة الخطيرة، ويتحقق الغرض منها بحفظ حق الحياة، ومنع الثأر، ورفع الأحقاد والضغائن من النفوس.
وركن العفو: أن يقول العافي: عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت ونحوها (2) .
ومعنى العفو عند الحنفية والمالكية (3) : هو إسقاط القصاص مجاناً. أما التنازل عن القصاص مقابل الدية فهو صلح، لا عفو؛ لأن تنازل الولي لا ينفذ إلا إذا قبل الجاني دفع الدية، فلا تثبت الدية عندهم إلا بتراضي الفريقين أي الولي والقاتل. وليس للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير ديته، إلا أن يرضى القاتل بإعطاء الدية.
والعفو عند الشافعية والحنابلة (4) : هو التنازل عن القصاص مجاناً، أو إلى الدية، وولي الدم بالخيار: إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أم لم يرض، عملاً بحديث أبي هريرة: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، بين أن يأخذ الدية، وبين أن يعفو» .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه.
(2) البدائع: 246/7.
(3) تبيين الحقائق: 107/6 وما بعدها، 113، البدائع: 247/7، بداية المجتهد: 394/2، الشرح الصغير: 368/4، الشرح الكبير: 262/4 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 49/4، كشاف القناع: 633/5.
(7/602)
شروط العفو: يشترط شرطان في العفو (1) :
1 - أن يكون العافي بالغاً عاقلاً، فلا يصح عفو الصبي والمجنون؛ لأنه تصرف ضار بهما ضرراً محضاً، فلا يملكانه، كالطلاق، والهبة.
2 - أن يصدر العفو من صاحب الحق فيه؛ لأن العفو إسقاط الحق، وإسقاط الحق لا يقبل ممن لا حق له.
وصاحب الحق في العفو: هو الورثة رجالاً ونساء عند الجمهور، والعاصب الذكر عند المالكية.
ومن لا حق له في العفو: هو الأجنبي غير الوارث عند الجمهور، وغير العاصب عند المالكية، وكذا الأب والجد في قصاص وجب للصغير عند المالكية والحنفية؛ لأن الصغير هو صاحب الحق، ولأبيه وجده ولاية الاستيفاء فقط، كما أن العفو ضرر محض، فلا يملكه أحد سوى الصغير بعد البلوغ، حتى الحاكم لا يملكه، والسبب فيه أن العفو معناه التنازل مجاناً. وأجاز الشافعية والحنابلة للأب والجد والحاكم العفو على مال.
أحكام العفو:
للعفو أحكام، منها ما يأتي:
1 ً) ـ أثر العفو في إسقاط القصاص والدية: يترتب على العفو عن القاتل عند الحنفية والمالكية (2) إسقاط القصاص مجاناً. وليس للعافي حينئذ الحق في أخذ الدية إلا من طريق الصلح، أي الاتفاق مع الجاني لدفع الدية برضاه؛ لأن موجب العمد عندهم هو القود عيناً. ولكن وجوب القود لا ينافي أن للولي العفو مجاناً، أوأخذ الدية برضا الجاني.
__________
(1) البدائع: 246/7، بداية المجتهد: 395/2، الشرح الكبير: 258/4 ومابعدها، مغني المحتاج: 48/4، كشاف القناع: 634/5، المغني: 743/7.
(2) البدائع: 247/7، الشرح الكبير للدردير: 239/4 وما بعدها.
(7/603)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : للولي الحق المطلق في العفو، فإن عفا عن القصاص سقط، وإن عفا على الدية، وجبت على الجاني ولو بغير رضاه، لما روى البيهقي عن مجاهد وغيره: «كان في شرع موسى عليه السلام تحتم القصاص جزماً، وفي شرع عيسى عليه السلام الدية فقط، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة وخيرها بين الأمرين» لما في الإلزام بأحدهما من المشقة، ولأن الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه.
وإذا أطلق الولي العفو أو بعبارة أخرى، إذا صدر العفو من الولي مطلقاً عن القود، ولم يتعرض للدية بنفي ولا إثبات، فالمذهب عند الشافعية: أنه لا دية؛ لأن القتل يوجب القود عيناً على الراجح عندهم، ولم يوجب الدية، والعفو إسقاط شيء ثابت، لا إثبات أمر معدوم. وكذلك قال المالكية: لا دية لعاف مطلق في عفوه إلا أن تظهر بقرائن الأحوال إرادتها، فيحلف على مراده (2) .
وتجب الدية عند الحنابلة في هذه الحالة، لانصراف العفو إلى القود؛ لأنه في مقابلة الانتقام، والانتقام إنما يكون بالقتل، ولقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/2] أي اتباع المال، وذلك يشعر بوجوبه بالعفو (3) .
2 ً) ـ أثر العفو على حق الغير إذا تعدد الأولياء أو كان الولي واحداً:
إذا عفا ولي الدم، وكان واحداً، ترتب عليه أثره: فإن كان العفو مطلقاً ترتب عليه عصمة دم القاتل، فلو رجع عن عفوه، وقتل القاتل، اعتبر الولي قاتلاً عمداً، لعموم تشريع القصاص وآياته التي لم تفرق بين شخص وشخص، وحال وحال، ولأن الجاني بالعفو عنه صار معصوم الدم (1) .
وإن كان العفو مقيداً بدفع الدية، وجب على الجاني دفع الدية إن تم ذلك برضاه عند الحنفية والمالكية، أو بغير رضاه عند الشافعية والحنابلة، على ما تقدم سابقاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 48/4، كشاف القناع: 633/5 وما بعدها، المهذب: 188/2، المغني: 743/7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 240/4.
(3) وهل بالعفو عن القاتل يبرأ القاتل في الدنيا فقط أو أنه يبرأ أيضاً فيما بينه وبين الله تعالى؟ قال الحنفية: يبرأ القاتل بالعفو عن القصاص والدية، ولكن لا يبرأ عن ظلمه، ولو بالتوبة لتعلق حق المقتول به، وأثر التوبة هو في إسقاط ظلم القاتل نفسه بإقدامه على المعصية. لكن الجمهور قالوا: يبرأ القاتل بالعفو في الدنيا والآخرة (رد المحتار: 389/5) .
(7/604)
وأما إذا تعدد الأولياء، فعفا أحدهم، سقط القصاص عن القاتل؛ لأن القصاص لا يتجزأ، وهو شيء واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، ويبقى للآخرين حصتهم من الدية. بدليل ما روي عن جماعة من الصحابة، وهم عمر وابن مسعود وابن عباس: أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية. ويأخذ العافي نصيبه من الدية إذا عفا على الدية، ولا يأخذ شيئاً إذا عفا مجاناً.
لكن سقوط القصاص عند المالكية بعفو أحد المستحقين مقيد بما إذا كان العافي مساوياً لدرجة الباقين أو أعلى درجة، أوا ستحقاقاً. فإن كان أنزل درجة أو لم يساو الباقي في الاستحقاق كإخوة لأم مع إخوة لأب، لم يعتبر عفوه (2) .
__________
(1) البدائع: 247/7، الدر المختار: 394/5، الشرح الكبير للدردير: 240/4، الشرح الصغير: 366/4 وما بعدها، المهذب: 188/2، كشاف القناع: 634/5، المغني: 745/7.
(2) البدائع، المكان السابق، الشرح الكبير للدردير: 261/4 وما بعدها، الشرح الصغير: 364/4، المهذب: 189/2، المغني: 744/7، كشاف القناع، المكان السابق.
(7/605)
وإذا عفا أحد الأولياء، فقتله الآخر، فلا قصاص عند الحنفية (1) ، للشبهة، إذا كان القاتل غير عالم بالعفو، أو عالماً بالعفو، غيرعالم بحرمة القتل. وقال الشافعية والحنابلة وزفر (2) : عليه القصاص إذا كان عالماً بالعفو؛ لأنه قتل نفساً بغير حق؛ لأن عصمته عادت إليه بالعفو.
3) ـ هل يبقى حق للسلطان بعد عفو ولي الدم؟ :
إذا عفا ولي القتيل مطلقاً عن القاتل عمداً، صح العفو، وبقي عند الحنفية والمالكية حق السلطان في عقوبته تعزيراً؛ لأن القصاص فيه حقان: حق الله (أو حق المجتمع أو الحق العام) ، وحق المجني عليه. وحدد المالكية نوع التعزير فقالوا: إذا عفا ولي الدم (3) عن القاتل عمداً، يبقى للسلطان حق فيه، فيجلده مئة، ويسجنه سنة (4) .
وقال الشافعية والحنابلة: إذا عفي عن القاتل مطلقاً، صح العفو، ولم تلزمه عقوبة أخرى (5) . وقال الماوردي (6) : الأظهر أن لولي الأمر أن يعزر مع العفو عن الحدود؛ لأن التقويم من حقوق المصلحة العامة. وقال أبو يعلى الحنبلي (7) في حق
__________
(1) البدائع: 248/7.
(2) البدائع، المكان السابق، مغني المحتاج: 41/4، المهذب: 184/2، شرح المحلي على المنهاج: 122/4، المغني: 744/7، كشاف القناع: 632/5.
(3) أولياء الدم كما عرفنا: هم الورثة على ترتيب الإرث والحجب حتى الزوجان، في رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. وقال المالكية: أولياء الدم: هم الذكور العصبة دون البنات والأخوات والزوجين (انظر القوانين الفقهية: ص 346) .
(4) التلويح على التوضيح: 155/2، بداية المجتهد: 396/2.
(5) المغني: 745/7.
(6) الأحكام السلطانية له: ص 229.
(7) الأحكام السلطانية له: ص 266.
(7/606)
السلطنة المشروع للتقويم والتهذيب: ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يسقط؛ لأنه لم يفرق، ويحتمل ألا يسقط للتهذيب والتقويم (1) .
4) ـ عفو المقتول عمداً عن دمه قبل موته: إذا عفا المقتول عن القاتل قبل موته، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (2) : يسقط القصاص عن القاتل، ولا تجب الدية لورثة المقتول من بعده، أي لا قصاص فيه ولا دية، وإنما هو هدر، للإذن فيه؛ لأن المقتول أسقط حقه باختياره، وقال تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة:45/5] أي المقتول يتصدق بدمه، في حال إصابته قبل موته.
وقال المالكية (3) : لو قال المقتول لقاتله: إن قتلتني أبرأتك، أو قال له بعد جرحه قبل إنفاذ مقتله: أبرأتك من دمي، فلا يبرأ القاتل، بل للولي القود؛ لأنه أسقط حقاً قبل وجوبه. أما لو أبرأه بعد إنفاذ مقتله، أو قال له: إن مت فقد أبرأتك، فإنه يبرأ؛ لأنه أسقط شيئاً بعد وجوبه. ويشترط أن يكون هذا القول بالإبراء بعد إنفاذ مقتله.
أما عفو المقتول خطأ عن الدية، فينفذ في المذاهب من ثلث ماله (4) .
3 - الصلح:
يجوز الصلح على القصاص باتفاق الفقهاء، ويسقط به القصاص، سواء أكان الصلح بأكثر من الدية أم بمثلها أم بأقل منها (5) ، وسواء أكان حالاً أم مؤجلاً،
__________
(1) انظر كتابنا نظرية الضمان: ص 309-311، المسؤولية المدنية والجنائية للشيخ محمود شلتوت: ص51 وما بعدها.
(2) البدائع: 249/7، مغني المحتاج: 50/4، المغني: 750/7.
(3) الشرح الكبير للدردير: 240/4، فتح العلي المالك: 322/1.
(4) البدائع: 249/7.
(5) يجوز لأبي المعتوه الصلح على الدية بالأكثر والمساوي، ولا يجوز بالأقل منها (الدر المختار: 382/5) .
(7/607)
ومن جنس الدية، ومن خلاف جنسها بشرط قبول الجاني؛ لأن القصاص ليس مالاً (1) . أما الصلح على الدية فلا يجوز بأكثر من الدية، حتى لا يقع المتصالحان في الربا.
والصلح يختص بالإسقاط بمقابل. أما العفو فقد يقع مجاناً أو في مقابل مال، لكن إن وقع العفو عن القصاص على الدية، اعتبر عند الحنفية والمالكية صلحاً لا عفواً، ويسمى أيضاً عند الشافعية والحنابلة عفواً بمقابل.
وقد رغب الشرع في الصلح عموماً في قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (2) . ودلت السنة على مشروعية الصلح في الدماء لإسقاط القصاص، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قَتَل عمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية: ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خَلِفة (3) ، وما صولحوا عليه فهو لهم» (4) وذلك لتشديد حرمة القتل.
وحكم الصلح: هو حكم العفو، فمن يملك العفو يملك الصلح، وأثر الصلح كأثر العفو في إسقاط القصاص، وإذا تعدد الأولياء، وصالح أحدهم الجاني على مال، سقط القصاص، وبقي حق الآخرين في المال. وإذا بادر أحد الأولياء بقتل الجاني بعد الصلح، فهو قاتل له عمداً، لكنه لا قصاص عليه عند الحنفية ما عدا زفر. وعليه القصاص عند الشافعية والحنابلة.
__________
(1) الدر المختار: 394/5، الشرح الكبير للدردير: 263/4، الشرح الصغير للدردير: 368/4، مغني المحتاج: 49/4، كشاف القناع: 634/5.
(2) رواه أبو داود والحاكم وابن حبان وصححه عن أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن عمرو بن عوف.
(3) الحقة: هي الناقة التي طعنت في السنة الرابعة، والجذعة: هي التي طعنت في الخامسة، والخلفة: هي الحامل.
(4) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
(7/608)
واتفق الفقهاء على أن الصلح الصادر من ولي الصغير أو المجنون أو من الحاكم لا يجوز على غير مال، ولا على أقل من الدية؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه، ولأنه تصرف لا مصلحة فيه للصغير. فإن وقع الصلح على أقل من الدية صح عند المالكية والحنفية، ووجب باقي الدية في ذمة الجاني، ويرجع الصغير عند المالكية بعد رشده على القاتل في حال ملاءته (1) ،أي يسره وغناه.
4 - إرث القصاص:
يسقط القصاص إذا كان ولي الدم هو وارث الحق في القصاص، كما إذا وجب القصاص لإنسان، فمات من له القصاص، فورث القاتل القصاص كله، أو بعضه، أو ورثه من ليس له القصاص من القاتل وهو الابن (2) .
فتكون لدينا صورتان لإرث القصاص:
1 - مثال كون القاتل وارث القصاص: أن يقتل ولد أباه، وللولد أخ، ثم يموت الأخ صاحب الحق في القصاص، ولا وارث له إلا أخوه القاتل، فيصبح القاتل وارث دم نفسه من أخيه، فيسقط القصاص؛ لأن القصاص لا يتجزأ أو لا يتبعض، ولا يصح استيفاء القصاص من شخص طالب ومطلوب في آن واحد.
كذلك يسقط القصاص إذا ورث القاتل بعض الحق في القصاص، بأن ورث القاتل أحد ورثة القتيل، ويكون لهؤلاء الورثة نصيبهم من الدية.
2 - ومثال كون وارث القصاص من ليس له القصاص من القاتل: أن يقتل أحد الوالدين الوالد الآخر، وكان لهما ولد (ذكر أو أنثى) فيسقط القصاص؛ لأن الولد هو صاحب الحق فيه، ولا يجب للولد قصاص على والده، بدليل أنه لو جنى الوالد على ولده، وقتله، لا يقتص منه؛ للحديث النبوي: «لا يقاد الوالد بالولد» فمن باب أولى لا يقتص للولد من الوالد إذا جنى الوالد على غير ولده.
كذلك يسقط القصاص إذا كان للمقتول ولد آخر، أو وارث آخر؛ لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه، ولا يمكن وجوبه، وإذا لم يثبت بعضه سقط كله، لأنه لا يتبعض، وصار الأمر كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه.
__________
(1) الدر المختار: 382/5، الشرح الكبير للدردير: 258/4 وما بعدها، المهذب: 188/2، كشاف القناع: 634/5، المغني: 753/7.
(2) البدائع: 251/7، الشرح الكبير للدردير: 262/4، الشرح الصغير: 368/4، مغني المحتاج: 18/4 وما بعدها، المغني: 668/7 وما بعدها، المهذب: 174/2.
(7/609)
العقوبة الأصلية الثانية للقتل العمد عند الشافعية ـ الكفارة:
ورد تشريع الكفارة (1) في القتل الخطأ (2) في القرآن الكريم في آية: {ومن قَتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله إلا أن يصدَّقوا ... } [النساء:92/4] إلى قوله تعالى: {فمن لم يجدْ فصيام شهرين متتابعين، توبةً من الله، وكان الله عليماً حكيماً} [النساء:92/4] أي أن الواجب تحرير رقبة مؤمنة إن وجدت، فإن لم توجد فصيام شهرين متتابعين.
فهل يقاس القتل العمد على القتل الخطأ في إيجاب الكفارة أو لا؟ هناك رأيان للفقهاء أو ثلاثة:
__________
(2) الكفارة مأخوذة من الكَفر، وهو الستر؛ لأنها تغطي الذنب وتستره.
(2) ورد النص في الخطأ دون العمد، مع أن مقتضى الظاهر العكس، لخطر الدماء، ولأن مع المخطئ تفريطاً، إذ لو تحرز واحتاط لترك الفعل المسبب للقتل، ولأن العامد لا تكفيه الكفارة.
(7/610)
1 - قال جمهور الفقهاء (1) (غير الشافعية) : لا تجب الكفارة في القتل العمد؛ لأنه لا قياس في الكفارات؛ لأنها مقدرات شرعية للتعبد، فيقتصر فيها على محل ورودها، وقد اقتصر النص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبراً للذنب غير المقصود. أما القتل العمد فجزاؤه جهنم؛ لأنه كبيرة، ولم يوجب القرآن كفارة فيه، فدل النص بمفهومه على أنه لا كفارة فيه، ولو كانت واجبة لبينها القرآن؛ لأن المقام يقتضي البيان.
والقتل العمد يوجب القصاص، فلا يوجب كفارة كزنا المحصن.
ويرشد إليه: «أن سويد بن الصامت قتل رجلاً، فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلم عليه القود، ولم يوجب كفارة» ، وعمرو بن أمية الضَّمري قتل رجلين في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم «فو داهما النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يوجب كفارة» (2) .
2 - وقال الشافعية (3) : تجب الكفارة في القتل العمد على كل قاتل بالغ وصبي ومجنون وعبد وذمي وعامد ومخطئ، ومتسبب، وفي شبه العمد، أي أن الكفارة تجب سواء أكان القاتل كبيراً عاقلاً أم صغيراً أم مجنوناً، مسلماً أم ذمياً، فاعلاً أصلياً أم شريكاً، مباشرة أم تسبباً، وكان المقتول مسلماً ولو بدار حرب، أوذمياً أو أجنبياً حتى ولو بقتل نفسه. ولا تجب الكفارة بقتل مباح الدم كالحربي والباغي والصائل والمقتص منه، والمرتد والزاني المحصن.
هذا.. وقد حدد الشوكاني محل وجوب الكفارة في القتل العمد فيما إذا
__________
(1) البدائع: 251/7، بداية المجتهد: 410/2، القوانين الفقهية: ص 348، المغني: 96/8، كشاف القناع: 65/6.
(2) المغني: 96/8.
(3) مغني المحتاج: 107/4، المهذب: 217/2.
(7/611)
عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية، وأما إذا اقتص منه، فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة بن الصامت في أن الحدود كفارات لأهلها، ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القتل كفارة» (1) .
والدليل على وجوب الكفارة في العمد: أن المقصود من تشريع الكفارة هو رفع الذنب، ومحو الإثم، والذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لرفع الذنب وتكفير الخطيئة.
ويدل له خبر واثلة بن الأسقع، قال: «أتينا النبي صلّى الله عليه وسلم في صاحب لنا، قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه رقبة، يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار» (2) .
وكفارة القتل مثل كفارة الظهارفي الترتيب: عتق رقبة أولاً، فإن لم يجد (3) فصيام شهرين متتابعين (4) ، كما نصت الآية، لكن لا إطعام فيها في الأظهر عند العجز عن الصوم، اقتصاراً على الوارد فيها، إذ المتبع في الكفارات النص، لا القياس، ولم يذكر الله تعالى في كفارة القتل غير العتق والصيام. وعلى هذا فمن لم يستطع الصوم ثبت ديناً في ذمته، ولا يجب شيء آخر. والواجب في عصرنا هو الصوم فقط.
3 - وقال المالكية (5) : تستحب الكفارة في قتل الجنين م وجوب دية الجنين، ولا تجب، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن الكفارة لما كانت لا تجب عندهم في العمد، وتجب في الخطأ، وكان الاعتداء على الجنين متردداً بين العمد والخطأ، استحسن الإمام الكفارة في الجنين، ولم يوجبها.
ولا تجب الكفارة على قاتل الباغي والصائل والحربي والمرتد والزاني المحصن والذي يقتص منه؛ لأن هؤلاء مباحو الدم بالنسبة للقاتل.
__________
(1) نيل الأوطار: 57/7.
(2) رواه أبو داود وأحمد وصححه الحاكم وغيره، كما رواه أيضاً النسائي وابن حبان والحاكم.
(3) قال ابن قدامة الحنبلي: فإن لم يجد الرقبة في ملكه فاضلة عن حاجته أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته، فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله. وهذا ثابت بالنص أيضاً (المغني: 97/8) .
(4) تحتسب المدة بالأهلّة إذا صام من أول الشهر وإلا فيحسب كل شهر ثلاثين يوماً.
(5) القوانين الفقهية: ص 348، بداية المجتهد: 408/2.
(7/612)
النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل العمد:
إذا سقط القصاص بعفو ولي القتيل أو بموت الجاني أو بغيرهما، طبقت عقوبتان أخريان وهما:
1 - الدية التي هي بدل حتمي عن القصاص عند الحنابلة، أو إذا عفي إليها عند الشافعية، وبرضا الجاني عند الحنفية والمالكية.
2 - التعزير الذي هو بدل حتمي أيضاً عند المالكية، وباختيار الحاكم عند الجمهور.
ويلاحظ أن صيام شهرين متتابعين عند الشافعية هو أحد خصال الكفارة على الترتيب الواجب بعد عتق الرقبة. ولا يقال: إن الصوم بدل مطلق عن الكفارة، وإنما هو بدل عن الخصلة الأولى فيها، لذا فإنه لا يعدُّ عقوبة بدلية في القتل العمد، وإنما هو عقوبة أصلية كما تقدم. وأبحث هنا فقط حكم الدية والتعزير.
العقوبة البدلية الأولى ـ الدية:
الكلام فيها يتناول تعريف الدية، ومشروعيتها، وشروط إيجابها، ونوعها ومقدارها، تغليظها وتخفيفها وقت أدائها، الملزم بها (أو من تجب عليه) ، متى تجب كاملة، وهل يتساوى كل الناس في مقدارها؟
أولاً ـ تعريف الدية: هي في الشرع (1) : المال الواجب بالجناية على النفس أو ما في حكمها. والأرش: المال الواجب المقدر شرعاً بالاعتداء على ما دون النفس (2) ، أي مما ليس فيه دية كاملة من الأعضاء. وبناء عليه تطلق الدية على بدل النفس أو ما في حكمها، والأرش على دية العضو.
وحكومة العدل: هو الأرش غير المقدر في الشرع، بالاعتداء على ما دون النفس من جرح أو تعطيل وغيرهما. ويترك أمر تقديره للحاكم بمعرفة أهل الخبرة العدول.
ثانياً ـ مشروعية الدية: ثبتت مشروعية الدية في القرآن والسنة والإجماع أما القرآن: فقوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصَّدَّقوا} [النساء:92/4] وهذه الآية وإن كانت في القتل الخطأ، إلا أن العلماء أجمعوا على وجوب الدية في القتل العمد، في حالات سقوط القصاص المار ذكرها.
وأما السنة فأحاديث كثيرة أشهرها حديث عمرو بن حزم في الديات. وهو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات، وكان في كتابه «أن من اعتبط (3) مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 152/3، الدرالمختار: 406/5، مغني المحتاج: 53/4، تكملة فتح القدير: 301/8.
(2) أطلق الحنفية الدية على بدل النفس، والأرش على الواجب فيما دون النفس، والأدق هو إطلاق الدية على المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها كما فعل الشافعية (مغني المحتاج: 53/4) ؛ لأن الدية كاملة تجب في أحيان كثيرة بالاعتداء على ما دون النفس كتعطيل منفعة عضو أو قطع عضوين أو أربعة أو عشرة، كما سأبين في حالات وجوب الدية كاملة.
(3) من اعتبط: هو القتل بغير سبب موجب. وأصله من اعتبط الناقة: إذا ذبحها من غير مرض ولا داء. فمن قتل مؤمناً كذلك، وقامت عليه البينة بالقتل وجب عليه القود إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية أو يقع منهم العفو.
(7/613)
المقتول، وإن في النفس: الدية مئة من الإبل ... » (1) . وأول من سنَّها مئة عبد المطلب جد الرسول صلّى الله عليه وسلم.
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة.
ثالثاً ـ شروط وجوب الدية: يشترط لوجوب الدية عند الحنفية (2) شرطان:
1 - العصمة: وهو أن يكون المقتول معصوماً، أي مصون الدم، فلا دية بقتل الحربي والباغي لفقد العصمة. ورأي الجمهور متفق مع الحنفية في هذا الشرط، إلا أن الباغي معصوم الدم في غير حال الحرب عند الشافعية ومن وافقهم وهم الجمهور غيرا لحنفية.
2 - التقوم: وهو أن يكون المقتول متقوماً، فلا تجب الدية عند الحنفية بقتل الحربي إذا أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا، وكان قاتله مسلماً أو ذمياً خطأ. وقال الجمهور: تجب الدية؛ لأن التقوم عندهم بالإسلام، وهذا مسلم قتل خطأ، والله تعالى يقول: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/4] .
__________
(1) رواه النسائي ومالك، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولاً، قال ابن عبد البر: وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواتر، في مجيئه في أحاديث كثيرة.
(2) البدائع: 252/7 وما بعدها.
(7/614)
والتقوم عند الحنفية بدار الإسلام، وهذا ليس من أهل دار الإسلام، والله تعالى يقول: {فإن كان من قوم عدو لكم، وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/4] فقد أوجب الله جزاء قتله: الكفارة فقط وهي عتق الرقبة، فلا يكون داخلاً تحت صدر الآية، وهي التي احتج بها الجمهور؛ لأنه مؤمن ديناً، لا
داراً، وهو في دار الحرب مكثر سواد الكفار، ومن كثَّر سواد قوم فهو منهم، على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1) .
وأما الاتصاف بصفة «الإسلام» فليس من شرائط وجوب الدية، لا بالنسبة لقاتل، ولا بالنسبة للمقتول، فتجب الدية سواء أكان القاتل أو المقتول مسلماً أم ذمياً أم حربياً مستأمناً.
وكذلك العقل والبلوغ ليس شرطاً لإيجاب الدية، فتجب الدية في مال الصبي والمجنون، لعموم قوله تعالى: {ومن قتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا} [النساء:92/4] . كما تجب الدية بقتل الذمي والمستأمن، لقوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/4] .
هل تضمن الدية بسبب ممارسة حق التأديب؟
إذا ضرب السلطان أو الوالي متهماً، أو ضرب الأب ابنه للتأديب المشروع، أو ضرب الولي أو الوصي الصبي اليتيم، أو ضرب الزوج زوجته بسبب نشوزها، أو لتركها الصلاة مثلاً، أو أدَّب المعلم صبياً بغير إذن أبيه، فمات المؤدَّب بسبب هذا التأديب المشروع المعهود في العرف بين الناس، فهل يضمن هؤلاء فعلهم؟ للفقهاء فيه آراء:
1 - قال أبو حنيفة والشافعي (2) : إنه يجب ضمان الدية في هذه الحالات؛
__________
(1) هذا حديث رواه أبو يعلى في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: «من كثَّر سواد قوم، فهو منهم، ومن رضي عمل قوم، كان شريك من عمل به» (نصب الراية: 346/4) .
(2) المبسوط: 13/16، الدر المختار: 401/5، درر الحكام: 77/2، جامع أحكام الصغار بهامش الفصولين: 8/2-10، مجمع الضمانات: ص 54، 157، 166، البدائع: 305/7، المهذب: 289/2، مغني المحتاج: 199/4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص230.
(7/615)
لأن المقصود هو التأديب والزجر، لا الهلاك، فإذا أفضى التأديب إلى التلف، تبين أنه تجاوز الحد المشروع له، أو تخطى حدود السلطة المخولة إياه، ولأن هذا الفعل وهو التأديب أمر مباح، فيتقيد بشرط السلامة للغير كالمرور في الطريق العام ونحوه، فإن استيفاء الإنسان حقه مقيد بشرط السلامة للآخرين.
2 - وقال المالكية والحنابلة والصاحبان من الحنفية (1) : لا ضمان في هذه الحالات، ما لم يكن هناك إسراف أو زيادة على ما يحقق المقصود، أو يتجاوز المعتاد؛ لأن التأديب فعل مشروع للزجر والردع، فلا يضمن التالف به، كما هو الشأن عند تطبيق الحدود الشرعية أو التعزيرات (2) ، والقاعدة الفقهية تقول: «الجواز الشرعي ينافي الضمان» .
رابعاً ـ نوع الدية ومقدارها:
اختلف الفقهاء على آراء ثلاثة في تحديد نوع الدية، وهي ما يأتي:
1 - رأي أبي حنيفة ومالك، والشافعي في مذهبه القديم (3) : إن الدية تجب في واحد من ثلاثة أنواع: الإبل، والذهب، والفضة. ويجزئ دفعها من أي نوع. ودليلهم ما ثبت في كتاب عمرو بن حزم في الديات: «وإن في النفس الدية، مئة
__________
(1) المغني: 327/8، غاية المنتهى: 285/3، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 266، الميزان للشعراني: 172/3، نيل الأوطار: 140/7-145، البدائع، المكان السابق.
(2) قارن ذلك بالفقه على المذاهب الأربعة: 292/5.
(3) البدائع: 253/7، تكملة فح القدير: 302/8 وما بعدها، الدر المختار: 406/5 ومابعدها، اللباب: 153/3، الشرح الكبير للدردير: 266/4 ومابعدها، بداية المجتهد: 401/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 347، مغني المحتاج: 53/4-56.
(7/616)
من الإبل» (1) وأن عمر فرض على أهل الذهب في الدية ألف دينار ومن الورِق عشرة آلاف درهم (2) . ورأي أبي حنيفة هو الصحيح في مذهبه.
2 - رأي الصاحبين وأحمد (3) : إن الدية تجب من ستة أجناس، وهي الإبل أصل الدية، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والحُلل. والخمسة الأولى هي أصول الدية عند الحنابلة، وأما الحلل فليست أصلاً عندهم؛ لأنها تختلف ولا تنضبط. وروي عن أحمد: أنها أصل، وقدرها مئتا حلة من حلل اليمن، كل حلة بُرْدان: إزار ورداء جديدان.
وأي شيء أحضره الملزم بالدية، لزم ولي القتيل قبوله، سواء أكان الجاني من أهل ذلك النوع، أم لا؛ لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة.
ودليل هذا الرأي: أن عمر قام خطيباً فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، قال الراوي، فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (4) . وأخرج أبو داود مثله عن جابر بن عبد الله أنه قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مئة من الإبل ... الخ» (5) .
__________
(1) سبق تخريجه: وفيه أيضاً: «وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم» .
(2) رواه البيهقي من طريق الشافعي، قال: قال محمد بن الحسن: بلغنا عن عمر ... الخ (نصب الراية: 361/4) .
(3) البدائع، ومراجع الحنفية، المكان السابق، المغني: 759/7-761، كشاف القناع: 16/6 وما بعدها.
(4) رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه البيقهي وابن أبي شيبة في مصنفه عن عبيدة السلماني، لكن جاء في هذه الرواية «وعلى أهل الحلل مئة حلة» (نصب الراية: 362/4) .
(5) راجع نصب الراية: 363/4.
(7/617)
3 - رأي الشافعي في مذهبه الجديد (1) : إن الواجب الأصلي في الدية هو مائة من الإبل إن وجدت، وعلى القاتل تسليمها للولي سليمة من العيوب، فإن عدمت حساً بأن لم توجد في موضع يجب تحصيله منه، أو عدمت شرعاً بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها، فالواجب قيمة الإبل، بنقد البلد الغالب (2) ، وقت وجوب تسليمها بالغة ما بلغت؛ لأنها بدل متلف، فيرجع إلى قيمتها عند فقد الأصل. ودليله الحديث السابق وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، كان ذلك كذلك، حتى استخلف عمر رضي الله عنه، فقام عمر خطيباً، فقال: «ألا إن الإبل قد غلت، فقال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة» (3) ويؤكده من المعقول أن ما ضمن بنوع من المال وتعذر، وجبت قيمته، كذوات الأمثال (4) .
وأما مقدار الدية فيتضح من الأحاديث السابقة، ولم يختلف الفقهاء في المقادير إلا في دراهم الفضة (أي الوَرِق) .
وسبب الاختلاف فيها: هو سعر صرف الدينار، فعند الحنفية: الدينار يساوي عشرة دراهم بدليل حديث عَبيدة السلماني المتقدم. وعند الجمهور (5) :
__________
(1) مغني المحتاج: 56/4، المهذب: 195/2 وما بعدها.
(2) المراد بالبلد: هو المحل الذي يجب التحصيل منه لو كانت موجودة فيه.
(3) وروي ما يقاربه في المعنى عن الزهري.
(4) المثليات: هي المكيلات (حنطة أو شعير) والموزونات (قطن أو حديد) والعدديات المتقاربة (جوز أو بيض) والذرعيات (كالقماش) .
(5) راجع بداية المجتهد: 403/2، الشرح الكبير للدردير: 267/4، المغني: 760/7، مغني المحتاج: 56/4.
(7/618)
الدينار يساوي اثني عشر درهماً، بدليل حديث عمر السابق، وأن رجلاً من بني عدي قتل، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً (1) . وعلى هذا:
الواجب من الإبل مئة، ومن الذهب ألف دينار (2) ، ومن الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، ومن البقر مئتا بقرة، ومن الغنم ألفان، ومن الحلل، أي الثياب مئتا حلة: إزار ورداء.
خامساً ـ تغليظ الدية وتخفيفها:
الدية إما مغلظة أو مخففة، وتجب الدية عند الحنفية في شبه العمد وفي الخطأ وفي شبه الخطأ وفي القتل بسبب، وفي العمد أيضاً إذا اشتمل القتل على شبهة: وهي الحالة التي يقتل فيها الأب ابنه. وقد تجب الدية في العمد برضا القاتل وولي الدم، أي عند التراضي عليها فيما إذا حصل عفو من ولي القتيل أو من بعض الأولياء، فيكون للباقي نصيبه من دية العمد.
ولا تتغلظ الدية إلا في حالة الوفاء بها بالإبل خاصة؛ لأن الشرع ورد بها، والمقدرات الشرعية لا تعرف إلا سماعاً ونقلاً من طريق الشرع، إذ لا مدخل للرأي فيها؛ فلا تتغلظ الدية في الدنانير والدراهم، بأن يُزاد على ألف دينار، أو على عشرة آلاف درهم (عند الحنفية) .
وتتغلظ الدية في القتل العمد وفي شبه العمد عند الجمهور (3) . وقال
__________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة، عن ابن عباس.
(2) الدينار: هو المثقال من الذهب، ويساوي 80،4 غم وهو المثقال العجمي.
(3) البدائع: 256/7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 126/6 وما بعدها، الدر المختار: 406/5 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 251/8، 302، 304، مغني المحتاج: 53/4-55، المهذب: 195/2 وما بعدها، المغني: 764/7-766، كشاف القناع: 17/6 ومابعدها.
(7/619)
المالكية (1) : تتغلظ الدية في القتل العمد إذا قبلها ولي الدم، وفي حالة قتل الوالد ولده.
وإذا غلظت الدية تجب مثلثة عند المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن (أي ثلاثون حقه وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة أي حاملاً، لخبرالترمذي بذلك) . وهذا عند المالكية في حال قتل الأصل ولده، أما في القتل العمد إذا عفا ولي الدم، فتجب الدية عندهم مربعة، بحذف ابن اللبون من الأنواع الخمسة الواجبة في القتل الخطأ.
وتجب حينئذ مربعة، أي أرباعاً عند الحنفية ما عدا محمداً، والحنابلة (2) : (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) (3) .
وأما الدية المخففة في القتل الخطأ ونحوه، فتجب مخمسة، أي أخماساً باتفاق المذاهب (وهي عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة) وهذا رأي الحنفية والحنابلة، بدليل ما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» (4) ولأن ابن اللبون يجب على طريق البدل عن ابنة المخاض في الزكاة إذا
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 266/4 وما بعدها، 282، بداية المجتهد: 401/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 373/4.
(2) المراجع السابقة.
(3) بنت المخاض: هي التي طعنت في السنة الثانية، وبنت اللبون في الثالثة، والحقة في الرابعة، والجذعة في الخامسة.
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والبزار والبيهقي إلا أن الدارقطني قال: «عشرون بني لبون» مكان قوله «عشرون ابن مخاض» .
(7/620)
لم يجدها، فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب واحد (1) .
وجعل المالكية والشافعية (2) مكان (بني المخاض) : (بني اللبون) بدليل ما روى الدارقطني وسعيد بن منصور، في سننهما عن النَّخعي عن ابن مسعود، وقال الخطابي: روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمئة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض.
وتغلظ عند الشافعية والحنابلة (3) دية القتل الخطأ في النفس والجراح في حالات ثلاث:
1 - إذا حدث القتل في حرم مكة، تحقيقاً للأمن.
2 - أو حدث في الأشهر الحرم: وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
3 - أو قتل القاتل قريباً له ذا رحم محرم، كالأم والأخت.
وعلى هذا الرأي تغلظ الدية بأحد أسباب خمسة: كون القتل عمداً، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو الأشهر الحرم، أو لذي رحم محرم.
والدليل على تربيع (4) الدية المغلظة عند الحنفية ما عدا محمداً، وعند الحنابلة: هو ما رواه الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرباعاً: «خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض» وقضى بذلك ابن مسعود،
__________
(1) البدائع: 254/7، المغني: 769/7، 771.
(2) بداية المجتهد: 402/2، مغني المحتاج: 54/4.
(3) مغني المحتاج: 54/4، المغني: 772/7، المهذب: 196/2.
(4) أي كونها تؤخذ أرباعاً.
(7/621)
ولأن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان، فلا يعتبر فيه الحمل في بعضها، كالزكاة والأضحية (1) .
وأما دليل المالكية والشافعية ومحمد بن الحسن في تثليث (2) الدية المغلظة، فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من قَتَل متعمداً، دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» (3) وذلك لتشديد القتل.
وحديث آخر عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» (4) .
والخلاصة: أن دية العمد تغلظ عند الجمهور بتخصيصها بالجاني، وتعجيلها عليه، أي كونها حالَّة عند غير الحنفية، وتربيعها في رأي الحنفية والحنابلة، وتثليثها في رأي عند المالكية والشافعية.
ودية شبه العمد: تخفف من ناحيتين (وهما فرض الدية على العاقلة، والتأجيل بثلاث سنين) وتغلظ من ناحية واحدة: وهي التربيع في رأي، والتثليث في رأي آخر.
ودية الخطأ: تخفف من نواح ثلاث: إلزام العاقلة بها، والتأجيل ثلاث سنين، وتخميسها.
__________
(1) المغني: 766/7، البدائع: 254/7.
(2) أي كونها أثلاثاً.
(3) رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب.
(4) رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني (راجع نيل الأوطار: 21/7) . هذا ... وإن كان البحث هنا في دية العمد، لكني استطردت فيه لبيان أحوال الديات الأخرى تجميعاً لشتات البحث.
سادساً ـ وقت أداء الدية:
تجب دية العمد وشبه العمد والخطأ عند الحنفية (5) مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بفعل عمر رضي الله عنه، ويكفي العامد تغليظ الدية عليه، وإيجابها في ماله.
وقال جمهور الفقهاء (6) : دية العمد تجب معجلة (حالَّة) في ماله، غير مؤجلة؛ لأن الدية فيه بدل عن القصاص، وبما أن القصاص حالّ الأداء، فبدله وهو الدية حال مثله، ولأن في التأجيل تخفيفاً على القاتل، والعامد يستحق التغليظ لا التخفيف، بدليل وجوب الدية في ماله لا على العاقلة.
وأما دية الخطأ فتجب عند الجمهور كالحنفية مؤجلة في مدى ثلاث سنوات، تخفيفاً عن العاقلة، بدليل ما روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ولا مخالف لهما في عصرنا، فكان إجماعاً (7) .
وكذلك دية شبه العمد عند الجمهور تجب مؤجلة لثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.
__________
(5) البدائع: 256/7 وما بعدها.
(6) بداية المجتهد: 402/2، القوانين الفقهية: ص 347، الشرح الكبير: 281/4، 285، مغني المحتاج: 55/4، المهذب: 196/2، 212، المغني: 764/7-766، كشاف القناع: 17/6.
(7) المغني: 766/7.
(7/622)
سابعاً ـ الملزم بأداء الدية:
اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب على القاتل في ماله وحده، ولاتحملها العاقلة؛ لأن الأصل في كل إنسان أن يسأل عن أعماله الشخصية المدنية كالإتلافات، والجنائية كالجرائم، ولا يسأل عنها غيره لقوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/52] {ولا تزو وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/6] {قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون} [سبأ:25/34] .
ويؤيده ما جاء في السنة من قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه» (1) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لبعض أصحابه حين رأى معه ولده: «ابنك هذا؟» قال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه» (2) .
وثبت في السنة بنحو خاص: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً» (3) .
ويرى الفقهاء ما عدا المالكية (4) أن دية شبه العمد، والخطأ على العاقلة، كما سيأتي في عقوبة كل منهما.
وأما دية القتل العمد الصادر من الصبي أو المجنون، فقال الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) (5) : إنها على عاقلته، وعبارتهم فيها: عمد الصبي وخطؤه
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص في حجة الوداع.
(2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد عن أبي رمثة (جامع الأصول: 9/11، نيل الأوطار: 83/7) .
(3) رواه البيهقي عن الشعبي، وأبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (نصب الراية: 379/4) .
(4) راجع بحث الملزم بأداء الدية في البدائع: 256/7، الدر المختار: 400/5، القوانين الفقهية: ص347، الشرح الكبير للدردير: 282/4، مغني المحتاج: 55/4، المغني: 764/7-770، كشاف القناع: 3/6.
(5) تبيين الحقائق: 139/6، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 77/1، الدر المختار: 378/5، 415، بداية المجتهد: 404/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 345، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 486/4، المغني: 776/7، جامع أحكام الصغار لابن قاضي سماوه: 18/2، بهامش جامع الفصولين.
(7/623)
سواء، بدليل أن مجنوناً صال على رجل بسيف، فضربه، فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه، فجعل ديته على عاقلته، بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، وقال: عمده وخطؤه سواء.
وقال الشافعية (1) : الأظهر أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإن لم يكن له تمييز فهو خطأ قطعاً، أي أنه سواء أكان مميزاً أم غير مميز لا قصاص عليه لعدم تكليفه بالحلال والحرام شرعاً، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها عنه عاقلته إذا كان مميزاً، وكان القتل عمداً؛ لأن العاقلة (العصبة) لا تتحمل دية القتل العمد أو حالة الصلح أو الاعتراف، كما تقدم. وبما أن فعله يعدّ عمداً إذا كان مميزاً في الراجح عند الشافعية، فلا تتحمل العاقلة دية القتيل الذي جنى عليه، وتكون الدية عليه مغلظة.
ثامناً ـ متى تجب الدية كاملة، وهل يتساوى كل الناس في دية العمد؟
قال الحنفية والمالكية (2) : دية العمد عند العفو عن القصاص غير محدودة، والواجب هو ما يتم التراضي أو الاتفاق عليه بين الجاني وولي الدم، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، فإن انبهمت أي لم تحدد الدية كانت بحسب المقدار الشرعي (مئة من الإبل أو ما ينوب منابها من الدنانير والدراهم) .
وقال الشافعية والحنابلة (3) : دية العمد بحسب المقدار المحدد شرعاً: مئة بعير، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم في الديات: «في النفس مائة من الإبل» .
__________
(1) مغني المحتاج: 10/4، 15، المهذب: 173/2، 174، 196.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 382/5، بداية المجتهد: 402/2، القوانين الفقهية: ص347.
(3) مغني المحتاج: 53/4، كشاف القناع: 3/6.
(7/624)
وأما تساوي الديات بين الناس: ففيه خلاف:
قال الشافعية (1) : قد يعرض للدية ما ينقصها، وهو أحد أسباب أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل الجنين، الكفر، فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة المختلفة بحسب كل شخص، والثالث إلى الغرة، والرابع إلى الثلث أو أقل.
وأذكر هنا الخلاف في أمرين: الأنوثة، والكفر.
الأنوثة (دية المرأة) : اتفق الفقهاء ما عدا النادر (2) على أن دية المرأة نصف دية الرجل، عملاً بأحاديث وآثار وبالمعقول. أما الأحاديث، فمنها قوله عليه السلام مرفوعاً عن معاذ: «دية المرأة نصف دية الرجل» (3) ، وروي موقوفاً عن علي: «عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس، وفيما دونها» (4) .
والآثار فيها كثيرة مروية عن عمر وعلي وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم، فكان هناك إجماع من الصحابة على تنصيف دية المرأة.
والمعقول: أن المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل، فكذلك ديتها.
وحكي عن ابن عُلَيَّة وأبي بكر الأصم من نفاة القياس: أن دية المرأة كدية الرجل، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» .
__________
(1) مغني المحتاج: 53/4.
(2) البدائع: 254/7، الدر المختار: 407/5، بداية المجتهد: 405/2، القوانين الفقهية: ص347، مغني المحتاج: 56/4 ومابعدها، المهذب: 197/2، المغني: 97/7، كشاف القناع: 18/6.
(3) رواه البيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعاً، وقال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله (نصب الراية: 363/4، نيل الأوطار: 67/7) .
(4) رواه البيهقي عن علي موقوفاً، وفيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه (المرجعان السابقان) ولم أجد هذا الحديث في روايات حديث عمرو بن حزم، بالرغم من نسبته إليه في كتب فقه الحنابلة (المغني وكشاف القناع) .
(7/625)
الكفر (دية غيرالمسلم) : اختلف الفقهاء في تقدير دية غير المسلم على آراء ثلاثة:
1 - قال الحنفية (1) : إن دية الذمي والمستأمن كدية المسلم، فلا يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر، لتكافؤ الدماء، وعملاً بعموم قوله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلَّمة إلى أهله} [النساء:92/4] ولأنه عليه الصلاة والسلام «جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» (2) .
2 - وقال المالكية والحنابلة (3) : دية الكتابي (اليهودي والنصراني) المعاهد أو المستأمن نصف دية المسلم، ونساؤهم نصف ديات المسلمين، أي كنساء المسلمات، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دية المعاهد نصف دية المسلم» (4) أو «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» (5) أو «دية عقل الكافر نصف عقل المسلم» (6) .
3 - وقال الشافعية (7) : دية اليهودي والنصراني والمعاهد والمستأمن ثلث دية
__________
(1) البدائع: 254/7، الدر المختار: 407/5.
(2) أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب، وفيه أحاديث أخرى تؤيده (نصب الراية: 366/4) .
(3) الشرح الكبير للدردير: 267/4 وما بعدها، بداية المجتهد، والقوانين الفقهية، المكان السابق، المغني: 793/7، 796.
(4) أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن عمرو، وهذا لفظ أبي داود.
(5) أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر.
(6) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد، وهذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن.
(7) مغني المحتاج: 57/4، المهذب: 197/2.
(7/626)
المسلم، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلّى الله عليه وسلم «فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» (1) . وقضى بذلك عمر وعثمان رضي الله عنهما (2) ، ولأنه أقل ما أجمع عليه في المسألة.
واتفق غير الحنفية على أن دية المجوسي والوثني المستأمن كعابد الشمس والقمر والزنديق ثمان مئة درهم، أي ثلثا عشر دية المسلم بتقدير الجمهور، وأن نساءهم نصف دياتهم، أي أربع مئة درهم، كما قال بعض الصحابة مثل عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم، ربعض التابعين كسعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم (3) .
والمذهب المنصوص عند الشافعية: أن من لم يبلغه الإسلام: إن تمسك بدين لم يبدَّل، فتجب له دية أهل دينه، فإن كان كتابياً فدية كتابي، وإن كان مجوسياً فدية مجوسي، وإن تمسك بدين بدِّل فديته كدية المجوسي. وقال الحنابلة والحنفية: لا يجوز قتل هذا الشخص إن وجد، حتى يدعى إلى الإسلام، فإن قتل قبل الدعوى من غير أن يعطى أماناً، فلا ضمان فيه؛ لأنه لا عهد له ولا إيمان.
العقوبة البدلية الثانية للعمد ـ التعزير:
إذا سقط القصاص في القتل العمد، كان التعزير عقوبة بدلية عنه؛ لكن هل التعزير أمر واجب أو جائز؟ وقد أشرت له في حالة عفو ولي الدم.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه. وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف» .
(2) روي الشافعي والدارقطني عن سعيد بن المسيب، قال: «كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، والمجوسي ثمان مئة» .
(3) الشرح الكبير للدردير:: 268/4، مغني المحتاج: 57/4، المغني: 796/7.
(7/627)
1 - قال المالكية (1) : يجب تعزير القاتل العمد إذا لم يقتص منه، والعقوبة هي جلد مئة، وحبس سنة، عملاً بأثر ضعيف عن عمر.
2 - وقال الجمهور (2) : لا يجب التعزير، وإنما يفوض الأمر للحاكم، يفعل ما يراه مناسباً للمصلحة، فيؤدب الشرير بالحبس أو الضرب أوالتأنيب ونحوها. ويمكن أن يكون التعزير عند الحنفية والمالكية هو القتل أو الحبس مدى الحياة.
النوع الثالث ـ العقوبة التبعية للقتل العمد ـ الحرمان من الميراث والوصية:
ثبت في السنة تشريع عقوبة أخرى للقتل العمد وهي الحرمان من الإرث، والوصية، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لقاتل ميراث» (3) وفي رواية: «لا يرث القاتل شيئاً» (4) . وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس لقاتل وصية» (5) . فإذا قتل الوارث مورثه، أو الموصى له الموصي، حرم من الميراث والوصية، عملاً بمبدأ سد الذرائع، كيلا يطمع أحد بمال مورثه، فيتعجل موته بالقتل.
لكن اختلف الفقهاء في نوع القتل المانع من الميراث أو الوصية.
أولاً ـ الحرمان من الميراث:
القتل من حيث المبدأ مانع من الميراث بالاتفاق، لكن الخلاف في تحديد صفة القتل.
__________
(1) بداية المجتهد: 396/2.
(2) التلويح على التوضيح: 155/2، المغني: 745/7، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 229، ولأبي يعلى: ص 266، رد المحتار: 196/3، الشرح الكبير للدردير: 355/4، التشريع الجنائي الإسلامي: 183/2 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقا: ف 331، 333.
(3) رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه عن عمر (نيل الأوطار: 74/6) .
(4) رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(5) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن علي بن أبي طالب، وفيه راو متروك يضع الحديث (نصب الراية: 402/4) .
(7/628)
فقال الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (1) : إن القتل العدوان بغير حق، الصادر من البالغ العاقل، عمداً أم خطأ، مانع من الميراث.
لكن يشترط عند الحنفية أن يكون القتل مباشرة لا تسبباً. ولم يميز الشافعية والحنابلة بينهما، فقالوا: لا فرق بين المباشرة والتسبب، فكلاهما مانع من الإرث.
وإذا كان القتل بحق وهو القتل غير المضمون كالقتل قصاصاً أو حداً أو دفاعاً عن النفس أو قتل العادل الباغي، أو كالقتل الحادث بسبب التأديب كضرب الأب والزوج والمعلم، فلا يمنع الميراث عند الحنفية والحنابلة، ويمنع الميراث عند الشافعية، أي أن القتل غير المضمون يمنع الإرث عند الشافعية، وعند الحنابلة لايمنع. والقتل بإكراه مضمون عند الشافعية والحنابلة، فيمنع الميراث.
والقتل الصادر من الصبي أو المجنون أو النائم لا يمنع الميراث عند الحنفية، ويمنع الميراث عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قتل بالتسبب.
وقال المالكية (2) : إن القتل العمد، ومثله شبه العمد المعروف عند غيرهم والمقرر استثناء لديهم هو المانع من الميراث، سواء أكان مباشرة أم تسبباً، وأما القتل الخطأ فلا يحرم الإرث.
وعلى هذا فأشد المذاهب في جعل القتل مانعاً من الميراث هم الشافعية ثم الحنابلة، ثم الحنفية ثم المالكية. والسبب في التشدد إطلاق حديث: «ليس للقاتل شيء» ولأن القاتل لو ورث لم يؤمن أن يستعجل الإرث بالقتل، فاقتضت المصلحة حرمانه: «من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه» .
__________
(1) الدر المختار: 542/5، التلويح على التوضيح: 153/2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 136، مغني المحتاج: 25/3، المغني: 292/6، المهذب: 24/2، مؤلفنا نظرية الضمان: ص 329 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 486/4.
(7/629)
ثانياً ـ الحرمان من الوصية:
القتل المانع من الوصية عند الحنفية (1) : هو القتل المانع من الإرث وهو أن يكون صادراً من بالغ عاقل، ومباشرة لا تسبباً، وعدواناً أي بغير حق، سواء أكان عمداً أم خطأ.
وعند المالكية (2) : لا يصلح القتل الخطأ مانعاً من الوصية كالميراث، وأما القتل العمد ومثله شبه العمد، فهو مانع من الوصية على الراجح إن لم يعلم الموصي بأن الموصى له ضربه. فإن علم الموصي بمن ضربه أو قتله، ولم يغير وصيته، أو أوصى له بعد الضرب صحت الوصية، سواء قتله عمداً أم خطأ.
ومثلهما قال الحنابلة (3) : الأصح أن القتل بغير حق، سواءأكان عمداً أم خطأ يبطل الوصية؛ لأنه يمنع الميراث، وهو آكد منها، فهي أولى بحرمان القاتل منها.
وقال الشافعية (4) : الأظهر أن الموصى له لو قتل الموصي ولو تعدياً، استحق الموصى به؛ لأن الوصية تمليك بعقد فأشبهت عقد الهبة، وخالفت الإرث.
والخلاصة: إن القتل المانع من الميراث مانع عند الجمهور من الوصية. وأما عند الشافعية: فلا يعتبر القتل مانعاً من الوصية، وإن منع الميراث.
__________
(1) الدر المختار: 459/5، البدائع: 339/7.
(2) الشرح الكبير للدردير: 426/4.
(3) منار السبيل في شرح الدليل على مذهب أحمد للشيخ إبراهيم بن ضويان: 39/2، ط دمشق، كشاف القناع: 397/4.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي: 136/2، مغني المحتاج: 43/3.
(7/630)
المبحث الثالث ـ القتل شبه العمد وعقوبته:
لايعرف المالكية القتل شبه العمد، فهو في حكم العمد إلا في حالة قتل الأب ابنه فهو شبه عمد عندهم (1) . وعرفه الجمهور، ولكنهم كما تبين اختلفوا في تحديد معناه، فهو عند أبي حنيفة: أن يتعمد الجاني الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالقتل بالمثقل من عصا أو حجر أو خشب كبير. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: القتل بالمثقل عمد. وشبه العمد: أن يتعمد الجاني الضرب بما لا يقتل غالباً كالحجر والخشب الصغير والعصا الصغيرة.
وعقوبات القتل شبه العمد أنواع ثلاثة: أصلية، وبدلية، وتبعية.
النوع الأول ـ العقوبة الأصلية:
هناك عقوبتان أصليتان للقتل شبه العمد: وهما الدية والكفارة.
المطلب الأول ـ الدية المغلظة:
لا قصاص في القتل شبه العمد، بل فيه الدية المغلظة على العاقلة وهي العقوبة الأولى فيه (2) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مئة من الإبل: منها أربعون في بطونها أولادها» (3) وهو رأي المالكية والشافعية، وتجب هذه الدية مربعة عند الحنابلة والحنفية.
ودية شبه العمد مثل دية العمد في نوعها ومقدارها، وتغليظها، لكنها تختلف عنها في الملزم بها، وفي وقت أدائها، فدية العمد تجب على الجاني في ماله معجلة، ودية شبه العمد تجب على العاقلة مؤجلة في مدى ثلاث سنين.
لكن الإمام مالك يرى أن شبه العمد كالعمد، في وجوب الدية في مال الجاني. إلا في حالة قتل الأب ابنه فيما إذاحذفه بسيف أو عصا، فقتله، ففيه دية شبه عمد: مغلظة مثلثة، مؤجلة كدية الخطأ.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 345، بداية المجتهد: 390/2، 393 وذلك كأن يحذف الأب ابنه بسيف أو عصا، فيقتله، كما فعل رجل من بني مدلج بابنه، ففرض عمر على الأب دية مغلظة مثلثة: 30 حقة و 30 جذعة، و 40 حوامل. (2) البدائع: 251/7.
(3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن القطان (نصب الراية: 356/4) .
(7/631)
أولاً ـ الملزم بأداء دية شبه العمد:
قال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (1) : تجب دية شبه العمد بطريق التعاون والتخفيف والمواساة للجاني على العاقلة، لا في مال الجاني.
وبما أن المالكية (2) يقسمون القتل إلى نوعين فقط: وهما العمد والخطأ، وليس عندهم شبه العمد، وهو في حكم العمد، فإنهم يوجبون دية شبه العمد في مال القاتل، لا في مال العاقلة إلا فيما استثناه الإمام مالك. وهذا موافق لرأي جماعة من فقهاء المذاهب غير المشهورة (وهم ابن سيرين والزهري والحارث العُكلي وابن شُبرمة وقتادة وأبو ثور وأبو بكر الأصم) ؛ لأن هذا القتل موجَب فعل قصده الجاني، فلا تتحمله العاقلة عنه كالعمد المحض، ولأن دية هذا القتيل دية مغلظة، فأشبهت دية العمد.
ودليل الجمهور حديث أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) البدائع: 255/7، تكملة فتح القدير: 251/8، مغني المحتاج: 55/4، المغني: 766/7 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 401/2، 405، الشرح الكبير للدردير: 282/4، المغني: 767/7.
(7/632)
فقضى أن دية جنينها غرّه (1) : عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها» (2) . قال ابن تيمية: وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة.
ويؤكده أنه قتل لا يوجب قصاصاً، فتجب ديته على العاقلة، كالخطأ، ويختلف عن العمد المحض؛ أن العمد قصد فيه الجاني الفعل وإرادة القتل، فاستحق تغليظ الدية بكونها في ماله، وتدفع فوراً، وشبه العمد قصد فيه الجاني الفعل، ولم يرد القتل، فاستحق التخفيف من ناحيتين: هما كون الدية على العاقلة، وكونها مؤجلة كما في القتل الخطأ.
وهل تجب الدية ابتداء على العاقلة أو على القاتل؟
هناك رأيان للفقهاء: قال الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية (3) : تجب ابتداء على القاتل؛ لأن سبب وجوبها وهو القتل، وجد منه، لا من العاقلة، فكان الوجوب عليه، لا على العاقلة، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة عليه.
ويتحمل القاتل جزءاً من الدية مع العاقلة؛ لأنه هو المطالب أصالة بتحمل جريرة فعله، ودور العاقلة تابع، فهو مطالب بحفظ نفسه من ارتكاب الجرائم، وعاقلته مطالبة أيضاً بحفظه من الجريمة، فإذا لم يحفظوا فرَّطوا، والتفريط منهم ذنب. والقاتل يعتمد على مناصرة عاقلته وحمايتها له، فتشاركه في تحمل تبعة المسؤولية، لا أنها تستقل بتحملها عنه.
وبناء على هذا الرأي: إذا لم يكن للجاني عاقلة يرجع بالدية كلها عليه، وهذا هو الأظهر عند الشافعية. لكنهم قالوا في حال وجود العاقلة: متى وزع الواجب في السنة الأولى على العاقلة أو بيت المال، وفضل شيء منه فهو على الجاني مؤجلاً عليه كالعاقلة.
__________
(1) أصل الغرة: البياض في وجه الفرس، وعبر هنا بالغرة عن الجسم كله.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (البخاري ومسلم) (نيل الأوطار: 69/7) .
(3) البدائع: 255/7، مغني المحتاج: 95/4، 97، الشرح الكبير للدردير: 281/4 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 400/5، 454.
(7/633)
وقال الحنابلة (1) : تجب الدية على العاقلة ابتداء؛ لأنه لا يطالب بها غيرهم، ولايعتبر تحملهم ولا رضاهم بها، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل.
ولا يتحمل القاتل عند الحنابلة جزءاً من الدية؛ لأن الدية تلزم العاقلة ابتداء، فإن لم توجد عاقلة أو عجزت، وكان الجاني مسلماً أخذت الدية أوباقيها من بيت المال حالَّة دفعة واحدة؛ لأن الدية إنما أجلت على العاقلة تخفيفاً ولا حاجة للتأجيل في بيت المال.
ثانياً ـ وقت أداء دية شبه العمد: تؤدى دية شبه العمد كما تقدم في دية العمد مؤجلة في مدى ثلاث سنين، في آخر كل سنة ثلثها، وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ومحكي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وكونها في آخر السنة لتتمكن العاقلة دفعها من إنتاج المواسم. وكونها في كل سنة الثلث، توزيعاً لها على السنين الثلاث.
ويعتبر بدء السنة عند الحنفية (2) من يوم الحكم أو القضاء بها، وهو رأي المالكية (3) في دية الخطأ.
وعند الشافعية والحنابلة (4) : تبدأ السنة من وقت وجوب الدية، فإن كانت دية نفس، فمن حين الموت؛ لأنه وقت استقرار الوجوب في الذمة، وإن كانت دية غير النفس، فمن حين الجناية؛ لأنها تلك حالة الوجوب.
ثالثاً ـ مقدار ما تتحمله العاقلة من دية شبه العمد:
يرى الحنفية (5) : أن العاقلة لاتتحمل ما دون نصف عشر الدية (وهو خمس من الإبل: أرش الموضِحة) إذا كانت الجناية فيما دون النفس. أما بدل النفس فتحمله العاقلة، وإن قل؛ لأن بدل النفس ثبت بالنص على العاقلة. وأما ما دون النفس فعلى الجاني، لقول الشعبي: «لا تعقل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً، ولا ما دون أرش الموضحة» (6) .
والأصح عند الحنفية: أنه لا يؤخذ في كل سنة من كل واحد من أفراد العاقلة إلا درهم، أو درهم وثلث، بحيث يؤخذ منه في مجموع الثلاث السنوات ثلاثة أو أربعة دراهم.
وقال المالكية، والحنابلة (7) : لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى في الدية ألا يحمل منها شيء، حتى تبلغ عقل المأمومة، أي تعويضها، وهو ثلث الدية.
__________
(1) كشاف القناع: 60/6، المغني: 771/7.
(2) اللباب شرح الكتاب: 178/3، 180، الدر المختار: 454/5.
(3) الشرح الكبير للدردير: 285/4، الشرح الصغير: 403/4.
(4) مغني المحتاج: 98/4، المغني: 767/7 وما بعدها.
(5) الدر المختار: 454/5 وما بعدها، البدائع: 255/7 وما بعدها، 322، اللباب شرح الكتاب: 179/3.
(6) رواه البيهقي موقوفاً على الشعبي. وتأويل العبد معناه: أن يقتل العبد حراً، فليس على عاقلة مولاه شيء من جنايته، وإنما هي في رقبته (نصب الراية: 379/4) .
(7) الشرح الكبير للدردير: 282/4، 286، الشرح الصغير للدردير: 396/4، المغني: 775/7، 777، 788، القوانين الفقهية: ص 347 ومابعدها.
(7/634)
ويتحمل عندهم كل فرد من أفراد العاقلة على قدر ما يطيق، بحسب اجتهاد الحاكم، وليس فيه تقدير شرعي محدد، فلا يكلف أحد ما يجحف به ويشق عليه؛ لأن تكليف العاقلة مشروع على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه.
وأقل عدد للعاقلة عند المالكية بحيث لا ينقص عنه: هو سبع مئة، وقيل: ألف، فإذا وجد من العصبة هذا العدد، فلا يضم إليهم أحد، وإن نقصوا عن هذا العدد، ولو كانوا أغنياء، ضم إليهم ما يكمِّلهم من الموالي، أي المعتِقون.
وقال الشافعية (1) : تحمل العاقلة جميع الدية، قلَّت أو كثرت؛ لأنه إذا ألزمت بالكثير فالقليل من باب أولى. وتوزع على النحو التالي:
على الغني من العاقلة: نصف دينار ذهب أو قدره، وعلى المتوسط (2) ربع دينار أو ثلاثة دراهم، كل سنة من الثلاث السنوات؛ لأنها وجبت مواساة متعلقة بالحول، فتتكرر بتكرره كالزكاة. فيصبح جميع ما يلزم الغني في الثلاث السنين ديناراً ونصفاً، والمتوسط يلزمه نصف دينار وربع.
رابعاً ـ هل تحمل العاقلة خطأ الحاكم؟
تتحمل العاقلة الخطأ الشخصي للإمام والحاكم: وهو الذي لا صلة له بالحكم والاجتهاد.
أما الخطأ الناجم عن الحكم والاجتهاد ففيه رأيان (3) :
__________
(1) المهذب: 211/2، مغني المحتاج: 95/4، 99.
(2) الغني: هو من يملك فاضلاً عن نصاب الزكاة وهو عشرون ديناراً، والمتوسط: من يملك عشرين ديناراً.
(3) المغني: 780/7 وما بعدها، 833، المهذب: 192/2، 212، مغني المحتاج: 81/4، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 252/4، 268.
(7/635)
قال الجمهور (الشافعية في قول راجح والمالكية والحنابلة) : يجب على عاقلته أيضاً، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء، فأجهضت جنينها، فقال عمر لعلي: عزمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك (1) ، أي قريش، ولأن الحاكم جانٍ، فكان خطؤه على عاقلته كغيره.
وقال الحنفية (2) : عقل (أي تعويض) خطأ الحاكم في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب عقله على عاقلته مجحف بهم، ولأن الحاكم نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله، فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه. وهذا هو رأي العز بن عبد السلام من الشافعية (3) .
خامساً ـ من العاقلة، وهل تتحمل الدية في العصر الحاضر؟
العاقلة: هي التي تتحمل العقل أي الدية، وسميت الدية عقلاً؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك، أي تمسكه، ومنه سمي العقل؛ لأنه يمنع القبائح.
واختلف الفقهاء في تحديد العاقلة على ثلاثة مذاهب:
1 - قال الحنفية (4) : العاقلة: هم أهل الديوان (5) ، إن كان القاتل من أهل
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية: 398/4) .
(2) الدر المختار: 397/5، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 172، نظرية الضمان للؤلف: ص 32 وما بعدها.
(3) قواعد الأحكام: 165/2، نظرية الضمان للمؤلف: ص 336 وما بعدها.
(4) الدر المختار 453/5 وما بعدها، البدائع: 255/7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 177/6 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 178/3 وما بعدها.
(5) الديوان: اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاؤهم. وكان عمر أول من دون الدواوين في العرب. وكانت الدواوين السلطانية في عهد عمر أربعة أقسام: ديوان الجيش أو الجند، وديوان الخراج والجزية، وديوان الولاة، وديوان بيت المال (الأحكام السلطانية للماوردي: ص 199، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة: ص138) .
(7/636)
الديوان، وهم الجيش أو العسكر الذين كتبت أساميهم في الديوان: وهو جريدة الحساب. أو هم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين، أي أهل الرايات والألوية، تؤخذ من عطاياهم أو من أرزاقهم (1) لا من أصول أموالهم. بدليل فعل عمر رضي الله عنه، فإن الدية كانت على أهل النصرة، وكانت بأنواع: بالقرابة، والحلف، والولاء، والعقد، فلما دوَّن عمر الدواوين جعل العقل (الدية) على أهل الديوان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم (2) .
وإن لم يكن القاتل من أهل الديوان، فعاقلته: قبيلته وأقاربه، وكل من يتناصر هو بهم؛ لأنه يستنصر بهم. فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسباً على ترتيب العصبات: الأقرب فالأقرب، فيقدم الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم، وأما من لم يكن له عاقلة كاللقيط والحربي أو الذمي الذي أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر الرواية. والقاتل داخل مع العاقلة، فيكون ـ كما تقدم ـ فيما يؤدي مثل أحدهم؛ لأنه هو الجاني، فلا معنى لإخراجه، ومؤاخذة غيره، بل هو أولى بتحمل تبعة فعله.
ولا يدخل في العاقلة آباء القاتل وأبناؤه (3) ولا الأزواج؛ لأنه لا يتحقق بهم الكثرة، ولا النساء والصبيان والمجانين؛ لأن تحمل العاقلة تبرع بالإعانة، وهؤلاء ليسوا من أهل التبرع.
ولا تتحمل العاقلة جناية العبد، ولاالعمد، ولا ما لزم صلحاً ولا اعترافاً،
__________
(1) العطاء: ما يعطى للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين، لا بقدر الحاجة، بل بصبره وعنائه في أمر الدين. والرزق: ما يفرض للجندي في بيت المال، بقدر الحاجة، في كل شهر، أو مياومة كالرواتب اليوم.
(2) راجع نصب الراية: 398/4.
(3) رد المحتار: 454/5، وقيل: يدخل الآباء والأبناء.
(7/637)
لقول الشعبي السابق ذكره، ولأنه لا يتناصر بالعبد، ولأن الإقرار مقصور على نفس المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة، إلا أن يصدقوه في إقراره، ولأن ما لزم بالصلح عن دم العمد، يجب في القصاص، فإذا صالح عنه الجاني كان بدله في ماله.
كما لا تتحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعداً كما تبين، وما نقص عن هذا المقدار، فهو في مال الجاني.
2 - ومذهب المالكية: أن العاقلة هم أهل الديوان (وهو الدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاءاتهم وقدمهم) فإن لم يكن ديوان فالعصبة (ويبدأ بالإخوة، ثم بالأعمام، ثم من بعدهم من الأقارب) ثم بيت المال إن كان الجاني مسلماً؛ لأن بيت المال لا يعقل عن كافر، فإن لم يكن بيت مال، فتقسط الدية على الجاني (1) .
3 - وقال الشافعية والحنابلة (2) : العاقلة: هم قرابة القاتل من قبل الأب، وهم العصبة النسبية كالإخوة لغير أم والأعمام، دون أهل الديوان، بدليل ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة القاتل (3) .
ويدخل عند المالكية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: الآباء والأبناء خلافاً لما قال الحنفية؛ لأنهم أحق العصبات بميراث الجاني، فكانوا أولى بتحمل عقله، أي ديته.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 282/4، الشرح الصغير: 397/4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 347، بداية المجتهد: 405/2.
(2) مغني المحتاج: 95/4 وما بعدها، المهذب: 212/2، المغني: 783/7-791، كشاف القناع: 58/6 وما بعدها.
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي (نيل الأوطار: 69/7) .
(7/638)
واستثنى الشافعية كالحنفية الأصل من أب وإن علا، والفرع من ابن وإن سفل؛ لأنهم أبعاض الجاني، فكما لا يتحمل الجاني الدية لا يتحمل أبعاضه وهم الآباء والأبناء.
وروى النسائي: «لا يؤخذ الرجل بجريرة (أي جريمة) ابنه» وفي رواية لأبي داود في خبر المرأتين اللتين اقتتلتا، من هذيل، السابق (1) : «وبرأ الولد» أي من العقل، وقيس به غيره من الأبعاض. وفيها أيضاً «وبرأ زوجها» . ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبة: البنوة، ثم الأبوة عند من يدخلهم في العاقلة، ثم الأخوة، ثم العمومة. وأعمام الأب ثم بنوهم مقدمون على أعمام الجد ثم بنوهم.
ومن لم تكن له عاقلة أديت ديته من بيت المال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه» (2) . فإن فقد بيت المال فالواجب عند المالكية والشافعية على الجاني، والجاني أحد العاقلة؛ لأن الدية عندهم تلزمه ابتداء، تتحملها العاقلة. وليس عند الحنابلة على القاتل في هذه الحالة شيء، كما أنه ليس واحداً من العاقلة؛ لأن الدية عندهم لزمت العاقلة ابتداء.
وتوزع الدية على أفراد العاقلة قريبهم وبعيدهم، حاضرهم وغائبهم، صحيحهم ومريضهم، ولو هرماً وزمِناً وأعمى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في امرأة بني لَحْيان التي توفيت بسبب الاعتداء عليها وعلى جنينها بأن العقل على عصبتها (3) ، كما أن النبي صلّى الله عليه وسلم في حادثة أخرى قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها (4) .
ولا تؤخذ الدية من فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل؛ لأن تحمل الدية للتناصر، والمواساة، والفقير لا يقدر على المواساة، وغيره ليس من أهل النصرة.
ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جُنَّ قبل آخر الحول لم يلزمه شيء؛ لأنه مال يجب في آخر العام على سبيل المواساة، فأشبه الزكاة.
__________
(1) رواه أبو داود عن جابر، ونصه «إن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية المقتول على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها» (نيل الأوطار: 81/7) .
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
(3) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(7/639)
مصير نظام العواقل في الوقت الحاضر في رأي متأخري الحنفية:
إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه، ولكن دون أن يلزم العاقلة شيء من ذنب الجاني أخروياً. والسبب في هذا الاستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته والتخفيف عنه، ودعم أواصر المحبة والألفة والإصلاح بين أفراد الأسرة، والحفاظ على حقوق المجني عليه حتى لاتذهب الجناية عليه هدراً إذا كان القاتل فقيراً، وأغلب الناس فقراء، فكان في ذلك النظام عدالة ومساواة في المجتمع، حتى لا يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني. ثم إن هذا النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل، إذ لولا استنصاره بأسرته واعتماده على قوتهم لتثبت في الأمر ملياً، وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام، لذا اعتبر الفقه الإسلامي أن الجناية الواقعة منسوبة ضمناً إلى كل فرد من أفراد العاقلة، فأوجبت الدية عليهم جميعاً (1) . وكان بذل المال من العاقلة بديلاً عن النصرة التي كانت في الجاهلية، حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه كيلا يدنو منه أولياء القتل للأخذ بالثأر.
__________
(1) راجع الجريمة والعقوبة لأستاذنا محمد أبي زهرة: ص 423 ومابعدها، المسؤولية الجنائية لأستاذنا الشيخ محمود شلتوت: ص 38، التشريع الجنائي الإسلامي: 198/2 ومابعدها، نظرية الضمان للمؤلف: ص 298.
(7/640)
وبالرغم من كل هذه المزايا، فإن نظام العاقلة كان مناسباً للبيئة التي كانت فيه الأسرة الواحدة متماسكة البنيان، متناصرة فيما بينها على السراء والضراء. أما وإنه قد تفككت الأسر، وتحللت عرى الروابط بين الأقارب، وزالت العصبية القبلية، ولم يعد الاهتمام بالنسب أمراً ذا بال، فلم يبق بالتالي محل لنظام العواقل، لفقدان معنى التناصر بين أفراد الأسرة.
يرشد إليه أن نظام العاقلة تطور ـ في رأي الحنفية ـ من الأسرة إلى العشيرة، فالقبيلة، ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة (1) (أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال.
وبما أن نظام العشيرة قد زال، وبيت المال قد تغير نظامه، واختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمداً على نفسه دون قبيلته كما في النظام الحاضر، فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد، أصبحت في زماننا هذا واجبة في مال الجاني وحده، وقد نص عليه الحنفية (2) . وهذا موافق لرأي أبي بكر الأصم والخوارج الذين يجعلون الدية على القاتل لا على العاقلة، أخذاً بعموم الآيات والأحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن الأفعال (3) . وهو أيضاً منسجم مع رأي باقي المذاهب الذين قرروا وجوب الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة ولم يوجد بيت المال.
__________
(1) قال الحنفية: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة (اللباب: 178/3) .
(2) الدر المختار ورد المحتار: 456/5.
(3) مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 123/2.
(7/641)
المطلب الثاني ـ العقوبة الأصلية الثانية: الكفارة:
القتل شبه العمد عند جمهور الفقهاء (1) القائلين به وهم غير المالكية: تجب فيه كفارة؛ لأنه ملحق بالخطأ المحض في عدم القصاص، وتحمل العاقلة ديته، وتأجيلها ثلاث سنين، فجرى مجرى الخطأ في وجوب الكفارة على الجاني.
والكفارة كما تقدم في القتل العمد: هي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها في ملكه، أو لم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته لشراء الرقبة وإعتاقها، أو لم يجد الرقبة فعلاً، وجب عليه صيام شهرين متتابعين، كما ورد في النص القرآني.
والمالكية (2) يعتبرون شبه العمد مثل العمد لا يوجب كفارة.
ويلاحظ أن حوادث الدهس بالسيارات اليوم توجب الدية وكفارة القتل بالتسبب.
النوع الثاني ـ العقوبة البدلية في القتل شبه العمد:
إذا سقطت الدية لسبب ما، حل محلها التعزير، وعلى الحاكم عند المالكية تعزير القاتل بما يراه مناسباً. وجمهور الفقهاء يتركون الخيار في التعزير للحاكم، كما تقدم في تعزير القاتل عمداً. وأما الصوم فهو خصلة من خصال الكفارة التي هي عقوبة أصلية، ولكنها تأتي مُرتَّبة بعد العجز عن عتق الرقبة.
النوع الثالث ـ العقوبة التبعية في القتل شبه العمد:
يعاقب القاتل شبه العمد بعقوبتين أخريين عدا الدية، وهما الحرمان من الميراث والحرمان من الوصية، على النحو المبين في جزاء القتل العمد، عملاً بعموم حديثين هما: «ليس للقاتل ميراث» و «ليس لقاتل وصية» لكن الأول صحيح والثاني في سنده متروك يضع الحديث.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 251/8، البدائع: 249/7 وما بعدها، الدر المختار: 407/5، مغني المحتاج: 107/4، المهذب: 217/2، المغني: 97/8، كشاف القناع: 65/6.
(2) الشرح الصغير للدردير: 405/4، بداية المجتهد: 401/2، الشرح الكبير: 266/4.
(7/642)
المبحث الرابع ـ القتل الخطأ وعقوبته:
القتل الخطأ كما عرفنا: هو ألا يقصد به الضرب ولا القتل، مثل لو سقط شخص على غيره فقتله، أو رمى صيداً فأصاب إنساناً، فهو نوع واحد عند الجمهور. ونوعان عند الحنفية؛ لأنهم يعتبرون حالة سقوط النائم على غيره، مما جرى مجرى الخطأ.
ولا قصاص في الخطأ وشبهه باتفاق الفقهاء، وإنما له عقوبتان فقط:
أصلية: وهي الدية والكفارة، وتبعية: وهي الحرمان من الميراث والوصية.
وكذلك عقوبات القتل شبه الخطأ عند الحنفية هي مثل عقوبات الخطأ (الكفارة، والدية على العاقلة، وحرمان القاتل من الميراث والوصية) وأما القتل بالتسبب عند الحنفية كحافر البئر فله عقوبة واحدة هي الدية على العاقلة، وليس فيه كفارة ولا حرمان من الميراث والوصية (1) ، وهو عند الجمهور كالقتل الخطأ.
أما الصيام فهو أحد خصلتي الكفارة المنصوص عليها في القرآن الكريم في آية عقوبة القتل الخطأ: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله} ... {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} .. [النساء:4/92] وقد ذكر في الآية ثلاث كفارات: الأولى بقتل المسلم في دار الإسلام خطأ، والثانية بقتله في دار الحرب وهو لا يعرف إيمانه، والثالثة بقتل المعاهد وهو الذمي.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 252/8 ومابعدها. ولا تعزير في الخطأ باتفاق الفقهاء.
(7/643)
أما دية الخطأ فهي ـ كما تقدم في العمد ـ مخمسة، أي تؤخذ أخماساً: 20 بنت مخاض، و 20 ابن مخاض، و20 بنت لبون، و20 حقة، و20 جذعة، وهو مذهب الحنفية والحنابلة. وجعل المالكية والشافعية عشرين بني لبون مكان «عشرين بني مخاض» .
واستدل كل من الفريقين برواية عن ابن مسعود (1) .
واتفق الفقهاء (2) على أن دية الخطأ على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين، عملاً بقضاء النبي صلّى الله عليه وسلم بدية الخطأ على العاقلة (3) ، وبفعل عمر وعلي رضي الله عنهما بجعل هذه الدية على العاقلة في ثلاث سنين (4) .
والتأجيل عند الحنفية يشمل ما تحمله العاقلة والجاني معاً، وأما عند الجمهور فيجب حالاً كل ما لا تحمله العاقلة؛ لأنه بدل متلف، فلزم حالاً كقيم المتلفات. أما الذي تحمله العاقلة فيجب مواساة، فلزم التأجيل تخفيفاً على متحمله غير الأصلي.
والسبب في إلزام العاقلة الدية: أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تخفيفاً عنه؛ إذ كان معذوراً في فعله بسبب عدم قصده، وينفرد هو بالكفارة.
ولا تتغلظ دية الخطأ عند الحنفية والمالكية. وتتغلظ عند الشافعية والحنابلة في حالات ثلاث، كما تقدم في دية العمد.
وأما كفارة القتل الخطأ: فتجب في مال القاتل، ولا يشاركه في تحمل شيء منها أحد (5) ؛ لأنه هو المتسبب بها، ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني، ولا يكفر عنه بفعل غيره؛ لأنها عبادة (6) . واتفق الفقهاء على وجوب كفارة القتل الخطأ إذا لم يكن المقتول ذمياً ولا عبداً، وأوجبها الجمهور غيرالمالكية بقتل الذمي أيضاً. وقال المالكية: لا تجب الكفارة في قتل الذمي؛ لأنه مهدر الدم في الجملة بسبب كفره.
وأما الحرمان من الميراث والوصية: فقد سبق الكلام عنه في عقوبة القتل العمد.
__________
(1) راجع نيل الأوطار: 76/7 وما بعدها، نصب الراية: 356/4-360.
(2) المغني: 770/7 وما بعدها.
(3) نيل الأوطار: 80/7 وما بعدها.
(4) نصب الراية: 334/4، 399.
(5) المغني: 771/7، 92/8، مغني المحتاج: 107/4، البدائع: 252/7، الدر المختار: 277/5، الشرح الصغير: 405/4 وما بعدها.
(6) هذا ولم يبق في عصرنا بسبب إلغاء الرق إلا صيام شهرين متتابعين كفارة عن القتل الخطأ؛ لأن المقصود من الرقبة هو العتق، والله تعالى قال {فمن لم يجد} أي من لم يجد رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن، فعليه صيام شهرين متتابعين.
(7/644)
الفَصْلُ الثّاني: الجِناية على ما دون النَّفس
الجناية على ما دون النفس: هي كل اعتداء على جسد إنسان من قطع عضو، أو جرح، أو ضرب، مع بقاء النفس على قيد الحياة.
وهي عند الحنفية (والمالكية الذين لا يقولون بشبه العمد) : إما عمد أو خطأ. والعمد: ما تعمد فيه الجاني الفعل بقصد العدوان، كمن ضرب شخصاً بحجر بقصد إصابته. والخطأ: هو ما تعمد فيه الجاني الفعل دون قصد العدوان، كمن يلقي حجراً من نافذة، فيصيب رأس إنسان فيوضحه (أي يُوضح العظم) ، أو يقع نتيجة تقصير كمن ينقلب على نائم فيكسر ضلعه (1) .
وليس فيما دون النفس عند الحنفية شبه عمد، وإنما هو عمد أو خطأ؛ لأن شبه العمد: هو الضرب بما ليس بسلاح أو ما في حكمه، كالضرب بالمثقل من حجر أو عصا كبيرة. فوجوده يعتمد على آلة الضرب، والقتل هو الذي يختلف حكمه باختلاف الآلة، أما إتلاف ما دون النفس فلايختلف حكمه باختلاف الآلة، وإنما ينظر فيه إلى النتيجة الحاصلة، وهو حدوث الإتلاف أو قصد الاعتداء، فاستوت الآلات كلها في دلالتها على قصد الفعل، فكان الفعل إما عمداً أو خطأ فقط. وعقوبة شبه العمد عندهم هي عقوبة العمد، بدليل قولهم: «ما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما سواها» (2) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 204/2.
(2) تكملة فتح القدير: 271/8، البدائع: 233/7، 310، اللباب مع الكتاب: 147/3.
(7/645)
ويتصور الشافعية والحنابلة (1) شبه العمد فيما دون النفس، كأن يضرب رأس إنسان بلطمة، أو بحجر صغير لا يشج غالباً، فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم. ويقولون: «لا قصاص إلا في العمد، لا في الخطأ وشبه العمد» . وعقوبة شبه العمد عندهم كعقوبة الخطأ.
والكلام في هذا الفصل على نوعي الجناية على ما دون النفس عمداً أو خطأ في مبحثين:
المبحث الأول ـ عقوبة الجناية العمدية على ما دون النفس:
الجناية العمدية على ما دون النفس: إما أن تكون على الأطراف بقطعها أو تعطيل منافعها، أوتكون بإحداث جُرْح في غير الرأس وهي الجراح، أو في الرأس والوجه وهي الشجاج.
والقاعدة المقررة في عقوبة هذه الجناية: هي (2) أنه كلما أمكن تنفيذ القصاص فيه (وهو الفعل العمد الخالي عن الشبهة) وجب القصاص، وكل ما لا يمكن فيه القصاص (وهو الفعل الخطأ، وما فيه شبهة) وجب فيه الدية أو الأرش.
وعلى هذا تكون ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها) : هو القصاص أو الدية والتعزير، وعقوبة تعطيل منافع الأعضاء (إذهاب معاني الأعضاء) في الواقع العملي: هو الدية، أو الأرش (3) . وعقوبة الجراح والشجاج: القصاص أو الأرش أو حكومة العدل (4) .
ففي هذا المبحث أربعة مطالب:
__________
(1) مغني المحتاج: 25/4، كشاف القناع: 638/5.
(2) البدائع: 234/7، تكملة فتح القدير: 270/8.
(3) الأرش: هو المال الواجب المقدر شرعاً في الجناية على ما دون النفس من الأعضاء.
(4) حكومة العدل: هي المال الذي يقدره القاضي بمعرفة الخبراء فيما ليس فيه مقدار محدد شرعاً كاليد الشلاء ونحوها مما ذهب نفعه، والجرح والتعطيل ونحوهما.
(7/646)
المطلب الأول ـ عقوبة إبانة الأطراف (أو قطعها) :
الأطراف عند الفقهاء: هي اليدان والرجلان، ويلحق بها أو يجري مجراها الأصبع، والأنف والعين والأذن، والشفَة والسن، والشعر والجفن ونحوها.
وعقوبة إبانة الأطراف: إما القصاص، أو الدية والتعزير بدلاً عنه، إذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب.
العقوبة الأصلية الأولى ـ القصاص:
يشترط لتطبيق القصاص في الطرف والجُرْح (1) ولغيرهما مما دون النفس، الشروط العامة المشروطة للقصاص في النفس، ويضاف إليها شروط خاصة.
أما الشروط العامة: فهي عند الحنفية (2) أن يكون الجاني عاقلاً بالغاً، متعمداً مختاراً، غير أصل للمجني عليه، وكون المجني عليه معصوماً ليس جزءاً للجاني ولا ملكه، وكون الجناية مباشرة لا تسبباً، وأن يكون القصاص ممكناً بإمكان المماثلة.
وأضاف الجمهور (3) كما تقدم في القتل العمد: أن يكون المجني عليه مكافئاً للجاني، ولا فرق عندهم بين أن تكون الجناية مباشرة أو تسبباً.
وبناء عليه تكون موانع القصاص العامة ما يأتي:
1 - الأبوة: يمتنع القصاص من الوالد لولده فيما دون النفس كالنفس لحديث «لا يقاد الوالد بولده» باتفاق المذاهب الأربعة، حتى عند الإمام مالك؛ لأن الضرب عدواناً أي تعدياً لا على وجه اللعب أو التأديب الذي ينشأ عنه جرح، لا قصاص فيه عنده؛ لأنه من الخطأ (1) .
2 - انعدام التكافؤ: ينعدم التكافؤ بين الجاني والمجني عليه فيما دون النفس في حالتين أو ثلاث عند الحنفية، وفي حالتين أخريين عند غير الحنفية (الجمهور) .
__________
(1) الطرف: ماله حد ينتهي إليه كأذن ويد ورجل. والجرح بضم الجيم: هو أثر الجراحة. وليس المراد به نفس الجرح بفتح الجيم، لأنه هو الفعل.
(2) البدائع: 297/7.
(3) الشرح الكبير للدردير: 250/4، مغني المحتاج: 25/4، المغني: 703/7، كشاف القناع: 638/5.
(7/647)
أما حالتا انعدام التكافؤ عند الحنفية: فهما الاختلاف في الجنس، وعدم التماثل العددي، فلا قصاص فيما دون النفس بين الرجل والمرأة (2) ؛ لأن الأطراف عندهم كالأموال، وإذا لم يتحقق التماثل بين دية المرأة والرجل، إذ أن ديتها نصف دية الرجل، فلا تماثل بينهما في دية الأطراف، وإذا انعدم التماثل والمساواة بين أرشي المرأة والرجل، امتنع القصاص بين طرفيها.
وإذا تعدد الجناة كأن قطعوا يد رجل أو أصبعه أوقلعوا سنه لا قصاص عليهم، لعدم المماثلة بين الأيدي واليد، والمماثلة فيما دون النفس شرط أساسي للقصاص. وعليهم دية الطرف المقطوع (3) .
وعند الجمهور: يقتص الرجل بالمرأة وبالعكس، وتقطع الأيدي الكثيرة باليد الواحدة.
وأما حالتا انعدام التكافؤ عند الجمهور: فهما الحرية والإسلام كما في قصاص النفس.
فلا قصاص بالقطع عندهم من الحر للعبد، ويقطع العبد بالحر، والعبد بالعبد. ويقول الحنفية في هذا خلافاً لمبدئهم في القصاص بالنفس: لا قصاص مطلقاً بين الحر والعبد، وبالعكس، ولا بين العبيد أنفسهم، لعدم التماثل، أو للتفاوت في القيمة؛ إذ أن قيمة كل عبد تختلف عن قيمة غيره (4) ، أي أن الحرية وعكسها العبودية حالة ثالثة لمنع القصاص فيما دون النفس عند الحنفية.
ولا قصاص عند الجمهور فيما دون النفس من المسلم للذمي الكافر، ولكن يقطع الذمي بالمسلم عند الشافعية والحنابلة، لعدم التكافؤ في النفس، ولا يقطع الذمي بالمسلم عند المالكية؛ لأن القصاص فيما دون النفس يقتضي المساواة بين الطرفين، ولا مساواة بين المسلم والكافر مطلقاً (5) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 242/4، 250.
(2) تكملة فتح القدير: 271/8، اللباب مع الكتاب: 147/3.
(3) تكملة فتح القدير: 280/8، البدائع: 299/7.
(4) تكملة فتح القدير: 271/8 وما بعدها، اللباب مع الكتاب: 147/3.
(5) الشرح الكبير للدردير: 250/4، مغني المحتاج: 25/4.
(7/648)
3 - كون الاعتداء على ما دون النفس شبه عمد عند الشافعية والحنابلة: كأن يلطم شخص غيره فيفقأ عينه، أو يرميه بحصاة فيشل يده، أو يحدث ورماً ينتهي بموضحة، فلا قصاص عندهم في هذه الحالة، وإنما تجب الدية المقررة شرعاً للعين أو اليد.
ويقتص من الجاني عند المالكية والحنفية في هذه الحالة؛ لأن شبه العمد فيما دون النفس له حكم العمد، لتوافر صفة الاعتداء، وما دون النفس يكفي فيه مجرد قصد الاعتداء، والاعتداء بأي آلة أمر متصور ممكن، بعكس القتل، فلا يكون إلا بآلة مخصوصة، كما بان سابقاً.
4 - أن يكون الفعل تسبباً عند الحنفية: فهم يشترطون للقصاص بالجناية على النفس أو ما دون النفس أن تكون الجناية مباشرة لا تسبباً كما ذُكر. ويخالفهم الجمهور فيه.
5 - أن تكون الجناية واقعة في دار الحرب عند الحنفية: فلا قصاص عندهم في النفس أو ما دونها على جناية وقعت في دار الحرب لعدم ولاية الإمام عليها، خلافاً لباقي الأئمة.
6 - تعذر استيفاء القصاص: يمتنع القصاص في النفس أو ما دونها عند الفقهاء إذا لم يمكن الاستيفاء؛ لأن القصاص يتطلب المماثلة، فإذا لم يتحقق التماثل فلا قصاص، وينتقل إلى الدية (1) . فلا تقطع إبهام اليد اليمنى ذات المفصلين من الجاني، بقطعه إبهاماً ذات مفصل واحد من المجني عليه، لكونها كانت مقطوعة المفصل الأول قبل الجناية، لعدم التماثل.
وأما الشروط الخاصة للقصاص في الجناية على ما دون النفس: فهي التي ترجع إلى أساس واحد، وهو تحقيق التماثل. ومقتضاه تحقيق التماثل بين الجناية والعقوبة في أمور ثلاثة: التماثل في الفعل، والتماثل في المحل (أو الموضع والاسم) والتماثل في المنفعة (أو الصحة والكمال) (2) .
__________
(1) البدائع: 297/7 وما بعدها، المغني: 703/7، كشاف القناع: 639/5، المهذب: 178/2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 250/4.
(2) البدائع: 297/7 وما بعدها، المغني: المغني: 703/7، كشاف القناع: 639/5-651.
(7/649)
وأضاف الحنفية التماثل في الأرشين، وقد سبق بيانه في مانع القصاص العام بسبب انعدام التكافؤ عندهم بين المرأة والرجل، وبين الحر والعبد؛ لأن ما دون النفس عندهم له حكم الأموال؛ لأنه خلق وقاية للنفس كالأموال، فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلاف الأموال.
والدليل على اشتراط التماثل: قوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] وقوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/16] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/2] ولأن دم الجاني معصوم إلا بمقدار جنايته، فما زاد عليها معصوم يمنع
التعرض له، فلا تصح الزيادة في القصاص على قدر الجناية (1) ، ولاقصاص في الجراح إلا في الموضحة إذا كانت عمداً. وبناء عليه تكون موانع القصاص الخاصة بما دون النفس ثلاثة هي:
1 - عدم التماثل في الفعل (أو عدم إمكان الاستيفاء بلا حيف ولا زيادة) : يشترط لجواز استيفاء القصاص: الأمن من الحيف (أي الجور والظلم) ولايؤمن من الحيف إلا إذا كان القطع في الأطراف من المفاصل كمفصل الزند أو مفصل المرفق أو الكتف من اليد أو مفصل الكعب أو الركبة أو الورك من الرجل، أو كان له حد ينتهي إليه كمارن الأنف (وهو ما لان منه) .
فإن كان القطع من غير مفصل، أو لم يكن له حد ينتهي إليه كالقطع من قصبة الأنف، أو من نصف الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ، فلا قصاص عند الحنفية والراجح عند الحنابلة (2) ، وتجب دية اليد أو الرِّجل.
ويجب القصاص حينئذ عند المالكية (3) كلما أمكن، ولم يحدث خطر أو خوف؛ لأن المماثلة مع الإمكان حق لله لا يجوز تركها؛ لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] .
ويرى الشافعية (4) أنه يقتص من أقرب مفصل إلى محل الجناية دونه، ويعطى المجني عليه حكومة
__________
(1) المغني: 703/7.
(2) البدائع: 298/7، كشاف القناع: 639/5.
(3) الشرح الكبير للدردير: 251/4-253، 255.
(4) مغني المحتاج: 29/4، المهذب: 180/2.
(7/650)
(تعويض) الباقي لتعذر القصاص فيه، فإن قطع رجل يد آخر من نصف الساعد، فللمجني عليه أن يقتص من الكوع (الرسغ) ؛ لأنه داخل في جناية يمكن القصاص فيها، ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي؛ لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه، فانتقل إلى البدل. وإن قطع رجل يد آخر من نصف العضد، فللمقطوع أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة (التعويض) في الباقي، وله أن يقتص من الكوع (الرسغ) ويأخذ الحكومة في الباقي؛ لأن الجميع مفصل واحد في الجناية، وليس له الاقتصاص من الكوع إذا كان القطع من المرفق؛ لأنه يتمكن من القصاص في محل الجناية، أما في الحالة المتقدمة فلا يمكنه الاقتصاص في موضع الجناية.
ولا قصاص باتفاق الأئمة في كسر العظام كعظم الصدر أو الصلب أو العنق، ويجب فيها الأرش كاملاً؛ لأن التماثل غير ممكن (1) .
كما لا قصاص بالاتفاق فيما بعد (أو فوق) الموضحة من الشجاج؛ لأن الاستيفاء دون حيف غير ممكن. ويقتص من الموضحة لإمكان القصاص، ولا يقتص فيما دون الموضحة إلا عند المالكية (2) ولا قصاص في الضرب بالسوط والعصا واللطمة والوكزة إذا لم تترك أثراً؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة (3) وإنما فيها التعزير. واستثنى المالكية السوط، ففي الضرب به قصاص. ويرى ابن القيم القصاص في اللطمة ونحوها.
__________
(1) البدائع: 308/7، الشرح الكبير للدردير: 253/4، المهذب: 178/2، مغني المحتاج: 28/4.
(2) البدائع: 309/7، الشرح الصغير: 349/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 26/4، كشاف القناع: 652/5، الشرح الكبير: 252/4.
(3) البدائع: 299/7، الدردير في الكبير: 252/4، وفي الصغير: 353/4، مغني المحتاج: 29/4، كشاف القناع: 640/5، المغني: 60/8، أعلام الموقعين: 318/1. .
(7/651)
2 - عدم المماثلة في الموضع قدراً ومنفعة: فلا تقطع اليد بغير اليد، ولا اليمنى باليسرى، ولا الإبهام أو السبابة بغيرها لعدم التجانس، ولا تقلع السن إلا
بمثلها ثنية أو ناباً أو ضرساً، ولا الأعلى بالأسفل أو بالعكس، لاختلاف المنفعة (1) .
3 - عدم التماثل في الصحة والكمال: فلا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء، ولا الرجل الصحيحة بالشلاء، ولايؤخذ الكامل بالناقص كيد أو رجل كاملة بأخرى ناقصة الأصابع. إلا أن الإمام مالك يرى قطع اليد أو الرجل الناقصة إصبعاً بالكاملة بلا غرم على الجاني، ولا خيار للمجني عليه في نقص الأصبع، فإن نقصت أكثر من أصبع، خيِّر المجني عليه بين القصاص وأخذ الدية. وإن نقصت يد المجني عليه أو رجله أصبعاً يقتص من الجاني الكامل الأصابع، فإن نقصت أكثر من أصبع كأصبعين فأكثر لا يقتص لها من يد أو رجل كاملة (2) .
وأحسن نموذج تطبيقي للقصاص فيما دون النفس هو قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] .
__________
(1) البدائع: 297/7، الشرح الكبير للدردير: 251/4، المهذب: 179/2 وما بعدها، كشاف القناع: 646/5 وما بعدها.
(2) البدائع: 300/7-303، الشرح الكبير للدردير: 252/4-254 وما بعدها، المهذب: 181/2، كشاف القناع: 649/5 وما بعدها.
(7/652)
أداة القصاص فيما دون النفس:
لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء أكان الجرح بها أم بغيرها، وإنما يستعان بجرَّاح مختص يستخدم الموسى أو المبضع الجراحي ونحوهما، ويطلب القصاص من الجاني في الجراحات بأرفق مما جنى به، فإذا كان الجرح بحجر أو عصا اقتص منه بالموسى (1) .
سراية القصاص فيما دون النفس:
السراية: هي حدوث مضاعفات أو آثار تترتب على تطبيق العقوبة الشرعية، تؤدي إلى إتلاف عضو آخر أو موت النفس البشرية. فإذا سرى الجرح الحاصل بالقصاص من العضو إلى النفس، فأدى للموت، سمي الفعل سراية النفس أو الإفضاء للموت، وإذا سرى إلى عضو آخر، سمي الفعل سراية العضو.
وعلى هذا إذا اقتص من طرف الجاني، فسرى القصاص إلى النفس، ومات، فهل هناك ضمان أو لا؟ فيه رأيان للفقهاء.
1 - قال أبو حنيفة (2) : إذا اقتص شخص من آخر لقطع يده، فقطع المجني عليه يد الجاني، فمات من القطع، ضمن الدية؛ لأنه استوفى غير حقه، إذ حقه القطع. وكذلك يضمن الأرش أي دية العضو إذا قطع شخص أصبعاً من يد أو رجل، فشلت الكف، أو شلت أصبع آخر جنبها، فعليه دية اليد.
والقاعدة عنده فيه وفي أمثاله هي أن «الجناية إذا حصلت في عضو، فسرت إلى عضو آخر، والعضو الثاني لا قصاص فيه، فلا قصاص في العضو الأول أيضاً، ولكن فيه الدية» أي على العاقلة.
__________
(1) البدائع: 309/7، الدسوقي على الدردير: 265/4، المهذب: 186/2، المغني: 704/7.
(2) البدائع: 305/7، 307، تكملة فتح القدير: 319/8، تبيين الحقائق: 136/6.
(7/653)
ولو كان الموت حادثاً بسبب التأديب، كالضرب الحاصل من الأب أو الوصي أو المعلم، يضمن المتسبب الدية؛ لأنه التأديب هو الفعل الذي يبقى فيه المؤدَب حياً بعده، فإذا سرى، تبين أنه قتل، وليس بتأديب، فسأل الفاعل؛ لأنه متعد في فعله، غير مأذون في القتل، أي أن الفاعل ضامن الدية في كل الحالات، سواء أكان عمله مشروعاً أم غير مشروع.
