أنفس المجاهدين، محتجين بفعل عمر، حيث وقف الأراضي التي افتتحها كمصر والشام والعراق. جـ ـ وقال الحنفية والحنابلة: إن الأصل المقرر أن يكون للإمام الخيار في الأراضي، فله أن يقسمها، وله أن يتركها وقفاً، وعمر رضي الله عنه قد استعمل حقه، فقرر أن تكون وقفاً، أي ملكاً للجماعة الإسلامية بأن تكون ملكية الرقبة للدولة، وملكية المنفعة فقط لأهلها القائمين عليها.
أدلة القائلين بإعطاء الخيار للإمام في وقف الأرض:
استدل هؤلاء، وهي في الواقع أدلة لعمر بما يأتي:
1 - إن آية الأنفال: {واعلموا أنما غنمتم..} [الأنفال:41/8] وآيات الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم..} [الحشر:6/59] واردة في موضوع واحد، ولكن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال، أي أنه بعد أن كانت الثانية شاملة للأرض والمنقول، خصصتها آية الحشر بما عدا الأرض. أما الأرض فقد أعطت آية الحشر الحق للإمام في أن يتصرف بما يجده من المصلحة: إما أن يقف الأرض، أو يقرها في أيدي أهلها ويضع عليها الخراج؛ لأن آية الأنفال توجب التخميس وآية الحشر توجب القسمة بين المسلمين جميعاً دون التخميس، وبذلك يجمع بين الآيتين (1) ، والجمع بين الأدلة عند كثير من الأصوليين مقدم على القول بالنسخ، أي بنسخ آية الحشر لآية الأنفال، كما قال بعضهم (2) .
__________
(1) الفيء: ما أخذ بغير قتال، مصروفاً لمصالح المسلمين يفعل ولي الأمر في ذلك ما يراه مصلحة، ولا يخمس الفيء عند الجمهور خلافاً للشافعية والزيدية. (بداية المجتهد: 321/1، القوانين الفقهية: ص 147، 150، نهاية المحتاج: 106/5، البحر الزخار: 443/5) .
(2) المقدمات الممهدات لابن رشد: 271/1 ومابعدها.(6/394)
والرسول عليه الصلاة والسلام قد عمل بآية الأنفال، وعمر قد عمل بآية الفيء، وليس فعل النبي صلّى الله عليه وسلم براد لفعل عمر؛ لأن فعل الرسول إما على سبيل الإباحة لجهالة صفة الفعل منه، وإما على سبيل الوجوب فهو واجب مخير، بدليل الآية التي استنبط منها عمر خصلة الواجب الأخرى (1) ، قال عمر: فاستوعبت هذه الآية (آية الحشر) الناس إلى يوم القيامة (2) ، وقال أيضاً: «والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أعطي منه أو منع، حتى راعٍ بعدن» (3) .
وبناء عليه شملت آية الحشر جميع المؤمنين، وشَّركت آخرهم بأولهم في الاستحقاق. ولا سبيل إليه إلا بعدم قسمة الأرض، وهو معنى وقفها عند المالكية. وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيع هذه الأرض، كما هو عمل الأمة، وقد أجمع العلماء على أنها تورث، والوقف لا يورث، إلى آخر ما هنالك من فروق (4) .
2 - ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرى لم يقسمها، وقد ظهر على مكة عنوة (5) ، وفيها أموال، فلم يقسمها، وظهر على قريظة والنضير، وعلى غير دار من دور العرب، فلم يقسم شيئاً من الأرض غير خيبر. فكان الإمام بالخيار: إن قسم كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحسن، وإن ترك كما ترك رسول الله غير خيبر فحسن (6) .
__________
(1) مخطوط الدرة اليتيمة في الغنيمة للشيخ الفزاري: ق 102.
(2) رواه أبو داود (سنن أبي داود: 195/3، القسطلاني: 201/5) .
(3) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي (سنن البيهقي: 351/6) .
(4) المنتقى على الموطأ: 223/3 ومابعدها، زاد المعاد: 69/2.
(5) كما خرَّج مسلم في صحيحه، وهو الأصح عند العلماء (بداية المجتهد: 388/1) .
(6) القسطلاني شرح البخاري: 202/5، زاد المعاد: 69/2، الخراج لابي يوسف: ص 68، القياس لابن تيمية: ص 40.(6/395)
3 - إجماع الصحابة رضي الله عنهم، على ما ارتآه عمر، حينما فتح سواد العراق، فقد ترك الأراضي في أيدي أهلها، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، بمحضر من الصحابة محتجاً بآيات الحشر السابق ذكرها، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر، فكان ذلك إجماعاً منهم. ومن خالف منهم في مبدأ الأمر كبلال وسلمان، عاد فوافق بعدئذ (1) .
4 - المعقول: إذا قسمت بين الغانمين الأرض المفتوحة التي كادت تشمل معظم العالم في أوج الفتوحات الإسلامية، فماذا يبقى لمن يأتي بعدهم؟
ومن أين تجد خزانة الدولة نفقاتها لإنفاقها في المصالح العامة للمسلمين؟
لهذا قال عمر، بعد أن تلا آيات الفيء في سورة الحشر: «قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه» .
وقال أيضاً: «أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلتزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟» فقالوا جميعاً: الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت (2) .
وإذا قسمت الأرض بين الغانمين واشتغلوا بالزراعة، وتركوا الجهاد، فسرعان ما تضعف الأمة الإسلامية، وتصبح نهبة للطامعين؛ بل إن في ذلك أمراً مهماً بالنسبة للاقتصاد العام، حيث يحافظ على الإنتاج، لو تركت الأرض في أيدي أهلها لطول خبرتهم بها، وتمرنهم على شؤون الزراعة، بخلاف العرب الذين لم يكونوا يألفون حياة الزراعة والاستقرار في المدينة.
__________
(1) انظر الخراج لأبي يوسف: ص 27، 35، شرح السير الكبير: 254/3، القسطلاني: 200/5، الأموال: ص 58.
(2) شرح السير الكبير: 254/3، الخراج لأبي يوسف: ص 24 ومابعدها، الأموال لأبي عبيد: ص57، فتوح البلدان: ص 275.(6/396)
يتلخص من هذه الأدلة: أنه قد حصل بدلالة الآية وإجماع السلف والسنة تخيير الإمام في قسمة الأرضين، أو تركها ملكاً لأهلها، ووضع الخراج عليها.
وأرجح اعتبار الفيء والغنيمة بمعنى واحد: وهو كل ما جاء من العدو، كما تقضي اللغة، فيخير الإمام بكل منهما على حدة بين القسمة وعدمها على وفق مقتضيات المصلحة العامة كما رأى عمر رضي الله عنه.
2 - الأرض التي جلا عنها أهلها خوفاً:
هذا النوع الثاني من الأرضين هو المعروف لدى الفقهاء بالفيء: وهو المال الذي حصل من الحربيين بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كالجزية والعشور التجارية (1) .
وحكمها: أنها تنتقل ملكيتها إلى بيت المال بالاستيلاء عليها، وتصير أملاك دولة، وعبر عنها الفقهاء بأنها تصير وقفاً، أي ملكاً للأمة الإسلامية بمجرد الاستيلاء عليها، ويضع الإمام عليها خراجاً يؤخذ كأجرة ممن يعامل عليها من مسلم أو معاهد. وصيرورتها وقفاً لأنها ليست غنيمة، فكان حكمها حكم الفيء يكون للمسلمين كلهم. ولم يختلف في هذا فقهاؤنا بالنسبة للعقار، إلا أن
__________
(1) بداية المجتهد: 389/1، المهذب: 247/2، نهاية المحتاج: 105/5، أحكام أهل الذمة لابن القيم: ص 106.(6/397)
الشافعية والحنابلة في قول عندهم ذكروا أن وقفها يحتاج إلى صيغة من الإمام، لتصبح هذه الأرض وقفاً، والراجح خلافه (1) .
أما المنقول في الفيء: فيوقف أيضاً عند الجمهور، ويصرف لمصالح المسلمين، أي الأمر فيه للإمام يفعل ما يراه مصلحة. ويخمس عند الشافعية المنقول كالغنيمة؛ لأن آية الفيء؛ {ما أفاء الله على رسوله..} [الحشر:6/59] مطلقة، وآية الغنيمة: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ... } [الأنفال:41/8] مقيدة، فحمل المطلق على المقيد، جمعاً بينهما لاتحاد الحكم، فإن الحكم واحد، وهو رجوع المال من الحربيين للمسلمين، وإن اختلف السبب بالقتال وعدمه (2) .
غير أن مذهب الجمهور في هذا أصح، ودليلهم ما روى أنس بن مالك عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكُراع (الخيول) والسلاح عُدَّة في سبيل الله (3) .
فقوله: «كانت للنبي صلّى الله عليه وسلم خاصة» يؤيد مذهب الجمهور في أنه لا يخمس الفيء، إذ من المعروف أن فدَك والعوالي (أموال بني النضير في المدينة) (4) كانت للرسول صلّى الله عليه وسلم خاصة، ولمن بعده من الأئمة، لقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم..} [الحشر:6/59] {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول} [الحشر:59/7] أراد أن الفيء لا يقسم كالغنائم، بدليل قوله تعالى: {كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:6/59] .
__________
(1) فتح القدير: 353/4، الخراج: ص 23، الشرح الكبير للدردير: 175/2، القوانين الفقهية: ص 66، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 133، ولأبي يعلى: ص 132، مغني المحتاج: 99/3، الشرح الكبير للمقدسي: 542/10، كشاف القناع: 75/3، ط أنصار السنة، المحرر: 179/2.
(2) زاد المعاد: 220/3، القوانين الفقهية: ص 148، ط تونس، مغني المحتاج: 93/3.
(3) شرح مسلم: 70/12، قال النووي: كانت أموال بني النضير أي معظمها.
(4) سيرة ابن هشام: 337/2.(6/398)
وإذا أراد الإمام تفريق الفيء بين المسلمين اتخذ ديواناً يحفظهم ويرتبهم، ويجعل العطاء على حسب ما يتيسر له شهرياً أو غيره (1) .
3 - الأرض التي فتحت صلحاً:
يتحدد حكم هذا النوع من الأراضي بموجب عقد الصلح، فهو إما أن يقع الصلح على أن تكون الأرض للمسلمين، وإما أن يقع على أن تكون الأرض لأصحابها كأرض اليمن والحيرة.
ففي الحالة الأولى: تصبح الأرض وقفاً للمسلمين، كأرض العنوة، وتعتبر من بلاد الإسلام، كالأرض التي جلا عنها أهلها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فتح خيبر، وصالح أهلها على أن يعمروا أرضها، ولهم نصف ثمرتها، فكانت للمسلمين دونهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما: «عامل النبي صلّى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» (2) ، وصالح النبي بني النضير على أن يجليهم من المدينة، ولهم ما أقلت الإبل من المتعة والأموال إلا الحلقة (السلاح) وكانت مما أفاء الله على رسوله (3) .
ويوضع على هذه الأرض الخراج، ويكون تابعاً لها، فإذا اشترى مسلم بعضاً منها، ظل ملتزماً بضريبة الخراج؛ لأنه يعتبر أجرة في نظير الانتفاع بالأرض، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء (4) .
وفي الحالة الثانية: تكون الأرض ملكاً لأهلها بموجب الصلح، باتفاق الفقهاء، ويلتزم المسلمون بتنفيذ شروط الصلح كاملة، ما دام هؤلاء قائمين على الصلح، ولكن يوضع الخراج على الأرض يؤدونه عنها، ويكون لبيت المال (5) ، وهذا الخراج يعتبر في حكم الجزية، فمتى أسلموا سقط عنهم عند الجمهور والشيعة الإمامية (6) ، بدليل ما كتب عمر بن عبد العزيز لعماله: ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض.
أما عند الحنفية والشيعة الزيدية: فلا يسقط؛ لأن الخراج عندهم فيه معنى المؤنة ومعنى العقوبة، ولذا يبقى على المسلم ولا يبتدأ به (7) .
وتعبر دار هؤلاء المصالحين دار عهد أو صلح عند الشافعية وبعض الحنابلة (8) ، وعند الجمهور: تعتبر الدار بالصلح دار إسلام، ويصير أهلها أهل ذمة تؤخذ منهم الجزية.
__________
(1) البحر الزخار: 442/5، المهذب: 248/2.
(2) رواه البخاري والبيهقي وأبو داود (صحيح البخاري: 105/3، 140/5، سنن البيهقي: 113/6، سنن أبي داود: 357/3) .
(3) الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي: 542/10.
(4) المدونة: 26/3، المنتقى على الموطأ 219/3، الخرشي: 149/3، ط ثانية، كشاف القناع: 75/3، المحرر: 179/2، أحكام أهل الذمة: ص 106، مفتاح الكرامة: 249/4، المختصر النافع: ص14.
(5) الخراج: ص 63، تبيين الحقا ئق: 274/3، حاشية ابن عابدين: 53/2، حاشية الدسوقي: 175/2، القوانين الفقهية: ص 148، الأم: 103/4، 193، الشرح الكبير للمقدسي: 543/10، أحكام أهل الذمة: ص 105، غاية المنتهى: 467/1، ويلاحظ أن هذه المصادر عند الحنابلة تقرر وجوب الخراج لنا، لكن ورد في كشاف القناع: 686/3 باب حكم الأرضين المغنومة: لا خراج على أرض صولح أهلها على أن الأرض لهم، كأرض اليمن والحيرة، كما لا خراج على ما أحياه المسلمون كأرض البصرة.
(6) لباب اللباب: ص 73، سنن البيهقي: 141/9، المحرر في الفقه الحنبلي: 179/2، مفتاح الكرامة: 239/4، المختصر النافع: ص 114.
(7) التلويح على التوضيح: 152/2، المنتزع المختار: 575/1.
(8) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 133، ولأبي يعلى: ص 133، كشاف القناع: 75/3.(6/399)
ثانياً ـ أحكام الأراضي في داخل الدولة:
الأراضي نوعان: أرض مملوكة وأرض مباحة. والمملوكة نوعان: عامرة وخراب، والمباحة نوعان أيضاً: نوع هو من مرافق البلد للاحتطاب ورعي المواشي، ونوع ليس من مرافقها وهو الأرض الموات أو ما يسمى الآن أملاك الدولة العامة، والمقصود بالأرض العامرة: هي التي ينتفع بها من سكنى أو زراعة أو غيرها. وأما الأرض الخراب: فهي المعروفة بالأرض المملوكة الغامرة: وهي التي انقطع ماؤها أو لم تستغل بسكنى أو استثمار أو غيرهما. وسنعطي هنا فكرة إجمالية عن حكم كل أرض.
1ً - حكم الأرض المملوكة العامرة: هو أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها من غير إذن صاحبها.
2ً - حكم الأرض الخراب التي انقطع ماؤها: هذه الأرض ملك لصاحبها، وإن طال الزمان على خرابها، حتى إنه يجوز له بيعها وهبتها وإجارتها وتورث عنه إذا مات.... هذا إذا عرف صاحبها، فإن لم يعرف، فحكمها حكم اللقطة.(6/400)
وأما الكلأ (1) الذي ينبت في أرض مملوكة فهو مباح للناس غير مملوك لأحد، إلا إذا قطعه صاحب الأ رض، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (2) فإذا قطع الكلأ صاحب الأرض وأحرزه صار مملوكاً له؛ لأنه استولى على مال مباح غير مملوك فيملكه كالماء المحرز في الأواني والظروف وسائر المباحات، قال صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» (3) .
والمروج غير المملوكة، والآجام (4) غير المملوكة، والسمك وسائر المباحات كالطير، تعتبر في حكم الكلأ.
وأما الحطب والقصب في الأجمة المملوكة: فليس لأحد أن يقطعها إلا بإذن المالك؛ لأن ذلك مملوك لصاحب الأجمة ينبت على ملكه، وإن لم يوجد منه الإنبات أصلاً؛ لأن ملك القصب والحطب مقصود من ملك الأجمة، فيملك بملكها، بخلاف الكلأ، فإنه غير مقصود، وإنما المقصود زراعة الأرض (5) .
وإذا كان الكلأ مستنبتاً في أرض مملوكة، بفعل صاحبها وسقيه، كان ملكاً خاصاً له.
__________
(1) الكلأ: الحشيش أو العشب الذي ينبت في الأرض من غير صنع أحد.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار» وبلفظ «الناس شركاء..» ورواه ابن ماجه عن ابن عباس، وزاد «وثمنه حرام» ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عمر، ورواه غيرهم (راجع تحقيق وتخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 430/3 ومابعدها، نصب الراية: 294/4، سبل السلام: 86/3) .
(3) رواه أبو داود عن سمرة بن مضرِّس، وصححه الضياء في المختارة، وقال البغوي: لا أعلم بها الإسناد غير هذا الحديث (نيل الأوطار: 302/5 ومابعدها) .
(4) الأجمة بالتحريك: الشجر الكثير الملتف جمع ْجم، وأجم، وأجمات، وجمع الجمع آجام.
(5) البدائع: 192/6 ومابعدها.(6/401)
3ً - حكم الأرض الموات: الأرض الموات كما عرفنا نوعان:
أحدهما: ما كان من مرافق أهل بلدة تستعمل مرعى للمواشي ومحتطباً لهم أو مقبرة لموتاهم أو ملعباً لصغارهم، سواء أكانت داخل البلدة أم خارجها، فيكون حقاً لهم لا مواتاً، فلا يجوز للإمام أن يقطعه لأحد، لما يترتب عليه من الإضرار بأهل البلدة، ولكن ينتفع بالحطب والقصب الذي في هذه الأرض من قبل أهل البلدة وغيرهم، وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم؛ لأنها ليست مملوكة لهم.
والحد الفاصل فيما يعتبر قريباً من البلدة: هو المكان الذي يسمع فيه الرجل
صوت الشخص الذي يناديه من آخر أرض مملوكة، فإذا لم يسمع الصوت، فهو موات لا يتبع تلك البلدة. ومثل أرض القرية: أرض الملح والقار (1) والنفط ونحوها مما لا يستغني عنه المسلمون، فهي لا تعد أرض موات، فلا يجوز إقطاعها لأحد، وإنما تكون حقاً لجماعة المسلمين.
والثاني: ما لا يكون تبعاً لقرية من القرى أو مدينة وهو الموات في اصطلاح الفقهاء.
والموات: هو ما لا يملكه أحد ولا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه وما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة: بأن غلبت عليه الرمال مثلاً، ولا يكون مملوكاً لمسلم أو ذمي، وأن يكون في رأي أبي يوسف بعيداً عن القرية بحيث إذا وقف إنسان في طرف الدور، فصاح، لا يسمع الصوت من كان فيه.
إلا أن هذا الشرط الأخير لا يعتبر في ظاهر الرواية، وإنما يكفي عدم ارتفاق أهل القرية به، وإن كان قريباً منهم وهو المفتى به عند الحنفية. فإذا كانت الأرض مملوكة لأحد لم تكن مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها فهي لقطة يتصرف بها الإمام.
وإحياء الأرض. معناه إصلاحها ببناء أو غرس أو سقي أو تفجير ماء أو حرث بحيث تصبح الأرض منتفعاً بها (2) .
__________
(1) القار: مادة سوداء تطلى بها السفن، وقيل: هو الزفت.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 194، تكملة فتح القدير: 8 ص 136 ومابعدها، الدر المختار: 5 ص 306.(6/402)
أما لو وضع حول الأرض أحجاراً أو تراباً أو حاطها بحائط صغير، وجعل ذلك حداً، فإنه لا يملكها؛ لأن هذا ليس بإحياء للأرض، وإنما يصير متحجراً، ويكون أحق بها من غيره باتفاق الأئمة (1) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» . وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً «منى مُناخٌ لمن سبق» (2) .
ومن حجر أرضاً ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره؛ لأن التحجير كما قلنا ليس بإحياء، وإنما هو إعلام بوضع الأحجار حول الأرض. وإعطاء المحتجر الحق في ترك الأرض له مدة ثلاث سنين مأخوذ من قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق» (3) ، ولأن هذه المدة يحتاج إليها لتهيئة الأمور والاستعداد لإتمام الأحياء.
هل يحتاج إحياء الموات إلى إذن الحاكم؟: اختلف العلماء في ذلك، فقال أبو حنيفة والمالكية (4) : يحتاج إحياء الموات إلى إذن الإمام أو نائبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» (5) فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، فلا يتملكه.
__________
(1) تكملة فتح القدير: ص 138، البدائع: ص 195، الدر المختار: ص 307، المراجع السابقة، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 70، مغني المحتاج: 2 ص 366، المغني: 5 ص 518، 538، المهذب: 1ص 425.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن: أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، قال الترمذي: حديث حسن. والمناخ: مبرك الإبل، ومحل الإقامة (راجع تحقيق وتخريج أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ المنتصر الكتاني: 3 ص 442، نيل الأوطار: 8 ص 22) .
(3) رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب (راجع نصب الراية: 4 ص 290، الخراج لأبي يوسف: ص 65) .
(4) البدائع: 6 ص 194، تكملة فتح القدير: 8 ص 136، الدر المختار: 5 ص 309، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 69.
(5) رواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، وفيه ضعف (نصب الراية: 3 ص 430، 4 ص 290) .(6/403)
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (1) : يجوز تملك الأرض بالإحياء، وإن لم يأذن الإمام فيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (2) فهذا الحديث أثبت الملك للمحيي من غير اشتراط إذن الإمام، ولأن إحياء الأرض مباح استولى عليه المحيي، فيملكه بدون إذن الإمام، كما لو أخذ إنسان صيداً أو حشَّ كلأ.
هل للبئر أو النهر في أرض الموات حريم (3) ؟ إذا حفر الرجل بئراً في برية أو حفر نهراً في أرض موات، فيعتبر الحفر إحياء للأرض، ولكن هل للبئر أو للنهر حريم؟
اتفق الفقهاء على أن للبئر والنهر حريماً لا يجوز للآخرين التعدي عليه بإحياء الأرض مثلاً فيه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل للبئر حريماً كما سيبين، إلا أنهم اختلفوا في مقدار حريم البئر. واتفق الحنفية على أن حريم العين خمس مئة ذراع من كل جانب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً» (4) .
وأما حريم البئر والنهر ففيه خلاف: قال الحنفية: حريم بئر العطَن (5) :
__________
(1) مراجع الحنفية السابقة، مغني المحتاج: 2 ص 361، المغني: 5 ص 513 وما بعدها.
(2) روي عن ثمانية: وهم عائشة وسعيد بن زيد، وجابر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وفضالة بن عبيد، ومروان بن الحكم، وعمرو بن عوف، وابن عباس، وحديث عائشة رواه البخاري وغيره (راجع نصب الراية: 4 ص 288، سبل السلام: 3 ص 83) قال هشام بن عروة في تفسير: «وليس لعرق ظالم حق» : الظالم: أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره، فيغرس فيها.
(3) الحريم: الموضع المجاور حول النهر أو البئر الذي تجب حمايته.
(4) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب. ثم بين أول الحديث من زيادة الزهري (راجع نصب الراية: 4ص 292) .
(5) بئر العطن بتحريك العين والطاء: هي التي ينزح منها الماء باليد. والعطن: موطن الإبل ومبركها، أو مناخها حول الماء.(6/404)
أربعون ذراعاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً عطناً (1) لماشيته (2) » .
وأما حريم بئر الناضح (3) : فعند أبي حنيفة: أربعون ذراعاً، عملاً بإطلاق الحديث السابق، ولأن حاجة الناضح تتحقق بأربعين ذراعاً من كل جانب كحاجة بئر العطن.
وعند الصاحبين: حريم بئر الناضح ستون ذر اعاً عملاً بالحديث السابق: «حريم العين خمس مئة ذراع، وحريم بئر العطن أربعون ذراعاً، وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً» ولأنه قد يحتاج لهذه المسافة لتسيير الدابة للاستقاء.
وأما حريم النهر: فاختلف في تقديره أبو يوسف ومحمد. وقال أبو يوسف، ورأيه هو المفتى به: يقدر بنصف أرض النهر من كل جانب. وقال محمد: يقدر بقدر عرض النهر من كل جانب (4) .
وفائدة تملك الحريم: هي أن من أراد أن يحفر فيه بئراً أو ينتفع به بشيء، فإنه يمنع منه، ولمالك الحريم ردم البئر التي تحفر، أو تضمين الحافر النقصان، ثم يردمه بنفسه.
__________
(1) أي مبركاً للماشية.
(2) رواه ابن ماجه والطبراني عن عبد الله بن مغفل. قال ابن حجر: وإسناده ضعيف، لأن فيه إسماعيل ابن أسلم، ورواه أيضاً أحمد في مسنده عن أبي هريرة بلفظ: «حريم البئر أربعون ذراعاً من جوانبها كلها لأعطان الإبل، والغنم، وابن السبيل أو الشارب، ولا يمنع فضل ماء، ليمنع به الكلأ» (نصب الرابة: 4 ص 291 وما بعدها، سبل السلام: 3 ص 85) .
(3) بئر الناضح: هي التي ينزح منها الماء بالبعير. والناضح: البعير.
(4) البدائع: 6 ص 195، تكملة فتح القدير: 8 ص 139 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار عليه: 5 ص 308 وما بعدها.(6/405)
وقال المالكية: إن ما يضر بالماء حريم لكل بئر، ويزاد عليه بالنسبة لبئر الماشية والشِّرب: ما لا يضايق الوارد الذي يشرب من هذه البئر (1) .
وقال الشافعية: حريم البئر المحفورة في أرض الموات: هو بقدر ما يقف فيه النازح منها على رأس البئر ليستقي إن كانت البئر للشرب، وقدر ما يمر فيه الثيران إن كانت للسقي.
وحريم النهر عند الشافعية: هو ملقى الطين وما يخرج منه من الرواسب، ويرجع فيه إلى أهل العرف في الموضع (2) . واستدلوا بالحديث السابق: «من حفر بئراً فله مما حولها أربعون ذراعاً..» وبحديث مرسل عن سعيد بن المسيب: «حريم البئر البديء ـ أي المستحدث ـ خمسة وعشرون ذراعاً، وحريم البئر العادية ـ أي القديمة ـ خمسون ذراعاً، وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع» (3) .
وقال الحنابلة: حريم البئر المستحدث خمسة وعشرون ذراعاً حواليها، وحريم البئر القديم خمسون ذراعاً، بدليل حديث ابن المسيب السابق (4) . وسيأتي في بحث إحياء الموات تفصيل الكلام في الحريم.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 4 ص 67.
(2) المهذب: 1 ص 424، مغني المحتاج: 2 ص 363.
(3) رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري عن سعيد بن المسيب. وأخرجه الدارقطني والخلال بإسنادهما عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وفيه ابن أبي جعفر ضعيف وهو عند أحمد عن أبي هريرة (نصب الراية: 4 ص 292 ومابعدها، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 3 ص 439) .
(4) المغني: 5 ص 540.(6/406)
الفَصْلُ الثَّاني: إحياء الموَات (استصلاح الأراضي والبناء فيها)
خطة البحث:
الكلام في هذا الموضوع يشمل ما يأتي:
المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته والترغيب فيه.
المبحث الثاني ـ ما يقبل الإحياء من الموات.
المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه ـ التحجير.
المبحث الرابع ـ شروطه.
المبحث الخامس ـ أحكامه ـ تملك الأرض ومقدار ما يملك (الحريم) .
المبحث الأول ـ تعريف إحياء الموات ومشروعيته والترغيب فيه شرعاً:
تعريف إحياء الموات: الإحياء لغة: جعل الشيء حياً، أي ذا قوة حساسة أو نامية. والموات: ما لا روح فيه، أو الأرض التي لا مالك لها، أو الأرض الخراب الدارسة غير العامرة، وبإيجاز: هو الأرض التي لم تعمر، والمراد بإحياء الموات: التسبب للحياة النامية، شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، وإحياؤها: عمارتها.
وشرعاً: الإحياء: إصلاح الأرض الموات بالبناء أو الغرس أو الكِرَاب (1) ، أو غير ذلك. والموات: الأرض التي لا عمارة ولا ماء فيها، ولا يملكها ولا ينتفع بها أحد (2) . أو هو عند الحنفية الأرض التي تعذر زرعها لانقطاع الماء عنها، أو لغلبته عليها، غير مملوكة، بعيدة من العامر. أو هو ما سلم عن اختصاص بإحياء أي بسبب إحياء (3) .
وحد الموات عند الشافعية: ما لم يكن عامراً، ولا حريماً لعامر، قرب من العامر أو بعد (4) .
__________
(1) كرب الأرض: قلبها للحرث.
(2) القوانين الفقهية: ص 339، الشرح الكبير: 66/4، مغني المحتاج: 361/2، كشاف القناع: 205/4.
(3) الكنز للنسفي مع تبيين الحقائق: 34/6، اللباب مع الكتاب: 218/1 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: المكان السابق.(6/407)
ومضمون التعاريف: هو أن إحياء الموات في الغالب: يعني استصلاح الأراضي الزراعية أو جعلها صالحة للزراعة، برفع عوائق الزراعة من أحجار وأعشاب منها، واستخراج الماء، وتوفير التربة الصالحة للزراعة، وإقامة الأسوار عليها أو تشييد البناء فيها.
والإحياء ورد عن الشارع مطلقاً، وما كان كذلك وجب الرجوع فيه إلى العرف؛ لأنه قد يبين مطلقات الشارع، والذي يحصل به الإحياء في العرف أحد خمسة أسباب: تبييض الأرض، وتنقيتها للزرع، وبناء الحائط على الأرض، وحفر الخندق القعير الذي لا يطلع من نزله إلا بمطلع، واستخراج الماء (1) .
مشروعيته: ثبتت شرعية إحياء الموات بالسنة النبوية في أحاديث كثيرة منها:
«من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (2) ، «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (3) «من عمر أرضاً ليست لأحد، فهو أحق بها» (4) «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادَوْن يتخاطُون» (5) .
دلت هذه الأحاديث على إباحة إحياء الأرض الميتة التي لا مالك لها، ولم ينتفع بها أحد، فيحييها الشخص بالسقي، أو الزرع أو الغرس، أو البناء، أو بالتحويط على الأرض بمقدار ما يسمى حائطاً في اللغة. قال عروة: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالإحياء، وإن اختلفوا في شروطه.
وتدل الأحاديث أيضاً على أن الشرع رغب في الإحىاء، لحاجة الناس إلى موارد الزراعة، وتعمير الكون، مما يحقق لهم رفاهاً اقتصادياً، ويوفر ثروة عامة كبرى.
__________
(1) سبل السلام: 82/3.
(2) رواه أحمد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد رواه ثمانية من الصحابة.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
(4) رواه مالك في موطئه، وأحمد والبخاري وأبو داود عن عائشة. قال ابن عبد البر: وهو مسند صحيح متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم. وروى عبيد في الأموال عن عائشة: «من أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها» .
(5) رواه أبو داود عن سمرة بن مضرِّس. ومعنى يتعادون يتخاطون: المعاداة: الإسراع بالسير، ويتخاطون: يعملون على الأرض علامات بالخطوط، وهي تسمى الخطط، جمع خطة بكسر الخاء (راجع الأحاديث كلها في نيل الأوطاو: 302/5، نصب الراية: 288/4 وما بعدها) .(6/408)
المبحث الثاني ـ الموات القابل للإحياء:
لا تصلح كل أرض للإحياء، وإنما منها ما يقبل الإحياء، ومنها ما لا يقبل. وقد اتفق الفقهاء على أن الأرض التي لم يملكها أحد، ولم يوجد فيها أثر عمارة وانتفاع، تملك بالإحياء.
كما اتفقوا على أن الأراضي التي لها مالك معروف بشراء أو عطية، لم ينقطع ملكه، لا يجوز إحياؤها لأحد، غير أصحابها.
واختلفوا في أنواع أخرى من الأرض (1) :
النوع الأول: ما ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر (درس) وعاد مواتاً:
قال الشافعية والحنابلة (2) : لا يملك بالإحياء؛ لأن الأحاديث التي أجازت الإحياء مقيدة بغير المملوك: «من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد» «ليس لعرق ظالم حق» ، ولأن سائر الأموال لا يزول الملك عنها بالترك.
وقال أبو يوسف من الحنفية (3) . يملك بالإحياء، ما لا يعرف له مالك بعينه إذا كان بعيداً من القرية، بحيث إذا وقف إنسان جهوري الصوت في أقصى العمران من دور القرية، فصاح بأعلى صوته، لم يسمع الصوت فيه. وعند محمد: إن ملكت في الإسلام لا تكون مواتاً، وإذا لم يعرف مالكها تكون لجماعة المسلمين. وظاهر الرواية المفتى به: عدم ارتفاق البلدة به كما سيذكر.
وقال المالكية (4) : يملك بالإحياء ما اندرس من عمارة الأرض، لعموم الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» ، ولأن أصل هذه الأرض مباح، فإذا تركت حتى تصير مواتاً، عادت إلى الإباحة.
__________
(1) المغني: 513/5 ومابعدها، كشاف القناع: 206/4.
(2) مغني المحتاج: 362/2، المهذب: 423/1، المغني: 514/5، كشاف القناع: 206/4.
(3) الكتاب مع اللباب: 219/2، تبيين الحقائق: 35/6، الدر المختار: 307/5.
(4) الشرح الكبير: 66/4، 68، الشرح الصغير: 87/4.(6/409)
النوع الثاني: ما يوجد فيه آثار ملك قديم من الجاهلية كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوها يملك بالإحياء في المذاهب الأربعة (1) ، وهو الأظهر عند الشافعية، إذ لا حرمة لملك الجاهلية، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «عادِيّ الأرض لله ولرسوله ثم هو بعد لكم» (2) أي قديم الخراب بحيث لم يملك في الإسلام.
والرأي الثاني للشافعي: أنه لا يملك بالإحياء، لأنه ليس بموات.
النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، أي لم يعرف مالكه: يملك بالإحياء عند الحنفية والمالكية، وفي رواية عن أحمد، لعموم الأخبار الواردة في مشروعية الإحياء، ولأنه أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم، فأشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك.
وقال الشافعية: هو مال ضائع، أمره إلى الإمام الحاكم في حفظه إلى ظهور مالكه، أو بيعه وحفظ ثمنه واستقراضه على بيت المال، أي لا يملك بالإحياء.
والصحيح عند الحنابلة: أنه لا يملك بالإحياء، فلا أثر لإحيائه ويكون فيئاً بمنزلة ما جلا عنه الأعداء خوفاً منا، أي يوزع في سبيل المصالح العامة (3) .
والخلاصة: إن الشافعية والحنابلة متفقون على أنه لا يملك بالإحياء، والحنفية والمالكية يقولون بجواز إحيائه.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) رواه عن طاوس سعيد بن منصور في سننه وأبو عبيد في الأموال (المغني، المكان السابق) .
(3) المراجع السابقة.(6/410)
توضيح آراء المذاهب في الموات القابل للإحياء:
يحسن بيان رأي كل مذهب على حدة فيما يقبل الإحياء.
1 - مذهب الحنفية (1) : الأرض الموات: هي أرض خارج البلد، لم تكن ملكاً لأحد، ولا حقاً له خاصاً. ففي داخل البلد لا يكون موات أصلاً، وكذا ما كان خارج البلدة من مرافقها، محتطباً لأهلها، أو مرعى لهم. فلا يجوز إحياء ماقرب من العامر؛ لأنه من مرافقه التابعة له ويترك مرعى لأهل القرية، ومطرحاً لحصائدهم، لتحقق حاجتهم إليها، فلا يكون مواتاً كالطريق والنهر.
فالمهم في الأرض غير المملوكة: عدم الارتفاق من أهل البلد، سواء قربت من العامر أم بعدت. وهذا هو ظاهر الرواية وهو قول الأئمة الثلاثة، وهو المفتى به عند الحنفية.
2 - مذهب المالكية (2) : موات الأرض: ما سلم عن اختصاص بإحياء (أي بسبب إحياء لها بشيء) أو بسبب كونه حريم عمارة كمحتطب أو مرعى لبلد. فإذا اندرست عمارتها من بناء أو غرس أو تفجير ماء ونحوها، لا يزول ملكها عمن أحياها، إلا بإحياء جديد من غيره بعد اندراسها بمدة طويلة يقدرها عرف الناس، فتصبح حينئذ ملكاً للمحيي الثاني.
وذلك سواء أكانت الأرض قريبة من العمران أم بعيدة من العمران، إلا أن الأولى يفتقر إحياؤها إلى إذن الحاكم.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 219/2 وما بعدها، البدائع: 194/6، تبيين الحقائق: 34/6، الدر المختار ورد المحتار: 307/5، تكملة الفتح: 136/8.
(2) الشرح الكبير: 66/4، الشرح الصغير: 87/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 339.(6/411)
3 - مذهب الشافعية (1) : حد الموات: ما لم يكون عامراً، ولا حريماً لعامر قرب من العامر أو بعد. أو هو الأرض التي لم تعمرّ قط في بلاد الإسلام. ولا يملك بالإحياء حريم معمور: وهو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع، مثل مرتكض الخيل ومناخ الإبل ومطرح الرماد ونحوها.
4 - مذهب الحنابلة (2) : الموات: هو الأرض التي ليس لها مالك، ولا بها ماء، ولا عمارة، ولا ينتفع بها. أو هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم: مسلم كان أو كافر. لكن لا يجوز إحياء ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، والمتعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها، والحد الفاصل بين القريب والبعيد يتحدد بالعرف.
والخلاصة: إن المذاهب متقاربة في أصلها ومختلفة في بعض الشروط والقيود.
المبحث الثالث ـ كيفية الإحياء وطرقه:
إحياء الأرض الموات: يكون باستصلاحها للزراعة بحسب عرف الناس وعاداتهم، كما قرر الشافعية، لكن للمذاهب آراء في الموضوع.
قال الحنفية (3) : إصلاح الأرض الموات يكون بالبناء أو الغرس أو الكراب (قلبها للحرث) ، أو إقامة المسنّاة (السد: وهو ما يبنى ليرد ماء السيل، والمراد هنا الجسر) ، أو شق النهر، أو إلقاء البذور، أو السقاية مع حفر الأنهار، أو التحويط والتسنيم بحيث يعصم الماء؛ لأنه من جملة البناء.
وعن محمد: أن المحيي لو حفر النهر، ولم يسق الأرض أو فعل العكس، يكون فعله تحجيراً لا إحياء.
وقال المالكية (4) : الإحياء يكون بالبناء والغرس والزراعة والحرث وإجراء المياه فيها وغيرها من أحد أمور سبعة هي:
الأول: بتفجير ماء لبئر أو عين، فيملك به، وكذا تملك الأرض التي تزرع به.
والثاني: بإزالة الماء منها حيث كانت الأرض غامرة بالماء.
والثالث: ببناء أرض.
والرابع: بسبب غرس الشجر فيها.
والخامس: بسبب تحريك أرض بحرثها ونحوه (الحراثة) .
والسادس: يكون بسبب قطع شجر بها بنية وضع يده عليها.
__________
(1) مغني المحتاج: 361/4، 363، المهذب: 423/1.
(2) كشاف القناع: 205/4، المغني: 513/5 ومابعدها، 516.
(3) تبيين الحقائق: 36/6، الهداية مع تكملة الفتح: 139/8، اللباب مع الكتاب: 218/2.
(4) الشرح الصغير: 93/4، الشرح الكبير: 69/4 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 339.(6/412)
والسابع: بسب كسر حجرها مع تسوية الأرض.
وقال الشافعية (1) : الإحياء الذي يملك به: يختلف بحسب الغرض المقصود من الأرض، ويرجع فيه إلى العرف، والعرف يمثل المصلحة عادة؛ لأن الشرع أطلقه، ولا حد له في اللغة، فيرجع فيه إلى العرف كالقبض في المبيع والموهوب، والحرز في السرقة: وهو في كل شيء بحسبه، والضابط: التهيئة للمقصود.
فإن أراد إحياء الموات مسكناً، اشترط فيه تحويط البقعة بآجر أو لبن أو قصب بحسب عادة ذلك المكان. والمعتمد أنه لا يكتفى بالتحويط من غير بناء، بل لا بد من البناء، ويشترط سقف بعض الأرض ليتهيأ للسكنى، وتعليق (نصب) باب؛ لأن العادة في المنازل أن يكون لها أبواب، ولا تصلح الأرض للسكنى بما دون ذلك (أي بالبناء والسقف وتركيب باب) .
وإن أراد إحياء الموات زريبة دواب أو نحوها، كحظيرة لجمع ثماروغلات وغيرها، فيكتفى بالتحويط بالبناء بحسب العادة، ولا يشترط سقف شيء؛ لأن العادة فيها عدمه. ولا بد فيه من تركيب باب على الأرجح مع البناء أو التحويط بالبناء.
وإن أراد إحياء الموات مزرعة، فيطلب جمع التراب حولها، وتسوية الأرض، وترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة أو نحوها، إن لم يكفها المطر المعتاد. ولا تشترط الزراعة فعلاً في الأصح، لأنه استيفاء منفعة الأرض، وهو خارج عن الإحياء، كما لا يعتبر في إحياء الدار سكناها. والخلاصة: أنه بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء.
وإن أراد إحياء الموات بستاناً، فيشترط جمع التراب حول الأر ض كالمزرعة، والتحويط حيث جرت العادة به عملاً بها، وتهيئة ماء كما تقرر في المزرعة. ويشترط أيضاً في البستان غرس البعض على المذهب. فهذا الإحياء يكون بالتحويط وتسوية الأرض وإيجاد الماء والغرس.
__________
(1) مغني المحتاج: 365/4 وما بعدها، المهذب: 424/1.(6/413)
وقال الحنابلة (1) : إحياء الأرض: أن يحوط عليها حائطاً منيعاً، سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب أو غيرها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحاط حائطاً على أرض، فهي له» (2) ، ولأن الحائط حاجز منيع، فكان إحياء.
وكالحائط: إجراء ماء للأرض من نهر أو بئر إن كانت لا تزرع إلا به، أو حفر بئر فيها ينبع منها الماء، فإن لم يخرج الماء فهو كالمحتجر الشارع في الإحياء.
ومثل الحائط: أن يغرس فيها شجراً، أو أن يمنع عن الموات ما لا يمكن زرعها إلا بحبسه عنها كأرض البطائح (3) .
وفي الجملة: الإحياء يكون إما بالتحويط المنيع أو إيجاد الماء أو غرس الشجر.
ولا يحصل الإحياء بمجرد الحرث والزرع؛ لأنه لا يراد للبقاء بخلاف الغرس، كما لا يحصل الإحياء أيضاً بخندق يجعله حول الأرض التي يريد إحياءها ولا بشوك وشبهه يحوطها به، ويكون تحجراً.
هل يحصل الإحياء بالتحجير؟
التحجير أو التحويط: هو الإعلام بوضع الأحجار حول الأرض، أي وضع سور من الأحجار والأشواك ونحوها على جوانب الأرض، وقد اتفق الفقهاء على عدم صلاحيته للإحياء، لكن المتحجر يكون أحق بها من غيره.
قال الحنفية (4) : إن حجر شخص الأرض، لا يملكها بالتحجير؟ لأنه ليس بإحياء في الصحيح؛ لأن الإحياء جعلها صالحة للزراعة، والتحجير للإعلام مشتق من الحجر: وهو المنع للغير بوضع علامة من حجر، أو بحصاد ما فيها من الحشيش والشوك ونفيه عنها وجعله حولها، أو بإحراق ما فيها من الشوك وغيره، وكل ذلك لا يفيد الملك، فبقيت مباحة على حالها.
__________
(1) المغني: 538/5، كشاف القناع: 212/4.
(2) رواه أحمد وأبو داود عن جابر، ولهما مثله عن سمرة بن جندب.
(3) البطحاء والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.
(4) تبيين الحقائق: 35/6، تكملة الفتح: 138/8، الدر المختار: 307/5.(6/414)
لكن المتحجر أولى بها من غيره، ولا تؤخذ منه إلى ثلاث سنين، فإذا لم يعمرها فيها، أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيرها. والتقدير بثلاث سنين مأخوذ من قول عمر رضي الله عنه: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (1) لكن هذا حكم ديانة، أما قضاء: فإذا أحياها غيره قبل مضيها، ملكها لتحقق سبب الملك منه، دون الأول أي المتحجر.
وقال المالكية (2) : لا يكون الإحياء بتحويط (تحجير) للأرض بنحو خط عليها، ولا رعي كلأ بها، ولا حفر بئر ماشية أو شرب بها، إلا أن يبين الملكية حين حفر البئر، فإن بينها فإحياء.
وقرر الشافعية والحنابلة (3) أنه: إن تحجر مواتاً، وهو أن يشرع في إحيائه، ولم يتمه، أو أعلم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشباً فيها، أو نصب أسلاكاً شائكة، أو حاطها بحائط صغير لم يملكها بما ذكر؛ لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء.
لكن يصير أحق الناس به لحديث أبي داود: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به» .
فلو أحياه آخر ملكه. فإن لم يتم إحياء المتحجر، وطالت المدة عرفاً، كنحو ثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه فتملكه، أو تتركه لمن يحييه، إن حصل متشوف للإحياء؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم، فلم يمكّن من الإحياء، فإن طلب المتحجر المهلة لعذر، أمهل شهرين أو ثلاثة أو أقل، على ما يراه الحاكم لأنه يسير. وإن لم يكن له عذر، فلا يمهل، فهم تقريباً كالحنفية.
__________
(1) رواه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب بلفظ: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» لكن في سنده الحسن بن عمارة ضعيف، وسعيد عن عمر فيه كلام (نصب الراية: 290/4) .
(2) الشرح الكبير: 70/4، الشرح الصغير: 93/4.
(3) مغني المحتاج: 366/4، المهذب: 425/1، المغني: 518/5، 543 وما بعدها، كشاف القناع: 214/4.(6/415)
المبحث الرابع ـ شروط الإحياء:
هناك شروط في المحيي، والأرض المحياة، وإجراء الإحياء.
المطلب الأول ـ شروط المحيي:
المحيي: هو الذي يباشر الإحياء الذي هو من أسباب الاختصاص أو التملك، ويجوز إحياء كل من يملك المال؛ لأنه فعل بملك به كالاصطياد.
ولا يشترط عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (1) كون المحيي مسلماً، فلا فرق بين المسلم والذمي في الإحياء، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة، فهي له» ، ولأن الإحياء أحد أسباب التمليك، فاشترك فيه المسلم والذمي، كسائر أسباب الملكية.
واشترط الشافعية (2) في المحيي أن يكون مسلماً، ولا يملك الذمي إحياء الأرض الموات، وإن أذن له فيه الإمام؛ لأن الإحياء استعلاء، وهو ممتنع عليهم بدار الإسلام. فلو أحيا ذمي أرضاً، نزعت منه ولا أجرة عليه، فلو نزعها منه مسلم وأحياها، ملكها، وإن لم يأذن له الإمام، إذ لا أثر لفعل الذمي.
__________
(1) الهداية مع تكملة الفتح: 138/8، الشرح الكبير: 69/4، المغني: 517/5.
(2) مغني المحتاج: 361/4-362، المهذب: 423/1 وما بعدها.(6/416)
المطلب الثاني ـ شروط الأرض المحياة:
يشترط في الأرض المحياة شروط تتعلق بملكيتها والارتفاق بها ومكانها، وهي ما يأتي:
1 - ألا تكون ملكاً لأحد، مسلم أو ذمي، وليست من اختصاص أحد. وهذا معنى قول الفقهاء: أن تكون الأرض عادياً (أي قديم الخراب بحيث لم يملك في الإسلام، لا مالك لها في الإسلام، فكأنها خربت من عهد عاد) . وهذا الشرط متفق عليه فقهاً (1) .
2 - ألا تكون مرتفقاً بها أي مستعمله ارتفاقاً لأهل البلدة، قريباً أو بعيداً، كمحتطب ومرعى، وناد (مجلس يجتمعون فيه للتحدث) ، ومرتكض خيل، ومُناخ إبل، ومطرح رماد، وحريم بئر، وشوارع وطرقات، ونحوها. وهو شرط متفق عليه أيضاً بين المذاهب في الأرجح عند بعضها كالحنفية (2) .
3 - أن تكون الأرض عند الشافعية في بلاد الإسلام: فإن كانت في دار الحرب فللمسلم إحياؤها إن كانت مما لا يمنعها أهلها عن المسلمين، فإذا منعوها أو دفعوا المسلمين عنها، فلا يملكها المسلم بالاستيلاء (3) .
ولا فرق عند الجمهور غير الشافعية بين دار الحرب ودار الإسلام لعموم الأخيار، ولأن عامر دار الحرب إنما يملك بالقهر والغلبة كسائر أموالهم (4) .
__________
(1) الدر المختار: 306/5، اللباب شرح الكتاب: 219/2، الشرح الكبير: 66/4، مغني المحتاج: 361/4، المهذب: 423/1، كشاف القناع: 205/4.
(2) الهداية مع التكملة: 136/8، البدائع: 194/6، الدر المختار: 306/5 ومابعدها، اللباب: المكان السابق، الشرح الكبير: 67/4، مغني المحتاج: 363/4، المغني: 516/5، 525، كشاف القناع: 208/4.
(3) مغني المحتاج: 362/4.
(4) المغني: 515/5، المراجع السابقة.(6/417)
المطلب الثالث ـ شروط الإحياء الذي يثبت به الملك:
يشترط في الإحياء الذي يثبت به الملك شرطان في بعض الآراء:
1 - أن يكون الإحياء عند أبي حنيفة (1) بإذن الحاكم، لحديث: «ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه» (2) ، فإذا لم يأذن لم تطب نفسه به، ولأن هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدي المسلمين، فهي فيء، والإمام هو المختص بتوزيع الفيء، كالغنائم، ومثل إعطاء السَّلَب للقاتل في قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سَلَبه» (3) فهذا تصرف من الرسول صلّى الله عليه وسلم بطريق الإمامة والسياسة، لا بطريق الشرع والنبوة.
وقال المالكية (4) : إذا كانت الأرض قريبة من العمران، افتقر إحياؤها إلى إذن الإمام، بخلاف البعيدة من العمران، وأن يكون فيها الإذن لمسلم، فلا يأذن الإمام لذمي على المشهور في إحياء الأرض القريبة من العمران، ولا يجوز للذمي إحياء الأرض في جزيرة العرب: مكة والمدينة وما والاها.
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة (5) : من أحيا أرضاً مواتاً، تملكها، وإن لم يأذن له فيها الإمام، اكتفاء بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» الصادر بطريق الشرع والنبوة، ولأنه مال مباح كالاحتطاب والاصطياد، سبقت إليه يد المحيي، فيملكه. ويؤيده حديث البخاري عن عائشة: «من عَمَر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها» فظاهره أنه لا يشترط إذن الإمام.
لكن يستحب استئذانه. خروجاً من الخلاف.
2 - يشترط عند الحنفية في حالة التحجير: أن يتم الإحياء خلال مدة أقصاها ثلاث سنين. فإذا لم يعمرها فيها أخذها الحاكم منه، ودفعها إلى غيره؛ لأن البدء أو الشروع في استصلاحها يتطلب تعميرها، فيحصل النفع للمسلمين بدفع العشر أو الخراج، فإذا لم يحصل المقصود، فلا فائدة في
__________
(1) البدائع: 194/6 ومابعدها، الهداية مع التكملة: 136/8، تبيين الحقائق: 35/6، الدر المختار: 307/5، الخراج لأبي يوسف: ص 64.
(2) رواه الطبراني، وفيه ضعف من حديث معاذ (نصب الراية: 430/3، 290/4) .
(3) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي قتادة الأنصاري (نصب الراية: 428/3) . والسلب: ما يكون مع القتيل من سلاح وآلات وثياب ونقود وخيل ونحوها.
(4) القوانين الفقهية: ص 339، الشرح الصغير: 94/4.
(5) مغني المحتاج: 361/4، تكملة فتح القدير، المكان السابق، المهذب: 423/1، المحرر في الفقه الحنبلي: 367/1، المغني: 543/5، كشاف القناع: 206/4.(6/418)
تركها في يده (1) .
والتقدير بثلاث سنين مأخوذ ـ كما عرفنا ـ من قول عمررضي الله عنه: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» (2) . وهذه مدة معقولة لاستصلاح الأراضي وتدبير مصالحها. لكن هذا الحكم من طريق الديانة، أما من طريق القضاء، فلو أحياها غيره قبل مضي تلك المدة، ملكها لتحقق سبب الملك منه، دون الأول.
ومذهب الشافعية والحنابلة كالحنفية تقريباً.
المبحث الخامس ـ أحكام إحياء الموات:
يترتب على إحياء الأرض تملكها، وفرض ضريبة العشر أو الخراج عليها، وعدم تملك حريم المعمور، وتملك حريم الموات.
المطلب الأول ـ تملك الأرض المحياة:
هل يثبت بإحياء الموات ملك الاستغلال (حق الانتفاع) ، أو ملك الرقبة (ذات الأرض) ملكية مطلقة تشمل حق التصرف والاستعمال والاستغلال؟
قال الفقيه أبو القاسم أحمد البلخي رحمه الله: إن الذي يثبت بإحياء الموات هو حق الاستغلال لا حق الملكية، قياساً على من جلس في موضع مباح، فإن له الانتفاع، فإذا قام عنه، وأعرض، بطل حقه (3) .
وقال عامة الفقهاء: الثابت بالإحياء هو حق الملكية المطلقة، استدلالاً بنص الحديث: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» فإنه أضاف الحق للمحيي بلام التمليك في قوله «فهي له» وملكه لا يزول بالترك (4) . وهذا هو الحق العيني للمحيي.
وبناء عليه نص الحنفية: أنه لو ترك المحيي الأرض بعد الإحياء، وزرعها غيره، فالأول أحق بها في الأصح (5) .
المطلب الثاني ـ وظيفة الأرض المحياة:
الحق الثاني في الأرض المحياة هو للدولة، لكن هل الواجب المفروض على تلك الأرض أو الوظيفة: هو العشر أو الخراج؟
قال أبو يوسف: إن أحياها مسلم، فإن كانت تلك الأرض من الأراضي العشرية فالواجب فيها العشر، وإن كانت من حيّز الأراضي الخراجية فالواجب فيها الخراج.
__________
(1) تبيين الحقائق: 35/6.
(2) عرفنا أن في سنده ضعفاً. وروى حميد بن زنجويه النسائي في كتاب الأموال عن عمرو بن شعيب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أرضاً، فعطلوها وتركوها، فأخذها قوم آخرون، فأحيوها، فخاصم فيها الأولون إلى عمر بن الخطاب، فقال: لو كانت مني أو من أبي بكر لم أرددها، ولكنها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: من كانت له أرض، فعطلها ثلاث سنين، لا يعمرها، فعمرها غيره، فهو أحق بها (نصب الراية: 290/4) .
(3) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 137/8.
(4) المرجع السابق، تبيين الحقائق: 35/6، البدائع: 194/6، الشرح الصغير: 87/4، المهذب: 423/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 361/4، المغني: 513/5، كشاف القناع: 206/4.
(5) الدر المختار: 307/5، الهداية مع تكملة الفتح: 137/8، تبيين الحقائق: 35/6.(6/419)
وقال محمد: إن أحياها بماء العشر كماء المطر أو الأنهار الكبيرة فهي عشرية، وإن أحياها بماء الخراج، كالماء المأخوذ من نهر حفره غير المسلمين فهي خراجية. وهذا الرأي هو ما مشى عليه صاحب الهداية.
والأراضي العشرية خمسة أنواع:
1 - أرض العرب.
2 - كل أرض أسلم أهلها عليها طوعاً.
3 - الأراضي التي فتحت عنوة وقهراً وقسمت بين الغانمين.
4 - المسلم إذا اتخذ داره بستاناً أو كرماً.
5 - المسلم إذا أحيا الأراضي الميتة بإذن الإمام وهي من توابع الأراضي العشرية، أو تسقى بماء العشر، وهو ماء السماء وماء العيون المستنبط من الأراضي العشرية.
والأراضي الخراجية:
1 - سواد العراق كلها، وكل أرض فتحت عنوة وقهر اً وتركت على أيدي أربابها، ومنَّ عليهم الإمام، فإنه يضع الجزية على أعناقهم إذا لم يسلموا، والخراج على أراضيهم إذا أسلموا أو لم يسلموا. وهذا عند الحنفية.
2 - وكذلك إذا جلاهم الإمام ونقل إليها آخرين.
3 - والمسلم أو الذمي إذا أحيا أرضاً ميتة، وهي تسقى بماء الخراج، والذمي إذا اتخذ داره بستاناً (1) .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 492/1-495.(6/420)
وقال الحنابلة: لا خراج على من أحيا موات الأرض المفتوحة عنوة، كأرض مصر والشام والعراق. أما إن أحياها ذمي فهي خراجية مطلقاً بالاتفاق (1) .
المطلب الثالث ـ القيد الوارد على ملكية المحيي والملكية الإضافية ـ الحريم:
الحريم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، أو ما يحتاج إليه لمصلحة العامر من المرافق، كحريم البئر، وفناء الدار، والطريق، ومسيل الماء ومرافق القرية مثل ناد (مجلس الاجتماع) ومحتطب ومرعى ومرتكض الخيل ومناخ الإبل، ومطرح الرماد، ونحوها.
ولا يجوز باتفاق الفقهاء (2) إحياء حريم الأر اضي العامرة قبل الإحياء؛ لأنه تابع للعامر، فلا يملك؛ لأنّا لو جوزنا إحياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله.
ولا يجوز أيضاً بالإحياء تملك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الأسواق؛ لأن المذكور ليس من الموات، وإنما من جملة العامر، ولأنّا لو جوزنا التملك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطرقهم.
والخلاصة: أن كل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه.
ومن جهة أخرى للمحيي ملكية إضافية قررها الشارع: وهو حريم الأرض التي أحياها، فله بالإحياء ما يحتاج إليه من المرافق كفناء الدار (الساحة أمام الدار وما امتد من جوانبها) ومسيل وحريم البئر، وله أن يمنع غيره منه.
والكلام عن الحريم في أصل مشروعيته، ومقداره.
__________
(1) البدائع: 195/6، الهداية مع التكملة: 37/8، كشاف القناع: 207/4.
(2) البدائع: 195/6، تبيين الحقائق: 36/6، الشرح الكبير: 67/4، الشرح الصغير: 88/4، مغني المحتاج: 363/4، المهذب: 423/1، المغني: 525/5، كشاف القناع: 208/4.(6/421)
مشروعية الحريم: الأصل في مشروعية الحريم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً (1) . وللعين حريم بالإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام جعل لكل أرض حريماً (2) .
مقدار الحريم: للفقهاء تقديرات متقاربة للحريم.
مذهب الحنفية (3) :
1 ـ حريم العين الجارية: الأصح أن حريمها خمس مئة ذراع من كل جانب والذراع ست قبضات، كل قبضة أربع أصابع، وهو من المرفق إلى الأنامل. لقول الزهري: «وحريم العين خمس مئة ذراع، من كل ناحية» وبناء عليه يمنع غير صاحب الحريم من الحفر ونحوه في مسافة الحريم، لأنه ملك له، فله تضمين المعتدي أو ردم الحفرة.
2 ـ وحريم البئر: يختلف بين بئر العطَن (العطن: مُناخ الإبل حول البئر) ، وبئر العطن (هي التي ينزح منها الماء باليد) وبين بئر الناضح: (وهي التي ينزح منها الماء بالبعير ونحوه) .
__________
(1) قال عليه السلام: «من حفر بئراً، فله مما حولها أربعون ذراعاً، عطنا لماشيته» أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل، ورواه أحمد من حديث أبي هريرة (نصب الراية: 291/4) .
(2) أخرج أبو داود في مراسيله عن الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «حريم البئر العادية خمسون ذراعاً، وحريم بئر البديء خمسة وعشرون ذراعاً» وأخرج الحاكم عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في النخلة أن حريمها مبلغ جريدها (نصب الراية: 292/4 وما بعدها) وزاد الزهري: «وحريم العين خمس مئة ذراع من كل ناحية» .
(3) الدر المختار: 308/5-310، الهداية مع تكملة الفتح: 139/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 36/6-38، الكتاب مع شرحه اللباب: 221/2 وما بعدها، البدائع: 195/6.(6/422)
وحريم بئر العطن: أربعون ذراعاً من كل جانب باتفاق الحنفية، كما دلت بعض الروايات لكنها غريبة أي لم تثبت، كما قال الزيلعي (1) .
وحريم بئر الناضح أربعون ذراعاً كبئر العطن عند أبي حنيفة، عملاً بحاجة الناس. وعند الصاحبين: ستون ذراعاً لما روي: «وحريم بئر الناضح ستون ذراعاً» والصحيح: أن حريمها على قدر الحاجة من كل الجوانب. بشرط أن يحفرها في موات بإذن الإمام أو في ملكه، فلو حفر في ملك الغير لا يستحق الحريم.
3 ـ حريم القناة: وهي مجرى الماء تحت الأرض. ولم يقدر حريمها بشيء يمكن ضبطه، فحريمها بقدر ما يصلحها لإلقاء الطين ونحوه. وعن محمد: أنها بمنزلة البئر في استحقاق الحريم، وقيل بآراء أخرى، أولاها عندي: أن لها حريماً مفوضاً إلى رأي الإمام؛ لأنه لا نص في الشرع.
4 ـ حريم النهر: اختلف فيه الحنفية. فعن أبي حنيفة: لا حريم للنهر في ملك الغير. وقال الصاحبان: له حريم من الجانبين؛ لأن استحقاق الحريم للحاجة، وصاحب النهر يحتاج إليه كصاحب البئر والعين، إذ أنه يحتاج إلى المشي على حافتي النهر، كما يحتاج إلى موضع لإلقاء الطين عليه عند كري النهر. ثم اختلف الصاحبان في تقديره.
فقال أبو يوسف: قدر نصف بطن النهر من كل جانب، أي نصف العرض.
وقال محمد: قدر جميع بطن النهر من كل جانب، أي عرض النهر. واتفق الحنفية أن للنهر حريماً بقدر ما يحتاج إليه لإلقاء الطين ونحوه، فيما لو أحياه في أرض موات. وعليه من كان له نهر في أرض غيره، فليس له حريمه عند أبي حنيفة بمجرد دعواه أنه له؛ لأن الظاهر لا يشهد له، بل لصاحب الأرض؛ لأنه من جنس أرضه، والقول لمن يشهد له الظاهر، إلا أن يقيم البينة على ذلك؛ لأنها لإثبات خلاف الظاهر.
وقال الصاحبان: له مسنّاة (2) يمشي عليها، ويلقي عليها طينه؛ لأن النهر لابد له من ذلك. فكان الظاهر أنه له.
وثمرة الخلاف: أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: لصاحب النهر.
قال الزيلعي: والصحيح أن هذا الحريم لصاحب النهر، ما لم يفحش.
5 ـ حريم الشجر: حريم الشجر الذي يغرس في الأرض الموات: خمسة أذرع من كل جانب، حتى لا يملك غيره أن يغرس شجراً في حريمه؛ لأنه يحتاج إلى الحريم لجذاذ ثمره، وللوضع فيه. وقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلم حريم الشجرة خمسة أذرع (3) .
ومقدار الحريم عند المالكية (4) : ما يأتي:
__________
(1) نصب الراية: 292/4.
(2) المسناة: ما يبنى في وجه السيل لحبس الماء. ويراد بها هنا: ما يكون كالجسر للنهر، للمشي وإلقاء الطين عند الكري (أي الحفر) .
(3) أخرجه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري (نصب الراية: 293/4) .
(4) الشرح الصغير: 89/4، القوانين الفقهية: ص 339.(6/423)
حريم البئر: ما يتصل بها من الأرض التي حولها، فهو يختلف بقدر كبر البئر وصغرها وشدة الأرض ورخاوتها. ويشمل باطن الأرض. فلا يحق لآخر حفر بئر ينشف ماءها أو يذهبه، أو يغيره بطرح نجاسة يصل إليها وسخها، كما يشمل ظاهر الأرض كالبناء والغرس.
وحريم الدار: مدخلها ومخرجها، ومواضع مضابطها، وشبهها، مما يرتفق أهلها به من مطرح تراب، ومصب ميزاب لدار. وحريم الفدان (1) : حواشيه، ومدخله ومخرجه.
وحريم القرية: موضع محتطبها ومرعاها.
وحريم الشجر: ما فيه مصلحة عرفاً، فلصاحبها منع من أراد إحداث شيء بقربها يضرّ بها، من بناء أو غرس أو حفر بئر ونحوها.
وعند الشافعية (2) : يرجع في تقدير الحريم إلى العرف، حتى إن المنصوص عليه مراعى فيه العرف والحاجة. والحريم كما تقدم: هو ما تمس الحاجة إليه لتمام الانتفاع بالمعمور، وإن حصل أصل الانتفاع بدونه.
فحريم القرية المحياة: النادي (وهو المجلس الذي يجتمعون فيه ويتحدثون) ، ومرتكض الخيل، ومناخ الإبل، ومطرح الرماد ونحوها كمراح غنم ومسيل ماء وملعب صبيان.
وحريم البئر المحفورة في الموات: موقف النازح منها (وهو القائم على رأس البئر ليستقي) (3) والحوض (وهو ما يصب النازح فيه ما يخرجه من البئر) ، والدولاب، ومجتمع الماء (الذي يطرح فيه من الحوض لسقي الماشية والزرع) ، ومتردد النازح من الدابة إن استقى بها، أو الآدمي.
وحريم بئر الشرب: موضع المستقي منها.
__________
(1) الفدان: 5760 م2 = 240 قصبة، والدونم: 1000 م2.
(2) مغني المحتاج: 363/4 ومابعدها، المهذب: 424/1 وما بعدها.
(3) أما المحفورة في ملكه، فيعتبر فيها العرف.(6/424)
وحريم النهر: هو ملقى الطين وما يخرج منه بحسب العرف في الموضع. بدليل حديث عبد الله بن مغفل السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من احتفر بئراً، فله أربعون ذراعاً حولها، عطناً لماشيته» .
وحريم الدار المبنية في الموات: مطرح رماد وكناسة وثلج، وممر في صوب الباب (جهته) .
وحريم آبار القناة: ما لو حفر فيه (أي في الحريم) نقص ماؤها، أو خيف عليها الانهيار، والدار المحفوفة بدور لا حريم لها. ويتصرف كل واحد في ملكه على العادة، فإن تعدى ضمن.
ويجوز إحياء موات الحرم المكي، كما يملك عامره بالبيع وغيره، دون عرفات ومزدلفة ومنى، لا يجوز إحياؤها لتعلق الوقوف بعرفات، وأداء شعائر الحج فيها وفي غيرها، كالحقوق العامة من الطرق ومصلى العيد في الصحراء، وموارد الماء.
ومذهب الحنابلة (1) ما يأتي:
البئر العاديّة (بتشديد الياء نسبة إلى عاد) (2) : هي القديمة التي انطمت وذهب ماؤها، فجدد حفرها وعمارتها، أو انقطع ماؤها، فاستخرجه المحيي الذي يملكها ويملك حريمها. وحريمها: خمسون ذراعاً من كل جانب.
والبئر غير العادية (البئر البديء) : حريمها على النصف من حريم العادية، وهو خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب.
والدليل ما روى أبو عبيد في الأموال عن سعيد بن المسيب قال: «السنة في حريم القليب ـ البئر العادية: خمسون ذراعاً، وحريم البديء: خمسة وعشرون ذراعاً، وحريم بئر الزرع ثلاث مئة ذراع» .
وحريم عين وقناة من موات حولها: خمس مئة ذراع، أي ذراع اليد؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق.
__________
(1) كشاف القناع: 212/4 ومابعدها، المغني: 542/5.
(2) لم يرد عادا بعينها، لكن لما كانت «عاد» في الزمن الأول، وكانت لها آثار في الأرض، نسب إليها كل قديم. لذا عرفت بأنها: القديمة..الخ.(6/425)
وحريم نهر من حافتيه: ما يحتاج النهر إليه، لطرح كرايته (أي ما يلقى منه طلباً لسرعة جريه) وما يضر صاحبه، بتملكه عليه، وإن كثر، وكذا ما يرتفق بدخوله؛ لأنه من مصالحه.
وحريم شجرة: قدر مد أغصانها. وحريم النخل: بقدر مد جريدها، لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم: «اختصم إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في حريم نخلة، فأمر بجريدة من جرائدها فذرعت، فكانت سبعة أذرع، أو خمسة أذرع، فقضى بذلك» .
وحريم أرض زراعة: قدر ما يحتاجه زارعها لسقيها، وربط دوابها، وطرح سبخها ونحوه، كمصرف مائها عند الاستغناء عنه، لأن كل المذكور من مرافقها.
وحريم الدار: مطرح تراب وكناسة وثلج وماء وميزاب، وممر إلى بابها؛ لأن هذا كله مما يرتفق بها ساكنها.
ولا حريم لدار محفوفة بملك الغير من كل جانب؛ لأن الحريم من المرافق، ولا يرتفق بملك غيره؛ لأن مالكه أحق به، ويتصرف كل واحد منهم في ملكه وينتفع بحسب ما جرت به العادة، فإن تعدى العادة، منع التعدي، عملاً بالعادة.
وبناء عليه: لو حفر رجل بئراً في أرضه، فأدى إلى نضوب ماء بئر الجار، وجب سد ماء البئر، عند الحنابلة.
ولا شيء عليه عند الحنفية؛ لأن الماء الموجود تحت الأرض غير مملوك لأحد، وهذا منصوص عليه في المجلة (م 1288) .(6/426)
الفَصْلُ الثَّالث: أحكام المعادن والحِمى والإقطاع
فيه مبحثان:
الأول ـ الحمى.
الثاني ـ الإقطاع، ويتضمن أحكام المعادن
المبحث الأول ـ الحمى:
معناه وأصله، مشروعيته، ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره.
أولاً ـ أصل الحمى ومعناه: أصل الحمى عند العرب في الجاهلية: أن الرئيس منهم كان إذا نزل بأرض مخصبة، استعوى كلباً، على مكان عال، فحيث انتهى إليه صوته من كل جانب، حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره. وهذا لا يجوز شرعاً، فقد نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلم لما فيه من التضييق على الناس، ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق.
والحمى بمعنى المحمي، مصدر يراد به اسم المفعول، أو المراد به الحماية والتحجير. ومعناه شرعاً. أن يحمي الإمام أرضاً من الموات، فيمنع الناس من رعي ما فيها من الكلأ، ليختص بها دونهم، لمصلحة المسلمين، لا لنفسه. وعرف المالكية الحمى الشرعي بقولهم: أن يحمي الإمام مكاناً خاصاً لحاجة غيره (1) .
ثانياً ـ مشروعيته: لا يجوز لأحد أن يحمي مواتاً ليمنع إحياء الموات، ورعي ما فيه من الكلأ، لما روى الصعب بن جَثَّامة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» (2) .
ويجوز باتفاق المذاهب في الصحيح عند الشافعية للإمام أن يحمي لخيل المجاهدين ونَعَم (3) الجزية، وإبل الصدقة، والماشية الضعيفة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع (4) للخيل ـ خيل المسلمين (5) . ويؤيده ما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه، وجعل ينفخ، ويفتِل شاربه، وكان إذا كرِه أمراً، فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي مابه، جعل يردد ذلك، فقال عمر: «المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله (أي لخيل الجهاد) ماحميت من الأرض شبراً في شبر» (6) .
__________
(1) نيل الأوطار: 308/5، المغني: 528/5 ومابعدها، الدردير في الشرح الكبير: 68/4 ومابعدها، وفي الصغير: 92/4، المهذب: 427/1، كشاف القناع: 223/4 ومابعدها.
(2) رواه أحمد والبخاري وأبو داود (نيل الأوطار: 308/5) .
(3) النَّعَم: الإبل والبقر والغنم.
(4) النقيع: موضع معروف، على بعد عشرين فرسخاً من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال. وأصل النقيع: كل موضع ينتقع فيه الماء، فيكثر فيه الخصب، بسبب وجود الماء. والفرسخ 5544 م، والميل 1848 م.
(5) رواه أحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 308/5) ورواه البخاري وأبو داود عن الصعب بن جثامة (جامع الأصول: 331/3) .
(6) رواه أبو عبيد بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير. ورواه البخاري والموطأ عن أسلم مولى عمر (جامع الأصول: 328/3 وما بعدها) .(6/427)
قال مالك: بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين من الظهر، وقال مرة: من الخيل.
وقال البخاري: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى شرَف والرّبذة (1) .
وعن أسلم مولى عمر: أن عمر استعمل مولى له، يدعى «هُنيّاً» على الحمى، وقال له: يا هُنَي، اضمم جَنَاحك على المسلمين (2) ، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصُّرَيمة (3) ، ورب الغُنَيمة، وإياك ونَعمَ ابن عوف، ونعم ابن عفان (4) ، فإنهما إن تهلك ماشيتهما، يرجعان إلى نخل وزرع.
ورب الصريمة ورب الغنيمة، إن تهلك ماشيتهما، يأتيني ببينة يقول: يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا، لا أبالك (5) ، فالماء والكلأ أيسر عليَّ من الذهب والورِق.
وأيم الله، إنهم ليَروْن أني قد ظلمتهم، إنها لبلادُهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام.
والذي نفسي بيده، لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت عليهم من بلادهم شيئاً (6) .
__________
(1) رواه البخاري عن الصعب بن جثامة (نيل الأوطار، المكان السابق) والشرف: موضع بقرب مكة، والربذة: موضع معروف بين مكة والمدينة.
(2) في كتب الفقه: اضمم جناحك عن الناس، أي أمسك يدك ولا تمدها إلى ضرر مسلم، أي تواضع لهما، أو اتق الله فيهم.
(3) الصريمة: تصغير صرمة: وهي القطعة من الإبل نحو الثلاثين، فهي ما بين العشرين إلى الثلاثين من الإبل، أو من العشر إلى الأربعين منها، والغنيمة: ما بين الأربعين والمئة من الشاء.
(4) أي لا تدخلها الحمى، فإنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما.
(5) ظاهره الذم، والقصد: التحريض على الشيء.
(6) رواه البخاري (نيل الأوطار، المكان السابق) .(6/428)
قال ابن قدامة (1) : وهذا إجماع من الصحابة، ولأن ماكان لمصالح المسلمين، قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال.
«ما أطعم الله لنبي طُعْمة، إلا جعلها طعمة لمن بعده» رواه أحمد.
وأجاز المالكية (2) الحمى الشرعي بشروط أربعة، هي:
1 - حاجة المسلمين إليه: فلا يحمي الإمام أو نائبه لنفسه، ولا لغيره عند عدم الحاجة.
2 - أن يكون المحمي قليلاً، لا كثيراً. والقليل: ما لا يضيق فيه على الناس والكثير: ما ضيق فيه على الناس.
3 - أن يكون المحمي في مكان عفا، أي خالياً من البناء والغرس.
4 - أن يكون الغرض من الحمى تحقيق مصلحة عامة الناس، مثل الجهاد ونحوه، أي لترعى فيه دواب الحرب أو الصدقة أو ضعفة المسلمين.
ونائب الإمام مثل الإمام، وإن لم يأذن له الإمام، بخلاف الإقطاع، فليس لنائب السلطان إقطاع إلا بإذن؛ لأن الإقطاع يحصل به التمليك، فلا بد فيه من الإذن، بخلاف الحمى.
ثالثاً ـ حكم ما حماه النبي صلّى الله عليه وسلم أو إمام غيره (3) :
ليس لأحد نقضه، ولا تغييره، مع بقاء الحاجة إليه، لأنه كالمنصوص عليه، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه.
وإن زالت الحاجة إليه، ففيه عند الشافعية والحنابلة وجهان:
أحدهما ـ يجوز لأنه زال السبب.
والثاني ـ لا يجوز، لأن ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد.
وإن حمى إمام آخر بعد النبي، فغيّره هو، أو غيره من الأئمة: جاز.
وإن أحياه إنسان بعد الإمام ففيه قولان عند الشافعية والحنابلة:
أحدهما ـ لا يملكه، كما لا يملك ما حماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأن اجتهاد الإمام لايجوز نقضه.
والثاني ـ يملك؛ لأن حمى الإمام اجتهاد، وملك الأرض بالإحياء نص، والنص يقدم على الاجتهاد.
__________
(1) المغني: 530/5.
(2) الشرح الكبير: 69/4، الشرح الصغير: 92/4.
(3) راجع المهذب: 427/1، المغني: 530/5، كشاف القناع: 224/4.(6/429)
المبحث الثاني ـ الإقطاع:
تعريفه، مشروعيته، أنواعه وحكم كل نوع.
أولاً ـ تعريف الإقطاع: هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص ـ سواء أكان ذلك معدناً، أم أرضاً، فيصير ذلك البعض أولى به من غيره، بشرط أن يكون من الموات الذي لا يختص به أحد.
أو هو تسويغ الإمام من مال الله شيئاً لمن يراه أهلاً له. وأكثر ما يستعمل في الأرض: وهو أن يخرج منها لمن يراه ما يحوزه، إما بأن يملكه، فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة (1) .
__________
(1) نيل الأوطار: 311/5.(6/430)
ثانياً ـ مشروعيته: يجوز للإمام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالإحياء، لما روى وائل بن حُجر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت، وبعث معاوية ليقطعها إياه» (1) ، وروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع الزبير حُضْر فرسه (2) ، وأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أقطعوه، حيث بلغ السوط» (3) . وروى عمرو بن شعيب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقطع ناساً من جهينة أو مزينة أرضاً (4) .
وروي أن أبا بكر أقطع الزبير: وأقطع عمر علياً، وأقطع عثمان رضي الله عنهم خمسة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الزبير، وسعد، وابن مسعود، وخباباً، وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم. ويروى عن نافع أبي عبد الله: أنه قال لعمر: إن قَبلنا أرضاً بالبصرة، ليست من أرض الخراج، ولا تضر بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعنيها، أتخذ فيها قصيلا (5) لخيلي فافعل. قال: فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كانت كما يقول، فاقطعها إياه (6) . ويجوز أيضاً إقطاع المعادن للاستغلال، لا ملك الرقبة (عين الشيء) ، لما روى ابن عباس قال: «أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني معادن القَبَليّة (7) ، جَلْسيها وغَوْريّها وحيث يصلح الزرع من قُدْس (8) ، ولم يعطه حق مسلم (9) » .
__________
(1) رواه الترمذي وصححه (نيل الأوطار: 312/5) .
(2) حضر فرسه: مقدار عدوه.
(3) رواه أحمد وأبو داود لكن في إسناده رجل فيه مقال، وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (نيل الأوطار: 312/5) .
(4) رواه سعيد بن منصور في سننه.
(5) القصيل: الشعير يجز أخضر لعلف الدواب.
(6) روى هذه الآثار كلها أبو عبيد في الأموال.
(7) القبلية: ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام.
(8) الجلس: كل مرتفع من الأرض، ويطلق على أرض نجد. وغوريها: نسبة إلى غور، قال في القاموس: إن الغور يطلق على ما بين ذات عرق إلى البحر، وكل ما انحدر مغرباً عن تهامة، وموضع منخفض بين القدس وحوران مسيرة ثلاثة أيام في عرض فرسخين، وموضع في ديار بني سليم، وماء لبني العدوية. اهـ. والمراد هنا المواضع المرتفعة والمنخفضة من معادن القبلية. وقدس: هو جبل عظيم بنجد، كما في القاموس، وقيل: الموضع المرتفع الذي يصلح للزرع.
(9) رواه أحمد وأبو داود، وروياه أيضاً من حديث عمرو بن عوف المزني (نيل الأوطار: 309/5) .(6/431)
ثالثاً ـ أنواع الإقطاع:
الإقطاع ثلاثة أقسام: إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال، وإقطاع إرفاق. وإقطاع التمليك ينقسم إلى موات، وعامر، ومعادن. وإقطاع الاستغلال نوعان: عشر، وخراج.
1 - حكم إقطاع الموات: أما إقطاع الموات: فيجوز باتفاق المذاهب للإمام إقطاع موات لمن يحييه، فيؤدي إلى عمارة البلاد، لأنه صلّى الله عليه وسلم ـ كما تقدم ـ أقطع بلال ابن الحارث العقيق، وأقطع وائل بن حجر أرضاً، وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان جمعاً من الصحابة.