وقال الصاحبان (1) : لا شيء على المقتص في الحالة الأولى وهي قطع اليد قصاصاً؛ لأن الموت حصل بفعل مأذون فيه، وهو القطع. كما لا شيء عليه في الحالة الثالثة (التأديب) ؛ لأن الفاعل مأذون في تأديب الصبي وتهذيبه، والمتولد من الفعل المأذون فيه لا يكون مضموناً، كما لو عزر الإمام إنساناً فمات، أو قطع الحاكم يد السارق، فمات.
وتجب دية اليد في الحالة الثانية (شل اليد) ولا قصاص.
2 - وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) : لا ضمان على المقتص بسريان القصاص إلى النفس أو العضو، أو المنفعة؛ لأن السراية حصلت من فعل مأذون فيه، مثل بقية الحدود، ويؤيده أن عمر وعلياً قالا: «من مات من حد أو قصاص: لا دية له، الحقُ قتَله» (3) . وهذا موافق لرأي الصاحبين.
سراية الجناية:
لا خلاف بين الفقهاء في أن سراية الجناية مضمونة (4) ؛ لأنها أثر الجناية، وبما أن الجناية مضمونة، فكذلك أثرها.
فإن سرت الجناية إلى النفس، وجب القصاص.
وإن لطمه فذهب ضوء عينيه، لم يقتص منه عند الجمهور؛ لأن المماثلة فيها غير ممكنة، وقال الشافعية: يجب القصاص فيه بالسراية؛ لأن له محلاً مضبوطاً (5) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الشرح الكبير للدردير: 252/4، المهذب: 188/2، 190، المغني: 727/7.
(3) رواه سعيد بن منصور في سننه.
(4) المغني: 727/7، مغني المحتاج: 33/4.
(5) المغني: 715/7، مغني المحتاج: 29/4، المهذب: 186/2.
(7/654)
وإن قطع الجاني أصبعاً، فتأكَّلت أخرى وسقطت من مفصل، وجب فيه القصاص عند الصاحبين والحنابلة. وقال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء: لا قصاص وتجب دية الأصبع الثانية، لعدم تحقق العمدية (1) .
العقوبة الأصلية الثانية عند المالكية في إبانة الأطراف - التعزير:
يوجب المالكية (2) التعزير (أو الأدب على حد تعبيرهم) على المعتمد عندهم في الجناية على ما دون النفس، بحسب اجتهاد الحاكم، سواء في حالة العمد (لا الخطأ) الذي لا قصاص فيه، أو العمد الذي فيه القصاص، فتقطع يد الجاني مثلاً ويعزر (أو يؤدب) ، سواء في الأطراف أو الشجاج أو الجراح.
ولا يرى جمهور الفقهاء حاجة لهذا التعزير مع القصاص؛ لأن الله تعالى جعل العقوبة في قوله: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] هي القصاص دون غيره، فمن أضاف غيرها فقد زاد على النص بدون دليل، وهذا الرأي أولى بالاتباع.
العقوبة البدلية في إبانة الأطراف ـ الدية أو الأرش:
إذا امتنع القصاص لسبب من الأسباب وجبت الدية بدلاً عنه، كما تجب أيضاً عند الشافعية والحنابلة بصفة عقوبة أصلية إذا كانت الجناية شبه عمد.
وتجب الدية كاملة بإزالة جنس المنفعة كإتلاف اليدين، ويجب الأرش بإزالة بعض المنفعة كإتلاف يد واحدة أو أصبع واحدة. والأرش نوعان: مقدر وغير مقدر. والمقدر: هو ما حدد الشرع له نوعاً ومقداراً معلوماً كأرش اليد والعين. وغير المقدر: هو مالم يقدر له الشرع مقداراً معيناً، وترك أمر تقديره للقاضي.
__________
(1) المغني: 727/7، البدائع: 307/7، مغني المحتاج: 30/4.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 253/4، الشرح الصغير: 353/4.
(7/655)
ما تجب فيه الدية كاملة:
تجب الدية كاملة بدلاً عن القصاص في الجناية العمدية أو في حالة الجناية خطأ بإزالة جنس منفعة العضو، إما بإبانته (أو قطعه) ، أو بتعطيل منفعته (إذهاب معناه) مع بقاء الهيكل أو الصورة.
والأعضاء التي تجب فيها الدية أنواع أربعة:
نوع لا نظير له في البدن، ونوع في البدن منه اثنان، ونوع في البدن منه أربعة، ونوع في البدن منه عشرة.
النوع الأول ـ ما لا نظير له في البدن، وهو ما يلي (1) :
الأنف، اللسان، الذكر أو الحَشَفة، الصُلب إذا انقطع المني، مسلك البول، مسلك الغائط، الجلد، شعر الرأس، شعر اللحية إذا لم ينبت.
أما الأنف: إذا قطع كله، أو قطع المارن (وهو مالان من الأنف) ففيه الدية لقوله عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم: «وإن في الأنف إذا أوعب جَدْعُه الدية» أي إذا قطع جميعه. والأنف مشتمل على الفتحتين (المنخرين) وعلى الحاجز بينهما؛ وتندرج حكومة قصبته في ديته، عند الفقهاء حتى الشافعية (2) وفي كل من طرفي الأنف، والحاجز: ثلث الدية.
__________
(1) البدائع: 311/7، الشرح الكبير: 272/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 61/4 وما بعدها، المهذب: 200/2، المغني: 1/8 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 62/4، كشاف القناع: 37/6.
(7/656)
وأما اللسان المتكلم به ـ لسان الناطق: ففيه الدية لقوله عليه السلام في حديث ابن حزم: «وفي اللسان الدية» .
وفي لسان الأخرس عند (المالكية والحنفية والشافعية) : حكومة (أي تعويض يقدره القاضي) وعند الحنابلة: فيه ثلث الدية (1) ، أي حكومة، والحكومة عند المالكية إذا لم يذهب الذوق، وإلا فالدية.
وفي لسان الطفل الذي لم ينطق دية عند الجمهور، وحكومة عند أبي حنيفة.
وفي الذكر أو الحشفة (رأس الذكر) ولو لصغير وشيخ: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الذكر الدية» .
وفي ذكر الخصي والعنَّين (2) عند الحنفية والحنابلة: حكومة، وعند المالكية على الراجح والشافعية: دية كاملة (3) .
وفي الصلب إذا انقطع الماء وهو المني الذي فيه: الدية، للحديث السابق في الديات: «وفي الصلب الدية» .
وفي إتلاف كل من مسلك البول أو مسلك الغائط: الدية عند الفقهاء، وهو الأقرب عند المالكية؛ لأن الجاني فوَّت منفعة مقصودة بنحو كامل، فيجب عليه كمال الدية (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 63/4، المغني: 16/8، البدائع: 311/7، اللباب: 154/3، الشرح الكبير للدردير: 277/4، كشاف القناع: 41/6.
(2) وهو من لا يتأتى منه الجماع.
(3) اللباب شرح الكتاب: 154/3، الدردير في الكبير: 273/4، مغني المحتاج: 67/4، المغني: 33/8، كشاف القناع: 47/6 وما بعدها.
(4) البدائع: 311/7، الدردير والدسوقي: 277/4، مغني المحتاج: 74/4، المغني: 51/8.
(7/657)
وفي سلخ الجلد عند الشافعية: الدية إذا لم ينبت، وبقيت حياة مستقرة في المسلوخ، ثم مات بسبب آخر غير السلخ، كأن حز غير السالخ رقبته بعد السلخ (1) .
وتجب الدية عند المالكية إذا أدت الجناية إلى تجذيم الجلد أو تبريصه، أو تسويده (2) .
وتجب عند الحنفية والحنابلة في الجلد حكومة عدل، إلا أن الحنفية قالوا: في سلخ جلد الوجه كمال الدية (3) .
وفي إزالة شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين: ولم ينبت بعدئذ: الدية عند الحنفية والحنابلة. وأما عند المالكية والشافعية: فيجب في الكل حكومة عدل (4) .
النوع الثاني ـ الأعضاء التي في البدن منها اثنان: وهي ما يأتي (5) : اليدان، الرجلان، العينان، الأذنان، الشفتان، الحاجبان إذا ذهب شعرهما نهائياً ولم ينبت، والثديان، والحلمتان، والأنثيان، والشُّفران، والأليتان، واللَّحيان.
فإذا ذهب واحد منها ففيه نصف الدية.
أما اليدان إن قطعتا من الرسغ أو الكتف أو المنكب (6) ففيهما الدية، لحديث معاذ: «وفي اليدين وفي الرجلين الدية» ولحديث سعيد بن المسيب عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «
__________
(1) مغني المحتاج: 67/4 وما بعدها.
(2) الدردير والدسوقي: 272/4.
(3) الدر المختار: 413/5.
(4) البدائع: 312/7، الدرالمختار: 408/5 وما بعدها، الدردير والدسوقي: 277/4، مغني المحتاج: 79/4، كشاف القناع: 36/6، المغني: 10/8 وما بعدها.
(5) البدائع: 311/7.
(6) المنكب: مَجْمع عظم العضد والكتف.
(7/658)
في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية» (1) وفي اليد الواحدة نصف الدية؛ لما روى مالك والنسائي في حديث عمرو بن حزم: «وفي اليد خمسون» .
وأما الرِّجلان: ففيهما الدية، وفي الرِّجْل الواحدة نصف الدية، لحديث معاذ وابن المسيب المتقدمين في دية اليدين، وحديث ابن حزم: «وفي الرِّجل خمسون» .
والعينان: فيهما الدية لحديث ابن المسيب المتقدم ولحديث عمرو بن حزم: «في العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرِّجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي العين خمسون» (2) . وأما عين الأعور ففيها عند مالك وأحمد وجماعة من الصحابة دية كاملة؛ لأنها في معنى العينين، وفيها نصف الدية عند االشافعي، إذ لم يفصّل الدليل، وهو كتاب ابن حزم بين عين المبصروعين الأعور.
والأذنان: فيهما الدية بالقطع أو القلع، وفي أذن واحدة نصف الدية لخبر عمرو بن حزم: «في الأذن خمسون من الإبل» (3) واشترط مالك لدية الأذنين ذهاب السمع، فإن لم يذهب ففيها حكومة.
والشفتان: فيهما الدية لخبر عمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» . وفي كل شفة نصب الدية، عليا أو سفلى، صغرت أو كبرت.
والحاجبان: إذا أزيل شعرهما ولم ينبت فيهما الدية عند الحنفية والحنابلة.
وفي أحد الحاجبين: نصف الدية؛ لأن الجاني أتلف جنس منفعة مقصودة، أو فوت جمالاً مقصوداً لذاته.
وعند المالكية والشافعية في إزالة شعر الحاجبين الحكومة فقط (أي التعويض المقدر قضاء) ؛ لأنه إتلاف جمال من غير منفعة، فلا تجب فيه الدية (4) .
والثديان والحَلْمتان للمرأة: فيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة، فأشبها اليدين والرجلين. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية، وفي الثديين الدية. واشترط مالك لدية الحلمتين انقطاع اللبن أو فساده، فإن لم ينقطع أو يفسد فتجب حكومة عدل. أما الثديان ففيهما عنده الدية، انقطع اللبن أو لا (5) .
والأنثيان: (الخُِصيتان) فيها الدية؛ لأنهما وكاء المني، ولحديث عمرو بن حزم: «وفي البيضتين الدية» (6) .
والشُّفران (7) : فيهما الدية، إذا قطعا أو أشلا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة أو الجماع. فلو زالت بقطعهما البكارة وجب أرشها مع الدية (8) .
والأليان: فيهما الدية عند الحنفية والشافعية والحنابلة. وفي واحدة منهما نصف الدية؛ لأن فيهما جمالاً ظاهراً أو منفعة كاملة، وليس في البدن نظيرهما. وقال المالكية في أليي الرجل: حكومة اتفاقاً، وكذلك في المرأة قياساً على الرجل. وقال أشهب (9) في أليي (10) المرأة خطأ: الدية.
واللَّحيان (11) : فيهما الدية عند الشافعية والحنابلة (12) ، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن فيهما نفعاً وجمالاً، وليس في البدن مثلهما.
__________
(1) قال عنه الزيلعي في (نصب الراية: 371/4) : غريب.
(2) حديث عمرو بن حزم سبق تخريجه، وقد صححه ابن حبان، والحاكم، وحكى ابن المنذر الإجماع فيه.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي.
(4) البدائع: 311/7، المغني: 11/8، الشرح الكبير للدردير: 277/4، بداية المجتهد: 413/2، المهذب: 208/2.
(5) البدائع، المكان السابق، المغني: 30/8، الدردير: 273/4، مغني المحتاج: 66/4.
(6) البدائع: المكان السابق، الدردير: 273/4، مغني المحتاج: 79/4، المغني: 34/8.
(7) الشفران: هما اللحمان المحيطان بحرفي فرج المرأة، المغطيان له، كما تحيط الشفتان بالفم.
(8) الدردير، المكان السابق، مغني المحتاج: 67/4.
(9) الدردير: 277/4، مغني المحتاج: 67/4.
(10) الألية: بالفتح ألية الشاة، ولا تقل: إلية بالكسر، ولا لِيَّة، وتثنيتها «اليان» بغير تاء.
(11) اللحيان: هما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى أي الفك السفلي.
(12) المغني: 27/8، كشاف القناع: 44/6، مغني المحتاج: 65/4.
(7/659)
النوع الثالث - الأعضاء التي منها في البدن أربعة: وهي الآتي:
أشفار العينين (وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وهو الهُدْب) إذا لم تنبت، والأهداب (وهي شعر الأشفار) إذا لم تنبت.
وأما الأشفار وحدها أو الجفون معها: ففيها عند الجمهور دية: لأن منفعة الجنس، سواء قطع الشفر وحده أو قطع معه الجفن؛ لأن الجفن تبع للشفر. وفي كل جُفن أو شُفْر ربع الدية؛ لأن فيهما جمالاً ظاهراً، ونفعاً كاملاً. ويرى المالكية أن فيها حكومة عدل لعدم ورود نص فيها، والتقدير لابد فيه من نص، ولا يثبت بالقياس كما يرى الجمهور (1) .
وأما الأهداب (أو شعر الجفن) : ففيهما عند الحنفية والحنابلة: الدية؛ لأن الأهداب تابعة للأجفان كحلمة الثدي، والأصابع مع الكف. وفيها عند المالكية إذا فسد منبتها: حكومة عدل كسائر الشعور (2) .
النوع الرابع - ما في البدن منه عشرة: وهو أصابع اليدين، وأصابع الرجلين، وفي كل اصبع عشر الدية , لحديث عمرو بن حزم: (وفي كل اصبع من اصابع اليد والرجل عشر من الابل) وفي كل أنملة ثلث الدية إلا أنملة الإبهام ففيها نصف ديتها باتفاق المذاهب الأربعة.
ولا يفضل أصبع على أصبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في كل أصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» (3) وفي الأصبع الزائدة أو الشلاء حكومة عدل (4) .
وأما الأسنان الـ (32) : ففيها الدية، وفي كل سن خمس من الإبل أو خمس مئة درهم ما لم تصل إلى مقدار الدية، للحديث السابق، ولحديث ابن حزم: «وفي السنِّ خمس من الإبل» سواء أكانت السن صغيرة أم كبيرة، دائمة أم لبنية (مؤقتة قابلة للتبدل) أما السن الزائدة ففيها حكومة. وأما ما يترتب على تغير السن من الشَّين كسواد أواخضرار أو حمرة، ففيه أرش السن عند الحنفية وحكومة عدل عند غيرهم (5) . وقيد المالكية إيجاب التعويض في الخضرة أو الاصفرار بما إذا كانت مثل السواد عرفاً. وفي الصفرة عند الحنفية حكومة (6) .
__________
(1) البدائع: 311/7، 324، الدردير: 277/4، المهذب: 201/2، مغني المحتاج: 62/4، المغني: 7/8.
(2) المراجع السابقة.
(3) رواه الخمسة إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(4) البدائع: 314/7، 303، 318، تبيين الحقائق: 134/6، الدردير: 278/4، مغني المحتاج: 66/4، المغني: 35/8 وما بعدها.
(5) وهناك رواية أخرى عند الحنابلة في التسويد أو الاخضرار: أن الواجب أرش أو دية السن: خمس من الإبل.
(6) البدائع: 315/7، الدردير: 278/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 63/4 وما بعدها، كشاف القناع: 42/6، المغني: 21/8 وما بعدها.
(7/660)
المطلب الثاني ـ تعطيل منافع الأعضاء (أو إذهاب المعاني) :
يعاقب الجاني إذا عطل منفعة عضو غيره أو أذهب معناه مع بقاء هيكله (أو صورته أو آلته) ، كذهاب البصر أو السمع، أو الذوق أو الشم، أو اللمس، أو المشي أو البطش أو النطق أو العقل، أو شلل اليد أو الرجل، أو القدرة على الجماع. وقد عد بعضهم المنافع عشرين أو أكثر، منها: عقل، سمع، بصر، شم، صوت، ذوق، مضغ، إمناء، إحبال، جماع، إفضاء، بطش، مشي، ذهاب شعر، أو جلد أو مشي وغير ذلك.
(7/661)
والقاعدة في عقوبة هذه الجنايات: هي محاولة القصاص، كلما أمكن، من الناحية العملية، فإن لم يمكن القصاص وجبت الدية أو الأرش المقدر شرعاً (1) .
ففي البصر الدية؛ لأنه أبطل منفعة العينين. جاء في كتاب عمرو بن حزم: «وفي العينين الدية» . وفي السمع الدية لحديث معاذ: «في السمع الدية» (2) ،ونقل ابن المنذر الإجماع فيه، ولأنه من أشرف الحواس، فكان كالبصر، بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء؛ لأن به يدرك الفهم، فلو فقد بضربة واحدة سمعه وبصره، فعليه ديتان.
وفي الشم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم: «في المشام الدية» .
وفي إبطال الذوق: الدية؛ لأنه أحد الحواس الخمس، فأشبه الشم.
وفي إذهاب الكلام: دية لخبر البيهقي: «في اللسان الدية إن منع الكلام» ولأن اللسان عضو مضمون بالدية، فكذا منفعته العظمى كاليد والرجل.
وفي ذهاب العقل: الدية لخبر عمرو بن حزم: «وفي العقل الدية» .
__________
(1) البدائع: 311/7، الدردير: 271/4 وما بعدها، المهذب: 201/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 68/4 وما بعدها، المغني: 37/8 وما بعدها، كشاف القناع: 32/6 وما بعدها.
(2) رواه البيهقي.
(7/662)
وفي ذهاب جماع بجناية على الصلب: دية، لحديث عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية» والمقصود من ذلك: الجماع. وقال المالكية: لو كسر صلبه، فأبطل إنعاظه فعليه ديتان، فهم يجعلون لتعطيل قوة الجماع دية، بأن فعل معه فعلاً كضربه، فأبطل إنعاظه، ولكسر الصلب دية أخرى، وإن كانت قوة الجماع فيه.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لو كسر شخص صلب المجني عليه، فذهب مع سلامة الرجل والذكر مشيه وجماعه، أو مشيه ومنيه، فعليه ديتان؛ لأن كل واحد منهما مضمون بالدية عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع.
فإن ذهب بعض منفعة العضو وجب فيه بعض الدية إن كان التبعيض معروفاً أو ممكن التقدير، كذهاب بصر عين واحدة، أو ذهاب سمع أذن واحدة دون الأخرى.
فإن لم يمكن التقدير يجب عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) : حكومة. وعند المالكية: يقابل النقص بما يناسبه من الدية، أي بحساب ما ذهب (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 76/4، كشاف القناع: 47/6.
(2) الدردير: 272/4، مغني المحتاج: 77/4، المغني: 16/8، كشاف القناع: 32/6، 38، 47.
(7/663)
المطلب الثالث ـ عقوبة الشجاج
إما أن يجب القصاص في الشجة وإما أن يجب الأرش، والأرش إما مقدر أو غير مقدر، وفي كل من الشجاج والجراح إما أرش مقدر أو غير مقدر.
أولاً ـ ما يجب فيه أرش مقدر:
عقوبة الشجة: هي الأرش، والأرش نوعان كما تقدم: مقدر وغير مقدر.
والأرش المقدر: هو ما حدد له الشرع مقداراً مالياً معلوماً. ويجب في الأعضاء وفي الشجاج والجراح، ففي الأعضاء أو الأطراف كما تبين إما أن تجب الدية كاملة بتفويت جنس المنفعة كقطع اليدين أو الرجلين، أو فقء العينين، وقطع الأذنين، وقد يجب الأرش بتفويت بعض منفعة الجنس، فيكون الأرش نصف الدية كما في قطع يد أورجل واحدة أو قلع عين أو قطع أذن واحدة. وقد يكون الأرش ربع الدية كما في الجفن الواحد، أو الشَّفْر أو هُدب العين، وقد يكون الأرش عشر الدية كما في قطع إحدى أصابع اليد أو الرجل. وقد يكون نصف عشر الدية، أي خمس من الإبل، كما في السن أو الضرس. فهذا كله هو الأرش المقدر (1) .
ثانياً ـ ما يجب فيه حكومة عدل:
الأرش غير المقدر: هو حكومة العدل وهي ما لم يحدد له الشرع مقداراً معلوماً، وترك أمر تقديره للقاضي، والقاعدة فيها: أن ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس، وليس له أرش مقدر: فيه الحكومة (2) كإزالة الأشعار عند الشافعية، وعند الحنفية (3) ، ومثل كسر الضلع، وكسر قصبة الأنف، وكسر كل عظم من البدن سوى السن. وكذا في ثدي الرجل، وفي حلمة ثدييه، وفي لسان الأخرس، وذكر الخصي والعنِّين، والعين القائمة الذاهب نورها، والسن السوداء، واليد أو الرجل الشلاء، والذكر المقطوع الحشفة، والكف المقطوع الأصابع، والأصبع الزائدة، وكسر الظفر وقلعه، ولسان الطفل ما لم يتكلم، وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة، والأنف المقطوع الأرنبة، والجفن الذي لا أشفار له.
ومن المتفق عليه أن ما قبل الموضحة من الشجاج ليس له أرش مقدر.
__________
(1) البدائع: 314/7، الدر المختار: 409/5 وما بعدها، 413.
(2) البدائع: 323/7.
(3) البدائع: 323/7، الدر المختار: 413/5 وما بعدها، الشرح الصغير للدردير: 381/4، مغني المحتاج: 77/4، المغني: 56/8.
(7/664)
وحكومة العدل: هي على الجاني، ولا تتحملها العاقلة، وتقدر الحكومة في الشجاج بأن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة، فيجب بقدر ذلك من أرش الموضحة، وهو نصف عشر الدية (1) . والمفتى به عند الحنفية ومذهب الشافعية: أنها هي بمقدار التفاوت بين القيمتين: في الحر من الدية وفي العبد من القيمة، فإن نقص الحر عشر قيمته أخذ عشر ديته، وهكذا بعد افتراض كون المشجوج عبداً.
والشجاج: هي جراحات الرأس والوجه خاصة (2) ، وهي عند الحنفية إحدى عشرة شَجة (3) :
1 - الحارصة: هي التي تحرص الجلد أي تشقه ولا يظهر منها الدم.
2 - الدامعة: هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين، وتسمى أيضاً الخارصة: وهي التي تكشط الجلد.
3 - الدامية: هي التي يسيل منها الدم، بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح الدم. وتسمى عند الحنابلة البازلة أو الدامعة.
4 - الباضعة: هي التي تبضع اللحم، أي تقطعه وتشقه.
5 - المتلاحمة: هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة ولم تقرب للعظم، هذا ما روى أبو يوسف، وقال محمد: المتلاحمة قبل الباضعة: وهي التي يتلاحم منها الدم ويسود.
6 - السِّمحاق: هي التي تقطع اللحم وتظهر الجلدة الرقيقة التي بين اللحم والعظم. وهذه الجلدة هي السمحاق، فسميت الشجة بها لوصولها إليها، ويسميها الشافعية الملطاط: وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم.
__________
(1) الدر المختار: 412/5، 416، المهذب: 199/2، البدائع: 324/7.
(2) أما جراح الجسم فيما عد االرأس والوجه فتسمى «الجراح» . فالشجة إذن: هي ما كان في الرأس والوجه. والجراحة: ماكان في سائر البدن غير الرأس والوجه.
(3) البدائع: 296/7، الدر المختار: 411/5، تكملة فتح القدير: 311/8، تبيين الحقائق: 132/6.
(7/665)
7 - الموضحة (1) : هي التي تخترق السمحاق، وتوضح العظم، أي تظهره وتكشفه، ولو قدر مغرز إبرة.
8 - الهاشمة: هي التي تهشم العظم، أي تكسره.
9 - المنقِّلة: هي التي تنقل العظم بعد كسره، أي تحوله عن مكانه.
10 - الآمَّة (أو المأمومة) : هي التي تصل إلى أم الدماغ: وهي جلدة تحت العظم وفوق الدماغ أي المخ.
11 - الدامغة: هي التي تخرق غشاء الدماغ، وتصل إلى الدماغ.
والجمهور يرون الشجاج عشرة. أما المالكية (2) فيحذفون الثانية وهي الدامعة، ويسمون الأولى دامية، والثانية حارصة، والثالثة سمحاقاً، والسادسة ملطاة أو ملطاط بتسمية أهل البلد، ويخصصون الآمة والدامغة بالرأس، والباقي في الرأس أو الخد.
وأما الشافعية والحنابلة (3) : فيحذفون أيضاً الثانية وهي الدامعة، ويقال عند الشافعية عن الأولى: الخارصة؛ وهي التي تكشط الجد، ويسميها الحنابلة كالجمهور الحارصة، أو الملطاة، والخمسة الأولى لا مقدر فيها من الشرع.
نوعا عقوبة الشجاج: عقوبة الشجاج كما تقدم: إما عقوبة أصلية وهي القصاص إذا أمكن، أو عقوبة بدلية وهي الأرش.
العقوبة الأصلية في الشجاج ـ القصاص:
القاعدة في القصاص في جنايات العمد: أنه كلما أمكن وجب استيفاؤه، وإذا لم يمكن وجب الأرش. وعليه تعرف أحوال القصاص في الشجاج، ففي كل شجة يمكن فيها المماثلة: القصاص.
لا خلاف في أن الموضحة فيها القصاص، لعموم قوله سبحانه وتعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] إلا ما خص بدليل، ولأنه يمكن استيفاء القصاص فيها على سبيل المماثلة؛ لأن لها حداً تنتهي إليه السكين، وهو العظم.
ويعتبر قدر الموضحة بالمساحة طولاً وعرضاً في قصاصها، لابحجم الرأس كبراً وصغراً؛ لأن الرأسين قد يختلفان في ذلك.
ولا خلاف في أنه لا قصاص فيما بعد أو فوق الموضحة لتعذر استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة أوالمساواة.
وأما ما دون الموضحة ففيها خلاف:
__________
(1) بتخفيف الضاد أو بتشديدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 250/4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 350.
(3) مغني المحتاج: 58/4 وما بعدها، المهذب: 198/2، المغني: 42/8 وما بعدها، كشاف القناع: 51/6 وما بعدها.
(7/666)
1 - قال المالكية (1) ، وهو الأصح وظاهر الرواية عند الحنفية (2) : فيها القصاص، سواء أكانت في الرأس أم في الخد، لإمكان المساواة، بأن يسبر غورها بمسبار، ثم يتخذ حديدة بقدره، فيقطع. واستثنى في الشرنبلالية السمحاق، فلا يقاد إجماعاً.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (3) : لا قصاص فيما دون الموضحة، لعدم إمكان تحقيق المماثلة، ولحديث مرسل: «لا طلاق قبل ملك، ولا قصاص فيما دون الموضحة من الجراحات» (4) . وعلى هذا فلا قصاص في الشجاج في هذين المذهبين سوى الموضحة.
العقوبة البدلية في الشجاج ـ الأرش:
الأرش كما عرفنا: هو التعويض المالي الواجب بالجناية على ما دون النفس. ويرى أكثر الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة: أنه ليس في موضحة غير الرأس والوجه أرش مقدر، لقول الخليفتين الراشدين: «الموضحة في الوجه والرأس» (5) .
كما أنه ليس فيما دون الموضحة من الشجاج أرش مقدر أيضاً، بل فيه
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 350، بداية المجتهد: 399/2 وما بعدها، 411، الشرح الكبير للدردير: 250/4 وما بعدها.
(2) البدائع: 309/7، الدر المختار ورد المحتار: 391/5، 412، اللباب شرح الكتاب: 147/3.
(3) المهذب: 198/2، مغني المحتاج: 26/4، 59، المغني: 42/8، كشاف القناع: 51/6 وما بعدها.
(4) أخرجه البيهقي عن طاوس، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز ما يؤيده (نصب الراية: 374/4) .
(5) المغني: 44/8.
(7/667)
حكومة عدل (1) ؛ إذ ليس فيه أرش مقدر في الشرع، ولا يمكن إهدارها، فوجب فيها حكومة عدل. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الحسن وعمر بن عبد العزيز أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء (2) .
واتفقوا على أن ما فيه أرش مقدر من الشجاج هو الموضحة فما بعدها، لورود الشرع بتقديره، كما يتبين من حديث عمرو بن حزم في الديات: «وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقِّلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل» (3) .
في الموضحة: خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، لحديث «في الموضحة خمس من الإبل» .
وفي الهاشمة: عشر من الإبل، أي عُشر الدية؛ لحديث ابن حزم: «وفي الهاشمة عشر» . ويلاحظ أن الهاشمة عند المالكية هي في جراح البدن. وبدلها في الوجه والرأس: المنقلة.
وفي المنقِّلة: خمس عشرة من الإبل، لحديث ابن حزم «وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل» .
وفي الآمة أو المأمومة: ثلث الدية، لحديث ابن حزم: «وفي المأمومة ثلث الدية» .
وفي الدامغة: ثلث الدية، قياساً على المأمومة.
__________
(1) البدائع: 324/7، الدر المختار: 412/5، الشرح الكبير للدردير: 271/4، مغني المحتاج: 59/4، المغني: 54/8 وما بعدها.
(2) نصب الراية: 374/4.
(3) نيل الأوطار: 57/7، نصب الراية: 374/4 وما بعدها.
(7/668)
المطلب الرابع ـ عقوبة الجراح:
الجراح: ما كان في سائر البدن عدا الرأس والوجه، وهي نوعان: جائفة، وغير جائفة (1) .
والجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، من الصدر أو البطن، أو الظهر، أو الجنين أو ما بين الأنثيين، أو الدبر، أو الحلق.
ولا تكون الجائفة في اليدين والرجلين، ولا في الرقبة؛ لأنه لا يصل إلى الجوف.
وغير الجائفة: هي التي لا تصل إلى الجوف، كالرقبة أو اليد أو الرجل.
وعقوبة الجراح: إما أصلية أو بدلية.
العقوبة الأصلية في جراح العمد ـ القصاص:
لا قصاص في الجائفة والمأمومة والمنقّلة؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفع القَوَد في المأمومة، والمنقّلة، والجائفة، ولأنه يخشى منها الموت، وإنما فيها الدية. وفيما عدا ذلك اختلف الفقهاء:
1 - فقال الحنفية (2) : إنه لا قصاص في شيء من الجراح إذا لم يمت المجروح، سواء أكانت الجراحة جائفة أم غيرها؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة.
فإن مات المجروح بسبب الجراحة، وجب القصاص؛ لأن الجراحة صارت بالسراية نفساً، لهذا قالوا: «لا يقاد جرح إلا بعد برئه» .
2 - وقال المالكية (3) : يجب القصاص في جراح العمد، كلما أمكن التماثل ولم يخش منه الموت، لقوله تعالى: {والجروحَ قصاص} [المائدة:45/5] .
وذلك بأن يقيس أهل الطب والمعرفة طول الجرح وعرضه وعمقه ويشقون مقداره في الجارح.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (4) : يقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم، كالموضحة في الوجه والرأس، وجرح العضد والساعد والفخذ والساق والقدم؛ لأنه يمكن استيفاؤه على سبيل المماثلة من غير حيف ولا زيادة، لانتهائه إلى عظم؛ لأن الله نص على القصاص في الجروح.
ويشترط في القصاص في جراح العمد ما يشترط في قصاص النفس حال العمد من كون الجاني مكلفاً (بالغاً عاقلاً) ، وعصمة المجني عليه، وتكافؤ الجاني والمجني عليه على الخلاف المذكور سابقاً في الشجاج، كما تشترط الشروط الخاصة بقصاص الأطراف (5) . ولا قصاص في جراح العمد إلا إذا أمكن تحقيق المماثلة، ولا قصاص في الشجاج إلا في الموضحة إذا كانت عمداً، ولا قصاص في اللسان، ولا في كسر عظم إلا في السن؛ لأنه لا يمكن الاستيفاء من غير ظلم.
القصاص بعد البرء: لا يجوز القصاص في الأطراف والجراح عند الجمهور (6) إلا بعد اندمال أو برء الجرح، لما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يستقاد
__________
(1) البدائع: 296/7.
(2) البدائع: 310/7، رد المحتار على الدر المختار: 310/5.
(3) بداية المجتهد: 399/2، القوانين الفقهية: ص 350.
(4) مغني المحتاج: 23/4، المغني: 686/7 وما بعده، 748، كشاف القناع: 651/5.
(5) البدائع: 310/7، بداية المجتهد: 399/2، مغني المحتاج: 25/4، المغني: 702/7 وما بعدها.
(6) الدر المختار ورد المحتار: 390/5، المغني: 729/7، 59/8، تبيين الحقائق: 138/6، بداية المجتهد: 400/2، الشرح الصغير: 381/4.
(7/669)
من الجارح، حتى يبرأ المجروح» (1) ولأن الجراحات ينظر إلى مآلها، لاحتمال أن تسري إلى النفس، فيحدث القتل، فلا يعلم أنه جرح إلا بالبرء.
وقال الشافعية (2) : إن كان القصاص في الطرف، فالمستحب ألا يستوفى إلا بعد استقرار الجناية بالاندمال (أي البرء) أو بالسراية إلى النفس، فإن استوفي قبل الاندمال جاز، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلاً طعن رجلاً بقرْن في ركبته، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه، فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه، فقال: يا رسول الله، عرجتُ، قال: قد نهيتك، فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك، ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه» (3) .
تأجيل القصاص لعذر: اتفق الأئمة على أنه يؤخر القصاص في الطرف أو النفس عن المرأة الحامل حتى تضع حملها وترضع وليدها، ويستغني عنها ولدها بإرضاع من جهة أخرى. وقال المالكية: يؤخّر القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت.
__________
(1) رواه الدارقطني، وأبو بكر بن أبي شيبة مسنداً ورواه البيهقي وأحمد مرسلاً (نيل الأوطار: 27/7) .
(2) المهذب: 185/2.
(3) رواه أحمد والدارقطني.
(7/670)
العقوبة البدلية في جراح العمد ـ الأرش:
إذا تعذر تنفيذ القصاص في الجراح، لعدم إمكان تحقيق المماثلة وجب الأرش، والأرش هنا: هو الأقل من الدية.
وقد عرفنا أن جراح البدن: إما جائفة أو غير جائفة:
ففي الجائفة: ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم: «وفي الجائفة ثلث الدية» .
وغير الجائفة: فيها حكومة عدل.
حكومة العدل (ضابطها وتقديرها) أشرت لذلك سابقاً، وأوضح الآن مايلي:
أما ضابط حكومة العدل فهو: كل ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النفس، وليس له أرش مقدر، ففيه حكومة (1) . مثل كسر العظم إلا السن، واليد الشلاء ونحوها.
وأما كيفية تقديرها: فقد أشرت لطريقتين، أولاهما للطحاوي الحنفي وهي المفتى بها عند الحنفية، والمقررة في المذاهب الأخرى (2) : وهي أن يقوَّم المشجوج أو المجروح كما لو كان عبداً بدون شج أو جرح، ثم يقوَّم وهما به، فيجب بمقدار التفاوت بين القيمتين، بنسبتهما من الدية في الأحرار، فلو كانت قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته.
ولكن يتعذر اللجوء لهذه الطريقة في الوقت الحاضر، لعدم وجود الرق.
والطريقة الثانية ـ هي للكرخي: وهي أن تقرب الجناية إلى أقرب الجنايات التي لها أرش مقدر، ففي الشجاج مثلاً ينظر كم مقدار الشجة من الموضحة، فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية المقرر للموضحة (3) .
__________
(1) البدائع: 323/7، القوانين الفقهية: ص 354، مغني المحتاج: 77/4، المغني: 55/8.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 412/5، البدائع: 324/7، الدردير في الشرح الكبير: 271/4، مغني المحتاج: 77/4، المغني: 56/8 وما بعدها.
(3) الدر المختار: 412/5.
(7/671)
غير أن هذه الطريقة محصورة التطبيق في شجاج الرأس والوجه.
وقيل بطريقة ثالثة ربما كانت أنسب الطرق في عصرنا، وهي أن تقدر الجناية بمقدار ما يحتاج إليه المجني عليه من النفقة وأجرة الطبيب والأدوية إلى أن يبرأ (1) . فإن لم يبرأ الجرح وأحدث عاهة مستديمة، أو ترك أثراً دائماً فيلاحظ الأثر.
ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح؛ لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً، مثل: إن قطع أصبعاً أو يداً زائدة، أو قلع لحية امرأة، فلم ينقصه ذلك، بل زاده حسناً فلا شيء على الجاني؛ لأن حكومة العدل لأجل جبر النقص، ولا نقص حينئذ، فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر (2) .
دية جراح المرأة: للفقهاء رأيان في تقدير ديات جراح المرأة:
1 - قال الحنفية والشافعية (3) : الجناية على ما دون النفس في المرأة تقدر بحسب ديتها، وبما أن دية المرأة نصف دية الرجل، فتكون جراحها وشجاجها نصف جراح الرجل وشجاجه، إلحاقاً لجُرحها بنفسها.
2 - وقال المالكية والحنابلة (4) : دية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما دون ثلث الدية الكاملة، فإن بلغت الثلث أو زادت عليها رجعت إلى نصف دية الرجل. وعلى هذا إن قطعت أصبع المرأة ففيها عشر من الإبل، وإن قطعت ثلاث أصابع ففيها ثلاثون من الإبل، فإن قطع أربعة أصابع ففيها عشرون من الإبل.
__________
(1) الدر المختار، المكان السابق.
(2) المغني: 59/8، الدر المختار: 415/5، تبيين الحقائق: 138/6.
(3) البدائع: 322/7، مغني المحتاج: 57/4.
(4) القوانين الفقهية: ص 354، المغني: 797/7 وما بعدها.
(7/672)
ودليلهم ما روى النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» . وروى مالك في الموطأ، والبيهقي، وسعيد بن منصور عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب، كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر، قلت: ففي أصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال سعيد: هكذا السنة ياابن أخي.
ويضيف البيهقي جواباً على اعتراض ربيعة قول ابن المسيب: أعراقي أنت؟ قال ربيعة: عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي، إنها السنة (1) .
المبحث الثاني ـ عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ:
إن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ، هي الدية أو الأرش (2) . والدية المقصودة هنا هي الكاملة، والأرش المقصود هنا: هو الأقل من الدية. وليس هناك أية عقوبة بدلية أخرى. وقد أبنت أحوال وجوب الدية والأرش في إبانة الأطراف والشجاج والجراح العمد.
ولكن من يتحمل الدية أو الأرش المقدر (لا حكومة العدل عند الحنفية) في حال الخطأ؟ العاقلة هي التي تتحملها فيما زاد عن نصف عشر الدية في رأي الحنفية، أو عن ثلث الدية ولو في الطرف أو الجرح في رأي المالكية والحنابلة.
وتتحمل العاقلة عند الشافعية كل التعويض الواجب، حتى الحكومات قل أو كثر، كما تبين في مقدار ما تتحمله العاقلة في شبه العمد.
ويلاحظ أن عمد الصبي والمجنون عند الجمهور خطأ تحمله العاقلة (3) ، والأظهر عند الشافعية كما بان سابقاً: أن عمد الصبي عمد إذا كان مميزاً، وإلا فهو خطأ، لكن لا قصاص عليه في حالة العمد، لكن تجب الدية في ماله، ولا تتحملها عنه عاقلته (4) .
__________
(1) قال الشافعي: كنا نقوم به، ثم وقفت عنه، وأنا أسأل الله الخيرة، لأنا نجد من يقول: السنة، ثم لا نجد نفاذاً بها عن النبي صلّى الله عليه وسلم، والقياس أولى بنا فيها. وأول الحنفية السُّنة بأنها سنة زيد بن ثابت (نصب الراية: 364/4) .
(2) الدر المختار: 415/5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 351، مغني المحتاج: 95/4، 778/7.
(3) المغني 776/7، الدر المختار: 415/5 وما بعدها، بداية المجتهد: 404/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 347.
(4) مغني المحتاج: 10/4، المهذب: 174/2.
(7/673)
الفَصْلُ الثّالث: الجِناية على نفس غير مكتملة (الجناية على الجنين، أو الإجهاض)
إذا ضرب إنسان (أب أو أم أو غيرهما) امرأة حاملاً على بطنها أو ظهرها، أو جنبها أورأسها أو عضو من أعضائها، أو أخافها بالضرب أو القتل أو الصياح عليها فأجهضت أوألقت جنينها، فإما أن تلقيه ميتاً أو حياً، وفيه مبحثان:
المبحث الأول ـ حالة إلقاء الجنين ميتاً:
إذا انفصل الجنين عن أمه ميتاً، فعقوبة الجاني هي دية الجنين، ودية الجنين ذكراً أو أنثى، عمداً أو خطأ: غرة (1) ـ عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، أي نصف عشر الدية، أو ما يعادلها وهو خمسون دينارا أو خمس مئة درهم عند الحنفية أو ست مئة درهم عند الجمهور (2) ،على الخلاف في تقويم الدينار بالدراهم.
والدليل عليه أحاديث صحيحة متعددة، منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما
__________
(2) غرة كل شيء: خياره، وسمي العبد أو الأمة غرة؛ لأنهما من أنفس الأموال، وأصل الغرة: البياض في وجه الفرس.
(2) البدائع: 325/7، الشرح الكبير للدردير: 268/4، مغني المحتاج: 103/4، المهذب: 198/2، المغني: 799/7، بداية المجتهد: 407/2.
(7/674)
في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة ـ عبد أو وليدة (1) ، وقضى بدية المرأة (2) على عاقلتها» (3) .
من تجب عليه الغرة: إذا كانت الجناية عمداً، وجبت مغلظة، أي حالَّةً معجلة في مال الجاني المتعمد، ولا يتصور العمد إلا عند المالكية، وبناء عليه قالوا: دية الجنين تكون حالَّة معجلة لا منجَّمة (أي مقسّطة) ، وتكون من النقدين: الذهب أو الفضة، ولا تكون من الإبل، وتكون في مال الجاني في العمد مطلقاً، وكذا في حالة الخطأ إلا أن تبلغ ثلث دية الجاني فأكثر، فتكون حينئذ على العاقلة (4) ، كما لو ضرب مجوسي مسلمة فألقت جنيناً.
وأما في حالة الخطأ أو شبه العمد، وهذا هو المتصور عند الجمهور، فتحمل العاقلة الدية، والجاني واحد من العاقلة عند الجمهور، وليس واحداً منها عند الحنابلة، كما بان في دية القتل شبه العمد. والدليل له حديث المغيرة: «أن امرأة ضربتها ضَرَّتها بعمود فِسطاط (خيمة) ، فقتلتها وهي حبلى، فأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلم، فقضى فيها على عصبة القاتلة بالدية في الجنين غرة، فقال عصبتها: أندي مالا طعِم ولا شرب ولا صاح ولا استهل (5) ، مثل ذلك يُطَلّ (6) ؟ فقال: سجع مثل سجع الأعراب» (7) .
__________
(1) الوليدة: الأمة الصغيرة، أقل سنها سبع سنين، ولذا عبر عنها بوليدة دون أمة لئلا يتوهم اشتراط كبرها.
(2) التي توفيت بعدئذ.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين. قال ابن تيمية: وفيه دليل على أن دية شبه العمد تحملها العاقلة (نيل الأوطار: 69/7) .
(4) الشرح الكبير: 268/4، بداية المجتهد: 408/2، القوانين الفقهية: ص 347، 351.
(5) استهل المولود: صاح عند الولادة.
(6) يطل: أي يبطل ويهدر.
(7) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي ولكنه لم يذكر اعتراض العصبة وجوابه. واستدل بذلك على ذم السجع في الكلام، وكراهته إذا كان ظاهر التكلف. ولا يكره إذا كان عفوياً وهو حق أو في مباح.
(7/675)
لكن الشافعية قالوا: إن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة، وإن كانت شبه عمد، وجبت دية مغلظة كما في الدية الكاملة. ونص الحنفية على أن العاقلة تضمن الغرة إذا أسقطت الأم عمداً جنينها ميتاً بدواء أو فعل، كأن ضربت هي بطنها، بلا إذن زوجها. فإن أذن أو لم يتعمد فلا غرة، لعدم التعدي (1) . ولا خلاف بين العلماء في إلزام الأم بالغرة في هذه الحالة، وأضاف إليها الشافعية والحنابلة وجوب الكفارة (2) .
وتتعدد الغرة بتعدد الأجنة.
وتجب دية الجنين عند الحنفية والحنابلة في سنة (3) ، وهو الأصح عند الشافعية (4) ؛ لأن التأجيل في ثلاث سنين خاص بدية نفس كاملة. فإن كانت الدية بمقدار ثلث دية المسلم كدية الذمي فتؤجل سنة فقط. ومثلها دية المأمومة.
من تجب له الغرة: اتفق أئمة المذاهب الأربعة وهو الراجح عند المالكية (5) على أن الغرة تورث عن الجنين بحسب الفرائض الشرعية المعلومة لذوي الفرض والتعصب. والجاني الضارب إذا كان قريباً ولو أباً لا يرث من الغرة شيئاً؛ لأنه قاتل بغير حق، والقاتل لا يرث بنص الحديث النبوي.
شروط وجوب دية الجنين: يشترط لوجوب دية الجنين شرطان:
1ً - أن تؤثر الجناية في الجنين كضرب أو إيجار دواء ونحوهما.
2ً - انفصال الجنين ميتاً، فلو لم ينفصل أو انفصل حياً، لم تجب له الدية.
__________
(1) الدر المختار ومناقشة رد المحتار: 418/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 142/6. (2) المغني: 816/7، الشرح الكبير: 268/4، كشاف القناع: 21/6.
(3) تبيين الحقائق: 140/6، كشاف القناع: 64/6.
(4) المهذب: 198/2، مغني المحتاج: 55/4، 97 ومابعدها.
(5) البدائع: 326/7، الدر المختار: 417/5، تبيين الحقائق: 142/6، الشرح الكبير: 269/4، الشرح الصغير: 380/4، مغني المحتاج: 104/4، المغني: 805/7، كشاف القناع: 22/6.
(7/676)
هل تجب الكفارة على الضارب؟ لا كفارة عند الحنفية (1) على الضارب، إن سقط الجنين كامل الخلقة ميتاً، إلا أن يشاء ذلك، فهو أفضل، تقرباً إلى الله تعالى بما يشاء إن استطاع، ويستغفر الله سبحانه مما صنع، أي أنه لا كفارة وجوباً بل ندباً.
وكذلك قال المالكية (2) : تستحب الكفارة في قتل الجنين، ولا تجب.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : تجب الكفارة في الإجهاض، سواء ألقت الأم الجنين حياً أم ميتاً؛ لأنه نفس مضمونة، ولقوله تعالى: {ومن قتَل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92/4] والجنين محكوم بإيمانه تبعاً لأبويه أو لأحد أبويه. وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وقد نص الله على الكفارة في أهل الميثاق. فمن لم يجد الرقبة حساً، أو شرعاً بأن وجدها بأكثر من ثمن المثل، صام شهرين متتابعين.
متى يجب التعويض المالي (الغرة) عن الجنين؟
اختلف الفقهاء في وقت وجوب الغرة عن الجنين: فقال الحنفية: يكفي استبانة بعض خلقه كظفر وشعر (4) . وقال المالكية: تجب الغرة إذا كان الجنين
__________
(1) البدائع: 326/7، تبيين الحقائق: 141/6، اللباب شرح الكتاب: 171/3، الدر المختار: 418/5.
(2) القوانين الفقهية: ص 348، بداية المجتهد: 408/2.
(3) المغني: 815/7 وما بعدها، 96/8، كشاف القناع: 65/6، مغني المحتاج: 108/4، المهذب: 217/2.
(4) الفتاوى الهندية: 34/6، حاشية ابن عابدين: 587/6.
(7/677)
مضغة أو كاملاً، أما إن كان علقة أي دماً مجتمعاً بحيث إذا صب عليه الماء الحار يذوب، فليس فيه شيء (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: تجب غرة الجنين إذا كان مضغة وثبت ذلك بالشهادة، فعند الشافعية: بشهادة أربعة نسوة، وعند الحنابلة بشهادة ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية. ولا شيء فيه إذا كان نطفة أو علقة (2) .
المبحث الثاني ـ حالة إلقاء الجنين حياً:
إذا انفصل الجنين حياً ثم مات بسبب الجناية عمداً، فهل يجب القصاص من الضارب؟
قال المالكية (3) : الراجح وجوب القصاص إذا أدى الفعل في الغالب إلى الموت كالضرب على البطن أو الظهر. وتجب الدية فقط لا الغرة إذا لم يؤد الفعل غالباً إلى نتيجة كالضرب على اليد أو الرجل؛ لأن الجنين إذا استهل صار من جملة الأحياء، فلم يكن فيه غرة (4) .
وقال الحنفية والحنابلة والأصح عند الشافعية (5) : إن الجناية على الجنين لا تكون عمداً، وإنما هي شبه عمد أو خطأ؛ لأنه لا يتحقق وجود الجنين وحياته حتى يقصد، فتجب الدية كاملة. ولا يرث الضارب منها شيئاً.
وأوجب الحنفية في هذه الحالة الكفارة، كما قال الشافعية والحنابلة في إيجابها مطلقاً، سواء في حالة إلقاء الجنين ميتاً أو حياً.
وتتعدد الدية بتعدد الأجنة.
فإن ماتت الأم أيضاً من الضربة بعد موت الجنين، أو أنه خرج الجنين بعد موت الأم حياً ثم مات، فعلى الضارب ديتان: دية الأم، ودية الجنين لوجود سبب وجوبهما، وهو قتل شخصين.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 257/6، الخرشي: 38/8، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 268/4.
(2) قليوبي وعميرة: 160/4، المهذب: 198/2، المغني: 406/8.
(3) الشرح الكبير: 269/4.
(4) وقال ابن الحاجب: المشهور هو قول أشهب: وهو أنه لا قود في هذه الحالة، بل تجب الدية في مال الجاني بقسامة.
(5) البدائع: 326/7، تبيين الحقائق: 140/6، الدر المختار: 417/5، الكتاب مع اللباب: 170/3، المغني: 811/8، مغني المحتاج: 105/4.
(7/678)
موت الجنين بعد موت الأم:
إن خرج الجنين بعد موت الأم ميتاً، فعلى الضارب دية الأم ولا شيء عليه عند الحنفية والمالكية (1) في الجنين، وإنما عليه التعزير، إذ لم يقم دليل قاطع على أن الجناية أدت لموت الجنين أو انفصاله، وإنما يحتمل أنه مات بموت الأم، فهو يجري حينئذ مجرى أعضائها.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : يجب على الضارب دية الأم وغرة الجنين، سواء ألقته في حياتها أم بعد موتها؛ لأنه جنين تلف بجناية الضارب، وعلم موته بخروجه، فوجب ضمانه؛ لأنه أتلفه مع الأم، كما لو خرج الجنين ميتاً ثم ماتت الأم. فإذا لم تسقط الأم جنينها فلا شيء فيه؛ لأنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه.
جنين غير المسلمة: تجب غرة جنين المرأة الذمية بالجناية عليها، لكن تقدير الغرة مختلف فيه بحسب كون الجنين مسلماً أو غير مسلم ولو من أب كافر.
أما الحنفية: فغرته عندهم مثل غرة الجنين المسلم؛ لأن دية الكافر كدية المسلم عندهم، وكذلك غرته مثل غرة المسلم عند الحنابلة (3) ؛ لأن الجنين مسلم تبعاً لدار الإسلام، فتقدر الذمية مسلمة.
وعند المالكية (4) : غرة الجنين من الذمية تساوي عشر دية الأم.
والأصح عند الشافعية (5) : غرة جنين اليهودي أو النصراني كثلث غرة المسلم، بناء على أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب.
__________
(1) البدائع: 326/7، الشرح الكبير: 269/4، بداية المجتهد: 408/2، القوانين الفقهية: ص 347.
(2) مغني المحتاج: 103/4، المغني: 802/7، كشاف القناع: 22/6.
(3) كشاف القناع: 23/6، المغني: 800/7.
(4) الشرح الكبير: 268/4 وما بعدها.
(5) مغني المحتاج: 106/4.
(7/679)
الفَصْلُ الرّابع: حالات طارئة من الاعتداء بطريق التّسبيب
جناية الحيوان، وجناية الحائط المائل
الكلام فيه في مبحثين:
الأول ـ في جناية الحيوان.
والثاني ـ في جناية الحائط المائل.
المبحث الأول ـ جناية الحيوان:
اتفق الفقهاء على أن حارس الحيوان (المالك أو الراكب أو السائس أو غيرهم من كل حائز ذي يد بصفة الرهن أو الإعارة أو الإجارة أو الغصب) هو الضامن لما يتلفه الحيوان إذا كان متسبباً في إحداث الضرر، بأن تعمد الإتلاف أو الجناية، بواسطة الحيوان، أو قصر في حفظه مع بعض الشروط أو القيود أحياناً، التي أبينها أثناء توضيح آراء الفقهاء فيما يأتي:
فإن لم يكن متسبباً في الضرر، فإن الفقهاء اختلفوا في شأن تضمين القائم على الحيوان (ملكاً أو حيازة) .
1 - قال الحنفية (1) : إما أن يكون الحيوان عادياً أو خطراً:
أـ فإن كان الحيوان عادِيَاً (متعدياً أو مؤذياً) ، فأتلف شيئاً بنفسه، مالآً أو إنساناً، فلا ضمان على حارسه، سواء وقع الاعتداء ليلاً أو نهاراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُرْحها جُبَآر» (2) أي المنفلتة هدَر لا يغرم.
فإن كان صاحبه معه سائقاً أو راكباً أو قائداً، أو أرسله وأتلف شيئاً فور إرساله ونحوه، ضمن ما يتلفه.
وإذا أتلف الحيوان شيئاً في المراعي المباحة أو أثناء السير في الطرقات العامة أو أثناء ربطه في الأسواق العامة أو المرابض المخصصة لربط الحيوانات، لا ضمان فيه، كما لو كان لقرية خيول أو بقر في المرعى، فعض أحدها أو ضرب برجله، فأتلف حيوان شخص آخر، لا ضمان على صاحبه.
وذلك بخلاف المحل المملوك، فإن الضمان على غير المالك، كأن يكون لرجل مربط، فيجيء آخر، ويربط دابته عند دابة المالك، فتتلف دابة المالك، فالضمان على المعتدي، ولا ضمان على المالك إذا أتلف دابته دابة الآخر (3) .
ب ـ وأما إن كان الحيوان خطراً: كالثور والكلب العقور، فيضمن صاحبه أو حارسه ما يتلفه إذا لم يحفظه، إذا تقدم إليه الناس الراغبون بدفع الأذى عنهم، وأشهدوا على تقدمهم، طالبين منع أذى هذا الحيوان كما في الحائط المائل. فإن لم يفعل، كان مقصراً في حفظه، فيضمن بالتسبب لتعديه.
__________
(1) البدائع: 272/7 وما بعدها، الدر المختار: 427/5 وما بعدها، درر الحكام: 111/2 وما بعدها، جامع الفصولين: 114/2، 119، مجمع الضمانات: ص 185، 191.
(2) رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة (نصب الراية: 387/4) .
(3) القواعد الفقهية للحمزاوي: ص 195.
(7/680)
هذا ما لم يكن الكلب كلب حراسة بستان أو حقل عنب مثلاً، فلا يضمن صاحبه شيئاً مطلقاً، سواء تقدم إليه الناس وأشهدوا على تقدمهم أم لا (1) .
وأما إن قام صاحب الحيوان أو حارسه بإرسال طير، أو دابة، أو إشلاء كلب أو إغراء حيوان، فأصاب إنساناً، فيضمن مايتلفه بكل حال أي مطلقاً، سواء أكان سائقاً له أم قائداً أم لا، بسبب التعدي. وهذا قول أبي يوسف، وبه أخذ عامة مشايخ الحنفية، وعليه الفتوى (2) .
2 - وقال المالكية في الراجح عندهم، والشافعية والحنابلة (3) : إن ما تفسده البهائم من الزروع والشجر ونحوه مضمون على صاحبها، أو راعيها أو ذي اليد عليها إن لم يوجد صاحبها إذا وقع الضرر ليلاً، ولا ضمان على ما تتلفه نهاراً إذا لم يكن معها صاحبها. فإن كان معها صاحبها أو ذو اليد الحائز كالغاصب والمستأجر والمستعير راكباً أو سائقاً أو قائداً، فهو ضامن لما تفسده من النفوس والأموال، لما روي أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً (بستاناً) فأفسدت فيه، فقضى نبي الله صلّى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (4) .
__________
(1) رد المحتار والدر المختار: 432/5 وما بعدها. وقال أبو حنيفة: لا يضمن حتى في حالة الإشلاء (البدائع: 273/7) .
(2) رد المحتار على الدر المختار: 430/5، البدائع: 273/7، تكملة الفتح: 350/8.
(3) المنتقى على الموطأ: 61/6، الشرح الكبير: 358/4، بداية المجتهد: 408/2، 317، القوانين الفقهية: ص 333، الفروق للقرافي: 186/4، فتح العزيز شرح الوجيز: 246/11، مغني المحتاج: 204/4 وما بعدها، تحفة الطلاب للأنصاري: 446/2، نهاية المحتاج: 113/4، المهذب: 226/2، المغني: 283/5، 336/8، أعلام الموقعين: 25/2، كشاف القناع: 139/4، الطرق الحكمية: ص283، الإفصاح لابن هبيرة: ص 275، الميزان: 174/2.
(4) رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه. والحاكم والبيهقي من حديث حِرام بن مُحيِّصة.
(7/681)
أما البهائم والجوارح الضارية (أي معتادة الجناية) فيضمن صاحبها مطلقاً ماتتلفه من مال أو نفس لتفريطه.
ضمان الراكب ومن في معناه وحوادث التصادم: أورد فقهاء الحنفية أمثلة فقهية واقعية لتحديد الضامن في حوادث السير والركوب والتصادم وإتلاف الحيوان، ويمكن معرفة أحكامها في ضوء القواعد الفقهية التالية وهي:
«ما لا يمكن الاحتراز عنه لا ضمان فيه» «يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» ، «المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي» ، «المباشر ضامن وإن لم يتعدّ» ، «إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر» ، تضمين المتسبب والمباشر معاً عند تعدي كل منهما.
أولاً ـ (مالا يمكن الاحتراز عنه لا ضمان فيه) :
ومعناها أن كل ما يشق البعد عنه لا يكون سبباً موجباً للضمان، لأنه من الضرورات، ولأن ما يستحق على المرء شرعاً يعتبر فيه الوسع والطاقة. وأما ما يمكن تجنبه أو الاحتياط عنه فيكون سبباً موجباً للضمان.
وبناء عليه (1) ، للناس الانتفاع بالمرافق العامة كالطرقات مشياً أو ركوباً بشرط السلامة، وعدم الإضرار بالآخرين بما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، حتى يتيسر للناس سبيل الانتفاع، ويتهيأ لهم ممارسة حقوقهم وحرياتهم على أساس العدل والأمن والاستقرار.
فما تولد من سير الماشي أو الراكب من تلف، مما يمكن الاحتراز عنه، فهو مضمون. وما لا يمكن الاحتراز عنه، فليس بمضمون، إذ لو جعلناه مضموناً، لصار الشخص ممنوعاً عن السير، وهو مأذون به.
__________
(1) المبسوط: 103/15، 188/26 ومابعدها، البدائع: 272/7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 149/6، مجمع الضمانات: ص 47، 165، دررالحكام: 111/2 وما بعدها، الدر المختار: 427/5 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 345/8 وما بعدها.
(7/682)
ـ فما أثارت الدابة بسنابكها من الغبار، أو الحصى الصغار، لا ضمان فيه، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه وهو أمر معتاد. وأما الحصى الكبار أو الغبار الزائد عن المعتاد فيجب الضمان فيهما؛ لأنه يمكن التحرز عن إثارتهما.
وكذلك يضمن الراكب إذا ركب دابة نزقة لا يؤثر بها كبح اللجام، لخروج ذلك عن المعتاد. ولو كبح الدابة باللجام، فنفحت (1) برجلها أو بذنبها، ومثله البول والروث واللعاب، فهو هَدر لا ضمان فيه لعموم البلوى به، ولأن الاحتراز عنه غير ممكن، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الرِجْل جبار» (2) أي نفحها. فإن أوقفها صاحبها في الطريق، ضمن النفحة؛ لأنه يمكن التحرز عن الإيقاف والوقوف.
ـ ويضمن الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت دابته بيد أو رجل أو رأس، أو كدمت (3) ، أو صدمت بصدرها، أو خبطت بيدها؛ لأن الاحتراز عن ذلك ممكن؛ لأنه ليس من ضرورات السير في الطريق.
وهذا هو مذهب الشافعية، ويلاحظ أنه لا ضمان على الراكب عند المالكية في هذه الأحوال عملاً بحديث: «العجماء جرحها جبار» وفرق الحنابلة بين ما
__________
(1) أي ضربت برجلها.
(2) أخرجه أبو داود والدارقطني والنسائي من حديث أبي هريرة، ولكن تكلم الناس في هذا الحديث، وفيه ضعف (نصب الراية: 387/4) .
(3) الكدم: العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار، وبابه ضرب ونصر.
(7/683)
جنت الدابة بيدها فيضمنه الراكب، وما جنت برجلها فلا ضمان عليه، عملاً بحديث: «الرِجْل جبار» (1) ومفهومه وجوب الضمان في جناية غير الرِجْل (2) .
ـ ويضمن صاحب الدابة ما تتلفه بالوطء والصدم ونحوهما إذا أوقفها في الطريق العام أو المحجة (جادة الطريق) التي لم يؤذن فيها بالوقوف، أو على باب المسجد لأنه متعدٍ في الوقوف.
ـ ولكن لا ضمان عليه إذا أوقف الدابة في الأسواق أو الأماكن المخصصة من قبل السلطات للوقوف (أو المأذون بها من جهته كالمحطات الجانبية) أو في الفلاة؛ لأن الوقوف فيها مباح لعدم الإضرار بالناس. فإن كان راكباً عليها فوطئت إنساناً فقتلته يضمن؛ لأنه قتل بطريق المباشرة.
ـ ولا ضمان عليه أيضاً إذا أوقف الدابة أو سار بها أو ساقها أو قادها في ملكه الخاص، إلا ما تحدثه بالإيطاء برجلها أو بيدها، وهو راكبها، فيضمن ماتحدثه؛ لأنه تصرف في ملكه الخاص، فلا يتقيد تصرفه بشرط السلامة، أما الوطء فهو بمنزلة فعله لحصول الهلاك بثقله، ومن تعدى على الغير في دار نفسه، يضمن.
ـ والسائق والقائد والرديف كالراكب، إلا أن الفرق أن الراكب قاتل بوطء الدابة بثقله وفعله، أي أنه مباشر، وليس بمتسبب. والسائق ونحوه متسبب. فتجب الكفارة على الراكب في ملكه أو في غير ملكه دون السائق والقائد.
فإذا قاد الرجل قافلة (قطاراً) من الدواب، فما أوطأته دابته يكون ضامناً. وكذا إذا صدم إنساناً؛ لأن القائد مقرب للبهيمة إلى الجناية، وهذا مما يمكن الاحتراز عنه في الجملة، بأن يذود الناس عن الطريق.
ـ ولو نفرت الدابة أو انفلتت من حارسها (المالك أو غيره) : فما أصابت في فورها، فلا ضمان عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: «العجماء جبار» أي البهيمة جُرْحها جُبَار: هدر، ولأنه لا صنع له في نَفَارها وانفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فلا يكون الناشئ عنه مضموناً.
ـ ولو أرسل دابته، فما أصابت من فورها، ضمن؛ لأن سيرها في فورها مضاف إلى إرسالها، فكانت متعدياً في الإرسال، فصار كالدافع لها، أو كالسائق. فإن عطفت (مالت أو تحولت) يميناً أو شمالاً، ثم أصابت شيئاً ففيه احتمالان:
__________
(1) رواه سعيد بن منصور بإسناده عن هزيل بن شرحبيل، كما روي عن أبي هريرة.
(2) المغني: 338/8 ومابعدها.
(7/684)
إن لم يكن لها طريق آخر إلا ذاك، وجب الضمان على المرسل؛ لأنها باقية على الإرسال.
وإن كان لها طريق آخر، لا يضمن مرسلها؛ لأنه انقطع أثر الإرسال، وصارت كالمنفلتة.
وفي كل هذه الأحوال: ما كان من جناية الحيوان على بني آدم، فهو على العاقلة؛ لأن حائز الحيوان متسبب متعد. وما كان على المال، فهو على المسؤول عن الحيوان، في ماله، حالاً، أي أن ضمان النفس على العاقلة، وضمان المال في مال المتعدي. وهذا ما نص عليه الحنفية والشافعية (1) .
ثانياً ـ ضمان المتسبب وحده:
المتسبب: هو من يفعل فعلاً يؤدي إلى ضرر ما، ولكن بواسطة أخرى. ويضمن المتسبب أثر فعله بشرطين:
1ً - إذا كان متعدياً، والتعدي: هو فعل السبب بغير حق، سواء أكان متعمداً الضرر أم لا يقصد الضرر.
2ً - وإذا كان هو العامل الأهم في إحداث الضرر، بأن يغلب السبب المباشرة، كما في الأمثلة التالية:
ـ من ضرب دابة عليهاراكب، أو نخسها بعود بلا إذن الراكب، فنفحت شخصاً أو ضربته برجلها أو بذنبها، أو نفرت، فصدمت إنساناً في فور النخسة، ضمن الناخس أو الضارب، دون الراكب؛ لأن الأول متعد في فعله، فما تولد عنه، مضمون عليه، والراكب ليس بمتعد، فترجح جانب الناخس في التغريم للتعدي. ويلاحظ أن اشتراط كون النفحة فور النخس أمر ضروري ليتوافر معنى السببية في إحداث الضرر (2) .
فإذا انقطع الفور بعد النخس، فينسب الضرر إلى اختيار الدابة، لا إلى الناخس.
وإذا حدث النخس أو الضرب بأمر الراكب، فنفحت الدابة برجلها إنساناً، فقتلته: فإن وقع الفعل في مكان مأذون فيه فلا ضمان. كأن كان الراكب يسير في الطريق، أو كان واقفاً في ملكه الخاص، أو في موضع قد أذن فيه بالوقوف من الأسواق العامة ونحوها؛ لأن الناخس فعل بأمر الراكب فعلاً يملكه الراكب، فصار فعله كفعل الراكب نفسه، وفعل الراكب حينئذ لا يضمن، فلا يضمن مثله.
أما إن وقع النخس في مكان لم يؤذن بالوقوف فيه، كالطريق العام، فيشترك
الناخس والراكب في الضمان، وتكون دية المجني عليه مثلاً عليهما مناصفة. وسأذكر أمثلة أخرى في حال اشتراك المتسبب والمباشر في الضمان.
__________
(1) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: 204/4.
(2) المبسوط: 2/27، درر الحكام: 113/2 ومابعدها، الدر المختار: 430/5 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص187، تكملة الفتح: 352/8.
(7/685)
ثالثاً ـ ضمان المباشر وحده:
المباشر: هو الذي حصل الضرر بفعله بلا واسطة، أي دون تدخل فعل شخص آخر مختار. ويكون هو الضامن إذا كان السبب لا ينفرد بالإتلاف إذا ترك وحده دون مباشرة، أي أنه كان هو المؤثر الأقوى في إحداث الضرر، ودور السبب ضعيف إذا قورن به.
مثاله: إذا كان هناك قائد قطار (1) إبل، وكانت الإبل وقوفاً لاتقاد، فجاء رجل، وربط إليها بعيراً، والقائد لا يعلم، فقاد البعير معها، فوطئ البعير إنساناً، فقتله، فالدية على القائد، تتحملها عنه عاقلته ولا ترجع على عاقلة الرابط بشيء؛ لأن الرابط، وإن تعدى في الربط، وكان سبباً لوجوب الضمان، لكن القائد لما قاد البعير عن ذلك المكان الذي كانت الإبل واقفة فيه، قد أزال تعديه، فيزول الضمان عنه، ويتعلق بالقائد، كمن وضع حجراً في الطريق، فجاء إنسان، فدحْرَجَه عن مكانه، ثم عطب به إنسان، فالضمان على الثاني، لا على الأول.
أما لو كانت الإبل سائرة، وجاء رجل وربط مع آخرها بعيراً، فوطئ البعير إنساناً، ضمنت عاقلة القائد الدية، ثم رجعت بها على عاقلة الرابط؛ لأن الرابط متعد في الربط، وهو المتسبب الأقوى في إلزام الضمان، فيستقر الضمان عليه (2) .
__________
(1) قطار الإبل: قال في المغرب: القطار: الإبل تقطر على نسق واحد، والجمع قطر مثل كتب.
(2) الدر المختار: 430/5، البدائع: 281/7.
(7/686)
رابعاً ـ ضمان المتسبب والمباشر معاً:
يضمن المتسبب والمباشر بالاشتراك معاً إذا تساوى أو تعادل أثرهما في الفعل الذي يترتب عليه إحداث الضرر. وعلى حد تعبير الحنفية والشافعية: يضمن المتسبب مع المباشر إذا كان للسبب تأثير يعمل بانفراده في الإتلاف متى انفرد عن المباشرة. أي أن اشتراك المتسبب مع المباشرة في الضمان مشروط عندهم بأن يكون السبب مما يعمل بانفراده. وعند المالكية والحنابلة (1) مشروط بأن تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه، بحيث لو تخلفت السببية لزالت علة الإتلاف كاشتراك المكره والمستكره في القصاص والضمان، واشتراك الممسك مع القاتل في رواية عند الحنابلة، وفي الرواية الأخرى: يختص المباشر بالعقوبة، ويحبس الممسك حتى يموت، وكما لو دل الوديع لصاً على الوديعة فسرقها.
وأمثلة الحنفية هي ما يأتي (2) :
ـ لو اجتمع على قيادة الدابة سائق وراكب، أوقائد وسائق (3) ،فالضمان عليهما؛ لأن سَوق الدابة يؤدي إلى التلف، وإن لم يكن هناك شخص راكب عليها. وقائد قطار الإبل والسائق سواء في الضمان؛ لأن على القائد الحفظ كالسائق، فيصير متعدياً بالتقصير فيه، والتسبب بوصف التعدي سبب الضمان. لكن ضمان النفس على العاقلة، وضمان المال في مال المتعدي كما تقدم.
ـ وكذلك إذا نخس شخص الدابة أو ضربها بأمر راكبها، يكون الضمان على الاثنين؛ لأن الناخس بمنزلة السائق.
__________
(1) تبيين الحقائق: 150/6، رد المحتار: 428/5، أشباه ابن نجيم: 78/2، الفروق: 31/4، القواعد لابن رجب: ص 285.
(2) الدر المختار: 428/5، تكملة فتح القدير: 354/8، تبيين الحقائق: المكان السابق، المبسوط: 2/27 وما بعدها، البدائع: 280/7، اللباب شرح الكتاب: 164/3.
(3) القود: أن يكون الرجل أمام الدابة آخذاً بقيادتها. والسوق: أن يكون خلفها.
(7/687)
ـ ولو نخس الدابة بغير أمر الراكب، فوطئت إنساناً بقدمها أثناء الدفع، فمات، فالضمان عليهما؛ لأن الموت حصل بسبب فعل الناخس، وثقل الراكب. والرديف كالراكب.
إلا أن الراكب يختلف عن الناخس والسائق أو القائد في إيجاب الكفارة عليه، وحرمانه من الميراث والوصية عند الحنفية لمباشرته القتل، وأما غيره فهو متسبب، والمتسبب لا كفارة عليه ولا يحرم الميراث والوصية.
وفي قيادة قطار الإبل يجب الضمان على القائد فيما أوطأه أو أصابه أو صدمه البعير الأول أو الأوسط أو الأخير؛ لأنه فعل فعلاً سبب حصول التلف وهو مما يمكن الاحتراز عنه. ولا يختلف الحكم كيفما كان السائق في الوسط أو الآخر.
ـ ولو كان على القطار محامل (1) فيها أناس نيام أوغير نيام، مشتركون في القود أو السوق، فهم شركاء السائق والقائد في الضمان. وعلى الركبان وحدهم الكفارة. فإذا لم يكن من المحامل اشتراك في القود أو السوق، فهم كالمتاع، لا شيء عليهم.
ويلاحظ أن هذه الأحكام لا تنطبق على السيارات اليوم، لعدم اشتراك الركاب مع السائق في شيء، فتكون مسؤولية الضمان على السائق وحده.
التصادم: إذا تصادم راكبان أو فارسان أو ملاحان أو سائقا سيارة أو ماشيان أو راكب وماشٍ، فماتا، أو تلف شيء بسبب التصادم، وجب على كل واحد
__________
(1) المحامل جمع مَحْمِل: وهو الهودج.
(7/688)
منهما عند الحنفية والحنابلة (1) تحمل تبعة الضمان كاملة للآخر، لكن في الموت تتحمل عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، واليوم يتحمل كل واحد لا عاقلته تبعة فعله. وفي الإتلاف يجب على كل منهما تعويض ضرر الآخر؛ لأن الضرر قد حدث لكل واحد منهما بفعل نفسه وبفعل صاحبه أيضاً.
هذا إذا كان التصادم خطأ، فإن كان عمداً وجب عند الحنفية تحمل نصف قيمة الضمان، أي نصف الدية أو التعويض المالي.
ويرى المالكية (2) : أنه إذا تصادم الفارسان، فإن كان عمداً وماتا فلا قصاص لفوات محله، وإن مات أحدهما اقتص من الآخر له. وإن كان خطأ ومات كل واحد منهما، فعلى كل واحد منهما دية الآخر، وتتحملها عنه العاقلة، كما قال الحنفية. فإن تصادمت سفينتان فتلفتا أو تلفت إحداهما فهدر، لا قود ولا ضمان؛ لأن جريهما بالريح، وليس من عمل أربابهما (3) .
وقال الشافعية، وزفر الحنفي (4) : إذا اصطدم فارسان أو ماشيان، أو سفينتان بتفريط من ربانهما، بأن قصرا في صيانة آلاتهما، أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا، أو سيرا المركبين في ريح شديدة لاتسير السفن في مثلها، وجب على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف للآخر (وكان في الماضي الضمان على عاقلة كل منهما) ؛ لأن التلف حصل بفعلهما، أي أن كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه فيهدر النصف، وينقسم الضمان عليهما، ويهدر النصف الآخر بسبب فعل كل واحد في حق نفسه. وعند الشافعية يجب نصف الدية مغلظة على عاقلة كل منهما لورثة الآخر؛ لأن القتل شبه عمد؛ إذ الغالب أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، فلا يتعلق به القصاص. فإن حدث التصادم بين السفينتين دون تفريط، وإنما بقوة قاهرة كريح شديدة عصفت، فلا ضمان على أحد.
أما إذا كان المخطئ أحد المتصادمين، كان الضمان عليه باتفاق الفقهاء، كما لو صدم الماشي واقفاً، فالضمان على الماشي؛ لأنه هو المتسبب، ولو صدمت سفينة جائية سفينة واقفة، كان الضمان على صاحب السفينة الجائية إذا لم تكن الواقفة متعدية في وقوفها.
__________
(1) الدر المختار: 428/5، تكملة الفتح: 348/8، الكتاب مع اللباب: 168/3، درر الحكام: 112/2، مجمع الضمانات: ص 150، المغني: 340/8 ومابعدها، غاية المنتهى: 282/3، كشاف القناع: 144/4.
(2) بداية المجتهد: 409/2، القوانين الفقهية: ص 332، الشرح الكبير للدردير: 247/4 وما بعدها.
(3) المراجع السابقة.
(4) المهذب: 194/2، مغني المحتاج: 89/4 وما بعدها.
(7/689)
المبحث الثاني ـ جناية الحائط المائل ونحوه مما يحدثه الرجل في الطريق ـ سقوط البناء أو الجدار:
يجب في الجملة في حالة سقوط البناء الضمان على المتسبب في إحداث الضرر، إما لأنه يمكن الاحتراز عنه، أو بسبب تقصيره وإهماله. وإذا حدث موت، فالدية تجب على عاقلة مالك البناء، لأنه متسبب. لكن لا تجب عليه الكفارة ولا يحرم من الميراث والوصية عند الحنفية، كما هو المقرر عندهم في حالة القتل بالتسبب، وعلى هذا إذا كانت الجناية على نفس فالواجب هو الدية، وإذا كانت على ما دون النفس فالواجب بها الأرش على العاقلة إن بلغ عند الحنفية نصف عشر دية الرجل وعشر دية الأنثى. وإن كانت الجناية على المال فيجب التعويض في مال المتسبب. وسقوط البناء: إما أن يكون بسبب خلل أصلي عند الإنشاء، أو بسبب خلل طارئ (1) .
المطلب الأول ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل أصلي فيه:
لا خلاف بين الفقهاء في وجوب ضمان الضرر الحادث بسبب سقوط البناء أو الجدار الذي بناه صاحبه مائلاً إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره؛ لأنه متعد بفعله، فإنه ليس لأحد الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره، أو هواء مشترك، ولأنه ببنائه المشتمل على الخلل يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه (2) .
ومثله: ما تولد من جناح (3) إلى شارع، سواء أكان يضر أم لا، أذن فيه الإمام أم لا، أو ما يتلف بالميازيب المخرجة إلى الشارع أو بما سال من مائها؛ لأنه ارتفاق بالشارع، والارتفاق بالشارع مشروط بسلامة العاقبة، فكل ما يحدث يكون صاحبه ضامناً.
__________
(1) البدائع: 283/7.
(2) البدائع: 283/7، المغني: 827/7 وما بعدها، مغني المحتاج: 86/4.
(3) جناح بفتح الجيم: هو البارز عن سمت الجدار من خشب أو غيره.
(7/690)
ومثله أيضاً: لو طرح تراباً بالطريق ليطين به سطحه، أو وضع حجراً أو خشبة أو متاعاً فزلق به إنسان، ضمنه. وكذلك لو طرح قمامات (كناسة) وقشور بطيخ في طريق، أو صب ماء في الطريق، فتلف بفعله شيء، أو قعد في الطريق للاستراحة أو لمرض فعثر به عابر، فوقع فمات أو وقع على غيره فقتله، يكون مضموناً؛ لأن الانتفاع بالطريق مشروط بسلامة العاقبة؛ ولأن فيه ضرراً على المسلمين.
ومن حفر بئراً عدواناً كحفرها في ملك غيره بغير إذنه، أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام: ضمن ما تلف فيها من آدمي أو غيره (1) . والمراد بالضمان: الدية ـ دية شبه عمد في القتل، والتعويض المالي في الإتلافات المالية. وكل ما ذكر ضمان بالتسبب، والقاعدة تقول: «يضاف الفعل إلى المتسبب ما لم يتخلل واسطة» .
ودليل الضمان في تلك الحالات وأمثالها هو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (2) .
المطلب الثاني ـ سقوط البناء أو الجدار بسبب خلل طارئ عليه:
إذا بنى الشخص بناءه أو حائطه مستوياً أو مستقيماً، ثم مال إلى الطريق أوإلى دار إنسان، أو تشقق بالعرض لا بالطول، فسقط على شيء فأتلفه، ففي ضمان الشيء المتلف رأيان للفقهاء:
1 - مذهب الشافعية والراجح عند الحنابلة (3) : لا ضمان به في هذه الحالة؛ لأن صاحبه تصرف في ملكه، والميل لم يحصل بفعله، فأشبه ما إذا سقط بلا ميل، سواء أمكنه هدمه وإصلاحه أم لا، وسواء طولب بالنقض أم لا.
2 - مذهب الحنفية والمالكية (4) : في الأمر تفصيل:
__________
(1) تبيين الحقائق: 142/6-145، مغني المحتاج: 82/4-85، المغني: 822/7-831، المنتقى على الموطأ: 41/6، البدائع: 277/7، اللباب شرح الكتاب: 162/3.
(2) روي من حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي لبابة، وثعلبة بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعائشة (راجع نصب الراية: 384/4) .
(3) مغني المحتاج: 86/4، المغني: 828/7، مجلة الأحكام الشرعية للقاري (م 1445) .
(4) البدائع: 283/7، الدر المختار: 424/5، تكملة الفتح: 341/8 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 167/3.
(7/691)
أـ إن لم يطالب بنقضه، حتى سقط على إنسان، فقتله، أو على مال فأتلفه، فلا ضمان؛ لأنه بناه في ملكه، والميل حادث بغير فعله، فأشبه ما لو وقع قبل ميله، كثوب ألقته الريح في يده، فما تولد منه، لا يؤاخذ به.
ب ـ وأما إن طولب بنقضه، فلم يفعل، ثم سقط بعدئذ يمكنه فيها نقضه، فهو ضامن ما تلف به من نفس أو مال؛ لأنه حينئذ يصبح متعدياً، كما لو امتنع عن تسليم (أو رد) ثوب ألقت به الريح في دار إنسان، وطولب به، فهلك، يضمن. ولأن للناس حق المرور دون ضرر، وليس لأحد منعهم منه.
أما إذا لم يفرط في نقضه، وذهب حتى يستأجر عاملاً يهدمه، فسقط، فأفسد شيئاً، فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه فقط إزالة الضرر بقدر الإمكان.
والمطالبة بالنقض أو الإصلاح هو المعروف بشرط التقدم، والتقدم: هو التنبيه والتوصية أولاً بدفع وإزالة مضرة مظنونة (م 889 مجلة) .
الإشهاد على المطالبة بالنقض: لا يشترط الإشهاد لصحة التقدم أو المطالبة بالإصلاح، وإنما الإشهاد كما قال الحنفية أمر ضروري لإثبات سبب الضمان أي لإثبات حصول الطلب عند القاضي والإلزام بالضمان عند الإنكار. فلو اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقض الجدار، وجب عليه الضمان، وإن لم يشهد عليه.
معنى الإشهاد: الإشهاد هو أن يقول الرجل: «اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا» أي أن المعتبر هو المطالبة بالهدم (1) . وتعتبر شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم، أي المطالبة.
__________
(1) راجع هذا وما يأتي بعده في البدائع: 284/7، تكملة الفتح: 342/8، الدر المختار: 425/5.
(7/692)
عناصر الإشهاد:
1 - الذي يطالب بالإشهاد: إن كان ميلان الحائط إلى دار إنسان، فالإشهاد إلى صاحب الدار إن كان فيها، أو إلى الساكن إن كانت مسكونة. وإن كان الميلان إلى الطريق العام، فالإشهاد إلى كل من له حق المرور، مسلماً كان أو ذمياً. أما إن مال بعض البناء للطريق وبعضه لدار إنسان، فأي طلب من إنسان يصح، لأنه إذا صح الإشهاد في البعض، صح في الكل.
2 - المشهود عليه: يصح الإشهاد على من يملك نقض الجدار، وهو المالك، أو صاحب الولاية على الغير كالأب والوصي وقيِّم الوقف؛ لأن المطالبة بالنقض ممن لا يملكه عبث ولا فائدة منه. فلا يطالب بالنقض المستأجر والمرتهن، والمستعير والوديع، لعدم ولايتهم على النقض والتصرف، فكان الإشهاد عليهم وعدمه سواء.
فترة الطلب والإشهاد: لا يصح الطلب والإشهاد إلا بعد ميل البناء وقبل السقوط؛ لأن ما قبل الميل لا يوجد تعدٍ، وما بعد السقوط لا فائدة من الطلب. كما لا تتحقق المسؤولية عن الضمان إلا بعد مضي مدة يقدر فيها صاحب الحائط على نقضه؛ لأن الضمان يجب بترك النقض الواجب، ولا وجوب من دون الإمكان أو الاستطاعة. فلو ذهب يطلب من ينقضه أو يهدمه، فسقط الحائط، فتلف به شيء، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يكن متعدياً بالتفريط أو الإهمال.
طلب التأجيل أو الإبراء بعد الإشهاد: إن كان ميل الحائط إلى دار إنسان من مالك أو ساكن، فطلب منه الهدم وأشهد على طلبه، ثم طلب صاحب الحائط تأجيله أو إبراءه من الجناية، فأجل أو أبرأ، صح؛ لأن الحق الخاص يملك صاحبه التنازل عنه. وأما إن كان الميل إلى الطريق، فأبرأ أو أجل الذي طلب النقض أو أشهد على صاحب الحائط، وهو من له حق المرور، أو القاضي، فلا يصح ولا يبرأ؛ لأن هذا حق عام، والحق العام لا يملك أحد التنازل عنه، وتصرف القاضي في الحق العام نافذ فيما ينفعهم لا فيما يضرهم (1) .
__________
(1) الدر المختار: 425/5.
(7/693)
التصرف في البناء بعد الإشهاد: إذا تصرف صاحب الحائط أو الدار في البناء ببيع أو غيره كهبة، بعد الإشهاد، فسقط الحائط بعد قبض المشتري المبيع، أو بعد ما ملكه بالإيجاب والقبول قبل القبض، في زمان لا يتمكن من نقضه، فلا ضمان على صاحب الحائط الأصلي، فيما هلك بسقوطه، لزوال ولايته بالبيع ونحوه، فلا يملك النقض، فسقط حكم الإشهاد، حتى إنه لو رد المبيع على البائع بقضاء أو غيره أو بخيار شرط أو رؤية للمشتري، لم يضمن البيع، إلا إذا طولب بعد الرد. وأما إن كان الخيار للبائع ونقض البيع، ثم سقط الحائط وأتلف شيئاً، كان ضامناً؛ لأن خيار البائع لا يلغي ولاية الإصلاح، فلا يلغي الإشهاد.
فإن سقط الحائط بعد تفريط صاحبه قبل البيع، التزم بالضمان. ويعتبر الجنون والردة مثل التصرف بالبناء، فلو جن صاحب الحائط جنوناً مطبقاً أو ارتد ولحق بدار الحرب، ثم أفاق من جنونه، أو عاد مسلماً وردت عليه الدار، لا يضمن إلا بإشهاد جديد في المستقبل (1) .
__________
(1) الدر المختار، المكان السابق، المغني: 829/7.
(7/694)
الفَصْلُ الخامس: طرق إثبات الجناية
فيه مبحثان:
المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة.
المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القسامة.
المبحث الأول ـ لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة:
لا حظنا في أثناء الكلام عن الحدود أن الفقهاء يبحثون باختصار طرق إثبات الجريمة الموجبة للحد من شهادة أو إقرار ونحوهما، لما للحد من خطورة خاصة تتطلب توقف الحكم به على ثبوت الجريمة ثبوتاً قاطعاً أو مؤكداً. وذلك بالإضافة إلى وجود مباحث مستقلة لطرق الإثبات في كل كتاب فقهي.
وكذلك الشأن في الجنايات، لا بد من الإشارة لما تثبت به، تسهيلاً على القاضي في إصدار أحكامه عليها، ولفت نظره لضرورة التأكد من وقوع الجناية الموجبة لعقوبة بدنية كالقصاص أو التعزير أو لعقوبة مالية كالدية أو الأرش.
لذا فإني أعطي هنا فكرة أو لمحة إجمالية عن طرق الإثبات العامة من إقرار وشهاد وقرينة ونكول عن اليمين، لبيان مدى صلاحية إحداها لإثبات الجناية، سواء عند جمهور الفقهاء أو عند بعض الفقهاء، وأحيل بالتفصيل على البحوث المستقلة الخاصة بكل منها في هذا الكتاب أو غيره. ويلاحظ أن العلماء اتفقوا على جواز إثبات جرائم القصاص في القتل والجرح العمد بالإقرار أو شهادة رجلين.
أولاً ـ الإقرار:
الإقرار: هو إخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه (1) ، وهو حجة قاصرة على المقر لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية الإقرار على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. ويؤخذ بمقتضى الإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه.
ولا خلاف في جواز الاعتماد على الإٍقرارفي العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجرائم أو الجنايات والحدود، فقد أجمعت الأمة على صحة الإقرار مطلقاً، وكونه حجة في مختلف العصور، إذا كان صحيحاً.
واتفق العلماء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (2) .
ويشترط في الإقرار بالجناية أو الجريمة الموجبة لحد أو قصاص أو تعزير أن يكون واضحاً مفصلاً، قاطعاً في الاعتراف بارتكاب الجرم، عمداً أو خطأ أو شبه عمد.
فلا يصح الإقرار المجمل الغامض أو المشتمل على شبهة، حتى يتحدد نوع العقاب، إذ لا عقاب مثلاً على القتل دفاعاً عن النفس أو المال، أو استعمالاً لحق، أو تنفيذاً لقصاص.
ولا يصح إقرار المتهم في إقراره لملاطفة صديق ونحوه؛ لأن التهمة تخل برجحان جانب الصدق على الكذب في إقراره.
__________
(1) الدر المختار: 467/4.
(2) البدائع: 222/7، تكملة الفتح: 281/6، تبيين الحقائق: 3/5، الشرح الكبير للدردير: 397/3 وما بعدها، المهذب: 343/2، مغني المحتاج: 238/2، المغني: 138/5.
(7/695)
ولا يصح إقرار عديم العقل كالمجنون، وغير المميز. ويصح عند الحنفية خلافاً لبقية الأئمة إقرار الصبي المميز بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة.
ولا يصح إقرار المستكره أو المتهم الذي يضرب ليقر في الأموال والجنايات الموجبة لحد أو قصاص، ويلغى، ولا يترتب عليه أي أثر، إلا أن المالكية يقولون: لا يلزم إقرار المستكره، بمعنى أنه يخير بعد زوال الإكراه بين إجازة الإقرار أو إلغائه أو إبطاله (1) .
ولا يصح إقرار زائل العقل بنوم أو إغماء أو دواء. أما السكران المتعدي بسكره (وهو من تعاطى مسكراً متعمداً) (2) : فيصح إقراره في كل تصرفاته وجناياته عند الشافعية. ويصح إقراره عند الحنفية في الأموال والأحوال الشخصية وفي القتل والجناية على ما دون النفس وعلى الجنين؛ لأنها حقوق شخصية للعباد، ولا يصح إقراره في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة، لوجود الشبهة، وهي تدرأ بالشبهات، لكن يضمن السكران الشيء المسروق وإن كان لا يحد.
ولا يصح إقرار السكران بحق أو جناية أو غيرهما عند المالكية والحنابلة؛ لأنه غير عاقل.
__________
(1) البدائع: 189/7 وما بعدها، تكملة الفتح: 265/7، تبيين الحقائق: 182/5، الدر المختار: 89/5، الدردير: 397/3، المغني: 196/8، حاشية الباجوري على شرح ابن القاسم لمتن أبي شجاع: 4/2.
(2) الدر المختار: 489/4، رد المحتار والدر المختار: 180/3 وما بعدها، الدردير: 397/3، حاشية الباجوري: 4/2، المغني: 138/5.
(7/696)
واتفق الفقهاء (1) عى أنه يجوز للمقر الرجوع عن إقراره في حقوق الله تعالى كالردة والزنا وشرب خمر وسرقة وقطع طريق من أجل إسقاط الحد، لا إسقاط المال؛ لأنها تدرأ بالشبهات.
أما حقوق الآدميين كالإقرار بالقتل أو الجُرْح أو قطع طرف، أو إسقاط جنين، فلا يجوز للمقر الرجوع عن إقراره بها، لتعلقها بحقوق الناس الشخصية، ولو أن القصاص مما يدرأ بالشبهات؛ لأن الأصل ألا يجوز إلغاء كلام المكلف بلا مقتضٍٍ.
ولا يشترط تعدد الإقرار، ويكفي مرة واحدة إلا في الإقرار بالزنا عند الحنفية والحنابلة، فإنه يطلب كونه أربع مرات، طلباً للتثبت في إقامة الحد، وعملاً بواقعة إقرار ماعز بن مالك أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم أربع مرات.
ثانياً ـ الشهادة:
إن أغلب وقائع الخصومات في الحقوق المالية والجرائم يثبت بالشهادة. وهي: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (2) . ولا خلاف بين الفقهاء في جواز الاعتماد على الشهادة في الإثبات، لورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على مشروعيتها والقضاء بها (3) .
وعدد الشهود اثنان إلا في الزنا، فلا بد فيه من أربعة شهود لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/24] .
__________
(1) فتح القدير: 120/4، بداية المجتهد: 430/2، الدردير: 318/4، مغني المحتاج: 150/4، تحفة الطلاب شرح تنقيح اللباب لزكريا الأنصاري: ص 180، المغني: 197/8.
(2) فتح القدير: 2/6، الدر المختار: 385/4، الشرح الكبير للدردير: 164/4، مغني المحتاج: 426/4.
(3) راجع بحث الشهادة.
(7/697)
وتقبل عند الحنفية (1) شهادة النساء مع الرجال في الأموال والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق وتوابعهما) . وعند المالكية والشافعية والحنابلة (2) : لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها وعقودها.
ولا تقبل شهادة النساء مع الرجال في المذاهب الأربعة في الحدود والجنايات والقصاص، وإنما لا بد فيها من شهادة رجلين عدلين، لخطورتها وضرورة التأكد من ثبوتها، وتضييقاً في طرق إثباتها، واحتيالاً لدرئها، ولأن في شهادة المرأة بدلاً عن الرجل شبهة البدلية، لقيامها مقام شهادة الرجال، فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات. ويقول الزهري: «مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تجوز شهادة النساء في الحدود» (3) وقال علي كرم الله وجهه: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء» (4) .
وبما أن هناك خلافات فقهية في أنواع الشهادات في الجرائم فإني أضيف لما سبق التوضيح التالي:
__________
(1) فتح القدير: 7/6، البدائع: 277/6، اللباب شرح الكتاب: 55/4 ومابعدها، الهداية: 93/3، ط الخيرية.
(2) بداية المجتهد: 454/2، المهذب: 333/2، المغني: 97/8، 149/9 ومابعدها، الطرق الحكمية: ص 152 ومابعدها، مغني المحتاج: 118/4.
(3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وأخرج عن الشعبي والنخعي والضحاك قالوا: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود» (نصب الراية: 79/4) .
(4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية، المكان السابق) .
(7/698)
1 ً - جرائم القصاص في النفس أو ما دونها:
لا تثبت عند أئمة المذاهب الأربعة إلا بشهادة رجلين عدلين. ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين، ولا شهادة شاهد ويمين المدعي ـ المجني عليه (1) ، ولا تثبت بالشهادة على الشهادة (2) ، ولا بكتاب القاضي إلى قاض آخر (3) ؛ لأن القصاص عقوبة خطيرة، فيحتاط لدرئه باشتراط شاهدين عدلين.
إلا أن المالكية (4) أجازوا استحساناً في جراح النفس عمداً أو خطأ إثباتها بشهادة شاهد واحد ويمين المجني عليه. كما أنهم أجازوا إثبات جراح العمد بشاهد عدل وامرأتين، أو أحدهما مع اليمين. وهذه إحدى المستحسنات الأربع، إذ هي ليست بمال، ولا آيلة له.
2 ً - جرائم التعزير البدني كالضرب والحبس ونحوهما:
يرى الحنفية (5) أن التعزير يغلب فيه حق الآدمي، فتثبت جريمة التعزير عندهم بما تثبت به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة والنكول عن اليمين (6) ، وعلم القاضي، وشهادة النساء مع الرجال، والشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي.
والمالكية كما قالوا في جرائم القصاص أجازوا إثبات جرائم التعزير البدني بشاهد ويمين المدعي. وأجاز بعض المالكية التعزير في بعض الجرائم بشاهد واحد
__________
(1) المبسوط: 17/30، البدائع: 225/6، بداية المجتهد: 256/2، الدردير: 187/4، المهذب: 301/4، 334، مغني المحتاج: 118/4، 443، 482، المغني: 151/9، 252، 97/8.
(2) فتح القدير: 20/6، الدردير: 198/4، المهذب: 334/2،المغني: 158/9.
(3) تبيين الحقائق: 241/4، الدردير: 159/4، بداية المجتهد: 458/2، مغني المحتاج: 452/4، المغني: 90/9.
(4) الشرح الكبير للدردير: 187/4 وما بعدها.
(5) الدر المختار وحاشيته: 204/3 ومابعدها، البدائع: 65/7.
(6) ونكول الجاني عن اليمين مجرد قرينة تقوي موقف المجني عليه.
(7/699)
دون يمين (1) ، وقبل الإمام مالك شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح (2) عملاً بالمصلحة المرسلة أو إجماع أهل المدينة.
واقتصر الشافعية والحنابلة (3) على إثبات جريمة التعزير بما تثبت به جريمة القصاص، وهو شهادة رجلين عدلين؛ لأن العقوبة البدنية خطيرة، فيحتاط فيها بقدر الإمكان، فلا تثبت به بما تثبت به الأموال من شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي.
3 ً - جرائم التعزير المالي كالدية أو الغرامة:
تثبت هذه الجريمة في المذاهب الأربعة (4) بما تثبت به الحقوق المالية كشهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأنه يقصد بها المال. وأجاز غيرا لحنفية إثباته أيضاً بشاهد ويمين المجني عليه. وأضاف المالكية إمكان إثباتها بامرأتين ويمين المدعي، ولم يجز الحنفية مطلقاً مبدأ قبول شاهد ويمين، ولا يمين وامرأتين، عملاً بما اقتصر عليه النص القرآني في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان} [البقرة:282/2] فمن زاد على ذلك فقد زاد على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ لا يكون إلا بنص مشابه.
__________
(1) تبصرة الحكام: 260/1 ومابعدها.
(2) الاعتصام للشاطبي: 115/2 ومابعدها، كتابنا الوسيط في أصول الفقه: ص 364، ط ثالثة.
(3) المراجع السابقة.
(4) المراجع السابقة، المغني: 98/8.
(7/700)
ثالثاً ـ القرائن:
القرينة: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً، فتدل عليه. ومنه يفهم أنه لا بد في القرينة من تحقق أمرين:
1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه.
2 - أن توجد صلة تربط بين الأمر الظاهر والأمر الخفي.
ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بالقرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ولا في القصاص إلا في القسامة للاحتياط في أمر الدماء وإزهاق النفوس، بالاعتماد على وجود القتيل في محلة المتهمين عند من لا يشترط قرينة اللوث (العداوة الظاهرة) أو بالاعتماد على مجرد اللوث عند من يشترطه. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها، ولكنها تقبل إثبات العكس بأدلة أخرى.
وأخذ بعض الفقهاء كابن فرحون المالكي وابن القيم الحنبلي (1) بالقرائن أحياناً مع التحفظ والحذر، ولو في نطاق الحدود، وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة، مثل إثبات الزنا بالحمل، وإثبات شرب الخمر بظهور رائحتها من فم المتهم، وثبوت السرقة بوجود المسروق في حيازة المتهم، ورد المسروقات أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلامات مميزة. ونحوه كثير في إثبات الحق والملكية والأهلية والولادة.
واعتبر الحنفية القرينة القطعية (2) بينة نهائية كافية للقضاء بها، كما لو رئي شخص مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين ملوثة بالدم، بجوار مضرج بدمائه في مكان، فيعتبر هو القاتل (م/1741 من المجلة) . أما القرينة غير القطعية الدلالة ولكنها ظنية أغلبية، ومنها القرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى
__________
(1) تبصرة الحكام: 312/1، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 97 وما بعدها، 214 وما بعدها.
(2) عرفت المجلة القرينة القاطعة: بأنها الأمارة البالغة حد اليقين (م/1741) .
(7/701)
وتصرفات الخصوم، فهي دليل أولي مرجح لزعم أحد المتخاصمين مع يمينه، متى اقتنع بها القاضي، ولم يثبت خلافها (1) .
رابعاً ـ النكول عن اليمين:
النكول عن اليمين: هو الامتناع عن حلف اليمين الموجهة إلى المدعى عليه بطريق القاضي. وهو لا يعدو أن يكون مجرد قرينة على صدق المدعي في اتهام المتهم.
ويقضى به عند الحنفية والحنابلة (2) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل جنس اليمين في جانب المدعى عليه وحصرها فيه في قوله عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» .
ويقضى بالنكول عند أبي حنيفة في القصاص في الأطراف حالة العمد، وبالدية حالةالخطأ. ولا يقضى فيه عنده بالقصاص بالنفس لا بالقصاص ولا بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
ولا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين.
كما لا يقضى بالنكول باتفاق الحنفية والحنابلة في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب، لاشتماله على الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
وأما التعازير فيقضى فيها بالنكول عند الحنفية كما بان سابقاً، أما عند الحنابلة فلا يقضى فيها بالنكول، على ما هول الظاهر في الترجيح بين الروايتين عن أحمد؛ لأنه يرى قصر الأيمان على الأموال والعروض التجارية (3) .
ولم يأخذ المالكية والشافعية (4) بالنكول، وإنما أخذوا باليمين المردودة في جانب المدعي، ويقضى باليمين المردودة عند المالكية في الأموال وما يؤول إليها فقط كخيار وأجل دون ما سواها من القصاص والحدود والتعازير. وأما عند الشافعية: فيقضى باليمين المردودة في جميع الحقوق والتعازير، ما عدا جنايات الدماء والحدود، فلا يقضى فيها بالقصاص ولا بالحد.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف/536.
(2) تكملة فتح القدير: 155/6 و 158، المبسوط: 35/17، الدر المختار: 442/4، المغني: 235/9 وما بعدها، كشاف القناع: 332/6 وما بعدها.
(3) المغني: 67/8، 238/9، كشاف القناع: 332/6.
(4) بداية المجتهد: 454/2، الدردرير: 146/4 ومابعدها، مغني المحتاج: 118/4، 150، المهذب: 301/2، 318.
(5) البدائع: 286/7، الكتاب مع اللباب: 172/3، تبيين الحقائق: 169/6، الدر المختار: 442/5.
(7/702)
المبحث الثاني ـ إثبات القتل بطريق خاص ـ القَسامة:
وفيه ثمانية مطالب: معنى القسامة، ومشروعيتها، وآراء الفقهاء في شرعيتها، ومحل القسامة (الجريمة التي تجوز فيها) ومتى تكون، وشروطها، وكيفيتها، ومن تجب عليه، وحكمها أو ما يجب بها.
المطلب الأول ـ معنى القسامة:
القسامة لغة: مصدر بمعنى القسم أي اليمين. وشرعاً: هي الأيمان المكررة في دعوى القتل، وهي خمسون يميناً من خمسين رجلاً. يقسمها عند الحنفية (5) : أهل المحلَّة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم، لنفي تهمة القتل عن المتهم، فيقول الواحد منهم: بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلاً. فإذا حلفوا غرموا الدية. وعند الجمهور غير الحنفية (1) : يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني، بأن يقول كل واحد منهم: بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان. فإن نكل بعضهم (أي ورثة القتيل) عن اليمين، حلف الباقي جميع الأيمان، وأخذ حصته من الدية. وإن نكل الكل أو لم يكن هناك لوث (قرينة على القتل أو العداوة الظاهرة) ترد اليمين على المدعى عليه ليحلف أولياؤه خمسين يميناً. فإن لم يكن له أولياء (عاقلة) حلف المتهم (الجاني) الخمسين، وبرئ.
وإذا حلف أولياء القتيل وجب عند المالكية القصاص في حالة العمد، والدية في الخطأ. وتجب الدية فقط في كل الحالات عند الشافعية، على ما سأبين، وأوجب الحنابلة القصاص في دعوى القتل عمداً، والدية في القتل شبه العمد أو الخطأ.
فهل القسامة إذن دليل نفي أو دليل إثبات؟
قال الحنفية: القسامة دليل لنفي التهمة عن المدعى عليهم. وقال الجمهور: إنها دليل للمدعين لإثبات تهمة القتل على القاتل إذا لم تتوافر وسائل الإثبات الأخرى.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 293/4، بداية المجتهد: 421/2، مغني المحتاج: 109/4، 114، المهذب: 318/2، المغني: 68/8، كشاف القناع: 66/6 وما بعدها، 76.
(7/703)
المطلب الثاني ـ مشروعية القسامة وحكمة التشريع وسبب وجوب القسامة:
كانت القسامة معروفة في الجاهلية، وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة. وثبتت مشروعية القسامة بالسنة في أحاديث متعددة، منها: ما رواه رجل من الأنصار: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية» (1) .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» (2) .
وروى الجماعة عن سهل بن أبي حَثْمة قال: «انطلق عبد الله بن سهل، ومُحَيِّصة بن مسعود إلى خيبر، وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل، وهو يتشحّط في دمه (3) قتيلاً، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومُحَيِّصة وحُوَيِّصة ابنا مسعود إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبِّر كبِّر (4) ، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما، قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم (5) ؟ فقالوا: وكيف
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار (نيل الأوطار: 34/7) .
(2) رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 39/7) .
(3) هو الاضطراب في الدم.
(4) أي دع من هو أكبر منك سناً يتكلم.
(5) فيه دليل على مشروعية القسامة. وإليه ذهب جمهور الصحابة والتابعين والعلماء من الحجاز والكوفة والشام، كما حكى القاضي عياض. وهي أصل مستقل من أصول الشريعة لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة، وفيها حفظ للدماء وزجر للمعتدين.
(7/704)
نحلف، ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرِّئكم يهود بخمسين يميناً (1) ، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلّى الله عليه وسلم من عنده» (2) .
وفي لفظ آخر: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم» أي يقتص لكم من قاتله.
والحكمة من تشريع القسامة: هي أنها شرعت لصيانة الدماء وعدم إهدارها، حتى لا يهدر (أو يطل) دم في الإسلام، وكيلا يفلت مجرم من العقاب، قال علي لعمر فيمن مات من زحام يوم الجمعة أو في الطواف: «يا أمير المؤمنين، لا يُطلُّ دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعطه ديته من بيت المال» .
وأما إلزام عصبة أو عاقلة المتهم بالقتل بالقسامة والدية عند الحنفية (3) فبسبب وجود التقصير منهم في الحفاظ على حياة القتيل قبل قتله في الموضع الذي وجد فيه، ولعدم نصرته أو حمايته من اعتداء الجاني عليه، كما في القتل خطأ، كأنهم شُرطة، وبما أن حفظ المحلة عليهم ونفع ولاية التصرف في المحلة عائد إليهم، فهم مسؤولون، والخراج بالضمان على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام (4) .
ويلاحظ أن إيجاب الدية بعد القسامة ليس هو الهدف الأصلي من القسامة وإنما الغرض الحقيقي منها: هو إظهار جريمة القتل، وتطبيق القصاص عندما يحس الحالفون بخطورة اليمين، ويتحرجون من حلف اليمين الكاذبة، فيقرون بالقتل، فإذا حلفوا برئوا من القصاص، وثبتت الدية لئلا يهدر دم القتيل، وعلى هذا فإن القسامة لم تشرع لإيجاب الدية إذا نكلوا عن الأيمان.
وإنما شرعت لدفع التهمة بالقتل، وأما الدية فلوجود القتيل بين أظهرهم. وإلى هذا المعنى أشار عمر حينما قيل: «أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم فلحقن دمائكم، وأما أموالكم فلوجود القتيل بين أظهركم» . ومن نكل من عصبة القاتل عن اليمين حبس حتى يحلف؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم، فيجمع بينه وبين الدية، وذلك بعكس النكول عن اليمين في الأموال؛ لأن الحلف فيها بدل عن أصل حق صاحب المال (المدعي) ، ولهذا يسقط اليمين ببذل المدعى به. وأما أيمان القسامة فلا تسقط ببذل الدية؛ لأنها واجب أصلي لإظهار القصاص، وليست بدلاً عن حق.
__________
(1) أي يخلصونكم عن الأيمان بأن يحلفوا، فإذا حلفوا انتهت الخصومة.
(2) نيل الأوطار: 34/7. فعقله النبي صلّى الله عليه وسلم أي وداه بمئة من إبل الصدقة كما جاء في لفظ لأحمد.
(3) البدائع: /7 290، اللباب شرح الكتاب: 172/3.
(4) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة وضعفه البخاري وصححه الترمذي وغيره.
(7/705)
المطلب الثالث ـ آراء الفقهاء في شرعية القسامة:
أقر فقهاء المذاهب الأربعة والشيعة والظاهرية مشروعية القسامة لثبوتها بالسنة النبوية، كما تقدم.
وروى القاضي عياض عن جماعة السلف (منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن عُلَيَّة ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه) أن القسامةغير ثابتة، لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه (1) :
منها ـ أن اليمين لا تجوز إلا على ما علم قطعاً أوشوهد حساً.
ومنها ـ أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
ومنها ـ أن حديث سهل السابق الوارد بها ليس فيه حكم بها، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية، فتلطف بهم النبي صلّى الله عليه وسلم ليريهم كيفية بطلانها.
والجواب: أن القسامة ثبتت بحديث خاص، فلا يترك العمل بها من أجل الدليل العام، فتكون مخصصة له، لما فيها من حفظ الدماء، وزجر المعتدين، وتعذر قيام الشهادة على القتل حيث يرتكبه القاتل غالباً في الخفاء، وأما دعوى أن النبي قال ذلك للتلطف بهم في بيان بطلانها، فمردود، لثبوتها في أحاديث ووقائع أخرى، منها حديث أبي سلمة المتقدم الذي أقر به النبي صلّى الله عليه وسلم القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.
__________
(1) نيل الأوطار: 36/7، بداية المجتهد: 419/2.
(7/706)
المطلب الرابع ـ محل القسامة ومتى تكون؟
لا تكون القسامة إلا في جريمة القتل فقط أياً كان نوع القتل عمداً أو خطأ أو شبه عمد، دون بقية الاعتداءات على النفس من قطع أو جرح أو تعطيل منفعة عضو؛ لأن النص ورد في القتل، فيقتصر في القسامة على محل ورودها، وعلى هذا تثبت الجراح بالاعتراف والشهادة، ولا قسامة في الجراح.
كما لا تكون عند الحنفية (1) إلا إذا كان القاتل مجهولاً، فإن كان معلوماً فلا قسامة، ويجب حينئذ القصاص أو الدية.
ولا تكون القسامة عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) إلا إذا كان هناك لوث (أو لطخ، أو شبهة) ولم توجد بينة للمدعي في تعيين القاتل، ولا إقرار.
واللوث كما عرفه المالكية: هو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بوقوع المدعى به، أو الأمر الذي ينشأ عنه غلبة الظن بأنه قتل. وذكروا له أمثلة خمسة يظهر منها تعيين القاتل بدليل غير كاف لإثبات القتل، وهي:
1 - أن يقول المجروح المُدمى البالغ الحر المسلم: دمي عند فلان، مع وجود الجرح وأثر الضرب، أو يقول: قتلني فلان، سواء أكان الْمُدمى عدلاً أم فاسقاً (مسخوطاً) . والتدمية في العمد لوث باتفاق المالكية. وفيها قولان في الخطأ، أرجحهما أنها لوث.
2 - شهادة عدلين على معاينة الضرب أو الجرح، أو على إقرار المُدمى في المثال الأول.
3 - شهادة واحد على معاينة الجرح أوالضرب.
4 - شهادة واحد على معاينة القتل.
5 - أن يوجد القتيل، وبقربه شخص عليه أثر القتل.
__________
(1) البدائع: 288/7، تكملة فتح القدير: 383/8، تبيين الحقائق: 169/6.
(2) الشرح الكبير للدردير: 287/4، بداية المجتهد: 422/2، مغني المحتاج: 111/4 ومابعدها، نهاية المحتاج: 105/7، المهذب: 318/2 ومابعده، المغني: 68/8، كشاف القناع: 68/6، القوانين الفقهية: ص 349.
(7/707)
وعرفه الشافعية: بأنه قرينة حالية أو مقالية لصدق المدعي، أو هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، كأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في مَحَلَّة، أو قرية صغيرة، بينها وبين قبيلة المقتول عداوة دينية أو دنيوية، ولا يعرف قاتله، ولا بينة بقتله. أو وجد قتيل تفرق عنه جمع كأن ازدحموا على بئر أو على باب الكعبة، ثم تفرقوا عن قتيل، لقوة الظن أنهم قتلوه، ولا يشترط هنا كونهم أعداء، لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل. وإلا لم تسمع الدعوى ولا قسامة. والتحام قتال بين صفين أو وصول سلاح في أحدهما للآخر: لوث في حق الصف الآخر، وشهادة العدل الواحد أو النساء، وقول فسقة وصبيان وكفار: لوث في الأصح. وعرف الحنابلة اللوث: بأنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، لنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وما يكون بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله، فإن لم تكن عداوة ظاهرة بين المتهم والمقتول ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرق جماعة عن قتيل أو في زحام أو شهد نساء وصبيان وفساق أو عدل فليس لوثاً. وإن ادعى شخص القتل من غير وجود عداوة، فلا بد من تعيين المدعى عليه. وإذا رفعت الدعوى على عدد غير معين لم تسمع الدعوى، كما قال الشافعية.
وبهذا يظهر أن المالكية يرون أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثاً، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل، وبين أهل المحلة. ويعتبرون ادعاء المجني عليه على المتهم قبل وفاته لوثاً، وهذا هو التدمية في العمد: وهو قول المقتول: فلان قتلني أو دمي عند فلان. ولا يعتبره الشافعية وسائر العلماء لوثاً. والإشاعة المتواترة على ألسنة الخاص والعام أن فلاناً قتله: لوث عند الشافعية، وليست لوثاً عند المالكية.
والخلاصة أن اللوث: هو أمارة غير قاطعة على القتل، ولكن حالات اللوث مختلف فيها بين الجمهور.
(7/708)
المطلب الخامس ـ شروط القسامة:
اشترط الحنفية (1) في القسامة سبعة شروط هي ما يأتي:
1ً - أن يكون بالقتيل أثر القتل من جراحة أو أثر ضرب أو خنق، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا قسامة فيه ولا دية، لأنه إذا لم يكن به أثر القتل، فالظاهر أنه مات حتف أنفه، فلا يجب به شيء. فإذا وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه أو دبره، أو ذكره، لا شيء فيه؛ لأن الدم يخرج من هذه المواضع عادة بدون الضرب، وإنما بسبب القيء أو الرعاف ونحوهما، فلا يعرف كونه قتيلاً.
وإن كان الدم يخرج من عينه أو أذنه، ففيه القسامة والدية؛ لأن الدم لا يخرج من هذه المواضع عادة، فكان خروجه بسبب القتل. وعلى هذا لا يشترط الحنفية: اللوث، وإنما يكفي أن توجد الجثة في محلها وبها أثر القتل.
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (2) : يشترط للقسامة وجود لوث، ولكن ليس من شرط اللوث قرينة القتل أن يكون بالقتيل أثر، بل لا بد من تحقق الموت قتلاً بسبب، لا قضاءً وقدراً محضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار في قتيل خيبر، هل كان بقتيلهم أثر أو لا، ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كالخنق وعصر الخصيتين. ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أوصرعته أو يقتل نفسه.
2ً - أن يكون القاتل مجهولاً، فإن علم فلا قسامة فيه، ولكن يجب القصاص بشروطه في القتل العمد، وتجب الدية في شبه العمد والخطأ ونحوهما.
3ً - أن يكون القتيل من بني آدم، فلا قسامة في بهيمة وجدت في محلة قوم، ولا غرم فيها.
4ً - رفع الدعوى إلى القضاء من أولياء القتيل؛ لأن القسامة يمين، واليمين لاتجب من دون الدعوى، كما في كل الدعاوى.
__________
(1) البدائع: 287/7-290، الكتاب مع اللباب: 173/3، تبيين الحقائق: 171/6، الدر المختار: 443/5 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 287/4، مغني المحتاج: 111/4، المغني: 71/8، القوانين الفقهية: ص349.
(7/709)
واشترط المالكية والشافعية والحنابلة (1) اتفاق الأولياء على الدعوى، فإن اختلفوا لم تثبت القسامة. وعبر الشافعية عن ذلك بقولهم: ألا تتناقض دعوى المدعي، فلو ادعى على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه أو أنه القاتل منفرداً، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الدعوى الأولى (2) .
5ً - إنكار المدعى عليه؛ لأن اليمين وظيفة المنكر، فإن اعترف فلا قسامة.
6ً - المطالبة بالقسامة؛ لأنها أيمان، واليمين حق المدعي، وحق الإنسان يوفى عند طلبه، كما في سائر الأيمان. ولهذا يختار أولياء القتيل من يتهمونه. ولو طولب من عليه القسامة، فنكل عن اليمين حبس حتى يحلف أو يقر؛ لأن اليمين حق مقصود بنفسه، لا أنه وسيلة إلى المقصود، وهو الدية، بدليل أنه يجمع بينه وبين الدية. قال الحارث بن الأزمع لسيدنا عمر رضي الله عنه: «أنبذل أيماننا وأموالنا؟ فقال: نعم» . وذلك بخلاف اليمين في سائر الحقوق فإنها ليست مقصودة بنفسها، بل هي وسيلة إلى المقصود، وهو المال المدعى، فلا يجمع بينهما، فلو حلف المنكر أو المدعى عليه برئ.
__________
(1) المغني: 71/8 وما بعدها، كشاف القناع: 70/6، مغني المحتاج: 110/4، الدردير: 288/4.
(2) هذا وقد اشترط الشافعية في كل دعوى بدم أو غيره كغصب وسرقة وإتلاف ستة شروط وهي ما يأتي:
1ً - أن يكون محل الدعوى معلوماً غالباً بأن يفصّل المدعي ما يدعيه من عمد وخطأ وشبه عمد، ومن انفراد وشركة وعدد الشركاء.
2ً - أن يكون موضوع الدعوى ملزماً، فلا تسمع دعوى هبة شيء أو بيعه أوإقراره به حتى يقول: وقبضته بإذن الواهب، ويلزم البائع أو المقر التسليم إلي.
3ً - أن يعين المدعي في دعواه المدعى عليه، واحداً كان أو جمعاً معيناً كثلاثة حاضرين.
4ً - أن يكون المدعي مكلفاً (بالغاً عاقلاً) حالة الادعاء، فلا تسمع دعوى صبي ولا مجنون، ولا سكرانٍ متعدٍ بسكره.
5ً - أن يكون المدعى عليه أيضاً مكلفاً مثل المدعي، فلا تصح الدعوى على صبي ومجنون.
6ً - ألا تتناقض دعوى المدعي (راجع مغني المحتاج: 109/4 وما بعدها) .
(7/710)
7ً - أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكاً لأحد الناس، أو في حيازة أحد، وإلا فلا قسامة ولا دية؛ لأن كل واحدة منهما تجب بترك الحفظ اللازم، فإذا لم يكن المحل ملك أحد أو في يد أحد، لا يلزم أحد بحفظه، فلا تجب القسامة والدية. وإنما تجب الدية في بيت المال؛ لأن حفظ المكان العام على العامة أو الجماعة، ومال بيت المال مالهم.
وتطبيقات ذلك في الأمثلة التالية (1) :
ـ إذا وجد قتيل في فلاة (صحراء أو برية) من الأرض، ليست ملكاً لأحد، فإن كان موضعه في مكان يسمع فيه الصوت من قرية أوبلد، فعليهم القسامة. وإن كان في مكان لا يسمع فيه الصوت، فلا قسامة فيه ولا دية على أحد. وإنما تؤخذ ديته من بيت المال.
ـ إن وجد القتيل في وسط نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل، وكان يجري على سطح الماء، فلا قسامة ولا دية على أحد؛ لأن النهر العظيم ليس ملكاً لأحد، ولا في يد أحد. وإنما تجب الدية في بيت المال.
وأما إذا لم يكن يجري على سطح الماء، وكان محتبساً بالشاطئ (جانب النهر) أو في جزيرة، فالقسامة على أقرب القرى من ذلك المكان إذا كانوا يسمعون الصوت؛ لأنهم مسؤولون عن نصرة هذا الموضع، وهو تحت تصرفهم، فكان في أيديهم.
وأما إن وجد في نهر صغير، فالقسامة والدية على أهل النهر؛ لأن النهر مملوك لهم.
__________
(1) البدائع: 289/7 ومابعدها، اللباب: 174/3-176، تكملة فتح القدير: 392/8-396، الدر المختار: 445/5 وما بعدها، 448.
(7/711)
ـ ولا قسامة في قتيل يوجد في المساجد الجامعة العامة، أو الشوارع أوالجسور أو الأسواق العامة، أو في السجن؛ لأن هذه الأماكن ليست مملوكة لأحد، ولا في يد أحد. والدية في بيت المال.
فإن كان في مسجد مَحلَّة، فالقسامة على أهلها.
ـ وإن وجد القتيل في سفينة، فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين؛ لأنها في أيديهم.
والسيارة أو العربة مثل السفينة.
وإذا وجد القتيل على دابة، ومعها رجل قائد أو سائق أو راكب، فالقسامة عليه، والدية على عاقلته، دون أهل المحلة؛ لأنها في يده.
ومثله، لو وجد القتيل في دار إنسان: القسامة عليه، والدية على عاقلته.
فإن وجد على دابة تسير، وليس في يد أحد، فلا قسامة ولا دية، وإنما الدية على بيت المال.
ـ وإن وجد القتيل بين قريتين، بحيث يبلغ الصوت أهل كل منهما، ليتمكنوا من النصرة، فالقسامة والدية على أقربهما إليه.
والخلاصة: أن كل مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين لا لواحد منهم ولا لجماعة يحصون، لا قسامة ولا دية على أحد، وإنما الدية على بيت المال؛ لأن الغرم بالغنم.
(7/712)
المطلب السادس ـ كيفية القسامة (صيغتها وحالفها) :
اختلف الفقهاء فيمن يبدأ بحلف الأيمان الخمسين، هل المدعون أو المدعى عليهم؟
1ً - قال الحنفية (1) : يبدأ بتحليف المدعى عليهم، كما هو الأصل في أن اليمين على المدعى عليه، ويتخيرهم ولي الدم؛ لأن اليمين حقه، فيختار من يتهمه بالقتل، فيحلف كل واحد منهم: «بالله ما قتلته، ولاعلمت له قاتلاً» .
واستدلوا بما أخرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار: «أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حَثْمة» روى حديثاً وفيه «فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تأتون بالبينة على من قتله؟ قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة» (2) .
واحتجوا أيضاً بما أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ليهود، وبدأ بهم: يحلف منكم خمسون رجلاً (أي خمسين يميناً) فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله؟! فجعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية على يهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم» (3) .
واستدل الكاساني (4) بما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال عليه الصلاة والسلام: اجمع منهم خمسين، فيحلفون بالله: ما قتلوه، ولا علموا له قاتلاً، فقال: يا رسول الله، ليس لي من أخي إلا هذا؟ فقال: بل لك مئة من
__________
(1) البدائع: 286/7، اللباب مع الكتاب: 172/3، تبيين الحقائق: 170/6
(2) نصب الراية: 392/4
(3) نصب الراية، المكان السابق، قال ابن رشد في بداية المجتهد: 421/2: وهو حديث صحيح الإسناد؛ لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن.
(4) البدائع: 286/7.
(7/713)
الإبل» (1) فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم، وهم أهل المحلة، وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة.
فإن حلفوا قضي عليهم (أي على أهل المحلة) بالدية في القتل العمد، وعلى عاقلتهم (عاقلة أهل المحلة) في القتل الخطأ.
وإن امتنع المدعى عليهم أو بعضهم عن الحلف، حبسوا حتى يحلفوا؛ لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها، تعظيماً لأمر الدم (2) .
2ً - وقال المالكية والشافعية والحنابلة وداود الظاهري (3) : يبدأ المدعون أولياء القتيل بالأيمان الخمسين، عملاً بحديث سهل بن أبي حثمة المتقدم، وفيه: «أتحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم؟» فيحلف كل ولي (بالغ عاقل) منهم أمام الحاكم والمدعى عليه، وفي المسجد الأعظم بعد الصلاة عند اجتماع الناس: «بالله الذي لا إله إلا هو: لقد ضربه فلان فمات، أو لقد قتله فلان» . ويشترط أن تكون اليمين قاطعة (على البت) في ارتكاب المتهم الجريمة.
ويشترط عند المالكية (4) أن تكون الأيمان متوالية، فلا تفرق على أيام أوأوقات؛ لأن للموالاة أثراً في الزجر والردع.
ولا يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة (5) موالاتها؛ لأن الأيمان من جنس الحجج، والحجج يجوز تفريقها، كما لو شهد الشهود متفرقين.
فإذا لم يحلف المدعون، حلف المدعى عليه خمسين، وبرئ، فيقول: «والله ما قتلته، ولا شاركت في قتله، ولا تسببت في موته» لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم.
__________
(1) هذا الحديث غريب كما قال الزيلعي في نصب الراية: 393/4 ومابعدها.
(2) البدائع: 289/7، اللباب مع الكتاب: 172/3، تكملة فتح القدير: 388/8، تبيين الحقائق: 170/6.
(3) بداية المجتهد: 421/2، الدردير: 289/4 ومابعدها، 293، مغني المحتاج: 114/4-116، المغني: 68/8، 77، كشاف القناع: 8/6، القوانين الفقهية: ص 348.
(4) الدردير: 293/4.
(5) مغني المحتاج: 115/4، كشاف القناع: 76/6.
(7/714)
فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، برئ المتهم، وكانت دية القتيل في بيت المال عند الحنابلة (1) ، خلافاً للمالكية والشافعية.
وإن نكل (امتنع) المدعى عليه عن اليمين، ردت الأيمان عند الشافعية (2) على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليه، وإن لم يحلفوا لا شيء لهم.
وعند المالكية (3) : من نكل من المدعى عليهم، حبس حتى يحلف أو يموت في السجن، وقيل: يجلد مئة ويحبس عاماً.
ولا يحبس عليها عندالحنابلة (4) كسائر الأيمان.
المطلب السابع ـ من تجب عليه القسامة (أو من يدخل القسامة) :
تجب القسامة على الورثة كلهم عند بعض الفقهاء وعلى بعض الورثة عند آخرين.
1ً - قال الحنفية (5) : الحالف هو المدعى عليه، وتجب أيمان القسامة على بعض الورثة وهم الرجال البالغون، فلا قسامة على صبي أو مجنون أو امرأة؛ لأن سبب وجوبها هو التقصير في النصرة، وعدم حفظ موضع القتل، وهؤلاء ليسوا أهلاً لذلك.
والصبي أو المجنون لا يدخل في القسامة في أي موضع وجد القتيل، سواء وجد في غير ملكه، أو في ملكه. أما اشتراكه في الدية مع العاقلة فيدخل معها إن وجد القتيل في ملكه؛ لأن وجوده في ملكه كمباشرته القتل، والصبي والمجنون مؤاخذان بضمان الأفعال المالي.
والمرأة لا تدخل في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير ملكها. أما إن وجد في دارها أو في قرية لها، ليس بها غيرها، فعليها القسامة؛ لأنها أهل لليمين، فتستحلف وتكرر عليها الأيمان في قول الطرفين (أبي حنيفة ومحمد) . وقال أبو يوسف: لا قسامة عليها، وإنما على عاقلتها؛ لأنها ليست من أهل النصرة.
وتدخل المرأة مع العاقلة في الدية في هذه المسألة، استثناء من نظام العاقلة.
ولا يحلف ولي القتيل مع أهل المحلة، ولا يقضى له بالجناية بيمينه؛ لأن اليمين شرعت للدفع، لا للاستحقاق.
__________
(1) المغني: 78/8.
(2) مغني المحتاج: 116/4.
(3) الشرح الكبير للدردير: 296/4، القوانين الفقهية: ص 348.
(4) المغني: 87/8.
(5) البدائع: 294/7، تكملة الفتح: 386/8، 389 ومابعدها، تبيين الحقائق: 171/6، الدر المختار: 444/6، 446 ومابعدها.
(7/715)
والقسامة والدية تجبان على الأقرب من عاقلة من وجد القتيل فيهم، فرب الدار وقومه أخص، ثم أهل المحلة، ثم أهل المصر. وقوم الشخص أو قبيلته يرتبون أيضاً: الأقرب فالأقرب.
ولا يدخل عند أبي حنيفة ومحمد السكان (كالمستأجرين والمستعيرين) مع الملاك في القسامة؛ لأن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان. وقال أبو يوسف: هي عليهم جميعاً؛ لأن ولاية التدبير تكون بالسكنى وبالملك. والقسامة عند الطرفين على أهل الخطة (1) دون المشترين، ولو بقي من أهل الخطة واحد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون؛ لأن ضمان الشيء إنما يجب بترك الحفظ، ممن له ولاية الحفظ، والولاية تتحقق بالملك، والكل هنا ملاك. ويظهر أن هذا الرأي في الظروف الحاضرة هو الأولى بالاتباع (2) .
وإذا حلف أهل المحلة وجبت الدية في مالهم إن كانت الدعوى في قتل عمد، وعلى عواقلهم إن كانت في قتل خطأ.
وإذا كان مكان وجود القتيل مملوكاً تجب القسامة على الملاك، والدية على عاقلتهم، وإذا لم يكمل أهل المحلة خمسين رجلاً، كررت الأيمان عليهم حتى يتم خمسون يميناً؛ لأنها الواجبة بالسنة، فيجب إتمامها ما أمكن. ولا يبحث عن فائدة تكرار الأيمان على هذا النحو، لثبوتها هكذا بالسنة.
2ً - والمالكية (3) فرقوا بين نوعي القتيل: العمد والخطأ، فقالوا:
في الخطأ: يحلف أيمان القسامة ورثة القتيل، وإن كان الوارث واحداً أوامرأة أو أخاً أو أختاً لأم، وإذا تعدد الورثة توزع الأيمان على قدر الميراث، ويجبر الكسر واحداً على صاحب الكسر الأكثر، وينتظر حضور الغائب حتى يحلف، والصبي حتي يبلغ، فيحلف حصته من أيمان القسامة فقط، وأخذ نصيبه من الدية. وإن نكل ورثة المقتول خطأ حلفت عاقلة القاتل، كل واحد منهم يميناً واحدة. فإن لم
__________
(1) الخِطة: ما اختط للبناء، والمراد هنا: ما خطه الإمام حين فتح البلدة وقسمها بين الغانمين. والمقصود بما خطه الإمام: أي ما أفرزه وميزه من أراض وأعطاه لأحد الناس.
(2) قال ابن عابدين في رد المحتار: 447/5: والحاصل أنه إذا كان في محلة أملاك قديمة وحديثة وسكان، فالقسامة على القديمة دون أخويها؛ لأنه إنما يكون ولاية تدبير المحلة إليهم. وإذا كان فيها أملاك حديثة وسكان فعلى الحديثة. وإذا كان سكان فلا شيء عليهم. قال في شرح الطحاوي: قيل هذا في عرفهم، وأما في عرفنا فعلى المشترين؛ لأن التدبير إليهم.
(3) الشرح الكبير: 293/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 348 ومابعدها.
(7/716)
يكن عاقلة حلف الجاني الخمسين وبرئ، فإن نكل غرم حصته، وإن نكل بعض الورثة حلف البعض الآخر جميع الأيمان، وأخذ حصته فقط من الدية.
ومن نكل من العاقلة يغرم حصته فقط من الدية للناكلين من ورثة القتيل.
وأما في القتل العمد: فيحلف العصبة من النسب، سواء ورثوا أم لا. ولا يحلف أقل من رجلين منهم. ولا يحلف النساء في العمد لعدم قبول شهادتهن فيه. فإن لم يوجد غيرالنساء، صار المقتول كمن لا وارث له، فترد الأيمان على المدعى عليه، فيحلف خمسين يميناً أنه: ما قتل.
3ً - وقال الشافعية (1) : يشترك جميع الورثة رجالاً ونساءً في أيمان القسامة، وتوزع الأيمان الخمسون عليهم بحسب أنصبائهم من الإرث. ويجبر الكسر للواحد.
4ً - وقال الحنابلة (2) : تختص الأيمان بالورثة الذكور المكلفين، وهم ذوو الفروض والعصبات على قدر إرثهم إن كانوا جماعة، ويجبر الكسر واحداً، وإن كان الوارث واحداً حلفها أي الخمسين يميناً، ولا يدخل في القسامة: النساء والصبيان والمجانين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون رجلاً منكم، وتستحقون دم صاحبكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها قتل العمد، فلا تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الصبي أو المجنون لا يثبت بقوله حجة، فلو أقر أحدهما على نفسه لم يقبل إقراره، فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى.
__________
(1) مغني المحتاج: 115/4.
(2) كشاف القناع: 74/6، المغني: 80/8.
(7/717)
المطلب الثامن ـ مايجب بالقسامة (أو الأثر المترتب عليها) :
اتفق الفقهاء على أن الدية تجب بالقسامة على العاقلة في القتل خطأ أو شبه عمد، مخففة في الأول، ومغلظة في الثاني.
أما في القتل العمد: فيرى الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد (1) : أنه لايجب القصاص، وإنما تجب الدية حالَّة في مال المقسم عليه (المتهم) ، لخبر البخاري: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب» فقد أطلق النبي صلّى الله عليه وسلم إيجاب الدية، ولم يفصل بين العمد والخطأ، ولو صلحت أيمان القسامة لإيجاب القصاص لذكره النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن القسامة حجة ضعيفة، مشتملة على شبهة؛ لأن اليمين تفيد غلبة الظن، فلا توجب القصاص، احتياطاً لأمر الدماء التي لا تراق بالشبهة، كالإثبات بالشاهد واليمين.
وقد روي إيجاب الدية عن عمر وعلي في قتيل وجد بين قريتين على أقربهما إليه.
وقال المالكية والحنابلة (2) : يجب القصاص بالقسامة في القتل العمد. لكن عند المالكية: إذا تعدد المتهمون لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد. وعند الحنابلة: لا قصاص إذا وجد مانع يمنع منه كعدم المكافأة. غير أن هذا القيد في كل قصاص.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 388/8، الدر المختار ورد المحتار: 446/5 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 172/3، مغني المحتاج: 116/4 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 423/2، الشرح الكبير للدردير: 288/4، 297، كشاف القناع: 76/6، المغني: 68/8 وما بعدها، 77، 85.
(7/718)
واستدلوا على إيجاب القصاص بخبر الصحيحين: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي دم قاتل صاحبكم (1) ، وفي رواية «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ مسلم: «فيسلَّم إليكم» ولأن القسامة حجة يثبت بها العمد، أي القصد بالاتفاق، فيثبت بها القصاص كشهادة الرجلين. وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحول: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف» .
انتهى الجزء السابع
ويتبعه الجزء الثامن
تتمة الفقه العام
الجهاد وتوابعه - القضاء
__________
(1) وأجاب الشافعي في الجديد عن الحديث بأن التقدير: بدل دم صاحبكم.
(7/719)
....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
.........................................الجزء الثامن.....................................
البَابُ الرَّابع: الجهاد وتوابعه
ويشتمل على أربعة فصول:
1 - حكم الجهاد وقواعده.
2 - انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات.
3 - حكم الأنفال والغنائم.
4 - حكم الأسرى والسبي.
الفَصْلُ الأوَّل: حكم الجهاد وقواعده
يتكلم الفقهاء عادة عن العلاقات الدولية العامة والخاصة بين المسلمين وغيرهم فيما يسمونه «كتاب السِّيَر» (1) . والسير: جميع سيرة، وهي السنة والطريقة، ويقصد بها هنا سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزواته، وذلك يشمل البحث في حقيقة الجهاد والمكفلين بالقتال وواجبات المسلمين قبل بدء المعركة وفي أثنائها وبعد انتهائها، وحكم المعاهدات من أمان وهدنة وعقد ذمة، وحكم الأنفال والغنائم وكيفية تقسيم خمس الغنيمة، وحكم أموال المسلمين التي استولى عليها الأعداء، وحكم الأسرى، وحكم المرتدين.
وسأذكر هنا هذه الموضوعات مجملة؛ لأن تفصيلها يحتاج إلى مؤلف ضخم (2) .
معنى الجهاد: الجهاد لغة: بذل الجهد وهو الوسع والطاقة: مأخوذ من الجهد بالضم، أوا لمبالغة في العمل: مأخوذ من الجهد بالفتح. واصطلاحاً عند الحنفية: هو الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله بالمال والنفس، قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم
__________
(1) السير: بكسر السين وفتح الياء. وللإمام محمد بن الحسن كتابان: «السير الكبير» و «السير الصغير» من كتب ظاهر الرواية، وقد وصفت بصفة المذكر لقيامها مقام المضاف الذي هو الكتاب.
(2) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي ـ رسالتنا التي حصلنا بها على درجة الدكتوراه في الحقوق بمرتبة الشرف الأولى مع التبادل مع الجامعات الأجنبية، ط ثالثة.
(8/1)
إن كنتم تعلمون} [التوبة:41/9] وقال سبحانه: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله، فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/9] (1) .
وعرفه غير الحنفية بما يقارب هذا التعريف، فقال الشافعية مثلاً: «هو قتال الكفار لنصرة الإسلام» (2) .
وأنسب تعريف للجهاد شرعاً أنه: بذل الوسع والطاقة في قتال الكفار ومدافعتهم بالنفس والمال واللسان.
فالجهاد يكون بالتعليم وتعلم أحكام الإسلام ونشرها بين الناس، وببذل المال، وبالمشاركة في قتال الأعداء إذا أعلن الإمام الجهاد، أخرج أبو داود عن أنس ابن مالك رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» .
فضل الجهاد ومنزلته في الإسلام:
الجهاد في الإسلام ذروة سنامه، وسياج مبادئه، وطريق الحفاظ على بلاد الإسلام والمسلمين. فهو من أهم مبادئ الإسلام العظمى؛ لأنه سبيل العزة والكرامة والسيادة، لهذا كان فريضة محكمة، وأمراً ماضياً إلى يوم القيامة، وما ترك قوم الجهاد إلا ذَلّوا وغُزوا في عقر دارهم وخذلهم الله، وسلط عليهم شرار الناس وأراذلهم.
__________
(1) البدائع: 97/7، فتح القدير: 276/4 وما بعدها، الدر المختار: 238/3.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب: 391/2، وانظر آثار الحرب للمؤلف: ص 31 وما بعدها.
(8/2)
قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} [الحج:78/22] {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيَقْتلون ويُقْتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111/9] .
ثم وردت أحاديث نبوية كثيرة تبين فضل الجهاد، وأنه أفضل الأعمال عند الله تعالى، سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» (1) . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» (2) .
والمجاهد الذي يجود أو يضحي بنفسه في سبيل الله، سبيل الجماعة والقيم العليا، يتمتع بالخلود والرفعة والمكانة في تاريخ البشرية وعند الله تعالى حيث يجعله في مصاف الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلْفهم ألاَّ خوف عليهم ولا هم يحزنون} [آل عمران:169/3-170] .
ولقد تمنى نبي الله أن يحوز درجة الشهادة في سبيل الله، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله، فأُقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» (3) وقال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن» (4) . بل إن الشهيد نفسه يتمنى
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(8/3)
العودة إلى دار الدنيا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (1) .
وعقد الرسول الكريم مقارنة دقيقة بين قتلى الحرب فقال (2) : «القتلى ثلاثة رجال: رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، ذلك الشهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قَرَف (3) على نفسه من الخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك مصمصة (4) محت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء للخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أسفل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق» (5) .
فريضة الجهاد:
إن لم يكن النفير عاماً: فالجهاد فرض كفاية، ومعناه أنه يفترض على جميع من هو أهل للجهاد، لكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لقوله عز وجل: {فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاًّ وعد الله
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه.
(2) راجع كتاب الجهاد لعبد الله بن المبارك: ص30.
(3) قرف الذنب واقترفه، إذا كسبه وعمله.
(4) أي مطهرة من دنس الخطايا.
(5) أخرجه من حديث عتبة بن عبد السلمي الدارمي، والطيالسي، وابن حبان والبيهقي وأحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح خلا أبا المثنى، المملوكي وهو ثقة.
(8/4)
الحسنى} [النساء:95/4] الله سبحانه وعد الحسنى كلاًّ من المجاهدين والقاعدين عن الجهاد، ولو كان الجهاد فرض عين لما وعد القاعدين الحسنى؛ لأن القعود يكون حراماً.
وقوله سبحانه: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة:122/9] الآية، ولأن المقصود من الجهاد ـ وهو الدعوة إلى الإسلام، وإعلاء الدين الحق، ودفع شر الكفرة وقهرهم ـ يحصل بقيام البعض به، فإذا قاموا به يسقط عن الباقين.
وإن ضعفوا عن مقاومة الكفرة، فعلى من يجاورهم من المسلمين، الأقرب، فالأقرب: أن يجاهدوا معهم وأن يمدوهم بالسلاح والمال.
ولا يجوز للمرأة الاشتراك في الجهاد إلا بإذن زوجها؛ لأن القيام بحقوق الزوجية فرض عين، كما لا يجوز الجهاد للولد بدون إذن أبويه أو أحدهما إذا كان الآخر ميتاً؛ لأن بر الوالدين فرض عين، فيكون مقدماً على فرض الكفاية.
وأقل الجهاد عند توافر القوة مرة في السنة كإحياء الكعبة، ولقوله تعالى: {أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين} [التوبة:126/9] قال مجاهد: نزلت في الجهاد ولفعله صلّى الله عليه وسلم منذ أمر به.
وكان الجهاد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرض كفاية، لقوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} ـ إلى قوله تعالى - {وكلاً وعد الله الحسنى} [النساء:4/95] ففاضل سبحانه وتعالى بين المهاجرين والقاعدين، ووعد كلاً الحسنى، والعاصي لا يوعد بها، ولا يفاضل بين مأجور ومأزور. وأما بعد النبي صلّى الله عليه وسلم فللكفار حالان: أحدهما ـ يكونون ببلادهم ففرض كفاية إذا فعله من فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين.
(8/5)
الثاني ـ يدخلون بلدة لنا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن، فإن عجزوا وجب القتال على من بقربهم دون مسافة القصر من البلدة كأهلها، ثم يلزم من بعد ذلك بقدر الكفاية دفعاً عنهم وإنقاذاً لهم. والتقييد بقدر الكفاية دال على أنه لا يجب على الجميع الخروج للقتال، بل إذا صار إليه قوم فيهم كفاية، سقط الحرج عن الباقين (1) .
فإن كان النفير عاماً: كأن هجم العدو على بلد إسلامي: فالجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين، لقوله سبحانه وتعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة:41/9] قيل: نزلت في النفير. وقوله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} [التوبة:120/9] فإذا عم النفير خرجت المرأة بغير إذن زوجها، وجاز للولد أن يخرج بدون إذن والديه.
ويتعين الجهاد في ثلاثة أحوال (2) :
الأول ـ إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} [الأنفال:45/8] .
الثاني ـ إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم.
الثالث ـ إذا استنفر الإمام قوماً، لزمهم النفير معه، لقول الله تعالى:
__________
(1) مغني المحتاج: 208/4 - 219، المغني: 348/8.
(2) المغني: 346/8.
(8/6)
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة:38/9] وللحديث المتفق عليه: «إذا استنفرتم فانفروا» .
وهذا الحكم المذكور في فرضية الجهاد باتفاق الفقهاء (1) .
شروط الجهاد: يشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط (2) : الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة.
فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع الشرعية. وأما الحرية؛ فلأن النبي كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد.
وأما الذكورة فلحديث عائشة عند البخاري وغيره: «قلت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ فقال: لكن أفضل الجهاد: حج مبرور» . وأما السلامة من الضرر أي العمى والعرج والمرض، فلقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج} [النور:61/24] . وأما وجود النفقة فلقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولاعلى المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/9] ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة، فتطلب القدرة عليها. وهذا كان في الماضي، وأما في عصرنا فالدولة تمد المجاهد بالسلاح والنفقة.
المكلفون بالجهاد: يفترض الجهاد على القادر عليه، فمن لا قدرة له لا جهاد عليه، فلا يطالب بالجهاد: الأعمى، والأعرج، والمريض مرضاً مزمناً أو غير
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 98، تبيين الحقائق: 241/3، فتح القدير: 278/4، الدر المختار: 239/3، آثار الحرب: ص 87.
(2) المغني: 347/8.
(8/7)
مزمن، والمقعد (1) والشيخ الهرم، والضعيف والأقطع (2) والذي لا يجد ما ينفق، والصبي، والمرأة والعبد؛ لأن الأخيرين مشغولان بخدمة الزوج والسيد؛ ولأن الصبي غير مكلف، وليس أهلاً للقتال، بدليل ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «عُرضتُ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في المقاتلة» الحديث. وأما كون الباقين لاقتال عليهم فلعجزهم، وقد نزل فيهم قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج ... } [النور:61/24] الآية نزلت في أصحاب الأعذار حين همّوا بالخروج مع النبي صلّى الله عليه وسلم حين نزلت آية التخلف عن الجهاد. وقال سبحانه: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة:91/9] (3) .
ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها إلا أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، لصيرورة القتال حينئذ فرض عين.
ولا يقاتل الولد إلا بإذن أبويه، إلا إذا صار الجهاد فرض عين، جاء في الصحيحين: «أن رجلاً استأذن النبي صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» .
ما يجب قبل القتال: أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك، وينبغي أن يبتدئ بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون
__________
(1) المقعد كما في المغرب: هو الذي أقعده الداء عن الحركة. وقيل: المقعد: المتشنج الأعضاء. والزمِن: الذي طال مرضه.
(2) هو المقطوع اليد.
(3) المراجع السابقة، البدائع: ص 98 وما بعدها، تبيين الحقائق: ص 241، فتح القدير: ص283، الدر المختار: ص 241.
(8/8)
من بإزائهم من المشركين، ويأمر بإعداد الحصون وحفر الخنادق، وجميع المصالح. ويؤمِّر في كل ناحية أميراً يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد (1) . فإذا ساءت العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الكفار ووجدت دواعي القتال، وقرر الحاكم المسلم خوض المعركة مع العدو، فيجب حينئذ إنذار العدو بإعلان الجهاد أوإبلاغ الدعوة الإسلامية.
واختلف الفقهاء في حكم إبلاغ الدعوة على ثلاثة آراء:
الأول ـ يجب قبل القتال تقديم الدعوة الإسلامية مطلقاً، أي سواء بلغت الدعوة العدو أم لا، وبه قال مالك والهادوية والزيدية، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/48] .
الثاني ـ لا يجب ذلك مطلقاً، وهو رأي قوم كالحنابلة.
الثالث ـ تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام، فإن انتشر الإسلام، وظهر كل الظهور، وعرف الناس لماذا يُدعون، وعلى ماذا يقاتلون، فالدعوة مستحبة تأكيداً للإعلام والإنذار، وليست بواجبة، وهذا رأي جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والإباضية. قال ابن المنذر: هو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث (2) .
من الأحاديث التي توجب الإبلاغ: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «ما قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم» (3) وما رواه سليمان بن
__________
(1) المغني: 352/8.
(2) راجع آثار الحرب للمؤلف، الطبعة الثالثة: ص 152 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص35.
(3) رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى والطبراني وعبد الرزاق، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 304/5: ورجاله رجال الصحيح (راجع نيل الأوطار: 230/7 وما بعدها، نصب الراية: 378/3) .
(8/9)
بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصيته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً.. ثم قال: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم ... فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ... » الحديث (1) .
ومن الأحاديث التي لا توجب الإبلاغ أو الدعوة إلى الإسلام: ما روي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغار على بني المُصطَلِق وهم غارّون (أي غافلون) وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم (2) . ومنها ما رواه أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: «أغر على أبنى (3) صباحاً، وحرّق» (4) والغارة لا تكون مع الدعوة.
الحديثان الأولان وغيرهما يعتبران الدعوة إلى الإسلام شرطاً في جواز القتال، والحديثان الآخران يجيزان الإغارة على العدو بدون دعوة جديدة، نظراً لأنه سبق له بلوغ الدعوة، وإزاء هذا التعارض في الظاهر قال أرباب الرأي الأول والثاني: إن بعض الأحاديث ينسخ بعضها، أو يخصص الفعل بزمن النبوة.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري، وصححه الترمذي (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق، جامع الأصول: 201/3، نصب الراية: 380/3، سبل السلام: 46/4، الإلمام: ص 484) .
(2) رواه أحمد والشيخان (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق، ص 232، جامع الأصول: 204/3، نصب الراية: 3ص 381، سبل السلام: ص 45، الإلمام: ص 486) .
(3) أبنى ـ كحبلى: موضع بفلسطين بين عسقلان والرملة.
(4) رواه أبو داود وابن ماجه (راجع سنن أبي داود: 352/1، سنن ابن ماجه: ص 209، نصب الراية: 382/3، نيل الأوطار: 250/7) .
(8/10)
وقال الجمهور: يلجأ إلى الجمع والتوفيق بين الأحاديث؛ لأنه لا يلجأ إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع بين الأدلة، وأما ادعاء التخصيص فلا دليل عليه.
فمن لم تبلغه الدعوة يجب دعاؤه إلى الإسلام، فإذا بلغته استحب ذلك (1) .
وعلى هذا، يجوز أن نبدأ العدو بالقتال والإغارة والبيات عليهم (2) ؛ لأنه قد وصلتهم أنباء الدعوة الإسلامية. وبه يتبين أنه يشترط فيمن نقاتلهم شرطين:
1 - ألا يكونوا مستأمنين أو معاهدين أو من أهل الذمة: لأن دماء هؤلاء معصومة مصونة، وقد حرم الشرع قتلهم، كما يأتي في المعاهدات.
2ً - إبلاغهم الدعوة الإسلامية وتعريفهم بالإسلام وبيان حقيقته وأهدافه وأسباب جهاد أعدائه. فإن توافر هذان الشرطان جاز قتالهم من دون إنذار سابق كما تقدم.
من يقتل ومن لا يقتل من الأعداء في المعركة: يجوز قتل المقاتلة الذين يشتركون في الحرب برأي أو تدبير أو قتال، ولا يجوز قتل غير المقاتلة من امرأة أو صبي أو مجنون أو شيخ هرم، أو مريض مقعد، أو أشل، أو أعمى، أو مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مقطوع اليد اليمنى، أو معتوه، أو راهب في صومعته، أو قوم في دار أو كنيسة ترهبوا، والعَجَزة عن القتال، والفلاحين في حرثهم إلا إذا قاتلوا بقول أو فعل أو رأي أو إمداد بمال، بدليل أن ربيعة بن رفيع السُّلَمي أدرك دريد بن الصِّمة يوم حنين، فقتله وهو شيخ كبير جاوز المئة، لا ينتفع إلا برأيه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه (3) . ويجوز قتل المرأة إذا كانت مَلِكة
__________
(1) آثار الحرب: ص 153 وما بعدها.
(2) البيات ـ بفتحتين: الإغارة ليلاً، يقال: بيَّت الأمر: دبره ليلاً.
(3) روي ذلك في الصحيحين عن أبي موسى (نيل الأوطار: 248/7) .
(8/11)
الأعداء؛ لأن في قتلها تفريقاً لجمعهم، وكذلك إذا كان ملكهم صبياً صغيراً وأحضروه معهم في المعركة، لا بأس بقتله إذا كان في قتله تفريق جمعهم.
وأما أدلة عدم جواز قتلهم إذا لم يقاتلوا: فمنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً» (1) وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النساء والصبيان» (2) . وقال لأحد صحابته: الحق خالداً فقل له: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفاً» (3) . وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال: «لا تقتلوا أصحاب الصوامع» (4) . وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلُّوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين» (5) .
هذا في حال الحرب والقتال. أما بعد انتهاء القتال وهو ما بعد الأسر والأخذ: فكل من لا يحل قتله في حال القتال لا يحل قتله بعد الفراغ من القتال، وكل من يحل قتله في حال القتال إذا قاتل يباح قتله بعد الأخذ والأسر إلا الصبي
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس ولفظه: «..ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً» (راجع مجمع الزوائد: 316/5) .
(2) رواه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر أنه قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلّى الله عليه وسلم، فنهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان» . ورواه الموطأ أيضاً، وفي رواية لأحمد وأبي داود: «ما كانت هذه لتقاتل» (راجع القسطلاني شرح البخاري: 142/5، سنن ابن ماجه: 101/2، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 319/2، نيل الأوطار: 246/7، جامع الأصول: 208/3 ومابعدها، نصب الراية: 386/3، مجمع الزوائد: 315/5) .
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن رباح بن ربيع (نيل الأوطار، المرجع السابق، جامع الأصول، المرجع السابق، مجمع الزوائد: ص 316، نصب الراية: ص 388) والذرية: الولدان. والعسيف: الأجير.
(4) أخرجه أحمد عن ابن عباس (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 247) .
(5) أخرجه أبو داود عن أنس (نيل الأوطار، المرجع السابق، ص 246، سنن أبي داود: 52/3، والمراجع السابقة) .
(8/12)
والمعتوه الذي لا يعقل، فإنه يباح قتلهما في حال القتال إذا قاتلا، ولا يباح قتلهما بعد الفراغ من القتال إذا أسرا، حتى وإن قتلا جماعة من المسلمين في القتال؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة، فأما القتل في حال القتال فلدفع شر المقاتل، فإذا وجد الشر منهما فأبيح قتلهما لدفع الشر، كما قال الكاساني (1) .
وينبغي للمسلمين ألا يغدروا (أي يخونوا بنقض العهد) ولا يغلُّوا (أي يسرقوا من الغنيمة) ولا يمثِّلوا بالأعداء: بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رؤوسهم ونحو ذلك. قال بعض الحنفية: وإنما تكره المُثْلة بعد الظفر بهم، أما قبله فلا بأس بها (2) .
هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة والشيعة الزيدية والشافعي في أحد قوليه) . وقال الشيعة الإمامية والظاهرية وابن المنذر والشافعي في أظهر قوليه: يجوز قتل من عدا النساء والصبيان (3) .
التدمير والتخريب: لا بأس عند الضرورة الحربية بإحراق حصون العدو بالنار، وإغراقها بالماء وتخريبها وهدمها عليهم، وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم، ونصب المجانيق (4) ونحوها من مدافع اليوم على حصونهم وهدمها، لقوله تعالى: {يُخرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} [الحشر:2/59] .
__________
(1) راجع البدائع: 101/7 وفي شرح اللباب على الكتاب: 210/4: لا بأس بقتل غير الصبي والمجنون بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة، الشرح الصغير: 275/2 وما بعدها، كشاف القناع: 44/3 وما بعدها.
(2) راجع الموضوع في آثار الحرب: ص 294 وما بعدها.
(3) راجع الموضوع في آثار الحرب: ص 494 وما بعدها.
(4) المجانيق: جمع منجنيق، وهي التي يرمى بها الحجارة.
(8/13)
ولأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة: وهي موضع بقرب المدينة، ولأن في إرسال الماء ونحوه كسر شوكتهم وتفريق جمعهم.
ولا بأس برميهم بالنبال ونحوها من وسائل القتال الحديثة، البرية والبحرية والجوية، وإن كان فيهم مسلمون من الأسارى والتجار؛ لأن رميهم ضرورة، ويقصد الكفار بالضرب لا المسلمين؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق.
وكذا يجوز ضرب الكفار إن تترسوا بأطفال المسلمين وأسراهم، للضرورة وسداً لذريعة الفساد التي قد تترتب على ترك قتلهم، لكن يقصد الكفار بالضرب كما ذكر. وإن أصيب مسلم فلا دية ولا كفارة. ولاينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عن عائشة ـ لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك» ؛ ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار (1) ، وقد أجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، أي وكانت القيادة للمسلمين. وقيد الشافعية ذلك أيضاً بالحاجة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم ـ استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، وتعاونت خزاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلم عام فتح مكة، وخرج قُزمان الظفري وهو من المنافقين مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك (2) .
__________
(1) البدائع: 100/7 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 117/4 وما بعدها.
(2) نيل الأوطار: 136/7، القسطلاني شرح البخاري: 170/5.
(8/14)
ما يجب على المجاهدين حال القتال: يجب على المجاهدين حال التحام القتال، وفي أثناء المعركة، الثبات أمام عدوهم إذا غلب على ظنهم أنهم يقاومونهم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً، لعلكم تفلحون} [الأنفال:45/8] وعلى المسلم أن يثبت أمام اثنين من الكفار، قال الله تعالى: {الآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله، والله مع الصابرين} [الأنفال:66/8] .
فإن غلب على ظن المقاتلين المسلمين أنهم سيُغلبون ويقتلون، فلا بأس أن يفروا من عدوهم منحازين إلى فئة يستنصرون بها من المسلمين. ولا عبرة بالعدد، حتى إن الواحد، إذا لم يكن معه سلاح، فلا بأس أن يفر من اثنين مسلحين، أو من واحد مسلح، أو بسبب عجز لمرض ونحوه، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً، فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة، فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال:16/8] (1) .
ويؤيده ما روى ابن عمر قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية قِبَل نجد، وأنا فيهم، فحاص المسلمون حيصة (يعني انهزموا من العدو) فلما قدمنا المدينة، قلنا: نحن الفرّارون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: بل أنتم العكّارون (2) في سبيل الله، أنا لكم فئة، لترجعوا معي إلى الجهاد في سبيل الله» (3) ، فهذا إقرار من الرسول صلوات الله وسلامه عليه لفعل هذه السرية التي لم تستطع متابعة القتال أمام قوة الأعداء، وإن كانت حالة الحرب ما زالت قائمة معهم.
ويحرم على المسلمين بيع أهل الحرب السلاح والكُرَاع (الخيول) ونحوها من وسائل القتال التي تقوي العدو كالحديد، ولا يتاجر بها إلى الأعداء (4) .
__________
(1) آثار الحرب: ص 750 وما بعدها، البدائع: 98/7 وما بعدها.
(2) العكارون: العطافون الراجعون إلى الجهاد مرة أخرى.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 222/3، نيل الأوطار: 252/7) .
(4) الكتاب مع اللباب: 123/4.
(8/15)
الفَصْلُ الثّاني: انتهاء الحرب بالإسلام أو بالمعاهدات
ينتهي القتال بطرق متعددة منها اعتناق الإسلام، أو عقد معاهدة مع المسلمين أو بالأمان.
المبحث الأول ـ انتهاء القتال بالإسلام:
الكلام هنا عن طرق الدخول في الإسلام، وعن أحكام إعلان الإسلام في ظروف القتال.
أما طرق الدخول في الإسلام، فمنها الصريح، ومنها الضمني، ومنها التبعي.
فإعلان الإسلام صراحة: يكون بالنطق بالشهادتين أو بالشهادة مع التبري من عقيدته السابقة. والكفار في هذا الأمر أصناف أربعة: صنف ينكرون وجود الله وهم الدُهرية، وصنف ينكرون وحدانية الخالق وهم الوثنية والمجوس، وصنف يقرون بوجود الله ووحدانيته إلا أنهم ينكرون النبوة والرسالة، وصنف ينكرون فقط رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم.
فإن كان الكافر من الصنف الأول والثاني، فيكفي أن يقول ليُحكم بإسلامه: لا إله إلا الله، أو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» (1) .
عن أبي مالك عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» (2) .
__________
(1) هذا حديث متواتر عن تسعة عشر صحابياً بألفاظ، منها: ما رواه مسلم والبخاري وأبو داود وغيرهم عن أبي هريرة، ومنها: ما رواه الشيخان عن ابن عمر، ومنها: ما رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس، ومنها غير ذلك (راجع العيني شرح البخاري: 215/14، شرح مسلم: 210/1، سنن البيهقي: 182/9، نيل الأوطار: 197/7 وما بعدها، نصب الراية: 379/3، النظم المتناثر: ص 29) .
(2) أخرجه مسلم (راجع شرح مسلم: 212/1، جامع الأصول: 161/1) .
(8/16)
وعن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قصة حبر من أحبار اليهود أنه قال للنبي: «لقد صدقت، وإنك لنبي» ثم انصرف (1) .
وإن كان الكافر من الصنف الثالث: فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، وإنما لا بد من أن ينطق بالشهادة الأخرى، فيقول: أشهد أن محمداً رسول الله. وحينئذ يحكم بإسلامه.
وإن كان من الصنف الرابع، فلا يكفيه النطق بالشهادتين، وإنما ينبغي عليه أن يتبرأ من الدين الذي عليه من اليهودية أو النصرانية. ولا يقبل إسلامه أيضاً إذا قال: أنا مؤمن، أو مسلم، أوآمنت، أو أسلمت؛ لأن اليهود والنصارى يدعون أنهم مؤمنون، أو مسلمون على النحو الذي هم عليه. هذا ما قرره الإمام محمد، وكان ذلك بحسب زمنه، أما الآن فالمفتى به ما قاله ابن عابدين: يكفي أن يقول اليهودي والنصراني: أنا مسلم؛ لأن اليهود والنصارى يمتنعون من قول: (أنا مسلم) فإذا قال أحدهم: (أنا مسلم) فهو دليل إسلامه (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم (راجع صحيح مسلم: 99/1) .
(2) رد المحتار على الدر المختار: 315/3.
(8/17)
وأما الوثني مثلاً فيحكم بإسلامه إذا قال: أنا مسلم ونحوه، بدليل حديث المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، وقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمتُ لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تقتله (1) .
وأما إعلان الإسلام ضمناً: فمثل أن يصلي الكتابي أو المشرك مع جماعة من المسلمين؛ لأن الصلاة على هذه الهيئة لم تكن في شرائع من قبلنا، فكان ذلك دليلاً على الدخول في الإسلام. هذا عند الحنفية والحنابلة. وقال الشافعي: لا يحكم بإسلامه؛ لأن الصلاة ليست دليلاً على الإيمان حال الانفراد، فكذلك حال الاجتماع.
وأما الحكم بالإسلام تبعاً: فهو أن الصبي يحكم بإسلامه تبعاً لأبويه عند وجودهما، أو وجود أحدهما، كما إذا أسلم أحد الأبوين، فالولد يتبع المسلم منهما؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كما أنه يحكم بإسلامه أيضاً إذا سبى الصبي وحده، وأدخل في دار الإسلام فهو مسلم تبعاً للدار (2) .
وأما الأحكام المترتبة على الدخول في الإسلام من قبل الكفار: فهي عصمة الدماء والأموال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وبناء عليه إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يتغلب عليهم المسلمون، حرم قتلهم، ولا سبيل لأحد على أموالهم التي في أيديهم أو الودائع
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم (راجع شرح مسلم: 98/2، الإلمام: ص 465) .
(2) آثار الحرب: ص 643 وما بعدها، البدائع: 102/7 وما بعدها، رد المحتار على الدر المختار: 316/3، المغني: 143/8.
(8/18)
في بلاد الإسلام للحديث السابق، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسلم على ما ل فهو له» (1) .
فإن تغلبنا عليهم بالحرب، كان عقار من أسلم وزوجته وأولاده الكبار فيئاً للمسلمين؛ لأن العقار من جملة دارالحرب، وزوجته كافرة حربية لا تتبعه في الإسلام، وكذا أولاده كفار حربيون، ولا تبعة لهم؛ لأنهم على حكم أنفسهم.
كذلك يعصم الإسلام عند جمهور العلماء صغار الأولاد والحَمْل، إذا أسلم الأب أو الأم، سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام؛ لأن الطفل تابع لأبيه أو لأمه في الإسلام مطلقاً، إذ الولد يتبع خير الأبوين ديناً بالاتفاق. قال الله تعالى: {والذين آمنوا واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:21/52] .
وقال الحنفية: إذا أسلم كافر في دار الإسلام لم يكن أولاده الصغار مسلمين بإسلامه، إذا كانوا في دار الحرب، لانقطاع التبعة بتباين الدارين، فكانوا من جملة الأموال يدخلون في الفيء.
وأما الزوجة والأولاد الكبار: فقد اتفق أئمة المذاهب الأربعة والشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية على أن إسلام الشخص لا يعصم زوجته ولا أولاده الكبار البالغين، إذ إن للزوجة والأولاد الراشدين حكم أنفسهم كفراً وإسلاماً، لقوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام:164/6] {كل امرئ بما كسب رهين} [الطور:21/52] (2) .
__________
(1) رواه البيهقي وأبو يعلى وأبو عدي في الكامل مرفوعاً عن أبي هريرة بلفظ: «من أسلم على شيء فهو له» . (راجع مجمع الزوائد: 335/5، سنن البيقهي: 113/9، نيل الأوطار: 11/8، نصب الراية: 310/3) .
(2) آثار الحرب: ص 650-652 والمراجع المذكورة فيه.
(8/19)
المبحث الثاني ـ انتهاء القتال بالأمان
الكلام عن الأمان ببيان ركنه وشروطه وحكمه وصفته وما يبطل به ومكانه ومدته والمصلحة فيه.
تعريف الأمان وركنه ونوعاه: الأمن في اللغة: ضد الخوف، وفي اصطلاح الشرعيين كما عرفه الشافعية: عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين. وركنه: اللفظ الدال على الأمان، نحو قول المجاهد: أمنتكم أو أنتم آمنون، أو أعطيتكم الأمان، ونحوها.
وهو إما عام أو خاص:
فالعام: ما يكون لجماعة غير محصورين كأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه، كعقد الهدنة وعقد الذمة؛ لأن هذا العقد من المصالح العامة التي يختص الإمام بالنظر فيها.
والخاص: ما يكون للواحد أو لعدد محصور كعشرة فما دون. ولا يجوز لأكثر من ذلك كأهل بلدة كبيرة، لما فيه من افتئات على الإمام، وتعطيل للجهاد. وما نص عليه الحنفية من إعطاء الفرد حق تأمين أهل حصن أو مدينة لا دليل عليه؛ لأن الأحاديث الواردة في الأمان محصورة في حالات فردية معينة كما سنرى.
والعام: إما مؤقت وهو الهدنة، أو مؤبد وهو عقد الذمة (1) .
شروط الأمان: اشترط الحنفية لصحة الأمان شروطاً أربعة (2) :
1 - أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار في حال القوة.
2 - العقل: فلا يجوز أمان المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط في أهلية التصرف.
3 - البلوغ وسلامة العقل عن الآفات المرضية.
4 - الإسلام: فلا يصح أمان الكافر ولو ذمياً، وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم بالنسبة للمسلمين، فلا تؤمن خيانته، والأمان مبني على مراعاة مصلحة المسلمين، والكافر مشكوك في تقديره المصلحة.
ولا تشترط الحرية، فيصح أمان العبد عند الجمهور، ولم يجز أبو حنيفة أمان العبد المحجور عن القتال إلا أن يأذن له مولاه بالقتال؛ لأن الأمان عنده من جملة العقود، والعبد محجور عليه، فلا يصح عقده.
__________
(1) آثار الحرب: ص 225 وما بعدها، 285 ومابعدها.
(2) البدائع: 106/7، فتح القدير: 298/4، تبيين الحقائق: 247/3، الدر المختار: 249/3.
(8/20)
وقال الصاحبان: يصح أمان العبد، لأنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف، والأمان يكون بسبب الخوف.
وكذلك لا تشترط الذكورة، فيصح أمان المرأة لحديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين» (1) وحديث: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» (2) . ولا تشترط السلامة عن العمى والزمانة والمرض، فيصح أمان الأعمى والزمِن والمريض.
ولا يجوز أمان التاجر في دار الحرب، والأسير فيها، والحربي الذي أسلم هناك؛ لأن هؤلاء لا يستطيعون تقدير المصلحة في الأمان، ولأنهم متهمون في نظر المجاهدين لكونهم تحت سلطة العدو.
وكذلك الجماعة ليست بشرط، فيصح أمان الواحد.
ويوافق الحنفيةَ في أغلب هذه الحالات: جمهورُ الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية، فهم يرون أن الأمان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ولو كان عبداً لمسلم أو كافر، أو فاسقاً، أو محجوراً عليه لسفه أو تفليس، أو امرأة، أوأعمى، أو مقعداً أو زَمِناً أو مريضاً أو خارجاً على الإمام؛ لأن الخوارج مسلمون، قال علي رضي الله عنه: «إخواننا بغوا علينا» .
والأدلة لما ذكر من القرآن والسنة والمعقول هي ما يأتي:
أما القرآن فقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/9] والنص عام يشمل كل مسلم، وكل مستأمن أو معاهد يريد سماع القرآن الكريم أو المفاوضة مع المسلمين لأمور سياسية أو حربية أو أمنية أو تجارية.
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: حسن غريب (نيل الأوطار: 28/8) .
(2) حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أم هانئ (نيل الأوطار: 17/8) .
(8/21)
وأما السنة: فقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» (1) ، وفي رواية «المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (2) ، وقد أنفذ الرسول صلّى الله عليه وسلم أمان أم هانئ
__________
(1) الصرف: التوبة أو الحيلة، والحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه عن علي بن أبي طالب، وأخرج البخاري نحوه عن أنس بن مالك، وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة، وأخرجه غيرهم (راجع نصب الراية: 393/3 وما بعدها، صحيح البخاري: 102/4، القسطلاني: 229/5، 236، منتخب كنز العمال في مسند أحمد: 295/2، نيل الأوطار: 28/8، مجمع الزوائد: 283/6، 329/5) .
(2) معنى الحديث: أن المسلمين يتساوون في القصاص والديات، لا فضل لشريف على وضيع، وإذا أعطى أدنى رجل منهم أماناً فليس للباقين نقضه، ومعنى «وهم يد» أي يتناصرون على الملل المحاربة لهم.
(8/22)
لرجل أو رجلين من أحمائها قائلاً لها: «قد أجرنا من أجرت ياأم هانئ» (1) وكذلك أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام أمان ابنته زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع الذي كان قادماً بتجارة إلى المدينة، فأصابتها إحدى سرايا المسلمين (2) .
وأما المعقول: فهو أن الواحد من المسلمين من أهل القتال والمنعة، فيخافه العدو، ويهتم هو بتحقيق مصلحة الجماعة الإسلامية، فيتم منه الأمان دون حاجة إلى إجازة الإمام؛ لأن فعله تصرف صدر من ذي أهلية له، ووقع في محله (3) .
حكم الأمان: يقتضي الأمان ثبوت الأمن والطمأنينة للمستأمنين، فيحرم قتل رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم، واغتنام أموالهم، واسترقاقهم، ولا يجوز أيضاً ضرب الجزية عليهم؛ لأن فعل شيء مما ذكر غدر، والغدر حرام.
ويشمل حكم الأمان نفس المستأمن، وأولاده الصغار، وماله عند الحنابلة والحنفية استحساناً؛ لأن الإذن بالدخول يقتضي ذلك.
وقال الشافعية: يدخل في الأمان مال المستأمن وأهله بلا شرط إن كان الإمام هو الذي أعطى الأمان.
ويرى الهادوية والمالكية: أن الأمان يتبع الشرط (4) .
وبناء عليه يجب على المسلمين كف الأذى عن المستأمنين، وإذا انتهت مدة الأمان وجب على الحاكم المسلم إبلاغ المأمن، أي تبليغ المستأمن المكان الذي يأمن فيه على نفسه وماله. ولا يجوز في رأي الجمهور نقض أمان المستأمن ما لم نخش منه الخيانة، أو يصدر منه ما يستدعي إلغاء أمانه.
رقابة الدولة على التأمينات: للإمام مراقبة كل أمان يصدر من الأفراد، وعلى التخصيص أمان المرأة والعبد والصبي ونحوهم، ولكن لايتوقف عند أكثر الفقهاء نفاذ الأمان على إجازة الإمام. وقال ابن الماجشون وسحنون المالكيان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. ورد عليهما بحديث عائشة - فيما رواه البيهقي وأبو داود والترمذي - «إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين، فيجوز» وفي رواية: «أمان المرأة جائز إذا هي أعطت القوم الأمان» وروى الترمذي عن أبي هريرة حديث: «إن المرأة لتأخذ للقوم، يعني تجير على المسلمين» .
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والموطأ والترمذي والبيهقي عن أم هانئ (راجع العيني شرح البخاري: 93/15، القسطلاني: 228/5، سنن أبي داود: 112/3، سنن البيهقي: 94/9، نصب الراية: 395/3، جامع الأصول: 259/3) .
(2) أخرجه الطبراني عن أم سلمة وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف ويؤيده أيضاً حديث رواه الترمذي وقال: حسن غريب عن أبي هريرة بلفظ: «إن المرأة لتأخذ للقوم ـ يعني تجير على المسلمين» (راجع نصب الراية: 395/3 وما بعدها، نيل الأوطار: 28/8، مجمع الزوائد: 330/5) .
(3) راجع آثار الحرب: ص 222، 228 وما بعدها.
(4) راجع التفصيل في آثار الحرب: ص 245 ومابعدها.
(8/23)
صفة الأمان: يرى الحنفية أن الأمان عقد غير لازم، حتى لو رأى الإمام المصلحة في النقض نقضه؛ لأنه جوازه عندهم مشروط بتحقيق المصلحة، فإذا صارت المصلحة في النقض نقض، ونبذ للمستأمن، أي أُلقي إليه عهده (1) .
ويرى جمهور الفقهاء والشيعة الإمامية والزيدية أن الأمان عقد لازم من جانب المسلمين، ويبقى اللزوم مع بقاء عدم الضرر؛ لأن الأمان حق على المسلم، فليس له نبذه إلا لتهمة أو مخالفة (2) .
ما ينتقض به الأمان: إذا كان الأمان مؤقتاً إلى مدة معلومة ينتهي بمضي الوقت من غير حاجة إلى النقض.
وإن كان الأمان مطلقاً غير محدد بوقت: فانتقاضه عند الحنفية إما بنقض الإمام، لكن يخبرهم بالنقض ثم يقاتلهم، وإما بطلب العدو نقضه، وحينئذ يدعوهم الإمام إلى الإسلام، فإن أبوا فإلى التعاقد بعقد الذمة، فإن أبوا ردهم إلى مأمنهم ثم قاتلهم، احترازاً عن الغدر.
وأجاز جمهور الفقهاء للإمام أن ينبذ عقد الأمان إذا حصل فقط ضرر للمسلمين لقوله تعالى:
__________
(1) البدائع: 107/7، البحر الرائق: 81/5، مخطوط السندي: 45/8، فتح القدير: 300/4، الكتاب مع اللباب: 126/4.
(2) راجع آثار الحرب، والمراجع التي فيه: ص 293.
(8/24)
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/8] (1) .
مدة الأمان: إذا دخل الحربي إلى دار الإسلام مستأمناً، لم يمكَّن من الإقامة فيها سنة فما فوقها، لئلا يصير عيناً للأعداء وعوناً عليهم. ويقول له الإمام أو نائبه إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا: إن أقمت في دارنا تمام السنة وضعت عليك الجزية، فإن أقام تمام السنة أخذت منه الجزية، وصار ذمياً لالتزامه ذلك، ولم يترك بعدها أن يرجع إلى دارالحرب؛ لأن عقد الذمة لا ينقض.
وإن عاد المستأمن إلى دار الحرب وترك وديعة عند مسلم أو ذمي، أو ترك ديناً في ذمة مسلم أو ذمي، صار دمه مباحاً بالعود لبطلان أمانه، وما كان في دار الإسلام من ماله، فهو موقوف (أي مجمَّد بتعبير العصر) . فإن أسر أو قتل، سقطت ديونه؛ لأن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد الجماعة العامة، فيختص به، وصارت الوديعة ونحوها مما في دارنا فيئاً؛ لأنها في يده حكماً، فتصير فيئاً تبعاً لنفسه (2) .
__________
(1) آثار الحرب: ص 361، البدائع، المرجع السابق.
(2) الكتاب مع اللباب: 135/4.
(8/25)
المصلحة في الأمان: اشترط الحنفية والمالكية (1) : أن يكون الأمان لمصلحة؛ لأن الحرب مع العدو مستمرة. واكتفى الشافعية والحنابلة (2) باشتراط عدم وجود الضرر من الأمان ولا تشترط المصلحة. فلا يجوز الأمان لجاسوس ونحوه، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام. والضرر: مثل تأمين جاسوس أو مهرب سلاح.
مكان الأمان: هو دار الإسلام: وهي مكان الأمان إذا كان المؤمّن هو الإمام أو أمير الجيش، فللمستأمن التنقل في كل البلاد الإسلامية إلا إذا قيد الأمان في موطن معين أو كان القيد شرعياً، والقيد الشرعي مختلف في تحديده بين الفقهاء (3) ، ففي رأي أبي حنيفة: يجوز للكافر دخول أي مكان في دار الإسلام، حتى الحرم المكي والمسجد الحرام، فله الدخول والإقامة في حرم مكة والمسجد مدة مقام المسافر ـ ثلاثة أيام بلياليها ـ وأجاز الحنفية لغير المسلم دخول المساجد كلها ومنها المسجد الحرام، من غير إذن؛ لأنه ليس المراد من آية {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/9] النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية.
ومنع الشافعية والحنابلة غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/9] والمراد من المسجد الحرام: الحرم المكي بإجماع المفسرين، بدليل قوله تعالى عقب ذلك: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} [التوبة:28/9] والعيلة: هي الفقر بانقطاع التجارة حال المنع من دخول الحرم. ويمنع غير المسلم أيضاً في هذين المذهبين من دخول الحجاز أو الاستيطان فيه إلا بإذن الإمام ولمصلحة المسلمين كحمل رسالةأو إدخال تجارة يحتاج إليها المسلمون، وذلك لمدة ثلاثة أيام فقط، ودليلهم حديث أحمد ومسلم والترمذي عن عمر: «لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أترك إلا مسلماً» والمراد من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، كما حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز» . ودليلهم أيضاً فعل عمر رضي الله عنه ـ فيما روى البخاري والبيهقي ـ حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب.
وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام، بأمان، لمدة ثلاثة أيام أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام، ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم حديث عمر السابق: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع إلا مسلماً» وحديث ابن عباس ـ فيما اتفق عليه البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود ـ «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وحديث أبي عبيدة بن الجراح فيما يرويه أحمد والبيهقي: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» وما أخرجه مالك عن الزهري مرسلاً: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» وأما حديث «أخرجوا يهود أهل الحجاز» فلا يصلح لتخصيص العام، لما تقرر لدى علماء أصول الفقهاء من أن التخصيص بموافق العام لا يصح، وعبارتهم هي: «إفراد فرد من أفراد العام بحكمه لا يخصص العام» .
__________
(1) فتح القدير: 300/4، الشرح الكبير: 185/2، الشرح الصغير: 286/2.
(2) نهاية المحتاج: 217/7، مغني المحتاج: 238/4، كشاف القناع: 97/3، ط مكة.
(3) شرح السير الكبير: 1/93، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 2/176، أحكام القرآن للجصاص: 2/88، مواهب الجليل للحطاب: 3/381، الدردير مع الدسوقي: 2/185، المهذب: 2/257، الأم: 4/100، المغني: 8/529.
(8/26)
المبحث الثالث ـ انتهاء الحرب بالهدنة:
الكلام عن الهدنة أو الصلح المؤقت أوالموادعة يتناول البحث في ركنها وشروطها وحكمها وصفتها وما تنتقض به ومدتها.
تعريف الموادعة وصيغتها: الموادعة: هي مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر، دون أن يكونوا تحت حكم الإسلام (1) . وعاقدها هو الإمام أو نائبه باتفاق الفقهاء، فإن عقدها أحد الأفراد، عدّ ذلك افتياتاً على الإمام أو نائبه، ولم يصح العقد عند الجمهور.
ويصح عند الحنفية إذا تولاه فريق من المسلمين بغير إذن الإمام إذا توافرت المصلحة للمسلمين فيه؛ لأن المعول عليه وجود المصلحة، وقد وجدت، ولأن الموادعة أمان، وأمان الواحد كأمان الجماعة (2) .
وصيغتها: لفظ الموادعة أو المسالمة أو المصالحة أو المعاهدة أو المهادنة ونحوها.
وركنها: الإيجاب والقبول بين الإمام أو نائبه، وحاكم الأعداء.
__________
(1) راجع آثار الحرب، والمراجع التي فيه: ص 662.
(2) البدائع: 108/7، الدسوقي: 189/2، مغني المحتاج: 260/4، المغني: 462/8، الفروق: 207/1.
(8/27)
وشرط مشروعيتها: أن يكون المسلمون في حال ضعف، والكفار أقوىاء؛ لأن الموادعة ترك القتال، فلا يجوز إلا في حال يقع وسيلة إلى القتال. والحقيقة أن هذا الشرط حالة من الحالات التي يطلب فيها باتفاق العلماء وجود المصلحة من عقد الهدنة، والمصلحة كما تتحقق حال ضعفنا، تتحقق بأغراض أخرى كرجاء إسلام الكفار، أو عقد الذمة، أو التعاون معهم لدفع عدوان غيرهم، أو لإقرار السلام، وتبادل المنافع الاقتصادية ونحوها (1) ، قال تعالى: {ولا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون، والله معكم} [محمد:35/47] وقال سبحانه: {وإن جنحوا للسَّلم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61/8] وقد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على إنهاء الحرب عشر سنين (2) .
ولا يقاتل المعاهدون ما لم تظهر منهم بوادر الخيانة، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58/8] .
ولا بأس بأن يتم الصلح على عوض مالي يدفعه المسلمون إلى الكفار عند الاضطرار، أو يدفعه الأعداء للمسلمين إذا كان في الدفع مصلحة للمسلمين؛ لأن الله تعالى أباح لنا الصلح مطلقاً في قوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61/8] فيجوز ببدل أو بغير بدل، ولأن المقصود من الصلح هو دفع الشر والخطر، فيجوز بأية وسيلة، وهذا باتفاق الفقهاء (3) .
__________
(1) آثار الحرب: ص 669، البدائع: 108/7، فتح القدير: 293/4.
(2) انظر المعاهدة في القسطلاني شرح البخاري: 336/5، العيني شرح البخاري: 13/14 وما بعدها، شرح مسلم: 135/12 وما بعدها، نيل الأوطار: 31/8 وما بعدها، نصب الراية: 388/3، أخرج الحديث أبو داود عن المِسْور بن مَخرمة ومروان بن الحكم، وأصله في البخاري، وأخرج مسلم بعضه عن أنس، ورواه أحمد والبيهقي.
(3) راجع آثار الحرب: ص 670، المرجع السابق: ص 109، الدر المختار: 247/3، اللباب شرح الكتاب: 120/4.
(8/28)
حكم الهدنة: يترتب على الموادعة أو الهدنة إنهاء الحرب بين المتحاربين، ويأمن الأعداء ـ كما في عقد الأمان ـ على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم؛ لأن الموادعة عقد أمان أيضاً، وبناء عليه يجب كف أذانا أو أذى الذميين عنهم حتى يتأتى ناقض للعهد منهم (1) . ويجب لهم الوفاء بشروط الهدنة الصحيحة شرعاً. ولا يوفى لهم بالشروط الباطلة كاشتراط إعادة النساء المسلمات إليهم.
الفرق بين الهدنة والأمان العام: هناك فرق بين الهدنة والأمان العام مع جماعة من الحربيين من نواح أربع:
الأولى ـ أن الهدنة معاهدة بين دولتين على إنهاء القتال وتوفير السلام في جميع أنحاء الدولة. أما الأمان العام فهو اتفاق الدولة مع جماعة غير محصورة على المسالمة ومنح الأمان في بلد أو إقليم معين.
الثانية ـ أن الهدنة طريق لإنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وأما الأمان العام فهو لتأمين جماعة ولو في أثناء الحرب.
الثالثة ـ أن الإجابة لطلب الأمان واجبة، لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة:6/9] . أما الإجابة لطلب الهدنة فمباحة جائزة غير واجبة بشرط مراعاة المصلحة الإسلامية.
الرابعة ـ إذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم والصبيان، وإذا انتقضت الهدنة انتقض أمان جميع المهادنين.
__________
(1) آثار الحرب: ص 682، 686.
(8/29)
صفة عقد الهدنة: يرى الحنفية أن الهدنة عقد غير لازم محتمل للنقض، فللإمام أن ينبذ عهد الكفار إليهم، كلما رأى في النبذ مصلحة للمسلمين، لقوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال:58/8] فإذا بلغهم الخبر جاز بدؤهم بالقتال.
ولا بد من النبذ تحرزاً عن الغدر، ولا بد من تقدير مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم. ولا ينبذ إليهم إن بدؤوا بخيانة باتفاقهم؛ لأنهم صاروا ناقضين للعهد، فلا حاجة إلى نقضه.
أما إن نقض جماعة منهم العهد، فإن كان نقضهم بإذن ملكهم، صاروا ناقضين للعهد؛ لأنه باتفاقهم معنى. وإن لم يكن نقضهم بإذن ملكهم، ودخلوا بلادنا، وقطعوا الطريق وكان لهم منعة، وقاتلوا المسلمين علانية، يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم. فإن لم يكن لهم مَنَعة، حوربوا، ولا يكون فعلهم نقضاً للعهد في حقهم (1) .
وقرر جمهور الفقهاء أن الهدنة عقد لازم لا يجوز نقضه إلا إذا وجدت خيانة، أو غدر من العدو، بقيام أمارات تدل عليه؛ وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد، كما هو مقتضى آية النبذ السابق ذكرها: {وإما تخافن من قوم خيانة ... } [الأنفال:58/8] (2) فإذا لم يخف الإمام الخيانة، لا يجوز نبذ عهدهم.
شروط صحة الهدنة: يشترط لصحة الهدنة الشروط الأربعة التالية (3) :
1ً - أن يعقدها مع الأعداء الإمام أو نائبه، وإذا كانت مع إقليم عقدها والي الإقليم أيضاً لتلك البلدة.
2ً - أن تعقد لمصلحة إسلامية، ولا يكفي انتفاء المفسدة كما في عقد الجزية، لعدم توافر المصلحة في موادعة الأعداء، والله تعالى يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلْم وأنتم الأعلون} [محمد:35/47] . والمصلحة كضعفنا بقلة عدد أو أهبة، أو لرجاء إسلامهم أو بذل الجزية أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم، وقد هادن النبي صلّى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر عام فتح مكة لرجاء إسلامه، فأسلم قبل مضيها.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 120/4 وما بعدها.
(2) البدائع: 109/7، آثار الحرب: ص 361 وما بعدها.
(3) مغني المحتاج: 260/4.
(8/30)
3ً - أن تكون مؤقتة بمدة معينة لا مؤبدة ولا دائمة ولا مطلقة من غير مدة. والمدة كما ذكر الشافعية أربعة أشهر لا سنة، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله ... } [التوبة:1/9] ثم قال: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر..} [التوبة:2/9] . وتجوز في حال ضعفنا لمدة عشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لا أكثر من عشر، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أبو داود ـ هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة، وكان ذلك قبل أن يقوى الإسلام.
4ً - خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد، كأن شرط الأعداء منع فك أسرانا منهم، أو ترك مالنا الذي استولوا عليه لهم، أو لتعقد لهم ذمة بأقل من دينار لكل واحد، أو بدفع مال لهم ولم تدع ضرورة إليه، أو التنازل عن بعض واجباتهم نحو المسلمين أو دولتهم أو دينهم، فكل شرط من هذه الشروط يفسد عقد الهدنة ويجعلها لاغية.
ما ينتقض به عقد الهدنة: قال الحنفية: إذا كانت الهدنة مؤقتة ينتهي العقد بانتهاء المدة المحددة دون حاجة إلى النبذ.
وإن كانت الهدنة مطلقة غير معينة المدة، أي متروكة لرأي الإمام: فإما أن تنتقض صراحة بنبذ العهد من المسلمين أو من غيرهم، وإما أن تنتقض ضمناً أو دلالة بأن يوجد من الأعداء ما يدل على النبذ كقطع الطريق من قبل جماعة من الكفار، بإذن مليكهم.
وفي الجملة: لا تنتقض الهدنة عند الحنفية إلا بخيانة العدو متفقين. والخيانة: كل ما ناقض العهد والأمان مما هو شرط فيه أو جرى به العرف والعادة، مثل مقاتلة المسلمين أو مظاهرة عدو عليهم.
وقال الجمهور: تنتقض الهدنة إذا نقضها العدو بقتال أو بمناصرة عدو آخر، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، أو بسبّ الله تعالى أو القرآن الكريم أو رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس
(8/31)
على المسلمين، أو الزنا بمسلمة ونحوها (1) .
واستدلوا على النقض بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة:7/9] وقوله سبحانه: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} [التوبة:4/9] وقوله عز وجل: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} [التوبة:12/9] .
ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما روى البيهقي وغيره أنه لما نقضت قريش عهد النبي صلّى الله عليه وسلم أي صلح الحديبية، خرج إليهم، فقاتلهم وفتح مكة، بسبب مظاهرة بعضهم لبعض (2) . ومن المعروف أن بني النضير لما أرادوا قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإلقاء الجدار عليه نقض عهدهم، كما روى البيهقي وغيره (3) .
مدة الهدنة: اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة إلى الأبد من غير تقدير بمدة، وإنما هي عقد مؤقت؛ لأن الصلح الدائم يفضي إلى ترك الجهاد. ومع هذا الاتفاق فإنهم اختلفوا في المدة التي تجوز بها الهدنة.
فقال الشافعية: إذا كان بالمسلمين قوة فتجوز لمدة أربعة أشهر فما فوقها إلى ما دون سنة في الأظهر، لقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة:1/9-2] ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة
__________
(1) البدائع: المرجع السابق، آثار الحرب: ص380 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي عن مروان بن الحكم، والمسْور بن مخرمة (نصب الراية: 390/3) .
(3) وراجع شرح مسلم: 91/12.
(8/32)
أشهر عام الفتح (1) . ولا تبلغ المدة سنة؛ لأنها مدة تجب فيها الجزية.
فإن كان بالمسلمين ضعف، فتجوز لعشر سنين فقط فما دونها بحسب الحاجة، لأن هذا غاية مدة الهدنة، لأنه صلّى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية هذه المدة على المعتمد. فإن لم يقْو المسلمون طوال تلك المدة فلا بأس أن يجدد الإمام مدة مثلها أو دونها على رجاء أن يقووا، وإذا انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد.
وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية وظاهر كلام الإمام أحمد، وقال أبو الخطاب من الحنابلة: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر سنين على حسب ما يراه الإمام من المصلحة بعد اجتهاده. والذي يبدو أن ما نقله أبو الخطاب هو الأصح عند الحنابلة (2) .
وقال الحنفية والمالكية والزيدية: ليس للهدنة مدة معينة، إنما تقدير المدة راجع إلى اجتهاد الإمام قدر الحاجة؛ لأن المهادنة عقد جاز لمدة عشر سنين، فتجوز الزيادة عليها كعقد الإجارة (3) .
__________
(1) راجع تلخيص الحبير، طبع القاهرة، بتعليق هاشم اليماني: 131/4، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 720/2.
(2) كشاف القناع: 104/3، ط مكة.
(3) راجع التفصيل في آثار الحرب: ص 675 وما بعدها.
(8/33)
المبحث الرابع ـ انتهاء الحرب بعقد الذمة:
الكلام عن عقد الذمة ببيان ركنه وشرائطه وحكمه وصفته ومقدار الجزية ومسقطاتها.
تعريف عقد الذمة أو الصلح المؤبد وركنه: الذمة في اللغة العهد، وهو الأمان والضمان والكفالة. وعند الفقهاء (1) : هو التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والدفاع عنهم ببذل الجزية (2) والاستسلام من جهتهم. ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه؛ لأنها من المصالح العظمى التي تحتاج إلى نظر واجتهاد، وهذا لا يتأتى لغير الإمام أونائبه، لكن قال المالكية: إن عقدها غير الإمام فيأمنون، ويسقط عنهم القتل والأسر، وللإمام النظر بأن يمضيها أو يردهم لمأمنهم (3) .
ويحرم قتال أهل الذمة وقتلهم ما داموا ملتزمين بشروط العهد، لما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من قتل رجلاً من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً» . وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله ورسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً» .
وحكمة عقد الذمة: تحقيق التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، وتمكين غير المسلمين من الاطلاع على حقائق الإسلام ومبادئه، فيلتقي الجميع على الحق والعقيدة الصالحة.
والجزية بديل عن حماية المسلمين لأهل الذمة وعن المشاركة في الجهاد، ودليل مادي على الولاء للدولة الإسلامية.
وركن العقد أو صيغته: إما لفظ صريح يدل عليه، مثل لفظ العهد والعقد على أسس معينة، وإما فعل يدل على قبول الجزية، كأن يدخل حربي دار الإسلام بأمان، ويمكث فيها سنة، فيطلب إلىه إما أن يخرج أو يصبح ذمياً، فإن اختار البقاء عندنا صار من أهل الذمة.
__________
(1) راجع آثار الحرب للمؤلف: ص 692.
(2) الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، لأنها تجزئ من القتل، أي تعصم.
(3) فتح القدير: 368/4، الخرشي، الطبعة الأولى: 166/3، مغني المحتاج: 243/4، كشاف القناع: 92/3 ط مصر.
(8/34)
شروط صحة العقد: يشترط في المعقود له عقد الذمة شروط ثلاثة:
الأول ـ ألا يكون المعاهد من مشركي العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال، لقوله تعالى عن المشركين: {تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/48] ، وإنما يعقد عقد الذمة مع أهل الكتاب، لقوله سبحانه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29/9] ويعقد هذا العقد أيضاً مع المجوس؛ لأن لهم شبهة كتاب، لما قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (1) . وعن عمر: «أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجَر» (2) .
وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإباضية والشيعة الإمامية والزيدية.
__________
(1) رواه الشافعي، ورواه الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» وهذا منقطع ورجاله ثقات، ورواه أيضاً البزار والدارقطني وابن أبي شيبة مرسلاً (جامع الأصول: 264/3، نصب الراية: 448/3، نيل الأوطار: 56/8) .
(2) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي (جامع الأصول: ص 261، نصب الراية: ص448، نيل الأوطار: 56/8، سبل السلام: 65/4) .
(8/35)
وقال الأوزاعي والثوري وفقهاء الشام والمالكية على المشهور في مذهبهم: تؤخذ الجزية من كل كافر، سواء أكان من العرب أم من العجم، من أهل الكتاب، أم من عبدة الأصنام (1) ، بدليل ما رواه سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً» ثم قال: « ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ... » الحديث (2) فقوله صلّى الله عليه وسلم: «عدوك» عام يشمل كل كافر، قال الشوكاني: هذا الحديث حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب.
الشرط الثاني: ألا يكون المعاهد مرتداً، لأن حكمه القتل إذا لم يتب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «من بدل دينه فاقتلوه» (3) ، وهذ الشرط متفق عليه بين الفقهاء.
الشرط الثالث: أن يكون العقد مؤبداً: فإن أقت الصلح لم يصح العقد؛ لأن عقد الذمة بالنسبة لعصمة الإنسان في ماله ونفسه بديل عن الإسلام، والإسلام مؤبد، فكذا بديله وهو عقد الذمة. وهذا شرط متفق عليه أيضاً (4) .
__________
(1) راجع آثار الحرب: ص 712 ومابعدها، الدر المختار: 293/3، تبيين الحقائق: 277/3.
(2) أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها (راجع شرح مسلم: 37/12 ومابعدها) .
(3) رواه الجماعة إلا مسلماً، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية: 456/3، نيل الأوطار: 190/7، سبل السلام: 65/4) .
(4) راجع البدائع: 110/7 وما بعدها، آثار الحرب: ص 707، 713، فتح القدير: 371/4.
(8/36)
شروط المكلفين بالجزية: يشترط لوجوب الجزية على أهل الذمة شروط:
1 - الأهلية من العقل والبلوغ: فلا تجب على الصبيان والمجانين؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال.
2 - الذكورة: فلا تجب على النساء؛ لأنهن أيضاً لسن من أهل القتال، والله سبحانه وتعالى أوجب الجزية على المقاتلين بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... } [التوبة:29/9] الآية، فالمقاتلة تقتضي المشاركة، يعني وقوع القتال من الطرفين.
3 - الصحة والمقدرة المالية: فلا تجب على المريض مرضاً لمدة سنة أو أكثر السنة؛ لأن للأكثر حكم الكل، ولا تجب أيضاً على الفقير المتعطل عن العمل، ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس.
4 - السلامة من العاهات المزمنة، كالمرض المزمن والعمى والشيخوخة.
5 - الحرية، فلا تجب الجزية على العبد، لأنه ليس مالكاً للمال.
وفي الجملة: اتفق الفقهاء على اشتراط البلوغ والحرية والذكورة، فلا جزية على امرأة ولا صبي ولا مجنون ولا معتوه ولا زمِن ولا أعمى ولا مفلوج ولا شيخ كبير؛ لأنها وجبت بدلاً عن القيام بقتال الأعداء، وهم لا يقاتلون لعدم الأهلية. ولا جزية على فقير غير معتمل (أي مكتسب ولو بالسؤال) لعدم الطاقة، ولا على الرهبان الذين لايخالطون الناس، إذ لا يقتلون، والأصل في الجزية لإسقاط القتل، ولا جزية على العبد بأنواعه.
وخالف الشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم في الشرطين الثالث والرابع، فلم يجيزوا إسقاط الجزية بالأعذار (1) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 111، آثار الحرب: ص 699، تبيين الحقائق: 278/4، فتح القدير: 372/4، الكتاب مع اللباب: 145/4.
(8/37)
حكم عقد الجزية: يترتب على عقد الذمة إنهاء الحرب بين المسلمين وغيرهم، وعصمة نفوس الكفار وأموالهم وبلادهم وأعراضهم، فلا يجوز استباحتها بعد انعقاد العقد، بدليل حديث بريدة السابق ذكره وفيه: «فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» ولقوله تعالى في آية الجزية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة:29/9] إلى قوله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة:29/9] فالله سبحانه طالب بالكف عن قتال أهل الكتاب عند وجود الإسلام أو بذل الجزية، وبما أن الإسلام يعصم النفس والمال وما ألحق بهما، فكذا الجزية. وقال علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» (1) وروى أبو داود والبيهقي وأحمد عن الرسول صلّى الله عليه وسلم من حديث أسامة قال: «ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أوأخذ شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (2) .
والجزية نوعان: جزية صلحية: وهي جزية توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، فلا حد لها ولا لمن تؤخذ منه إلا ما يقع عليه الصلح. وجزية عنوية تفرض فرضاً: وهي التي يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب المسلمون على الكفار، واستولوا على بلادهم، وأقرهم الإمام على أمرهم.
فيضع الإمام عند الحنفية والحنابلة على الغني الظاهر الغنى (وهو من يملك
__________
(1) آثار الحرب: ص 728 وما بعدها، 111/7، والأثر المروي عن علي غريب، وأخرجه الدارقطني عن علي بلفظ «من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا» (نصب الراية: 281/3) .
(2) الحديث مروي عن صفوان بن سليم رحمه الله (راجع سنن أبي داود: 231/3، سنن البيهقي: 205/9، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 296/2،جامع الأصول: 257/3، الفتح الكبير: 485/1) .
(8/38)
عشرة آلاف درهم فصاعداً) في كل سنة ثمانية وأربعين درهماً، منجمة أي مقسطة على الأشهر، يأخذ في كل شهر أربعة دراهم. ويضع على المتوسط الحال (وهو من يملك مئتي درهم فصاعداً) أربعة وعشرين درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهمين، وعلى الفقير المعتمل (وهو من يملك ما دون المئتي درهم، أو لا يملك شيئاً) اثني عشر درهماً منجمة أيضاً على الأشهر، في كل شهر درهماً (1) . وذلك عملاً بفعل عمر رضي الله عنه الذي قسم أهل الذمة ثلاث طبقات: وهم الموسرون والمتوسطون والفقراء العاملون.
ويرى المالكية: أن الجزية أربعة دنانير في كل عام على كل واحد من أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، وذكر ابن جزي المالكي (2) أنه لا يزاد على ذلك لقوة أحد، ولا ينقص لضعفه، والراجح لدى المالكية أنه ينقص عن الفقير بحسب طاقته ووسعه.
وذهب الشافعية (3) إلى أن أقل الجزية دينار، لحديث معاذ بن جبل: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً أو عدله من المعافر» (4) وهي ثياب يمنية، نسبة إلى حي من همدان في اليمن، تنسب إلىه الثياب المعافرية. ويستحب لدى الشافعية مماكسة (مشاححة) الذمي حتى يأخذ من المتوسط دينارين، ومن الغني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه، كما رواه البيهقي عنه.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 143/4، المغني: 501/8 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 156.
(3) مغني المحتاج: 248/4.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي والدارقطني، وصححه ابن حبان والحاكم من حديث مسروق عن معاذ.
(8/39)
صفة عقد الذمة: اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة عقد لازم من ناحية
المسلمين، فلا يملك المسلمون نقضه بأي حال. وأما بالنسبة لغير المسلمين فهو عقد غير لازم، لكنه لا ينتقض عند الحنفية إلا بأحد أمور ثلاثة: وهي أن يسلم الذمي، أو يلحق بدار الحرب، أو يغلب الذميون على موضع فيحاربوننا، ولا ينتقض عهدهم بغير المذكور، كالامتناع من إعطاء الجزية، أو سب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو قتل مسلم، أو الزنى بمسلمة؛ لأن التزام الجزية باق، ويستطيع الحاكم أن يجبره على أدائها، وأما بقية المخالفات فهي معاصي ارتكبوها وهي دون الكفر، وقد أقررناهم عليه، فما دونه أولى (1) .
ويرى جمهور الفقهاء، والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية: أن عهد الذمي ينتقض بمنعه أداء الجزية، أو امتناعه من تطبيق أحكام الإسلام العامة، أو بالاجتماع على قتال المسلمين؛ لأن هذه الأمور من مقتضى عقد الذمة، فارتكابها يخالف مقتضى العقد، فيوجب نقض المعاهدة.
وكذلك قالوا ما عدا الشافعية والإمامية: ينتقض العقد بارتكاب المعاصي السابقة؛ لأن فيها ضرراً على المسلمين، فأشبه الامتناع عن بذل الجزية.
أما الشافعية في الأصح عندهم، فإنهم يرون أن عهد الذمة لا ينتقض بارتكاب المعاصي إذا لم يشترط النقض في العقد، فإن اشترط على أهل الذمة انتقاض العهد انتقض، لمخالفة الشرط ولحوق الضرر بالمسلمين (2) .
واتفق الفقهاء على أن أهل الذمة ملتزمون بتطبيق أحكام الإسلام المدنية والجنائية، وأما العبادات ونحوها مما يدينون به كشرب الخمور وتربية الخنازير
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 112 وما بعدها، فتح القدير: 381/4، تبيين الحقائق: 281/3، الكتاب مع اللباب: 147/4.
(2) راجع آثار الحرب: ص 359، 367-374.
(8/40)
وأكلها فيتركون وما يدينون بدون تظاهر. ولكن لا يجوز لهم إحداث بِيعة ولا كنيسة (1) ولا صومعة ولا بيت نار ولا مقبرة في دار الإسلام (2) . ولهم فقط ترميم أماكن عبادتهم هذه.
آراء الفقهاء في مقدار الجزية ووقت أدائها ومسقطاتها: يرى الحنفية والحنابلة أن الجزية مقدارها بحسب حال المكلف بها، فإن كان غنياً فيجب عليه ثمانية وأربعون درهماً، وإن كان متوسط الحال فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان فقيراً عاملاً فعليه اثنا عشر درهماً كما ذكر. وهذا التقدير ثابت عن سيدنا عمر رضي الله عنه (3) .