فإن أقطع الإمام أرضاً لشخص، ملكها عند المالكية (1) وإن لم يعمرها بشيء، فله بيعها وهبتها، وتورث عنه. وليس هو من الإحياء، بل هو تمليك مجرد.
ولا يملك الموات بالإقطاع عند الجمهور (2) (غير المالكية) ، لأنه لو ملكه ما جاز استرجاعه، بل يصير المقطع كالمتحجر الشارع في الإحياء، فيكون أحق به إذا أحياه في خلال مدة، أقصاها عند الحنفية ثلاث سنين، لقول عمر: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» .
ولا ينبغي للإمام أن يقطع من الموات إلا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثر من هذا القدر تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم، مما لا فائدة فيه، فيدخل به الضرر على المسلمين.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 183، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 212، كشاف القناع: 216/4، الشرح الصغير: 90/4.
(2) البدائع: 194/6، المهذب:426/1، المغني: 526/5-527، كشاف القناع: 216/4 ومابعدها.(6/432)
فإن أقطع الإمام أحداً أكثر من القدر الذي يمكن إحياؤه، ثم تبين عجزه عن عمارته أو إحيائه استرجعه الإمام منه، كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ماعجز عن عمارته، من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا هو المراد بالمصلحة التي يجوز الإقطاع لأجلها؛ لأن الحكم يدور مع علته.
وللإمام عند الحنابلة إقطاع غير موات تمليكاً، وانتفاعاً للمصلحة (1) . ويجوز الإقطاع من مال الخراج، كما يجوز من مال الجزية (2) .
وقال المالكية (3) : لا يقطع الإمام معمور أرض العنوة كأرض مصر والشام والعراق، أي الصالحة لزرع الحب ملكاً؛ لأنها وقف عندهم، بل يقطعها إمتاعاً وانتفاعاً. وأما ما لا يصلح لزرع الحب، وإن صلح لغرس الشجر، وليس من العقار، فإنه من الموات، يقطعه ملكاً وانتفاعاً.
وأما أرض الصلح فلا يقطعها الإمام لأحد مطلقاً؛ لأنها مملوكة لأربابها.
2 - حكم إقطاع العامر وهو إقطاع الإرفاق: قال الشافعية والحنابلة (4) : يجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب للمساجد ونحوها، ومقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، إقطاع انتفاع، ولا يملكه المقطع وإنما ينتفع به ما لم يضيق على
__________
(1) كشاف القناع: 217/4.
(2) المرجع السابق.
(3) الشرح الصغير: 91/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 68/4.
(4) المهذب: 427/1، المغني: 526/5، كشاف القناع: 217/4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص184، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 213.(6/433)
الناس أو يضر بالمارة، فمن أقطع شيئاً مما ذكر صار أحق بالجلوس في الموضع؛ لأن للإمام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالإقطاع، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه، بمنزلة السابق إليه من غير إقطاع، إلا في فارق واحد: وهو أن السابق لشيء إذا انتقل عنه بنقل متاعه منه، زال استحقاقه، لزوال المعنى الذي استحق به. وفي الإقطاع لا يزول استحقاقه سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل، جلس فيه أو تركه؛ لأنه استحق بإقطاع الإمام، فلا يزول حقه بترك الجلوس فيه.
وللجالس في الرحاب أو الطرق أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من حصير وكساء للحاجة إليه، وليس له بناء شيء في الطريق، ولا في رحبة المسجد، لما فيه من التضييق.
وليس للجالس بطريق واسع الجلوس بحيث يمنع جاره رؤية المتعاملين معه، أو يضيق على جاره في كيل أو وزن أو أخذ أو عطاء، لحديث «لا ضرر ولا ضرار» .
3 - حكم إقطاع المعادن وملكيتها:
تعريف المعادن، والفرق بينها وبين الرّكاز أو الكنز، وأنواعها، وحكم ملكيتها وإقطاعها في المذاهب.
المستخرج من الأرض بالبحث والتنقيب: إما معدن، أو ركاز أو كنز.
تعريف المعادن: المعادن أو الفلزات: هي ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخلقة، كالذهب والفضة، والنحاس والحديد والرصاص.
والرّكاز أو الكنز: هو المال المدفون في الأرض بفعل صاحبه، أو بأثر حادث إلهي، كزلزال أو رياح عاتية، أدى إلى طمر بلد مع ما فيها من ثروات. والفرق بين المعدن والركاز: أن المعدن(6/434)
جزء من الأرض، وأن الركاز ليس جزءاً من الأرض، وإنما هو دفين مودع فيها، بفعل الإنسان (1) .
أنواع المعادن: المعادن عند الحنفية أنواع (2) :
1) ـ ما يقبل الطرق والسحب، فيعمل منه الصفائح والحلي والأسلاك، أو ما يذوب بالإذابة وينطبع بالحلية ـ بتعبير الفقهاء، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ونحوها.
2) ـ مالا يقبل الطرق والسحب أو ما لا يذوب بالإذابة، كالماس والياقوت والبلور والعقيق والفيروز والكحل والزرنيخ، ونحوها.
3) ـ المعادن السائلة أو المائعة، كالنفط والقار ونحوها من الزيوت المعدنية.
وقسم الشافعية والحنابلة (3) المعادن قسمين: ظاهرة وباطنة.
أـ فالظاهرة: هي البارزة غير المختلطة بالأرض، التي لا تحتاج إلى مشقة في استخراجها أو الوصول إليها، كالنفط والقار (الزفت) والملح والكحل والكبريت.
ب ـ والباطنة: هي التي تحتاج إلى جهد وعمل لاستخراجها، كالذهب والحديد والنحاس والرصاص.
حكم المعادن عند الحنفية (4) :
لا تكون أرض المعادن، كأرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغني
__________
(1) تبيين الحقائق: 287/1 ومابعدها، مختصر المعاملات الشرعية للأستاذ الشيخ علي الخفيف: ص 29، الأموال ونظرية العقد، للدكتور محمد يوسف موسى: ص 194.
(2) البدائع: 67/2، 68.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 189 وما بعدها، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 219 وما بعدها.
(4) البدائع: 65/2-68،تبيين الحقائق: 288/1 ومابعدها، الدر المختار: 59/2 ومابعدها.(6/435)
عنها المسلمون أو الأمة، أرض موات. فلا يجوز للإمام أن يقطعها لأحد؛ لأنها حق لعامة المسلمين، وفي الإقطاع إبطال حقهم، وهو لا يجوز (1) .
وحكم ملكيتها وزكاتها فيما يأتي: لا يقول الحنفية بالتفرقة في مقدار الزكاة بين المعدن والكنز، والركاز يشمل الاثنين وكلاهما من البّر، وهناك معادن البحر.
أولاً ـ المعدن: أـ إن كان في أرض غير مملوكةفي دار الإسلام، وكان مما يقبل الطرق والسحب، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، قليلاً أو كثيراً: يكون فيه الخمس لبيت المال كالواجب في الغنيمة، والباقي وهو الأربعة الأخماس لمن عثر عليه، كائناً من كان إلا الحربي المستأمن، فإنه يسترد منه الكل.
ودليلهم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «وفي الركاز الخمس» (2) والركاز: اسم للمعدن حقيقة، ويطلق على الكنز مجازاً؛ لأن العرب تقول: أركز الرجل: إذا أصاب ركازاً، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن (3) . وروى أبو يوسف عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت» (4) فدل النص عندهم على أن الركاز يطلق على المعدن، فالمعدن ركاز، وعلى المال المدفون.
ب ـ وإن كان المعدن مما لا يقبل الطرق والسحب، كالماس والياقوت وسائر الأحجار الكريمة، فلا خمس فيه، ويكون كله للواجد؛ لأنه من جنس الأرض، كالتراب والأحجار العادية، إلا أنها مضيئة، ولا خمس في الحجر.
جـ ـ وإن كان المعدن مائعاً كالنفط والقير: فلا شيء فيه لبيت المال، وكله لمن وجده؛ لأنه كالماء، ولا يقصد بالاستيلاء، فلا يعتبر كالغنائم، التي يجب فيها الخمس.
أما الزئبق: ففيه الخمس؛ لأنه ينطبع مع غيره، وإن كان مما لا ينطبع بنفسه، فأشبه الفضة.
__________
(1) البدائع: 164/6، الدر المختار: 308/5.
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 147/4، نصب الراية: 380/3) .
(3) خالفهم الجمهور في الحكم، فقالوا: لا يقال للمعدن ركاز، لحديث: «والمعدن جبار - أي هدر - وفي الركاز الخمس» فقد فرق بينهما بالعطف، فدل ذلك على المغايرة.
(4) نصب الراية: 380/2.(6/436)
د ـ وإن وجد المعدن في أرض مملوكة لبعض الناس، أو دار أو منزل أو حانوت، فلا خوف عند الحنفية في أن الأربعة الأخماس لصاحب الملك، وإن وجده غيره في أرضه؛ لأن المعدن من توابع الأرض، لأنه من أجزائها التي خلق فيها.
وأما الخمس فهو لبيت المال إذا كان الموجود مما يقبل الطرق والسحب عند الصاحبين، للحديث المتقدم: «وفي الركاز الخمس» من غير تفصيل بين الأرض المملوكة وغيرها.
وعند أبي حنيفة: لا خمس فيه، على من وجده في أرضه أو داره.
ثانياً ـ الكنز:
أـ إن كان إسلامياً، بأن وجد عليه علامة الإسلام، كالمصحف والدراهم المكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، ووجد في أرض غير مملوكة، كالجبال والمغاور ونحوها، كان بمنزلة اللقطة، فيجب على واجده التعريف به، ثم الانتفاع به إن كان فقيراً، والتصدق به إن كان غنياً.
ب ـ وإن كان غير إسلامي، بأن وجد عليه علامة الجاهلية أو الرومان أو الفرس، كان لبيت المال الخمس، والباقي وهو الأربعة الأخماس للواجد، بلا خلاف عندهم. جـ ـ وإن كان الكنز في أرض مملوكة: وجب فيه الخمس بلا خلاف، للحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» . والباقي للمالك ثم لورثته عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأنه غنيمة وصل إليها قبل غيره.
د ـ وإن وجد الكنز في دار الحرب: فإن وجد في أرض غير مملوكة لأحد، فهو للواجد، ولا خمس فيه، لأنه مال أخذه، لا بطريق القهر والغلبة. وإن وجد في أرض مملوكة، ففيه الخمس لبيت المال، والباقي للمالك عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: للواجد؛ لأنه مباح سبقت يده إليه، أي كما هو المقرر في دار الإسلام.(6/437)
ثالثاً ـ المستخرج من البحر: كاللؤلؤ والمرجان والعنبر، وكل حلية تستخرج من البحر، لا شيء فيه لبيت المال عند أبي حنيفة ومحمد، وجميعه للواجد، بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن العنبر، فقال: هو شيء دسره البحر، لا خمس فيه، ولأن يد الكفرة لم تثبت على باطن البحار التي يستخرج منها اللؤلؤ والعنبر، فلم يكن الخارج منها مأخوذاً بطريق القهر لهم، فلا يكون غنيمة، فلا خمس فيه. والعنبر: هو الطيب المعروف.
وعند أبي يوسف: في كل ما خرج من البحر من الحلي والجواهر: الخمس لبيت المال، والباقي لواجده أو مستخرجه، بدليل أن عمر رضي الله عنه كتب لعامل له وجد لؤلؤة بأن فيها الخمس، وبأن الكفار كانوا يملكون الأرض كلها براً وبحراً، فيكون كل ما يصير من أموالهم إلينا غنيمة، وفي الغنائم الخمس بنص القرآن (1) . وهذا الرأي هو الأولى بالاتباع في الظروف الدولية الحاضرة.
وذكر أبو عبيد أقوالاً مختلفة، منها كما قال أبو حنيفة ومحمد، ومنها قول لعمر وعمر بن عبد العزيز: أن معادن البحر كمعادن البر، فيها الزكاة إذا بلغت نصاباً (2) .
المعادن عند المالكية (3) :
المعدن غير الركاز، والركاز هو الكنز، والمعدن: هو ما يخرج من الأرض من ذهب أو فضة بعمل وتصفية. ومذهب المالكية يتفق مع النظرة الحديثة للدول في ملكية المعادن.
أولاً ـ المعدن: ملكيته، والواجب فيه:
أما ملكيته فأنواع ثلاثة:
1) - إن كان في أرض غير مملوكة لأحد: فهو للإمام أي السلطان أو نائبه، يقطعه لمن شاء من المسلمين، انتفاعاً، لا تمليكاً، أو يجعله في بيت المال للمصلحة أو المنفعة العامة، ولا يختص بشيء منه من وجد في أرضه.
2) ـ أن يكون في أرض مملوكة لمالك معين: هو للإمام في مشهور المذهب، وقيل: لصاحب الأرض.
3) - أن يكون في أرض مملوكة لغير معين، كأرض العنوة والصلح: المعتمد أنه للإمام، وقيل: لمن افتتحها.
__________
(1) البدائع: 68/2.
(2) الأموال: ص 345-347.
(3) القوانين الفقهية: ص 102، الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه: 650/1-654.(6/438)
والخلاصة: أن المعادن الجامدة والسائلة للدولة عند المالكية في مشهور
المذهب؛ لأن المعادن قد يجدها شرار الناس، فلو لم يكن حكمها للإمام، لأدى الأمر إلى الفتن والهرج.
وأما الواجب في المعدن فهو الزكاة: وهي ربع العشر (1) إن كان نصاباً. فإن كان دون النصاب، فلا شيء فيه. ولا حول في زكاة المعدن، بل يزكى لوقته، كالزرع.
ثانياً ـ الركاز: وهو الكنز، يختلف حكمه باختلاف الأرض التي وجد فيها. وهي أربعة أنواع:
الأول ـ أن يوجد في الفيافي، ويكون من دفن (مدفون) الجاهلية، فهو لواجده، وفيه الخمس لبيت المال مطلقاً، ذهباً كان أو غيره، قل أو كثر.
الثاني ـ أن يوجد في أرض مملوكة: قيل: يكون لواجده، وقيل: يكون لمالك الأرض.
الثالث ـ أن يوجد في أرض فتحت عنوة: قيل: لواجده، وقيل للذين افتتحوا الأرض.
الرابع ـ أن يوجد في أرض فتحت صلحاً: قيل: لواجده، وقيل: لأهل الصلح.
وهذا كله ما لم يكن بطابع المسلمين. فإن كان بطابع المسلمين فحكمه حكم اللقطة، يعرّف سنة إذا لم يعلم صاحبه أو وارثه، فإن لم يعرف فمحله هو بيت مال المسلمين.
والخلاصة: أن في الركاز الخمس لبيت المال، وباقيه لواجده إن لم تكن الأرض مملوكة. فإن كانت مملوكة، فللمالك الأرض الأصلي الذي ملكها بإحياء ثم لوارثه، لا لمالكها الحالي مطلقاً سواء ملكها بشراء أو هبة.
هذا إن علم المالك الأصلي (البائع الأصلي أو الواهب) ، وإلا فلقطة.
__________
(1) هذا هو مقدار ز كاة الذهب والفضة، كما ثبت في السنة (نيل الأوطار: 137/4) .(6/439)
المعادن عند الشافعية والحنابلة (1) :
1) - المعدن غير الركاز عندهم. فالمعدن: هو ما تولد من الأرض، وكان من غير جنسها فهو جزء من الأرض. والركاز: هو دفين الجاهلية أو من تقدم من الكفار. ويفرقون بين نوعين فيها وهي المعادن الظاهرة: وهي ما برزت بلا عمل، ويتوصل إليها بلا مؤنة أي لا تحتاج لعزل عن غيرها، وإنما العمل والجهد في تحصيلها، كالنفط والقار والملح والكبريت.
والمعادن الباطنة: وهي التي تحتاج لاستخراجها إلى عمل ومؤنة كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، أي تحتاج لفصلها عن غيرها لاختلاطها بالتراب.
2) - والمعادن الظاهرة: لا يجوز إقطاعها لأحد من الناس سواء إقطاع تمليك أو إقطاع إرفاق، بل هي للجميع، ينتفعون بها، ولا تملك بإحياء أرض موات، وجدت فيها، عند الشافعية، وفي الأظهر عند الحنابلة؛ لأن هذه الأمور مشتركة بين الناس، مسلمهم وكافرهم كالماء والكلأ، كما في الحديث «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» ولأنها ليست من أجزاء الأرض، فلم يملكها من أحيا الأرض بملك الأرض، كالكنز؛ ولأنه صلّى الله عليه وسلم أقطع رجلاً ملح
__________
(1) مغني المحتاج: 394/1-396، المهذب: 157/1 ومابعدها، 425، نهاية المحتاج: 253/4، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 189 وما بعدها. المغني: 17/3-27، 520/5-524، 544، كشاف القناع: 259/2-265، 208/4 وما بعدها، 216 ومابعدها، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص 219 وما بعدها.(6/440)
مأرب، فقال رجل: يا رسول الله، إنه كالماء العدّ (أي الذي لا ينقطع) قال: فلا، إذن (1) .
والمعادن الباطنة: لا يملكها بمجرد الحفر والعمل من كشفها وأحياها في الأظهر عند الشافعية، وظاهر المذهب عند الحنابلة، كالمعدن الظاهر؛ لأن إحياء الأرض الذي يملك به هو العمارة التي يتهيأ بها المحيا للانتفاع من غير تكرار عمل. وهذا أي حفر المعدن: حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فمجرد الاكتشاف لا يكون سبباً لملك المعادن.
3) - ومن أحيا أرضاً مواتاً، فملكها بذلك، فظهر فيها معدن باطن كالذهب أو الفضة، ملكه عند الشافعية؛ لأنه بالإحياء ملك الأرض بجميع أجزائها، ومن أجزائها المعدن، بخلاف الركاز أو الكنز، فإنه مودع فيها للنقل عنها. أما المعدن الظاهر، فلا يملك كما عرفنا بالإحياء عند الشافعية؛ لأنه حق للجميع (2) .
وقال الحنابلة (3) : من أحيا أرضاً مواتاً، فملكها، فيملك المعادن الجامدة؛ لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا المعدن منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية. وأما المعادن الجارية كالنفط والقار والماء، فأظهر الروايتين عندهم أن محيي الأرض لا يملكها؛ لأن الناس شركاء فيها، لحديث «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» (4) .
4) - ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن، فهوأحق بما ينال منه دون أن يملكه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له» رواه أبو داود.
والخلاصة: أن المعادن الظاهرة للدولة في ظاهر المذهب عند الشافعية والحنابلة. وأما المعادن الباطنة فلا يملكها مكتشفها، وتكون للدولة أيضاً. فإن ظهرت المعادن في أرض أحياها شخص، فيملك المحيي المعدن الباطن عند الشافعية. ويملك عند الحنابلة فقط المعدن الجامد دون السائل.
5) - أما الواجب في المعدن: فهو ربع العشر، إن كان ذهباً أو فضة فقط عند الشافعية، وكذلك إن كان من غيرهما وبلغت قيمته نصاباً عند الحنابلة.
6) - وأما الكنز: وهو دفين الجاهلية، فيجب فيه الخمس في بيت المال، والباقي إن وجد بأرض مملوكة، فهو عند الشافعية والحنابلة لمالك الأرض بيمينه إن ادعاه، وإلا فهو لمن ملك منه أي لمن سبقه من المالكين. أما إن وجد في موات أو ملك أحياه، فهو لواجده.
وإن كان الكنز إسلامياً، وعلم مالكه، فهو له، وإلا فهو لقطة. وكذلك إن جهل كونه إسلامياً أم جاهلياً، هو لمالكه إن عرف، وإلا فهو لقطة. وهذا باتفاق الشافعية والحنابلة.
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود وباقي أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان عن أبيض بن حمال (نيل الأوطار: 310/5) .
(2) مغني المحتاج:372/2 -373.
(3) المغني: 522/5.
(4) والرواية الثانية: يملكها لأنها خارجة من أرضه المملوكة له، فأشبهت الزرع والمعادن الجامدة. وقد مشى القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية (ص 220) على هذه الرواية.(6/441)
الفَصْلُ الرّابع: حقوق الارتفاق
الكلام فيها في مبحثين:
المبحث الأول ـ تعريف حق الارتفاق، والفرق بينه وبين حق الانتفاع، ووصفه الفقهي، وأحكامه العامة.
المبحث الثاني ـ أنواع حقوق الارتفاق.
المبحث الأول ـ تعريف حق الارتفاق، والفرق بينه وبين حق الانتفاع، ووصفه الفقهي أحكامه العامة:
أولاً ـ تعريف حق الارتفاق: الارتفاق في اللغة: الانتفاع بالشيء. وشرعاً هو أحد أنواع الملك الناقص (1) . وهو حق عيني (2) قصر على عقار، لمنفعة عقار
__________
(1) الملك كما هو معروف نوعان: ملك تام: وهو ملك الرقبة (ذات الشيء) والمنفعة. وملك ناقص: وهو ملك المنفعة. وملك المنفعة: قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه، لا العين المملوكة، وقد يكون حقاً عينياً، أي تابعاً للعين المملوكة دائماً، فينتقل من شخص إلى آخر.
(2) الحق في اصطلاح القانونيين نوعان: حق عيني وحق شخصي. فالأول: هو علاقة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته، مثل حق الملكية وحق الارتفاق. وحق شخصي: هو علاقة شرعية بين شخصين، أحدهما يكون مكلفاً بعمل، والآخر بالامتناع عن عمل، كعلاقة الدائن والمدين، يكلف المدين بأداء الدين، وهذا عمل، وعلاقة المودع بالوديع، فللأول حق على الوديع في ألا يستعمل الوديعة، وهذا امتناع عن عمل.(6/442)
آخر مملوك لغير الأول، أيا كان شخص المالك، كإجراء الماء من أرض الجار، أو تصريف الماء الملوث في مصرف معين، أو المرور في أرض الغير، أو البناء فوق دار غيره (حق التعلي) ، سواء أكانت الأرض المرتفق بها مملوكة ملكاً عاماً أم خاصاً، وبقطع النظر عن شخصيةمالك العقار المرتفق، والمرتفق به، ولذا وصف حق الارتفاق بأنه «حق عيني» فلو كان العقاران لمالك واحد، لم يثبت حق الارتفاق.
ثانياً ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع:
كل من هذين الحقين من أنواع الحقوق العينية لا الشخصية، لكن يظل بينهما فروق (1) .
1 - إن حق الارتفاق مقرر لعقار. وأما حق الانتفاع فهو مقرر لشخص. فحق المرور من أرض إلى أخرى حق مقرر للأرض الثانية، فينتفع به كل مالك لها، ولا يقتصر الانتفاع به على شخص معين.
أما حق الانتفاع به فإنه خاص بشخص المنتفع، فإذا مات انتهى حقه، سواء أكان ناشئاً بين الأحياء كالإجارة والإعارة، أم بين ميت وحي كالوصية والوقف.
2 - يكون حق الارتفاق مقرراً دائماً على عقار، ولذا تقل به قيمته عن الأرض الخالية من مثل هذا الحق. أما حق الانتفاع فقد يتعلق بالعقار، كأرض أعيرت، وقد يتعلق بالمنقول مثل كتاب أعير.
3 - حق الارتفاق دائم لا ينتهي بوقت، فيورث باتفاق المذاهب. أما حق الانتفاع فهو مؤقت ينتهي بموت شخص المنتفع كالموصى له بمنفعة أرض.
__________
(1) راجع مختصر أحكام المعاملات الشرعية لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 15-16.(6/443)
ثالثاً ـ وصفه الفقهي:
حق الارتفاق عند الحنفية ليس مالاً، وإنما هو حق مالي يسوغ لمالكه الانتفاع به. ويترتب على كونه ليس مالاً عند الحنفية (1) : أنه لا يجوز بيعه مستقلاً عن الأرض، وإنما يباع تبعاً لها، ولا يجوز هبته أو التصدق به؛ لأنه تمليك، والحقوق المجردة لا تحتمل التمليك. ولا يجوز أيضاً الصلح عليه في دعوى تتعلق بالمال أو الحق في القصاص في النفس وما دونها؛ لأن الصلح في معنى البيع أي المبادلة المالية، والبيع لا يجوز.
ولا يصح جعله مهراً في عقد الزواج؛ لأنه يترتب عليه التمليك، وحق الارتفاق لا يقبل التمليك، وإنما يجب في هذه الحالة مهر المثل.
كما لا يصح جعله بدل الخلع، بأن اختلعت المرأة نفسها عليه؛ لأن بذل العوض تمليك، والارتفاق لا يحتمل التمليك. ويجب على المرأة حينئذ رد المأخوذ من المهر.
ويترتب على كونه حقاً مالياً (2) :
أنه يمكن أن يورث؛ لأن الإرث عند الحنفية يجري في الأموال وفي بعض الحقوق كخيار العيب.
ويصح أن يوصى بالانتفاع به، كالإيصاء لرجل بأن يسقي أرضه مدة معلومة من حق الشرب لفلان. والإيصاء كالإرث يصح في الأموال والحقوق، لكن إذا مات الموصى له تبطل الوصية.
ويصح بيع الأرض دون حق الارتفاق، ولا يدخل حق الارتفاق كحق الشِرْب مثلاً في بيع الأرض إلا بالنص عليه صراحة، أو بذكر ما يدل عليه، كأن يقول البائع: بعت الأرض بحقوقها أو بمرافقها، أو كل قليل وكثير حولها.
__________
(1) البدائع: 189/6-190، تبيين الحقائق: 43/6.
(2) المرجعان السابقان، الدر المختار: 316/5.(6/444)
رابعاً ـ أحكام حق الارتفاق العامة:
لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة، أما الخاصة فتذكر مع أنواع الارتفاقات وأما الأحكام العامة فمنها ما يأتي:
1 - يجب ألا يؤدي استعمالها إلى الإضرار بالغير عملاً بقاعدة: «لا ضرر ولا ضرار» ، فلا يجوز للمار بأرض غيره إلحاق الأذى بغيره. وليس لمن يسقي أرضه بحق الشرب مثلاً أن يسرف في الماء بحيث يضر بمن تحته من المنتفعين بمجرى الماء.
2 - إما أن تثبت حقوق الارتفاق على أملاك عامة أو خاصة. أما الأملاك العامة: فمثل الأنهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، أو الطرق والمرافق العامة كالقناطر والجسور التي لا تختص بأحد. وحق الارتفاق المقرر عليها ثابت للناس جميعاً، بلا إذن من أحد عند غير أبي حنيفة (1) .
وأما الأملاك الخاصة بفرد أو أفراد فلا يثبت حق الارتفاق عليها إلا بإذن المالك.
3 - وإذا لم يعرف سبب حق الارتفاق، يترك لصاحبه حق الانتفاع به، ويفترض كونه قديماً حادثاً بسبب مشروع عملاً بقاعدة «القديم يترك على قدمه» بشرط ألا يكون ضاراً بالغير كالمسيل القذر الذي يلوث ماء بئر الجيران، أو النافذة المنخفضة التي تطل على مقر نساء الجار، فيجب إزالة منشأ الضرر، عملاً بقاعدة أخرى هي قيد في سابقتها وهي: «الضرر لا يكون قديماً» (2) .
المبحث الثاني ـ أنواع حقوق الارتفاق:
حقوق الارتفاق المهمة عند الحنفية تنحصر في ستة: هي حق الشِّرب، والطريق، والمجرى، والمسيل، والتعلي، والجوار، ولا يجوز عند الحنفية إنشاء حقوق ارتفاق أخرى؛ لأن في إنشائها تقييداً للملكية، والأصل فيها ألا تقبل تقييداً، وما قيدت به هو استثناء، لا يتوسع فيه.
ورأي المالكية أنها غير محصورة فيما ذكر، فيجوز إنشاء حقوق ارتفاق أخرى بالإرادة، كأن يلتزم شخص ألا يقيم في ناحية من أرضه بناء أو يغرس شجراً، أو ألا يرتفع إلى ارتفاع معين (3) .
__________
(1) عبارة الشافعية في ذلك: منفعة الشارع المرور، ويجوز الجلوس به لاستراحة ومعاملة ونحوهما إذا لم يضيق على المارة، ولا يشترط إذن الإمام (المنهاج للنووي مع مغني المحتاج: 369/4) .
(2) انظر المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 596 وما بعدها.
(3) الحق والالتزام للأستاذ الشيخ علي الخفيف: ص 64، الأموال ونظرية العقد، يوسف موسى: ص171 وما بعدها.(6/445)
المطلب الأول ـ حق الشرب:
معناه، أنواع المياه، وحكم ملكية كل نوع، الأحكام العامة للانتفاع بالمياه، كري الأنهار.
أولاً ـ معنى حق الشرب: الشرب (بكسر الشين) في اللغة: النصيب من الماء، قال صالح عليه السلام فيما قصه الله في القرآن: {هذه ناقة لها شِرْب ولكم شِرْب يوم معلوم} [الشعراء:155/26] . ويطلق أيضاً على زمن الشرب. ويستعمله الشرعيون في المعنيين. فالشرب في الشرع: النصيب من الماء لسقي الزرع والأشجار. وهذا عند أكثر الفقهاء. وقد يستعمل في نوبة الانتفاع بالماء أو زمن الانتفاع لسقي الشجر أو الزرع.
ويلحق به حق الشفة: وهو حق الشرب (بضم الشين) : وهو ما يخص الإنسان والحيوان من الماء لشربه. ويراد به تحقيق حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب دوابه.
ثانياً ـ أنواع المياه بالنسبة لحق الشرب والشفة: المياه تنقسم باعتبار هذين الحقين إلى أنواع أربعة:
الماء المحرز في أوان خاصة، ماء العيون والآبار ونحوها، ماء الأنهار أو الجداول الخاصة، ماء الأنهار العامة.
النوع الأول ـ الماء المحرز في أوان خاصة: هو ما حازه صاحبه في آنية أو ظروف خاصة كالجرار والصهاريج والحياض والأنابيب، ومنه مياه الشركات في المدن المتخصصة لتأمين ماء الدور. وهذا الماء ملك خاص لمن أحرزه، بالاستيلاء عليه ككل مباح يمتلك بإحرازه. فليس لأحد حق الانتفاع به إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه بيعه أو التصرف به كما يشاء (1) ، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه» (2) . وخصص حديث المنع من بيع فضل الماء (3) بالقياس
__________
(1) البدائع: 188/6 وما بعدها، تبيين الحقائق. 39/6، تكملة الفتح: 144/8 وما بعدها، الدر المختار: 311/5-313، القوانين الفقهية: ص 339، المهذب: 427/1، المغني: 536/5 وما بعدها، كشاف القناع: 222/4، الخراج لأبي يوسف: ص 95، 97.
(2) الأموال لابن سلام: ص 302.
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي عن إياس بن عبد.(6/446)
على جواز بيع الحطب إذا أحرزه الحاطب، لحديث الرجل الذي أمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالاحتطاب ليستغني به عن السؤال (1) .
وبالرغم من كون هذا الماء مملوكاً لصاحبه، فيجوز للمضطر الذي خاف على نفسه الهلاك من العطش: أن يشرب منه أو يأخذ منه حاجته، ولو بالقوة، ليدفع الهلاك عن نفسه إذا كان فاضلاً عن حاجة صاحبه، بأن كان يكفي لحفظ رمقهما، ولم يجد المضطر ماء آخر، ولكن يجب عليه دفع قيمة الماء؛ لأن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» أو أن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. والأولى أن يقاتله بغير سلاح كالعصا؛ لأنه ارتكب معصية، فكان ذلك كالتعزير له.
النوع الثاني ـ ماء العيون والآبار والحياض: وهو الذي يستخرجه الشخص لنفسه: وحكمه عند الحنفية (2) : أنه ليس بمملوك لصاحبه، بل هو مباح في نفسه ولصاحبه حق خاص فيه، سواء أكان في أرض مباحة، أو مملوكة؛ لأن الماء في الأصل مباح لجميع الناس، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (3) .
وعليه، فإنه يثبت فيه حق الشفة، دون حق الشرب، فالأول لا يختص بشخص دون آخر، فهو لمستحقه، ولغيره من الناس، يأخذون منه حاجتهم لشربهم وشرب دوابهم واستعمالهم المنزلي.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(2) المراجع السابقة.
(3) روي من حديث رجل عن أبي داود، ومن حديث ابن عباس بإسناد جيد عن ابن ماجه، ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في معجمه (نصب الراية: 294/4) ورواه أحمد أيضاً. وجاء في حديث آخر «لا يُمنع فضل الماء» وهو أن يسقي الرجل أرضه، ثم تبقى من الماء بقية لا يحتاج إليها، فلا يجوز له أن يبيعها ولا يمنع منها أحد ينتفع بها، هذا إن لم يكن الماء مِلكَه، أو على قول من يرى أن الماء لا يُملك.(6/447)
فإن أبى صاحبه، كان للمحتاج أخذه جبراً، ولو بالقوة، وله أن يقاتله بسلاح؛ لأن الماء في البئر مباح غير مملوك، ولكن يشترط ألا يجد المحتاج ماء آخر قريباً منه.
والدليل لحق المحتاج: أن قوماً سَفْراً وردوا ماء، فطلبوا من أهله السماح لهم بالشرب منه، وبسقي دوابهم التي كادت أن تهلك من العطش، فأبوا، فذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هلا وضعتم فيهم السلاح» (1) .
ويلاحظ أن حكم هذين النوعين متشابه تقريباً إلا أن الأول ملك لصاحبه، والثاني غير مملوك، وللمضطر الذي يخاف الضرر على نفسه أن يأخذ الماء الفائض عن الحاجة، ولو بالقوة، لكن في النوع الأول بغير سلاح، وفي الثاني يجوز استخدام السلاح. ويتجلى في هذا النوع صفة حق الارتفاق بنحو أوضح من غيره.
وقال الشافعية في الأصح عندهم (2) : يملك الشخص ماء البئر المحفورة في الأرض الموات للتملك، أو المحفورة في ملك خاص؛ لأنه نماء ملكه، كالثمرة واللبن والشجر النابت في ملكه.
ولا يلزم المالك عند الشافعية بذل مافضل عن حاجته لزرع وشجر، ويجب بذل الفاضل منه عن شربه وشرب ماشيته، وزرعه، لشرب غيره من الآدميين ولماشية غيره، على الصحيح لحرمة الروح، ولخبر الصحيحين: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ» أي من حيث إن الماشية إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع من الماء فقد منع من الكلأ، والمراد: هو نفع البئر المباحة، أي ليس لأحد أن يَغلِب عليه، ويمنع الناس منه، حتى يحوزه في إناء ويملكه.
__________
(1) الخراج لأبي يوسف: ص 97.
(2) مغني المحتاج: 375/2.(6/448)
النوع الثالث ـ ماء الأنهار الخاصة:
وهو ماء الأنهار أو الجداول الصغيرة الخاصة المملوكة لبعض الناس، وحكمه كالنوع الثاني (1) : يثبت لكل أحد فيه حق الشفة، لا حق الشرب، فلكل إنسان الحق في الانتفاع به لنفسه ودوابه وإن لحق به ضرر يسير؛ لأن «الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف» ولكن ليس له أن يسقي منه زرعه وشجره، إلا بإذن صاحبه، فلصاحبه أن يمنع الغير من سقي الزرع والأشجار (حق الشرب) لأن له في مائه حقاً خاصاً.
ولا يجوز لصاحبه عند الحنفية بيع حق الشرب منفرداً، بأن باع شرب يوم، أو أكثر؛ لأنه عبارة عن حق الشرب والسقي، والحقوق لا تحتمل عندهم الإفراد بالبيع والشراء. فلو باع الأرض مع الشرب، جاز تبعاً للأرض، ويجوز أن يجعل الشيء تبعاً لغيره، وإن كان لا يجوز بيعه مستقلاً عن غيره. ولا يدخل الشرب في بيع الأرض ـ كما ذكرت سابقاً ـ إلا بالتسمية صراحة، أو بذكر ما يدل عليه، بأن يقول: بعتها بحقوقها أو بمرافقها. لكنهم أجازوا بيع الماء المعلوم القدر المحرز أو المملوك، للشرب، لا للشفة (شرب الإنسان والحيوان) .
كذلك أجاز المالكية والشافعية والحنابلة بيع الماء المملوك مستقلاً عن الأرض، ولكن يستحب لصاحبه أن يبذله بغير ثمن. ولا يجبر على بذله، إلا أن يكون قوم اشتد بهم العطش فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم (حق الشفة) فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه على منعه.
__________
(1) البدائع: 189/6، الدر المختار ورد المحتار: 311/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 39/6، الخراج لأبي يوسف: ص 95، تكملة الفتح: 145/8، القوانين الفقهية: ص 339، المهذب: 427/1 وما بعدها، المغني: 79/4، 536/5، كشاف القناع: 221/4، نهاية المحتاج: 257/4، مغني المحتاج: 375/2.(6/449)
وصرح الشافعية بأنه يشترط في بيع الماء تقديره بكيل أو وزن، لا بريّ الماشية أو الزرع (1) .
النوع الرابع ـ ماء الأنهار العامة:
وهو الذي يجري في مجار عامة غير مملوكة لأحد، وإنما هي للجماعة، مثل النيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة.
وحكمه (2) : أنه لا ملك لأحد في هذه الأنهار، لا في الماء ولا في المجرى، بل هو حق للجماعة كلها، فلكل واحد حق الانتفاع بها، بالشفة (سقي نفسه ودوابه) والشرب (سقي زروعه وأشجاره) ، وشق الجداول منها، ونصب الآلات عليها لجر الماء لأرضه، ونحوها من وسائل الانتفاع بالماء، وليس للحاكم منع أحد من الانتفاع بكل الوجوه، إذا لم يضر الفعل بالنهر أو بالغير أو بالجماعة. كما هو الحكم المقرر بالانتفاع في الطرق أو المرافق العامة.
فإذا أضر، فلكل واحد من المسلمين منعه أو الحد من تصرفه لإزالة الضرر؛ لأنه حق لعامة المسلمين، وإباحة التصرف في حقهم مشروطة بانتفاء الضرر، كالانتفاع بالمرافق العامة، إذ لا ضرر ولا ضرار. والدليل على كون هذه الأنهار غير مملوكة لأحد، وإنما الحق فيها مشاع للجميع: هو قوله عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) نهاية المحتاج: 257/4.
(2) البدائع: 192/6، تبيين الحقائق: 39/6، تكملة الفتح: 144/8، الدر المختار: 211/5، القوانين الفقهية: ص 339، المهذب: 428/1، المغني: 531/5، نهاية المحتاج: 205/4، مغني المحتاج: 373/2.(6/450)
«الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» (1) وفي رواية «والملح» وشركة الناس فيها شركة إباحة، لا شركة ملك، لعدم إحرازها، فهم سواء في الانتفاع بها ومنها الماء العام، فيثبت لهم حق الشرب.
ثالثاً ـ الأحكام العامة لحق الشرب أو الانتفاع بالمياه:
للانتفاع بالمياه أحكام عامة أهمها ما يأتي (2) :
1ً ـ المحافظة على حافة البئر أو العين أو النهر (مجرى الماء مطلقاً) : فإن لم يفعل كان لصاحب المجرى منعه من الانتفاع، دفعاً للضرر عنه، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» . ومن الضرر تسرب الماء إلى أرض الجار على وجه غير معتاد، وعليه الضمان إذا كان متعدياً. قال الحنفية: ولا يضمن من ملأ أرضه ماء، فنزت أرض جاره أو غرقت، أي في حال السقي المعتاد الذي تتحمله الأرض عادة، لأنه متسبب غير متعد، فإن كان السقي غير معتاد، ضمن وعليه الفتوى (3) .
2ً ـ يجب على المنتفع إمرار الماء من طريق عام إن وجد، فإن لم يوجد، كان على صاحب الطريق الخاص الإذن بإمرار الماء، أو إخراج حاجته من الماء، لقول
__________
(1) المراد بالماء: ما ليس بمحرز، فإذا أحرز فقد ملك، فخرج من أن يكون مباحاً، كالصيد إذا أحرز، فلا يجوز لأحد أن ينتفع به حينئذ إلا بإذنه. والمراد بالكلأ: الحشيش الذي ينبت بنفسه من غير أن ينبته أحد، ومن غير أن يزرعه ويسقيه، فيملكه من قطعه وأحرزه، وإن كان في أرض غيره. والمراد بالنار: الاستضاءة بضوئها، والاصطلاء بها، والإيقاد من لهبها، وليس لصاحبها أن يمنع من ذلك إن كانت في الصحراء، بخلاف ما لو أراد غيره أن يأخذ الجمر، لأنه ملكه، ويتضرر بذلك، فكان له منعه كسائر أملاكه، إلا إذا لم يكن له قيمة (تبيين الحقائق: 39/6) .
(2) انظر الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي للدكتور محمد يوسف موسى: ص 175 وما بعدها.
(3) تكملة الفتح: 149/8، الدر المختار: 317/5.(6/451)
عمر رضي الله عنه لمحمد بن مَسْلَمة حينما شكاه الضحاك بن خليفة الذي أراد إمرار ماء من أرض ابن مَسْلمة: «والله، ليمرَّن به، ولو على بطنك» (1) .
3ً ـ حق الشرب يورث، وتصح الوصية بالانتفاع به، حتى عند الحنفية، الذين يرون عدم توارث الحقوق والمنافع إلا ما استثني، ويجوز بيعه تبعاً للأرض، لامستقلاً منفرداً عنها عند الحنفية، كما أوضحت سابقاً؛ لأنه مجهول الكمية، وبيع المجهول لا يصح لما فيه من الضرر أو الظلم، ولأن الحقوق عند الحنفية ليست بمال متقوم في ظاهر الرواية، فلا تقبل الإفراد بالبيع أو الهبة أو الإجارة أو التصدق بها (2) .
والأولى الأخذ برأي غير الحنفية القائلين بجواز التصرف في الحقوق والمنافع؛ لأنها أموال متقومة، في عرف الناس.
4ً ـ إذا كان الماء مملوكاً لشخص واحد، كان له حق الانتفاع به كيفما شاء، فإن كان الماء لجماعة مشتركة أو أناس كثيرين، وزع بينهم بالعدل، إما بالمناوبة الزمانية (المهايأة) : بأن يستقل واحد بالماء في زمن معين. وإما بالكوى، أي بفتحات جانبية للماء إلى المزارع والجداول، بما يتناسب ومساحة أرض كل منتفع بهذا الماء. وهذا رأي الشافعية أيضاً (3) . ومقتضى العدل في التوزيع: أنه إذا كان نهر بين قوم، واختصموا في الشرب، كان الشرب بينهم على قدر مساحة أراضيهم، كما بينت؛ لأن المقصود هو الانتفاع بسقي الأراضي، فيقدر حقهم بقدرها، بخلاف الطريق؛ لأن المقصود منه هو المرور، وهو لا يختلف قدره سعة وضيقاً، ولا عبرة لسعة الدار وضيقها؛ لأن المقصود الاستطراق.
__________
(1) تنوير الحوالك شرح الموطأ: 218/2 وما بعدها.
(2) الدر المختار: 316/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 43/6، تكملة الفتح: 150/8، البدائع: 189/6.
(3) المهذب: 428/1، مغني المحتاج: 375/2.(6/452)
كما أن مقتضى العدل أيضاً أن يتم تغيير التوزيع برضا الجميع، فليس لمشترك بلا رضاهم أن يشق جدولاً من النهر، أو ينصب عليه رحى، أو آلة نزح، أو جسراً، أو يوسع فم النهر، أو أن يقسم بالأيام بعد أن كانت القسمة بالفتحات أو أن يسوق نصيبه إلى أرض أخرى ليس لها فيه شرب؛ لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه، ولأنه يمنع الضرر بالآخرين، وفي التوسعة وغيرها إضرار بهم (1) .
5ً ـ يصح رفع دعوى الشِرْب بغير أرض استحساناً عند الحنفية (2) ؛ لأن الشرب مرغوب فيه، منتفع به، ويمكن أن يملك بغير أرض بالإرث، أو الوصية، ولأنه قد تباع الأرض دون الشرب فيبقى الشرب وحده، فإذا استولى عليه غيره، كان له أن يدفع الظلم عن نفسه، بإثبات حقه بالبينة.
6ً ـ ينتفع الناس بماء الأمطار أو السيول أو النهر الصغير الذي يزدحم الناس فيه: بأن يبدأ بالأعلى، فيسقي أرضه، حتى يصل إلى الكعب (النهاية) ، ثم يرسله إلى من يليه، فيسقي ويحبس الماء حتى يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه، فيفعل كذلك، وهلم جرا إلى آخره (3) ، لحديث عبادة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين،
__________
(1) الدر المختار: 315/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 42/6، تكملة الفتح: 148/8 وما بعدها، نهاية المحتاج: 258/4، المهذب: 428/1، المغني: 533/5-536.
(2) الدر المختار: 314/5، تبيين الحقائق: 40/6، تكملة الفتح: 147/8.
(3) المهذب: 428/1،مغني المحتاج: 373/2، كشاف القناع: 219/4 وما بعدها، المغني: 531/5.(6/453)
ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الحوائط، أو يفنى الماء» (1) .وروى عبد الله بن الزبير: «أن الزبير ورجلاً من الأنصار تنازعا في شراج الحرة (2) التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري للزبير: سرِّح الماء، فأبى الزبير، فاختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير: اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، فتلوَّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا زبير، اسق أرضك، إلى أن يبلغ الجدر» (3) أي الجدار قال الزبير: فوالله، إني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فلا، وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم} [النساء:65/4] .
وروى مالك في الموطأ أيضاً عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه بلغه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: «يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» (4) .
__________
(1) رواه ابن ماجه، وعبد الله بن أحمد. ورواه أبو داود بإسناد حسن.
(2) الحرة: أرض في المدينة ذات حجارة سود. والشراج جمع شرج، والشرج: نهر صغير.
(3) متفق عليه في الصحيحين، ورواه مالك في موطئه عن عبد الله بن الزبير (جامع الأصول: 565/10) والمراد بقوله: «احبس الماء حتى يبلغ الجذر» : أن يصل مبلغ تمام الشرب، من جذر الحساب: أصل كل شيء. وقيل: أراد أصل الحائط. ويلاحظ أن رواية الحديث بالدال: «يرجع إلى الجذر» أي الكعبين.
(4) تنوير الحوالك: 217/2.(6/454)
رابعاً ـ كري الأنهار التي يكون منها الشرب:
الكري: إخراج الطين من أرض النهر، وحفره، وإصلاح ضفتيه. ويلحق به إصلاح الجسور ونحوها.
ومؤنة الكري أي نفقته بحسب نوع النهر، والأنهار أنواع ثلاثة (1) :
الأول: النهر العام غير المملوك لأحد، كالفرات والنيل: نفقة كريه وإصلاحه من بيت مال المسلمين، من الخراج والجزية، دون العشور والصدقات؛ لأنه للمصلحة العامة، فيختص بنفقته بيت المال، عملاً بالحديث النبوي: «الخراج بالضمان» (2) .
فإن لم يكن في بيت المال شيء، أجبر الحاكم الناس على إصلاح النهر، إن امتنعوا عنه، دفعاً للضرر، وتحقيقاً للمصلحة العامة. قال عمر في مثله: «لو تركتم، لبعتم أولادكم» .
وتفرض مؤنة الإصلاح على الأغنياء الموسرين الذين لا يطيقون الإصلاح بأنفسهم، كما هو الشأن في تجهيز الجيوش. ويكلف القادرون على العمل بأنفسهم، وتكون نفقتهم على الأغنياء.
الثاني: النهر العام المملوك لأهله الداخل في المقاسم، ويمكن قسمته، ويشترك به جماعة هم أصحاب النهر، فهو عام من وجه، وخاص من وجه: نفقة إصلاحه على أهله؛ لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص، فعليهم إصلاحه لأن الغنم بالغرم. ومن أبى منهم يجبر على الإنفاق، دفعاً للضرر العام الذي يلحق بقية الشركاء.
__________
(1) تكملة الفتح: 46/8 ومابعدها، الدر المختار: 313/5 ومابعدها، البدائع: 191/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 40/6 وما بعدها.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عائشة وضعفه البخاري (سبل السلام: 30/3) .(6/455)
والمملوك: بأن دخل في المقاسم: عام وخاص (1) . والخاص هو النوع الثالث: هو ما يشترك فيه فئة محصورة. والعام: هو المملوك لجماعة غير محصورة.
الثالث: النهر المملوك، لأّهله الخاص بفئة محدودة: نفقة إصلاحه على أهله أيضاً؛ لأن نفعه عائد إليهم. لكن إن امتنع جميعهم عن الإصلاح، لم يجبرهم الحاكم، كالممتنع عن عمارة أرضه وداره. فإن امتنع بعضهم دون الآخرين، فقيل: يجبر الآبي؛ لأن النفع للكل، وقيل: لا يجبر؛ لأن في إجباره إضراراً به. ويمكن دفع الضرر عن شركائه برجوعهم عليه بحصته من النفقة، إذا تم الإصلاح بأمر القاضي.
واختلف في كيفية الكري على الشركاء، إذا احتاج النهر في مسيله إلى إصلاح منطقة ليست في أعلاه: فقال أبو حنيفة: مؤنة كري النهر المشترك على الشركاء من أعلاه، فإذا جازوا أرض رجل منهم دون حاجة إلى الكري، برئ من مؤنة الكري؛ لأن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل لصاحب الأعلى، فلا يلزمه نفع غيره.
وقال الصاحبان: الكري على الشركاء جميعهم، من أوله إلى آخره، بحصص الشرب والأراضي؛ لأن لصاحب الأعلى حقاً في الأسفل، لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وهذا الرأي هو المعقول في تقديري.
واتفق أئمة الحنفية على أن الإصلاح إذا كان من أعلى النهر، فمؤنة إصلاحه على الشركاء جميعاً، لتوقف انتفاعهم به على إصلاحه.
__________
(1) المملوك الداخل في المقاسم: عام وخاص. والفاصل بينهما: أن ما تستحق به الشفعة خاص وهو النوع الثالث، وما لا تستحق به الشفعة عام. واختلف في تحديد الخاص: فقيل: هو ماكان لعشرة، أو عليه قرية واحدة. وقيل: لما دون أربعين أو مئة أو ألف. والأصح: تفويضه لرأي المجتهد، فيختار أي قول شاء.(6/456)
المطلب الثاني ـ حق الشفة:
يلحق حق الشفة بحق الشرب، وتكاد تكون أحكامهما واحدة مع بعض الفوارق البسيطة:
معنى حق الشفة: هو حق الانتفاع بالماء لشرب الإنسان والاستعمال المنزلي من طبخ وغسل ونحوهما، ولسقي البهائم بالشفاه لدفع العطش ونحوه. أو هو حاجة الإنسان إلى الماء لشربه أو لشرب دوابه ولانتفاعه المنزلي (1) .
وأحكامه تختلف بحسب نوع الماء. والمياه أربعة أقسام (2) :
الأول ـ ماء البحار: لكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي، والانتفاع بها بأي وجه؛ لأنها غير مملوكة، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء.
الثاني ـ ماء الأنهار العظيمة كالفرات ودجلة والنيل، وسيحون وجيحون ونحوها: للناس فيه الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي؛ لأنها مباحة في الأصل لكل إنسان شرباً وسقياً، ما لم يضر بالجماعة؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، ولأن الانتفاع بالمباح إنما يجوز إذا لم يضر بأحد، كتخريب النهر أو كسر ضفته، فتغرق القرى والأراضي.
الثالث ـ ماء الأنهار الصغيرة المملوكة الخاصة بقوم محصورين وهو المسمى عند الفقهاء «ماء المقاسم» : حق الشفة ثابت فيه، للضرورة، ولأن الأصل في الماء اشتراك الناس فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ والنار» ولأن استصحاب الماء إلى كل مكان أمر متعذر، والناس بحاجة إليه، فلو منعوا منه، وقعوا في حرج عظيم.
لكن إذا كان ماء النهر أو البئر المملوك لجماعة في أرض مملوكة: فلصاحب الأرض أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه، إذا كان يجد ماء بقربه (3) .
فإن لم يجد يقال له: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه، بشرط ألا يضر النهر أو البئر كأن يكسر ضفته أي جانبه؛ لأن للمضطر أو المحتاج حق الشفة في ماء النهر أو البئر أو الحوض عند الحاجة.
فلو منعه صاحب الأرض، وهو أو دابته في حالة عطش، كان له أن يقاتله بالسلاح ليأخذ قدر ما يدفع عن نفسه الهلاك، لقوله عمر السابق: «هلا وضعتم فيهم السلاح؟» ولأنه قصد إتلافه بمنع الشفة عنه، وهو حقه؛ لأن ماء البئر أو النهر ونحوهما مباح غير مملوك.
والأصح أن للناس الأخذ من هذا الماء ونقله للوضوء وغسل الثياب؛ لأن منعه من الدناءة، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها» (4) .
__________
(1) مختصر المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف: ص 18.
(2) تكملة الفتح: 144/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 40/6، البدائع: 188/6 وما بعدها، الدر المختار: 311/5 وما بعدها.
(3) حد القرب: ميل كما في التيمم، والميل أربعة آلاف ذراع، والذراع: 61/6 سم، فالميل: 1848 م.
(4) رواه الطبراني عن الحسين بن علي، هو حديث حسن.(6/457)
والأصح أن لصاحب الماء منع من أراد الأخذ منه لسقي الشجر أو الخضر في داره، بحمله بالجرار ونحوها إلا بإذنه.
كذلك إذا كانت الشفة تأتي على الماء كله، بأن كان جدولاً صغيراً، والمواشي الواردة عليه كثيرة، فقال أكثر الفقهاء منهم الحنفية: للمالك حق المنع، لأنه يلحقه ضرر به، كسقي الأرض.
الرابع ـ الماء المحرز في الأواني: مملوك لصاحبه بالإحراز، فلا يحق لغيره الانتفاع به إلا بإذن صاحبه، لا شرباً ولا سقياً ولا غيره.
لكن للمضطر الذي يخاف على نفسه من الهلاك بسبب العطش، ولم يجد سوى هذا الماء المحرز: أن يأخذ هذا الماء من صاحبه، ولو بالقوة، لكن بغير سلاح إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة صاحبه، كما تبين في حق الشرب.
المطلب الثالث ـ حق المجرى:
تعريفه، وأحكامه.
تعريف حق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء، في إجراء الماء إلى أرضه لسقيها. وقد يكون المجرى نفسه مملوكاً لصاحب المجرى، أو لصاحب الأرض التي هو فيها وهو الكثير، أو لهما معاً، أو مشتركاً بين كثيرين.
أحكامه: المبدأ العام في الشرع أنه ليس لصاحب الأرض منع جاره من إمرار الماء في أرضه، عملاً بقول عمر المتقدم، لمن منع جاره من إرسال الماء في أرضه: «والله ليمرن به، ولو على بطنك» .(6/458)
وليس لصاحب الأرض أيضاً أن ينقل المجرى من مكانه إلا برضا أصحاب الحق فيه، ولهم الحق في ترميمه، ومنع تسرب الماء منه، وتعميقه، وتقوية جانبيه. كما أن لصاحب الأرض مطالبتهم بإصلاحه، حتى لا يتسرب الماء منه، فيتلف مزروعاته. وإذا كان المجرى مشتركاً بين جماعة، فليس لأحدهم سده إلا برضا الجميع على أن يسده كل واحد في نوبته. فإن منعوه من سده، كان له رفع الماء إلى أرضه بآلة (1) ، ودليل اشتراط رضا الجميع بسد المجرى هو قاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام» .
وحق المجرى إن كان قديماً في أرض الغير يترك على حاله (2) ، عملاً بقاعدة: «القديم يترك على قدمه» ولا يُزال، إلا إذا كان فيه ضرر على صاحب الأرض، عملاً بقاعدة: «الضرر لا يكون قديماً» .
وإن أريد إحداث مجرى جديد: فإن كان في طريق عام، أنشئ بإذن السلطة، لمنع الضرر وتحقيق المصلحة العامة.
وإن كان في أرض مملوكة لغيره، أحدث بإذن المالك، ولكن ليس للمالك المنع من إحداثه، ما لم يلحق به ضرر بسببه، عملاً بقول عمر السابق: «والله ليمرن به ولو على بطنك» (3) .
__________
(1) البدائع: 190/6 وما بعدها، الأموال ونظرية العقد: ص 176 وما بعدها، مختصر المعاملات الشرعية: ص 20.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 314/5، الخراج لأبي يوسف: ص 99.
(3) والقصة هي: روى مالك في موطئه (218/2) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد: فقال له الضحاك: لم تمنعني، وهو لك منفعة، تشرب به أولاً وآخراً، ولا يضرك؟ أبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا، والله، فقال عمر: والله ليمرن به، ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وانظر الخراج ليحيى بن آدم: ص 110.(6/459)
المطلب الرابع ـ حق المسيل:
تعريفه، وأحكامه.
حق المسيل: هو حق تصريف الماء الزائد عن الحاجة، أو غير الصالح، إلى المصارف والمجاري العامة، بواسطة مجرى سطحي أو أنبوب مستور، سواء من أرض أو دار أو مصنع.
والفرق بينه وبين حق المجرى: هو أن حق المجرى لجلب الماء الصالح للأرض، وحق المسيل لتصريف الماء غير الصالح عن الأرض أو الدار ونحوها.
والمسيل قد يكون مملوكاً للمنتفع به، أو لصاحب الأرض التي يمر فيها، وقد يكون في مرفق عام.
وإذا تعينت أرض الجار لإحداث المسيل، لم يجز لمالكها المعارضة أو الممانعة فيه، إلا إذا ترتب عليه ضرر بيّن. ويظل هذا الحق قائماً، وإن تغيرت صفة الأرض المقرر لها، كأن كانت أرضاً زراعية، فصارت منزلاً أو مصنعاً مثلاً.
وإذا كان حق المسيل قديماً، بقي على حاله، ما لم يكن ضاراً بالمصلحة العامة أو الخاصة، فيجب حينئذ إزالته؛ لأن «الضرر يزال» ، ولا يحتج بتقادم الضرر؛ لأن «الضرر لا يكون قديماً» .
وتجب نفقات إصلاح المسيل، على المنتفع به، إذا كان في ملكه، أو في ملك غيره. فإن كان في أرض عامة، فنفقة الإصلاح على بيت المال (1) .
__________
(1) أملية مختصر المعاملات الشرعية للخفيف: ص 20 وما بعدها.(6/460)
المطلب الخامس ـ حق المرور:
تعريفه، وأحكامه.
حق المرور: هو حق أن يصل الإنسان إلى ملكه، داراً أو أرضاً، بطريق يمر فيه، سواء أكان من طريق عام، أم من طريق خاص مملوك له أو لغيره، أو لهما معاً.
وحكمه يختلف بحسب نوع الطريق:
1ً ـ فإن كان الطريق عاماً: فلكل إنسان حق الانتفاع به، لأنه من المباحات، سواء بالمرور، أو بفتح نافذة أو طريق فرعي عليه، أو إنشاء شرفة ونحوها، وله إيقاف الدواب أو السيارات أو إنشاء مركز للبيع والشراء. ولا يتقيد إلا بشرطين (1) :
الأول: السلامة، وعدم الإضرار بالآخرين، إذ لا ضرر ولا ضرار (2) .
الثاني: الإذن فيه من الحاكم.
فإن أضر المار أو المنتفع بالآخرين، كأن أعاق المرور، منع. وإن لم يترتب على فعله ضرر، جاز بشرط إذن الحاكم عند أبي حنيفة، ولا يشترط الإذن عند الصاحبين، على ما سأبيّن في حق التعلي. كذلك لا يشترط إذن الإمام عند الشافعية والحنابلة (3) كقوله عليه الصلاة والسلام: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به» .
وقال المالكية (4) : من بنى في طريق المسلمين أو أضاف شيئاً من الطريق إلى ملكه، منع منه باتفاق.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 319/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 142/6 وما بعدها، جامع الفصولين: 197/2، تكملة الفتح: 330/8 وما بعدها، مغني المحتاج: 182/2.
(2) أي لا يضر الرجل أخاه ابتداء ولا جزاء، بمعنى أنه لا يجوز إنشاء الضرر، ولا مقابلته بمثله. والضرر في الجزاء: أن يتعدى المجازي عن قدر حقه في القصاص وغيره.
(3) مغني المحتاج: 369/2، المغني: 544/5.
(4) القوانين الفقهية: ص 341.(6/461)
وقال الشافعية (1) : الطريق النافذ أي الشارع لا يتصرف فيه بما يضر المارّة في مرورهم فيه؛ لأن الحق فيه للمسلمين كافة، فلا يشرع فيه جَناح أي روشن، ولا ساباط (أي سقيفة على حائطين والطريق بينهما) يضر الناس كلٌ منهما.
2ً ـ وأما إن كان الطريق خاصاً: فحق الانتفاع به مقصور على صاحبه أو أهله أو المشتركين فيه، فليس لغيرهم أن يفتح عليه باباً أو نافذة إلا منهم، ولكل الناس حق المرور فيه عند زحمة الطريق العام، وليس لأصحابه سده أو إزالته، احتراماً لحق العامة فيه.
كذلك ليس لأحد من أصحاب الحق في الطريق الخاص الارتفاق به على غير الوجه المعروف إلا بإذن الشركاء كلهم، حتى المشتري من أحدهم بعد الإذن، كإحداث غرفة، أو بناء شرفة، أو ميزاب ونحوه (2) .
المطلب السادس ـ حق التعلي:
تعريفه، وحكم تصرف المالك الأعلى أو الأسفل في ملكه.
حق التعلي: هو حق القرار الدائم أو الاستناد لصاحب الطبقة العليا، على الطبقة السفلى، والانتفاع بسقوفها، مثل الملكية المشتركة للطوابق الحديثة.
وهذا حق دائم ثابت لصاحب العلو، على حساب السفل، فيكون للعلو حق البقاء والقرار على ذلك السفل، دون أن يتملك عند الحنفية سقفه، فلا يزول الحق بهدمه، أو انهدام السفل، أو هما معاً، ويظل هذا الحق قائماً، يجري فيه التوارث.
__________
(1) مغني المحتاج: 182/2.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 320/5، تكملة الفتح، تبيين الحقائق، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص 341، مغني المحتاج: 184/2.(6/462)
وقال المالكية (1) : السقف الذي بين الطابقين لصاحب السفل، وعليه إصلاحه وبناؤه إن انهدم، ولصاحب العلو الجلوس عليه، أي كما قال الحنفية.
وقال الشافعية (2) : السقف مشترك بين صاحب العلو والسفل كالجدار بين ملكين، لاشتراكهما في الانتفاع به، فإنه ساتر لصاحب السفل وأرض لصاحب العلو، فلصاحب العلو الاستناد إليه، وليس لأحدهما دق وتد أو فتح كوة ونحوه مما يضايق إلا بإذن الآخر. ولصاحب العلو الانتفاع بالسقف بحسب العادة، وإذا انهدم المشترك بين اثنين ليس لأحدهما إجبار الآخر على العمارة؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، والممتنع يتضرر بتكليف العمارة.
ولا يباع حق التعلي عند الحنفية استقلالاً، فبيعه غير صحيح، لأنه ليس بمال.
وقال غير الحنفية: يجوز بيعه استقلالاً؛ لأن الحقوق أموال عندهم. وهذا هو المعقول والأصح فقهاً وعرفاً وعملاً.
واختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في مدى حق التصرف لكل من صاحب العلو وصاحب السفل (3) :
فقال أبو حنيفة: الأصل في تصرفات المالك في ملكه، إذا تعلق به حق الغير: الحظر؛ لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير، فليس للجار التصرف في ملكه من غير رضا صاحب الحق، وإن لم يضره هذا التصرف.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 341.
(2) مغني المحتاج: 193/2، روضة الطالبين للنووي: 219/4، 226.
(3) تبيين الحقائق: 194/4-196، فتح القدير: 502/5 وما بعدها، 506، البدائع: 264/6 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 375/4-377.(6/463)
وبناء عليه: ليس لصاحب السفل أن يحدث في بنائه أي تغير، كدق وتد، أو فتح نافذة، أو رفع جدار، إلا برضا صاحب العلو، وإن لم يضر به. وليس لصاحب العلو زيادة بناء يوهن السفل.
وقال الصاحبان: الأصل في تصرف الجار الإباحة؛ لأنه تصرف في ملكه، والملك يقتضي إطلاق التصرف، كما يشاء المالك، إلا إذا لحق بسببه ضرر بالغير، فيمنع حينئذ المالك منه، وبناء عليه: لصاحب السفل أو الطابق الأدنى أن يصنع ما لا يضر بالبناء الأعلى.
وهذا الرأي هو المعقول، والأصح في تقديري، وهو الاستحسان المفتى به عند الحنفية (1) .
المطلب السابع ـ حق الجوار:
تعريفه، ومدى صلاحية الجار أو حق الجار بالتصرف في ملكه.
حق الجوار: المراد به هو حق الجوار الجانبي: وهو الناشئ عن تلاصق الحدود وتجاورها، ويكون لكل من الجارين الحق في الارتفاق بعقار جاره، على ألا يلحق به ضرراً بيناً فاحشاً.
والامتناع عما يؤذي الجار واجب ديانة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» (2) أي غوائله وشروره، ومع ذلك للفقهاء آراء قضائية في منع الضرر بالجار (3) :
فقال أبو حنيفة بمقتضى القياس: والشافعية والظاهرية: لصاحب الملك أن يفعل في ملكه ما يشاء، وهو مطلق التصرف في خالص ملكه، وإن ألحق الضرر بغيره، فله فتح ما شاء من النوافذ، وهدم ما شاء من الجدران، وحفر ما رأى من الآبار، وإنشاء ما يشاء من المصانع، واتخاذ ما أراد من السكنى أو المتجر.
لكن في الجدار المشترك: قال الشافعية في الجديد (4) : ليس لأحد الشريكين وضع جذوعه عليه بغير إذن شريكه، وليس له أن يدق وتداً أو يفتح كوَّة أو نحوهما مما يضايق فيه عادة إلا بإذن شريكه، ولا أن يستند إليه ويسند متاعاً لا يضر، وله ولغيره مثل هذا الانتفاع في جدار الأجنبي؛ لأنه لا ضرر على المالك، فلا يضايق فيه، بل له الانتفاع، ولو منعه المالك.
وقال الصاحبان بمقتضى الاستحسان الذي أخذت به المجلة: يتقيد استعمال مالك العقار وتصرفه بما لا يؤدي إلى ضرر بيّن فاحش بجاره، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» . وهذا هو المفتى به عند الحنفية.
والضرر البين الفاحش: ما يكون سبباً لهدم أو سقوط بناء الجار، أو ما يوهن البناء، أو ما يؤذي الجار أذىً بالغاً على وجه دائم، أو ما يؤدي إلى سلخ حق الانتفاع بالكلية: وهو ما يمنع من الحوائج الأصلية، كأن يحول داره إلى فرن أو مصنع للحديد أو مطحنة للحبوب، أو حمام أو تنور أو يبني جداراً يمنع به النور عن جاره.
__________
(1) انظر الدر المختار: 375/4.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(3) البدائع: 264/6 وما بعدها، فتح القدير: 506/5، المبسوط: 21/15، الأم: 222/3 وما بعدها، ط الأميرية، المحلى: 241/8، م 1355، مختصر المعاملات الشرعية: ص23.
(4) مغني المحتاج: 189/2.(6/464)
فإن فعل شيئاً مما ذكر، منع منه، وأمر بإزالته، وكان ضامناً ما يترتب عليه من تلف بدار جاره، سواء أكان بالمباشرة أم بالتسبب.
وقال المالكية والحنابلة (1) : يتقيد استعمال المالك بألا يضر بالآخرين، ولو بالنية والقصد، فإ لم تكن له مصلحة ظاهرة في التصرف، أو لم يقصد سوى الإضرار بالآخرين، منع منه؛ لأن المسلم ممنوع من قصد الإضرار.
لكن المشهور عند المالكية أن الشخص لا يمنع إذا أراد أن يعلي بنياناً يمنع جاره الضوء والشمس، ويمنع إذا أراد أن يبني بنياناً يمنع الهواء. واتفق المالكية على منع أنواع من الضرر المحدث، هي: فتح كوة أو طاقة يكشف منها على جاره، فيؤمر بسدها أو سترها، وأن يبني شخص في داره فرناً أو حماماً أو كير حداد، أو صائغ، مما يضر بجاره دخانه، فيمنع منه إلا إن احتال في إزالة الدخان. وأن يصرف ماءه على دار جاره أو على سقفه، أو يجري في داره ماء، فيضر بحيطان جاره. ومن طرق تجنب الضرر: كاتم الصوت وعازل الحرارة، وصفاية الدخان.
والخلاصة: أن الاتجاه الأقوى في الفقه الإسلامي يجيز للمالك أن يتصرف في ملكه بما لا ضرر فيه على الجار، أما ما بان ضرره الفاحش، أو أشكل فيه الحال، فإنه ممنوع.
وإذا كان الشيء قديماً قبل الجوار، يظل قائماً، ما لم يكن فيه ضرر بالجار الجديد.
__________
(1) الموافقات: 349/2، القوانين الفقهية: ص 341.(6/465)
الفَصْلُ الخامِس: عقود استثمار الأرض: المزارعة والمساقاة والمغارسَة
العقد الأول ـ المزارعة أو المخابرة
تعريفها، ومشروعيتها، وركنها وصفة العقد، وشرائطها، وأنواعها أو أحوالها، وحكمها وانتهاؤها وحالات فسخها، وفيها مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ تعريف المزارعة ومشروعيتها وركنها وصفة العقد:
أولاً ـ تعريف المزارعة: المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع: وهو الإنبات. وشرعاً: عقد على الزرع ببعض الخارج (1) . وعرفها المالكية: بأنها الشركة في الزرع (2) . وعرفها الحنابلة بأنها: دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها، والزرع بينهما (3) .
وتسمى أيضاً المخابرة (من الخَبار: وهي الأرض اللينة) ، والمحاقلة،
__________
(1) البدائع: 175/6، تبيين الحقائق: 278/5، الدر المختار: 193/5، تكملة الفتح: 32/8.
(2) الشرح الكبير: 372/3، القوانين الفقهية: ص 280.
(3) المغني: 382/5، كشاف القناع: 523/3.(6/466)
ويسميها أهل العراق: القَراح. ووصف الشافعية (1) المخابرة بأنها: عمل الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من العامل. والمزارعة: هي المخابرة، ولكن البذر فيها يكون من المالك.
والخلاصة: المزارعة عقد استثمار أرض زراعية بين صاحب الأرض، وآخر يعمل في استثمارها، على أن يكون المحصول مشتركاً بينهما بالحصص التي يتفقان عليها.
ثانياً ـ مشروعيتها: لم يجز أبو حنيفة وزفر المزارعة، وقالا: هي فاسدة، وبعبارة أخرى: المزارعة بالثلث والربع في رأيهما باطلة (2) . وكذلك لم يجز الشافعي المزارعة، وإنما تجوز عند الشافعية فقط تبعاً للمساقاة للحاجة، فلو كان بين النخل بياض صحت المزارعة عليه مع المساقاة على النخل بشرط اتحاد العامل، وعسر إفراد النخل بالسقي، والبياض بالعمارة: وهي الزراعة لانتفاع النخل بسقي الأرض وتقليبها. والأصح أنه يشترط: ألا يفصل العاقدان بين العقدين وإنما يؤتى بهما على الاتصال، وألا يقدم المزارعة على المساقاة، لأنها تابعة، والتابع لا يقدم على متبوعه. ولا تجوز المخابرة عند الشافعية تبعاً للمساقاة، لعدم ورود مشروعيتها (3) . ودليل أبي حنيفة وزفر والشافعي على عدم مشروعية المزارعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة (4) : وهي المزارعة. ولأن أجر المزارع: وهو مما تخرجه
__________
(1) مغني المحتاج: 323/2 وما بعدها.
(2) العناية بهامش تكملة الفتح: 32/8، وتقييدهم بالثلث والربع باعتبار العادة في ذلك، ولتقرير محل النزاع، إذ لو لم يعين المقدار فسدت اتفاقاً.
(3) مغني المحتاج: 324/2، المهذب: 349/1.
(4) أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله، وأخرجه أيضاً عن ابن عمر: أن رافع بن خديج روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عنه (نصب الراية: 180/4) وروى مسلم أيضاً عن ثابت بن الضحاك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة» وروى أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري حديث رافع بالنهي عن كراء الأرض (نيل الأوطار: 275/6، 280) .(6/467)
الأرض إما معدوم لعدم وجوده عند العقد، أو مجهول لجهالة مقدار ما تخرجه الأرض، وقد لا تخرج شيئاً، وكل من الجهالة وانعدام محل العقد مفسد عقد الإجارة.
وأما معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر ـ كما سيأتي ـ فكان خراج مقاسمة (1) كثلث أو ربع غلة الأرض، بطريق المن والصلح، وهو جائز.
ومع هذا قال كثير من فقهاء الشافعية بمشروعية المزارعة استقلالاً، بدليل معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، واعتبروا المخابرة في معنى المزارعة.
وقال صاحبا أبي حنيفة (أبو يوسف ومحمد) ، ومالك وأحمد وداود الظاهري، وهو رأي جمهور الفقهاء: المزارعة جائزة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع (2) . ولأنها عقد شركة بين المال والعمل، فتجوز كالمضاربة، لدفع الحاجة، فصاحب المال قد لا يحسن الزراعة، والعامل يتقنها، فيتحقق بتعاونهما الخير والإنتاج والاستثمار. والعمل والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لحاجة الناس إليهم ولتعاملهم. وهذا هو الراجح. وهي تشبه الشركة والإجارة، فهي مشاركة في الناتج بين صاحب الأرض والمزارع بنسبة متفق عليها كالنصف أو الثلث للمزارع. وهي كالإجارة عن طريق المشاركة في استغلال الأرض، والأجرة فيها حصة معينة من المحصول. لكنها تتميز عن الشركة بأن نصيب المالك فيها حصة من نفس المحصول الناتج من الأرض، وليس من صافي الأرباح.
وتتميز عن إيجار الأرض الزراعية بأن تكون الأجرة جزءاً من محصول الأرض المؤجرة كالربع أو الثلث أو النصف، فإن كانت الأجرة مقداراً معيناً من المحصول كطن قمح أو أرز، فلا يكون العقد مزارعة، ولكنه إيجار عادي للأرض.
__________
(1) الخراج نوعان: خراج وظيفة: وهو فرض جزء مقطوع معلوم سنوياً على جزء معلوم من مساحة الأرض المفتوحة. وخراج مقاسمة: وهو فرض مقدار نسبة محددة من غلة الأرض كالنصف مثلاً (تبيين الحقائق: 278/5) .
(2) رواه الجماعة (أحمد والأئمة الستة) عن ابن عمر، وروي أيضاً عن ابن عباس وجابر بن عبد الله (نيل الأوطار: 272/5) .(6/468)
ثالثاً ـ ركن المزارعة وصفة العقد: ركن المزارعة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وهو أن يقول صاحب الأرض للعامل: دفعت إليك هذه الأرض مزارعة بكذا، ويقول العامل: قبلت، أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه، فإذا وجدا تم العقد بينهما (1) .
أطرافها ثلاثة: صاحب الأرض أو المالك، والعامل أو المزارع، ومحل العقد، المتردد بين أن يكون منفعة الأرض أو عمل العامل. وهي عند الحنفية: عقد إجارة ابتداء، شركة انتهاء، فإن كان البذر من العامل فالمعقود عليه منفعة الأرض، وإن كان من صاحب الأرض فالمعقود عليه منفعة العامل.
وقال الحنابلة (2) : ولا تفتقر المزارعة والمساقاة إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل.
وأما صفة المزارعة: فهي عند الحنفية كبقية الشركات عقد غير لازم. وقال المالكية (3) : وتلزم بالبذر ونحوه أي بإلقاء الحب على الأرض لينبت، أو بوضع الزريعة في الأرض مما لا بذر لحبه كالبصل ونحوه. والمعتمد عند المالكية أن شركات الأموال تلزم بالصيغة.
وقال الحنابلة (4) : المزارعة والمساقاة عقدان غير لازمين، لكل طرف فسخهما، ويبطل العقد بموت أحد المتعاقدين.
المبحث الثاني ـ شرائط المزارعة:
اشترط الصاحبان من الحنفية (5) في المزارعة شرائط: في العاقد، وفي الزرع والمزروع، وفي الخارج من الزرع، وفي الأرض المزروعة، وفي محل العقد، وفي آلة الزراعة، وفي مدة المزارعة.
شروط العاقد: يشترط شرطان عامان في العقود.
أـ أن يكون العاقد عاقلاً (مميزاً) : فلا تصح مزارعة المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقل شرط أهلية التصرفات.
وأما البلوغ فليس بشرط لجواز المزارعة عند الحنفية، فتجوز مزارعة الصبي المأذون، كالإجارة. والمزارعة استئجار ببعض الناتج. واشترط الشافعية والحنابلة البلوغ لصحة المزارعة كغيرها من العقود.
2 - ألا يكون مرتداً ـ في رأي أبي حنيفة ـ لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فلا تصح للحال. ولا يشترط هذا الشرط عند الصاحبين، فتعتبر مزارعة المرتد نافذة للحال.
أما المرتدة فتصح مزارعتها باتفاق الحنفية.
__________
(1) البدائع: 176/6.
(2) كشاف القناع: 528/3 وما بعدها.
(3) تبيين الحقائق: 278/5، الشرح الصغير: 492/3 وما بعدها.
(4) غاية المنتهى: 154/2.
(5) البدائع: 176/6-180، تكملة الفتح مع العناية: 34/8 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 230/2، تبيين الحقائق: 279/5، الدر المختار: 193/5.(6/469)
شرط الزرع: أن يكون معلوماً، بأن يبين ما يزرع؛ لأن حال المزروع يختلف باختلاف الزرع، بالزيادة والنقصان، فرب زرع يزيد في الأرض، وآخر ينقصها. ومقتضى الاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط، إذ نص على المزارعة، فإن ما يزرع مفوض للعامل.
شرط المزروع: أن يكون قابلاً لعمل الزراعة: وهو أن يؤثر فيه العمل بالزيادة بحسب العادة.
شروط الخارج الناتج من الزرع: تشترط شروط إذا لم تتحقق فسد العقد وهي:
1 - أن يكون معلوماً في العقد؛ لأنه بمثابة الأجرة وجهالتها تفسد الإجارة.
2 - أن يكون مشتركاً بين العاقدين: فلو شرط تخصصه بأحدهما فسد العقد.
3 - أن يكون الناتج معلوم القدر كالنصف والثلث والربع ونحوه؛ لأن ترك التقدير يؤدي إلى الجهالة المفضية إلى المنازعة.
4 - أن يكون الناتج جزءاً مشاعاً بين العاقدين، فلو شرط لأحدهما مقدار معلوم كأربعة أمداد أو بقدر البذر، لم يصح العقد، لجواز ألا ينتج إلا ذلك القدر.
ولا يصح أيضاً اشتراط كون الناتج على السواقي أو الجداول لأحدهما، لاحتمال ألا ينبت الزرع إلا في ذلك الموضع.
ولا يصح أيضاً اشتراط كون التبن لأحدهما، وللآخر الحب؛ لأن الزرع قد تصيبه آفة، فلا ينعقد الحب، ولا يخرج إلا التبن. واشترط المالكية تساوي العاقدين في قسمة الناتج، وأجاز الشافعية والحنابلة كالحنفية تفاوت العاقدين في الخارج الناتج.
شروط الأرض المزروعة: يشترط في الأرض المزروعة ما يأتي:
1 - أن تكون صالحة للزراعة: فلو كانت سبخة أو نزة، لا يجوز العقد؛ لأن المزارعة عقد استئجار ببعض الناتج، والسبخة والنزة لا تجوز إجارتها، فلا تجوز مزارعتها.
2 - أن تكون معلومة: فإن كانت مجهولة لا تصح المزارعة؛ لأنها تؤدي إلى المنازعة.(6/470)
3 - التخلية بين الأرض والعامل، فتسلم إلى العامل مخلاة: وهو أن يوجد من صاحب الأرض التخلية بين الأرض وبين العامل، فلو شرط العمل على رب الأرض أو عليهما معاً، لا تصح المزارعة، لانعدام التخلية.
شرط محل العقد: أن يكون المعقود عليه في المزارعة مقصوداً بحسب العرف والشرع: أي من الأعمال الزراعية عرفاً وشرعاً، من حيث إنها إجارة أحد أمرين: إما منفعة عمل العامل: بأن كان البذر من صاحب الأرض. وإما منفعة الأرض: بأن كان البذر من العامل.
وإذا اجتمع الأمران في الاستئجار، فسدت المزارعة، وتفسد إذا كان العمل غير زراعي كقطع الأحجار ونقلها ورصف جوانب الطرقات مثلاً بالحجارة؛ لأنها ليست من أعمال المزارعة.
شرط آلة الزراعة: أن تكون الآلة من دابة أو آلة حديثة أمراً تابعاً في العقد، لا مقصوداً، فإن جعلت أمراً مقصوداً، فسدت المزارعة.
شرط مدة المزارعة: أن تكون المدة معلومة، فلا تصح المز ارعة إلا بعد بيان المدة؛ لأنها استئجار ببعض الناتج، ولا تصح الإجارة مع جهالة المدة، والمدة متعارفة، فتفسد بما لا يتمكن العامل فيها، وبما لا يعيش إليها أحد العاقدين. والمفتى به أن(6/471)
المزارع تصح بلا بيان مدة، وتقع على أول زرع واحد (1) .
وفي الجملة: تصح المزارعة عند الصاحبين بشروط ثمانية:
1 - أهلية العاقدين 2 - وتعيين مدة العقد، والمفتى به أنه لا يشترط ذلك. 3 - وصلاحية الأرض للزراعة 4 - والتخلية بين الأرض والعامل 5 - وأن يكون الناتج مشتركاً مشاعاً بين العاقدين تحقيقاً لمعنى الشركة 6 - وبيان من عليه البذر منعاً للمنازعة، وإعلاماً للمعقود عليه: وهو منافع الأرض أو منافع العامل 7- وبيان نصيب كل من العاقدين (2) سواء من قدم البذر أو من لم يقدمه 8 - وبيان جنس البِذْر ليصير الأجر معلوماً؛ لأن الأجر جزء من الناتج، فلا بد من بيانه، ليعلم أن الناتج من أي نوع؛ لأنه ربما يعطي بذاراً لا يحصل الناتج به إلا بعمل كثير. والاستحسان: أن بيان ما يزرع في الأرض ليس بشرط.
والخلاصة: لا يشترط تقدير المدة في المفتى به عند الحنفية وظاهر كلام أحمد، ويشترط كون المدة معلومة غير مجهولة في رأي المالكية والشافعية.
__________
(1) الدر المختار: 193/5.
(2) المذكور في الهداية: بيان نصيب من لا بذر من قبله، لأنه يستحق عوضاً بالشرط، فلا بد من أن يكون معلوماً، وما لا يعلم لا يستحق شرطاً بالعقد. لكن قال قاضي زاده معلقاً عليه: لا شك أن بيان نصيب كل من المتعاقدين مما لا بد منه في عقد المزارعة، فعدُّ بيان نصيب من لا بذر من قبله، من الشرائط دون بيان نصيب الآخر، مما لا يجدي كبير طائل. فتأمل (تكملة الفتح: 34/8) .(6/472)
شروط المزارعة عند المالكية (1) :
اشترط المالكية ثلاثة شروط للمزارعة:
1 - السلامة من كراء الأرض بأجر ممنوع كراؤها به، بألا تقع الأرض أو بعضها في مقابلة بذر، أو طعام ولو لم تنبته الأرض كعسل، أو ما تنبته ولو غير طعام كقطن وكتان، إلا الخشب، أي إنه لا بد لصحة المزارعة من كرائها بذهب أو فضة أو عرض تجاري أو حيوان. ولا بد من كون البذر من صاحب الأرض والعامل معاً، فلو كان البذر من أحدهما والأرض للآخر، فسدت المزارعة.
وسبب اشتراط هذا الشرط: ورود النهي في السنة عن كراء الأرض بما يخرج منها (2) . فلا تصح في مقابل جزء من الخارج.
2 - تكافؤ الشريكين أو تساويهما فيما يخرجان أو يقدمان: بأن يقابل أجرَ الأرض مساوٍ غير بذر كعمل حيوان ونحوه، وعلى قدر الربح الواقع بينهما، كأن تكون أجرة الأرض مئة، وما يقابلها من تقديم حيوان وعمل سوى البذر مئة، والربح بينهما مناصفة، فتصح وإلا فسدت. ويجوز لأحدهما التبرع للآخر بالزيادة من عمل أو ربح، بعد لزوم الشركة.
3 - تماثل البذرين المقدمين من كليهما نوعاً كقمح أو شعير أو فول. فإن اختلف بذر أحدهما عن الآخر، كأن أخرج أحدهما من البذر غير ما أخرجه الآخر، فسدت المزارعة، ولكل ما أنبته بذره.
ومذهب مالك وابن القاسم، وهو الراجح الذي به الفتوى: أنه لا يشترط -كما في شركة الأموال- خلط البذرين حقيقة ولا حكماً، بل إذا خرج كل منهما ببذره وكان بذر كل منهما مستقلاً عن الآخر، فالشركة صحيحة.
وبه يتبين أن المالكية يشترطون تقديم البذر من كلا العاقدين، وتساويهما فيه نوعاً، وتماثلهما في الربح وفيما يقدم كل منهما من شيء عيني كالأرض، وما يقابلها من منفعة حيوان وعمل، وألا تكون المزارعة بجزء ناتج من الأرض، وإنما بعوض آخر غير محصول الأرض. ويلاحظ أن هذه الشروط شديدة لا تنطبق مع واقع المزارعة القائم.
__________
(1) الشرح الكبير: 372/3 وما بعدها، الشرح الصغير: 494/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص280.
(2) رواه أحمد والبخاري والنسائي من حديث رافع بن خديج (نيل الأوطار: 275/5) .(6/473)
أما الشافعية (1) : فلم يشترطوا في المزارعة التي تصح تبعاً للمساقاة أن يتساوى العاقدان في الجزء المشروط من الثمر والزرع، فيصح أن يشرط للعامل نصف الثمر، وربع الزرع مثلاً. كذلك حددوا محل منع كراء الأرض بما يخرج منها بما إذا كان المشروط من خصوص بقعة معينة. وقالوا: إن المزارعة: هي عمل الأرض بما يخرج منها، والبذر من المالك.
وأما الحنابلة (2) : فأجازوا المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، ولم يشترطوا تساوي العاقدين في الناتج. واشترطوا كالشافعية في ظاهر المذهب كون البذر من المالك رب الأرض، وروي عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل. واشترطوا بيان نصيب كل واحد من العاقدين، فإن جهل النصيب فسدت المزارعة، كما اشترطوا أيضاً معرفة جنس البذر وقدره؛ لأن المزارعة معاقدة على عمل، فلم تجز على غير معلوم الجنس والقدر، كالإجارة.
والخلاصة: يجوز تقديم البذر من أحد العاقدين عند الحنفية، ويشترط تقديمه من كلا العاقدين عند المالكية، ويكون البذر من صاحب الأرض والعمل من العامل في رأي الشافعية والحنابلة.
المبحث الثالث ـ أحوال المزارعة:
للمزارعة عند الصاحبين أربعة أحوال، تصح في ثلاثة، وتبطل في واحد (3) .
الأولى: أن تكون الأرض والبذر من واحد، والعمل والحيوان واسطة الزراعة من آخر: تجوز المزارعة، وصار صاحب الأرض والبذر مستأجراً للعامل، والحيوان المستخدم للحراثة تبعاً له؛ لأن الحيوان آلة العمل.
الثانية: أن تكون الأرض لواحد، والحيوان والبذر والعمل لواحد: جازت المزارعة أيضاً، وصار العامل مستأجراً للأرض ببعض الخارج الناتج.
الثالثة: أن تكون الأرض والحيوان والبذر لواحد، والعمل لواحد: جازت أيضاً، وصار رب الأرض مستأجراً للعامل ببعض الخارج (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 323/2-325.
(2) المغني: 382/5، 388، 392، كشاف القناع: 533/3.
(3) البدائع: 179/6 ومابعدها، تكملة الفتح: 35/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 281/5 ومابعدها، الدر المختار: 195/5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 229/2 وما بعدها.
(4) قد نظم بعضهم الصور الثلاث الجائزة في بيت، فقال:
أرض وبذر، كذا أرض، كذا عمل.....من واحد، ذي ثلاث كلها قبلت(6/474)
الرابعة: إذا كانت الأرض والحيوان لواحد، والبذر والعمل لآخر: فهي فاسدة، في ظاهر الرواية، لأنه لو قدر العقد إجارة للأرض، فاشتراط الحيوان على صاحبها، مفسد للإجارة؛ إذ لا يمكن جعل الحيوان تبعاً للأرض، لاختلاف
المنفعة، أي إن منفعة الحيوان ليست من جنس منفعة الأرض؛ لأن الأرض للنماء والإنبات، والحيوان للعمل وشق الأرض.
ولوقدر العقد إجارة للعامل، فاشتراط البذر عليه مفسد؛ لأنه ليس تبعاً له.
وعليه تفسد المزارعة إذا اشترطت الآلة أو الحيوان أو العمل على صاحب الأرض، كما تفسد إذا اشترط الخارج كله لأحد العاقدين، أو اشترط الحصاد والدياس أو الحمل والحفظ على العامل المزارع؛ لأنه لا يتعلق به صلاح الزرع.
المبحث الرابع ـ حكم المزارعة الصحيحة والفاسدة:
أولاً ـ حكم المزارعة الصحيحة عند الحنفية: للمزارعة الصحيحة عند الحنفية (1) أحكام هي ما يأتي:
1 - كل ما كان من عمل المزارعة مما يحتاج الزرع إليه لإصلاحه، كنفقة البذر ومؤنة الحفظ، فعلى المزارع، لأن العقد تناوله.
2 - كل ما كان نفقة على الزرع، كالسماد وقلع الأعشاب والحصاد والدياس، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما من الناتج.
وقال المالكية: على العامل بعد الحرث والزرع ما يحتاج الزرع إليه من خدمة وسقي وتنقية وحصاد ونقله إلى الأندر (البيدر) ودراسته فيه، وتصفيته إلى أن يصير حباً مصفى، فيقسمانه على الكيل (2) .
__________
(1) البدائع: 181/6 وما بعدها، تكملة الفتح: 39/8، تبيين الحقائق: 282/5، الكتاب مع اللباب: 231/2 وما بعدها، الدر المختار: 199/5.
(2) التاج والإكليل: 177/3.(6/475)
3 - الناتج من الأرض يقسم بين العاقدين بحسب الشرط المتفق عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (1) . فإن لم تخرج الأرض شيئاً، فلا شيء لواحد من العاقدين على الآخر، أما إنه لا شيء للعامل، فلأنه مستأجر ببعض الخارج الناتج، ولم يوجد. هذا بخلاف المزارعة الفاسدة: يجب للعامل أجر المثل إن لم تخرج الأرض شيئاً. والفرق أن الواجب في العقد الصحيح هو المسمى وهو بعض الخارج، فإذا لم يوجد لم يجب شيء. وأما الواجب في المزارعة الفاسدة فهو أجر مثل العمل في الذمة لا في الخارج، فعدم الخارج لا يمنع وجوبه في الذمة.
4 - عقد المزارعة كما تقدم في صفته غير لازم عند الحنابلة، ويلزم بالبذر عند المالكية، وقال الحنفية: هو عقد غير لازم في جانب صاحب البذر لازم في جانب العاقد الآخر. ولا يجوز له فسخ المزارعة إلا بعذر كما سيأتي. فإذا امتنع صاحب البذر من العمل، لم يجبر عليه. وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر، أجبره الحاكم على العمل؛ لأنه لا يلحقه بالعقد ضرر، والعقد لازم بمنزلة الإجارة إلا إذا كان هناك عذر تفسخ به الإجارة، فتفسخ به المزارعة. وسبب التفرقة بين العاقدين: أن صاحب البذر لا يمكنه تنفيذ العقد إلا بإتلاف ملكه وهو البذر، في التراب، فلا يكون الشروع فيه ملزماً في حقه، إذ لا يجبر الإنسان على إتلاف ملكه، أما العاقد الآخر فليس من قبله إتلاف ملكه، فكان الشروع في حقه ملزماً.
5 - الكراب (الحراثة) والسقي: إن تم الإتفاق عليه أو الاشتراط يجب الوفاء به على من شرط عليه. وإن لم يتفق عليه يجبر عليه العاقد بحسب الزراعة المعتادة. فإن كانت الأرض تسقى بماء السماء لا يجبر أحد على السقي، وإلا فعلى
__________
(1) رواه الحاكم عن أنس وعائشة، وهو حديث صحيح. ورواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة بلفظ: «المسلمون على شروطهم» وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن عوف باللفظ الأخير (نصب الراية: 112/4، الجامع الصغير) .(6/476)
النحو المعتاد. فإذا قصر المزارع في عقد المزارعة الصحيحة في سقي الأرض حتى هلك الزرع بهذا السبب يضمن لوجوب العمل عليه فيها، ويضمن ضمان الأمانات بالتقصير؛ لأن الأرض في يده أمانة. ولا يضمن في المزارعة الفاسدة.
6 - تجوز الزيادة على الشرط المذكور من الخارج الناتج، والحط عنه، والقاعدة فيه: هي أنه كلما احتمل إنشاء العقد عليه، احتمل الزيادة، وما لا فلا، والحط جائز في الحالتين جميعاً، كالزيادة في الثمن في عقد البيع.
فلو زاد العامل المزارع في حصة صاحب الأرض بعد الحصاد، وكان البذر منه أي من العامل، لم يجز؛ لأن الزيادة على الأجرة تمت بعد انتهاء عمل المزارعة واستيفاء المعقود عليه وهو المنفعة، وهو لا يجوز، إذ لو أنشأ العقد بعد الحصاد، لايجوز، فلا تجوز الزيادة.
وإن كانت الزيادة للمزارع في هذه الحالة من صاحب الأرض، جازت؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له، وهو لا يتطلب قيام المعقود عليه.
فإن كان البذر من صاحب الأرض، فزاد في حصة المزارع بعد الحصاد، فالحكم أنه لا تجوز الزيادة من المالك؛ لأنها تمت بعد استيفاء المعقود عليه، وتجوز الزيادة من المزارع؛ لأنها حط من الأجرة المستحقة له.
أما إن حدثت الزيادة من كل واحد من العاقدين، قبل الحصاد، فيجوز.
7 - لو مات أحد المتعاقدين قبل إدراك الزرع، ترك إلى الإدراك، ولا شيء على المزارع لبقاء عقد الإجارة ههنا ببقاء المدة.(6/477)
والخلاصة: يلتزم صاحب الأرض بالتزامين: تسليم الأرض مع حقوقها الارتفاقية، وإصلاح الأدوات الزراعية، ويلتزم العامل المزارع بالتزامين آخرين في مواجهة التزامي المالك، وهما العناية بالزراعة وتحمل نفقاتها المعتادة وأعمالها المعروفة، من حراثة وعزق وسقي ونحو ذلك، والمحافظة على الأرض، وصيانة الزرع.
حكم المزارعة عند الشافعية: عرفنا أنه لا تجوز المزارعة (البذر من المالك) عند الشافعية إلا تبعاً للمساقاة. ولا يجوز أن يخابر الشخص (البذر من العامل) تبعاً للمساقاة.
فإن أفردت أرض بالمزارعة، فالغلة للمالك، لأنها نماء ملكه، وعليه للعامل أجرة مثل عمله ودوابه وآلاته.
وطريق جعل الغلة للطرفين العاقدين، ولا أجرة لأحدهما على الآخر، يحصل بصورتين إذا كان البذر من المالك:
إحداهما: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً كنصفه أو ربعه مثلاً، أي استئجاراً على الشيوع ليزرع له النصف الآخر في الأرض، ويعيره في الوقت نفسه نصف الأرض شائعاً، فيقوم العامل بالعمل في الأرض، ويقسم الحاصل أو الناتج بينهما بنسبة ما ملك كل منهما من البذر. وهذه إجارة وإعارة.
الثانية: أن يستأجر المالك العامل بنصف البذر شائعاً، ونصف منفعة الأرض شائعاً أيضاً، ليزرع له النصف الآخر من البذر، في النصف الآخر من الأرض.
فيكون الطرفان شريكين في الزرع على المناصفة، ولا أجرة لأحدهما على الآخر؛ لأن العامل يستحق في منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع، والمالك يستحق من منفعة الأرض بقدر نصيبه من الزرع (1) . وهذه إجارة.
فإن كان البذر من العامل: استأجر من المالك جزءاً شائعاً معيناً من الأرض كالنصف بنصف شائع من البذر وبعمله في النصف الآخر منها، أو يستأجر نصف الأرض بنصف البذر، ويتبرع بالعمل في النصف الآخر. فيملك كل منهما من الغلة بنسبة ما ملك من البذر ومنفعة الأرض.
__________
(1) مغني المحتاج: 325/2.(6/478)
ثانياً ـ حكم المزارعة الفاسدة عند الحنفية: للمزارعة الفاسدة أيضاً أحكام (1) .
1 - لا يجب على المزارع شيء من أعمال المزارعة؛ لأن إيجابه بالعقد، وهو لم يصح.
2 - الخارج الناتج كله لصاحب البذر، سواء أكان رب الأرض أم المزارع؛ لأن الخارج استحقه بسبب كونه نماء ملكه، لا بالشرط. ويتفق المالكية والحنابلة (2) مع الحنفية في هذا الحكم، وهو أن العقد إذا فسد لزم كون الزرع لصاحب البذر.
3 - إذا كان البذر من صاحب الأرض، استحق المزارع بسبب فساد المزارعة أجر مثل عمله. وإذا كان البذر من العامل، كان عليه لصاحب الأرض أجر مثل أرضه؛ لأن العقد في الحالتين يكون استئجاراً.
وفي الحالة الأولى يطيب الخارج كله لصاحب الأرض؛ لأنه نماء ملكه، وهو البذر في ملكه وهو الأرض. وفي الحالة الثانية: لا يطيب كل الخارج للمز ارع، وإنما يأخذ منه قدر بذره وقدر أجر مثل الأرض، ويتصدق بالفضل الزائد.
4 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة، وإن لم تخرج الأرض شيئاً، بعد أن استعملها المزارع؛ لأن المزارعة عقد إجارة، والأجرة في الإجارة الفاسدة لاتجب إلا بحقيقة الاستعمال، أما في المزارعة الصحيحة فلا يجب شيء على أحدهما إذا لم تخرج الأرض شيئاً. وقد بينت الفرق في أحكام المزارعة الصحيحة رقم (3) .
5 - يجب أجر المثل في المزارعة الفاسدة مقدراً بالمسمى عند أبي حنيفة وأبي يوسف، عملاً برضا الطرفين ورعاية للجانبين بالقدر الممكن، وقد رضي العامل سلفاً بسقوط الزيادة.
وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً مهما بلغ، إذ هو قدر قيمة المنافع المستوفاة، وقد استوفى منافعه بعقد فاسد، فيجب عليه قيمتها، إذ لا مثل لها.
__________
(1) البدائع: 182/6 وما بعدها، تكملة الفتح: 39/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 282/5، الدر المختار: 196/5، الكتاب مع اللباب: 231/2.
(2) الشرح الصغير: 498/3، المغني: 392/5.(6/479)
حكم المزارعة الفاسدة عند المالكية: إذا وقع عقد المزارعة فاسداً، وعرف فساده قبل الشروع في العمل، وجب فسخه، فإن عرف بعد الشروع فيه، فلا يفسخ، ويكون الزرع بين الشريكين بحسب ما لكل من الأرض والعمل والبذر، إلا أن ينفرد أحدهما باثنين منها، فله جميع الزرع، وللآخر أجرة ما انفرد به إن كان أرضاً أو عملاً، ومثله إن كان بذراً (1) .
المبحث الخامس ـ انتهاء المزارعة وحالات فسخها:
قد تنقضي المزارعة بتحقق المقصود منها، وقد تنتهي بإنهائها قبل تحقق المقصود منها، وذلك في الأحوال التالية عند الحنفية:
1 - انقضاء مدة المزارعة: تنتهي المزارعة بانقضاء مدة العقد، فإذا انقضت المدة، فقد انتهى العقد، وهو معنى انفساخ العقد (2) .
لكن إذا انتهت المدة، وأدرك الزرع، وقسم المتعاقدان الناتج بحسب الاتفاق أو الاشتراط بينهما، لم يحدث إشكال، وينتهي العقد حينئذ.
أما إذا انتهت المدة المقررة في العقد أو انقضت مدة المزارعة، والزرع لم يدرك بعد، استمر المزارع في عمله، حتى يدرك الزرع ويستحصد، رعاية لمصلحة الجانبين، بقدر الإمكان، كما في الإجارة.
وعلى العامل في هذه الحالة أجر مثل نصيبه من الأرض، إلى أن يستحصد الزرع، كما في الإجارة، لأنه استوفى منفعة بعض الأرض لتربية حصته فيها إلى وقت الحصاد.
وتكون نفقة الزرع ومؤنة الحفظ وكري الأنهار حينئذ، على المتعاقدين بمقدار حصصهما، لانتهاء العقد بانقضاء المدة، وكانت هذه الأمور على العامل أثناء بقاء مدة العقد، فإذا انتهى العقد، وجبت هذه النفقات عليهما؛ لأن الزرع مال مشترك بينهما.
__________
(1) شرح مجموع الأمير: 178/2، التقنين المالكي (م 464) القوانين الفقهية: ص 281.
(2) البدائع: 184/6، تكملة الفتح: 43/8، الكتاب مع اللباب: 232/2، الدر المختار ورد المحتار: 197/5.(6/480)
وهذا بخلاف ما لو مات أحد العاقدين قبل إدراك الزرع، يترك الزرع في مكانه إلى أن يدرك ويكون العمل ونفقاته على العامل؛ لأن الحنفية قرروا حينئذ بقاء عقد الإجارة استحساناً، لبقاء مدة الإجارة، فيستمر العامل أو وارثه على ما كان عليه من العمل. أما في حال انقضاء المدة فلا يمكن إبقاء العقد لانقضاء المدة.
2 - موت أحد العاقدين: تنتهى المزارعة أو تنفسخ بموت أحد العاقدين (1) ، كما تنفسخ الإجارة به، سواء حدث الموت قبل الزراعة أم بعدها، وسواء أدرك الزرع أم لم يدرك بأن كان بقلاً أي طرياً. وهذا رأي الحنفية والحنابلة، وقال المالكية والشافعية: لا تنقضي المزارعة كالإجارة بموت أحد العاقدين.
لكن لو مات رب الأرض، والزرع لم يدرك، فإن العامل أو وارثه يظل ملزماً بالعمل؛ لأن العقد يوجب على العامل عملاً يحتاج إليه الزرع إلى انتهاء أو نضوج الزرع، ويبقى العقد كما تقدم للضرورة استحساناً لانتهاء الزرع إذا مات أحد العاقدين، وقد نبت الزرع، ويبقى الزرع إلى الحصاد، ولا يلزم العامل بأجر للأرض، ثم ينتقض العقد فيما بقي من السنين في مدة العقد، لعدم الضرورة؛ لأن في بقاء العقد حتى يستحصد الزرع مراعاة لمصلحة طرفي العقد، فيعمل العامل أو ورثته على النحو المتفق عليه.
3 - فسخ العقد بالعذر:
إذا حدث فسخ العقد قبل اللزوم، انتهت المزارعة. ومن المقرر عند الحنفية: أن الملتزم بالبذر لا يلتزم بالمزارعة بمجرد العقد. وعند المالكية: لا تلزم المزارعة إلا بشروع العامل في العمل، فما لم يشرع في عمل المزارعة، له فسخ العقد.
ويجوز عند الحنفية فسخ المزارعة بعد لزومها لعذر من الأعذار، سواء من قبل صاحب الأرض، أم من قبل العامل، ومن الأعذار ما يأتي (2) :
__________
(1) البدائع: 184/6 وما بعدها، تكملة الفتح: 42/8، الكتاب: 232/2، الدر المختار ورد المحتار: 198/5، تبيين الحقائق: 282/5، المغني والشرح الكبير: 568/5، 572.
(2) البدائع: 183/6 وما بعدها، تكملة الفتح والعناية: 42/8، الدر المختار ورد المحتار: 196/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 282/5، الكتاب مع اللباب: 232/2.(6/481)
1) ـ لحوق دين فادح لصاحب الأرض، فيحتاج لبيع الأرض التي تم الاتفاق على مزارعتها، ولا مال له سواها، فيجوز بيعها بسبب هذا الدين الفادح، ويفسخ العقد بهذا العذر، كما في عقد الإجارة؛ لأنه لا يمكن المضي في العقد إلا بضرر يلحقه، فلا يلزمه تحمل الضرر، فيبيع القاضي الأرض بدين صاحبها أولاً، ثم يفسخ المزارعة. ولا تنفسخ بنفس العذر.
هذا.. إن أمكن الفسخ بأن كان قبل الزراعة، أو بعدها إذا أدرك الزرع، وبلغ مبلغ الحصاد. فإن لم يمكن الفسخ، بأن كان الزرع لم يدرك، ولم يبلغ مبلغ الحصاد، لا تباع الأرض في الدين، ولا يفسخ إلى أن يدرك الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق العامل، وفي الانتظار إلى وقت إدراك الزرع تأخير حق صاحب الدين، فيؤخر البيع، رعاية لمصلحة الجانبين، لأنه الطريق الأولى.
ثم هناك عند الحنفية ـ من أجل التعويض على العامل قضاءً ـ صور ثلاث للفسخ بعد عقد المزارعة وعمل العامل:
الأولى ـ إذا فسخ العقد، بعدما كَرَب (حرث) المزارع الأرض، وحفر الأنهار، فليس للعامل شيء مقابل عمله؛ لأن أعماله منافع لا تتقوم على صاحب الأرض إلا بالعقد، والعقد إنما قوم بالخارج الناتج، ولم يخرج، لكن يجب استرضاء العامل ديانة فيما بينه وبين الله تعالى.
الثانية ـ إذا كان الزرع قد نبت، ولم يستحصد بعد، لم تبع الأرض بالدين، حتى يحصد الزرع؛ لأن في البيع إبطال حق المزارع، وتأخير تسديد الدين أهون من الإبطال، فيؤخر كما تقدم.(6/482)
الثالثة ـ إذا أريد فسخ عقد المزارعة، بعد ما زرع العامل الأرض، إلا أنه لم ينبت الزرع، حتى لحق صاحب الأرض دين فادح، فهل له أن يبيع الأرض؟ فيه اختلاف عند مشايخ الحنفية: قال بعضهم: له البيع، لأنه ليس لصاحب البذر في الأرض عين مال قائم، لأن البذر استهلاك والمستهلك ليس بمال، فتباع الأرض في الحال. وقال بعضهم: ليس له البيع، لأن البذر استنماء مال، وليس باستهلاك، فكان للمزارع عين مال قائم، فلا تباع الأرض حتى الحصاد، كما لا تباع بعد نبات الزرع، ولعل هذا اختيار صاحب الهداية.
2) ـ طروء أعذار للمزارع، مثل المرض؛ لأنه معجز عن العمل، والسفر، لأنه يحتاج إليه، وترك حرفة إلى حرفة، طلباً للكسب الذي يوفر المعيشة، والمانع الذي يمنع من العمل كالتطوع للجهاد في سبيل الله، كما في الإجارة، والخيانة بالسرقة ونحوها.
وهل يحتاج الفسخ لقضاء القاضي، أو أنه يصح بالتراضي؟ هناك روايتان عند الحنفية: في رواية: لا بد لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا، لأن المزارعة كالإجارة، ولا بد فيها لصحة الفسخ من القضاء أو الرضا. والرواية الراجحة: يجوز فسخ المزارعة، ولو بلا قضاء ورضا.(6/483)
العقد الثاني ـ المساقاة أو المعاملة:
تعريفها ومشروعيتها وركنها، وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة، وشرائطها، وحكم المساقاة الصحيحة والفاسدة، وانتهاء المساقاة.
المبحث الأول ـ تعريف المساقاة ومشروعيتها وركنها وموردها، والفرق بينها وبين المزارعة: أولاً ـ تعريف المساقاة:
المساقاة لغة: مفاعلة من السقي. وتسمى عند أهل المدينة المعاملة: مفاعلة من العمل. ويفضل اسم المساقاة لما فيها من السقي غالباً. وشرعاً: هي معاقدة دفع الأشجار إلى من يعمل فيها على أن الثمرة بينهما. أو هي عبارة عن العقد على العمل ببعض الخارج. وبعبارة أخرى: هي دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء معلوم من ثمره. وهي عند الشافعية: أن يعامل غيره على نخل أو شجر عنب فقط، ليتعهده بالسقي والتربية على أن الثمرة لهما (1) .
ثانياً ـ مشروعيتها: المساقاة عند الحنفية كالمزارعة حكماً وخلافاً وشروطاً ممكنة فيها، فلا تجوز عند أبي حنيفة وزفر، فالمساقاة بجزء من الثمر باطلة عندهما، لأنها استئجار ببعض الخارج، وهو منهي عنه. قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت له أرض، فليزرعها، ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى» (2) .
وقال الصاحبان وجمهور العلماء (منهم مالك والشافعي وأحمد) : تجوز المساقاة بشروط، استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع» رواه الجماعة، ولحاجة الناس إليها؛ لأن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها، أو لا يتفرغ له، ومن يحسن ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج الأول للعامل، ويحتاج العامل للعمل.
والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين، لعمل النبي صلّى الله عليه وسلم وأزواجه والخلفاء
__________
(1) تبيين الحقائق: 284/5، البدائع: 185/6، الدر المختار: 200/5، اللباب: 233/2، القوانين الفقهية: ص 279، مغني المحتاج: 322/2، كشاف القناع: 523/3.
(2) متفق عليه من حديث رافع بن خديج لكنه حديث مضطرب جداً (المغني: 383/5، 385) .(6/484)
الراشدين وأهل المدينة، وإجماع الصحابة على إباحة المساقاة (1) . قال ابن جُزَي المالكي: وهي جائزة مستثناة من أصلين ممنوعين، وهما الإجارة المجهولة، وبيع ما لم يخلق (2) .
ثالثاً ـ ركنها: ركن المساقاة عند الحنفية: الإيجاب والقبول، كالمزارعة. الإيجاب من صاحب الشجر، والقبول من العامل أو المزارع. والمعقود عليه: هو عمل العامل فقط دون تردد، بخلاف المزارعة. وتلزم عند المالكية باللفظ لا بالعمل. وذكر الحنابلة أنها كالمزارعة لا تفتقر إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً، كالوكيل. وقال الشافعية: يشترط فيها القبول لفظاً دون تفصيل الأعمال، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب (3) .
وهي عند الجمهور غير الحنابلة من العقود اللازمة، فليس لأحد العاقدين فسخها بعد العقد، دون الآخر، ما لم يتراضيا عليه (4) .
رابعاً ـ موردها: مورد المساقاة عند الحنفية (5) : الشجر المثمر، فتصح المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب (الفصة أو البرسيم) وأصول الباذنجان؛ لأن الجواز للحاجة وهي تعم الجميع، وأجاز متأخرو الحنفية المعاملة على الشجر غير المثمر، كشجر الحور والصفصاف، والشجر المتخذ للحطب، لاحتياجه إلى السقي والحفظ، فلو لم يحتج لا تجوز المساقاة.
__________
(1) المغني: 384/5، تكملة الفتح: 45/8 وما بعدها، مغني المحتاج: 322/2 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 279، بداية المجتهد: 242/2.
(3) البدائع: 185/6، كشاف القناع: 528/3، بداية المجتهد: 247/1، الشرح الصغير: 712/3، مغني المحتاج: /328.
(4) الشرح الصغير: وحاشية الصاوي عليه: 713/3، تبيين الحقائق: 284/5، مغني المحتاج: 328/2، المغني: 372/5 وما بعدها.
(5) البدائع: 186/6، تكملة الفتح: 47/8، الدر المختار ورد المحتار: 200/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 284/5، اللباب: 234/2.(6/485)
ومورد المساقاة عند المالكية (1) : على الزروع كالحمص والفاصولياء، وعلى الأشجار المثمرة ذات الأصول الثابتة، مثل كرم العنب والنخيل والتفاح والرمان ونحوها بشرطين: أحدهما ـ أن تعقد المساقاة قبل بدو صلاح الثمرة، وجواز بيعها، وبشرط ألا يخلف، فإن كان يخلف كالموز والتين، فلا تصح فيه مساقاة إلا تبعاً لغيره.
الثاني ـ أن تعقد إلى أجل معلوم، ولو لسنين، وتكره فيما طال من السنين. ولا تجوز المساقاة لمدة من السنين كثيرة جداً، وهي المدة التي تتغير فيها الأصول عادة بحسب اختلاف الأشجار والأمكنة، لما في ذلك من الضرر قياساً على الإجارة، كما لا تجوز إذا اختلف الجزء المساقى به المجعول للعامل في السنين، بأن كان في سنة يخالف غيره في أخرى.
ويشترط لصحتها عند ابن القاسم أن تكون بلفظ المساقاة، ولا تنعقد بلفظ الإجارة، وتجوز عنده فيما ليس له أصل ثابت كالمقاثي من نحو قثاء وبطيخ، والزرع، بأربعة شروط: (الشرطان المذكوران) .
والثالث ـ أن تعقد بعد ظهوره من الأرض.
والرابع ـ أن يعجز عنه صاحبه.
ويشترط في الجزء المساقى به من الثمر: شيوعه في ثمر البستان، فلا يصح بشجر معين ولا بكيل، كما يشترط علمه كربع أو ثلث أو أقل أو أكثر.
والمساقاة عند الحنابلة (2) : ترد على الأشجار المثمرة المأكولة فقط، فلا تصح في الشجر غير المثمر، كالصفصاف والحور والعفص ونحوه، والورد ونحوه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 279، الشرح الصغير: 713/3-718، بداية المجتهد: 243/2-246.
(2) كشاف القناع: 523/3.(6/486)
وقال الشافعية في المذهب الجديد (1) : مورد المساقاة النخل والعنب فقط، أما النخل فلخبر الصحيحين السابق: «أنه صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر» وفي رواية: «دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» والعنب مثل النخل، لأنه في معناه، بجامع وجوب الزكاة فيهما. وجوزها الشافعي في المذهب القديم في سائر الأشجار المثمرة.
خامساً ـ الفرق بين المساقاة والمزارعة:
قال الحنفية: المساقاة كالمزارعة إلا في أربعة أمور (2) :
1 - إذا امتنع أحد العاقدين في المساقاة عن تنفيذ العقد، يجبر عليه، إذ لا ضرر عليه في بقاء العقد، بخلاف المزارعة، فإن رب البذر إذا امتنع قبل الإلقاء، لا يجبر عليه، للضرر اللاحق به في الاستمرار، ولأن المساقاة عقد لازم عند الجمهور غير الحنابلة. وأما المزارعة فلا تلزم المتعاقدين إلا بإلقاء البذر. وقال الحنابلة (3) : الوكالة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والوديعة والجعالة: عقود جائزة من الطرفين، لكل فسخها.
2 - إذا انقضت مدة المساقاة تترك، أي يستمر العقد بلا أجر، ويعمل العامل بلا أجر عليه لصاحب الشجر، فللعامل البقاء في عمله إلى انتهاء الثمرة، لكن بلا أجر عليه؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره عند الحنفية، ولأن العمل كله على العامل. أما في المزارعة فيستمر العامل بأجر مثل نصيبه من الأرض؛ لأن الأرض يجوز استئجارها، والعمل عليها، بحسب الملك في الزرع، فيكون العمل على العامل وعلى صاحب الأرض، وإذا وجب الأجر لرب الأرض على العامل، لم يجب على العامل العمل في نصيب صاحب الأرض بعد انتهاء المدة.
__________
(1) مغني المحتاج: 323/2، المهذب: 390/1.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 201/5، تبيين الحقائق: 284/5.
(3) غاية المنتهى لابن يوسف الحنبلي: 154/3، كشاف القناع: 528/3 وما بعدها، المغني: 372/5 وما بعدها.(6/487)
3 - إذا استحق النخيل المثمر لغير رب الأرض، يرجع العامل بأجر مثله؛ لأن أجرته صارت عيناً أي تمثلت بجزء من الشجر، ومتى صارت عيناً واستحقت، رجع بقيمة المنافع. ولا يرجع بشيء إذا لم تخرج النخيل ثمراً. أما في المزارعة: لو استحقت الأرض بعد الزراعة، فيرجع العامل بقيمة حصته من الزرع نابتاً، ولو استحقت الأرض بعد العمل قبل الزراعة لا شيء للمزارع.
4 - ليس بيان المدة في المساقاة بشرط استحساناً، اكتفاء بعلم وقتها عادة؛ لأن لإدراك الثمرة وقتاً معلوماً قلما يتفاوت، بخلاف الزرع، قد يتقدم الحصاد، وقد يتأخر بحسب التبكير أو التأخر في إلقاء البذر.
أما في المزارعة فيشترط تعيين المدة في أصل المذهب، لكن المفتى به ـ كما تقدم ـ أنه لا يشترط.
وتعتبر المساقاة والمزارعة عند الحنفية والشافعية إجارة ابتداء، شركة انتهاء. وألحق الحنابلة المساقاة بالمضاربة (1) .
المبحث الثاني ـ شروط المساقاة:
يشترط في المساقاة ما يمكن من شروط المزارعة، فلا يشترط في المساقاة بيان جنس البذر، وبيان صاحبه، وصلاحية الأرض للزراعة، وبيان المدة.
وبقي من شروط المزارعة الثمانية الممكنة في المساقاة: أهلية العاقدين، وبيان حصة العامل، والتخلية بينه وبين الأشجار، والشركة في الخارج الناتج، ويدخل في الأخير: كون الجزء المشروط للعامل جزءاً مشاعاً (2) .
ويمكن توضيح شروط المساقاة فيما يأتي (3) :
1 - أهلية العاقدين: بأن يكونا عاقلين، فلا يجوز عقد من لا يعقل، وهو غير المميز. أما البلوغ فليس بشرط عند الحنفية، وشرط عند بقية الأئمة.
2 - محل العقد: أن يكون من الشجر الذي فيه ثمرة. وقد بينت في بحث مورد المساقاة الخلاف فيه. وأن يكون محل العمل وهو الشجر معلوماً.
3 - التسليم إلى العامل: وهو التخلية بين العامل وبين الشجر المعقود عليه. فلو شرط العمل على العاقدين، فسدت المساقاة، لعدم التخلية.
__________
(1) كشاف القناع: 529/3.
(2) رد المحتار: 201/5.
(3) البدائع: 185/6 ومابعدها، تكملة الفتح: 47/8، تبيين الحقائق: 284/5.(6/488)
4 - أن يكون الناتج شركة بين الاثنين، وأن تكون حصة كل واحد منهما جزءاً مشاعاً معلوم القدر، فلو شرط أن يكون الناتج لأحدهما فسدت المساقاة، ولو شرط جزء معين لأحدهما، أو جهل مقدار الحصص فسدت المساقاة أيضاً.
ولا يشترط عند الحنفية بيان مدة المساقاة استحساناً، عملاً بالمتعارف المتعامل به، وتقع المساقاة على أول ثمر يخرج في أول السنة. وفي الرِّطاب (الفصة أو البرسيم) عند الحنفية تقع المساقاة على الجزة الأولى، كما في الشجرة المثمرة، فإن لم يخرج في تلك السنة ثمرة، فسدت المساقاة.
ولو ذكرت مدة لا تخرج الثمرة فيها عادة، فسدت المساقاة أيضاً، لفوات
المقصود منها وهو الشركة في الثمار، أما إن كان العقد صحيحاً، ولم تثمر الشجرة أصلاً في المدة المتفق عليها، فلا شيء لأحد العاقدين على صاحبه، ويبقى العقد صحيحاً.
ولو ذكرت مدة يحتمل فيها بلوغ الثمرة وعدمه، صح العقد، لعدم التيقن بفوات المقصود. فلو ظهرت الثمرة في الوقت المتفق عليه، قسمت بحسب الشرط المتفق عليه في العقد، وإن لم تظهر في الوقت المسمى، فسدت المساقاة، وللعامل أجر المثل لفساد العقد؛ لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة.
أما شروط المساقاة عند المالكية فقد ذكرت في بحث مورد المساقاة المتقدم، والمفهوم منها أنه يشترط عندهم كون المساقاة لمدة معلومة كالإجارة.
أركان المساقاة عند الجمهور:
ذكر الشافعية ومثلهم الحنابلة والمالكية للمساقاة أركاناً خمسة: وهي العاقدان ومورد العمل، والثمار، والعمل، والصيغة (1) .
__________
(1) مغني المحتاج: 323/2-328، المهذب: 390/1-392، كشاف القناع: 523/3-529، غاية المنتهى: 183/2-185، المغني: 368/5، 372 ومابعدها، 375، 380.(6/489)
أما الركن الأول (العاقدان) : فيصح من جائز التصرف لنفسه (عاقل بالغ) ؛ لأن المساقاة عقد معاوضة أو معاملة على مال، كالمضاربة، فيطلب فيها الأهلية كالبيع. ويمارس الولي عن الصبي والمجنون والسفيه هذا العقد، بالولاية عليهم، عند المصلحة، للاحتياج إليه.
والركن الثاني ـ مورد المساقاة: أي ما ترد صيغة عقد المساقاة عليه. هو عند الشافعية: النخل والعنب، وعند الحنابلة: ما له ثمر مأكول من الشجر، المغروس
المعلوم بالمشاهدة لمن يعمل عليه، ويقوم بمصلحته بجزء مشاع معلوم من ثمرته، كما تبين في بحث موردها. ولا تجوز المساقاة إلا على شجر معلوم، فإن كان مجهولاً، لم يصح العقد.
والركن الثالث ـ وهو الثمار: يشترط فيه تخصيص الثمر بالعاقدين (المالك والعامل) ، فلا يجوز شرط بعضه لغيرهما. ويشترط اشتراكهما فيه، فلا يجوز شرط كل الثمرة لأحدهما، ويشترط العلم بالنصيبين (الحصص) بالجزئية، وإن قل، أي كون الحصة مشاعة كالمضاربة.
والأظهر عند الشافعية، وهو مذهب الحنابلة: صحة المساقاة بعد ظهور الثمر، لكن قبل بدو الصلاح، فإن ساقاه على صغار النخل مثلاً ليغرسها، ويكون الشجر لهما، لم يجز، إذ لم ترد المساقاة إلا على أصل ثابت، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة.
فلو كان الشجر مغروساً، وشرط المالك للعامل جزءاً من الثمر على العمل، فإن قدر له مدة يثمر فيها غالباً كخمس سنين، صح العقد، ولايضر كون أكثر المدة لا ثمر فيها، كما لو ساقاه خمس سنين، والثمرة يغلب وجودها في الخامسة خاصة. فإن لم يثمر الشجر في تلك المدة، لم يستحق العامل شيئاً، كما لو ساقاه على أشجار النخيل المثمرة، فلم تثمر.(6/490)
وإن قدر مدة لا يثمر فيه الشجر غالباً لم تصح المساقاة لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجر لا يثمر. وهذا باتفاق المذاهب.
والركن الرابع ـ العمل: يشترط فيه أن ينفرد العامل بالعمل، وباليد أي التخلية والتسليم للعامل، ليتمكن العامل من العمل متى شاء، فلو شرط عمل المالك مع العامل، أو كون البستان في يد المالك أو في يدهما معاً، لم يصح العقد، وفسدت المساقاة. ويشترط ألا يشرط على العامل ما ليس من جنس أعمال المساقاة التي اعتادها الناس، كحفر بئر مثلاً، فإن شرطه، لم يصح العقد؛ لأنه استئجار بعوض مجهول، واشتراط عقد في عقد.
ويشترط أيضاً عند الشافعية معرفة العمل بتقدير المدة كسنة أو أكثر، وأقلها مدة تبقى فيها الأشجار غالباً للاستغلال، فلا تصح على مدة مطلقة ولا مؤبدة ولا مدة لا يثمر فيها الشجر غالباً؛ لأن المساقاة عند الشافعية عقد لازم، فيطلب فيها تحديد المدة كالإجارة. فإن كانت المدة لا يثمر فيها الشجر غالباً لم تصح لخلوها عن العوض، كالمساقاة على شجرة لا تثمر. ولا يجوز في الأصح التوقيت بإدراك الثمر، لجهالته بالتقدم تارة، والتأخر أخرى.
ولا يطلب عند الحنابلة تحديد مدة في المساقاة والمزارعة، لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يحدد لأهل خيبر مدة، ومشى خلفاؤه على منهجه من بعده، ولأن المساقاة ومثلها المزارعة عندهم عقد جائز غير لازم كما تقدم، فلكل واحد من العاقدين فسخها متى شاء. واختار ابن قدامة الحنبلي أن المساقاة عقد لازم، فوجب تقديره بمدة كالإجارة. ولا يقدر أكثر المدة، بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها، وإن طالت، وأقل المدة: ما تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها؛ لأن المقصود الاشتراك في الثمرة، ولا توجد في أقل من هذه المدة.(6/491)
والركن الخامس ـ الصيغة: مثل ساقيتك على هذا النخل بثلث أو ربع ثمره، أو سلمته إليك لتتعهده، أو اعمل في نخيلي أو تعهد نخيلي بكذا من ثمره. ولو ساقاه عند الشافعية بلفظ الإجارة لم يصح في الأصح؛ لأن لفظ الإجارة صريح في عقد آخر. وتصح عند الحنابلة بلفظ المساقاة والمعاملة والمفالحة، وبلفظ الإجارة، كما تصح المزارعة بلفظ الإجارة، أي بإجارة أرض بجزء شائع معلوم، مما يخرج منها، لأن القصد المعنى، فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه، صح العقد، كالبيع. وتصح أيضاً بالمعاطاة.
ويشترط عند الشافعية القبول لفظاً من الناطق، للزومها كإجارة وغيرها، وتصح بإشارة الأخرس المفهمة، ككتابته، دون تفصيل الأعمال فيها، فلا يشترط التعرض له في العقد، ويحمل المطلق في كل ناحية على العرف الغالب فيها في العمل، إذ المرجع في مثله إلى العرف.
وقال الحنابلة: لا تفتقر المساقاة (ومثلها المزارعة) إلى القبول لفظاً، بل يكفي الشروع في العمل قبولاً كالوكالة، كما تقدم في بحث صيغة المزارعة.
المبحث الثالث ـ حكم المساقاة الصحيحة والفاسدة: إذا استكملت المساقاة شرائطها، كانت صحيحة، وإذا اختل شرط منها كانت فاسدة.
المطلب الأول ـ حكم المساقاة الصحيحة:
للمساقاة الصحيحة عند الفقهاء أحكام، وأحكامها عند الحنفية ما يأتي (1) :
1 - كل ما كان من أعمال المساقاة التي يحتاج إليها الشجر وحقل العنب والرِّطاب وأصول الباذنجان، من السقي وإصلاح النهر، والحفظ والتلقيح، فعلى العامل، لأنها من توابع المعقود عليه.
وكل ما يحتاجه الشجر ونحوه من النفقة كالسرقين وتقليب الأرض، والجذاذ والقطاف، فعلى العاقدين على قدر نصيبهما، لأن العقد لم يشمله.
2 - أن يكون الخارج بين الطرفين على الشرط المتفق عليه.
3 - إذا لم يخرج الشجر شيئاً، فلا شيء لواحد منهما على الآخر.
__________
(1) البدائع: 187/6.(6/492)
4 - العقد لازم للجانبين، فلا يملك أحدهما الامتناع عن التنفيذ، أو الفسخ من غير رضا صاحبه، إلا لعذر، بخلاف المزارعة، فإنها غير لازمة في جانب صاحب البذر عند الحنفية.
5 - لصاحب الأرض إجبار العامل على العمل إلا لعذر.
6 - تجوز الزيادة على الشرط والحط منه، على وفق القاعدة المقررة في المزارعة وهي: كل موضع احتمل إنشاء العقد، احتمل الزيادة، وإلا فلا، والحط جائز في الموضعين. فما لم يتناه عظم الثمرة في النخيل مثلاً، تجوز الزيادة من كلا الطرفين، لأن إنشاء العقد في هذه الحالة جائز. ولو تناهى عظم الثمرة، جازت الزيادة من العامل لصاحب الأرض، ولا تجوز الزيادة من صاحب الأرض للعامل؛ لأن زيادة العامل حط من الأجرة، ولا يشترط فيه احتمال إنشاء العقد، وأما زيادة صاحب الأرض فهي زيادة في الأجرة، والمحل لا يحتمل الزيادة.
7 - لا يملك العامل مساقاة غيره، إلا إذا فوض له صاحب الأرض فقال له: (اعمل فيه برأيك) . فلو خالف العامل، فعامل غيره على الشجر، كانت الثمرة لصاحب الشجر، ولا أجر للعامل الأول، وللعامل الثاني أجر مثل عمله على العامل الأول.
وأحكام المساقاة الصحيحة عند المالكية: تتفق في الغالب مع مذهب الحنفية، فقالوا (1) : العمل في الحائط (بستان الشجر) ثلاثة أقسام:
أحدها ـ ما لا يتعلق بالثمرة: فلا يلزم العامل به بالعقد، ولا يجوز أن يشترط عليه.
الثاني ـ ما يتعلق بالثمرة، ويبقى بعدها: كحفر بئر أو عين أو ساقية، أو بناء بيت لتخزين الثمر، أوغرس شجر، فلا يلزم العامل به أيضاً، ولا يجوز أن يشترط عليه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 279، الشرح الصغير: 717/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 244/2 وما بعدها.(6/493)
الثالث ـ ما يتعلق بالثمرة، ولا يبقى: فهو على العامل بالعقد، كالتقليم والجذاذ والسقي، وعليه أيضاً جميع المؤن من الآلات والأجراء والدواب ونفقتهم من كل ما يلزم الشجر عرفاً، وليس على العامل تحصين الجدران، وإصلاح مجاري المياه إلى الأرض، ويجوز اشتراطها عليه، لأن المذكور يسير.
وأما حق العامل: فله جزء من الثمرة كالثلث أو النصف أو غيرهما حسبما يتفقان عليه. ويجوز أن تكون له كلها، وإذا لم يثمر الشجر، فلا شيء لأحد العاقدين على الآخر، لأن انعدام الثمر بسبب آفة سماوية، لا بسبب فساد العقد.
ولا يجوز أن يشترط أحدهما لنفسه منفعة زائدة كدنانير أو دراهم.
ويتفق الشافعية والحنابلة مع المالكية في تحديد الملزم بالعمل، وحق العامل، فقالوا في العمل: كل مايتكرر كل عام فهو على العامل، وما لا يتكرر فهو على رب المال (1) .
فعلى العامل ما يحتاج إليه لصلاح الثمر، واستزادته، مما يتكرر كل سنة في العمل، ولا يقصد به حفظ الأصل، كسقي، وتنقية نهر وبئر، أي مجرى الماء من
__________
(1) مغني المحتاج: 328/2 وما بعدها، المهذب: 392/1، المغني: 369/5 وما بعدها، كشاف القناع: 528/3 وما بعدها، 531.(6/494)
الطين ونحوه، وإصلاح حُفر الأشجار التي يجتمع فيها الماء للشرب، وتلقيح النخل (1) وإزالة الحشائش والقضبان والأعشاب الضارة وتعريش الدوالي (2) ، وحفظ الثمر وجذاذه (أي قطعه) ، وتجفيفه في الأصح عند الشافعية، لأنه من مصالحه.
وأما ما قصد به حفظ الأصل (أصل الثمر: وهو الشجر) ، ولا يتكرر كل سنة، كبناء حيطان البستان، وحفر نهر جديد له، وإصلاح ما انهار من النهر، وإصلاح الدولاب والأبواب فعلى المالك، عملاً بالعرف، وعليه أيضاً خراج الأرض الخراجية.
وبه يتبين أن الجذاذ (القطاف) على العامل عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعلى المالك والعامل بقدر نصيبهما عند الحنفية.
والمساقاة عقد لازم من الجانبين، كالإجارة عند الشافعية والحنفية، والمالكية (أي الجمهور) وغير لازمة عند الحنابلة (3) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة خيبر ـ فيما رواه مسلم عن ابن عباس - قال: «نقركم على ذلك ما شئنا» . أما المزارعة فهي غير لازمة عند الحنفية والحنابلة، وتلزم بالبذر عند المالكية.
وبناء على كونها لازمة، والمزارعة تبعاً لها عند الشافعية: لو هرب العامل قبل الفراغ من العمل، وأتمه المالك متبرعاً بالعمل، بقي استحقاق العامل، كتبرع الأجنبي بأداء الدين. ولو لم يتبرع المالك بالعمل استأجر الحاكم بعد رفع الأمر إليه، على العامل، من يتم العمل من مال العامل. فإن لم يقدر المالك على مراجعة الحاكم لبعد مسافة، أو لعدم تلبية طلب المالك، فليشهد المالك على العمل بنفسه، أو الإنفاق إن أراد الرجوع بما يعمله أو ينفقه؛ لأن الإشهاد حال العذر كالحكم ويصرح في الإشهاد بضرورة الرجوع.
وقال الحنابلة: إن هرب العامل، فلرب المال الفسخ؛ لأن المساقاة عقد جائز غير لازم.
صفة يد العامل: يد العامل في المساقاة والمزارعة والمغارسة يد أمانة، فإذا ادعى هلاك شيء من الثمر أو الزرع أو الشجر، بغير تقصير ولا تعد، كان القول قوله، فيصدق بيمينه، كذلك يصدق بيمينه إن اتهمه المالك بخيانة وأنكر هو؛ لأنه أمين، والقول قول الأمين بيمينه.
__________
(1) وهو وضع شيء من طلع الذكور في طلع الإناث.
(2) وهو أن ينصب أعواداً لكروم العنب ويظللها ويرفع العنب عليها.
(3) الشرح الصغير: 713/3، المغني: 372/5، 376، كشاف القناع: 528/3، بداية المجتهد: 247/2.(6/495)
المطلب الثاني ـ حكم المساقاة الفاسدة:
تفسد المساقاة باختلال شرط من شرائطها المطلوبة شرعاً، فإذا لم يتوافر شرط صحة مثلاً فسد العقد. وأهم حالات الفساد عند الحنفية (1) ما يأتي:
1 - اشتراط كون الناتج (الخارج) كله لأحد العاقدين، لعدم توافر معنى الشركة به.
2 - شرط كون جزء معين من الثمرة لأحد العاقدين، كنصف قنطار عنب أو تمر، أو شرط جزء محدد من غير الثمرة، كمبلغ نقدي؛ لأن المساقاة شركة في الثمرة فقط.
3 - شرط مشاركة المالك في العمل، إذ لا بد من التخلية بين العامل والعمل في الشجر، ومهمة العامل الأصلية في هذا العقد هي العمل.
4 - اشتراط الجذاذ أو القطاف على العامل؛ لأنه ليس من المساقاة في شيء عندهم، ولعدم التعامل به بين الناس؛ لأن الأصل: كل ما كان من عمل قبل الإدراك كسقي وتلقيح وحفظ فعلى العامل، وما بعده كجذاذ وحفظ، فعلى العاقدين.
5 - شرط كون الحمل والحفظ بعد القسمة على العامل؛ لأنه ليس من أعمال المساقاة.
6 - اشتراط عمل تبقى منفعته على العامل بعد انقضاء مدة المساقاة، كغرس الأشجار، وتقليب الأرض، ونصب العرايش، ونحوه؛ لأنه لا يقتضيه العقد، ولا من أعمال المساقاة.
7 - الاتفاق على مدة لا يحصل فيها الإثمار عادة، لإضرار العامل، ولفوات المقصود وهو الشركة في الخارج. كما أن المساقاة تفسد، إذا كانت الثمرة قد انتهت ونضجت؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد الإدراك والتناهي.
8 - المساقاة مع الشريك، كأن يكون بستان مشترك بين اثنين مناصفة، فيدفعه أحدهما للآخر مساقاة، على أن له الثلثين، وللشريك المساقي الثلث؛ لأن في المساقاة معنى الإجارة، ولا يجوز كون الشخص أجيراً وشريكاً، أي مستأجراً من شريكه، وشريك المستأجر؛ لأن استئجار الشريك على العمل في المشترك لا يصح، إذ يجب أن يكون عمل الأجير في خالص ملك المستأجر.
__________
(1) البدائع: 186/6، تكملة الفتح: 47/8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 285/5، الدر المختار ورد المحتار: 202/5، 205، اللباب شرح الكتاب: 234/2.(6/496)
فإذا عمل لا يستحق الأجر على شريكه، ويقع عمل العامل لنفسه. وهذا، أي الحكم بالفساد اختاره الحنابلة من بين وجهين، إذا لم يجعل للعامل شيء في مقابل العمل. وأجاز الشافعية العقد إذا شرط للعامل زيادة على حصته، أي أن الشافعية والحنابلة يجيزون هذه الصورة، وهي حالة الاتفاق على زيادة حصة العامل مقابل عمله (1) ، كأن يكون الشجر بينهما نصفين، فيشترط له ثلثا الثمرة، ليكون السدس عوض عمله، فإن شرط له مقدار نصيبه أو دونه، لم يصح، لاستحقاقه نصيبه بالملك. ويكون الاتفاق بأن يقول الشريك لشريكه: ساقيتك على نصيبي، أو أطلق. فإذا قال: ساقيتك على كل الشجر، لم يصح.
ويترتب على فساد المساقاة عند الحنفية الأحكام التالية (2) :
1 - لا يجبر العامل على العمل؛ لأن الجبر على العمل بحكم العقد، وهو لم يصح.
2 - الخارج كله لصاحب الشجر، لكونه نماء ملكه، وأما العامل فلا يأخذ منه شيئاً؛ لأن استحقاقه بالشرط في العقد، ولم يصح.
3 - وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثله، كالإجارة الفاسدة.
4 - يجب أجر المثل عند أبي يوسف في حال الفساد مقدراً بالمسمى، لايتجاوز عنه. وعند محمد: يجب أجر المثل تاماً بالغاً ما بلغ.
أثر فساد العقد في المذاهب الأخرى: قال المالكية (3) : إذا وقعت المساقاة فاسدة، فإن عثر عليها قبل العمل، فسخت. وإن عثر عليها بعد العمل، فسخت في أثنائه، ووجب فيها أجرة المثل إن خرج المتعاقدان عن المساقاة إلى إجارة فاسدة
__________
(1) مغني المحتاج: 327/2، المحلي على المنهاج: 63/3، الشرح الكبير مع المغني: 580/5، كشاف القناع: 533/3.
(2) البدائع: 188/6.
(3) القوانين الفقهية: ص 280، الشرح الصغير: 722/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 248/2.(6/497)
أو بيع فاسد؛ لأن للعامل فيها أجر ما عمل، قلّ أو كثر، فلا ضرر عليه في الفسخ. ومثال التحول إلى الإجارة الفاسدة: اشتراط زيادة شيء معين أو عرض تجاري من صاحب البستان للعامل؛ لأنه يصبح المالك كأنه استأجر العامل على أن يعمل له في بستان بهذه الزيادة وبجزء من ثمرة البستان، وهي إجارة فاسدة توجب الرد لأجرة مثل أجر العامل ويحسب منها تلك الزيادة، ولا شيء للعامل من الثمرة، ولو بعد تمام العمل. فإن كانت الزيادة من العامل للمالك، فقد خرج العاقدان إلى بيع فاسد: هو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذ كأن العامل اشترى الجزء المسمى بما دفعه للمالك من الزيادة، وبأجرة عمله، فوجب له أجرة مثله، وأخذ ما دفعه، ولا شيء له من الثمرة.
وإن لم يخرج المتعاقدان عن المساقاة لعقد آخر، بأن كان الفساد لضرر، أو لفقد شرط غير الزيادة المتقدمة، أو لوجود مانع، أو بسبب الغرر كالمساقاة على حوائط (بساتين) مختلفة، استمرت المساقاة بمساقاة المثل، كالمساقاة على ثمر بدا صلاحه وآخر لم يبد صلاحه، لاحتواء العقد على بيع ثمر مجهول (وهو الجزء المسمى للعامل) بشيء مجهول (وهو العمل) ، وكاشتراط عمل المالك مع العامل بجزء من الثمرة أو مجاناً، وكاشتراط آلة أو دابة للمالك في بستان صغير، لأنه ربما كفاه ذلك، فيصير كأن العامل اشترط جميع العمل على المالك. ويجوز اشتراط الدابة على المالك في بستان كبير. وهذا التفصيل لابن القاسم. وقال ابن الماجشون: ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : إذا خرج الثمر بعد العمل مستحقاً لغير المساقي المالك، كأن أوصى بثمر الشجر المساقى عليه، أو خرج الشجر مستحقاً، فللعامل
__________
(1) مغني المحتاج: 326/2-327، 331، المهذب: 393/1، المغني: 381/5، 392، كشاف القناع: 532/3، 502.(6/498)
على من ساقاه أجرة المثل لعمله، لأنه ضيّع عليه منافعه بعوض فاسد، فيرجع ببدلها على المالك، وإذا فسدت المساقاة، فللعامل أجرة مثله مقابل عمله، والثمر كله لصاحب الشجر، لأنه نماء ملكه. وتفسد المساقاة بجهالة نصيب كل واحد من العاقدين، أو اشتراط نصيب مجهول، أو دراهم معلومة، أو كمية معينة من الثمرة، أو شرط اشتراك المالك في العمل، أو عمل العامل في شيء آخر غير الشجر الذي ساقاه عليه.
والخلاصة: أنه يجب باتفاق الفقهاء فسخ المساقاة الفاسدة إذا عرف الفساد قبل العمل. فإن شرع العامل بالعمل ثم اطلع على الفساد، يجب له عند الجمهور أجر المثل. كما يجب له الأجر عند المالكية إذا خرج المتعاقدان إلى عقد آخر، وإن لم يخرجا لعقد آخر، استمرت المساقاة بمساقاة المثل.
المبحث الرابع ـ انتهاء المساقاة:
تنقضي المساقاة عند الحنفية كالمزارعة بأحد أمور ثلاثة: انتهاء المدة المتفق عليها، موت أحد المتعاقدين، فسخ العقد إما بالإقالة صراحة أو بالأعذار، كما تفسخ الإجارة (1) .
ومن الأعذار: أن يكون العامل سارقاً معروفاً بالسرقة يخاف منه سرقة الثمر أو الأغصان قبل الإدراك؛ لأنه يلزم صاحب الأرض ضرر لم يلتزمه، فيفسخ به.
ومن الأعذار أيضاً: مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل؛ لأن في إلزامه استئجار أجراء، زيادة ضرر عليه، ولم يلتزمه فيجعل عذراً. وفي اعتبار سفر العامل عذراً للفسخ روايتان، الصحيح أنه يوفق بينهما، كما في مرض العامل، فهو عذر إذا شرط عليه عمل نفسه، وغير عذر إذا أطلق العقد عن الشرط.
__________
(1) البدائع: 188/6، تكملة الفتح: 48/8، تبيين الحقائق: 268/5، الدر المختار: 204/5، اللباب: 234/2.(6/499)
وإذا مات العامل، كان لورثته تعهد الثمر حتى يدرك، وإن كره صاحب الشجر رعاية لمصلحة الجانبين. وإن مات المالك استمر العامل بعمله كما كان، وإن كره ورثة المالك. وإن مات العاقدان، كان الخيار في الاستمرار لورثة العامل، فإن أبى ورثة العامل الاستمرار في العمل، كان الخيار فيه لورثة صاحب الأرض.
وإذا انقضت مدة المساقاة ولم ينضج الثمر، بأن كان فجاً، بقيت المساقاة استحساناً لوقت النضوج، ويخير العامل، إن شاء ترك وإن شاء عمل كما في المزارعة، ولكن بدون أجر، أي لا يجب على العامل أن يدفع للمالك أجر حصته إلى أن يدرك الثمر؛ لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة، حيث يجب على العامل أجر مثل الأرض؛ لأن الأرض يجوز استئجارها. ويكون العمل كله في المساقاة على العامل، وفي المزارعة على العاقدين، لأنه لما وجب أجر المثل للأرض في المزارعة بعد انتهاء المدة، لم يستحق العمل على العامل، كما كان يستحق عليه قبل انتهائها.
وإن أبى العامل العمل، خير المالك أو ورثته بين أمور ثلاثة: إما أن يقتسم الثمر على حسب الشرط، وإما أن يعطي العامل قيمة نصيبه من الثمر، وإما أن ينفق على الثمر حتى يبلغ أو ينضج، ثم يرجع بالنفقة بقدر حصة العامل من الثمر؛ لأنه ليس للعامل إلحاق الضرر بغيره.(6/500)
لكن قال الزيلعي: الرجوع على العامل بالنفقة بنسبة حصته فقط: فيه إشكال، وكان ينبغي أن يرجع عليه بجميع النفقة؛ لأن العامل إنما يستحق بالعمل، وكان العمل كله عليه، فلو رجع عليه بحصته فقط، أدى الرجوع إلى استحقاق العامل بلا عمل في بعض المدة. وقال المالكية (1) : المساقاة عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعلى المالك العمل إن أبى ورثة العامل من العمل من تركته. ولا تنفسخ المساقاة إذا كان العامل لصاً أو ظالماً أو عجز عن العمل، وعلى العامل استئجار من يعمل، أو يستأجر من حظه من الثمر إن لم يكن له شيء؛ لأن المساقاة عندهم عقد لازم، لا يفسخ بالأعذار، فليس لعاقد فسخها بعد العقد، دون الآخر ما لم يتراضيا عليه.
وقال الشافعية (2) : لاتنفسخ المساقاة بالأعذار، فلو ثبتت خيانة عامل مثلاً، ضم إليه مشرف إلى أن يتم العمل؛ لأن العمل واجب عليه. فإن لم يتحفظ عن الخيانة بالمشرف، أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من مال العامل من يتم العمل، لتعذر استيفاء العمل الواجب عليه منه.
وتنتهي المساقاة عند الشافعية بانقضاء المدة، فإذا انقضت المدة كعشر سنين مثلاً، ثم ظهرت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق؛ لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد.
وإذا ظهرت الثمرة، ولم تكتمل، قبل انقضاء المدة كأن صارت طَلْعاً (3) أو بلحاً، تعلق بها حق العامل؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة، ويجب على العامل تمام العمل.
وتنفسخ المساقاة بموت العامل إذا كانت على عين (ذات) العامل كالأجير المعين، ولا تنفسخ بموت المالك في أثناء المدة، بل يتم العامل العمل ويأخذ نصيبه،
__________
(1) بداية المجتهد: 247/2، الشرح الصغير: 713/3.
(2) مغني المحتاج: 331/2، المهذب: 391/1 وما بعدها.
(3) هو بدء الحمل بأن يظهر الحمل في النخيل بين غلافين.(6/501)
لكن إذا ساقى المورث من يرثه ثم مات المورث، فإن المساقاة تنفسخ؛ لأنه أي الوارث لا يكون عاملاً لنفسه.
وإذا التزم العامل المساقاة في ذمته، ثم مات قبل تمام العمل، وخلّف تركة، أتم الوارث العمل منها، لأنه حق وجب على مورثه، فيؤدَّى من تركته كغيره من الحقوق. وللوارث أن يتم العمل بنفسه أو بماله، وعلى المالك تمكينه من العمل إن كان الوارث عارفاً بعمل المساقاة أميناً، وإلا استأجر الحاكم من التركة عاملاً كفئاً. فإن لم يخلف العامل تركة، لم يقترض عليه؛ لأن ذمته خربت بالموت.
وبه يتبين أن المساقاة في الذمة لا تنتهي عند الشافعية بموت أحد العاقدين، فإذا مات المالك أو العامل، استمر العامل بعمله. ولا تنتهي المساقاة بخيانة العامل ولا بهربه أو حبسه أو مرضه قبل تمام العمل، لكن في حال الخيانة يضم إليه مشرف آخر يراقبه، وفي حال الحبس ونحوه يستأجر عليه الحاكم من يتم العمل على حسابه. وإذا اختلف المالك والعامل في مقدار الثمرة المشروطة لكل منهما، حلف كل منهما يميناً على إثبا ت دعواه ونفي دعوى خصمه، لأن كلاً منهما منكر لدعوى الآخر، فإذا تحالفا انفسخ عقد المساقاة، وكان الثمر كله للمالك، وللعامل أجرة مثله.
وقال الحنابلة (1) : المساقاة كالمزارعة عقد جائز غير لازم، فيجوز لكل طرف فيها فسخها. فإن فسخت المساقاة بعد ظهور الثمرة، كانت الثمرة بينهما (أي بين المالك والعامل) على حسب الشرط المتفق عليه في العقد. لأنها (أي الثمرة) حدثت على ملكهما.
ويملك العامل كالمالك حصته من الثمرة بالظهور. ويلزم العامل تمام العمل في المساقاة، كما يلزم المضارب بيع العروض التجارية إذا فسخت المضاربة. وهذا موافق لما قال الشافعية.
__________
(1) المغني: 372/5-377، كشاف القناع: 528/3-530.(6/502)
ولا تنفسخ المساقاة بموت العامل، فإن مات العامل قام وارثه مقامه في الملك والعمل؛ لأنه حق ثبت للمورث وعليه، فكان لوارثه.
فإن أبى الوارث أن يأخذ ويعمل، لم يجبر، ويستأجر الحاكم من التركة من يعمل، فإن لم تكن له تركة، أو تعذر الاستئجار منها، بيع من نصيب العامل مايحتاج إليه لتكميل العمل واستؤجر من يعمله.
وإن فسخ العامل، أو هرب قبل ظهور الثمرة، فلا شيء له، لأنه قد رضي بإسقاط حقه، مثل عامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح، وعامل الجعالة إذا فسخ قبل تمام عمله.
لكن إن فسخ المالك المساقاة قبل ظهور الثمرة وبعد شروع العامل في العمل، فعليه للعامل أجر مثل عمله، بخلاف المضاربة؛ لأن الربح في المضاربة لا يتولد من المال بنفسه وإنما يتولد من العمل، ولم يحصل بعمله ربح، والثمر في المساقاة متولد من عين الشجرة، وقد عمل العامل على الشجر عملاً مؤثراً في الثمر فكان لعمله تأثير في حصول الثمر وظهوره بعد الفسخ.
وإن مات العامل والمساقاة على عينه (ذاته) ، أو جنّ، أو حجر عليه لسفه انفسخت المساقاة، كما قال الشافعية.
أما لو مات المالك أو جنّ، أو حجر عليه لسفه، فتفسخ المساقاة، خلافاً للشافعية. وفي حالة العذر عند الحنابلة مع عدم الفسخ: إن عجز العامل عن العمل لضعفه مع أمانته، ضم إليه غيره، ولا ينزع من يده، كما قرر الشافعية؛ لأن العمل مستحق عليه، ولا ضرر في بقاء يده عليه، وإن عجز بالكلية، أقام المالك مقامه من يعمل، والأجرة عليه في الحالتين لأن عليه توفية العمل.
وتنتهي المساقاة بمضي المدة المتفق عليها إن قدرت مدة عند الحنابلة أي كما قرر باقي المذاهب، لكن إن ساقى المالك إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً، فلم تحمل الثمرة تلك السنة، فلا شيء للعامل، كالمضاربة.(6/503)
العقد الثالث ـ المغارسة أو المناصبة:
تعريفها، وحكمها عند الفقهاء:
أولا ـ تعريف المغارسة: هي أن يدفع الرجل أرضه لمن يغرس فيها شجراً (1) وعرفها الشافعية: بأن يسلم إليه أرضاً ليغرسها من عنده، والشجر بينهما (2) . وتسمى عند أهل الشام المناصبة، أو المشاطرة؛ لأن الشجيرة الغرسة تسمى عند العامة نصباً، أي منصوباً، ولأن الناتج يقسم بينهما مناصفة لكل واحد منهما الشطر.
ثانياً ـ حكم المغارسة عند الفقهاء:
المغارسة المختلف فيها بين الفقهاء، هي التي يقسم فيها الشجر والأرض نصفين بين المالك والعامل، فمنعها الجمهور وأجازها المالكية بشروط. فإن كان
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 281.
(2) مغني المحتاج: 324/2.(6/504)
الاشتراك فيها في الشجر فقط، فهي جائزة عند الحنفية والحنابلة، ولا تجوز عند المالكية، وممنوعة في الحالتين عند الشافعية، لعدم الحاجة إليها.
قال الحنفية (1) : من دفع أر ضاً بيضاء (أي لا شجر ولازرع فيها) سنين معلومة، يغرس فيها شجراً، على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين، لم يجز، لثلاثة أوجه: أولها: لاشتراط الشركة فيما كان موجوداً قبل الشركة، وهو الأرض، لا بعمل العامل، فكان ذلك في معنى قفيز الطحان (2) المنهي عنه (3) . وقال صاحب الهداية عن هذا الوجه: إنه أصحها، لأنه ـ كما قال صاحب العناية ـ نظير من استأجر صباغاً ليصبغ ثوبه، على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ، وهو مفسد للعقد، فهو شركة فاسدة.
وثاني الأوجه التي عللوا بها الفساد: أن المالك جعل نصف الأرض عوضاً عن جميع الأغراس، ونصف الخسارة عوضاً لعمل العامل، فصار العامل مشترياً نصف الأرض بالغراس المجهول المعدوم عند العقد، فيفسد العقد. وهذا الوجه رجحه ابن عابدين؛ لأن كون المغارسة في معنى (قفيز الطحان) لا يضر، إذ هو جار في معظم مسائل المزارعة والمعاملة (المساقاة) ، ولهذا قال الإمام بفسادهما، وترك صاحباه القياس استدلالاً بمعاملة النبي صلّى الله عليه وسلم أهل خيبر، وهذا هو الأولى، فهو شراء فاسد.
وثالث الأوجه: أن المالك استأجر أجيراً ليجعل أرضه بستاناً مشجراً بآلات الأجير، على أن يكون له نصف البستان الذي يظهر بعمله، وهو مفسد للعقد؛ لأنها إجارة بأجر مجهول وغرر، فهي إجارة فاسدة.
وإذا فسدت المغارسة، كان جميع الثمر والغرس لصاحب الأرض، وللغارس قيمة غرسه يوم الغرس، وأجرة مثله فيما عمل.
وحيلة جواز المغارسة عند الحنفية: أن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر رب الأرض العامل ثلاث سنين مثلاً، بشيء قليل، ليعمل في نصيبه.
وصحح الحنفية أيضاً ـ كما في الفتاوى الخانية ـ كون المغارسة على الاشتراك في الشجر والثمر فقط، دون الأرض.
__________
(1) تكملة الفتح: 49/8، تبيين الحقائق: 286/5، اللباب: 234/2، الدر المختار ورد المحتار: 203/5 ومابعدها.
(2) إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمل العامل، وهو نصف البستان.
(3) روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: «نهي عن عسب الفحل، وعن قفيز الطحان» وعسب الفحل: أجرة ضرابه، وقد استدل بهذا الحديث أبو حنيفة والشافعي ومالك على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة بعض المعمول بعد العمل (نيل الأوطار: 292/5 وما بعدها) .(6/505)
وعبارة الشافعية (1) في حكم المغارسة: لا تصح المغارسة، إذ لا يجوز العمل في الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الغرس ليس من عمل المساقاة، فضمه إليها يفسده، ويمكن تحقيق المقصود بالإجارة.
أما المساقاة في الشجر، فلا يمكن عقد الإجارة عليه، فجوزت المساقاة للحاجة.
والغرس الحاصل يكون للعامل، ويكون لرب الأرض أجرة مثلها على العامل، كما أن من زارع على أرض بجزء من الغلة، فعطل بعض الأرض، يلزمه أجرة ما عطل منها.
وعبارة الحنابلة (2) : إن دفع المالك للعامل على أن الأرض والشجر بينهما، فالمعاملة فاسدة وجهاً واحداً، لأنه شرط اشتراكهما في الأصل (الأرض والشجر) ففسد، كما لو دفع إليه الشجر أو النخل، ليكون الأصل والثمرة بينهما، أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما، وحينئذ يكون للعامل أجر المثل.
لكن إن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل فيه حتى يحمل، ويكون للعامل جزء من الثمرة معلوم، صح؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر، ونصيبه يقل.
هذه أقوال الجمهور (المذاهب الثلاثة) المانعة من صحة المغارسة، حفاظاً على حقوق العاقدين، ولكثرة الجهالة الناجمة عن انتظار نمو الشجر، وللاشتراك في الأصل، كاشتراك الشريكين في رأس المال في شركة المضاربة، ولأن الغرس ليس من أعمال المساقاة، على النحو المشروع في السنة النبوية، كما لا تصح المساقاة على صغار الشجر إلى مدة لا يحمل فيها غالباً.
وقال المالكية (2) : العمل لإنماء الشجر يتم إما بالإجارة: وهو أن يغرس العامل للمالك بأجرة معلومة، وإما بالجعالة: وهو أن يغرس له شجراً على أن يكون له نصيب فيما ينبت، وإما بالمغارسة.
وتصح المغارسة (وهو أن يغرس العامل على أن يكون له نصيب من الشجر والثمر ومن الأرض) بخمسة شروط، وهي:
1 - أن يغرس العامل في الأرض أشجاراً ثابتة الأصول، دون الزرع والمقاثي والبقول.
__________
(1) مغني المحتاج: 324/2، بجيرمي الخطيب: 167/3 وما بعدها.
(2) المغني: 380/5 وما بعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 281.(6/506)
2 - أن تتفق أصناف الشجر، أو تتقارب، في مدة إطعامها (إثمارها) فإن اختلفت اختلافاً بيناً، لم يجز.
3 - ألا يكون أجلها إلى سنين كثيرة، فإن حدد لها أجل إلى ما فوق الإطعام (إنتاج الثمرة) ، لم يجز، وإن كان دون الإطعام، جاز، وإن كان إلى الإطعام، فقولان.
4 - أن يكون للعامل حظه من الأرض والشجر، فإن كان له حظه من أحدهما خاصة، لم يجز، إلا إن جعل له مع الشجر مواضعها على الأرض، دون سائر الأرض.
5 - ألا تكون المغارسة في أرض محبسة (موقوفة) لأن المغارسة كالبيع.
ويلاحظ أنه يمنع في المغارسة والمساقاة والمزارعة عند المالكية شيئان:
الأول ـ أن يشترط أحدهما لنفسه شيئاً دون الآخر، إلا اليسير.
الثاني ـ اشتراط السلف أو السلَم، كأن يقول له: أسلفت إليك في مئة دينار أن تغرس الغرس أو يأمره بقلعه.
والخلاصة: أن المغارسة تصح إذا كان للعامل جزء معين من الثمرة فقط، كالمساقاة، كما ذكر الحنابلة، وتصح المغارسة أيضاً إذا غرس العامل غرساً على أن تكون الأغراس والثمار بينهما كما أبان الحنفية، ويمكن تصحيح المغارسة على الاشتراك في الأرض والشجر معاً، بواسطة عقدي البيع والإجارة، كأن يبيع المالك نصف الأرض بنصف الغراس، ويستأجر المالك العامل مدة كثلاث سنين مثلاً، بشيء يسير ليعمل في نصيبه، كما ذكر الحنفية.
وصحح المالكية المغارسة بشروط، وأبطلها الشافعية لعدم الحاجة إليها.(6/507)
الفَصْلُ السّادس: اتّفاق القسمة
وفيه نوعان: الأول ـ في قسمة الأعيان، والثاني ـ في قسمة المنافع (المهايأة) وكل منهما يرد على الأموال المشتركة.
النَّوع الأوَّل: قسمة الأعيان أو الرّقاب
تسمى قسمة الأعيان أي الذوات قسمة رقاب أيضاً.
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها.
المبحث الثاني ـ أنواع القسمة.
المبحث الثالث ـ شروط القسمة.
المبحث الرابع ـ كيفية القسمة.
المبحث الخامس ـ القاسم.
المبحث السادس ـ أحكام القسمة.