وقال المالكية في الأصح: مقدار الجزية أربعون درهماً، أي أربعة دنانير، وينقص عن الفقير بحسب وسعه وطاقته (4) . وذكر ابن جزي أنه لا يزاد على أربعين درهماً (علماً بأن الدينار عندهم عشرة دراهم) لقوة أحد ولا ينقص لضعفه.
وقال الشافعية مثل الحنفية والحنابلة: أقل الجزية دينار لكل سنة، ويؤخذ من متوسط الحال ديناران، ومن غني أربعة دنانير، اقتداء بعمر رضي الله عنه كما رواه البيهقي عنه، ودليلهم على أقل مقدار الجزية: ما رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما
__________
(1) البيعة بكسر الباء: وهي في الاستعمال الغالب متعبَّد النصارى، والكنيسة متعبد اليهود. لكن في ديار مصر والشام، لا يستعمل لفظ البيعة، بل تستعمل الكنيسة لمتعبد الفريقين. ولفظ الدير للنصارى خاصة. وأصل اللغة أن الكنيسة والبيعة تطلق على كل من معبد اليهود والنصارى.
(2) الكتاب مع اللباب: 146/4.
(3) البدائع: 112/7، الدر المختار: 292/3، تبيين الحقائق: 276/3، المغني: 502/8، وأما التقدير المذكور فمروي من طرق عن عمر، منها ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن عبيد الله الثقفي، ورواه ابن زنجويه عن المغيرة بن شعبة (راجع نصب الراية: 447/3 وما بعدها) .
(4) الشرح الكبير للدردير: 201/2 وما بعدها.
(8/41)
عن معاذ رضي الله عنه: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً، أو عِدله من المعافر، وهي ثياب تكون باليمن» (1) .
ويجب أداء الجزية عند الحنفية في أول السنة؛ لأنها تجب لحماية الذمي في المستقبل. وعند سائر المذاهب: تجب الجزية في آخر السنة؛ لأنه مال يتكرر بتكرار الحول، أو يؤخذ في آخر كل حول كالزكاة (2) .
وتسقط الجزية باختيار الإسلام باتفاق الفقهاء، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه ابن عباس: «ليس على مسلم جزية» (3) وفي رواية للطبراني عن ابن عمر: «من أسلم فلا جزية عليه» .
وتسقط بالموت عند الحنفية والمالكية والزيدية؛ لأن الجزية في رأيهم عقوبة، فتسقط بالموت كالحدود. وعند الشافعية والحنابلة: لا تسقط بالموت وتؤخذ من التركة؛ لأنها دين وجب في الحياة، فلم يسقط بالموت كديون الناس.
وتسقط الجزية أيضاً عند أبي حنيفة والزيدية بمضي السنة ودخول سنة أخرى؛ لأن الجزية عقوبة، فتتداخل مع بعضها كالحدود. وعند الصاحبين وسائر الأئمة: لا تتداخل الجزية وتجب الجزيات كلها؛ لأنها عوض، فتعتبر بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 248/4، وأما حديث معاذ فرواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلاً وأنه أصح (جامع الأصول: 261/3، نصب الراية: 445/3، سبل السلام: 4 ص 66) .
(2) المراجع السابقة.
(3) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني، وذكر الترمذي أنه مرسل (سنن أبي داود: 231/3، مجمع الزوائد: 13/6، منتخب كنز العمال من مسند أحمد: 38/2، جامع الأصول: 267/3، نصب الراية: 453/3، نيل الأوطار: 61/8) .
(4) راجع آثار الحرب: ص 694 وما بعدها، المغني: 511/8 وما بعدها.
(8/42)
حقوق الذميين وواجباتهم: للذميين حقوق وواجبات (1) .
أما حقوقهم فهي ما يأتي:
1ً -التزام تقريرهم في بلادنا إلا الحرم المكي في رأي الجمهور غير أبي حنيفة، لقوله تعالى: {إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/9] والمراد به الحرم، بدليل قوله تعالى: {وإن خفتم عيلة} [التوبة:28/9] وأجاز أبو حنيفة لهم دخول الحرم المكي كالحجاز كله، ولكنهم لا يستوطنون به، ومنع الاستيطان لا يمنع من دخوله.
ومنع المالكية استيطان الكفار في جزيرة العرب، وهي الحجاز واليمن، لكنهم أجازوا لهم دخول الحرم المكي دون البيت الحرام بأمان.
وأجاز الحنابلة دخول الكفار إلى الحجاز للتجارة، ولكن لا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، وعن بعضهم: أربعة أيام.
وحظر الإمام الشافعي تمكين الكافر من دخول مكة وحرمها بأي حال فإن دخلها خفية، وجب إخراجه، وإن مات ودفن فيها، نبش وأخرج منها ما لم يتغير.
2ً - وجوب الكف عنهم وحمايتهم، بسبب عصمة أنفسهم وأموالهم بالعقد، وإنهاء الحرب معهم ومسالمتهم، لحديث بريدة رضي الله عنه عند مسلم: «فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم» ، وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلم: أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من وراءهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم» .
3ً - عدم التعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها، فإن أظهروا الخمر أرقناها عليهم، وإن لم يظهروها وأراقها مسلم، ضمنها في رأي المالكية والحنفية، ولا يضمنها في رأي الشافعية والحنابلة. ويؤدب منهم من أظهر الخنزير.
__________
(1) راجع القوانين الفقهية: ص 156 وما بعدها، المهذب: 258/2، تحفة الأحوذي شرح الترمذي: 231/5، المغني: 529/8-531.
(8/43)
وأما واجباتهم فهي ثلاثة عشر شيئاً هي:
1ً - أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة، وهي دينار عند الشافعي، وإن صولحوا على أكثر من ذلك جاز، وأربعة دنانير عند الجمهور.
2ً - ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم.
3ً - دفع عشر ما يتجرون به في غير بلادهم التي يسكنونها.
4ً - ألا يبنوا كنيسة، ولا يتركوها مبنية في بلدة بناها المسلمون، أو فتحت عنوة، فإن فتحت صلحاً واشترطوا بقاءها جاز.
5ً - ألا يركبوا الخيل ولا البغال النفيسة، ولهم ركوب الحمير.
6ً - أن يمنعوا من جادة الطريق ويضطروا إلى أضيقه.
7ً - أن تكون لهم علامة يعرفون بها كالزنار ويعاقبون على تركها.
8ً - ألا يغشوا المسلمين، ولا يأووا جاسوساً، وألا يتواطؤا مع أهل الحرب على إيذاء المسلمين، وغير ذلك من كل ما فيه ضرر بالمسلمين.
9ً - ألا يمنعوا المسلمين من النزول في كنائسهم ليلاً ونهاراً.
10ً - أن يوقروا المسلمين، فلا يضربوا مسلماً ولا يسبونه ولا يستخدمونه.
11ً - أن يخفوا نواقيسهم، ولا يظهروا شيئآً من شعائر دينهم.
12ً - ألا يسبوا أحداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يظهروا معتقدهم، وألا يطعنوا في شرع الله عز وجل، وألا يتعرضوا للقرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم بسوء.
13ً - إجراء أحكام الإسلام عليهم في المعاملات والعقوبات الجنائية، كتحريم الزنا، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية زنيا (1) ، والامتناع من التعامل بالربا وارتكاب الفواحش والمعاصي وأحوال الفسوق، لكنهم يقرون على تناول الخمر لاعتقادهم إباحته، إلا إذا ترافعوا إلينا، فيحكم بينهم بشريعتنا.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(8/44)
الفَصْلُ الثَّالث: حكم الأنفال والغنائم
يترتب على قيام الحرب آثار في أموال العدو تعرف لدى الفقهاء بأموال الفيء والغنائم: وهي ما وصلت من الحربيين أو كانوا سبب وصولها (1) . ومن هذه الأموال ما يعرف باسم خاص يخص به الإمام أحد المجاهدين ويعرف بالأنفال. فما معنى كل لفظ على حدة وما حكمه؟
1 - النَّفَل: النفل في اللغة: عبارة عن الزيادة، وفي الاصطلاح: عبارة عما خصه الإمام لبعض المجاهدين تحريضاً لهم على القتال، سمي نفلاً، لكونه زيادة عن حصته من الغنيمة.
والتنفيل: تخصيص بعض المجاهدين بالزيادة، كأن يقول ولي الأمر: من أصاب شيئاً فله ربعه أو ثلثه، أو فهو له، أو من قتل قتيلاً فله سَلبَه (2) أو يقول لسرية: «ما أصبتم فهو لكم» .
وهذا جائز لما فيه من تحريض على القتال، والله تعالى يقول: {يا أيها النبي حرِّض المؤمنين على القتال} [الأنفال:65/8] ويجوز التنفيل في سائر الأموال من الذهب والفضة والسَلبَ وغيرها.
ولا بأس أن يُنفِّل الإمام في حال القتال، ويحرض بالنَّفَل على القتال، فيقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو يقول لسرية (هي القطعة من الجيش) : قد جعلت لكم الربع أو النصف بعد أخذ الخمس، لما فيه من تقوية القلوب، وإغراء المقاتلة على المخاطرة وإظهار الجلادة رغبة في القتال. وقال الله تعالى: {حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال:65/8] وهذا نوع من التحريض.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 121.
(2) سيأتي تفسير السلب قريباً، وهذا نص حديث.
(8/45)
والسَّلب: هو ثياب المقتول وسلاحه الذي معه، ودابته التي ركبها بما عليها، وما كان معه من مال. وأما ما يكون مع خادم للمقتول على فرس آخر أو ما معه من أموال على دابة أخرى، فكله من الغنيمة التي هي من حق جماعة الغانمين كلهم. هذا مذهب الحنفية (1) والمالكية (2) الذي يقتضي أن القاتل لا يستحق سلب المقتول إلا بإذن الإمام، أي بأن ينفله له الإمام بعد انتهاء الحرب بطريق الاجتهاد. فإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة، ويكون القاتل وغيره في السلب سواء؛ لأنه مأخوذ بقوة الجيش، فيكون غنيمة لهم.
وقال الشافعية والحنابلة: يستحق القاتل سلب المقتول في كل حال بدون إذن الإمام (3) بدليل عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (4) .
__________
(1) البدائع:7 /114 وما بعدها، فتح القدير: 4 /333 ومابعدها، تبيين الحقائق: 4 /258.
(2) بداية المجتهد: 384/1، الفروق للقرافي: 7/3.
(3) راجع مغني المحتاج: 99/3، المغني لابن قدامة: 388/8.
(4) رواه الجماعة إلا النسائي، ورواه الموطأ وأحمد عن أبي قتادة الأنصاري ورواه البيهقي عن سمرة، كما رواه غيرهما. وأما حديث «ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك» فهو منقطع (راجع جامع الأصول: 291/3، شرح مسلم: 59/12، مجمع الزوائد: 331/5، نصب الراية: 428/3-430، نيل الأوطار: 261/7، سبل السلام: 52/4) .
(8/46)
وقد روي أن «أبا طلحة رضي الله عنه قتل يوم خيبر عشرين قتيلاً، وأخد أسلابهم» (1) .
ومنشأ الخلاف بين الفريقين: هل قوله صلّى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» صادر منه بطريق الإمامة أم بطريق الفتيا؟
قال الحنفية والمالكية: إن السلب لم يكن للقاتل إلا يوم حنين، فتخصيص بعض المجاهدين به موكول إلى اجتهاد الإمام، فهو تصرف مقول بطريق الإمامة والسياسة. وما وقع منه صلّى الله عليه وسلم بالإمامة لا بد فيه من إذن الإمام في كل عصر من العصور.
وقال الشافعية والحنابلة: إن تنفيل السلب تصرف حادث من الرسول صلّى الله عليه وسلم بطريق الفتيا، لا بطريق الإمامة، وكل ما وقع منه بطريق الفتيا والتبليغ يستحق بدون قضاء قاض أوإذن إمام (2) .
وهذا الخلاف يجري في فهم حديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (3) فهل يحتاج إصلاح الأرض لتملكها إلى إذن الإمام أو لا؟ رأيان كما لا حظنا.
والتنفيل بناء على رأي الفريق الأول إنما يكون في مباح القتل، فلا يستحق بقتل غير المقاتلة كالصبي والمرأة والمجنون ونحوهم. ولا يشترط في استحقاق النفل سماع القاتل مقالة الإمام؛ لأن إسماع كل المجاهدين متعذر.
__________
(1) رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم عن أنس (راجع نيل الأوطار: 262/7، نصب الراية: 429/3) .
(2) راجع الفروق للقرافي: 195/1، 7/3 وما بعدها.
(3) رواه البخاري في صحيحه عن عائشة، وروي عن سبعة آخرين من الصحابة (راجع نصب الراية: 288/4) .
(8/47)
ويشترط لجواز التنفيل أن يكون قبل حصول الغنيمة في أيدي الغانمين، فإن حصلت في أيديهم، فلا نفل إلا من الخمس ونحوه.
وحكم التنفيل: اختصاص القاتل بالنفل، فلا يشاركه فيه أحد من الغانمين، ولكن لا يتم تملكه إلا بالإحراز في دار الإسلام عند أبي حنيفة، وأبي يوسف. وأما عند محمد فيتم تملكه قبل الإحراز بدارنا (1) .
2 - الفيء: الفيء في اللغة: الرجوع، واصطلاحاً: هو المال الذي يؤخذ من الحربيين من غير قتال، أي بطريق الصلح كالجزية والخراج (2) . وقد كان الفيء لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة يتصرف فيه كيف شاء، لقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء، والله على كل شيء قدير} [الحشر:6/59] وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلم، وكانت خالصة له، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكُراع (3) والسلاح» (4) .
وأما بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم فيكون الفيء لجماعة المسلمين، يصرف في مصالح المسلمين عامة. والفرق بين الرسول وغيره من الأئمة: أن الأئمة ينصرون بالقوة المعنوية لقومهم، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه منصور بما آتاه الله من هيبة
__________
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار عليه: 261/4-264، البدائع: 115/7.
(2) راجع آثار الحرب: والمراجع التي فيه: ص 553.
(3) الكراع ـ بضم الكاف: اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.
(4) رواه الشيخان وأحمد عن عمر (نيل الأوطار: 71/8، الإلمام: ص 503) .
(8/48)
خاصة به، كما قال عليه الصلاة والسلام: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (1) .
وبناء عليه: إذا دخل حربي في دار الإسلام بغير أمان، فأخذه أحد المسلمين، يكون فيئاً لجماعة المسلمين، ولا يختص به الآخذ عند أبي حنيفة؛ لأن سبب ثبوت الملك فيه متحقق بالنسبة لجميع أهل دار الإسلام. وعند الصاحبين: يكون للآخذ خاصة؛ لأن سبب الملك وهو الأخذ والاستيلاء وجد حقيقة من الآخد خاصة.
ويخمَّس المنقول من الفيء كالغنيمة عند الشافعية، فيكون الخمس لمن ذكرته آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال:41/8] ويقسم الخمس خمسة أسهم: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويجعل بعد وفاته في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل.
وأما عقارات الفيء فتوقف لمصالح بيت مال المسلمين، لآية الفيء السابقة: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر:7/59] ومن مصارف الفيء: النفقة على أسر المجاهدين والشهداء، وهم المرتزقة، وعلى العلماء ونحوهم ممن تحتاج إليهم الأمة.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد الله بلفظ «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» ويروى عن جماعة آخرين من الصحابة، وهو حديث متواتر (الجامع الصغير: ص 471، مجمع الزوائد: 65/6، تلخيص الحبير، الطبعة الجديدة بمصر: 140/3) .
(8/49)
3 - الغنيمة: الغنيمة في اللغة: الفوز بالشيء بلا مشقة، واصطلاحاً: هي ما أخذ من أموال أهل الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة (1) ، وللغنائم أحكام:
الحكم الأول ـ ثبوت الحق والملك فيها:
إن حق الغانمين في تملك الغنائم عند الحنفية يتدرج في مراتب ثلاث، يثبت في أولها أصل الحق العام، ويتأكد في ثانيها هذا الحق، ويتخصص في ثالثها حق كل مجاهد به.
ففي المرتبة الأولى ـ يتعلق أصل الحق العام في تملك الغنيمة للغانمين بمجرد الأخذ والاستيلاء، ولكن لا تثبت الملكية قبل الإحراز بدار الإسلام عند الحنفية (2) .
وعند بقية الأئمة والشيعة الزيدية والإمامية: تنتقل ملكية أموال العدو إلى الغانمين بمجرد الاستيلاء، فيثبت لهم الملك في الغنيمة قبل الإحراز بدار الإسلام (3) .
إلا أن الراجح عند الشافعية أن تملك أموال الأعداء لا يثبت إلا بالاستيلاء مع القسمة أو اختيار التملك (4) .
وقد فرع الحنفية على الأصل المقرر عندهم هذه الفروع الفقهية:
أـ إذا مات واحد من الغانمين في دار الحرب لا يورث نصيبه.
ب ـ إذا باع الإمام شيئاً من الغنائم، لا لحاجة المجاهدين، لا يجوز.
جـ ـ إذا أتلف أحد الغانمين شيئاً، لا يضمنه.
د ـ إذا لحق المدد الجيش في دار الحرب، فأحرزوا جميعهم الغنائم إلى دار الإسلام، يشاركونهم في القسمة.
هـ ـ إذا قسم الإمام الغنيمة في دار الحرب قسمة مجازفة بدون اجتهاد ولا لحاجة المجاهدين، فإن القسمة لا تصح.
وأما عند الأئمة الآخرين فإن حكم هذه الفروع على العكس تماماً مما هو مقرر لدى الحنفية.
وأما فائدة ثبوت أصل الحق العام في الغنيمة عند الحنفية فهو يظهر فيما يلي:
إذا أسلم الأسير في دار الحرب، فإنه لا يكون حراً، ويدخل في قسمة الغنيمة، وإذا أسلم قبل الأسر يكون حراً، ولا يدخل في القسمة؛ لأنه بالأسر يتعلق به حق الغانمين، فإذا وجد الإسلام قبل الأسر لم يتعلق به حق أحد.
ولو أسلم أرباب الأموال قبل الإحراز بدار الإسلام، فإن أموالهم لا تكون خاصة بهم، وإنما يساهمون مع غيرهم من المجاهدين في القسمة والاستحقاق، بسبب اشتراكهم مع المجاهدين في الإحراز بدار الإسلام، فيكونون كالمدد اللاحق بالجيش.
__________
(1) آثار الحرب، المرجع السابق.
(2) فتح القدير: 309/4، البدائع: 121/7.
(3) آثار الحرب: ص 556 ومابعدها.
(4) مغني المحتاج: 234/4، المهذب: 241/2.
(8/50)
وكذلك ليس لأحد المجاهدين أن يأخذ شيئاً من الغنائم من غير حاجة، لثبوت أصل الحق العام للغانمين فيما غنموه، ولو لم يثبت أصل الحق، لكان المال الذي غنم بمنزلة المباح (1) .
استدل الحنفية على مذهبهم بأن الاستيلاء إنما يفيد الملك إذا ورد على مال مباح غير مملوك لأحد، وهذا المعنى لم يتوافر في الغنيمة؛ لأنها مملوكة للأعداء في الأصل، ولم تزل ملكيتهم عنها إلا بالإحراز بدار الإسلام.
واستدل غير الحنفية بأن سبب الملك هو الاستيلاء التام، وقد وجد فيفيد الملك، كالاستيلاء على سائر المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما، ثم إن الأدلة الدالة على استحقاق الغنيمة عامة، مثل قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال:41/8] الآية (2) .
وفي المرتبة الثانية ـ أي بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة: يتأكد الحق العام في الغنيمة ويستقر على ملك الغانمين، ولكن لا يثبت الملك أيضاً عند الحنفية.
ولهذا قالوا: لو مات أحد المجاهدين، يورث نصيبه، ولو باع الإمام شيئاً من الغنيمة أو قسمها، جاز، ولو لحقهم مدد لا يشاركون الغانمين، وإذا أتلف أحد شيئاً من الغنيمة يضمنه.
وفي المرتبة الثالثة ـ أي بعد الإحراز والقسمة يثبت الملك الخاص لكل واحد من المجاهدين فيما هو نصيبه؛ لأن القسمة إفراز الأنصباء وتعيينها (3) .
أوجه الانتفاع بالغنيمة في دار الحرب: إذا تم الاستيلاء على الغنائم، فلا بأس بالانتفاع بها عند الحنفية قبل الإحراز بدار الإسلام، وذلك بالأكل والشرب والعلف والحطب منها، لعموم حاجة الغانمين، سواء أكان المنتفع غنياً أم فقيراً؛
__________
(1) راجع البدائع: 121/7 وما بعدها، فتح القدير: 309/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 251/3.
(2) المرجعان السابقان للشافعية (مغني المحتاج والمهذب) ، المغني: 422/8.
(3) راجع فتح القدير: 310/4، البدائع: 122/7، تبيين الحقائق: 252/3.
(8/51)
لأن في إلزام الغني حمل الطعام والعلف من دار الإسلام إلى دار الحرب، مدة الذهاب والإياب والإقامة، حرجاً عظيماً، فكانت الحاجة عامة.
ولا يباح لهم بيع شيء مما يباح الانتفاع به، إذ لا ضرورة إلى البيع، ولو باع أحدهم شيئاً ردّ ثمنه إلى الغنيمة، إن تم البيع قبل قسمة الغنيمة. أما بعد القسمة: فإن كان البائع غنياً تصدق بقيمة المبيع على الفقراء، لتعذر توزيعه على الغانمين، وإن كان البائع فقيراً أخذ القيمة؛ لأن المبيع، لو كان موجوداً، لكان له حق أكله.
وكذلك إذا فضل شيء من الطعام والعلف من الغانمين بعد الإحراز بدا ر الإسلام، فإنه قبل القسمة يرد إلى الغنيمة إن كان حامله غنياً، وإن كان فقيراً يأكل منه. أما بعد القسمة: فإن كان حامل الطعام أو العلف غنياً، تصدق به على الفقراء إن كان موجوداً، وبقيمته إن كان هالكاً، وإن كان فقيراً ينتفع به.
فإن لم يفضل شيء في يد من أخذ الطعام والعلف قبل الإحراز بدار الإسلام، فإنه لا يجوز الانتفاع بشيء من الغنيمة بعد الإحراز بدار الإسلام، لزوال المبيح، وهي الضرورة (1) .
وأما ما عدا الطعام والعلف من الأموال: فلا يباح للمجاهدين أن يأخذوا شيئاً منها، لتعلق حق الجماعة بها، إلا أنه إذا احتاج أحدهم إلى استعمال شيء من السلاح أو الدواب أو الثياب، لصيانة سلاحه ودابته وثيابه، فلا بأس باستعماله، فإن استغنى عنه رده إلى المغنم؛ لأن المحظور يستباح للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها (2) .
وإذا أراد المسلمون العودة إلى دار الإسلام ومعهم مواشٍ أو أسلحة، ولم يقدروا على نقلها إلى دار الإسلام، ذبحوا المواشي وأحرقوها بعد الذبح، وأتلفوا الأسلحة حتى لا يستفيد منها العدو.
__________
(1) تبيين الحقائق، المرجع السابق: ص 252 وما بعدها. البدائع: 124/7، الكتاب مع اللباب: 121/4.
(2) المراجع السابقة.
(8/52)
الحكم الثاني ـ كيفية ومكان قسمة الغنائم:
إن كيفية توزيع الغنائم موضحة في قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء، فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير} [الأنفال:41/8] فتقسم الغنيمة خمسة أسهم: الخمس لمن ذكرتهم الآية والأربعة الأخماس للغانمين، وهذا ما بينه ابن عباس: قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا بعث سرية، فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة، ثم قرأ: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... } [الأنفال:41/8] الآية، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحداً، ولذي القربى، فجعل هذين السهمين قوة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأسهم الأربعة الباقية: للفرس سهمين، ولراكبه سهماً، وللراجل سهماً (1) .
ويقول بعض العلماء: تقسم الغنيمة على ستة أسهم، منها سهم الكعبة.
وقال الإمام مالك: إن أمرالقسمة موكول إلى نظر الإمام، ومصروف في مصالح المسلمين. وما ذكر في الآية تنبيه على أهم من يدفع إليهم الخمس (2) .
__________
(1) رواه البيهقي: والطبراني وفي سنده متروك (راجع سنن البيهقي: 324/6، مجمع الزوائد: /340، نصب الراية: 426/3 وما بعدها، تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 99/3 وما بعدها) .
(2) آثار الحرب: هامش ص 629.
(8/53)
وسهم الرسول صلّى الله عليه وسلم عند جمهور الفقهاء: كان يأخذ منه الرسول كفايته لنفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة، ثم يصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة كشراء الأسلحة ونحوها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» (1) .
والصحيح عند الحنفية أن سهم ذوي القربى كان يصرف للفقراء منهم دون الأغنياء. وقال جمهور الفقهاء: يشترك الغني والفقير والنساء في سهم القرابة، لإطلاق الآية: {ولذي القربى} [الأنفال:41/8] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى العباس منه، وكان من أغنياء قريش، وكان الزبير يأخذ سهم أمه صفية عمة النبي صلّى الله عليه وسلم.
ثم اختلف الناس في سهم الرسول صلّى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد وفاته.
فقالت طائفة، منهم الشافعية: سهم الرسول عليه السلام للخليفة من بعده.
وقالت طائفة: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة. وأجمعوا أن جعلوا هذين السهمين في المصالح العامة كالخيول والأسلحة للجهاد في سبيل الله.
وقالت الحنفية: سقط سهم الرسول بموته؛ لأنه كان يأخذه بوصف الرسالة، لا بوصف الإمامة. وهذا مخالف لجمهور الأئمة.
والمراد بذي القربى هنا: هم بنو هاشم وبنو طالب دون بني عبد شمس وبني نوفل؛ لأن الأوائل لم يفارقوا الرسول صلّى الله عليه وسلم في جاهلية ولا إسلام، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم، وشبك بين أصابعه (2) . ويصرف اليوم في المصالح العامة.
والخلاصة: أن مذاهب الفقهاء في قسمة خمس الغنيمة بعد عهد النبوة مايأتي:
قال الحنفية: تقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
__________
(1) حديث متواتر مروي عن ثلاثة عشر صحابياً، منهم عمر الذي روى الحديث عنه مالك بن أوس بن الحدثان الذي روى حديثه الجماعة، إلا ابن ماجه، واللفظ المذكور عن أبي هريرة (راجع النظم المتناثر من الحديث المتواتر للسيد محمد بن جعفر الكتاني: ص 138، جامع الأصول: 300/3 وما بعدها، تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 134/3) .
(2) رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن جبير بن مطعم (جامع الأصول: 295/3، نصب الراية: 425/3، تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 101/3، نيل الأوطار: 69/8) .
(8/54)
وأما ذكر الله تعالى في الخمس فإما هو لافتتاح الكلام، تبركاً باسمه تعالى. وسهم النبي صلّى الله عليه وسلم سقط بموته، كما سقط الصَّفي: وهو شيء كان يصطفيه النبي صلّى الله عليه وسلم لنفسه، أي يختاره من الغنيمة، مثل درع وسيف. وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم بالنصرة له، وبعد وفاته بالفقر لانقطاع النصرة.
وقال الشافعي وأحمد والظاهرية وجمهور المحدثين: توزع الغنيمة على خمسة أسهم:
أولها ـ سهم المصالح (سهم الله ورسوله) وثانيها ـ سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
وقال الإمام مالك: إن القسمة مفوض أمرها إلى الإمام، يفعل ما يراه مصلحة (1) .
وأما الأربعة الأخماس: فهي للغانمين، ويساهم فيها الرجل المسلم المقاتل بأن يكون من أهل القتال، ودخل المعركة على قصد القتال، سواء قاتل أم لم يقاتل؛ لأن الجهاد إرهاب للعدو.
__________
(1) آثار الحرب: هامش ص 628 وما بعدها، البدائع: 125/7، بداية المجتهد: 277/1، مغني المحتاج: 94/3.
(8/55)
أما المرأة والصبي المميز والذمي: فليس لهم سهم كامل؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال، ولكن يرضخ (1) لهم بحسب ما يرى الإمام من عنايتهم.
ومقدار الاستحقاق يختلف بحسب ما إذا كان القاتل فارساً أوراجلاً، فقال أبو حنيفة والشيعة الإمامية: يعطى للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد.
وقال الصاحبان وجمهور العلماء والشيعة الزيدية: يعطى للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
وسبب تفضيل الفارس على الراجل: هو أن المحارب كان في الماضي يملك الفرس التي يخرج بها للجهاد، ويلتزم بمؤونتها.
ومذهب الجمهور أصوب لصحة ثبوته عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، فإنه كما روى ابن ماجه والبيهقي أن الرسول صلّى الله عليه وسلم أسهم يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللرجل سهم (2) .
وأما حديث الدارقطني الذي نصه: «للفارس سهمان وللراجل سهم» ففي إسناده ضعيف وفي متنه وهم (3) .
__________
(1) الرضخ لغة: العطاء ليس بالكثير، وشرعاً: مال تقديره إلى رأي الإمام محله الخمس كالنفل. والنفل في الشرع: الزيادة من خمس الغنيمة كما سبق بيانه.
(2) رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي عن ابن عمر (نيل الأوطار: 281/8 وما بعدها، الإلمام: ص 502، جامع الأصول: 272/3، سنن ابن ماجه: 102/2، سنن البيقهي: 325/6) .
(3) رواه ابن عباس، وقال عنه الزيلعي: غريب، وفي الباب أحاديث، منها حديث مجمِّع بن جارية أخرجه أبو داود وأحمد والطبراني وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي والحاكم، قال ابن القطان: وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع (نصب الراية: 416/3، آثار الحرب: حاشية ص629 وما بعدها، والمراجع التي فيه) .
(8/56)
ولا يسهم لأكثر من فرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر؛ لأن الإسهام للخيل في الأصل، ثبت على خلاف القياس، إلا أن الشرع ورد به لفرس واحد، فالزيادة عليها ترد إلى أصل القياس. وقال أبو يوسف: يسهم لفرسين إذا كانتا مع الفارس؛ لأن المجاهد قد يحتاج إلى فرسين يركب أحدهما، فإذا عيي ركب الآخر (1) .
وصف المقاتل المستحق للغنيمة: المعتبر في تحديد وصف المقاتل بكونه فارساً أو راجلاً في ظاهر الرواية عند الحنفية: هو وقت دخوله دار الحرب بقصد الجهاد، حتى إنه إذا دخل تاجراً، فإنه لا يستحق شيئاً من الغنيمة، ولو دخل فارساً ثم مات فرسه يستحق سهم الفرسان، ودليلهم أن إرهاب العدو يحصل بمجرد اجتياز حدود دار الحرب، وأن معرفة حقيقة القتال وشهود الوقعة أمر متعذر أو متعسر، فيعتبر بالنسبة لكل المستحقين السبب المفضي إلى القتال ظاهراً، وهو اجتياز الحدود.
ويترتب على هذا المذهب أيضاً أنه لو دخل المجاهد إلى دار الحرب راجلاً، ثم اشترى فرساً، أو وهب له، أو ورثه، أو استعاره، أو استأجره، فقاتل فارساً: فله سهم الراجل، لاعتبار حالة دخوله إلى دار الحرب. وقيل: له سهم فارس.
وأما الصورة العكسية لهذا، وهي أنه لو دخل فارساً، ثم باع فرسه، أو آجره أو وهبه، أو أعاره، فقاتل، وهو راجل: فإنه في ظاهر المذهب يستحق سهم راجل، كما في السير الكبير لمحمد؛ لأنه لما باع فرسه مثلاً تبين أنه لم يقصد الجهاد فارساً، بل قصد به التجارة، والعبرة في الاستحقاق: اجتياز الحدود بقصد الجهاد. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يستحق سهم الفرسان، بحسب حالته وقت مجاوزة الحدود (2) .
وقال جمهور الفقهاء: المعتبر في تحديد وصف المستحق للغنيمة هو من حضر المعركة بنية القتال وإن لم يقاتل مع الجيش (3) ، لقول أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة» (4) قال الماوردي: ولا مخالف لهما من الصحابة.
ويترتب على هذا: أنه لو لحق المدد بالمسلمين بعد انقضاء القتال، فإنهم لا يستحقون شيئاً من الغنيمة، خلافاً للحنفية، كما سبق لدينا: وهو أن المدد يشارك المقاتلة في الغنائم قبل القسمة، أو قبل إحرازها بدار الإسلام.
مكان قسمة الغنائم:
يرى جمهور الفقهاء والظاهرية والشيعة الإمامية والزيدية: أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بعد انهزام العدو، بل إنه يستحب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر من الجِعْرانَة (موضع بين مكة والطائف) حيث قسم غنائم حنين (واد بينه وبين مكة ثلاثة أميال) (5) وقسم الرسول عليه الصلاة والسلام الغنائم بذي الحُليفة (ميقات
__________
(1) البدائع: 126/7، فتح القدير: 323/4، تبيين الحقائق: 254/3.
(2) فتح القدير: 326/4، البدائع، المرجع نفسه: ص 127، تبيين الحقائق: 255/3.
(3) بداية المجتهد: 380/1، مغني المحتاج: 102/3، المغني: 419/8.
(4) رواه الشافعي رحمه الله تعالى وابن أبي شيبة عن عمر، قال الزيلعي: غريب مرفوعاً، وهو موقوف على عمر، ورواه الطبراني والبيهقي وقال: هو الصحيح من قول عمر، وأخرجه ابن عدي عن علي (نصب الراية: 408/3، تلخيص الحبير: 102/3، 108) .
(5) رواه البخاري عن أنس، وذكره الطبراني في الأوسط من حديث قتادة عن أنس (تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 105/3، مجمع الزوائد: 238/5، المنتقى على الموطأ: 199/3) .
(8/57)
أهل المدينة) (1) ، وافتتح بلاد بني المصطلق، فقسم الرسول أموالهم في دارهم (2) .
ويقول الحنفية: لا يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب، حتى يخرج الجيش إلى دار الإسلام. هذا إذا كان المكان غير متصل بدار الإسلام، فإن كان متصلاً بها، ففتح وأجري عليه حكم الإسلام، كما هو شأن غنائم حنين، فلا بأس بالقسمة. والسبب في عدم جواز القسمة عندهم هو أن ملكية الغنائم لا تتم إلا بالاستيلاء، ولا يتم الاستيلاء إلا بالإحراز في دار الإسلام. ومع هذا إذا قسم الإمام الغنائم بدار الحرب عن اجتهاد، أو لحاجة المجاهدين، فتصح القسمة، أو للإيداع فتحل إذا لم يكن عند الإمام وسائط نقل أو حمولة (3) .
استيلاء الكفار على أموال المسلمين:
قال جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية: يملك الكفار أموال المسلمين، أو الذميين في دار الإسلام بالقهر والغلبة، إلا أن الحنفية قالوا: لا يثبت تملكهم لأموالنا إلا بالإحراز في دار الحرب، فلو تمكن المسلمون من غلبتهم وأخذوا ما في أيديهم لا يصير ملكاً لهم، وعليهم ردها إلى أربابها بغير شيء، وكذا لو قسموها في دار الإسلام، ثم غلبهم المسلمون، فأخذوها من أيديهم، فإنها ترد إلى أصحابها؛ لأن قسمتهم لا تعتبر جائزة لعدم وجود الملكية.
وقال الشافعية والظاهرية: لا يملك الكافر مال المسلم أو الذمي بطريق الغنيمة.
__________
(1) راجع العيني شرح البخاري: 311/14. وذو الحليفة الآن: ميقات أهل المدينة، ويسمى آبار علي، ويقع في مكان أعلى قليلاً من الينبع، ولم يكن حينئذ من دار الإسلام.
(2) سنن البيهقي: 54/9، ذكره الشافعي في الأم، واستنبطه البيهقي من حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه أنهم سبوا كرائم العرب، وأنهم أرادوا الاستمتاع والعزل (تلخيص الحبير، الطبعة المذكورة: 105/3 وما بعدها، الأموال لأبي عبيد: ص 119) .
(3) راجع الموضوع في آثار الحرب: ص 631 وما بعدها.
(8/58)
الأدلة:
أدلة الجمهور:
1 - استدل الحنفية بأن الكفار استولوا على مال مباح غير مملوك، ومن استولى على مال مباح غير مملوك يملكه، كمن استولى على الحطب والحشيش والصيد، والدليل عل أنه غير مملوك أنه زال ملك المسلم عنه باستيلاء العدو وإحرازه في بلاده؛ لأنه حينئذ لا يتمكن من الانتفاع بماله إلا بدخوله دار الحرب، وهو غير مستطاع.
واستدل غير الحنفية: بأن الاستيلاء سبب للملك، فيثبت قبل الحيازة إلى دار الحرب، كاستيلاء المسلمين على مال غيرهم.
2 - قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمن وجد بعيره في الغنيمة: «إن وجدته لم يقسم فخذه، وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن إن أردته» (1) فهذا يدل على تملك الأعداء للبعير، وأولوية مالكه الأول بعينه. وللجمهور أدلة أخرى.
واستدل الشافعية بأدلة، منها أن ابن عمر ذهب له فرس، فأخذها العدو، فظهر عليهم المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبَق (هرب) له عبد، فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم في
__________
(1) رواه مالك والدارقطني عن عبد الملك بن ميسرة عن ابن عباس (نصب الراية: 434/3) .
(8/59)
زمن أبي بكر الصديق، والصحابة متوافرون من غير نكير منهم (1) . قال القسطلاني: وفيه دليل للشافعية وجماعة على أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئاً من مال المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها (2) .
رد المال على صاحبه: إذا افترضنا أن العدو ظفر بأموال المسلم أو الذمي، ثم تغلب المسلمون على أعدائهم، فإذا عرف صاحب المال قبل قسمة الغنيمة، فإنه يجب رد هذه الأموال على أصحابها عند جماهير العلماء، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة.
أما إذا كانت الغنيمة قد قسمت، ثم عرف صاحب المال، فله أخذه بعد دفع قيمته عند المالكية والحنفية، والحنابلة في الأظهر عن أحمد، والزيدية.
وقال الشافعية والظاهرية والشيعة الإمامية: إن صاحب المال يستحقه من غير شيء، ويعطى من كان عنده ثمنه من خمس المصالح؛ لأنه يشق نقض القسمة (3) .
أموال الحربي الذي أسلم قبل تمام الفتح:
إذا أسلم الحربي قبل أن يتم الفتح الإسلامي لبلده، فما أثر هذا الإسلام على ماله الكائن في دار الحرب؟
يرى المالكية في الراجح عندهم: أن مال هذا الشخص يعتبر فيئاً وغنيمة إذا ظفر المسلمون ببلاده، سواء بقي في دار الحرب أم فرَّ إلى دار الإسلام.
وهو رأي الحنفية والإمامية والزيدية في العقار والأرض، أما المنقول: فإن الإسلام يعصمه، ولكنهم اشترطوا أن يكون المنقول تحت يد صاحبه.
وقال الشافعية والحنابلة والظاهرية: إن الإسلام يعصم المال، سواء أكان عقاراً أم منقولاً.
وسبب الخلاف بين الفقهاء: هو أن العاصم للمال والدم، هل هو الإسلام أو الدار؟
فالفريق الأول يقول: إن العاصم هو الدار، فما لم يحز المسلم ماله وولده بدار الإسلام، وأصيب في دار الكفر، فهوفيء. وقال الفريق الثاني: العاصم هو الإسلام (4) .
__________
(1) رواه البخاري ومالك في الموطأ وأبو داود وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر (راجع فتح الباري: 111/6، العيني شرح البخاري: 2/15، سنن ابن ماجه: 102/2، نصب الراية: 435/3، نيل الأوطار: /292) .
(2) القسطلاني شرح البخاري: 172/5.
(3) راجع آثار الحرب: ص 613 وما بعدها.
(4) آثار الحرب، المرجع نفسه: ص 622 ومابعدها.
(8/60)
الفَصْلُ الرّابع: حكم الأسرى والسّبي
الأسرى: هم الرجال المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء.
والسبي: هم النساء والأطفال.
والكلام عنهم يطول جداً، ولذا سأقصر الكلام على بحث حكم الأسرى والسبي بعد أسرهم وسبيهم، ومن المعلوم أن الأسر مشروع لقوله تعالى: {وخذوهم واحصروهم} [التوبة:5/9] وقوله سبحانه: {فشدوا الوَثاق} [محمد:4/47] وهو كناية عن الأسر، والأسر في حرب المسلمين قليل؛ لأن المسلم لا يأسر عدوه عادة إلا في نهاية المعركة، أما في أثنائها فنادر، والأسير عالة على الآسر.
والثابت من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه كان يمن على بعض الأسارى ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، أو بالأسرى (1) ، وذلك على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ويراه ملائماً لحال المسلمين.
وأبدأ أولاً بحكم السبي:
__________
(1) راجع نيل الأوطار: 8 ص 2-6.
(8/61)
حكم السبي: يعرف حكم السبي ببحث الأحوال التي قد يتعرضون لها، وهي: القتل والاسترقاق، والمن والفداء (1) .
أما القتل بعد الأسر فلا يجوز للنساء والذراري، أي الأولاد باتفاق العلماء، سواء أكانوا من أهل الكتاب، أم من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية (2) وعبدة الأوثان والثنوية (3) .
فإن اشترك النساء والأولاد في القتال مع قومهم بالفعل أو بالرأي، جاز قتلهم في أثناء القتال، وبعد الأسر عند جمهور الأئمة، لوجود العلة في قتل الأعداء: وهي المقاتلة. وخالف الحنفية في حالة القتل بعد الأسر، فلم يجيزوا قتل المرأة والصبي والمعتوه الذي لا يعقل؛ لأن القتل بعد الأسر بطريق العقوبة، وهم ليسوا من أهل العقوبة.
فأما القتل حال نشوب المعركة، فلدفع شر القتال، وقد وجد الشر منهم، فأبيح قتلهم فيه، لدفع الشر، وقد انعدم الشر بالأسر.
وأما الرق: فإنه إذا لم يجز قتل السبي بعد الأسر كما تقدم، فإن المالكية يرون أن الإمام يخير حينئذ بين الاسترقاق والمن والفداء.
وقال الحنفية: يسترقهم الإمام، سواء أكانوا من العرب أم من العجم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استرق نساء هوازن وذراريهم (4) ، وكذا الصحابة استرقوا نساء المرتدين من العرب وذراريهم.
__________
(1) راجع التفصيل في آثار الحرب للمؤلف: ص 418 وما بعدها، البدائع: 7 ص 119.
(2) الدهرية ـ بفتح الدال وقد يضم: منسوبة إلى الدهر لقولهم: «ما يهلكنا إلا الدهر» فهم يقولون ببقاء الدهر وإن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه لا بصانع، فهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر (راجع المنقذ من الضلال للغزالي: ص 10) .
(3) الثنوية: هم القائلون بإلهين اثنين: وهما النور والظلمة (راجع اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي: ص 88) .
(4) راجع نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 3.
(8/62)
وقال الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: يصيرون أرقاء بنفس السبي ويقسمون مع الغنائم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقسم السبي كما يقسم المال (1) .
ويلاحظ أن إرقاق السبي كان معاملة بالمثل؛ لأن مشروعية الرق في الإسلام، كانت على أساس تقرير الواقع الذي كان موجوداً قبل الإسلام؛ ولتهيئة الأذهان للتخلص منه بالعتق مع مرور الزمن.
وأما المن: فقد أجاز المالكية أن يمن الإمام على السبي بإطلاق سراحهم إلى بلادهم بدون مقابل. وكذلك أجاز الشافعية والحنابلة لولي الأمر المن على السبي، ولكن بشرط استطابة أنفس الغانمين، إما بالعفو عن حقوقهم، أو بمال يعوضهم من سهم المصالح.
ولم يجز الحنفية المن مطلقاً، حتى لا يعود السبي حرباً على المسلمين؛ لأن النساء يقع بهن نسل، والصبيان يبلغون، فيصيرون حرباً كذلك.
وأما الفداء: فقد أجازه المالكية، فللإمام أن يفادي بالنفوس من نساء أو صبيان. وأجازه الإباضية أيضاً بالنفوس والمال.
وأجازه الشافعية على مال أو أسرى من المسلمين في أيدي الأعداء بعد تعويض الغانمين عنهم من سهم المصالح، بدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم سبى نساء بني قريظة وذراريهم، فباعهم من المشركين (2) .
ولم يجز الحنفية والحنابلة الفداء بالسبي، لا على مال، ولا على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم.
__________
(1) راجع نيل الأوطار: 8 ص 3، 51، شرح مسلم: 12 ص 91.
(2) رواه الشيخان وأحمد عن أبي سعيد (شرح مسلم، المرجع السابق، نيل الأوطار: 8 ص 55، الأموال: ص121) .
(8/63)
حكم الأسرى: اتفق الفقهاء على أن لولي الأمر أن يفعل بالنسبة للأسرى ما يراه الأوفق لمصلحة المسلمين، ويختار أحد أمور حددها كل واحد من أصحاب المذاهب بما هداه إليه اجتهاده (1) .
مذهب الحنفية: أن ولي الأمر مخير في الأسرى بين أمور ثلاثة: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما تركهم أحراراً ذمة للمسلمين، إلا مشركي العرب والمرتدين، فإنهم لا يسترقون، ولا تعقد لهم الذمة، ولكن يقتلون إن لم يسلموا، لقوله تعالى: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد، تقاتلونهم أو يسلمون} [الفتح:16/48] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (2) .
ولا يجوز في رواية عن أبي حنيفة الفداء بالمال أو بالأسرى بعد تمام الحرب. وعند الصاحبين: يجوز الفداء بالأسارى، وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن: أنه يجوز الفداء بالمال عند الحاجة أو بأسرى المسلمين؛ لأنه ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: أنه فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين (3) ، وفدى بامرأة ناساً من المسلمين، كانوا أسرى بمكة (4) .
__________
(1) راجع آثار الحرب: ص 430 وما بعدها.
(2) رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي وإسحاق بن راهويه وابن هشام عن أبي هريرة، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط عن عائشة بلفظ: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» (سنن البيهقي: 9 ص 208، مشكل الآثار للطحاوي: 4 ص 13، نصب الراية: 3 ص 454، نيل الأوطار: 8 ص 64، مجمع الزوائد: 5 ص 325) .
(3) رواه مسلم وأحمد والترمذي وصححه وابن حبان عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل (نيل الأوطار: 7 ص 305، سبل السلام: 4ص 55) .
(4) أخرجه مسلم عن سلمة بن الأكوع، وفيه أنه أسر امرأة من بني فزارة، فاستوهبها الرسول منه فوهبها له، فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة (نصب الراية: 3 ص 404) .
(8/64)
وقال محمد: الجواز أظهر الروايتين عن أبي حنيفة، وفدى الرسول عليه الصلاة والسلام الأسارى يوم بدر بالمال (1) .
ويحرم المن على الأسرى عند جمهور الحنفية؛ لأن في المن تمكين الأسير من أن يعود حرباً على المسلمين، فيقوي عدوهم عليهم، وهو لا يحل.
ويرى الإمام محمد: أنه يجوز المن على بعض الأسارى إن رأى الإمام فيه النظر للمسلمين؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم منَّ على ثمامة بن أُثال الحنفي حين أسره المسلمون، وربطوه بسارية من سواري المسجد (2) .
لكن يجوز باتفاق الحنفية المن على الأسرى تبعاً للأراضي، كيلا يشغل الفاتحون بالزراعة عن الجهاد.
ومذهب الشافعية والحنابلة والإمامية والزيدية والظاهرية: أن الإمام أو من استنابه من أحد أركان حربه يفعل ماهو الأصلح والأحظ للإسلام والمسلمين من أحد أمور أربعة: وهي القتل والاسترقاق والمن والفداء بمال أو بأسرى، يفعل ذلك بالاجتهاد لا بالتشهي، فإن خفيت عليه المصلحة حبسهم حتى يظهر له وجهها. وتقدير المصلحة يتم بحسب ما يرى في الأسير من قوة بأس وشدة نكاية، أو أنه مأمون الخيانة، أو مرجو الإسلام، أو مطاع في قومه، أو أن المسلمين في حاجة إلى المال.
ومذهب المالكية: أن الإمام يتخير بما هو مصلحة للمسلمين في الأسرى قبل قسم الغنيمة بين أحد أمور خمسة: القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وضرب الجزية عليهم.
__________
(1) رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربع مئة. وروى مسلم وأحمد عن أنس قصة اقتراح أبي بكر قبول الفداء منهم، ومعارضة عمر لذلك (نصب الراية: 2 ص 402 وما بعدها، نيل الأوطار: 7 ص 304، الإلمام: ص 495) .
(2) رواه الشيخان وأحمد عن أبي هريرة (شرح مسلم: 12 ص 87، نصب الراية، المرجع السابق: ص 391، نيل الأوطار، المرجع السابق: ص301 وما بعدها.
(8/65)
الأدلة (1) :
استدل الفقهاء على جواز قتل الأسرى بعموم آيات القتال، مثل قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/9] وبما ثبت في السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قتل بعض الأسرى يوم بدر، فأمر بقتل عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث، لشدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام ولصحبه (2) .
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد بقتل أبي عزة الشاعر الذي أطلق الرسول سراحه يوم بدر، فنظم بعدئذ شعراً يحرض به على قتال المسلمين، وفتح الرسول مكة وأمر بقتل هلال بن خطَل، ومِقْيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» (3) .
ثم إنه قد يكون في قتل بعض الأسرى مصلحة كبرى للمسلمين حسماً لمادة الفساد، واستئصالاً لجذور الشر، وقطع شرايين الفتنة، وهذا كله بحسب الضرورة.
واستدلوا على جواز استرقاق الأسرى الذي كان معاملة بالمثل مع الأمم الأخرى بسبب الحرب بقوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم، فشدوا الوثاق، فإما منَّاً بعد، وإما فداءً} [محمد:4/47] قالوا: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشد الوثاق، كما استدلوا بما ثبت في السير والمغازي من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم استرق بعض العرب
__________
(1) راجع آثار الحرب، الطبعة الثالثة: ص 432 وما بعدها.
(2) أخرجه أبو داود في المراسيل، ورجاله ثقات عن سعيد بن جبير (نصب الراية، المرجع نفسه: ص402، سبل السلام: 4 ص 55) .
(3) رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أنس (مجمع الزوائد: 6 ص 168، سبل السلام: 4 ص 54) .
(8/66)
كهوازن وبني المصطلق وقبائل من العرب (1) ، واسترق النبي أسرى في غزوة خيبر وقريظة وفي غزوة حنين، وسبى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بني ناجية من قريش، وفتحت الصحابة بلاد فارس والروم، فسبوا من استولوا عليه.
والحكمة من الإبقاء على مشروعية الرق في النصوص الشرعية: هو مراعاة الأوضاع القائمة في المجتمعات القديمة، لأن الرق كان عماد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا يعقل أن يحرمه الإسلام ويبقى مباحاً عند الأمم الأخرى التي تسترق أسرى المسلمين، ولا يعاملهم المسلمون بالمثل، والمعاملة بالمثل كان منهج الشريعة والخلفاء في العلاقات الخارجية، عملاً بأحكام السياسة الشرعية المؤقتة، وتحقيقاً للمصلحة الإسلامية العامة، ولكن الإسلام أيقظ الضمير العالمي بتنبيه الناس إلى علاج مشكلة الأرقاء وضرورة الإحسان إليهم في المعاملة والتخلص التدريجي من هذه الظاهرة بالعتق وفتح منافذ دينية له، حتى إن العتق من أفضل القربات إلى الله تعالى.
وأما المن فثابت جوازه في قوله تعالى: {فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/47] وادعاء نسخ هذه الآية بآية براءة السابق ذكرها وهي {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة:5/9] لا دليل عليه، ولا حاجة إليه، لإمكان الجمع بين الآيتين، بحمل آية براءة على الأمر بالقتال عند وجود العدوان، وفي أثناء قيام
__________
(1) نيل الأوطار: 8 ص 2 وما بعدها.
(8/67)
الحرب مع الأعداء، وقصر آية المن على حالة ما بعد الانتهاء من الحرب والوقوع في قيد الأسر.
وقد منَّ الرسول صلّى الله عليه وسلم على ثُمامة بن أُثال الحنفي سيد أهل اليمامة (1) كما منَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر، وأبي العاص بن الربيع، والمطَّلب بن حَنْطب يوم بدر، ومنَّ أيضاً على أهل مكة بقوله عليه السلام: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وكذا منَّ على أهل خيبر (2) . وقال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له» (3) أي لأطلقتهم له بغير فداء أي بالمن.
وأما الفداء أو المفاداة: وهو تبادل الأسرى أو إطلاق سراحهم على عوض، فهو جائز بآية سورة محمد السابقة: {فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد:4/47] ، وأول حادثة فداء كانت إثر سرية عبد الله بن جحش، حيث قبل الرسول عليه الصلاة والسلام الفداء في الأسيرين اللذين أسرا في هذه السرية قبل غزوة بدر بشهرين (4) . وفيما بعد موقعة بدر كان فداء الأسارى أربعة آلاف درهم إلى ما دون ذلك (5) ، فمن لم يكن له شيء أمر أن يعلم صبيان الأنصار الكتابة والقراءة. وليس في المفاداة إعانة لأهل الحرب، كما قال المانعون للفداء، وهم الحنفية، إذ إن تخليص المسلم من قيد الأسر واجب لتمكينه من العبادة الحرة لله تعالى.
وأخرج مسلم عن إياس بن سَلَمة عن أبيه: أن سرية من المسلمين أتوا بأسرى، فيهم امرأة من بني فَزارة، فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين، كانوا أسروا بمكة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الخيل التي بعثها النبي صلّى الله عليه وسلم قبل نجد (راجع نيل الأوطار: 301/7) .
(2) راجع هذه الحوادث في نصب الراية: 3 ص 398-406، زاد المعاد لابن القيم: 2 ص 165.
(3) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم (نيل الأوطار، المرجع السابق، نصب الراية: 3 ص 405، سبل السلام: 4 ص 56، الإلمام: ص 494) .
(4) راجع نصب الراية: 2 ص 403.
(5) رواه الواقدي عن النعمان بن بشير (نصب الراية، المرجع السابق) .
(8/68)
البَابُ الخامِس: القَضاء وطرق إثبات الحقّ
سأبحث هنا أمر القضاء أو الحكم بين الناس، ووسيلة الوصول إلى الحق بطريق القضاء وهي الدعوى، وطرق إثبات الحق لدى القاضي بالشهادة وباليمين والنكول والإقرار، والقرائن، وذلك في فصول ثلاثة:
الفصل الأول ـ القضاء وآدابه
الفصل الثاني ـ الدعوى والبينات
الفصل الثالث ـ طرق الإثبات
وأمهد لهذه الفصول ببيان منهج الإسلام في القضاء.
المنهج الإسلامي في الميدان القضائي
المنهج: معناه المسلك وطريقة العمل، والقضاء: فصل الخصومات وإنهاء المنازعات بإلزام الخصم بالحكم الشرعي، وهو أحد أركان الدولة الإسلاميةأو الخلافة أو الإمامة العظمى، ومحور نظام الحكم، والمظهر العملي الحازم لإلزام الناس باحترام أحكام الشريعة وإعلان هيبتها ونفوذها وتطبيقها في العلاقات الاجتماعية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإبراز العدل والإنصاف بين الناس، المؤمنين منهم وغير المؤمنين.
لذا كان أحد وظائف الأنبياء، وكان الخلفاء والولاة والقضاة يتولونه بالنيابة عن الأمة التي يمثلها الخليفة أو الإمام الأعظم. ولاشك بأن العدل في التصور الإسلامي هو أساس الملك، والظلم مؤذن بخراب المدنيات وتدمير كيان الأمم والشعوب، والقضاء على مصالح الأفراد والجماعة، لأنه يؤدي إلى التذمر ويعجل بالفوضى ويدفع إلى الانتقام والتخريب.
فالقضاء في غاية الأهمية والحساسية، ومادام هو بخير فالأمة بخير، وإذا فسد القضاء فسدت الأمة والبلاد. ونظراً لهذه الحساسية المفرطة للقضاء، كان منهج الإسلام فيه يقوم على الأسس التالية:
1 - النظر في الدعوى بموضوعية وتجرد وحياد دون محاباة خصم أو ميل لأحد الخصمين دون الآخر. وهذا واجب ديني خطير من أوليات نظام القضاء إرساء لمعالم الحق والعدل، وإيفاء الحقوق، ونشر الأمن والاستقرار في صفوف الناس، ونزع الضغينة والحقد، وتوفير الصفاء والوئام، وملء النفوس بالثقة والاطمئنان والرضا والمحبة.
(8/69)
وحينئذ ترتقي الأمة، وتعلو كلمتها، وترتفع سمعتها في كل مكان مما يدعو إلى سرعة الدخول في الإسلام، والتفرغ لكل متطلبات التنمية والرخاء وزيادة العطاء والإنتاج. قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [الحديد:25/57] وقال سبحانه: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعمَّا يعظكم به} [النساء:58/4] .
2 - الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، شريعة الله القائمة على الحق وتعظيمه، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات، فلا يجوز شرعاً تطبيق غير أحكام الله تعالى وشرعه، لذا هدد الله تعالى أهل الكتاب الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، فقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة:44/5] {الظالمون} [المائدة:45/5] ، {الفاسقون} [المائدة:47/5] ، وندّد الله تعالى بالمشركين والمنافقين الذين يتجاوزون حدود الله والحكم بشرائع الجاهلية، فقال تعالى: {أفحكمَ الجاهلية يبغون، ومن أحسنُ من الله حُكْماً لقوم يوقنون} [المائدة:50/5] وعلى القاضي حفظ هيبة مجلس القضاء، وليس المراد بذلك شخص القاضي، وإنما حفظ هيبة أحكام الشرع التي يطبقها على المتخاصمين، فلا يعفو مثلاً عمن أهانه من الخصوم أو أهان أحد الحضور.
(8/70)
3 - مراقبة الله تعالى، وهذا واجب على القاضي والخصوم معاً؛ لأن قاضي الأرض لايستطيع أن يفعل شيئاً أمام قاضي السماء، فعليه أن يبحث بأناة وجدية وتعمق عن الحق وصاحبه، وعلى الخصم أن يعتقد أن القاضي في الدنيا لايحل الحرام ولا يحرم الحلال، فعليه الاكتفاء بما يعتقد أنه حق، دون تجاوز ولا اعتداء، حتى وإن قضى القاضي في الظاهر بحكم معين ومقدار معين.
4 - غاية القضاء في الإسلام إرضاء الله تعالى بإحقاق الحق وإنصاف المظلوم، دون تأثر بدين أو ملة أو قومية أو قرابة، وحتى على النفس، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تَلْوُوا أو تُعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً} [النساء:135/4] وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقِسْط، ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون} [المائدة:8/5] .
5 - ركائز القضاء أو أركانه: يعتمد القضاء على أركان خمسة هي في مجملها مايأتي:
الأول - الحاكم: وهو القاضي الذي عينته السلطة أو الحكومة للفصل في الدعاوى والخصومات، وبهذا يختلف الحاكم عن المحكَّم: وهوالذي يتفق عليه الخصمان للتحكيم في النزاع الدائر بينهما.
الثاني - الحُكْم: وهو مايصدر عن القاضي من قرار لحسم النزاع وإنهاء الخصومة وله صفة الإلزام، فيختلف الحكم عن الفتوى، فإنها غير ملزمة. والحكم يكون إما بإلزام المحكوم عليه بأمر ما كتنفيذ شيء أو إعطاء شيء، وهذا يسمى قضاء إلزام، وإما يمنع الحاكم المنازعة بقوله للمدعي: ليس لك حق عند خصمك بسبب عجزك عن الإثبات، وهذا يسمى قضاء الترك.
(8/71)
الثالث - المحكوم به: وهو في قضاء الإلزام ما ألزم به القاضي المحكوم عليه من إيفاء المدعي حقه، وهو في قضاء الترك ترك المدعي المنازعة. وعلى كل فالمحكوم به هو الحق، إما لله أو للعبد أو مشترك بينهما.
الرابع - المحكوم عليه: هو من يصدر الحكم ضده، أو من يستوفى منه الحق، سواء أكان مدعى عليه أم لا.
الخامس - المحكوم له: وهو المدعي بحق له، سواء أكان خالصاً له كالحق في الدين أو الالتزام المالي، أم خالصاً لله كالحدود الشرعية، أم مشتركاً بين الحقين وكان حق الله هو الغالب وهو حد القذف في رأي الحنفية، أو حق العبد هو الغالب وهو الحق في القصاص. فإن كان الحق خالصاً لله أو حق الله فيه غالب، فإن المحكوم له هو الشرع، وهنا لاتشترط الدعوى من شخص معين، ويحق لكل شخص حتى القاضي التقدم بالأمر وهي دعوى الحسبة، وهو الذي تمثله في عصرنا النيابة العامة.
6 - التقيد بوسائل الإثبات: ليس للقاضي إصدا ر الحكم في قضية ما بناء على قناعته الشخصية، وإنما لابد من التقيد في إثبات الحق بوسائل إثبات معينة كالشهادة والإقرار واليمين والقرينة.
7 - الاعتماد على النصوص الشرعية الأصلية في الكتاب والسنة من خلال التفسيرات والاجتهادات الراجحة التي أوضحت فيها هذه النصوص، كالمذاهب الفقهية أو مدارس التفسير القرآني المختلفة أو شرح الأحاديث النبوية الصحيحة.
8 - الدمج بين مبدأ التوازن العام ومبدأ العدالة: إن التوازن بين الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل أمر ضروري لتحقيق المساواة بين الخصوم وتحقيق القدرة على الوفاء، وتوازن القضاء، وهذا هو الذي يقال له: الإحسان في العدل، وهو الذي أمر الله تعالى به في قوله سبحانه: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل:90/16] . والعدل: هو فصل الخصومات بين المتنازعين بواسطة الشريعة الإسلامية والإحسان في العدل: هو موازنة الحقوق والواجبات عند تطبيق العدل.
(8/72)
والشريعة تفرض التكاليف مشروطة بالقدرة على الوفاء، لقوله تعالى: {لايكلف الله نفساً إلا وُسْعها} [البقرة:286/2] ، وهذا يستوجب مبدأ إنظار المعسر لقوله تعالى: {وإن كان ذو عُسْرة فنَظِرَةٌ إلى ميسرة} [البقرة:280/2] فلا تكليف عند العجز، ولايخاطب الصبي ولا المجنون ولا الناسي، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني عن ثوبان: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
واشتراط القدرة يتطلب التخفيف عند المشقة، عملاً بالقاعدة الشرعية، (المشقة تجلب التيسير) .
والقدرة تستوجب الاعتراف بنظرية الدفاع الشرعي والأخذ بنظرية الظروف الطارئة والقوة القاهرة، كالأخذ بمبدأ فسخ الإجارة للأعذار في مذهب الحنفية، وفسخ البيع حال تعرض الثمار للجوائح المهلكة أو المتلفة بقدر الثلث فأكثر في مذهب المالكية والحنابلة، فإذا كان الوفاء بالعقد واجباً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] فإن هذا مقيد بمبدأ عدم إرهاق المدين بعقد لم تكن الظروف المستقبلية متوقعة فيه أو منتظرة له وقت التعاقد (1) .
وتوازن القضاء يستدعي ضرورة التسوية بين الخصوم في كل شيء، ويندب في الإسلام اللجوء إلى الصلح قبل السير في إجراءات الدعوى؛ لأن الصلح يُبْقي جانب الود والسماحة والتفاهم، ويحقق توازناً أكثر مما يحققه الحكم القضائي.
__________
(1) نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي ص316 ومابعدها.
(8/73)
والتوازن يقتضي كفالة حقوق الدفاع لكل منهم، ويتطلب أيضاً الجمع بين الإثبات وحريته، لذا حدد الإسلام قيمة الإقرار والشهادة واليمين وبعض القرائن الشرعية، وترك في الوقت نفسه للقاضي حق تقدير وسائل أخرى كالقرائن القضائية، حتى لايضيع حق يثبت المنطق أن مدعيه محق، وحتى لايلزم أي شخص بحق لم يثبته مدعيه بالحجج الكافية. وهذا التوازن جعل الإسلام يشدد في الإثبات في الميدان الجنائي، فجعل إثبات الزنا بأربعة شهود يعاينون الجريمة، وجعل الشبهة دارئة للحد لصالح المتهم، وأباح الرجوع عن الشهادة والإقرار، فيكون ذلك دليل البراءة من الجريمة.
9 - اعتماد القضاء على الوازع الديني: إن إقامة العدل بين الناس غاية سامية، لذا فقد أحيطت بسياج ديني أخلاقي إلى جانب الضمانات القانونية والمبادئ القضائية والأخلاقية مترابطة مع بعضها، ومن هنا قررت الشريعة لفت نظر كل من الخصوم والشهود والقضاة إلى عقاب من ادعى باطلاً أو شهد زوراً أو حكم ظلماً، وإلى ثواب الذين يؤدون الشهادة على وجهها، والذين يتحرون في أحكامهم الحق ليس غير.
وإذا أمر القاضي أو ثبت عليه أنه جار في حكمه عمداً بقتل نفس أو قطع يد أو قصاص، أقيد منه، ولا شيء عليه إذا أخطأ في حكم (1) .
10 - القضاء في الإسلام منصب خطير، وذو مكانة كبيرة في الشريعة الإلهية، لذا وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة تشيد بالقضاء وتكلف به الأنبياء والمرسلين، وتوجب القضاء بالحق والعدل كما تقدم لدينا. وكما كرمت الشريعة القاضي العادل حذرت من القاضي الجائر الذي يتبع هواه (2) ، فقال
__________
(1) نظام القضاء في الإسلام للشيخ المرحوم أحمد عبد العزيز آل مبارك ص8.
(2) القضاء في الإسلام للأستاذ محمود الشربيني: ص13.
(8/74)
سبحانه: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن:15/72] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى: «إن الله تعالى مع القاضي مالم يجر، فإذا جار، تبرأ الله منه وألزمه الشيطان» . وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أصحاب السنة الأربعة والحاكم عن بُريدة: «القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار» .
ولا وجود للإجراءات المعقدة في نظام المحاكمات الإسلامي، كما لا تأخير في إصدار الأحكام، وإنما يتميز نظام القضاء في الإسلام بالتعجيل.
هذه هي أصول المنهج الإسلامي في القضاء، لما طبقت كان القضاء في الدولة الإسلامية تاج عز، ومفخرة من مفاخر التاريخ، لأنه نظام يعتمد على العقيدة والدين والأخلاق وهو النظام الكفيل بتحقيق الأمن والاستقرار لأي مجتمع إنساني يريد السعادة والبقاء، ويفرض الهيبة والاحترام له في أنظار العالم. ولقد طبق هذا النظام خلال عشرات القرون من سنة (622 حتى سنة 1924) م، أي قرابة ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وكان أبرز معالمه التسوية بين الإمام الحاكم وبين آحاد الرعية في مجلس القضاء، والتزام العدالة حتى مع الأعداء في السلم والحرب والمواطنة والتعايش الديني بين المسلمين وغيرهم في ظل الدولة الإسلامية الرشيدة.
(8/75)
رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء: ينبغي على كل قاض أن يحفظ الرسالة العمرية في القضاء؛ لأنها تضع له منهاج التقاضي، وتحدد نظرة الإسلام إلى القضاء، وأوضاع المتقاضين أمام القاضي وآداب القاضي، وقواعد سير الدعوى، وضوابط الشهادة في سبيل الوصول إلى إصدار الحكم وتنفيذه، وهذا نص الرسالة (1) :
- بسم الله الرحمن الرحيم
- من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس (2) .
- سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد:
1 - فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متّبعة.
2 - فافهم إذا أُدلي إليك.
3 - فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاد له.
4 - آسِ بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لايطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
5 - البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
6 - والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراماً، أو حرَّم حلالاً.
7 - ومن ادعى حقاً غائباً أو بيِّنةً، فاضرب له أمداً ينتهي إليه، فإن بيَّنه أعطيته بحق، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ للعذر، وأجلى للعماء.
8 - ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، لايبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
9 - والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرَّباً عليه شهادة زور، أو مجلوداً في حد، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة.
10 - فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود، إلا بالبيِّنات والأيمان.
11 - ثم الفهمَ الفهمَ، فيما أدلي إليك، مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق.
12 - وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكرعند الخصومة أو الخصوم.
13 - فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذِّكْر.
14 - فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله مابينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله، فإن الله لايقبل من العباد إلا ما كان خالصاً.
والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) انظر أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 85/1 ومابعدها، وانظر الشرح النفيس لها في هذا الكتاب، تبصرة الحكام: 19/1.
(2) هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
(8/76)
صلاحيات القاضي:
يحدد قانون القضاء في العصر الحديث صلاحيات القاضي واختصاصه، ويوزع تلك الصلاحيات بين القضاة بحسب الموضوع عادة، إما في المسائل المدنية أو في المسائل الجنائية أو الأحوال الشخصية أوفي القضايا التجارية أو الإدارية أو الدستورية أو أمن الدولة أو نحو ذلك.
وأما أعمال القاضي الشرعي في تصور فقهائنا، فمنها ماهو متفق عليه ومنها ماهو مختلف فيه، وقد اتفق الفقهاء على تولي القاضي للأمور الآتية (1) :
1 - الفصل بين المتخاصمين، إما بصلح عن تراضٍ أو بإجبار على حكم نافذ.
2 - قمع الظالمين ونصرة المظلومين وإيصال الحق إلى ذويه.
3 - تنفيذ الوصايا.
4 - النظر في شؤون الأوقاف.
5 - الحجر على السفهاء.
6 - المواريث.
7 - شؤون الأيتام والمجانين وإقامة الأوصياء لحفظ أموالهم.
8 - الجراحات والدماء.
9 - الإثبات.
10 - عقد نكاح النساء اللاتي ليس لهن أولياء أو عَضَلهن (2) الأولياء.
11 - منع التعدي على الطرقات والأفنية العامة. وللقاضي المطالبة بهذه الأعمال إن لم تسند إليه.
واختلف الفقهاء حول تولي القاضي الشؤون الآتية:
1 - إقامة الحدود.
2 - صلاة الجمعة والعيدين.
3 - أموال الصدقات.
فبعضهم أسندها للقاضي؛ لأنه كالوصي المطلق إلا ما اختص به الخليفة نفسه من شؤون الجيش وقتال البغاة وجباية الخراج.
وبعضهم لم يدخلها في اختصاص القاضي لأنه وكيل عن الإمام الأعظم، وليس للوكيل أن يتعدى حدود وكالته.
ودليلهم أن عمر رضي الله عنه نهى الولاة عن تنفيذ حكم الإعدام على أحد إلا بعد مشاورته وموافقته، وقاسوا القضاة على الولاة. ويظهر أن هذا الرأي هو الأرجح؛ لأن القاضي وكيل عن الإمام الأعظم، فليس له أن يتعدى حدود وكالته.
__________
(1) نظام القضاء في الإسلام للشيخ أحمد عبد العزيز آل مبارك: ص12-14.
(2) منعهن الأولياء عن الزواج.
(8/77)
الفَصْلُ الأوّل: القضاء وآدابه
الكلام عن القضاء في المباحث التسعة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته.
المبحث الثاني ـ شروط القاضي.
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء.
المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي.
المبحث الخامس ـ واجبات القضاة.
المبحث السادس ـ آداب القضاة.
المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي.
المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟
المبحث التاسع ـ عزل القاضي وانعزاله.
وأبدأ ببحثها كلاً على حدة.
المبحث الأول ـ تعريف القضاء ومشروعيته:
القضاء لغة: انقضاء الشيء وإتمامه، والحكم بين الناس، والقاضي: الحاكم، وشرعاً: فصل الخصومات وقطع المنازعات (1) . وعرفه الشافعية بأنه فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى، أي إظهار حكم الشرع في الواقعة. وسمي القضاء حكماً: لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله، لكونه يكف الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشيء (2) .
والأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع (3) :
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله} [ص:26/38] وقول الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/5] وقوله تعالى: {فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة:42/5] وقوله عز وجل: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/4] ونحوها من الآيات.
وأما السنة: فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (4) ، وفي رواية صحح
__________
(1) الدر المختار: 4 ص 309، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 129.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 372، وانظر فتح القدير: 5 ص 453.
(3) المبسوط: 16 ص 59 وما بعدها، المغني: 9 ص 34، مغني المحتاج، المرجع السابق، المهذب: 2 ص 289.
(4) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عمرو وأبي هريرة، ورواه الحاكم والدارقطني عن عقبة بن عامر وأبي هريرة وابن عمر بلفظ: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشر أجور» . (راجع نصب الراية: 4 ص 63، شرح مسلم: 12 ص 13، سبل السلام: 4 ص 117، مجمع الزوائد: 4 ص 195، الإلمام: ص 514) .
(8/78)
الحاكم إسنادها: «فله عشرة أجور» وروى البيهقي خبر: «إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار عرجا وتركاه» .
وقد حكم النبي صلّى الله عليه وسلم بين الناس (1) ، وبعث علياً كرم الله وجهه وأبا موسى الأشعري إلى اليمن للقضاء في المنازعات، وبعث أيضاً إليها معاذاً (2) ، وكان عتّآب بن أسيد أول قاض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على مكة، ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً، وأرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً. وتولى القضاء عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى وشريح وأبو يوسف رضي الله عنهم.
وأجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة، والحكم بين الناس، لما في القضاء من إحقاق الحق، ولأن الظلم متأصل في الطباع البشرية، فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم.
نوع المشروعية: القضاء فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق أئمة المذاهب، فيجب على الإمام تعيين قاض، ودليل الفرضية قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط} [النساء:135/4] ولأنه كما ذ ُكر طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، وبما أن الإمام لا يقدر عادة على فصل الخصومات بنفسه لكثرة مشاغلة العامة، فالحاجة تدعو إلى تولية القضاة.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن علي، ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه، وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم، ورواه الحاكم في المستدرك (راجع نصب الراية، المرجع السابق، ص 60 ومابعدها) .
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ (نصب الراية: ص 63، تلخيص الحبير، الطبعة المصرية: 4 ص 182) .
(8/79)
وأما كونه فرض كفاية: فلأنه أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، وهما واجبان كفائيان. قال بعضهم: «القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به؛ لأن بالناس إليه حاجة عظيمة» (1) ، وهو من أنواع القربات إلى الله عز وجل، ولذا تولاه الأنبياء عليهم السلام، قال ابن مسعود: «لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحب إليّ من عبادة سبعين سنة» .
المبحث الثاني ـ شروط القاضي:
اتفق أئمة المذاهب على أن القاضي يشترط فيه أن يكون عاقلاً بالغاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً ناطقاً، واختلفوا في اشتراط العدالة، والذكورة، والاجتهاد (2) .
أما العدالة: فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة، فلا يجوز تولية فاسق ولا من كان مرفوض الشهادة لعدم الوثوق بقولهما، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات:6/49] فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ، فلأن لا يكون قاضياً أولى. والعدالة تتطلب اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، وسلامة العقيدة، والمحافظة على المروءة، والأمانة التي لا اتهام فيها بجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرة عنها من غير وجه شرعي.
وقال الحنفية: الفاسق أهل للقضاء، حتى لو عين الإمام قاضياً صح قضاؤه للحاجة، لكن ينبغي ألا يعين، كما في الشهادة، فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادة الفاسق، لكن لو قبلها منه جاز، وفي الحالتين: (قضاء وشهادة) يأثم من يعينه للقضاء ومن يقبل شهادته.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب للميداني: 4 ص 77.
(2) البدائع: 3/7، الدسوقي: 129/4، بداية المجتهد: 449/2، مغني المحتاج: 375/4، البجيرمي على الخطيب: 318/4، المغني: 39/9.
(8/80)
أما المحدود في القذف: فلا يعين قاضياً كما لا تقبل شهادته عند الحنفية كبقية الأئمة؛ لأن القضاء من باب الولاية، وبما أن هذا المحدود لا تقبل شهادته وهي أدنى الولايات، فعدم تعيينه قاضياً أولى.
وأما الذكورة: فهي شرط أيضاً عند غير الحنفية، فلا تولى المرأة القضاء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1) ، ولأن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والخبرة بشؤون الحياة، والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، بسبب ضعف خبرتها واطلاعها على واقع الحياة، ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال بعداً عن الفتنة، وقد نبه الله تعالى على نسيان المرأة، فقال: {أن تضل إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/2] ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يولِّ النبي صلّى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد.
وقال الحنفية: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال أي في القضاء المدني؛ لأنه تجوز شهادتها في المعاملات، ويأثم المولي لها للحديث السابق: «لن يفلح..» أما في الحدود والقصاص أي في القضاء الجنائي، فلا تعين قاضياً؛ لأنه لا شهادة لها فيه، ومن المعلوم أن أهلية القضاء تلازم أهلية الشهادة.
وقال ابن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً على الإطلاق في كل شيء، لأنه يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية.
وأما الاجتهاد: فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية
__________
(1) رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة (المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 340، نيل الأوطار: 8 ص 263، سبل السلام: 4 ص 123، تلخيص الحبير: 4 ص 184) .
(8/81)
كالقدوري (1) ، فلا يولى الجاهل بالأحكام الشرعية، ولا المقلد: (وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته) لأنه لا يصلح للفتوى، فلا يصلح للقضاء بالأولى؛ لأن الله تعالى يقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49/5] ولم يقل بالتقليد للآخرين، وقال سبحانه: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء:105/4] وقال عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59/4] وروى بريدة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «القضاة، ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق، فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (2) فالعامي يقضي على جهل.
ويلاحظ أن اشتراط وصف الاجتهاد عند المالكية: هو الذي عليه عامة أهل المذهب، لكن المعتمد والأصح عندهم أنه يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد (3) .
وأهلية الاجتهاد: تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة، ومعرفة الإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب، ولا يشترط أن يكون الفقيه محيطاً بكل القرآن والسنة، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة، ولا أن يكون مجتهداً في كل المسائل، بل يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع البحث (4) .
__________
(1) اللباب في شرح الكتاب أي كتاب القدوري: 4 ص 78. قال في الهداية: والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط أولوية. فأما تقلي الجاهل أي غير المجتهد فصحيح عندنا؛ لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره.
(2) رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد علق عليه ابن تيمية بقوله: «وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً» (نيل الأوطار: 263/8 ومابعدها، سبل السلام: 115/4، نصب الراية: 65/4، مجمع الزوائد: 195/4) .
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 129/4.
(4) راجع التفصيل في كتابنا أصول الفقه: ص 1044/2 ومابعدها، ط دار الفكر.
(8/82)
وقال جمهور الحنفية: لا يشترط كون القاضي مجتهداً، والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية والندب والاستحباب، فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء، ويحكم بفتوى غيره أي بتقليد مجتهد؛ لأن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه، وهو يتحقق بالتقليد، لكن مع هذا قالوا: لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام، أي الجاهل بأدلة الأحكام الشرعية تفصيلاً واستنباطاً؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به.
وبصرف النظر عن هذا الخلاف فإن الواقع له مكان وأهمية، قال الإمام الغزالي: اجتماع هذه الشروط من العدالة والاجتهاد وغيرهما متعذر في عصرنا لخلو العصر من المجتهد والعدل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة، وإن كان جاهلاً فاسقاً (1) .
وقال الشافعية: إذا تعذرت هذه الشروط، فولى سلطان له شوكة فاسقاً أو مقلداً نفذ قضاؤه للضرورة. وفي الجملة: إذا وجد اثنان كل منهما أهل للقضاء يقدم الأفضل في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من تولى من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله، وسنة رسوله، فقد خان الله ورسوله، وجماعة المسلمين» (2) .
__________
(1) راجع البحث في البدائع: 3/7، فتح القدير: 453/5 وما بعدها، 485، مختصر الطحاوي: ص 332، الدر المختار ورد المحتار عليه: 312/4 وما بعدها، 318، بداية المجتهد: 449/2، الشرح الكبير للدردير: 129/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 375/4 وما بعدها، المهذب: 290/2، المغني: 39/9 وما بعدها.
(2) رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس، وأخرجه الحاكم وابن عدي وأحمد بن حنبل والعقيلي والخطيب البغدادي. وعن حذيفة بن اليمان أخرجه أبو يعلى الموصلي (نصب الراية: 62/4) .
(8/83)
إثبات ولاية القاضي: تثبت ولاية القاضي بشهادة شاهدين يخبران بمحل ولايته، وباستفاضته خبر تعيينه، والأولى أن يكتب له الإمام كتاباً بالتولية، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه كتب لعمرو بن حزم كتاباً لما بعثه إلى اليمن، وهو ابن سبعة عشر عاماً، وكتب أبو بكر رضي الله عنه كتاباً لأنس لما بعثه إلى البحرين، وختمه بخاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وتثبت ولاية القاضي اليوم بقرار التعيين أو التوظيف وينشر في الجريدة الرسمية، وقد ينشر في الصحف اليومية. ويسن للقاضي الاستعانة بعلماء البلد الذي عين فيه، كما يتعرف على العدول ليتابع عمله بوجه أفضل.
المبحث الثالث ـ حكم قبول القضاء:
اتفق الفقهاء على أنه إذا تعين للقضاء واحد يصلح له في بلد لزمه طلبه وقبوله، فإن امتنع عصى، كسائر فروض الأعيان، وللحاكم إجباره؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره، فأشبه من عنده طعام منعه عن المضطر.
فإن وجد في البلد عدد يصلح للقضاء، فيجوز القبول والترك. وهل القبول حينئذ أفضل أو الترك؟
قال جمهور العلماء في المذاهب الأربعة: الترك أفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من جعل قاضياً بين الناس، فقد ذبح بغير سكين» (1) وقد امتنع بعض الصحابة كابن عمر وبعض كبار الفقهاء كأبي حنيفة من قبول القضاء، لما ورد فيه من التشديد
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو يعلى والبزار والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وله طرق منها ما رواه ابن عدي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 259/8 وما بعدها، نصب الراية: 64/4، سبل السلام: 116/4، تلخيص الحبير: 184/4، الإلمام: ص 512) .
(8/84)
والذم، ولما فيه من الخطورة (1) ، بل إنه يكره طلبه لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» (2) أي صرفت إليها دون عون، وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سأل القضاء، وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل إليه ملك فسدده» (3) وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة» (4) . فيكون طلب القضاء مكروهاً إذا كان هناك مماثل أو أفضل منه.
لكن يندب طلب القضاء لعالم غير مشهور يرجو به نشر علمه بين الناس لتحصل المنفعة بعلمه، كما يندب لمن كان محتاجاً إلى الرزق؛ لأن القضاء طاعة لما في إقامة العدل من جزيل الثواب. ويستحب أيضاً لمن يرجو بعمله إحقاق الحق ومنع ضياع الحقوق، وتدارك جورالقضاة أو عجزهم عن إيصال الحقوق لأهلها.
ويكره قبول القضاء لمن يخاف العجز عنه، ولا يأمن على نفسه الحيف فيه، حتى لا يكون سبباً لمباشرة القبيح.
وقال بعض العلماء: قبول القضاء أفضل؛ لأن الأنبياء والمرسلين صلوات الله
__________
(1) قال في كتاب الجوهرة الحنفي: وقد دخل فيه (أي في القضاء) قوم صالحون، واجتنبه قوم صالحون، وترك الدخول فيه أحوط وأسلم للدين والدنيا، لما فيه من الخطر العظيم والأمر المخوف.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 256/8) .
(3) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد (نصب الراية: 69/4، مجمع الزوائد: 194/4، نيل الأوطار، المرجع السابق) .
(4) رواه البخاري وأحمد والنسائي. وقوله: «ستحرصون» بكسر الراء، ويجوز فتحها، وقوله: «نعم المرضعة وبئست الفاطمة» أي نعمت المرضعة في الدنيا وبئست الفاطمة بعد الموت (نيل الأوطار: 257/8، سبل السلام: 116/4) .
(8/85)
ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف ابن مالك بلفظ «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل» . عليهم، والخلفاء الراشدين ما رسوا القضاء، ولنا فيهم قدوة، ولأن القضاء إذا أريد به وجه الله تعالى يكون عبادة خالصة، بل هو من أفضل العبادات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين يوماً» (1) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم، وما وَلُوا» (2) قالوا: وأما الأحاديث التي فيها ذم القضاء فهي محمولة على القاضي الجاهل أو العالم الفاسق، أو الذي لا يأمن على نفسه الرشوة (3) .
قال القدوري الحنفي: ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه (أي يعلم من نفسه) أنه يؤدي فرضه: وهو الحكم على قاعدة الشرع. ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه أي عن القيام به على الوجه المشروع، ولا يأمن على نفسه الحيف (أي الظلم) . ولا ينبغي للإنسان أن يطلب الولاية بقلبه، ولا يسألها بلسانه (4) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» (5) .
__________
(1) رواه إسحاق بن راهويه والطبراني في الأوسط عن ابن عباس (نصب الراية: 67/4) .
(2) رواه مسلم وأحمد والنسائي عن عبد الله بن عمر (نصب الراية، المرجع نفسه: ص 68، نيل الأوطار: 260/8) .
(3) راجع البدائع: 3/7 ومابعدها، فتح القدير: 458/5 ومابعدها، الدر المختار: 319/4، اللباب شرح الكتاب: 78/4، الشرح الكبير للدردير: 130/4 ومابعدها، مغني المحتاج: 373/4، المغني: 35/9.
(4) الكتاب: 78/4
(5) سبق تخريج الحديث قريباً. وفيه دليل على أن طلب مايتعلق بالحكم مكروه، فيدخل الإمارة والقضاء والحسبة ونحو ذلك (نيل الأوطار: 259/8) .
(8/86)
المبحث الرابع ـ صلاحيات القاضي:
تشتمل ولاية القاضي على عشرة أمور (1) :
الأول ـ الفصل بين المتخاصمين إما بصلح عن تراضٍ، وإما بإجبار على حكم نافذ.
الثاني ـ قمع الظالمين عن الغصب والتعدي وغير ذلك، ونصرة المظلومين وإيصال كل ذي حق إلى حقه.
الثالث ـ إقامة الحدود والقيام بحقوق الله تعالى.
الرابع ـ النظر في الدماء والجراح.
الخامس ـ النظر في أموال اليتامى والمجانين وتقديم الأوصياء عليهم حفظاً لأموالهم.
السادس ـ النظر في الأحباس (الأوقاف) .
السابع ـ تنفيذ الوصايا.
الثامن ـ عقد نكاح النساء إذا لم يكن لهن ولي أو عضلهن الولي.
التاسع ـ النظر في المصالح العامة من طرقات المسلمين وغير ذلك.
العاشر ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل.
وهذا دليل على أن القاضي ينظر في الأمور المدنية والجنائية والأحوال الشخصية، والقضايا الإدارية وحقوق الله تعالى، أي حقوق المجتمع، فهو قاضي مدني وجنائي وشرعي وإداري ومحتسب، ولكن لا مانع شرعاً من التخصص الموضوعي في القضاء إذا ازدحمت الدعاوى وكثرت المشكلات.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص293.
(8/87)
المبحث الخامس ـ واجبات القضاة:
يجب على القاضي التقيد ببعض الواجبات فيما يتعلق بمصادر الأحكام التي يستمد منها حكمه، وطريق ثبوت الحق بالبينة أو الإقرار ونحوهما وما يتعلق بالمقضي له والمقضي عليه.
المطلب الأول ـ ما يقضي به القاضي من الأحكام الشرعية وصفة قضائه:
يجب على القاضي أن يقضي في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم الله تعالى: إما بدليل قطعي، وهو النص المفسر الذي لا شبهة فيه من كتاب الله عز وجل، أو السنة المتواترة أو المشهورة، أو الإجماع.
وإما بدليل ظاهر موجب للعمل، كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة، أو الثابت بالقياس الشرعي، ويعمل به في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء.
فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، يجب عليه العمل بما أدى إليه اجتهاده، إن كان مجتهداً؛ لأن ثمرة اجتهاده هو الحق بالنسبة إليه ظاهراً، فلا يعمل باجتهاد غيره.
وهل للمجتهد أن يقضي برأي مجتهد آخر أفقه منه؟ قال أبو حنيفة: له القضاء به. وقال الصاحبان: ليس له القضاء به. ومرجع الخلاف هو أن كون أحد المجتهدين أفقه من غيره هل يصلح مرجحاً؟ عند أبي حنيفة: يصلح؛ لأن اجتهاده أقرب إلى الصواب. وعند الصاحبين: لا يصلح مرجحاً؛ لأن كون العالم أفقه من غيره ليس من جنس الدليل الذي يستند إليه في استنباط الحكم.
والصحيح عند المالكية أن القاضي إذا كان من أهل الاجتهاد، فله أن يقضي بما رأى، وإن كان غيره أعلم منه؛ لأن التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه بالإجماع (1) .
وإن لم يكن القاضي مجتهداً: يختار قول الأفقه والأورع من المجتهدين بحسب اعتقاده (2) .
صفة قضاء القاضي: قال جمهور العلماء: قضاء القاضي ينفذ ظاهراً لا باطناً؛ لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر، فلا يحل هذا الحكم حراماً ولا يحرم حلالاً، فلو حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطناً، سواء في المال وغيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات: 263/2.
(2) المبسوط: 68/16، البدائع: 5/7 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 327.
(3) راجع مغني المحتاج: 397/4، المغني: 58/9، بداية المجتهد: 450/2 ومابعدها، المقدمات الممهدات: 266/2.
(8/88)
وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهراً وباطناً؛ لأن مهمته القضاء بالحق، وأما الحديث فهو في قضية لا بينة فيها. وعلى هذا إذا ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على زواجها شاهدي زور، فقضى القاضي بالنكاح بينهما، وهما يعلمان أنه لا نكاح بينهما، حل للرجل وطؤها، وحل لها التمكين عند أبي حنيفة، خلافاً للجمهور. ومثله لو قضى بالطلاق فرق بينهما عنده، وإن كان الرجل منكراً. ويقاس عليه البيع ونحوه.
والخلاصة: إن القاضي في قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً حيث كان المحل قابلاً لذلك كالعقود والفسوخ، والقاضي غير عالم بزور الشهود. وهذا القول وإن كان هو الأوجه في مذهب الحنفية، إلا أن المفتى به عندهم هو قول الصاحبين الموافق لبقية الأئمة، وهو أن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً فقط لا باطناً، أي ليس الحلال عند الله هو ما قضى به القاضي، بل ما وافق الحق (1) .
المطلب الثاني ـ طرق إثبات الحق لدى القضاء:
يجب على القاضي أن يقضي بما ثبت عنده بطرق الإثبات الشرعية: وهي البينة والإقرار واليمين والنكول على النحو الذي سيذكر في المبحث المخصص لطرق الإثبات. وأشير هنا إلى أن البينة تظهر الحق بالاتفاق بشرط أن يثبت عند القاضي عدالة الشهود بالسؤال عنهم، ممن له علم بأحوالهم سراً وعلانية.
والإقرار حجة مطلقة؛ لأن الإنسان غير متهم بالإقرار على نفسه كاذباً.
والشهادة في الأموال: شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، أو شهادة رجل ويمين المدعي عند غير الحنفية.
__________
(1) البدائع: 15/7، شرح فتح القدير: 492/5، ط التجارية، الدر المختار ورد المحتار: 462/4، ط الأميرية.
(8/89)
واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي لا بينة له. وكذلك عند الإمام مالك: يثبت بها حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه.
والنكول عن اليمين من المدعى عليه يثبت به الحق للمدعي في الأموال عند أبي حنيفة (1) . ويقضى عند المالكية بالنكول مع شاهد أو يمين المدعي أو مع يمين المدعى عليه (2) . وهل للقاضي أن يقضي بعلمه أو بكتاب قاض آخر إليه أو بالشهادة على الشهادة
1 - قضاء القاضي بعلم نفسه:
قال المالكية والحنابلة: لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، سواء علم ذلك قبل القضاء وبعده، ويجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء، بأن أقر بين يديه طائعاً. ودليلهم على عدم الجواز قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن (3) بحجته من بعض، فأقضي بنحوٍ مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» (4) فدل على أنه يقضي بما يسمع، لا بما يعلم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في قضية
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 6، بداية المجتهد: 451/2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 151/4.
(2) القوانين الفقهية: ص 302.
(3) أي أفطن بها، ويجوز أن يكون معناه: أفصح تعبيراً وأظهر احتجاجاً حتى يخيل أنه محق، وهو في الحقيقة مبطل. والأرجح في المعنى: أنه أبلغه أي أحسن إيراداً للكلام مع أنه كاذب.
(4) رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أم سلمة، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، لكن فيه متروك (نيل الأوطار: 278/8، شرح مسلم: 4/12، مجمع الزوائد: 198/4، الإلمام: ص 514) .
(8/90)
الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذاك» (1) ، وهناك آثار عن بعض الصحابة تؤيد عدم جواز القضاء بعلم نفسه (2) .
وقال الحنفية: القضاء بعلم القاضي بنفسه: بالمعاينة، أو بسماع الإقرار، أو بمشاهدة الأحوال، فيه تفصيل:
1 - إن قضى القاضي بعلم حدث له، في زمن القضاء وفي مكانه، في الحقوق المدنية كالإقرار بمال لرجل، أو الشخصية كطلاق رجل امرأته، أو في بعض الجرائم: وهي قذف رجل أو قتل إنسان، جاز قضاؤه. ولا يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة لله عز وجل، إلا أن في السرقة يقضي بالمال، لا بالقطع؛ لأن الحدود يحتاط في درئها، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم القاضي.
2 - إذا قضى القاضي بعلم نفسه قبل أن يقلد منصب القضاء، أو بعد أن قلد، لكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه، فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة أصلاً.
وعند الصاحبين: يجوز فيما سوى الحدود الخالصة لله عز وجل، قياساً على جواز قضائه فيما علمه في زمن القضاء.
ورد أبو حنيفة بأن القياس مع الفارق، فالعلم المستفاد في زمن القضاء علم في وقت يكون القاضي فيه مكلفاً بالقضاء، فأشبه البينة القائمة فيه، أما العلم الحاصل في غير زمان القضاء: فهو علم في وقت لا يكون القاضي مكلفاً فيه بالقضاء، فلا يصلح؛ لأنه ليس في معنى البينة، فلم يجز القضاء به؛ لأن البينة المعتبرة أن يسمع القاضي الشهود في ولايته، أما ما يعلمه قبل ولايته فهو بمنزلة ما يسمعه من الشهود قبل ولايته، وهو لا قيمة له.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/8) .
(2) المغني: 53/9 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 158/4، نيل الأوطار: المرجع السابق: ص 286، بداية المجتهد: 458/2 وما بعدها.
(8/91)
والخلاصة: إن أبا حنيفة يقول: ما كان من حقوق الله كالحدود الخالصة له، لا يحكم فيه القاضي بعلمه؛ لأن حقوق الله مبنية على المساهلة والمسامحة، وأما حقوق الناس المدنية، فما علمه القاضي قبل ولايته، لم يحكم به، وما علمه في ولايته، حكم به (1) . والمعتمد عند المتأخرين من الحنفية وهو المفتى به: عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً في زماننا لفساد قضاة الزمن (2) .
وقال الشافعية: الأظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل ولايته أو في أثناء ولايته، أو في غير محل ولايته، سواء أكان في الواقعة بينة أم لا، إلا في حدود الله تعالى. وعلى هذا فيجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في الأموال قطعاً، وفي القصاص وحد القذف على الأظهر؛ لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان، فقضاؤه بالعلم أولى. وأما الحدود الخالصة لله كالزنا والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ويندب سترها، لكن إن اعترف إنسان بموجب الحد في مجلس الحكم قضى فيه بعلمه (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن اعترفت فارجمها» .
__________
(1) المبسوط: 93/16، البدائع: 7/7، مختصر الطحاوي: ص 332.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 369.
(3) مغني المحتاج: 4 ص 398.
(8/92)
2 - قضاء القاضي بكتاب قاض آخر إليه:
اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه، فقد يكون لامرئ حق في غير بلده، ولا يمكنه إتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي بشرط أن يشهد شاهدان عدلان على أن الكتاب المرسل هو كتاب قاضٍ، وأن يشهد بثبوت الحكم عنده على نحو معين، وأجاز الإمام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضاً (1) .
ولكتاب القاضي إلى قاض آخر صورتان:
الأولى: كتابة الشهادة التي سمعها القاضي من الشهود إما مع تعديل الشهود وتزكيتهم أو بدون تعديل، ليبحث القاضي الآخر عن أحوال الشهود.
الثانية: كتابة صورة الحكم الذي حكم به على الشخص الغائب ويرسلها إلى القاضي الثاني لتنفيذ الحكم عليه.
وبما أن الحنفية لا يجيزون القضاء على الغائب كما سيأتي بيانه، فالصورة الثانية لتنفيذ الحكم. والأولى مقدمة لإصدار الحكم.
وقد اشترط علماء المذاهب في قبول كتاب القاضي شروطاً أكتفي بذكر شروط الحنفية منها وهي (2) :
أولاً ـ البينة على أنه كتابه: فيشهد شاهدان رجلان أو رجل وامرأتان على أن
__________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 458، المغني: 9 ص 90، مغني المحتاج: 4 ص 452، المهذب: 2 ص 304، المبسوط: 16 ص 95، الميزان: 2 ص 188، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 159، فتح القدير: 5 ص 277 وما بعدها، تبيين الحقائق: 241/4.
(2) المبسوط، المرجع السابق، البدائع: 7 ص 7 وما بعدها، فتح القدير، المرجع السابق، اللباب شرح الكتاب للميداني: 4 ص 84 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 330، درر الحكام: 2 ص 412 وما بعدها، تبيين الحقائق: 184/4، القوانين الفقهية: ص 297، الشرح الكبير: 159/4.
(8/93)
هذا كتاب فلان القاضي ببيان اسمه ونسبه؛ لأنه لا يعرف أنه كتابه بدون المذكور. ويحدد في الكتاب اسم المدعى عليه والشهود، والمدعى به وصفاته لتمييزه عن غيره. وهذا أمر طبيعي متفق عليه.
ثانياً ـ أن يكون الكتاب مختوماً، ويشهدوا على أن هذا ختمه لصيانته عن الخلل فيه. وأن تكون الكتابة ظاهرة مقروءة تفيد المعنى المراد وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم، ليتمكن القاضي المكتوب له العمل بموجب الكتاب.
ثالثاً ـ أن يشهد الشاهدان بما في الكتاب: بأن يقولا: إنه قرأه عليهما مع الشهادة بالختم.
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يكفي أن يشهد الشاهدان بالكتاب والخاتم، ولا تشترط الشهادة بما في الكتاب؛ لأن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المرسل إلىه بأن هذا كتاب فلان القاضي، ويتحقق المطلوب بما ذكر. وقال الطرفان: لا يحصل هذا المقصود إلا بالعلم بما فيه.
رابعاً ـ أن تكون هناك مسافة سفر القصر بين القاضي المرسل وبين المرسل إليه؛ لأن القضاء بكتاب القاضي أمر جوِّز للحاجة أو للضرورة؛ لأنه قضاء على غائب، ولا ضرورة فيما دون مسافة القصر.
خامساً ـ أن يكون موضوع الكتاب في الحقوق المدنية أو الشخصية كالديون والنكاح، وإثبات النسب، والمغصوبات، والأمانات والمضاربة، أو أن يكون في العقارات كالأراضي والدور؛ لأنها تقبل التحديد، وقيل: لا يقبل في المنقولات للحاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى والشهادة.
وفي رواية عن محمد: أنه يقبل في جميع المنقولات من الدواب والثياب والأمتعة ونحوها، وبه أخذ المتأخرون من الحنفية، وعليه الفتوى، وبه قال سائر الأئمة الآخرين.
سادساً ـ ألا يكون الكتاب في الحدود والقصاص؛ لأن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، وهي لا تقبل في العقوبات الخالصة لله عز وجل؛ لأنها تدرأ بالشبهات، وكتاب القاضي إلى القاضي فيه شبهة.
وهذا أيضاً هو الأرجح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية كما عرفنا: يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص؛ لأن الاعتماد على الشهود، وقد شهدوا.
وهناك شروط أخرى من أهمها: أن الكتاب إذا وصل إلى القاضي قرأه على الخصم؛ لأنه بمنزلة أداء الشهادة، وهو لا يكون إلا بمحضر الخصم، فكذا هذا، منعاً من اتهام القاضي في شيء.
ومن أهمها أيضاً: أن الكتاب يقبل إذا كان القاضي الكاتب ما زال في منصبه عند وصول الكتاب إلى المرسل إليه، فإن مات، أو عزل أو لم يبق أهلاً للقضاء قبل وصول الكتاب، لا يقبل؛ لأن الكاتب صار من جملة الرعايا العاديين، ولا يقبل أيضاً الكتاب إذا مات المكتوب له أو عزل، إلا أن يكتب إلى قاضي بلد كذا وإلى كل من يقضي فيه من قضاة المسلمين.
(8/94)
3 - قضاء القاضي بالشهادة على الشهادة:
اتفق الفقهاء على قبول الشهادة على الشهادة في الأموال، لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] وللحاجة إليها؛ لأن الشهادة الأصلية قد تتعذر بسبب حبس أو مرض أو عجز. ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود الخالصة لله عند الحنفية والحنابلة، والشافعية في الأظهر؛ لأن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنه يعترضها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل.
وقال الإمام مالك: تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود وكل الحقوق المالية؛ لأن موجب الحد يثبت بشهادة الأصل، فيثبت بالشهادة على الشهادة كالأموال (1) ، وسأفصل هذا الموضوع في بحث الشهادات إن شاء الله تعالى.