المبحث الأول ـ تعريف القسمة ومشروعيتها وركنها وصفتها:
أولاً ـ تعريف القسمة:
القسمة لغة: هي إفراز النصيب، أو التفريق. وشرعاً لها تعاريف متقاربة عند الفقهاء، فقال الحنفية: القسمة: جمع نصيب شائع في مكان معيّن، أو مخصوص (1) ، وعرفتها المادة (1114) مجلة بقولها: «القسمة: هي تعيين الحصة الشائعة، يعني إفراز الحصص بعضها من بعض بمقياس ما كالذرع والوزن والكيل» أو هي عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض، ومبادلة بعض ببعض؛ لأن نصيب كل شريك أو ملكه منتشر في جميع أجزاء الشيء المقسوم، فإذا حدثت القسمة، وقع في حصته جزء مملوك له، وجزء مملوك لصاحبه شائعاً في كل الأجزاء، فتتم المبادلة بين الشريكين بتنازل كل واحد منهما عن نصف نصيبه بعوض: وهو نصف نصيب صاحبه (2) .
ومعنى المبادلة أي (أخذ عوض حقه) واضح في القسمة الرضائية، أما القسمة الجبرية فتحدث بناء على طلب الشريكين للقاضي، يتضمن رضاهما بالمبادلة. فالقسمة تتضمن معنى المبادلة؛ لأن ما يؤول لأحدهما، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه، والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، والمبادلة هي الظاهر في غير المكيل والموزون للتفاوت، ويجوز الإجبار على المبادلة كما في بيع مال المدين.
وعرف المالكية القسمة بما يقارب تعريف الحنفية، فقالوا: هي تعيين نصيب
__________
(1) تبيين الحقائق: 264/5، الدر المختار: 178/5، تكملة الفتح: 2/8، اللباب: 91/4.
(2) البدائع: 17/7.(6/508)
كل شريك في مشاع (عقار أو غيره) ، ولو كان التعيين باختصاص تصرف فيما عين له، مع بقاءالشركة في الذات، وهذا التعريف يشمل عندهم أنواع القسمة الثلاثة: قسمة المهايأة، وقسمة المراضاة، وقسمة القرعة (1) .
وعرفها الشافعية والحنابلة (2) بأوضح تعريف في تقديري، فقالوا: القسمة: تمييز بعض الأنصباء عن بعض، وإفرازها عنها، بتجزئة الأنصباء بالكيل أو غيره.
ثانياً ـ مشروعية القسمة:
أجمع العلماء على جواز القسمة لثبوت شرعيتها في القرآن والسنة:
أما القرآن فقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/54] يدل على جواز قسمة المهايأة، وقوله سبحانه: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء:8/4] الوارد في قسمة التركة، وقوله سبحانه في قسمة الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول..} [الأنفال:41/8] ولا يعلم هذا الخمس عن الأربعة الأخماس المستحقة للغانمين إلا بالقسمة.
وأما السنة: فقد قسم النبي صلّى الله عليه وسلم غنائم خيبر وحنين بين الغانمين، وقسم المواريث (3) ، مما يدل على الإباحة.
ويؤيده حاجة الناس إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف المستقل في حصته، وليتخلص من سوء المشاركة، وكثرة الأيدي (4) .
ثالثاً ـ ركن القسمة وسببها وشرط لزومها:
ركن القسمة: هو الفعل الذي يحصل به الإفراز والتمييز بين الأنصباء، ككيل وذرع، وسببها: طلب الشركاء أو بعضهم الانتفاع بملكه على وجه الخصوص، فلو لم يطلبوا لا تصح القسمة. وشرط لزومها بطلب أحد الشركاء: عدم فوت المنفعة بالقسمة، أي عدم إبطال فائدة الشيء
__________
(1) الشرح الصغير: 359/3 ومابعدها.
(2) حاشية الباجوري على ابن قاسم: 351/2، المغني: 114/9، كشاف القناع: 364/6.
(3) راجع الأحاديث في نصب الراية: 178/4.
(4) المغني: 112/9.(6/509)
المتعارفة، فلا يقسم مثلاً الحائط والحمام والبيت الصغير (1) .
رابعاً ـ صفة القسمة:
تتردد صفة القسمة عند الفقهاء بين وصفين: الإفراز أو التمييز، والبيع أو المبادلة.
فقال الحنفية (2) : تشتمل القسمة مطلقاً (في المثليات أو القيميات) على وصفين: هما الإفراز: وهو أخذ عين حقه، والمبادلة: وهو أخذ عوض حقه. والسبب في اشتمالها على معنى المبادلة: أن ما يأخذه كل شريك، بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في حصة صاحبه، فتكون القسمة مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه.
والإفراز: هو الظاهر الغالب في المثليات، أي المكيلات والموزونات وما في حكمها: وهي الذرعيات والعدديات المتقاربة كالجوز والبيض، لعدم التفاوت بين أجزائها، حتى كان لأحد الشريكين أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه.
والمبادلة: هي الظاهر الغالب في غير المثليات أي القيميات كالحيوانات والدور وأصناف العروض التجارية، للتفاوت بين أفرادها، حتى لا يكون لأحد الشريكين أخذ نصيبه عند غيبة صاحبه (3) .
إلا أنه إذا كانت الأشياء المشتركة متحدة الجنس، جازت القسمة الجبرية، أي يجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء؛ لأن فيها معنى الإفراز، ويصح الجبر في المبادلة، كما هو المقرر في حالة بيع ملك المدين، لوفاء دينه.
وإن كانت الأشياء المشتركة أجناساً مختلفة، لم تجز القسمة الجبرية، فلا يجبر القاضي على القسمة، لتعذر المعادلة. وتجوز القسمة الرضائية حينئذ؛ لأن الحق للشركاء.
وقال المالكية (4) : قسمة المراضاة: وهي التي تتم بلا قرعة كالبيع، وقسمة القرعة: تمييز حق في مشاع بين الشركاء، لا بيع، وقسمة المهايأة في المنافع كالإجارة.
وقال الشافعية (5) : القسمة إفراز النصيبين وتمييز الحقين إلا إذا كان في القسمة رد، أي
__________
(1) الدر المختار: 178/5.
(2) الدر المختار: 178/5، اللباب: 91/4، تكملة الفتح: 2/8، البدائع: 26/7.
(3) نصت المادة (1116) مجلة عن ذلك، فقالت: «والقسمة من جهة إفراز، ومن جهة مبادلة..» ، كما نصت المادة (1117) على أن «جهة الإفراز في المثليات راجحة..» والمادة (1118) على أن «جهة المبادلة في القيميات راجحة..» ونصت المادة (1119) على المثليات.
(4) الشرح الصغير: 660/3، 662، 664.
(5) حاشية الباجوري: 352/2-354، المهذب: 306/2.(6/510)
تعويض (أورد مال أجنبي عن المقسوم) ، فهي بيع، كأن يكون في أحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيرد من يأخذه بالقسمة بالقرعة قسط قيمة البئر أو الشجر، في المثال المذكور.
وكذلك تكون القسمة بيعاً إذا كانت بالتعديل للسهام (وهي الأنصباء)
بالقيمة، كأرض تختلف قيمة أجزائها بقوة إنبات أو قرب ماء، وتكون الأرض بينهما نصفين، ويساوي ثلث الأرض مثلاً لجودته ثلثيها، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً. وهذا الرأي أدق ما عرفته من المذاهب.
وقال الحنابلة (1) : القسمة: إفراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر، وليست بيعاً؛ لأنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك، ولا تجب فيها الشفعة، ويدخلها الإجبار، وتلزم بإخراج القرعة، ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك، ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها، فلم تكن بيعاً كسائر العقود.
وفائدة الخلاف: أنها إذا لم تكن بيعاً، جازت قسمة الثمار خرصاً، والمكيل وزناً، والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في البيع، وإن قلنا: هي بيع، انعكست هذه الأحكام.
لكن إذا كانت القسمة رداً، أي رد عوض عما حصل لشريك من حق شريكه، فتكون بيعاً فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر) ، وإفرازاً في الباقي. والخلاصة أن القسمة عند الحنابلة إفراز، إلا إذا كانت قسمة رد، فتكون بيعاً فيما يقبل الرد.(6/511)
المبحث الثاني ـ أنواع القسمة:
للقسمة أنواع في المذاهب الفقهية، إذ كل مذهب ينظر إلى القسمة من جانب فقال الحنفية (2) : القسمة نوعان:
1 - قسمة جبرية: وهي التي يتولاها القاضي، بطلب أحد الشركاء. ولو قسم القاضي أو نائبه بالقرعة، فليس لبعض الشركاء الإباء بعد خروج بعض السهام (3) .
2 - قسمة رضائية: وهي التي يفعلها الشركاء بالتراضي، وهي تعتبر عقداً من العقود، ركنها ككل عقد: هو الإيجاب والقبول، ومحلها: العين المشتركة التي يجوز الاتفاق على قسمتها (4) .
وكل واحد منهما على نوعين:
1 - قسمة تفريق أو فرد: وهي تخصيص كل شريك بحصة جزئية معينة من المال المشترك، كقسمة دار كبيرة بين شريكين أو ثلاثة، يختص كل واحد منهم بنصف أو بثلث. وهي تحدث في كل ما لا ضرر في تبعيضه بالشريكين كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، سواء قسمة رضا أو قسمة جبر.
2 - وقسمة جمع: وهي أن يجمع نصيب كل شريك في عين على حدة (5) ، كأن يكون الشيء المشترك أقطاناً بين شريكين، فيتقاسمان، على أن يختص أحدهما بكمية منها والآخر بالباقي. وهي جائزة في جنس واحد، ولا تجوز في
__________
(1) المغني: 114/5، 129، كشاف القناع: 365/6.
(2) البدائع: 19/7-22.
(3) رد المحتار: 184/5.
(4) قسمة الرضى في المادة (1121) مجلة هي «القسمة التي تجري بين المتقاسمين في الملك بالتراضي أو برضا الكل عند القاضي» وقسمة القضاء في المادة (1122) هي «تقسيم القاضي الملك المشترك جبراً وحكماً بطلب بعض المقسوم لهم» .
(5) عرفت المادة (1115) من المجلة هذين النوعين، فقالت: قسمة التفريق: هي تعيين الحصص الشائعة في العين الواحدة المشتركة في أقسامها، مثل قسمة عرصة - أي ساحة -بين اثنين. وقسمة الجمع: هي جمع الحصص الشائعة في كل فرد من أفراد الأعيان في أقسامها، مثل قسمة ثلاثين شاة مشتركة بين ثلاثة: عشرة لكل واحد منهم.(6/512)
جنسين مختلفين، فتصح في المثليات وهي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة كأصناف الحنطة، ولا تصح في جنسين من المكيل والموزون والمذروع والعددي كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت. وتصح بين أفراد الإبل، أو أفراد البقر، أو أفراد الغنم، أي في ضمن الجنس الواحد، والتفاوت القليل ملحق بالعدم.
ولا تصح بين خيل وإبل، أو بين بقر وغنم، لاختلاف الجنس، فيتضرر أحدهما.
ولا تقسم الدور والأراضي المتعددة عند أبي حنيفة قسمة جمع منعاً للضرر، لوجود التفاوت الفاحش بين دار ودار، وأرض وأرض، بسبب اختلاف البناء والبقاع، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين.
وعند الصاحبين: تجوز قسمة الدور والأراضي قسمة جمع، ويعدل ما فيها من التفاوت بالقيمة. ولا تقسم الدار والضيعة (الأرض) ، أو الدار والحانوت المشتركتان قسمة جمع باتفاق الحنفية، بل يقسم كل واحد على حدة، لاختلاف الجنس.
وقال المالكية (1) : قسمة الرقاب أو الأعيان نوعان: قسمة مراضاة وقسمة قرعة.
أما قسمة المراضاة: فهي أن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بين الشريكين، يرضى به بلا قرعة. وهي كالبيع، فمن رضي بشيء منه، ملك ذاته، وليس له رده إلا بتراضيهما كالإقالة، ولا رد فيها بالغبن إلا إذا أدخلا بينهما مقوماً. وتصح في متحد الجنس كالثياب، أو في مختلف الجنس كثوب ودابة.
__________
(1) الشرح الصغير: 662/3-664، القوانين الفقهية: ص 284 وما بعدها.(6/513)
وأما قسمة القرعة: فهي تمييز حق مشاع بين الشركاء، لا بيع. فيرد فيها بالغبن، ولا بد فيها من مقوم، ويجبر عليها من أباها، ولا تكون إلا فيما تماثل أو تجانس، ولا يجوز فيها الجمع بين حظ اثنين.
وقال الشافعية (1) : القسمة ثلاثة أنواع؛ لأن المقسوم إن تساوت الأنصباء منه صورة وقيمة فهو الأول، وإلا، فإن لم يحتج إلى رد شيء فالثاني، وإلا فالثالث.
1 - قسمة الإفراز (أو قسمة الأجزاء أو قسمة المتشابهات) : وهي إفراز حق كل من الشركاء، فهي تمييز للحق لا بيع. وتحدث فيما لا ضرر فيه، كالمثليات من حبوب ودراهم وأدهان، ودور متفقة الأبنية، وأرض مستوية الأجزاء. ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، إذ لا ضرر عليه فيها، فيجزأ ما يقسم كيلاً في المكيل، ووزناً في الموزون، وذرعاً في المذروع، وعدّاً في المعدود بعدد الأنصباء إن استوت. ثم بعدئذ يقرع بين الأنصباء لتعيين كل نصيب منها لأحد الشركاء.
2 - قسمة التعديل للسهام: وهي أن تعدل الأنصباء المختلفة بالقيمة، لتحقيق المساواة بين الشركاء، كأرض تختلف قيمة أجزائها بسبب قوة إنبات، أو قرب ماء ونحوهما، أو يختلف جنس ما فيها، كبستان بعضه نخل، وبعضه عنب. فإذا كانت الأرض مناصفة بين شريكين، وكانت قيمة ثلثها المشتمل على ما ذكر كقيمة الثلثين الباقيين، فيجعل الثلث سهماً، والثلثان سهماً، ويقرع بينهما كما سبق.
ويجري فيها الإجبار، فيلزم الشريك بالقسمة بطلب شريكه، كما في النوع الأول، فإن أمكن قسم الجيد وحده، والرديء وحده، لم يجبر الشريك على التعديل.
__________
(1) حاشية الباجوري: 352/2-354، بجيرمي الخطيب: 341/4-344.(6/514)
ويجبر الشريكان على هذه القسمة في منقولات متحدة القيمة، مختلفة الصفة، كثياب من نوع واحد، كما يجبران عليها في نحو دكاكين صغيرة متلاصقة، متماثلة الأعيان أو الذوات، للحاجة إلى القسمة، بخلاف نحو الدكاكين الكبيرة، أو الصغيرة غير المتلاصقة لشدة اختلاف الأغراض، أو المقاصد باختلاف المحالّ والأبنية.
3 - قسمة الرد: وهي التي تحتاج إلى رد مال أجنبي عن ذات المقسوم، كأن يكون بأحد جانبي الأرض المشتركة بئر أو شجر مثلاً، لا يمكن قسمته، فيردّ من يأخذه بالقسمة الناتجة عن القرعة قسط قيمة البئر أو الشجر. فلو كانت قيمة البئر أو الشجر ألفاً، وحصته النصف، رد الآخذ خمس مئة. ولا يجري فيها الإجبار.
ويعتبر النوع الأول إفرازاً للحق، لا بيعاً، والنوعان الآخران بيعاً.
وبه يتبين أن القسمة عند الشافعية كغيرهم نوعان رئيسيان: قسمة إجبار، وقسمة تراض.
وقال الحنابلة (1) كما قال الحنفية: القسمة نوعان:
1 - قسمة تراض: لا تجوز إلا برضا الشركاء كلهم: وهي التي فيها ضرر، ورد عوض من أحدهما على الآخر، كالدور الصغيرة، والحمام والطاحون الصغيرين، والدكاكين اللطاف الضيقة. ولا إجبار فيها، فإن طلب أحد الشريكين
__________
(1) كشاف القناع: 364/6، 369.(6/515)
قسمة بعضها في مقابلة بعض، لم يجبر الآخر؛ لأن كل عين منها تختص باسم وصورة. وهي تشبه قسمة الرد عند الشافعية، بدليل أن الحنابلة قالوا: كل ما لا يمكن قَسْمه بالأجزاء، أو التعديل، لا يقسم بغير رضا الشركاء كلهم. وحكم قسمة التراضي كالبيع، أي كما قال الشافعية؛ لأن صاحب الزائد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع، والبيع محصور فيما يقابل الرد (أي العوض الذي رد من أحدهما على الآخر) وإفراز في الباقي، كما تبين في صفة القسمة. وإذا كانت هذه القسمة بيعاً، فلا يجوز فيها ما لا يجوز في البيع، ولا يجبر عليها الممتنع منها، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
2 - وقسمة الإجبار: ما لا ضرر فيها على الشريكين، ولا على أحدهما، ولا رد عوض، كأرض واسعة وقريبة، وبستان ودار كبيرة، ودكان واسع ونحوها، سواء أكانت متساوية الأجزاء أم لا.
وتحدث إن أمكن قسمتها بتعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يمكن تعديل السهام إلا بجعل شيء معها، فلا إجبار، لأنه معاوضة، فلا يجبر عليها من امتنع منها، كسائر المعاوضات.
ومن أمثلتها: قسمة مكيل أو موزون من جنس واحد، كدهن من زيت وسيرج وغيرهما، ولبن ودبس وخل وتمر وعنب ونحوهما، وسائر الحبوب والثمار المكيلة. وإذا طلب أحد الشركاء القسمة في المذكورات وأبى الشريك الآخر، أجبر الممتنع، ولو كان ولياً على صاحب الحصة؛ لأنه يتضمن إزالة الضرر الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين، فيمكنهما التصرف بالحصص، أو الاستثمار بأي طريق يختاره الشريك.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني، قال النووي: حديث حسن، وله طرق يقوي بعضها بعضاً.(6/516)
المبحث الثالث ـ شروط القسمة:
فيه مطلبان: الأول ـ في شروط قسمة التراضي، والثاني ـ في شروط قسمة الإجبار.
المطلب الأول ـ شروط قسمة التراضي:
اشترط الحنفية شروطاً في قسمة التراضي هي ما يأتي (1) :
1 - أهلية المتقاسمين: وهي العقل فقط، فلا يجوز قسمة المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز) ؛ لأن القسمة عقد متردد بين الضرر والنفع وفيها معنى البيع، فيشترط فيها ما يشترط في البيع.
ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فتجوز قسمة الصبي العاقل (المميز) بإذن وليه، كما لا يشترط الإسلام والذكورة والحرية لجواز القسمة، فتجوز قسمة الذمي والمرأة والعبد المكاتب والمأذون، لجواز البيع منهم.
2 - الملك أو الولاية: فلا تجوز القسمة بدونهما.
أما الملك: فهو أن يكون القاسم مالكاً عين ما يقسمه وقت القسمة، فيقسمه الشركاء بالتراضي، فإن لم يكن المقسوم مملوكاً للقاسم، لا تجوز القسمة؛ لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض، وكل ذلك لا يصح إلا في الشيء المملوك (2) . وبناء عليه: لا تصح عند الحنفية قسمة الديون المشتركة قبل القبض؛ لأنها لا تملك إلا بالقبض؛ لأن الدين في حكم المعدوم، ووجوده اعتباري، والمقسوم يشترط فيه كونه عيناً. ويترتب عليه أيضاً أن قسمة الفضولي موقوفة على الإجازة قولاً أو فعلاً.
وأما الولاية: فهي ولاية القرابة المالية، بأن يكون القاسم ذا ولاية مالية على الصغير والمجنون والمعتوه، وهو الأب ووصيه، والجد ووصيّه. والقاعدة في هذه الولاية: أن كل من له ولاية البيع، فله ولاية القسمة، ومن لا فلا، ولهؤلاء ولاية البيع، فلهم ولاية القسمة.
وأما وصي الأم، ووصي الأخ والعم، فيقسم المنقول، دون العقار؛ لأن له ولاية بيع المنقول، دون العقار.
ولا يقسم وصي الميت على الموصى له، لانعدام ولايته عليه، وكذا لا يقسم الورثة عليه، لانعدام ولايتهم عليهم؛ لأن الموصى له كواحد من الورثة. وكذا لا يقسم بعض الورثة على بعض، لانعدام الولاية فيما بينهم.
__________
(1) البدائع: 18/7، 19، 22.
(2) البدائع: 24/7، م (1123، 1125، 1126) مجلة.(6/517)
3 - حضور الشركاء أو نوابهم: فلا تصح القسمة على غائب، وتنقض القسمة، لو اقتسم الشركاء، وأحدهم غائب. هذا في قسمة التراضي. أما في قسمة القاضي، فتنفذ القسمة ولا تنقض.
4 - رضا الشركاء فيما يقسمونه بأنفسهم: إذا كانوا من أهل الرضا أو رضا من يقوم مقامهم. فإن لم يوجد الرضا لا تصح القسمة، فلو كان في الورثة صغير لا وصي له، أو كبير غائب، فاقتسموا فالقسمة باطلة؛ لأن القسمة فيها معنى
البيع، كما تقدم، وقسمة الرضا ـ عند الحنفية ـ أشبه بالبيع، وكما لا يصح البيع إلا بالتراضي، لا تصح القسمة إلا به.
وإذا لم يكن شريك من أهل الرضا، كالصبي والمجنون، قام وليه أو وصيه مقامه. وإذا لم يكن للصغير ونحوه ولي ولا وصي، كان موقوفاً على أمر الحاكم، فينصب وصي من طرف الحاكم ليقسم بمعرفته (1) .
وكذلك قال الشافعية (2) : يشترط في قسمة التراضي بأنواعها من رد وغيره رضا الشركاء حتى بعد خروج القرعة، ولو ثبت بحجة غلط أو حيف في قسمة الإجبار أو قسمة التراضي التي تكون بالإفراز، نقضت القسمة بنوعيها، فإن كانت بالتعديل أو بالرد، لم تنقض، لأنها بيع.
المطلب الثاني ـ شروط قسمة الإجبار أو التقاضي:
يشترط لقسمة القضاء أو القسمة الجبرية ما يأتي:
الشرط الأول ـ طلب أحد الشركاء أو كلهم من القاضي قسمة المشترك: فلا تجوز القسمة من غير طلب أصلاً؛ لأنها تصرف في ملك الآخرين، وهو أمر محظور شرعاً (3) . وإذا طلب شريك وأبى الآخر، يقسم الشيء المشترك جبراً بين الشركاء إذا كان قابلاً للقسمة (4) دفعاً للضرر، كالتملك بالشفعة دفعاً لضرر الشفيع.
__________
(1) الدر المختار: 180/5، م (1128) مجلة.
(2) بجيرمي الخطيب: 344/4.
(3) الدر المختار: 179/5، البدائع: 18/7، 22، 28، م (1129، 1130) مجلة.
(4) قابل القسمة: هو المال المشترك الصالح للتقسيم، بحيث لا تفوت المنفعة المقصودة من ذلك المال بالقسمة (م 1131) مجلة.(6/518)
فإن لم يكن قابلاً للقسمة، تناوب الشركاء في الانتفاع بطريق المهايأة.
والخلاصة: أنه تجب القسمة عند الطلب، إلا إذا كان الطالب قاصداً الضرر، فلا تجب، كما سيبين في الشرط الثاني.
الشرط الثاني ـ ألا يترتب على القسمة ضرر: وهذه في قسمة التفريق، لأنه إذا كان في القسمة ضرر لم تتحقق المنفعة المطلوبة من المال.
ويتضح هذا الشرط في معرفة طبيعة المال، والمال في هذا الشأن نوعان (1) :
أـ إن كان المال مما لا ضرر في تبعيضه أو تجزئته، بل فيه منفعة للشريكين، كالمكيل والموزون والعددي المتقارب، فتجوز قسمة التفريق قسمة جبر، ويجبر القاضي من أبى من الشركاء على قبولها تحقيقاً لمصلحة الطرفين.
ب ـ وإن كان في القسمة ضرر: فإن أضرّت بكل واحد من الشريكين لم تجز قسمة الجبر في المال المشترك كاللؤلؤ والياقوت والثوب الواحد والسرج والقوس والمصحف الكريم، والخيمة والحائط، والحمام والبيت، أو الحانوت الصغير، والفرس والجمل والشاة والبقرة؛ لأن الضرر يلحق بالشريكين معاً، والقاضي لا يملك الجبر على الإضرار.
وأما إن أضرّت القسمة بأحد الشريكين دون الآخر، كالأرض المشتركة بين شريكين ولأحدهما حصة قليلة، وللآخر الأكثر، فتجب القسمة إن طلبها صاحب الأكثر، إزالة للشيوع ومنعاً من الضرر، فهو ينتفع بنصيبه، فيجاب طلبه؛ لأن الحق لا يبطل بتضرر الغير. وإن طلبها صاحب الحصة القليلة: ففيه رأيان:
رأي الحاكم الشهيد في مختصره الكافي: إنه يقسم المال المشترك، إذ لا ضرر على صاحب الكثير، بل له فيه منفعة، وصاحب القليل قد رضي بالضرر، حيث طلب القسمة، فيجبر على القسمة.
__________
(1) البدائع: 19/7-21، تبيين الحقائق: 268/5 وما بعدها.(6/519)
ورأى القدوري في الكتاب: لا يقسم؛ لأن صاحب القليل متعنِّت في طلب القسمة، لكون القسمة ضرراً محضاً في حقه، فلا يعتبر طلبه، وقسمة الجبر لاتشرع بدون الطلب. وهذا هو الأصح.
وإن كانت حصة كل من الشريكين قليلة، لم يقسم القاضي بينهما، إلا بتراضيهما؛ لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، وإنما تجوز القسمة بتراضيهما؛ لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما (1) .
ومذهب الشافعية في قسمة الضرر والجبر قريب من مذهب الحنفية، قالوا (2) : إن ما عظم ضرر قسمته: إن بطل نفعه الحالي المقصود منه بالكلية كجوهرة وثوب نفيسين، منعهم الحاكم منها، وانتفعوابه مهايأة.
وإن لم يبطل نفعه بالكلية، كأن ينقص نفعه كسيف يكسر، أو أبطل نفعه المقصود، كحمام وطاحونة صغيرين، لم يمنعهم ولم يجبهم إلى القسمة، لما فيه من إضاعة المال.
ولو كان هناك مال مشترك بين اثنين، لأحدهما حصة قليلة، كعشر دار أو حمام، أو أرض، وللآخر الأكثر وهو الباقي، أجبر صاحب الأقل على القسمة، بطلب الآخر لا عكسه.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 94/4 وما بعدها، البدائع: 28/7.
(2) بجيرمي الخطيب: 340/4 وما بعدها.(6/520)
وكذلك قال الحنابلة (1) : يجبر الحاكم على القسمة إذا كان المال قابلاً للقسمة، وأمكن انتفاع الشريكين به مقسوماً، أي إنه يشترط لصحة القسمة عندهم ألا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر، لم يجبر الممتنع لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» .
والضرر المانع من القسمة عند الشافعي وأحمد: هو أن تنقص قيمة نصيب كل شريك بالقسمة عن حال الشركة، سواء انتفعوا به مقسوماً أم لم ينتفعوا؛ لأن نقص قيمته ضرر، والضرر منفي شرعاً.
وقال المالكية (2) : إن كان الشيء المشترك مما يحتمل القسمة بلا ضرر كالأرضين وغيرها، أجبر على القسمة من أباها، وإما إذا كان المال المشترك غير قابل للقسمة كحانوت وبيت صغير وسيف، فيباع ويوزع ثمنه بين الشريكين بحسب الحصة، ويجبر على البيع من أباه من الشركاء، بشروط أربعة وهي:
1 - أن تنقص حصة مريد البيع لو باعها مفردة عن حصة شريكه، فإن لم تنقص لو بيعت مفردة لم يجبر له الآبي عن البيع، لعدم الضرر، كما لا يجبر فيما يقبل القسمة، أي في المال المثلي.
2 - ألا يلتزم رافض البيع لشريكه بتحمل فرق النقصان.
3 - ألا يملك مريد البيع حصته مفردة: فإن ملكها مفردة، وأراد بيعها، وأبى صاحبه من البيع معه، لم يجبر على البيع معه، وعلى هذا فإن تملك الشريكان المال المشترك معاً بإرث أو شراء أو غيرهما، جاز إجبار الممتنع على البيع.
4 - ألا يكون المال المشترك متخذاً للاستغلال أي الكراء، أو مشترىً للتجارة فإن كان متخذاً للغلة، أو اشتروه للانتفاع في غير غلة ولو للتجارة على المعتمد، لم يجبر الآبي على البيع، مع من أراد البيع.
__________
(1) المغني: 115/5 ومابعدها.
(2) الشرح الصغير: 678/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 285.(6/521)
الشرط الثالث ـ أن تكون القسمة عادلة، غير جائرة، لأن القسمة إفراز بعض الأنصباء، ومبادلة البعض بالبعض، ومبنى المبادلات على المراضاة، فإذا وقعت جائرة لم يوجد التراضي، ولا إفراز النصيب على نحو كامل، لبقاء الشركة في جزء ما، فتعاد (1) .
وبناء عليه لو ظهر في القسمة غلط أو غبن فاحش، بطلت القسمة.
الشرط الرابع ـ أن يكون المال المشترك في قسمة الجمع (2) من جنس واحد، كالمثلي من حنطة أو قطن أو جوز. فإن كان من أجناس مختلفة كالحنطة والشعير، والقطن والحديد، والجوز واللوز، واللآلئ واليواقيت، وأنواع الحيوان كالخيل مع الإبل، لم تجز القسمة؛ لأن قسمة الجمع عند اتحاد الجنس تقع وسيلةإلى تحقيق المقصود منها، وهو تكميل منافع الملك. وعند اختلاف الجنس تقع تفويتاً للمنفعة، لا تكميلاً لها.
وكذا الدور والأراضي والكروم (حقول العنب) لا تقسم قسمة جمع عند أبي حنيفة للتفاوت الفاحش بين دار ودار وأرض، بسبب اختلاف الدور والأراضي في بنائها وموقعها، فتعتبر في حكم جنسين مختلفين؛ لأن المعتبر والمقصود في الدور والأراضي هو المعنى، فتقسم قسمة تفريق (3) عنده.
وقال الصاحبان: تقسم الدور ونحوها قسمة جمع، لأنها من جنس واحد من حيث الصورة وأصل السكنى، وإن كانت أجناساً متعددة من حيث اختلاف المقاصد، ويمكن تعديل التفاوت فيها بالقيمة، وينظر القاضي في الأمر بما يحقق المصلحة.
واتفق أئمة الحنفية على أنه يقسم البيتان (الغرفتان) قسمة جمع، سواء أكانا متصلين أم منفصلين (4) .
هذا ما يقوله متقدمو الحنفية، وأما في زماننا فإن المنازل والبيوت كالدور تتفاوت تفاوتاً فاحشاً، فلا تقسم قسمة جمع، وإنما تقسم قسمة تفريق.
المبحث الرابع ـ كيفية القسمة:
أبان الحنفية كيفية القسمة وإجراءاتها التي يتبعها القاسم على النحو التالي (5) ، وهو في تقديري مجرد اجتهاد يتغير بحسب العصور.
1 - يمسح القاسم الأرض، لحفظ الخريطة، ورفعها للقاضي، ويقوّم البناء ليعرف كل شريك قيمة نصيبه.
__________
(1) البدائع: 26/7، م (1127) مجلة.
(2) قسمة الجمع كما تقدم: هي أن يجمع نصيب كل واحد من الشريكين في عين على حدة.
(3) قسمة التفريق: أن يقسم كل فرد من أفراد المال المشترك على حدة، ويعين نصيب المتقاسمين فيه.
(4) البدائع: 21/7 وما بعدها، تبيين الحقائق: 270/5، م (1132-1142) من المجلة.
(5) تكملة الفتح: 14/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 270/5، اللباب شرح الكتاب: 100/4 وما بعدها، م (1151) مجلة. وانظر تلك الإجراءات في المذاهب الأخرى في المهذب: 308/2 وما بعدها، المغني: 123/9، الشرح الصغير: 675/3 وما بعدها.(6/522)
2 - يفرز كل نصيب عن غيره مع ارتفاقاته من طريق ونحوه على حدة، ليتحقق معنى التمييز والإفراز تمام التحقيق، ويمنع تعلق نصيب كل شريك بنصيب الآخر.
3 - تحدد الأنصباء بالأرقام المتوالية، ويطلق على كل نصيب اسم «السهم» .
4 - تسجل أسماء المتقاسمين في أوراق متساوية مستقلة، وتوضع في وعاء أو نحوه، ثم يقرع بينهم على سبيل الندب والاستحسان، تطييباً للقلوب، وبعداً عن تهمة الميل والتحيز لأحد الشركاء، فمن خرج اسمه أولاً، فله السهم الملقب بالأول، ويعطى من خرج اسمه ثانياً السهم الثاني، وهكذا ... إذا اتحدت مقادير السهام.
فلو اختلفت السهام ـ بأن كانت بين ثلاثة مثلاً، لأحدهم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم ـ جعلها القاسم ستة عشر سهماً، وكتب أسماء الثلاثة، فإن خرج أولاً اسم صاحب العشرة، أعطاه السهم الأول، وتسعة متصلة به، لتكون سهامه متصلة مع بعضها، وهكذا حتى يتم التوزيع.
والقرعة مندوبة عند الحنفية، فلو عين القاسم لكل شريك نصيبه، من غير اقتراع، جاز؛ لأن عمله في معنى القضاء، فيملك إلزام كل شريك بنصيبه.
5 - آلة القسمة: نصت المادة (1147) مجلة على ذلك، فقالت: المال المشترك: إن كان من المكيلات، فبالكيل، أو من الموزونات فبالوزن، أو من العدديات فبالعدد، أو من الذرعيات فبالذراع يصير تقسيمه. ونصت المادة (1148) مجلة على أنه: حيث كانت العرصة والأراضي من الذرعيات، فتقسم بالذرع، أما ما عليها من الأشجار والأبنية، فيقسم بتقدير القيمة.(6/523)
تعديل القسمة بالنقود:
أجاز الشافعية والحنابلة كما تقدم تعديل القسمة بالقيمة والنقود في غير الأموال المثلية، مما لا يقبل الإفراز، كأرض تختلف قيمة أجزائها (1) ، وهذا مذهب المالكية أيضاً كما سيأتي بيانه.
أما الحنفية فلم يجيزوا في قسمة التقاضي قسمة تفريق إدخال النقود (الدراهم والدنانير) في القسمة، إلا بتراضي الشركاء فيما بينهم؛ لأن القسمة تجري في المشترك والمشترك بينهما العقار، لا النقود، فلو كان بين اثنين دار، وأراد قسمتها، وكان في أحد الجانبين فضل بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه عن الأرض، فإنه يجعل عوضه من الأرض، ولا يكلف الذي وقع البناء في نصيبه أن يرد دراهم بدلاً عن الزيادة، إلا بالتراضي، لما في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدراهم فيها بالتراضي دون جبر القاضي، إلا إذا تعذر، فحينئذ للقاضي التعديل بالدراهم، للضرورة (2) .
نماذج من القسمة: أبان الفقهاء أهم حالات القسمة، وهي كيفية قسمة الدور، والأرض والبناء، والدار والضيعة (الأرض العرصة غير المبنية) ، والدار والحانوت والسفل والعلو، والطريق.
المطلب الأول ـ قسمة الدور:
اتفق الحنفية (3) : على أنه إذا كانت الدور المشتركة في بلدين، فلا تجتمع في القسمة، وتقسم دار كل بلد على حدة.
أما إذا كانت الدور المشتركة في بلد واحد، فتقسم أيضاً عند أبي حنيفة كل دار على حدة؛ لأن الدور أجناس مختلفة، لاختلاف المقاصد باختلاف المحالّ (المواقع) والجيران، والقرب من المسجد والماء والسوق مثلاً، فلا يمكن التعديل في
__________
(1) بجيرمي الخطيب: 343/4، كشاف القناع: 373/6.
(2) تكملة الفتح: 15/8، تبيين الحقائق: 271/5، اللباب: 101/4، البدائع: 19/7، م (1149) مجلة.
(3) تكملة الفتح: 13/8، تبيين الحقائق: 270/5، البدائع: 22/7، اللباب: 98/4 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 184/5.(6/524)
القسمة وإنما تقسم قسمة تفريق، ولا يضم بعض الأنصبة إلى بعض، إلا إذا تراضوا. وهذا هو الصحيح عند الحنفية.
وقال الصاحبان: الرأي في هذه القسمة (وهي قسمة التقاضي) إلى القاضي، يفعل ما يراه الأصلح، فإن وجد الأصلح للشركاء في قسمة جمع، بأن يجمع حصة كل شريك في دار، فعل، وإن وجد الأصلح في قسمة التفريق بأن يقسم كل دار على حدة، فعل؛ لأن الدور ـ في رأيهما ـ من جنس واحد من حيث الاسم والصورة، وأصل السكن، فيفوض الأمر إلى القاضي لاختيار الأصلح من القسمة: إما قسمة الجمع أو قسمة التفريق.
وهذا الخلاف بين الإمام وصاحبيه جارٍ في قسمة الدار الواحدة. فعند الإمام: لا تقسم قسمة جمع إلا بالتراضي. وعند الصاحبين: يفوض الأمر إلى القاضي، ليحقق المصلحة والعدل في اختيار نوع القسمة.
وأما البيوت (الغرف) فتقسم باتفاق الحنفية قسمة جمع، سواء أكانت متباينة أم متلاصقة، لتقاربها في معنى السكنى (1) .
والشافعية يرون أن الدار المختلفة الأبنية تقسم قسمة تعديل بالقيمة، لاختلاف الأغراض باختلاف المحالّ والأبنية (2) .
__________
(1) يتلخص مذهب الحنفية فيما يلي: قال في الدرر: ههنا أمور ثلاثة: الدور، والبيوت، والمنازل، فالدور متلازمة كانت أو متفرقة: لا تقسم قسمة واحدة إلا بالتراضي. والبيوت تقسم مطلقاً لتقاربها في معنى السكنى، والمنازل: إن كانت مجتمعة في دار واحدة، متلاصقاً بعضها ببعض، قسمت قسمة واحدة، أي قسمة جمع، وإلا فلا، لأن المنزل أصغر من الدار، وأ كبر من البيت، ففيه بيتان أو ثلاثة، والبيت مسقف واحد له دهليز، فألحقت المنازل بالبيوت إذا كانت متلاصقة، وبالدور إذا كانت متباينة. وقال الصاحبان في كل ما ذكر: ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه، ويمضي على ذلك. هذا رأي متقدمي الحنفية. وقال متأخرو الحنفية: لعل هذا في زمانهم، وإلا فالمنازل والبيوت، ولو من دار واحدة تتفاوت تفاوتاً فاحشاً في زماننا (رد المحتار: 184/5، اللباب: 99/4) .
(2) بجيرمي الخطيب: 344/4.(6/525)
وكذلك قال المالكية: تقسم الدور بالتراضي، أو بالسهام على أن تعدل بالقيمة (1) .
ولا تقسم الحمام والبئر والرحى والحائط المشترك إلا بتراضي الشركاء، باتفاق الحنفية منعاً للضرر بكل شريك.
المطلب الثاني ـ الأرض والبناء:
إذا كان المال المشترك أرضاً عليها بناء، ففي كيفية قسمتها أقوال ثلاثة عند الحنفية (2) .
1 - قال أبو حنيفة: تقسم الأرض بالمساحة، لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يردّ من وقع البناء في نصيبه، أو من كان نصيبه أجود، دراهم، على الآخر، حتى يساويه، فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة؛ لأن قسمة التقاضي جبراً لا يدخل فيها النقود في أصل مذهب الحنفية، وهنا دخلت للضرورة، كما في ولاية الأخ على أخيه الصغير، ليست له عليه ولاية مالية، ولكن إذا زوجه، ملك تسمية الصداق، لضرورة التزويج. وهذا الرأي يتفق مع قسمة الرد عند الشافعية.
2 - وقال أبو يوسف: تقسم الأرض والبناء، باعتبار القيمة، لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم. وهذا يتفق مع رأي الشافعية في قسمة التعديل.
3 - وقال محمد: يرد الشريك على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة (الأرض) (3) وإذا بقي فضل، ولم يمكن تحقيق التسوية، بأن كانت العرصة لا تفي بقيمة البناء، فيرد على شريكه دراهم بمقدار الفضل (الزيادة) ؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، وهي هنا في هذا المقدار، فلا يترك الأصل (وهو التقسيم باعتبار المساحة) إلا بمقدار الضرورة الحاصلة.
__________
(1) بداية المجتهد: 262/2.
(2) تكملة الفتح: 15/8.
(3) العرصة: بسكون الراء: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، أو ساحة الدار، والجمع عَرَصات.(6/526)
المطلب الثالث ـ الدار والضيعة، والدار والحانوت:
الضيعة: أرض غير مبنية، والحانوت: الدكان.
قال الحنفية: إذا كان المال المشترك داراً مع ضيعة، أو داراً مع حانوت، قسم القاضي كلاً منها على حدة، قسمة تفريق، لا قسمة جمع؛ لأنها أجناس مختلفة، أو في حكم الأجناس المختلفة. ومثل الدور: الأقرحة جمع قَراح: وهي قطعة من الأرض على حيالها، لا شجر فيها ولا بناء، أي إنها أرض مخلاة للزرع وليس عليها بناء.
وتقسم الأرض (العرصة) بالذراع ونحوه، وتقسم الدار بالقيمة (1) .
المطلب الرابع ـ السُفْل والعُلْو:
إذا كان الذي يراد قسمته، بعضه سفل ليس فوقه علو، أو فوقه علو للغير، وبعضه علو لا سفل له، بأن كان السفل للغير، وبعضه سفل له علو، وكل ذلك في دار واحدة، أو في دارين، قوّم كل واحد من السفل والعلو على حدة، وقسم بواسطة القاضي بالقيمة، ولا يعتبر غير ذلك؛ لأن كلاً منهما يصلح لما لا يصلح له الآخر، فصارا بمثابة جنسين مختلفين، وهذا يقتضي القسمة بالقيمة، ليتحقق التعديل.
وهذا رأي محمد، وهو الذي اختاره المشايخ، وعليه الفتوى.
__________
(1) تكملة الفتح: 13/8، تبيين الحقائق: 270/5، الدر المختار ورد المحتار: 184/5، اللباب: 99/4، البدائع: 22/7، م (1148) مجلة.(6/527)
وقال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف) : يقسم ذلك بالذَّرْع؛ لأن السفل والعلو من المذروعات. ثم اختلفا في كيفية تلك القسمة، فقال أبو حنيفة: ذراع من السفل بذراعين من العلو. وقال أبو يوسف: ذراع بذراع. ثم قيل: كل منهما على عادة أهل عصره (1) .
وقال الحنابلة (2) : إن كان بين الشريكين دار لها علو وسفل، فطلب أحدهما قسمها، لأحدهما العلو وللآخر السفل، فلا إجبار. أو طلب أحد الشريكين قسمة السفل دون العلو أو عكسه، فلا إجبار أيضاً؛ لأن كل واحد منهما مسكن منفرد، ولأن أحدهما قد يتضرر بالقسمة.
ولو طلب أحدهما قسمة كل من االعلو والسفل على حدة، فلا إجبار أيضاً، لما فيه من الضرر.
ولو طلب أحدهما قسمة العلو والسفل معاً، ولا ضرر، ولا رد عوض، وجب قبول القسمة، وأجبر الممتنع، وعدل بالقيمة؛ لأنه أحوط؛ أي كما هو المفتى به عند الحنفية.
ولا يجعل ذراع أسفل بذراعي علو، ولا عكسه، ولا ذراع بذراع، إلا أن يتراضى الشريكان على القسمة.
المطلب الخامس ـ قسمة الطريق:
قد تثور عدة مشكلات في شأن قسمة الطريق منها:
أولاً ـ مصير الطريق ونحوه من الارتفاقات:
لو قسم القسّام الدار المشتركة بين الشريكين، ولأحدهما مسيل ماء في ملك الآخر، أو طريق أو نحوه، ولم يتفق على الارتفاق في القسمة (3) :
أـ فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عن نصيب شريكه، أي الاستغناء عنه بوسيلةأخرى، وجب التحويل والصرف، فليس له بعدئذ أن يستطرق، ويسيل في نصيب الشريك الآخر، لأنه أمكن تحقيق القسمة من غير ضرر.
ب ـ وإن لم يمكن الصرف فسخت القسمة؛ لأنها مختلفة، لبقاء الاختلاط بين الحصص، فتستأنف القسمة.
ثانياً ـ اختلاف الشركاء في إلغاء الطريق:
لو اختلف الشركاء حول إلغاء الطريق بينهم في القسمة، نظر الحاكم في أمره.
__________
(1) تكملة الفتح: 17/8، تبيين الحقائق: 272/5، اللباب: 102/4، الدر المختار: 185/5.
(2) كشاف القناع: 267/6.
(3) تبيين الحقائق: 271/5 وما بعدها، تكملة الفتح: 15/8 وما بعدها، اللباب: 102/4، الدر المختار: 185/5، م (1143-1144، 1167) مجلة.(6/528)
أـ فإن كان يستقيم أن يفتح كل واحد منهم طريقاً في نصيبه، قسم الحاكم بينهم من غير طريق مشترك بينهما، ويلغى الطريق، تكميلاً للمنفعة، وتحقيقاً للإفراز من كل وجه.
ب ـ وإن كان لا يستقيم الفتح، شق طريقاً مشتركاً بينهم، ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق (1) .
ثالثاً ـ اختلاف الشركاء في مقدار الطريق:
إذا اختلف الشركاء في مقدار عرض الطريق:
أـ ففي طريق الدار: يجعل عرض الطريق، بمقدار عرض باب الدار وارتفاعه، حتى يتمكن كل واحد منهم من إخراج جناح أو إقامة شُرْفة في نصيبه، إن كان فوق الباب، لا فيما دونه؛ لأن في ذلك القدر كفاية في الدخول، وفي السلوك، أي المرور.
ب ـ وفي الطريق إلى الأرض: يترك بقدر ما يمر فيه حيوان، لتحقق الكفاية به في المرور (2) .
رابعاً ـ تبعية الطريق للحصص:
الحق في الطريق بمقدار سهام المقتسمين، كما كان عليه الحال قبل القسمة؛ لأن القسمة تمت في غير الطريق، فبقي الطريق مشتركاً كما كان قبل القسمة (3) .
خامساً ـ التفاوت في مقدار حصة الطريق:
يجوز الاتفاق بين الشركاء على أن تتفاوت حصص الشركاء في الطريق، وإن كانت سهامهم في الدار أو في الأرض متساوية، كأن تكون النسبة في الطريق أثلاثاً، وفي الدار ونحوها متناصفة؛ لأن القسمة مع التفاوت أو التفاضل جائزة بالتراضي، في غير الأموال الربوية (4) .
__________
(1) تكملة الفتح: 16/8، تبيين الحقائق: 272/5.
(2) المرجعان السابقان، الدر المختار: 185/5، البدائع: 29/7.
(3) المراجع السابقة.
(4) المراجع السابقة.(6/529)
المبحث الخامس ـ القاسم
تعيينه، وشروطه، وأجرته، وتعدد القسام.
أولاً ـ تعيين القاسم: القاسم: هو الذي يمارس القسمة. وقد يتولى الشركاء أنفسهم بالتراضي إجراء القسمة إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه، وقد يعينون وكيلاً عنهم، وهو الغالب، وقد يعينه القاضي. ويندب للإمام أو للقاضي تعيين قاسم دائم، يُرزق من بيت المال، ليقسم بلا أخذ أجر، وهو أحب وأولى؛ لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة، ولأن القسمة من جنس عمل القضاء، لأن به يتم فصل الخصومة وقطع المنازعة، ونفعه يعم الناس، فتكون كفايته في مالهم، غرماً بالغنم.
فإن لم يعين قاسم دائم، عين القاضي قاسماً يقسم بأجر المثل على حساب المتقاسمين؛ لأن النفع عائد لهم على الخصوص، وبقدر أجر مثله، كيلا يتحكم بطلب الزيادة عن المثل، كما أنه لا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد، لأنه لو تعين لتحكم أيضاً بالزيادة على أجر مثله. ولا يترك القاضي القسّام يشتركون (تكوين شركة مثلاً) كيلا يتواضعوا على مغالاة الأجر، فيتضرر الناس (1) ، فإن كونوا نقابة على النحو الحديث بإشراف الحاكم جاز؛ لأن الحاكم يوافق على نظام النقابة، ويمنع المغالاة.
ثانياً - شروط القاسم: اشترط الحنفية استحباباً وندباً في القاسم شروطاً هي مايأتي (2) :
1 - أن يكون عدلاً أميناً عالماً بالقسمة، لأنه لو كان غير عدل، خائناً أو جاهلاً بأمور القسمة يخاف منه الجور في القسمة لا يجوز.
2 - أن يكون معيناً من القاضي، لأن قسمة غيره لا تنفذ على الصغير والغائب، ولأنه أجمع لشرائط الأمانة.
3 - المبالغة في تعديل الأنصباء، والتسوية بين السهام، بأقصى الإمكان لئلا يدخل القصور في سهم.
وينبغي ألا يدع القاسم حقاً بين شريكين غير مقسوم من الطريق والمسيل والشِّرب إلا إذا لم يمكن.
__________
(1) تكملة الفتح: 5/8، الدر المختار: 179/5، تبيين الحقائق: 265/5، اللباب: 91/4 وما بعدها.
(2) المراجع السابق. البدائع: 19/7، 26.(6/530)
وينبغي ألا يضم القاسم نصيب بعض الشركاء إلى بعض، إلا إذا رضوا بالضم، لأنه يحتاج إلى القسمة ثانياً.
4 - أن يقرع بين الشركاء بعد الفراغ من القسمة، تطييباً للنفوس ولورود السنة بها (1) ، ولأن القرعة أنفى للتهمة.
واشترط الشافعية والحنابلة في القاسم المعين من قبل القاضي سبعة شروط وهي (2) :
الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والعدالة، وعلم المساحة والحساب؛ لأن علمهما آلة القسمة. وأضاف الشافعية اشتراط السمع والبصر والنطق والضبط، إذ لابد مما ذكر؛ لأن للقاسم ولاية على من يقسم لهم بسبب كون قسمته ملزمة، ومن لم تتوافر فيه هذه الشروط، فليس من أهل الولاية.
فإن كان القاسم كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً بالقسمة، لم تلزم القسمة إلا بتراضي الشركاء بها، كما لو اقتسموا بأنفسهم.
هذا إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فإن تراضى الشركاء بمن يقسم بينهم لم تشترط الشروط السابقة، إلا التكليف، لأنه وكيل عنهم.
ثالثاً ـ تعدد القسّام:
يصح إجراء القسمة بقاسم واحد أو أكثر، وقال المالكية: يكفي في قسمة القرعة قاسم واحد؛ لأن مهمته الإخبار عن نتيجة الاقتراع، كالقائف (العالم بالأنساب) والطبيب والمفتي.
ويكتفى بقاسم واحد عند المالكية والشافعية والحنابلة إن لم يكن في القسمة تقويم؛ لأنه في قسمه كالحاكم في حكمه.
فإن كان في القسمة تقويم: أي تقدير قيمة السلع المشتركة، فلا بد فيها من التعدد عند هؤلاء الفقهاء، فلا تجوز بأقل من اثنين؛ لأن التقويم شهادة بالقيمة، ولابد في الشهادة من اثنين (3) .
__________
(1) روى أحمد والشيخان عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» (نيل الأوطار: 217/6) .
(2) بجيرمي الخطيب: 338/4 وما بعدها، حاشية الباجوري: 351/2، كشاف القناع: 372/6، المغني: 126/9.
(3) الشرح الكبير: 500/3، الشرح الصغير: 665/3، بجيرمي الخطيب: 339/4، كشاف القناع: 373/6 وما بعدها.(6/531)
رابعاً ـ أجرة القاسم:
اتفق الفقهاء على أنه إذا كان القاسم معيناً من قبل القاضي، فأجره (أو رزقه)
من بيت مال المسلمين، إذا كان فيه سعة، لأن القسمة من جنس عمل القاضي، ولأن منفعته تعم الناس كما بان سابقاً.
وأما إن كان القاسم باختيار الشركاء في مقابل أجر، فالأجر على الشركاء.
ويتم توزيع الأجرة عند أبي حنيفة ومالك على الشركاء بحسب العدد، أو الرؤوس؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، وهو تمييز الحصص، والتمييز عمل واحد؛ لأن تمييز القليل من الكثير هو بعينه تمييز الكثير من القليل، فيتعلق الحكم بأصل التمييز، وتعب القاسم في تمييز النصيب اليسير كتعبه في تمييزه الكبير، وإذا لم يتفاوت العمل، لا تتفاوت الأجرة. وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة: يتم توزيع الأجرة بقدر الحصص أو الأنصباء؛ لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل، ولأن الأجرة كالنفقة التي يحتاجها الملك، فتقدر بقدر الملك، ويؤيده أن أجرة الكيال والوزّان بقدر الأنصباء إجماعاً، وكذا سائر المؤن كأجرة الراعي والحمل والحفظ وغيرها (1) . وهذا في تقديري هو الأولى والأصح؛ لأنه أعدل وأرفق بالناس.
__________
(1) البدائع: 19/7، تكملة الفتح: 5/8، تبيين الحقائق: 265/5، الدر المختار: 179/5 وما بعدها، اللباب: 92/4، الشرح الكبير: 500/3، القوانين الفقهية: ص 286، بجيرمي الخطيب: 340/4، كشاف القناع: 372/6، المغني: 126/9.(6/532)
المبحث السادس ـ أحكام القسمة
للقسمة أحكام عامة، وأحكام خاصة في الإثبات.
المطلب الأول ـ أحكام القسمة العامة:
لقسمة الأعيان أحكام عامة، أهمها ما يأتي:
أولاً ـ لزوم القسمة:
القسمة من العقود اللازمة باتفاق الفقهاء (1) ، لا يجوز نقضها، ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ كما سأبين في حكم نقض القسمة. ولكن لبعض المذاهب تفصيل في مبدأ اللزوم:
قال الحنفية (2) : تلزم قسمة التراضي وقسمة التقاضي بعد تمامها، فلا يجوز الرجوع عنها إذا تمت.
أما قبل التمام، فكذلك تلزم قسمة التقاضي، فلو قسم القاضي المال المشترك بين قوم، فخرجت السهام كلها بالقرعة، لا يجوز لهم الرجوع، وكذا لا رجوع إذا لم تتم القسمة، كأن خرج بعض السهام دون بعض.
وأما قسمة التراضي: فيجوز للشركاء الرجوع عنها قبل تمامها؛ لأن قسمة التراضي لا تتم إلا بعد خروج السهام كلها، كما هو الشأن في كل عقد كالبيع مثلاً، يجوز الرجوع عنه قبل تمامه.
إلا أنه إذا خرج جميع السهام إلا واحداً، لم يجز الرجوع في قسمة التراضي، لصيرورة السهم متعيناً لمن بقي من الشركاء أو لتعيين نصيب ذلك الواحد.
وأطلق المالكية القول باللزوم فقالوا: ولزم ما خرج بالقسمة، فليس لأحدهم نقضها، وكذا يلزم الشريك في قسمة التراضي، فمن أراد الفسخ لم يكن منه (3) .
__________
(1) البدائع: 28/7، بداية المجتهد: 267/2، المهذب: 309/2، المغني: 125/9، الشرح الصغير: 676/3، رد المحتار: 184/5، م (1157) مجلة.
(2) البدائع، رد المحتار، المكان السابق، م (1158) مجلة.
(3) الشرح الصغير، المكان السابق.(6/533)
وقال الشافعية (1) : تلزم قسمة الإجبار من غير تراضٍ، ومن المعلوم أن قسمة الإفراز والتعديل فيهما الإجبار، وأما قسمة التراضي قسمة رد دون غيرها، فالأرجح عندهم أنه لا بد من الرضا بها بعد خروج القرعة، ولا يلزم حكم القاسم إلا برضا الشركاء؛ لأنه لما اعتبر الرضا بالقسمة ابتداء، اعتبر بعد خروج القرعة.
والحنابلة (2) قالوا: تلزم عندهم قسمة الإجبار، فهم كالشافعية، وفي قسمة التراضي عندهم وجهان كالشافعية، لكن الأرجح عندهم أنه إذا خرجت القرعة لزمت القسمة؛ لأن القاسم كالحاكم، وقرعته كالحاكم، لأنه مجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق، فوجب أن تلزم قرعته.
ثانياً ـ ثبوت حق الخيار في القسمة:
قال الحنفية (3) : القسمة ثلاثة أنواع: قسمة لا يجبر الآبي، كقسمة الأجناس المختلفة، وقسمة يجبر الآبي، في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، وقسمة يجبر الآبي، في غير المثليات المتحدة الجنس، كالثياب من نوع واحد، والبقر والغنم.
والخيارات ثلاثة: خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية.
1 - ففي قسمة الأجناس المختلفة، حيث لا يجبر الآبي بها: تثبت الخيارات كلها؛ لأنها مبادلة من كل وجه، فهي كالبيع.
2 - وفي قسمة ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات، حيب يجبر الآبي عليها، يثبت خيار العيب، دفعاً للضرر والجور، دون خيار الشرط والرؤية، إذ لا فائدة في إثباتهما، لعدم الضرر.
3 - وفي قسمة القيميات، غير المثليات، كالثياب من نوع واحد، وكالبقروالغنم، حيث يجبر الآبي في متحد الجنس، ولا يجبر في غير متحد الجنس، كالغنم مع الإبل: يثبت خيار العيب دفعاً للضرر.
أما خيار الشرط والرؤية، ففي ثبوتهما روايتان، والصحيح منهما والذي عليه الفتوى: أنه يثبت.
والخلاصة: تثبت هذه الخيارات الثلاثة في تقسيم الأجناس المختلفة، وفي قسمة القيميات المتحدة الجنس أو المختلفة الجنس، ويثبت خيار العيب دون خيار الشرط والرؤية في قسمة المثليات المتحدة الجنس.
__________
(1) بجيرمي الخطيب: 344/4، المهذب: المكان السابق.
(2) المغني، المكان السابق، كشاف القناع: 373/6.
(3) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 265/5، انظر البدائع: 28/7، م (1153-1155) مجلة.(6/534)
وقال المالكية في الأرجح (1) : يثبت خيار العيب في قسمة المراضاة: (بأن يتراضيا على أن كل واحد يأخذ شيئاً مما هو مشترك بينهم، يرضى به بلا قرعة) لأنها كالبيع.
وقال الحنابلة (2) : إذا ظهر في نصيب أحد الشريكين عيب لم يعلمه قبل القسمة، فله فسخ القسمة، أو الرجوع بأرش العيب؛ لأنه نقص في نصيبه، فملكه كالمشتري.
واكتفى الشافعية بالنص على أن قسمة الإفراز تنقض في حال الحيف أو الغلط. وأما قسمة الرد أو التعديل فهي بيع (3) ، أي يثبت فيها خيار العيب.
ثالثاً ـ آثار القسمة:
يترتب على القسمة الأحكام التالية (4) :
1 - يتعين نصيب كل شريك مستقلاً عن نصيب غيره، فيملك حصته مستقلاً بعد القسمة.
2 - يملك الشريك المقسوم له جميع التصرفات الثابتة لصاحب الملكية المطلقة، من بيع وإيجار ورهن، وبناء وهدم، ونحوها.
3 - لا تثبت الشفعة في القسمة؛ لأن حق الشفعة في المبادلة المحضة، والقسمة مبادلة من وجه واحد، فلا تحتمل الشفعة.
والظاهر أن هذا الحكم متفق عليه في المذاهب (5) .
رابعاً ـ نقض القسمة:
تنقض القسمة بالإقالة أو بالتراضي على فسخها.
ويجب نقض القسمة بعد وجودها، وبالرغم من لزومها في حالات هي عند الحنفية ما يأتي:
1 - ظهور دين على الميت: إذا وقعت القسمة، ثم ظهر دين على الميت يحيط بالتركة المقسومة، تفسخ القسمة، إذا لم يكن للميت مال سواه، إلا إذا قضى الورثة الدين، أو أبرأ الغرماء الدائنون ذمم الورثة، أو بقي من التركة ما يفي بالدين لزوال المانع من لزوم القسمة، فتمضي القسمة على ما هي عليه.
__________
(1) الشرح الصغير: 662/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 267/2.
(2) المغني: 128/9 وما بعدها، كشاف القناع: 376/6.
(3) بجيرمي الخطيب: 344/4.
(4) البدائع: 28/7، مادة (1162) مجلة.
(5) المهذب: 306/2، المغني: 121/9.(6/535)
والدليل على مسوغ الفسخ لهذا السبب: قوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/4] ، ولأن الدين إذا كان محيطاً بالتركة (مستغرقاً) ، تبين أنه لا ملك للورثة فيها، بل هي ملك للميت يتعلق بها حق الغرماء، وقيام ملك الغير في المحل المقسوم، يمنع صحة القسمة.
وإذا لم يكن الدين محيطاً بالتركة، بقي للغرماء حق الاستيفاء ثابتاً في قدر الدين من التركة، على الشيوع، فيمنع نفاذ القسمة (1) .
وهذا الرأي عندي هو الأرجح، رعاية لحقوق الدائنين.
وقال الحنابلة (2) : لا تبطل القسمة بظهور دين على الميت؛ لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لأنه تعلق بها بغير رضا الورثة.
وقال الشافعية (3) : إذا ظهر دين على الميت، فإن قالوا: القسمة: تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قالوا: إنها بيع: ففي نقضها وجهان: في وجه إنها تنقض لتعلق حق الغير بالمال. وفي وجه: لا تنقض إذا قضى الوارث الدين.
2 - ظهور وارث آخر أو موصى له في قسمة التراضي: إذا تمت القسمة، ثم ظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو الربع مثلاً، نقضت القسمة؛ لأن الوارث، والموصى له شريك الورثة.
ولا تنقض قسمة التقاضي في الأصح؛ لأن القسمة حينئذ محل اجتهاد، وقضاء القاضي إذا صادف محل الاجتهاد ينفذ ولا ينقض (4) .
__________
(1) البدائع: 30/7، الدر المختار: 187/5، تكملة الفتح: 26/8، م (1161) مجلة.
(2) المغني: 129/9.
(3) المهذب: 310/2، وانظر: 327/1.
(4) البدائع: 30/7، رد المحتار: 187/5.(6/536)
3 - ظهور غبن فاحش:
إذا حدثت القسمة، ثم تبين فيها غبن فاحش: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين، كأن قوّم المال بألف وهو لا يساوي خمس مئة، فسخت قسمة التقاضي باتفاق الحنفية؛ لأن تصرف القاضي مقيد بالعدل ولم يوجد، والغبن حصل بغير رضا المالك فصار كبيع الأب والوصي، ينقض بالغبن الفاحش. وتفسخ أيضاً قسمة التراضي في الأصح؛ لأن شرط جوازها المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها. وهذا هو الصحيح المعتمد المفتى به عند الحنفية كما ذكر ابن عابدين، أي أن قسمة التراضي تفسخ بالغبن الفاحش كقسمة التقاضي.
وتسمع دعوى الغبن الفاحش إن لم يقر المدعي باستيفاء حقه، فإن أقر باستيفاء حقه لا تسمع دعوى الغبن، أو الغلط للتناقض بين الإقرار والادعاء.
ولا تسمع دعوى الغبن اليسير الذي يدخل تحت المقومين، ولا تقبل بينته (1) .
ونقض القسمة بالغبن الفاحش أو الجور متفق عليه بين الفقهاء (2) ، إلا أن الشافعية فصلوا في الأمر، كما سيذكر في حالة الغلط.
4 - وقوع غلط في المال المقسوم:
إذا ادعى أحد الشركاء بعد القسمة أن شيئاً من نصيبه وقع في يد صاحبه غلطاً، وكان قد أقر أو أشهد على نفسه باستيفاء حقه (3) ، لم يصدق على الذي يدعيه، إلا ببينة (إقرار الخصم أو نكوله) ؛ لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها، فلا يصدق إلا بحجة، ولا يكون متناقضاً لأنه اعتمد على فعل الأمين، ثم ظهر غلطه.
فإن لم يكن له بينة، استحلف الشركاء، فمن نكل منهم، جمع بين نصيبه ونصيب المدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة، فيعاملان على زعمهما.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 187/5، تبيين الحقائق: 273/5 وما بعدها، م (1160) مجلة.
(2) الشرح الصغير: 677/3، بجيرمي الخطيب: 344//4، المغني: 127/9.
(3) الاستيفاء: عبارة عن قبض الحق بكامله.(6/537)
وإن لم يكن قد أقر بالاستيفاء، تحالف الشركاء (حلف كل منهم يميناً) وفسخت القسمة؛ لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة، فصار كالاختلاف في مقدار المبيع.
وإن قال: (أصابني إلى موضع كذا، فلم تسلم إلي) ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه، تحالفا، وفسخت القسمة، لاختلافهما في نفس القسمة، فإنهما اختلفا في قدر ما حصل بالقسمة، فأشبه الاختلاف في قدر المبيع.
وإن قال (استوفيت حقي) . ثم قال (أخذت بعضه) فالقول قول خصمه مع يمينه، لأنه يدعي عليه الغصب، وهو منكر، فالقول قول المنكر (1) .
والقول بنقض القسمة في حال ادعاء الغلط، وإثباته بالبينة، محل اتفاق أيضاً بين الفقهاء (2) . إلا أن الشافعية قالوا:
لو ثبت بحجة (شاهدي عدل أو رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين) غلط أو حيف في قسمة إجبار أو قسمة تراض، وهي بالإفراز (أو الأجزاء) ، نقضت القسمة بنوعيها.
فإن لم تكن بالأجزاء بأن كانت بالتعديل أو الرد، لم تنقض؛ لأنها بيع، وإن لم يثبت ذلك، فللمدعي تحليف شريكه.
5 - استحقاق بعض المال المقسوم:
إذا ظهر مستحق في المال المقسوم، أي تبين وجود شريك آخر في المال، فله صور ثلاث عند الحنفية (3) علماً بأن الاستحقاق: هو أن يدعي شخص ملكية شيء أو بعضه، ويثبت دعواه، ويقضي له القاضي بملكيته وانتزاعه من يد آخر كالمشتري أو المقسوم له.
أـ لو كان المستحق بعضاً شائعاً في كل المقسوم، كالخمس أو الربع، فسخت القسمة باتفاق الحنفية، لعدم تحقق معنى الإفراز والتمييز.
__________
(1) تكملة الفتح: 20/8 وما بعدها، الدر المختار: 186/5، تبيين الحقائق: 273/5، اللباب: 103/4 ومابعدها، البدائع: 26/7.
(2) المراجع السابقة.
(3) تكملة الفتح: 23/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 274/5، الدر المختار: 186/5 وما بعدها، اللباب: 106/4، م (1145) مجلة.(6/538)
ب ـ ولو كان المستحق بعضاً معيناً من نصيب أحد الشركاء، لم تفسخ القسمة باتفاق الحنفية؛ لأن الاستحقاق، لما ورد على جزء معين، لم يظهر أن المستحق كان شريكاً في المال، فلا تبطل القسمة، لكن يرجع المستحق منه على صاحبه بقدر ما يخصه من الجزء المستحق، إذ تبين أنه لم يكن ملكه، فيرده.
جـ ـ ولو كان المستحق بعضاً شائعاً في أحد النصيبين، لم تفسخ القسمة جبراً على المستحق منه عند أبي حنيفة ومحمد، وإنما يخير المستحق منه، بين أن يرجع بحصة البعض في نصيب صاحبه، وبين أن يفسخ؛ لأنه بالاستحقاق ظهر أن القسمة لم تصح في القدر المستحق فقط.
وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن للشركاء شريكاً آخر، ولو كان هناك شريك، لم تصح القسمة، كما في استحقاق بعض شائع في النصيبين.
أما الشافعية والحنابلة، فقالوا (1) : إن استحق من حصة أحد الشريكين شيء معين لغيرهما، بأن اختص به أحدهما، أو أصابه منه أكثر من نصيب الآخر، بطلت القسمة، لاحتياج أحدهما إلى الرجوع على الآخر بسبب عدم تحقق التعديل بين الأنصباء.
وإن كان البعض المستحق مقسوماً بين الشريكين بالسوية، كأن اقتسما أرضاً، فاستحق من حصتهما معاً قطعة معينة على السواء في الحصتين، لم تبطل القسمة فيما بقي من الأرض؛ لأن القسمة إفراز حق كل واحد منهما، وقد أفرز.
وإن استحق بعض المال المقسوم شائعاً في الحصتين أو إحداهما، بطلت القسمة فيه، لا في الباقي عند الشافعية في الأصح، عملاً بمبدأ تفريق الصفقة.
وبطلت القسمة في الجميع عند الحنابلة؛ لأن المستحق شريك ثالث، وقد اقتسم المال من غير حضوره، ولا إذنه، وذلك سواء في قسمة التراضي أوالإجبار، ولأن القصد من القسمة تمييز الحقين، ولم يحصل. وهذا رأي أبي يوسف كما تقدم.
__________
(1) المهذب: 309/2، بجيرمي الخطيب: 344/4، المغني: 128/9، كشاف القناع:376/6.(6/539)
المطلب الثاني ـ الأحكام الخاصة بالإثبات:
هناك أحكام خاصة بالقسمة متعلقة بكيفية فض النزاع بين المتقاسمين إذا اختلفوا في بعض الأمور، مثل الاختلاف حول الحدود، أو تقويم الغبن، أو بقاء بعض الحق في يد الشريك الآخر، حيث تعارضت أدلة الإثبات.
أولاً ـ الاختلاف في الحدود:
إذا اختلف المتقاسمان في الحدود، فادعى كل واحد منهما بيتاً في يد صاحبه لدخوله في حده، بعد القسمة، وأقام كل منهما البينة على دعواه، قضي لكل واحد بالجزء الذي في يد صاحبه؛ لأنه خارج، وبينة الخارج ترجح على بينة ذي اليد.
وإن أقام أحدهما بينة على أن بيتاً له في يد صاحبه أصابه بالقسمة وأنكر الآخر قضي له بالبينة. وإن لم تقم لأحدهما بينة، تحالفا، وترادا كما في البيع (1) . وتفسخ القسمة (2) .
ثانياً ـ الاختلاف في تقويم الغبن:
إذا اختلف المتقاسمان في تقويم الغبن، فإما أن يكون يسيراً أو فاحشاً.
أـ فإن كان الغبن يسيراً: وهو الذي يدخل تحت تقويم المقومين، لم يلتفت للادعاء، سواء أكانت القسمة بالتراضي، أم بقضاء القاضي، لأن الاحتراز عن مثله عسير جداً. ومثلا الغبن اليسير: أن يكون ثمن السلعة عشرة، فيقدره أهل الخبرة بعضهم بعشرة وبعضهم بتسعة، فالواحد يعتبر غبناً يسيراً.
ب ـ وإن كان الغبن فاحشاً: وهو الذي لا يدخل تحت تقويم المقومين (3) ، كأن يقدر أهل الخبرة سعر السلعة ذات العشرة بثمانية أو سبعة، ولا يقدرها أحد
__________
(1) روى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده حديثاً بلفظ «إذا اختلف المبتبايعان، والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما، تحالفا» (نيل الأوطار: 224/5) .
(2) البدائع: 26/7، تكملة الفتح: 22/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 274/5، الدر المختار: 186/5.
(3) حدد متأخرو الحنفية الغبن الفاحش بما يعادل نصف عشر القيمة في المنقولات (أي 5%) والعشر (10%) في الحيوان، والخمس (20%) في العقارات.(6/540)
بعشرة. فإن كانت القسمة بقضاء القاضي، فسخت؛ لأن الرضا لم يوجد بين المتخاصمين، وتصرف القاضي مقيد بالعدل، ولم يوجد. وإن كانت القسمة بالتراضي، لم يلتفت للادعاء عند بعض الحنفية؛ لأن القسمة في معنى البيع، ودعوى الغبن فيه من المالك لا توجب نقضه (1) .
أما البيع من غير المالك كبيع الأب والوصي، فإنه ينقض بالغبن الفاحش (2) .
والأصح كما تقدم أنه تسمع دعواه وتفسخ قسمة التراضي كقسمة التقاضي بالغبن الفاحش؛ لأن شرط جواز القسمة المعادلة، ولم توجد، فوجب نقضها.
ثالثاً ـ الاختلاف في استيفاء النصيب:
إذا اختلف المتقاسمان بعد القسمة، فأنكر بعض الشركاء استيفاء نصيبه، وادعى أن بعضه في يد صاحبه، وأنكر الآخر.
أـ فإن شهد قاسمان أو أكثر باستيفاء المدعي حقه، تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنهما شهدا على فعل غيرهما، وهو القبض، لا على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما هو التمييز، ولا حاجة للشهادة عليه.
وقال محمد: لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما؛ لأن فعلهما التمييز.
ب ـ وإن شهد قاسم واحد باستيفاء الحق، لا تقبل شهادته؛ لأن شهادة الفرد الواحد لا تقبل على غيره (3) .
__________
(1) الغبن الفاحش وحده لا يعيب في معظم الاجتهادات الرضا ما لم يصاحبه شيء من الخلابة أو التدليس أي أن يخدع أحد العاقدين الآخر بوسيلة موهمة قولية أو فعلية تحمله على الرضا بالعقد، ومنه كتمان عيب المبيع، ودليلهم حديث «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» .
(2) تكملة الفتح والعناية: 22/8، تبيين الحقائق: 273/5 وما بعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 185/5 وما بعدها.(6/541)
النَّوع الثَّاني: قسمة المنافع أو المهايأة
وفيه مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ تعريف قسمة المهايأة، ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ محل المهايأة.
المبحث الثالث ـ صفة المهايأة.
المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة.
المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد اتفاق المهايأة.
المبحث الأول ـ تعريف المهايأة ومشروعيتها:
أولاً ـ تعريف المهايأة: المهايأة في اللغة: مفاعلة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة للمتهيء للشيء، فكل من الشريكين يرضى بهيئة واحدة، ويختارها. أو أن الشريك الثاني ينتفع بالعين على الهيئة التي ينتفع بها الشريك الأول، فهي لغة: أن يتواضع الشريكان على أمر، ويتراضيا به. والمهايأة فقهاً: هي عبارة عن قسمة المنافع (1) .
وعرفها المالكية (2) : بأنها اختصاص كل شريك عن شريكه في شيء متحد كدار، أو متعدد كدارين، بمنفعة شيء متحد أو متعدد في زمن معلوم. وبناء عليه: تعين الزمن شرط، إذ به يعرف قدر الانتفاع، وإلا فسدت المهايأة.
ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة جائزة استحساناً للحاجة إليها، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع. ومحلها: منافع الأعيان المشتركة التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. ولا تبطل بموت الشريكين ولا بموت أحدهما. ولو طلب أحدهما القسمة أعياناً بطلت (3) .
وقسمة الأعيان أقوى من المهايأة؛ لأن الأولى جمع المنافع في زمان واحد على الدوام، والتهايؤ جمع المنافع على التعاقب بصفة وقتية (4) . فإذا طلب أحد الشريكين القسمة، والآخر المهايأة، يجيب القاضي الأول ويقسم. واستدلوا على مشروعية المهايأة بالقرآن والسنة.
أما القرآن: فقوله تعالى حكاية عن قسمة مهايأة ناقة صالح عليه السلام: {هذه ناقة لها شِرْب، ولكم شِرْب يوم معلوم} [الشعراء:155/26] وهو المهايأة بعينها.
وأما السنة: فوقائع منها: أنه صلّى الله عليه وسلم قسم في غزوة بدر كل بعير من الأبعرة السبعين بين ثلاثة نفر، وكانوا يتعاقبون على ركوبه (5) .
__________
(1) العناية على شرح الهداية بهامش تكملة الفتح: 27/8، رد المحتار: 189/5، م (1174) مجلة.
(2) الشرح الصغير: 660/3.
(3) رد االمحتار، المكان السابق، اللباب: 106/4.
(4) الهداية مع تكملة الفتح: 27/8.
(5) سيرة ابن هشام: 613/1.(6/542)
المبحث الثاني ـ محل المهايأة:
محل المهايأة: المنافع دون الأعيان، لأنها قسمة المنفعة دون العين، فكان محلها المنفعة دون العين.
وعلى هذا: لو اتفق اثنان على أن يسكن أحدهما في قسم من دار، والآخر في القسم الباقي، أو على أن يسكن أحدهما العلو، والآخر السفل، صح، وله إجارته وأخذ غلته. وكذا تجوز المهايأة في الأراضي المشتركة.
أما لو تهايآ في نخل أو شجر بين شريكين، على أن يأخذ كل واحد منهما جزءاً يستثمره، لا يجوز؛ أو تهايآ في الغنم المشتركة على أن يأخذ كل واحد منهما عدداً معيناً منهما، وينتفع بألبانها، لا يجوز؛ لأن المهايأة عقد يرد على قسمة المنافع، والثمر واللبن عين، فلا يصلح محلاً للمهايأة، وهذا متفق عليه بين الفقهاء (1) .
وقال الشافعية: ولا تصح قسمة الديون في الذمم ولو بالتراضي، وكل من أخذ منها شيئاً لا يختص به. ونصت المادة (1175) من المجلة على أن «المهايأة لا تجري في المثليات، بل في القيميات، ليكون الانقطاع بها ممكناً حال بقاء عينها» .
المبحث الثالث ـ صفة المهايأة:
للفقهاء رأيان في لزوم المهايأة، رأي للجمهور غيرالمالكية بأنها غير لازمة، ورأي للمالكية بأنها لازمة. وعباراتهم ما يأتي:
__________
(1) البدائع: 32/7، تبيين الحقائق: 277/5، القوانين الفقهية: ص 285، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 498/3، الشرح الصغير: 660/3 وما بعدها، بجيرمي الخطيب: 345/4، المغني: 130/9، كشاف القناع: 367/6.(6/543)
قال الحنفية (1) : المهايأة بالتراضي زماناً أو مكاناً عقد غير لازم، فلو طلب أحد الشريكين من الحاكم المهايأة، والآخر القسمة، يجاب الثاني؛ لأن قسمة العين أقوى من قسمة المنفعة؛ لأن في الأولى تجتمع المنافع في وقت واحد على الدوام، وفي الأخرى تجتمع على التعاقب (2) .
وبناء عليه تكون المهايأة عقداً جائزاً محتملاً للفسخ، كسائر العقود الجائزة، تفسخ ولو بغير عذر، ولا تبطل المهايأة بموت أحد الشريكين أو بموتهما، بخلاف الإجارة، لأنها لو بطلت أي المهايأة أعادها القاضي للحال أي استأنفها حالاً، ولا فائدة من الاستئناف، كما لا فائدة في الانقضاء والإبطال، لأنه يجوز لكل واحد فسخها، بغير رضا الآخر.
أما المهايأة بالتقاضي: فهي عقد لازم، كما أوضح ابن عابدين، فلا يجوز لكل من الشريكين نقضها بلا عذر، ما لم يصطلحا.
وقال الشافعية (3) : المهايأة عقد غير لازم، لكل من الشريكين الرجوع عنها متى شاء، ولا إجبار فيها من القاضي.
وكذلك قال الحنابلة (4) : لا تلزم المهايأة، فمتى رجع أحد الشريكين عنها، انقضت المهايأة، والمهايأة معاوضة لا يجبر عليها كالبيع كما قال الشافعية. ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك، وانتقضت المهايأة، أي كما قال الحنفية.
أما المالكية فقالوا (5) : وتلزم المهايأة كالإجارة، فهي من العقود اللازمة، فليس لأحدهما فسخها، فإذا تراضيا على شيء وقعت صحيحة، لا تفسخ إلا برضاهما أو برضاهم إن كانوا جماعة.
__________
(1) البدائع: 32/7، الدر المختار ورد المحتار: 184/5، 189، تبيين الحقائق: 276/5.
(2) انظر المادة (1182) مجلة الآتي نصها في الحاشية التالية.
(3) بجيرمي الخطيب: 345/4.
(4) المغني: 130/9.
(5) بداية المجتهد: 266/2، القوانين الفقهية: ص 285.(6/544)
المبحث الرابع ـ أنواع المهايأة:
للمهايأة تقسيمان ـ الأول من حيث التراضي والجبر، والثاني ـ من حيث الزمان والمكان.
التقسيم الأول ـ المهايأة من حيث الرضا والجبر:
تقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة بالتراضي، ومهايأة بالتقاضي.
1 - المهايأة بالتراضي: هي أن يتفق شخصان على كيفية الانتفاع بالشيء المشترك بينهما، على طريق التعاقب أو التناوب زماناً أو مكاناً. وهي جائزة باتفاق الفقهاء.
2 - المهايأة بالتقاضي: هي التي تتم بواسطة القاضي جبراً بناء على طلب أحد الشريكين. فيهايئ القاضي بينهما جبراً إما بالمناوبة الزمانية مدة معينة بنسبة حصة كل منهما، وإما بالمهايأة المكانية بالاختصاص بمنفعة بعض المال المشترك بنسبة الحصص.
وهي جائزة عند الحنفية (1) ، تحقيقاً للعدل بين الشركاء، وتوفيراً لمصلحتهم (2) ، فللقاضي جبرهم في الأصح، لاحتياج الناس إلى ما هو أعدل وهو القسمة بالقضاء. وقد نصت المادة (1181) مجلة على ما يأتي لبيان أحوال المهايأة الجبرية: «إذا طلب المهايأة أحد أصحاب الأشياء المشتركة المتعددة، وامتنع الآخر: فإن كانت الأعيان المشتركة متفقة المنفعة، فالمهايأة جبرية. وإن كانت مختلفة المنفعة فلا جبر.
مثلاً: داران مشتركتان طلب أحد الشريكين المهايأة على أن يسكن إحداهما، والأخرى للآخر. أو حيوانان على أن يستعمل أحدهما واحداً، والآخر الآخر، وامتنع شريكه، فالمهايأة جبرية.
__________
(1) بداية المجتهد: المكان السابق، المادة (1176) من المجلة.
(2) تبيين الحقائق: 276/5.(6/545)
أما لو طلب أحدهما المهايأة على سكنى الدار، وللآخر إيجار الحمام، أو على سكنى أحدهما في الدار وزراعة آخر الأراضي، فالمهايأة بالتراضي، وإن لم تكن جائزة، إلا أنه إذا امتنع الآخر لا يجبر عليها (1) » .
ولا يجبر على المهايأة من أباها عند المالكية والشافعية والحنابلة (2) (الجمهور) ، لأنها معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع، ولأن حق كل واحد في المنفعة شيء عاجل، فلا يجوز تأخيره بغير رضاه، كالدين، أي فلا تجوز المهايأة بالتقاضي عند الجمهور.
وقال المالكية: لا تجوز قسمة المنافع بالقرعة. وقال الشافعية: إذا اتفقوا عليها، وتنازعوا في البداءة (بدء المناوبة) أقرع بينهم.
التقسيم الثاني ـ المهايأة من حيث الزمان والمكان:
تنقسم المهايأة بهذا الاعتبار إلى نوعين: مهايأة زمانية، ومهايأة مكانية.
فالأولى ترجع للزمان، والثانية ترجع للمكان. والمهايأة عند المالكية (3) قسمان: المهايأة بالأزمان، والمهايأة بالأعيان. والأولى: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين بالعين (الشيء المشترك كله) مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه كأن يسكن أحدهما الدار شهراً، ويسكنها الآخر شهراً آخر، مثل أن يسكن أحدهما الدار شهراً ويسكنها الآخر شهراً أخر. والثانية: هي أن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة، كأن يسكن أحدهما داراً، ويسكن الآخر داراً أخرى مدة من الزمان، أو يركب أحدهما فرساً والآخر فرساً أخرى مدة معينة.
__________
(1) وانظر تبيين الحقائق: 276/5، تكملة الفتح: 30/8.
(2) القوانين الفقهية: ص 285، بجيرمي الخطيب: 345/4، المغني: 130/9.
(3) بداية المجتهد: 266/3، القوانين الفقهية: ص 285.(6/546)
1 - المهايأة الزمانية:
أولاً ـ تعريفها: هي أن ينتفع كل واحد من الشريكين على التعاقب بجميع العين المشتركة مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه، أو بنسبة حصته (1) . كأن يتهايأ اثنان على أن يزرعا الأرض المشتركة بينهما، هذا سنة، والآخر سنة أخرى. أو على سكنى الدار بالمناوبة، هذا سنة، والآخر سنة. أو على استعمال كتاب، هذا أسبوعاً، والآخر مثله. وقد نصت المادة (1187) مجلة على أنه لا تجوز المهايأة على الأعيان، فلا تصلح المهايأة على ثمرة الأشجار المشتركة، ولا على لبن الحيوانات وصوفها على أن يكون لأحد الشريكين ثمرة مقدار من هذه الأشجار، ولآخر ثمرة مقدار منها، أو على لبن قطيع من الغنم المشترك أو صوفه لواحد، ولبن قطيع ثان، وصوفه للآخر.
ثانياً ـ مشروعيتها: وهي جائزة لقوله تعالى حكاية عن مهايأة ناقة صالح عليه السلام في الشِّرب: {هذه ناقة لها شرب، ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء:155/26] {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، كل شرب محتضر} [القمر:28/54] ولحاجة الناس إليها.
__________
(1) بداية المجتهد، المكان السابق، المادة (1176) من المجلة.(6/547)
ثالثاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي: المهايأة الزمانية عند الحنفية كقسمة الأعيان: إفراز من وجه، مبادلة من وجه؛ لأن المهايئ كالمستقرض لنصيب شريكه، فكان فيها معنى المبادلة من وجه (1) ، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته، وبناء على ذلك يكون ذكر المدة وتعيينها في المهايأة مثلاً كذا يوماً أو كذا شهراً، لازماً.
وقال الحنابلة: المهايأة معاوضة، فلا يجبر عليها كالبيع (2) .
وصرح الشافعية: أن من استوفى زائداً على حقه، لزمه أجرة ما زاد على قدر حصته من الزائد (3) . ويفهم منه أن المهايأة مبادلة.
ونصت المادة (1178) من المجلة على أن «المهايأة زماناً نوع مبادلة، فتكون منفعة أحد أصحاب الحصص في نوبته مبادلة بمنفعة حصة الآخر في نوبته..» .
رابعاً ـ تعيين المدة: يشترط في المهايأة الزمانية تعيين المدة، بخلاف المهايأة المكانية؛ لأن تعيين الزمان يعرف به قدر الانتفاع، فتصير به المنافع معلومة، ولا تصير معلومة إلا ببيان زمان معلوم، ولأن هذه المهايأة مقدرة بالزمان، أما المهايأة المكانية فمقدرة مجموعة بالمكان، ومكان المنفعة معلوم (4) . وقد رتبت المادة السابقة (1178) من المجلة على كون هذه المهايأة نوع مبادلة، فقررت: «وبناء على ذلك ذكر المدة وتعيينها في المهايأة، مثلاً كذا يوماً، أو كذا شهراً: لازم» .
__________
(1) تبيين الحقائق: 276/5.
(2) المغني: 130/9.
(3) بجيرمي الخطيب: 345/4.
(4) البدائع: 32/7.(6/548)
وفصل المالكية (1) في مقدار المدة بعد اشتراطهم تعيين الزمن، وانتفاء الغرر، فقالوا: تجوز المهايأة في المنقولات في المدة اليسيرة، ولا تجوز في المدة الكثيرة، فلا تصح لزمن طويل في الحيوان ونحوه كالثوب. وتجوز المهايأة في العقارات كالدار والأرض المأمونة (بأن كانت ملكاً) لمدة بعيدة، فيسكن أحدهما في الدار مدة معينة، ويسكن الآخر مدة أخرى، ويزرع أحدهما الأرض عاماً، والآخر عاماً مثله. أما الأرض غير المأمونة (غير المملوكة) كالمعارة، فلا يجوز قسمها مهايأة، وإن قلت المدة، إذ قد يرجع المستعير في إعارته، فيفوت على الآخر الذي لم تأت نوبته حقه من الانتفاع.
خامساً ـ انتهاؤها: لا تبطل المهايأة بموت أحد العاقدين، ولا بموتهما؛ لأنها ـ كما ذكرت سابقاً ـ لو بطلت لاستأنفها الحاكم، ولا فائدة في الاستئناف. وإنما تنقضي باتفاق الطرفين على إنهائها، ببيع المال المشترك (2) .
2 - المهايأة المكانية:
أولاً ـ تعريفها: هي أن يخصص كل واحد من الشريكين ببعض المال المشترك بنسبة حصته (3) ، فيتم الانتفاع معاً في وقت واحد. ففي المهايأة في دار تجمع منفعة أحدهما في جزء من الدار، ومنفعة الآخر في جزء آخر.
ثانياً ـ مشروعيتها: المهايأة المكانية جائزة؛ لأنها نوع من القسمة، مثل قسمة الأعيان، فلو تهايآ على أن يأخذ أحد الشريكين في الأبنية الطابقية السفل، والآخر العلو، جاز، فتكون قسمة المنفعة بالمهايأة المكانية جائزة أيضاً (4) .
وبما أن المهايأة الزمانية جائزة للحاجة عند تعذر اجتماع الشريكين على الانتفاع بالعين الواحدة، فكذلك المكانية.
ثالثاً ـ محلها: تجري المهايأة المكانية في المال المشترك الذي يقبل القسمة كالدار الكبيرة. أما ما لا يقبل القسمة كالسيارة والحيوان والكتاب والبيت الصغير، فلا تمكن فيه المهايأة المكانية، وإنما تتعين فيه المهايأة الزمانية.
المهايأة في الدور:
وبناء عليه تجوز في ظاهر الرواية المهايأة في الدور، سواء أكانت زمانية أم مكانية، للاستعمال الشخصي أو للاستغلال (الانتفاع بواسطة الغير بالأجرة ونحوها) ؛ لأن الظاهر عدم التغير في العقار، ولأن المهايأة المكانية إفراز لجميع الأنصباء، والمهايأة الزمانية تتم بالمناوبة أو التعاقب في الانتفاع، فكانت كالقرض، ويعتبر كل واحد في نوبته وكيلاً عن الآخر (5) .
المهايأة في الحيوان:
وأما المهايأة في الحيوان كدابتين مثلاً، يركب أحدهما إحداهما مدة، والآخر مدة أخرى، لا تجوز عند أبي حنيفة لا استعمالاً ولا استغلالاً؛ لأن الظاهر التغير في الحيوان، ولأن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين حذقاً وخرقاً.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 499/3، الشرح الصغير: 661/3، بداية المجتهد: 266/2.
(2) الدر المختار: 189/5، تبيين الحقائق: 276/5، تكملة الفتح: 27/8.
(3) انظر المادة (1179) من المجلة.
(4) تبيين الحقائق: 276/5، البدائع 31/7، تكملة الفتح: 27/8.
(5) تبيين الحقائق: 276/5 وما بعدها، تكملة الفتح: 30/8، الدر المختار: 189/5، م (1176) مجلة.(6/549)
وتجوز المهايأة استعمالاً عند الصاحبين في الحيوان والحيوانين، كما تجوز للاستغلال في الحيوانين، ولا تجوز في الحيوان الواحد؛ لأن المعادلة تمكن بين الحيوانين، لاتحاد وقتهما، ولا تمكن المعادلة في الحيوان الواحد؛ لأن الظاهر التغير
في الحيوان، لتوالي أسباب التغير عليه، إذ يكون جهد الحيوان في الزمان الثاني أقل منه في الزمان الأول (1) .
وقد نصت المادة (1177) مجلة: على جواز المهايأة الاستعمالية في الحيوان المشترك لاستعماله بالمناوبة، وكذلك تجوز في الحيوانين المشتركين، على أن يستعمل أحدهما هذا والآخر الآخر، وهو رأي الصاحبين، وهذا يتفق مع رأي المالكية في قسمة المنافع بالأعيان.
رابعاً ـ تكييفها أو تأصيلها الفقهي:
المهايأة المكانية: إفراز لجميع الأنصبة، وليست مبادلة، إذ لو كانت مبادلة لما صحت؛ لأن المبادلة في الجنس الواحد نسيئة، لا تجوز لتوافر ربا النسيئة فيها، باعتبار أن اتحاد الجنس وحده كاف عند الحنفية في وجود هذا النوع من الربا (2) .
خامساً ـ مدتها:
لا يشترط في المهايأة المكانية ذكر المدة وتعيينها، بخلاف المهايأة الزمانية؛ لأن الزمانية تحتاج إلى بيان الوقت لتصير المنافع معلومة، وأما المكانية فلا تحتاج لبيان الوقت؛ لأن مكان المنفعة معلوم، فصارت المنافع معلومة بمكانها (3) . ولكن المالكية قالوا: في قسمة المنافع بالأعيان يشترط أن تكون المدة محدودة.
سادساً ـ انقضاؤها:
لا تنقضي المهايأة المكانية كالزمانية بموت أحد الشريكين، ولاتنقضي بموتها،
__________
(1) تبيين الحقائق: 277/5، تكملة الفتح: 30/8 وما بعدها، البدائع: 32/7، الدر المختار: 190/5.
(2) تبيين الحقائق: 276/5، المادة (1179) مجلة.
(3) البدائع: 32/7، المادة (1179) مجلة.(6/550)
إذ لو بطلت لاستؤنفت ولا فائدة في الاستئناف؛ لأن لكل شريك فسخها متى شاء، إنما تنقضي بالتراضي على إنهائها، ببيع المال المشترك (1) .
المبحث الخامس ـ ما يملكه كل شريك من التصرف بعد المهايأة:
إذا تم الاتفاق على المهايأة، ملك كل واحد من المتهايئين استعمال الشيء كما يريد، سواء أكانت المهايأة مكانية أم زمانية. ففي الزمانية: يجوز السكنى والركوب ونحوهما، وفي المكانية: يجوز السكنى ونحوها.
ويملك كل متهايئ في المهايأة المكانية حق استغلال (استثمار) الشيء المتهايأ فيه، بالإجارة والإعارة ونحوهما، سواء أكان ذلك مشروطاً في العقد، أم غير مشروط، وسواء تهايآ في دار واحدة أو دارين؛ لأن كل متهايئ ملك المنفعة، فيملك التصرف فيها بالتمليك وغيره؛ لأن المهايأة المكانية ليست إعارة.
وأما في المهايأة الزمانية: فلا يملك كل من المتهايئين في نوبته استغلال حصته، باتفاق الحنفية، إذ لم يشترطا ذلك. فإن شرطا في المهايأة حق الاستغلال، ففيه اختلاف عند الحنفية:
أـ قال القدوري: لا يملك، لأن المهايأة الزمانية في معنى الإعارة، والعارية لاتؤجر. وهذا هوالراجح.
ب ـ وقال محمد في الأصل: يجوز التهايؤ في الدار الواحدة على السكنى والغلة، فلكل متهايئ إيجار غيره ما في يده. وتأول الحنفية هذا المنقول في (الأصل) وهو الغلة بأنه غير الاستغلال؛ لأن الغلة أي الناتج عين، والتهايؤ: قسمة المنافع دون الأعيان (2) .
__________
(1) نصت المادة 1191 مجلة على أنه: «بموت أحد أصحاب الحصص أو كلهم، لا تبطل المهايأة» .
(2) البدائع: 32/7 وما بعدها.(6/551)
الفَصْلُ السّابع: الغَصْبُ والإتلاف
قال الكاساني (1) : الجناية في الأصل نوعان: جناية على البهائم والجمادات، وجناية على الآدمي. أما الجناية على البهائم والجمادات فنوعان أيضاً: غصب وإتلاف.
وهذان النوعان أو ما يدل عليهما: وهو وضع اليد عدواناً أحد أسباب الضمان أو التعويض المالي عن الاعتداء على مال الغير أو حقه. ويلحق بهما بحث دفع الصائل لما يترتب على الصيال من إتلاف وضمان. فيكون الكلام في مبحثين: الأول ـ في الغصب وأحكامه، والثاني ـ في الإتلاف وأحكامه.
المبحث الأول ـ الغصب وأحكامه:
وفيه مطلبان
المطلب الأول: تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه.
المطلب الثاني: أحكام الغصب الأخروية والدنيوية.
الأول: التأثيم والمؤاخذة.
الثاني ـ رد المغصوب ما دام موجوداً.
الثالث ـ ضمان المغصوب حال هلاكه. وفيه الموضوعات التالية:
1 - كيفية الضمان.
2 - وقت وجوب الضمان.
3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان.
4 - تغير العين المغصوبة أو خلطها بغيرها.
5 - نقصان المغصوب.
6 - زيادة المغصوب، وحكم البناء والغرس والزرع في الأرض المغصوبة.
7 - منافع المغصوب أو غلته.
8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه.
9 - غاصب الغاصب.
__________
(1) البدائع: 233/7.(6/552)
المطلب الأول ـ تحريم الغصب، وتعريفه، وأثر اختلاف الفقهاء في ضابطه:
أولاً ـ تحريم الغصب: ثبت تحريم الغصب في القرآن والسنة والإجماع (1) . أما القرآن: فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وتدلوا بها إلى الحكام، لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم، وأنتم تعلمون} [البقرة:188/2] .
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (2) وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (3) «من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، فإنه يطّوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (4) «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (5) ونحوها من الأحاديث.
وأجمع المسلمون على تحريم الغصب. وهو معصية كبيرة وإن لم يبلغ المغصوب نصاب سرقة.
ثانياً ـ تعريف الغصب: الغصب لغة: أخذ الشيء ظلماً، أو قهراً جهاراً. وشرعاً: له عند الفقهاء في الجملة حقيقتان تختلفان جذرياً عند الحنفية وغيرهم.
1 - عند الحنفية (6) : الغصب: هو أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك، على وجه يزيل يده.
أخذ المال: يشمل المغصوب وغيره، وقولهم (متقوم) لإخراج غير المتقوم كالخمر والخنزير، وقولهم (محترم) احتراز عن مال الحربي فإنه غير محترم.
والمراد بغير إذن المالك: لإخراج المأذون فيه كالموهوب وغيره مما يتم المبادلة عليه بعقد من العقود. والقيد الأخير: (إزالة يد المالك) لا بد منها لتصور معنى الغصب عند الحنفية، فلا تعتبر زوائد المغصوب كالولد والثمرة مضمونة عندهم.
__________
(1) المغني: 220/5، كشاف القناع: 83/4.
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه، ورواه مسلم عن جابر، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى (سبل السلام: 73/3) .
(3) رواه أبو إسحاق الجوزجاني، ورواه الدارقطني عن أنس، وعن عمرو بن يثربي (نيل الأوطار: 316/5، نصب الراية: 169/4) .
(4) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سعيد بن زيد (نيل الأوطار: 317/5) .
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الحاكم عن سمرة بن جندب (سبل السلام: 67/3) .
(6) تكملة فتح القدير مع العناية: 361/7 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 188/2.(6/553)
وبناء عليه يعتبر الاستخدام والتحميل غصباً؛ لأنه تصرف بالمال، ولا يعتبر الجلوس على البساط مثلاً غصباً؛ لأن البسط فعل المالك، والجلوس استعمال لم يزل يد المالك عنه.
ولا بد من زيادة قيدين آخرين على التعريف: وهما أولاً: «على سبيل المجاهرة» لإخراج السرقة التي تكون على سبيل الخفية. وثانياً: «أو يقصر يده إن لم يكن في يده» فيصبح التعريف: «أخذ مال متقوم محترم على سبيل المجاهرة بغير إذن المالك على وجه يزيل يد المالك إن كان في يده، أو يقصر يده إن لم يكن في يده» ليشمل الأخذ من المستأجر أو من المرتهن أو من الوديع؛ لأن الأخذ من هؤلاء، وإن لم يكن في يد المالك؛ إلا أنه يترتب عليه أن الغاصب قصر يد المالك عن ماله، أي أنه قيد يده في التصرف بماله، فلم يعد قادراً على التصرف.
2 - وعرف المالكية (1) الغصب بأنه «أخذ مال قهراً تعدياً بلا حرابة» فكلمة: «أخذ المال» أي الاستيلاء عليه جنس يشمل الغصب وغيره كأخذ إنسان ماله من وديع أو مدين أو غيرهما. وكلمة «المال» يراد بها الذوات أي الأعيان المادية، فخرج بها «التعدي» : وهو الاستيلاء على المنافع كسكنى الدار وركوب الدابة مثلاً. و «قهراً» لإخراج السرقة ونحوها إذ لا قهر فيها حال الأخذ، وإن أعقبها القهر بعدها، كما أنها أيضاً لإخراج المأخوذ اختياراً كالمستعار والموهوب، و «تعدياً» خرج به المأخوذ قهراً بحق كالدين المأخوذ من مدين مماطل أو من غاصب، وأخذ الزكاة كرهاً من ممتنع عن أدائها، ونحوه، والمقصود بقوله «بلا حرابة» أي بدون مقاتلة، لإخراج المأخوذ بالحرابة؛ لأن حقيقتها غير حقيقة الغصب.
من هذا التعريف يتبين أن الغصب عند المالكية أخص، والتعدي أعم؛ لأن
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 442/3، 459.(6/554)
التعدي يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان، والتعدي في النفوس والأبدان يدخل تحت باب الجنايات أو الدماء والقصاص. فالغصب: هو أخذ ذات الشيء، والتعدي: أخذ المنفعة (1) .
والتعدي في الأموال أربعة أنواع (2) :
الأول ـ أخذ الرقبة أي ذات الشيء وهو الغصب.
والثاني ـ أخذ المنفعة، دون الرقبة، وهو نوع من الغصب، يجب فيه الكراء مطلقاً.
والثالث ـ الاستهلاك بإتلاف الشيء كقتل الحيوان، أو تحريق الثوب كله أو تخريقه، وقطع الشجر، وكسر الزجاج، وإتلاف الطعام والدنانير والدراهم، وشبه ذلك.
والرابع ـ التسبب في التلف، من فتح حانوتاً لرجل، وتركه مفتوحاً، فسرق، أو فتح قفص طائر فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو أوقد ناراً في يوم ريح، فأحرقت شيئاً، أو حفر بئر تعدياً، فسقط فيه إنسان أو بهيمة، أو مزق وثيقة، فضاع ما فيها من الحقوق.
فمن فعل شيئاً مما ذكر فهو ضامن لما استهلكه، أو أتلفه، أو تسبب في إتلافه، سواء تم الفعل عمداً أو خطأ.
__________
(1) وهناك فروق أخرى بينهما منها أن الفساد اليسير من الغاصب يوجب للمالك أخذ قيمة المغصوب إن شاء، والفساد اليسير من المتعدي لا يوجب إلا أخذ أرش النقص الحاصل به. ومنها: أن المتعدي لا يضمن الآفة السماوية، والغاصب يضمنها. ومنها أن المتعدي يضمن غلة ما عطل كدار أغلقها وأرض بورها، ودابة حبسها بخلاف الغاصب إنما يضمن غلة ما استعمل (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 459/3 وما بعدها) .
(2) القوانين الفقهية: ص 331 وما بعدها.(6/555)
3 - وعرف الشافعية والحنابلة (1) الغصب بأنه: الاستيلاء على حق الغير (من مال أو اختصاص) عدواناً، أي على وجه التعدي أو القهر بغير حق.
وهذا التعريف يشمل أخذ الأموال المتقومة والمنافع وسائر الاختصاصات كحق التحجر (أي إحياء الأرض الموات بوضع الأحجار على حدودها) ، والأموال غير المتقومة كخمر الذمي، وما ليس بمال، كالكلب والسرجين وجلد الميتة، وأما أخذ مال الحربي فهو أخذ بحق.
ثالثاً ـ أثر اختلاف الفقهاء في ضابط الغصب:
اختلف الفقهاء في ضابط الغصب الذي يتحقق به على رأيين:
1 - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (2) : الغصب: هو إزالة يد المالك عن ماله المتقوم على سبيل المجاهرة والمغالبة، بفعل في المال، أي أن الغصب لا يتحقق إلا بأمرين هما: إثبات يد الغاصب (وهوأخذ المال) وإزالة يد المالك أي بالنقل والتحويل. وعبارتهم فيه: الغصب يتحقق بوصفين:
إثبات اليد العادِيَة، وإزالة اليد المحقة (3) .
2 - وقال جمهور الفقهاء ومنهم المذاهب الثلاثة، ومحمد وزفر من الحنفية (4) : يتحقق الغصب بمجرد الاستيلاء، أي إثبات اليد على مال الغير بغير إذنه، ولا يشترط إزالة يد المالك. وليس المقصود من الاستيلاء أو أخذ مال الغير: هو الأخذ أو الاستيلاء الحسي بالفعل، وإنما يكفي الحيلولة بين المال وصاحبه، ولو أبقاه بموضعه الذي وضعه فيه.
ويظهر أثر الاختلاف بين الرأيين في غصب العقار وفي زوائد المغصوب وفي منافعه. كما يظهر أثر الاختلاف بين الحنفية وغيرهم باشتراط تقوم المال في غصب المال غير المتقوم.
__________
(1) مغني المحتاج: 275/2، كشاف القناع: 83/4، المغني: 220/5.
(2) البدائع: 143/7، تكملة الفتح: 368/7، تبيين الحقائق: 224/5.
(3) المراد باليد: هو القدرة على التصرف. وعدم اليد: عدم القدرة على التصرف (تبيين الحقائق، المكان السابق) . والعادية: بتخفيف الياء لا بتشديدها، وهي الضامنة لا المتعدية.
(4) الشرح الكبير: 442/3، مغني المحتاج: 275/2، كشاف القناع: 83/4. ويفتى برأي محمد وزفر في الوقف، وبرأي الشيخين في غير الوقف.(6/556)
1 ً ـ غصب العقار: لا يتصور الغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا في غصب المنقول فقط (1) ؛ لأن إزالة يد المالك بالنقل والتحويل التي يتحقق بها معنى الغصب عندهما، لا تتحقق إلا في المنقولات. وأما العقار كالأرض والدار، فلايتصور وجود الغصب فيه، لعدم إمكان نقله وتحويله، فمن غصب عقاراً فهلك في يده بآفة سماوية كغلبة سيل، لم يضمنه عندهما، لعدم تحقق الغصب بإزالة اليد؛ لأن العقار في محله لم ينقل، فصار كما لو حال بين المالك وبين متاعه، فتلف المتاع. أما لو كان الهلاك بفعل الغاصب كأن هدمه، فيضمنه؛ لأن الغصب إذا لم يتحقق في العقار، فيعتبر الإتلاف.
وقال محمد وزفر من الحنفية وأئمة المذاهب الثلاثة (2) : يتصور غصب العقار من الأراضي والدور، ويجب ضمانها على غاصبها؛ لأنه يكفي ـ عند غير الحنفية ـ لتوافر معنى الغصب: إثبات يد الغاصب على الشيء بالسكنى ووضع الأمتعة وغيرها، ويترتب عليه ضمناً بالضرورة إزالة يد المالك، لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة، ويتحقق أيضاً عند محمد وزفر مبدؤهما: وهو إزالة يد المالك وإثبات يد الغاصب، وتحقق هذين الوصفين هو معنى الغصب، فصار العقار كالمنقول في تحقيق الوصفين المطلوبين لتصور الغصب.
ولأن ما يضمن في الإتلاف يجب أن يضمن في الغصب، فالعقار والمنقول مضمونان على السواء؛ وما يضمن في البيع يضمن أيضاً في الغصب؛ ولأن الغاية المطلوبة من الغصب وهي الانتفاع على وجه التعدي توجد في العقار، كما توجد في المنقول.
__________
(1) البدائع: 45/7 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 189/2، تكملة الفتح وتبيين الحقائق، المكان السابق.
(2) الشرح الكبير: 443/3، بداية المجتهد: 311/2، مغني المحتاج: 275/2 وما بعدها، المغني: 223/5، كشاف القناع: 83/4 وما بعدها.(6/557)
ويؤكدما سبق كله قوله صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (1) وفي لفظ «من غصب شبراً من الأرض» فإنه يدل على تحقق الغصب في العقار؛ لأنه سماه غصباً.
وهذا الرأي هو الأرجح.
2 ً ـ زوائد المغصوب أو النماء السماوي: لا تضمن زوائد المغصوب إذا هلكت بلا تعدّ، وإنما هي أمانة في يد الغاصب في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (2) ، سواء أكانت منفصلة كالولد واللبن والثمرة، أم متصلة كالسمن والجمال؛ لأن الغصب عندهما هو إثبات يد الغاصب على مال الغير على وجه يزيل يد المالك كما تقدم، ويد المالك لم تكن ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب، أي أن عنصر (إزالة يد المالك) لم يتحقق هنا، كما لم يتحقق في غصب العقار.
فإن تعدّى الغاصب على الزيادة، لأن أتلفها أو أكلها أو باعها، أو طلبها مالكها فمنعها عنه، ضمنها؛ لأنه بالتعدي أو المنع صار غاصباً.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين من رواية عائشة رضي الله عنها.
(2) البدائع: 143/7، 160، الدر المختار: 143/5، تكملة الفتح: 388/7، اللباب شرح الكتاب: 194/2.(6/558)
وقال المالكية في الأرجح عندهم (1) : إذا كانت الزيادة التي بفعل الله متصلة كالسمن والكبر فلا تكون مضمونة على الغاصب. وأما إذا كانت الزيادة منفصلة ولو نشأت من غير استعمال الغاصب كاللبن والصوف وثمر الشجر، فهي مضمونة على الغاصب إن تلفت أو استهلكت، ويجب ردها مع المغصوب الأصلي على صاحبها.
وقال محمد من الحنفية، والشافعية والحنابلة (2) : تضمن زوائد المغصوب في يد الغاصب، سواء أكانت متصلة كالسمن ونحوه، أم منفصلة كثمرة الشجرة وولد الحيوان، متى تلف شيء منه في يد الغاصب، لتحقق إثبات اليد العادِيَة (الضامنة) ، لأنه بإمساك الأصل تسبب في إثبات يده على هذه الزوائد، وإثبات يده على الأصل محظور.
3 ً ـ منافع المغصوب وغلته:
لا يضمن الغاصب عند الحنفية (3) منافع ما غصبه من ركوب الدابة، وسكنى الدار، سواء استوفاها أم عطلها؛ لأن المنفعة ليست بمال عندهم؛ ولأن المنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودة في يد المالك، فلم يتحقق فيها معنى الغصب، لعدم إزالة يد المالك عنها.
وهذا فيما عدا ثلاثة مواضع يجب فيها أجر المثل، في اختيار متأخري الحنفية، وعليه الفتوى، وهي أن يكون المغصوب وقفاً، أو ليتيم، أو معداً للاستغلال بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض.
وإن نقص المغصوب أي ذاته باستعمال الغاصب غرم النقصان، لاستهلاكه بعض أجزاء العين المغصوبة، كما سأبين.
وأما غلة المغصوب كما سيأتي بيانه: فلا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب؛ لأنه لا يحل له الانتفاع بملك الغير. وقال أبو يوسف وزفر: تطيب له.
وقال المالكية في المشهور (4) : يضمن الغاصب غلة مغصوب مستعمل، أي أنه يضمن غلة المغصوب ذاته الذي استعمله الغاصب، سواء كان المغصوب عقاراً من دور أو أرض سكنها أو زرعها أو كراها، أم منقولاً: حيواناً أو غيره، كراه أو استعمله، ولا يضمن ما نشأ من غير استعمال، ولو عطّله على صاحبه.
هذا في حالة غصب الذات، أما إن قصد الغاصب غصب المنفعة (وهي حالة التعدي عندهم كما تبين) فيلزمه كراء المثل.
والخلاصة: أن الغاصب يضمن فقط غلة ما استعمل، والمتعدي يضمن غلة ما عطل كدار أغلقها، وأرض بورها، ودابة حبسها، كما بان سابقاً.
وقال الشافعية والحنابلة (5) : يضمن الغاصب منفعة المغصوب، وعليه أجر المثل، سواء استوفى المنافع، أم تركها تذهب، وسواء أكان المغصوب عقاراً كالدار، أم منقولاً كالكتاب والدابة ونحوهما؛ لأن المنفعة مال متقوم، فوجب
ضمانه كالعين المغصوبة ذاتها. وهذا الرأي هو المتفق مع العدالة، ومع ظروف العصر الحاضر المتجه إلى المادية، وتقويم كل الأشياء، حتى النواحي الأدبية أو الذهنية.
__________
(1) بداية المجتهد: 313/2، الشرح الصغير للدردير: 596/3، الشرح الكبير للدردير: 448/3، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 220/2.
(2) البدائع: 145/7، الدر المختار: 144/5-145، تكملة الفتح: 394/7، اللباب شرح الكتاب: 195/2، المهذب: 370/1، المغني والشرح الكبير: 399/5 وما بعدها.
(3) الشرح الكبير: 448/3، الشرح الصغير: 595/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 315/2 شرح الرسالة: 240/2.
(4) الشرح الكبير: 448/3، الشرح الصغير: 595/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 315/2 شرح الرسالة: 240/2.
(5) مغني المحتاج: 486/2، المهذب: 367/1، فتح العزيز: 262/11، المغني: 270/5 القواعد لابن رجب: ص 213.(6/559)
4 ً ـ غصب غير المتقوم:
قال الحنفية (1) : لا يضمن الغاصب خمر المسلم أو خنزيره إذا غصبه وهلك في يده أو استهلكه أو خلل الخمر، سواء أكان الغاصب مسلماً أم ذمياً؛ لأن الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم ويجب إراقتها، وكذا الخنزير غير متقوم، لكن لو قام الغاصب بتخليل خمر المسلم ثم استهلكها يضمن خلاً مثلاً لا خمراً؛ لأن الغصب حين وجوده لم ينعقد سبباً لوجوب الضمان، فإن استهلكه فقد وجد منه سبب الضمان، وهو إتلاف خلّ مملوك للمغصوب منه، فيضمن. وكذلك يضمن الغاصب جلد الميتة إذا دبغه، ويجب عليه فقط ما زاد الدباغ فيه؛ لأنه بالدبغ صار مالاً متقوماً.
ويضمن المسلم أو الذمي خمر الذمي أو خنزيره إذا استهلكه؛ لأن كلاً منهما مال عند أهل الذمة، فالخمر عندهم كالخل عندنا، والخنزير عندهم كالشاة عندنا؛ لأن لهم ماللمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون (2) ، وبه يقرون على بيعها. لكن تجب على المسلم قيمة الخمر، وإن كان من
__________
(1) البدائع: 147/7 وما بعدها، 162 وما بعدها، الدر المختار: 147/5-149، تكملة فتح القدير: 396/7-405، اللباب: 195/2، تبيين الحقائق: 222/5.
(2) هذا مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث قال: «إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا» . «وأمرنا بتركهم وما يدينون» (نصب الراية: 369/4، تكملة فتح القدير: 398/7) .(6/560)
المثليات؛ لأن المسلم ممنوع من تملكه، وغير المسلم يجوز له تسليم المثل؛ لأنه يجوز له تملك الخمر وتمليكها بالبيع وغيره.
أما الميتة والدم ولو لذمي فلا يضمنان بالغصب؛ لأنهما ليسا بمال، ولا يدين أحد من أهل الأديان تمولهما. كما لا يضمن متروك التسمية عمداً ولو كان مملوكاً لمن يبيحه.
وكذلك يضمن المسلم قيمة صليب غصبه من نصراني فهلك في يده؛ لأنه مقر على ذلك.
وقال أبو حنيفة: ومن كسر لمسلم آلة من آلات اللهو والطرب كالطبل والمزمار والدف ونحوها، فهو ضامن؛ لأنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع لغير اللهو، وإن استعملت فيما لا يحل، كالمغنية إذا اعتدي عليها، وتضمن قيمة هذه الآلات خشباً منحوتاً صالحاً لغير اللهو، أي تضمن قيمتها قبل التصنيع.
أما الصاحبان فقالا: لا تضمن آلات الملاهي؛ لأن هذه الأشياء أعدت للمعصية، فبطل تقومها كالخمر، ولأنه يجب شرعاً إتلافها، وقد فعل المتلف ما أمر به الشرع، فلا ضمان عليه، كما إذا فعل أمراً بإذن الإمام.
وقال المالكية (1) مثلما قال الحنفية: لا تضمن خمر المسلم أو خنزيره، ولا آلات الملاهي والأصنام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» (2) ، ولأنه لا قيمة لها، وما لا قيمة له لا يضمن.
لكن يضمن الغاصب خمر الذمي لتعديه عليه، ولأنها مال محترم عند غير
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 204/2، 447/3، الشرح الصغير: 592/3 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر يوم الفتح.(6/561)
المسلمين يتمولونها. وإذا تخللت الخمر، وكانت لمسلم خير صاحبها بين أخذها خلاً، أو مثل عصيرها إن علم قدرها، وإلا فقيمتها. أما خمر غير المسلم فيخير صاحبها بين أخذ قيمتها يوم الغصب، أوأخذ الخل، على المفتى به عند المالكية.
وإن كان المغصوب جلد ميتة لم يدبغ أو دبغ، أو كلباً مأذوناً في اتخاذه، مثل كلب صيد أو ماشية أو حراسة، فأتلفه الغاصب، فإنه يغرم القيمة، ولو لم يجز بيع الجلد أو الكلب.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا تضمن الخمر والخنزيز، سواء أكان متلفها مسلماً أم ذمياً، وسواء أكانت لمسلم أم لذمي، إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حرم بيعها، وأمر بإراقتها، فما لايحل بيعه ولا تملكه، لا ضمان فيه.
كذلك لا ضمان عندهم بإتلاف الأصنام وآلات الملاهي، إلا أن الشافعية أجازوا ضمانها خشباً منحوتاً فقط (2) كما قال أبو حنيفة، إذا كانت صالحة لمنفعة مباحة، فإن لم تصلح لذاك لم يلزم المتلف شيء، لأنه لم يتلف ما له قيمة.
لكن إذا كانت خمر الذمي ما زالت باقية عند الغاصب، فيجب ردها عليه؛ لأنه يقر على شربها. فإن غصبها من مسلم لم يلزم عند الحنابلة ردها، يجب إراقتها؛ لأنه لا يقر على اقتنائها، ويحرم ردها إلى المسلم إذا لم يكن صانع خل (خلالاً) لأنه إعانة له على ما يحرم عليه.
__________
(1) مغني المحتاج: 285/2، 291، فتح العزيز شرح الوجيز: 258/11، المغني: 256/5، 276، المهذب: 374/1، كشاف القناع: 84/4 وما بعدها، الميزان: 90/2.
(2) عبارة الشافعية في هذا: أن المتلف يلزمه الفرق ما بين قيمة الآلة مفككة (مفصلة) ومكسورة.(6/562)
وفصل الشافعية فقالوا: ترد الخمر المحترمة (1) المغصوبة من مسلم إليه، ولا ترد الخمر غير المحترمة بل تراق.
ولو غصب غاصب عصيراً، فتخمر، ثم تخلل، فالأصح عند الشافعية أن الخل للمالك، وعلى الغاصب أرش ما نقص من قيمة العصير، إن كان الخل أنقص قيمة من العصير، لحصوله في يده. وقال الحنابلة: إنه يجب عليه مثل العصير.
ولو غصب جلد ميتة فدبغه، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن الجلد للمغصوب منه كالخمر التي تخللت، فإذا تلفا في يده ضمنهما. وقال الحنابلة: إن غصب جلد ميتة نجسة لم يلزم الغاصب رده ولو دبغه؛ لأنه لا يطهر بدبغه عندهم، ولا قيمة له؛ لأنه لا يصح بيعه.
المطلب الثاني ـ أحكام الغصب:
للغصب أحكام ثلاثة: الإثم لمن علم أنه مال الغير، ورد العين المغصوبة مادامت قائمة، وضمانها إذا هلكت (2) .
الحكم الأول ـ الإثم: وهو استحقاق المؤاخذة في الآخرة، إذا فعل الغصب عالماً أن المغصوب مال الغير؛ لأن ذلك معصية، وارتكاب المعصية عمداً موجب
__________
(1) الخمر المحترمة: هي التي عصرت من غير قصد الخمرية، سواء عصرت بقصد الخلية أو عصرت بغير قصد شيء.
(2) الدر المختار: 126/5، القوانين الفقهية: ص 330، مغني المحتاج: 277/2، المغني: 259/5 وما بعدها.(6/563)
للمؤاخذة (1) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من غصب شبراً من أرض، طوقه الله تعالى من سبع أرضين يوم القيامة» .
ويؤدب بالضرب والسجن عند الحنفية والمالكية (2) غاصب مميز صغير أو كبير لحق الله تعالى، ولو عفا عنه المغصوب منه، باجتهاد الحاكم لدفع الفساد، وإصلاح حاله، وزجره هو وأمثاله. أما غير المميز من صغير ومجنون فلا يعزر. كذلك نص الشافعية (3) على أنه يعزر الغاصب لحق الله تعالى، واستيفاؤه للإمام.
فإن حدث الغصب لا عن علم بأن ظن أن الشيء ملكه، فلا إثم ولا مؤاخذة عليه؛ لأنه خطأ، والخطأ لا مؤاخذة عليه شرعاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286/2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (4) .
ولكن في هذه الحالة يبقى الحكمان الأخيران وهما: رد العين ما دامت قائمة، والغرم إذا صارت هالكة.
الحكم الثاني ـ رد العين المغصوبة ما دامت قائمة: والكلام فيه في مواضع:
__________
(1) إن أخذ أموال الناس بالباطل له عشرة أنواع كلها حرام، والحكم فيها مختلف: الأول ـ الحرابة، والثاني ـ الغصب، والثالث ـ السرقة، والرابع ـ الاختلاس، والخامس ـ الخيانة، والسادس ـ الإذلال، والسابع ـ الفجور في الخصام بإنكار الحق أو دعوى الباطل، والثامن ـ القمار، كالشطرنج والنرد، والتاسع ـ الرشوة، فلا يحل أخذها ولا عطاؤها، والعاشر ـ الغش والخلابة في البيوع (القوانين الفقهية: ص 329) والحرام: لا يجوز قبوله ولا الأكل منه ولا السكنى فيه، لكن يجوز أخذ العوض عن التالف عند الغاصب؛ لأن دفع العوض واجب مستقل.
(2) الشرح الكبير: 442/3؛ القوانين الفقهية: ص 330.
(3) مغني المحتاج: 277/4.
(4) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس بلفظ: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ... » الحديث.(6/564)
هي سبب وجوب الرد، وشرط الرد ومكانه ومؤنته، وما يصير به المالك مسترداً (1) .
اتفق الفقهاء على أنه يجب رد العين المغصوبة إلى صاحبها حال قيامها ووجودها بذاتها لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً، ولا لاعباً، وإذا أخذ أحدكم عصا أخيه، فليردها عليه» (2) وترد إلى مكان الغصب لتفاوت القيم باختلاف الأماكن.
ومؤنة الرد (نفقته) على الغاصب؛ لأنها من ضرورات الرد، فإذا وجب عليه الرد، وجب عليه ما هو من ضروراته كما في رد العارية.
ويصير المالك مسترداً للمغصوب: بإثبات يده عليه، لأنه صار مغصوباً بتفويت يده عنه. فإذا أثبت يده عليه، فقد أعاده إلى يده، وزالت يد الغاصب عنه، إلا أن يغصبه مرة أخرى.
ويبرأ الغاصب من الضمان بالرد، سواء علم المالك بحدوث الرد أم لم يعلم؛ لأن إثبات اليد على الشيء أمر حسي لا يختلف بالعلم أو الجهل بحدوثه.
الحكم الثالث ـ ضمان المغصوب إذا هلك: والكلام فيه يتناول عدة مواضع هي مايأتي:
1 - كيفية الضمان:
إذا هلك المغصوب أو تلف أو أتلف عند الغاصب، وكان من المنقولات عند الحنفية (3) ، أو من العقارات أو المنقولات عند غير الحنفية (4) ، بفعله أو بغير فعله، فعليه ضمانه، أي غرامته أو تعويضه. لكن إن كان الهلاك بتعد من غيره، لا بآفة سماوية، رجع الغاصب عليه بما ضمن؛ لأنه يستقر عليه ضمان الشيء الذي يمكنه أن يتخلص منه برده إلى من كان في يده. وعبارتهم فيه: «الغاصب ضامن لما غصبه، سواء تلف بأمر الله، أو من مخلوق» (5) .
وكيفية الضمان أو قاعدته: أنه يجب ضمان المثل باتفاق العلماء إذا كان المال مثلياً، وقيمته إذا كان قيمياً، فإن تعذر وجود المثل وجبت القيمة للضرورة.
أما ضمان المثل فلقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/2] {وإ ن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/16] {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/42] ولأن المثل تماماً أقرب إلى الأصل التالف، فكان الإلزام به أعدل وأتم لجبران الضرر، والواجب في الضمان الاقتراب من الأصل بقدر الإمكان تعويضاً للضرر.
وأما ضمان القيمة فلأنه تعذر الوفاء بالمثل تماماً صورة ومعنى، فيجب المثل المعنوي وهو القيمة؛ لأنها تقوم مقامه، ويحصل بها مثله، واسمها ينبئ عنه.
والمال المثلي: هو مايوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتد به. أو هو ما تماثلت آحاده أو أجزاؤه بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتد به.
__________
(1) البدائع: 148/7، الدر المختار: 128/5، تكملة الفتح: 367/7، الميزان: 88/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن السائب بن يزيد عن أبيه (نيل الأوطار: 316/5) .
(3) المبسوط: 50/11، البدائع: 150/7، 168، الدر المختار: 128/5، تبيين الحقائق: 223/5، 234، تكملة الفتح: 363/7، اللباب والكتاب: 188/4 وما بعدها.
(4) الشرح الكبير للدردير: 443/3، القوانين الفقهية: ص 330 وما بعدها، بداية المجتهد: 312/2، مغني المحتاج: 281/2، 284، فتح العزيز شرح الوجيز: 242/11 بهامش المجموع، المغني: 221/5، 254، 258، كشاف القناع: 116/4 وما بعدها.
(5) القوانين الفقهية: ص 331.(6/565)
والأموال المثلية أربعة: هي المكيلات والموزونات، والعدديات المتقاربة، وبعض أنواع الذرعيات.
والمكيلات: هي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم بالليتر كالبترول والبنزين.
والموزونات: هي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر.
والذرعيات: هي التي تباع بالذراع ونحوه كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية.
والعدديات المتقاربة: هي التي لاتتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز. وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلور ونحوها من الدفاتر والأقلام والمطبوعات.
والقيمي: هو ما ليس له مثل في الأسواق، أويوجد لكن مع التفاوت المعتد به في القيمة. أو هو ما تفاوتت أفراده، فلا يقوم بعضها مقام بعض بلا فرق كالدور والأراضي المختلفة المواقع أو المبنية والأشجار والحيوان والمفروشات والمخطوطات ونحوها (1) .
وتجب القيمة في ثلاث حالات (2) :
1 - إذا كان الشيء غير مثلي كالحيوانات والدور والمصوغات، فلكل واحد منها قيمة تختلف عن الأخرى باختلاف الصفات المميزة لكل واحد.
__________
(1) الدر المختار وحاشيته: 130/5، 173/4، اللباب والكتاب: 188/2، تكملة الفتح: 363/7، تبيين الحقائق: 223/5، بداية المجتهد: 312/2، شرح الرسالة: 217/2، القوانين الفقهية: ص 330، مغني المحتاج: 281/2، 284، كشاف القناع: 116/4 ومابعدها، المدخل لنظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي للأستاذ مصطفى الزرقا: ص50.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 129/5.(6/566)
2 - إذا كان الشيء خليطاً مما هو مثلي بغير جنسه، كالحنطة مع الشعير.
3 - إذا كان الشيء مثلياً تعذر وجود مثله، والتعذر إما حقيقي حسي كانقطاع وجود المثل في السوق بعد البحث عنه، وإن وجد في البيوت، أو حكمي: كأن لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل، أو شرعي: بالنسبة للضامن كالخمر بالنسبة للمسلم يجب عليه للذمي عند أئمة المذاهب كما أبنت ضمان القيمة، وإن كانت الخمر من المثليات؛ لأنه يحرم على المسلم تملكها بالشراء.
وبه يتبين أن الواجب الأصلي في الضمان (أو التعويض أو الغرامة) : هو إزالة الضرر عيناً كإصلاح الحائط، ورد عين المغصوب مادام قائماً، ورد الخمر المغصوبة مادامت باقية بالنسبة للمسلم، إذ له عند الحنفية إمساكها لتصير خلاً، وجبر التلف وإعادته صحيحاً كما كان، عند الإمكان، كإعادة المكسور صحيحاً. فإن تعذرت الإعادة وجب التعويض: المثلي في المثليات، والنقدي أو القيمة في القيميات.
2 - وقت وجوب الضمان أو وقت تقدير التعويض:
للفقهاء آراء متقاربة في وقت الضمان أو تقدير قيمة التعويض، فقال الحنفية على المختار عندهم (1) والمالكية (2) : تقدر قيمة المغصوب يوم الغصب؛ لأن الضمان يجب بالغصب، فتقدر قيمة المغصوب يوم الغصب، فلا يتغير التقدير
__________
(1) هذا هو رأي أبي يوسف وهو الذي أخذت به المجلة م/921، وقال أبو حنيفة: تجب القيمة وقت الخصومة أي المحاكمة، وقال محمد: تجب القيمة يوم انقطاع المثل من الأسواق.
(2) البدائع: 151/7، الدر المختار: 128/5، تكملة الفتح: 363/7، المبسوط: 50/11، تبيين الحقائق: 223/5، اللباب مع الكتاب: 188/2، الشرح الكبير للدردير: 443/3، 448، بداية المجتهد: 312/2، القوانين الفقهية: ص 330.(6/567)
بتغير الأسعار؛ لأن سبب الضمان لم يتغير كما لم يتغير محل الضمان، لكن فرق المالكية بين ضمان الذات وضمان الغلة، فتضمن الأولى يوم الاستيلاء عليها، وتضمن الغلة من يوم استغلالها، وأما المتعدي: وهو غاصب المنفعة فيضمن المنفعة بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.
وقال الشافعية (1) : الأصح أن المعتبر في الضمان هو أقصى قيمة للمغصوب من وقت الغصب في بلد الغصب إلى وقت تعذر وجود المثل. وإذا كان المثل مفقوداً عند التلف، فالأصح وجوب الأكثر قيمة من الغصب إلى التلف، سواء أكان ذلك بتغير الأسعار، أم بتغير المغصوب في نفسه.
وأما المال القيمي: فيضمن بأقصى قيمة له من يوم الغصب إلى يوم التلف.
وقال الحنابلة (2) : إن كان المغصوب من المثليات، وفقد المثل، وجبت قيمته يوم انقطاع المثل؛ لأن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل، فقُدِّرَت القيمة حينئذ كتلف المتقوم.
وإن كان المغصوب من القيميات وتلف، فالواجب القيمة أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين الرد، إذا كان التغير في المغصوب نفسه من كبر وصغر، وسمن وهزال، ونحوها من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص؛ لأن هذه المعاني مغصوبة في الحال التي زادت فيها، والزياد ة لمالكها مضمونة على الغاصب.
وإن كانت زيادة القيمة لتغير الأسعار، لم تضمن الزيادة؛ لأن نقصان القيمة لهذا السبب لا يضمن إذا ردت العين المغصوبة بذاتها، فلا يضمن عند تلفها.
__________
(1) مغني المحتاج: 283/2، المهذب: 368/1، بجيرمي الخطيب: 136/3، نهاية المحتاج: 119/4-121.
(2) المغني: 257/5 وما بعدها، كشاف القناع: 117/4.(6/568)
3 - ما يخرج به الغاصب عن عهدة الضمان:
يخرج الغاصب عن عهدة الضمان بأحد أربعة أمور:
الأول ـ رد العين المغصوبة إلى صاحبها ما دامت باقية بذاتها، ولم تشغل بشيء آخر.
الثاني ـ أداء الضمان إلى المالك أو من يقوم مقامه؛ لأنه المطلوب أصالة.
الثالث ـ الإبراء عن الضمان، إما صراحة مثل: أبرأتك عن الضمان أو أسقطته عنك أو وهبته منك ونحوه، أو يجري مجرى الصريح: وهو أن يختار المالك تضمين أحد الغاصبين، فيبرأ الآخر؛ لأن اختيار تضمين أحدهما إبراء للآخر ضمناً (دلالة) .
الرابع ـ إطعام الغاصب المغصوب لمالكه أو لدابته، وهو يعلم أنه طعامه، أو تسلم الغاصب الشيء المغصوب على سبيل الأمانة كالإيداع أو الهبة أو الإجارة أو الاستئجار على قصارته (تبييضه) أو خياطته، وعلم المالك أنه ماله المغصوب منه، أو على وجه ثبوت بدله في ذمته، كالقرض، وعلم أنه ماله، فإن لم يعلم بذلك لم يبرأ الغاصب حتى تتغير صفة الغصب (1) .
وهل يملك الغاصب الشيء المغصوب بالضمان؟
قال الحنفية (2) : يملك الغاصب الشيء المغصوب بعد ضمانه من وقت وجود الغصب، حتى لا يجتمع البدل والمبدل في ملك المالك. وينتج عن التملك أن الغاصب لو تصرف في المغصوب بالبيع أو الهبة أو الصدقة قبل أداء الضمان، ينفذ تصرفه، كما تنفذ تصرفات المشتري في المشترى شراء فاسداً، وكما لو غصب شخص عيناً فغيبها (أخفاها) فضمنه المالك قيمتها، ملكها الغاصب؛ لأن المالك ملك البدل كله، والمبدل قابل للنقل، فيملكه الغاصب لئلا يجتمع البدلان في ملك شخص واحد.
__________
(1) البدائع: 151/7، الشرح الصغير: 600/3 ومابعدها، السراج الوهاج شرح المنهاج: ص 268، المغني والشرح الكبير: 437/5، كشاف القناع: 103/4 ط بيروت.
(2) المبسوط: 15/16، البدائع: 152/7 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 193/2.(6/569)
ولكن في رأي أبي حنيفة ومحمد (1) : لا يحل للغاصب الانتفاع بالمغصوب بأن يأكله بنفسه أو يطعمه غيره قبل أداء الضمان. وإذا حصل فيه فضل (أي نماء وزيادة) يتصدق بالفضل استحساناً، وعليه، إن غلة المغصوب المستفادة من إركاب سيارة مثلاً لا تطيب له؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبح الانتفاع بالمغصوب قبل إرضاء المالك، روى أبو حنيفة بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في ضيافة قوم من الأنصار، فقدَّموا إليه شاة مصلية (مشوية) ، فأخذ منها لقمة، فجعل يمضغها ولا يسيغها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذه الشاة لتخبرني أنها ذبحت بغير حق، قالوا: هذه الشاة لجار لنا، ذبحناها لنرضيه بثمنها، فقال صلّى الله عليه وسلم: أطعموها الأسارى (2) » فقد حرم عليهم الانتفاع بها، مع حاجتهم، ولو كانت حلالاً لأطلق لهم إباحة الانتفاع بها.
وقال المالكية (3) : يمنع الغاصب من التصرف في المغصوب برهن أو كفالة خشية ضياع حق المالك، ولا يجوز لمن وهب له منه شيء قبوله ولا الأكل منه مثلاً
__________
(1) وقال أبو يوسف وزفر: يحل له الانتفاع ولا يلزمه التصدق بالفعل إن كان فيه فضل، لأن المغصوب مملوك للغاصب من وقت الغصب: «المضمونات تملك بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب» أي بأثر رجعي، وعلى هذا فإن غلة المغصوب تطيب للغاصب.
(2) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وأبو داود وأحمد في مسنده والدارقطني في سننه من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار (نصب الراية: 168/4) .
(3) الشرح الكبير: 445/3 وما بعدها، الشرح الصغير: 586/3.(6/570)
ولا السكنى فيه مثل أي شيء حرام، لكن لو تلف المغصوب عند الغاصب أو استهلكه (أي فات عنده بتعبيرهم) ، فالأرجح عندهم أنه يجوز للغاصب الانتفاع به؛ لأنه وجبت عليه قيمته في ذمته، فقد أفتى بعض المحققين بجواز الشراء من لحم الأغنام المغصوبة إذا باعها الغاصب للجزارين، فذبحوها؛ لأنه بذبحها ترتبت القيمة في ذمة الغاصب، إلا أنهم قالوا: ومن اتقاه فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومعناه أن الغاصب يتملك بالضمان الشيء المغصوب من يوم التلف.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا يملك الغاصب العين المغصوبة بدفع القيمة؛ لأنه لا يصح أن يتملكه بالبيع لغيره لعدم القدرة على التسليم، فلا يصح أن يتملكه بالتضمين، كالشيء التالف لا يملكه بالإتلاف.
وبناء عليه تحرم عندهم تصرفات الغاصب بعقد أو غيره، ولا تصح (2) ، لحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) أي مردود، فلا يجوز له بيعه أو إجارته، كما لا يجوز له إتلافه واستعماله كأكل ولبس وركوب وحمل عليه وسكنى العقار، لحديث «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» .
__________
(1) المهذب: 368/1، مغني المحتاج: 277/2، 279، كشاف القناع: 120/4، 123 وما بعدها، المغني: 251/5-253.
(2) وكذلك قال الحنابلة خلافاً للجمهور: يحرم الحج ولا يصح من المال المغصوب وسائر العبادات كالصلاة بثوب مغصوب، أو في مكان مغصوب، والوضوء من ماء مغصوب، وإخراج زكاته بخلاف عبادة لا يحتاج فيهاإلى المغصوب كالصوم والذكر والاعتقاد (كشاف القناع: 123/4 وما بعدها، وراجع للمؤلف أصول الفقه: 82/1، ط دار الفكر، طبعة ثانية) .
(3) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها.(6/571)
4 - تغير العين المغصوبة عند الغاصب:
قال الحنفية: قد يتغير المغصوب عند الغاصب بنفسه أوبفعل الغاصب، وهذا الأخير قد يكون تغيراً في الوصف أو تغيراً في الاسم والذات (1) . وكل حالات التغير يكون المغصوب فيها موجوداً.
أـ فإذا تغير المغصوب بنفسه كما لو كان عنباً فأصبح زبيباً، أو رطباً فأصبح تمراً، فيتخير المالك بين استرداد عين المغصوب، وبين تضمين الغاصب قيمته.
ب ـ وأما تغير وصف المغصوب بفعل الغاصب من طريق الإضافة أو الزيادة، كما لو صبغ الثوب، أو خلط الدقيق (السويق) بسمن، أواختلط المغصوب بملك الغاصب بحيث يمتنع تمييزه كخلط البر بالبر أو يمكن بحرج كخلط البر بالشعير، فيجب إعطاء الخيار للمالك: إن شاء ضمّن الغاصب قيمة المغصوب قبل تغييره، وإن شاء أخذه وأعطى الغاصب قيمة الزيادة مثل ما زاد الصبغ في الثوب؛ لأن في التخيير رعاية للجانبين.
وهذا مذهب المالكية أيضاً (2) .
وقال الشافعية (3) : إن أمكن فصل الزيادة من الصباغة أو السمن، أجبر الغاصب عليه في الأصح، وإن لم يمكن: فإن لم تزد قيمة المغصوب فلا شيء للغاصب فيه، وإن نقصت قيمته لزم الغاصب أرش النقص؛ لأن النقص حصل بفعله، وإن زادت قيمة المغصوب اشترك الغاصب والمالك فيه أثلاثاً: ثلثاه للمغصوب منه، وثلثه للغاصب. فإن حدث في ملك أحدهما نقص لانخفاض سعره أوزيادة لارتفاع سعره عمل به.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 375/7، 384، اللباب مع الكتاب: 191/2، 193، تبيين الحقائق: 226/5، 229، الدر المختار: 134/5-138، البدائع: 160/7 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير: 454/3.
(3) مغني المحتاج: 291/2 وما بعدها.(6/572)
وقال الحنابلة (1) كالشافعية إجمالاً: إلا أنهم قالوا: لا يجبر الغاصب على قلع الصبغ من الثوب؛ لأن فيه إتلافاً لملكه وهو الصبغ. وإن حدث نقص ضمن الغاصب النقص؛ لأنه حصل بتعديه، فضمنه، وإن حصلت زيادة، فالمالك والغاصب شريكان بقدر ملكيهما، فيباع الشيء، ويوزع الثمن على قدر القيمتين. وبه يظهر أن الفقهاء متفقون على ضمان النقص، وعلى حق الغاصب في الزيادة.
جـ ـ وأما تغير ذات المغصوب واسمه بفعل الغاصب بحيث زال أكثر منافعه المقصودة: كما لو غصب شاة فذبحها وشواها، أو طبخها، أو غصب حنطة فطحنها دقيقاً، أو حديداً فاتخذه سيفاً، أونحاساً فاتخذه آنية، فإنه يزول ملك المغصوب منه عن المغصوب، ويملكه الغاصب، ويضمن بدله: المثل في المثلي، والقيمة في القيمي. ولكن لا يحل له الانتفاع به حتى يؤدي بدله استحساناً؛ لأن في إباحة الانتفاع قبل أداء البدل فتح باب الغصب، فيحرم الانتفاع قبل إرضاء المالك بأداء البدل أو إبرائه، حسماً لمادة الفساد.
وكذلك قال المالكية كما بان في فرع (3) السابق.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : لا ينقطع حق المالك في ملكه، وله أن يأخذه، وأرش نقصه إن نقص، ولا شيء للغاصب في زيادته في الصحيح من مذهب الحنابلة.
وقال أبو حنيفة (3) مثل الشافعية والحنابلة فيمن غصب فضة أو ذهباً، فصكها (ضربها) دراهم أو دنانير، أو صنعها آنية، لا يزول ملك مالكها عنها، ولا شيء للغاصب؛ لأن العين باقية من كل وجه، فاسمها باق، وأحكامها الأربعة المتعلقة بالذهب والفضة باقية، وهي (الثمنية، وكونها موزونة، وجريان الربا فيها، ووجوب الزكاة عليها) فلم ينقطع حق المالك بها.
__________
(1) كشاف القناع: 86/4، 103 وما بعدها، المغني: 266/5 وما بعدها.
(2) المهذب: 369/1، المغني: 243/5.
(3) تكملة الفتح مع العناية: 379/7، الكتاب مع اللباب: 192/2.(6/573)
وظل الصاحبان في ذلك على أصلهما السابق (1) : وهو أنه يملكها الغاصب، وعليه مثلها؛ لأنه أحدث فيها صنعة معتبرة، صيَّر بها حق المالك في حكم الهالك (التالف) ، وتغاير الأصل مع الحادث المصنوع في الاسم والمعنى، فكان قبل الصنع يسمى تبراً، وبعده سمي دراهم ودنانير أو آنية.
5 - نقصان المغصوب:
نقص المغصوب في يد الغاصب قد يكون معنوياً أو حسياً مادياً، وهو يشمل عند الحنفية صوراً أربعاً هي ما يأتي (2) :
أـ أن يحدث النقص بسبب هبوط الأسعار في الأسواق: وهذا لا يكون مضموناً إذا رد العين في مكان الغصب؛ لأن نقصان السعر ليس نقصاً مادياً في المغصوب بفوات جزء من العين، وإنما يحدث بسبب فتور الرغبات التي تتأثر بإرادة الله تعالى، ولا صنع للعبد فيها.
ب ـ أن يكون النقص بسبب فوات وصف مرغوب فيه، كضعف الحيوان، وزوال سمعه أو بصره، أوطروء الشلل أو العرج أو العور أوسقوط عضو من الأعضاء، فيجب على الغاصب ضمان النقص في غيرمال الربا، ويأخذ المالك العين المغصوبة، لبقاء العين على حالها.
فإن كان المغصوب من أموال الربا كتعفن الحنطة، وكسر إناء الفضة، فليس للمالك إلا أخذ المغصوب بذاته، ولا شيء له غيره بسبب النقصان؛ لأن الربويات لا يمكنهم فيها ضمان النقصان، مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
جـ ـ أن يكون النقص بسبب فوات معنى مرغوب فيه في العين، مثل الشيخوخة بعد الشباب، والهرب، ونسيان الحرفة، فيجب ضمان النقص في كل الأحوال.
د ـ أن يكون النقص بفوات (زوال) جزء من العين المغصوبة، كخرق الثوب، فيجب الضمان في جميع الأحوال.
__________
(1) وإطلاق نص المجلة (م 899) يتمشى مع عموم مذهب الصاحبين.
(2) البدائع: 155/7، تكملة الفتح: 382/7، تبيين الحقائق: 288/5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 190/2، رد المحتار: 132/5.(6/574)
لكن إن كان النقص يسيراً كالخرق اليسير في الثوب، فليس للمالك سوى تضمين الغاصب مقدار النقصان لبقاء العين بذاتها.
وإن كان النقص فاحشاً كالخرق الكبير في الثوب بحيث يبطل عامة منافعه، فالمالك بالخيار بين أخذه وتضمينه النقصان، لتعيبه، وبين تركه للغاصب وأخذ جميع قيمته؛ لأنه أصبح مستهلكاً له من وجه. والصحيح في ضابط الفرق بين اليسير والفاحش هو مايأتي (1) :
اليسير: ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه نقصان في المنفعة.
والفاحش: هو ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة، ويبقى بعض العين وبعض المنفعة.
وقدرت المجلة (م 900) : اليسير بما لم يكن بالغاً ربع قيمة المغصوب. والفاحش: بما ساوى ربع قيمة المغصوب أوأزيد.
وإذا وجب ضمان النقصان قوّمت العين صحيحة يوم غصبها، ثم تقوّم ناقصة، فيغرم الغاصب الفرق بينهما.
وإذا كان العقار مغصوباً، فإنه وإن لم تضمن عينه بهلاكه بآفة سماوية عند الحنفية، فإن النقص الطارئ عليه بفعل الغاصب أو بسكناه أو بسبب زراعة الأرض مضمون، كما ذكرت سابقاً؛
__________
(1) رد المحتار: 136/5، تبيين الحقائق: 229/5، تكملة فتح القدير: 383/7.(6/575)
لأنه إتلاف وتعد منه (1) .
وقال غير الحنفية (2) : لا يضمن نقص المغصوب ولا زيادته بسبب هبوط الأسعار، أي كما قال الحنفية؛ لأن النقص كان بسبب فتور رغبات الناس، وهي لاتقابل بشيء، والمغصوب لم تنقص عينه ولا صفته (3) ، لكن الشافعية وأبو ثور قالوا: إذا نقصت القيمة بسبب تغير الأسعار، يلزم الغاصب بضمان النقصان.
وأما النقص الحاصل في ذات المغصوب أو في صفته، فيكون مضموناً، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل الغاصب.
إلا أن المالكية قالوا في المشهور عندهم: إذا كان النقص بأمر من السماء، فليس للمغصوب منه إلا أن يأخذ المغصوب ناقصاً كما هو، أو يُضمن الغاصب قيمة المغصوب كله يوم الغصب، ولا يأخذ قيمة النقص وحدها. وإن كان النقص بجناية الغاصب، فالمالك مخير في المذهب بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب، أو يأخذه، مع ما نقصته الجناية (أي يأخذ قيمة النقص) يوم الجناية عند ابن القاسم، ويوم الغصب عند سحنون. ولم يفرق أشهب بين نقص السماء وجناية الغاصب.
6 - زيادة المغصوب:
عرفنا أن زيادة المغصوب المتصلة أوا لمنفصلة لاتضمن عند شيخي الحنفية (أبي حنيفة وأبي يوسف) لعدم إزالة يد المالك عنها.
وتضمن الزوائد مطلقاً عند محمد والشافعية والحنابلة لتولدها من عين مملوكة، وتضمن الزوائد المنفصلة فقط دون المتصلة عند المالكية. ومما يتصل بزيادة المغصوب ما يأتي وهو:
البناء على الأرض المغصوبة أو زرعها أو غرسها:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة ـ من حيث المبدأ ـ على أن الغاصب يلزم برد المغصوب إلى صاحبه، وإزالة ما أحدثه فيه من بناء أو زرع أو غرس، لقوله صلّى الله عليه وسلم «ليس لعرق
__________
(1) تكملة فتح القدير: 369/7، تبيين الحقائق: 229/5، م 905 من المجلة.
(2) بداية المجتهد: 312/2 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 452/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 331، مغني المحتاج: 286/2، 288، المهذب: 369/1، كشاف القناع: 99/4 ومابعدها، المغني: 228/5، 232، 241.
(3) لا اعتبار بتغير السعر في السوق في غصب الذوات. أما التعدي: وهو غصب المنفعة عند المالكية فيتأثر بذلك، فللمالك إلزام الغاصب قيمة الشيء إن تغير سوقها، عما كان يوم التعدي، وله أن يأخذ عين شيئه، ولا شيء له على المتعدي.(6/576)
ظالم حق» (1) .
وتفصيل آراء المذاهب ما يأتي:
1 - قال الحنفية (2) : من غصب ساجة (خشبة عظيمة تستعمل في أبواب الدور وبنائها) فبنى عليها أو حولها، وكانت قيمة البناء أكثر من قيمتها، زال ملك مالكها عنها، ولزم الغاصب قيمتها، لصيرورتها شيئاً آخر، وفي القلع ضرر ظاهر لصاحب البناء (الغاصب) من غير فائدة تعود للمالك، وضرر المالك ينجبر بالضمان، ولا ضرر في الإسلام. أما إذا كانت قيمة الساجة أكثر من البناء، فلم يزل ملك مالكها، لأنه يرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، كما هو القاعدة.
وعقب القاضي زاده في تكملة الفتح على هذه التفرقة، فقال: لا فرق في المعنى بين أن تكون قيمة البناء أكثر من قيمة الساجة وبين العكس؛ لأن ضرر المالك مجبور بالقيمة، وضرر الغاصب ضرر محض، ولا ريب أن الضرر المجبور دون الضرر المحض، فلا يرتكب الضرر الأعلى عند إمكان العمل بالضرر الأدنى. وهذه مسألة الساجة يعمل فيها بقاعدة «الضرر الأشد يزال بالأخف» (3) .
وأما مسألة الساحة فهي: لو غصب غاصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى فيها، وكانت قيمة الأرض (الساحة) أكثر، أجبر الغاصب على قلع الغرس، وهدم البناء، ورد الأرض فارغة إلى صاحبها كما كانت؛ لأن الأرض لا تغصب حقيقة عندهم، فيبقى فيهاحق المالك كما كان، والغاصب جعلها مشغولة فيؤمر بتفريغها، إذ ليس لعرق ظالم حق. فإن كانت قيمة البناء أكثر، فللغاصب أن يضمن للمالك قيمة الأرض ويأخذها.
وإذا كانت الأرض تنقص بقلع الغرس منها أو هدم البناء، فللمالك أن
__________
(1) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير بلفظ: «من أحيا أرضاً فهي له، وليس لعرق ظالم حق» (نيل الأوطار: 319/5) .
(2) تكملة فتح القدير: 379/7، 383، الدر المختار: 135/5-137، تبيين الحقائق: 228/5 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 192/2.
(3) وطبقوا هذه القاعدة أيضاً على فروع كثيرة منها: لو ابتلعت دجاجة لؤلؤة أو أدخل البقر رأسه في قدر، أو أودع فصيلاً (ولد الناقة إذا فصل عن أمه) فكبر في بيت الوديع ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الجدار، أو سقط دينار في محبرة ولم يمكن إخراجه إلا بكسرها ونحو ذلك، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقل. ولو ابتلع إنسان لؤلؤة فمات، لا يشق بطنه لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال، وتكون قيمتها في تركته، وهو مذهب الحنابلة أيضاً، أي في اللؤلؤة. وجوزه الشافعي قياساً على الشق لإخراج الولد (الدر المختار: 135/5) .(6/577)
يضمن للغاصب قيمة البناء والغرس مقلوعاً (أنقاضاً) رعاية لمصلحة الطرفين ودفعاً للضرر عنهما، فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء، وتقوم وبها شجر وبناء مستحق القلع والهدم، فيضمن الفرق بينهما.
وإذا زرع الغاصب الأرض، فإن كانت الأرض ملكاً: فإن أعدها صاحبها للزراعة، فيكون الأمر مزارعة بين المالك والغاصب، ويحتكم إلى العرف في حصة كل منهما، النصف أو الربع مثلاً، وإن كانت معدة للإيجار فالناتج للزارع، وعليه أجر مثل الأرض. وإن لم يكن شيء مما ذكر فعلى الغاصب نقصان ما نقص الزرع، وأما إذا كانت الأرض وقفاً أو مال يتيم، اعتبر العرف إذا كان أنفع، وإن لم يكن العرف أنفع وجب أجر المثل لقولهم: يفتى بما هو أنفع للوقف.
2 - وقال المالكية (1) :
أـ البناء: من غصب أرضاً أو عموداً أو خشباً، فبنى فيها أو بها، فيخير المالك بين المطالبة بهدم البناء على المغصوب، وبين إبقائه على أن يعطي الغاصب قيمة الأنقاض، بعد طرح أجرة القلع أو الهدم، ولا يعطيه قيمة التجصيص والتزويق وشبههما مما لا قيمة له، أي أنهم يرجحون مصلحة المالك؛ لأنه صاحب الحق.
ومن غصب سارية أو خشبة فبنى عليها، فلصاحبها أخذها، وإن هدم البنيان وهو قول الشافعية.
ب ـ الغرس:
ومن غصب أرضاً، فغرس فيها أشجاراً لا يؤمر بقلعها، وللمغصوب منه أن يعطيه قيمتها بعد طرح أجرة القلع كالبنيان. فإن غصب أشجاراً، فغرسها في أرضه أمر بقلعها.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 331، الشرح الكبير: 448/3، بداية المجتهد: 319/2.(6/578)
جـ ـ الزرع:
وإن زرع في الأرض المغصوبة زرعاً: فإن أخذها صاحبها في إبان الزراعة، فهو مخيّر بين أن يقلع الزرع أو يتركه للزارع ويأخذ الكراء. وإن أخذها بعد إبان الزراعة، فقيل: هو مخيّر كما ذكر، وقيل: ليس له قلعه وله الكراء، والزرع لزارعه.
3 - وقال الشافعية (1) : يكلف الغاصب بهدم البناء وقلع الغراس على الأرض المغصوبة، وأرش النقص إن حدث، وإعادة الأرض كما كانت، وأجرة المثل في مدة الغصب إن كان لمثلها أجرة إذ ليس لعرق ظالم حق، ولو أراد المالك تملكها بالقيمة، أو إبقاءها بأجرة، لم يلزم الغاصب إجابته في الأصح، لإمكان القلع بلا أرش، ولو بذر الغاصب بذراً في الأرض، فللمالك تكليفه إخراج البذر منها وأرش النقص، وإن رضي المالك ببقاء البذر في الأرض لم يكن للغاصب إخراجه. كما لا يجوز للغاصب قلع تزويق الدار المغصوبة إن رضي المالك ببقائه، والخلاصة: أن للمالك الحق في إزالة آثار الغصب بلا ضرر عليه.
4 - وقال الحنابلة (2) : مثل الشافعية تماماً في البناء والغرس على الأرض المغصوبة عملاً بحديث «ليس لعرق ظالم حق» . أما في حالة زرع الأرض فقالوا: يخير المالك بين إبقاء الزرع إلى الحصاد، وأخذ أجر الأرض وأرش النقص من الغاصب وبين أخذ الزرع له ودفع النفقة للغاصب عملاً بحديث «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته» (3) وفي حديث آخر:
__________
(1) مغني المحتاج: 289/2، 291، الميزان: 89/2 وما بعدها، المهذب: 371/1.
(2) المغني: 223/5-225، 234، 245، كشاف القناع: 87/4-94.
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن رافع بن خديج، وقال البخاري: هو حديث حسن (نيل الأوطار: 319/5 وما بعدها) .(6/579)
«خذوا زرعكم وردوا عليه نفقته» (1) أي للغاصب. وهذا أعدل الآراء وأكثرها قابلية للتطبيق.
7 - ضمان غلة المغصوب ومنافعه:
تبين سابقاً في بحث منافع المغصوب وغلته: أن غلة المغصوب كالأجرة المستفادة من إيجار الأعيان المغصوبة لا تطيب في رأي أبي حنيفة ومحمد للغاصب، لأن الربح حصل بسبب خبيث: وهو التصرف في ملك الغير، وسبيله التصدق به.
وقال أبو يوسف وزفر: يطيب الربح للغاصب إذا دفع ضمانه، لأن المغصوب صار مملوكاً له بالضمان عملاً بالقاعدة المقررة عند الحنفية: «المضمونات تملك بأداء الضمان مستنداً إلى وقت الغصب» .
وأما منافع المغصوب من سكنى العقار وركوب السيارة أو الدابة، ولبس الثوب، واستعمال الشيء وزراعة الأرض، فلا تضمن كما ذكر عند الحنفية، إلا في ثلاث حالات:
أن يكون المغصوب وقفاً، أو مال يتيم، أو مالاً معداً للاستغلال، أي الاستثمار لأن المنفعة ليست بمال متقوم عندهم، ولا تتقوم إلا بورود عقد الإجارة عليها، ولأن المغصوب لو هلك يضمنه الغاصب عملاً بحديث «الخراج
__________
(1) هذا حديث أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى زرعاً في أرض ظهير، فأعجبه، فقال: ما أحسن زرع ظهير! قالوا: إنه ليس لظهير، ولكنه لفلان، قال: فخذوا زرعكم، وردوا عليه نفقته» (نيل الأوطار: 320/5) .(6/580)
بالضمان» (1) أي الغنم بالغرم. وحينئذ ليس للقاضي إلا الحكم برد المغصوب لصاحبه ما دام قائماً، ورد مثله أو قيمته إذا هلك.
وقال غير الحنفية كما تقدم: تضمن منافع المغصوب؛ لأن المنافع أموال متقومة كالأعيان ولأن «الغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها» كما قال العز بن عبد السلام (2) .
إلا أن المالكية قالوا: تضمن منافع الأموال من دور وأرض بالاستعمال فقط. ولا تضمن حالة الترك، أي تضمن بالتفويت دون الفوات. وهذا إذا غصب ذات الشيء. أما إذا غصب المنفعة فقط كأن يغلق الدار ويحبس الدابة ونحوهما، فيضمنها بمجرد فواتها على صاحبها وإن لم يستعملها.
أما الشافعية والحنابلة فقالوا: تضمن منافع الأموال التي يستأجر المال من أجلها بالغصب أو التعدي، سواء استوفى الغاصب المنافع، أم تركها حتى ذهبت، أي تضمن بالتفويت أو بالفوات في يد عادية، أي ضامنة معتدية (3) .
8 - اختلاف الغاصب والمغصوب منه:
هناك مظاهر كثيرة لاختلاف الغاصب والمالك المغصوب منه، لها أثر في تحمل تبعة الضمان، فإن صدقنا كلام الغاصب برئ من الضمان، وإن صدقنا كلام
__________
(1) رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان، وضعفه البخاري، والخراج: هو الغلة والكراء (سبل السلام: 30/3) .
(2) قواعد الأحكام: 152/1 وما بعدها.
(3) المقصود بالتفويت: استيفاء المنفعة كمطالعة الكتاب وركوب الدابة وشم المسك ولبس الثوب. والمقصود بالفوات في يد عادية: هو ترك المنافع تضيع سدى بدون استيفاء كإغلاق الدار دون إسكان أحد فيها (مغني المحتاج: 286/2) .(6/581)
المالك تحمل الغاصب الضمان. وللفقهاء كلام مطول في هذا الشأن نلخصه فيما يأتي:
أـ قال الحنفية (1) : إذا قال الغاصب: هلك المغصوب في يدي (أي قضاء وقدراً) ولم يصدقه المغصوب منه، ولا بينة للغاصب، فالقاضي يحبس الغاصب مدة يظهر فيها عادة لو كان قائماً، ثم يقضي عليه بالضمان؛ لأن الحكم الأصلي للغصب هو ـ كما تقدم ـ وجوب رد عين المغصوب؛ وأما القيمة فهي بدل (أو خلف) عنه، وإذا لم يثبت العجز عن الأصل، لا يُقضى بالقيمة التي هي خلَف.
ولو اختلف الغاصب والمالك في أصل الغصب، أو في جنس المغصوب ونوعه، أو قدره، أو صفته، أو قيمته وقت الغصب، فالقول قول الغاصب بيمينه في ذلك كله؛ لأن المالك يدعي عليه الضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله؛ لأن اليمين في الشرع على من أنكر.
ولو ادعى الغاصب رد المغصوب إلى المالك، أو ادعى أن المالك هو الذي أحدث العيب في المغصوب، فلا يصدق الغاصب إلا ببينة؛ لأن البينة في الشرع على المدعي.