المطلب الثالث ـ واجبات القاضي نحو المقضي له:
يجب على القاضي نحو المقضي له أمور (2) :
1ً - أن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي، فإن كل من لا تقبل شهادته له: لا يجوز قضاء القاضي له؛ لأن القضاء له قضاء لنفسه من جهة، فلم يكن القضاء مجرداً، وإنما فيه تهمة، فلا يصح القضاء. وعليه فلا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا لزوجته، ولا لأولاده وإن سفلوا، ولا لشريكه في المال المشترك بينهما، ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم، لوجود التهمة، وهذا رأي أكثر الفقهاء (3) .
2ً - أن يكون المقضي له حاضراً وقت القضاء، فإن كان غائباً لم يجز القضاء له إلا إذا كان عنه وكيل حاضر؛ لأن القضاء على الغائب عند الحنفية لا يجوز، فكذلك لا يجوز القضاء للغائب أيضاً.
3ً - طلب القضاء من القاضي في حقوق الناس؛ لأن القضاء وسيلة إلى الحق، وحق الإنسان لا يستوفى إلا بطلبه.
__________
(1) راجع فتح القدير: 74/6، مغني المحتاج: 453/4، المغني: 206/9، القوانين الفقهية: ص 297.
(2) البدائع: 8/7، اللباب شرح الكتاب: 90/4، مختصر الطحاوي: ص 332.
(3) بداية المجتهد: 460/2، مغني المحتاج: 393/4، المغني: 107/9.
(8/95)
المطلب الرابع ـ واجبات القاضي نحو المقضي عليه:
يجب على القاضي ألا يحكم على من لا يجوز أن يشهد عليه، فلا يقضي على عدوه، ويجوز أن يقضي له. ويجب أن يكون المقضي عليه حاضراً عند الحنفية، فلا يجوز القضاء على الغائب بالبينة إذا لم يكن عنه وكيل حاضر (1) كوكيله ووصيه ومتولي الوقف أو نائبه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» وما روي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال حين أرسله إلى اليمن: «لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر» (2) ، ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه.
وعدم جواز القضاء على الغائب عند الحنفية، سواء أكان الخصم غائباً وقت الشهادة أم بعدها وبعد التزكية، وسواء أكان غائباً عن مجلس القضاء أم عن البلد التي فيها القاضي، إلا أن يكون ذلك ضرورياً، كما إذا توجه القضاء على الخصم، فاستتر.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: 222/6، اللباب، المرجع السابق: ص 88، تكملة فتح القدير: 137/6، تكملة رد المحتار على الدر المختار: 314/1، المبسوط: 39/17.
(2) رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان وصححه وأحمد، وقواه ابن المديني عن علي بلفظ: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» (نيل الأوطار: 375/8، سبل السلام: 120/4) .
(8/96)
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (1) : يجوز القضاء على الغائب البعيد الغيبة بشرط أن يكون للمدعي بينة، وذلك في حقوق الناس المدنية، أما في الحدود الخالصة لله تعالى، فلا يقضى على الغائب بها؛ لأنها مبنية على المسامحة والدرء والإسقاط، لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الإنسان، فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال، حكم عليه بالمال دون القطع.
واستدلوا على جواز الحكم على الغائب بحديث هند، قالت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (2) فقضى لها الرسول عليه السلام، ولم يكن زوجها حاضراً. والواقع أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه؛ لأن أبا سفيان كان حاضراً بمكة، والحادثة كانت بمكة، لما حضرت هند لمبايعة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن حزم: صح عن عثمان القضاء على الغائب، وصح عن عمر أنه حكم في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشراً، ولا مخالف لهما من الصحابة. ودليلهم من المعقول أن البينة يطلب سماعها وهي مسموعة في هذه الحالة على الغائب، فيجب الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت، وأيضاً فالحكم على الميت والصغير جائز، وهما أعجز عن الدفاع عن نفسيهما من الغائب، ولأن في منع الحكم عن الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى حفظها.
وحد الغيبة البعيدة عند الشافعية: هو أن يكون الغائب في مسافة بعيدة عن بلد القاضي: وهي التي لا يرجع منها مبكر إلى موضعه الذي بكَّر منه ليلاً بعد فراغ المحاكم، لما في إلزامه الحضور من المشقة. وقيل: هي مسافة القصر.
وأما الحاضر في بلد القاضي ومن بقربه: فلا تسمع البينة عليه، ولا يحكم عليه في غيبته إلا لتواريه، أو تعززه، وعجز القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه أو بأعوان السلطان.
__________
(1) بداية المجتهد: 460/2، الشرح الكبير للدردير: 162/4، مغني المحتاج: 406/4، 415، المهذب: 3/2، المغني: 110/9.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عائشة (شرح مسلم: 7/12، الإلمام: ص 515) .
(8/97)
المبحث السادس ـ آداب القضاة:
ينبغي على القاضي أن يلتزم بآداب معينة تقتضيها مصلحة القضاء وإقامة العدل بين الناس، وهذه الآداب مستمدة في أغلبها من كتاب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء والسياسة إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأذكر هنا أهمها عند الحنفية وأصنفها إلى قسمين: آداب عامة، وآداب خاصة.
الآداب العامة:
1 ً - المشاورة: يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم فيما يجهله من الأحكام أو يشكل عليه من القضايا، قال تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأصحابه منه» .
فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون، وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم وقضى بما رآه صواباً، إلا أن يكون غيره أفقه منه، فيجوز له الأخذ برأيه وترك رأيه الشخصي. وإن اعتمد على قول بعضهم، ثم رأى الصواب في قول الآخر، فله أن يعدل عن الرأي الأول؛ لأن الأمور الاجتهادية يجوز للقاضي أن يأخذ بأحد الآراء فيها قبل صدور الحكم. أما بعد الحكم فليس له أن يبطل الحكم الذي صدر منه؛ لأنه صار بالقضاء كالرأي المتفق عليه، ولكن له أن يعمل في المستقبل بخلاف الرأي السابق (1) .
__________
(1) البدائع: 11/7 وما بعدها، الدر المختار: 316/4، الكتاب مع اللباب: 81/4، أصول الفقه للمؤلف: 1115/2، ط دار الفكر.
(8/98)
2 ً - التسوية بين الخصمين في المجلس والإقبال: ينبغي أن يعدل القاضي بين الخصمين في الجلوس، والإقبال، فيجلسهما بين يديه، لا عن يمينه ولا عن يساره، وأن يسوي بينهما في النظر والنطق والإشارة والخلوة فلا يسارّ أحدهما أو يخلو به، ولا يشير إليه، ولا يلقنه حجة منعاً للتهمة، ولا يضحك في وجه أحدهما؛ لأنه يجترئ عليه، ولا يمازحهما ولا واحداً منهما؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء، ولا يضيف أحدهما (1) ، ولا يرفع صوته على أحدهما، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يعرفها الآخر، وإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر حتى يسمع كلامه، ويفهم، ثم يستنطق الآخر، حتى يفهم تماماً رأيه (2) .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليسوِّ بينهم في
__________
(1) روي إسحاق بن راهويه وعبد الرزاق والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة في صحيحه عن الحسن عن علي قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه» ورواية البيهقي له بإسناد ضعيف منقطع، وله طريق آخر عند الطبراني في الأوسط عن علي، قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر» وفيه ضعيف (نصب الراية: 73/4، تلخيص الحبير: 193/4 وما بعدها، مجمع الزوائد: 197/4) .
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 9، المبسوط: 61/16، فتح القدير: 469/5.
(8/99)
المجلس، والإشارة والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر من الآخر» (1) .
وفي كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري: «آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك» (2) وعن الحسن قال: «جاء رجل فنزل على علي رضي الله عنه، فأضافه، فلما قال: إني أريد أن أخاصم، قال له علي رضي الله عنه: تحول، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه» (3) ، وعن عبد الله بن الزبير قال: «سنة رسول الله؛ صلّى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» ، وفي لفظ: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» (4) .
وكما أنه لا يصح تلقين الخصم حجته، يكره تلقين الشاهد، وهو أن يقول القاضي كلاماً يستفيد به الشاهد علماً على الحادثة، واستحسن أبو يوسف تلقين الشاهد الذي يستحي أو يحتار أو يهاب مجلس القضاء، فيترك شيئاً من شروط الشهادة، فيعينه القاضي بقوله: «أتشهد بكذا وكذا» بشرط عدم التهمة؛ لأن في التلقين إحياء للحق (5) .
__________
(1) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو يعلى والدارقطني والطبراني عن أم سلمة، ولفظ الدارقطني: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده» (فتح القدير، المرجع السابق، نصب الراية: 73/4، مجمع الزوائد: 197/4، تلخيص الحبير: 193/4) .
(2) روى الكتاب الدارقطني في سننيهما عن أبي المليح الهذلي، وروى بعضه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ونقله ابن الجوزي في سيرة عمر بن الخطاب واعتمده ابن القيم في أعلام الموقعين (راجع نصب الراية: 63/4، 81، أعلام الموقعين: 85/1، أصول الفقه للمؤلف: 628/2، ط دار الفكر.
(3) رواه إسحاق بن راهويه عن الحسن، ورواه أيضاً عبد الرزاق والدارقطني وغيرهم كما سبق في تخريجه قريباً (فتح القدير: 469/5، نصب الراية: 73/4) .
(4) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن الزبير وفي إسناده ضعيف (نيل الأوطار: 274/8، تلخيص الحبير: 193/4) .
(5) فتح القدير، المرجع السابق: ص 470، البدائع: 10/7، اللباب: 81/4.
(8/100)
3 ً - قبول الهدية: لا يقبل القاضي هدية أحد إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته؛ لأن المقصود في الأول صلة الرحم، وفي الثاني استدامة المعتاد. والحاصل أن المهدي إذا كان له خصومة في الحال يحرم قبول هديته، لأنها بمعنى الرشوة، قال صلّى الله عليه وسلم: «هدايا العمال غلول» (1) وروي: «هدايا العمال سحت» وفي لفظ: «هدايا السلطان سحت» . وأخرج أبو داود عن بريدة حديثاً بلفظ: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» وقال عليه الصلاة والسلام في قصة ابن اللُّتبِيّة: «ما بال العامل نبعثه فيجيء، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟» (2) ولأن الهدية تدعو إلى الميل للمهدي، وينكسر بها قلب خصمه. وهذا كله دليل على تحريم قبول الهدية على الحاكم بعد تولي القضاء؛ لأن للإحسان تأثيراً في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي ميلاً يؤثر في الميل عن الحق عند وجود خصومة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه.
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي وابن عدي والبزار من حديث أبي حميد الساعدي وإسناده ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، وإسناده أشد ضعفاً (تلخيص الحبير: 189/4، نيل الأوطار: 297/7، 268/8، مجمع الزوائد: 200/4) والغلول: الخيانة.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي، قال: «استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم، قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلى، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه، حتى ينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: اللهم، هل بلَّغت؟ مرتين أو ثلاثاً» (الإلمام في أحاديث الأحكام: ص 516، سنن أبي داود: 121/2، نيل الأوطار: 297/7) واللتبية بتشديد اللام المضمومة وسكون التاء وكسر الباء وتشديد الياء المكسورة. وقال ابن السرح: ابن الاتبية.
(8/101)
وإن كان المهدي قريباً من القاضي ولا خصومة له، جاز قبول هديته؛ لأنه لا تهمة فيه.
وإن كان المهدي أجنبياً عن القاضي، لا تقبل هديته؛ لأنه قد يكون له مآرب في المستقبل، إلا إذا كان له عادة بالمهاداة قبل تقلد القضاء، فيجوز قبولها بشرط ألا تزيد الهدية على القدر المعتاد (1) .
ويندب للقاضي ألا يبيع ولا يشتري بنفسه، لئلا يحابيه أحد، ويستغل منصبه وقربه منه إذا وقعت خصومة بينه وبين غيره.
4 ً - إجابة الدعوة: إذا كانت الدعوة عامة: وهي (ما تكون فوق العشرة أو التي يتخذها صاحبها سواء حضر القاضي أم لا، مثل دعوة العرس والختان) ولا خصومة لصاحب الوليمة، فللقاضي إجابة الدعوة؛ لأن الإجابة سنة، ولا تهمة فيه.
__________
(1) البدائع: 9/7 وما بعدها، فتح القدير: 467/5، الكتاب مع اللباب: 81/4، الدر المختار: 323/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 392/4.
(8/102)
وإن كانت الدعوة خاصة: وهي (ما تكون دون العشرة أو التي لا يتخذها صاحبها لولا حضور القاضي) فلا يجيبها؛ لأن إجابتها لا يخلو من التهمة، إلا إذا كان صاحب الدعوة ممن اعتاد أن يتخذ للقاضي دعوة قبل القضاء، أو كان بينه وبين القاضي قرابة، فلا بأس بأن يحضر، إذا لم يكن لصاحب الدعوة خصومة، كما تبين في حال الهدية، لعدم وجود التهمة (1) .
5 - شهود الجنازة وعود المريض: لا بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض؛ لأن ذلك من حقوق المسلمين بعضهم على بعض (2) ، قال صلّى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإذا
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 10، فتح القدير: ص 468، الدر المختار، المرجع نفسه: ص 325.
(2) المراجع السابقة.
(8/103)
استنصحك فانصح له» (1) فهي السادسة.
الآداب الخاصة:
1 - مكان القضاء: قال الشافعية: يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحاً بارزاً للناس، متلائماً مع الوقت والفصول، متناسباً مع الحر والبرد، لا مسجداً، فيكره اتخاذ المسجد مجلساً للحكم؛ لأن مجلس القاضي، لا يخلو عن اللغط، وارتفاع الأصوات، وقد يحتاج لإحضار المجانين والصغار وذوات الأعذار بالحيض والنفاس والجنابة، والكفار، ونحوهم، والمسجد يصان عن ذلك كله. أخرج مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلم حين سمع من ينشد ضالته في المسجد، قال: إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لما بنيت له» فإن صادف وقوع قضية أو أكثر وقت الحضور في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها، وعليه يحمل ما جاء عنه صلّى الله عليه وسلم، وعن خلفائه في القضاء في المساجد (2) .
وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا بأس من القضاء في المساجد، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم (3) وبصحابته (4) وتابعيهم رضي الله عنهم، كانوا يجلسون في المسجد للقضاء، والاقتداء بهم واجب (5) .
2 - معاونو القاضي: يندب أن يكون للقاضي جلواز وهو المسمى بصاحب المجلس أي الحارس في عرفنا، وأن يكون له أعوان يستحضرون الخصوم ويمتثلون بين يديه إجلالاً له، ليكون المجلس مهيباً ويذعن المتمرد للحق، وأن يكون للقاضي ترجمان لجواز أن يحضر المحاكمة من لا يعرف القاضي لغته من المدعي والمدعى عليه والشهود.
وأن يتخذ القاضي كاتباً، لأنه يحتاج إلى حفظ الدعاوى والبينات والإقرارات، وقد يشق عليه الكتابة بنفسه، فيحتاج إلى كاتب يستعين به. وينبغي أن يكون الكاتب عفيفاً صالحاً من أهل الشهادة، وله معرفة بالفقه. وينبغي أن يقعد الكاتب حيث يرى القاضي ما يكتب وما يصنع؛
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، ورواه البخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي (نصب الراية: 72/4 وما بعدها، جامع الأصول: 338/7، سبل السلام: 148/4، مجمع الزوائد: 184/8) .
(2) مغني المحتاج: 390/4.
(3) راجع بعض حوادث قضائه صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في المسجد في (نصب الراية: 71/4 وما بعدها) .
(4) راجع نصب الراية، المرجع السابق: ص 72.
(5) البدائع: 13/7، فتح القدير: 465/5، الدر المختار: 323/4، اللباب: ص 80، الشرح الكبير للدردير: 137/4، المغني: 45/9.
(8/104)
لأنه أقرب إلى الاحتياط (1) ، وأن يخصص الكاتب سجلاً خاصاً بالدعوى، يذكر فيه موضوع الدعوى والمدعي والمدعى عليه، والشهود، ودفوع كل من الخصمين.
3 - فهم المنازعة: ينبغي على القاضي أن يفهم الخصومة فهماً دقيقاً، فيجعل فهمه وسمعه وقلبه متجهاً كله إلى كلام الخصمين، لقول سيدنا عمر في فاتحة كتابه إلى أبي موسى الأشعري: «فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له» .
4 - صفاء القاضي وحالته النفسية: يلزم ألا يكون القاضي قلقاً ضجراً مضطرباً وقت القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إياك والضجر والقلق» (2) وألا يكون غضبان باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (3) ، ولقول سيدنا عمر إلى أبي موسى: «إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر لهم عند الخصومة، فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم، فأوجع رأسه» ولأن القاضي إذا غضب تغير عقله، ولم يستكمل رأيه وفكره.
وفي معنى الغضب: كل ما شغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط، والتخمة، والخوف، والمرض، وشدة الحزن والسرور، ومدافعة الأخبثين، فينبغي ألا يكون القاضي مشغولاً بهذه العوارض العشرة، حتى لا تمنع الحاكم من إصابة الحق؛ لأنها تمنع استحضار القلب والعقل، واستجماع الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهي في معنى الغضب المنصوص عليه، فتجري مجراه، قال عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان
__________
(1) البدائع: 12/7، مختصر الطحاوي: ص 329.
(2) ذكره السرخسي في المبسوط: 64/16.
(3) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي بكر بلفظ: «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان» وفي لفظ ابن ماجه: «لا يقضي» وفي لفظ آخر: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (نيل الأوطار: 272/8 وما بعدها، مجمع الزوائد: 194/4، شرح مسلم: 15/12، تلخيص الحبير: 189/4، سبل السلام: 120/4) .
(8/105)
مهموم، ولا مصاب، ولا يقضي وهو جائع» (1) .
فإن حكم القاضي في الغضب وما شاكله لا ينفذ قضاؤه عند بعض الحنابلة؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
وقال بعضهم وهو مذهب الشافعي والجمهور: ينفذ قضاؤه (2) .
وإذا أخطأ القاضي في قضائه، كان خطؤه على المقضي له، وإن تعمد الخطأ بجور، كان الخطأ عليه (3) .
5 - تزكية الشهود: لا يسأل القاضي عن حالة الشهود فيما سوى الحدود والقصاص، وهذا من آداب القضاء عند أبي حنيفة؛ لأن القضاء عنده بظاهر العدالة. وعند الصاحبين: من واجبات القضاء، وسأفصل الموضوع في بحث شروط أداء الشهادة. والسؤال يكون أولاً سراً، ثم يكون علانية خوفاً من الاحتيال والتزوير، بأن يسمى غير العدل باسم العدل، فإذا اتفق اثنان عدلان أو أكثر على تزكية رجل، قبل قوله وعمل به. وعدالة المزكين شرط؛ لأن من لا يكون عدلاً في نفسه، كيف يعدِّل غيره
وأما العدد: فهو شرط فضيلة وكمال عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن التزكية ليست بشهادة. وعند محمد: شرط جواز؛ لأن التزكية في معنى الشهادة.
ولو اختلف المعدلان، فعدله أحدهما، وجرحه الآخر، سأل القاضي غيرهما، فإن عدله آخر أخذ بالتزكية، وإن جرحه أخذ بالجرح؛ لأن خبر الاثنين أولى من خبر الواحد بالقبول؛ لأنه حجة مطلقة.
وإن عدله اثنان، وجرحه اثنان، عمل بالجرح؛ لأن المجرح يعتمد حقيقة الحال، والمعدل يبني الأمر على الظاهر؛ لأن الظاهر من حال الإنسان أن يظهر الصلاح، ويكتم الفسق، فكان قبول قول الجارح أولى.
__________
(1) رواه أبو عوانة في صحيحه، وأخرج البيهقي والدارقطني والطبري بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «لايقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان» (مجمع الزوائد: 195/4، نيل الأوطار: 273/8، تلخيص الحبير، المرجع السابق) .
(2) المبسوط: 64/16، المغني: 49/9، مغني المحتاج: 391/4، البدائع: 9/7، بداية المجتهد: 462/2.
(3) مجمع الضمانات: ص 364.
(8/106)
وكذا لو جرحه اثنان، وعدله ثلاثة فأكثر، يعمل بقول الجارح عند الحنفية؛ لأن الترجيح لا يقع بكثرة العدد في موضوع الشهادات (1) .
6 - مصالحة الخصمين: لا بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح، إن تأمل منهما المصالحة، قال تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] فكان طلب الصلح طلباً للخير.
وقال سيدنا عمر: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» . وإن لم يتأمل القاضي الصلح من المتخاصمين، ولم يرضيا به، فلا يردهما إلى الصلح، ويتركهما على الخصومة، وينفذ القضاء على من قامت عليه الحجة (2) .
المبحث السابع ـ انتهاء ولاية القاضي:
كل ما تنتهي به الوكالة، تنتهي به ولاية القاضي، كالعزل والموت، والجنون المطبق، وإنجاز المهمة الموكولة للشخص، إلا في شيء واحد، وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل، أما ولي الأمر إذا مات أو خلع، فلا ينعزل قضاته وولاته. والفرق بين الوكالة وولاية القاضي: أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفي حقه الخالص له، فإن زالت أهلية الولاية، بطلت الوكالة. أما القاضي فلا يعمل بولاية الإمام وفي حقه المجرد له، وإنما يعمل بولاية المسلمين وفي حقوقهم، وإنما الإمام بمنزلة النائب عنهم، وولاية المسلمين باقية بعد موت الإمام، فلو استخلف القاضي أحداً بإذن الإمام ثم مات القاضي، لا ينعزل خليفته؛ لأنه نائب الإمام، لا نائب القاضي (3) .
__________
(1) البدائع: 10/7 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 328.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص13، مختصر الطحاوي: ص333.
(3) البدائع: 16/7، 37/6 وما بعدها.
(8/107)
المبحث الثامن ـ متى يجوز حبس المدين؟
بينت في بحث التعزير أن الحبس جائز شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم» والظالم يحبس.
فإذا رفعت الدعوى إلى القاضي، وثبت الحق عنده على أحد المتخاصمين، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل القاضي بحبسه، وإنما يعمل بما يأتي (1) :
1ً - إذا ثبت لدى القاضي أن المدين معسر أو معدم لا مال له: لا يحكم بحبسه في الدين، باتفاق الفقهاء لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] إذ لا فائدة من حبسه، فيكون ظلماً، وإنما يترك ليسعى في الأرض ويكتسب، فيتمكن من سداد دينه كله أو بعضه.
2ً - إذا كان مشكوكاً في أمر المدين، أهو معسر أم موسر، جاز حبسه عند جمهور الفقهاء حبس تلوم واختبار، إذا كان الدين من ديون المعاوضة (2) كثمن مبيع ودين قرض، وطلب غرماؤه حبسه، وادعوا أن له مالاً يخفيه أو ينكره. وينتهي هذا الحبس بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، كالحالة السابقة، إذ لا حبس للمدين المعدم، ويكون حبسه حينئذ ظلماً، ولا يحول القاضي بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس، ولهم حق ملازمته.
3ً - إذا ثبت يسار المدين بالأدلة المعروفة، لم يأمر القاضي فوراً بحبسه، وإنما يأمره بأداء المال المستحق عليه لصاحبه؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلا بد من ظهورها، إذا ثبت الحق بإقراره. أما إن ثبت الحق بالبينة، وامتنع من الوفاء بالدين المستحق، أو تأخر عن الدفع من غير ضرورة، جاز حبسه شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل بحسب تقدير القاضي لأحوال الأشخاص.
ويظل محبوساً أبداً في رأي أبي حنيفة وزفر حتى يقوم بالوفاء.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 82/4، الطرق الحكمية: ص 101 - 106.
(2) أما إذا كان الدين من غير معاوضة كأرش الجناية ونفقة الأقارب، فلا يحبس المدين بسببه إذا ادعى الإعسار. ولم يجز ابن القيم هذه التفرقة ورفض الحبس في الحالتين، حتى يثبت موجبه، ويظهر أن هذا الرأي هو الأرجح تحقيقاً للعدالة.
(8/108)
وقال الصاحبان وأئمة المذاهب الأخرى: إذا لم يفلح الحبس في دفعه إلى الوفاء بديونه، يحجر عليه ويباع ماله جبراً، ويقسم بين دائنيه قسمة غرماء. فالحبس جزاء مؤقت عند هؤلاء ينتهي إما بالإفراج عن المدين إذا ثبت عسره، أو ببيع ماله جبراً وتسديد ديونه.
ويحبس الرجل في نفقة زوجته لظلمه بامتناعه عن الإنفاق، ولا يحبس والد في دين ولده؛ لأنه نوع عقوبة، فلا يستحقه الولد على والده، إلا إذا امتنع والده من الإنفاق عليه، دفعاً لهلاكه، ولئلا تسقط النفقة بمضي الزمان.
وقد رأى الحنفية بالنسبة لإثبات يسار المدين أنه يحبس إلى ظهور عسره في كل دين لزمه بدلاً عن مال حصل في يده (أي في المعاوضات) كثمن مبيع وبدل مستأجر، أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة؛ لأن التزامه بالعقد باختياره دليل يساره.
ولا يحبس المدين فيما سوى ذلك كبدل الخلع، وبدل مغصوب أو شيء متلف ونحوها إلا أن يثبت غريمه (دائنه) أن له مالاً، فيحبسه حينئذ لظهور المطل.
كيفية الحبس الشرعي (1) : إن الحبس الشرعي في أصله ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص، ومنعه من التصرف بنفسه، سواءأكان في بيت أم في مسجد، أم كان بتوكل شخص أو وكيله عليه، وملازمته له.
وحق الملازمة يخول الدائن مراقبة مدينه عن كثب، حتى يتمكن من معرفة الأموال التي تؤول إلىه تمهيداً للاستيلاء عليها وفاء لدينه.
وكان هذا هو الحبس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم.
ولكن لما كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب ابتاع بمكة داراً وجعلها سجناً يحبس فيها، فانقسم العلماء فريقين:
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 102 وما بعدها.
(8/109)
قال بعضهم: لا يتخذ الحاكم حبساً؛ إذ لم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا لخليفته بعده حبس، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة، أو يقام عليه حافظ، أو يأمر غريمه بملازمته، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال آخرون وهم الأكثرون كما تبين في التعزير: للحاكم أن يتخذ حبساً؛ إذ أن عمر بن الخطاب قد اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم، جعلها حبساً.
عزل القاضي وانعزاله:
للقاضي أن يعزل نفسه، لأنه كالوكيل عن الإمام، وللوكيل أن يعزل نفسه عن الوكالة.
ولا ينعزل القاضي بموت الإمام أو ترك منصبه وولايته بسبب من الأسباب؛ لأن الإمام يمثل الأمة في تعيين القضاة والموظفين.
وللإمام عزل القاضي إذا أخل بواجبه أو كثرت الشكاوى منه، أو وجد من هو أفضل منه، أو كان هناك مثله أو دونه وكان في عزله مصلحة للمسلمين. فإ لم يكن شيء مما سبق حرم عزله؛ لأنه عبث منهي عنه.
ولا ينعزل القاضي قبل بلوغه خبر عزله، لعدم علمه بذلك. وينعزل القاضي بنفسه بأحد أسباب ثلاثة:
1 ً - زوال الأهلية: بالجنون أو الإغماء أو العمى أو الخرس أو الصمم، أو فقدان أهلية الاجتهاد وضبط الأمور بسبب غفلة أو نسيان.
2 ً - الردة: بخروجه عن الإسلام؛ لأنه يصبح كافراً، والله تعالى يقول: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] .
3 ً - الفسق: بالإخلال بأحكام الشريعة أمراً ونهياً، وبالآداب العامة؛ لمنافاة ذلك لمنصب الولاية إلا قاضي الضرورة: وهو القاضي الفاسق الذي يعينه سلطان ذو شوكة.
(8/110)
....................إقليمية الشريعة والقضاء في ديار الإسلام..........................
كلما هبَّت رياح الضعف والوهن على بلد إسلامي أو عربي، أثيرت حوله مشكلات عديدة تتعلق بأوضاع غير المسلمين من الناحية القانونية أو الاجتماعية أو السياسية، وتبدأ مظاهر الفتنة بالتساؤل: هل تطبق عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، أو أنهم يخضعون لقوانين خاصة بهم؟ وذلك كما كان عليه الحال في أواخر عهد السلطة العثمانية، حيث تقرر بمساعي الدول الكبرى ما يسمى بنظام الامتيازات الأجنبية الذي عانت منه البلاد الشيء الكثير، ويعاصرنا الآن الوضع المتأزم في السودان بين الشمال والجنوب بمناسبة إقرار القانون الجنائي لإعفاء الجنوبيين من أحكامه، بل حتى إقليم الخرطوم عاصمة الدولة، التي يختل فيها الأمن اختلالاً ملحوظاً، وتكثر جرائم النهب والسرقة والقتل في الفترة التي أوقف فيها تطبيق الحدود الشرعية.
ومثل هذه التساؤلات لا تتردد بالنسبة لغير المواطنين في ربوع الدول القوية الغربية أو الشرقية، فلا يعترض أحد على تطبيق أحكام قانون عقوبات تلك الدولة، مهما اشتد وقسا، ومهما تعنَّت الساسة وتغطرسوا، ويظل مبدأ إقليمية القانون الذي هو جزء من سيادة الدولة هو المحترم والمطبق، ويتصدى قضاء الدولة الحالي للنظر في أي جريمة وقعت على أرضها أو إقليمها، أو حتى على وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية والجوية التابعة لها من طائرات وسفن، ولو في غير إقليم الدولة البري أو البحري أو الجوي، وتبادر الدولة على الفور إلى طرد دبلوماسي مثلاً لإطلاقه عياراً نارياً في شارع أو قرب سفارته، وتعلن الدولة صراحة كما حدث في بريطانيا في الأسبوعين الأخيرين من شهر أيلول (سبتمبر 1988) قائلة لغير الإنجليز: إما أن تحترموا قوانيننا أو ترحلوا من بلادنا، حفاظاً على الأمن الداخلي والسلم والاستقرار.
(8/111)
وبالمقارنة بين هذا المثال والوضع في السودان يظهر لنا أن القضية إذن هي قضية قوة ونفوذ لحماية المبدأ والحق، فإن كانت هناك قوة، كان احترام المبدأ القانوني هو السائد، وإن كان هناك ضعف انحسر مبدأ القانون، وظهر الاستنكار والاستهجان في وسائل الإعلام من إذاعة وصحافة، وتجرأ الناقدون لوصف القانون الجنائي المستمد من شريعة الله تعالى بأنه متسم بالقسوة والشدة، وأنه سبب التفرقة والتجزئة والانقسام، وفصل جنوب السودان عن شماله!!
والواقع أن مشكلة جنوب السودان سياسية محضة تعتمد على دعم وتأييد خارجي، له بواعثه وأهدافه ومراميه المفروضة والمشبوهة المعروفة، وليس منشأ المشكلة قضية تطبيق الشريعة.
ومع كل هذا أودّ بيان مبدأ إقليمية القانون الجنائي والقضاء، وأقارن بين ما عليه القانون الوضعي في العقوبات، وبين ما قرره فقهاؤنا الشرعيون منذ قرون كثيرة، لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف في هذا الموضوع المهم جداً، ولدحض ذرائع الذين يريدون التخلص من أحكام شريعة الله تعالى، بقصد إبقاء الجريمة ترتع وتمرح، ويكون المجرمون في أمان من العقاب الرادع الذي يستأصل الإ جرام ويقطع دابره.
(8/112)
من المعلوم أن الشريعة الغراء ذات المصدر الإلهي الوحيد الثابت الصحة والأصل منذ مجيئها وإلى اليوم والغد، تبغي الخير والسلامة والعدالة والاستقرار والعيش بسلام في ديارها وفي العالم أجمع، سواء بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم الذين يعيشون في ديار الإسلام وأوطانه، وإذا تحقق هذا الهدف، وهو سريع التحقق إذا طبقت أحكام الشريعة بأصولها وفروعها الصحيحة، وفي ضوء مقاصد التشريع العامة وروحه النقية الصافية، والتُزمت جميع الأحكام الشرعية، ليس في نطاق العقاب الصارم وحده، وإنما في مبنى الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي الشامل لجميع المواطنين في ديار الإسلام بحيث يشعر الناس أن مظلة الإسلام رحمة كلها، وخير كلها، وعدل كلها، ومصلحة كلها. وقد أثبتت التجارب أن العقوبات والأنظمة الوضعية لم تحقق للناس سعادتهم ولم تكفل أو تضمن لهم الأمن والسلامة والاستقرار لأموالهم وأنفسهم ومنازلهم وتحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم.
ولا فرق في الحاجة إلى تطبيق شريعة الإسلام المدنية والجزائية بين عالم متمدن متحضر، وعالم بدائي أو متخلف، فالبشر هم البشر، والناس هم الناس، والكل يعرف أن أكبر نسبة للجرائم في العالم هي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه في كل دقيقة أو ثانية تقع جريمة في بريطانيا وأمريكا.
(8/113)
ومبدأ إقليمية قانون العقوبات وغيره في كل دولة معناه أن القانون يسري حكمه على كل ما يقع في إقليم الدولة من جرائم مهما كانت جنسية المجرم وصفته. وأساس هذا المبدأ حق الدولة في السيادة على إقليمها، سواء الإقليم الأرضي، والمائي، والجوي. والإقليم الأرضي يشمل جميع أجزاء حدود الدولة الجغرافية من مساحة الأرض اليابسة، والإقليم المائي يمتد إلى ذلك الجزء من البحر العام الملاصق لشواطئ الدولة، ويتحدد في العرف الدولي عرضه بثلاثة أميال بحرية من آخر نقطة ينحسر عنها البحر وقت الجزر، والإقليم الجوي يضم كل طبقات الجو فوق الإقليمين الأرضي والمائي.
وهذا المبدأ الذي يحكم نطاق التطبيق المكاني للنصوص الجنائية الوضعية وهو ما يعبر عنه بمبدأ (إقليمية قانون العقوبات) هو المبدأ السائد في عالم القانون المعاصر، ولكن يرد عليه استثناءان: أحدهما داخلي والآخر خارجي. أما الاستثناء الداخلي فيقتضي إعفاء بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات في الدولة، وهم أعضاء البرلمان عما يبدونه من أفكار وآراء في أداء أعمالهم داخل المجلس أو في لجانه، ورؤساء الدول الأجنبية ورجال السلك السياسي الأجنبي، وأفراد القوات الحربية الأجنبية الذين يقومون بمهمات أمنية لحفظ السلام بترخيص من الدولة، وذلك عملاً بالعرف الدولي باعتبار أن هؤلاء تتصل أوضاعهم بسيادة الدولة التي ينتمون إليها.
وأما الاستثناء الخارجي فيعني تطبيق قانون عقوبات الدولة خارج إقليمها على جرائم تمس مصلحة أساسية لها، وهي الجرائم المخلة بأمن الدولة، وجرائم تزييف النقود الوطنية، وجرائم تزوير أختام الدولة.
(8/114)
ولقد أجمع فقهاء الإسلام على وجوب تطبيق الشريعة في دار الإسلام على المسلمين وغيرهم، كما هو السائد في نظريات القوانين الوضعية، ومنها القوانين العربية، مع المخالفة أحياناً في بعض الحالات، فإن فقهاءنا اختلفوا فيما بينهم في مدى تطبيق الشريعة على المستأمن: وهو من دخل دارنا بأمان مؤقت، وذلك مثل الأجانب الذين يدخلون أراضي دولة أخرى بتأشيرة دخول من الدولة نفسها أو من سفاراتها أو قنصلياتها المعتمدة في خارج الدولة، كما اختلفوا أيضاً في مدى تطبيق الشريعة على جرائم مواطني الدولة الواقعة أو التي ترتكب خارج أرض الدولة. وتطبق أحكام الشريعة على المسلمين وغيرهم في ديار الإسلام في المعاملات المدنية والعقوبات الجنائية، سواء أكانت حدوداً شرعية (عقوبات مقدرة) أم تعازير (عقوبات غير مقدرة متروك أو مفوض تقديرها إلى ولي الأمر الحاكم) .
ومبدأ إقليمية القضاء تابع لإقليمية الشريعة، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم في النزاع في حقوق الآدميين من ديون ومعاملات في رأي الحنفية والشافعي في القول الصحيح، لقول الله تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن احكُمْ بينَهم بما أنزلَ الله، ولا تتَّبعْ أهواءَهم، واحذرْهم أن يفتنوك عن بعضِ ما أنزلَ الله ُ إليكَ، فإن تولَّوْا فاعلمْ أنما يريدُ الله أن يُصيبَهم ببعضِ ذنوبهم، وإن كثيراً من الناسِ لفاسقون. أفحُكْمَ الجاهلية يبغون، ومَنْ أحسنُ من الله حُكماً لقومٍ يُوقنون} [المائدة:49/5] . وهذا يشمل المسلمين وغيرهم في دار الإسلام.
(8/115)
وذهب فقهاء آخرون (مالك والشافعي في القول الآخر وأحمد) إلى أنه يخير القاضي المسلم بين الحكم والإعراض عن الحكم بين غير المسلمين في المعاملات، لقوله تعالى: {فإنْ جاءوك فاحكمْ بينهم أو أعرضْ عنهم} [المائدة:42/5] . والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية منسوخة بالآية المتقدمة: {وأن احكم بينهم} [المائدة:49/5] ولأننا التزمنا بمنع الظلم عن المستوطنين غير المسلمين في ديارنا، ويلزم الدولة استئصال دابر الإجرام والفساد في داخل أراضيها لحفظ الأموال والدماء، ويجب منح غير المسلمين حق التقاضي عموماً إلى محاكمنا، وهذا يتفق مع ما قررته اتفاقية جنيف عام (1949م) في المادة (42) من منح الرعايا الأجانب حق التقاضي، سواء كانوا مدعين أو مدعى عليهم، بعد أن كان هذا الحق مسلوباً منهم فترة طويلة من الزمن.
ويتقوى الرأي الأول بقول الإمام علي رضي الله عنه: «وإنما بذلوا الجزية ـ ضريبة الأشخاص كضرائب الدخل الحالية ـ لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا» . وروى أبو داود والبيهقي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» .
(8/116)
أما الخلاف الفقهي في المستأمن فينحصر في رأيين: رأي أبي حنيفة ومحمد، ورأي الجمهور، أما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: فيريان أن المستأمن الذي يقيم إقامة مؤقتة في دار الإسلام لا تطبق عليه العقوبات الشرعية إذا ارتكب جريمة متعلقة بحق الله تعالى، كشرب الخمر والزنى والسرقة، ولا تقام عليه الحدود؛ لأن المستأمن التزم بما فيه حقوق العباد، ولأن العقاب الديني لا ولاية كاملة فيه للحاكم المسلم على المستأمن، لتوقيت مدة إقامته في ديارنا. أما مسؤوليته مدنياً وجنائياً فيما يمس حقوق الأشخاص، كالقصاص والقذف والغصب والتبديد، فهو كبقية المسلمين وغير المسلمين المقيمين إقامة دائمة في بلاد الإسلام (الذميين المعاهدين) لما في ذلك من صلاح الجماعة، وزجر الجاني، وعهد الذمة القديم ما يزال ساري المفعول على غير المسلمين الحاليين المقيمين في البلاد الإسلامية.
وأما الجمهور ومنهم أبو يوسف والشيعة الإمامية والزيدية: فيرون أن المستأمن كالذمي تطبق عليه أحكام الشريعة، ويخضع لجميع أحكام المعاملات المدنية والجرائم المخلة بالأمن والنظام، ويعاقب على جرائمه التي تمس حق الشخص كالقصاص، والسرقة في رأيهم، والقذف وإتلاف الأموال، وكذا جرائمه التي تتعلق بحق الله تعالى كشرب الخمر والزنى، لما في ذلك من ممارسة حق السيادة للدولة، وللمحافظة على نقاوة المجتمع وسلامته وأمنه، ولأن المستأمن في دار الإسلام التزم بتطبيق أحكام الإسلام عليه بموجب العهد أو الأمان، كما أن أحكام الشريعة في المعاملات المالية من بيوع وعقود وتعامل بالربا تطبق عليه باتفاق الفقهاء.
(8/117)
وقد اتخذت نظرية أبي حنيفة ومحمد ذريعة لإعفاء الأجانب من الخضوع لأحكام الشريعة مما سبَّب منح المستأمنين في عهد سليمان القانوني السلطان العثماني ما يسمى بالامتيازات الأجنبية التي قاست منها البلاد الإسلامية كثيراً، فكانت سبباً لاستغلال المسلمين، وتضييع حقوقهم، واستعلاء الأجانب عليهم، والحد من سلطة الدولة وسيادتها، والإعفاء من الاختصاص التشريعي والقضائي، ومن الأعباء المالية والخدمة العسكرية.
وينبني على رأي الجمهور أن الحصانة القضائية التي يترتب عليها في العرف الدولي الحديث عدم خضوع رجال السلك الدبلوماسي للولاية القضائية للدولة الموفد إليها، سواء في المسائل المدنية أو الجنائية أو الإدارية، هذه الحصانة غير مقررة لدى جماهير فقهائنا، فالمستأمن والسفير والقنصل ورئيس الدولة الأجنبية وغيرهم من ذوي الاستثناءات المتقدمة يسأل كل منهم مدنياً وجنائياً عما يرتكبه من أعمال مخالفة في بلاد الإسلام؛ لأن دفع الفساد واجب ملزم لكل من يقيم بين المسلمين، ولو مؤقتاً، والمجرم لا يستحق الحماية ولا يصلح لأداء وظيفته.
وأما الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد فيريان أيضاً مسؤولية المستأمن مدنياً وجنائياً، لكنه معفى فقط كما تقدم من المسؤولية الجنائية التي تتعلق بالحق العام (حق الله تعالى) الذي تمارسه الدولة وترعاه، كشرب الخمر والزنى.
(8/118)
ويرى أستاذنا المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة: أن العقوبات التعزيرية التي لم يرد في عقوبتها نص من كتاب أو سنة، أي غير الحدود الشرعية، يعفى منها الممثلون السياسيون مجاراة للعرف الدولي الحاضر، ومراعاة لمبدأ المعاملة بالمثل؛ لأن تقديرهذه العقوبات من حق ولي الأمر، وله الإعفاء منها لمصلحة عامة. والعرف أو القانون الدولي، وإن كان لا يخضع الممثل السياسي لولاية القضاء الإقليمي خشية التحامل عليه وإهدار حصانته، فإنه أجاز للدولة الموفد إليها تبليغ الأمر إلى الدولة الموفدة لمحاكمته، كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطلب استدعاءه، بل لها في الجرائم الخطيرة أن تطرده، ولها أن تقبض عليه إذا كان ذلك ضرورياً للمحافظة على سلامتها، كما لها أن تطلب رفع الحصانة الدبلوسية عنه من دولته لتحاكمه هي بسبب ارتكابه جريمة في أرضها. أما القناصل فيجوز خضوعهم للقضاء الإقليمي. وهكذا يقترب العرف الدولي الحاضر من الحكم المقرر في الشريعة لدى فقهائنا.
وأما الخلاف الفقهي حول تطبيق أحكام الشريعة على رعايا دار الإسلام إذا ارتكبوا جرائم في خارج تلك الدار، فيتمثل في رأيين أيضاً: مذهب الحنفية، ومذهب الجمهور. أما الحنفية: فيرون أن أحكام الشريعة العقابية لا تطبق على الجرائم التي يقترفها المسلم أو الذمي في دار الحرب، لعدم ولاية الإمام في إقامة الحدود وغيرها على جزء من أجزاء الدار أو البلاد غير الإسلامية، ولأن وجوب إقامة الحد مشروط بالقدرة على الإقامة أو التطبيق، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها، وإذا لم تتوافر القدرة لم تجب العقوبة.
(8/119)
إلا أن أبا يوسف خالف أستاذه أبا حنيفة في أمرين:
الأول ـ أن التعاقد على الربا حرام في جميع البلاد، في دار الإسلام وغيرها؛ لأن الربا حرام في ذاته في أي مكان من العالم.
والثاني ـ أن الأسير المسلم إذا قتله مسلم أو ذمي في دار الحرب، فعليه الدية، لأنه إذا تعذر القصاص لعدم ولاية الإمام المسلم على تلك الدار، فتجب الدية؛ لأن الأسر لا يفقد عصمة المسلم، ولأنه (لا يُطَل دم في الإسلام) أي لا يهدر، فإذا امتنع القصاص، أمكن إيجاب الدية. وأما الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) : فيرون أن الشريعة تطبق على كل جريمة في أي مكان ارتكبت، سواء في حدود البلاد الإسلامية أو خارجها، وسواء أكان الجاني مسلماً أم ذمياً أم مستأمناً؛ لأن المسلم ملزم بأحكام الشريعة في أي مكان، والذمي والمستأمن ملزمان بتلك الأحكام الشرعية بمقتضى العهد والأمان. وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعقوبة سكران يوم حنين في بلاد المشركين، وروى أبو داود في المراسيل عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وأقيموا الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم» .
وهذا الحكم شامل في رأي الجمهور كل حرام كالتعامل بالربا وغيره من المحرمات كالقمار والرشوة، وما أروع كلمة الإمام الشافعي في ذلك، حيث قال في كتابه الأم (165/4) : «ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون، ويجتمعون عليه: أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً، فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً» . وهذا واضح في أن الدار أو المكان لا تغير صفة التحريم للأفعال، فلا تمنع العقوبة المقررة جزاء على ارتكاب الفعل الحرام.
وهذه النظرية ـ نظرية الجمهور - هي السائدة اليوم في القوانين الوضعية، إلا أن الفرق بينهما أن القانونيين يجيزون للدولة تطبيق العقاب على ما ترى فيه مصلحة بسبب ارتكاب الجرائم التي تقع في خارج أراضيها، وتطبق العقوبة الصارمة على الجرائم التي تمس مصلحة أساسية لها، وهي ما سبق بيانه من جرائم أمن الدولة، وتزييف العملة، وتزوير أختام الدولة الرسمية.
أما الشرعيون فيوجبون تطبيق عقوبات الحدود دون إعفاء، ويجيزون لولي الأمر في التعزيرات إعفاء ما ترى فيه مصلحة في ذلك. والخلاصة: إن المبدأ الأساسي في الحكم الإسلامي في ديار الإسلام على المسلمين والذميين والمستأمنين هو مبدأ إقليمية القوانين، مع بعض استثناءات كحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية العقيدة، وكذلك اختصاص القضاء اختصاص إقليمي، ومبدأ الإقليمية التشريعي والقضائي هو الذي تسير عليه القوانين الوضعية في العصر الحديث.
(8/120)
الفَصْلُ الثَّاني: الدّعوى والبَيّنات (1)
خطة الموضوع:
الكلام هنا عن وسيلة الوصول إلى الحق وهي الدعوى، وعن طرق إثبات الحق: وهي الشهادة واليمين والنكول والإقرار والقرائن، وعن تعارض الدعويين مع تعارض البينتين، في المباحثات الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الدعوى وركنها وشرائطها والأصل في مشروعيتها.
المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء.
المبحث الثالث ـ حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء.
المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق.
المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين.
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين فقط في الملك، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق.
__________
(1) البينات جمع بينة وهي اسم لما يبين الحق ويظهره، وهي تارة تكون بالأيمان وتارة تكون بالشهود، سموا بذلك؛ لأن بهم يتبين الحق، وقد جمعت البينات لأنها مختلفة وأفردت الدعوى؛ لأن حقيقتها واحدة.
(8/121)
المبحث الأول ـ تعريف الدعوى، وركنها، وشرائطها، والأصل في مشروعيتها:
تعريف الدعوى: الدعوى لغة، قول يقصد به الإنسان إيجاب حق على غيره أو هي الطلب والتمني، قال تعالى: {ولهم ما يدَّعون} [يس:57/36] وتجمع على دعاوى ودعاوي. وشرعاً: إخبار بحق للإنسان على غيره عند الحاكم (1) .
وركنها: هو قول الرجل: لي على فلان، أو قبل فلان كذا، أو قضيت حق فلان، أو أبرأني عن حقه، ونحوها (2) .
وشرائطها عند الحنفية:
أولاً ـ أهلية العقل أو التمييز: يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين، فلا تصح دعوى المجنون والصبي غير المميز، كما لا تصح الدعوى عليهما، فلا يلزمان بالإجابة على دعوى الغير عليهما، ولا تسمع البينة عليهما.
ثانياً ـ أن تكون في مجلس القضاء: لأن الدعوى لا تصح في غير هذا المجلس.
ثالثاً ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى الحاكم عند سماع الدعوى والبينة والقضاء، فلا تقبل الدعوى على غائب، كما لا يقضى على غائب عند الحنفية، سواء أكان غائباً وقت الشهادة أم بعدها، وسواء أكان غائباً عن مجلس القاضي أم عن البلد التي فيها القاضي. ولا يشترط هذا الشرط في المذاهب الأخرى.
وقد سبق لدينا أن المالكية والشافعية والحنابلة في الأرجح: يجوزون القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه، وذلك في الحقوق المدنية لا في الحدود الخالصة لله تعالى.
__________
(1) الدر المختار: 437/4، تكملة فتح القدير: 137/6، اللباب شرح الكتاب: 26/4، مغني المحتاج: 461/4، المغني: 271/9.
(2) البدائع: 222/6.
(8/122)
رابعاً ـ أن يكون المدعى به شيئاً معلوماً: وعلمه إما بالإشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من المنقولات (1) ، أو ببيان حدوده إذا كان قابلاً للتحديد كالأراضي والدور وسائر العقارات، أو بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلاً للتحديد كحجر الرحى، أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به ديناً، كالنقود والبُر والشعير؛ لأن الدين لا يصير معلوماً إلا ببيان هذه الأمور. والسبب في اشتراط العلم بالمدعى به: هو أن المدعى عليه لا يلزم بإجابة دعوى المدعي إلا بعد معرفة المدعى به، وكذلك الشهود لا يمكنهم الشهادة على مجهول، ثم إن القاضي لا يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إلا إذا كان المدعى به شيئاً معلوماً.
خامساً ـ أن يكون موضوع الدعوى أمراً يمكن إلزام المدعى عليه به، أي أن يكون الطلب مشروعاً ملزماً في مفهومنا الحاضر:
فإذا لم يكن بالإمكان إلزام المدعى عليه بشيء، فلا تقبل الدعوى، كأن يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم عند القاضي في أمر من أموره، أو يدعي على شخص بطلب صدقة أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل، فإن القاضي لا يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛ لأن الوكالة عقد غير لازم، فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال.
__________
(1) حتى يشير إليه المدعي بالدعوى، والشهود بالشهادة، والمدعى عليه بالاستحلاف؛ لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط، ويتم بالإشارة في المنقولات؛ لأن النقل ممكن، والإشارة أبلغ في التعريف. واليوم يكتفى بالوصف في المنقولات كالديون.
(8/123)
سادساً ـ أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: لأن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة، تكون دعوى كاذبة، فلو قال شخص لمن هو أكبر سناً منه: هذا ابني، لا تسمع دعواه؛ لاستحالة أن يكون الأكبر سناً ابناً لمن هو أصغر سناً منه، وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير: هذا ابني، لا تسمع دعواه (1) .
ويشترط أيضاً عدم تناقض أقوال المدعي أو دعاويه، فلو ادعى شخص على آخر ديناً، ثم ثبت أنه أقر بعدمه، لم تقبل دعواه، ولو ادعى على شخص أنه القاتل وحده، ثم ادعى أنه شريك مع آخر، لم تسمع الدعوى الثانية، لمناقضتها الأولى، إلا إذا صدقه المتهم الثاني بالقتل، فيؤخذ بإقراره.
الأصل في مشروعية الدعوى: الأصل في الدعوى قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجل أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (2) ولفظ مسلم: «ولكن اليمين على المدعى عليه» .
وبما أن الخصومات والمنازعات أمر واقع بين البشر، فكان لا بد من الفصل فيها بطريق الدعوى؛ لأن في امتدادها فساداً كبيراً، والله تعالى لا يحب الفساد (3) .
__________
(1) المبسوط: 39/17، تكملة فتح القدير: 137/6، 141 وما بعدها، البدائع: 222/6، 224، الدر المختار: 438/4، اللباب: 27/4، الميزان: 194/2.
(2) حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا ورواه مسلم والبخاري بلفظ آخر (الأربعين النووية: ص 74، نصب الراية: 95/4، نيل الأوطار: 305/8) .
(3) المبسوط: 28/17، المغني: 272/9، مغني المحتاج: 461/4.
(8/124)
المبحث الثاني ـ نوعا الدعوى، وتعيين من هو المدعي والمدعى عليه:
الدعوى نوعان: صحيحة وفاسدة.
فالدعوى الصحيحة: هي التي استكملت شرائط الصحة المذكورة في المبحث الأول ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها: وهي إحضار الخصم إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي، ومطالبته بالجواب على دعوى المدعي، واليمين إذا أنكر المدعى به. ويثبت فيها حق المدعي: إما بالبينة أو بنكول المدعى عليه عن اليمين.
والدعوى الفاسدة أو الباطلة: هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط الصحة المذكورة آنفاً، ولا تترتب عليها الأحكام السابقة المقصودة منها، كأن تكون الدعوى على غائب، أو كان المدعى به مجهولاً؛ لأن المجهول يتعذر إثباته بالشهادة، فلا يمكن للشهود أن يشهدوا به، ولا يتمكن القاضي من القضاء بالمجهول، لا بالبينة ولا بالنكول عن اليمين (1) .
من هو المدعي والمدعى عليه؟
لما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعي والمدعى عليه، وهي من أهم ما تبتنى عليه الدعاوى، لا سيما فيما يتعلق بما يلزم به أحدهما من البينة أو اليمين ونحوهما، كان من الضروري تعيين المتصف بصفة المدعي والمدعى عليه، وفي تعيينه تعريفات شتى، منها:
المدعي: من لا يجبر على الخصومة إذا تركها؛ لأنه مطالب. أو هو من خالف قوله الظاهر.
والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة؛ لأنه مطلوب (2) . أو هو من وافق قوله الظاهر، والظاهر هو البراءة.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 137/6، المبسوط: 30/17.
(2) اللباب شرح كتاب القدوري: 26/4، تكملة فتح القدير: 138/6، الدر المختار: 237/4، تكملة رد المحتار على الدر المختار: 310/1، البدائع: 224/6.
(8/125)
وقيل: المدعي: من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته.
والمدعى عليه: من ينكر ذلك.
وقيل: المدعى عليه: هو المنكر، والآخر هو المدعي (1) .
المبحث الثالث: حكم الدعوى أو ما يجب على المدعى عليه بعد الادعاء:
للقاضي الدور المهم في الدعوى، فإذا جاء المدعي إلى المحكمة مع خصمه سأله القاضي عن موضوع الدعوى، فإذا كانت الدعوى صحيحة، بأن كانت على خصم حاضر واستوفت شروطها، طلب القاضي من المدعى عليه جوابه عن الدعوى؛ لأن قطع دابر الخصومة واجب.
حكم الدعوى إذن: وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله: لا أو نعم، حتى إنه لو سكت، كان سكوته إنكاراً، فتقبل بينة المدعي، ويحكم بها على المدعى عليه. فإن أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى، حكم القاضي عليه؛ لأنه غير متهم في إقراره على نفسه، ويؤمر بأداء الحق لصاحبه.
وإن أنكر، طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة، فإن أقام البينة قضى بها، لترجح جانب الصدق على الكذب بالبينة. وإن عجز المدعي عن تقديم البينة، وطلب يمين خصمه المدعى عليه، استحلفه القاضي، ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم للمدعي في قصة الحضرمي والكندي: «ألك بينة؟» قال: لا، فقال النبي: «فلك يمينه» (2) أي يمين المدعى عليه.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، المغني لابن قدامة الحنبلي: 271/9.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن وائل بن حجر (نصب الراية: 94/4) .
(8/126)
فإن قال المدعي: (لي بينة حاضرة في البلد) وطلب اليمين من المدعى عليه لم يستحلف عند أبي حنيفة؛ لأن حق المدعي في طلب اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة، كما في الحديث المذكور قريباً.
وقال أبو يوسف: يستحلف؛ لأن طلب اليمين حق المدعي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» (1) .
وهل يقضى بشاهد واحد ويمين المدعي، وهل ترد اليمين على المدعي أو يقضى على المدعى عليه بنكوله عن اليمين؟ هذا ما يجاب عنه في المبحث التالي:
المبحث الرابع ـ حجج المتداعين أو طرق إثبات الحق:
طرق الإثبات التي يعتمد عليها في القضاء: هي الشهادة، واليمين، والنكول، والإقرار، أو الشهادة مع اليمين.
أما الشهادة: فهي حجة المدعي: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» ولأن المدعي يدعي أمراً خفياً، فيحتاج إلى إظهاره، وللبينة قوة الإظهار..
وسأخصص مبحثاً للكلام عن الشهادات. والسبب في تكليف المدعي البينة أو الشهادة أن جانبه ضعيف، لكون دعواه خلاف الأصل، فكلف الحجة القوية وهي البينة، وأن جانب المدعى عليه قوي، لأنه متمسك بالأصل وهو البراءة، فاكتفي منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
والبينة إما شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شاهد ويمين، أو أربعة رجال، أو أربع نسوة.
وأما اليمين: فهي حجة المدعى عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «واليمين على المدعى عليه» فإن حلف المدعى عليه، قضى القاضي بفصل الدعوى، وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من إقامة البينة.
وإن نكل عن اليمين، فهل ترد اليمين إلى المدعي أو يقضى عليه بالنكول؟ فيه رأيان للفقهاء، أذكرهما فيما يلي:
رد اليمين والقضاء بالنكول: إذا أبى المدعى عليه أن يحلف، هل يحلف المدعي، أو يقضى له بنكول صاحبه عن اليمين (2) ؟ اختلف العلماء في الموضوع.
قال المالكية: ترد اليمين على المدعي بعد النكول في الأموال ما يؤول إليها فقط كخيار وأجل. وذلك إذا ثبتت الدعوى، أما مجرد دعوى الاتهام فلا ترد على المدعي.
وقال الشافعية: ترد اليمين على المدعي في جميع الحقوق ما عدا جنايات الدماء والحدود، ويقضى له بمدعاه، ولا يقضى بنكول المدعى عليه. وتعتبر اليمين المردودة إقراراً تقديرياً. وهذا هو الذي صوبه الإمام أحمد، فيكون رأي مالك والشافعي وأحمد هو القول برد اليمين، لكن المختار عند الحنابلة القول بعدم رد اليمين.
استدل الجمهور بما روى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» (3) ولأن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين بعد أن طلبت منه، ظهر صدق
__________
(1) تكملة فتح القدير: 151/6 ومابعدها، الدر المختار: 438/4، اللباب: 29/4.
(2) النكول: استنكاف الخصم عن حلف اليمين الموجهة عليه من القاضي (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ص 1051، الطبعة السادسة) وقال في البحر الزخار: 4 /410: النكول لغة: التأخر عن لقاء العدو، وشرعاً عن اليمين الواجبة.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف، والحاكم وصحح إسناده (سبل السلام: 4 /136، تلخيص الحبير: 4 /209) .
(8/127)
المدعي، وقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه، كالمدعى عليه قبل نكوله، وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد، كما سأبين، وقال تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/5] أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة، فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة.
ولا يقضى عند الجمهور بالنكول: لأن النكول كما يحتمل أن يكون امتناعاً وتحرزاً عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يقضى للمدعي مع تردد المدعى عليه، إذ لا يتعين بنكوله صدق المدعي، فلا يجوز الحكم له من غير دليل، فإذا حلف المدعي كانت يمينه دليلاً عند عدم ما هو أقوى منها (1) .
وقال الحنفية، والحنابلة في المشهور عندهم: لا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، وبإلزامه بما ادعى عليه المدعي. والنكول إما أن يكون حقيقة كقوله: (لا أحلف) أو حكماً كأن سكت، دون أن يكون هناك عارض كخرس وطرش.
وتعرض اليمين على المدعى عليه مرة واحدة. ولكن لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبداء العذر: ينبغي للقاضي تكرار عرض اليمين ثلاث مرات بأن يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن حلفت فبها، وإلا قضيت عليك بما ادعاه خصمك.
استدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فقد جعل جنس الأيمان على المنكرين، كما جعل جنس البينة على المدعي. وفي لفظ
__________
(1) راجع مغني المحتاج: 150/4، 444، 447 وما بعدها، المهذب: 301/2، 318، بداية المجتهد: 454/2، الشرح الكبير للدردير: 146/4 وما بعدها، المغني: 235/9، الميزان: 196/2، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 116، الشرح الصغير: 64/5.
(8/128)
آخر للحديث في الصحيحين: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فحصر اليمين في جانب المدعى عليه.
واستدل الحنفية أيضاً بأن النكول دليل على كون المدعى عليه باذلاً للحق إذا اعتبرنا النكول بذلاً، وهو رأي أبي حنيفة، أو كونه مقراً إقراراً تقديرياً بالحق المدعى به إذا اعتبرنا النكول إقراراً، وهو رأي الصاحبين (1) ، ولولا كون المدعى عليه باذلاً أو مقراً، لأقدم على اليمين دفعاً لضرر الدعوى عن نفسه وقياماً بالواجب؛ لأن اليمين واجبة عليه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «واليمين على من أنكر» وكلمة (على) للوجوب (2) .
وينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه: «إني أعرض اليمين عليك ثلاث مرات، فإن حلفت، وإلا قضيت عليك بما ادعاه المدعي» فإن كرر العرض عليه ثلاث مرات قضى عليه بالنكول.
__________
(1) النكول: معناه عند أبي حنيفة البذل أي ترك المنازعة والإعراض عنها وإباحة المال والتبرع به في سبيل قطع الخصومة بدفع ما يدعيه الخصم، أي أن النكول له أثر سلبي عند أبي حنيفة، فلا يفيد الهبة والتمليك، ومعناه عند الصاحبين: الإقرار بالحق، أي أن أثره إيجابي (راجع تكملة فتح القدير: 165/6 مع شرح العناية بهامشه، الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية: ص 124 وما بعدها) احتج أبو حنيفة الذي جعل النكول كالبذل: بأنا لو اعتبرنا إقراره يكون كاذباً في إنكاره، والكذب حرام، فيفسق بالنكول بعد الإنكار، وهذا باطل، فجعلناه بذلاً وإباحة، صيانة له عما يقدح في عدالته، ويجعله كاذباً.
واحتج الصاحبان اللذان جعلا النكول كالإقرار بأن الناكل كالممتنع من اليمين الكاذبة ظاهراً، فيصير معترفاً بالمدعى به؛ لأنه لما نكل ـ مع إمكان تخلصه باليمين ـ دل نكوله على أنه لو حلف لكان كاذباً، وهو دليل اعترافه. ومن ثمرة الخلاف أن الصبي المأذون بالتجارة هل يحلف أو لا؟ فعند أبي حنيفة: لا يحلف لأنه لو نكل كان باذلاً، وهو ليس من أهل البذل، وعند الصاحبين: يحلف؛ لأن النكول إقرار وهو من أهل الإقرار (الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 105) .
(2) تكملة فتح القدير، المرجع نفسه: ص 155، 158، المبسوط: 35/17، البدائع: /6 225 وما بعدها، 230، الدر المختار: 442/4، اللباب شرح الكتاب: 30/4، المغني: 235/9 وما بعدها، الطرق الحكمية، المرجع السابق.
(8/129)
مجال القضاء بالنكول: قال الحنفية وأصحاب أحمد: يقضى بالنكول في الأموال، أما غير المال أو مالا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، فلا يقضى بالنكول في القصاص بالنفس أو بالطرف عند الحنابلة والصاحبين، وإنما يقضى عندهما بالدية أو بالأرش.
وقال أبو حنيفة: يقضى بالقصاص في الطرف حالة العمد، وبالدية حالة الخطأ، أما في القصاص بالنفس فلا يقضى فيه عنده لا بالقصاص ولا بالمال أي بالدية، لكن يحبس الجاني حتى يقر أو يحلف.
وإذا كان لا يقضى بالنكول في القصاص عند الحنابلة، سواء أكان في النفس أم في الطرف، فماذا يصنع بالجاني؟ وجهان ـ أحدهما: يخلى سبيله؛ لأنه لم يثبت عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف.
(8/130)
وكذلك لا يقضى بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة والشرب؛ لأن النكول يعتبر بذلاً عند أبي حنيفة، وإقراراً فيه شبهة عند الصاحبين؛ لأنه في نفسه سكوت، والحدود لا تحتمل البذل، أي لا يقبل من المتهم إباحة نفسه لإقامة الحد عليه، وتندرئ بالشبهات، فلا تثبت بدليل فيه شبهة، والنكول فيه شبهة، كما أوضحت، فلا تجب به.
وقال أبو حنيفة: لا يقضى أيضاً بالنكول في الأشياء السبعة: وهي النكاح، والرجعة، والفيء في الإيلاء، والنسب، والرق، والاستيلاد، والولاء، ولايستحلف المنكر فيها؛ لأن النكول عنده يعتبر بذلاً وإباحة، والبذل لا يجري في هذه الأشياء. فإذا أنكر الرجل أو المرأة عقد النكاح، فقالت المرأة مثلاً: لا نكاح بيني وبينك، ولكن بذلت لك نفسي، لم يصح بذلها؛ لأن الزوجية لا تباح بالبذل. وكذلك في الرجعة: بأن ادعى الرجل بعد الطلاق وانقضاء المدة أنه كان قد راجعها في العدة، وأنكرت المرأة، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى الفيء بالإيلاء، أي الرجوع إلى معاشرة الزوجة بعد أن حلف ألا يطأها مدة أربعة أشهر (1) : إذا ادعى الرجل بعد انقضاء مدة الإيلاء أنه كان قد فاء إليها في المدة، وأنكرت المرأة أو بالعكس، فلا يستحلف المنكر، ولا يصح بذله نفسه للآخر.
وفي دعوى النسب: بأن يدعي شخص على مجهول النسب أنه ولده أو والده وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر ولا يصح قوله: أبحت له أن يدعي نسبي، لم يصح بذله.
وفي دعوى الرق: بأن ادعى مجهول النسب أنه عبده، وأنكر المجهول أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يقبل قوله: بذلت له نفسي ليسترقني.
__________
(1) هذا مأخوذ من قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} [البقرة:2/226-227] .
(8/131)
وفي دعوى استيلاد الأمة، بأن ادعت أمة على مولاها أنها ولدت منه ولداً، وأنكر المولى، لا يحلف ولا يقبل قوله: بذلت نفسي لجعل الأمة مستولدة مني. وفي هذه الصورة لايتأتى العكس، أي أن يكون من قبل الأمة؛ لأن المولى إذا ادعى الاستيلاد، ثبت ذلك بإقراره، ولا يلتفت إلى إنكار الأمة.
وفي دعوى الولاء، بأن ادعى إنسان على مجهول أنه عتيقه ومولاه وأنكر
المجهول، أو بالعكس، فلا يحلف المنكر، ولا يصح قوله: بذلت نفسي ليجعلني مولاه (1) .
كل هذا بخلاف الأموال، فإنه يجري فيها البذل، فلو قال شخص: هذا المال ليس لفلان، ولكن أبحته وبذلته له، لأتخلص من خصومته، صح بذله.
هذا رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجري الاستحلاف والنكول في هذه الأشياء السبعة؛ لأن النكول عندهما إقرار، والإقرار يجري في هذه الأشياء، لكنه فقط إقرار فيه شبهة، فلا يقبل في الحدود، كما أشرت. فنكول المدعى عليه دليل على كونه كاذباً في إنكاره؛ لأنه لو كان صادقاً لما امتنع من اليمين الصادقة، فكان النكول إقراراً دلالة أو تقديراً، إلا أنه إقرار فيه شبهة، وهذه الأشياء تثبت بدليل فيه شبهة، إذ يجوز إثباتها بالشهادة على الشهادة، وشهادة رجل وامرأتين.
__________
(1) جاريت الفقهاء في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرق إتماماً للبحث من الناحية التاريخية؛ لأنهم يصفون هذه الأشياء بصفة واحدة، ويقولون عنها: «لايجري البذل في الأشياء السبعة» فكان من الضروري ذكرها لمعرفة ما هذه الأشياء السبعة، ولبيان طبيعة هذه الحالات.
(2) تكملة فتح القدير: 162/6-166، البدائع: 230/6، الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 443/4، اللباب شرح الكتاب للميداني: 31/4.
(8/132)
والفتوى على قول الصاحبين أي بتحليف المنكر، والقضاء عليه بالنكول في هذه الأشياء، لا في الحدود والقصاص، واللعان؛ لأنه في معنى الحد؛ إذ أنه (أي اللعان) بالنسبة للزوج يعد قائماً مقام حد القذف، وبالنسبة للمرأة يعد قائماً مقام حد الزنا، فلا يجري النكول فيه (2) . والخلاصة عند الحنفية: أنه لا تحليف في الحدود اتفاقاً، ويستحلف في القصاص والأموال كلها اتفاقاً، واختلفوا في التحليف في سبع مسائل، فعند الإمام: لا يستحلف. وعند الصاحبين: يستحلف. وكل ما يجري فيه التعزير من الحقوق كالضرب والشتم والألفاظ القبيحة يجري فيه التحليف ولا يسقط بالتقادم، وتقبل فيه شهادة النساء كما في سائر الحقوق (1) .
كيفية اليمين وأثرها في الدعوى: لليمين كيفية معينة، سواء أكانت يميناً مردودة، أم مع الشاهد، أم يميناً من المدعى عليه.
اتفق العلماء على أن اليمين تكون بالله عز وجل دون غيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (2) ولقوله عليه السلام: «من حلف بغير الله فقد كفر» (3) ، واتفقوا أيضاً على أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المدين هي اليمين بالله.
إلا أن الإمام مالك قال: أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وإن استحلف حاكم بالله، أجزأ.
__________
(1) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 106-108.
(2) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر، وفي لفظ «أو ليسكت» وفي لفظ «من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله» (نصب الراية: 295/3، نيل الأوطار: 227/8) .
(3) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعاً. ويروى «فقد أشرك» وهو عند أحمد، وكذا عند الحاكم، ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ «فقد كفر وأشرك» (نيل الأوطار، المرجع السابق) .
(8/133)
وقال الشافعية: يندب تغليظ اليمين، وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال، ولا يقصد به مال كنكاح وطلاق ولعان وقصاص ووصاية ووكالة، وفي مال يبلغ نصاب زكاة، لا فيما دونه.
والتغليظ يكون مثلاً بزيادة أسماء وصفات الله عز وجل، كأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلانية. أو بالله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى.
وقال الحنابلة: اليمين التي يبرأ بها المدين هي اليمين بالله، وإن كان الحالف كافراً، لقوله تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/5] وقوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [النور:53/24] قال بعض المفسرين:
(8/134)
«من أقسم بالله، فقد أقسم جهد اليمين» (1) .
وقال الحنفية: للقاضي أن يحلِّف المسلم من غير تغليظ مثل: (بالله) أو (والله) ، وله أن يغلظ، أي يؤكد اليمين بذكر أوصاف الله تعالى مثل قوله: قل: (والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية: ما لفلان هذا علي ولا قبلي هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا، ولا شيء منه) وله أن يزيد على هذه الصيغة وله أن ينقص منها، إلا أنه يجتنب العطف كيلا يتكرر اليمين؛ لأن المطلوب منه يمين واحدة. ولا يستحلف بالطلاق في ظاهر الرواية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وفي لفظ: «أو ليذر» .
ولا يجب تغليظ اليمين عند الحنفية والحنابلة على المسلم بزمان كيوم الجمعة بعد العصر، ولا بمكان مثل بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر النبي صلّى الله عليه وسلم في المدينة؛ لأن المقصود تعظيم المقسم به، أي الله تعالى، وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجابه حرج على القاضي، حيث يكلف حضورها، والحرج مرفوع (2) .
وقال مالك والشافعي كما تقدم: تغلظ اليمين في الزمان في اللعان؛ لأن الله تعالى قال في اللعان محدداً أن يكون بعد صلاة العصر: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً} [المائدة:106/5] وتغلظ في المكان عند الحلف على قدر معين من الحقوق، وهذا القدر عند مالك ثلاثة دراهم فصاعداً، فمن ادعي عليه بثلاثة دراهم فأكثر، وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد، ففيه روايتان: إحداهما وهي الراجحة حيثما كان في المسجد، والثانية عند المنبر.
__________
(1) راجع بداية المجتهد: 455/2، المغني: 226/9، مغني المحتاج: 472/4.
(2) تكملة فتح القدير: 174/6، البدائع: 227/6، اللباب شرح الكتاب: 40/4 ومابعدها، المغني: 288/9 وما بعدها.
(8/135)
وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وفي القدس في المسجد عند الصخرة، وكذلك يحلف في كل بلد عند المنبر، والنصاب الذي يندب فيه التغليظ كما عرفنا هو نصاب الزكاة، أي عشرون ديناراً (1) .
ثم قال الحنفية وغيرهم: إن كان الحالف كافراً فتغلظ اليمين في حقه، فإن كان يهودياً، حلف بالله الذي أنزل التوراة على موسى. وإن كان نصرانياً حلف بالله الذي خلق النار، فيغلظ على كل واحد بحسب اعتقاده. والوثني لا يحلف إلا بالله. ولا يحلف الكفار عند الحنفية في بيوت عباداتهم، لكراهة دخولها، ولما فيه من إيهام تعظيمها. وأجاز الحنابلة تحليفهم في المواضع التي يعظمونها (2) .
الحلف على البت أو نفي العلم: ويحلف الشخص باتفاق أئمة المذاهب الأربعة على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتاً كان أو نفياً؛ لأنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها، فيقول في البيع والشراء حالة الإثبات: (والله لقد بعت بكذا أو اشتريت بكذا) وفي حالة النفي: (والله ما بعت بكذا، ولا اشتريت بكذا) .
__________
(1) بداية المجتهد: 455/2، الشرح الكبير: 228/4، الشرح الصغير: 314/4، المغني: 228/9، مغني المحتاج: 377/3، 472/4.
(2) تكملة فتح القدير: 176/6، البدائع: 227/6، اللباب: 40/4 وما بعدها.
(8/136)
وكذلك يحلف الشخص أيضاً على البت على فعل غيره إن كان الأمر إثباتاً كبيع وإتلاف وغصب؛ لأنه يسهل معرفة الواقع والشهادة به، وإن كان نفياً فيحلف على نفي العلم، أي لا يعلم أنه كذلك، لعدم علمه بما فعل غيره، فيقول: (والله ما علمت أنه فعل كذا) لأن نفي الشيء يعسر معرفته (1) . وعليه، إذا ادعى إنسان على آخر أنه سرق منه شيئاً أو غصب منه شيئاً، فيحلف المدعى عليه على البت أنه ما سرق أو غصب. وإن ادعى على فعل الغير، كأن ادعى ديناً على ميت بحضور وارثه، أو أن أباه سرق منه شيئاً، فيحلف الوارث بالله ما يعلم أن على أبيه ديناً أو أنه سرق هذا الشيء.
صفة المحلوف عليه: إذا كان المدعى به أرضاً وأنكر المدعى عليه، يحلف على الحاصل فعلاً في النهاية، فيقول: (والله ما هذه الأرض لفلان، ولا شيء منها) وإن ادعى أنه أقرضه ألفاً أو غصبه ألفاً أو أودعه ألفاً، وأنكر المدعى عليه، فيحلف (بالله ما يستحق المدعي رد شيء عليه) ولا يحلف بالله ما استقرضت أو غصبت أو استودعت؛ لأنه قد تحصل هذه الأسباب ثم يفسخ، أي يزول معنى القرض أو الغصب أو الإيداع بالهبة أو بالبيع، فلو حلف المدعى عليه على السبب الذي هو الغصب ونحوه لتضرر به، فيحلف على الحاصل في النهاية لدفع الضرر عنه. وقال أبو يوسف: إنه يحلف على القرض والغصب والإيداع.
ومن ادعى أنه اشترى من هذا حيواناً، فأنكر المدعى عليه، استحلف بالله ما بينكما بيع قائم في هذا الحيوان. ولا يستحلف بالله ما بعت، خلافاً لأبي يوسف؛ لأنه قد يبيع الحيوان، ثم يفسخ البيع أو تطرأ عليه الإقالة، فلا يبقى البيع على حاله.
__________
(1) الدر المختار: 444/4، مغني المحتاج: 473/4 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 180/6، المغني: 230/9 وما بعدها. قال الكاساني في البدائع: 279/5: ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم؛ لأنه لا علم له بما ليس بفعله، ومن حلف على فعل نفسه يحلف على البتات.
(8/137)
وفي النكاح، يحلف المنكر: (بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال) لأنه قد يطرأ عليه الخلع.
وكذلك في دعوى الطلاق، يحلَّف المدعى عليه: (بالله ما هي بائن منك في هذه الساعة بالوجه الذي ذكرته المدعية) ولا يستحلف بالله ما طلقها، خلافاً لأبي يوسف، لاحتمال تجدد النكاح بعد البينونة، فيحلف على ما هو حاصل فعلاً في النهاية، لأنه لو حلف على السبب الذي هو الطلاق، لتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد.
أما على قول أبي يوسف: فيحلف المدعى عليه في جميع هذه الصور على سبب الدعوى من طلاق ونحوه إلا إذا حدث منه تعريض للقاضي بأمر طارئ كما تقدم، فيقول المدعى عليه للقاضي إذا طلب منه اليمين: (بالله ما بعت أيها القاضي، إن الإنسان قد يبيع شيئاً، ثم يقيل فيه) أي يفسخ البيع بالإقالة (1) .
العبرة في اليمين بنية القاضي المستحلف: يلاحظ أن العبرة في الحلف بنية القاضي المستحلف للخصم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اليمين على نية المستحلف» (2) وقد حمل هذا الحديث على الحاكم؛ لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، فلو أخذ بنية الحالف، لبطلت فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فلو ورَّى الحالف في يمينه، بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف القاضي، أو تأول أي اعتقد خلاف نية القاضي، أو استثنى الحالف، كقوله عقب يمينه: «إن شاء الله»
__________
(1) راجع تكملة فتح القدير: 177/6 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 41/4 وما بعدها، البدائع: 228/6.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة، وفي لفظ له: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (سبل السلام: 102/4، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 427) .
(8/138)
أو وصل باللفظ شرطاً، مثل: إن دخلت الدار (1) ، بحيث لا يسمع القاضي كلامه، لم يدفع ما ذكر إثم اليمين الفاجرة، وإلا ضاع المقصود من اليمين وهو حصول الهيبة من الإقدام عليها.
أثر اليمين في الدعوى: أما أثر اليمين في الدعوى فهو يترتب عليها قطع الخصومة والمنازعة وعدم المطالبة بالحق في الحال لا مطلقاً، وإنما مؤقتاً إلى وقت إمكان إقامة البينة، فلا تفيد اليمين براءة ذمة المدعى عليه عند جمهور العلماء (2) ، لما روى ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر رجلاً بعد ما حلف، بالخروج من حق صاحبه، كأنه صلّى الله عليه وسلم علم كذبه» (3) فدل على أن اليمين لا توجب براءة.
القضاء بشاهد ويمين:
إذا أقام المدعي شاهداً، وعجز عن تقديم شاهد آخر وحلف مع شاهده، هل يقضى به بشاهده ويمينه؟
1 - قال الحنفية (4) : لا يقضى بالشاهد الواحد مع اليمين في شيء، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] طلب القرآن الكريم إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين، فقبول الشاهد الواحد ويمين المدعي زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ في القرآن الكريم لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، وليس هناك واحد منهما.
__________
(1) مغني المحتاج: 475/4.
(2) البدائع: 229/6، مغني المحتاج: 477/4، بداية المجتهد: 454/2.
(3) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وأحمد عن ابن عباس.
(4) المبسوط: 30/17، البدائع: 225/6، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين شلتوت والسايس: ص 128.
(8/139)
واستدلوا بالسنة أيضاً بقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأحمد: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي لفظ «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وقال صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ: «شاهداك أو يمينه» (1) .
فالحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه، فلو جاز القضاء بشاهد ويمين المدعي، لما بقيت اليمين واجبة على المدعى عليه. ثم إنه في هذا الحديث وفي الحديث الثاني جعل الرسول عليه الصلاة والسلام جنس اليمين حجة للمنكر، فإن قبلت يمين المدعي، لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين.
وكذلك تضمن الحديث الثاني قسمة وتوزيعاً بين المتخاصمين، والقسمة تنافي اشتراك الخصمين في أمر وقعت القسمة فيه.
والحديث الثالث خير المدعي بين أمرين لا ثالث لهما: إما البينة أو يمين المدعى عليه، والتخيير بين أمرين يمنع تجاوزهما إلى غيرهما أو الجمع بينهما.
2 - وقال جمهور الفقهاء (2) : يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال، واستدلوا بما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه قضى بشاهد ويمين» (3) .
قال الشافعي: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده. وقال النسائي: إسناده جيد. وقال البزار: في الباب أحاديث حسان، أصحها حديث ابن عباس وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في إسناده، ولا خلاف بين أهل العلم في صحته.
الإقرار:
الإقرار سيد الأدلة غالباً، وهو إذا كان بيِّناً لا خلاف في وجوب القضاء به. وسأخصص مبحثاً مستقلاً له.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الأشعث بن قيس (نيل الأوطار: 302/8) .
(2) راجع بداية المجتهد: 456/2، الشرح الكبير للدردير: 47/4، المهذب: 301/2، 334، مغني المحتاج: 443/4، 482، المغني: 151/9، 225، الميزان: 200/2، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين شلتوت والسايس: ص 129، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 132 وما بعدها.
(3) هذا الحديث متواتر، رواه أكثر من عشرين صحابياً كما ذكر ابن الجوزي والبيهقي، روى ذلك في خلافياته والصحابة كأبي هريرة وعمر وابن عمر وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وعمارة بن حزم، وسُرَّق، بأسانيد حسان، وأصحها حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني والبيهقي (راجع نصب الراية: 96/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 282/8، النظم المتناثر من الحديث المتواتر: ص 109، مجمع الزوائد: 202/4، سبل السلام: 131/4، الإلمام: ص 521) .
(8/140)
المبحث الخامس ـ حكم تعارض الدعويين مع تعارض البينتين:
قد ترفع دعويان للقضاء حول موضوع واحد، ويكون لكل واحد من المتداعيين بينة تساند مدعاه، وتثبت حقه في موضوع الدعوى المتنازع عليه، فكيف يقضي القاضي بينهما؟
تنازع الدعويين قد يكون في ملك مطلق أو في ملك مقيد بسبب. والملك المطلق: أن يدعي شخص الملك من غير أن يتعرض لذكر سبب الملكية، بأن يقول: «هذا ملكي» ولا يقول: «هذا ملكي بسبب الشراء أو الإرث أو نحوهما» .
والملك المقيد بسبب: أن يدعي شخص ملكية شيء مع بيان سبب الملكية كنتاج ونكاح وشراء وإرث (1) .
وتعارض الدعويين في ملك مطلق يحدث عادة بين اثنين: أحدهما ـ يكون الشيء في يده وهو المسمى صاحب اليد أو الداخل أو الحائز (2) . والثاني ـ لا يكون الشيء في يده، ويسمى في لغة الفقهاء: الخارج أو غير الحائز، وقد يتم التنازع بين الخارجين عن ذي اليد، أو بين ذوي اليد أنفسهم.
وقد تكون بينة كل من المتنازعين مؤرخة، أو إحداهما مؤرخة، والأخرى بدون تاريخ، أو أن تاريخ إحداهما أسبق من الأخرى.
تبحث هذه الافتراضات في نوعين: دعوى الملك المطلق ودعوى الملك المقيد.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 156/6.
(2) الحيازة: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه، وتصرف الحيازة مثل السكنى والزرع والغرس والهبة والبيع والهدم ونحوها.
(8/141)
النوع الأول ـ تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في ملك مطلق:
نجد في هذا القسم احتمالات ثلاثة: وهي التعارض في الدعويين بين الخارج عن ذي اليد وذي اليد، والتعارض في الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد، والتعارض في الدعويين بين ذوي اليد.
الأول ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد: إذا كانت الدعوى من الخارج أي (غير الحائز) على ذي اليد أي (الحائز) دعوى الملك، وأقام كل منهما بينة، فإما أن تكون البينتان غير مؤرختين، أو مؤرختين وتاريخهما سواء، أو تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، أو أحدهما بتاريخ، والآخر من غير تاريخ.
ففي هذه الصور قال الحنفية والحنابلة في الجملة: تقدم بينة المدعي، أي الخارج إلا أن تكون بينة أحدهما أسبق تاريخاً من الأخرى، فتقدم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق؛ لأنها لا تفيد أكثر مما تفيد اليد؛ إذ أن ظاهر الملك ثابت له باليد فلم تثبت له شيئاً زائداً. والتفصيل فيما يأتي (1) :
__________
(1) المبسوط: 32/17، تكملة فتح القدير: 156/6 ومابعدها، البدائع: 225/6، 232، الدر المختار: 455/4، كتاب القدوري مع اللباب: 32/4، المغني: 275/9 ومابعدها.
(8/142)
1 - إذا كانت الدعوى من الخارج على ذي اليد بدون تاريخ: فبينة المدعي وتسمى بينة الخارج أولى بالقبول عند الحنفية والحنابلة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (1) فجعل جنس البينة على المدعي، فلا يؤبه لبينة ذي اليد؛ لأنه ليس بمدع، فلا تكون البينة حجته (2) . والدليل على أنه ليس بمدع عدم انطباق وصف المدعى عليه، لأن المدعي: هو من يخبرعما في يد غيره لنفسه. والموصوف بهذه الصفة هو الخارج، لا ذو اليد؛ لأنه يخبر عما في يد نفسه لنفسه، فلم يكن مدعياً، وإنما هو مدعى عليه، فلا تكون البينة حجة له، فتعد بينته لاغية.
ولأن بينة المدعي أكثر فائدة، فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل، ودليل كثرة فائدتها: أنها تثبت شيئاً لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت أمراً ظاهراً تدل اليد عليه، فلم تكن مفيدة، أي أن بينته لا تفيد أكثر مما تفيد اليد، أي الحيازة فقط.
2 - إذا كانت البينتان مؤرختين، وتاريخهما سواء: يقضى للمدعي الخارج؛ لأنه لم يثبت سبق ملك أحدهما؛ إذ أنه بطل اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي الحال حال دعوى ملك مطلق، كالصورة الأولى.
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: يقضى للأسبق وقتاً أيهما كان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروي في النوادر عن محمد أنه رجع عن هذا القول عند رجوعه من الرقة، وقال: لا تقبل من صاحب اليد بينة على وقت ولا غيره إلا في النتاج؛ لأنه لا قيمة لبينته إذ أنه مدعى عليه، والبينة حجة المدعي.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وابن ماجه عن ابن عباس.
(2) وبعبارة أخرى: هي أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه، فوجب ألا ينقلب الأمر، وهذا عندهم من باب العبادة.
(8/143)
والصحيح القول الأول وهو ظاهر الرواية؛ لأن بينة صاحب الوقت الأسبق أظهرت الملك له في وقت لا ينازعه فيه أحد، فيثبت له الحق في موضوع النزاع إلى أن يثبت الآخر سبباً لنقل الملكية له.
4 - إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى للخارج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الملك المطلق يحتمل التأخر والسبق، لجواز أن صاحب البينة المطلقة لو وقتت بينته، كان وقتها أسبق. فوقع الاحتمال في سبق الملك المؤقت، وإذا حصل الاحتمال في شيء سقط اعتباره، فيسقط اعتبار الوقت، وتبقى الدعوى دعوى ملك مطلق، فيقضى للخارج.
وقال أبو يوسف: يقضى لصاحب البينة المؤرخة؛ لأن بينة صاحب الوقت أظهرت الملك له في وقت معين خاص به، لا يعارضها فيه بينة مدعي الملك المطلق بيقين، بل تحتمل بينته المعارضة وعدمها، والمعارضة لا تثبت بالشك، فبقيت بينة صاحب التاريخ سالمة عن المعارضة، فيقضى له.
وقال المالكية والشافعية في هذه الصور (1) : تقدم بينة صاحب اليد وتسمى بينة الداخل على الإطلاق؛ لأنهما استويا في إقامة البينة، فتعارضت البينتان، وترجحت بينة صاحب اليد بيده أي بحيازته، كترجيح أحد الحديثين المتعارضين بالقياس، فيقضى بالشيء لصاحب اليد، ولأن بينة المدعى عليه تفيد معنى زائداً على كون الشيء المدعى فيه موجوداً بيده.
ولأن جانب المدعى عليه أقوى، استصحاباً للأصل، فالأصل معه وهو بقاء ما كان على ما كان، ويمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان، وجب إبقاء يد صاحب اليد على ما كانت عليه، ويقدم هو، كما لو لم تكن بينة لأحد المتنازعين.
__________
(1) مغني المحتاج: 480/4، المهذب: 311/2.
(8/144)
ويؤيد هذا حديث جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده» (1) .
الثاني ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ذي اليد في ملك مطلق:
إذا تنازع اثنان عيناً، وهي في يد شخص ثالث، وهو منكرلها، وأقام كل منهما بينة يريد بها إثبات حقه فيها.
فقال الشافعية في الأرجح: تهاترت البينتان أي تساقطتا وبطلتا لتناقض موجبيهما، سواء أكانت البينتان مطلقتي التاريخ، أم متفقتين فيه، أم إحداهما مطلقة عن التاريخ والأخرى مؤرخة. فأشبه ذلك تعارض الدليلين ولا مرجح بينهما، فكأنه لا بينة، ويصار إلى الحكم في القضية، كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما، فيحلف كل واحد منهما يميناً، ويقضى بالشيء بينهما نصفين. وفي قول عندهما: يقرع بينهما، ويرجح من خرجت قرعته (2) .
وكذلك قال المالكية: تسقط البينتان، ويقضى كأنه لا بينة فيحلف كل منهما يميناً، ويقسم الشيء بينهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضي له (3) .
__________
(1) أخرجه البيهقي ولم يضعفه بلفظ: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نُتجت هذه الناقة عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده. ورواه الدارقطني وفي إسناده ضعف، ورواه أبو حنيفة، وأخرج نحوه عن الشافعي إلا أن فيه «تداعيا دابة» ولم يضعف إسناده (راجع سبل السلام: 135/4) وانظر حادثة مشابهة رواها الطبراني في مجمع الزوائد: 203/4.
(2) مغني المحتاج: 480/4، المهذب: 311/2.
(3) بداية المجتهد: 461/2، الميزان: 195/2، الشرح الكبير للدردير: 222/4 وما بعدها.
(8/145)
والراجح عند الحنابلة: أنه تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة، فمن خرجت له قرعته حلف، وأخذ العين (1) .
وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بينهما نصفين إلا أن يكون تاريخ أحدهما أسبق، فيقضى له به، وتفصيله في الصور الأربعة الآتية (2) :
1 و 2 ـ إذا كانت الدعوى من الخارجين، وقامت البينتان على ملك مطلق، بلا تاريخ أو تاريخهما سواء، والشيء في يد ثالث: فيقضى به بينهما نصفين، عملاً بالبينتين بقدر الإمكان (3) ، صيانة لهما عن الإلغاء؛ لأن العمل بالدليل واجب بالقدر الممكن، أي أنه إذا تعذر العمل بالبينتين في كل الشيء المتنازع فيه، أمكن العمل بهما في بعض الشيء، فيقضى لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنهما تساويا في الدعوى، فيتساويان في القسمة.
ويؤيده «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم به بينهما نصفين» (4) .
__________
(1) المغني: 287/9.
(2) تكملة فتح القدير: 217/6، البدائع: 236/6، الدر المختار: 465/4، اللباب شرح الكتاب: 32/4.
(3) لكن إن ادعى اثنان نكاح امرأة، وأقاما البينة على ذلك، لم يقض بواحدة من البينتين لعدم أولوية إحداهما، وتعذر الحكم بهما لعدم قبول المحل اشتراكهما، ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما، إذا لم تؤقت البينتان وقتاً للزواج، فأما إذا وقتتا، فصاحب الوقت الأول أولى. وإن أقرت المرأة لأحدهما قبل إقامة البينة، فهي امرأته لتصادقهما على الزواج، والزواج مما يحكم به بتصادق الطرفين. فإن أقام الآخر البينة على الزواج، قضي بها لأن البينة أقوى من الإقرار. (اللباب شرح الكتاب: 4 /32) .
(4) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري بلفظ ((أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث كل واحد منهما بشاهدين، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين)) ورواه الطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة، وفيه متروك (نصب الراية: 109/4، نيل الأوطار: 200/8، الإلمام: ص522، سبل السلام: 13/4)
(8/146)
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: فالأسبق أولى؛ لأن كلاً من الخارجين ينطبق عليه وصف المدعي، فكانت بينتاهما مسموعتين مقبولتين قضاء، فترجح إحداهما بأسبقية التاريخ؛ لأنها أثبتت الملك في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى، فيؤمر صاحب اليد بتسليم الشيء المتنازع عليه إلى المقضي له، إلى أن يثبت الآخر انتقال الملكية إليه بطريق ما.
4 - إن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر: يقضى بينهما نصفين عند أبي حنيفة، ولا عبرة للتاريخ؛ لأن الملك المؤرخ يحتمل أن يكون سابقاً عن تاريخ ملك الآخر، ويحتمل أن يكون متأخراً عنه، لوجود احتمال أن صاحب الملك الآخر لو أرخ لكان تاريخه أقدم، ونظراً لطروء الاحتمال في التاريخ، سقط اعتباره، فبقي ادعاء ملك مطلق بالنسبة لكل منهما. وعند أبي يوسف: يقضى لصاحب الوقت، أي صاحب الملك المؤرخ؛ لأن البينة المؤرخة أظهرت الملك في زمان لا تعارضها فيه بيقين البينة المطلقة عن التاريخ، بل تحتمل المعارضة وعدم المعارضة، فلا تثبت المعارضة بالشك، فتثبت بينة صاحب التاريخ بلا معارض، فيكون هو أولى بالشيء.
وعند محمد: يقضى لصاحب الملك المطلق الذي لم تذكر بينته تاريخاً؛ لأن البينة القائمة على الملك المطلق أقوى؛ إذ أنه مالك من الأصل حكماً، بدليل استحقاقه زوائد الشيء من أولاد وألبان وأصواف وغلات ونحوها.
(8/147)
الثالث ـ تعارض الدعويين في ملك مطلق بين ذوي اليد:
إذا كانت هناك دار يحوزها اثنان، أي تحت يدهما، فادعاها كل منهما، وأقام كل منهما بينة على ملكيته لها، فقال الشافعية على الصحيح (1) : تهاترت البينتان،
أي تساقطتا وبطلتا لتعارضهما وتناقض موجبهما، كتعارض الدليلين دون مرجح لأحدهما، فيقضى ببقاء الدار في يدهما، كما كانت قضاء ترك، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر. وفي قول: يقرع بينهما كما أشرت سابقاً.
وقال الحنابلة: إذا تنازع رجلان في عين في أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة، وتساوت البينتان، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى رضي الله عنه: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين» رواه أبو داود، ولأن كل واحد من المتنازعين يعد بالنسبة لما في يده داخلاً في نصف الشيء، وخارجاً عن النصف الآخر (2) وقد عرفنا أنه يقضى ببينة الخارج؛ لأنه هو المدعي.
وقال الحنفية في الجملة: يقضى بالشيء بين صاحبي اليد نصفين، إلا أن تكون بينة أحدهما أسبق تاريخاً من بينة الآخر، وتفصيله فيما يأتي (3) .
1 - إن أقام كل واحد من صاحبي اليد بينة أن الشيء له: فإنه يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه؛ لأنه كما ذكر عند الحنابلة يعتبر خارجاً بالنسبة لذلك النصف، والخارج: هو المدعي، وهوالذي تقبل بينته، وأما النصف الذي في يده فيترك في يده قضاء ترك، وعلى هذا فكأن الدار الواحدة بمنزلة دارين، في يد كل واحد منهما دار، وكل واحد منهما يدعيها، فكان كل واحد منهما مدعياً لما في يد صاحبه، فعليه البينة، ومنكر الدعوى: صاحبه بالنسبة لما في يده.
__________
(1) مغني المحتاج: 480/4، المهذب: 311/2.
(2) المغني: 280/9 وما بعدها.
(3) البدائع: 240/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 248/6 ومابعدها، المبسوط: 32/17، الدر المختار: 460/4، الكتاب مع اللباب: 32/4.
(8/148)
وكذلك إن أقام أحدهما البينة ولم يقم الآخر بينة: يقضى له بالنصف الذي في يد صاحبه، وأما ما في يده فيترك في يده قضاء ترك.
وأيضاً إذا لم يكن لأحدهما بينة: يترك الشيء في يديهما قضاء ترك، حتى لو قامت لأحدهما بينة بعدئذ تقبل؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه حقيقة.
2 - إن أرخ كل منهما بينته، وتاريخهما سواء يقضي بالشيء بينهما نصفين، كما في الصورة الأولى.
3 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق: فالأسبق أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: لا عبرة للتاريخ بالنسبة لصاحب اليد، فيكون الشيء بينهما نصفين، والحجج سبق بيانها.
4 - إن أرخ أحدهما دون الآخر: يقضى بالشيء بينهما نصفين عند أبي حنيفة ومحمد، ولا عبرة للوقت؛ لأنه ساقط الاعتبار لوجود الاحتمال في تقدمه عن تاريخ بينة الآخر وتأخره. وقال أبو يوسف: هو لصاحب التاريخ، وأدلة كل من الفريقين عرفت فيما سبق.
هل ترجح بينة أحد المتداعيين بكثرة عدد الشهود أو اشتهار العدالة؟.
في الصور السابقة الذكر وغيرها من حالات تعارض البينات قرر جمهور الفقهاء أنه لا ترجح إحدى البينتين بكثرة عدد الشهود، ولا اشتهاد العدالة؛ لأن كلاً من البينتين حجة كاملة من الطرفين بتقدير الشرع، فلا تتقوى بالزيادة، كما هو الشأن في الديات: لا يختلف مقدارها باختلاف الأشخاص. وقال الإمام مالك: يرجح بزيادة العدالة، كما يرجح بها أحد الخبرين
(8/149)
المرويين، ولا يرجح بكثرة العدد (1) .
النوع الثاني - تعارض الدعويين مع تعارض البينتين في دعوى الملك بسبب: دعوى الملك بسبب كما عرفنا: هي أن يذكر فيها سبب الملك من إرث أو شراء أو نتاج. وأبحث كل حالة على حدة فيما يأتي. ومجمل القول في الملك المقيد عند الحنفية: هو أنه إذا ادعى اثنان تلقي الملك من واحد وأحدهما قابض، أو ادعيا الشراء من اثنين، وأرخا وتأريخ ذي اليد أسبق، ففي هاتين الصورتين تقبل بينة ذي اليد باتفاق الحنفية.
الحالة الأولى ـ دعوى الملك بسبب الإرث:
يكون بحث تعارض دعويي الملك بسبب الإرث في حالتين: حالة ما إذا كان أحد المتداعيين خارجاً، والآخر صاحب يد، وحالة ما إذا كان التداعي بين خارجين على ما في يد ثالث.
أولاً ـ تعارض الدعويين بين الخارج وذي اليد في دعوى الملك بالإرث:
إذا كان متاع في يد رجل، فأقام رجل البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، وأقام صاحب اليد البينة أن أباه مات وتركه ميراثاً له، فقال الحنفية: يقضى به للخارج سواء ذكروا وقتاً أم لم يؤقتوا، أو أرخوا وكان تاريخهما سواء. فإن كان تاريخ أحدها أسبق فهو له. وتفصيله فيما يأتي (2) :
1 - إذا أقام كل واحد من الخارج وذي اليد البينة على أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثاً له: يقضى به للخارج؛ لأن كل واحد من المتداعيين أثبت ملكية المتاع للميت، لكن قام الوارث مقام الميت فيما يملكه، فكأن الوارثين ادعيا ملكاً مطلقاً من غير سبب، فيقضى به للخارج، كما عرفنا في دعوى الملك المطلق.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 243/6، المبسوط: 41/17، الدر المختار: 495/4، اللباب: 37/4، مغني المحتاج: 482/4، الميزان: 195/2، المغني: 282/9، بداية المجتهد: 461/2، الشرح الكبير للدردير: 220/4.
(2) المبسوط: 44/17، البدائع: 233/6.
(8/150)
2 و 3 ـ كذلك يقضى بالمتاع المتنازع عليه للخارج إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما تاريخاً دون الآخر؛ لأنه في الصورة الأولى سقط اعتبار الوقتين للتعارض، فبقي دعوى مطلق الملك. وفي الصورة الثانية: لا عبرة للوقت؛ لأنه يحتمل تأخر ملك الآخر وتقدم، ومع الاحتمال لا ينظر إلى الوقت.
4 - إذا كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر: فهو لصاحب الوقت الأسبق عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن بينته أثبتت له الملك في وقت لا ينازعه فيه الآخر.
وقال محمد: يقضى به للخارج؛ لأن دعوى الإرث دعوى ملك الميت، فكل واحد من البينتين أظهرت ملك الميت، لكن قام الوارث مقام الميت في ملك الميت، فكأن المورثين ادعيا ملكاً مطلقاً أو مؤرخاً منذ سنة مثلاً من غير ذكر سبب للملك، وقد عرفنا أنه في هذه الحالة يقضى بالشيء للخارج عند محمد.
ثانياً ـ تعارض الدعويين بين الخارجين عن ثالث في دعوى الإرث:
إذا وجدت دار في يد شخص، ثم أقام شخصان آخران غيره، كل منهما البينة على أن الدار ملك له، مات أبوه، وترك الدار ميراثاً له.