ولو تعارضت البينتان، فأقام المالك البينة على أن الدابة أو السيارة مثلاً تلفت عند الغاصب من ركوبه، وأقام الغاصب البينة على أنه ردها إلى المالك، فتقبل بينة المالك، وعلى الغاصب قيمة المغصوب؛ لأن بينة الغاصب لا تَدْفع بينة المغصوب منه؛ لأنها قامت على رد المغصوب، ومن الجائز أنه ردها، ثم غصبها ثانياً وركبها، فتلفت في يده.
__________
(1) البدائع: 163/7 وما بعدها، تكملة الفتح: 387/7، اللباب مع الكتاب: 194/2.(6/582)
ب ـ والمالكية (1) قالوا مثل الحنفية: إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في دعوى تلف المغصوب، أو في جنسه، أو صفته، أو قدره، ولم يكن لأحدهما بينة، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
جـ ـ وقال الشافعية والحنابلة (2) : إن اختلف الغاصب والمغصوب منه في قيمة المغصوب، بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، صدق الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، وعلى المالك البينة.
وإن اختلفا في تلف المغصوب، فقال المغصوب منه: هو باق، وقال الغاصب: تلف، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على التلف.
وكذلك لو اختلفا في قدر المغصوب أو في صناعة فيه، ولا بينة لأحدهما، فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لأنه منكر لما يدعيه المالك عليه من الزيادة.
وإن اختلفا في رد المغصوب، فقال الغاصب: رددته، وأنكره المالك، فالقول للمالك؛ لأن الأصل معه وهو عدم الرد، وكذا لو اختلفا في عيب في المغصوب بعد تلفه؛ بأن قال الغاصب: كان مريضاً أو أعمى مثلاً، وأنكره المالك، فالقول للمالك بيمينه؛ لأن الأصل السلامة من العيوب، وهذا موافق لرأي الحنفية.
والخلاصة: يصدق الغاصب بيمينه حال الاختلاف بتلف المغصوب وبقائه، والاختلاف في تقدير قيمة المغصوب، وفي صفة المغصوب أو قدره. ويصدق المالك بيمينه في ادعاء رد العين المغصوبة على المغصوب منه.
وهكذا يلاحظ أن المذاهب الأربعة متفقة في دعاوى اختلاف الغاصب والمالك.
__________
(1) الشرح الكبير: 456/3، القوانين الفقهية: ص 331.
(2) مغني المحتاج: 287/2، المهذب: 376/1، المغني: 272/5، كشاف القناع: 125/4.(6/583)
9 - غاصب الغاصب ومن في حكمه:
لو غصب شخص من آخر شيئاً، فجاء آخر وغصبه منه، فهلك في يده، فالمالك باتفاق المذاهب الأربعة (1) بالخيار: إن شاء ضمن الغاصب الأول، لوجود فعل الغصب منه: وهو إزالة يد المالك عنه، وإن شاء ضمن الغاصب الثاني، أو المتلف، سواء علم بالغصب أم لم يعلم؛ لأن الغاصب الثاني أزال يد الغاصب الأول الذي هو بحكم المالك في أنه يحفظ ماله، ويتمكن من رده عليه (أي على المالك) ، ولأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، والجهل غير مسقط للضمان، ولأن المتلف أتلف الشيء. وهذا بمقتضى ما يعرف قانوناً بالحق العيني للمالك المغصوب منه الذي من خواصه إثبات حق تتبع العين المغصوبة في أي يد وجدت فيها العين.
فإن اختار المالك تضمين الأول، وكان هلاك المغصوب في يد الغاصب الثاني، رجع الغاصب الأول بالضمان على الثاني؛ لأنه بدفعه قيمة الضمان، ملك ـ عند الحنفية ـ الشيء المضمون (أي المغصوب) من وقت غصبه، فكان الثاني غاصباً الملك الأول. وسبب رجوع الغاصب الأول على الثاني عند غير الحنفية هو أنه غرم المال بدون تسبب منه في هلاكه.
وإن اختار المالك تضمين الثاني أو المتلف، لا يرجع هذا بالضمان على أحد، ويستقر الضمان في ذمته؛ لأنه ضمن فعل نفسه: وهو إزالة يد المالك، أو استهلاكه، وإتلافه.
وللمالك أن يأخذ بعض الضمان من شخص، وبعضه الآخر من الشخص الآخر إلا أن الحنفية استثنوا من مبدأ تخيير المالك في هذه الحالة: الموقوف المغصوب إذا غصب، وكان الغاصب الثاني أملأ من الأول، فإن متولي الوقف يضمن الثاني وحده.
والراجح عند الحنفية أن المالك متى اختار تضمين أحدهما (الغاصب الأول، أو الثاني) يبرأ الآخر عن الضمان، بمجرد الاختيار، فلو أراد تضمينه بعدئذ، لم يكن له ذلك.
__________
(1) البدائع: 144/7، 146، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 96/2 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 126/5 وما بعدها، 139، الشرح الكبير للدردير: 457/3، مغني المحتاج: 279/2، فتح العزيز شرح الوجيز: 252/11، المغني: 252/5، م/910 من المجلة.(6/584)
وإذا رد الغاصب الثاني المغصوب على الأول، برئ من الضمان، وإذا رده إلى المالك برئ الاثنان (1) .
الغاصب الأول ومن تصرف معه بالرهن ونحوه:
وكذلك للمالك عند الحنفية (2) تضمين الغاصب الأول أو المرتهن أو المستأجر أو المستعير أو المشتري من الغاصب الأول، أو الوديع الذي أودعه الغاصب الأول الشيء المغصوب، فهلك في يده، فإن ضمن الغاصب الأول استقر الضمان عليه، ولم يرجع بشيء على أحد. وإن ضمن المرتهن أو المستأجر أو الوديع أو المشتري، رجعوا على الغاصب بالضمان، لأنهم عملوا له والمشتري إذا ضمن القيمة يرجع بالثمن على الغاصب البائع؛ لأن البائع ضامن استحقاق المبيع، ورد القيمة كرد العين.
وأما المستعير من الغاصب أو الموهوب له، أو المتصدق عليه منه، فيستقر الضمان عليه وإن كان جاهلاً الغصب؛ لأنه يعمل في القبض لنفسه.
أما الشافعية (3) فقالوا: الأيدي المترتبة على يد الغاصب أيدي ضمان وإن جهل صاحبها
__________
(1) راجع المجلة: م/911، الدر المختار: 138/5.
(2) رد المحتار: 139/5.
(3) مغني المحتاج: 279/2.(6/585)
الغصب؛ لأنه (أي الواضع) وضع يده على ملك غيره بغير إذنه، والجهل ليس مسقطاً للضمان بل يسقط الإثم فقط، فيطالب المالك من شاء منهما. لكن لايستقر الضمان على الآخذ من الغاصب إلا بعلمه بالغصب، حتى يصدق عليه معنى الغصب، أو إن جهل به وكانت يد الواضع في أصلها يد ضمان، كالمستعير والمشتري والمقترض والسائم؛ لأنه تعامل مع الغاصب على الضمان، فلم يغرّه.
أما إن جهل الواضع يده على المغصوب بالغصب، وكانت يده يد أمانة بلا اتهاب، كوديع ومضارب، فيستقر الضمان على الغاصب دون الآخذ، لأنه تعامل مع الغاصب على أن يده نائبة عن يد الغاصب. وأما الموهوب له فقرار الضمان عليه في الأظهر؛ لأنه وإن كانت يده ليست يد ضمان، إلا أن أخذه الشيء للتملك.
وعلى هذا، في حالة الجهل بالغصب: يستقر الضمان عند الحنفية والشافعية على المستعير والموهوب له، والمتصدق عليه فقط. وأما الوديع والمضارب المعتبر كل منهما أميناً، فيستقر الضمان الذي دفعه على الغاصب عند كل من الحنفية والشافعية. ولا خلاف بين الحنفية والشافعية في تضمين الغاصب أو الآخذ منه في كل الأحوال.
10 - نفقة المغصوب:
تكون نفقة المغصوب أثناء غصبه على الغاصب بسبب ظلمه وتعديه، جاء في كتب المالكية (1) : وما أنفق الغاصب على المغصوب، كعلف الدابة، وسقي الأرض وعلاجها وخدمة شجر ونحو ذلك مما لا بد للمغصوب منه، يكون في نظير الغلة التي استغلها الغاصب من يد المغصوب؛ لأنه وإن ظَلَم لا يُظْلَم، فإن تساوت النفقة مع الغلة فواضح، وإن زادت النفقة على الغلة، فلا رجوع للغاصب بالزائد، كما أنه إذا كان لا غلة للمغصوب، فلا رجوع له بالنفقة لظلمه، وإن زادت الغلة على النفقة، فللمالك الرجوع على الغاصب بزائدها.
وانفرد الحنابلة (2) بالقول كما تقدم بأن للغاصب النفقة في حال غصب أرض وزراعتها، واختيار المالك أن يكون الزرع له، وأن يدفع للغاصب نفقته، عملاً بالحديث المتقدم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وعليه نفقته (3) » والخيار الثاني: أن يقر المالك الزرع في الأرض إلى الحصاد، ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها.
__________
(1) الشرح الصغير: 598/3.
(2) المغني والشرح الكبير: 392/5.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.(6/586)
المبحث الثاني ـ إتلاف المال وحكمه
وفيه مطالب ثلاثة، وملحق به، ويبحث الإتلاف المالي عادة بعد الغصب أو معه؛ لأنه يأخذ حكمه من حيث التضمين.
المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان.
المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف.
المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته.
وأبدأ ببحث كل منها فيما يأتي:
المطلب الأول ـ تعريف الإتلاف وكونه سبب الضمان:
الإتلاف (1) : هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعاً به منفعة مطلوبة منه عادة (2) وهو سبب موجب للضمان؛ لأنه اعتداء وإضرار، والله تعالى يقول: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/2] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وإذا وجب الضمان بالغصب فبالإتلاف أولى؛ لأنه اعتداء وإضرار محض.
ولا فرق بين أن يقع الإتلاف مباشرة: وهو إلحاق الضرر من غير واسطة بمحل التلف، أو تسبباً: وهو ارتكاب فِعلٍ في محل يفضي إلى تلف غيره.
كما لا فرق في ضمان الإتلاف بين العمد والخطأ، ولا بين وجود البلوغ أو التمييز أو عدمه، فالمتلف عمداً أو خطأ ضامن باتفاق المذاهب الأربعة، والكبير أو الصغير أو المجنون أوالنائم المتلف ضامن أيضاً عند جمهور الفقهاء. وفرق المالكية بين الصبي المميز وغيره، فيغرم المميز ما أتلفه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال
__________
(1) الإتلاف والإفساد والاستهلاك لها معان متقاربة في اصطلاح الفقهاء. وهي تدخل تحت مدلول أعم وهو الضرر: وهو إلحاق مفسدة بالآخرين، أو كل نقص يدخل على الأعيان.
(2) البدائع: 164/7. اتبع به.(6/587)
أما غير المميز فلا شيء عليه فيما أتلفه من نفس أو مال كالعجماء، ومثله المجنون (1) . والمعتمد لدى المالكية إطلاق الضمان من المميز وغير المميز، جبراً للضرر.
إلا أن الفقهاء اختلفوا في تقدير وجود السبب في بعض الحالات. منها ما يأتي:
أولاً ـ فتح الباب أو حل الرباط: من فتح باب حانوت، ثم تركه مفتوحاً، فسرق، أو دل لصاً أو ظالماً على شيء فأخذه أو فتح قفص طائر، فطار، أو حل رباط دابة فهربت، أو فتح باب الإصطبل فخرجت، أو حل رباط سفينة، فغرقت أو ذهبت بها الريح.
لا يضمن المتسبب في هذه الأمثلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف (2) ؛ لأن مجرد الفتح ونحوه ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبباً، لتدخل عنصر آخر من التلف، وهو السرقة أو الطيران أوا لهرب أو الغرق ونحوها، والسارق هو المباشر، والطير أو الدابة هو الذي اختار الهرب، والماء أو الريح كان السبب في الإغراق أو الضياع، فلم يكن مجرد فتح الباب أو حل الرباط سبباً محضاً، فلا حكم له.
ويضمن هذا المتسبب عند المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (3) ؛ لأنه تسبب في الإتلاف، وحدوث الضرر أمر متوقع في الطبع أو العادة. وهو الرأي المنطقي العادل في تقديري، وقد أخذت به المجلة: م (922) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 139/6، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 77/1، الدر المختار وحاشيته: 378/5، 415، بداية المجتهد: 404/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 332، 333، مغني المحتاج: 277/2، كشاف القناع: 128/4.
(2) البدائع: 166/7، جامع الفصولين: 115/2 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 148.
(3) الشرح الكبير للدردير: 451/3، القوانين الفقهية: ص 332، كشاف القناع: 128/4 ومابعدها، المغني: 280/5، 282، القواعد لابن رجب: ص 285.(6/588)
وفصل الشافعية في الأمر (1) فقالوا: من فتح قفصاً عن طائر، وهيجه، فصار في الحال، ضمنه، لأنه ألجأه إلى الفرار، وإن اقتصر على الفتح، فالأظهر أنه إن طار في الحال: ضمن؛ لأن طيرانه في الحال يشعر بتنفيره، وإن وقف ثم طار، فلا يضمنه؛ لأن طيرانه بعد الوقوف يشعر باختياره.
وهذا التفصيل ينطبق على حل رباط بهيمة، أو فتح باب إصطبل ونحوه.
وكذلك لو حلّ رباطاً عن علف في وعاء، فأكلته بهيمة في الحال، ضمنه، أما من فتح باب حانوت فسرقه إنسان، أو دلّ سارقاً، فسرق، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يوجد منه سبب يمكن تعليق الضمان عليه به.
وإن حلّ رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال ضمن؛ لأنها تلفت بفعله. وإن وقفت، ثم غرقت: فإن كان بسبب حادث كريح هبت، لم يضمن لأنها غرقت بغير فعله. وإن غرقت من غير سبب حادث ففيه رأيان:
أحدهما ـ لا يضمن كالزِّق إذا ثبت بعد فتحه، ثم سقط.
والثاني ـ يضمن لأن الماء أحد المتلفات.
ثانياً ـ فتح وعاء السمن (الزق) : لو فتح إنسان زقاً (ظرفاً) فيه زيت أو سمن ونحوهما، فخرج ما فيه:
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف (2) : إن كان الزيت ذائباً، فسال منه، ضمن. وإن كان السمن جامداً، فذاب بالشمس، وزال، لم يضمن؛ لأن المائع يسيل بطبعه إن وجد منفذاً بحيث يستحيل استمساكه عادة، فكان حل الرباط إتلافاً له تسْبيباً، أما الجامد فلا يسيل بطبعه، فإن سال بحرارة الشمس، فلا يعد فاتح الظرف سبباً في إتلافه، ولا مباشراً له.
وقال المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن (3) : يضمن من شق زق إنسان فيه دهن مائع، فسال، وهلك. أو حل وكاء زق جامد، فأذابته الشمس، فاندفق. أو بقي الزق بعد حله قاعداً، فألقته ريح، أو زلزلة، فاندفق، فخرج ما فيه كله في الحال، أو خرج قليلاً قليلاً، أو خرج منه شيء بلَّ أسفله فسقط فاندفق؛ لأن المتسبب متعد في جميع ذلك، سواء حدث الضرر عقب فعله أو تراخى عنه. وهذا الرأي هو المعقول.
وفصل الشافعية فقالوا (4) : إذا كان الزِّق مطروحاً على الأرض، فخرج ما فيه بالفتح وتلف، يضمن، حتى ولو كان التقاطر بإذابة شمس، أو حرارة، أو ريح، مع مرور الزمن؛ لأن الإتلاف ناشئ عن فعله، سواء حضر المالك، وأمكنه تدارك الأمر، فلم يفعل، أم لا. وهذا كما قال المالكية ومن معهم.
__________
(1) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 245/11 وما بعدها، مغني المحتاج: 278/2، المهذب: 374/1 وما بعدها.
(2) البدائع: 166/7، مجمع الضمانات: ص 148، 153.
(3) القوانين الفقهية: ص 332، كشاف القناع: 129/4، البدائع: 166/7.
(4) مغني المحتاج: 278/2، المهذب: 375/1، نهاية المحتاج: 111/4 وما بعدها.(6/589)
أما إذا كان الزق منصوباً على شيء، ففتحه: فإن سقط بالفتح وخرج ما فيه أو بابتلال أسفله منه، ضمن، وإن سقط بسبب ريح، أو نحوها كزلزلة، ووقوع طائر، أو جهل الحال، فلم يعلم سبب سقوطه، لم يضمن؛ لأن التلف لم يحصل بفعله.
ثالثاً ـ الترويع: إذا بعث الحاكم إلى امرأة يستدعيها إلى مجلس القضاء، فأجهضت جنينها فزعاً، أو زال عقلها:
فقال أبو حنيفة وابن حزم (1) : لا ضمان في شيء من ذلك على أحد، إذ ليس السبب متصلاً بالنتيجة قطعاً.
وقال جمهور الفقهاء (2) : يضمن الحاكم الدية، لحادثة عمر الذي استدعى امرأة فأجهضت، وقد سبق الكلام عنها في الجنايات.
رابعاً ـ الحيلولة والحبس: من حبس المالك عن ماله حتى تلف المال، أو عن ماشيته حتى تلفت، فقال جمهور الحنفية (3) : إن كان المال منقولاً ضمن، وإن كان عقاراً لم يضمن. وهذا هو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف اللذين يريان إمكان تحقق الغصب في المنقول دون العقار. وقال محمد: يجري الغصب فيهما.
وقال المالكية والحنابلة (4) : على من فعل ذلك ضمان ما تلف به؛ لأنه سبب هلاكه.
وقال الشافعية (5) : إن قصد المتسبب منع المالك عن ملكه، ضمن، وهو مبدأ الحيلولة: وهي أن يحول بين الشخص وبين ملكه حائل حتى تلف. وإن لم يقصد منعه عن ملكه، ولم يضمن لأنه لم يتصرف في المال، وإنما تصرف في المالك.
وبه يظهر أن الحيلولة بين المالك وملكه سبب رابع من أسباب الضمان بعد (العقد، واليد، والإتلاف) عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية في المنقول دون غيره.
__________
(1) الدر المختار: 397/5، مجمع الضمانات: ص 172، اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية بهامش جامع الفصولين: 112/2، ط الأولى بالأزهرية: المحلى: 29/11 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير: 244/4، المهذب: 192/2، المغني: 832/7 وما بعدها.
(3) جامع الفصولين: 117/2، اللباب شرح الكتاب: 189/2.
(4) الشرح الكبير للدردير: 242/4، المغني: 223/5، 834/7.
(5) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 247/11، نهاية المحتاج: 112/4، مغني المحتاج: 283/2.(6/590)
المطلب الثاني ـ شروط إيجاب الضمان بالإتلاف:
يشترط لإيجاب الضمان بسبب الإتلاف ما يأتي (1) :
1 - أن يكون الشيء المتلف مالاً، فلا ضمان بإتلاف الميتة وجلدها، والدم، والتراب العادي، والكلب، والسرجين النجس، ونحوها مما ليس بمال عرفاً وشرعاً.
2 - أن يكون متقوّماً بالنسبة للمتلف عليه، والمتقوم: هو ما يباح الانتفاع به شرعاً في غير حال الاضطرار، فلا ضمان بإتلاف خمر أو خنزير لمسلم، سواء أكان المتلِف مسلماً أم ذمياً، لعدم تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم، إذ لايباح له الانتفاع بهما شرعاً، فلا قيمة لهما.
أما خمور وخنازير غير المسلم أي الذمي، فيضمنها المتلف مسلماً أو غيره، ويلزم المسلم بالقيمة، وغير المسلم بالمثل، عند الحنفية والمالكية، لتعديه عليها، ولأنها مال محترم عند غير المسلمين.
ولا تضمن عند الشافعية والحنابلة؛ إذ لا قيمة لها كالدم والميتة وسائر الأعيان النجسة، وما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل عنه، كما بان في غصب غير المتقوم.
__________
(1) البدائع: 167/7 وما بعدها، المبسوط: 53/11، درر الحكام: 268/2، تبيين الحقائق: 233/5-237، تكملة الفتح: 397/7، اللباب شرح الكتاب: 195/2، الشرح الكبير: 204/2، القوانين الفقهية: ص 333، نهاية المحتاج: 111/4، مغني المحتاج: /277، كشاف القناع: 128/4، 146 وما بعدها.(6/591)
ولا ضمان عند جمهور الفقهاء ومنهم الصاحبان بإتلاف الأصنام وآلات اللهو والفساد كالمزمار والرباب والعود ونحوها من أدوات الموسيقا، لعدم تقوّمها؛ لأن منفعتها محرمة لا تقابل بشيء باعتبارها أدوات لهو، فلا قيمة لها، كما تبين في غصب غير المتقوم.
وقال أبو حنيفة والشافعي: تضمن باعتبارها خشباً منحوتاً فقط؛ لأن هذه الآلات كما تصلح للهو والفساد، تصلح للانتفاع بها من وجه آخر، فكانت مالاً متقوماً من تلك الناحية فقط.
ولا ضمان أيضاً بإتلاف الأموال المباحة التي ليست مملوكة لأحد لعدم تقوّمها؛ لأن التقوم ينبني على كون الشيء عزيز المنال، خطير الأهمية، وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالإحراز والاستيلاء.
ولا ضمان كذلك بتحريق كتب الفسق والضلال، لاشتمالها على الكذب ولإلحاقها ضرراً بعقيدة الناس ووحدتهم، فيجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بالإتلاف من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر الذي أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم (1) ، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كسرأواني الخمر وشق زقاقها (أي ظروفها وأوعيتها) ، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة للمصحف الموحد الخط: وهو مصحف عثمان، لما خافوا على الأمة من الاختلاف في التلاوة لاختلاف اللهجات وطرائق النطق (2) .
3 - أن يكون التلف (أو الضرر) محققاً بنحو دائم: فإذا أعيد الشيء إلى الحالة التي كان عليها فلا ضمان، كأن عولج المرض أو نبتت سن الحيوان في المدة
__________
(1) انظر نيل الأوطار: 329/5 وما بعدها.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم: ص 271 ومابعدها، 275،ط أنصار السنة المحمدية.(6/592)
التي بقي فيها الشيء في يد المعتدي؛ لأن النقص الحاصل عندما أزيل أو السن عندما نبتت ثانياً، جعل الضرر كأن لم يكن، ويرد على المعتدي ما أخذ منه بسبب النقصان، لأنه تبين أن النقصان لم يكن موجباً للضمان لعدم تحقق شرط الوجوب وهو العجز عن الانتفاع على طريق الدوام. وهذا رأي أبي حنيفة.
وقال الصاحبان: على الجاني الأرش كاملاً؛ لأن الجناية وقعت موجبة له، والذي نبت نعمة جديدة من الله (1) .
4 - أن يكون المتلف أهلاً لوجوب الضمان: فلا يضمن ما تتلفه بهيمته من أموال؛ لأن فعل العجماء جُبَار أي هدر. ولا يشترط التمييز عند بعض المالكية لإيجاب الضمان كما تقدم (2) .
5 - أن يكون في إيجاب الضمان فائدة: حتى يتمكن صاحب الحق من الوصول إلى حقه، فإن لم يكن في التضمين فائدة، أي عدم القدرة على تنفيذ الحكم الصادر بالتعويض، فلا ضمان.
وعليه فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربي (3) ، ولا على الحربي بإتلاف مال المسلم في دار الحرب؛ إذ ليس لحاكم بلد سلطة أو ولاية لتنفيذ الأحكام على رعايا بلد آخر. وليس مال الحربي بالنسبة للمسلم وعكسه محترماً، أي مصوناً يجب الحفاظ عليه، وإنما هو هَدَر. لهذا اشترط الفقهاء في الضمان أن يكون المال محترماً، فمال الحربي في نظر الشرع مباح، فمن أخذه لا يعد غاصباً (4) .
__________
(1) البدائع: 155/7، 157، تبيين الحقائق: 137/6، اللباب شرح الكتاب: 190/3.
(2) وعلى هذا نصت المجلة: م/916.
(3) الحربي: هو بيننا وبين بلاده عداوة وحرب.
(4) نهاية المحتاج: 111/4.(6/593)
ولا ضمان أيضاً على العادل إذا أتلف مال الباغي، ولا على الباغي إذا أتلف مال العادل (1) ، لعدم إمكان الوصول إلى الضمان لعدم وجود الولاية والسلطة.
وقيّد غير الحنفية (2) عدم الالتزام بالضمان بين العادلين والبغاة بحال الحرابة (أو الحرب أو الخروج على الإمام) لعذر البغاة بالتأويل.
وأضاف الشافعية (3) على هذه الشروط أن تثبت اليد على المال: فلا يضمن الشخص طائراً فزع من مسيره من غير قصد، فخرج من القفص الذي كان مفتوحاً، ولا يضمن المشتري مبيعاً تلف قبل القبض.
وأما شروط الضمان في الإتلاف تسبباً فهي ثلاثة كما ذكر الحنفية (4) :
1 - التعدي: أن يحدث تعد من فاعل السبب. والتعدي: هو تجاوز الحق، أو ما يسمح به الشرع، كأن يحفر شخص بئراً في الطريق العام من غير إذن الحاكم، أو في غير ملكه عدواناً، أو لا يتخذ الاحتياطات الواقية من وقوع الضرر ولو بإذن، فإذا سقط فيه إنسان أو حيوان، فالحافر ضامن. ومثله أن يؤجج رجل ناراً في يوم ريح عاصف، فيتعدى إلى إتلاف مال الغير؛ أو يحل وكاء وعاء فيه شيء مائع فاندفق؛ أو يمزق وثيقة فضاع ما فيها من الحقوق؛ أو يفتح قفصاً عن طائر، فطار في رأي غير أبي حنيفة وأبي يوسف، أو يحمل حملاً في الطريق، فيقع على شيء فيتلفه، أو يعثر أحد بالحمل، فيضمن في كل تلك الحالات لأنه أثر فعله الذي هو تعدي.
__________
(1) العادل ضد الباغي، وجمعه بغاة، والبغاة قوم كالخوارج لهم شوكة ومنعة خالفوا جماعة المسلمين في بعض الأحكام الشرعية بتأويل فاسد لبعض النصوص، وظهروا على بلدة من البلاد الإسلامية، ونظموا عسكراً لهم، ونفذوا أحكامهم الخاصة.
(2) الشرح الكبير: 442/3، 300/4، مغني المحتاج: 277/2 وما بعدها، كشاف القناع: 128/4.
(3) نهاية المحتاج: 113/4.
(4) جامع الفصولين: 116/2، 112، 124، مجمع الضمانات: ص 323، شرح المجلة للشيخ خالد الأتاسي: 464/3، المادة 924 من المجلة، وانظر القواعد لابن رجب: ص 190 وما بعدها، الفروق للقرافي: 27/4، 208/2، مغني المحتاج: 278/2.(6/594)
2 - التعمد: وهو أن يصدر الفعل عن قصد وإرادة، كأن يتلف شِرْب (1) إنسان بأن يسقي أرضه بشرب غيره، أو يسد الماء عن أرض جاره، فتيبس مزروعاته، أو يجذب ثوب إنسان فيسقط منه ما يحمله فيه، فيتلف، فيضمن. أما إذا لم يكن هناك تعمد، كما لو جفلت دابة من رجل، فهربت وضاعت، فلا يضمن، لأنه غير متعمد أو غير متعد في الأدق. والحقيقة أن المراد بالتعمد هو التعدي، سواء أكان هناك قصد أم لا، فلو صاح مجنون بدابة شخص، فجفلت ووقع الراكب أو الحمل، فتلف، كان ضامناً المال. وإن لم يكن عنده قصد الإضرار، لكنه متعد. وتكون القاعدة؛ «المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي» و «المباشر ضامن وإن لم يتعد» .
3 - أن يؤدي السبب إلى النتيجة قطعاً، دون تدخل سبب آخر بحسب العادة: وبعبارة أخرى: ألا يتخلل بين السبب والمسبب فعل شخص آخر، أو ألا يكون التلف قد نشأ عن فعل آخر مختار مباشر، فإن تدخل عنصر آخر مختار، نسب الفعل إليه مباشرة.
أي إن اشترك المباشر والمتسبب، ضمن المباشر إن كان السبب لا يؤثر في التلف بانفراده عادة، كمن حفر بئراً في مكان عدواناً، فجاء غير الحافر، وأردى فيه إنساناً أو حيواناً، فالضمان عليه دون الحافر، أما إن تردى فيه بهيمة أو غيرها بنفسها، فالحافر هو الضامن.
وإن كان السبب يؤثر بانفراده، فإن المتسبب والمباشر يشتركان في الضمان، كما لو نخس رجل دابة آخر بإذنه، فوطئت إنساناً، فالضمان عليهما؛ لأن السبب هنا يؤثر بانفراده، كما أوضحت سابقاً في الجنايات.
هذا ... ولا يشترط في الضامن التمييز أو كونه بالغاً عاقلاً عند الفقهاء، فإن الصبي والمجنون يضمنان ما يتلفانه من أموال، كما بان سابقاً في تعريف الإتلاف.
__________
(1) الشرب: النصيب من الماء لإرواء الأراضي. وحق الشفة: هو حق شرب الإنسان والدواب.(6/595)
ولا تكون حالة الضرورة سبباً للإعفاء من الضمان، فمن اضطرحال الجوع مثلاً لتناول مال الغير، فإنه يلزمه ضمانه بالرغم من إباحة التناول حفاظاً على النفس من الهلاك؛ لأن القاعدة تقول: «الاضطرار لا يبطل حق الغير» .
ولا يصلح الجهل بكون المال المتلف مال الغير سبباً أيضاً للتخلص من الضمان.
فالعلم بكون المتلف مال الغير، ليس بشرط لوجوب الضمان، فمن أتلف مالاً ظاناً أنه ملكه، ثم تبين أنه مملوك لغيره، ضمنه؛ لأن الإتلاف واقعة مادية لا يتوقف وجودها على العلم بكون التلف مال الغير. كل ما في الأمر أن الإتلاف إذا تم مع العلم، فيوجب الضمان والإثم الأخروي، وإذا حدث جهلاً فيوجب الضمان فقط، ويرتفع الإثم؛ لأن الخطأ مرفوع المؤاخذة شرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (1) .
المطلب الثالث ـ كيفية الضمان أو ماهيته:
الواجب بالإتلافات المالية هو الواجب بالغصب: وهو ضمان المثل إن كان المتلف مثلياً، وضمان القيمة يوم الإتلاف فيما لا مثل له؛ لأن ضمان الإتلاف ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل. فعند الإمكان يجب العمل بالمثل المطلق (وهو المثل صورة ومعنى) ، وعند التعذر يجب المثل معنى، وهو القيمة، كما في الغصب (2) .
لكن إن تلف المغصوب المثلي، وفقد مثله، فتجب قيمته يوم انقطاع المثل عند الحنابلة، لأن القيمة وجبت في الذمة حينئذ (المغني: 258/5) .
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) البدائع: 168/7، القوانين الفقهية: ص 332، مغني المحتاج: 284/2، غاية المنتهى: 246/2.(6/596)
الفَصْلُ الثَّامن: دَفع الصَّائِل
وحكم ضمان الفعل الدفاعي ـ الدفاع الشرعي
وفيه مباحث أربعة: في مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه، وشروطه، وهل هو حق أو واجب، وضمان الفعل.
المبحث الأول ـ مشروعية الدفاع ومراحله وحكمه:
إذا اعتدى إنسان على غيره في نفس أو مال أو عرض، أوصال عليه يريد ماله أو نفسه ظلماً، أو يريد امرأة ليزني بها أو صالت عليه بهيمة، فللمعتدى عليه، أو المصول عليه، ولغيره: أن يرد العدوان بالقدر اللازم لدفع الاعتداء بحسب تقديره في غالب ظنه، وللغير أن يعاونه في الدفاع، ولو عرض اللصوص لقافلة، جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم.
ويبتدئ المدافع بالأخف فالأخف إن أمكن، فإن أمكن دفع المعتدي بكلام واستغاثة بالناس، حرم عليه الضرب، وإن أمكن الدفع بضرب اليد، حرم استخدام السوط، وإن أمكن الدفع بالسوط، حرم استعمال العصا، وإن أمكن الدفع بقطع عضو، حرم القتل، وإن لم يمكن الدفع إلا بالقتل أبيح للمدافع القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع. فإن شهر عليه سيفاً أبيح للمدافع أن يقتله؛ لأنه لا يقدر على الدفع إلا بالقتل، إذ لو استغاث بالناس لقتله، قبل أن يلحقه الغوث، إذ تأثير السلاح فوري.
والخلاصة: أن المدافع إن كان يعلم أن المهاجم ينزجر بصياح أو ضرب بما دون السلاح، فعل، وإلا جاز له استعمال السلاح، فالقتل أو السلاح جوز للضرورة استثناء من قاعدة «الضرر لا يزال بالضرر» ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل. ومن المعلوم أن (الضرورة تقدر بقدرها) حتى إن تمكن المعتدى عليه أو المصول عليه من الهرب أو الالتجاء لحصن أو جماعة، فيجب عليه ذلك، كما أوضح الشافعية والمالكية، وفي وجه عند الحنابلة، ويحرم قتال المعتدي أو الصائل حينئذ؛ لأن المعتدى عليه مأمور بتخليص نفسه بالأهون، وبما أن الهرب ونحوه أسهل من غيره، فلا يلجأ إلى الأشد (1) ، قال العز بن عبد السلام: «إذا انكف الصوال عن الصيال حرم قتالهم وقتلهم» (2) .
وأدلة مشروعية الدفاع كثيرة في القرآن والسنة والمعقول:
أما من القرآن فقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة:194/2] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف.
ومن السنة: أحاديث منها «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (3) فهذا
__________
(1) البدائع: 93/7، الدر المختار ورد المحتار: 197/3، الشرح الكبير: 357/4، بداية المجتهد: 319/2، مغني المحتاج: 196/4-197، المغني: 329/8-331.
(2) قواعد الأحكام: 195/1.
(3) رواه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن سعيد بن زيد (سبل السلام: 40/4) .(6/597)
دليل على جواز الدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما جعل المدافع شهيداً، دل على أن له القتل والقتال.
وأما جواز الدفاع عن الغير: فأساسه الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، فلولا التعاون، لذهبت أموال الناس وأنفسهم؛ لأن قطاع الطرق مثلاً إذا انفردوا بأخذ مال إنسان لم يُعنه غيره، فإنهم يأخذون أموال الكل واحداً واحداً، وكذلك غيرهم. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره» (1) وقال أيضاً: «من أذل عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة» (2) وفي حديث «إن المؤمنين يتعاونون على الفُتّان» (3) .
وحكم الدفاع الشرعي: هو الإباحة، فتكون أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء (4) ، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً، وعليه القصاص. ولا يجوز للمدافع القتل إلا إذا ثبت ببينة أن الصائل لم يندفع إلا به، كأن يرى الشهود أن الصائل أقبل بسلاح مشهور على المدافع، فضربه هذا. ولا يقبل القول بمجرد ادعاء المدافع أنه قد هاجم منزله، فلم يمكنه دفعه إلا بالقتل، كما لا يقبل قول الشهود بأنهم رأوا الصائل داخلاً الدار ولم يذكروا سلاحاً. فإن لم يحضر أحد من الناس يقبل عند المالكية قول المدافع بيمينه (5) .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك.
(2) رواه أحمد في مسنده عن سهل بن حنيف (نيل الأوطار: 327/5) .
(3) رواه أبو داود ولفظه «المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان» أي الشيطان. وبضم الفاء: جمع.
(4) المراجع السابقة في بدء هذا المطلب، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 140-142.
(5) الشرح الكبير للدردير: 357/4، المغني: 333/8.(6/598)
المبحث الثاني ـ شروط دفع الصائل:
يشترط لجواز دفع الصائل أربعة شروط وهي (1) :
1 - أن يكون هناك اعتداء في رأي جمهور الفقهاء، وعند الحنفية: أن يكون الاعتداء جريمة معاقباً عليها. وعلى هذا فممارسة حق التأديب من الأب أو الزوج أو المعلم، وفعل الجلاد لا يوصف بكونه اعتداء. وفعل الصبي والمجنون وصيال الحيوان لا يوصف بكونه جريمة عند الحنفية.
فإذا قتل الإنسان الجمل الصؤول ونحوه، ضمن قيمته على كل حال عند الحنفية؛ لأن الأموال تضمن حال الضرورة إلى إتلافها، والقاعدة عندهم أن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» وأن جناية (العجماء جُبَار) أي هدر.
وقال الجمهور عند الحنفية: لا غرم ولا ضمان على المدافع إذا لم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه وقتله، لأنه قتله أثناء الدفاع الجائز، ولدفع شره، وقياساً على قتل الإنسان الصائل، وحرمة النفس أعظم من حرمة المال. وقياساً أيضاً على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال. ويختلف هذا عن حالة المضطر إلى طعام الغير، بأن الطعام لم يلجئ المضطر إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته (2) . ومذهب غير الحنفية في صيال الحيوان والصبي والمجنون هو المعقول.
2 - أن يكون الاعتداء حالاً: أي واقعاً بالفعل، لا مؤجلاً ولا مهدداً به فقط.
__________
(1) راجع التفصيل في التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم عبد القادر عودة: 278/1 وما بعدها.
(2) البدائع: 273/7، بداية المجتهد: 319/2، المغني: 328/8 وما بعدها، المهذب: 225/2، كشاف القناع: 143/4، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 357/4.(6/599)
3 - ألا يمكن دفع الاعتداء بطريق آخر، فإذا أمكنه ذلك بوسيلة أخرى كالاستغاثة أو الاستعانة بالناس أو برجال الأمن، ولم يفعل، فهو معتد.
4 - أن يدفع الاعتداء بالقوة اللازمة: أي بالقدر اللازم لرد الاعتداء بحسب ظنه. بالأيسر فالأيسر، كما بينت في المطلب الأول.
المبحث الثالث ـ هل دفع الصائل حق مباح أو واجب؟
الكلام على هذا المطلب يقتضي التفصيل في كل حالة من حالات الدفاع الشرعي على حدة.
حكم الدفاع عن النفس:
إذا هوجم إنسان بقصد الاعتداء على نفسه، أو عضو من أعضائه، سواء أكان الهجوم من إنسان آخر أم من بهيمة، فيجب على المعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في رأي أبي حنيفة والمالكية، والشافعية (1) ، إلا أن الشافعية قيدوا وجوب دفع الصائل في هذه الحالة بما إذا كان الصائل كافراً أو بهيمة؛ لأن الاستسلام للكافر ذل في الدين، والبهيمة تذبح لاستبقاء نفس الإنسان.
__________
(1) تبيين الحقائق: 110/6، البدائع: 93/7، تكملة فتح القدير: 269/8، الدر المختار ورد المحتار: 197/2، 387/5، الفتاوى الهندية: 7/6، 51، مواهب الجليل للحطاب: 323/6، الشرح الكبير والدسوقي: 357/4، المنتفى على الموطأ: 61/6، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 220/2، الفروق: 185/4، مغني المحتاج: 21/4، 195، المهذب: 225/2.(6/600)
وأما إذا كان الصائل مسلماً فالأظهر عند الشافعية أنه يجوز الاستسلام له، بل يسن لخبر أبي داود: «كن خير ابني آدم» يعني قابيل وهابيل، واشتهر ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم ينكر عليه أحد، وأضاف الشافعية بأن الدفع عن نفس غيره في الإيجاب وعدمه كالدفع عن نفسه.
وقيد المالكية وجوب الدفاع بأن يكون بعد الإنذار ندباً كالمحارب إن أمكن: بأن يقول له: ناشدتك الله إلا ما تركتني ونحوه، فإن لم ينكف أو لم يمكن، جاز له دفعه بالقتل وغيره.
ودليل القائلين بإيجاب الدفاع عن النفس قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] وقوله سبحانه {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9/49] {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة:194/2] {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها} [الشورى:40/42] وبما أن الإنسان يجب عليه صيانة نفسه بأكل ما يجده حال الجوع، فيجب عليه الدفاع عن نفسه.
وقال الحنابلة (1) ، ورأيهم هو المتفق مع السنة: إن دفع الصائل على النفس جائز لا واجب، سواء أكان الصائل صغيراً أم كبيراً أم مجنوناً، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حال الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يَبهرك شعاع الشمس، فغطِّ وجهك» وفي لفظ «تكون فتن، فكن فيها عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل» (2) وقد صح أن عثمان رضي الله عنه منع عبيده أن يدافعوا عنه، وكانوا أربع مئة، وقال: «من ألقى سلاحه فهو حر» . قالوا: وهذا مخالف لحال المضطر إلى الطعام: يلزمه الأكل منه؛ لأن في القتل شهادة، وإحياء نفس غيره، وفي الأكل إحياء نفسه من غير مساس بنفس أحد غيره.
__________
(1) المغني: 329/8 وما بعدها، كشاف القناع: 143/4.
(2) أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد الله بن خباب بن الأرت، وأخرجه أحمد نحوه عن خالد ابن عرفطة.(6/601)
المبحث الرابع ـ ضمان الفعل:
اتفق الفقهاء (1) على أن المعتدى عليه (المدافع) إذا قتل الصائل، فلا مسؤولية عليه من الناحيتين المدنية والجنائية، فلا دية ولا قصاص، لقوله عليه السلام: «من شهر سيفه ثم وضعه ـ ضرب به ـ فدمه هَدَر» (2) ، ولأن الصائل باغ، والمصول عليه كان يؤدي واجبه في الدفاع عن نفسه، ودفع الشر (3) .
إلا أن الحنفية استثنوا مما ذكر: ما إذا كان الصائل صبياً أو مجنوناً أو دابة، فقتله المصول عليه، فيسأل مدنياً فقط لا جنائياً، فلا قصاص عليه، وإنما يدفع الدية عن الصبي والمجنون، ويضمن قيمة الدابة كما بينت في المبحث الثاني.
وروي عن أبي يوسف: أنه يكون مسؤولاً مدنياً فقط عن قيمة الحيوان، ولاتجب الدية عليه في قتل الصبي والمجنون.
ودليل الحنفية بالنسبة للدابة قوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُرْحها جُبَار» (4) أي
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) أخرجه النسائي وإسحاق بن راهويه والطبراني عن عبد الله بن الزبير (نصب الراية: 347/4) .
(3) قال الحنفية: «من شهر على رجل سلاحاً ليلاً أو نهاراً، أو شهر عصا ليلاً في مصر، أو نهاراً في طريق غير مصر، فقتله المشهور عليه عمداً، فلا شيء عليه» (مجمع الضمانات: ص166) .
(4) رواه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار: 234/5) .(6/602)
هَدر. وأما فعل الصبي والمجنون فلا يوصف بكونه جريمة أو بغياً، فلا تسقط به عصمة النفس، ولا يتوافر بالتالي شرط جواز الدفاع عن النفس؛ لأن من شرائطه أن يكون هناك اعتداء أو عدوان عندهم، كما تقدم، ولأن الدفاع شرع لدفع الجرائم، ولا جريمة ههنا.
وقال أبو يوسف: يعد فعل الصبي والمجنون جريمة، بدليل أنه يجب عليهما ضمان المتلفات، إلا أنه رفع العقاب عنهما لعدم الإدراك. أما فعل الدابة، فليس جريمة، ولا يجب الضمان على ما تتلفه؛ لأن العجماء جبار والشرط أن يكون الاعتداء جريمة.
والخلاصة: أن أبا حنيفة لا يرى وجوداً لحالة الدفاع في صيال الصبي والمجنون والحيوان، وإنما يحق الدفاع على أساس الضرورة، أي فيجب الضمان أو التعويض. وأما أبو يوسف فيرى وجود حالة الدفاع إذا صال الصبي أو المجنون، كما هو رأي غير الحنفية. أما إذا صال الحيوان فيدفع على أساس الضرورة، فتجب قيمته بإتلافه.
وأما جمهور الفقهاء فيرون توافر حالة الدفاع في كل الحالات المذكورة؛ لأن من واجب الإنسان أن يدافع عن النفس والمال عند كل اعتداء، وإن فعل الاعتداء بذاته لا يحل دم الصائل، ولكنه يوجب أو يجيز منع الاعتداء، على الخلاف السابق بينهم على رأيين، فالمطالبة بمنع الاعتداء هو الذي أحل دم الصائل، وليس الاعتداء ذاته، فلايشترط إذن أن يكون الاعتداء ذاته جريمة معاقباً عليها.(6/603)
ورأي الحنابلة (1) : أن من دفع صائلاً عن نفسه أو عن ولده ونسائه ومحارمه كأخته وعمته بالقتل لم يضمنه، ولو دفعه عن غيره بالقتل ضمنه.
حكم العاض: وأما من عض يد إنسان، فانتزعها منه، فسقطت أسنانه، فلاضمان عليه، أي لا يسأل مدنياً بدفع الدية عند غير المالكية، بدليل حديث عمران بن حصين «أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه، فوقعت ثنيتاه (2) ، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يَعضُّ أحدكم يد أخيه، كما يعض الفَحْل (3) ، لا
دية لك» (4) وحديث يعلى بن أمية قال: «كان لي أجير، فقاتل إنساناً، فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه، فأنذر ثنيته (أي أزالها) ، فسقطت، فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك، تقضَمها كما يَقْضَم الفحل» (5) .
وقال المالكية: إنه يجب الضمان في مثل ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «في السن خمس من الإبل» (6) ولكن قال يحيى بن يعمر وابن بطال: لو بلغ مالكاً هذا الحديث ـ حديث ابن الحصين ويعلى ـ لم يخالفه (7) .
حكم الدفاع عن العرض:
إذا أراد فاسق الاعتداء على شرف امرأة، فيجب عليها باتفاق الفقهاء (8) أن تدافع عن نفسها إن أمكنها الدفع؛ لأن التمكين منها للرجل حرام، وفي ترك الدفاع تمكين منها للمعتدي، ولها قتل الرجل المكره، ولو قتلته كان دمه هَدراً، إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل.
وكذلك يجب على الرجل إذا رأى غيره يحاول الاعتداء على امرأة أن
__________
(1) كشاف القناع: 143/4.
(2) الثنية: واحدة الثنايا أي أسنان مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل.
(3) الفحل: الذكر من كل حيوان.
(4) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة ماعدا أبا داود.
(5) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي.
(6) رواه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان وأحمد.
(7) المغني: 333/8 ومابعدها، مغني المحتاج: 197/4، نيل الأوطار: 25/7، الميزان للشعراني: 173/2، والمهذب: 225/2. واشترط الشافعية لعدم ضمان رمي الناظر إلى البيوت: عدم وجود محرم وزوجة للناظر، فإن كان له شيء من ذلك حرم رميه لأن له في النظر شبهة.
(8) الدر المختار: 197/3، 397/5، البدائع: 93/7، بداية المجتهد: 319/2، مجمع الضمانات: ص203، مغني المحتاج: 194/4 ومابعدها، المهذب: 225/2، المغني: 331/8 ومابعدها، كشف الأسرار: 1520/4، الشرح الكبير للدردير: 357/4.(6/604)
يدفعه، ولو بالقتل إن أمكنه الدفاع، ولم يخف على نفسه؛ لأن الأعراض حرمات الله في الأرض، لا سبيل إلى إباحتها بأي حال، سواء عرض الرجل أو عرض غيره.
ولا يسأل المدافع جنائياً ولا مدنياً، فلا قصاص ولا دية عليه، لظاهرالحديث: «من قتل دون أهله فهو شهيد» (1) ولما ذكره الإمام أحمد من حديث الزهري بسنده عن عبيد بن عمير: «أن رجلاً أضاف ناساً من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً» ، ولأنه إذا جاز الدفاع عن المال الذي يجوز بذله وإباحته، فدفاع المرأة أو الرجل عن أنفسهم، وصيانتهم عن الفاحشة التي لاتباح بحال: أولى.
الزاني بامرأته: كذلك لاقصاص ولا دية في المذاهب الأربعة (2) على من وجد رجلاً يزني بامرأته، فقتله، لما روي: «أن عمر رضي الله عنه بينما هو يتغدى يوماً، إذ أقبل رجل يعدو، ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم، فجاء حتى قعد مع عمر، فجعل يأكل، وأقبل جماعة من الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد، فقد قتله، فقال لهم عمر: مايقول؟ قالوا: ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته، فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد» (3) .
وإذا كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها. وإن كانت مكرهة فعليه القصاص.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) المراجع السابقة، المغني: 332/8.
(3) رواه هشيم عن مغيرة عن إبراهيم، وأخرجه سعيد بن منصور.(6/605)
ولا بد من البينة كما تقدم في حكم الدفاع. وفي البينة روايتان عند الحنابلة: في رواية: أنها أربعة شهداء، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجل، فقتلها وقتله، قال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا فليعط برمته أي تضمين ديته. ولما روى أبو هريرة: «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله، حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم» (1) .
وفي رواية أخرى: إنه يكفي شاهدان، لأنه البينة تشهد على وجوده على المرأة، وهذا يثبت بشاهدين، وإنما الذي يحتاج إلى أربعة هو الزنا، وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا.
فإن لم تكن بينة فادعى الزوج علم ولي المرأة بالزنا، فالقول قول الولي بيمينه، عند الحنابلة.
الاطلاع على داخل البيوت:
لو اطلع إنسان بدون إذن على بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه، فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود، فقلع عينه، فلا مسؤولية عليه جنائياً ولا مدنياً، أي لا قصاص ولا دية عند الشافعية والحنابلة (2) ،لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (3) بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك جناح» (4) . وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اطَّلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد
__________
(1) أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت (فتح الباري: 154/12) .
(2) مغني المحتاج: 197/4 ومابعدها، المهذب: 225/2، أعلام الموقعين: 336/2، المغني: 335/8.
(3) الخذف: الرمي بالحصاة، والحذف: الرمي بالعصا، لا بالحصا.
(4) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة.(6/606)
حل لهم أن يفقؤوا عينه» (1) وفي لفظ «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا دية له ولا قصاص» (2) .
هذا إذا رماه بشيء خفيف كحصاة. أما إذا رمى صاحب الدار الناظر بما يقتله عادة كحجر قاتل، أو حديدة ثقيلة، أو نشاب، فيلزم بالقصاص، أو الدية عند العفو عنه؛ لأن له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها، دون مايتعدى إلى غيرها.
فإن لم يندفع الناظر بالشيء اليسير، جاز ـ كما في الصيال ـ رميه بأشد منه، حتى القتل، سواء أكان الناظر في الطريق، أم في ملك نفسه، أم في غيرهما. وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلم الحكمة من منع الاطلاع على البيوت فقال: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (3) .
وقال الحنفية والمالكية (4) : يسأل جنائياً صاحب الدار في هذه الحالة، فيجب عليه القصاص أو الدية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «في العين نصف الدية» (5) ، ولأن مجرد النظر بالعين لايبيح الجناية على الناظر، كما لو نظر من الباب المفتوح، وكما لو دخل منزله، ونظر فيه، أو نال من امرأته ما دون الجماع، لم يجز قلع عينه، فمجرد النظر أولى.
ويلاحظ أن الاختلاف بين الرأيين هو فيمن نظر من خارج الدار، أما لو أدخل شخص رأسه، فرماه صاحب الدار بحجر، ففقأ عينه، فلا يضمن إجماعاً.
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد.
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد.
(4) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 110/6، الفتاوى الهندية: 7/6، رد المحتار على الدر: 390/5، تكملة فتح القدير: 269/8، مجمع الضمانات: ص169، القوانين الفقهية: ص351، رحمة الأمة بهامش الميزان للشعراني: 159/2، ط البابي الحلبي.
(5) أخرجه أبو داود في المراسيل والنسائي وابن خزيمة، وابن الجارود وابن حبان وأحمد (سبل السلام: 244/3) .(6/607)
حكم الدفاع عن المال:
قرر جمهور الفقهاء أن الدفاع عن المال جائز، لا واجب، سواء أكان المال قليلاً أم كثيراً، إذا كان الأخذ بغير حق، ولا قصاص على المدافع إن التزم الدفع بالأسهل فالأسهل، لما رواه أبو هريرة. قال: «جاء رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك (وفي لفظ: قاتل دون مالك) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: هو في النار» (1) قال العلماء: فإن قتله فلا ضمان عليه، لعدم التعدي منه عليه، والحديث عام لقليل المال وكثيره.
وسبب التفرقة بين الدفاع عن المال، والدفاع عن النفس أو العرض عند القائلين بوجوب الدفاع عن غير المال: هو أن المال مما يباح بالإباحة والإذن، أما النفس فلا تباح بالإباحة.
وقال بعض المالكية: لا يجوز الدفاع عن المال إذا كان شيئاً يسيراً. ولكن ظاهر الأحاديث السابقة وعمومها يرد على التفرقة بين القليل والكثير كما تقدم.
وقال بعض العلماء: إن المقاتلة عن المال واجبة. وهذا رأي المالكية بعد الإنذار كما أوضحت (2) .
وفرق الشافعية (3) بين أنواع المال فقالوا: لا يجب الدفع عن مال لا روح فيه، لأنه يجوز إباحته للغير. أما ما فيه روح: فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه، ما لم يخش على نفسه أو عرضه، لحرمة الروح، حتى لو رأى أجنبي شخصاً يتلف حيوان نفسه إتلافاً محرماً، وجب عليه دفعه على الأصح. وكذلك يجب عليه الدفع عن مال متعلق به حق الغير كرهن وإجارة.
لكن أضاف الشافعية: لو سقطت جرة ولم تندفع عنه إلا بكسرها، ضمنها في الأصح، إذ لا قصد لها ولا اختيار، حتى يحال السبب عليها، فصار المدافع عن المال كالمضطر إلى طعام غيره، يأكله ويضمنه.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد (نصب الراية: 348/4 وما بعدها) قال ابن تيمية في منتهى الأخبار: فيه من الفقه أنه يدفع بالأسهل فالأسهل (نيل الأوطار: 326/5) .
(2) الدر المختار وحاشيته: 388/5، مواهب الجليل: 323/6، الشرح الكبير: 357/4، نيل الأوطار: 326/5، المغني: 329/8 وما بعدها.
(3) المهذب: 224/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 195/4 وما بعدها.(6/608)
الفَصْلُ التَّاسِع: اللّقطة واللّقيط
اللقطة لغة: بسكون القاف أو فتحها: ما وجد بعد طلب أي ما يلتقط، قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون} [القصص:8/28] وهي بهذا المعنى اللغوي العام تشمل ما يلتقطه الإنسان من بني آدم أو الأموال، أو الحيوان. واللقَطة بفتح القاف أيضاً: الكثير الالتقاط.
إلا أن الحنفية وغيرهم ميزوا في بحوثهم الفقهية بين اللقيط، واللقطة، والضالة. لذا أذكر معنى اللقيط، وأحكامه، ومعنى اللقطة وأحكامها، وأبين نوعي اللقطة: لقطة الأموال، ولقطة الحيوان أي الضالة، وأختم البحث بمعرفة ما يصنع باللقطة. ويكون الكلام في مبحثين:
المبحث الأول ـ حقيقة اللقيط وأحكامه:
اللقيط لغة: هو ما يلقط أي يرفع من الأرض، وعرفاً: هو الطفل المفقود المطروح على الأرض عادة، خوفاً من مسؤولية إعالته، أو فراراً من تهمة الريبة أو الزنا فلا يعرف أبوه ولا أمه، أو لسبب آخر.
أحكامه: الالتقاط عند الحنفية مندوب إليه وهو من أفضل الأعمال؛ لأنه يترتب عليه إحياء النفس، ويكون فرض كفاية إن غلب على الظن هلاك الولد لو لم يأخذه، كأن وجد في مغارة ونحوها من المهالك، لحصول المقصود بالبعض وهو صيانته. وقال باقي الأئمة: التقاط الولد فرض كفاية إلا إذا خاف هلاكه ففرض عين.(6/609)
وهناك أحكام فرعية أخرى تتعلق باللقيط منها (1) :
1 - إن الملتقط أولى بإمساك اللقيط من غيره: فإن شاء تبرع بتربيته والإنفاق عليه، وإن شاء رفع الأمر إلى الحاكم، ليأمر أحداً بتربيته على نفقة بيت المال؛ لأن بيت المال معدّ لحوائج جميع المسلمين.. هذا إذا لم يكن للقيط مال، فإن كان له مال، بأن وجد الملتقط معه مالاً، فتكون النفقة من مال اللقيط؛ لأنه غير محتاج إليه، فلا يثبت حقه في بيت المال، وهذا الحكم مجمع عليه بين العلماء (2) .
ولو أنفق عليه الملتقط من مال نفسه: فإن أنفق بإذن القاضي، فله أن يرجع على اللقيط بعد بلوغه، وإن أنفق بغير إذن القاضي يكون متبرعاً، ولا يرجع على اللقيط بما أنفق عليه بعد استكماله البلوغ.
واللقيط كاللقطة أمانة في يد الملتقط.
2 - إن الولاية على اللقيط في نفسه وماله للقاضي: أي بالنسبة للحفظ والتعليم والتربية والتزويج والتصرف من ماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «السلطان ولي من لا ولي له» (3) وليس للملتقط ولاية التزويج أو التصرف في المال.
__________
(1) راجع المبسوط: 209/10 ومابعدها، البدائع: 197/6 وما بعدها، فتح القدير: 417/4، تبيين الحقائق: 297/3، الدر المختار: 343/3 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 141، مجمع الضمانات: ص 211 وما بعدها.
(2) المغني: 683/5، بداية المجتهد: 305/2، مغني المحتاج: 421/2.
(3) رواه خمسة من الصحابة: عائشة، وابن عباس، وعلي، وعبد الله بن عمرو، وجابر، فحديث عائشة أخرجه أصحاب الكتب الستة والشافعي وأحمد بلفظ: «لا نكاح إلا بولي، وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن لم يكن لها ولي، فالسلطان ولي من لا ولي له» وحديث ابن عباس أخرجه ابن ماجه بلفظ: «لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له» وهكذا.. (راجع تخريج وتحقيق أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 510/3، نصب الراية: 167/3) .(6/610)
وإذا زوج الحاكم اللقيط فالمهر يدفع من بيت المال، إلا إذا كان للقيط مال، فيكون في ماله. كذلك يدفع للقيط من بيت المال ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة ودواء ونحوها، وهو مروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، ولأن بيت المال معد للصرف إلى مثله من المحتاجين، كالمقعد الذي لا مال له، ولأن ميراثه لبيت المال، والخراج بالضمان أي لبيت المال غنمه أي (ميراثه) وديته، وعليه غرمه.
3 - إن اللقيط حر مسلم: لأن الأصل في الإنسان إنما هو الحرية، والأصل بقاء ما كان حتى يوجد ما يغيره، ولأن الدار دار إسلام ودار حرية، فمن كان فيها يكون حراً بمقتضى الأصل العام، إذ هو الحكم الغالب والأمر الظاهر، ويكون أيضاً مسلماً تبعاً لدار الإسلام.
وبناء عليه، إذا وجد اللقيط مسلم في بلد إسلامي يكون مسلماً، حتى لو مات يغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، أما إذا وجده ذمي أو مسلم في بِيعة (معبد) النصارى أو كنيسة اليهود أو في قرية ليس فيها مسلم يكون ذمياً تحكيماً للظاهر. ولو وجده ذمي في بلد إسلامي يكون مسلماً، أي أن العبرة للمكان.
وفي رواية النوادر عند ابن سماعة: ينظر إلى حال الواجد من كونه مسلماً أو ذمياً ولا يلتفت إلى المكان؛ لأن اليد (أي الحيازة) أقوى من المكان، بدليل أن تبعة الأبوين فوق تبعة الدار.
وفي رواية أخرى يكون اللقيط مسلماً بحسب حال الواجد، أو المكان.(6/611)
قال الكاساني: والصحيح هذه الرواية، فإذا وجده مسلم في بلد إسلامي كان مسلماً تبعاً للدار، وإذا وجده كافر في دار الإسلام كان مسلماً، أو وجده ذمي أو مسلم في كنيسة كان ذمياً (1) .
فتكون الأقوال ثلاثة: العبرة للمكان، أو العبرة للواجد، أو العبرة للمكان أو الواجد، والقول الثالث هو الأصح عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: إذا وجد لقيط بدار الإسلام فهو مسلم، وإن وجد بدار الكفار فكافر إن لم يسكنها مسلم كأسير وتاجر، فإن سكنها مسلم فهو مسلم في الأصح (2) تغليباً للإسلام، بدليل ما روى أحمد والدارقطني: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» .
4 - حكم النسب: يعتبر اللقيط مجهول النسب، حتى لو ادعى إنسان نسبة اللقيط تصح دعوته،،ويثبت النسب منه. وبناء عليه: لو ادعى الملتقط أو غيره أن اللقيط ابنه تسمع دعواه من غير بينة، والقياس ألا تسمع إلا ببينة.
وجه القياس ظاهر، وهو أنه يدعي أمراً يحتمل الوجود وعدمه، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين على الآخر بمرجح، وذلك بالبينة، ولم توجد.
ووجه الاستحسان: أن هذا الادعاء إقرار بما ينفع اللقيط؛ لأنه يتشرف بالنسب ويعير بفقده، وتصديق المدعي في مثل هذا لا يتطلب البينة. لكن لو ادعى نسبه ذمي تقبل دعواه، ويثبت نسبه منه، لكنه يكون مسلماً؛ لأن ادعاء النسب يقبل فيما ينفع اللقيط لا فيما يضره، ولا يلزم من كونه ابناً له أن يكون كافراً، كما لو أسلمت أمه مثلاً، فيلحق الولد خير الأبوين ديناً، كما هو معروف.
ولو ادعاه رجلان أنه ابنهما، ولا بينة لهما، فإن كان أحدهما مسلماً، والآخر ذمياً، فالمسلم أولى بثبوت نسبه منه؛ لأنه أنفع للقيط.
__________
(1) البدائع: 198/6.
(2) مغني المحتاج: 422/2، المغني: 681/5.(6/612)
وإن كان المدعيان مسلمين حرين: فإن وصف أحدهما علامة في جسد الولد، فهو أحق به عند الحنفية؛ لأن ذكر العلامة يدل على أنه كان في يده، فالظاهر أنه له، فيترجح بها، بدليل قوله تعالى مخبراً عن أهل امرأة عزيز مصر: {إن كان قميصه قدّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قدّ من دُبُر، فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف:26/12-27] .
وإن لم يصف أحدهما علامة، أو أقام كل منهما البينة، يحكم بكونه ابناً لهما، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وقد روي عن سيدنا عمر في مثل هذا أنه قال: إنه ابنهما يرثهما ويرثاه.
وإن ذكر أحدهما بينة، والآخر علامة، فصاحب البينة أولى؛ لأنه ترجح جانبه بمرجح.
وقال الشافعية: إن ادعى اللقيط اثنان ولم يكن لأحدهما بينة، عرض اللقيط على القائف (1) فيلحق من ألحق به؛ لأن في إلحاقه أثراً في الانتساب عند الاشتباه (2) .
وإن ادعت امرأة أن اللقيط ابنها: فإن لم يكن لها زوج، لا يصح ادعاؤها؛ لأن فيه حمل نسب شخص على الغير وهو الزوج، وهو لا يجوز. وإن كان لها زوج فصدقها في ادعائها أو شهدت لها القابلة، أو شهد لها شاهدان، ثبت النسب منها.
ولو ادعته امرأتان، وأقامت إحداهما البينة فهي أولى به، وإن أقامت كل منهما البينة، فهو ابنهما عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: لا يكون لواحدة منهما. وعن محمد روايتان: في رواية يجعل ابنهما، وفي رواية: لا يجعل ابن واحدة منهما.
__________
(1) القائف جمعه قافة: وهم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، والقائف: من عرفت منه معرفة الأنساب بالشبه، وتكررت منه الإصابة. والأصل في القائف: هو الذي يتبع الآثار والأشباه ويقفوها، أي يتبعها، فهو المتبع للشيء.
(2) مغني المحتاج: 428/2.(6/613)
المبحث الثاني ـ اللقطة وأحكامها ونوعاها وما يصنع بها:
ينقسم هذا المبحث إلى مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ معنى اللقطة وأحكامها:
اللقطة ـ بضم اللام وفتح القاف أو سكونها، وحكى ابن مالك فيها أربع لغات: وهي لقاطة، ولقطة بضم اللام وسكون القاف، وبضم اللام وفتح القاف، ولقط بفتح اللام والقاف بلا تاء مربوطة. وقال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف وصف مبالغة لاسم الفاعل: وهو الملتقط، مثل هُمَزة ولُمَزة، وبسكون القاف وصف مبالغة لاسم المفعول: مثل ضُحْكة للذي يضحك منه، وهُزْأة للذي يهزأ به، وإنما قيل للمال الملتقط لقطة؛ لأن طباع النفوس في الغالب تبادر إلى التقاطه؛ لأنه مال.
وهي شرعاً كما قال ابن قدامة الحنبلي: المال الضائع من ربه يلتقطه غيره. وبنحوه في التتارخانية من كتب الحنفية: هي مال يوجد، ولا يعرف مالكه، وليس بمباح كمال الحربي.
أحكامها: للقطة أحكام من حيث الندب ومن حيث الضمان وغيرهما:
1 - أما حكمها من حيث الندب وغيره: فهو مختلف فيه عند الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية: الأفضل الالتقاط؛ لأن من واجب المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/5] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (1) فيكون الالتقاط سبيلاً لحفظ المال، ثم رده على صاحبه، لأنه ربما وقع في يد إنسان غير مؤتمن، فيأخذه، أما الأمين فيساعد في رد المال لصاحبه، وكف الأيدي الآثمة عنه. فإن لم يثق بأمانة نفسه وخشي استباحته، كره له الالتقاط، وإن علم من نفسه الخيانة، دون الرد على صاحبه، حرم الالتقاط، لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد عن جرير بن عبد الله: «لا يأوي الضالة إلا ضال، مالم يعرّفها» .
وقال المالكية والحنبلية بكراهية الالتقاط، لقول ابن عمر وابن عباس، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، ولما يخاف أيضاً من التقصير فيما يجب لها من تعريفها وردها لصاحبها وترك التعدي عليها (2) .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم: 21/17) .
(2) راجع البدائع: 200/6، فتح القدير: 423/4، الدر المختار: 406/3، بداية المجتهد: 299/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 406/2، المغني: 630/5.(6/614)
هذا هو الحكم العام، ثم فصل علماء كل مذهب تفصيلات مذهبية، المهم منها الإشارة إلى مذهب الحنفية، ومثلهم الشافعية، فإنهم قالوا: يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه إذا خاف ضياع اللقطة لئلا يأخذها فاسق، فإن لم يخف ضياعها فالتقاطها مباح، وإن علم من نفسه الخيانة بأن يأخذ اللقطة لنفسه، لا لصاحبها
فيحرم الالتقاط، لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (1) .
2 - وأما حكمها من حيث الضمان وعدمه: فقال الحنفية: اللقطة أمانة في يد الملتقط لا يضمنها إلا بالتعدي عليها، أو بمنع تسليمها لصاحبها عند الطلب، وذلك إذا أشهد الملتقط على أنه يأخذها ليحفظها ويردها إلى صاحبها؛ لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعاً، قال صلّى الله عليه وسلم: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل» (2) . وهو أمر يقتضي الوجوب، ولأنه إذا لم يشهد كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ويكفيه للإشهاد أن يقول: من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي.
وكذلك تكون أمانة إذا تصادق صاحب اللقطة والملتقط أنه التقطها ليحفظها للمالك.
فإن لم يشهد الملتقط ولم يتصادقا، وإنما قال الآخذ: أخذتها للمالك وكذبه المالك يضمن اللقطة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الظاهر أنه أخذ اللقطة لنفسه، لا للمالك.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: اللقطة أمانة، ولكن لا يشترط الإشهاد على اللقطة وإنما يستحب فقط، وإذا لم يشهد الآخذ فلا يضمن عندهم وعند أبي يوسف أيضاً؛ لأن اللقطة وديعة، فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان،
__________
(1) رواه مسلم وأحمد عن زيد بن خالد بلفظ: «لا يأوي الضالة إلا ضال ما لم يعرِّفها» ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه بلفظ «لا يأوي الضالة إلا ضال» (نيل الأوطار: 338/5، 344، سبل السلام: 94/3) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن عياض بن حمار، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي والبيهقي والطبراني وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان (نيل الأوطار: 338/5، نصب الراية: 466/3، سبل السلام: 96/3، الالمام: ص 370) .(6/615)
بدليل ما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: «إن جاء صاحبها، وإلا فلتكن وديعة عندك» (1) .
وأما عدم اشتراط الإشهاد، فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالد وأبي بن كعب بتعريف اللقطة فقط دون الإشهاد (2) ، ومن المعلوم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلو كان الإشهاد واجباً لبينه النبي صلّى الله عليه وسلم حينما سئل عن حكم اللقطة، وحينئذ تعين حمل الأمر بالإشهاد في حديث عياض الذي استدل به الحنفية على الندب والاستحباب فقط (3) .
أـ وبناء على رأي أبي حنيفة ومحمد: لو أخذ الشخص اللقطة ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه، لا ضمان عليه في ظاهر الرواية؛ لأنه أخذها محتسباً متبرعاً ليحفظها على صاحبها، فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع. فصار كأنه لم يأخذها أصلاً. هذا إذا كان المالك قد صدق الملتقط أنه أخذها ليحفظها، أو كان الملتقط قد أشهد على ذلك ثم ضاعت. فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد.
وعند أبي يوسف: لا يجب الضمان، سواء أشهد أم لم يشهد، ويكون القول قول الملتقط بيمينه أنه أخذها ليحفظها لصاحبها.
__________
(1) حديث سليمان رواه مسلم (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 341، الإلمام بأحاديث الأحكام: ص 371، شرح مسلم: 25/12) .
(2) حديث زيد رواه البخاري ومسلم وأحمد كما ذكرت سابقاً، وحديث أبي بن كعب رواه مسلم وأحمد والترمذي (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 338 وما بعدها) .
(3) المبسوط: 12/11، فتح القدير، المرجع السابق، البدائع: 201/6، تبيين الحقائق: 301/2، مجمع الضمانات: ص 209 وما بعدها، بداية المجتهد: 303/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 121/4، القوانين الفقهية: ص 342، مغني المحتاج: 407/2، المغني: 644/5، 647، القواعد لابن رجب: ص53.(6/616)
وقال مالك: لا ضمان على من رد اللقطة إلى موضعها، لما روي عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيراً: «أرسله حيث وجدته» . ولكن المشهور في مذهب المالكية أن الملتقط يضمن اللقطة إذا ردها لموضعها أو لغيره بعد أخذها للحفظ.
ورأى الشافعية والحنابلة: أنه إذا أخذ اللقطة إنسان، ثم ردها إلى موضعها ضمنها؛ لأنها أمانة صارت في يده، فلزمه حفظها، فإذا ضيعها لزمه ضمانها كما لو ضيع الوديعة.
فصار رأي الجمهور هو وجوب الضمان برد اللقطة إلى مكانها.
ب ـ ويضمن الملتقط اللقطة إذا دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي؛ لأنه يجب عليه حفظها بنفسه، بالتزامه الحفظ بالالتقاط.
جـ ـ فإن هلكت اللقطة في يد الملتقط: فإن أشهد على اللقطة، بأن قال للناس:
(إني وجدت لقطة، فمن طلبها فدلوه علي) : فإنه لا يضمن. وإن لم يشهد فعند أبي حنيفة ومحمد: يضمن. وعند أبي يوسف: لا يضمن إذا كان قد أخذ اللقطة ليردها إلى صاحبها، ويحلف على فعله إن لم يصدقه صاحبها، كما ذكرت قريباً.
د ـ ولو أقر الملتقط أنه كان قد أخذ اللقطة ليمتلكها لنفسه، لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك؛ لأنه ظهر أنه أخذها غصباً، فكان الواجب عليه الرد إلى المالك (1) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (2) .
__________
(1) راجع البدائع: 201/6، المبسوط: 11/11، 13، بداية المجتهد: 304/2، المغني: 694/5، مغني المحتاج: 411/2.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن الحسن بن سمرة، وصححه الحاكم (نيل الأوطار: 298/5، نصب الراية: 167/4) .(6/617)
المطلب الثاني ـ نوع اللقطة وما يصنع بها:
اللقطة نوعان: لقطة غير الحيوان: وهو المال الساقط الذي لا يعرف مالكه، ولقطة الحيوان: وهو الضالة من الإبل والبقر والغنم من البهائم.
وحكم لقطة الحيوان: أنه يجوز التقاطها عند الحنفية والشافعية في الأصح عندهم، لحفظها لصاحبها صيانة لأموال الناس ومنعاً من ضياعها ووقوعها في يد خائنة.
وقال مالك وأحمد: يكره التقاط ضالة الحيوان، ولقطة المال أيضاً (1) ، لما رواه أصحاب الكتب الستة عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق (2) ، فقال اعرف وكاءها، وعفاصها (3) ، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها (4) ، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدّها إليه» . وسأله رجل عن ضالة الإبل، فقال: «مالك ولها، دعها، فإن معها حذاءها وسقاءها (5) ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها. وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» (6) أي أن لقطة الإبل غير جائزة، ولقطة الأموال الأخرى جائزة.
__________
(1) المبسوط: 11/11، البدائع: 200/6، فتح القدير: 428/4، تبيين الحقائق: 305/3، بداية المجتهد: 299/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 409/2، المغني: 630/5 وما بعدها.
(2) الورق ـ بفتح الواو وكسر الراء هو الفضة.
(3) الوكاء: الخيط الذي يشد به الوعاء الذي تكون فيه النفقة، والعفاص بكسر العين وتخفيف الفاء: هو الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد أو غيره.
(4) أي إما أن تستهلكها وتغرم بدلها، وأما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجيء صاحبها فتعطيها إياه.
(5) الحذاء: أي الخف، والسقاء أي الجوف، وقيل: العنق، والمراد أنها تستغني عن الحفظ.
(6) راجع نصب الراية: 468/4، نيل الأوطار: 338/5، شرح مسلم: 20/12.(6/618)
وروى أبو داود وأحمد وابن ماجه عن جرير بن عبد الله أنه أمر بطرد بقرة لحقت ببقرة حتى توارت، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يأوي الضالة إلا ضال» (1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن ضالة المسلم حرق النار» (2) أي تؤدي به إلى النار إذا تملكها.
وأخرج مسلم وأحمد والترمذي عن أبي بن كعب في حديث اللقطة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عرفها فإن جاء أحد يخبرك بعدَّتها ووعائها ووكائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» (3) .
وأجاب الفريق الأول عن الأحاديث بأن حكمها كان في الماضي حين غلبة أهل الصلاح والأمانة، فلا تصل إليها يد خائنة، أما في زماننا فنظراً لكثرة الخيانة يكون في أخذها حفظها على صاحبها.
وهذا كله ما عدا لقطة الحج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه السلام عن ذلك (4) ، ولا يجوز لقطة مكة أيضاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم في بلد مكة
__________
(1) في رواية: «لا يأوي» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (راجع نيل الأوطار، المرجع السابق: ص344، سبل السلام: 94/3) .
(2) رواه الطبراني في كبيره عن عصمة، وفيه أحمد بن راشد وهو ضعيف، وأخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن الشخِّير (مجمع الزوائد: 167/4، سبل السلام: 94/3) .
(3) نصب الراية: 467/3، نيل الأوطار: 339/5، الوعاء: ما يجعل فيه المتاع، والوكاء: الخيط الذي يشد به الصرة والكيس ونحوهما.
(4) رواه أحمد ومسلم عن عبد الرحمن بن عثمان قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لقطة الحج (شرح مسلم: 28/12، سبل السلام: 96/3) .(6/619)
يوم الفتح: «ولا تحل لقطتها إلا لمعرِّف» وفي لفظ: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (1) .
وأما ما يصنع باللقطة: فهو أن الملتقط يعرفها، لما روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني، قال: «سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: عرفها سنة» وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة» الحديث (2) .
والكلام عن تعريف اللقطة يستتبع بحث كيفية التعريف، ومدة التعريف، ومكان التعريف، ونفقات التعريف، وما تحتاجه الضالة، وشرط ردِّ اللقطة إلى صاحبها، وحكم تملكها:
1 - كيفية تعريف اللقطة وحكم بيان المعرِّف: المراد بتعريف اللقطة: هو المناداة عليها، أو الإعلان عنها حيث وجدها، وفي المجتمعات العامة كالأسواق وأبواب المساجد، والمقاهي، ونحوها. وتعريفها: يكون بذكر بعض أوصافها كأن يذكر جنسها، فيقول:
(من ضاع له نقود، أو ثياب) ونحوه، وأن يبين وعاءها أو وكاءها الذي يربط به كيسها، ولا يصف أوصافها التفصيلية لأنه لو وصفها، لعلم صفتها من يسمعها، فلا تبقى صفتها دليلاً على ملكها.
ويجب على الملتقط عند الجمهور تعريف اللقطة؛ لأن ظاهر أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم لزيد بن خالد في قوله: «عرفها سنة» يقتضي الوجوب، إذ ظاهر الأمر للوجوب، كما هو معروف عند علماء الأصول.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «ولا تلتقط لقطة إلا من عرفها» وفي لفظ «إلا لمعرف» وأخرجها أيضاً عن أبي هريرة بلفظ: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (راجع نصب الراية: 467/3، نيل الأوطار: 24/5) .
(2) أخرجه البزار في مسنده والدارقطني في سننه عن أبي هريرة (راجع في هذا وما قبله الذي سبق تخريجه: نصب الراية: 466/3، نيل الأوطار: 338/5، سبل السلام: 94/3، شرح مسلم: 26/12) .(6/620)
وقال أكثر الشافعية: لا يجب تعريفها لمن أراد حفظها لصاحبها؛ لأن الشرع إنما أوجب التعريف إذا كان بقصد التملك، لكن المعتمد عندهم وجوب التعريف. وبه اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب الإعلان عن اللقطة أو تعريفها.
وللملتقط أن يتولى تعريفها بنفسه، أو يستنيب عنه أحداً يقوم بالتعريف (1) .
2 - مدة التعريف: اتفق العلماء على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد عن العمران أن يأكلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الشاة: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» . واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أو لا؟.
قال جمهور العلماء: إنه يضمن قيمتها، إذ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (2) .
وقال مالك في أشهر أقواله: إنه لا يضمن أخذاً بظاهر هذا الحديث.
وأما غير ضالة الغنم: فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له أهمية وشأن مدة سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بتعريف اللقطة سنة واحدة كما عرفنا.
__________
(1) الدر المختار: 350/3، فتح القدير: 426/4، الشرح الكبير للدردير: 120/4، مغني المحتاج: 411/2، 413، المهذب: 429/1، المغني: 631/5، 633 ومابعدها، نيل الأوطار: 340/5، نهاية المحتاج للرملي: 362/4.
(2) هذا حديث رواه الحاكم وابن حبان في صحيحه وأحمد والبزار بلفظ مقارب عن أبي حميد الساعدي، ورواه أحمد أيضاً بهذا اللفظ عن عمرو بن يثربي، وفي معناه أحاديث كثيرة (سبل السلام: 60/3 وما بعدها، مجمع الزوائد: 171/4) .(6/621)
وما رواه البخاري ومسلم في حديث أبي من تعريف اللقطة ثلاثة أحوال (أعوام) أو أربعة أو عشرة، هو غلط من بعض الرواة كما حقق ابن الجوزي، أو هو محمول على مريد الورع عن التصرف في اللقطة (1) .
وأما الشيء الحقير: فقال الشافعية: الأصح أن الشيء الحقير، أي القليل المتمول وهو بقدر الدينار أو الدرهم لا يعرَّف سنة، لقول عائشة: «لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به» وقدر بما لا تقطع به يد السارق وهو ربع دينار عند الجمهور، وعشرة دراهم عند الحنفية، بل يعرف زمناً يظن أن فاقده يعرض عنه غالباً، وهذا هو الراجح عند المالكية. وفي رواية عن أبي حنيفة: مضمونها إن كانت قيمة الشيء أقل من عشرة دراهم (أي دينار) يعرّفه أياماً بحسب ما يرى، وإن كانت عشرة دراهم فصاعداً عرّفها حولاً، إلا أن هذه الرواية ليست هي ظاهر الرواية عند الحنفية فقد قال الطحاوي: وإذا التقط لقطة فإنه يعرفها سنة، سواء أكان الشيء نفيساً أم خسيساً في ظاهر الرواية.
وظاهر الرواية عند الحنفية هو ظاهر المذهب عند الحنابلة (2) .
وأما الشيء التافه فقد قال الفقهاء: لا خلاف في إباحة أخذ اليسير من الأشياء والانتفاع به من غير تعريف كالتمرة والكسرة والخرقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينكر على واجد التمرة حيث أكلها بل قال له: «لو لم تأتها لأتتك» ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» (3) ويلاحظ أن الأمر بإكمال مدة التعريف إذا كانت اللقطة مما لا يتسارع إليها الفساد، فإن كانت مما يتسارع بها تصدق بها أو أنفقها على نفسه عند الحنفية.
__________
(1) راجع نصب الراية: 467/3، نيل الأوطار: 340/5 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 301، 303، الشرح الكبير: 120/4، المغني: 632/5، 634، المهذب: 430/1، مغني المحتاج: 415/2، البدائع: 202/6، تبيين الحقائق: 302/3 وما بعدها، فتح القدير: 424/4 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 139.
(3) ذكر ابن قدامة الحنبلي هذين الحديثين (راجع المغني: 634/5) روى الثاني منهما البخاري ومسلم عن أنس (سبل السلام: 93/3، الإلمام: ص 373) .(6/622)
وعند الشافعية: يتخير الملتقط بين أن يبيعها ليمتلك ثمنها بعد التعريف، أو يتملكها في الحال ويأكلها ويغرم قيمتها.
3 - مكان التعريف: تعرّف اللقطة في الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس؛ لأن المقصود إشاعة خبرها وإظهارها ليعلم بها صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن المسجد لم يبن لهذا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردَّها الله إليه، فإن المساجد لم تبن لهذا» (1) . وأمر سيدنا عمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد. وأجاز الشافعية استثناء مما سبق المسجد الحرام، فإنه يجوز فيه الإعلان عن فقد الأشياء الضائعة، لأن تعريفها لمصلحة مالكها؛ لأن الملتقط ليس له تملكها. أما من ينشد اللقطة في غير المسجد الحرام، فهو متهم أنه يفعل ذلك ليتملك اللقطة بعد تعريفها. وأرى أن الاستعانة بمكبرات الصوت على المآذن للإعلان عن اللقطة أمر لا بأس به في غير أوقات الصلاة، منعاً من التشويش على المصلين، ولأن الحاجة داعية لذلك بسبب ازدحام المدن واتساع مناطق السكان، والأولى كتابة إعلانات وإلصاقها على أبواب المساجد وغيرها، فتتحقق الغاية المطلوبة من التعريف، وقد أصبح هذا مألوفاً في عصرنا. كما يمكن التعريف بالجرائد والصحف اليومية.
وأبان الشافعية طريق التعريف في أثناء السنة، فقالوا: يعرّف اللقطة، في
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ورواه البزار عن سعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وابن مسعود (راجع مجمع الزوائد: 170/4، التاج: 215/1) .(6/623)
أول السنة كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم يعرف في كل يوم مرة، ثم كل أسبوع مرة أو مرتين، ثم كل شهر مرة تقريباً (1) .
4 - نفقات التعريف وما تحتاجه الضالة: إذا احتاج تعريف اللقطة إلى نفقة كأجور الإعلان في الصحف في عصرنا الحاضر مثلاً، فقد قال الحنفية والحنابلة: تكون تلك النفقة على الملتقط؛ لأن هذا أجر واجب على المعرف نفسه، فكان عليه كما لو قصد تملك اللقطة، ولأنه لو تولى الملتقط تعريف اللقطة بنفسه لم يكن له أجر على صاحبها، فكذلك إذا استأجر على التعريف لا يلزم صاحبها بشيء.
وقال المالكية: إن أنفق الملتقط على اللقطة شيئاً من عنده، فيخير صاحبها بين أن يفتديها من الملتقط بدفع نفقتها، أو يسلم اللقطة لملتقطها مقابل نفقتها (2) .
وقال الشافعية: بما أن تعريف اللقطةواجب على الملتقط، على ما هو المعتمد، فإن الملتقط لا يلزم بمؤنة التعريف إن أخذ اللقطة بقصد حفظها لمالكها، وإنما يرتبها القاضي من بيت المال (3) ، أو يقترض على المالك.
أما إن أخذ اللقطة لتملكها، فيلزمه مؤنة التعريف، سواء أتملكها أم لا. وهذا هو الرأي المعقول.
أما ما تحتاجه الضالة أو اللقطة من نفقة: فقال المالكية: للملتقط الرجوع بالنفقة على صاحب اللقطة، وقال الشافعية والحنابلة: ملتقط اللقطة متطوع بحفظها، فلا يرجع بشيء من النفقة على صاحب اللقطة، إلا أن الشافعية قالوا: فإن أراد الرجوع استأذن الحاكم، فإن لم يجده أشهد على النفقة.
__________
(1) البدائع: 202/6، رد المحتار على الدر المختار: 350/3، مغني المحتاج: 413/2، المغني: 633/5، الشرح الكبير للدردير: 120/4، نيل الأوطار: 340/5.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 123/4.
(3) مغني المحتاج: 413/2 ومابعدها.(6/624)
وكذلك قال الحنفية: إن أنفق الملتقط على اللقطة بغير إذن الحاكم فهو متبرع، لأنه لا ولاية له على ذمة المالك في أن يشغلها بالدين بدون أمره، وإن أنفق عليها بإذن الحاكم، كان ما ينفقه ديناً على المالك؛ لأن للقاضي ولاية في مال الغائب رعاية لمصالحه، فإذا رفع الأمر إلى القاضي ينظر في الأمر: فإن كان للبهيمة منفعة، وهناك من يستأجرها أجَرَها وأنفق عليها من أجرتها؛ لأن في إجارتها رعاية لمصلحة المالك، وإن كانت البهيمة لا منفعة لها بطريق الإجارة وخاف أن تستغرق النفقة قيمتها، أمر القاضي الملتقط ببيعها وحفظ ثمنها.
وإن رأى الأصلح ألا يبيعها، بل ينفق عليها، أذن له في النفقة وجعل النفقة ديناً على مالكها، فإذا حضر المالك فللملتقط أن يحبس اللقطة عنده حتى يحضر النفقة، وإن أبى أن يؤدي النفقة باعها القاضي، ودفع للملتقط قدر النفقات التي أنفقها (1) .
5 - شرط رد اللقطة إلى صاحبها: يشترط لرد اللقطة إلى صاحبها أن يذكر علامة يميزها عن غيرها، أو يثبت أنها له بالبينة، أي بشهادة شاهدين، فإذا أثبت كونها له أو ذكر علامة تميزها، كأن يصف عفاصها (وعاءها) ووكاءها (ما تربط به من الخيول وغيرها) ووزنها وعددها، فيحل حينئذ للملتقط أن يدفعها إليه، وإن شاء أخذ منه كفيلاً؛ لأن ردها إليه بالعلامة مما قد ورد به الشرع. وهذا باتفاق العلماء، لكن هل يجبر الملتقط قضاء على رد اللقطة بمجرد وصف العلامة المميزة لها، أو لابد من البينة؟ خلاف بين العلماء (2) .
__________
(1) بداية المجتهد: 304/2، مغني المحتاج: 410/2، البدائع: 203/6، فتح القدير: 428/4 وما بعدها، تبيين الحقائق: 305/3، المهذب: 432/1، المبسوط: 9/11، المغني: 633/5 وما بعدها.
(2) فتح القدير: 431/4، المبسوط: 8/11، البدائع: 202/6، تبيين الحقائق: 306/3، الدر المختار: 353/3، بداية المجتهد: 302/2، مغني المحتاج: 416/2، المهذب: 431/1، المغني: 644/5 وما بعدها.(6/625)
قال الحنفية، والشافعية على المذهب عندهم: لا يجبر الملتقط على تسليم اللقطة إلى من يدعيها بلا بينة، لأنه مدع، فيحتاج إلى بينة كغيره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (1) . ولأن اللقطة مال للغير، فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة، لكن يحل للملتقط دفع اللقطة لمن يدعيها عند إصابة العلامة عند الحنفية، أو إذا غلب على ظن الملتقط صدق المدعي عند الشافعية، عملاً بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «فإن جاء صاحبها، وعرَّف عفاصها، ووكاءها، وعددها فأعطها إياه، وإلا فهي لك» .
وقال المالكية والحنابلة: يجبر الملتقط على تسليم اللقطة لصاحبها إذا وصفها بصفاتها المذكورة، سواء غلب على ظنه صدقه أم لم يغلب، ولا يحتاج إلى بينة، عملاً بظاهر قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإن جاء أحد يخبرك بعددها، ووعائها، ووكائها، فادفعها إليه» .
وفي حديث زيد السابق: «اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة فإن لم تعرف، فاستنفقها، وإن جاء طالبها يوماً من الدهر، فأدِّها إليه» يعني إذا ذكر صفاتها؛ لأن هذا هو المذكور في صدر الحديث، ولم يذكر البينة في شيء من الحديث، ولو كانت شرطاً للدفع لم يجز الإخلال به، ولا أمر بالدفع بدونه، ولأن إقامة البينة على اللقطة متعذر؛ لأنها ضاعت حال الغفلة والسهو. وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي» يعني إذا كان هناك منكر، ولا منكر ههنا. وهذا هو الرأي الأرجح حقاً.
__________
(1) حديث حسن رواه البيهقي وأحمد هكذا، وهو في الصحيحين بلفظ آخر من حديث ابن عباس (نصب الراية: 95/4، نيل الأوطار: 305/8، سبل السلام: 132/4، الإلمام: ص 521، شرح مسلم: 2/12) .(6/626)
6 - حكم تملك اللقطة: اختلف فقهاؤنا في حكم اللقطة بعد تعريفها سنة على رأيين: رأي يجيز تملكها للفقير دون الغني، ورأي يجيز تملكها مطلقاً.
قال الحنفية (1) : إذا كان الملتقط غنياً لم يجز له أن ينتفع باللقطة، وإنما يتصدق بها على الفقراء، سواء أكانوا أجانب أم أقارب، ولو أبوين أو زوجة أو ولداً، لأنه مال الغير، فلا يجوز الانتفاع به بدون رضاه، لإطلاق النصوص من قرآن وسنة، مثل قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188/2] ، وقوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .
ولقوله صلّى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «لا تحل اللقطة، فمن التقط شيئاً فليعرِّف سنة، فإن جاء صاحبها، فليردها عليه، وإن لم يأت فليتصدق» (2) .
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي: «من وجد لقطة فليشهد عليها ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء» .
وأما إذا كان الملتقط فقيراً فيجوز له الانتفاع باللقطة بطريق التصدق، لقوله عليه الصلاة والسلام: «فليتصدق بها» .
فإن عرف صاحبها بعد التصدق بها أو الانتفاع بها، فهو بالخيار: إن شاء
__________
(1) المبسوط: 4/11 وما بعدها، فتح القدير: 432/4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 307/3، البدائع: 202/6، الدر المختار: 351/3.
(2) أخرجه البزار والدارقطني عن أبي هريرة (نصب الراية: 466/3) ورواه الطبراني من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً، وفيه ضعيف، بلفظ: «فإن جاء صاحبها، وإلا فليتصدق بها» (نيل الأوطار: 337/5) .(6/627)
أمضى الصدقة، وله ثوابها، وإن شاء ضمن الملتقط، وإن شاء أخذها من الفقير المتصدق عليه بها إن وجده، وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه.
وقال جمهور الفقهاء: يجوز للملتقط أن يتملك اللقطة، وتكون كسائر أمواله سواء أكان غنياً أم فقيراً؛ لأنه مروي عن جماعة من الصحابة كعمر وابن مسعود وعائشة وابن عمر، وهو ثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد: «فإن لم تعْرَف فاستنفقها» وفي لفظ «فشأنك بها» وفي حديث أبي بن كعب: «فاستنفقها» ، وفي لفظ «فاستمتع بها» وهو حديث صحيح.
وحديث الحنفية عن أبي هريرة لم يثبت، ولا نقل في كتاب يوثق به، ودعواهم في حديث عياض أن ما يضاف إلى الله لا يتملكه إلا من يستحق الصدقة، لا برهان لها ولا دليل عليها، وبطلانها ظاهر، فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله تعالى خلقاً وملكاً، قال الله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/24] .
أما طريق التملك عند الجمهور فمختلف فيه: قال الحنابلة: تدخل اللقطة في ملك الملتقط عند تمام التعريف حكماً كالميراث، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإذا جاء صاحبها، وإلا فهي كسبيل مالك» ولقوله: «فاستنفقها» ولو توقف ملكها على تملكها لبين الرسول صلّى الله عليه وسلم له المطلوب.
وقال المالكية: يملكها الملتقط بأن ينوي تملكها، أي تجديد قصد التملك، لعدم الإيجاب من الغير.
وقال الشافعية: يملكها الملتقط باختياره بلفظ من ناطق يدل عليه مثل: تملكت ما التقطته؛ لأن تملكها تمليك ببدل، فافتقر إلى اختيار التملك، كما يتملك الشفيع بالشفعة.(6/628)
واتفق العلماء إلا أهل الظاهر على أن الملتقط إذا أكل اللقطة، ضمنها لصاحبها (1) .
لقطة الحل والحرم: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأحكام المذكورة في تعريف اللقطة تنطبق على ما إذا كانت اللقطة في مكة وغيرها من البلدان؛ لأن اللقطة أمانة، فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة، ولأن الأحاديث الواردة في اللقطة لم تفرق بين الحل والحرم، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرِّفها سنة» وغيره.
وأما الحديث الوارد بتخصيص تعريف لقطة مكة، فالمقصود به دفع توهم بعض الناس أنه لا حاجة لتعريف لقطة مكة، لعدم الفائدة باعتبارها مكان الغرباء (2) .
وقال الشافعية على الصحيح المنصوص عندهم: يجب تعريف لقطة الحرم أبداً، إذ لا تحل لقطة الحرم للتملك، بل للحفظ أبداً، لخبر الصحيحين: «إن هذا البلد حرمه الله، لا يلتقط لقطته إلا من عرفها» .
وفي رواية للبخاري «لا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد» قال الشافعي رضي الله عنه: أي لمعرِّف، ففرق صلّى الله عليه وسلم بينها وبين غيرها، وأخبر أنها لا تحل إلا للتعريف ولم يؤقت التعريف بسنة كغيرها، فدل على أنه أراد التعريف على الدوام، وإلا فلا فائدة من التخصيص، والمعنى فيه: أن حرم مكة شرفه الله تعالى مثابة للناس يعودون إليه، المرة بعد الأخرى، فربما يعود مالكها من أجلها، أو يبعث في طلبها، فكأنه جعل ماله به محفوظاً عليه، كما غلظت الدية فيه.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 121/4، بداية المجتهد: 301/2، مغني المحتاج: 415/2، المهذب: 430/1، المغني: 636/5 ومابعدها.
(2) فتح القدير: 430/4، تبيين الحقائق: 301/3، البدائع: 202/6، الشرح الكبير للدردير: 121/4، الغني لابن قدامة: 642/5.(6/629)
الفَصْلُ العَاشِر: المفقود
الكلام فيه عن معنى المفقود، وكيفية اعتبار حاله، وما يقوم به القاضي نحو ماله وأهله ووقت الحكم بموته وأثر ذلك (1) .
من المفقود؟ هو الشخص الذي غاب عن بلده بحيث لا يعرف أثره، ومضى على فقده زمان بحيث لا يعرف أنه حي أو ميت.
كيف نعتبر حال المفقود حياة أو موتاً؟ يعتبر المفقود حياً في حق نفسه، ميتاً في حق غيره، فتثبت له عند الحنفية الحقوق السلبية دون الإيجابية، فبالنسبة له لا يورث ماله، ولا تبين منه امرأته، كأنه حي. وبالنسبة لغيره: لا يرث أحداً من أقاربه كأنه ميت، وكذلك لو أوصى أحد للمفقود ومات الموصي لا يستحق الموصى به، وإنما يوقف نصيبه من الإرث أو الوصية إلى أن يظهر حاله أنه حي أو ميت. ووافقهم الشافعية في أن الزوجة لا يحق لها فسخ الزواج، وتنتظر حتى يعلم موت زوجها.
وقال الإمامان مالك وأحمد: إذا مضى أربع سنوات يفرق القاضي بين المفقود وبين امرأته، وتعتد عدة الوفاة، ثم تتزوج من شاءت؛ لأن عمر رضي الله عنه قضى بذلك في مفقود.
صلاحيات القاضي في مال المفقود وأهله: للقاضي صلاحيات على مال المفقود وأهله وهي عند الحنفية ما يلي:
1 - يعين القاضي أميناً يحفظ مال المفقود، ويشرف على شؤونه ويستثمره، ويستوفي حقوقه العائدة إليه، كالقيِّم على مال الصبي والمجنون.
2 - يبيع من ماله ما يتسارع إليه الفساد ويحفظ ثمنه؛ لأن البيع من مقتضيات الحفظ. وإذا كان له ودائع يتركها في يد الوديع ليحفظها؛ لأن يده يد نيابة عن المفقود في الحفظ.
3 - ينفق من مال المفقود على زوجته إن كان يعلم بقاء الزوجية، وكذا ينفق من ماله على أولاده الصغار الذكور والإناث، وعلى أولاده الفقراء الزمنى من الذكور والإناث.
وإن لم يكن له مال وله ودائع، فإنه ينفق منها، إذا كانت من الطعام والثياب والدراهم والدنانير.
__________
(1) راجع البدائع: 196/6،فتح القدير: 440/4، تبيين الحقائق: 310/3، الدر المختار: 360/3، الشرح الصغير: 694/2 وما بعدها، المهذب: 146/2، كشاف القناع: 487/5 ومابعدها.(6/630)
فإن كان مال المفقود من غير الدراهم والدنانير أو الطعام والثياب، كأن كان له عروض تجارة أو عقارات، فلا ينفق منه القاضي على هؤلاء؛ لأنه لا يمكن الإنفاق إلا بالبيع، وليس للقاضي أن يبيع العقار والعروض على الغائب؛ ولكن للأب أن يبيع العروض في نفقته؛ لأن للأب ولاية التصرف في مال الابن في الجملة، بخلاف القاضي، أما العقار فليس للأب أن يبيعه في نفقة الغائب إلا بإذن القاضي.
متى يحكم بموت المفقود وما أثر ذلك؟ إذا مضت مدة طويلة على المفقود من وقت ولادته، بحيث لا يعيش مثله إلى تلك المدة يقيناً أو غائباً، يحكم بموته، وتقع الفرقة بينه وبين نسائه، ويقسم ماله بين ورثته الأحياء، ولا يرث هو من أحد.
والمدة التي نقدرها لحياة المفقود ليس في ظاهر الرواية تقدير محدد فيها، وإنما يقدر بموت الأقران. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قدر تلك المدة بمئة وعشرين سنة من وقت الولادة. والأرفق أن يقدر بتسعين عاماً.(6/631)
الفَصْلُ الحادي عشر: المسابقة والمناضلة
المبحث الأول ـ السَّبْق (1) أو المسابقة أو الرهان:
وفيه بيان تعريف المسابقة ومشروعيتها.
شروط جواز المسابقة.
تعريف المسابقة ومشروعيتها:
السبق: بسكون الباء مصدر سبق أن تقدم، وبتحريك الباء: المال الموضوع بين أهل السباق، أي الجائزة أو الرهن، أوالخطر في اصطلاح المتقدمين: وهو الشيء الذي يسابق عليه، فمن سبق أخذه.
والسباق: هو أن يسابق الرجل صاحبه في الخيل أو الإبل ونحوها.
والمسابقة جائزة بالسنة والإجماع. أما السنة فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمَّرة وبين التي لم تضَّمر (2) . وأجمع المسلمون على جواز المسابقة.
والمسابقة مستثناة من ثلاثة أمور ممنوعة: هي القمار، وتعذيب الحيوان لغير الأكل، وحصول العوض والمعوض عنه لشخص واحد، وذلك إذا قدم العوض كلا المتسابقين ليأخذه السابق (3) .
وهي نوعان: مسابقة بغير عوض، ومسابقة بعوض.
أما المسابقة بغير عوض: فتجوز مطلقاً من غير تقييد بشيء معين كالمسابقة على الأقدام والسفن والطيور والبغال والحمير والفيلة. وكذلك تجوز المصارعة ورفع الحجر ليعرف الأشد، بدليل ماقالت عائشة رضي الله عنها: «سابقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني، فسبقني، فقال: هذه بتلك» (4) وسابق سلمة ابن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، فسبقه سلمة (5) ، وصارع النبي صلّى الله عليه وسلم رُكانة، فصرعه النبي صلّى الله عليه وسلم (6) . ومر الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوم يرفعون حجراً ليعرفوا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم. وتقاس بقية أنواع المسابقة على المذكور.
وأما المسابقة بعوض: فلا تجوز عند الحنفية إلا في أربعة أشياء: في النصل، والحافر، والخف (7) ، والقدم؛ لأن الثلاثة الأولى آلات الحرب المأمور بتعلمها، لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال:60/8] فسر النبي صلّى الله عليه وسلم القوة بالرمي (8) . وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله، فإنهن من الحق» (9) .
ودليل المسابقة على الأقدام والمصارعة، ما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلم سابق عائشة،
__________
(1) السبق: بسكون الباء بمعنى المسابقة، والسبق بفتح الباء: الجعل أو العوض المخصص في المسابقة.
(2) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (سبل السلام: 70/4، الإلمام: ص 358) .
(3) الدسوقي: 209/2.
(4) رواه أحمد وأبو داود والشافعي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن عروة عن أبيه عن عائشة (نيل الأوطار: 91/8 وما بعدها) .
(5) رواه مسلم وأحمد عن سلمة بن الأكوع (نيل الأوطار، المرجع السابق) .
(6) رواه أبو داود عن محمد بن علي بن ركانة (نيل الأوطار، المرجع نفسه) .
(7) المراد بالنصل: السهم ذو النصل أو الرمح، والحافر: الفرس والحمار والبغل، والخف: البعير والبقر ونحوها.
(8) رواه مسلم وأحمد عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 85، سبل السلام: 71/4) .
(9) رواه أبو داود والترمذي عن عقبة بن عامر (راجع تخريج أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 500/3) .(6/632)
وصارع رُكَانة، ولأن المشي بالقدم والمصارعة مما يحتاج للكر والفر في الجهاد وضرب العدو. قال الشافعية: المسابقة والمناضلة على السهام سنة بالإجماع، ويحل أخذ عوض عليهما؛ لأن فيهما ترغيباً للاستعداد للجهاد.
وقال الجمهور غير الحنفية: لا يجوز السباق بعوض إلا في النصل والخف والحافر، أي في التدرب على حمل السلاح وفي أعمال الفروسية، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا سَبَق إلا في خف أو حافر أو نصل» (1) والسبق بفتحتين: (هو ما يجعل للسابق على السبق من جعل) ولأن هذه الأمور آلات القتال، فيجوز التسابق إذن على كل ما هو نافع في الحرب.
أما المسابقة على الأقدام والمصارعة، فلا تجوز بعوض؛ لأنها لا تنفع في الحرب وكانت مصارعة الرسول لرُكَانة على شياه، كما روى أبو داود في مراسيله، أو أن الغرض من مصارعته أن يريه شدته ليسلم، وقد أسلم فعلاً (2) .
فإن كانت المسابقة بغير عوض جازت مطلقاً في الخيل وغيرها من الدواب والسفن وبين الطير لإيصال الخبر بسرعة، وتجوز هذه المسابقة على الأقدام وفي رمي الأحجار والمصارعة.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والشافعي والحاكم وابن ماجه وأحمد وابن حبان وصححه هو وابن القطان وابن دقيق العيد عن أبي هريرة رضي الله عنه (تخريج أحاديث التحفة، المرجع السابق، نيل الأوطار: 77/8، سبل السلام: 71/4، مجمع الزوائد، 263/5) .
(2) راجع البدائع: 206/6، المهذب: 412/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 311/4 وما بعدها، المغني: 651/8 وما بعدها، 172/9، الشرح الكبير: 209/2، شرح الرسالة: 417/2.(6/633)
شروط جواز المسابقة:
يشترط لجواز المسابقة والرمي بعوض شروط أهمها ما يأتي:
1 - أن تكون المسابقة في الأنواع النافعة في الجهاد وهي الأنواع الأربعة عند الحنفية: النصل والخف والحافر والقدم. وعند الجمهور: الأنواع الثلاثة الأولى.
2 - أن يكون العوض من أحد الجانبين المتسابقين أو من شخص ثالث، كأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك علي كذا، وإن سبقتك فلا شيء عليك، أو يقول ولي الأمر أو شخص ثالث: من سبق منكما فله في بيت المال أو فله علي كذا؛ لأنه في هذه الحالات لا يوجد قمار محرم؛ وإنما يكون دفع العوض على سبيل المكافأة أو الجعالة والتحريض على الاستعداد لإتقان فنون الجهاد.
فإن كان العوض من الجانبين وهو الرهان: فلا يصح الرهان إلا بمحلِّل (1) كأن يتفقا على أن يخصص كل منهما عشر ليرات (2) أو أحدهما عشرة والآخر ثمانية، يدفعها كل منهما لشخص آخر يكون فرسه أو بعيره مكافئاً لفرسيهما أو بعيرهما مثلاً، وذلك إذا سبقهما، فإن سبقهما جميعاً أخذ الغنم، وإن سبق أحدهما لم يغرم هو شيئاً، ولا يأخذ أحدهم شيئاً، بدليل ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدخل فرساً بين فرسين، وهو لا يأمن أن يُسبَق، فليس بقمار. ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يَسبِق فهو قمار» (3) أي أنه يشترط أن يكون فرس المحلل مكافئاً لفرسي الشخصين اللذين جعل العوض منهما، فلو كان ضعيفاً عنهما أو أقوى منهما، فإنه لا يصح؛ لأن الواضح من الحديث أنه جعل القمار متحققاً إذا أمن الثالث أن يَسبق، وإذا لم يأمن أن يَسبق لم يكن قماراً.
__________
(1) المحلل ـ بكسر اللام ـ مشتق من أحل: جعل الممتنع حلاً، لأنه يحل العقد ويخرجه عن صورة القمار المحرم، فهو قد حلل الجُعْل بدخوله بين المتسابقين.
(2) هذا المبلغ هو المسمى بالسبق بتحريك الباء أو الخطر أو الندب أو القرع أو الرهن.
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف عند بعضهم، ولأئمة الحديث في صحته إلى أبي هريرة كلام كثير، وقد أخرجه أيضاً الحاكم وصححه، والبيهقي، وابن حزم وصححه (نيل الأوطار: 80/8، سبل السلام: 71/4، الإلمام: ص360) .(6/634)
وأما إن كان العوض من الجانبين بدون محلل، فيحرم السباق، كما إذا قال شخصان: من سبق منا فله على الآخر كذا؛ لأن هذا من القمار المحرم.
وهكذا تكون صور السباق أربعاً: ثلاث منها حلال، وواحدة منها حرام لها حكم الميسر (القمار) ، أما الصور الحلال:
فأولها: أن يكون العوض من السلطان أو أحد الرؤساء أو شخص ثالث، يأخذه السابق، وهذا جائز اتفاقاً.
وثانيها: أن يكون العوض من أحد الجانبين يؤخذ منه إذا سبقه الآخر، وهذا جائز اتفاقاً.
وثالثها: أن يكون العوض من المتسابقين أو من الجماعة، ومعهم محلل يأخذ العوض إن سَبَق، ولا يغرم إن سَبَقه غيره؛ لأنهما لم يقصدا القمار، وإنما قصدا التقوي على الجهاد، وهذا جائز عند الجمهور. ومنعه الإمام مالك لجواز عود الجعل لمن قدمه إذا سبَق.
وأما الصورة الحرام اتفاقاً: فهي أن يكون العوض من كل واحد، على أنه إن سَبَق فله العوض، وإن سُبق فيغرم لصاحبه مثله. وبه يتبين أن السباق يحرم حينما يكون هناك احتمال الأخذ والعطاء من الطرفين، بأن يقال: السابق يأخذ، والخاسر يغرم أو يدفع. وهذا معنى الميسر أو القمار المحرم شرعاً.
3 - أن تكون المسابقة فيما يحتمل أن يسبق أحدهما، ويسبق الآخر، فإن كانت فيما يعلم غالباً أنه يسبق غيره، فلا يجوز، لأن معنى التحريض في هذه الصورة لا يتحقق، فصار الرهان التزام المال للغير بشرط لا منفعة له فيه.
4 - العلم بالمال المشروط، ومعرفة نقطة البدء والنهاية، وتعيين الفرسين مثلاً، كما قرر الشافعية (1) .
تبين من هذا أن السباق الذي يجري الآن على رهان من المتسابقين لا من طرف ثالث محايد هو حرام؛ لأنه قمار.
__________
(1) راجع البدائع، المرجع السابق، مغني المحتاج: 313/4 وما بعدها، المهذب: 415/1 وما بعدها، المغني: 654/8 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 157 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 208/2-211.(6/635)
المبحث الثاني ـ المناضلة:
تعريفها وأنواعها ولزومها وحكمها وشروطها (1) :
تعريف المناضلة ومشروعيتها: المناضلة لغة بمعنى المغالبة، قال الأزهري: النضال في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق يكون في الخيل والرمي، كما في قوله تعالى: {إنا ذهبنا نستبق} [يوسف:17/12] وعليه تكون المسابقة على الخيل ونحوها، من السلاح.
وهذا الموضوع المتعلق بالمسابقة والمناضلة لم يسبق الشافعيَ رضي الله تعالى عنه أحد إلى تصنيفه كما قال المزني رحمه الله.
والمناضلة أو الرمي: التدرب على استعمال السلاح والتنافس على التفوق بإصابة الهدف على مال بشروط مخصوصة. وكل من المناضلة والمسابقة للرجال المسلمين غير ذوي الأعذار سنة جائزة بالإجماع، ولقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال:60/8] روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسَّر القوة بالرمي، فقال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
وقد حث النبي صلّى الله عليه وسلم على الرمي، روى أحمد والبخاري عن سلمة بن الأكوع
__________
(1) مغني المحتاج: 311/4-319.(6/636)
قال: «مرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (1) بالسوق، فقال: ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم كلِّكم» .
وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعَه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهِّز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله، وقال: ارموا واركبوا، فإن ترموا خير من أن تركبوا، وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق» .
أنواعها: تصح المناضلة على سهام ورماح ورمي بأحجار بمقلاع أو يد، ومنجنيق وكل نافع في الحرب كالرمي بالمسلاّت والإبر والتردد بالسيوف والرماح.
ولا تصح المسابقة بعوض على الكرة بأنواعها المختلفة، ولا على البندق الذي يرمى به إلى حفرة ونحوها (2) ، ولا على السباحة في الماء، ولا على الشطرنج، ولا على خاتم، ولا على وقوف على رِجْل، ولا على معرفة ما في يده من شفع ووتر، ولا على سائر أنواع اللعب كالمسابقة على الأقدام (الركض) وبالسفن والزوارق؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب.
هذا إذا عقد عليها بعوض، فإن كانت بغير عوض فمباح كما يرى الشافعية. وقال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الرمي بالسهام واستعمال الأسلحة، ما في ذلك من التدرب على الجري. ودليله: ما رواه أحمد وأبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم تسابق مع عائشة على الأقدام، وروى أحمد والشيخان: أن الأحباش لعبوا بالحراب عند النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد.
__________
(1) ينتضلون أي يترامون، والنضال: الترامي للسبق.
(2) ذكر الماوردي في الحاوي القول بالجواز، خلافاً لما قرره النووي في الروضة وأصلها.(6/637)
صفة عقد المسابقة والمناضلة: الأظهر عند الشافعية أن كلاً من هذين العقدين إذا تم على مال مشروط لازم لا جائز، فليس لأحد الطرفين إذا التزما المال وبينهما محلِّل فسخه، كما هو شأن العقود اللازمة، ولا ترك العمل قبل الشروع فيه ولا بعده، إلا إذا فسخ الطرفان العقد الأول، واستأنفا عقداً جديداً إن وافقهما المحلِّل.
حكم المناضلة: حكم المناضلة والمسابقة واحد، ثلاث صور منها حلال، وصورة رابعة منها حرام؛ لأنه ميسر أو قمار، وهي أن يتراهن المتناضلان على أن يتعهد كل منهما للآخر دفع عوض معين إن فاز بالإصابة. فإن كان العوض من الإمام من بيت المال، أو أحد الرعية الأثرياء، أو أحد المتناضلين أو كليهما جاز، فيقول الإمام أو أحد الرعية: ارميا كذا، فمن أصاب من كذا فله في بيت المال، أو عليّ كذا، أو يقول أحدهما: نرمي كذا، فإن أصبت أنت منها كذا فلك علي كذا، وإن أصبتها أنا فلا شيء لي عليك.
أما إن شرط كل منهما على صاحبه عوضاً، فلا تصح المناضلة إلا بمحلِّل، أي شخص ثالث وسيط، يكون رميه كرميهما في القوة والعدد المشروط، يأخذ مالهما إن غلبهما، ولا يغرم إن غُلب.
شروط صحة المناضلة: يشترط لصحة المناضلة ما يأتي:
1ً - تعيين الرماة والهدف المطلوب وتعيين الموقف الذي يقفان فيه وتحديدمسافة (1) ، ومقدار الغرض طولاً وعرضاً وسمكاً وارتفاعاً من الأرض، وتعيين العدد المطلوب من الإصابة أو الرميات لينضبط العمل؛ لأن المناضلة كالميدان في المسابقة. ويشترط إمكان الإصابة والخطأ.
2ً - اتحاد جنس السلاح من مسدس أو بندقية أو مدفع ونحوها، فلا تصح المناضلة بسلاحين مختلفي الجنس، ولو رضي الطرفان بذلك.
3ً - بيان مقدار الإصابة وصفة الرمي من قَرْع أو خَزْق أو خَسْق أو مَرْق (2) إذا كان النضال بالسهام ونحوها، بأن يتفق المتناضلان على كون الرمي المطلوب مجرد قَرْع أو إصابة للهدف أو خَزْق له، فإن أطلقا ولم يبينا، حمل الرمي المطلوب على القرع.
4ً - العلم بالمال وقدره، ووجود المحلل إن كانت المناضلة من النوع المحرم المذكور في المسابقة وفيما تقدم هنا.
5ً - والأظهر اشتراط بيان البادئ من المتناضلين بالرمي، لاشتراط الترتيب بينهما فيه، حذراً من اشتباه المصيب بالمخطئ، كما لو رميا معاً، فإن لم يبيناه فسد العقد.
__________
(1) مسافة الرمي: هي ما بين موقف الرامي والغرض، وتحديدها لاختلاف الغرض بها، وبيانها إما بالذرعان أو المشاهدة. والغرض: ما يرمى إليه من خشب أو جلد أو قرطاس، والهدف: ما يرفع ويوضع عليه الغرض. والرقعة: عظم ونحوه يجعل وسط الغرض. والدارة: نقش مستدير كالقمر قبل استكماله.
(2) القَرْع: مجرد إصابة الغرض أو الهدف بلا خدش له، والخزق: هو أن يثقبه السهم ولا يثبت فيه بأن يعود. والخَسْق: هو أن يثبت السهم في الهدف. والمَرْق: هو أن ينفذ السهم ويخرج من الجانب الآخر.(6/638)
الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الشُّفعة
تبحث الشفعة في المباحث الثمانية الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وعناصرها، وسببها، وحكمها وصفتها.
المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب) .
المبحث الثالث ـ الشفيع، مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) تزاحم الشفعاء (أي تعددهم) غيبة بعض الشفعاء، إسقاط بعض الشفعاء حقه.
المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة.
المبحث الخامس ـ شروط الشفعة.
المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة (طلب الشفعة) .
المبحث السابع ـ مايطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري من تصرفات أو نماء أو نقص.
المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة.
وبحثها على ترتيبها المذكور.(6/639)
المبحث الأول ـ تعريف الشفعة، ودليلها وحكمتها، وركنها وأطرافها، وحكمها وصفتها:
أولاً ـ تعريف الشفعة: الشفعة لغة: مأخوذة من الشفع بمعنى الضمّ أو الزيادة والتقوية، تقول: شفعت الشيء: ضممته، سميت شفعة؛ لأن الشفيع يضم مايتملكه بهذا الحق إلى نصيبه أو ملكه، فيزيده عليه، ويتقوى به، فقد كان الشفيع منفرداً في ملكه، فبالشفعة ضم المبيع إلى ملكه، فصار شفعاً ضد الوتر.
وفي الاصطلاح الفقهي: هي حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري، بما قام عليه، من ثمن وتكاليف (أي النفقات التي أنفقها) لدفع ضرر الشريك الدخيل أو الجوار. وهذا عند الحنفية (1) ؛ لأن الشفعة تثبت عندهم للشريك والجار.
وعرفها الجمهور غير الحنفية: بأنها استحقاق شريك أخذ ما عاوض به شريكه، من عقار، بثمنه أو قيمته، بصيغة. وبعبارة أخرى: هي حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث، فيما ملك بعوض (2) . وهذا لأن الشفعة حق للشريك فقط دون الجار عند الجمهور.
ويلاحظ أن المذاهب الأربعة حصروا الشفعة في العقار. أما الظاهرية فقد أجازوها أيضاً في المنقول، كالحيوان ونحوه (3) .
ثانياً ـ دليلها وحكمة مشروعيتها:
الدليل على مشروعية الشفعة هو السنة والإجماع:
__________
(1) الدرالمختار: 152/5، تكملة الفتح: 406/7، تبيين الحقائق: 239/5، اللباب: 106/2.
(2) الشرح الصغير: 630/3، الشرح الكبير: 473/3، مغني المحتاج: 296/2، كشاف القناع: 196/4، المغني: 284/5.
(3) المحلى: 101/9، م 1594.(6/640)
أما السنة، فأحاديث كثيرة: منها حديث جابر رضي الله عنه: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة» (1) وفي رواية «في أرض، أو رَبْع، أو حائط» والربع: المنزل، والحائط: البستان.
ومنها حديث آخر لجابر: «الجار أحق بشفعة جاره يُنتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً» (2) .
ومنها حديث سمرة: «جار الدار أحق بالدار من غيره» (3) .
ومنها حديث أبي رافع: «الجار أحق بسقبه» أو «بصقبه» (4) أي أحق بقربه وبشفعته؛ لأن السقب أو الصقب: ما قرب من الدار.
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض أو دار أو حائط.. ولا نعلم أحداً خالف هذا إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك، فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه، ويتقاعد الشريك عن الشراء، فسيتضر المالك؛ أي أن الشفعة تصادم مبدأ حرية المتعاقد في التصرف. ورد عليه: بأن قوله ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله (5) .
وحكمتها: دفع ضرر الدخيل الأجنبي الذي يأتي على الدوام، بسبب سوء المعاشرة والمعاملة، في استعمال أواستحداث المرافق المشتركة، أو إعلاء الجدار، أو إيقاد النار، أو منع ضوء النهار، وإثارة الغبار، وإيقاف الدواب، ولعب الأولاد، لاسيما إذا كان خصماً أو ضداً.
وقد تكون الحكمة: دفع ضرر مؤنة القسمة، كما قال المالكية والشافعية والحنابلة.
وكل ما ذكر مظاهر للضرر، والمقرر في الإسلام أنه «لا ضرر ولا ضرار» .
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه، وهو صحيح. وصرفت: بتخفيف الراء، وقيل بتشديدها، أي بينت مصارفها.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، والبيهقي والطبراني والضياء، لكن في إسناده كلام واضطراب.
(4) أخرجه البخاري (راجع الأحاديث في نصب الراية: 172/4-175، نيل الأوطار: 331/5-336) .
(5) المغني: 284/5.(6/641)
كما أن حسن العشرة يقتضي رعاية مصلحة الشريك أو الجار، ورعاية المصلحة أمر مطلوب شرعاً أيضاً (1) .
وهذه المعاني كما هي متوقعة بين الناس بسبب الشركة، أو الخلطة في المنافع، كذلك هي متوقعة ـ في رأي الحنفية ـ بسبب الجوار.
ثالثاً ـ ركنها وعناصرها وسببها (سبب الأخذ) :
قال الحنفية (2) : ركن الشفعة: أخذ الشفيع من أحد المتعاقدين عند وجود سببها وشرطها. ويسمى العقار الذي بسببه تطلب الشفعة: المشفوع به، والعقار الذي يتملك بالشفعة: المشفوع فيه، ومشتري العقار: هو المشفوع عليه، والمطالب بالشفعة: هو الشفيع.
وسببها: اتصال ملك الشفيع بالمشتري بشركة أو جوار.
وشرطها: أن يكون المحل المبيع عقاراً، سفلاً كان أو علواً. وقال المالكية (4) : للشفعة أركان أربعة:
آخذ (شافع) ، ومأخوذ منه (مشفوع عليه) ومشفوع فيه، وصيغة. والمراد بالصيغة: ما يدل على الأخذ، لفظاً أو غيره.
وقال الشافعية والحنابلة (5) : أركان الشفعة ثلاثة: آخذ، ومأخوذ منه، ومأخوذ. وأما الصيغة فتجب في التمليك، فيشترط لفظ من الشفيع، مثل تملكت، أو أخذت بالشفعة.
رابعاً ـ حكمها وصفتها: إن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ (جديد) ، قال الحنفية (6) : حكمها: جواز الطلب عند تحقق السبب، ولو بعد سنين، أي إذا لم يعلم بها. وصفتها: أن الأخذ بها بمنزلة شراء مبتدأ، يستحقها الشفيع بعد البيع، فيثبت بها ما يثبت بالشراء، كالرد بخيار الرؤية، والعيب.
المبحث الثاني ـ محل الشفعة (المشفوع فيه، أو ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب) : اتفق المسلمون على أن الشفعة حق في العقار من دور وأرضين وبساتين وبئر، وما يتبعها من بناء وشجر، واختلفوا فيما عداها.
قررت المذاهب الأربعة أنه لا شفعة في منقول كالحيوان والثياب والعروض التجارية للحديث السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة في أرض أو ربَعْ أو حائط..» ورواية الحديث عند مسلم والنسائي وأبي داود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى
__________
(1) تبيين الحقائق: 239/5، مغني المحتاج: 296/2، أعلام الموقعين: 120/2، المغني: 284/5، حاشية الدسوقي على الدردير: 476/3.
(2) الدر المختار: 152/5 وما بعدها، تبيين الحقائق، المكان السابق.
(4) الشرح الصغير: 630/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 253/2.
(5) مغني المحتاج: 296/2، 300، المغني: 297/5، كشاف القناع: 158/4.
(6) الدرالمختار: 153/5 وما بعدها، تبيين الحقائق، المكان السابق.(6/642)
بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط..» ولأن الشفعة شفعت لدفع ضرر سوء الشركة بالاتفاق، أو الجوار عند الحنفية، بسبب الاستمرار والدوام، والمنقول لا يدوم، بخلاف العقار، فيتأبد فيه ضرر المشاركة؛ ولأن الشفعة تملك بالقهر، فهي كما بينت «استحقاق الشريك ـ عند الحنفية ـ انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه» ، فناسب أن تكون عند شدة الضرر، وإطلاقاً لحرية التصرف والبيع (1) .
الِعُلْوُ والسُفْل: ألحق الحنفية بالعقار: ما في حكمه كالعلو، وإن لم يكن طريقه في السفل؛ لأنه التحق بالعقار بماله من حق القرار، فلا فرق في العقار بين كونه سفلاً أو علواً (2) ، وهذا هو المعقول.
ولم يجز الشافعية في الأصح والحنابلة الشفعة في العلو، لأن البناء يرتكز على السقف، والسقف الذي هو أرض البناء لا ثبات له، فكان كالمنقولات (3) .
وسواء عند الحنفية أكان العقار مما يحتمل القسمة، أم لا يحتملها، كالدار الصغيرة والحمام والطاحون والبئر؛ لأن علة الشفعة عندهم دفع ضرر الشركة أو الجوار مطلقاً، وهو يتحقق فيما لا يقبل القسمة.
واشترط الجمهور غير الحنفية، في المشهور عند المالكية، وفي ظاهر مذهب الحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية: أن يكون العقار قابلاً للقسمة، استدلالاً
__________
(1) الدر المختار: 153/5، تكملة الفتح: 435/7، تبيين الحقائق: 239/5، البدائع: 12/5، اللباب: 109/2، بداية المجتهد: 254/2، الشرح الكبير: 482/3، الشرح الصغير: 634/3، مغني المحتاج: 296/2، المهذب: 376/1، المغني: 287/5، كشاف القناع: 153/4-155.
(2) الدر المختار واللباب، المكان السابق، تكملة الفتح: 435/7.
(3) مغني المحتاج: 297/2، كشاف القناع: 155/4.(6/643)
بدليل الخطاب في حديث جابر السابق: «الشفعة فيما لم يقسم ... » فكأنه قال: الشفعة فيما تمكن فيه القسمة، ما دام لم يقسم. وقد أجمع عليه في هذا الموضوع فقهاء الأمصار، مع اختلافهم في صحة الاستدلال به؛ ولأن علة مشروعية الشفعة عندهم هو دفع ضرر القسمة، ومالا ينقسم لا تتيسر القسمة فيه، فلا حاجة للشفعة فيه، فلا يترتب فيه ضرر الشريك بعدم الشفعة (1) .
حقوق الارتفاق: تثبت الشفعة عند الحنفية (2) في حقوق العقار، كالشِّرْب (النصيب من الماء في نوبة مالك الأرض) (3) والطريق الخاصين. فإن لم يكونا خاصين، فلا يستحق بهما الشفعة. والطريق الخاص: أن يكون غير نافذ، فإن كان نافذاً فليس بخاص.
فلو كان هناك شِرْب نهر صغير مشترك بين قوم، تسقى أراضيهم منه، فبيعت أرض منها، فلكل أهل الشِّرْب من ذلك النهر الخاص الشفعة. أما لو كان النهر عاماً، فالشفعة فقط للجار الملاصق. ومثله الطريق الخاص، فكل أهله شفعاء.
وقال المالكية (4) : لا شفعة في الطريق (أي المجاز الذي يتوصل منه إلى ساحة الدار) إذا قسم بين الشريكين أو الشركاء متبوعُهما من البيوت إذا بقي الممر مشتركاً بينهما؛ لأنه لما كان تابعاً لما لا شفعة فيه، وهو البيوت المنقسمة، كان لا شفعة فيه.
وكذلك العَرْصة (ساحة الدار التي بين بيوتها، تسمى في عرف العامة بالحوش) لا شفعة فيها إذا قسم متبوعها، كحكم الطريق السابق.
__________
(1) بداية المجتهد: 255/2، حاشية الدسوقي على الدردير: 476/3، الشرح الصغير: 634/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 297/2، المهذب: 377/1، المغني: 289/5.
(2) تبيين الحقائق: 239/5 وما بعدها، الدر المختار: 154/5، اللباب: 106/2.
(3) الشرب: هو نوبة الانتفاع بسقي الحيوان والزرع (م 1262) مجلة.
(4) الشرح الكبير: 482/3، الشرح الصغير: 640/3، بداية المجتهد: 255/2.(6/644)
وقال الشافعية (1) : لا شفعة قطعاً في ممر الدار المبيعة من الدرب النافذ؛ لأنه غير مملوك. وأما الدرب غير النافذ، فالصحيح ثبوت الشفعة في الممر، بما يخصه من الثمن، إن كان لمشتري الممر الخاص المشترك طريق آخر لداره، أو أمكن من غير مؤنة وضرر عليه الوصول لداره من طريق آخر، بفتح باب إلى شارع عام مثلاً، فلا تثبت الشفعة في الممر، لما فيها من ضرر المشتري، والشفعة شرعت لدفع الضرر، فلا يزال ضرر بآخر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر.
والحنابلة كالشافعية قالوا (2) : إذا بيعت الدار، ولها طريق في شارع أو درب نافذ، فلا شفعة في تلك الدار، ولا في الطريق؛ لأنه لا شركة لأحد فيهما.
وإن كان الطريق في درب غير نافذ، ولا طريق للدار سوى ذ لك الطريق، فلا شفعة أيضاً؛ لأن إثباتها يضر بالمشتري؛ لأن الدار تبقى لا طريق لها.
وإن كان للدار باب آخر يستطرق منه، أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى طريق نافذ، نظرنا في الطريق المبيع مع الدار:
فإن كان ممراً لا تمكن قسمته، فلا شفعة فيه.
وإن كان تمكن قسمته، وجبت الشفعة فيه؛ لأنه أرض مشتركة، تحتمل القسمة، فوجبت فيه الشفعة كغير الطريق.
الشفعة في السفن: لا تثبت الشفعة في السفن عند فقهاء المذاهب (3) لأنها كالعروض التجارية من المنقولات، والشفعة مشروعة في الأرض التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها.
__________
(1) نهاية المحتاج: 145/4، مغني المحتاج: 298/2.
(2) كشاف القناع: 154/4، المغني: 290/5.
(3) الكتاب مع اللباب: 190/2، المهذب: 376/1، مغني المحتاج: 296/2، كشاف القناع: 155/4.(6/645)
ونقل الكاساني (1) عن الإمام مالك: أنه يرى الشفعة في السفن؛ لأن السفينة أحد المسكنين، فتجب فيها الشفعة، كما تجب في المسكن الآخر، وهو العقار، لكن هذا لم يصح عن مالك، كما حقق ابن عبد السلام. وبه يتبين أن المذاهب الأربعة متفقة على عدم الشفعة في السفن.
الشفعة في الزرع والثمر والشجر: لا شفعة عند الجمهور (غير المالكية) (2) فيما ليس بعقار كالبناء والشجر المفرد عن الأرض، فإن كان تبعاً في البيع للأرض، وجبت الشفعة فيه (3) .
ومما يتبع الأرض عند الشافعية في الأصح: ثمر لم يؤبر؛ لأنه يتبع الأصل في البيع، فيتبعه في الأخذ، قياساً على البناء والغراس.
واقتصر الحنابلة على إتباع الغراس والبناء للأرض؛ لأنهما يؤخذان تبعاً للأرض، ففيهما الشفعة تبعاً. ولم يتبعوا الزرع والثمرة للأرض؛ لأن من شروط وجوب الشفعة أن يكون المبيع أرضاً؛ لأنها هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها.
__________
(1) البدائع: 12/5. ولم أر في كتب المالكية التي اطلعت عليها تصريحاً لهم بالشفعة في السفينة، وإنما يوجبونها في العقار فقط. قال ابن عبد السلام من المالكية: ما نقله بعض الحنفية عن مالك في السفينة: لا يصح (شرح التنوخي لرسالة القيرواني: 193/2) .
(2) تكملة الفتح: 435/7، مغني المحتاج: 296/2 وما بعدها، كشاف القناع: 155/4.
(3) نصت المادة (1019) مجلة على أنه لا تجري الشفعة في الأشجار والأبنية في أرض الوقف.(6/646)
وأجاز المالكية (1) الشفعة في البناء والشجر إذا بيع أحدهما مستقلاً عن الأرض؛ لأن كلاً منهما عندهم عقار، والعقار: هو الأرض وما اتصل بها من بناء وشجر، فلا شفعة في حيوان أو عرض تجاري إلا إذا بيع تبعاً للأرض.
مثاله: الشجر أو البناء في أرض موقوفة (محبَّسة) أو معارة: بأن اقتضت المصلحة إجارة الأرض الموقوفة، سنين، ثم بنى فيها المستأجر أو غرس بإذن ناظرها، على أن ذلك له، فإذا كان المستأجر متعدداً، وباع أحدهم، فللآخر الشفعة.
وأجاز المالكية أيضاً الشفعة في الثمار (2) (الفاكهة) والخضر، كالقِثَّاء، والبطيخ بنوعيه الأخضر والأصفر، والخيار، والباذنجان والفول الأخضر، ونحوه مما له أصل تجنى ثمرته، ويبقى في الأرض وقتاً ما، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه منها، ولو مفرداً عن أصله، فللآخر أخذه بالشفعة.
واشترطوا في الثمرة المأخوذة بالشفعة منفردة: أن تكون موجودة حين الشراء، بشرط كونها مؤبرة.
ولم يجز المالكية الشفعة في زرع كقمح وكتان وبرسيم، ولا في بَقْل مما ينزع أصله كفجل وجزر وبصل وقلقاس، وملوخية. فلو بيع الزرع أو البقل مع أرضه، فلا شفعة فيه، وإنما هي في الأرض فقط، بما ينو بها من الثمن.
وأما الظاهرية: فقد توسعوا في إيجاب حق الشفعة للشفيع أكثر من سائر المذاهب الأخرى، فأجازوا الشفعة في كل مبيع، عقاراً أو منقولاً، سواء أكان المنقول متصلاً بالعقار أم لا، وسواء أكان الشيء المبيع مما ينقسم، أم مما لا ينقسم، من أرض أو شجرة واحدة فأكثر، أو ثوب، أو سيف أوطعام أو حيوان، أو أي شيء بيع، فلا يحل لمن له الجزء، أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه (3) .
__________
(1) الشرح الكبير: 479/3 وما بعدها، الشرح الصغير: 634/3، 638-639، بداية المجتهد: 254/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 286، شرح الرسالة: 192/2.
(2) قال مالك عن الشفعة في الثمرة: ما علمت أحداً من أهل العلم قاله قبلي، ولكني استحسنته (شرح التنوخي لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: 192/2) .
(3) المحلى: 101/9، م 1594.(6/647)
المبحث الثالث ـ الشفيع
أولاً ـ من الشفيع؟
للفقهاء رأيان فيمن يحق له الأخذ بالشفعة: رأي للحنفية: في أن الشفيع: هو الشريك، أو الجار. ورأي للجمهور: في أن الشفيع هو الشريك فقط.
قال الحنفية (1) : تثبت الشفعة للشريك (الخليط) في المبيع نفسه، أو في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، كالشِّرب (النصيب من الماء) ، والطريق الخاصين، كما تثبت للجار الملاصق للمبيع، ولو كان باب داره من سكة أخرى. والملاصق من جانب واحد ولو بشبر، كالملاصق من ثلاثة جوانب، وواضع جذع على حائط، وشريك في خشبة على حائط: جار لا شِريك؛ لأن وضع الجذوع على الحائط لا يصير صاحبه شريكاً في الدار، والشفعة تثبت في العقار دون المنقول، والخشبة منقول. ولا فرق بين مسلم وذمي في استحقاق الشفعة، لعموم أدلة مشروعيتها، ولتساويهما في سبب الشفعة وحكمتها، فيتساويان في الاستحقاق.
ودليلهم الأحاديث السابقة في مشروعية الشفعة، والتي منها: «جار الدار أحق بسقبه» (2) و «جار الدار أحق بدار الجار، والأرض» (3) و «الجار أحق بشفعته» (4) . ويؤكده أن العلة الموجب للشفعة هو دفع الضرر الدائم، الذي يلحق المرء بسبب سوء العشرة على الدوام. وهذا يتحقق في الجار، كما يتحقق في الشريك، فتكون حكمة مشروعية الشفعة ظاهرة فيهما، وهو دفع الضرر عنهما.
وقال الجمهور (غير الحنفية) (5) : لا شفعة إلا لشريك في ذات المبيع، لم يقاسم (أي أن حقه مشاع لم يقسم) فلا شفعة عندهم لشريك مقاسم، ولا لشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع، ولا للجار.
__________
(1) البدائع: 4/5، تكملة الفتح: 406/7، 414، 436، تبيين الحقائق: 239/5-241، اللباب: 106/2، الدر المختار: 155/5.
(2) سبق تخريجه، أخرجه البخاري عن أبي رافع مولى النبي صلّى الله عليه وسلم (نصب الراية: 174/4) .
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وأحمد في مسنده، والطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، من حديث الحسن عن سمرة (نصب الراية: 172/4) .
(4) من حديث جابر عند الترمذي.
(5) بداية المجتهد: 253/2، الشرح الكبير: 473/3، الشرح الصغير: 631/3، مغني المحتاج: 297/2، المهذب: 377/1 وما بعدها، المغني: 285/5 وما بعدها، 357، كشاف القناع: 149/4، 182، القوانين الفقهية: ص 286، المحلى: 115/9، م1598.(6/648)
وتثبت الشفعة عند المالكية والشافعية والظاهرية للذمي الكافر على المسلم، كما قال الحنفية. ولا تثبت للكافر عند الحنابلة في بيع عقار لمسلم، للحديث النبوي: «لا شفعة لنصراني» (1) فهو يخص عموم ما احتجوا به، ولأن الأخذ بالشفعة يختص به العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان، والكافر ممنوع من ذلك بالنسبة للمسلم، ولأن في شركته ضرراً بالمسلم. ولكن رأي الجمهور في هذا أرجح، بسبب ضعف الحديث الذي احتج به الحنابلة.
واتفق الفقهاء ماعدا الحنابلة على أن الشفعة تثبت للذمي على الذمي، لعموم الأخبار الواردة في الشفعة، ولأنهما تساويا في الدين والحرمة، فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلم على المسلم. وتثبت الشفعة لأهل البدع الذين حكم بإسلامهم؛ لأن عموم الأدلة يقتضي ثبوتها لكل شريك. وأما أصحاب البدع الذين حكم بكفرهم فلا شفعة لهم على مسلم عند الحنابلة، بخلاف الجمهور (2) .
__________
(1) رواه الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس، وأبي بكر، لكن في إسنادهما بابل بن نجيج، ضعفه الدارقطني وابن عدي.
(2) المغني: 358/5 وما بعدها، كشاف القناع: 183/4.(6/649)
وأدلة الجمهور: حديث جابر السابق: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقعت الحدود، وصرِّفت الطرق، فلا شفعة» وحديث سعيد بن المسيب: «إذا قسمت الأرض، وحُدَّت، فلا شفعة فيها» (1) ، فإذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى ألا تكون واجبة للجار، والشريك المقاسم إذا قاسم: جارٌ.
ولأن الشفعة تثبت على خلاف الأصل، فيقتصر فيها على مورد النص.
وأما حديث أبي رافع: «الجار أحق بصقبه» فليس بصريح في الشفعة، فيحتمل أنه أراد بالصقب: إحسان جاره وصلته وعيادته ونحوها. وخبر جابر صريح صحيح، فيقدم. وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال، فحديث سمرة يرويه عنه الحسن، ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة. ويتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة، فيكون لفظ الجار مراداً به الشريك. وهذا الرأي في تقديري أولى؛ لأن الشفعة تثير مشكلات متعددة، والأصل المقرر في الشريعة هو حرية التعاقد، فيقتصر فيها على حالة الشركة فقط.
وقد توسط ابن القيم بين الرأيين، فقرر ثبوت الشفعة للجار إذا كان شريكاً مع جاره في حق من حقوق الارتفاق الخاصة، مثل الطريق أو الشرب، وإلا فلا شفعة له (2) .
وارتأى الشوكاني وبعض الشافعية هذا الحل الوسط عملاً بلفظ في حديث جابر: «إذا كان طريقهما واحداً» (3)
ثانياً - مراتب الشفعة (أو أسباب استحقاقها) وكيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء: قال الحنفية (4) : الشفعة واجبة للخليط (الشريك) في نفس المبيع، ثم إذا لم يكن، أو كان وسَلَّم (تنازل عن الشفعة) تثبت للشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة بالمبيع: وهو الذي قاسم وبقيت له شركة في حق العقار الخاص، كالشِّرب والطريق الخاصين، ثم تثبت الشفعة لجار ملاصق.
__________
(1) رواه أبو داود، ومالك مرسلاً، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
(2) راجع أعلام الموقعين: 123/2-132، تحقيق عبد الحميد.
(3) نيل الأوطار: 333/5.
(4) تكملة الفتح: 406/7، 412 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 154/5 وما بعدها، البدائع: 8/5-9، تبيين الحقائق: 239/5، اللباب: 106/2 وما بعدها، م (1008) مجلة.(6/650)
ولا فرق في ثبوت حق الشفعة لصاحب حق الارتفاق بين الأرض المجاورة للمبيع والبعيدة عنه، ولا بين التي تسقى من المجرى الخاص مباشرة، أو من جدول مأخوذ منه، ما دام أن الكل يشرب من المجرى، وأن سبب الاستحقاق واحد: وهو الاشتراك في المرفق الخاص.
والمقصود من الشِّرب الخاص عند أبي حنيفة ومحمد (1) : شرب نهر صغير: وهو الذي لا يجري فيه أصغر السفن، وما تجري فيه السفن فهو عام، وعامة المشايخ على أن الشركاء في النهر إن كانوا يحصون، فصغير، وإلا فكبير. وما لا يحصى: قيل: أربعون، وقيل: خمس مئة، وقيل: الأصح تفويضه إلى رأي كل مجتهد في زمان.
والمقصود بالطريق الخاص: هو الذي لا يكون نافذاً، فكل أهله شفعاء. فإن كان الشرب والطريق عامين، فلا شفعة بهما. والمراد بعدم نفاذ الطريق: أن يكون بحيث يمنع أهله من أن يستطرقه غيرهم.
وتصور الشفعة بسبب الشرب مثلاً: إذا بيعت أرض لها حق الشرب في مجرى نهر خاص مشترك بين قوم تسقى أراضيهم منه، فلكل أهل الشرب الشفعة، سواء أكانت أراضيهم المجاورة للنهر ملاصقة له، أم بعيدة عنه.
__________
(1) وقال أبو يوسف: الشرب الخاص: أن يكون نهراً يسقى منه قراحان أو ثلاثة، وما زاد على ذلك فهو عام (اللباب: 107/2) والقراح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر.(6/651)
ودليل الحنفية على ترتيب الشفعاء على النحو المذكور (الشريك في المبيع، ثم شريك الارتفاق، ثم الجار) هو قوله عليه الصلاة والسلام: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع» (1) ولأن الاتصال في المبيع أقوى من غيره، والاتصال في حق الارتفاق أقوى من الجار؛ لأنه اشتراك في مرافق الملك، والترجيح يكون بقوة السبب؛ ولأن دفع ضرر مؤنة القسمة، وإن لم يصلح علة عند الحنفية لاستحقاق الشفعة، صلح مرجحاً للأخذ عند تزاحم الشفعاء.
كيفية التوزيع عند تزاحم الشفعاء:
يتبين مما سبق كيفية توزيع حق الشفعة عند تزاحم الشفعاء، بأن كانوا أكثر من واحد، وكل منهم يطلب الشفعة.
أـ فإن لم يكونوا من مرتبة واحدة: بأن كان أحدهم شريكاً في المبيع، والآخر شريكاً في حق الارتفاق، والآخر جاراً ملاصقاً، فيقدم الشريك في المبيع أولاً، ثم الشريك في حق المبيع (حق الارتفاق) ، ثم الجار (م 1009) مجلة.
والمشارك في حائط الدار في حكم المشارك في الدار نفسها. وأما صاحب الأخشاب الممتدة على حائط جاره، فيعد جاراً ملاصقاً، لا شريكاً (م 1012) مجلة.
وكل من صاحب الطابق الأعلى والأسفل: جار ملاصق (م 1011) مجلة. وحق الشرب مقدم على حق الطريق (م 1016) مجلة. وإذا باع صاحب حق الشرب أو الطريق الخاص أرضه فقط، دون حق الارتفاق، فليس للشركاء في الارتفاق شفعة (م 1015) مجلة.
وإذا اجتمع صنفان من الشركاء يقدم الأخص على الأعم، فالمشترك في شرب من جدول من الشرب أولى من المشترك في الشرب (م 1014) .
__________
(1) قال عنه الزيلعي: غريب: وقال عنه ابن الجوزي: إنه حديث لا يعرف. وقال شريح: «الخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره» وقال إبراهيم النخعي: الشريك أحق بالشفعة، فإن لم يكن شريك، فالجار، والخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق ممن سواه» (نصب الراية: 176/4) .(6/652)
ب ـ وإن كان الشفعاء من مرتبة واحدة، كالشركاء في المبيع، قسم العقار المشفوع فيه بين الطالبين جميعاً، بالتساوي بحسب عدد الرؤوس، لا بمقدار الملك أو السهام، عند الحنفية (1) والظاهرية (2) ، لاستوائهم في سبب استحقاق الشفعة، وهو الاتصال بالشركة أو الجوار، أي لأنهم متساوون في أصل الملك.
وقال الجمهور (3) (غير الحنفية والظاهرية) : يقسم العقار المشفوع فيه بين الشفعاء على قدر حصصهم أو أنصبائهم في الملك، لا على الرؤوس؛ لأن الشفعة حق ناشئ بسبب الملك، فكان على قدر الملك، كالغلة والثمرة والأجرة المستفادة من الملك، وكالربح في شركة الأموال، فيأخذ كل واحد من الشركاء الشفعاء بقدر ما يملكه في العقار (المشفوع به وفيه) .
فلو كانت الأرض بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فباع الأول حصته، أخذ الثاني سهمين، والثالث سهماً. ولأن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، والضرر داخل على كل واحد من الشركاء بحسب نسبة ما يملكه، لا بحسب التساوي، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفع الضرر على تلك النسبة من الحصص. وقال المالكية في تزاحم الشركاء الشفعاء (4) : يقدم في الأخذ بالشفعة الأخص في الشركة على غيره، وهو المشارك في السهم أي الفرض، فلو مات ذو عقار عن جدتين وزوجتين وأختين، فباعت إحداهن نصيبها، فالشفعة لمن شاركها في السهم، دون بقية الورثة، حتى ولو كان المشارك في السهم أختاً لأب مع أخت شقيقه، أو بنتَ ابن مع بنت، فإذا باعت الشقيقة أو البنت نصيبها، فللأخت لأب أو لبنت الابن الأخذ بالشفعة، دون العاصب.
ويدخل الأخص (5) من ذوي السهام (الفروض) على الأعم، وهو غير المشارك في السهم، أي غير ذوي الفروض وهو غير الأقوى في القرابة، كالعاصب
__________
(1) البدائع: 6/5، تبيين الحقائق: 241/5، الكتاب مع اللباب: 116/2، الدر المختار: 154/5، تكملة الفتح: 414/7، م 1013 مجلة.
(2) المحلى: 120/9، م 1609.
(3) الشرح الصغير: 646/3، الشرح الكبير: 486/3 وما بعدها، بداية المجتهد: 257/2، القوانين الفقهية ص 287، مغني المحتاج: 305/2، المهذب: 381/1، 335/5، كشاف القناع: 164/4.
(4) الشرح الكبير: 492/3، الشرح الصغير: 650/3 وما بعدها.
(5) الأخص: أي الأقوى والأزيد في القرب.(6/653)
وغيره، فإذا مات شخص عن بنت فأكثر، وعن أخوين أو عمين، فباع أحد الأخوين، فإن البنات يدخلن في الشفعة، ولا يختص الحق بالأخ أو العم الذي لم يبع. وإذا مات شخص عن ثلاث بنات، ثم ماتت إحداهن عن بنتين، فباعت إحدى أخوات الميتة حصتها، فأولاد الميتة يدخلن على خالاتهن، إذ الطبقة السفلى أخص؛ لأنهن أقرب للميت الثاني، والعليا أعم. ويدخل الوارث ذو الفرض أو العاصب على الموصى لهم بعقار، باع أحدهم حصته، فلا يختص بالشفعة بقية الموصى لهم، بل يدخل معه الوارث.
ثم يقدم الوارث مطلقاً، سواء أكان ذا فرض أم عاصباً، على أجنبي.
ثم يقدم الأجنبي، إن أسقط الوارث حقه.
ثالثاً ـ غيبة بعض الشفعاء:
قال الحنفية (1) : لو كان بعض الشفعاء حين البيع وطلب الشفعة غائباً، فطلبها الحاضر، يقضى له بالشفعة؛ لأن الحاضر ثابت بيقين، والغائب مشكوك في طلبه الشفعة، فلا يؤخر الحاضر؛ لأن المشكوك فيه لا يزاحم المتيقن، لاحتمال عدم طلب الغائب، فلا يؤخر بالشك.
ثم إذا جاء الغائب وطلب الشفعة، وكان مع الحاضر في مرتبة واحدة، قاسم الحاضر فيما أخذ، أي تنقض القسمة الأولى، ويعاد تقسيم العقار.
وإن لم يكن الغائب في مرتبة واحدة مع الحاضر الذي أخذ بالشفعة ـ وهذا لا يتصور إلا عند الحنفية ـ كالشريك والجار، فإن كان الغائب فوق الحاضر (أعلى منه) كالشريك مع الجار قضي له بكل المشفوع فيه، وإن كان دونه كالجار مع الشريك منع من الشفعة.
__________
(1) البدائع: 6/5، الدر المختار: 156/5، تبيين الحقائق: 242/5.(6/654)
ويتفق المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية (1) مع الحنفية في ثبوت حق الشفعة للغائب، لعموم قوله عليه السلام: «الشفعة فيما لم يقسم» ولأن الشفعة حق مالي، وجد سببه بالنسبة إلى الغائب، فيثبت له، كالإرث، ولأن الغائب شريك لم يعلم بالبيع، فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر، إذا كتم عنه البيع، ويندفع ضرر المشتري المشفوع عليه بدفع القيمة له.
رابعاً ـ إسقاط بعض الشفعاء حقه:
قال الحنفية (2) : إذ أسقط بعض الشفعاء حقه:
أـ فإن كان قبل أن يقضى لهم، فلمن بقي أخذ كل المشفوع فيه، لزوال المزاحمة.
ب ـ وأما إن أسقط حقه بعد القضاء بالشفعة، فليس لمن بقي أخذ نصيب التارك؛ لأنه بالقضاء قطع حق كل واحد منهم في نصيب الآخر.
وقال المالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة (3) : إذا أسقط بعض الشفعاء حقه في الشفعة، بأن عفا، سقط حقه، كسائر الحقوق المالية، وتخير الآخر بين أخذ جميع المشفوع فيه، أو تركه كله، وليس له أخذ حقه فقط، أو الاقتصار على حصته، لأن الشفيع الواحد إذا أسقط بعض حقه، سقط كله كالقصاص، لئلا تتبعض الصفقة على المشتري. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم هذا؛ لأن في أخذ البعض إضراراً بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر.
__________
(1) الشرح الكبير: 490/3، مغني المحتاج: 306/2، المغني: 305/5 وما بعدها، كشاف القناع: 164/4، المحلى: 115/9، م 1598، الشرح الصغير: 644/3.
(2) الدر المختار: 156/5، تبيين الحقائق: 241/5، م 1043 مجلة.
(3) الشرح الكبير: 490/3، مغني المحتاج: 306/2، كشاف القناع: 164/4، المغني: 338/5.(6/655)
المبحث الرابع ـ أحكام الشفعة:
أولاً ـ طريق التملك بالشفعة:
قال الحنفية (1) : الشفعة تجب بعقد البيع أي تستحق بعد البيع، حتى ولو كان البيع فاسداً وسقط الفسخ بوجه ما، أو كان مشتملاً على خيار للمشتري، ولا شفعة بمجرد الشراء الفاسد لأنه مستحق الفسخ شرعاً، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد، فلا يجوز، فإن سقط الفسخ بوجه من الوجوه كالتصرف بالمبيع أو البناء عليه، وجبت الشفعة لزوال المانع. كما لا شفعة إذا كان الخيار للبائع؛ لأنه يمنع زوال الملك عن البائع، أما خيار المشتري فلا يمنع زوال الملك عن البائع، والشفعة تبتنى عليه.
ولا بد من طلب المواثبة (أي طلب الشفعة كما سمع، على وجه السرعة) ، وتستقر بالإشهاد بعد الطلب، أي بالطلب الثاني: وهو طلب التقرير، وتملك بالأخذ بالتراضي، أو بقضاء القاضي.
أي أن طريق التملك بالشفعة للشفيع يكون بأحد طريقين: إما بتسليم المشتري المبيع للشفيع بالتراضي، وإما بقضاء القاضي أي بحكم الحاكم من غير أخذ؛ لأن الملك للمشتري قد تم بالشراء، فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي، أو قضاء القاضي، كما في الرجوع في الهبة؛ لأن للحاكم ولاية عامة، فيقدر على القضاء في ضمن الحكم بالحق.
ويترتب عليه: أنه لا يثبت للشفيع في شفعته شيء من أحكام الملك قبل تملكه بأحد الأمرين المذكورين، فلا تورث عنه عند الحنفية إذا مات في هذه الحالة، وتبطل شفعته إذا باع داره التي يشفع بها، ولو بيعت دار بجنبها في هذه الحالة لا يستحقها بالشفعة لعدم ملكه فيها.
__________
(1) البدائع: 23/5 وما بعدها، تكملة الفتح: 417/7، تبيين الحقائق: 242/5، 254، الدر المختار: 154/5، اللباب: 107/2، 114، م 1036، 1038 مجلة.(6/656)
والتملك بأحد هذين الطريقين متفق عليه بين المذاهب (1) ، لكن قال المالكية: تملك الشفعة بأحد أمور ثلاثة: بحكم من حاكم، أو دفع ثمن للمشتري، أو إشهاد بالأخذ بالشفعة ولو في غيبة المشتري.
ولا شفعة عند غير الحنفية في بيع فاسد؛ لأنه باطل عندهم أي منعدم شرعاً. واستثنى المالكية حالة تصرف المشتري بشراء فاسد بالشيء إلى غيره ببيع صحيح، فللشفيع أن يأخذه من المشتري الثاني بما دفعه من الثمن. فإن طرأ في يد المشتري على المبيع بيعاً فاسداً ما يغير ذاته كالهدم مثلاً، فللشفيع الأخذ بما لزم المشتري: وهو القيمة إن كان الفساد متفقاً عليه، والثمن إن كان الفساد مختلفاً فيه.
وتملك العقار بالشفعة هو بمنزلة شراء جديد مبتدأ، فيثبت للشفيع حق الرد بخيار الرؤية وخيار العيب (2) ، كما هو مقرر في كل عقد بيع.
والذي يتملكه الشفيع بالشفعة: هو الذي ملكه المشتري بالشراء، سواء ملكه
__________
(1) الشرح الصغير: 640/3، 647، مغني المحتاج: 300/2، كشاف القناع: 177/4، المغني: 346/5 وما بعدها، الشرح الكبير: 487/3.
(2) البدائع: 24/5، م 1037 مجلة، تبيين الحقائق: 246/5 وما بعدها.(6/657)
أصلاً، أو تبعاً لغيره إذا كان متصلاً به وقت التملك بالشفعة، كالبناء والغرس والزرع والثمر. وهذا استحسان عند الحنفية؛ لأن الحق إذا ثبت في العقار، ثبت فيما هو تبع له إن كان منقولاً متصلاً به؛ لأن حكم التبع حكم الأصل (1) .
ثانياً ـ ما يلزم الشفيع دفعه أو ما يؤخذ به المشفوع:
1) ـ الثمن الواجب دفعه:
اتفق الفقهاء على أن الشفيع يأخذ المبيع بالثمن، أو العوض الذي ملك به، أوبمثل الثمن الذي تملك به المشتري، لا بمثل المبيع الذي يملكه المشتري؛ لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما يملك به (2) قدراً وجنساً، لحديث جابر «فهو أحق به بالثمن» (3) ، كما يلزم بما أنفقه المشتري كأجرة دلال وكاتب ورسوم، فإن كان الثمن مثلياً كالمكيل والموزون، أخذه الشفيع بقيمته (أي قيمة الثمن) ؛ لأنها بدله في القرض والإتلاف، وقت لزوم العقد؛ لأنه حين استحقاق الأخذ.
وإن بيع عقار بعقار (مقايضة) وكان شفيعهما واحداً، أخذ الشفيع كل واحد من العقارين بقيمة الآخر، لأنه بدله، وهو من ذوات القيم (القيميات) ، فيأخذه بقيمته. وإن اختلف شفيعهما، يأخذ شفيع كل منهما ماله فيه الشفعة بقيمة الآخر.
وإن اشترى ذمي داراً بخمر أو خنزير، وكان الشفيع ذمياً، أخذها بمثل
__________
(1) البدائع: 27/5 وما بعدها.
(2) تكملة الفتح: 427/7، تبيين الحقائق: 249/5، اللباب: 114/2-115، الشرح الصغير: 635/3، 637، مغني المحتاج: 301/2، المهذب: 378/1 وما بعدها، المغني: 322/5، كشاف القناع: 177/4، بداية المجتهد: 256/2.
(3) رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المتر جم.(6/658)
الخمر، وقيمة الخنزير، وإن كان الشفيع مسلماً أخذها عند غير الحنابلة بقيمة الخمر والخنزير. أما الخنزير فظاهر أنه مال قيمي، وأما الخمر فلمنع المسلم عن التصرف فيه، فالتحق بغير المثلي.
وتحسب قيمة الشيء المبيع يوم البيع، لا يوم الأخذ بالشفعة، باتفاق الفقهاء، لأنه وقت إثبات العوض، واستحقاق الشفعة.
وقال الحنابلة (1) : لا شفعة فيما اشتراه الذمي بخمر أو خنزير، لأنهما ليسا بمال.
2) ـ الحط من الثمن أو الزيادة عليه:
قال الحنفية (2) : إذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن سواء قبل الأخذ بالشفعة أم بعدها، سقط قدر المحطوط عن الشفيع؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد، فيظهر ذلك في حق الشفيع؛ لأنه يأخذ الشفعة بالثمن، والثمن هو الباقي المستقر عليه.
أما إن حط البائع عن المشتري جميع الثمن، لم يسقط عن الشفيع منه شيء؛ لأن حط الكل لا يلتحق بأصل العقد بحال، لخروج العقد عن موضوعه، فيصبح هبة، ولم يبق ما يعد ثمناً.
وإذا زاد المشتري البائع في الثمن، أو جَدَّد العقد بأكثر من الثمن الأول، لم تلزم تلك الزيادة الشفيع، لأن في الزيادة ضرراً به، لاستحقاقه الأخذ بالثمن الأول الأصلي، بخلاف مسألة الحط من الثمن، لأن فيه منفعة له.
والخلاصة: أنه يثبت في حق الشفيع الحط أو النقص من الثمن دون الزيادة.
واتفق بقية الفقهاء مع الحنفية على أنه لو حط البائع جميع الثمن، فلا شفعة، لانتفاء البيع.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : لو حط بعض الثمن عن المشتري أو زيد قبل لزوم العقد أي في مدة الخيار، انحط عن الشفيع مقدار النقص، ويلزم بالزيادة؛ لأن حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد، وزال الخيار، والتغيير يلحق العقد. فأما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد، فحط أو زيد في الثمن، لم يلحق بالعقد؛ لأن النقص حينئذ إبراء مبتدأ جديد، ولا يثبت ذلك في حق الشفيع، والزيادة بعد مدة الخيار هبة، تطبق عليها شروط الهبة.
3) ـ تأجيل الثمن:
قال الحنفية ما عدا زفر، والشافعية في الأظهر من أقوال الشافعي في الجديد (4) : إذا أجل الثمن كله أو بعضه، ليس للشفيع الاستفادة من هذا الأجل الممنوح للمشتري، وإنما يكون الشفيع بالخيار بين أن يعجل (يدفع الثمن حالاً) ويأخذ المبيع (أو الشقص أي الحصة) في الحال، أو يصبر حتى ينقضي الأجل، ولا يسقط حقه بتأخيره إلى حلول الأجل، لعذره، لكن يجب عليه طلب الشفعة في حينها، وإلا سقط حقه فيها؛ لأن العقد هو شرط ثبوتها، وقد وجد.
والسبب في عدم إفادته من الأجل: هو أن الشفعة ليست تحويل الصفقة بصفتها للشفيع من المشتري، وإنما هي نقض العقد الذي تم بين البائع والمشتري، ثم انعقاد بيع آخر للشفيع.
__________
(1) كشاف القناع: 152/4.
(2) المبسوط: 107/14، الكتاب مع اللباب: 115/2 وما بعدها، تكملة الفتح: 427/7، تبيين الحقائق: 248/5 وما بعدها، البدائع: 27/5.
(3) نهاية المحتاج: 149/4، المغني: 322/5، كشاف القناع: 177/4.
(4) المبسوط: 103/14، البدائع: 24/5، 27، تكملة الفتح: 428/7، تبيين الحقائق: 249/5، نهاية المحتاج: 150/4، مغني المحتاج: 301/2، الإفصاح لابن هبيرة: ص277.(6/659)
وقال زفر: للشفيع الاستفادة من الأجل؛ لأن الأجل وصف في الثمن كالزيافة، والأخذ بالشفعة يكون بالثمن، فيأخذه به وصفاً وأصلاً.