قال الحنفية (1) : يقضى بالدار بين الشخصين نصفين، سواء أرخت البينتان وقت الإرث أم لم تؤرخاه، أو كان تاريخهما سواء، لما ذكر أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته، وإنما الوارث يخلفه، ويقوم مقامه في ملكه، فكأن المورثين حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً عن الوقت لهما في يد ثالث، أو مؤقتاً وكان تاريخهما سواء، أو أحدهما مؤقتاً والآخر مطلقاً، وقد عرفنا أنه يقضى بالشيء حينئذ مناصفة بين الخارجين؛ لأنهما مدعيان متساويان في الادعاء.
__________
(1) المرجعان السابقان، المبسوط: ص 41، البدائع: ص 237.
(8/151)
وإن كان تاريخ أحدهما أسبق: فهو له عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه، فيصير كأنه حضر المورثان، وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة، وتاريخ أحدهما أسبق، وحينئذ يقضى لأسبقهما وقتاً، لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر.
وقال محمد: يقضى بالشيء بين الخارجين في هذه الحالة نصفين، ولا عبرة للتاريخ عنده في الميراث، لما ذكر أن الموروث ملك الميت، والوارث قام مقامه، فلم يكن الموت تاريخاً لملك الوارث، فسقط اعتبار التاريخ لملكه، وكأنه لم يكن، فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ، فيتساوى الخارجان حينئذ.
الحالة الثانية ـ دعوى الملك بسبب الشراء:
إذا تنازع اثنان على ملكية دار مثلاً، وكانت الدار في يد أحدهما فادعى أحدهما الشراء من الآخر، أو ادعى كل منهما الشراء من صاحبه، أو كانت الدار في يد شخص ثالث، فادعى كل منهما الشراء من صاحب اليد أو من رجل آخر غير الذي ادعى عليه صاحبه، فكيف يحكم القاضي بينهما؟ يعرف الجواب من الصور الآتية:
1 - التنازع بين الخارج وذي اليد (1) :
نجد في هذه الحالة افتراضات ثلاثة:
أولاً ـ إذا ادعى الخارج أنه اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف ليرة ونقده الثمن: يقضى للخارج بالبينة؛ لأنه هو المدعي.
ثانياً ـ إذا ادعى صاحب اليد الشراء من خارج: يقضى له بالبينة؟ لأنه يصح تلقي الملك من الخارج؛ لأنه هو المدعي.
ثالثاً ـ إذا ادعى كل واحد من الخارج وصاحب اليد أنه اشترى الدار من صاحبه بألف ليرة ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما البينة على ذلك ولم يؤرخا وقت الشراء، أو أرخا وتاريخهما سواء:
__________
(1) البدائع: 233/6 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 301/3 ومابعدها الطبعة القديمة، الكتاب مع اللباب: 36/4.
(8/152)
فإن لم يثبتا قبض المبلغ بالبينة: لا تقبل البينتان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يجب لواحد منها على صاحبه شيء، ويترك المدعى به في يد الحائز، أي صاحب اليد؛ لأن كل مشترٍ يكون مقراً بكون المبيع ملكاً للبائع. وعلى هذا تعد دعوى الشراء من كل واحد منهما إقراراً بملك المبيع لصاحبه، وتكون البينتان قائمتين على إثبات إقرار كل واحد منهما بالملك لصاحبه، وبين موجبي الإقرارين تناف وتناقض، فتعذر العمل بالبينتين أصلاً.
وقال محمد: يقضى بالبينتين، ويؤمر صاحب اليد بتسليم المدعى به للخارج؛ لأن الجمع والتوفيق بين الدليلين مطلوب بقدر الإمكان، والتوفيق هنا ممكن: بتصحيح العقدين بأن نفترض أن صاحب اليد اشترى المبيع أولاً من الخارج
وقبضه، ثم اشتراه الخارج ثانية من صاحب اليد، ولم يقبضه، وإنما باعه مرة أخرى لصاحب اليد. فبذلك يمكن تصحيح العقدين: الأول والثاني بالتقدير المذكور.
ولا يصح افتراض العكس: بأن نقدر أن الخارج اشترى أولاً من صاحب اليد، ولم يقبضه، وإنما باعه ثانية لصاحب اليد؛ لأنه يترتب على هذا الافتراض إفساد العقد الثاني؛ لأن هذا بيع للعقار المبيع قبل قبضه، وهذا البيع غير جائز عند محمد، كما هو معروف في عقد البيع.
وإذا صح العقدان بحسب الافتراض الأول، فيبقى الشيء في يد الحائز صاحب اليد، فيؤمر بتسليمه إلى الخارج.
وأما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، ولم تذكر البينتان قبضاً: فإنه يقضى لصاحب البيع المتأخر وقتاً، والبيع الثاني ينقض البيع الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
(8/153)
وعند محمد: يقضى للخارج؛ لأن بيعه إذا كان أسبق، افترض كأنه اشترى الدار أولاً، ولم يقبضها، ثم باعها لصاحب اليد، وبيع العقار قبل القبض لا يجوز عنده، وإذا لم يجز بقي المبيع على ملك الخارج. أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، فيجوز، فصح البيعان ويقضى بالشيء لصاحب اليد.
وإذا كان بيع صاحب اليد أسبق: فيقضى بالدار للخارج اتفاقاً؛ لأنه إذا كان وقته أسبق يجعل سابقاً في الشراء، كأنه اشترى من الخارج وقبض، ثم اشترى منه الخارج ولم يقبض، فيؤمر بتسليم الدار إليه.
وأما إن أثبتا القبض بالبينة: فقد تهاترت البينتان، أي تساقطتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويقضى بالدار قضاء ترك لمن كانت الدار في يده. وقال محمد: يقضى بالدار لمن كانت في يده قضاء حقيقة، وتحصل مقاصة بين ثمن البيع الأول وثمن البيع الثاني، فمن زاد له أخذ الزيادة من صاحبه، كأن الخارج اشترى الدار من الداخل صاحب اليد، فقبضها ثم اشتراها الداخل منه، وقبض، تصحيحاً لتصرف الإنسان؛ لأنه مهما أمكن أن يجعل القبض قبض بيع، يجعل.
2 - التنازع بين الخارجين على ما في يد شخص ثالث:
نجد في هذه الحالة افتراضين:
أولاً ـ أن يدعي الخارجان الشراء من شخص واحد على صاحب اليد:
إذا ادعى اثنان داراً عند إنسان آخر، كان قد اشتراه كل منهما من واحد معين، وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم، ونقد الثمن:
(8/154)
قال الحنفية (1) : فإن لم يذكرا تاريخاً للشراء ولا قبضاً للمبيع: يقضى بالدار بينهما نصفين ويثبت لهما الخيار كما سيُبين؛ لاستوائهما في سبب الاستحقاق، وقبول محل النزاع للاشتراك فيه.
وقال الشافعية في هذه الحالة: تعارضت البينتان، فتساقطتا، لتناف بين موجبيهما ومقتضاهما، فكأنه لا بينة، فيحلف كل منهما يميناً على نفي كونه للآخر بأن يقول: إن هذا الشيء ليس لك، ثم يجعل الشيء بينهما، أي يقسم بينهما نصفين لقضائه صلّى الله عليه وسلم بذلك، كما صححه الحاكم على شرط الشيخين. وفي قول: يقرع بينهما (2) .
ثم قال الحنفية: أما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق: فيقضى للأسبق؛ لأن بينته تظهر الملك له في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر، أي أن الأسبق أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد، فاندفع الآخر به.
ولو أرخت بينة أحدهما دون الآخر: فيقضى لصاحب الوقت، لثبوت ملكه في ذلك الوقت، فاحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده، فلا يقضى له بالشك.
ولو لم تؤرخ البينتان، أوأرخت إحداهما دون الأخرى، أو كان تاريخهما سواء، ولكن مع أحدهما قبض: أي أن القبض ثابت في يده معاينة: فهو أولى بالشيء المتنازع عليه، لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأن المتداعيين استويا في إثبات الشراء بالبينة، والقبض أمر مرجح، فلا تزول اليد الثابتة بالشك. هذا.. إلا أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الآخر فيقضى له، ويرجع الآخر بالثمن على البائع.
والخلاصة: أن بينة ذي اليد أولى من بينة غير القابض في دعوى الملك بسبب، خلافاً لحالة دعوى الملك المطلق، فإن بينة الخارج أولى.
__________
(1) البدائع: 237/6، تكملة فتح القدير: 221/6 وما بعدها، الدر المختار: 456/4، اللباب: 34/4 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 480/4، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 359/2.
(8/155)
وإذا ادعى اثنان على ثالث ذي يد، أحدهما يدعي شراء منه، والآخر هبة وقبضاً، وأقاما البينة على ذلك، ولا تاريخ معهما، فالشراء أولى؛ لأنه أقوى، لكونه معاوضة من الجانبين؛ ولأنه يثبت بنفسه بخلاف الهبة، فإنه يتوقف على القبض. وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها على هذا الشيء، فهما سواء لاستوائهما في القوة؛ لأن كلاً منهما معاوضة من الجانبين، ويثبت الملك لنفسه. وإن ادعى أحدهما رهناً وقبضاً، والآخر هبة وقبضاً، فالرهن أولى؛ لأن المرهون مضمون، والموهوب غير مضمون وعقد الضمان أولى.
ثانياً ـ أن يدعي كل واحد من الخارجين الشراء من رجل غير الذي ادعى عليه صاحبه:
إذا ادعى شخصان داراً في يد شخص آخر، وأقام كل واحد منهما البينة على أنه اشتراها من شخص غير الذي ذكره صاحبه سوى صاحب اليد: يقضى به بينهما نصفين؛ لأن المشتريين قاما مقام البائعين، كأنهما حضرا، وأقاما البينة على ملك مطلق، ولو كان الأمر كذلك يقضى به بينهما نصفين، فكذا هذا، ويثبت لهما الخيار كما سأبين.
ولو أرخا وكان تاريخهما سواء أو أرخت بينة أحدهما ولم تؤرخ الأخرى: يقضى به بينهما نصفين أيضاً. وإن كان تاريخ أحدهما أسبق من الآخر، فالأسبق تاريخاً أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذا عند محمد في رواية الأصول بخلاف الميراث: إنه يكون بينهما نصفين عنده.
والفرق بالنسبة لمحمد بين الميراث والشراء: هو أن المشتري يثبت الملك لنفسه، والوارث يثبت الملك للميت.
وفي رواية عن محمد في الإملاء: أنه سوى بين الميراث والشراء، وقال: لا عبرة بالتاريخ في الشراء أيضاً، إلا أن يؤرخ المدعيان ملك البائعين (1) .
__________
(1) راجع البدائع: 238/6.
(8/156)
ثبوت الخيار لمن يقضى لهما: في حالة القضاء بالدار بين المتداعيين الخارجين مناصفة، سواء في ادعاء الشراء من واحد أو من اثنين: يثبت الخيار لكل واحد من مدعيي الشراء: إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن، وإن شاء ترك لتفريق الصفقة عليه؛ لأن غرض كل واحد من المتداعيين الوصول إلى شراء
جميع المبيع، ولم يحصل له شراؤه، مما ترتب عليه حدوث خلل في رضا كل منهما، فلا يرضى بالنصف مشتركاً مع الآخر، فأثبت لهما الخيار.
فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار، رجع على البائع بنصف الثمن؛ لأنه لم يحصل له في ملكه إلا نصف المبيع.
وإن اختار كل منهما رد المبيع ونقض البيع، رجع كل واحد منهما بجميع الثمن على البائع؛ لأنه انفسخ البيع.
وإن اختار أحدهما الرد، والآخر الأخذ: فإن حدث هذا قبل تخيير الحاكم لهما، والحكم لهما نصفين، فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن؛ لأن المستحق له بالعقد كل المبيع، وامتناع استحقاقه للكل بسبب مزاحمة الآخر له، فإذا زالت الخصومة فقد زال المانع من الاستحقاق، فيأخذه كله.
وأما إن حدث ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما: فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن؛ لأنه بحكم القاضي ينفسخ العقد بالنسبة لكل واحد منهما في النصف، فلا يعود إلا بالتجديد (1) .
__________
(1) البدائع: 237/6، تكملة فتح القدير: 221/6 وما بعدها.
(8/157)
الحالة الثالثة ـ دعوى الملك بسبب النتاج:
النتاج: هو ولادة الحيوان، مشتق من فعل (نُتجت) المبني للمجهول: يعني ولدت ووضعت. والمراد هنا: ولادة الحيوان في ملك الإنسان نفسه أو في ملك بائعه، أو في ملك مورثه.
إذا تنازع رجلان في دابة مثلاً، فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له نُتجت عنده أو عند بائعه أو عند مورثه، فكيف يقضي القاضي بينهما؟
نجد هنا ثلاثة افتراضات أذكر حكمها عند الحنفية:
أولاً ـ أن يدعي الخارج وصاحب اليد نتاج أي (منتوج) دابة، ويقيم كل واحد منهما بينة على النتاج من غير تاريخ، أو أرخا تاريخاً واحداً: فصاحب اليد أولى؛ لأن صاحب اليد لا يستحق الملك هنا بظاهر يده فقط، وإنما تثبت بينته شيئاً آخر عدا الحيازة باليد، وهوأولية الملك بالنتاج؛ لأن النتاج لا يتكرر حدوثه، كما تُثبت بينة الخارج، فاستوت البينتان في إظهار أولية الملك، وترجحت بينة ذي اليد باليد، فيقضى له. وذلك بخلاف الملك المطلق فهناك لا تُثبت بينته إلا ما هو ثابت له بظاهر يده، باعتبار أن الملك ينتقل ويتكرر حدوثه.
وفي هذا ورد حديث جابر: «أن رجلين اختصما في ناقة، فقال كل واحد منهما: نتجت هذه الناقة عندي، وأقاما بينة، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم للذي هي في يده» (1) ويقضى في ظاهر مذهب الحنفية لصاحب اليد قضاء حقيقة، لا أن يترك في يده قضاء ترك. وهو موافق لمذهب الشافعية.
وقال عيسى بن أبان: تتهاتر البينتان ويترك المدعى به في يد صاحب اليد قضاء ترك (2) .
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي وإسناده ضعيف.
(2) راجع المبسوط: 63/17، البدائع: 234/6، تكملة فتح القدير: 235/6، الدر المختار: 459/4، اللباب: 35/4.
(8/158)
ثانياً ـ أن يقيم أحد المتنازعين على النتاج، والآخر على الملك المطلق عن النتاج:
إذا أقام أحد المتخاصمين البينة على النتاج، والآخر على الملك المطلق عن النتاج، بأن قال: هو ملكي، فبينة النتاج أولى، سواء أكان خارجاً أم ذا اليد، لما ذكر أنها تثبت أولية الملك لصاحبه، فلا تثبت لغيره إلا بالتلقي منه (1) .
ثالثاً ـ ادعاء النتاج من الخارجين على ثالث يدعي ملكاً مطلقاً:
إذا ادعى الخارجان النتاج وهو في يد شخص ثالث يدعي ملكاً مطلقاً: فهو بين الخارجين نصفين، لا ستوائهما في سبب الاستحقاق.
فإن أرخت البينتان، واتفق تاريخهما، فيقضى بالمدعى به أيضاً نصفين، لسقوط اعتبار الوقتين بالتعارض.
وإن اختلف التاريخان يحكَّم سن الدابة: فيقضى لصاحب الوقت الذي يوافقه سن الدابة إن علم سنها؛ لأنه ظهر أن البينة الأخرى كاذبة بيقين.
فإن أشكل السن، كانت الدابة بينهما نصفين؛ لأنه سقط اعتبار التاريخ، وجعل كأنهما لم يذكرا تاريخاً؛ لأنه يحتمل أن يكون سنها موافقاً لتاريخ أحدهما أو مخالفاً لهما.
وإن خالف سنها الوقتين جميعاً، سقط اعتبار التاريخ في ظاهر الرواية؛ لأنه ظهر بطلان اعتبار التوقيت، فكأنهما لم يؤقتا، فبقيت البينتان قائمتين على ملك مطلق.
وذكر الحاكم الشهيد في مختصره (الكافي) أنه تتهاتر البينتان، ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء ترك، قال: وهو الصحيح.
والواقع أن الأصح في هاتين الحالتين: حالة إشكال السن ومخالفته للوقتين
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 337/6.
(8/159)
هو ما قاله محمد، وهو أن تكون الدابة بينهما نصفين، سواء أكانت الدابة في يديهما، أم في يد أحدهما، أم في يد شخص ثالث (1) .
ما يتكرر سببه وما لا يتكرر:
كل ما ذكرمن الأحكام في تعارض الدعويين في الملك المطلق أو بسبب الإرث أو الشراء، ينطبق على كل ما يتكرر فيه سببه، ويصنع مرتين فأكثر كبناء وغرس ونسج خز (2) وزرع بر ونحوه، يقضى بالمدعى به للخارج، فلو ادعى رجل ثوباً أنه ملكه من خزه، أو ادعى داراً أنهاملكه بناها بماله، أو ادعى غرساً أنه ملكه غرسه بنفسه، أو ادعى حنطة أنها ملكه زرعها أو حباً آخر من الحبوب، وأقام على مدعاه بينة وادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام عليه بينة، قضي به للخارج؛ لأن هذه الأشياء ليست في معنى النتاج لتكررها.
وكل ما ذكر من الأحكام في النتاج ينطبق على ما لا يتكرر فيه سبب الملك ولايعاد، ولا يصنع مرتين كنسج الثياب التي لا تنسج إلا مرة واحدة، وغزل قطن، وحلب لبن، وجز صوف، ونحوها؛ لأنه في معنى النتاج، يقضى به لصاحب اليد. فلو ادعت امرأة غزل قطن أنه ملكها، غزلته بيدها، أو ادعى رجل ثوباً أنه ملكه، نسجه بيده، وهو مما لا يتكرر نسجه، أو ادعى لبناً أنه ملكه حلبه من شاته، أو ادعى جبناً أنه ملكه، صنعه بيده، أو ادعى صوفاً مجزوزاً بأنه ملكه، جزَّه من شاته، وأقام على مدعاه بينة، فادعى ذو اليد مثل ذلك، وأقام عليه بينة، فإنه يقضى به لذي اليد؛ لأنه في معنى النتاج، فيلحق به (3) .
__________
(1) راجع البدائع: 234/6، تكملة فتح القدير: 246/6 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 43/4.
(2) أي الصوف الخليط بالإبريسم أي الحرير، فإن هذا إذا بلي يغزل مرة أخرى وينسج.
(3) تكملة فتح القدير مع العناية: 236/6 وما بعدها، البدائع: المرجع نفسه: ص 234، الدر المختار: 459/4 وما بعدها، اللباب: 36/4.
(8/160)
المبحث السادس ـ حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط، وحكم الملك وما يقتضيه من حقوق:
يتناول هذا المطلب قضيتين مختلفتين، وإنما جمعتُ بينهما؛ لأن كلاً منهما لا يستحق على الانفراد مطلباً مستقلاً لقلة الكلام فيه، ولأن بينهما ارتباطاً جزئياً من جهة ولاية التصرف في الشيء.
حكم تعارض الدعويين في أصل الملك فقط أو التنازع بالأيدي:
انتهى بيان تعارض الدعويين مع تعارض البينتين، والكلام في هذا المطلب عن تعارض الدعويين لا غير، تمسكاً بظاهر اليد، فيحكم بين المتداعيين بأرجحية يد أحدهما على الآخر، ويظهر الحكم في المسائل الآتية (1) :
1 - إذا تنازع اثنان في دابة: أحدهما راكبها، والآخر متعلق بلجامها، فالراكب أولى؛ لأن تصرفه أقوى، فإن الركوب يختص بالملك غالباً.
وكذلك إذا كان أحدهما راكباً على السرج، والآخر رديفه، فالراكب أولى، لقوة يده، وهذا رأي أبي يوسف، وهو الذي مشى عليه القدوري في مختصره «الكتاب» .أما في ظاهر الرواية: فالدابة بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في أصل الاستعمال. وكذلك تكون الدابة بينهما اتفاقاً إذا كانا راكبين على السرج، لاستوائهما في التصرف.
وإن تنازعا في بعير عليه لأحدهما حمل، وللآخر عليه مخلاة معلقة فصاحب الحمل أولى، لأنه هو المتصرف، فهو ذو اليد في الواقع.
2 -إذا تنازع اثنان في قميص: أحدهما لا بسه، والآخر متعلق به، فاللابس أولى؛ لأنه أقواهما تصرفاً، فهو مستعمل للقميص.
ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه، والآخر متعلق به: فهو بينهما نصفان، قضاء ترك، لا قضاء حقيقة؛ لأن القعود عليه ليس بيد عليه، حتى إنه لا يعتبر غاصباً بالقعود عليه، وإنما تكون اليد، أي الحيازة على البساط إما بالنقل والتحويل، أو بكونه في بيته، والجلوس عليه ليس بشيء من الأمرين، فلا يكون يداً عليه. وبما أنهما يدعيانه على السواء، فيترك في يديهما لعدم وجود منازع ينازعهما.
وإذا كان ثوب في يد رجل، وطرف منه في يد آخر، فهو بينهما نصفان؛ لأن الزيادة من جنس الحجة، فإن كل واحد منهما متمسك باليد، إلا أن أحدهما أكثر استمساكاً، ومثله لا يوجب الرجحان، كزيادة عدد الشهود، لا تُرجح بينة أحد الخصمين.
__________
(1) المبسوط: 87/17 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 247/6 وما بعدها، البدائع: 255/6 وما بعدها، الدر المختار: 461/4 ومابعدها، اللباب: 44/4، مختصر الطحاوي: ص354 وما بعدها.
(8/161)
3 - إذا كان حائط بين دارين: فادعاه كل من المالكين المتجاورين، وليس لأحدهما عليه جذوع (1) ولا هو متصل ببناء كل منهما، فإنه يكون بينهما، لاستوائهما في الاستظلال به.
وإن كان لأحدهما عليه جذوع، فهو له؛ لأنه مستعمل للحائط.
ولو كان لكل واحد منهما جذوع، على السواء، أو لأحدهما أكثر من الآخر، بأن كان ثلاثة فصاعداً، فهو بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في استعمال الحائط، فاستويا في ثبوت اليد عليه، والزيادة على الثلاثة من جنس الحجة.
أما إن كان لأحدهما ما دون الثلاثة، وللآخرأكثر، فهو لصاحب الكثير؛ لأن أصل الاستعمال لا يحل بما دون الثلاثة؛ لأن الجدار لا يبنى له عادة، وإنما يبنى لأكثر من الثلاثة، إلا أن الأكثر لا نهاية له، والثلاثة أقل الجمع الصحيح، فقيِّد به. ولكن يبقى لصاحب القليل حق الاستناد على الحائط، وليس لصاحب الحائط الحق في أن يطلب رفع الجذوع، إلا إذا أثبت بالبينة أن الحائط له، فحينئذ يرفع الجذع.
وإن لم يكن لهما جذوع، ولأحدهما اتصال بالبناء اتصال التزاق وارتباط، فهو لصاحب الاتصال، لأنه كالمتعلق به.
ولو كان لأحدهما اتصال التزاق، وللآخر جذوع، فصاحب الجذوع أولى؛ لأنه مستعمل للحائط، ولا استعمال من صاحب الاتصال.
ولو كان لأحدهما اتصال التزاق وارتباط، وللآخر اتصال تربيع (2) ، فصاحب التربيع أولى؛ لأن اتصال التربيع أقوى من اتصال الالتزاق.
ولو كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر جذوع: فالحائط لصاحب التربيع، ولصاحب الجذوع حق وضع الجذوع، أي استنادها عليه؛ لأن الظاهر ليس بحجة في الاستحقاق. والسبب في ترجيح صاحب الاتصال: أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد. وقال السرخسي: صاحب الجذوع أولى؛ لأن لصاحب الاتصال اليد، ولصاحب الجذوع التصرف والتصرف أقوى. والرأي الأول أرجح؛ لأن اتصال التربيع يكون حالة البناء، وهو سابق على وضع الجذوع، فكانت يده أسبق من وضع الآخر جذوعه، فصار مثل سبق التاريخ.
__________
(1) الجذع: ساق النخلة أو الشجرة، يوضع في منتصف السقف للاستناد عليه، ويوضع طرفاه على جدارين متقابلين، وهو الآن مثل الجسور الحديدية في منتصف السقوف.
(2) اتصال التربيع: أن يكون في حائط من المدر أو الآجر تداخل بين أنصاف لبنات حائط المدعي، وأنصاف لبنات الحائط المتنازع فيه وبالعكس. وإن كان الحائط من خشب: فالتربيع: أن تكون الخشبة مركبة في الأخرى. وأما إذا ثقب فأدخل في الأخرى، فلايكون تربيعاً. (تكملة فتح القدير: 251/6، الدر المختار: 461/4، البدائع: 257/6) .
(8/162)
ثم إن الاتصال الذي وقع الاختلاف السابق في ترجيح صاحبه على صاحب الجذوع أو على العكس: هو الاتصال الذي وقع في أحد طرفي أو جانبي الحائط المتنازغ فيه. وأما إذا وقع اتصال التربيع في طرفيه أو جانبيه، فصاحب الاتصال أولى بلا خلاف (1) .
ولو كان وجه البناء على الحائط في أحد الجانبين، فلا يرجح به باتفاق الحنفية؛ لأن هذا لا يختص بالملك.
4 - إذا كان خُص (2) بين دارين، أو بين حقلين، والقُمط (3) إلى أحدهما، وادعى كل واحد الخص، فهو بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليه، ولا ينظر إلى القمط؛ لأن هذا دليل الحيازة واليد في الماضي، لا وقت الدعوى، فلا يفيد في الإثبات.
وقال الصاحبان: صاحب القمط أولى بالعرف والعادة، فإن الناس في العادة يجعلون وجه البناء والطاقات (ما عطف من الأبنية) وأنصاف اللبن والقمط إلى صاحب الدار، فيدل على أنه بناؤه.
تنبيه: كل موضع قضي فيه بالملك لأحد المتنازعين لكون المدعى به في يده، تجب عليه اليمين لصاحبه إذا طلب، فإن حلف برئ، وإن نكل يقضى عليه بالنكول (4) .
__________
(1) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 225، البدائع، المرجع نفسه: ص 257، رد المحتار: 461/4.
(2) الخص بضم الخاء: البيت من قصب، والجمع أخصاص.
(3) القمط - بضم القاف والميم: جمع قماط، والمراد به هنا حبل عريض ينسج من ليف أو خوص تشد به الخيمة ونحوها.
(4) البدائع: 258/6، رد المحتار: 461/4.
(8/163)
حكم الملك وما يقتضيه من حقوق:
حكم الملك أو مقتضاه عند الحنفية: هو أن يثبت لصاحبه ولاية التصرف في الشيء المملوك بمطلق اختياره، دون أن يكون لأحد عليه حق الإجبار على التصرف إلا لضرورة، أو حق المنع من التصرف، وإن تضرر به إلا إذا تعلق به حق الغير، فيمنع عن التصرف مراعاة لحق الغير، ولا يكون لغير المالك شيء من حقوق التصرف في ملك غيره بدون إذنه أو رضاه إلا لضرورة.
وبناء عليه للمالك أن يتصرف في ملكه أي تصرف شاء، سواء أكان تصرفاً يتعدى ضرره إلى غيره، أم لا يتعدى، فله أن يبني في ملكه مرحاضاً أو حماماً أورحى أو تنوراً، وله أن يؤجر بناءه لحداد أو قصار، وله أن يحفر في ملكه بئراً أو بالوعة، وإن كان يتأذى به جاره، وليس لجاره أن يمنعه؛ لأن حق الملكية حق مطلق، ويتقيد هذا الحق عند وجود عارض من تعلق حق الآخرين به، لكن يجب أن يمتنع الإنسان عن كل ما يؤذي جاره ديانة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المؤمن من أمن جاره بوائقه» (1) .
فلو تصرف المالك في ملكه تصرفاً أدى إلى أن يوهن بناء جاره أو سقوط حائط جاره، لا يضمن؛ لأنه لم يتعد على ملك الغير.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن طلق بن علي بلفظ «ليس بالمؤمن: الذي لا يأمن جاره بوائقه» أي شره، وفيه أيوب بن عتبة ضعفه الجمهور، وهو صدوق كثير الخطأ، واعتبر السيوطي هذا الحديث حسناً (مجمع الزوائد: 169/8، الجامع الصغير: 135/2) .
(8/164)
العلو والسفل: وعلى هذا لو كان لأحد الجوار سفل، وللآخر علو عليه كطوابق المنازل الحديثة، فأراد صاحب السفل أن يفتح باباً أو نافذة، أو يحفر طاقاً، أو يدق وتداً على الحائط، أو يتصرف فيه تصرفاً لم يكن في القديم، من غير رضا صاحب العلو سواء أضر بالعلو، بأن ترتب عليه وَهْن الحائط أم لم يضرَّ به، فليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن حرمة التصرف في ملك الغير وحقوقه لا تتوقف على وقوع الضرر، بل هو حرام، سواء تضرر به أم لا.
وقال الصاحبان: لصاحب السفل أن يفعل في ملكه ما يشاء إن لم يضر بصاحب العلو؛ لأن صاحب السفل يتصرف في ملك نفسه، فلا يمنع إلا لحق الغير، وحق الغير لا يمنع المالك من التصرف لذاته، وإنما لما يترتب عليه من إيقاع الضرر به، بدليل أن الإنسان لا يمنع من الاستظلال بجدار غيره، ومن الاصطلاء بنار غيره، لعدم تضرر المالك. والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
وإذا انهدم السفل والعلو: لم يجبر صاحب السفل على البناء؛ لأن الإنسان لا يجبر على عمارة ملك نفسه، ولكن يقال لصاحب العلو: إن شئت فابن السفل من مال نفسك، وضع عليه علوك، وارجع عليه بقيمته مبنياً، ثم امنع صاحب السفل عن الانتفاع بالسفل حتى يرد عليك قيمة البناء؛ لأن البناء، وإن كان تصرفاً في ملك الغير، لكن فيه ضرورة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلا بالتصرف في ملك غيره. وأما رجوعه بقيمة البناء، فلأنه ملكه بإذن الشرع، فله ألا يمكن صاحب السفل من الانتفاع بملكه إلا بعد دفع قيمته.
أما إذا هدم صاحب السفل منزله، فانهدم الطابق العلوي، فيجبر على إعادته؛ لأنه أتلف حق صاحب العلو بنفسه.
ويجري هذا الخلاف في الحائط بين الدارين إذا انهدم، ولهما عليه جذوع، فإنه لا يجبر واحد منها على بنائه، ولكن إذا أبى أحدهما البناء، يقال للآخر: إن شئت فابن من مال نفسك، وضع خشبك عليه، وامنع صاحبك من الوضع والاستناد، حتى يرد عليك نصف قيمة البناء، أو نصف ما أنفقته.
فإن هدمه أحدهما، يجبر على عمارته (2) .
__________
(1) رواه مالك والشافعي مرسلاً عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه، وهو عند أحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس، ورواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري وهو حديث حسن (المقاصد الحسنة: ص 468، مجمع الزوائد: 110/4، سبل السلام: 84/3، الإلمام: ص 363) .
(2) البدائع: 263/6 وما بعدها، الدر المختار: 372/4 وما بعدها، درر الحكام: 416/2 وما بعدها.
(8/165)
الفَصْلُ الثَّالث: طرق الإثبات
يشتمل هذا الفصل على المباحث الأربعة التالية:
1 - الشهادة.
2 - اليمين.
3 - الإقرار.
4 - القرائن.
المبحث الأول ـ الشهادة والرجوع عنها:
أشرت في الفصل السابق إلى أن البينات ومنها الشهادات من أهم طرق إثبات الحق عند القاضي، ووعدت بتخصيص مبحث مستقل للشهادة أتكلم فيه عن حكم أداء الشهادة وشروط تحملها؛ وشروط أدائها، وحكم الرجوع عن الشهادة، في المطالب الستة الآتية:
المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها.
المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة.
المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة.
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة.
المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور.
المطلب السادس ـ شهادة غير المسلمين.
المطلب الأول ـ تعريف الشهادة وركنها وحكمها:
الشهادة: مصدر شهد من الشهود بمعنى الحضور، وهي لغة: خبر قاطع. وشرعاً: إخبار صادق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء (1) .
وركنها: لفظ (أشهد) لا غير؛ لأن النصوص اشترطت هذا اللفظ، إذ الأمر القرآني ورد فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة تأكيد، فإن قوله: (أشهد) من ألفاظ اليمين. وهي تتضمن معنى المشاهدة أي الإطلاع على الشيء. فلو قال: (شهدت) لا يجوز؛ لأن الماضي موضوع للإخبار عما وقع، والشهادة يقصد بها الإخبار في الحال (2) .
والأصل في الشهادة قبل الإجماع: الكتاب والسنة.
__________
(1) فتح القدير: 2/6، الدر المختار: 385/4، الشرح الكبير للدردير: 164/4، مغني المحتاج: 426/4.
(2) الدر المختار، المرجع السابق، البدائع: 266/6، اللباب شرح الكتاب: 57/4، المغني: 216/9.
(8/166)
أما الكتاب فقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وقال تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] ، {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/2] أمر إرشاد لا وجوب.
وأما السنة فمثل قوله صلّى الله عليه وسلم لمدع: «شاهداك أو يمينه» (1) وخبر في السنة: «أنه
صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشهادة، فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال: على مثلها فاشهد، أو دع» (2) .
وحكم الشهادة: وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها. وأما حكم تحمل الشهادة وأدائها، فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه، إذ لو تركه الجميع، لضاع الحق، ويصبح أداء الشهادة بعد التحمل فرض عين، فيلزم الشهود بأداء الشهادة، ولا يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي بها، لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا} [البقرة:282/2] وقوله سبحانه: {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة:283/2] وقوله عز وجل: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق:2/65] (3) .
ويجب أداء الشهادة بلا طلب في حقوق الله تعالى، كطلاق امرأة بائناً، ورضاع، ووقف، وهلال رمضان، وخلع، وإيلاء، وظهار. قال الحنفية (4) : الذي تقبل فيه الشهادة حسبة (5) بدون الدعوى أربعة عشر: وهي الوقف، وطلاق الزوجة، وتعليق طلاقها، وحرية الأمة، وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنسب، وحد الزنا، وحد الشرب، والإيلاء، والظهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد. وزاد ابن عابدين: الشهادة بالرضاع.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس، وقد سبق تخريجه.
(2) رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده وتعقبه الذهبي، فقال: «بل هو حديث واه» وأخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف عن ابن عباس (سبل السلام: 130/4، نصب الراية: 82/4) .
(3) المبسوط: 177/16، فتح القدير: 3/6، الدر المختار: 386/4، الشرح الكبير للدردير: 199/4، مغني المحتاج: 450/4، المغني: 146/9، المهذب: 323/2.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 440/3.
(5) الحسبة: الأجر، أي لقصد الأجر، لا لإجابة مدعٍ.
(8/167)
لكن الشهادة في الحدود: يخير فيها الشاهد بين الستر والإعلام؛ لأنه يكون متردداً بين شهادتي حسبة: في إقامة الحد، والتوقي عن هتك حرمة مسلم، والستر
أولى وأفضل؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة» (2) وقد عرفنا في الحدود أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقن ماعزاً الرجوع عن الإقرار بقوله: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ففي هذا دلالة ظاهرة على أفضلية الستر.
لكن الأولى أن يقول الشاهد في السرقة: أخذ المال إحياء لحق المسروق منه، ولا يقول: سرق صوناً ليد السارق عن القطع، فيكون بهذا قد جمع بين الستر والإعلام أو الإظهار (3) .
المطلب الثاني ـ شروط تحمل الشهادة:
تحمل الشهادة: عبارة عن فهم الحادثة وضبطها بالمعاينة أو بالسماع. ويشترط لتحمل الشهادة شروط ثلاثة عند الحنفية (4) .
أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلاً: فلا يصح تحمل الشهادة من المجنون والصبي الذي لايعقل؛ لأن التحمل يتطلب الفهم والإدراك، وهو يحصل بالعقل.
__________
(1) الواقع أن الذي قال له النبي صلّى الله عليه وسلم هذا القول وهو «هزَّال» لم يشهد عنده بشيء، ولكنه هو الذي أشار على ما عز أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلم ويقر عنده، فلم يكن شاهداً؛ لأن ماعزاً حد بالإقرار، فقال النبي لهزال: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك» رواه أبو داود والنسائي والبزار وأحمد والطبراني عن نعيم ابن هزال (راجع نصب الراية: 74/4) .
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» ورواه الحاكم من طريقين، ورواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه أبو نعيم عن مسلم بن مخلد مرفوعاً، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً (نصب الراية: 307/3، 79/4، تلخيص الحبير: 66/4) .
(3) فتح القدير، الدر المختار، المرجعان السابقان، اللباب: 54/4.
(4) البدائع: 266/6، الدر المختار: 385/4.
(8/168)
ثانيها ـ أن يكون بصيراً وقت التحمل، فلا يصح التحمل من الأعمى؛ لأن شرط التحمل هو السماع من الخصم، ولا يعرف الخصم إلا بالرؤية؛ لأن نغمات الأصوات يشبه بعضها بعضاً.
وقال الحنابلة (1) : تحمل الشهادة يكون بالرؤية والسماع، فيجوز للأعمى أن يشهد فيما يتعلق بالسماع كالبيع والإجارة وغيرهما إذا عرف المتعاقدين، وتيقن أنه كلامهما.
وقال الشافعية (2) : لا تجوز شهادة الأعمى فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الأصوات، وقد يحاكي الإنسان صوت غيره، كما قال الحنفية، فلا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والإتلاف والغضب والزنا وشرب الخمر، وهذا ما قال به الحنابلة أيضاً، كما لا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق، إلا فيما سماه الشافعية بصورة الضبط: وهي أن يقر شخص في أذن الأعمى بنحو طلاق أو مال لشخص معروف، فيتعلق الأعمى به ويضبطه إلى أن يحضر عند الحاكم، فيشهد عليه بما سمعه منه، فتقبل شهادته في هذه الحالة على الصحيح.
ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه لا بغيره إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس والاستفاضة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم للشاهد: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد، وإلا فدع» (3) ولا يتم العلم مثل الشمس إلا بالمعاينة.
ولا يشترط لتحمل الشهادة البلوغ والحرية والإسلام والعدالة، وإنما هي شروط للأداء.
__________
(1) المغني: 58/9 وما بعدها.
(2) المهذب: 334/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 446/4.
(3) رواه الخلال في الجامع بإسناده عن ابن عباس بلفظ سبق ذكره. والمذكور هنا مروي بالمعنى.
(8/169)
وأما ما تصح فيه الشهادة بالتسامع: فهي النكاح، والنسب، والموت، ودخول الرجل على امرأته، وولاية القاضي، فللشاهد أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها خواص الناس، ويترتب عليها أحكام دائمة على ممر السنين والأعوام، فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع، لأدى ذلك إلى الحرج وتعطيل الأحكام.
والتسامع عند أبي حنيفة: هو بأن يشتهر الخبر ويستفيض بين الناس، وتتواتر به الأخبار ليحصل له نوع من اليقين. وعند الصاحبين: بأن يخبر الشاهد رجلان عدلان أو رجل وامرأتان، واختار قولهما بعض الفقهاء بدليل أن القاضي يحكم بشهادة شاهدين، ولو لم يرد المشهود به أو يسمعه بنفسه. وعند أداء الشهادة بالتسامع لا يذكر الشاهد أمام القاضي أن شهادته بالتسامع، وإنما يقول: أشهد بكذا.
أما فيما عدا المذكور فلا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة: وهي المعاينة، وتتم بالعلم، فلا تجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان، بدليل قوله تعالى: {إلا من شهد بالحق، وهم يعلمون} (1) وقوله سبحانه: {ولا تقْف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء:36/17] (2) .
وقال المالكية: تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة: منها عزل قاض أو والٍ أو وكيل، وكفر، وسفه، ونكاح، ونسب، ورضاع، وبيع، وهبة ووصية (3) .
__________
(1) الآية: {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف:86/43] .
(2) المبسوط: 111/16، فتح القدير: 20/6، البدائع: 266/6، اللباب: 67/4، المغني: 158/9. المهذب: 334/2.
(3) راجع الشرح الكبيرللدردير وحاشية الدسوقي عليه: 198/4 وما بعدها.
(8/170)
والتسامع: أن يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، وذلك بأن يشتهر النسب مثلاً المشهود به بين الناس العدول وغيرهم. ويشترط أن يقول الشهود: سمعنا أو لم نزل نسمع سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم أن فلاناً ابن فلان.
وقال الشافعية في الأصح: تجوز الشهادة بالتسامع أو الاستفاضة في النسب والموت، والوقف، والنكاح، وملكية الأشياء، فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان، جاز أن يشهد به؛ لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة، وإن استفاض في الناس أن فلاناً مات، جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الموت كثيرة، ويتعذر الاطلاع عليها، وإن استفاض في الناس أن هذه الدار لفلان جاز أن يشهد به؛ لأن أسباب الملك لا تضبط ... وهكذا (1) .
وقال الحنابلة: تصح الشهادة بالاستفاضة في النسب والولادة، والنكاح والموت، والملك، والوقف، والولاية والعزل (2) .
ويشرط التسامع عند الشافعية والحنابلة في الأصح مثلما قال أبو حنيفة: سماع المشهود به من جمع كثير يؤمن تواطؤهم (أي توافقهم) على الكذب بحيث يحصل العلم (أي اليقين) أو الظن القوي بخبرهم. ولا بد من أن يقول الشاهد: أشهد بكذا.
__________
(1) المهذب: 335/2، مغني المحتاج: 448/4 وما بعدها.
(2) المغني: 161/9.
(8/171)
الشهادة على الكتابة: بما أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه الشاهد، فلا يحل للشاهد عند أكثر العلماء أن يشهد بما رآه من خط نفسه، إلا أن يتذكر الشهادة؛ لأن الخط يشبه الخط، والمطلوب في الشهادة العلم بالحادثة، والشيء المشتبه فيه لا يفيد العلم، فإن تذكر القضية أو الشهادة، يشهد حينئذ على ما علم لا على أنه خطه.
وقال أبو يوسف ومحمد وفي رواية عند الحنابلة: يجوز للشاهد أن يشهد بما يجده من خط نفسه (1) .
أنواع ما يتحمله الشاهد:
مايتحمله الشاهد نوعان: أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه. وهو ما يعرف بالسماع المباشر كالبيع والإقرار، أو رؤية الفعل بالذات كالغصب والقتل.
فللشاهد إذا سمع أورأى أن يشهد به، ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني؛ لأنه كذب. ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد؛ لأن النغمة تشبه النغمة.
والثاني: ما لا يثبت حكمه بنفسه: وهو ما لا يوجب الشهادة بنفسه، وإنما بالنقل إلى مجلس القضاء والإنابة في الأداء. فإذا سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجز أن يشهد بنفسه على شهادته إلا أن يشهده على شهادته، ويأمره بأدائها ليكون نائباً عنه. وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته ويأمره بأدائها لم يسع السامع له أن يشهد؛ لأنه لم يحمله الشهادة، وإنما حمل غيره (2) .
فالنوع الثاني إذن يكون بتكليف الشاهد لغيره نقل شهادته أمام القضاء.
__________
(1) فتح القدير: 19/6، اللباب: 59/4، الشرح الكبير للدردير: 193/4، المغني: 160/9.
(2) الكتاب مع اللباب: 58/4 وما بعدها.
(8/172)
المطلب الثالث ـ شروط أداء الشهادة:
يشترط في مذهب الحنفية لجواز أداء الشهادة عند القاضي شروط في الشاهد وفي الشهادة نفسها، وفي مكان الشهادة. وفي إيضاح هذه الشروط نتبين من تقبل شهادته، ومن لا تقبل، وحالة اختلاف الشهود في الشهادة، وصفة العدالة في الشهود.
شروط الشاهد:
يشترط في الشاهد شرائط عامة في كل الشهادات، وشرائط خاصة ببعض أنواع الشهادات.
أما الشرائط العامة فهي ما يأتي (1) :
1 - أهلية العقل والبلوغ: يشترط أن يكون الشاهد عاقلاً بالغاً باتفاق الفقهاء، فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً، مثل المجنون والسكران والطفل؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، ولا تقبل شهادة صبي غير بالغ؛ لأنه لا يتمكن من أداء الشهادة على الوجه المطلوب، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/2] وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] والصبي ممن لا يرضي؛ ولأن الصبي لا يأثم بكتمان الشهادة، فدل على أنه ليس بشاهد.
وأما شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فتجوز عند الإمام مالك في الجراح وفي القتل، خلافاً لجمهور الفقهاء، بشرط أن يتفقوا في الشهادة، وأن يشهدوا قبل تفرقهم، وألا يدخل بينهم كبير (2) .
2 - الحرية: اتفق الحنفية والمالكية والشافعية على أن الشاهد يشترط فيه أن يكون حراً، فلا تقبل شهادة رقيق، لقوله تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} [النحل:75/16] ولأن الشهادة فيها معنى الولاية، وهو لا ولاية له.
__________
(1) البدائع: 267/6 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 451/2، 452، البدائع: 164/6، المرجع السابق، الشرح الكبير للدردير: 165/4، المغني: 164/9، مغني المحتاج: 427/4.
(8/173)
وقال الحنابلة والظاهرية: تقبل شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة، ولأن العبودية ليس لها تأثير في الرد، وقيدها الحنابلة فيما عدا الحدود والقصاص (1) .
3 - الإسلام: اتفق الفقهاء على اشتراط كون الشاهد مسلماً، فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم؛ لأنه متهم في حقه، وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة الكافر في الوصية في السفر، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم} [المائدة:106/5] وأجاز الحنفية خلافاً للجمهور شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض إذا كانوا عدولاً في دينهم، وإن اختلفت مللهم كاليهود والنصارى (2) ، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض» (3) وفي بعض رجاله مقال.
ولا تقبل شهادة الحربي المستأمن على الذمي؛ لأنه لا ولاية له عليه؛ لأن الذمي من أهل ديارنا، وهو أعلى حالاً منه. وتقبل شهادة الذمي على الحربي المستأمن، كما تقبل شهادة المسلم عليه وعلى الذمي. وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة.
4 - البصر: يشترط عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية: أن يكون الشاهد مبصراً، فلا تقبل شهادة الأعمى؛ لأنه لا بد من معرفة المشهود له والإشارة إليه عند الشهادة، ولا يميز الأعمى بين الناس إلا بنغمة الصوت، وفيه شبهة؛ لأن الأصوات تتشابه. وتشدد الحنفية فمنعوا قبول شهادة الأعمى وإن كان بصيراً عند تحمل الشهادة.
__________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 267 وما بعدها، بداية المجتهد: ص 452، الشرح الكبير: 165/4، مغني المحتاج: ص 427، المغني: ص 194.
(2) المراجع السابقة، فتح القدير: 41/6، الكتاب مع اللباب: 63/4، نصب الراية: 85/4، بداية المجتهد: ص 452، مغني المحتاج: ص 427، المغني: ص 182.
(3) أخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب، بعضهم على بعض» وفيه مجالد وفيه مقال (نصب الراية: 85/4) .
(8/174)
وأجاز المالكية والحنابلةوأبو يوسف شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت؛ لعموم الآيات الواردة في الشهادة، ولأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقبلت شهادته كالبصير، ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين، ولهذا أجاز الشافعية شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة. كما أجازوا أن يكون شاهداً في الترجمة؛ لأنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم، وسماعه كسماع البصير (1) .
5 - النطق: اشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أن يكون الشاهد ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس، وإن فهمت إشارته؛ لأن الإشارة لا تعتبر في الشهادات؛ لأنها تتطلب اليقين، وإنما المطلوب التلفظ بالشهادة.
وأجاز المالكية قبول شهادة الأخرس إذا فهمت إشارته؛ لأنها تقوم مقام نطقه في طلاقه ونكاحه وظهاره، فكذلك في شهادته (2) .
6 - العدالة: اتفق العلماء على اشتراط العدالة في الشهود، لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] فلا تقبل شهادة الفاسق كالزاني والشارب والسارق ونحوهم، وكذا مجهول الحال، وروي عن أبي يوسف: أن الفاسق إذا كان وجيهاً في الناس، ذا مروءة، تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لشهادة الزور لوجاهته، ويمتنع عن الكذب لمروءته. وقال جمهور الحنفية: لا تقبل شهادة الفاسق مطلقاً، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه، ويكون القاضي عاصياً.
__________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 268، فتح القدير: ص 27، مغني المحتاج: ص 446، المهذب: 335/2، المغني: ص 189، الشرح الكبير للدردير: 167/4، اللباب: 60/4.
(2) المغني: 110/9، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 168/4.
(8/175)
والعدالة: لغة التوسط، وشرعاً: اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. والحقيقة أن اجتناب الكبائر كلها هو شرط لصحة الشهادة، وبعد توقيها يلاحظ الشأن الغالب، فمن كثرت معاصيه أثَّر ذلك في شهادته، ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته. وهذا هو حد العدالة المعتبرة، حتى لا يترتب على التشدد سد باب الشهادة وإماتة الحقوق.
وضابط عدالة الشاهد في مذهب الشافعية: أن يكون مجتنباً الكبائر، وغير مصر على الصغائر، وسليم السريرة أي العقيدة، ومأموناً عند الغضب، ومحافظاً على مروءة مثله.
واكتفى أبو حنيفة بظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن الشهود، حتى يطعن الخصم بها إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود، وإن لم يطعن فيهم الخصوم، ودليله على الاكتفاء بظاهر العدالة قوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف» (1) ومثله مروي عن عمر رضي الله عنه (2) . وأما دليله على استثناء الحدود والقصاص، فهو أن القاضي يتحايل لإسقاطها عن المتهم، فيشترط فيها استقصاء معرفة حال الشهود؛ ولأنها تدرأ بالشبهات.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه: «إلا محدوداً في فرية» (نصب الراية: 81/4) .
(2) رواه الدارقطني عن أبي المليح الهذلي، وهو في كتاب عمر المشهور إلى أبي موسى الأشعري (نصب الراية، المرجع السابق) .
(8/176)
وقال الصاحبان والفتوى على قولهما: لا بد من أن يسأل القاضي عن الشهود في السر والعلانية في سائر الحقوق؛ لأن القضاء قائم على الحجة، وهي شهادة العدول، فلا بد من التعرف على العدالة، وفي ذلك صيانة للحكم القضائي عن النقض والإبطال بسبب الطعن في عدالة الشهود (1) .
قال المتأخرون من الحنفية: هذا الاختلاف اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان؛ لأن زمن أبي حنيفة كان زمن خير وصلاح؛ لأنه زمن التابعين، وشهد لهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالخيرية، بخلاف زمان الصاحبين، قال عليه الصلاة والسلام: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم إن من بعدهم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولايؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (2) .
وقال فقهاء الحنفية: لا تقبل شهادة مُخنَّث، لفسقه، وهو الذي يفعل الرديء ويؤتى كالنساء. أما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة.
ولا تقبل شهادة نائحة في مصيبة غيرها بأجر، ولا مغنية، ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها، خصوصاً مع الغناء، ولا شهادة مدمن الشرب لهواً، سواء أكان الشراب خمراً أم غيره لحرمة ما ذكر في الإسلام، ولا شهادة من يلعب بالطيور؛ لأنه يورث غفلة، ولأنه قد يطلع على عورات النساء بصعود سطحه ليطير طيره، ولا شهادة من يغني للناس؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة، ولا من يأتي كبيرة موجبة للحد كالزنا والسرقة ونحوها؛ لأنه يفسق، ولا من يدخل الحمام بغير إزار؛ لأن كشف العورة حرام إذا رأى الشخص غيره، ولا من يأكل الربا إذا كان مشهوراً به، ولا المقامر بالنرد (أي الزهر) والشطرنج؛ لأن كل ذلك من الكبائر، لكن الشطرنج عند الشافعي مكروه فقط، وليس كبيرة، إذا لم يكن قماراً.
__________
(1) راجع المبسوط: 113/16، فتح القدير: 12/6 وما بعدها، البدائع: 268/6 وما بعدها، الدر المختار: 388/4، الكتاب مع اللباب: 57/4 وما بعدها، بداية المجتهد: 451/2، مغني المحتاج: 427/4، المغني: 165/9 وما بعدها.
(2) رواه الشيخان وأحمد عن عمران بن حصين (نيل الأوطار: 296/8، سبل السلام: 126/4) .
(8/177)
ولا تقبل شهادة من يفعل الأفعال المستقبحة، كالبول على الطريق والأكل على الطريق؛ لأنه في عرف السابقين تارك للمروءة؛ ومثله لا يمتنع عن الكذب فيتهم. ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف كالصحابة والتابعين لظهور فسقه، بخلاف من يخفيه؛ لأنه فاسق مستور (1) .
واتفق الفقهاء على أن الفاسق إذا تاب من فسقه، تقبل شهادته. واستثنى الحنفية المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته عندهم وإن تاب، خلافاً لبقية الفقهاء. ومنشأ الخلاف هو عود الاستثناء في قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك} [النور:4/24-5] . فقال الحنفية: لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب، لقوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور:4/24] وأما الاستثناء فهو راجع عندهم إلى الجملة الأخيرة وحدها، أي إلى أقرب مذكور إليه.
وقال جمهور الفقهاء: تقبل شهادة المحدود في قذف بعد التوبة؛ لأن الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو يعودإليها جميعاً إلا إذا خصص الحكم
__________
(1) راجع الكتاب مختصر القدوري مع اللباب: 61/4 وما بعدها، فتح القدير: 34/6 وما بعدها.
(8/178)
بالإجماع، وهنا خصص الإجماع أحد الأحكام السابقة عند التوبة وهو أن الحد لا يسقط بالتوبة (1) .
وتقبل شهادة أهل الأهواء، أي أصحاب البدع التي لا تكفر صاحبها مثل الجبرية والقدَرية والرافضة والخوارج والمشبهة والمعطلة.
وكذلك تقبل شهادة الأقلف (غير المختون) إلا إذا تركه استخفافاً بالدين، فلا يكون حينئذ عدلاً، وتقبل شهادة الخصي وولد الزنا إذا كان عدلاً، وشهادة الخنثى ويعتبر كأنثى (2) .
7 - عدم التهمة: أجمع الفقهاء على أن التهمة ترد بها الشهادة. والتهمة: أن يجلب الشاهد إلى المشهود له نفعاً أو يدفع عنه ضرراً، فلا تجوز شهادة الوالد لولده وولد ولده ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده، ولا شهادة الخصم لخصمه. والخصم: كل من خاصم في حق، فلا تقبل شهادة الوكيل لموكله، ولا الموصى له للميت أو الموصى عليه: وهو اليتيم في حجره ورعايته، ولا الشريك لشريكه في أمور الشركة؛ لأنها شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما في الشركة. فلو شهد الشريك بما ليس من شركتهما تقبل شهادته لانتفاء التهمة، وأجاز المالكية شهادة الشريك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين» (3) وقوله عليه الصلاة
__________
(1) مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 131/3، وراجع بداية المجتهد: 452/2، فتح القدير: المرجع السابق: ص 29، البدائع، المرجع نفسه: ص 271، مغني المحتاج: 438/4، المغني، المرجع نفسه: ص 197 وما بعدها، المهذب: 330/2 وما بعدها.
(2) الكتاب مع اللباب: 63/4 ومابعدها.
(3) أخرجه مالك في الموطأ موقوفاً على عمر، وهو منقطع، ورواه أبو داود في المراسيل عن طلحة بن عبد الله بن عوف، ورواه أيضاً البيهقي من طريق الأعرج مرسلاً، ورواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وفي إسناده نظر (نيل الأوطار: 291/8) .
(8/179)
والسلام: «لا تقبل شهادة بدوي على حضري» (1) .
ولا تقبل شهادة العدو على عدوه بالاتفاق حتى عند الحنفية؛ لأن العداوة تورث التهمة، ولا يؤمن التقول فيها، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجوز شهادة الخائن، ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت، والقانع: الذي ينفق على أهل البيت» (2) والمراد بالعدو الذي ترد شهادته: هو صاحب العداوة الدنيوية، وهو من يبغض المشهود عليه بحيث يتمنى زوال نعمته، ويحزن بسروره، ويفرح بمصيبته.
واتفقوا على جواز شهادة الأخ والعم والخال ونحوهم بعضهم لبعض، لانعدام التهمة؛ لأن مال كل واحد منهم مستقل عن الآخر عرفاً وعادة، فكانوا كالأجانب.
واختلفوا في شهادة أحد الزوجين للآخر، فردها جمهور الفقهاء؛ لأن كل واحد منهما يرث الآخر، وينتفع بماله عادة، فينتفع بشهادته لصاحبه.
وأجاز الشافعية قبولها؛ لأن الحاصل بين الزوجين عقد يطرأ ويزول فلا يمنع قبول الشهادة، كما لو شهد الأجير للمستأجر وعكسه.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» (انظر نيل الأوطار: 291/8، سبل السلام: 129/4، الإلمام: ص 520) والبدوي: من سكن البادية، نَسَب على غير قياس النسبة، والقياس بادوي، والقرية: المصر الجامع.
(2) رواه أبو داود وأحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن دقيق العيد وابن ماجه بإسناد حسن، قال ابن حجر في التلخيص: وسنده قوي. وروايته من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقوله «ذو الغمر» : أي صاحب الشحناء والحقد، والغمر بكسر الغين وسكون الميم، وقال صاحب سبل السلام: بفتح الغين وفتح الميم وكسرها، والقانع: هو الخادم المنقطع إلى الخدمة، فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع لنفسه كالأجير الخاص (نصب الراية: 83/4، نيل الأوطار: 291/8، سبل السلام: 128/4، الإلمام: ص 519) .
(8/180)
وتقبل شهادة الصديق لصديقه باتفاق الفقهاء، والصديق: من صدق في ودادك، بأن يسرَّه ما يسرك، ويضره ما يضرك، ويهمه مايهمك. وقبول شهادته، لضعف التهمة بالنسبة إليه، بعكس شهادة الأصل للفرع، وبالعكس ونحوهما (1) .
وأما الشرائط الخاصة ببعض الشهادات دون بعض، فأهمها مايأتي:
1 - العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال، لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وذلك في الحقوق المدنية، مالاً كان الحق، أو غير مال، مثل النكاح والطلاق والعدة والحوالة، والوقف، والصلح، والوكالة، والوصية، والهبة، والإقرار، والإبراء، والولادة، والنسب، فهذه الحقوق تثبت عند الحنفية بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقبول شهادة المرأة هنا لتوافر أهلية الشهادة عندها: وهي الشهادة والضبط والأداء. والسبب في جعل المرأتين في مقام رجل في الشهادة: هو نقصان الضبط بسبب زيادة النسيان، كما في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282/2] (2) .
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة؛ لأن الأصل عدم قبول شهادة النساء لغلبة العاطفة عليهن، واختلال ضبط الأمور، وقصور
__________
(1) راجع المبسوط: 120/16 ومابعدها، البدائع: 272/6، فتح القدير: 31/6 وما بعدها، الدر المختار: 392/4 ومابعدها، اللباب: 60/4 وما بعدها، بداية المجتهد: 452/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 168/4 وما بعدها، المهذب: 329/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 433/4 وما بعدها، المغني: 185/9، 191.
(2) فتح القدير: 7/6، البدائع: 277/6، الكتاب مع اللباب: 55/4 ومابعدها.
(8/181)
الولاية على الأشياء. أما ما ليس بمال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والوكالة وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا، فلا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، لقوله تعالى في الرجعة: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] ولما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (1) وعن الزهري أنه قال: «جرت السنة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود والدماء» (2) قال الشافعية: فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود، وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال (3) .
وفي حد الزنا: أجمع العلماء على أنه لا يثبت بأقل من أربعة شهود رجال عدول أحرار مسلمين، لقوله تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بالشهداء، فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور:13/24] وقوله سبحانه: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15/4] وقوله عز وجل: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4/24] .وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة شهود، وإلا حد في ظهرك» (4) .
__________
(1) أخرجه البيهقي وابن حبان والطبراني في الأوسط عن عمران بن حصين وعائشة وأبي هريرة وجابر وغيرهم، وذكر السيوطي تصحيحه (الجامع الصغير: 204/2، نصب الراية: 167/3، مجمع الزوائد: 286/4) .
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن الزهري، وأخرجه عبد الرزاق عن علي، قال: «لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء» (نصب الراية: 79/4) .
(3) المهذب: 333/2، بداية المجتهد: 454/2، المغني: 149/9 ومابعدها، الطرق الحكمية: ص 152 وما بعدها.
(4) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس بن مالك، وأخرجه البخاري عن ابن عباس بلفظ: «البينة وإلا حد في ظهرك» (نصب الراية: 306/3) .
(8/182)
وفي سائر الحدود الأخرى والقصاص اتفق الجمهور على أنها تثبت بشهادة رجلين لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/2] ولا تقبل فيها شهادة النساء لا مع رجل، ولا مفردات.
وقال الظاهرية: تقبل شهادة النساء مع رجل في الحدود إذا كان النساء أكثر من واحدة، عملاً بظاهر الآية: {فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] .
وأما مالايطلع عليه إلا النساء، فتقبل فيه شهادة النساء، لما روي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة» (1) ولما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري، قال: «مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، من ولادات النساء وعيوبهن» (2) .
واختلف في تحديد تلك الحالات، فقال الحنفية: تقبل شهادة النساء في الولادة والبكارة وعيوب النساء في موضع لا يطلع عليه الرجال، ولا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع؛ لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال، ولا تقبل شهادتهن عند أبي حنيفة على استهلال الصبي بالنسبة للإرث؛ لأن الاستهلال صوت الصبي عند الولادة، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا تكون شهادتهن فيه حجة، لكن تقبل شهادتهن في صلاة الجنازة على المولود؛ لأن الصلاة من أمور الدين، وشهادتهن فيها حجة كشهادتهن على هلال رمضان.
__________
(1) رواه الدارقطني في سننه عن حذيفة بن اليمان، وفيه رجل مجهول، ورواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه، وقال في التنقيح: هو حديث باطل لا أصل له (راجع نصب الراية: 80/4، مجمع الزوائد: 201/4) .
(2) ورواه ابن أبي شيبة أيضاً (نصب الراية: 80/4) .
(8/183)
وقال الصاحبان: تقبل شهادتهن على الاستهلال بالنسبة للإرث أيضاً؛ لأن الاستهلال صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار كشهادتهن على نفس الولادة. وهو الرأي الأرجح عند الكمال بن الهمام صاحب فتح القدير.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: تقبل شهادة النساء منفردات فيما لا يراه رجال غالباً كبكارة وثيوبة وولادة وحيض ورضاع واستهلال ولد، وعيوب نساء تحت الثياب، كجراحة ورتَق وقرَن وبرص وانقضاء عدة، ودليلهم خبر الزهري السابق ذكره، ويقاس ما لم يذكر في الخبر على ما ذكر فيه مما شاركه في الضابط المذكور من ولادة وعيوب النساء.
واختلفوا في العدد المشترط في شهادة النساء منفردات: فقال الحنفية والحنبلية: تقبل شهادة امرأة واحدة عدل (1) . وقال المالكية: يكفي امرأتان. وقال الشافعية: ليس يكفي أقل من أربع نسوة؛ لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشتراط الاثنينية (2) .
2 - الاتفاق في الشهادتين عند التعدد: يشترط اتفاق الشهادتين (3) فيما
__________
(1) لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة، رواه الدارقطني عن حذيفة، وروى أبو الخطاب عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة» روى أحمد والطبراني في الكبير عن ابن عمر «أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال، أو أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ما الذي يجوز في الرضاع من الشهود؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: رجل أو امرأة، وفي رواية: «رجل وامرأة» وفيه ضعيف ولكن له مؤيد في أن شهادة المرضعة وحدها تقبل (راجع سبل السلام: /218، مجمع الزوائد: 201/4) .
(2) راجع لكل ما ذكر: المبسوط: 112/16، فتح القدير: 6/6 وما بعدها، البدائع: 277/6، 279، الدر المختار: 386/4 وما بعدها، اللباب: 55/4 وما بعدها، بداية المجتهد: 453/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 185/4، المهذب: 332/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 441/4 وما بعدها، المغني: 147/9 وما بعدها، 155، المحلى لابن حزم: 483/9، الطرق الحكمية: ص 129.
(3) يشترط عند أبي حنيفة اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى معاً، ويكتفى عند الصاحبين بالموافقة المعنوية (الكتاب مع اللباب: 65/4) .
(8/184)
يطلب فيه العدد، فإن اختلفت الشهادة لم تقبل؛ لأن اختلاف الشهادتين مثلاً يوجب اختلاف الدعوى. والاختلاف يكون في جنس المشهود به، وفي قدره، وفي الزمان والمكان ونحوها.
أما الاختلاف في الجنس فقد يكون في العقد كأن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالميراث أو بالهبة، وقد يكون في المال كأن يشهد أحدهما بمكيل والآخر بموزون فلا تقبل الشهادة، لاختلاف العقدين، أولاختلاف الجنسين.
وأما الاختلاف في القدر: فهوأن يدعي رجل على آخر ألفي درهم، ويثبت ادعاءه بالبينة، فيشهد له شاهد بألفين، والآخر بألف، فلا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنه يشترط اتفاق الشاهدين باللفظ والمعنى، وهنا اختلف الشاهدان لفظاً؛ لأن أحدهما مفرد، والآخر مثنى، واختلاف الألفاظ إفراداً وتثنية يدل على اختلاف المعاني الدالة عليها، فكان كلام كل منهما مبايناً لكلام الآخر، فصار كما إذا اختلف جنس المال، وهذا هو الصحيح.
وتقبل هذه الشهادة عند الصاحبين على ألف درهم؛ لأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالزيادة، فيثبت الحق فيما اتفقا عليه دون ما تفرد به أحدهما.
وهذا الاختلاف يجري فيما إذا شهد أحد الشاهدين على طلقة، والآخر على طلقتين أو ثلاث، لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وتقبل على الأقل عند الصاحبين.
(8/185)
واتفق أبو حنيفة مع صاحبيه على أنه إذا كان المدعي يدعي ألفاً وخمس مئة، فشهد أحد الشاهدين على الألف، والآخر على ألف وخمس مئة، تقبل الشهادة على الألف، لاتفاق الشاهدين عليها لفظاً ومعنى؛ لأن الألف والخمس مئة جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف يقرر المعطوف عليه ويؤكده، بخلاف الألف والألفين، فليس بينهما حرف العطف.
وأما الاختلاف في الزمان والمكان: فإن كان الاختلاف في الإقرار فتقبل الشهادة؛ لأن الإقرار يحتمل التكرار، فيمكن التوفيق بين الشهادتين بسماع الإقرار في زمانين أو مكانين.
وإن كان الاختلاف في الفعل كالقتل والغصب وإنشاء البيع والطلاق والنكاح ونحوها، فإنه يمنع قبول الشهادة، لاختلافها؛ لأن الأفعال لا تحتمل التكرار، فاختلاف الزمان والمكان فيها يوجب اختلاف الشهادتين، فما لم يوجد على كل حالة شاهدان لا يقبل. فلو شهد شاهدان أن زيداً قتل يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة، لم تقبل الشهادتان للتيقن بكذب إحداهما.
ولو ادعى رجل على آخر قرض ألف درهم، فشهد شاهدان: أحدهما على القرض، والآخر على القرض والقضاء، أي أنه أدى الدين، يقضى بشهادتهما على القرض، ولا يقضى بالأداء في ظاهر الرواية؛ لأن الشهادتين اتفقتا على القرض، فيقضى به، واختلفا في الأداء، فلا يقضى به (1) .
__________
(1) البدائع: 278/6 ومابعدها، فتح القدير: 52/6 وما بعدها، مختصر القدوري مع اللباب: 65/4 وما بعدها، الدر المختار: 405/4 وما بعدها.
(8/186)
شروط في الشهادة نفسها:
يشترط في الشهادة شروط منها:
1 - لفظ الشهادة: ينبغي أن يذكر الشاهد لفظة الشهادة، فإن قال الشاهد: أعلم أو أتيقن، لم تقبل شهادته في تلك الحادثة.
2 - أن تكون الشهادة موافقه للدعوى: فإن خالفتها لا تقبل، إلا إذا وفق المدعي بين الدعوى وبين الشهادة عند إمكان التوفيق (1) .
وتجوز الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي لا تسقط بالشبهة، لشدة الحاجة إليها؛ إذ قد يعجز الأصل عن أداء الشهادة لعذر من الأعذار، فلو لم تجز الشهادة على شهادته، أدى إلى ضياع الحقوق. ولا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود والقصاص، وإنما تشترط فيها الأصالة؛ لأنها تسقط بالشبهة كما عرفنا.
وتجوز في الشهادة على الشهادة شهادة شاهدين على شهادة شاهدين؛ لأن نقل الشهادة من جملة الحقوق، وقد شهدا بحق، ثم بحق آخر، فتقبل؛ لأن شهادة الشهادتين على حقين جائزة.
ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد؛ لأن شهادة الفرد لا تثبت الحق.
وصفة الإشهاد في الشهادة على الشهادة: أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان ابن فلان أقر عندي بكذا، وأشهدني على نفسه؛ لأنه لا بد أن يشهد شاهد الأصل عند الفرع كما يشهد القاضي لينقله إلى مجلس القضاء.
وإن لم يقل العبارة الأخيرة السابقة وهي «أشهدني على نفسه» جاز ذلك؛ لأن من سمع إقرار غيره، حل له الشهادة، وإن لم يقل له: اشهد.
ويقول شاهد الفرع عند الأداء لما تحمله: أشهد أن فلاناً أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلاناً أقر عنده بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك؛ لأنه لا بد من شهادة الفرع، وذكر شهادة الأصل، وذكر تحميله الشهادة.
وقال في الدر المختار: الأقصر أن يقول الأصل: اشهد على شهادتي بكذا، ويقول الفرع: أشهد على شهادته بكذا. وهذا ما أفتى به السرخسي وغيره، وابن الكمال، وهو الأصح.
ولا تقبل شهادة الفرع إلا أن يتعذر حضور شهود الأصل، كأن يموت شهود الأصل عند الأداء، أو يغيبوا مسيرة سفر ثلاثة أيام فصاعداً، أو يمرضوا مرضاً قوياً بحيث لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم؛ لأن جواز هذه الشهادة للحاجة، وإما تمس الحاجة عند عجز الأصل، وبهذه الأشياء يتحقق العجز.
__________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 273، فتح القدير: ص 10، اللباب: 64/4.
(8/187)
وتقبل تزكية شهود الأصل بشهود الفرع؛ لأن الفروع من أهل التزكية، فصح تعديلهم، فإن لم يزكوهم نظر القاضي في رأي أبي يوسف في حال شهود الأصل، كما لو حضروا بأنفسهم وشهدوا. وهذا هو الرأي الأصح وظاهر الرواية. وقال محمد: لا تقبل تزكية الأصول بالفروع؛ لأنهم ينقلون الشهادة، ولا شهادة بدون العدالة.
وإن أنكر شهود الأصل الشهادة بأن قالوا: ما لنا شهادة على هذه الحادثة، وماتوا أو غابوا، ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم، أو أنكر شهود الأصل تحميل الشهادة لغيرهم بأن قالوا: لم نشهدهم على شهادتنا، وماتوا أوغابوا، لم تقبل شهادة شهود الفرع؛ لأن التحميل شرط، ولم يتوافر ذلك بسبب تعارض الخبرين (1) .
شرط مكان الشهادة:
يشترط أن تكون الشهادة في مجلس القضاء (2) .
__________
(1) راجع الكتاب مع اللباب: 68/4-70، تبيين الحقائق: 237/4 وما بعدها.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 379.
(8/188)
المطلب الرابع ـ حكم الرجوع عن الشهادة:
الرجوع عن الشهادة: أن يقول الشاهد: رجعت عما شهدت به، ونحوه، فلو أنكر شهادته بعد القضاء لا يكون رجوعاً، ولا يصح الرجوع إلا في مجلس القضاء؛ لأنه فسخ للشهادة، فيكون في المكان الذي تعتبر فيه الشهادة، وهو المحكمة، ولأن الرجوع توبة، والتوبة تكون بحسب الجناية: السر بالسر، والعلانية بالعلانية (1) ، أي إذا كان الذنب سراً فالتوبة سرية، وإن كان علانية فالتوبة علانية.
وإذا لم يصح الرجوع عن الشهادة في غير المحكمة: فلو ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين أو أراد يمينهما أنهما لم يرجعا، لا يحلفان، وكذا لو أقام المشهود عليه بينة على هذا الرجوع، لا تقبل؛ لأنه ادعى رجوعاً باطلاً؛ إذ أنه في غير المحكمة، وإقامة البينة وإلزام اليمين لا تقبل إلا على دعوى صحيحة، بدليل أنه لو أقام البينة أن الشاهد رجع عند قاضي بلدة كذا، وحكم عليه بضمان المال، تقبل بينته.
وكذلك لا يصح الرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم من القاضي، وإذا رجع الشهود حينئذ، لم ينتقص الحكم الذي حكم بشهادتهما فيه، ولا يفسخه القاضي باتفاق العلماء، وإذا رجع الشهود قبل صدور الحكم، لم يحكم القاضي بشهادتهما، ويصح رجوعهما حينئذ؛ لأن الشهادة إخبار يحتمل الغلط.
ويترتب على الرجوع عن الشهادة بعد الحكم: أن الشهود يلتزمون بضمان الغرم أو التلف الذي تسببوا في إلحاقه بالمشهود عليه من مال أو دية باتفاق المذاهب الأربعة على الراجح عند بعضهم، لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، فهم قد أخرجوا المال من يد المشهود عليه بغير حق، ويوزع الضمان بينهم، ولا ضمان عليهم إذا كان المشهود عليه قد استوفى عوضاً عما أتلف عليه. وإذا كانت الشهادة على حد زنا مثلاً، ثم رجع الشهود كلهم أو بعضهم، فيقام عليهم حد القذف (2) . وتطبيقات هذه القاعدة تعرف عند الحنفية في المسائل الآتية (3) :
ـ إذا شهد شاهدان على رجل بمال، وقضى القاضي به، وسلم المدعى عليه المال إلى المدعي، ثم رجع الشاهدان: ضمنا المال بينهما نصفين. ولو رجع أحدهما، غرم نصف المال، وبقي النصف الآخر ببقاء شاهد. ودليل الضمان أن الشاهدين تسببا بإتلاف مال المشهود عليه تعدياً، والتسبب سبب الضمان.
__________
(1) هذا بعض حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، فقال: أوصني، فقال: عليك بتقوى الله تعالى ما استطعت. إلى أن قال: «وإذا عملت شراً، فأحدث توبة: السر بالسر، والعلانية بالعلانية» (فتح القدير: 87/6) .
(2) المبسوط: 177/16، 2/17، 8، 16، فتح القدير: 85/6 وما بعدها، البدائع: 283/6 وما بعدها، الدر المختار: 412/4 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 72/4 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 359 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 207/4، مغني المحتاج: 456/4 وما بعدها، المهذب: 340/2، المغني: 248/9 وما بعدها.
(3) مراجع الحنفية السابقة.
(8/189)
ـ لو كان الشهود أربعة، فرجع اثنان أو واحد منهم: فلا ضمان عليه، لبقاء المال للمشهود له ببقاء الشاهدين. ولو رجع منهم ثلاثة يلزمهم نصف المال المشهود عليه، لبقاء النصف، أي أنه ببقاء أحدهما يبقى نصف الحق عند الحنفية والشافعية. وأما عند الحنابلة: فيغرم الشاهد الذي رجع بقدر نسبته إلى عدد الشهود، فإن كانوا ثلاثة فرجع واحد، فعليه الثلث، وإن كانوا عشرة فعليه العشر.
ـ وإن شهد رجل وامرأتان على مال، فرجعت امرأة: غرمت ربع المال، ولو رجعتا غرمتا نصف المال، لبقاء نصف الحق ببقاء رجل، ومن المعلوم أن المرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادات. وكذا يغرم الرجل نصف المال، إن رجع وبقيت المرأتان.
ـ ولو شهد رجل واحد، وعشر نسوة، على مال، ثم رجعوا جميعاً بعد صدور الحكم، فالضمان بينهم عند أبي حنيفة أسداساً، على الرجل سدس المال بحسب نسبته إلى عدد النسوة، وعلى النساء خمسة أسداس؛ لأن كل امرأتين بمنزلة رجل واحد في الشهادة.
وقال الصاحبان: الضمان بينهما مناصفة، على الرجل النصف، وعلى النساء النصف؛ لأن النساء، وإن كثرن، لهن شطر الشهادة فقط.
ـ لو شهد اثنان على بائع ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر، وقضى القاضي به، ثم رجعا، لم يضمنا للمشهود عليه شيئاً، لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف بعوض قبضه بديلاً عن المبيع، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، وإن شهد الاثنان بأقل من قيمة المثل، ضمنا الجزء الناقص، لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض.
(8/190)
ـ وكذا لو شهد اثنان على رجل أنه تزوج امرأة بمقدار مهر مثلهما، ثم رجعا: فلا ضمان عليهما، ولا يفسخ النكاح برجوعهما؛ لأن منافع البضع (أي محل الاستمتاع بالمرأة) غير متقومة عند الإتلاف، بعكس الأعيان المالية، وبما أن المنافع لاتتقوم فلا تضمن؛ لأن التضمين يتطلب المماثلة بين العوض والمعوض عنه، ولا مماثلة بين الأعيان التي تحرز وتتمول، وبين الأعراض التي تزول ولا تبقى، وإنما تتقوم منافع البضع على الزوج عند الدخول بالمرأة إظهاراً لخطورة محل الاستمتاع فقط، وحينئذ تعتبر شهادة الشاهدين مؤدية إلى إتلاف بعوض، وهو أن الشاهدين أثبتا للزوج البضع بمقابلة المال، والإتلاف بعوض لا يعد إتلافاً، كما ذكر، وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا، ضمنا الزيادة؛ لأنهما أتلفا الزيادة من غير عوض.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل: أنه طلق امرأته ثلاثاً، وقد دخل بها وأقر الزوج بالدخول، وقضى القاضي بالفرقة، ثم رجع الشاهدان: لم يضمنا، إلا ما زاد على مهر المثل؛ لأنه بقدر مهر المثل إتلاف بعوض، وهو استيفاء منافع البضع، وإذا لم ننظر إلى معنى المعاوضة في الزواج، فلا ضمان أيضاً؛ لأن المهر يجب بنفس العقد عند الحنفية، ويتأكد بالدخول، لا بشهادة الشهود، فلم يترتب على الشهادة إتلاف، فلم يجب الضمان.
وإن كان الطلاق قبل الدخول، فقضى القاضي بنصف المهر إذا كان المهر مسمى في العقد، أو بالمتعة إذا لم يكن المهر مسمى، ثم رجع الشاهدان، فإنهما يضمنان للزوج نصف المهر في الحالة الأولى، والمتعة في الحالة الثانية؛ لأن شهادتهما أدت إلى إتلاف شيء على الزوج دون أن يحصل في مقابله على عوض. ولا يقال: إن الحكم الصادر من القاضي أمر لا بد منه؛ لأن هذا هو حكم المهر أو المتعة قبل الدخول. لا يقال ذلك؛ لأنه بشهادة الشاهدين على الطلاق، تأكد الواجب في ذمة الزوج، فلم يعد محتملاً للسقوط بأن تحدث الفرقة من قبل المرأة.
(8/191)
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل بإجارة داره سنة، والمستأجر ينكر، وقضى القاضي بالإيجار، ثم رجعا بعد استيفاء منفعة السكنى، فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل؛ لأنه بقدر أجر المثل حصل العوض، والباقي بغير عوض، فتكون شهادتهما مؤدية إلى إتلاف على المستأجر بقدر الباقي وهو الزيادة.
ـ ولو شهد اثنان على رجل أنه قال لامرأته: «إن دخلت الدار فأنت طالق» وشهد اثنان آخران بالدخول، ثم رجعوا بعد أن قضى القاضي بالفرقة، ضمن الشاهدان الأولان؛ لأن هذه شهادة على الطلاق، وهو إتلاف بغير عوض، فيضمنان؛ لأن الطلاق علة الحكم، ولا يجب على شهود الدخول شيء؛ لأن الدخول شرط. ـ ولو شهد اثنان على رجل بسرقة نصاب (وهو عشرة دراهم عند الحنفية) فقضى القاضي بعد ادعاء المالك المسروق منه بقطع اليد، وقطعت يده، ثم رجع الشاهدان، يغرمان دية اليد.
ـ وكذلك لو شهد اثنان على رجل أنه قتل فلاناً خطأ، أو جرحه خطأ، وقضى القاضي بالعقوبة، ثم رجعا، ضمنا الدية؛ لأنهما أتلفاها عليه، وتكون في مالهما؛ لأن الشهادة منهما بمنزلة الإقرار منهما بالإتلاف، والعاقلة (أي عصبة القاتل) لاتعقل بالإقرار بالقتل.
ـ ولوشهد رجلان على آخر أنه قتل فلاناً عمداً، فقضى القاضي بالقصاص، واقتص منه أي قتل، ثم رجعا، لا يقتص منهما عند الحنفية، وهو ظاهر المدونة لمالك وقول ابن القاسم، وإنما يضمنان الدية في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف. والدليل على أنه لا يقتص منهما هو أنهما لم يباشرا القتل، بل ولم يوجد منهما ـ في تقدير الحنفية ـ تسبب بالقتل؛ لأن التسبب: ما يفضي إلى ما تسبب فيه غالباً، والشهادة لا تفضي إلى القتل
(8/192)
غالباً، وإن أفضت إلى القضاء به، وإنما كثيراً ما يقضى بالقتل، ثم يتوسط الناس في الصلح على الدية (1) .
وقال الشافعية والحنابلة وأكثر أصحاب مالك (2) : إذا رجع الشهود، وقد نفذ القصاص أو قتل الردة، أو رجم الزنا، أو الجلد أو القطع ومات المجلود أو المقطوع، وقال الشهود: تعمدنا الشهادة، فيقتص منهم، أو يلزمون بدية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم، لتسببهم في إهلاك المشهود عليه، وقتلهم نفساً بغير شبهة، ولما روى الشعبي: أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق، فقطعه، ثم أتياه برجل آخر، فقالا: إنا أخطأنا بالأول، وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر، وضمنها دية الأول، وقال: «لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما» .
وإن قال الشاهدان اللذان رجعا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة في أموالهما عند الحنابلة، لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف، وعند الشافعية: عليهما نصف الدية، وعلى القاضي النصف الآخر، توزيعاً للدية على من باشر القتل ومن تسبب فيه.
ـ ولو شهد أربعة على رجل بالزنا، وشهد آخران عليه بأنه محصن، ثم رجعوا بعد إقامة الرجم: فضمان الدية على شهود الزنا، ولا يجب شيء على شهود الإحصان؛ لأن الزنا علة الحكم، والإحصان شرط، والحكم يضاف إلى العلة أو السبب لا إلى الشرط.
وأما بالنسبة لحد القذف: فإن رجع جميع الشهود يحدون حد القذف، سواء رجعوا بعد القضاء بالرجم أو قبل القضاء.
وإن رجع أحد الشهود بالزنا بعد الرجم: فإنه يحد حد القذف،؛ لأن شهادته صارت قذفاً بإقراره، ويغرم ربع الدية، ويتحمل ثلاثة أرباع الدية الباقية الشهود الثلاثة الآخرون.
__________
(1) فتح القدير: 95/6 وما بعدها، البدائع: 285/6، الشرح الكبير: 207/4.
(2) مغني المحتاج: 457/4، المهذب: 340/2، المغني: 247/9.
(8/193)
وإن رجع واحد من الشهود بعد قضاء الحاكم بالرجم وقبل إقامة الحد، فإنهم يحدون جميعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن رجوعه قبل إقامة الحد بمنزلة رجوعه قبل القضاء بالحد. وعند محمد: يحد الراجع وحده استحساناً؛ لأن كلام الشهود اعتبر شهادة بدليل القضاء بموجبه، فلا ينقلب قذفاً إلا بالرجوع، ولم يرجع واحد منهم، فينقلب كلامه خاصة قذفاً، فلم يؤثر بالنسبة للباقين، فيظل كلامهم شهادة.
واتفق أئمة الحنفية ما عدا زفر على أنه إذا رجع أحد الشهود قبل القضاء بالرجم، فإن الشهود جميعاً يحدون حد القذف؛ لأن كلامهم لا يعتبر شهادة بالزنا إلا بقرينة القضاء به (1) .
أما أثر الرجوع عن الشهادة في حكم القاضي: فإن رجع الشهود قبل الحكم، امتنع على القاضي الحكم بشهادتهم، وإن رجعوا عن شهادة في زنى، حدّوا حد القذف. وإن رجعوا بعد إصدار الحكم، فإن كان قبل استيفاء الحق المالي لم يستوف من المقضي عليه، وإن كان عقوبة لم تستوف من المتهم.
وإن رجعوا بعد استيفاء الحق لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر وتوفير الثقة بأحكام القضاة، واتصاف الشهود بالفسق، والفاسق لا ينقض الحكم بقوله، فإن كان المقضي به مالاً، غَرِم الشهود المال المستوفى من المحكوم عليه؛ لتسببهم في تغريمه، وإن كان المقضي به قصاصاً، اقتص منهم عند جماعة، ووجب عليهم الدية المغلظة عند جماعة أخرى كما تقدم. وإن كان المقضي به حداً عزِّروا، وإن شهدوا بطلاق وفرّق القاضي بين الزوجين، وجب عليهم عند الشافعي مهر المثل للزوج، لأنه بدل ما فوتوه عليه، وعليهم عند الحنفية الزائد عن مهر المثل كما تقدم، ولا ضمان عليه عند الحنابلة (2) .
__________
(1) راجع البدائع: 289/6.
(2) المغني: 250/9.
(8/194)
المطلب الخامس ـ عقوبة شاهد الزور:
إذا أقر الشاهد أنه شهد زوراً، فقال أبو حنيفة: يشهَّر به في الأسواق إن كان سوقياً، أو بين قومه إن كان غير سوقي، وذلك بعد صلاة العصر في مكان تجمع الناس. ولا يعزر بالضرب، أو بالحبس؛ لأن المقصود هو التوصل إلى الانزجار، وهو يحصل بالتشهير، بل ربما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيكتفى به. وقال الصاحبان: نوجعه ضرباً، ونحبسه، حتى يتوب (1) .
ويوافق الشافعية رأي الصاحبين (2) ، قالوا: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر، بدليل ما روى خُرَيم بن فاتك قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلا ة الصبح، فلما انصرف، قام قائماً، ثم قال: عُدِّلت شهادة الزور بالإشراك بالله، ثلاث مرات (3) ، ثم تلا قوله عز وجل: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} [الحج:30/22] . وإذا ثبت أنه شاهد زور، ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو بالحبس أو الزجر، فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في سوق ومصلاه وقبيلته، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه، فعل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس» (4) وشدد المالكية والحنابلة على شاهد الزور فقالوا: يعزر بالسجن والضرب ويطاف به في المجالس (5) .
المطلب السادس ـ القضاء بشهادة غير المسلمين:
شهادة غير المسلمين إما على بعضهم بعضاً، وإما على المسلمين (6) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 241/4، الكتاب مع اللباب: 70/4 وما بعدها.
(2) المهذب: 328/2 وما بعدها.
(3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن خريم بن فاتك بلفظ «عدت شهادة الزور والإشراك بالله، ثلاث مرات..إلخ» (الترغيب والترهيب: 221/3 وما بعدها) .
(4) رواه ابن أبي الدنيا وابن عدي والطبراني والخطيب عن معاوية بن حَيْدة بلفظ: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وهو لا يصح (كشف الخفا: 114/1، 242/2) .
(5) القوانين الفقهية لابن جزي: ص 309، المحرر في الفقه الحنبلي لأبي البركات: 355/2.
(6) المراجع السابقة في شروطهم الشهادة، بداية المجتهد: 452/2، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم: ص 176-193، ط السنة المحمدية، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين السايس وشلتوت: ص 131-137.
(8/195)
أولاً ـ شهادة غير المسلمين على بعضهم:
للفقهاء رأيان في قبول شهادة الكفار على بعضهم:
1 ً - قال الحنفية: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض، بدليل الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران:75/3] فأخبر أن منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، ولا ريب أن الشهادة تعتمد على صفة الأمانة.
وقوله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال:73/8] فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضاً، والولاية أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبه بها.
وأما السنة: فما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ائتوني بأربعة منكم يشهدون، قالوا: وكيف؟ الحديث» والذي في الصحيح: «مُرَّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيهودي قد حُمِّم (1) ، فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: زنى، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ ..الحديث» فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما وإقرارهما.
وقد جاء في القصة أنه صلّى الله عليه وسلم قال لليهود: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه» فقد قبل النبي شهادتهم على الفعل وحكم بناء عليها.
وأما المعقول: فهو أن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات وعقود المعاوضات وغيرها، وتقع بينهم الجنايات، ولا يحضرهم غالباً
__________
(1) التحميم: تسخيم الوجه بالفحم.
(8/196)
مسلم، فلو لم تقبل شهادتهم عند ترافعهم وتحاكمهم إلينا، لأدى ذلك إلى تظالمهم وضياع حقوقهم. وللواحد منهم أن يزوج ابنته وأخته، ويلي مال ولده، وقد أجاز الله شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة، وحاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم.
والكافر قد يكون عدلاً في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه. وقد أباح الله معاملتهم، وأكل طعامهم، وحِلَّ نسائهم، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعاً، فإذا جاز لنا الاعتماد على خبرهم في أمر الحلال والحرام، فلأن نرجع إلى أخبارهم في معاملاتهم أولى وأحرى.
وأما رفض قبول شهادة الحربي على الذمي أو على الحربي من دار أخرى، فلانقطاع الولاية بينهما.
2 ً - وقال الجمهور غير الحنفية: لا تقبل شهادة غير المسلمين مطلقاً، سواء اختلفت مللهم أم اتفقت. ونقل ابن القيم عن مالك: أنه تجوز شهادة الطبيب الكافر حتى على المسلم للحاجة. واستدلوا بأوجه هي:
الأول ـ اشترط الله تعالى العدالة لقبول الشهادة في قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] وغير المسلم ليس بعدل، واشترط أن يكون الشهود من المسلمين، في قوله: {منكم} [الطلاق:2/65] وفي قوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/2] وآيات كثيرة أخرى. وغير المسلم ليس منا ولا من رجالنا ولا من المرضيين عندنا. الثاني ـ إن الله تعالى وصف الكفار بالكذب على الله وبالفسق، ولا شهادة لكاذب ولا فاسق، ومن كذب على الله، فهوأولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقرب، كما قال الشافعي.
الثالث ـ إن قبول شهادتهم يؤدي إلى إلزام القاضي بشهادتهم، ولا يجوز أن يلزم المسلم بشهادة الكافر.
الرابع ـ إن في قبول شهادتهم إكراماً لهم، ورفعاً لمنزلتهم وقدرهم، ورذيلة الكفر تحول دون إكرامهم.
والراجح لدي رأي الحنفية لقوة أدلتهم، ولأن الله لم يمنع قبول قول الكفار على المسلمين للحاجة، بنص القرآن، ولم يمنع ولاية بعضهم على بعض، والقاضي ملزم بالقضاء الحق عند ظهور الحجة الصادقة، وأما وصفهم بالكذب والفسق فهو بسبب ذات العقيدة لا لمجرد المعاملة، ولا يعد قبول شهادتهم إكراماً لكفرهم، فهذا من جملة المصالح التي لا غنى عنها.
(8/197)
ثانياً ـ شهادة غير المسلمين على المسلمين:
للفقهاء أيضاً رأيان في قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين.
1 ً - فقال الجمهور غير الحنابلة: لا تقبل شهادتهم على المسلمين؛ لأن الشهادة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] .
2 ً - وأجازها الحنابلة في الوصية في السفر للضرورة إذا لم يوجد غيرهم، وكذا في كل ضرورة حضراً وسفراً، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم، إن أنتم ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة:106/5] .
وصح عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: «هذا لمن مات، وعنده المسلمون فأمر الله أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين» ثم قال تعالى: {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} [المائدة:106/5] فهذا لمن مات، وليس عنده أحد من المسلمين، فأمر الله عز وجل أن يشهد رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب بشهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لا نشتري بشهادتنا ثمناً، وقضى به ابن مسعود في زمن عثمان، وكذلك علي، وقضى به أبو موسى الأشعري في الكوفة وكثير من التابعين.
وعن سعيد بن المسيب: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/5] قال: «من أهل الكتاب» وفي رواية صحيحة عنه: «من غير أهل ملتكم» .
وصح عن شريح قال: «لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في الوصية. ولا تجوز في الوصية إلا أن يكون مسافراً» .
وصح عن الشعبي: {أو آخران من غيركم} [المائدة:106/5] قال: «من اليهود والنصارى» .
وأما ادعاء نسخ هذه الآية ـ فيما روي عن زيد بن أسلم وغيره ـ فيرده ما صح عن عائشة ـ فيما يرويه جبير بن نفير ـ أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيهامن حرام فحرموه. فالحق أن الآية محكمة، وأن حكمها شرع دائم، وأن شهادة غير المسلمين جائزة مقبولة في الوصية إذا كان المسلم على سفر، ولم يجد أحداً من المسلمين. وقال ابن القيم: قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع: (هو ضرورة) : يقتضي هذا التعليل ُقبولها في كل ضرورة حضراً وسفراً.
(8/198)
المبحث الثاني ـ اليمين:
يتضمن مطالب سبعة هي:
الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به.
الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق.
الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان.
الرابع ـ شروط اليمين.
الخامس ـ أنواع اليمين.
السادس ـ حكم اليمين.
السابع ـ أنواع الحقوق التي تجوز فيها اليمين.
المطلب الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها والمحلوف به:
اليمين مؤنث، وهي لغة: الحَلف والقسم. واصطلاحاً بمعناها العام هي توكيد الشيء أو الحق أو الكلام إثباتاً أو نفياً بذكر اسم الله أو صفة من صفاته (1) .
أما تعريف اليمين القضائية لإثبات الدعوى: فهي تأكيد ثبوت الحق أو نفيه أمام القاضي بذكر اسم الله أو بصفة من صفاته.
__________
(1) تبيين الحقائق: 107/3، الشرح الكبير مع الدسوقي: 126/2 وما بعدها، حاشية القليوبي على شرح المحلي للمنهاج: 270/4، كشاف القناع: 236/6.
(8/199)
واليمين مشروعة بآيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/5] وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من القرآن، والله تعالى لا يشرع محرماً.
ومشروعة بأحاديث كثيرة أيضاً، منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» وفي رواية البيهقي: «ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (1) .
ومنها حديث يحذر من الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه، ويدل على ما فيه من إثم كبير، وهو من الكبائر، أخرج أصحاب الكتب الستة عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل ابن عم لي خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «بيِّنتك أو يمينه» قلت: إذن يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم} [آل عمران:77/3] . وحلف عمر لأبي بن كعب على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنَّة.
__________
(1) حديث حسن رواه البيهقي عن ابن عباس، وبعضه في الصحيحين.
(8/200)
وأما المحلوف به: فقد اتفق الفقهاء على أن اليمين المنعقدة هي القسم بالله تعالى، أو بصفة من صفاته مثل: والله، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، ومَن نفسي بيده، أو وعزة الله وعظمته، ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمُت» قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً» (1) أي حاكياً. ولقوله عليه السلام أيضاً: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وفي لفظ: «فقد كفر» (2) وقوله فيما رواه النسائي: «لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» .
واكتفى الجمهور غير المالكية بلفظ الجلالة فقط، لقوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ِليُرضوكم} [التوبة:62/9] {يحلفون بالله: ما قالوا} [التوبة:74/9] ولا قتصاره صلّى الله عليه وسلم على ذلك في يمينه بغزو قريش قائلاً: «والله لأغزون قريشاً» (3) .
وقال المالكية (4) : يضم إليه عبارة «لا إله إلا هو» لقوله صلّى الله عليه وسلم لرجل حلَّفه: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو» (5) .
واليمين تنعقد بمجرد النطق بها ولو هزلاً؛ لأنها من الأحوال التي يستوي فيها الجد والهزل، لا يقبل قول الحالف في القسم: لم أرد اليمين، لا في الظاهر، ولا فيما بينه وبين الله تعالى (6) .
__________
(1) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن ابن عمر (نصب الراية: 295/3) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم.
(3) رواه أبو داود عن ابن عباس (نيل الأوطار: 220/8) .
(4) المبسوط: 18/16، القوانين الفقهية: ص 306، المهذب: 322/2، كشاف القناع: 228/6، المغني: 226/9.
(5) رواه أبو داود بسند صالح والنسائي.
(6) المحلي على المنهاج: 270/4.
(8/201)
ولا تنعقد اليمين اتفاقاً إذا قال: إن شاء الله تعالى، بشرط كونه متصلاً باليمين من غير سكوت عادي؛ لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف، فقال: إن شاء الله، لم يحنث» (2) .
ولا تدخل النيابة في اليمين، ولا يحلف أحد عن غيره، فلو كان المدعى عليه صغيراً أو مجنوناً، لم يحلف عنه، ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي، ويعقل المجنون، ولم يحلف عنه وليه (3) .
المطلب الثاني ـ صيغة اليمين القضائية وصفتها والنية فيها واليمين بالطلاق:
صيغة اليمين: هي عند الجمهور أن يقول الحالف: والله، أو بالله، أو ورب العالمين، أو والحي الذي لا يموت، أو ومَن نفسي بيده، ونحو ذلك من كل اسم لله مختص به سبحانه وتعالى كالإله، والرحمن، وخالق الخلق، أو يحلف بصفة من صفات الله الذاتية مثل: وعظمة الله أو عزته أو كبريائه أو كلامه أو مشيئته أو علمه أو قدرته أو حقه، إلا أن يريد بالحق العبادات، وبالعلم والقدرة المقدور والمعلوم، وبالبقية ظهور آثارها، فلا تكون يميناً لاحتمال اللفظ. والحلف بكتاب الله أو بالقرآن أو بالمصحف يمين باتفاق المذاهب الأربعة (4) ، والحلف بالتوراة أو الإنجيل ونحوهما من كتب الله المنزلة كالزبور يمين في رأي الحنابلة؛ لأن إطلاق اليمين ينصرف إلى المنزَل من عند الله، دون المبدَّل.
__________
(1) المغني: 237/9.
(2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 219/8) .
(3) المغني: 234/9 وما بعدها، المهذب: 302/2.
(4) بجيرمي الخطيب: 300/4 وما بعدها، كشاف القناع: 228/6 وما بعدها.
(8/202)
وقال المالكية: صيغة اليمين لكل حالف في جميع الحقوق على المشهور: هي «بالله الذي لا إله إلا هو» . وأما يمين الكافر: فاتفق أكثر الفقهاء (1) على أن الكافر يحلف بالله كالمسلم؛ لأن اليمين لا تنعقد بغير اسم الله، للحديث المتقدم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» ولما رواه البخاري: «من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال» . وسيأتي الكلام في تغليظ اليمين عليه، فتغلظ عليه في رأي الحنابلة والشافعية.
وأما صفة اليمين أو الحلف على البت ونفي العلم (2) : فقد اتفق الفقهاء (3) على أن الحالف يحلف على البت والقطع على فعل نفسه، سواء في حال الإثبات أم النفي، فيقول مثلاً: والله ما بعت أو ما اشتريت، أو لقد بعت أو اشتريت؛ لأن الإنسان أعلم بأحواله وأفعاله، فتكون يمينه حجة قاطعة. فالأيمان كلها على البت والقطع، إلا على نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم؛ لحديث ابن عباس المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رجلاً، فقال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو، ماله عليك حق» وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلاً من كِنْدة ورجلاً من حضرموت اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل لك بيِّنة؟ قال: لا، ولكن أحلفه، والله العظيم ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين» (4) .
__________
(1) البدائع: 227/6 وما بعدها، تبيين الحقائق: 109/4، القوانين الفقهية: ص 306، مغني المحتاج: 473/4، المهذب: 322/2، كشاف القناع: 228/6 وما بعدها.
(2) الحلف على البت: أي الحلف على القطع والجزم. ونفي العلم: هو نفي اليقين أنه لا يعلم كذا، فيحلف بالله ما له علي شيء.
(3) المغني: 230/9-234، المهذب: 322/2.
(4) رواه أبو داود.
(8/203)
ففي حال الإثبات: يحلف على فعل نفسه أنه فعل كذا، وفي حال النفي: يحلف أنه ما فعل كذا. وأما ما يتعلق بفعل غيره، فإن كان إثباتاً، مثل أن يدعي أنه أقرض أو باع، ويقيم شاهداً بذلك، فإنه عند الجمهور غير الحنفية يحلف مع شاهده على البت والقطع، فيقول والله إنه باع؛ لأن حال الإثبات يستطيع الإنسان الاطلاع عليها. وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعى عليه دين أو غصب أو جناية، فإنه يحلف على نفي العلم لا غير، فيقول: والله لا أعلم أنه مدين، أو لا أعلم أن له وارثاً غير فلان، بدليل قصة الحضرمي السابقة.
وقال الحنفية والإمامية (1) : يحلف الشخص في فعل غيره على نفي علمه مطلقاً، سواء أكان إثباتاً أم نفياً، لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم حلف اليهود في القسامة: «بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلاً» ولأن الإنسان لا علم له بفعل غيره ولا يدرك حقيقةتصرفاته، فيحلف على نفي العلم.
النية في اليمين: اليمين غير القضائية التي يحلفها الحالف باختياره، أو يطلبها شخص منه دون أن يكون له عليه حق اليمين، تكون على نية الحالف في كل الأحوال، ويجوز للحالف التورية في يمينه، بأن يقصد فيها غير المعنى المتبادر من اللفظ أو ينوي فيها خلاف الظاهر، للحديث المشهور الذي رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقد حكى القاضي عياض الإجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه، له نيته ويقبل قوله.
__________
(1) البحر الرائق: 217/7، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 282.
(8/204)
أما اليمين القضائية الموجهة من القاضي أو نائبه لفصل الخصومة والنزاع، فتكون باتفاق الفقهاء (1) على نية المستحلف وهو القاضي، فلا يصح فيها التورية، ولا ينفع الاستثناء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدّقك به صاحبك» وفي لفظ: «اليمين على نية المستحلف» (2) . قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وهو محمول على المستحلف المظلوم. وقال النووي: أما إذا حلف بغير استحلاف، وورّى، فتنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي.
واشترط الشافعية والحنابلة (3) شرطين في كون اليمين على نية المستحلف:
1ً - ألا يحلفه القاضي بالطلاق أو العتاق.
2ً - ألا يكون القاضي ظالماً أو جائراً في طلب اليمين.
فإن حلفه بالطلاق أو علم منه نفسه أنه على الحق، جازت التورية؛ لأن اليمين تكون غير فاجرة.
اليمين بالطلاق أمام القاضي: قال جمهور الفقهاء على المفتى به عند الحنفية: إن اليمين بالطلاق لإثبات الحقوق وإنهاء الخصومات أمام القاضي حرام؛ لأن اليمين لا تكون إلا بالله، ولأن القسم لتعظيم المقسم به، ولا يجوز تعظيم غير الله. فإن طلبه الخصم، لم يجبه القاضي؛ لأنه حرام.
وأجاز متأخرو الحنفية الحلف بالطلاق إذا طلبها الخصم وألح فيها، أو كان الحالف لا ينزجر إلا بها، لفساد الزمان، وقلة المبالاة بالحلف بالله تعالى.
وأجاز بعض المالكية الحلف بالطلاق للتغليظ، عملاً بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» ولأن الحاجة ماسة إليه. وأفتى الإمام مالك بعدم وقوع طلاق المكره حينما أراد أوائل الخلفاء العباسيين بأن يوثقوا بيعة الناس لهم بالأيمان والطلاق والعتاق، ويكرهون الناس على ذلك، وكان مالك يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق» مما أغضب المنصور.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 306، مغني المحتاج: 475/4، كشاف القناع: 242/6.
(2) اللفظ الأول رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي. واللفظ الثاني رواه مسلم وابن ماجه، عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 218/8) .
(3) مغني المحتاج: 475/4، كشاف القناع: 242/6.
(8/205)
المطلب الثالث ـ تغليظ اليمين باللفظ وبالزمان والمكان:
أجاز الفقهاء من السنة والشيعة ما عدا الحنابلة والظاهرية (1) تغليظ اليمين باللفظ، والتغليظ عند المالكية يكون بقول الحالف: «بالله الذي لا إله إلا هو» وعند الجمهور: «بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية» ونحوه، لحديث ابن عباس المتقدم وقول النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل: «احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ماله عندك شيء» وهذا هو الراجح لدي؛ لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر، وأمنع من الإقدام على الكذب.
أما الظاهرية والحنابلة فلم يجيزوا تغليظ اليمين، ويكتفى بلفظ الجلالة فقط؛ لأنه يتضمن كل معاني الترغيب والترهيب، واقتصاراً على ما ورد في القرآن، مثل: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/5] وما ورد في السنة: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (2) .
__________
(1) البدائع: 227/6، القوانين الفقهية: ص 306 وما بعدها، المهذب: 322/2، مغني المحتاج: 472/4، المغني: 227/9 وما بعدها، الروضة البهية: 159/2، المحلى: 468/9 وما بعدها.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر.
(8/206)
واستحب الشافعية تغليظ اليمين إذا كانت يمين المدعي وهي اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين، أو يمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها، وذلك فيما ليس بمال، ولا يقصد به المال، كنكاح وطلاق ولعان وقصاص، ووصاية ووكالة، وفي المال البالغ نصاب الزكاة، لا فيما دونه، لخطورته بدليل وجوب المواساة فيه، وعدم الاهتمام بما دونه.
أما التغليظ بالزمان والمكان: فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين (1) :
1 - فقال الحنابلة: إذا كان الحالف مسلماً، فيحلفه القاضي بالله تعالى من غير تغليظ، اكتفاء بما ورد في القرآن الكريم: {فآخران يقومان مقامهما، من الذين استحق عليهم الأوليان، فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} [المائدة:107/5] ولم يذكر مكاناً ولا زمناً، ولا زيادة في اللفظ.
وقال الحنفية: إن شاء القاضي حلف الشخص من غير تغليظ، لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حلف ركانة بن عبد يزيد بالله عز وجل: ما أردت البتة، ثلاثاً؟ وإن شاء غلظ؛ لأن الشرع ورد بتغليظ اليمين في الجملة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم حلف ابن صوريا الأعور، وغلظ.
أما الكافر غير المسلم فتغلظ يمينه عند الحنابلة، وإن شاء القاضي عند الحنفية والشافعية وفي قول مرجوح عند المالكية، فإن كان الحالف يهودياً، أحلفه «بالله الذي أنزل التوراة على موسى» زاد الشافعية: «ونجاه من الغرق» وإن كان نصرانياً، أحلفه «بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى» وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه «بالله الذي خلقه وصوره» . وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقَّوْن أن يحلفوا فيها كاذبين، حلِّفوا فيها.
__________
(1) المراجع السابقة.
(8/207)
2 - وقال المالكية والشافعية: يجوز تغليظ اليمين بالزمان والمكان مطلقاً للمسلم وغير المسلم، ثم اختلفوا في التغليظ بالمكان، فقال الما لكية: تغلظ اليمين بالمكان في القسامة واللعان، ويحلف الحالف إن كان في المدينة على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن كان في غير المدينة يحلف في مساجد الجماعات، ولا يشترط الحلف على المنبر في سائر المساجد، ويحلف قائماً.
وتغليظ اليمين بالزمان يكون باللعان والقسامة فقط دون غيرهما، فيكون بعد صلاة العصر.
وقال الشافعية: يحلف المسلم في مكة بين الركن والمقام، وفي المدينة عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر ـ خلافاً للمالكية ـ وفي بيت المقدس عند الصخرة. وتغلظ في الزمان بالاستحلاف بعد العصر. وهذا هو الراجح لدي لقوة أدلتهم. ويندب عندهم تغليظ يمين المدعي (اليمين المردودة أو مع الشاهد واليمين) ويمين المدعى عليه وإن لم يطلب الخصم تغليظها فيما ليس بمال ولا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وقود وعتق وإيلاد ووصاية ووكالة، وتغلظ في مال يبلغ نصاب الزكاة.
واستدلوا على جواز التغليظ بالكتاب والسنة والآثار والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة، فيقسمان بالله} [المائدة:106/5] والمراد من بعد صلاة العصر، كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين. وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلف أحد على يمين آثمة عند منبري هذا، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعدَه من النار، أو وجبت له النار» (1) .
__________
(1) رواه البيهقي ومالك وأحمد وأبو داود والنسائي عن جابر.
(8/208)
وما روى عبد الرحمن بن عوف: «أنه رأى قوماً يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام» (1) .
وأما الآثار فكثيرة منها: أن عمر رضي الله عنه استحلف رجلاً بين الركن والمقام، عندما قال لامرأته: حبلك على غار بك. ومنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحلف نفيس بن ملوِّح في قتل على المنبر خمسين يميناً.
وأما القياس: فقد قاسوا التغليظ بالزمان والمكان على التغليظ باللفظ، والتغليظ في أيمان القسامة واللعان، بجامع الزجر في كلٍ، بل إن التغليظ بالزمان والمكان أشد زجراً، فجاز بالأولى.
المطلب الرابع ـ شروط اليمين:
اشترط الفقهاء بالاتفاق (2) ستة شروط في اليمين القضائية، واختلفوا في شرطين. أما المتفق عليها فهي ما يأتي:
1ً - أن يكون الحالف مكلفاً (بالغاً عاقلاً) مختاراً: فلا يحلف الصبي والمجنون، ولا تعتبر يمين النائم والمستكره.
2ً - أن يكون المدعى عليه منكراً حق المدعي: فإن كان مقراً فلا حاجة للحلف.
3ً - أن يطلب الخصم اليمين من القاضي وأن يوجهها القاضي إلى الحالف: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استحلف رُكانة بن عبد يزيد في الطلاق، فقال: «آلله ما أردت إلا واحدة» فقال ركانة: «الله ما أردت إلا واحدة» (3) .
4ً - أن تكون اليمين شخصية: فلا تقبل اليمين النيابة، لصلتها بذمة الحالف ودينه، فلا يحلف الوكيل أو ولي القاصر، ويوقف الأمر حتى يبلغ.
5ً - ألا تكون في الحقوق الخالصة لله تعالى كالحدود والقصاص.
6ً - أن تكون في الحقوق التي يجوز الإقرار بها: للحديث المتقدم: «واليمين على من أنكر» فلا تجوز اليمين في الحقوق التي لا يجوز الإقرار بها، فلا يحلف الوكيل والوصي والقيم؛ لأنه لا يصح إقرارهم على الغير.
__________
(1) رواه الشافعي والبيهقي.
(2) البحر الرائق: 202/7، البدائع: 226/6 وما بعدها، بداية المجتهد: 455/2 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 145/4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 306، ط فاس، مغني المحتاج: 475/4 وما بعدها، كشاف القناع: 232/6 وما بعدها، المغني: 234/9.
(3) رواه البيهقي وأبو داود والترمذي.
(8/209)
واشترط أبو حنيفة أيضاً أن يكون المدعى به مما يحتمل البذل، فلا تصح اليمين في النسب والنكاح والرجعة والفيء في الإيلاء ونحوها.
وأما المختلف فيه من الشروط فهو اثنان:
1ً - العجز عن البينة أو فقدها عند الجمهور غير الشافعية: فإذا كانت البينة حاضرة في مجلس القضاء، فلا يصح تحليف المدعى عليه، وكذلك لا يصح التحليف عند أبي حنيفة إذا كانت البينة في بلد القاضي. وأجاز الصاحبان والحنابلة التحليف حينئذ. ودليلهم على هذا الشرط الحديث السابق: «بيِّنتك وإلا فيمينه» فإن حق المدعي في اليمين مرتب على عجزه عن إقامة البينة.
ولم يشترط الشافعية هذا الشرط، عملاً بحديث: «البينة على المدعي واليمين
على من أنكر» فاليمين حق المدعي وواجبة على المدعى عليه، ولأنه يحتمل أن يقر المدعى عليه، فيستغني المدعي عن إقامة البينة.
2ً - الخلطة بين المتخاصمين بالتعامل في رأي المالكية: حتى لا يتطاول السفلة على أصحاب المكانة والفضل، باستدعائهم إلى المحاكم، وطلب اليمين منهم أوالحكم عليهم بالنكول، وتثبت الخلطة بشهادة اثنين على التعامل مرتين أو ثلاثاً. واشترطوا في غير المال وجود شاهد واحد حتى يصح توجيه اليمين، كالطلاق والرجعة والخلع والوكالة والوصية والنسب والإسلام والردة.
واستثنوا من اشتراط الخلطة أو وجود الشاهد لتوجه اليمين ثماني مسائل هي: صاحب الصنعة مع عماله، والمتهم بين الناس، والضيف في ادعائه أو الادعاء عليه، والمسافر مع رفقته في الوديعة وغيرها، وادعاء الإيداع عند شخص، وادعاء شيء معين كثوب بعينه، وادعاء مريض في مرض موته على غيره بدين، وادعاء بائع على شخص حاضر المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا والحاضر ينكر الشراء، فتتوجه اليمين في هذه الحالات، ولو لم تثبت خلطة.
ولم يشترط هذا الشرط باقي المذاهب، وهو الراجح لدي، لحديث: «واليمين على من أنكر» .
(8/210)
المطلب الخامس ـ أنواع اليمين:
الأصل العام في توزيع طرق إثبات الحق بين الخصمين المتنازعين أمام القضاء: أن يطالب المدعي بالبينة أو الشهادة، ويطالب المدعى عليه باليمين عند العجز عن البينة في رأي الجمهور غير الشافعية كما تقدم، فالبينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، واليمين تُشرع في حق كل مدعى عليه، سواء أكان مسلماً أم كافراً، عدلاً أم فاسقاً، امرأة أم رجلاً (1) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» .
واختلف الحنفية (2) في تحديد المدعي والمدعى عليه، فقال بعضهم: المدعي: من إذا ترك الخصومة لا يجبر عليها، والمدعى عليه: من إذا ترك الجواب يجبر عليه.
وقال بعضهم: المدعي: من يلتمس قبل غيره لنفسه عيناً أو ديناً أو حقاً. والمدعى عليه: من يدفع ذلك عن نفسه.
وقال بعضهم: ينظر إلى المتخاصمين، أيهما كان منكراً فالآخر يكون مدعياً.
وقال بعضهم: المدعي: من يخبر عما في يد غيره لنفسه. والمدعى عليه: من يخبر عما في يد نفسه لنفسه.
والأظهر عند الشافعية (3) : أن المدعي من يخالف قوله الظاهر: وهو براءة الذمة، والمدعى عليه: من يوافق قوله الظاهر.
واليمين بحسب الحالف أنواع ثلاثة: يمين الشاهد، ويمين المدعى عليه، ويمين المدعي.
1 ً - يمين الشاهد: هي اليمين التي يحلفها الشاهد قبل أداء الشهادة للاطمئنان إلى صدقه، وهي التي يلجأ إلىها في عصرنا بدلاً من تزكية الشاهد. وقد
__________
(1) البدائع: 225/6، المغني: 227/9. (2) البدائع: 224/6.
(3) مغني المحتاج: 464/4.
(8/211)
أجازها المالكية والزيدية والظاهرية وابن أبي ليلى وابن القيم، لفساد الزمان وضعف الوازع الديني، ومنعها الجمهور (1) .
2 ً - يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الأصلية أو الواجبة أو الدافعة أو الرافعة. وهي التي يحلفها المدعى عليه بطلب القاضي بناء على طلب المدعي لتأكيد جوابه عن الدعوى. وهي حجة المدعى عليه للحديث المتقدم: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (2) .
3 ً - يمين المدعي: وهي عند الجمهور غير الحنفية اليمين التي يحلفها المدعي لدفع التهمة عنه، أو لإثبات حقه، أو لرد اليمين عليه. وهي ثلاثة أنواع (3) :
الأول ـ اليمين الجالبة: وهي التي يحلفها المدعي لإثبات حقه، إما مع شهادة شاهد واحد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما بسبب نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي ليحلف، وهي اليمين المردودة، وإما لإثبات تهمة الجناية على القاتل، وهي أيمان القسامة، وإما لنفي حد القذف عنه وهي أيمان اللعان، وإما لتأكيد الأمانة، فالقول قول الأمين بيمينه كالوديع والوكيل، إذا ادعى الرد على من ائتمنه، إلا المرتهن والمستأجر والمستعير، فلا يصدقون إلا بالبينة؛ لأن وجود الشيء في يدهم أو حيازتهم كان لمصلحة أنفسهم.
الثاني ـ يمين التهمة: وهي التي توجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، قال بها المالكية والزيدية.
الثالث ـ يمين الاستيثاق أو الاستظهار: وهي التي يحلفها المدعي بطلب القاضي لدفع التهمة عنه بعد تقديم الأدلة المطلوبة في الدعوى. فهي تكمل الأدلة كالشهادة، ويتثبت بها القاضي.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 92، ط 1322 هـ، فتح العلي المالك للشيخ عليش: 311/2، مخطوط الحاوي الكبير للماوردي: 13/ق 48 ب، 49 أ، الطرق الحكمية لابن قيم: ص 142 وما بعدها، البحر الزخار: 18/5، المحلى: 462/9، مغني المحتاج: 476/4.
(2) البدائع: 225/6، تهذيب الفروق: 151/4، الفرق: 240، مغني المحتاج: 468/4، المغني: 224/9، الطرق الحكمية: ص 113، 143، 147، القوانين الفقهية: ص 306.
(3) المراجع السابقة.
(8/212)
ويلجأ إليها القاضي عادة إذا كانت الدعوى بحق على غائب أو ميت، ويحتمل أن يكون المدعي قد استوفى دينه من الميت أو الغائب أو أبرأه عنه، أو أخذ رهناً مقابله، وليس للشاهدين علم بذلك. فيحلِّف القاضي المدعي؛ لأن البينة لا تفيد إلا غلبة الظن، فيستحق ما ادعاه بالبينة واليمين معاً، فهي يمين القضاء بعد ثبوت الحق على الغائب والمحجور، وقد أجيزت استحساناً بسبب احتمال الشبهة والشك عند غياب المدين.
وقد أيدها ابن القيم قائلاً: وهذ القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولا سيما مع احتمال التهمة. وكان علي يستحلف المدعي مع شهادة الشاهدين. وكان شريح يستحلف الرجل مع بينته، وقال الأوزاعي والحسن بن حَيّ: يستحلف مع بينته وهو قول النخعي والشعبي وابن أبي ليلى أيضاً (1) .
أحوال يمين الاستظهار:
أجاز الفقهاء هذه اليمين في أحوال استثنائية للضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (2) : توجه هذه اليمين في نفقة الزوجة، وفي الدعوى على الغائب واليتيم والوقف والمساكين وفي كل وجوه البر، وعلى بيت المال، وعلى كل من استحق شيئاً من الحيوان وغيره. ويحلف المدعي أيضاً إذا شهد له اثنان على خط غريمه، وفي شهادة التسامع والاستفاضة، والبينة على الغريم المجهول الحال بكونه معدماً.
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 145 وما بعدها، المبسوط: 118/16، تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك للشيخ عليش: 275/1 وما بعدها.
(2) تبصرة الحكام، المكان السابق.
(8/213)
وقال الحنفية (1) : تجب يمين الاستظهار في الادعاء على الميت، ولو بدون طلب المدعى عليه، وفي خمس حالات أخرى عند أبي حنيفة ومحمد بطلب المدعى عليه، وبدون طلب عند أبي يوسف: وهي حالة الاستحقاق للمعقود عليه: فإذا أثبت المدعي استحقاق مال، حلف على عدم بيعه أو هبته أو تمليكه. وفي الشفعة: أنه طلبها بمجرد علمه بها ولم يبطلها بوجه ما، وفي نفقة الزوجة على زوجها الغائب أنه لم يطلقها ولم يترك لها نفقة. وفي رد المبيع بالعيب أنه لم يرض به، وفي خيار البلوغ للبكر أنها اختارت الفرقة مباشرة.
وقال الشافعية (2) : توجه يمين الاستظهار بدون طلب الخصم في الدعوى على الميت والغائب والصغير والمحجور والسفيه والمجنون والمغلوب على عقله، ومع الشاهد واليمين.
وأجاز الحنابلة في رواية عن أحمد هذه اليمين إذا قامت البينة على الغائب، أو المستتر في البلد، أو الميت، أو الصبي أو المجنون (3) .
القضاء بالنكول والقضاء بشاهد ويمين المدعي واليمين المردودة:
اتفق الفقهاء على أن المدعي إذا قدم شاهدين على دعواه وقبلت شهادتهما، حكم له بما ادعى. وعلى أنه إذا عجز عن البينة وطلب تحليف المدعى عليه، وحلف، رفضت دعواه.
__________
(1) البحر الرائق: 207/7، الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 95، المجلة: م 1746، وقد نصت المجلة على أربع حالات ليمين الاستظهار بلا طلب: وهي ادعاء حق في التركة، الاستحقاق، رد المبيع بعيب، الشفعة.
(2) مغني المحتاج: 407/4 وما بعدها، المهذب: 303/2 وما بعدها.
(3) المحرر في الفقه الحنبلي لأبي البركات: 210/2، الإفصاح لابن هبيرة: ص 483.
(8/214)
واختلفوا بعدئذ على رأيين فيما إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، هل يقضى للمدعي بنكول صاحبه عن اليمين، أم ترد اليمين إلى المدعي، فيقضى له بيمينه وشاهد واحد يقدمه للشهادة؟ قال الحنفية والحنابلة: يقضى بالنكول في الأموال، وقال الجمهور: لا يقضى بالنكول، وترد اليمين على المدعي.
الرأي الأول ـ للحنفية والحنابلة في المشهور عندهم:
قال الحنفية والحنابلة (1) : إذا نكل المدعى عليه عن اليمين، فإنه يقضى عليه بالمال، لكن ينبغي للقاضي أن يقول له: (إني أعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك) لاحتمال خشية القضاة ومهابة المجلس في المرة الأولى. ولا يقضى عند الحنفية بالشاهد واليمين ويقضى بها عند الحنابلة.
ودليلهم على القضاء بالنكول: أن القاضي شريح قضى على رجل بالنكول، فقال المدعى عليه: أنا أحلف، فقال شريح: مضى قضائي. وكانت لا تخفى قضاياه على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فيكون إجماعاً منهم على جواز القضاء بالنكول. وقضى عثمان على ابن عمر بالنكول. ورد عليه عبداً معيباً اشتراه منهم حينما نكل، ولأنه ظهر صدق المدعي في دعواه عند نكول المدعى عليه، فيقضى له، كما لو أقام البينة.
واستدلوا على عدم مشروعية رد اليمين إلى المدعي بالحديث السابق: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» جعل جنس اليمين على المنكر، فتشمل كل مدعى عليه.
واستدل الحنفية على عدم مشروعية القضاء بشاهد ويمين بما يأتي من الكتاب والسنة والمعقول.
__________
(1) البدائع: 225/6، 230، تكملة فتح القدير: 155/6، الطرق الحكمية: ص 116، المغني: 235/9.
(8/215)
1 ً - الكتاب: وهو قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282/2] وقوله سبحانه: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] الله سبحانه طلب إشهاد اثنين ولم يذكر الشاهد واليمين، فقبولهما زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن لا يجوز إلا بمتواتر أو مشهور، ولا يجوز بخبر الواحد، وليس خبر رد اليمين متواتراً أو مشهوراً، وإنما هو خبر آحاد.
2 ً - السنة: حديث مسلم وأحمد «ولكن اليمين على المدعى عليه» وحديث البيهقي «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله صلّى الله عليه وسلم لمدعٍ في حديث الجماعة: «شاهداك أو يمينه» . الحديث الأول أوجب اليمين على المدعى عليه فقط، وجعل كل جنس اليمين على المنكر، فإذا قبلت يمين من المدعي، لم تكن جميع حالات اليمين على المنكرين. وكذلك الحديث الثاني جعل جميع أفراد البينة على المدعي، وجميع أفراد اليمين على المنكر، والقسمة والتوزيع تنافي اشتراك الخصمين فيما تمت فيه القسمة. والحديث الثالث خيَّر المدعي بين أمرين لا ثالث لهما إما البينة أو يمين المدعى عليه.
3 ً - المعقول: إن اليمين تقوم مقام الشاهد الثاني، ولو جاز ذلك، لجاز تقديم اليمين كأحد الشاهدين على الآخر، ولكن لا يجوز تقديمه، فلا يصح أن يكون قائماً مقامه.
(8/216)
الرأي الثاني ـ للجمهور:
قال الجمهور من أهل السنة والشيعة (1) وصوبه الإمام أحمد: لا يقضى بالنكول، ولكن ترد اليمين إلى المدعي فيحلف، فيأخذ حقه، ويقضى بالشاهد واليمين.
والنكول: أن يقول: أنا ناكل، أو يقول: لا أحلف.
استدلوا على عدم جواز القضاء بالنكول بالحديث المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» فإنه جعل البينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه، ولم يذكر عليه الصلاة والسلام النكول، فلو كان حجة المدعي لذكره، ولأن النكول يحتمل لكونه كاذباً في الإنكار، ويحتمل لكونه صادقاً في الإنكار، تورعاً عن اليمين الصادقة، فلا يكون حجة القضاء مع الشك والاحتمال.
واستدلوا على مشروعية القضاء برد اليمين: بما روى الدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق» وبقوله تعالى: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} [المائدة:108/5] وثبت عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم القول برد اليمين.
واستدلوا مع الحنابلة على جواز القضاء بشاهد ويمين المدعي: بما روى ابن
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 301، 306، بداية المجتهد: 456/2، 459، الشرح الكبير مع الدسوقي: 187/4، تهذيب الفروق: 151/4، مغني المحتاج: 468/4 وما بعدها، 477 وما بعدها، المهذب: 301/2، 318، المغني: 225/9، 235، الطرق الحكمية: ص 116، 132-142، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 283، البحر الزخار: 404/4، المحلى: 464/9.
(8/217)
عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» (1) قال الشافعي: «وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم، لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده» وقال الترمذي عنه: حسن غريب، وقال النسائي: إسناده جيد. وأجمع الصحابة على القضاء بالشاهد واليمين، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب.
وهذا هو الرأي الراجح عندي لصحة الحديث وثبوته، وعده السيوطي متواتراً، ولأن الخلفاء الراشدين حكموا به، وهو لا يخالف الكتاب العزيز.
مجال القضاء بشاهد ويمين والقضاء بالنكول:
قال المالكية والشافعية وابن القيم (2) : المواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين: المال، وما يقصد به المال، كالبيع والشراء وتوابعهما من اشتراط صفة في المبيع، أو نقد غير نقد البلد، والإجارة والجعالة، والمساقاة والمزارعة، والمضاربة والشركة والهبة، والوصية لمعين، أو الوقف عليه.
ومما يثبت بالشاهد واليمين أيضاً: الغصوب، والعواري، والوديعة، والصلح، والإقرار بالمال أو ما يوجب المال، والحوالة، والإبراء، والمطالبة بالشفعة وإسقاطها، والقرض، والصداق، وعوض الخلع، وتسمية المهر، والوكالة في المال والإيصاء به.
وكذا يقضى بهما في الجنايات الموجبة للمال، كالخطأ، وما لا قصاص فيه كالهاشمة والمأمومة والجائفة، وقتل المسلم الكافرَ، والحرِّ العبد، والصبيِّ والمجنون.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وذكر ابن الجوزي عدد رواة هذا الحديث بما يزيد على عشرين صحابياً. ورواه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر. ورواه أيضاً أحمد والدارقطني والبيهقي ومالك والشافعي عن علي رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والشافعي عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه عن سرَّق. وأخرجه أبو داود والبيهقي والطبراني عن الزبيب بن ثعلبة.
(2) الطرق الحكمية: ص 141 وما بعدها، الشرح الكبير: 147/4، القوانين الفقهية: ص300 وما بعدها، حاشية الشرقاوي: 502/2، تبصرة الحكام: 270/1.
(8/218)
وأما مجال القضاء بالنكول: فهو عند الحنفية (1) والحنابلة في الأموال، وأما غير المال وما لا يقصد به المال كنكاح وطلاق ولعان وحد وقصاص، ووصاية، ووكالة، فلا يقضى فيه بالنكول، كما تبين سابقاً (2) ، لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين بأنه يقضى بالنكول إلا في الحدود والقصاص واللعان؛ لأنه في معنى الحد. ويقضى على السارق لأجل المال بالنكول، فيضمن المال المسروق، ولا تقطع يده.
المطلب السادس ـ حكم اليمين:
حكم اليمين: هو الأثر المترتب على حلفها أمام القاضي، سواء أكانت من المدعي أم من المدعى عليه.
1 - حكم يمين المدعي:
يترتب على أداء اليمين من المدعي مع الشاهد عند الجمهور غير الحنفية ثبوت الحق المحلوف عليه، بناء على الشاهد واليمين معاً في الأصح عند الشافعية، وفي المعتمد عند المالكية؛ لأن الأحاديث علقت القضاء عليهما معاً، وبناء على الشاهد فقط، وإنما اليمين للتأكيد والاستظهار والاحتياط في رأي الحنابلة؛ لأن الشاهد حجة الدعوى، واليمين من المدعي ليست بحجة على خصمه (3) .
2 - حكم يمين المدعى عليه:
يترتب على حلف اليمين من المدعى عليه باتفاق الفقهاء (4) : إنهاء النزاع بين المتداعيين وسقوط الدعوى، وكذا انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، لا مطلقاً، بل مؤقتاً إلى غاية إحضار البينة في رأي الجمهور غير المالكية، فلا تبرأ ذمة المدعى عليه من الحق، وتظل مشغولة به إلى أن يتمكن المدعي من إثبات دعواه بوسيلة أخرى من وسائل الإثبات.
وقال المالكية: يترتب على يمين المدعى عليه سقوط الدعوى مطلقاً، فليس للمدعي أن يقيم البينة بعد الحكم باليمين، إلا لعذر كنسيان وعدم علم بالشهادة، ثم علمه بها، فتقبل منه، ويحلف يميناً على عذره.
3 - حكم يمين الاستيثاق أو الاستظهار:
ليست هذه اليمين دليلاً في الإثبات، وإنما هي لزيادة التأكيد والاطمئنان وإقناع القاضي بصحة الأدلة المقدمة إليه؛ لأن القاضي يوجهها للاحتياط في الحكم.
__________
(1) الدر المختار: 442/4 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 30/4 وما بعدها.
(2) انظر مجال القضاء بالنكول في بحث الدعوى والبينات. والنكول: الامتناع من حلف اليمين، سواء قال: لا أحلف، أو أصر على السكوت، بعد طلب القاضي منه اليمين.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي: 146/4، 187، تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك: 271/1، الوجيز للغزالي: 154/2، مغني المحتاج: 477/4، الطرق الحكمية: ص138-140.
(4) البدائع: 229/6، المبسوط: 119/16، بداية المجتهد: 454/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 146/4 وما بعدها، حاشية الشرقاوي: 502/2، الطرق الحكمية: ص 112، مغني المحتاج: 478/4.
(8/219)
المطلب السابع ـ أنواع الحقوق التي يجوز فيها اليمين:
هناك حقوق يجوز فيها اليمين بالاتفاق، وحقوق لا يجوز فيها اليمين اتفاقاً، وحقوق مختلف فيها على التفصيل التالي (1) :
1ً - اتفق الفقهاء على عدم جواز التحليف في حقوق الله تعالى المحضة، سواء أكانت حدوداً كالزنا والسرقة وشرب المسكرات، أم عبادات كالصلاة والصوم والحج والنذر والكفارة، إلا إذا تعلق بها حق مالي لآدمي فيجوز؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا يقضى فيها بالنكول عند الحنفية والحنابلة؛ لأنه بذل عند أبي حنيفة، وإقرار فيه شبهة العدم عند أحمد والصاحبين، والحدود لا تحتمل البذل، ولا تثبت بدليل فيه شبهة؛ لأن النكول قائم مقام الإقرار، ولا يجوز إقامة الحد بما يقوم مقام غيره. ولأنه لو أقر، ثم رجع، قبل منه وخلي من غير يمين، فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره.
وأما أن العبادات لا يستحلف فيها، فلأنها علاقة بين العبد وربه، فلا يتدخل فيها أحد، قال الإمام أحمد: «لا يحلف الناس على صدقاتهم» فإذا ادعى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب، فالقول عند أحمد قول رب المال من غير يمين. ونقل ابن قدامة عن الشافعي وأبي يوسف ومحمد أنه يستحلف؛ لأنها دعوى مسموعة، فتشبه حق الآدمي. أما إذا تعلق بالحدود وغيرها حق مالي للعباد كالمال في السرقة، فيجوز فيها الاستحلاف.
__________
(1) تبيين الحقائق: 297/4، تكملة فتح القدير: 162/6، 165، البدائع: 227/6، الشرح الكبير مع الدسوقي: 227/4، الوجيز للغزالي: 160/2، المهذب: 301/2 وما بعدها، الطرق الحكمية: ص 110 وما بعدها، 124، المغني: 237/9 ومابعدها، البحر الزخار: 404/4 و 133/5، شرائع الإسلام: 214/2، 223، شرح النيل: 583/6.
(8/220)
2ً - واتفق الفقهاء أيضاً على جواز اليمين في الأموال، وما يؤول إلى المال، فيحلَّف المدعى عليه إثباتاً ونفياً، لقوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم} [آل عمران:77/3] وللحديث السابق عند الجماعة: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى أناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» .
3ً - واتفق الفقهاء على جواز التحليف في الجنايات من قصاص وجروح وفي بعض مسائل الأحوال الشخصية. واختلفوا في بعض مسائل هذا النوع على أقوال ثلاثة:
أـ فقال المالكية: إن التحليف غير جائز في النكاح فقط؛ لأنه يجب فيه الشهادة والإعلان، إذا لم يوجد الشهود لم يصح النكاح، فلا يقبل فيه اليمين لتحقق التهمة والكذب، ولأنه لو أقر بالنكاح لا يثبت ولا يلزم.
(8/221)
ب ـ وقال أبو حنيفة: يستثنى سبع مسائل لا يجوز فيها التحليف وهي النكاح والطلاق والنسب، والفيء في الإيلاء، والعتق، والولاء، والاستيلاد، وزاد الحنابلة القود؛ لأن القصد من توجيه اليمين هو النكول عن الحلف، والقضاء بناء عليه، والنكول بذل وإباحة وترك للمنازعة في رأي أبي حنيفة، صياغة عن الكذب الحرام، وهذه المسائل لا يجوز فيها البذل والإباحة، كما تقدم سابقاً، ولأن النكول في رأي أحمد والصاحبين وإن جرى مجرى الإقرار، فليس بإقرار صحيح صريح، لا يراق به الدم بمجرده، ولا مع يمين المدعي إلا في القسامة للَّوْث. والمفتى به عند الحنفية هو رأي الصاحبين كما تقدم، وهو أنه يجوز التحليف في هذه الأمور إلا في الحدود والقصاص واللعان. فإن كان المقصود من الدعوى في هذه المسائل المال، فيستحلف المدعى عليه، ويثبت المال دون النكاح والنسب والرجعة، كأن تدعي امرأة على رجل أنه لم يدفع لها نصف المهر قبل الدخول، أو نفقة العدة بعد الدخول، فيحلف.
وعند الحنابلة روايتان أرجحهما أنه لا يستحلف المدعى عليه، ولا تعرض عليه اليمين فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال: وهوكل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاد والولاء والرق؛ لأن هذه الحالات لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين، فلا تعرض فيها اليمين كالحدود.
(8/222)
جـ ـ وقال الشافعية والصاحبان وبرأيهما يفتى عند الحنفية، والشيعة الإمامية والزيدية والإباضية: يجوز التحليف في هذه المسائل، ويحلف المنكر في إثباتها أو نفيها، للحديث السابق عند الترمذي: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» يتناول بعمومه كل مدعى عليه، فإذا لم تتوافر البينة، حلف المدعى عليه على إنكاره حق المدعي. وقد حلف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة بن عبد يزيد على طلاق امرأته البتة فيما رواه البيهقي قائلاً له: والله ما أردتَ إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردتُ إلا واحدة فردها عليه.
وهذا الرأي هو الراجح لدي لعموم النصوص وقوة الأدلة التي اعتمدوا عليها.
تحليف الشهود اليمين: لجأ القضاة في عصرنا الحاضر بسبب كثرة الناس بدلاً عن العمل بمبدأ تزكية الشهود اللجوء إلى تحليف الشاهد اليمين، ولا مانع من هذا في رأيي، بدليل تحليف النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة على ما يريد من تطليق امرأته طلقة واحدة أم أكثر. وقد أخذ بهذا الرأي ابن أبي ليلى ومحمد بن بشير قاضي قرطبة، ورجحه ابن نجيم المصري وهو رأي ابن القيم. وأخذت مجلة الأحكام العدلية بذلك، فنصت المادة (1727) على أنه:
«إذا ألح المشهود عليه على الحاكم بتحليف الشهود بأنهم لم يكونوا في شهادتهم كاذبين، وكان هناك لزوم لتقوية الشهادة باليمين، فللحاكم أن يحلِّف الشهود، وله أن يقول لهم: إن حلفتم قبلت شهادتكم، وإلا فلا» .
(8/223)
المبحث الثالث ـ الإقرار
يتضمن هذا المبحث المطالب الآتية:
المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه.
المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار.
المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار.
المطلب الرابع ـ أنواع المقر به بشكل عام.
المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال.
المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض.
المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب.
المطلب الأول ـ تعريف الإقرار وحجيته وحكمه:
الإقرار لغة: الإثبات، مأخوذ من قولهم: قرَّ الشيء يقر قراراً: إذا ثبت، وشرعاً: هوإخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه. وبما أن الإقرار إخبار متردد بين الصدق والكذب، فكان محتملاً لهذين الأمرين، إلا أنه جعل حجة بدليل معقول: وهو أنه ظهر رجحان الصدق على الكذب فيه؛ لأن الإنسان غير متهم فيما يقر به على نفسه، فإن المال محبوب المرء طبعاً، فلا يقر به لغيره كاذباً، فلم يكن في الإقرار تهمة وريبة.
وأدلة حجيته من الكتاب والسنة والإجماع هي ما يلي:
أما الكتاب: فقوله تعالى {أأقررتم، وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا} [آل عمران:81/3] فالله سبحانه طلب منهم الإقرار، ولو لم يكن الإقرار حجة، لما طلبه. وقوله سبحانه: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/4] قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقرار. وقوله عز وجل: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة:14/75] قال ابن عباس: أي شاهد بالحق.
وأما السنة: فخبر الصحيحين في قصة العسيف: «واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فأثبت الرسول صلّى الله عليه وسلم الحد بالاعتراف.
وأما الإجماع: فإن الأمة الإسلامية أجمعت على صحة الإقرار، وكونه حجة من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير.
وبالقياس ثبتت الحجية أيضاً: وهو أننا إذا قبلنا الشهادة على الإقرار، فلأن نقبل الإقرار أولى.
وحكمة تشريع الإقرار: التوصل لإثبات الحقوق وإيصالها إلى أصحابها من أقرب الطرق وأيسرها، لأن الشرع يحرص على حفظ الأموال وصيانتها من الضياع، كما يحرص على أداء حقوق الله تعالى.
وحكم الإقرار: ظهور ما أقر به المقر، لا ثبوت الحق وإنشاؤه من أول الأمر، ولذا لا يصح الإقرار بالطلاق مع الإكراه، مع أن الإنشاء يصح مع الإكراه عند الحنفية، فمن أقر لغيره بمال، والمقر له يعلم أنه كاذب في إقراره لا يحل له أخذه عن كره منه فيما بينه وبين الله تعالى.
(8/224)
والإقرار حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره، لقصور ولاية المقر على غيره، فيقتصر أثر الإقرار على المقر نفسه. والإقرار أيضاً سيد الأدلة؛ لانتفاء التهمة فيه (1) ، والإقرار يثبت الملك في المخبر به.
وأما الشهادة فهي حجة مطلقة ثابتة في حق جميع الناس غير مقتصرة على المقضي عليه، لذا تسمى بالبينة لأنها مبينة يظهر بها الملك، وقال الحنفية: البينة أقوى من الإقرار.
المطلب الثاني ـ ألفاظ الإقرار:
الإقرار إما أن يكون بلفظ صريح أو بلفظ ضمني أو دلالة (2) .
1 - الإقرار بلفظ صريح: أن يقول إنسان: «لفلان علي ألف درهم» ؛ لأن كلمة (علي) كلمة تفيد الإيجاب والإلزام لغة وشرعاً، قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] .
أو يقول لرجل: (لي عليك ألف درهم) فقال الرجل: نعم، لأن كلمتي «نعم، وأجل» ونحوهما للتصديق، قال تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قالوا: نعم} [الأعراف:44/7] .
أو يقول: (لفلان في ذمتي ألف درهم) ؛ لأن ما في الذمة هو الدين، فيكون إقراراً بالدين.
__________
(1) راجع المبسوط: 184/17 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 279/6 وما بعدها، الدر المختار: 203/4، 467، اللباب: 76/2، مغني المحتاج: 238/2، المهذب: 343/2، المغني: 137/5، مجمع الضمانات: ص 364) .
(2) المبسوط: 15/18، البدائع: 207/7 وما بعدها، المغني: 200/5، تكملة فتح القدير: 296/6. اللباب: 78/2.
(8/225)
أو يقول: (لفلان قبلي ألف درهم) فهو إقرار بالدين على الأرجح؛ لأن القبالة هي الكفالة، قال الله سبحانه: {والملائكة قبيلاً} [الإسراء:92/17] أي كفيلاً. والكفالة هي الضمان. قال الله عز وجل: {وكفلَها زكريا} [آل عمران:37/3] على قراءة التخفيف: أي ضمن القيام بأمرها، أو يقول: (أليس لي عندك ألف درهم؟) قال: بلى، كان قراراً صحيحاً؛ لأن (بلى) جواب للسؤال بحرف النفي، قال تعالى: {ألست بربكم؟ قالوا: بلى} [الأعراف:172/7] .
ولو قال رجل لآخر: (له في مالي ألف درهم) فهو إقرار له به في ماله. وهل يكون مضموناً أو أمانةً؟ اختلف مشايخ الحنفية فيه: فقال الجصاص: إنه يكون إقراراً بالشركة بينه وبينه، فيكون القدر المقر به عنده أمانة؛ لأنه جعل ماله ظرفاً للمقر به، وهو الألف فيقتضي ذلك الخلط بين ماليهما، وهو معنى الشركة.
وقال بعض مشايخ العراق: إن كان مال المقر محصوراً، أي محدداً في تجارة معينة، أو عمل معين، يكون إقراراً بالشركة، وإن لم يكن محصوراً يكون إقراراً بالدين.
والراجح كما في مختصر القدوري أنه يدل على الإقرار بالدين كيفما كان الأمر؛ لأن كلمة الظرف في مثل هذا تستعمل في الوجوب والالتزام، قال عليه الصلاة والسلام: «وفي الركاز الخمس» (1) .
ولو قال رجل لآخر: (له من مالي ألف درهم) لا يكون إقراراً، بل يكون هبة، وإذا كان هبة لا يملكها المخاطب إلا بالقبول والقبض؛ لأنه ليس في هذا القول ما يدل عى الالتزام في الذمة؛ لأن اللام في (له) للتمليك، والتمليك بغير عوض هبة.
ولو قال: (له عندي درهم) فهو وديعة، لأن (عندي) لا تدل على التزام شيء في الذمة، بل هي كلمة تفيد الوجود، وليس لهذا المعنى دلالة على الالتزام.
__________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة (راجع نصب الراية: 380/2) .
(8/226)
وكذلك لو قال: (لفلان معي، أوفي منزلي، أو في بيتي، أو في صندوقي، أو في كيسي ألف درهم) فهو وديعة؛ لأن هذه الألفاظ لا تدل إلا على قيام اليد أو الحيازة، وهذا المعنى لا يفيد الالتزام في الذمة، فلم يكن إقراراً بالدين، فكانت وديعة، لتعارف الناس ذلك.
ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم عارية) فهو قرض؛ لأن (عندي) تستعمل في الأمانات، وقد فسرت بالعارية، والمعروف أن عارية الدراهم والدنانير تكون قرضاً؛ إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها، وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، يكون قرضاً في العرف.
وكذلك كل ما يكال أو يوزن: يكون الإقرار بإعارته إقراراً بالقرض؛ إذ يتعذر الانتفاع به إلا باستهلاكه.
2 - الإقرار الضمني أو الإقرار دلالة: قد يكون الإقرار بلفظ يدل على التزام الشيء ضمناً أو دلالة، مثل أن يقول شخص لغيره: (لي عليك ألف درهم) فيقول: قد قضيتها؛ لأن القضاء يدل على تسليم مثل الواجب الملتزم به في الذمة، فيقضي سبق الالتزام بهذا المبلغ، ولا يثبت الوفاء إلا بالبينة. وكذا لو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال المخاطب: (أجلني بها) ؛ لأن التأجيل إنما يكون في حق واجب، ولو لم يذكر الضمير في هذا وفيما قبله، لا يكون إقراراً، لعدم انصرافه إلى الكلام المذكور.
وفي دعوى الإبراء بأن قال: (أبرأتني منها) مثل قوله: (قد قضيتها) ؛ لأن الإبراء إسقاط، وهذا إنما يكون في مال واجب عليه.
وكذلك دعوى الصدقة والهبة بأن قال: (تصدقت بها علي أو وهبتها لي) كان ذلك أيضاً إقراراً منه، مثل دعوى القضاء؛ لأن التمليك بالصدقة أو بالهبة يقتضي أسبقية الوجوب والالتزام.
وكذلك لو قال: (أجلتك بها على فلان) يكون إقراراً أيضاً؛ لأنه يعني تحويل الدين من ذمة إلى ذمة، وهذا لا يكون بدون التزام.
ولو قال رجل لآخر: (لي عليك ألف درهم) فقال: حقاً أو صدقاً، يكون إقراراً؛ لأن معناه تصديقه فيما يدعي عليه.
(8/227)
الإقرار بالدين المقترن بلفظ آخر: كل ما ذكر إذا كان لفظ الإقرار مطلقاً عن التقييد بشيء آخر، فإن اقترن بلفظ الإقرار لفظ آخر مخالف لمعنى اللفظ الأول، بأن قال: (لفلان علي ألف درهم وديعة) يكون إقراراً بالوديعة بشرط اتصاله بالإقرار كالاستثناء؛ لأن قوله (وديعة) تغيير لحكم الإقرار من كون المال ديناً إلى كونه محفوظاً أمانة، وهذا بيان معتبر، فيصح بشرط كونه موصولاً بالكلام السابق لا منفصلاً، كما هو الشرط في الاستثناء.
فإن كان البيان منفصلاً عن الكلام السابق، بأن سكت، ثم قال: عنيت به الوديعة، لا يصح بيانه، ولا يصدق، ويكون إقراراً بالدين؛ لأن بيانه المتأخر خلاف ظاهر الكلام السابق، فلا يصدق به على الغير. ولو قال: (علي ألف درهم وديعة قرضاً، أو وديعة ديناً، أو مضاربة قرضاً أو ديناً) فهو إقرار بالدين؛ لأن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن، بأن يكون الشيء في مبدأ الأمر أمانة، ثم يتغير حاله، فيصير مضموناً، إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة إذا استهلكت ونحوها، والإنسان غير متهم على نفسه في الإقرار بالضمان.
ولو قال: (لفلان عندي أو معي ألف درهم قرضاً) فهو إقرار؛ لأنه بيان معتبر دال على أن وجود الألف عنده ليس أمانة، وإنما ديناً مضموناً.
ولو قال: (عندي كذا) وأعني به الإقرار: صُدِّق، وإن كان كلامه منفصلاً؛ لأن هذا إقرار على نفسه، فلا يتهم الإنسان فيه.
ولو قال: (له من مالي ألف درهم لا حق لي فيها) فهو إقرار بالدين؛ لأن الألف التي لا حق فيها تكون ديناً إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق.
(8/228)
الإقرار المكتوب: لو ادعى رجل على آخر مالاً، وأخرج بذلك خطاً بخط يده على إقرار له بالمال، وأنكر المدعى عليه أنه خطه، فاستكتب، فكتب، فكان بين الخطين مشابهة ظاهرة دالة على أنهما خطا كاتب واحد، قال أئمة بخارى: إنه حجة يقضى بها، وقد نص محمد في المبسوط على أنه لا يكون حجة؛ لأنه لو قال: (هذا خطي وأنا كتبته غير أنه ليس علي هذا المال) : لا يلزمه شيء، فهذا أولى.
ولو كتب بخطه صكاً فقيل له: تشهد به؟ فقال: نعم، فيكون إقراراً، ولو لم يقل شيئاً: لا يكون إقراراً. ويعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع؛ لأن كل واحد من هؤلاء لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه (1) .
والخلاصة: يشترط في صيغة الإقرار لفظ صريح أو كناية يدل على الالتزام بالمقر به، وفي معنى اللفظ الصريح الكتابة مع النية، وإشارة الأخرس المفهمة.
المطلب الثالث ـ شروط صحة الإقرار:
اتفق الفقهاء على صحة الإقرار بحق من الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره (2) . ويصح إقرار العبد بجريمة تقتضي حداً أو قصاصاً، كما يصح إقرار العبد المأذون في التجارة والمعاملة بثمن الأشياء، والأجرة، والغصوب، والودائع، ويصح إقرار المكاتب في الأموال، ويصح عند الحنفية إقرار العبد المحجور بالمال، لكن لا ينفذ على السيد في الحال، وإنما يطالب به العبد بعد العتق والحرية. ولا ينفذ عند الحنابلة إقرار العبد بالقصاص في النفس، وإنما يطالب به بعد العتق، ولكن يصح الإقرار منه بالقصاص فيما دون النفس عندهم. وبالاتفاق لا يصح إقرار الصبي والمجنون والمكرَه والمتهم في إقراره. وعلى هذا تكون شروط الإقرار ما يلي:
1 - العقل والبلوغ: فلا يصح إقرار المجنون. ويعبر البلوغ شرطاً عند الجمهور لصحة الإقرار، فلا يصح إقرار الصبي غير البالغ أيضاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى
__________
(1) مجمع الضمانات: ص 370 وما بعدها.
(2) البدائع: 222/7، تكملة فتح القدير: 281/6، اللباب: 76/2، تبيين الحقائق: 3/5، الشرح الكبير للدردير: 397/3 وما بعدها، المهذب: 343/2، مغني المحتاج: 238/2، المغني: 138/5، مجمع الضمانات: ص 365 وما بعدها.
(8/229)
يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (1) ورفع القلم معناه رفع التكليف والمسؤولية. ولأن غير البالغ ممنوع من التصرفات.
وليس البلوغ شرطاً لصحة الإقرار عند الحنفية، فيصح إقرار الصبي العاقل بالديون والأعيان؛ لأنه من ضرورات التجارة.
2 - الطواعية أو الاختيار: فلا يصح إقرار المستكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد سبق تفصيل حكم إقرارات المستكره في بحث الإكراه.
3 - عدم التهمة: يشترط ألا يكون المقر متهماً في إقراره، فإن اتهم بإقراره لملاطفة صديق ونحوه بطل الإقرار؛ لأن التهمة تخل برجحان الصدق على الكذب في إقراره، والإقرار يعتبر شهادة على النفس، والشهادة ترد بالتهمة، ودليل اعتباره شهادة قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء:135/4] .
4 - أن يكون المقر معلوماً: فلو قال رجلان: (لفلان على واحد منا ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأن المقر إذا لم يكن معلوماً لا يتمكن المقر له من المطالبة بالدين، فلا يكون في هذا الإقرار فائدة، فلا يصح.
فإذا أقر الحر البالغ العاقل لزمه إقراره عند الحنفية، سواء أكان المقر به مجهولاً أم معلوماً، ويقال له: بيِّن المجهول، فإذا لم يبين أجبره القاضي على البيان. والقول في البيان قول المقر مع يمينه، إن ادعى المقر له أكثر من الذي بينه، لإنكاره
__________
(1) سبق تخريجه، رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي عن السيدة عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان أيضاً.
(8/230)
الزائد، واليمين على من أنكر. فإن قال: (له علي مال) فالمرجع في بيانه إليه، ويقبل قوله في القليل والكثير (1) .
ويلاحظ أن الشافعية (2) : فرقوا بين أثر الحجر على السفيه وأثر الحجر على المفلس، فقالوا: لا يصح إقرار السفيه بدين في معاملة قبل الحجر أو بعده، وكذا بإتلاف مال في الأظهر، لأنه ممنوع من التصرف بماله. ويصح إقراره بالحد والقصاص؛ لعدم تعلقهما بالمال، ولبُعد التهمة، ويصح طلاقه وخلعه وظهاره ونفيه النسب بلعان، وحكمه في العبادة كالرشيد، لكن لا يفرّق الزكاة بنفسه، وإذا أحرم بحج فرض وكّل الولي ثقة ينفق عليه في طريقه، وإ ن أحرم بتطوع، المذهب أنه كمحصر فيتحلل بالصوم.
أما المفلس فيصح ويقبل إقراره بعين أو دين وجب قبل الحجر في الأصح في حق الغرماء، كما لو ثبت بالبينة، ولا يصح إقراره بدين أو حق وجب بعد الحجر بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها، ولا يقبل في حق الغرماء. ويصح نكاحه وطلاقه وخلعه واقتصاصه وإسقاطه كالسفيه كما تقدم.
المطلب الرابع ـ أنواع المقر به:
المقر به عموماً نوعان: حقوق الله تعالى، وحقوق العباد (3) .
أما حقوق الله تعالى:
فنوعان عند الحنفية:
أحدهما ـ أن يكون الحق خالصاً لله، أي للمجتمع، وهو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوه من المسكرات، والإقرار به صحيح. ولو رجع المقر عن إقراره بموجب الحد قبل إقامة الحد، بطل الحد، لاحتمال صدقه في الرجوع، فأورث رجوعه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
__________
(1) مجمع الضمانات: ص 364-366، الكتاب مع اللباب: 76/2.
(2) مغني المحتاج: 148/2، 172 وما بعدها.
(3) راجع البدائع: 223/7.
(8/231)
ويكفي في الإقرار أن يكون مرة إلا في الزنا عند الحنفية، فإنه يشترط أن يكون أربع مرات، كما حدث في إقرار ماعز بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم، وذلك خلافاً للقياس، فيقتصر على مورد النص.
وقال أبو يوسف وزفر: يشترط تعدد الإقرار بأن يكون مرتين بعدد الشهود. ولكن روي أن أبا يوسف رجع عن هذا الرأي، ويلاحظ أن التعدد في الإقرار بالقذف ليس بشرط باتفاق الحنفية.
ويحكم بموجب الإقرار في الحدود، سواء تقادم العهد على حدوث مقتضى الحد، أم لا، إلا في شرب الخمر، فإنه لا يعتبر الإقرار عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب الرائحة وتقادم العهد؛ لأن ابن مسعود جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر، ولم يجلده حتى تحقق من الرائحة.
وسبق ذكر الحديث وتفصيل هذا الموضوع في مبحث حد الشرب الذي عرفنا فيه أن محمداً رحمه الله قال: يحد شارب الخمر بالإقرار أو بالشهادة، ولو بعد ذهاب الرائحة.
الثاني ـ أن يكون للعبد فيه حق: وهو حد القذف. وقد ذكرت في مبحث هذا الحد شروط صحة الإقرار بجريمة القذف والزنا وسائر الحدود.
وأما حقوق العباد أي حقوق الأفراد، فأنواع:
منها: حق طلب واستيفاء القصاص أو الدية.
ومنها: الحق في الأموال النقدية، أو العينية.
ومنها: الحق في الطلاق وحق الشفعة والنسب ونحوها.
ولا يشترط لصحة الإقرار بهذه الحقوق الفردية مايشترط للإقرار بحقوق الله تعالى من التعدد، وكونه في مجلس القضاء، والنطق بعبارة صريحة، وإنما يصح الإقرار فيها من الأخرس؛ كما لا يشترط لصحة الإقرار بها الصحو، فيصح إقرار السكران بها. وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات، بخلاف حقوق الله تعالى.
(8/232)
والشروط المختصة بالإقرار بحقوق العباد عند الحنفية هي ما يأتي (1) :
أولاً ـ أن يكون المقر له معلوماً، سواء أكان موجوداً أم حملاً في البطن: فلو كان المقر له مجهولاً، بأن قال إنسان: (لواحد من الناس علي ألف درهم) لا يصح الإقرار؛ لأنه لا يملك أحد مطالبته بمقتضى إقراره.
ولو قال: (لحمل هند علي ألف درهم) : فإن عزا إقراره لسبب مقبول، يصلح لثبوت الملك له، من طريق إرث أو وصية (2) ، كأن يقول: مات أبو الحمل، فورث الحمل هذا الألف، أو يقول: أوصى بالألف فلان لهذا الحمل، صح الإقرار، وكان المبلغ المقر به للحمل، أي الجنين بالاتفاق.
وحينئذ إن جاءت هند هذه بالولد في مدة يعلم أنه كان قائماً وقت الإقرار، لزم المقر ما أقر به. وإن جاءت به ميتاً، فالمال للموصي والمورث؛ لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة، ولم ينتقل في الواقع، فيقسم بين ورثة المورث. ولو جاءت بولدين حيين، فالمال بينهما.
وإن بين المقر سبباً مستحيلاً في العادة لا يمكن حدوثه من الجنين، كأن قال: أقرضني أو باعني شيئاً، فالإقرار باطل لاغ اتفاقاً.
وإن أبهم الإقرار، أي أطلقه، فلم يبين سبباً صالحاً يتصور لثبوت الملك للحمل كالإرث والوصية: لم يصح الإقرار عند أبي يوسف، قيل: وأبو حنيفة معه؛ لأنه لا يثبت للجنين شيء من الحقوق المالية، سواء أكان من جهة التجارة والمعاملة، أم من جهة الجناية، ومطلق الإقرار ينصرف إلى الإقرار بحق ثابت بسبب التجارة، فيعتبر كأن المقر صرح به، وهو غير مقبول منه.
__________
(1) المبسوط: 196/17 ومابعدها، البدائع: 223/7 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 304/6، تبيين الحقائق: 11/5، الدر المختار: 474/4، اللباب: 83/2، مجمع الضمانات: ص 369.
(2) إذ أن أهلية الجنين أهلية وجوب ناقصة فلا يتمكن من ثبوت الحقوق المالية له إلا ماكان من طريق الإرث، أو الوصية، أو الوقف، كما هو معلوم.
(8/233)
وقال محمد والشافعي في الأظهر ومالك وأحمد: يصح الإقرار للحمل إذا أطلقه المقر، أي لم يسنده إلى سبب كإرث أو وصية، ويحمل إقراره على سبب الملكية المتصور للحمل، بأن يحمل على أن هذا المبلغ أوصى به رجل، أو مات مورث الحمل وتركه ميراثاً له؛ لأن الإقرار حجة شرعية، فإذا صدر من أهله في محله، فيجب إعماله، وقد أمكن العمل به على النحو المذكور (1) .
هذا هو حكم الإقرار للحمل. وأما الإقرار بالحمل فجائز اتفاقاً، كما إذا أقر بحمل شاة لرجل، صح إقراره والتزم المقر بما أقر به، سواء بيَّن سبباً صالحاً لثبوت الملك أو أبهم؛ لأن لإقراره وجهاً صحيحاً: وهو الوصية بالحمل من جهة غير المقر، بأن أوصى بالحمل مالك الشاة لرجل، ومات فأقر وارثه، وهو عالم بوصية مورثه بأن هذا الحمل لفلان (2) .
ثانياً ـ ألا يتعلق بالمقر به حق الغير؛ لأن حق الغير معصوم محترم، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه، كإقرار المريض مرض الموت بدين لوارثه، لا يصح إقراره إلا بإجازة بقية الورثة؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، إذ يجوز أنه آثر بعض الورثة على بعض. وسأفصل بحثه في مبحث لاحق.
واشترط الشافعية شرطين في المقَرّ به:
1 - ألا يكون الحق المقر به ملكاً للمقر حين يقرّ به، لأن الإقرار إخبار عن كون الشيء مملوكاً للمقرّ له.
2 - أن يكون الحق المقرّ به في يد المقرّ، ليسلمه بالإقرار إلى المقرّ له، وإلا لم يتحقق مقتضى الإقرار.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 306/6، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 398/3، المهذب: 344/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 241/2 وما بعدها، المغني: 141/5 وما بعدها.
(2) المراجع السابقة، تكملة فتح القدير: 308/6،البدائع: 224/7، تبيين الحقائق: 12/5، اللباب: 84/2.
(8/234)
المطلب الخامس ـ الإقرار بالأموال:
يصح الإقرار بالأموال، سواء أكان المال عيناً من الأعيان، أم ديناً ثابتاً في الذمة، وسواء أكان المقر به معلوماً أم مجهولاً باتفاق العلماء؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم الإنسان مجهولاً بأن أتلف مالاً لا يدري قيمته، أو يطالب بتعويض جناية على أعضاء الإنسان لا يعلم مقداره، فلا تمنع الجهالة صحة الإقرار، والإقرار: إخبار عن ثبوت الحق، فيصح به. وحينئذ يصح أن يقول المقر: علي شيء أو حق، فيلزمه مجهولاً، ثم يطالب ببيان المجهول،
ليتمكن الغير من استيفائه، فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان بالحبس ونحوه؛ لأن المقر لزمه تفريغ ذمته التي شغلها بصحيح إقراره، ويتم ببيان مقدار المقر به.
وهذا بخلاف جهالة المقر له، فإن جهالته تفسد الإقرار؛ لأن المجهول لا يصلح مستحقاً، وبخلاف جهالة المقر، فإنها تفسد الإقرار أيضاً لجهالة المقضي عليه بوجوب دفع الحق إلى صاحبه، فلا يتمكن المقر له من المطالبة، فيصبح الإقرار عديم الفائدة (1) .
وعلى هذا، إن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة والقضاء؛ لأنه لا يمكن القضاء بمجهول، وأما في الإقرار فيطالب المقر ببيان الشيء أو الحق الذي أقر به، والقول قوله مع يمينه. ويظهر الحكم في المسائل الآتية التي تعتبر نموذج القبول عند القاضي لبيان ما يبينه المقر:
في الغصب:
1ً - إذا أقر إنسان أنه «غصب من فلان مالاً» أو قال «لفلان علي شيء، أو حق» فالإقرار صحيح ويلزمه أن يبين شيئاً له قيمة، ولا يقبل منه أن يبين شيئاً لا قيمة له، لأنه في المثال الأول لا يرد الغصب إلا على ما هو مال، وفي المثال الثاني أخبر المقر عن التزامه شيئاً في ذمته، وما لا قيمة له لا يلزم في الذمة.
__________
(1) تبيين الحقائق: 4/5، تكملة فتح القدير، المرجع نفسه: ص282، اللباب: 76/2، الدر المختار: 469/4، مغني المحتاج: 247/2، المهذب: 348/2، المغني: 171/5.
(8/235)
2ً - وإذا قال: «غصبت منه شيئاً» ثم بين ما لا قيمة له شرعاً، بأن قال: (غصبت صبياً حراً صغيراً) أو (خمراً لمسلم) أو (جلد ميتة) يصدق؛ لأن هذا مما يغصب عادة.
3ً - ولو قال: (غصبت شاة أو ثوباً) : فيصدق في بيان كون ذلك سليماً أو معيباً، أو قال: (غصبت داراً) يصدق سواء أكانت الدار في بلدة قريبة أم بعيدة؛ لأن الغصب يقع على حسب ما يصادف الشخص عادة، سواء أكان سليماً أم معيباً، ويصدق في بيان مكان الدار؛ لأنه أبهم المكان، فكان القول قوله في بيان المكان، ويلزمه تسليم الدار إلى المغصوب منه إن قدر على التسليم (1) . وإن عجز عن التسليم، بأن خربت الدار، فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يضمن العقار عندهما؛ لأنه غير مضمون القيمة بالغصب في رأيهما، وإنما هو مضمون الرد فقط؛ لأن معنى الغصب وهو إزالة يد المالك عن ماله بفعل في المال لم يوجد في العقار.
وعند محمد: يضمن قية الدار؛ لأن العقار عنده مضمون الرد إن كان موجوداً، ومضمون القيمة أيضاً إن كان هالكاً؛ لأن الغصب إزالة يد المالك عن ماله، والفعل في المال ليس بشرط، وقد تحقق هذا المعنى بإبعاد يد المالك عن العقار (2) .
__________
(1) البدائع: 215/7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 286/6، المبسوط: 185/17، مجمع الضمانات: ص 117.
(2) الخلاف بين أئمة الحنفية راجع إلى اختلافهم في ضمان العقار المغصوب بالهلاك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا غصب رجل عقاراً، فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل، لم يضمنه، لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله بلا نقل، والتبعيد للمالك عنه فعل في المالك، لا في العقار، فكان الحال كما إذا بعد المالك عن المواشي. وقال محمد: يضمنه لتحقق إثبات اليد الغاصبة التي يترتب على ثبوتها زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة.
فإذا انهدم البناء بفعل الغاصب ضمنه باتفاقهم جميعاً؛ لأن ما فعله إتلاف، والعقار يضمن بالإتلاف (راجع البدائع: 147/7، اللباب شرح مختصر الكتاب: 189/2) وراجع بحث الغصب.
(8/236)
المكيال والميزان:
4ً- لو قال المقر: (علي مد حنطة أو رطل شعير) فيعتبر بيانه بحسب مد البلد أو رطل البلد الذي أقر فيه.
الوزن أو العدد:
5ً - لو قال: (علي ألف درهم) فهو على ما يتعارفه أهل البلد من اعتبار الوزن أو العدد. فإن لم يكن شيئاً متعارفاً، فيحمل على الوزن؛ لأن الدراهم في الأصل موزونة. ويلاحظ أن المعتبر في عرفنا اليوم هو العدد، فإذا أقر بألف ليرة ذهبية أو فضية، فينصرف إقراره إلى العدد، فيلزم بهذا المبلغ عدداً، لا وزناً؛ لأن الأوزان متحدة عند سك النقود.
المقصود بدريهم ونحوه:
6ً - لو قال: (لفلان علي دريهم أو دنينير) فيلزم بدرهم تام ودينار كامل؛ لأن التصغير قد يذكر لصغر الحجم، وقد يذكر لاستحقار الدرهم، ونحوهما.
المقصود بدراهم ودنانير:
7ً - لو قال: (لفلان علي دراهم أو دنانير) فيصدق على ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة.
(8/237)
ولو قال: (علي دراهم كثيرة) يصدق في عشرة دراهم عند أبي حنيفة؛ لأنه جعل الكثرة صفة للدراهم، وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم هو العشرة، بدليل أنه إذا زاد على العشرة يقال: أحد عشر درهماً، واثنا عشر درهماً، ولا يقال: دراهم، فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم، فلا تلزمه الزيادة عليها. وعند الصاحبين: لا يصدق في أقل من مئتي درهم؛ لأن المقر به دراهم كثيرة، وما دون المئتين في حد القلة، ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاباً للزكاة.
مفهوم المال العظيم أو الكبير:
8ً ـ لو قال المقر: (لفلان علي مال عظيم) أو (كثير) أو (كبير) : فعليه مئتا درهم باتفاق الحنفية على المشهور عندهم؛ لأنه أقر بمال موصوف بوصف العظم، ونصاب الزكاة، أي المال الذي تجب فيه الزكاة: وهو المئتا درهم عظيم شرعاً وعرفاً، بدليل أنه اعتبر مالكه غنياً به، فأوجب عليه الشرع مواساة الفقراء، والغني عظيم عند الناس، حتى إنه يعد من الأغنياء عادة بملكه النصاب الشرعي.
هذا إذا كان المقر به من الدراهم، فإن كان من غيرها فيقدر بأقل النصاب الشرعي الواجب فيه الزكاة فيها، فإذا قال: (علي دنانير كثيرة) فيلزمه عشرون، وفي الإبل خمس وعشرون، وفي الحنطة خمسة أوسق أي (653) كغ تقريباً.
وإن قال: (علي أموال عظام) فعليه ست مئة درهم؛ لأن عظام جمع عظيم، وأقل الجمع الصحيح ثلاثة، وهذا على المشهور عند الحنفية (1) .
وقال الشافعية: لو أقر بمال أو بمال عظيم أو كبير أو كثير: قبل في تفسيره قليل المال وكثيره، لأن ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالنسبة إلى ما هو دونه.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن قال: (له علي دراهم) لزمه ثلاثة؛ لأنه جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وكذلك يلزمه ثلاثة عند الشافعية والحنابلة إن قال:
__________
(1) راجع لما سبق: المبسوط: 4/18 وما بعدها، البدائع: 219/7 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 288/6 وما بعدها، تبيين الحقائق: 5/5 وما بعدها، الدر المختار: 469/4 وما بعدها، اللباب: 77/3.
(8/238)
(له علي دراهم كثيرة) ؛ لأن الكثرة والعظمة لا حد لهاشرعاً ولا لغة ولا عرفاً، وتختلف بحسب النسب والإضافة وأحوال الناس، فالثلاثة أكثر مما دونها، وأقل مما فوقها. وقال المالكية: يلزمه أربعة؛ لأن الرابع أول مبادئ كثرة الجمع (1) .
المقصود بنوع الدراهم: إذا قال المقر: (لفلان علي ألف درهم) ولم يبين سبب الالتزام من بيع أو قرض ونحوهما: ثم قال: (هي زيوف) فيصدق إذا كان البيان متصلاً بالكلام السابق، فإن كان منفصلاً لا يصدق، لأن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف، فكان قوله (زيوف) بياناً للنوع، فيصح بشرط كونه متصلاً بما سبق، لا منفصلاً عنه.
ولو قال: (لفلان عندي ألف درهم) ثم قال: (هي زيوف) : يصدق سواء أكان البيان متصلاً بما قبله أم منفصلاً؛ لأن هذا إقرار بالوديعة، والوديعة مال محفوظ عند الوديع، قد يكون جيداً، وقد يكون رديئاً. والغصب في هذا مثل الوديعة.
فإن قال: (لفلان علي ألف درهم ثمن مبيع) أي بين سبب الالتزام، ثم قال: (هي زيوف) فلا يصدق، ويلزمه الجيد عند أبي حنيفة، سواء أكان البيان متصلاً أم منفصلاً؛ لأن البيع عقد معاوضة، فيتطلب سلامة العوضين عن العيوب؛ لأن كل عاقد لا يرضى إلا بالعوض السليم عن العيب، فكان إقراره بكون الدراهم ثمناً إقراراً بصفة السلامة عن العيوب، فيعتبر بيانه بعدئذ بالزيافة رجوعاً عن الإقرار، والرجوع عن الإقرار لا يصح، كما إذا قال: (بعتك هذا الثوب على أنه معيب) لا يصدق وإن كان بيانه متصلاً بما قبله، فكذا الحالة التي هنا.
__________
(1) انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 407/3، المهذب: 347/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 248/2، المغني: 160/5.
(8/239)
وقال الصاحبان: يصدق إن وصل كلامه بأصل الإقرار، وإن فصل لا يصدق؛ لأن اسم (الدراهم) كما يطلق على الجياد، يطلق على الزيوف؛ لأن «الدراهم» اسم جنس، والجيد والرديء نوعان منها، فإذا أطلق لفظ (الدراهم) انصرف إلى الجياد، فيصح بيان المقر إذا كان متصلاً بما قبله، لتعيينه بعض ما يحتمله اللفظ، ولا يصح منفصلاً، حتى لا يكون رجوعاً عن الإقرار.
ولو قال: (لفلان علي ألف درهم قرضاً) ثم قال: (هي زيوف) ففيه روايتان: رواية بالتفصيل مثل قول الصاحبين في البيع: إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق، ورواية تقرر أنه لا يصدق مثل قول أبي حنيفة في البيع؛ لأن القرض في الحقيقة مثل البيع: مبادلة مال بمال.
الاختلاف بين المقر والمقر له في اقتضاء الدين أو صفة وجود الشيء عند المقر:
لو قال: (اقتضيت من فلان ألف درهم كانت لي عليه) أو قال: (استوفيت) أو (قبضت) أو (أخذت) وأنكر المقر له، فقال: (لم يكن لك علي شيء) وقال: (هو مالي قبضته مني) فالقول قول المقر له مع يمينه، ويؤمر المقر برد الألف إلى المقر له، لأن الإقرار بالاقتضاء إقرار بالقبض، والقبض موجب للضمان، فهو بادعائه القبض على أساس اقتضاء الألف ديناً له، يدعي براءته عن الضمان، والآخر ينكر فيكون القول قوله مع يمينه.
وكذلك إذا أقر الشخص أنه قبض من آخر ألف درهم كانت وديعة عنده، وأنكر المقر له، قائلاً: (بل أخذتها غصباً) فالقول قول المقر له، لما بينت.
(8/240)
أما لو قال: (أودعني فلان ألف درهم) فقال فلان هذا: (لا، بل أخذتها غصباً) : فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن المقر ما أقر بسبب الضمان وهو الأخذ أو القبض، بخلاف ما سبق (1) .
الاستثناء في الإقرار: إن استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه جائز بغير خلاف، فهو ثابت في لغة العرب، وورد في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً} [العنكبوت:29/14] وقال: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} [الحِجر:15/30] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم في الشهيد: «يكفِّر عنه خطاياه كلها إلا الدين» (2) .
فإذا أقر رجل بشيء واستثنى منه، كان مقراً بالباقي بعد الاستثناء، فإذا قال: (له علي مئة إلا عشرة) كان مقراً بتسعين، ولذا قال في تعريف الاستثناء: إنه تكلم بالباقي بعد الثُنْيا (3) .
ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلاً بالكلام السابق، بأن يتصل المستثنى بالمستثنى منه بحيث يعد معه كلاماً واحداً عرفاً، فلا يصح الفصل بسكوت طويل وكلام أجنبي؛ لأن الاستثناء مغاير لما قبله، ولايضر الفصل اليسير لعارض كسكتة تنفس أو عي أو تذكر أو انقطاع صوت أو سعال أو عطاس، ويصح استثناء القليل من الكثير اتفاقاً، كما يصح عند الحنفية فقط استثناء الكثير من القليل في ظاهر الرواية. ولايصح استثناء الكل من الكل بغير خلاف؛ لأن الاستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ، واستثناء الكل رفع الكل، فلو صح الاستثناء صار الكلام لغواً غير مفيد.
__________
(1) راجع البدائع: 217/7 وما بعدها، المبسوط: 126/18، مختصر الطحاوي: ص 115، مجمع الضمانات: ص 376.
(2) هذا مأخوذ من مفهوم حديث طويل رواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس، وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين» (التاج الجامع للأصول: 297/4، الإلمام: ص 483) .
(3) بضم فسكون فألف مقصورة في آخره: اسم من الاستثناء.
(8/241)
ويجوز الاستثناء من الاستثناء، بالعطف أو بدونه مثل: «علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين» فيكون مستثنياً لخمسة مبقياً لخمسة، ومثل قوله تعالى: {قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحِجر:58/15-60] .
ويصح عند المالكية والشافعية الاستثناء في الإقرار من غير الجنس، ولا يصح ذلك عند الحنفية والحنابلة (1) . وتفصيله يعرف من التطبيقات الآتية:
واشترط الفقهاء أيضاً شرطاً آخر: وهو ألا يستغرق المستثنى المستثنى منه، فيصح الإقرار إذا قال المقر: له علي خمسة إلا أربعة، ولا يصح إذا قال: له علي خمسة إلا خمسة، فاستثناؤه باطل، وتلزمه الخمسة كلها؛ لأنه أقرَّ بها.
1 - استثناء القليل من الكثير:
إذا قال المقر: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم) يلزمه سبعة دراهم، لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، كأنه قال: لفلان علي سبعة دراهم.
وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم غير درهم) يلزمه درهمان؛ لأن كلمة (غير) بالنصب تفيد الاستثناء.
ولو قال: (لفلان علي ألف درهم سوى ثلاثة دراهم) يلزمه ما عدا المستثنى؛ لأن (سوى) من ألفاظ الاستثناء.
وكذا إذا قال: (علي ثلاثة دراهم إلا درهماً) فعليه درهمان.
ولو قال: (علي عشرة إلا ثلاثة) يلزمه سبعة.
ولو قال: (إلا سبعة) يلزمه ثلاثة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الاستثناء.
__________
(1) المبسوط: 191/17، البدائع: 209/7 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 371، تكملة فتح القدير: 390/6، تبيين الحقائق: 13/5، الدر المختار: 478/4، مختصر الطحاوي: ص 114، اللباب: 78/2، الشرح الكبير للدردير: 410/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 257/2، المهذب: 349/2، المغني: 142/5 وما بعدها، 162.
(8/242)
ولو قال: (لفلان علي ألف إلا قليلاً) فعليه أكثر من نصف الألف، والقول قول المقر في الزيادة على النصف مع يمينه؛ لأن القليل من أسماء النسبة أو الإضافة، فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه، ليكون هو بالإضافة إليه قليلاً.
وكذا إذا قال: (علي قريب من الألف) أو (زهاء ألف) أو (عُظْم الألف) ، لأن هذا أكثر من النصف بيقين، وفي الزيادة: القول قوله.
2 - استثناء الكثير من القليل:
إذا قال المقر: (لفلان علي تسعة دراهم إلا عشرة) فيجوز الاستثناء في ظاهر الرواية عند الحنفية، ويلزمه العشرة؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، وهذا المعنى متحقق في استثناء الكثير من القليل، إلا أنه مستقبح في كلام العرب؛ لأن الاستثناء لاستدراك الغلط، ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة.
وقال أبو يوسف وبقية علماء المذاهب: لا يجوز هذا الاستثناء؛ لأنه لم يرد في كلام العرب.
3 - استثناء الكل من الكل:
هو مثل أن يقول شخص: (لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة) يكون الاستثناء لاغياً بالاتفاق، ويلزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهو عشرة دراهم؛ لأن هذا ليس باستثناء، وإنما هو رجوع عما تكلم به، والرجوع عن الإقرار في حقوق الناس لا يصح، فبطل الرجوع، وبقي الإقرار.
4 - الاستثناء من الاستثناء:
الاستثناء من الاستثناء يكون استثناء المستثنى، أي من الكلام الذي يليه، لكونه أقرب المذكور إليه، ثم ينظر إلى الباقي من المستثنى، فيستثنى من المستثنى منه، أي ما قبل (إلا) أو غيرها من أدوات الاستثناء، مثل أن يقول: (علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرار بثمانية؛ لأننا صرفنا الاستثناء الأخير إلى ما يليه، فبقي درهمان يستثنيان من العشرة، فيبقى ثمانية.
(8/243)
ولو قال: (لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهماً) يكون إقرراً بسبعة؛ لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه، وهي ثلاثة، فبقي درهمان استثناها المقر من خسمة، فبقي ثلاثة استثناها من أصل المستثنى منه فبقي سبعة. وهكذا.
5 - الاستثناء من غير الجنس (أو الاستثناء المنقطع) :
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إذا كان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه ينظر: إن كان المستثنى مما لا يثبت ديناً في الذمة مثل: (لفلان علي عشرة دراهم إلا ثوباً) لا يصح الاستثناء؛ لأن المستثنى منه وهو العشرة دراهم ثبت بالإقرار ديناً في الذمة، وأما المستنثى وهو الثوب: فهوعين من الأعيان لا يحتمل الثبوت والالتزام به في الذمة، فلا يكون من جنس المستثنى منه، إذ لا مجانسة بين الثياب والدراهم، لا في الاسم ولا في احتمال الالتزام به في الذمة، فلا يتحقق معنى الاستثناء أصلاً. ثم إنه لا يعرف قدر الثوب من الدراهم، فيكون المستثنى مجهولاً، وجهالة المستثنى توجب جهالة المستثنى منه، فلا يصح الاستثناء.
وأما إن كان المستثنى مما يثبت ديناً في الذمة وهو المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض، بأن قال: (لفلان علي مئة درهم إلا ديناراً أو إلا قفيز حنطة) صح الاستثناء عند الشيخين من الحنفية، ويلزمه مئة درهم إلا قدر قيمة ما استثناه من الدينار أو القفيز؛ لأن المجانسة بين المستثنى والمستثنى منه شرط عندهما، والمجانسة بين الدينار والدرهم متحققة إذ أن كلاً منهما من جنس الأثمان التي تقدر بها قيم الأشياء، والمجانسة بين الدراهم والمكيل والموزون ونحوها متحققة أيضاً؛ لأن كلاً منها يمكن أن يثبت ديناً في الذمة حالاً مؤجلاً، وذلك إذا وصف المكيل أو الموزون، ويكفي تحقق المجانسة بهذا المعنى.
(8/244)
وقال محمد وزفر والحنابلة، لا يصح الاستثناء في الإقرار من غير الجنس مطلقاً، سواء أكان المستثنى ثوباً أم مكيلاً أم موزوناً؛ لأن معنى الاستثناء ـ وهو (إخراج بعض ما تناوله المستثنى منه على معنى أنه لولا الاستثناء لكان داخلاً تحت اللفظ) ـ لا يتصور في خلاف الجنس، فغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام، فلا يكون استثناء.
وقال مالك والشافعي: يصح الاستثناء من غير جنس المستثنى منه، مثل (لفلان علي ألف من الدراهم إلا ثوباً) يعني إلا قدر قيمة ثوب؛ لأنه ورد في القرآن الكريم ولغة العرب، قال الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} [الكهف:18/50] وقال الله تعالى: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء:77/26] وقال سبحانه: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء:157/4] وقال الله عز وجل: {لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً} [مريم:62/19] وقال الشاعر:
وبلدةٍ ليس بها أنيس..... ..... إلا اليعافير، وإلا العيس (1)
6 - الاستثناء أو التعليق بمشيئة الله:
اتفق الحنفية، والشافعية على المذهب على أن المقر إذا قال: (لفلان علي ألف إن شاء الله) أو (إلا أن يشاء الله) لم يلزمه شيء، سواء قدَّم الألف على المشيئة أم لا؛ لأنه لم يجزم الالتزام، بل علقه بالمشيئة، ومشيئة الله مغيبة عنا. وكذلك لا يلزمه شيء إذا قال: (لفلان علي ألف درهم إن شاء فلان) فالإقرار باطل؛ لأن مشيئة غير الله لا توجب شيئاً (2) .
__________
(1) أي رب بلدة، الواو بمعنى رب، واليعافير ـ جمع يعفور: وهو ولد الظبية، وولده البقرة الوحشية، والعيس: الإبل البيض واحدها أعيس، والأنثى عيساء، وهو استثناء منقطع، معناه: الذي يقوم مقام الأنيس: اليعافير والعيس.
(2) تكملة فتح القدير مع العناية: 314/6، تبيين الحقائق: 15/5، اللباب: 79/2، مغني المحتاج: 255/2.
(8/245)
العطف في الإقرار:
لو قال المقر: (علي درهم ودرهم) أو (درهم فدرهم) أو (درهم ثم درهم) : لزمه درهمان عند الحنفية والحنابلة والمالكية؛ لأن حرف العطف يقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه.
وقال الشافعية: إن أقر بدرهم في وقت، ثم أقر بدرهم في وقت آخر: لزمه درهم واحد، لأنه إخبار، فيجوز أن يكون قوله خبراً عما أخبر به أولاً، وهذا مذهب الحنابلة أيضاً خلافاً للحنفية. وإن قال: (علي درهم ودرهم) أو (درهم ثم درهم) : لزمه درهمان؛ لأن الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه. وإن قال: (درهم فدرهم) لزمه درهم واحد إذا لم يرد العطف؛ لأنه يحتمل الصفة
أي فدرهم لازم لي أو أجود منه (1) .
وقال الحنفية (2) : لو قال المقر: (علي ألف ونيِّف) فعليه الألف، والقول قوله في بيان النيف؛ لأنه عبارة عن الزيادة.
ولو قال: (لفلان علي بضع وخمسون درهماً) لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة دراهم؛ لأن البضع في اللغة من الثلاثة إلى التسعة، فيحمل على أقل المتعارف؛ لأنه متيقن به.
ولو قال: (علي لفلان مئة درهم) فالمائة: دراهم. ولو قال: (مئة ودينار) فالمائة: دنانير، ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف، وهذا هو الحكم أيضاً في كل مكيل وموزون وعددي متقارب؛ لأنها تثبت ديناً في الذمة.
أما في عروض السلع كالثياب والعددي المتفاوت كالبطيخ والرمان ونحوهما، بأن قال: (علي مئة وثوب) أو (عشرة ودابة) أو (ألف ورمانة) فيلزمه المعطوف المسمى وهو الثوب أو الدابة ونحوهما. والمرجع في بيان المعطوف عليه وهو المئة وغيرهما إليه، لعطفه مفسراً على مبهم، والعطف لم يوضع للبيان، فبقيت المئة مبهمة، فيرجع في البيان إليه؛ لأنه هو الذي أبهم الكلام.
__________
(1) المغني: 157/5، المهذب: 348/2، مغني المحتاج: 252/2 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 407/3.
(2) البدائع: 222/7، اللباب شرح الكتاب: 79/2، الدر المختار ورد المحتار: 473/4، تكملة فتح القدير: 299/6، مختصر الطحاوي: ص 113.
(8/246)
الاستدراك في الإقرار:
الاستدراك إما أن يكون في الصفة أو في القدر، والاستدراك في القدر إما أن
يكون في نفس الجنس، أو في غير الجنس، فهذه ثلاثة أنواع للاستدراك (1) .
1 - الاستدراك في الصفة: بأن يقول: (علي قفيز حنطة جيدة، لا بل وسط) فيلزمه الأجود عند الحنفية؛ لأنه غير متَّهم في زيادة الصفة، متَّهم في نقصان الصفة، فكان مستدركاً في الجيد، راجعاً في الوسط، فيصح استدراكه، ولا يصح الرجوع عن الإقرار.
2 - الاستدراك في القدر في نفس الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل ألفان) أو قال: (علي دينار، لا بل ديناران) فيلزمه الأكثر في المذاهب الأربعة؛ لأن الإقرار إخبار، والمخبر عنه مما يجري الغلط في قدره أو صفته عادة، فيحتاج إلى استدراك الغلط فيه، فيقبل الاستدراك إذا لم يكن متهماً فيه؛ لأنه نفى الاقتصار على درهم واحد أو دينار واحد، وأثبت الزيادة عليه.
3 - الاستدراك في القدر بخلاف الجنس: بأن يقول: (علي ألف درهم، لا بل مئة دينار) أو (علي قفيز حنطة، بل قفيز شعير) : وحكمه أنه يلزمه جميع ما أقر به عند جمهور الفقهاء؛ لأن الغلط في خلاف الجنس لا يقع عادة، فلا يحتاج لاستدراكه، ولأن ما قبل الاستدراك لا يمكن أن يكون نفس ما بعده ولا بعضه، فكان مقراً بهما، ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما.
وقال المالكية: لو قال المقر: (علي درهم، لا بل ديناران) فإن الدرهم يسقط، ويلزمه الديناران؛ لأن (بل) نقلت حكم الأول للثاني، و (لا) للتأكيد على مذهب جمهور النحاة (2) .
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 212، المبسوط: 103/18 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 377.
(2) راجع البدائع: 212/7، الشرح الكبير: 407/3، مغني المحتاج: 253/2، المهذب: 348/2، المغني: 158/5 وما بعدها.
(8/247)
المطلب السادس ـ الإقرار في حال الصحة وفي حال المرض:
المراد بالصحيح: من ليس في مرض الموت، سواء أكان غير مريض أصلاً أم مريضاً بغير مرض الموت.
والمراد بالمريض: من هو في مرض الموت (1) . فالمقصود من المرض والصحة هو المعنى الشرعي الذي تتبدل به الأحكام بحسب حالة كل منهما، وذلك في الطلاق والوصايا والإقرار وغيرهما، وليس المقصود بهما المعنى اللغوي.
ومرض الموت: هو المرض الذي يعجز صاحبه عن ممارسة أعماله المعتادة على أن يكون مما يخاف منه الهلاك غالباً، ويتصل به الموت فعلاً. فهذه ثلاث صفات لابد من تحقيقها كلها، بحيث لو لم تتحقق واحدة منهن لم يعتبر المرض مرض موت. فلو كان المرض يسيراً لا يمنع صاحبه من القيام بشؤون نفسه كما يعتاده الصحيح، أو كان مما تغلب النجاة منه عادة، ولو مات منه فعلاً، أو كان مما يخاف منه الهلاك غالباً، ولكنه لم يمت فعلاً، فإنه لا يعد مرض موت، وحينئذ يعتبر تصرف المريض فيه كتصرف الصحيح في الصحة والنفاذ (2) .
والإقرار في حال الصحة: يصح للوارث والأجنبي، وينفذ من جميع مال المقر، لعدم تعلق حق الورثة بماله في حال الصحة، بل يثبت الدين في الذمة، وإنما يتعلق الدين بالتركة حالة المرض، أي يتعين فيها وينتقل من الذمة إليها. وعلى هذا فلا يقدم الدين السابق على اللاحق، ويتساوى الغرماء أي (الدائنون) في أخذ حقوقهم إذا صار المدين مريضاً، فليس لأحد أفضلية على الآخرين، ولا يحق للمدين أن يؤثر في حال مرضه بعض الغرماء على بعض، بعكس حال الصحة، فإن له أن يؤثر البعض.
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ص 795، الطبعة السادسة.
(2) اللباب شرح الكتاب: 84/2، أصول الفقه للمؤلف: 173/1، ط دار الفكر.
(8/248)
والإقرار في المرض نوعان: إقرار باستيفاء الدين من غيره، وإقرار بالدين لغيره.
أما إقرار المريض باستيفاء الدين من غيره: فيصح إذا كان الدين على أجنبي في حال الصحة، ولا يصح إذا كان الدين ناشئاً حال المرض لتعلق حق الغرماء بمال المريض. كذلك لا يصح إذا أقر باستيفاء دين وجب له على وارث؛ لأن إقراره بالاستيفاء إقرار بالدين، وإقرار المريض لوارثه باطل.
وأما إقرار المريض بالدين لغيره: فإن كان إقراراً لأجنبي جاز عند أكثر العلماء؛ لأنه غير متهم به في حقه، قال عمر وابنه عبد الله: (إذا أقر المريض بدين لأجنبي، جاز ذلك من جميع تركته) .
وإن كان إقراراً بالدين لوارث: لم يصح إقراره عند الحنفية والحنابلة إلا ببينة أو بموافقة بقية الورثة أو بمشاهدة القاضي؛ لأنه متهم في هذا الإقرار، لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض، ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه، ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلاً.
وقال عمر وابنه في الأثر السابق: (إذا أقر المريض لوارثه لم يجز) وروى الدراقطني في سننه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (لاوصية لوارث، ولا إقرار له بالدين) (1) إلا أن هذه الزيادة في الحديث غير مشهورة، وإنما المشهور هو قول ابن عمر السابق. فإن صدق المقر بقية الورثة فيما أقر به لواحد منهم صح الإقرار؛ لأن المانع تعلُّق حقهم في التركة، فإذا صدقوه زال المانع (2) .
__________
(1) هذا حديث مرسل: وفيه نوح بن درَّاج ضعيف، وأسنده أبو نعيم الحافظ، ثم ذكر ما معناه أنه روي مرسلاً أيضاً، قال ابن القطان: وهو الصواب (نصب الراية: 111/4) .
(2) المبسوط: 24/18، 31، البدائع: 224/7، تكملة فتح القدير: 8/7 وما بعدها، الدر المختار: 481/4، المغني: 197/5، تبيين الحقائق: 25/5.
(8/249)
وهنا ذكر فقهاء الحنفية (1) مسائل، فقالوا: من أقر بدين لأجنبي عنه في مرض موته ثم قال: هو ابني، ثبت نسبه منه وبطل إقراره له؛ لأن دعوى النسب تستند إلى وقت العلوق (بدء الحمل) فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح إقراره.
ولو أقر لأجنبية، ثم تزوجها، لم يبطل إقراره لها؛ لأن الزوجية طارئة يقتصر وجودها على زمان التزوج.
ومن طلق زوجته في مرض موته طلاقاً ثلاثاً أو أقل بطلب منها ثم أقر لها بدين ومات وهي في العدة، فلها الأقل من الدين الذي أقر به، ومن ميراثها منه؛ لأن الزوجين متهمان في ذلك، لجواز أن يكونا توصلا بالطلاق إلى تصحيح الإقرار، فيثبت أقل الأمرين. فإن تم الطلاق بغير طلب المرأة، كان الزوج فارَّاً بطلاقه لحرمانها من الميراث، فلها الميراث بالغاً ما بلغ ويبطل الإقرار. وإذا انقضت عدتها قبل موته، ثبت إقراره ولا ميراث لها.
وقال الشافعية على المذهب: يصح إقرار المريض مرض الموت لوارث، كما يصح لأجنبي؛ لأن من صح إقراره له في الصحة، صح إقراره في المرض كالأجنبي؛ ولأن الظاهر أن المقر محق في إقراره؛ لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر (2) .
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والشافعية في الإقرار هو أن الشافعية قالوا: إن الفعل إذا وجد مطابقاً لظاهر الشرع حكم بصحته، ولا تعتبر التهمة في الأحكام؛ لأن الأحكام تتبع الأسباب الجلية دون المعاني الخفية. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه:
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 85/2 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 240/2، المهذب: 354/2.
(8/250)
كل فعل تمكنت التهمة فيه، حكم بفساده، لتعارض دليل الصحة والفساد (1) .
وقال المالكية: يصح إقرار المريض مرض الموت إذا لم يتهم المقر في إقراره، ويبطل إن اتهم، كمن له بنت وابن عم، فأقر لابنته، لم يقبل، وإن أقر لابن عمه قبل، لأنه لا يتهم في أنه يمنع ابنته ويصل ابن عمه (2) .
هل يفضل دين الصحة؟ لو أقر شخص في صحته بدين لإنسان، وأقر في مرضه لآخر: فقال الحنفية: دين الصحة وما لزمه في مرضه بسبب معروف، أي (ما ليس بتبرع) يقدم على ما أقر به في مرض موته، فإذا أقر رجل في مرض موته بديون، وكان عليه ديون لزمته حال صحته، سواء علم سببها أو ثبتت بإقراره، وعليه أيضاً ديون لزمته في مرضه، لكن علم سببها كبدل شيء تملكه أو أهلكه، أو مهر مثل امرأة تزوجها: فدين الصحة والدين الذي عرف سببه حال مرضه مقدم على ما أقر به في مرضه؛ لأن الإقرار لا يعتبر حجة إذا كان فيه إبطال حق الغير، وإقرار المريض يترتب عليه إبطال حق الغير؛ لأن حق غرماء الصحة تعلق بمال المريض بدلاً من ذمته كما أشرت، ولهذا منع المريض مرض الموت من التبرع ومحاباة أحد الغرماء مطلقاً إذا أحاطت الديون بماله، فإن لم يكن عليه دين يمنع من التبرع بما يزيد عن ثلث التركة.
وإنما تقدم ديون المرض المعروفة السبب ببينة أو بمعاينة القاضي؛ لأنه لا تهمة في ثبوتها؛ لأن الشيء المعاين لا مرد له. ولا يجوز للمريض أن يحابي أحد الغرماء، فيقضي دين البعض دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق الباقين، إلا إذا قضى الدين الذي استقرضه في مرضه، أو نقد ثمن ما اشتراه أثناء مرضه.
فإذا قضيت ديون الصحة والديون المعروفة الأسباب، وفضل شيء عنها، كان ذلك الفاضل مصروفاً فيما أقر به حال المرض؛ لأن الإقرار في ذاته صحيح، لكنه لم ينفذ في حق غرماء الصحة، فإذا لم يبق لهم حق ظهرت صحته.
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 102.
(2) المغني: 197/5، الشرح الكبير: 398/3.
(8/251)
وإن لم يكن على المريض ديون في صحته: جاز إقراره؛ لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير، وكان المقر له أولى من الورثة؛ لأن قضاء الدين مقدم على حقوق الورثة. هذا هو مذهب الحنفية (1) .
وقال جمهور الفقهاء: دين الصحة ودين المرض يتساويان، فلا يقدم دين الصحة على دين المرض؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا كما لو ثبتا ببينة، أي أنهما يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن كامل الأهلية، بل إن الباعث على صدق المقر حال المرض أقوى منه حال الصحة؛ لأن المرض سبب التورع عن المعاصي والتوبة عما جرى في الماضي (2) .
ومنشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم في دين الصحة والمرض هو القاعدة السابقة التي ذكرها الزنجاني، فعند الشافعي ومن وافقهم يتساوى إقرار الصحة وإقرار المرض في استحقاق الغرماء من التركة؛ إذ الإقرار مشروع في حالتي الصحة والمرض، ولا تعتبر التهمة في الأحكام. وقال الحنفية: إن الإقرار حال
__________
(1) راجع البدائع: 225/7، اللباب شرح مختصر القدوري: 84/2 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 20/7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 23/5 وما بعدها، الدر المختار: 482/4.
(2) مغني المحتاج: 240/2، المغني: 197/5.
(8/252)
الصحة أقوى من حيث إنه صادف حالة إطلاق الحرية في التصرف. وإقرار المرض صادف حال الحجر والمنع من التبرعات، فهو متهم فيه من حيث إن الشرع قدرة التبرع، فلا يؤمن عدوله من التبرع إلى الإقرار (1) .
المطلب السابع ـ الإقرار بالنسب:
يمكن الإقرار ببنوة طفل تصحيحاً لوضع سابق كزواج مكتوم، لا من زنى.
وهذا الإقرار بالنسب ـ أي القرابة ـ نوعان:
الأول: أن يلحق المقر النسب بنفسه.
الثاني: أن يلحقه بغيره. وإلحاق النسب بالغير قد يثبت النسب، وقد يقتصر فقط على المشاركة بالإرث دون ثبوت النسب.
وقد اشترط الفقهاء شروطاً أربعة لصحة إقرار الإنسان بنسب على نفسه، أي باستلحاق النسب من نفسه. وهي (2) :
1ً - أن يكون المقر به مجهول النسب: فإن كان معروف النسب من غيره، لم يصح استلحاقه بالإقرار؛ لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره ولا يحتمل ثبوته له، ولأن المقر يقطع نسب المقر به الثابت من غيره. وقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (3) .
2ً - أن يكون المقر به محتمل الثبوت من نسب المقر، فلا يكذبه الحس ظاهراً أو لا ينازعه فيه منازع، بأن يكون في سن يمكن أن يكون منه بحيث يولد مثله لمثله، فلو كان المقر به في سن لا يتصور كونه منه، أو كان المقر مقطوع الذكر والانثيين من زمن يتقدم على زمن بدء الحمل بالمقر به، لم يصح الإقرار بثبوت نسبه؛ لأن الحس يكذبه. وكذلك إذا نازع المقر منازع آخر غيره لم يثبت نسبه؛ لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارض الإقراران، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر.
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: ص 102 وما بعدها.
(2) راجع البدائع: 228/7، تكملة فتح القدير: 14/7، الدرالمختار: 485، تبيين الحقائق: 27/5، اللباب: 86/2، الشرح الكبير: 412/3-414، مغني المحتاج: 259/2، المغني: 184/5.
(3) رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ (من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة) ورواه الطبراني عن خارجة بن عمرو الجمحي، وفيه ضعيف، وأخرجه الشيخان أيضاً (الجامع الصغير: 162/2، وراجع مجمع الزوائد: 214/4، 285/6، مذكرة تفسير آيات الأحكام بالأزهر: 11/4) .
(8/253)
3ً - أن يصدق المقر له في إقراره إن كان أهلاً للتصديق بأن يكون مكلفاً، أي بالغاً عاقلاً عند الجمهور، أو يستطيع أن يعبر عن نفسه، أي يكون مميزاً عند الحنفية؛ لأن الولد له حق في نسبه، وهو أعرف به من غيره. فإن كان الولد صغيراً لا يعبر عن نفسه ـ بحسب رأي الحنفية ـ لم يعتبر تصديقه، لأنه بمنزلة المتاع.
وقال المالكية: ليس تصديق المقر به شرطاً لثبوت النسب من المقر؛ لأن النسب حق للولد على الأب، فيثبت بإقراره بدون توقف على تصديق من الولد إذا لم يقم دليلاً على تكذيب المقر.
4ً - ألا يكون فيه حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر له أم صدَّقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة قاصرة على نفسه، لا على غيره؛ لأنه على غيره شهادة أودعوى، وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال غير مقبولة، والدعوى المفردة ليست بحجة.
وهذه الشروط تشترط أيضاً في الإقرار بنسب على الغير ما عدا الشرط الأخير بالطبع، فإنه لا يشترط عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت النسب بالإقرار على الغير بالشروط السابقة، وبشرط كون المقر جميع الورثة، وبشرط كون الملحق به النسب ميتاً، فلا يلحق بالحي ولو مجنوناً لاستحالة ثبوت نسب الشخص ـ مع وجوده حياً ـ بقول غيره.
وعلى هذا يقول الحنفية في الإقرار بالنسب وفي حمل النسب على الغير ما يأتي:
1 - الإقرار بالنسب: يجوز إقرار الرجل بالوالدين، والولد، والزوجة، سواء في حالة الصحة أو المرض، كهذا ابني أو أنا أبوه؛ لأنه إقرار على نفسه، وليس فيه حمل النسب على الغير، وذلك بالشروط المتقدمة، وبشرط أن تكون الزوجة خالية عن زوج وعن عدته، وأن يخلو المقر عن أخت الزوجة أوعمتها أو خالتها، وألا يكون في عصمته أربع سواها.
(8/254)
ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج لما تقدم، ولا يقبل إقرارها بالولد؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، وهو نسب الولد على الزوج، قال الله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب:5/33] فلا يقبل إقرارها إلاإذا صدقها الزوج، أو تشهد امرأة قابلة أو غيرها على الولادة، بخلاف الرجل؛ فإنه يصح إقراره بالولد؛ لأن فيه حمل نسب الولد على نفسه.
ويلاحظ أن إقرار المرأة بالولد إنما لا يصح إذا كانت ذات زوج، أو معتدة منه، فإن لم تكن متزوجة ولا معتدة، فيصح إقرارها بالولد مطلقاً؛ لأن فيه إلزاماً على نفسها دون غيرها. وكذلك يقبل إقرارها بالولد إذا كانت متزوجة أو معتدة وادعت أن الولد من غير هذا الزوج.
وإذا صح الإقرار بالنسب لإنسان، شارك الورثة في الميراث؛ لأنه لما ثبت نسبه من المقر صار كالوارث المعروف، فيشارك ورثة المقر. ولا يجوز الإقرار بالنسب بغير هؤلاء المذكورين من الوالدين والولد والزوج والزوجة، مثل الأخ والعم والجد وابن الابن، وإ ن صدَّقه المقر له؛ لأنه فيه حمل النسب على الغير، إلا إذا ثبت النسب ببرهان، كما سيأتي.
2 - الإقرار بحمل النسب على الغير: الإقرار من الرجل بالنسب على الغير، كهذا أخي أو عمي:
قد يثبت به النسب بإثباته بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد، بواسطة إقرار رجلين أو رجل وامرأتين؛ لأن في الإقرار حمل النسب على غيره، فاعتبر بمثابة الشهادة، فلزم فيه العدد المذكور.
وقال مالك: لا يثبت النسب إلا بإقرار اثنين؛ لأنه يحمل النسب على غيره، فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف: إن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الإرث، ثبت نسبه، وإن كان الوارث واحداً ذكراً أو أنثى؛ لأن النسب حق يثبت بالإقرار، فلم يطلب فيه
(8/255)
العدد كالدين، ولأن الإقرار قول لا تشترط فيه عدالة، فلم يصح قياسه على الشهادة (1) .
وقد يقتصر الإقرار بالنسب على الغير ممن لا يصح إقراره، كالأخ والعم والجد وابن الابن على إثبات حق المشاركة في الإرث (2) ، إذا لم يكن للمقر وارث معروف.
وعلى هذا: إن كان للمقر وارث معروف نسبه: قريب كأصحاب الفروض والعصبات، أو بعيد كذوي الأرحام، فالوارث المعروف أولى بالميراث من المقر له؛ لأنه لما لم يثبت نسبه منه، لم يزاحم الوارث المعروف النسب، فلو أقر شخص بأخ وله عمة أو خالة، فالإرث للعمة أو الخالة، ولا شيء للمقر له؛ لأنهما وارثان بيقين، فكان حقهما ثابتاً بيقين، فلا يجوز إبطاله بصرف الإرث إلى غيرهما.
وإن لم يكن للمقر وارث معروف: استحق المقر له ميراثه؛ لأن له ولاية التصرف في مال مال نفسه عند عدم الوارث، فيستحق جميع المال، وإن لم يثبت نسبه منه، لما فيه من حمل النسب على الغير، ولا تعتبر هذه وصية في الحقيقة، حتى إنه يترتب ما يأتي:
من أقر بأخ، ثم أوصى لآخر بجميع ماله: كان للموصى له ثلث جميع ماله خاصة. فالوصية تنفذ من الثلث؛ لأن المقر له بالأخوة وارث في ظنه وزعمه، ولو كان موصى له لاشترك الاثنان في قسمة التركة نصفين، لكن يعتبر الإقرار المذكور يمنزلة الوصية، بدليل أنه يجوز للمقر أن يرجع عن الإقرار؛ لأن نسبه لم يثبت، فلا يلزمه الإقرار؛ لأنه وصية من وجه، فلو أقر شخص في مرضه بأخ، وصدقه المقر له، ثم أنكر المقر وراثته، ثم أوصى بماله كله لإنسان ومات ولا وارث له، كان ماله جميعاً للموصى له. فإن لم يوص لأحد كان ماله لبيت المال؛ لأن رجوعه عن الإقرار صحيح؛ لأن النسب لم يثبت، فبطل إقراره.
وإذا مات إنسان وخلف ابناً واحداً، فأقر بأخ آخر: لم يثبت نسب أخيه؛ لأن فيه حمل النسب على الغير، والإقرار مقبول في حق نفسه غير مقبول في حق غيره، ويشارك المقر له بالأخوة المقر في الإرث من أبيه؛ لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير، ولا ولاية له عليه، فلا يثبت النسب، والاشتراك في المال، وله فيه ولاية، فيثبت. ومن مات وترك ابنين، فأقر أحدهما بأخ ثالث: فإن صدقه أخوه المعروف في أخوته، اشترك المقر له مع الابنين في الميراث. وإن كذبه فيه، فإنه يقسم المال بين الأخوين المعروفي النسب نصفين، ثم يقسم النصف بين الأخ المقر له، والأخ المقر مناصفة أيضاً (3) .
__________
(1) المغني: 183/5، الشرح الكبير: 417/3، مغني المحتاج: 261/2 وما بعدها، البدائع: 229/7 وما بعدها.
(2) ويلزم المقر في حق نفسه أيضاً بالنفقة والحضانة، كما يلزم بالإرث إذا تصادق المقر له والمقر على الإقرار؛ لأن إقرارهما حجة عليهما.
(3) راجع البدائع: 230/7، تكملة فتح القدير: 19/7، تبيين الحقائق: 28/5، الدر المختار: 487/4، اللباب شرح الكتاب: 87/2، مغني المحتاج: 261/2، المغني: 186/5، الشرح الكبير للدردير: 415/3، 417.
(8/256)
المبحث الرابع ـ القضاء بالقرائن:
أهمية القرائن: القضاء بالقرائن أصل من أصول الشرع، وذلك سواء في حال وجود البينة أو الإقرار، أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض غني موسر، وقد ترد البينة أو الإقرار حال وجود التهمة، مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلاً مرجحاً أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد ونحوه كما عرفنا، وقد تعتبر القرينة دليلاً وحيداً مستقلاً إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها، في رأي المالكية والحنابلة. قال ابن القيم: ومن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية، فقد عطل كثيراً من الأحكام، ووضع كثيراً من الحقوق (1) .
تعريف القرينة: القرينة لغة: هي العلامة الدالة على شيء مطلوب (2) . واصطلاحاً: هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. يفهم من هذا التعريف أنه لا بد في القرينة من أمرين:
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 100.
(2) التعريفات للجرجاني: ص 152.
(8/257)
1 - أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساساً للاعتماد عليه.
2 - أن توجد صلة مؤشرة بين الأمر الظاهر والأمر الخفي.
وبمقدار قوة هذه الصلة تنقسم القرائن قسمين: قرائن قوية، وقرائن ضعيفة. وللفقهاء والقضاة دور ملحوظ في استنباط نتائج معينة من القرائن. ومن القرائن الفقهية: اعتبار ما يصلح للرجال من متاع البيت عند اختلاف الزوجين في ملكيته هو للرجل، كالعمامة والسيف، وما يصلح للنساء فقط كالحلي للمرأة بشهادة الظاهر، وملاحظة العرف والعادة (1) .
ومن القرائن القضائية: الحكم بالشيء لمن كان في يده، باعتبار أن وضع اليد قرينة على الملك بحسب الظاهر.
وإذا كانت القرينة قطعية تبلغ درجة اليقين، مثل الحكم على الشخص بأنه قاتل إذا رئي مدهوشاً ملطخاً بالدم، ومعه سكين بجوار مضرج بدمائه في مكان، فإنها تعد وحدها بينة نهائية كافية للقضاء.
أما إذا كانت القرينة غير قطعية، ولكنها ظنية أغلبية، كالقرائن العرفية، أو المستنبطة من وقائع الدعوى وتصرفات الأطراف المتخاصمين، فإنها تعد دليلاً مرجحاً لجانب أحد الخصوم، متى اقتنع بها القاضي، ولم يوجد دليل سواها، أو لم يثبت خلافها بطريق أقوى.
ولا يحكم عند جمهور الفقهاء بهذه القرائن في الحدود؛ لأنها تدرأ بالشبهات ولا في القصاص إلا في القسامة، للاحتياط في موضوع الدماء وإزهاق النفوس. ويحكم بها في نطاق المعاملات المالية والأحوال الشخصية عند عدم وجود بينة في إثبات الحقوق الناشئة عنها.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 50/4.
(8/258)
إلا أن المالكية (1) : أثبتوا شرب الخمر بالرائحة، والزنا بالحمل، ووافقهم ابن القيم في إثبات الزنا بالحمل، وفصل الحنابلة (2) فقالوا: تحد الحامل بالزنا، وزوجها بعيد عنها إذا لم تدّع شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها.
قال ابن القيم (3) : نظر جمهور الفقهاء كمالك وأحمد وأبي حنيفة إلى القرائن الظاهرة والظن الغالب الملتحق بالقطع في اختصاص كل واحد منها بما يصلح له، ورأوا أن الدعوى تترجح بما هو دون ذلك بكثير، كاليد والبراءة والنكول، واليمين المردودة، والشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، فيثير ذلك ظناً تترجح به الدعوى. ومعلوم أن الظن الحاصل ههنا أقوى بمراتب كثيرة من الظن الحاصل بتلك الأشياء، وهذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
وقد نصب الله سبحانه على الحق الموجود والمشروع علامات وأمارات تدل عليه وتبينه. ونصب على الإيمان والنفاق علامات وأدلة. واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده العلامات في الأحكام، وجعلوها مبينة لها، كما اعتبر العلامات في اللقطة، وجعل صفة الواصف لها آية وعلامة على صدقه، وأنها له.
وجعل الصحابة الحبل علامة وآية على الزنا، فحدوا به المرأة، وإن لم تقر، ولم يشهد عليها أربعة، بل جعلوا الحبل أصدق من الشهادة، وجعلوا رائحة الخمر وقيئه لها آية وعلامة على شربها، بمنزلة الإقرار والشاهدين.
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم نحر كفار قريش يوم بدر عشر جزائر أوتسعاً، آية وعلامة
على كونهم ما بين الألف والتسع مئة، واعتبر العلامة في السيف وظهور أثر الدم به في الحكم بالسلَب لأحد المتداعيين. ونزَّل الأثر منزلة بينة. واعتبر إنبات الشعر حول القبُل في البلوغ، وجعله آية وعلامة له. فكان يقتل من الأسرى يوم قريظة من وجدت فيه تلك العلامة، ويستبقي من لم تكن فيه، وجعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل. واعتبر العلامة في الدم الذي تراه المرأة ويشتبه عليها: هل هو حيض أو استحاضة؟ واعتبر العلامة فيه بوقته ولونه، وحكم بكونه حيضاً بناء على ذلك.
وفرق الحنابلة بين الركاز واللقطة بالعلامات: فقالوا: الركاز: ما دفنته الجاهلية، ويعرف برؤية علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلُبهم. وأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم، أو كقرآن ونحوه فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه. وإن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامة الكفار هو لقطة؛ لأن الظاهر أنه صار لمسلم دفنه في الأرض. وما ليس عليه علامة فهو لقطة، تغليباً لحكم الإسلام.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 356.
(2) مطالب أولي النهى: 193/6.
(3) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ص 97 وما بعدها، 214 وما بعدها.
(8/259)
البَابُ السَّادس: نِظَام الحُكْمِ في الإسلام
وفيه الكلام عن فصول أربعة:
الفصل الأول: السيادة ـ سلطة التشريع العليا في الحكم الإسلامي.
الفصل الثاني: سلطة التنفيذ العليا ـ الإمامة.
الفصل الثالث: السلطة القضائية في الإسلام.
الفصل الرابع: الدولة الإسلامية.
الفَصْلُ الأوّل: السِّيادة ـ سلطة التَّشريع العُليا في الحكم الإسلاميّ
يشمل الفصل الأول أربعة مباحث وهي ما يأتي:
المبحث الأول ـ السيادة أو الحاكمية:
لاخلاف بين المسلمين في أن مصدر جميع الأحكام التشريعية من أوامر ونواهٍ هو الله تعالى، لا يشاركه فيه أحد من الناس فيما وضع من مبادئ وأصول وتشريعات مفصلة محددة. وطريق التعرف عليها ما أنزل الله في قرآنه أو أوحى به إلى نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم.
(8/260)
وفي ذلك ضمان وثيق لحرية الإنسان والحفاظ على كرامته ومصالحه، وعدم استبداد أحد به. أما إعطاء سلطة التشريع والأمر لأحد من الناس فهو إشراك في ربوبية الله، وطريق يؤدي إلى الاستبداد والطغيان والظلم والعسف وإهدار حرية الإنسان والإضرار بمصالحه الخاصة التي لا تصطدم مع المصالح العامة.
وقد تضافرت النصوص القرآنية الدالة على استقلال الله بهذه السلطة فيما شرع من أحكام، مثل قوله تعالى: {إنِ الحكم إلاّ لله} [يوسف:40/12] {إنَّ الأمر كله لله} [آل عمران:154/3] {فالحكم لله العلي الكبير} [غافر:12/40] {وهو خير الحاكمين} [الأعراف:87/7] {وأنزلنا إليك الكتاب، بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} [المائدة:48/5] {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} [المائدة:45/5] أو {الكافرون} [المائدة:44/5] أو {الفاسقون} [المائدة:47/5] .
المبحث الثاني ـ استخلاف الأمة في تنفيذ الشريعة
الناس وكلاء عن الله في تبليغ وتقرير وتنفيذ أحكامه، ورعاية تطبيقها، وفهم مدلولاتها، عن طريق سلطة الاجتهاد فيما تدل عليه، أو تهدف إليه من غايات، أوتحد من حدود يلزم السير في نطاقها، وتنظم الحياة في محورها، والتوكيل مفهوم من قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30/2] . وإذا ورد النص القرآني دالاً على استخلاف بعض الرسل والأنبياء كأحسن مثال، فإن البشر أيضاً من بعدهم هم خلفاء الأرض: {إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف:69/7] {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس:14/10] {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ... } [الأنعام:165/6] .
وما على الخليفة (1) أو الوكيل إلا أن ينفذ أوامر المستخلف له: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء:58/4] {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] .
__________
(1) ليست الخلافة عن الله تعالى؛ لأنه ليس في البشر شيء من صفات الله العظمى الذي استخلفهم، وإنما هي خلافة الناس بعضهم عن بعض، فهم خلفاء الأرض.
(8/261)
وقد حددت هذه الآية الأخيرة مصادر التشريع في الإسلام التي تستقى في النهاية من مصدر واحد: وهو الوحي الإلهي، وهذه المصادر هي:
أولاً ـ القرآن الكريم. وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة الله تعالى.
ثانياً ـ السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند الله، والعمل بها محقق طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ثالثاً ـ الاجتهاد الجماعي أو إجماع ذي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم العامة، وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية، من الحكام والأمراء والعلماء ورؤساء الجند وخبراء السياسة والاجتماع والاقتصاد (التجارة والصناعة والزراعة والحرف الفنية والمهنية) والإجماع الذي لا بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي، يمثل إرادة الأمة العامة، لا سيما إذا أخذنا بقول الغزالي الذي لا يقصر الإجماع على العلماء، وإنما يدخل العوام معهم لينعقد الإجماع.
رابعاً ـ الاجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين: وهم المؤمنون بالله ورسوله، العارفون بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالتها على مدلولاتها. وتشمل طرق استنباط القواعد والأحكام والأنظمة لديهم عدة أصول، كالقياس والاستحسان والاستصلاح، والعرف والعادة، وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب.
(8/262)
فإن برز اختلاف بين الناس أو بين المجتهدين أو العلماء المتخصصين، عرض الأمر على القواعد العامة والمبادئ التشريعية والأهداف الأساسية المعلومة من القرآن والسنة على ألا يتعارض الرأي المقول به مع النصوص المحكمة أو الأدلة القطعية، وأن يتفق الحكم المقرر مع روح الإسلام ومقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا تطبيق لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59/4] .
ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا (1) ، يختارهم أولو الأمر بالنيابة عن الأمة من العلماء المختصين في موضوع النزاع، ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة، كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر رضي الله عنه للترشيح لمنصب الخلافة، وإتمام البيعة للمرشح من سائر الناس.
ويؤخذ في التصويت برأي الأكثرية أو الأغلبية، عملاً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر المجتهدين حجة، وإن لم يكن إجماعاً؛ لأن الخلافة لا يشترط فيها الإجماع، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يد الله مع الجماعة» «عليكم بالجماعة والعامة» «اتبعوا السواد الأعظم» (2) هذا ما لم يتبين للإمام الأعظم رجحان رأي الأقلين بدليل أوضح، أو لمصلحة أنسب، وإلا اتبع رأي أهل الشورى وهو معنى (العزم) في آية: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] أي (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال لأبي بكر وعمر مستشاريه: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» (3) ، وكما أبان عمر للرهط الستة في كيفية
__________
(1) منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 125 وما بعدها.
(2) حديث «يد الله مع الجماعة» رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه النسائي والطبراني عن عرفجة، وحديث «فعليكم بالجماعة» رواه أحمد، ورفعه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، وحديث «عليكم بالسواد الأعظم» رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أنس.
(3) تفسير ابن كثير: 420/1، ط الحلبي.
(8/263)
اختيار الخليفة من بعده، من الفريق الذي في صفِّه عبد الله بن عمر في حالة تساوي الأصوات، وهي قصة الشورى أو بيعة عثمان (1) .
المبحث الثالث ـ سيادة التشريع وتعاون السلطات
إن السلطات الثلاث: التشريعية (2) ممثلة بأولي الحل والعقد للاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص الشريعة، والتنفيذية ممثلة بالحاكم الأعلى ووزرائه، والقضائية ممثلة بالقضاة، ليس بينها مبدأ الفصل التام، ولا مبدأ الاندماج الوظيفي، فبالرغم من أن كل سلطة مستقلة في عملها عن الأخرى إلا أنها تساند وتعاون السلطات الأخرى، وهذه هي أحدث النظريات الديمقراطية التي سبق الإسلام إليها، باعتبار أن هذه السلطات تخضع كلها في دولة واحد لأصول شريعة سماوية تحترم مبدأ العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وتحارب الظلم واستبداد الحكام وتدخلهم الذي يؤثر في سير مجرى العدالة وأعمال القضاء والتنفيذ، وإذا كان الإمام رئيساً للسلطتين التشريعية والتنفيذية فإنه مقيد بتعاليم الإسلام. وهو لا يملك التشريع وإنما له كغيره حق الاجتهاد إذا توافرت فيه شروط الاجتهاد.
إن احترام أحكام الشريعة هو أساس عمل كل سلطة من هذه السلطات؛ لأن التشريع لله تعالى، وبذلك تتحقق سيادة التشريع الإسلامي فوق كل وضع شخصي أو مصلحي. وصلاحية التشريع مختصة بالكتاب والسنة أو إجماع الأمة، أو الاجتهاد، وهذه المصادر مستقلة عن الإمام، وهوملزم بها ومنفذ
__________
(1) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 254/1.
(2) التشريع الحقيقي كما عرفنا هو لله عز وجل، وأما إطلاق صفة التشريع على المجتهدين فهو من قبيل المجاز بمعنى الكشف عن أحكام الله وإبانتها للناس، وتعريفهم بضوابطها وقيودها، وتوضيح غاياتها، وإفتائهم بما يستجد من القضايا.
(8/264)
لأحكامها، كما أن القضاء المستقل أو الكائن بيد الإمام ينفذ أحكام الشريعة، أي أوامر الله (1) ، ومن أهم مبادئ الإسلام في هذه المصادر هو الشورى التي لا تهادن الاستبداد في مختلف صوره وأشكاله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي» (2) وهذا أوضح نص يبين سيادة التشريع الإسلامي، ومطالبة كل مسلم بالعمل بما جاء فيهما، وإن خالف إرادة الحاكم، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في معروف.. ويمكن توضيح ما سبق في تحديد العلاقة بين السلطات بما يأتي (3) :
إن فصل السلطات الثلاث في الإسلام (التشريع بمعنى الاجتهاد والتنفيذ والقضاء) يقوم على أساس فصل الوظيفة التشريعية، أي الاجتهاد عن سائر الوظائف الأخرى، لا على أساس الفصل العضوي، أي الشخص القائم بكل سلطة. فالإمام أو القاضي حينما يجتهد إنما يفعل ذلك لا بوصفه خليفة أو قاضياً، وإنما بسبب كونه مجتهداً يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص وأصول ومبادئ الشريعة. وكذلك فإن إدماج السلطتين القضائية والتنفيذية في شخص الإمام، أي من الناحية العضوية لم يكن يؤثر في استقلال القضاة في مباشرة وظائفهم، لالتزام الكل بالتشريع الإسلامي.
وحينئذ فلا خطر من عدم وجود الفصل العضوي أو الشخصي بين السلطات، كما عليه الدول الحديثة؛ لأن الوازع الديني هو أساس عمل المسلم،
__________
(1) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 335، ط الثالثة، منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 101 وما بعدها، ط الأولى.
(2) رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) راجع السلطات الثلاث لأستاذنا الدكتور سليمان الطماوي: ص 472-477، منهاج الحكم في الإسلام لمحمد أسد: ص 101-127.
(8/265)
حاكماً كان أو قاضياً أو فرداً عادياً. أما أساس الفصل الذي يرجع في الدول الحديثة لأهداف ثلاثة: وهي ضمان الحرية الفردية، وضمان شرعية الدولة، وتقسيم العمل، فلا مانع من الأخذ به وبمبدأ فصل السلطات فعلاً بين أشخاص القائمين بها بناء عليه، في المفهوم الإسلامي، لا سيما في وقتنا الحاضر حيث قل الوازع الديني وضعفت خشية الله تعالى، فوقع الظلم والتعسف والانحراف، كما وقع من بعض أمراء وحكام المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس، مما استدعى وجود قضاء المظالم الذي يشبه مجلس الدولة الآن.
يتبين لنا أن فصل السلطة التشريعية أي الاجتهاد، لا بمعنى الاستقلال في إنشاء وتشريع الأحكام عن سائر الوظائف الأخرى، كان هو المعروف في صدر الإسلام. وأما القضاء وإن لم يستقل عن التنفيذ في شخص الخليفة أو الوالي أحياناً، فهو بسبب كون القاضي مجتهداً. كذلك القاضي غير الخليفة أو الإمام مستقل في عمله عن السلطة التنفيذية، نظراً لأنه يستقي الأحكام المطبقة من المصدر الإلهي لا من السلطة التنفيذية.
لكن بين هذه السلطات تعاون وتضامن في التنفيذ دون تدخل شخصي، فعلى السلطة التنفيذية أن تنفذ قرارات مجلس الشورى في الأمور الأساسية والقضايا المبدئية أو المهمة، ولكن لها الحرية في اختيار الوسائل الإدارية لتنفيذ القوانين.
(8/266)
قال الماوردي مبيناً هذه المعاني بالنسبة لأحد موظفي التنفيذ وهو الوالي أو الأمير صاحب الإمارة الخاصة: «وأما نظره في المظالم، فإن كان مما نفذت فيه الأحكام وأمضاه القضاة والحكام، جاز له النظر في استيفائه معونة للمحق على المبطل، وانتزاعاً للمحق من المعترف المماطل؛ لأنه موكول إلى المنع من التظالم والتغالب، ومندوب إلى الأخذ بالتعاطف والتناصف. فإن كانت المظالم مما تستأنف فيها الأحكام، ويبتدأ فيها القضاء، منع منه هذا الأمير؛ لأنه من الأحكام التي لم يتضمنها عقد إمارته، وردَّهم إلى حاكم بلده ... » (1) .
المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع
بناء على ما سبق يتبين أن لاحق لأحد سوى الله في التشريع بالمعنى الحقيقي، سواء أكان حاكماً أم طائفة معينة، أم الأمة نفسها؛ لأن إعطاء أحدهم صلاحية التشريع يجعله متأثراً بالمصالح والأهواء الخاصة، وترك مصلحة الأمة العليا. ويبدو لنا ذلك واضحاً بعد انفصال السياسة عن الدين، وجعل التشريع بيد المجالس النيابية، حتى لم نعد نشاهد نصراً حاسماً محرزاً، أو تقدماً إيجابياً صالحاً، أو نهضة حقيقية، بسبب إغفال أوامر الله تعالى، وعدم اجتناب نواهيه. ويؤكد القرآن الكريم على ترك الاختصاص التشريعي لله ولرسوله، قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/33] {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلِّموا تسليماً} [النساء:4/65] {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63/24] .
والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم أو عرض له قضاء عام أو خاص، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يكن في
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 30.
(8/267)
الكتاب وعلم من سنة رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه، وبقية الصحابة، وأقرهم على هذه الخطة المسلمون (1) . وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضياً بالإسلام إلى اليمن، فقال له الرسول: كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو (أي لا أقصر في الاجتهاد) فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله (2) . وروى مالك عن علي قال: قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: اجمعوا العالمِين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد (3) .
لكن الأمة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها هي التي تختار أولي الحل والعقد حسبما تقتضي تطورات الظروف الاجتماعية والاقتصادية (4) ، فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلاء العلماء المتخصصين الذين اختارتهم، وقيدتهم بمبادئ الإسلام وأحكامه، وبالمصالح العامة فيما لا نص ولا إجماع فيه من الأمور الدنيوية والقضايا الاجتماعية المتجددة أو المتطورة.
__________
(1) أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 418/1، ط دار الفكر.
(2) قال الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 227: «وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة، كما أوضحت ذلك في مجموع مستقل» وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والبيهقي، وهو حديث مرسل في الأصح.
(3) أعلام الموقعين: 73/1.
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها للأستاذ علال الفاسي: ص 215.
(8/268)
وهذا يعني أن السيادة الأصلية لله تعالى، فيجب الرجوع إلى تشريعه أمراً ونهياً، وأما السيادة العملية فهي للأمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد. وحينئذ يجتمع هؤلاء في مكان مخصص لهم، بدلاً من الاجتماع في المسجد، كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس الأمة في عصرنا لمناقشة شؤون المسلمين، بشرط مراعاة أحكام وأسس التشريع الإسلامي فيما يصدرون من قوانين.
وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيراً أو قاضياً، فله الأخذ باجتهاده فيما لم يصادم إجماع المجتهدين، ويكون رأيه حينئذ ملزماً بصفته صاحب سلطة.
ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الاجتهاد باستجماع شروطه المقررة أصولياً وأهمها معرفة اللغة العربية ـ لغة القرآن والسنة، وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعة وفهم مقاصد الشريعة. ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للاجتهاد حتى تعرفه الأمة وترشحه لتمثيلها.
ومجال الاجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، وتحريم جرائم الزنى والسرقة والمحاربة وشرب المسكرات والقتل وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقصاص، وزواج المحارم ونحوها.
وأما ما يصح الاجتهاد فيه: فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع (1) . وعلى هذا فإن التشريعات الصادرة حديثاً التي لا تخالف الإسلام من قبل اللجان المشرِّعة، لا تخالف قواعد الاجتهاد في الفقه الإسلامي (2) .
والخلاصة: أن الاجتهاد في الشريعة مقصور على استمداد الأحكام الشرعية من مصدرها الإلهي، والحاكم هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزماً، لا الأغلبية، أما السلطة التشريعية في الدول الحاضرة فإن لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد، وتأخذ في ذلك بمبدأ الأغلبية.
__________
(1) راجع أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 1053/2، ط دار الفكر.
(2) السلطات الثلاث، المرجع السابق: ص 241.
(8/269)
الفَصْلُ الثّاني: سُلطة التَّنفيذ العُليَا ـ الإمامَة
ويتضمن مباحث عشرة هي:
المبحث الأول ـ تعريف الإمامة:
الإمامة العظمى أو الخلافة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحداً، وتدل على وظيفة واحدة هي السلطة الحكومية العليا. وقد عرفها علماء الإسلام بتعاريف متقاربة في ألفاظها، متحدة في معانيها تقريباً، علماً بأنه لا تشترط صفة الخلافة، وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها، ويدير شؤونها، ويدفع غائلة الأعداء عنها.
قال الدهلوي: الخلافة: هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة، وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء، وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة لصديق حسن خان: ص 23.
(8/270)
وقال التفتازاني: الخلافة: رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم (1) .
وقال الماوردي: الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (2) .
وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة الإمامة فقال: هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إلىها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي (أي الخلافة) في الحقيقة: خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (3) .
ويتبين من هذه التعاريف أن سلطة الخليفة تتناول أمور الدين، وسياسة الدنيا على أساس شرائع الإسلام وتعاليمه؛ لأن هذه التعاليم يراد بها تحقيق مصالح الناس في عالمي الدنيا والآخرة، أي أن العنصر العقدي والإنساني أو الأخلاقي يسير جنباً إلى جنب مع العنصر المادي، ويتآزر العنصران لإقامة المجتمع الفاضل المستقر المرفه المتمكن في الأرض الذي يقيم العزة والسيادة الفعلية بين جناحيه. وتتعاضد فيه الهداية الإلهية مع الإرادة البشرية والقوى العقلية عن طريق الإجماع والقياس.
وبهذا تغاير الخلافة أساساً السلطات السياسية الحالية التي تسير على هدي القوانين الوضعية التي تقتصر على تنظيم العلاقات الاجتماعية، وتقر واقع المجتمع ولو عارض الدين أو الفضيلة أحياناً.
__________
(1) شرح العقائد النسفية، الخلافة لرشيد رضا: ص 10.
(2) الأحكام السلطاني: ص 3، ط صبيح.
(3) المقدمة: ص 191، ط التجارية.
(8/271)
المبحث الثاني ـ حكم إقامة الدولة في الإسلام:
بالرغم من أن إيجاد الدولة أمر يوجبه العقل، ويحتمه الواقع، وتفرضه طبائع الأحداث، فقد رأينا اختلافاً بسيطاً غير حاد ولا خطير في شأن حكم الإمامة وجوباً وجوازاً. قال ابن تيمية (1) : يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (2) .
ويمكن تصنيف مذاهب الفرق الإسلامية في ثلاثة: مذهب الإيجاب، ومذهب الجواز، ومذهب الوجوب على الله.
أولاً ـ مذهب إيجاب الإمامة:
ترى الأكثرية الساحقة من علماء الإسلام (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إلا نفراً منهم، والخوارج ما عدا النجدات) : أن الإمامة أمر واجب أو فرض محتم (3) . قال ابن حزم: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حاشا النجدات، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 161.
(2) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
(3) شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص 142 وما بعدها، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للأشعري: 133/2، حجة الله البالغة للدهلوي: 110/2، أصول الدين للبغدادي: ص 271 وما بعدها، ط استانبول، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 3.
(8/272)
أن يتعاطوا الحق بينهم (1) . ونوع الفرضية هو الفرض الكفائي، قال الماوردي: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة (2) .
ثم انقسم هؤلاء فرقاً ثلاثاً، فقال أكثر الأشعرية والمعتزلة والعترة: إنها تجب شرعاً؛ لأن الإمام يقوم بأمور شرعية.
وقال الشيعة الإمامية: تجب الإمامة عقلاً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم، ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكان الأمر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي (الكعبي) وأبو الحسين الخياط والحسن البصري: تجب الإمامة عقلاً وشرعاً.
أدلة هذا المذهب:
أورد أصحاب هذه النظرية عدة براهين شرعية وعقلية وضرورات وظيفية.
1 ً - البرهان الشرعي:
وهو الإجماع: أجمع الصحابة والتابعون على وجوب الإمامة، إذ بادر الصحابة فور وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة ـ سقيفة بني ساعدة، وبعد تشاور كبار المهاجرين والأنصار بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه قياساً على تقديم الرسول صلّى الله عليه وسلم له لإمامة الناس في الصلاة أثناء مرضه الشريف، وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في اليوم التالي، مما ينبئ أنهم مجمعون على ضرورة وجود إمام أو خليفة.
قال الإيجي في المواقف وشارحه الجرجاني: «إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول، بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته المشهورة، حين وفاته عليه السلام: ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم
__________
(1) الفِصَل في الملل والنحل: 87/4، المحلى: 438/9، مسألة 1768، مراتب الإجماع: ص 124.
(2) الأحكام السلطانية: ص 3.
(8/273)
يزل الناس على ذلك، في كل عصر إلى زماننا هذا، من نصب إمام متبع في كل عصر» (1) وواضح من قول العلماء أن الإجماع منصب على ضرورة وجود الحاكم، وليس المهم شكل الحكم، من خلافة أو غيرها، مادام الشرع هو المطبق (2) .
والإجماع حجة قطعية يقينية على وجوب الإمامة بعد الرسول صلّى الله عليه وسلم وفي كل عصر، إذ لا يصلح الناس فوضى لا قادة ولا رؤساء لهم في كل زمان.
ويؤكد هذا الإجماع أو يعد مستنداً له إشارات في القرآن والحديث، قال الماوردي (3) : جاء الشرع بتفويض الأمور إلى ولي في الدين، قال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (4) ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا، وهم الأئمة المتأمرون علينا. وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ماوافق الحق، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم» . وهناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49/5] {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران:159/3] . ومارس النبي عليه السلام سلطات سياسية لا تصدر من غير قائد دولة، كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش
__________
(1) المواقف وشرحه: ص 603 وما بعدها، وانظر نهاية الإقدام للشهرستاني: ص 489.
(2) شكك الأستاذ علي عبد الرزاق في دعوى الإجماع هذه في كتابه الشاذ: «الإسلام وأصول الحكم» : ص 21 وما بعدها، متعللاً بعدم وجود دراسات علمية موسعة للخلافة عند السابقين، وأن كل الحكومات الإسلامية قامت على القهر والغلبةما عدا الخلافة الراشدية، والحقيقية أنه بالرغم من أن تأليف هذا الكتاب كان لظروف معينة اقتضته وهي التنديد بالخلافة العثمانية فهو إن أنكر صورة الحكم، فلا يستطيع إنكار ما تفرضه البداهة وطبيعة الأشياء من ضرورة إقامة دولة، وهو ماتم عليه الإجماع بالذات، لا أن الإجماع أمر لا بد منه لنصب كل حاكم، فالأغلبية فيه تكفي.
(3) الأحكا م السلطانية: ص 3.
(4) أي أن طاعة أولي الأمر تقتضي وجوب نصبهم وإقامتهم. [النساء:59/4] .
(8/274)
وتعيين الولاة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها (1) .
2 ً - البرهان العقلي ـ الشرعي:
وهو توفير النظام ودرء الفوضى، أي أن الاجتماع والتمدن طبيعي في البشر، وكل اجتماع يؤدي إلى التنازع والتزاحم والاختلاف بسبب حب الذات والحرص على المصالح الذاتية، وتحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية، والتنازع يفضي غالباً إلى الخصام والصراع والهرج والفوضى المؤذنة بهلاك البشر وانقراض النوع الإنساني إذا لم تنظم الحقوق وتحدد الواجبات ويفرض النظام، ويقوم الوازع الرادع، ويتم ذلك بالسلطان. قال الماوردي (2) : تجب الإمامة عند طائفة عقلاً لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين، وهمجاً مضاعين، وقد قال الأفواه الأودي ـ وهو شاعر جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم..... ..... ولاسراة إذا جهالهم سادوا
وهذا يعني أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق الإنسان تقتضي وجوب الإمامة أو السلطة.
3 ً - برهان الوظيفة:
إن قيام الإنسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الأرض وحامل الأمانة: (الفروض والتكاليف الدينية) يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل.
وهذه الواجبات لا تتحقق إلا في ظل وجود دولة، سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج والعمرة أم شعائر عامة كالأذان والجمعة والأعياد، أم معاملات اجتماعية كالعقود بأنواعها، أم تكاليف جماعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل الخير، وقمع الشر، ومحاربة الأهواء.
وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلاحية وعلى رأسها الإسلام لا يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها إلا في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلازم وجود الدولة.
__________
(1) راجع زاد المعاد لابن القيم: 124/2 وما بعدها.
(2) الأحكام السلطانية، المكان السابق.
(8/275)
وغريب أن نجد فكرة سديدة تخالف هذا المنطق أو تتجافى مع هذا التصور. قال النسفي: «والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار والصغيرات الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم (1) ، أي ونحو ذلك من الأمور المتطلبة لوجود الحاكم» .
وقال الإيجي في المواقف (2) : «إن في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإن دفع هذا الضرر واجب شرعاً. وبيان ذلك أننا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع، فيما شرع من المعاملات، والمناكحات، والجهاد، والحدود والمقاصات، وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم» .
وهناك برهان آخر يستتبع القيام بالوظيفة المقدسة للبشر: وهو أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر، لا سيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه رئيس القبيلة بالعرف والهوى الشخصي، وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق المتخاصمين، فلم يبق إلا القضاء الذي يلجأ إلىه كل إنسان بمفرده.
ومهمة القضاء في الإسلام لا تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم الإلهي، وفصل الخصومات، وتطبيق أحكام الشريعة، وإنما يشمل كل ما من شأنه رعاية الحرمات الدينية، واحترام الفضيلة، وإقرار المعروف، ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها.
فلولا القضاء لاستأصل البشر بعضهم، وهلكوا جميعاً، فكان وجوده رحمة، وتنظيمه فريضة، وقيام الدولة به ووجودها من أجله أمراً محتماً.
__________
(1) شرح العقائد النسفية للتفتازاني: ص 142 وما بعدها.
(2) المرجع السابق.
(8/276)
وإذا لا حظنا أن مهمة الدولة في الإسلام حراسة شؤون الدين والدنيا، وتحقيق السعادة للبشر في الحياة الدنيا والآخرة، علمنا مدى الأهمية المنوطة بالدولة المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها، ولولا ذلك لعمت الفوضى، وشاع الفساد، وانتشر الظلم بين العباد.
والخلاصة: إن تلازم وجود الدولة مع دعوة الإسلام ودين الإسلام أمر لا يمكن فصله في مفهوم إنسان، منذ أن قامت دولة المدينة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان ثلاثة: هي الشعب، والإقليم (الوطن) والسلطة السياسية أو السيادة (1) .
ثانياً ـ القائلون بمبدأ جواز الإمامة:
قالت فئة قليلة بجواز الإمامة لا بوجوبها، وهم المحكِّمة الأولى والنجدات من الخوارج، وضرار، وأبو بكر الأصم المعتزلي، وهشام الفُوَطي، وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة. قال الأصم ممثلاً هذا الرأي: لو تكافّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام (2) .
ويظهر من أقوال هؤلاء كما أبان ابن خلدون (3) أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل العليا، ويعارضون نظام الملك أو الخلافة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات، والاعتداء على الحقوق والاستبداد الغاشم.
__________
(1) انظر بحث الدولة الإسلامية المستفيض للموسوعة الفقهية في الكويت، للمؤلف والذي سيأتي طبعه هنا لأول مرة.
(2) قال الشهرستاني مبيناً رأي هؤلاء: إن الإمامة غير واجبة في الشرع وجوباً لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقوا اللوم والعقاب، بل هي مبنية على معاملات الناس، فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام ومتابعته (نهاية الإقدام في علم الكلام: ص 482) .
(3) المقدمة، الفصل 26 ص 192.
(8/277)
فهم لم يتهاونوا في شأن الإمامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة، بل قد أعلنوا وجوبها، فنقلوا الوجوب من الإمامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه، أي أن على الجميع الاشتراك في تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم، دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة. وهذه هي الديمقراطية المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلاسفة السياسة. ولكن تحقيق هذا أمر متعذر، فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فلا يمكن الاستغناء عنها (1) .
أدلتهم:
استدل هؤلاء المجوزون بأدلة جانبيةفحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا: إن وجود الحكومة يتنافى مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الاجتهاد بالرأي، ومبدأ المساواة، بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم. وإذا لم يطع الناس وقعت الفتنة والاختلاف. مع أن الحاكم ليس معصوماً من الخطأ، والشروط المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان.
لكن الحق يقال: إن المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الأفراد، ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما، ولأن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين حريات وحقوق الآخرين. ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلاك وفوضى وتعرض للأخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق الخاصة، أو يقدمه من ولاء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم.
__________
(1) النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 141 وما بعدها.
(8/278)
ثالثاً - رأي الشيعة الإمامية والزيدية والإسماعيلية:
اتفق الشيعة الإمامية والزيدية وأهل السنة والمعتزلة على وجوب الإمامة، لكن الإمامة والإسماعيلية قالوا بوجوبها عقلاً على الله، لا على الأمة.
وبما أن الشيعة يرون رأي المعتزلة في العقائد، فهذا الرأي مفرع على نظرية المعتزلة القائلة بوجوب فعل الصلاح والأصلح على الله تعالى، أو على (فعل اللطف) الإلهي عملاً بقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/6] . واللطف كما قال الشريف المرتضى (1) : هو الأمر الذي علم الله تعالى من حال المكلف أنه متى وجد ذلك الأمر، كان حاله إلى قبول الطاعات والاحتراز عن المعاصي أقرب مما إذا لم يوجد ذلك الأمر، وبشرط ألا ينتهي إلى حد الإلجاء. وبعبارة أخرى: اللطف هو خلق القدرة للعبد وإكمال العقل ونصب الأدلة وتهيئة وسائل فعل الطاعة، وترك المعصية.
أدلة الشيعة:
استدل الشيعة على مذهبهم بعد أن قدموا له بمقدمات معينة، فقالوا: إن في إقامة الإمام منافع كثيرة ودفع مضار متعددة، وبه يتم صلاح المعاش والمعاد، كما أوضحت في الأدلة العقلية السابقة.
وإذا كان الله تعالى قد خلق في الإنسان القوى الشهوانية والغضبية والوهمية، ولم يجعل له قوة تعصمه من الزلل وتحمله على الخير، فقد وجب عليه أن ينصب إماماً يقرب الإنسان من الطاعات، ويبعده من القبائح.
__________
(1) الأربعين في أصول الدين للرازي: ص 429.
(8/279)
فنصب الإمام إذن لطف، وكل لطف واجب على الله تعالى، فنصب الإمام واجب على الله تعالى. أما أن الإمامة لطف من الله في حق عباده، فلأن وجوب إمام عادل يمنعهم من المحظورات، ويحثهم على الطاعات يجعلهم أقرب إلى الطاعة، وأبعد عن المعصية. ثم إن الإمامة من الله لطف لأنها خالية من المفاسد والقبائح (1) .
فهم يقيسون (الإمامة) على (النبوة) . وبما أن الإمام هو حجة الله على خلقه، أو حجة الله في الأرض، وبما أن إرسال الرسل هو حجة الله على عباده لقوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/4] فكذلك الأئمة حجة له، وتكون الحكمة من وجود الأئمة مشابهة لحكمة وجود الرسل.
ومعنى كون الإمام حجة أنه البرهان القائم على أن الله أراد أن يبلغ شرعه لعباده، وأنه يخاطبهم ويكلفهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ولولا ذلك لكان للناس عذر في العصيان (2) .
ويخلصون من هذا إلى أن الإمامة ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر (3) .
والأئمة الذين يعترفون بهم هم علي ومن بعده. ويستدلون بآيات وأحاديث على أن الشرع قد جاء بتعيين هؤلاء الأئمة، لكن الإمامية قالوا: جاء التعيين بالنص على علي. وقال الزيدية: كان التعيين بالوصف.
__________
(1) نطرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية، للدكتور أحمد محمود صبحي: ص 72 ومابعدها.
(2) نهاية الإقدام للشهرستاني: ص 485.
(3) مقدمة ابن خلدون: الفصل 27.
(8/280)
نقد ومناقشة:
نوقش مذهب الشيعة في الإمامة فيما يتعلق بمبدأ اللطف في وجوب الإمام، وأدلتهم النقلية والعقلية. أما بالنسبة للّطف فكيف يتم قرب العبد من الطاعة وبعده عن المعصية بإمام غير ظاهر، فضلاً عن كونه غير متمكن ولا قادر. قال الرازي (1) : «الإمام الذي تقولون بوجوبه غير ظاهر قاهر سائس، فلا أثر له ولا خبر» إذ أنهم يقولون (بالتقية) وهي جواز اختفاء الإمام. وقال ابن تيمية (2) : الإمام الذي تصفونه مفقود غالباً ومعدوم لا حقيقة له عند سواكم، ومثله لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة، بل الإمام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح الأمة ممن لا ينفعهم بوجه. وقال الإيجي (3) : إنما يحصل اللطف بإمام ظاهر قاهر وأنتم لا توجبونه، فالذي لا توجبونه ليس بلطف، والذي هو لطف لا توجبونه.
وأما أدلتهم النقلية السمعية على تعيين الإمام فهي محل نظر، قال ابن حزم (4) : «وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة» . ومن المستحيل على الصحابة العدول المبشر بعضهم بالجنة أن يكتموا خبراً عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، لا سيما في شأن الإمامة ذات الأثر الخطير والشهير. وهل يعقل أن يتم التعيين من النبي ولا يعلم المعين نفسه، وإذا عين، فلماذا لم يتمسك به ويخاصم عليه، ويقطع دابر الخلاف الذي حدث لاختيار الخليفة (5) ؟!
وكذلك أدلتهم العقلية القائمة على مبدأ العصمة تحتاج إلى تأمل ودعم
__________
(1) الأربعين في أصول الدين: ص 439، ط حيدر آباد.
(2) المنتقى من منهاج الاعتدال: ص 408.
(3) المواقف: ص 387.
(4) الفصل في الملل والنحل: 94/4.
(5) مقدمة ابن خلدون، الفصل 27.
(8/281)
أقوى، إذ العصمة لم تثبت إلا لنبي، ولو كان علي كرم الله وجهه معصوماً لاستغنى بعصمته عن النبي في التعليم وغيره، كما قال الرازي (1) ، مع أنهم يسلمون بأنه كان محتاجاً للنبي ومؤتماً به، وإلا كان ذلك خروجاً عن الدين. وقال ابن حزم (2) : إن عمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا: لا بد من أن يكون إمام معصوم، عنده جميع علم الشريعة، فالجواب: أن ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، فبلاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائم بعد موته إلى يوم القيامة.
المبحث الثالث ـ كيفية اختيار الإمام (أو الحاكم الأعلى) :
طرق التعيين:
ذكر فقهاء الإسلام طرقاً أربعة في كيفية تعيين الحاكم الأعلى للدولة وهي: النص، والبيعة، وولاية العهد، والقهر والغلبة. وسنتبين أن طريقة الإسلام الصحيحة عملاً بمبدأ الشورى ومبدأ الفروض الكفائية هي طريقة واحدة وهي بيعة أهل الحل والعقد، وانضمام رضا الأمة باختياره. وأما ما عدا ذلك فمستنده ضعيف بسبب التعسف في تأويل النصوص، أو الاعتماد على نصوص واهية وأهواء خاصة، أو إقرار لواقع قائم لم يجد المسلمون حكمة أو مصلحة في الثورة عليه، أو القضاء على وجوده حسماً للدماء ومنعاً للفوضى، ومراعاة لظروف خارجية، أو رهبة من ضراوة الممسك بالسلطة التي آلت إليه بطرق غير مشروعة كالوراثة ونحوها.
__________
(1) نهاية العقول: ص 435، مخطوط بدار الكتب المصرية.
(2) الفصل في الملل والنحل: 95/4.
(8/282)
تعيين الإمام بالنص:
قال الشيعة الإمامية (1) : إن نصب الإمام لا يكون إلا بالنص أو الاختيار من الأمة، ولكنهم حرصاً منهم على حصر الإمامة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه نقدوا مبدأ الاختيار، وقالوا: يجب على الله لطفاً منه نصب إمام بنص صريح في آياته، وما على النبي إلا أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد فعل، فنص على أن علياً هو الخليفة من بعده.
وأطالوا في تأييد رأيهم بأدلة نقلية وعقلية وتاريخية (2) . أذكر بعضاً منها بإجمال وردّ أهل السنة عليها.
الأدلة الواردة في القرآن والسنة:
استدلوا بالآيات القرآنية الدالة على وجوب التزام أوامر الله والرسول، مثل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات:1/49] {وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيَرة} [القصص:68/28] {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الأحزاب:36/33] فليس للناس اختيار أمام أمر الله، فمن يختاره للنبوة والإمامة، وجبت طاعته، وبما أن الإمامة من الوظائف الدينية الموكول أمرها إلى الله، فتكون مما قضى الله ورسوله فيها بالنص.
لكن يلاحظ أن هذه الآيات ليست واردة في شأن الإمامة، وإنما تفيد النهي عن الاجتهاد بالرأي الشخصي حالة وجود نص على الحكم الشرعي في القرآن والسنة.
كذلك استدلوا بآيات من القرآن تفيد في زعمهم النص على إمامة علي، مثل قوله تعالى: {قل: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} [الشورى:23/42] وقرابته: أهل بيته وهم علي
__________
(1) ينكر الشيعة الزيدية ومعتزلة بغداد وغيرهم وجود نص من الرسول صلّى الله عليه وسلم على خلافة علي، وإن كانوا يفضلونه على غيره.
(2) راجع نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية للدكتور أحمد محمود صبحي: ص 79 ومابعدها.
(8/283)
وفاطمة وابناهما (1) ، لكن ثقات العلماء يبينون أن هذه الآية نزلت قبل زواج علي بفاطمة.
وبرهنوا على مذهبهم من السنة بأحاديث أهمها:
1 - حديث غدير خم:
وهو الذي أخرجه الطبراني والنسائي وأحمد والحاكم عن زيد بن أرقم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وفيه: «يا أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» .
والواقع أن هذا الحديث غير صحيح، قال الإيجي: لا صحة للحديث، إذ لم ينقله أكثر أصحاب الحديث، بل إن علياً رضي الله عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي صلّى الله عليه وسلم، بل كان في اليمن، وإن سلِّم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث (2) . وقال ابن تيمية: مع افتراض أن النبي قاله يوم الغدير فإنه لم يرد به الخلافة قطعاً، ولكن الشيعة يزكون الحديث، ويعتبرونه صحيحاً لأنه يوافق مبدأهم (3) . وقال الباقلاني: إن لكلمة (مولى) معاني كثيرة، فمنها المولى بمعنى الناصر، ومنها المولى بمعنى ابن العم، ومنها المولى بمعنى الموالي المحب، ومنها المولى بمعنى المكان والقرار، ومنها المولى بمعنى المعتِق المالك للولاء، ومنها المولى بمعنى المعتَق الذي مُلك ولاؤه، ومنها المولى بمعنى الجار، ومنها المولى بمعنى الصهر، ومنها المولى بمعنى الحلف. فهذا جميع ما يحتمله قوله مولى، وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة. والذي قصده النبي بهذه الكلمة ـ على فرض صحتها ـ يحتمل أمرين.
أحدهما ـ من كنت ناصره على دينه وحامياً عنه بظاهري وباطني وسري وعلانيتي، فعلي ناصره على هذه السبيل.
والثاني ـ من كنت محبوباً عنده، وولياً له على ظاهري وباطني، فعلي مولاه، أي أن ولاءه ومحبته
__________
(1) المرجع السابق: ص 183 وما بعدها.
(2) المواقف: ص 405.
(3) المنتقى من منهاج الاعتدال: ص 423.
(8/284)
من ظاهره وباطنه واجب، كما أن ولائي ومحبتي على هذه السبيل واجب (1) .
2 - حديث المنزلة:
حينما خلف النبي صلّى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه على المدينة بعد خروجه لغزوة تبوك، قال المنافقون: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبلغ ذلك علياً، فبكى واشتكى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قائلاً: «أتخلفني في النساء والصبيان؟!» فرد النبي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» وهذا حديث صحيح متواتر. فسَّره الشيعة بما يثبت خلافة علي؛ لأن تشبيه علي بهارون يثبت له كل منازل هارون فيما عدا النبوة. ومن منازله: الأخوة والوزارة، والخلافة، وولاية الأمر بعده لو عاش بعد موسى، وكونه شريكاً في أمره.
__________
(1) التمهيد: ص 164 وما بعدها، وانظر نهاية العقول للرازي: ص 263.
(8/285)
وقال أهل السنة: ليس الحديث حجة في الدلالة على إمامة علي، لكونه مخصوصاً بواقعة حال معينة: وهي الاستخلاف على المدينة، كما يستخلف كل قائد أحداً بعده في إدارة ولايته حال غيبته. ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد خلف علياً في أهله، وليست الخلافة في الأهل كالخلافة على البشر. والاستخلاف المقيد بالغيبة لا يكون باقياً بعد انقضائها، كما لم يبق في حق هارون (1) .
وقد أجاب الباقلاني عنه بأنه لا يجب أن نفهم من هذا الحديث بأنه نص على خلافته بعده؛ لأن معناه أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة. وهذا واضح من سياق الحديث الذي رواه سعد بن أبي وقاص قال: إن علياً لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن استخلفه، وقال له: أتتركني مع الأخلاف؟! فأجابه الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» .
3 - حديث الراية يوم خيبر:
قال النبي صلّى الله عليه وسلم محدداً أوصاف علي لقيادته معركة خيبر: «لأعطين الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرَّار غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» وهو حديث صحيح رواه البخاري والترمذي والحاكم. هذه الصفات أصبحت خاصة بعلي رضي الله عنه، مما يدل على أفضليته وبالتالي أحقيته للإمامة؛ لأن الإمامة للأفضل. ورد أهل السنة على الاستدلال به بأنه لا ملازمة بين كونه محباً لله ولرسوله ومحبوباً منهما، وبين كونه إماماً، كما لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره (2) ، فقد قال الله تعالى في حق أبي بكر: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة:54/5] وقال في حق أهل بدر: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف:4/61] .
الأدلة العقلية:
استدل الشيعة بأدلة عقلية كثيرة على وجوب النص على الإمام من قبل الله، وهي في جملتها تتفق مع مبدئهم في عصمة الإمام، وتوجه النقد إلى طريقة تعيينه بالاختيار.
من هذه الأدلة قولهم (3) : لا يجوز إسناد أمر الإمامة إلى الناس؛ لأنها أهم أركان الدين، فالذي شرع الأحكام وجب عليه النص على من لا تتم الأحكام الشرعية إلا بنصبه لطفاً من الله ورحمة منه بعباده.
ولا يترك الاختيار للأمة؛ لأن الإمام خليفة الله أو لرسوله، وليس خليفة للأمة.
ثم إن ترك الإمامة لاختيار الناس يفضي إلى اختلاف الناس وانتشار الفتن وقيام التنازع والحروب والهرج والمرج، وكل ذلك فساد في الأرض، والله لا يحب الفساد.
__________
(1) نظرية الإمامة، صبحي: ص 225 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: ص 231 وما بعدها.
(3) صبحي، المرجع السابق: ص 89 وما بعدها.
(8/286)
وليس الاختيار مضمون النتائج، فقد يخطئ الناس في تعيين المستحق لهذا المنصب الخطير الذي هو نظير منصب النبوة لقيامه بحراسة شؤون الدين والدنيا؛ وذلك أن كل شخص سيختارحسب مصلحته الشخصية لا بمقتضى المصلحة الكلية والحكمة الإلهية، بل إنه لم يحدث أن قامت إمامة على الاختيار الحر والمشيئة المطلقة لجمهور المسلمين.
يظهر من هذه الأدلة ونحوها أنها هي الانتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي بوجه عام لقيامه على مبدأ سلطة الأمة وأحقيتها في اختيار الإمام. ولا شك أن ذلك صحيح، ولكن الفلاسقة السياسيين ما زالوا يحاولون إصلاح الخلل الواقع في النظام الديمقراطي، كما أن الفقهاء المسلمين وضعوا ضوابط وشروطاً دقيقة في المرشح للخلافة سأذكرها، وفيما الضمانة الغالبة من الوقوع في خطأ الاختيار.
الأدلة التاريخية:
إن اعتقاد الشيعة بضرورة النص على الإمام كان رد فعل لوقائع التاريخ التي صدمت أمانيهم (1) ، وأدت إلى نكبة آل البيت التي تستثير عاطفة كل مسلم صادق بعيد عن التأثرات السياسية.
إنهم يفترضون أنه لا بد من أن يعين الرسول صلّى الله عليه وسلم خليفة من بعده، حتى لا تقع أمته في بحر من الفتن والاضطرابات والاختلافات التي أخبر عنها بقوله: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة..» (2) ولو جاء التاريخ والأحاديث المدونة بغير ذلك، وجب أن نتشكك في وقائع التاريخ وصحة الأحاديث، ونتهمها بالكتمان وتشويه الحقيقة.
وأما أهل الحل والعقد الذين يختارون الإمام فكانوا مرتع النزاع والخصام والخلاف، بسبب اعتقاد كل واحد أنه أحق بزعامة الأمة. والواقع ـ كما يرون ـ أنه لم تتم بيعة لإمام بالاختيار أو الشورى أو رضا الأمة، إذ عين عمر بالنص من أبي بكر، وعثمان بالشورى بين ستة حددهم عمر ثم صارت القضية بولاية العهد.
__________
(1) المرجع نفسه: ص 99 وما بعدها.
(2) رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح عن عوف بن مالك بلفظ «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة..» .
(8/287)
ولكن يلاحظ أن التاريخ لا تتقرر أحكامه بالافتراض، والاحتمال المنطقي، وإنما يعتمد الخبر والرواية والنظر في مدى صحتها وصدقها وتمحيص الوثائق المنقولة. وما اعتمد عليه الشيعة من أخبار ناتج عن الفكرة المسيطرة على أذهانهم سابقاً بوجوب النص، واستخلاف علي رضي الله عنه بالذات.
والخلاصة: أنه لم يثبت يقيناً نص صريح قطعي يدل على إمامة علي أو غيره، ولم يصح في ذلك شيء عند أحد من أئمة النقل (1) .
وحبذا لو طوينا هذا الخلاف السياسي القديم بين أهل السنة والشيعة، وأنهينا كل ما خلفه من عصبيات موروثة وخلافات جانبية، وأدركنا جميعاً ضرورة الحفاظ على الوحدة الإسلامية، وحدة الصف أمام العدو الخارجي فقط، وأن الكل مسلمون، يعملون للإسلام دون تفرقة بين الطوائف؛ لأن الخلاف بينها ليس في الأصول قطعاً، وإنما في جوانب هي أقل من الفروع والجزئيات، ولا يصح أن نتحمل آثار ومخلفات الماضي السياسية، ولا أن تبقى سبباً للخلاف؛ لأن الدين واحد، والعقيدة واحدة، والدستور واحد واضح في القرآن والسنة، وخلاف الرجال لا يصح أن يشتت وحدة الأمة.
تعيين الإمام بولاية العهد أو الاستخلاف:
ولاية العهد: هي أن يعهد الإمام إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه، ليخلفه بعد وفاته، سواء أكان قريباً أم غير قريب.
رأى الفقهاء جواز انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالإيصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الخلافة، وتمت له البيعة من الأمة. فهي إذن بمثابة ترشيح
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 168.
(8/288)
واقتراح من الخليفة السابق. قال الماوردي (1) : وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله، فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:
أحدهما ـ أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده.
والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر، اعتقاداً لصحة العهد بها.
وأما ضرورة توافر شروط الإمام الشرعي في ولي العهد فهو أمر بدهي مفروغ منه، ككونه أميناً ورعاً ثقة مخلصاً لله، ناصحاً للمسلمين. قال الماوردي (2) : وإذا عهد الإمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة، كان العهد موقوفاً على قبول المولى. وتعتبر شروط الإمامة في المولى من وقت العهد إليه، فإن كان صغيراً أو فاسقاً وقت العهد لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته.
ويتضح ذلك من حادثتي تولية أبي بكر لعمر، وتولية عمر لأهل الشورى، فقد كان معيار الاختيار هو الحرص على رعاية مصالح الأمة، وانتقاء المستوفي لشروط الإمامة.
وأما رضا الأمة بالمولَّى فهو أمر أساسي أيضاً كما سنعرف، وهو الرأي الذي قرره بعض علماء البصرة إذ قالوا: إن رضا أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمة؛ لأنها حق يتعلق بهم، فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار منهم.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 8.
(2) الأحكام السلطانية: ص 9.
(8/289)
ولسنا مع الماوردي الذي صحح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر؛ لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة (1) ، وذلك لأن الإمام أو أهل الشورى كانوا يمثلون في اختيارهم الأمة، وقد تمت فعلاً بيعة عمر وعثمان رضي الله عنهما برضا الأمة وموافقتها.
يتضح من هذا أن الإمامة لا تورث، فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الإمامة لا يصح أن تورث. قال ابن خلدون: «وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء، فليس من المقاصد الدينية، إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن، خوفاً من العبث بالمناصب الدينية» (2) وقال ابن حزم: «ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها» (3) .
انعقاد الإمامة بالقهر والغلبة:
رأى فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب والقهر، إذ يصير المتغلب إماماً دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق وإنما بالاستيلاء، وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضاً فيما بعد (4) .
قال ابن المنذر (5) : والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن دينه ودمه وماله وعرضه ومظلمته، إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان، للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه.
__________
(1) المرجع السابق: ص 8.
(2) المقدمة، الفصل 30.
(3) الفصل في الملل والنحل: 167/4.
(4) حجة الله البالغة للدهلوي: 111/2، حاشية ابن عابدين: 319/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 130/4-132، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 6 وما بعدها، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 298/4، غاية المنتهى: 348/3.
(5) تلخيص الحبير: 15/4، المغني: 638/7 وما بعدها.
(8/290)
وعبارة الحنفية في هذا الشأن هي كما قال الدهلوي: تنعقد الخلافة باستيلاء رجل جامع للشروط على الناس، وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة. ثم إن استولى من لم يجمع الشروط (أي المطلوبة لتولي الإمامة) لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لأن خلعه لا يتصور غالباً إلا بحروب ومضايقات، وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة. «وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهم، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وقال: إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً، عندكم من الله فيه برهان (1) » .
يظهر من هذا الكلام أن القهر حالة استثنائية غير متفقة مع الأصل الموجب لكون السلطة قائمة بالاختيار، وإقرارها فيه مراعاة لحال واقعة للضرورة ومنعاً من سفك الدماء.
وعبارة المالكية كما قال الدسوقي: اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة:
إما بإيصاء الخليفة الأول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب، وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين؛ وإما ببيعة أهل الحل والعقد: وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي.
وشروط الإمام: الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشياً، وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلات. وبيعة أهل الحل تكون بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم. ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت أمره، فإن أضمر خلاف ذلك فسق، ودخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) ورد ذلك في رواية للبخاري من حديث رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت (جامع الأصول: 165/1-166) .
(8/291)
«من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» (1) .
وقال ابن حجر (2) : أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه، لحديث البخاري عن عبادة: «إلا أن تروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان» .
بيعة الخليفة:
أولاً ـ طريقة بيعة الخليفة:
لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة الإمامية على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة، أي الاختيار والاتفاق بين الأمة وشخص الخليفة، فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا.
وهذه النظرية سبقت نظرية الفقيه الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أن أساس السلطة السياسية أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم.
__________
(1) رواه مسلم في باب الإمارة.
(2) فتح الباري: 112/16.
(8/292)
وسميت عملية التعاقد هذه (بيعة) تشبيهاً بفعل البائع والمشتري لأنهم كانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد (1) .
قال الماوردي: فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته (2) .
وأهل الحل والعقد يمثلون الأمة في اختيارهم الخليفة (3) ، باعتبار أن نصب الإمام من الفروض الكفائية على الأمة بمجموعها، وأن لها الحق في عزله حال فسقه. قال الرازي والإيجي وغيرهما: إن الأمة هي صاحبة الرئاسة العامة (4) . وقال البغدادي: قال الجمهور الأعظم من أصحابنا (أي أهل السنة) ومن المعتزلة والخوارج والنجارية: إن طريق ثبوتها (أي الإمامة) الاختيار من الأمة (5) .
وهذه يدلنا على أن الأمة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لأن حق التعيين والعزل ثابت لها.
ثانياً ـ من هم أهل الحل والعقد؟
أـ أهل الحل والعقد:
هم العلماء المختصون (أي المجتهدون) والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار الإمام نيابة عن الأمة. قال الماوردي: وإن لم يقم بها (أي الإمامة)
__________
(1) مقدمة ابن خلدون: ص 174، الفصل 29.
(2) الأحكام السلطانية: ص 5، حجة الله البالغة للدهلوي: 111/2.
(3) راجع النظريات السياسية للريس: ص 170.
(4) المواقف: 345/8.
(5) أصول الدين للبغدادي: ص 279.
(8/293)
أحد، خرج من الناس فريقان: أحدهما ـ أهل الاختيار، حتى يختاروا إماماً للأمة. والثاني ـ أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم (1) .
ب ـ شروطهم:
يتحدد أولو الحل والعقد بالصفات أو الشروط المطلوبة فيهم، وهي كما ذكر الماوردي ثلاثة هي (2) :
أولاً ـ العدالة الجامعة لشروطها. والعدالة: هي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: امتثال المأمورات الشرعية، واجتناب المنهيات الشرعية.
ثانياً ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
ثالثاً ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوى وأعرف.
وهذه الشروط يقرها المنطق وتمليها المصلحة، وتوجبها المدنية الحقة، ويفهم منها أن هذه الهيئة بمثابة مجلس الشيوخ في عرفنا الحاضر، على أن يكون أعضاؤه من ذوي الكفاءات العلمية، لا المالية المادية، أو الطبقية، أو كونهم من أهل المدينة لا الريف. لذا قال الماوردي: وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها على غيره (3) . ويلاحظ أن أهل الحل والعقد في السياسة لا يقتصر على (المجتهدين) الذي يتولون مهمة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وإنما يشمل فئات أخرى لها ميزاتها في المجتمع.
جـ ـ عددهم:
لا نرى مجالاً صحيحاً للكلام في تحديد عدد أهل الحل والعقد؛ لأن المعول عليه هو ثقة الأمة بهم، وكونهم يمثلون الأمة فيما ترغب وتريد وتتوافرفيهم شروط معينة، فلا يمكن تحديدهم. لكن لمجرد العلم والاطلاع أذكر ما قاله الفقهاء في هذا الشأن، وقد استعرض الماوردي آراءهم، فقال (4) : اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتى:
1 - قالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاماً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
2 - وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين:
أحدهما ـ أن بيعة أبي بكر رضي الله عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم.
والثاني ـ أن عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة.
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.
3 - وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
4 - وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد؛ لأن العباس قال لعلي رضوان الله عليهما: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان؛ ولأنه (أي إىجاب العقد) حكم، وحكم واحد نافذ.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 3 وما بعدها.
(2) و (3) المرجع السابق: ص 4.
(4) الأحكام السلطانية: ص 4 وما بعدها.
(8/294)
د ـ موافقة الأمة:
الحقيقة أنه لا دليل من نص أو إجماع على ما قال هؤلاء جميعاً في تحديد العدد، والقضية مجرد اجتهاد، فيعتبر مذهب أهل السنة هو أولى الآراء بالاتباع، وهوأن تحديد العدد فيه تعسف. وينبغي مراعاة مبدأ الاختيار والشورى من الأمة، ومثل هذه الأمور العامة لا تقاس على أحكام القضاة الخاصة في قضية معينة. فإذا عقد البيعة شخص واحد لا تنعقد حتى تتم موافقة الأمة ورضاها. قال الغزالي في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: ولو لم يبايعه غيرعمر، وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساماً متكافئاً لا يتميز فيه غالب عن مغلوب، لما انعقدت الإمامة (1) .
وقال الإمام أحمد في تفسير: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» : أتدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام، فهذا معناه (2) . وقال ابن تيمية في مبايعة أبي بكر: «لو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة» (3) .
__________
(1) الرد على الباطنية: ص 64 وما بعدها.
(2) منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 142/1، ط بولاق.
(3) المرجع السابق: 141/1.
(8/295)
هـ ـ وظيفة أهل الحل والعقد:
يتبين مما ذكر أن مهمة هؤلاء مقصورة على الترشيح والترجيح على وفق المصلحة والعدل. وقد حدد الماوردي ضوابط الاختيار، فقال (1) : فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطاً، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره، عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته. وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى سواه من مستحقيها.
ثم بين الماوردي صعوبة مهمة أهل الاختيار عند تكافؤ المرشحين، فوضع لهم الضوابط التي يتمكنون بها من إنجاح مهمتهم، فقال: فلو تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم لها اختياراً أسنهما، وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطاً، فإن بويع أصغرهما سناً جاز. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت. فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة، كان الأشجع أحق. وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء، وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق.
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 5.
(8/296)
ثالثاً ـ طريقة اختيار الخلفاء الراشدين:
أذكر بإيجاز طريقة اختيار الخلفاء الأربعة الراشدين لتوكيد أن البيعة من الأمة هي أساس التعيين، لا النص، ولا العهد، ولا الغلبة، ولا الوراثة ونحوها. علماً بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبين للناس كيفية اختيار الخليفة ولم ينص على خليفة معين، وفي ذلك حكمة بالغة، هي ترك المجال مفتوحاً لإرادة الأمة تفعل ما يحقق المصلحة دون تحديد لشكل الحكم وأساليب التعيين، وإنما تتصرف بكامل حريتها وفقاً لما يتناسب مع كل زمان ومكان؛ لأن المهم هو قيام الحاكم بواجباته أو وظائفه الدينية والدنيوية معاً في ظل من رقابة الأمة، حتى لا يعتقد أحد من الحكام باستمداد سلطانه من الله، أوأنه في مرتبة النبي الذي لا يعارض قوله أو فعله أو حكمه.
1 - أبو بكر الصديق:
لقد تم انتخاب أبي بكر الخليفة الأول بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أحدث صورة لمؤتمر سياسي جرى فيه نقاش حاد بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم وقبل دفنه، وكان قصدهم من النقاش هو تحقيق مصلحة الإسلام وخير المسلمين. وكان عمر هو أول من رشح أبا بكر رضي الله عنه، ووافقه أهل العقد والحل، وبايعه المسلمون جميعاً، من وافق منهم أو خالف في أثناء النقاش (1) . حتى إن علياً كرم الله وجهه الذي انتابه مرض بسبب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم بايع أبا بكر بعد برئه.
2 - عمر بن الخطاب:
كان اختيار عمر رضي الله عنه بترشيح من أبي بكر في صورة عهد إلى المسلمين، بعد استشارة أهل الحل والعقد، ثم بايعه المسلمون ورضوا به. فعندما
__________
(1) انظر سجل الجلسة في تاريخ الطبري: 199/3، وفي طبقات ابن سعد: 179/3، وصحيح البخاري: 7/5.
(8/297)
أحس أبو بكر بدنو أجله، طلب من الناس أن يؤمّروا عليهم واحداً في حال حياته، حتى لا يختلفوا بعده، خشية على المسلمين من التفرق بعد أن بدؤوا الحرب مع فارس والروم، فردوا الأمر إليه في أن يختار لهم من يرى فيه الخير ولهم وللدين. فاستمهل ثم بدأ مشاوراته مع كبار الصحابة وأهل الرأي، سائلاً الواحد تلو الآخر في ترشيح عمر، وكان من أشهر من استدعاهم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فأثنوا عليه خيراً، وتخوف بعضهم وهو ابن عوف من شدته (غلظته) ، فأجابه أبو بكر بقوله: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه. وبعد أن أتم أبو بكر مشاوراته، أملى على عثمان عهده إلى المسلمين، ثم أشرف على الناس وزوجته أسماء بنت عميس تمسكه، فقال: أترضون بمن استخلفت عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة؟! وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
ثم أمر أبو بكر عثمان بتبليغ الناس وأخذ البيعة، فذهب ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب (أي لعمر) ؟ فقالوا: نعم. وبعد تمام البيعة بايعه أبو بكر معلناً أنه لم يرد إلا صلاح المسلمين وإبعادهم عن الفتنة، وأوصاه بما هو خير (1) .
3 - عثمان بن عفان:
يبدو لنا في صورة اختيار عثمان مظهر الشورى بشكل أوضح، إذ أن عمر رضي الله عنه وهو صحيح حدد لجنة الشورى في ستة: وهم (2) علي والزبير بن
__________
(1) راجع طبقات ابن سعد: 122/3، 200، تاريخ الطبري: 51/4-54.
(2) تاريخ الإسلام السياسي للدكتور حسن إبراهيم: 254/1 وما بعدها.
(8/298)
العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد ابن أبي وقاص. وعين لهم مدة ثلاثة أيام للاختيار، ورسم لهم خطة المشاورة، بالأخذ برأي الأكثرية، فإن تساووا يرجح الجانب الذي فيه عبد الله بن عمر، أي في حالة تساوي الأصوات، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فليكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. وأمر بضرب عنق من خالف بعدئذ. وخلف على أصحاب الشورى أبا طلحة في خمسين من قومه من الأنصار، في ألا يتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، وقال له عمر قبل موته بساعة: اللهم أنت خليفتي عليهم.
وقام أهل الشورى هؤلاء بإجراء مشاورات طوال الأيام الثلاثة ليلاً نهاراً، وكان عبد الرحمن ـ الذي خلع نفسه من الخلافة ـ يلقى أصحاب رسول الله، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، يشاورهم، فوجد الناس يجمعون على أحد اثنين: عثمان أو علي. إلا أن أكثرية أهل الشورى والمسلمين رغبوا بعثمان لما عرفوا فيه من لين ورحمة وأفضال على الناس بتجهيز جيش العسرة من ماله وشراء بئر رومة وجعله سبيلاً للمسلمين يسقون منه. ثم جمع عبد الرحمن المسلمين في المسجد، واستوثق من عثمان وعلي بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين الراشدين من قبله بالعدل والإنصاف، ثم بايع (أي عبد الرحمن) عثمان رضي الله عنه وتابعه المسلمون بالمبايعة، وفيهم علي بن أبي طالب بعد أن تأخر عن المبايعة بسبب مرضه.
ولم تكن مبايعة عبد الرحمن محاباة ولا ظلماً كما قد ظن بعض الناس، وإنما كانت تعبيراً أميناً صادقاً عن آراء الأمة ومشاوراته الليالي والأيام مع أكابرها ومتقدميها. مع ما عرف من فضله ونبله وسابقته في الإسلام وعلمه وزهده في الخلافة وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للأمة، كما أبان الباقلاني (1) .
__________
(1) راجع التمهيد للباقلاني: ص 208 وما بعدها، صحيح البخاري: 78/9، تاريخ الطبري: 13/5، 34-41، طبقات ابن سعد: 61/3.
(8/299)
4 - علي بن أبي طالب:
لقد ترتب على الفتنة الكبرى بمقتل عثمان رضي الله عنه ووقوع الفوضى بالمدينة أحداث خطيرة في تاريخ الإسلام أثَّرت في خلافة علي رضي الله عنه تأثيراً بالغاً منذ بداية عهده بها. فلم يتوافر له الاتفاق أو الإجماع الشامل الذي حظي به الخلفاء السابقون. فبايعه كبار المهاجرين والأنصار في المدينة وأهل الأمصار والمصريون، ولم يبايعه أهل الشام وبنو أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان، ونقل عن طلحة والزبير أنهما بايعاه مكرهين، ثم خرجا من المدينة إلى مكة ثم إلى البصرة مع عائشة مطالبين بدم عثمان رحمه الله، فقاتلهما علي كرم الله وجهه يوم الجمل، وقتلا في هذه المعركة. ولكن بالرغم من أن سيدنا علي كرم الله وجهه قد استنكر قتل عثمان، ولزم بيته، أصرالمهاجرون والأنصار على بيعته حسماً للفتنة وصيانة لدار الهجرة، فطلب حينئذ منهم عقدها في المسجد علانية وعن رضا المسلمين، ورضي في ذلك بعد شدة، وبعد أن رآه مصلحة (1) .
والخلاصة: إن اختيار الخليفة يتم أساساً ببيعة أكثر المسلمين العامة، بعد ترشيح أولي النظر والرأي أو أهل الحل والعقد، عملاً بمبدأ الشورى قاعدة الحكم في الإسلام: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:42/38] . وأما العهد السابق من الخليفة فلا يعدو أن يكون مجرد ترشيح لا أثر له إذا لم تنضم إليه البيعة
__________
(1) انظر التمهيد: ص 227 وما بعدها، ابن سعد: 31/3 وما بعدها، الطبري: 152/5 ومابعدها.
(8/300)
العامة (1) . وهذا ماكان يفعله الناس في عهد الراشدين ومن بعدهم من خلفاء الأمويين. لكن باستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز (2) رحمه الله، برزت صفة وراثة الحكم التي ابتكرها معاوية، واستمرت سنَّة متبعة دون مراعاة الشروط المطلوبة شرعاً في الخليفة أحياناً، وحرصاً على الحفاظ على وحدة المسلمين، واستمرار الفتوح، وبقاء الدولة قوية في وجه أعداء الإسلام.
المبحث الرابع ـ شروط الإمام:
اشترط العلماء في المرشح للخلافة أو الوزراة وفي أثناء عمله شروطاً سبعة هي (3) :
أولاً ـ أن يكون ذا ولاية تامة بأن يكون مسلماً، حراً، ذكراً، بالغاً، عاقلاً.
أما اشتراط الإسلام فلأنه يقوم بحراسة الدين والدنيا، وإذا كان الإسلام شرطاً في جواز الشهادة، فهو شرط في كل ولاية عامة، لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] .
وأما اشتراط الحرية فلأنه وصف كمال، فلا يعقل أن يكون صاحب الولاية
__________
(1) راجع نظام الحكم في الإسلام لأستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى: ص 118 وما بعدها، النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 194.
(2) خلع عمر نفسه بعد أن قرئ كتاب العهد له من سليمان بن عبد الملك على الناس، فصعد المنبر وقال: «إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر، وأنتم بالخيار» وفي رواية أخرى: «أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم» . ونظراً لهذا الموقف المشرف، وبسبب عدالته في الحكم كان خامس الخلفاء الراشدين.
(3) حجة الله البالغة للدهلوي: 111/2، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 4.
(8/301)
أدنى رتبة من المولى عليهم. قال الماوردي: تشترط الحرية؛ لأن نقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرق لما منع من قبول الشهادة، كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية (1) .
وأما الذكورة فلأن عبء المنصب يتطلب قدرة كبيرة لا تتحملها المرأة عادة، ولا تتحمل المسؤولية المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة، قال صلّى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2) لذا أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكراً.
وأما البلوغ فأمر بدهي؛ لأن الصبي ليس كفئاً لمثل هذه المهام الكبرى، فهو غير مسؤول عن أفعاله، ولا يتعلق بفعله حكم معين (3) .
وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أوعام. ولا يكفي فيه الحد الأدنى للمطالبة بالتكاليف الشرعية من صلاة وصيام ونحوهما، بل لا بد فيه من رجحان الرأي، بأن يكون صاحبه صحيح التمييز، جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل، كما قال الماوردي (4) .
ثانياً ـ العدالة: أي الديانة والأخلاق الفاضلة، وهي معتبرة في كل ولاية، وهي أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً المآثم، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه،
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 61.
(2) رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة، وقد سبق تخريجه في بحث القضاء.
(3) المرجع السابق: الفصل في الملل والنحل لابن حزم: 110/4.
(4) المرجع السابق.
(8/302)
كما قال الماوردي (1) . وفي الجملة: هي التزام الواجبات الشرعية، والامتناع عن المنكرات والمعاصي المحرمة في الدين.
ثالثاً ـ الكفاية العلمية بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الاجتهاد فيما يطرأ من نوازل وأحداث، أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية. وهذا الشرط متفق عليه بين العلماء (2) . ولا يكون العالم مجتهداً إلا إذا علم الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها من مصادرها الشرعية الأربعة: وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس. وأن يعرف أحوال العصر وما طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
رابعاً ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والإدارية، قال الماوردي: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح (3) ، وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة الكافية بشؤون الناس وأمور البلاد وحاجات الحكم والسياسة (4) .
خامساً ـ صلابة الصفات الشخصية: بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (الوطن) وجهاد العدو، وإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم من الظالم، وتنفيذ الأحكام الإسلامية (5) .
__________
(1) المرجع السابق: ص 62.
(2) المرجع السابق: ص 4، 62، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين: ص426، الرد على الباطنية للغزالي: ص 75.
(3) الأحكام السلطانية: ص 4.
(4) أصول الدين للبغدادي: ص 277، المواقف للإيجي: 349/8، مقدمة ابن خلدون: ص 161، الفصل 26، ط المهدي.
(5) المراجع السابقة، العقائد النسفية: ص 145.
(8/303)
سادساً ـ الكفاية الجسدية: وهي سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض (1) .
فإن طرأ نقص على بدن الإمام مما يخل بهذا الشرط، فقد بحث الماوردي ـ مؤسس القانون الدستوري والإداري في الإسلام أثر ذلك على استدامة الإمامة مما لا نجد له مثيلاً عند غيره، فقال: ينقسم النقص ثلاثة أقسام (2) :
أحدها ـ نقص الحواس. والثاني ـ نقص الأعضاء. والثالث ـ نقص التصرف.
أـ فأما نقص الحواس فينقسم ثلاثة أقسام: قسم يمنع من الإمامة، وقسم لا يمنع، وقسم مختلف فيه: فأما القسم المانع منها فشيئان: أحدهما ـ زوال العقل، والثاني ـ ذهاب البصر. وأما القسم الثاني من الحواس التي لا يؤثر فقدها في الإمامة فشيئان أحدهما ـ الخشم في الأنف الذي لا يدرك به شم الروائح. والثاني ـ فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم، فلا يؤثر هذ في عقد الإمامة؛ لأنهما يؤثران في اللذة، ولا يؤثران في الرأي والعمل.
وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيه فشيئان: الصمم والخرس: فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة؛ لأن كمال الأوصاف بوجودهما مفقود. واختلف في الخروج بهما من الإمامة، فقالت طائفة: يخرج بهما منها، كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل، وهو أصح المذاهب.
وقالت طائفة: لا يخرج بهما من الإمامة لقيام الإشارة مقامهما.
وقال آخرون: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما؛ لأن الكتابة مفهومة، والإشارة موهومة.
ب ـ وأما فقد الأعضاء فينقسم أربعة أقسام:
أحدها ـ ما لا يؤثر على الترشيح للإمامة ولا على استدامتها: وهو ما لا يؤثر فقده في رأي ولا عمل ولا نهوض ولا يشين في المنظر، مثل قطع الذكر والأنثيين وقطع الأذنين.
الثاني ـ ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها: وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين، أو من النهوض كذهاب الرجلين.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) انظر التفصيل في الأحكام السلطانية: ص 16-19، مقدمة ابن خلدون: الفصل 26، ص161.
(8/304)
الثالث ـ ما يمنع من عقد الإمامة، واختلف في أثره على استدامتها: وهو ما ذهب به بعض العمل أو فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرِّجلين، فذلك يمنع الترشيح للإمامة. وأما استدامتها ففي إنهاء ولايته مذهبان: أحدهما: تنتهي إمامته، والثاني لا تنتهي.
الرابع ـ ما لا يمنع من استدامة الإمامة، واختلف في أثره على صلاحية الترشيح، وهو ما يؤدي إلى تشويه الجسد، ولكن لا يؤثر في عمل ولا في نهضة كجدع الأنف وسمل إحدى العينين. فذلك لا يؤثر على بقائه في الإمامة. واختلف في منعه من الترشيح لها على مذهبين: أحدهما يمنع، والآخر لا يمنع.
جـ ـ وأما نقص التصرف فنوعان: حجر وقهر.
فأما الحجر: فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة، فلا يمنع صحة ولايته، ولكن ينظر في أفعال المتسلط على أموره، فإن وافقت أحكام الشرع والعدل أقر عليها، وإن خالفت أحكام الدين ومقتضى العدل، لم يقر عليها ووجب تنحية المتسلط. وأما القهر: فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، فيمنع ذلك من ترشيحه للخلافة. فإن أسر بعد انعقاد الإمامة له، وجب على كافة الأمة استنقاذه من الأسر، ولا يخلع من الإمامة إلا إذ يئس المسلمون من استخلاصه من الأسر.
سابعاً ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلافة من قريش، وهذا الشرط مختلف فيه (1) ، أما الشروط السابقة فمتفق عليها في الجملة.
فقال أهل السنة: يجب كونه من قريش لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» «قدموا قريشاً ولاتقدموها» «لا يزال هذا الأمر في هذا الحي من قريش ما استقاموا» أو «ما أقاموا الدين» (2) .
وقال الخوارج، والمعتزلة بعدهم: إن الإمامة حق لكل مسلم متى استكمل الشروط الأخرى.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 4، مقدمة ابن خلدون: ص 162، الفصل 26، الملل والنحل للشهرستاني: 199/1، أصول الدين للبغدادي: ص 275، المواقف: 392/8.
(2) حديث «الأئمة من قريش» رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب، وأخرج مسلم عن جابر: «الناس تبع لقريش في الخير والشر» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم» وروى الطبراني عن علي: «قدموا قريشاً ولا تقدموها» وروى الطبراني عن ثوبان «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ... » (مجمع الزوائد: 228/5، الترغيب والترهيب: 170/3) .
(8/305)
ولكن يلاحظ أن الفقهاء الشرعيين الذين نظروا إلى شرط النسب في الإمامة، وفي بعض الأحكام الخاصة كالكفاءة بين الزوجين في الزواج، لا يتنافى رأيهم مع مبدأ المساواة المقرر في الإسلام بين الناس؛ لأن المساواة مطلوبة فيما ثبت للأفراد من الحقوق أو كلفوا به من الواجبات. وقضية الإمامة والكفاءة روعي فيها
عرف الناس وعاداتهم وتوفير المصلحة التي لا يعقبها نزاع، وكون الحق فيها مقصوراً على من حددهم الشرع لحكمة معينة (1) .
وبما أن قريشاً كانت لها الصدارة بين العرب، وتألف شؤون المدنية والاجتماع ويتبعها أكثر الناس، وكلمتها نافذة بين القبائل منذ الجاهلية، فمن المصلحة إناطة الأمر العام والسياسة بها، فإذا تغير الأمر وأصبحت الغلبة لمن ترضى عنه أكثرية الناس بالانتخاب ونحوه، فلا مانع في تقديري من عقد الإمامة له، كالخلافة العثمانية ونحوها.
ومن هنا رأى ابن خلدون أن الحكمة في اختصاص قريش بهذه الميزة هي كونها صاحبة العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إلىه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة فيها.
وعقب الدكتور ضياء الدين الريس وغيره على ذلك بأن الإسلام لما لم يقر فكرة العصبية كغاية في التشريع أو كأساس في تكوين المجتمعات، فإن المعول عليه توفير القوة والطاعة، وبما أن ذلك لم يعد يعتمد على العصبية كما كان في الماضي، بل أصبح مستمداً من نظام الدولة وما تملك من جيوش، فإن هذا الشرط لم يعد ضرورياً، ويكفي أن يختار الخليفة بالطريقة المشروعة، وأن يحوز رضا المسلمين.
ويلزم من هذا أن يكون الشرط الآن هو أن القائم بأمور المسلمين يجب أن يكون متبوعاً من الكثرة الغالبة، ليكون مطاعاً مرضياً عنه، ذا قوة مستمدة من الإرادة العامة، فيترتب على وجوده حصول الوحدة، وتنتفى دواعي الخلاف (2) .
ولا يجوز تعدد الإمام في وقت واحد، لأن ذلك يؤدي لتفريق المسلمين في أقطارهم وبلدانهم، والواجب حفاظهم على وحدتهم الدولية، أما تعدد الدول الإسلامية الآن، فهو واقع اقتضته ظروف المجتمع الدولي الإقليمي، ويمكن تحقيق الوحدة بينهم في السياسة والاقتصاد والجيش والتمثيل الخارجي.
__________
(1) قارن النظريات السياسية الإسلامية للدكتور الريس: ص 254، حيث اعتبر شرط النسب منافياً لمبدأ المساواة المقرر في الآيات والأحاديث النبوية.
(2) النظريات السياسية، المرجع السابق: ص 257، السلطات الثلاثة للدكتور سليمان الطماوي: ص259 وما بعدها.
(8/306)
المبحث الخامس ـ وظائف الإمام (أو واجباته واختصاصاته)
حدد الفقهاء واجبات الإمام أو ظائفه بعشرة أمور أساسية، يمكن أن يتفرع عنها عدة اختصاصات أخرى بحسب تغير الظروف والأوضاع والتطورات الحادثة (1) ، ويمكن تصنيفها أو قسمتها إلى وظائف دينية ووظائف سياسية.
الوظائف الدينية وهي أربعة:
أولاً ـ حفظ الدين: أي المحافظة على أحكامه وحماية حدوده وعقاب مخالفيه. قال الماوردي: «حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل» .
ثانياً ـ جهاد الأعداء: أي قتال من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم، أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله. وهذا مشروط بوجود قوة للمسلمين ووجود عدوان على دعاة الإسلام أو بلاده، كما سيبين في بحث الإسلام والحرب.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 14، ولأبي يعلى: ص 11، حجة الله البالغة للدهلوي: 132/2، غاية المنتهى: 349/3.
(8/307)
ثالثاً ـ جباية الفيء والصدقات (1) . والمقصود بالفيء والغنائم: الأموال التي تصل إلى المسلمين من المشركين أو كانوا سبب وصولها. وأما الصدقات فهي الأموال الواجبة على المسلمين نصاً كالزكاة، واجتهاداً كالأموال المفروضة على الأغنياء إذا خلا بيت المال، واحتاجت الدولة لتجهيز الجيش ونحوه من المصالح العامة.
رابعاً ـ القيام على شعائر الدين من أذان وإقامة صلاة الجمعة والجماعة والأعياد، وصيام، وحج، فبالنسبة للصلاة يعين الخليفة الإمام والمؤذن، ويصون المساجد ويرعاها، ويؤم الناس في الصلاة الجامعة إذا حضر، ويشرف على توقيت الصيام بدءاً ونهاية، ويعاقب من يعلن الإفطار دون عذر مقبول، وييسر أداء فريضة الحج بتعيين ولاة للسهر على أداء هذا الواجب، والولاية على الحج لتسيير الحجيج وإقامتهم (2) .
الوظائف السياسية: بما أن الخليفة كان يجمع أحياناً بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فإن وظائفه السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء. أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهي (3) :
__________
(1) ذكر الماوردي: ص 121 في المرجع السابق فروقاً أربعة بين أموال الفيء والغنائم وبين الصدقات: أحدها ـ أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيراً لهم، والفيء والغنيمة مأخوذان من الكفار انتقاماً منهم. والثاني ـ أن مصرف الصدقات منصوص عليه في القرآن ليس فيه اجتهاد. والفيء والغنيمة يصرفان بحسب اجتهاد الأئمة. والثالث ـ أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد أصحابها بقسمتها في أهلها، ولا يجوز ذلك لأهل الفيء والغنيمة. والرابع ـ اختلاف المصرف: فالصدقات تصرف للأصناف الثمانية في القرآن. والأموال الأخرى تصرف في سبيل المصالح العامة. ويلاحظ أن الفيء: هو كل مال وصل من المشركين عفواً من غير قتال. والغنيمة: ما وصل إلينا من أموال المشركين عنوة وبقتال.
(2) الأحكام السلطانية: ص 96، 103.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص14، والسلطات الثلاث للطماوي: ص278 ومابعدها.
(8/308)
أولاً ـ المحافظة على الأمن والنظام العام في الدولة. عبر الماوردي عن ذلك بقوله: حماية البيضة (الوطن) والذب عن الحريم (الحرمات) ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين عن تغرير بنفس أو مال، وهذا ما يقوم به الشرطة الآن.
ثانياً ـ الدفاع عن الدولة في مواجهة الأعداء: وعبر عنه الماوردي بقوله: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
ثالثاً ـ الإشراف على الأمور العامة بنفسه. قال الماوردي: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح.
رابعاً ـ إقامة العدل بين الناس، وذلك على النحو التالي:
أـ تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم التصفية، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
(8/309)
ب ـ إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاء، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
خامساً ـ إدارة المال: بتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
سادساً ـ تعيين الموظفين: وعبر الماوردي عن الواجب بقوله: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إلىهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة. فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة من التدابير مايحقق سعادة الأمة بشرطين:
الأول ـ ألا يخالف نصاً صريحاً ورد في القرآن أو السنة أو الإجماع.
الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة، على وفق ما بينه علماء أصول الفقه، بالحفاظ على الأصول الكلية الخمسة وتوابعها: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال (1) .
المبحث السادس ـ انتهاء ولاية الحاكم:
تنتهي ولاية الحاكم أو الخليفة بأحد أمور ثلاثة وهي (2) :
أولاً ـ الموت: وهذا أمر طبيعي لزوال الولاية؛ لأن مدة استخلافه مؤقتة بمدة حياته. ولا يحق له توريث ولايته لأحد، وإنما الحق في التولية لأهل الاختيار، ويرى الدكتور السنهوري أن روح النظام الإسلامي لا تتنافى إطلاقاً مع توقيت الخلافة بمدة زمنية محدودة، إذا ما تضمن عقد الخلافة ذلك (3) .
ثانياً ـ خلع الخليفة نفسه: وهذا حق شخصي للخليفة، حتى لا يكون مكرهاً على البقاء في منصبه بالرغم من إرادته، قال الماوردي: وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده، وقام خلعه مقام موته، أي أن الأمر يصبح منوطاً باختيار أهل الحل والعقد؛ لأن ولايته مستمدة من الأمة، وليست حقاً أصيلاً له.
ثالثاً ـ العزل لتغير حاله: والذي يتغير به حاله، فيخرج به عن الإمامة شيئان: جرح في عدالته، ونقص في بدنه.
__________
(1) راجع الموافقات للشاطبي: 10/2، ط التجارية، الإحكام للآمدي: 48/3، ط صبيح، المستصفى للغزالي: 140/1، ط التجارية.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 9 وما بعدها، 15-19، السلطات الثلاث: 270 ومابعدها.
(3) الخلافة للسنهوري: ص 190 وما بعدها.
(8/310)
أما جرح العدالة فهو الفسق: وهو ارتكابه المحظورات، وإقدامه على المنكرات، وانقياده للأهواء والشهوات.
وأما نقص البدن فهو كما ذكر سابقاً ثلاثة أقسام:
أـ نقص الحواس، كزوال العقل وذهاب البصر والصمم والخرس.
ب ـ نقص الأعضاء كذهاب اليدين، أو ذهاب الرجلين.
جـ ـ نقص التصرف: وهو يشتمل على نوعين: أولاً ـ الحجر بأن يستولي أحد أعوانه على السلطة ويجاهر بالمعصية أو يخالف أحكام الشرع. فإن لم يخالف حكماً شرعياً استنصرت الأمة أو الخليفة بمن يعمل على تنحيته. وثانياً ـ الأسر: بأن يقع الخليفة في أسر الأعداء وييأس المسلمون من فكاكه واستخلاصه من الأسر.
وتقرير مبدأ العزل من الأمة دليل واضح على أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، وليس له ادعاء أحقيته السلطة بتفويض من الإله كما كان يزعم ملوك أوربا في القرون الوسطى. كما أنه ليس معصوماً من الخطأ، ولا حق له في التشريع وإنما ينفذ أحكام الشريعة ويجتهد في نطاقها، وليس له سلطة روحية كما هو الحال بالنسبة للبابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، فلا يحل ولا يحرم ولا يغفر الذنوب ولا يطرد مذنباً.
(8/311)
المبحث السابع ـ حقوق الإمام الحاكم:
حدد الماوردي واجبات المسلمين نحو الحاكم بأمرين وهما:
1 - الطاعة في غير معصية.
2 - النصرة ما لم يتغير حاله. فقال: «إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله» (1) .
1 ـ حق الطاعة:
إذا بايع أكثرية المسلمين إماماً وجبت طاعته من الكل، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة» «ومن شذ شذ في النار» «من فارق الجماعة شبراً، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (2) .
وبذل الطاعة مشروط بقيام الحاكم بواجباته التي ذكرت سابقاً، ومضمونها التزام أوامر الشريعة.
وحينئذ تصبح القوانين والتكاليف التي تصدر عن الحاكم واجبة التنفيذ، كالإلزام بالتجنيد الإجباري وفرض الضرائب على الأغنياء بالإضافة إلى الزكاة كلما دعت حاجة البلاد إلى ذلك.
ومصدر الالتزام بالطاعة آيات وأحاديث، منها قوله تعالى: {يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] وأولو الأمر: الحكام والعلماء كما بين المفسرون والصحابة. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك» (3) «على المرء المسلم
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 15.
(2) حديث «يد الله مع الجماعة» أخرجه الترمذي عن ابن عمر، ورواه النسائي والطبراني عن عرفجة، وحديث «من شذ» رواه الترمذي عن ابن عمر: «يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار» وحديث «من فارق» رواه أحمد ورجاله ثقات بلفظ «من خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه» .
(3) رواه البزار عن سعد بن عبادة، وفيه حصين بن عمر، وهو ضعيف جداً (مجمع الزوائد، 227/5) وللبخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت: «با يعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا..» .
(8/312)
السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (1) .
ولا يجوز الخروج عن الطاعة بسبب أخطاء غير أساسية لا تصادم نصاً قطعياً، سواء أكانت باجتهاد، أم بغير اجتهاد، حفاظاً على وحدة الأمة وعدم تمزيق كيانها أو تفريق كلمتها، قال عليه الصلاة والسلام: «ستكون هَنَات وهنات ـ أي غرائب وفتن وأمور محدثات ـ فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان» وقال عليه السلام أيضاً: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» «أيما رجل خرج يفرق بين أمتي فاضربوا عنقه» (2) رواهما مسلم عن عرفجة.
وبديهي أن الطاعة بقدر الاستطاعة لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/2] وقال ابن عمر رضي الله عنه: «كنا إذا بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم» (3) .
وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي لا يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين والحكمة والموعظة الحسنة، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» (4) وقد حض رسول الله صلّى الله عليه وسلم على إسداء النصح والمجاهرة بقول
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر، ويلاحظ أن أحاديث الطاعة في غير معصية رويت بألفاظ: منها ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ومنها ما رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
(2) وانظر أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن الأمة وقتالهم في مجمع الزوائد: 222/5 وما بعدها. وحديث «من أتاكم..» رواه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم: 242/2) .
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر (جامع الأصول: 168/1) .
(4) رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري.
(8/313)
الحق، فقال: «أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر» (1) «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) . فإن لم ينتصح وجب الصبر لقوله عليه السلام: «من رأى من أميره شيئاً، فكره فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً، فيموت إلا مات ميتة جاهلية» (3) .
ولكن لا تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم الإسلام القطعية الثابتة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» «لا طاعة لمن لم يطع الله» (4) .
وهل تعالج الأخطاء الجوهرية المصادمة لأصول الإسلام بالثورة المسلحة من قبل الشعب؟
أذكر في الموضوع حديثين وأتبعهما بآراء الفقهاء وما يستنبط منهما.
الحديث الأول الذي أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» .
__________
(1) رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة، ورواه أحمد والنسائي والبيهقي عن طارق بن شهاب.
(2) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري.
(3) رواه الطبراني بلفظ آخر، وفيه متروك (مجمع الزوائد: 219/5) .
(4) سبق تخريجه قريباً.
(8/314)
والحديث الثاني الذي يرويه البخاري وغيره والذي ورد في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلّى الله عليه وسلم، فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بَوَاحاً (1) عندكم من الله فيه برهان» .
والمبدأ هو وحدة الإمامة أو الخلافة، لحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (2) .
وبناء عليه تجوز الثورة في حالة واحدة هي إعلان الكفر الصراح. قال الدهلوي: وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين، حل قتله، بل وجب، وإلا لا؛ وذلك لأنه حينئذ فاتت مصلحة نصبه (إقامته حاكماً) ، بل يخاف مفسدته على القوم، فصار قتاله من الجهاد في سبيل الله. قال صلّى الله عليه وسلم «: السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة (3) .» .
واستنبط بعض الكتاب المحدثين (4) من الحديثين السابقين مبادئ أربعة بين فيها حدود الطاعة وحالة جواز الثورة على الحكم. وهي:
أولاً ـ إن للأمير الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة حق الطاعة من المواطنين جميعاً، بغض النظر عن أن فريقاً أو فرداً منهم قد لا يحبه، أو لا يرضى أحياناً عن سياسته في إدارة شؤون الدولة.
ثانياً ـ إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى الشرعي، فإنه لا سمع ولاطاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والأوامر.
__________
(1) أي ظاهراً. والمراد به كما استظهر ابن حجر في شرح البخاري هو الكفر الظاهر على حقيقته الذي لايحتمل التأويل. فإن رأى المسلمون منكراً محققاً أنكروه عليهم وقالوا الحق، ولكن الخروج عليهم وقتالهم حينئذ حرام، وإن كانوا فسقة ظالمين منعاً من الفتن وإراقة الدماء. وقد سبق تخريج الحديث (جامع الأصول: 166/1) .
(2) رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد: 198/5) ورواه أيضاً مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي: 242/12) .
(3) حجة الله البالغة للدهلوي: 112/2، والحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر.
(4) منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد: ص 144.
(8/315)
ثالثاً ـ إذا ما وقفت الحكومة موقفاً تتحدى به تحدياً صريحاً متعمداً نصوص القرآن، فإن هذا الموقف يعتبر (كفراً بواحا ً) الأمر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها وإسقاطها.
رابعاً ـ إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة في غير حالة إعلان الكفر صراحة يجب ألا يتم عن طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد حذرنا من اللجوء لهذه الوسيلة، فقال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (1) وقال: «من سل علينا السيف فليس منا» (2) والمراد بذلك البغاة: وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة الإمام.
ومن المقرر فقهاً أن السلطة التي تملك التعيين تملك حق العزل. وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون العزل ببراهين واضحة، ثم تقوم أكثرية الأمة بواسطة استفتاء مثلاً بالتصويت على عزل الإمام من منصبه.
ويرى بعض الكاتبين الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والإمام، على هيئة تحكيم عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور، مكونة من نوابغ القضاة، وأقطاب القانون الإسلامي في الدولة، منعاً من تفاقم الأزمة التي لا تحل إلا بذلك.
__________
(1) رواه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر.
(2) رواه أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع.
(8/316)
وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع الإمام لمخالفته قصداً نصوص الشريعة. فإن منع الإمام من اللجوء إلى الاستفتاء، كان لها الحق بإعلان عزله، وأن الأمة في حل من بيعته (1) ، عملاً بمبدأ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (2) .
آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم:
قال أهل الحديث والسنة بوجوب الصبر وعدم جواز الخروج على الحاكم مطلقاً، عملاً بالأحاديث الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلم الآمرة بالصبر مثل «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (3) . ورعاية لوحدة الأمة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين، ولأن كثيراً من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج، بل اعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين، وبناء عليه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا بإعلان الكفر صراحة، فإذا كفر بإنكار أمر من ضروريات أو بدهيات الدين، حل قتاله، بل وجب، منعاً من فساده وفوات مصلحة تعيينه، وإلا فلا، حفاظاً على وحدة الأمة، وعدم الفوضى. قال صلّى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن خلع الحكام، فقيل: أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما
__________
(1) محمد أسد، المرجع السابق: ص 123، 127، 145 وما بعدها.
(2) رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
(3) أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد الله بن خباب بن الأرت.
(8/317)