وقال المالكية والحنابلة (1) : للشفيع الاستفادة من تأجيل الثمن الذي تم به العقد، إذا كان مليئاً ثقة، أو كفله مليء ثقة. فإن لم يكن موسراً، ولا ضمنه مليء، وجب عليه دفع الثمن حالاً، رعاية للمشتري. وهذا الرأي أولى بالاتباع ضماناً لمصلحة المشتري الذي فقد الصفقة بسبب الشفعة.
4) ـ هل يتوقف القضاء بالشفعة على دفع الشفيع الثمن؟
قال الحنفية في ظاهر الرواية، والشافعية والمالكية والحنابلة (2) : لا يشترط في التملك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري، فلا يتوقف صدور الحكم القضائي بالشفعة على إحضار الشفيع الثمن إلى مجلس القضاء؛ لأن حقه ثبت بمجرد البيع لأجنبي دفعاً للضرر عنه، فصار كما لو صدر الشراء له من البائع من أول الأمر، أو لأن الشفيع يصير متملكاً المشفوع فيه بمقتضى القضاء بالشفعة، فكأنه اشتراه من البائع، والتملك بالشراء لا يتوقف على إحضار الثمن، كالشراء أو البيع المبتدأ بجامع أنه تملك بعوض.
لكن قال المالكية: إن قال الشفيع: أنا آخذ الشفعة، أجل ثلاثة أيام لإحضار الثمن، فإن أتى به فيها وإلا سقطت شفعته.
وقال محمد بن الحسن: لا يقضي القاضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، دفعاً للضرر عن المشتري؛ لأن الشفيع ربما يكون مفلساً، فيتوقف القضاء على إحضار الثمن، ويؤجله القاضي يومين أو ثلاثة تمكيناً له من نقد الثمن، إذ لا يصح دفع الضرر عن الشفيع بإضرار غيره.
__________
(1) الشرح الصغير: 637/3، بداية المجتهد: 256/2، المغني: 323/5، كشاف القناع: 179/4.
(2) المبسوط: 119/14، تبيين الحقائق: 245/5، تكملة الفتح: 422/7، اللباب: 112/2، البدائع: 24/5 وما بعدها، مغني المحتاج: 300/2، الشرح الصغير: 647/3-649، كشاف القناع: 177/4.(6/660)
لكن ما يخشاه محمد من هذا المحذور يمكن دفعه، كما يقول أبو حنيفة وأبو يوسف، بأن للمشتري حبس العين في يده، حتى يدفع الشفيع الثمن.
ووفق الكاساني بين الرأيين، فقال: هذا عندي ليس باختلاف على الحقيقة، وللقاضي أن يقضي بالشفعة قبل إحضار الثمن بلا خلاف؛ لأن لفظ محمد رحمه الله: «ليس ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة، حتى يحضر الشفيع المال» لا يدل على أنه ليس له أن يقضي، بل هو إشارة إلى نوع احتياط، ولهذا لو قضى جاز، ونفذ قضاؤه، نص عليه محمد.
5) ـ استحقاق المشفوع فيه:
إذا استحق المشفوع فيه فمن الذي يتحمل العهدة وضمان الثمن؟ الأمر مختلف فيه على رأيين. والمراد بالعهدة: رجوع من انتقل الملك إليه وهو الشفيع على من انتقل الملك عنه من بائع أو مشتر بالثمن عند الاستحقاق أو الأرش (التعويض) عند ظهور عيب من العيوب.
فقال الحنفية (1) : إن ضمان الثمن عند الاستحقاق يكون على المشتري، إن أخذ الشفيع المبيع منه، ونقده الثمن؛ لأنه هو الذي قبض الثمن، ولأن المبيع قد انتقل منه إلى الشفيع. وهذا هو الغالب.
وقد يكون على البائع، إذا كان الشفيع قد أخذ المبيع منه قبل تسليمه إلى المشتري؛ لأنه هو الذي قبض الثمن، وانتقل المبيع منه إلى الشفيع.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) : إذا أخذ الشفيع الشقص (الجزء المبيع المشترك فيه) فظهر مستحقاً أو معيباً، فيرجع بالثمن أو الأرش (التعويض) على المشتري، ويرجع المشتري على البائع؛ لأن الشفيع أخذ المبيع من المشتري على أنه ملكه، فيرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه.
6) ـ اختلاف الشفيع والمشتري في قدر الثمن:
إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فادعى المشتري ـ بطبيعة الحال ـ الأكثر، وادعى الشفيع الأقل، فمن الذي يصدق قوله؟
__________
(1) تكملة الفتح: 433/7، الدر المختار: 160/5، الكتاب مع اللباب: 119/2، البدائع: 30/5.
(2) الشرح الكبير: 493/3، المهذب: 383/1، المغني: 344/5 وما بعدها، كشاف القناع: 182/4.(6/661)
يرى جمهور الفقهاء (في المذاهب الأربعة وغيرها) (1) : أن الشفيع والمشتري إذا اختلفا في قدر الثمن، فقال المشتري: اشتريته بمئة، وقال الشفيع: بل بخمسين، فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأنه أعلم بما باشره من الشفيع، ولأن الشفيع مدع الأقل، والمشفوع عليه مدعى عليه، ينكر ذلك، والقول قول المنكر مع يمينه.
إلا أن المالكية قيدوا الأخذ بقول المشتري بقيد، فقرروا أن القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه تقدير المقدرين، أو ثمن المثل، وإلا أي إن أتى بما لا يشبه تقديرهم، بأن ادعى ما شأنه ألا يكون ثمناً، فالقول قول الشفيع إن أتى بما يشبه التقدير المعقول.
فإن لم يكن قول كل من المشتري والشفيع مشبهاً التقدير المعقول، حُلِّف كل منهما على مقتضى دعواه، ورد دعوى صاحبه، ورد الثمن إلى القيمة الوسط بين الناس وهي قيمة الحصة يوم البيع، كما لو نكلا معاً عن حلف اليمين.
وأضاف الحنفية (2) أن القول قول المشتري إذا اختلف مع الشفيع في جنس الثمن أو في صفته، مثال الأول: أن يقول المشتري: اشتريت بمئة دينار، وقال الشفيع: لا، بل بألف درهم، فالقول قول المشتري؛ لأن الشفيع يدعي عليه التملك بهذا الجنس، وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه، ولأن المشتري أعرف بجنس الثمن من الشفيع؛ لأن الشراء وجد منه، لا من الشفيع، فكان أعرف به من الشفيع، فيرجع في معرفة الجنس إليه.
ومثال الاختلاف في صفة الثمن: أن يقول المشتري: اشتريت بثمن معجل، وقال الشفيع: لا، بل اشتريته بثمن مؤجل، فالقول قول المشتري؛ لأن الحلول في الثمن أصل، والأجل عارض، والمشتري يتمسك بالأصل، فيكون القول قوله بيمينه، ولأن العاقد أعرف بصفة الثمن من غيره، ولأن الأجل يثبت بالشرط، والشفيع يدعي عليه شرط التأجيل، وهو ينكر، فكان القول قوله.
__________
(1) البدائع: 30/5-32، تكملة الفتح: 424/7، اللباب مع الكتاب: 115/2، بداية المجتهد: 261/2، الشرح الصغير: 656/3، مغني المحتاج: 304/2، المغني: 328/5، 333.
(2) البدائع: 30/5 - 32.(6/662)
المبحث الخامس ـ شروط الشفعة:
للأخذ بالشفعة شروط، وقع في بعضها اختلاف بين الفقهاء، وهي ما يلي:
1 - خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً لا خيار فيه.
2 - أن يكون العقد عقد معاوضة وهو البيع وما في معناه.
3 - أن يكون العقد صحيحاً.
4 - أن يكون الشفيع مالكاً وقت الشراء وإلى القضاء له بالشفعة: (شرط ملك الشفيع) .
5 - عدم رضا الشفيع بالبيع.
واشترط الجمهور غير الحنفية أن يكون الشفيع شريكاً، فلا شفعة لجار عندهم، وقد ذكر في بحث الشفيع، كما اشترطوا أن يكون المبيع شقصاً (جزءاً) مشاعاً مع شريك قابلاً لقسمة الإجبار، وقد ذكر في بحث المشفوع فيه، ولم يشترطه الحنفية.
واشترط كل الفقهاء أن يأخذ الشريك جميع الشقص المبيع، لئلا يتضرر المشتري بتبعيض الصفقة في حقه، بأخذ بعض المبيع، وترك البعض الآخر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته.
ولم أجد حاجة للكلام عن اشتراط كون المشفوع فيه عقاراً، لأن الكلام عنه في بحث مستقل في المبحث الثاني.
كما لا داعي للبحث في اشتراط عدم كون المشفوع فيه ملكاً للشفيع وقت البيع، فإن كان ملكاً له لم تجب الشفعة، لاستحالة تملك الإنسان مال نفسه. فهذا مفهوم بداهة، إذ لا يثير نزاعاً يؤدي إلى اللجوء إلى الشفعة. وأما اشتراط المبادرة إلى طلب الشفعة بالتراضي أو بالتقاضي، فمحله بحث مستقل في إجراءات الشفعة.(6/663)
الشرط الأول ـ خروج العقار عن ملك صاحبه خروجاً باتاً:
يجب أن يزول ملك البائع عن العقار المبيع، من طريق البيع البات النهائي اللازم الذي لا خيار فيه، فلا تستحق الشفعة في العقار إذا بيع بشرط الخيار. وهذا شرط متفق عليه بين المذاهب الأربعة، فقد اتفق فقهاؤهم على أن البيع المشتمل على خيار فيه للبائع، لا شفعة فيه، حتى يجب البيع أو يلزم. وعلى هذا لو كان الخيار لكل من العاقدين، فلا شفعة، لأجل خيار البائع.
واختلفوا في البيع المشتمل على خيار للمشتري، فقال الحنفية، والشافعية في الأظهر الراجح عندهم (1) : لو كان الخيار للمشتري، تجب الشفعة؛ لأن خياره عند الحنفية لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع، ولأن المبيع في زمن الخيار للمشتري على الراجح عند الشافعية. هذا في خيار الشرط.
أما خيار العيب والرؤية، فلا يمنع وجوب الشفعة؛ لأنه لا يمنع زوال ملك البائع.
وقال المالكية والحنابلة (2) : لا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه، سواء أكان الخيار لكل من البائع والمشتري، أم لأحدهما، فوجود الخيار للمشتري يمنع
__________
(1) البدائع: 13/5، الهداية مع تكملة الفتح: 438/7، تبيين الحقائق: 253/5 ومابعدها، الدر المختار: 160/5، 167، الكتاب مع اللباب: 114/2، مغني المحتاج: 299/2.
(2) بداية المجتهد: 256/2، الشرح الصغير: 633/3، المغني: 294/5، كشاف القناع: /4 181.(6/664)
الشفعة؛ لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري بالعقد بغير رضاه، ويوجب العهدة (1) عليه، ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن، فلم يجز، كما لو كان الخيار للبائع.
الشرط الثاني ـ أن يكون العقد عقد معاوضة:
لا يثبت الحق في الشفعة إلا إذا خرج العقار عن ملك صاحبه بعقد معاوضة، وهو البيع، أو ما في معناه كالهبة بشرط العوض إن تقابضا، والصلح عن مال لأنه معاوضة، سواء أكان العقار المبيع وقفاً أم غير وقف.
ففي البيع تجب الشفعة، لانتقال المبيع إلى المشتري بعوض، لحديث جابر السابق: «فإن باعه، ولم يؤذنه، فهو أحق به» . وفي الهبة بعوض تجب الشفعة عند الحنفية إن تقابضا، لوجود معنى المعاوضة، عند التقابض؛ لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض، فإن قبض أحدهما دون الآخر، فلا شفعة عند أئمة الحنفية الثلاثة (أبي حنيفة وصاحبيه) . وعند زفر: تجب الشفعة بنفس العقد؛ لأن الهبة بشرط العوض عند الثلاثة: تقع تبرعاً ابتداء، معاوضة انتهاء، وبناء عليه: يشترط ألا يكون الموهوب ولا عوضه شائعاً، لأنه هبة ابتداء. وعند زفر: تقع معاوضة ابتداء وانتهاء.
ولم يشترط التقابض عند الجمهور غير الحنفية في الهبة بشرط العوض (الثواب) ؛ لأن الهبة عندهم عقد لازم، ولأن الموهوب له يملك الموهوب بعوض هو مال، فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة.
__________
(1) المراد بالعهدة هنا: رجوع من انتقل الملك إليه من شفيع أو مشتر على من انتقل عنه الملك من بائع أو مشتر بالثمن أو الأرش عند استحقاق الشقص (الحصة من المبيع) أو عيبه (كشاف القناع: 182/4) .(6/665)
وتجب الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح، سواء أكان الصلح على الدار عند الحنفية عن إقرار أم إنكار، أم سكوت، لوجود معنى المعاوضة.
وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء في المشهور عن مالك (1) ، فلا شفعة بناء عليه إذا زالت ملكية البائع عن ملكه بلا عوض مطلقاً، كالهبة بغير شرط العوض، والوقف، والوصية والميراث؛ لأن الشفعة حق تملك جبري، يملك به المبيع جبراً عن المشتري بمثل ما ملك (أي بالثمن والتكاليف التي دفعها) . وهذه التصرفات تؤدي إلى نقل الملكية بغير عوض أي بالمجان، فلا يتأتى تحقق شرط الشارع في تملك الشفعة وهو البيع بمعاوضة وما في معناه.
لكن الفقهاء اختلفوا في التملك بعوض غير مالي، كالمهر، وبدل الخلع، أو أجر طبيب أو محام مثلاً، أو أجرة دار، أو عوض في الصلح عن دم عمد.
فقال الحنفية والحنابلة (2) : يشترط أن يكون عقد المعاوضة مال بمال، فلا شفعة إذا كان العوض غيرمال، كما في هذه الأحوال، لأن الشيء في المعاوضة غير المالية يشبه الموهوب والموروث، ولأن هذه الأعواض لا مثل لها، حتى يأخذ الشفيع الشيء بمثلها، فلا يمكن مراعاة شرط الشرع فيه، وهو التملك بما تملك به المشتري، فلم يكن مشروعاً. وأوضح الحنابلة أنه لا تجب الشفعة بفسخ يرجع به المبيع إلى البائع، كرده بعيب أو إقالة. وقال الحنفية: إذا اقتسم الشركاء العقار المشترك بينهم فلا شفعة لجارهم بالقسمة، لأنها ليست بمعاوضة مطلقاً، ولأن
الشريك أولى من الجار. وإذا سلّم (أي تنازل) الشفيع الشفعة، ثم رد المشتري ما اشتراه بخيار رؤية أو شرط أو عيب بقضاء قاض، فلا شفعة للشفيع؛ لأن هذا الرد فسخ تام، فعاد المبيع لقديم ملكه، والشفعة تكون في حالة إنشاء العقد. وإن كان الرد للمبيع بغير قضاء، أو تقايلا (فسخا) البيع، فللشفيع الشفعة؛ لأن الرد فسخ في حق الطرفين، وبيع جديد في حق شخص
__________
(1) البدائع: 11/5، تبيين الحقائق: 239/5، 252، الهداية مع التكملة: 436/7-438، الدر المختار: 157/5، 165، الكتاب مع اللباب: 110/2، بداية المجتهد: 255/2 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 287، الشرح الصغير: 633/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 298/2، المهذب: 376/1 وما بعدها، المغني: 291/5، كشاف القناع: 152/4.
(2) تبيين الحقائق: 229/5، 252-253، المغني: 292/5.(6/666)
ثالث، لوجود معنى البيع (وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي) والشفيع هنا هو الثالث (1) .
وقال المالكية والشافعية (2) : يكفي أن يكون العقد عقد معاوضة، سواء أكانت بمال أم غير مال، فتثبت الشفعة بالمعاوضة على غير مال؛ لأن الغرض من الشفعة دفع ضرر الدخيل، وهذا متحقق هنا، ولأنه عقار مملوك بعقد معاوضة، فأشبه البيع، ويطالب الشفيع حينئذ بدفع قيمة البدل، كما لو باعه بعرض تجاري؛ لأن هذه الأعواض أموال متقومة عندهم، فيؤخذ الشيء بقيمته عند تعذر الأخذ بالمثل، فيدفع الشفيع مهر المثل، وعوض الخلع.
الشرط الثالث ـ أن يكون العقد صحيحاً:
اتفق الفقهاء على هذا الشرط (3) ،لأن المطلوب هو زوال حق البائع في المبيع، فلا تثبت الشفعة في المشترى شراء فاسداً؛ لأن هذا العقد يجب ديناً نقضه، ورد المبيع إلى ملك بائعه، للتخلص من الفساد، فلا يكون البيع لازماً، لاحتمال فسخه من كل العاقدين، وفي إثبات الشفعة تقرير الفساد.
__________
(1) اللباب: 120/2 وما بعدها، كشاف القناع: 152/4 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 255/2، القوانين الفقهية: ص 287، مغني المحتاج: 298/2.
(3) البدائع: 13/5، تبيين الحقائق: 254/5، اللباب: 114/2، الشرح الصغير: 640/3، مغني المحتاج: 298/2، المغني: 291/5.(6/667)
لكن لو سقط حق فسخ البيع الفاسد بأسباب مسقطة للفسخ، كزيادة المبيع، وزوال ملك المشتري بالتصرف في المشترى إلى غيره، كان للشفيع عند الحنفية والمالكية (1) أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المانع قيام احتمال الفسخ ولقد زال المانع، كما لو باع شخص بشرط الخيار له، ثم أسقط الخيار، وجبت الشفعة لزوال المانع من ثبوت الحق، وهو الخيار، فكذا هو.
وفي حالة بيع المشتري الشيء المشترى شراء فاسداً، يكون الشفيع عند الحنفية بالخيار، إن شاء أخذ الشفعة بالبيع الأول، وإن شاء أخذها بالبيع الثاني؛ لأن حق الشفيع ثابت عند كل من البيعين، غير أنه إن أخذ بالبيع الثاني أخذ بالثمن، وإن أخذ بالبيع الأول، أخذ بقيمة المبيع يوم القبض؛ لأن البيع الفاسد يفيد الملك بقيمة المبيع لا بالثمن. وإنما تقدر القيمة يوم القبض؛ لأن المبيع بيعاً فاسداً مضمون بالقبض، كالمغصوب.
ورأي المالكية قريب من هذا، كما ظهر في مبدأ الكلام عن المبحث الرابع.
الشرط الرابع ـ ملك الشفيع المشفوع به وقت البيع:
اتفق الفقهاء على شرط كون الشفيع مالكاً ما يشفع به قبل البيع، واختلفوا في استمرار الملك حتى القضاء بالشفعة على رأيين:
فقال الحنفية (2) : يشترط استمرار ملك الشفيع حتى يقضى له بالشفعة، فلو بيع عقار، فطلبه الشريك أو الجار بالشفعة، ثم باع ما يشفع به، سقط حقه فيها؛ لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع (الشريك أو الجار عندهم) ولا ضرر يصيبه من المشتري بعد بيع ملكه.
__________
(1) البدائع، والشرح الصغير، المكان السابق.
(2) البدائع: 14/5، تكلمة الفتح: 446/7، الكتاب مع اللباب: 113/2، الدر المختار ورد المحتار: 157/5، 170.(6/668)
وكذا لو باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة، سقط حقه، سواء أكان عالماً ببيع الدار المشفوع فيها، أم لم يعلم.
وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) (1) : يشترط ثبوت ملك الشفيع وقت البيع فقط، ولايشترط استمرار الملك إلى وقت القضاء بالشفعة. وعليه نص الشافعية فقالوا: لو باع الشفيع حصته، أو أخرجها عن ملكه بغير البيع كالهبة، جاهلاً بالشفعة، فالأصح بطلانها، لزوال سببها، وهو الشركة أي حين البيع.
أـ ويترتب على هذا الشرط بالاتفاق أنه لا شفعة لشخص بدار يسكنها بالإجارة، أو الإعارة، ولا بدار باعها قبل بيع المشفوع فيه، ولا بدار جعلها مسجداً، ولا بدار جعلها وقفاً، فلا شفعة للوقف، أي ليس لناظر الوقف أن يطلب تملك العقار المبيع بجوار الأراضي الموقوفة، إذ لا مالك للوقف.
أما إذا بيع الوقف عند الحنفية القائلين بجواز الاستبدال بالعين الموقوفة للضرورة أو للحاجة والمصلحة، فيثبت حق الشفعة للجار؛ لأنه بالبيع يصبح غير موقوف، فيجوز أخذه بالشفعة.
كذلك تثبت الشفعة عند الحنفية في حالة بيع العقار الموقوف غير المحكوم به (2) ، كما تثبت في بيع الأراضي العشرية والخراجية لأنها مملوكة، بخلاف الأراضي السلطانية، فإنه لا شفعة فيها.
__________
(1) بداية المجتهد: 260/2، القوانين الفقهية: ص 287، مغني المحتاج: 298/2، 303، 308 وما بعدها، نهاية المحتاج: 308/4، المهذب: 383/1، المغني: 317/5، 346، غاية المنتهى: 263/2، كشاف القناع: 153/4، 158، 176، الشرح الصغير للدردير: 645/3، الشرح الكبير: 474/3، 487.
(2) يرى أبو حنيفة أن الوقف لا يلزم ويزول ملك الواقف عنه إلا إذا حكم به الحاكم، أو علقه الواقف بموته (الهداية: 10/3) .(6/669)
وأجاز المالكية (1) لا للسلطان الأخذ بالشفعة لبيت المال، كما إذا مات أحد الشريكين، ولا وارث له، فأخذ السلطان نصيبه لبيت المال، ثم باع الشريك الآخر حصته، فللسلطان الأخذ بالشفعة لبيت المال. وكما لو مات إنسان عن بنت مثلاً، فأخذت النصف، ثم باعته، كان للسلطان الأخذ من المشتري لبيت المال.
ب ـ ويتفرع على الخلاف السابق بين الفقهاء في شرط استمرار ملك المشفوع به: إرث حق الشفعة.
قال الحنفية: لا يثبت للوارث حق الأخذ بالشفعة إذا مات الشفيع بعد طلب الشفعة قبل القضاء، فليس للوارث الشفعة في عقار بيع في حياة مورثه؛ لأن الوارث لم يكن مالكاً ما ورثه وقت العقد.
وقال الجمهور: يثبت حق الشفعة للوارث، إذا طالب به الشفيع المورث بعد البيع قبل موته، بخلاف ما إذا مات قبل الطلب؛ لأن الوارث خليفة المورث، فله كل حقوق مورثه، ومنها حق الشفعة، دفعاً لضرر الدخيل عن نفسه.
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في إرث خيار الشرط: هو هل تورث الحقوق كما تورث الأموال؟ عند أبي حنيفة: لا تورث، وعند الجمهور: تورث (2) .
الشرط الخامس ـ عدم رضا الشفيع بالبيع وحكمه:
اتفق الفقهاء على اشتراط ألا يصدر من الشفيع ما يدل على رضاه ببيع العقار المشفوع فيه، فإن رضي بالبيع أو بحكمه قولاً، أو فعلاً بأن باع الشفيع المشفوع به أو سكت مدة طويلة من غير عذر، سقط حقه في طلب الشفعة؛ لأن الشفيع بالخيار بين الأخذ والترك؛ لأن الشفعة حق ثبت له لدفع الضرر عنه، فيخير بين أخذه وتركه.
وقدر المالكية مدة السكوت فقالوا: ألا يظهر من الشفيع ما يدل على إسقاط الشفعة من قول أو فعل أو سكوت مدة سنة كاملة بعد العقد فأكثر بلا مانع، مع علمه وحضوره.
لكن يشترط لسقوط هذا الحق: ألا يكون هناك تدليس أو خديعة للشفيع لإسقاط الشفعة، من
__________
(1) الشرح الصغير: 632/3، الشرح الكبير: 474/3.
(2) المبسوط: 116/14.(6/670)
طريق المشتري، أو الثمن، أو قدر المبيع نفسه (1) .
فإذا أخبر أن المشتري فلان، وكان المشتري بالفعل غيره؛ أو أن الثمن كذا، وكان الثمن بالفعل أقل أو من جنس أو نوع أو وصف آخر، أو أن المبيع جزء معين، وكان المبيع بالفعل جزءاً وأكثر أو كل المبيع، فسلم الشفعة أي أعرض عنها، ثم تبين الحقيقة والوافع، بقي حقه، وكان له الشفعة؛ لأنه إنما تركها لغرض بان خلافه ولم يتركه رغبة عنه.
لكن لو كان الأمر على عكس بعض هذه الحالات الثلاث السابقة، كأن أخبر بأن الثمن ألف، فبان أكثر من ألف، أو أن المبيع كله، فبان بعضه، أو أن الثمن مؤجل، فبان حالاً نقداً، سقط حقه في الشفعة، لأنه إذا لم يرغب فيه بالأقل، أو بالمؤجل، فبالأكثر، أو المعجل أولى. ومن رغب عن شراء الكل، رغب عن شراء البعض بالأولى، خوف ضرر الشركة. والحالة الأخيرة هي الرواية المشهورة (ظاهر الرواية) عند الحنفية، وهي مذهب المالكية، أي أن الشفعة تسقط إذا أخبر الشفيع أن شريكه باع الكل، فترك الشفعة، ثم تبين أنه لم يبع إلا النصف مثلاً.
وقال أبو يوسف والحنابلة: إن للشفيع في الحالة الأخيرة؛ لأنه قد يعجز عن ثمن الكل ويقدر على ثمن النصف مثلاً، وقد تكون حاجته إلى النصف لإتمام مرافق ملكه، ولا يحتاج إلى الكل.
والخلاصة عند الجمهور: أن الشفيع إذا أخبر بما هو الأنفع له، فترك الأخذ بالشفعة، بطل حقه، وإلا فلا.
الاحتيال لإسقاط الشفعة:
اتفق الحنفية على كراهية الحيلة تحريماً لإسقاط الشفعة بعد ثبوتها أي بعد البيع، أما الحيلة لدفع ثبوت الشفعة قبل البيع، فيروى عن أبي يوسف، وبقوله يفتى: أنه لا تكره، إذا كان الجار غير محتاج للمشفوع فيه؛ لأنها منع عن إثبات الحق، فلا يعد ضرراً. وتكره عند محمد؛ لأن الشفعة
__________
(1) البدائع: 15/5، 19-20، المبسوط: 105/14، 111، الدر المختار ورد المحتار: 173/5، اللباب: 118/2، الشرح الصغير: 643/3 وما بعدها، نهاية المحتاج: 159/4، المهذب: 379/1، مغني المحتاج: 308/2، المغني: 302/5، القوانين الفقهية: ص 286.(6/671)
إنما وجدت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة لما تحقق دفع الضرر (1) .
والخلاصة: أن المقرر عند الحنفية ومثلهم الشافعية: أنه يجوز الاحتيال لإسقاط الشفعة، كأن يقر له ببعض الملك ثم يبيعه الباقي.
أما الحنابلة والمالكية: فقد حرموا صراحة الاحتيال لإسقاط الشفعة، وإن فعل لم تسقط؛ لأنها شرعت لدفع الضرر، فلو سقطت بالتحيل لترتب الضرر (2) .
المبحث السادس ـ إجراءات الشفعة
بما أن الشفعة حق ضعيف كما يقول الفقهاء، فلا تكون سبيلاً للتملك بها إلا باتخاذ إجراءات خاصة بطلبها من الشفيع بمجرد العلم بالبيع، حتى يحكم له بها.
قال الحنفية: يلزم في الشفعة طلبات ثلاثة: هي طلب المواثبة، وطلب التقرير والإشهاد، وطلب الخصومة والتملك (3) . ويحسن قبل الكلام عن هذه الإجراءات بيان اختلاف الفقهاء حول وقت وجوب الشفعة.
وقت وجوب الشفعة: اشترط الحنفية طلب الشفعة فور العلم بالبيع؛ لأنها حق ضعيف، فيتقوى بالطلب الفوري بحسب المعتاد.
ولم يشترط الإمام مالك المطالبة بالشفعة على الفور، وإنما وقت وجوب الأخذ بالشفعة عنده متسع، وهو في حدود السنة بعد العقد، على أشهر الأقوال عنه (4) .
واشترط الشافعية على الأظهر (5) : المبادرة إلى طلب الشفعة على الفور، أي بعد علم الشفيع بالبيع؛ لأنها حق ثبت لدفع الضرر، فكان على الفور كالرد بالعيب، فإذا علم الشفيع بالبيع، فليبادر على العادة، فلو كان الشفيع في الصلاة أو في الحمام أو في حال قضاء الحاجة، لم يكلف قطع ما هو فيه، وإنما له التأخير
__________
(1) الهداية مع تكملة الفتح: 450/7، الدر المختار ورد المحتار: 173/5، اللباب: 118/2.
(2) المغني: 326/5 وما بعدها، كشاف القناع: 149/4 وما بعدها، الإفصاح: ص 276.
(3) م 1028 مجلة، البدائع: 17/5، مختصر الطحاوي: ص 120 وما بعدها، تكملة الفتح: 416/7، 418 وما بعدها، تبيين الحقائق: 242/5، الدر المختار: 157/5 وما بعدها، اللباب: 107/2، 112.
(4) الشرح الكبير: 487/3 وما بعدها، الشرح الصغير: 639/3، 645، بداية المجتهد: 259/2.
(5) المهذب: 380/1، مغني المحتاج: 307/2، حاشية الباجوري: 19/2، المحلي على المنهاج مع حاشية قليوبي وعميرة: 50/3.(6/672)
إلى الفراغ مما هو فيه. والضابط فيه: أن ما عد توانياً في طلب الشفعة أسقطها، وإلا فلا.
وإن كان مريضاً أو غائباً عن بلد المشتري، أو خائفاً من عدو، فليوكل إن قدر، وإلا بأن عجز عن التوكيل، فليشهد على طلب الشفعة رجلين عدلين أو عدلاً وامرأتين. فإن ترك الشفيع المقدور عليه من التوكيل والإشهاد، بطل حقه في الأظهر.
والحنابلة كالشافعية قالوا (1) : يشترط المطالبة بالشفعة على الفور بمجرد العلم بالبيع، بأن يشهد الشفيع على طلب الشفعة، حين يعلم بالبيع، إن لم يكن له عذر يمنعه من الطلب. ثم إذا أشهد على الطلب له أن يخاصم المشتري، ولو بعد أيام أو أشهر أو سنين.
وبه يتبين أن الجمهور يقولون: إن الشفعة على الفور، للحديث النبوي: «الشفعة كحل العقال» (2) ، ولأن ثبوتها على التراخي ربما أضر بالمشتري لعدم استقرار ملكه.
وأما المالكية: فلم يشترطوا الفورية، فلو سكت الشفيع بلا مانع سنة كاملة بعد العقد، فما دونها، أو غاب وعاد في أثناء السنة، ثم طلب الشفعة، أخذها؛ لأن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن الأحوال ما يدل على إسقاطه. لكن يحق للمشتري المطالبة عند الحاكم للشفيع بعد الشراء بأن يحدد موقفه، إما بالأخذ بالشفعة أو الترك، فإن أجاب بواحد منهما فظاهر، وإلا أسقط الحاكم شفعته.
__________
(1) كشاف القناع: 156/4، المغني: 299/5، 306 وما بعدها.
(2) ويروى «كنشطة العقال» رواه ابن ماجه، والبزار وابن عدي من حديث ابن عمر، وهو ضعيف (نصب الراية: 176/4 وما بعدها) .(6/673)
مراحل طلب الشفعة: يبدأ الشفيع بطلب الشفعة عند الحنفية كما يلي:
1 - طلب المواثبة: أي المبادرة والسرعة، وهو أن يطلب الشفيع في مجلس علمه بالبيع الأخذ بالشفعة، بلفظ يفهم منه طلبها مثل: أطلب الشفعة أو أنا طالبها، أو أنا شفيع المبيع وأطلبه بالشفعة ونحوه (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الشفعة لمن واثبها» (2) ولا يلزم الإشهاد من الشفيع على هذا الطلب، وإنما هو أفضل، لمخافة جحود أو إنكار الخصم (المشتري) الطلب في ساحة القضاء. فالمعتبر هو الطلب، وإنما الإشهاد ليثبت الطلب بالشهادة عند الإنكار، كالطلب والإشهاد لهدم الحائط المائل، لا يشترط الإشهاد للضمان، وإنما لإثبات سبب الضمان.
ويلاحظ أن أصح الروايتين عند الحنفية: هو بقاء الحق في الطلب ما دام الشفيع في مجلس العلم بالبيع، مهما امتد.
والأظهر عند الشافعية كما تقدم أن هذا الطلب على الفور.
وكذلك قال الحنابلة: الشفعة بالمواثبة ساعة العلم بالبيع أي على الفور.
وأما المالكية: فوقت الطلب عندهم كما تبين على التراخي، لمدة سنة، على أشهر أقوال مالك.
2 - طلب التقرير: وهو أن يتقدم الشفيع بطلب آخر يؤكد به طلبه الأول. إذ قد يكون الطلب الأول عن رغبة عارضة من الشفيع، ثم يتبين أمره وظروفه وإمكاناته المادية، فلا بد من هذا الطلب لتأكيد وتقرير الطلب الأول (3) .
ويشترط في هذا الطلب: أن يكون على فور الطلب الأول، والإشهاد عليه، بأن يشهد الشفيع على رغبته بالشفعة رجلين أو رجل وامرأتين، ومدة هذا الطلب ليست على فور المجلس في الأكثر، بل هي مقدرة بمدة التمكن من الإشهاد.
__________
(1) م (1029) مجلة.
(2) رواه الفقهاء في كتبهم، وهو كما قال الزيلعي عنه: غريب، وأخرجه عبد الرزاق من قول شريح: «إنما الشفعة لمن واثبها» فهو أثر، وليس بحديث (نصب الراية: 176/4) .
(3) البدائع: 18/5-19، تكملة الفتح: 419/7 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 158/5، تبيين الحقائق: 243/5 ومابعدها، اللباب: 108/2-109، م (1020) مجلة.(6/674)
والإشهاد يكون على البائع إن كان المبيع في يده، أو على المشتري، وإن لم يكن قد تسلم المبيع؛ لأنه مالك؛ أوعند العقار لتعلق الحق به. وصورة الإشهاد والطلب: أن يقول الشفيع: إن فلاناً اشترى هذه الدار، وأنا شفيعها، وقد كنت طلبت الشفعة، وأطلبها الآن، فاشهدوا على ذلك، أو نحوه.
ويلاحظ أن الإشهاد على هذا الطلب ليس بشرط لصحته، كما ليس بشرط لصحة طلب المواثبة، وإنما هو لتوثيقه عند إنكار الخصم.
وإن كان الشفيع في محل بعيد، ولم يمكنه طلب التقرير والإشهاد بهذا الوجه، يوكل آخر، وإن لم يجد وكيلاً أرسل مكتوباً.
وإذا كان الشفيع قد تقدم بطلب المواثبة أمام شهود، عند البائع إذا كان المبيع في يده، أو عند المشتري، أو عند المبيع نفسه، كفاه ذلك عن طلب التقرير، لحصول المقصود، وهو إظهار كونه مصراً على طلب الشفعة.
حكم الطلب: إذا فعل الشفيع طلب التقرير، استقرت شفعته أي حقه، ولم تسقط بعده بالتأخير عند أبي حنيفة وفي رواية عن أبي يوسف، وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى؛ لأن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بالإسقاط.
وقال محمد: إن تركها شهراً بعد الإشهاد من غير عذر، بطلت شفعته، لئلا يتضرر المشتري بالتأخير. وقد قال بعض الحنفية: والفتوى اليوم على قول محمد، لتغير أحوال الناس في قصد الإضرار، وقد أخذت المجلة بهذا الرأي في المادة (1034) . وقال الحنابلة: إذا حدث الإشهاد على الطلب، فللشفيع مخاصمة المشتري ولو بعد سنين. وحدد المالكية لطلب الشفعة الأول مدة سنة تامة، فإذا سكت بلا مانع سنة كاملة بعد العقد، أو سكت بلا مانع مع علمه بهدم أو بناء سقطت شفعته، لأن سكوته دليل الإعراض عن أخذه بالشفعة.(6/675)
3 - طلب الخصومة والتملك: وهو أن يقدم الشفيع طلباً للقضاء يطلب فيه الحكم بالشفعة وتسليم المبيع، بأن يقول: اشترى فلان دار كذا، وأنا شفيعها بدار كذا لي، أو أنا شريكه فيها، فأطلب منه تسليم الدار إلي (1) .
جزاء التأخر في هذه الطلبات:
لو أخر الشفيع طلب المواثبة عن مجلس علمه بالبيع بدون عذر، كأن اشتغل بأمر آخر، أو بحث في أمر آخر، أو قام من المجلس من دون أن يطلب الشفعة، سقط حقه في الشفعة. فإن وجد عذر مانع من المبادرة بالطلب كوجود حائل مخيف من وحش أو سيل مثلاً، لا تبطل شفعته حتى يزول المانع (2) .
ولو أخر الشفيع طلب التقرير والإشهاد، مدة يمكن إجراؤها فيها، ولو بإرسال مكتوب، يسقط حق شفعته (م 1033) مجلة.
ولو أخر الشفيع طلب الخصومة بعد طلب التقرير والإشهاد شهراً، من دون عذر شرعي، ككونه في ديار أخرى، يسقط حق شفعته (م 1034) مجلة.
طالب الشفعة للمحجور: للصغير الأخذ بالشفعة عند أكثر الفقهاء. وطلب الولي حق شفعة الصغير ونحوه من المحجورين، فاعلاً ما يراه المصلحة للصغير في الأخذ بها، مثل كون ثمن المبيع رخيصاً أو بثمن المثل، وللصغير مال لشراء العقار. فإذا أخذ الولي بالشفعة لم يملك الصغير نقضها بعد البلوغ باتفاق المذاهب الأربعة.
وإن لم يطلب الولي حق شفعة الصغير، فلا تبقى له عند أبي حنيفة وأبي يوسف صلاحية طلب حق الشفعة بعد البلوغ؛ لأن من ملك الأخذ بها، ملك العفو عنها، كالمالك.
وقال المالكية والشافعية: ليس للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة إذا عفا عنها وليه لمصلحة رآها للصغير، أو لم يكن للصغير ما يأخذها به، فتسقط الشفعة؛ لأن الولي فعل ماله فعله، فلم يجز للصبي نقضه كالرد بالبيع، ولأنه فعل ما فيه الحظ للصبي. فإن أسقط الولي الشفعة بلا نظر ولا تقدير للمصلحة، لم تسقط، ويكون للصغير الحق فيها إذا بلغ.
__________
(1) الدر المختار: 158/5 وما بعدها.
(2) البدائع: 18/5، م (1032) مجلة.(6/676)
وقال الحنابلة، وزفر ومحمد من الحنفية: للصغير إذا بلغ المطالبة بالشفعة، سواء عفا عنها الولي أو لم يعف، وسواء أكان في الأخذ بها أم في تركها مصلحة، أم لا؟ لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها، سواء أكان له فيها الحظ، أم لم يكن، فهي حق ثابت للصغير، لا يملك الولي إبطاله، فلم يسقط بترك غير الصغير له، كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها (1) .
نظر القاضي في طلب الشفعة وإثبات الدعاوى:
إذا تقدم الشفيع ليأخذ بالشفعة، وادعى شراء الدار المشفوعة، سأل القاضي (2) أولاً الشفيع عن موضع الدار وحدودها، لدعواه فيها حقاً. ثم هل قبض المشتري الدار؛ إذ لو لم يقبض لم تصح دعواه على المشتري ما لم يحضر البائع.
ثم يسأل القاضي عن سبب شفعة الشفيع وحدود ما يشفع به، إذ قد تكون دعواه بسبب غير صالح، ثم يسأل عن طلب التقرير كيف كان وعند من أشهد. فإذا تحقق ذلك كله صحت الدعوى.
ثم سأل القاضي المدعى عليه عن مالكية الشفيع لما يشفع به، فإن أقر بملكية الشفيع ما يشفع به، فبها، وإن أنكر تلك الملكية، كلف القاضي الشفيع إقامة البينة على ملكه؛ لأن ظاهر اليد (أو الحيازة) لا يكفي لإثبات الاستحقاق.
فإن عجز الشفيع عن البينة، استحلف ـ بطلب الشفيع ـ المشتري، بالله ما يعلم أن الشفيع مالك لما ذكره، مما يشفع به.
فإن نكل المشتري عن اليمين، أو قامت بينة للشفيع، ثبت ملكه الدار التي يشفع بها، وثبت له حق الشفعة.
ثم يسأل القاضي المدعى عليه أيضاً: هل اشترى (ابتاع) الدار المشفوعة، أو لا؟ فإن أقر فبها، وإن أنكر الابتياع، قيل للشفيع: أقم البينة على شرائه؛ لأن الشفعة لا تثبت إلا بعد ثبوت البيع بالحجة.
__________
(1) تكملة الفتح: 436/7، 451، تبيين الحقائق: 263/5، م (1035) مجلة، الشرح الصغير: 645/3، الشرح الكبير: 486/3، المغني: 313/5-314، كشاف القناع: 161/4 وما بعدها.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 159/5، تكملة الفتح: 421/7، اللباب: 111/2، تبيين الحقائق: 244/5 وما بعدها.(6/677)
فإن عجز عنها، استحلف المشتري بالله، ما ابتاع هذه الدار، أو بالله، ما يستحق عليَّ في هذه الدار شفعة، من الوجه الذي ذكره الشفيع.
فإن نكل المشتري عن اليمين، أو أقر بالشراء، أو بَرْهن الشفيع على مايدعي، قضي له بها، إذا لم ينكر المشتري طلب الشفيع الشفعة: فإن أنكر، فالقول له (للمشتري) بيمينه (1) . فإن أنكر طلب المواثبة حلف على العلم أي ما يعلم به؛ وإن أنكر طلب التقرير، حلف على البتات، أي الحزم بأنه لم يحصل.
ويلاحظ أن الخصم للشفيع: هو المشتري مطلقاً، سواء تسلم المبيع أم لا؛ لأنه مالك، والبائع قبل التسليم لقيام يده (حيازته) .
لكن لا تسمع البينة على البائع، حتى يحضر المشتري؛ لأنه المالك، ويفسخ بحضوره. فإن سلم المبيع للمشتري، لا يلزم حضور البائع، لزوال الملك واليد عنه (2) .
المبحث السابع ـ ما يطرأ على المشفوع فيه بيد المشتري:
قد يطرأ على المشفوع فيه في يد المشتري قبل القضاء بالشفعة للشفيع بعض التغيرات من عقود وتصرفات ناقلة للملكية كالبيع والهبة، أو مرتبة لحق انتفاع وغيره كالإجارة والإعارة، أو حدوث زيادة كبناء وغرس، أو نقص كهلاك وهدم أو نقض. فما أثر هذه التغيرات الطارئة على حق الشفيع، وهل تسقط شفعته؟
أولاً ـ العقود والتصرفات:
قد تصدر تصرفات من المشتري في الشيء المشترى قبل أن يقضى للشفيع بالشفعة. وتلك التصرفات:
__________
(1) هذا محمول على ما إذا قال الشفيع: علمت أمس بالبيع، وطلبت الشفعة، فيكلف إقامة البينة، فإن عجز قبلت يمين المشتري. أما لو قال الشفيع: طلبت حين علمت، فالقول قوله بيمينه (رد المحتار: 158/5، 160) .
(2) الدر المختار: 160/5.(6/678)
إما ناقلة للملكية كالبيع والهبة مع التسليم والوقف، وجعل المبيع مهراً في زواج.
وإما مرتبة لحق انتفاع، أو حبس كالإجارة والإعارة، والرهن.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة (1) على جواز نقض بعض التصرفات الناقلة للملكية وهو البيع، بعد حكم القاضي بالشفعة لمستحقها، لتعلق حق الغير في المبيع. كما اتفقوا على جواز نقض الرهن والإجارة والإعارة، مما لا شفعة فيه ابتداء.
وفي حالة البيع: يخير الشفيع بين أن يأخذ العقار المبيع بالثمن الذي تم به الشراء الأول، أو الثاني؛ لأن كل واحد من العقدين سبب تام لثبوت حق الأخذ له بالشفعة كما قال السرخسي، ولأن حق الشفيع سابق على هذا التصرف، فلا يبطل به.
واتفق الحنفية والشافعية والمالكية على جواز نقض ما لا شفعة فيه ابتداء، كالوقف وجعله مسجداً أو مقبرة، والهبة له، والوصية به.
وقال الحنابلة: تسقط الشفعة إذا تصرف المشتري بالمبيع قبل طلب الشفعة بهبة أو صدقة، أو وقف على معين كمسجد كذا، أو على الفقراء أو المجاهدين، أو جعله عوضاً عن طلاق أو خلع أو صلح عن دم عمد ونحوه، مما لا شفعة فيه ابتداء؛ لأن في الشفعة إضراراً بالموقوف عليه، والموهوب له، والمتصدق عليه ونحوه، بسبب زوال ملكه يزول عنه بغير عوض؛ لأن الثمن إنما يأخذه المشتري، والضرر لا يزال بالضرر. ولا يصح عند الحنابلة تصرف المشتري بعد طلب الشفيع الشفعة، لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأصح. ولو أوصى المشتري بالشقص المشترى (الحصة المبيعة) فإن أخذه الشفيع قبل القبول بطلت الوصية، واستقر الأخذ للشفيع، لسبق حقه على حق الموصى له، والوصية قبل القبول بعد الموت جائزة، لا لازمة.
__________
(1) المبسوط: 108/14 وما بعدها، الدرا لمختار: 164/5، الشرح الصغير: 652/3، القوانين الفقهية: ص 287، الشرح الكبير: 493/3، مغني المحتاج: 303/2 وما بعدها، المهذب: 382/1، كشاف القناع: 169/4 وما بعدها.(6/679)
ثانياً ـ نماء المشفوع فيه وزيادته:
قد يَحْدث نمو طبيعي في العقار المشفوع فيه، وقد يُحدث المشتري فيه زيادة بالبناء أو الغراس، قبل الحكم بالشفعة لصاحبها، فمن الأحق بذلك، الشفيع أم المشتري، وإذا كان المستحق هو المشتري، فهل يعوض عن حقه، وما التعويض؟
1 - النماء الطبيعي:
إذا نما المبيع في يد المشتري، كأن أثمر الشجر في يده بعد الشراء:
قال الحنفية (1) : القياس ألا يكون للشفيع، لأنه نما على ملك المشتري وبعلمه. والاستحسان أنه للشفيع؛ لأن الثمر متصل خلقه بالشجر، فكان تبعاً له، ولأنه متولد من المبيع، فيسري إليه الحق الثابت في الأصل (الشجر) الحادث قبل الأخذ، كالمبيعة إذا ولدت قبل القبض، فإن المشتري يملك الولد تبعاً للأم.
والخلاصة: أنه يأخذه الشفيع؛ لأنه مبيع تبعاً لأصله.
وقال المالكية (2) : الغلة قبل الشفعة للمشتري؛ لأن الضمان عليه، والغلة (أو الخراج) بالضمان.
__________
(1) تبيين الحقائق: 251/5، تكملة الفتح: 434/7، الكتاب مع اللباب: 119/2، الدر المختار ورد المحتار: 164/5-165.
(2) الشرح الصغير: 654/3.(6/680)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : للنماء حالتان:
أـ إذا كان نماء متصلاً، كالثمرة غير الظاهرة، والشجر إذا تكاثر، فهو للشفيع، يأخذ المبيع مع زيادته، لأن مالا يتميز يتبع الأصل في الملك، كما يتبعه في حالة الرد بالعيب أو الخيار أو الإقالة.
ب ـ وإذا كان نماء منفصلاً، كالثمرة الظاهرة، والطلع المؤبر، والغلة والأجرة، فهي للمشتري لاحق للشفيع فيها عند الحنابلة، وفي المذ هب الجديد للشافعي؛ لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تتبع المبيع، فلا يؤخذ به إلا ما دخل بالعقد، ولا يستحق شيء بغير تراض.
والخلاصة: أن هذين المذهبين يلتقيان مع مقتضى القياس عند الحنفية.
2 - الزيادة المحدثة:
إذا أحدث المشتري زيادة في المبيع، بالبناء أو الغرس أو الزرع.
أـ ففي حالة الزرع الذي له نهاية معلومة: اتفق الفقهاء على أن للشفيع الأخذ بالشفعة، ويكون الزرع للمشتري على أن يبقى في الأرض إلى أوان الحصاد، وعليه الأجرة عند الحنفية عن المدة التي تمضي بين القضاء بالشفعة وبين الحصاد (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: يبقى الزرع بلا أجر على المشتري، لأنه زرعه في ملكه (3) .
__________
(1) المهذب: 382/1، المغني: 319/5 وما بعدها، كشاف القناع: 174/4.
(2) المبسوط: 115/14، البدائع: 27/5 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 164/5، تبيين الحقائق: 250/5.
(3) المغني: 319/5، نهاية المحتاج:154/4، مغني المحتاج: 304/2، كشاف القناع: 174/4.(6/681)
ب ـ وأما في حالة البناء والغرس: فللشفيع الأخذ بالشفعة أيضاً، لكن الفقهاء اختلفوا فيما يجب عليه من دفع قيمة البناء والغراس.
قال الحنفية في ظاهر الرواية (1) : إذا بنى المشتري أو غرس فيما اشتراه، ثم قضي للشفيع بالشفعة، كان للشفيع الخيار: إن شاء كلف المشتري بالقلع وتخلية الأرض مما أحدث فيها؛ لأنه وضعه في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير إذن، وتكون الأنقاض للمشتري، لا للشفيع، لزوال التبعية بالانفصال.
وإن شاء أخذ الأرض بالثمن الذي دفعه المشتري، على أن يدفع قيمة البناء والغرس مقلوعاً أي مستَحَق القلع أنقاضاً.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) ، ورأيهم هو الأعدل: إن اختار المشتري قلع الغراس والبناء، لم يمنع إذا لم يكن فيه ضرر؛ إذ لا ضرر ولا ضرار؛ لأنه ملكه، فيملك إزالته ونقله، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد.
وإن لم يختر المشتري القلع، فالشفيع بالخيار بين ترك الشفعة، وبين دفع قيمة البناء والغراس مستَحَق البقاء.
وهذا هو رأي أبي يوسف أيضاً.
والسبب في اختلاف الرأيين كما قال ابن رشد الحفيد الفيلسوف في بداية المجتهد: تردد تصرف المشفوع عليه، العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب، وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق، عندما بنى في الأرض أو غرس. فمن غلب على فعله شَبَه الاستحقاق وهم الجمهور، قرر أنه لا بد للمشتري من أن يأخذ القيمة. ومن غلب على فعله شَبَه التعدي قال وهم الحنفية: للشفيع أن يعطي قيمة البناء والغراس منقوضاً.
ثالثاً ـ نقص المشفوع فيه:
للفقهاء حول هذا الموضوع رأيان متعارضان: رأي الحنفية وقريب منه مذهب المالكية، ورأي الشافعية والحنابلة.
قال الحنفية (3) : قد يكون النقص جزءاً من توابع الأرض، أو متصلاً بالأرض، أو بعضاً من الأرض نفسها.
أـ فإن كان النقص جزءاً من توابع الأرض، مثل قطف الثمر، وهلاك الآلات الزراعية أو الصناعية، ثم حكم بالشفعة للشفيع، سقط من الثمن قيمة هذه الثمار والآلات، سواء أكان النقص بفعل المشتري؛ لأنها مقصودة بالبيع، وقد أخذها المشتري، أم كان الهلاك بآفة سماوية؛ لأنها كانت بعض المعقود عليه، ودخلت في البيع مقصودة، فيقابلها حصتها من الثمن.
ب ـ وإن كان النقص جزءاً متصلاً بالأرض، مثل يبس الشجر أو جفافه، وانهدام البناء، واحتراقه، ونقضه، ثم قضي للشفيع بالشفعة، فإن كان ذلك بصنع المشتري أو غيره، نقص من الثمن قيمة ما زال، كالحالة الأولى، فتقوَّم الأرض بدون شجر وبناء، وتقوَّم وفيها البناء والشجر، ويسقط عن الشفيع مقدار التفاوت أو الفرق بينهما، لوجود التعدي والإتلاف، فيقابله شيء من الثمن. وتكون الأنقاض حينئذ للمشتري.
__________
(1) البدائع: 29/5، تبيين الحقائق: 250/5، المبسوط: 114/14، الدر المختار: 164/5، اللباب: 118/2 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد: 260/2، نهاية المحتاج، ومغني المحتاج: المكان السابق، المغني: 317/5 وما بعدها، كشاف القناع: 175/4.
(3) المبسوط: 115/14، تبيين الحقائق: 251/5 وما بعدها، الدرالمختار ورد المحتار: 164/5 وما بعدها، تكملة الفتح: 434/7، اللباب: 119/2، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي لأستاذنا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى: ص 236 وما بعدها.(6/682)
وأما إن حدث ذلك بلا تعد من أحد، وإنما بآفة سماوية، كزلزال أو صقيع أو ريح عاتية، كان على الشفيع دفع الثمن كله، ولا يسقط منه شيء مقابل الجزء التالف أو الضائع؛ لأن النقص ليس بجناية أحد، ولأن الشجر والبناء تابعان للأرض، حتى إنهما يدخلان في عقد البيع بدون ذكر، فلا يقابلهما شيء من الثمن؛ لأن الأصل أن الثمن يقابل الأصل لا الوصف.
وأما مصير الأنقاض من أحجار وأخشاب: فإن لم يبق منها شيء، فلا إشكال. وإ ن بقي منها شيء، وأخذه المشتري لانفصاله من الأرض وعدم تبعيته لها، سقطت حصته من الثمن، بقيمته يوم الأخذ. وأما الدار فتقوم يوم العقد، ويوزع الثمن بين الدار والأنقاض بحسب قيمتها على النحو المذكور.
وإن لم يأخذ المشتري الأنقاض، كأن هلكت بعد انفصالها، لم يسقط شيء من الثمن، لعدم حبس الأنقاض من قبله، ولأنها من التوابع، والتوابع لا يقابلها شيء من الثمن، وبالأخذ بالشفعة تحولت الصفقة إلى الشفيع.
جـ ـ وأما إن كان النقص في الأرض نفسها، لا فيما عليها من شجر أو بناء، كأن أغرقها السيل، فأزال بعضها، كان للشفيع الخيار بين ترك الشفعة، وبين أخذ الباقي بحصته من الثمن؛ لأن حقه ثابت في الكل، وقد تمكن من أخذ البعض، فيأخذه بحصته من الثمن، لهلاك بعض الأصل.
ومذهب المالكية إجمالاً كالحنفية، فإنهم قالوا (1) : لا يضمن المشتري نقص الشقص (الجزء المشفوع فيه) إذا طرأ عليه بسب سماوي، أو بسبب من المشتري لمصلحة، كأن هدم ليبني أو لأجل توسعة.
فإن كان النقص بسبب من المشتري، كأن هدم لا لمصلحة، ضمن.
فإن هدم وبنى، فللمشتري قيمته يوم البناء على الشفيع قائماً، لعدم تعديه.
__________
(1) الشرح الصغير: 654/3، الشرح الكبير: 494/3.(6/683)
وتحسب للشفيع من الثمن قيمة الأنقاض يوم الشراء، فيحط عنه من الثمن، ويغرم ما بقي مع قيمة البناء قائماً.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : إن تلف الشقص (الجزء المشفوع فيه) أو بعضه، في يد المشتري، فهو من ضمانه، لأنه ملكه، تلف في يده.
ثم إن أراد الشفيع الأخذ بعد تلف بعض المشفوع فيه، أخذ الموجود بحصته من الثمن، سواء أكان التلف بفعل الله تعالى، أم بفعل آدمي، وسواء تلف باختيار المشتري كنقضه البناء، أو بغير اختياره كانهدام البناء نفسه.
والأنقاض إن كانت موجودة أخذها الشفيع مع الأرض بحصتها من الثمن، وإن كانت معدومة أخذ الأرض وما بقي من البناء.
المبحث الثامن ـ مسقطات الشفعة:
تعرف الأسباب التي تؤدي إلى إسقاط حق الشفعة، عند الكلام على شروط الأخذ بالشفعة، لذا أوجز الكلام في بيان ما تسقط به الشفعة فيما يأتي، مع ملاحظة أن بعض الحالات متفق عليها، وبعضها مختلف فيها:
1 - بيع الشفيع ما يشفع به من عقار قبل أن يقضى له بالشفعة: إذا باع الشفيع ما يشفع به قبل العلم بالشفعة، أو بعد العلم بالشفعة، وقبل الحكم بها، سقطت شفعته، باتفاق الفقهاء ما عدا ابن حزم الظاهري، لزوال السبب الذي يستحق به الشفعة، وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه. فبطلان هذه الشفعة أمر منطقي بدهي، لانتفاء الضرر عن الشفيع الذي شرعت الشفعة من أجل دفعه عن الشريك باتفاق الفقهاء. أو عن الجار عند الحنفية (2) .
__________
(1) المغني: 320/5.
(2) الهداية مع تكملة الفتح: 446/7، تبيين الحقائق: 258/5، الدر المختار: 170/5، الكتاب مع اللباب: 113/2، المهذب: 381/1، كشاف القناع: 169/4، المحلى: 116/9، م 1601، الشرح الصغير: 642/3.(6/684)
2 - تسليم الشفعة أو الرغبة عنها بعد البيع: سواء أكان عالماً بحقه فيها، أم غير عالم، صراحة، أم دلالة وضمناً؛ لأن الشفعة حق ضعيف يسقط بأوهى الأسباب، وذلك في المذاهب الأربعة (1) .
أما تسليم الشفعة صراحة: فمثل أن يقول الشفيع: لا أرغب فيها، أو لا أريدها، أو أسقطتها أو أبطلتها، أو أبرأتك عنها أو عفوت عنها أو سلمتها، ونحوها على أن يكون تسليمها بعد البيع وقبل الحكم بها؛ لأنه لا حق له قبل البيع فيسقطه، ولأنه بعد الحكم لا يملك إسقاطها إلا بعقد ناقل للملكية.
وأما تسليم الشفعة دلالة: فهو أن يوجد من الشفيع ما يدل على رضاه بالعقد وحكمه للمشتري، وهو ثبوت الملك له، مثل ترك طلب المواثبة أو طلب التقرير بعد العلم بالبيع مع القدرة عليه بأن يترك الطلب على الفور من غير عذر، أو قام عن المجلس الذي علم فيه بالبيع، أو تشاغل عن الطلب بعمل آخر؛ لأن ترك الطلب مع القدرة عليه دليل الرضا بالعقد وحكمه للمشتري الدخيل.
ومثل: أن يساوم الشفيع المشتري على شراء ما اشتراه أو إيجاره له، لأن مساومته دليل على إعراضه عن الأخذ بالشفعة.
ومثل أن يكون الشفيع وكيلاً عن البائع فيما باعه؛ لأنه يسعى في نقض ما تم من جهته. أما إذا كان الشفيع وكيل المشتري فيما ابتاع أي اشترى لموكله، فله الشفعة، لأنه لا ينتقض شراؤه بالأخذ بها (أي الشفعة) ؛ لأنها مثل الشراء. وهذا التفصيل عند الحنفية، وبعض الحنابلة وبعض الشافعية.
__________
(1) المبسوط: 154/14 وما بعدها، البدائع: 19/5-20، تبيين الحقائق: 257/5، الهداية مع التكملة: 442/7-445، الدر المختار: 168/5 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 112/2-113، الشرح الصغير: 642/3، 645، المهذب: 380/1، مغني المحتاج: 306/2، المغني: 349/5 وما بعدها، بداية المجتهد: 259/2، القوانين الفقهية: ص286.(6/685)
وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح (1) : إذا وكل الشفيع في البيع، لم تسقط شفعته بالتوكيل، سواء أكان وكيل البائع أم وكيل المشتري، لأنه وكيل فلا تسقط شفعته كالآخر. أما التهمة فلا تؤثر؛ لأن الموكل وكله مع علمه بثبوت شفعته راضياً بتصرفه مع ذلك، فلا يؤثر، كما لو أذن لوكيل في الشراء من نفسه.
وهناك أمران في تسليم الشفعة: وهما تسليم الولي شفعة الصبي، والصلح عن الشفعة.
أـ تسليم الشفعة من الولي: أوضحت هذا الموضوع في بحث طلب الشفعة، وأشير إليه هنا بإيجاز يتصل بأمر سقوط الشفعة.
قال الشيخان (أبو حنيفة وأبو يوسف) (2) : تسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز، فيسقط حقه فيها حينئذٍ؛ لأن الأخذ بالشفعة في معنى التجارة، بل عين التجارة؛ لأنه مبادلة المال بالمال، وترك الأخذ بها ترك التجارة، فيملكه الولي، كما يملك ترك التجارة برد بيع شيء للصبي، عندما يقال للأب مثلاِ: بعتك هذا المال لابنك الصغير؛ ولأنه أي الأخذ بالشفعة تصرف دائر بين النفع والضرر، وقد تكون المصلحة في ترك الشراء للصبي، رعاية لمصلحته، ليبقى الثمن على ملكه، والولاية: نظر بحسب المصلحة.
وفصل المالكية في الأمر (3) : فقالوا: إن كان ترك الشفعة لمصلحة القاصر، صح إسقاطها من الأب أو الوصي، وإلا فلا يصح، وللقاصر حينئذ طلبها متى بلغ.
__________
(1) المغني: 351/5.
(2) تبيين الحقائق: 263/5، تكملة الفتح: 451/7، م (1035) مجلة.
(3) الشرح الكبير: 486/3، الشرح الصغير: 645/3.(6/686)
وقال زفر ومحمد والحنابلة (1) : ليس للولي إسقاط شفعة الصغير، سواء لمصلحة أو لغير مصلحة، ويظل الصغير على شفعته متى بلغ؛ لأن هذا حق ثابت للصغير، فلا يملك الولي إبطاله، كالتنازل عن ديته، وقَوَده (حقه في القصاص) ولأنه شرع لدفع الضرر، فكان إبطاله إضراراً به.
ويجري هذا الخلاف عند الحنفية في تسليم الوكيل طلب الشفعة عن موكله. عند أبي حنيفة: يصح منه تسليمها في مجلس القاضي؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل في الخصومة ومحلها مجلس القاضي.
وعند أبي يوسف: يصح للوكيل تسليم الشفعة في مجلس القاضي وفي غيره، لكونه نائباً عن الموكل مطلقاً.
وعند محمد وزفر: لا يصح من الوكيل تسليم الشفعة أصلاً.
ب ـ الصلح عن الشفعة: قال الحنفية (2) : إن صالح الشفيع عن حقه في الشفعة بأخذ عوض عنه، سقطت شفعته لتضمن فعله الإعراض عن الشفعة، وعليه رد العوض الذي أخذه، لبطلان الصلح وبيع الحق؛ لأن الشفعة مجرد حق في التملك، وقد شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، فلا تصح المعاوضة عن هذا الحق، ويكون الاعتياض عنه رشوة.
والخلاصة: أن الصلح وإن لم يصح، فإسقاط حق الشفعة صحيح؛ لأن صحته لا تتوقف على العوض، بل هو شيء من الحقوق المالية لا تصح المعاوضة عنه، فصار الشفيع كأنه سلَّم الشفعة بلا عوض.
__________
(1) المغني: 313/5، كشاف القناع: 161/4 وما بعدها.
(2) البدائع: 20/5، تكملة الفتح: 443/7، تبيين الحقائق: 257/5، الكتاب مع اللباب: 113/2، الدر المختار: 169/5.(6/687)
3 - ضمان الدَّرَك: تسقط الشفعة عند الحنفية (1) إذا ضمن الشفيع الدرك عن المشتري للبائع أي ضمن له الثمن عند المشتري؛ لأن هذا دليل على الرضا بالبيع الحادث للمشتري.
كما أن البائع إذا شرط الخيار للشفيع في إمضاء البيع أو عدم إمضائه، فأمضى المشروط له الخيار (وهو الشفيع) البيع؛ لأن البيع تم بإمضائه، وهذا في تقديري هو الأحق بالاتباع.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : لا تسقط الشفعة إن ضمن الشفيع العهدة (المطالبة بالثمن عند استحقاق المبيع أو عيبه) للمشتري، أو شرط له الخيار، فاختار إمضاء العقد، لم تسقط شفعته؛ لأن المسقط لها هو الرضا بتركها بعد وجوبها بالبيع، وهذا لم يوجد، فإنه سبب سَبَق وجوب الشفعة، فلم تسقط به الشفعة، كالإذن بالبيع، والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع.
4 - تجزئة المشفوع فيه: اتفق الفقهاء (3) على أن الشفعة حق لا يقبل التجزئة، فإذا تنازل (سلم) الشفيع عن بعض المشفوع فيه كالنصف مثلاً، سقط حقه في كل المبيع؛ لأنه لما سلَّم في النصف بطل حقه فيه بصريح الإسقاط، وبطل حقه في الباقي؛ لأنه لا يملك حق تفريق الصفقة على المشتري، فسقطت شفعته في الكل، منعاً من إضرار المشتري في تفريق الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر، لكن كما لو قال أبو يوسف، ورأيه هو الراجح عند الحنفية: لا تسقط الشفعة في حال طلب نصف المشفوع فيه ويظل الحق للشفيع في أخذ الكل أو ترك الكل.
__________
(1) تبيين الحقائق: 258/5، الهداية مع التكملة: 447/7، اللباب: 113/2.
(2) المغني: 351/5، كشاف القناع: 182/4.
(3) البدائع: 21/5، بداية المجتهد: 258/2، مغني المحتاج: 306/2، المهذب: 381/1، كشاف القناع: 164/4، المحلى: 118/9، م 1604.(6/688)
وإذا تعدد الشفعاء، فليس لبعضهم أن يهب حصته لبعض، وإن فعل أحدهم أسقط حق شفعته م (1042) مجلة (1) .
وإن أسقط أحد الشفعاء حقه قبل حكم الحاكم، فللشفيع الآخر أن يأخذ تمام العقار المشفوع. وإن أسقطه بعد حكم الحاكم، فليس للآخر أن يأخذ حقه م (1043) مجلة.
5 - وفاة الشفيع: تسقط الشفعة عند الحنفية (2) بوفاة الشفيع، سواء بعد الطلب (أي طلبي المواثبة والتقرير) أو قبله، قبل الأخذ بالقضاء له أو تسليم المشتري إليه؛ لأن حق الشفعة لا يورث كخيار الشرط، إذ الحقوق لا تورث عندهم، ولأنه بالموت يزول ملك الشفيع عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع، والمطلوب تحقق الملك وقت البيع.
ولا تبطل الشفعة بموت المشتري لبقاء المستحق، أي أن المستحق باق، ولم يتغير سبب حقه.
وفصل الظاهرية والحنابلة في الأمر (3) ، فقالوا: إن مات الشفيع قبل أن يطلب الشفعة، سقطت شفعته (4) ، ولا حق لورثته في الأخذ بالشفعة أصلاً؛ لأن الله تعالى إنما جعل الحق له، لا لغيره، والخيار لا يورث.
وتورث الشفعة إن أشهد الشفيع على مطالبته، ثم مات، وللورثة المطالبة بها؛ لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه.
__________
(1) المهذب: المكان السابق، البدائع: 5/5 وما بعدها، الدر المختار: 173/5.
(2) الدر المختار: 170/5، تكملة الفتح: 446/7، تبيين الحقائق: 257/5، اللباب: 113/2، البدائع: 22/5، م (1038) مجلة.
(3) المحلى: 117/9، م 1603، المغني: 346/5، كشاف القناع: 176/4.
(4) قال الإمام أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار.(6/689)
وهذا التفصيل يؤدي إلى الاتفاق مع مذهب الحنفية في عدم إرث الشفعة قبل الطلب.
وقال المالكية والشافعية (1) : يورث حق الشفعة، إذا مات الشفيع بعد الطلب قبل الأخذ، فالشفعة موروثة عندهم؛ لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال، فيورث كخيار العيب.
والظاهر مما نقل عن هذين المدهبين في كتب غيرهم أن حق الشفعة يورث، ولو قبل طلبها من الشفيع أيضاً، لإطلاق عباراتهم. لكن الحق أنه لا بد عند الشافعية من الطلب وإلا سقط حق الشفيع نفسه فيكون مذهبهم كالحنابلة (2) .
والخلاصة: أن الشفعة لا تورث عند الحنفية بعد الطلب، وتورث بعد الطلب في المذاهب الثلاثة وعند الظاهرية.
والخلاف محصور فيما إذا مات الشفيع قبل القضاء بالشفعة له، فإذا مات بعد القضاء قبل نقد الثمن وقبض المبيع، فالبيع لازم لورثته بالاتفاق.
ومن الكلام في مسقطات الشفعة يتبين لنا الحقائق التالية (3) :
1 - الشفعة حق ضعيف، يجب أن يتقوى ويتأكد بالطلب.
2 - الشفعة شرعت لدفع الضرر عن صاحبها وهو الشريك باتفاق الفقهاء، والجار عند الحنفية.
3 - لا يصح أن تكون الشفعة سبباً لضرر المشتري بتفريق الصفقة عليه، إذا طلب الشفيع أخذ بعض المبيع فقط.
انتهى الجزء السادس ويتبعه
الجزء السابع: الفقه العام - معالم النظام الاقتصادي - الحدود والجنايات
__________
(1) بداية المجتهد: 260/2، القوانين الفقهية: ص 287، المهذب: 383/1، نهاية المحتاج: 158/4.
(2) أما المالكية فقد أثبتوا للشفيع حق الأخذ بالشفعة مدة سنة، فإذا مات قبل الطلب فيورث عنه هذا الحق، ما لم يكن الحاكم قد أسقط شفعته إذا لم يحدد رغبته إما بالأخذ أو بالترك، بناء على طلب المشتري.
(3) الأموال ونظرية العقد للمرحوم موسى: ص 238.(6/690)
.....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
...........................................الجزء السابع....................................
معالم النظام الاقتصادي في الإسلام
الكلام في موضوع الاقتصاد يحتاج إلى بحث طويل وتخصص وتعمق، ولا يمكن الإحاطة بمضمون نظرية اقتصادية إلا بعد دراسة مستفيضة لها، والحق أن النظريات الاقتصادية الحديثة يصعب أن نجد لها مثيلاً مفصلاً عند فقهاء الإسلام وكل مالدينا هو مبادئ وخطط عامة في الاقتصاد، يمكن التماسها والسير في هديها لمعرفة مدى مطابقتها أو مغايرتها إجمالاً لما هو سائد اليوم في عالم الاقتصاد.
وهكذا يمكننا رسم معالم السياسة الاقتصادية في الإسلام من عدة وجوه منها ما يأتي من البحوث:
المبحث الأول ـ الاقتصاد الإسلامي ومعالمه الكبرى:
تمهيد: إن الاقتصاد في الماضي والحاضر والمستقبل هو عصب الحياة النابض وشريانها المتدفق حيوية وغزارة وفاعلية، لذا فإنه يؤثِّر في الإنسان تأثيراً مباشراً في جميع أحواله الفكرية والدينية والسلوكية، ويؤثِّر في الأمة من جميع نواحيها العسكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية، فالاقتصاد القوي عنوان المجد والقوة والسيادة، والاقتصاد الضعيف رمز التخلف والتأخر والانحطاط، ولقد كانت الحروب والمنازعات على الصعيدين القبلي والدولي ترجع في أغلبها إلى أسباب اقتصادية. وما زال الناس أفراداً وجماعات منذ فجر التاريخ مهتمين بوسائل المعاش ومتاع الحياة، وينعكس أثر الاقتصاد على السياسة الدولية بشكل واضح، فما الاستعمار وآثامه، والمؤتمرات الدولية التي يتكررا انعقادها في المناسبات والأزمات والأسواق الدولية المشتركة سوى انعكاس لاقتصاد الدولة، وتخطيط سياستها المالية، والتنمية المطلوبة لديها.(7/1)
وإذا كان هذا هو شأن الاقتصاد وتأثيره في العالم، فلا بد من أن يكون للإسلام خطة واضحة في القضايا الاقتصادية، إذ إنه شريعة الخلود الدائمة التي تقدر تماماً ما للوضع الاقتصادي من تأثير كبير في حياة الأمة، والتي تتجاوب مع مقتضيات التطوروالتبدل الذي يمر على البشرية. وليس من المعقول ألا يكون هناك أساس اقتصادي للحضارة الإسلامية التي سادت العالم عدة قرون من الزمان، وكان الرفاه والرخاء يعم الأوساط الإسلامية، حتى إنه لايكاد يجد الغني أحداً من الفقراء يعطيه زكاة أمواله في بعض عهود الدولة الإسلامية الزاهرة.
لذا فإني أذكر أهم معالم النظام الاقتصادي الإسلامي، تلك المعالم التي لم يستغرب المرء منها أن تكون أساساً صالحاً للمجتمعات المتحضرة في مختلف مراحل التطور البشري؛ لأنها تتلاءم مع الفطرة الإنسانية، وتلتقي مع العدالة والحرية والرحمة، وتصدر عن تخطيط إلهي أو عن تنظيم اقتصادي مستقل، مجرد عن النزعات والأهواء الخاصة. وأسس هذا النظام الاقتصادي الإسلامي تجمع بين ما هو معروف في مجال الفكر الاقتصادي بصفة عامة من (السياسة الاقتصادية) و (المذهب الاقتصادي) والمقصود بالسياسة الاقتصادية: هو ذلك النوع من الفكر الاقتصادي الذي يحاول حل المشكلات الاقتصادية الطارئة على المجتمع. وموضوع هذه السياسة دراسة خير السبل والوسائل التي يجب أن تتبعها السلطات العامة للوصول إلى هدف معين أو غاية محدودة. وأما المقصود بالمذهب الاقتصادي: فهو المرحلة الثانية من مراحل التفكير الاقتصادي الذي يحاول فيه الباحث أن يتخذ موقفاً معيناً بالحكم التقييمي على نظام اقتصادي معين، فيحبِّذ قبوله أو رفضه، ويدافع عن الأخذ به أو العدول عنه. وبعبارة أخرى: هو الطريق التي يفضل المجتمع اتباعها في حياته الاقتصادية وحل مشكلاتها العملية.
ولقد تضمن النظام الإسلامي أحكاماً تتعلق بموضوع السياسة الاقتصادية، كما أن هذه الأحكام حددت رأياً مذهبياً واضحاً تجاه القضايا الاقتصادية حسبما يتطابق مع المثل العليا التي يجب أن تكون عليها الحياة الإنسانية. وأبدأ بما يأتي:(7/2)
أولاً ـ لمحة عابرة عن خصائص النظامين الاشتراكي والرأسمالي:
أما النظام الرأسمالي: فإنه كما تقدم يقوم على أساس الاعتراف بمبدأ الملكية الفردية، فللأفراد الحق في تملك أموال الاستهلاك والإنتاج، ويمكن توارث ذلك عنهم، إلا أن الدولة تتدخل دائماً لانتزاع جزء كبير من ثروة المتوفى. وتعتبر حرية التعاقد والتبادل من ركائز هذا النظام فهو يعتبر دائماً نظام سوق، كما أنه يقوم على مبدأ الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل من الدولة لوضع قيود على الإنتاج أو الاستهلاك، فالحرية الاقتصادية تقتضي ترك تحديد الإنتاج، وأن الفرد حر في التصرف في ثروته استهلاكاً وادخاراً، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرِّك للنشاط الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي.(7/3)
وقد انتقد هذا النظام كما تقدم؛ لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من العمال والفلاحين وغيرهم، كما أن هذا النظام يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة مستبدة، وإلى انتشارا لبطالة، والاحتكارات الطبيعية والصناعية التي تتكون وتستغل المستهلك والطبقات الضعيفة. ومن أخطر عيوب هذا النظام: استعمار الشعوب الذي ترتكز عليه سياسة الدول الرأسمالية النامية، فكان من نتيجة كل ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغد ة للبشرية، وبالتالي انهيار مذهب الحرية الاقتصادية المطلقة. وهذا ما جعل أنصار المذهب الرأسمالي ينادون بضرورة تدخل الدولة لتنظيم الحريات الاقتصادية، وعلى الدول أن تقوم بنفسها بجمع المشاريع الاقتصادية التي يحتاجها المجتمع ...
وأما النظام الاشتراكي
فإنه كما تقدم يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، فلا وجود للملكية الفردية، ولا مجال للحرية الاقتصادية إلا بقدر ما يمنحه المجتمع للفرد، وتطالب المذاهب الاشتراكية من الناحية الاجتماعية بتحقيق المساواة بين الأفراد، أي بإلغاء الفوارق بين الطبقات، ولا يقصد من ذلك تحقيق المساواة التامة الكاملة، وإنما إلغاء الفوارق التي لا يكون مردها الكفاءة في الإنتاج أو العلم، أو العمل لصالح المجموع. فالاشتراكية تكافئ كل فرد بحسب عمله مع مراعاة ظروفه ومواهبه الشخصية على أن يتحقق أولاً إشباع الحاجات الضرورية لكل إنسان.(7/4)
وقد انتقد هذا النظام كما تقدم بأنه يصادم ما استقر في فطرة الإنسان من حبه التملك الفردي، واستئثاره بثمرات جهوده التي يبذلها كاملة وبإضراره بمصلحة الإنتاج العام لانعدام روح المنافسة الشرعية، كما أن النظرية الماركسية التي تجعل قيمة أي سلعة بحسب ما يبذل في إنتاجها من عمل منتقدة أيضاً؛ لأن عنصر العمل ليس هو العنصر الإنتاجي الوحيد، وإنما هناك عناصر إنتاج أخرى من طبيعة ورأس مال لا يمكن ردها إلى العمل. وكذلك مبدأ التوزيع القائل: (من كل حسب طاقته، ولكل حسب عمله) يخلق لوناً جديداً من الطبقية: طبقة القيادة الحاكمة، وغيرها من الطبقات، كالتي تنشأ بين العمال مثلاً بحسب اختلاف مواهبهم وكفاءاتهم ونوعية العمل ودرجة تعقيده، فيظهر مثلاً الصراع بين العمال الفنيين والعمال اليدويين.
وهذه الانتقادات دفعت الاشتراكيين في روسيا إلى التزام جانب الاعتدال فاعترفوا بالملكية الخاصة بالأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع ودخول ومدخرات متأتية من العمل ويحترم ميراث هذه الأشياء. كما أن الروس سمحوا بملكية خاصة لأموال الإنتاج عن طريق قيام مشاريع زراعية صغيرة خاصة بالفلاحين ومشروعات حرفية للصناع، وكذلك أجازو للأفراد مزاولة المهن الحرة كالطب والكتابة والفن، وبالرغم من محاولات إصلاح هذا النظام وتدارك سلبياته وعيوبه، فلم يكتب له النجاح، حتى أدى أخيراً إلى سقوطه كنظام اقتصادي شامل في عهد جورباتشوف رئيس جمهوريات الاتحاد السوفييتي عام 1989م في خطته المسماة بالبيروستريكا أي إعادة البناء والإصلاح.(7/5)
الفروق الأساسية بين الفكر الإسلامي والفكر الماركسي:
من أهم هذه الفروق مايأتي:
أولاً - إن الفكر الماركسي فكر ملحد يقوم على أساس المادة، وأن المادة وتطور قوى الإنتاج هو الذي يحدد علاقات الأفراد ويصنع تطور المجتمع. بخلاف الأمر في الإسلام فهو فكر مؤمن بالله وحساب اليوم الآخر، وإن خشية الله تعالى وابتغاء مرضاته والتزام تعاليم الإسلام، هي التي تصوغ علاقات الأفراد بعضهم ببعض وتحدد مسار المجتمع.
ثانياً - إن الفكر الماركسي يستهدف إلغاء الملكية الخاصة، لتحل محلها الملكية العامة أياً كانت صورتها: ملكية الدولة (قطاع عام) أو ملكية الجماعة (ملكية جماعية أو تعاونية) بخلاف الأمر في الإسلام، فالتأميم ليس هدفاً، وإنما هو وسيلة. وتبدو أهمية هذا الفارق في أن الملكية العامة في الاقتصاد الماركسي هو الأصل، والملكية الخاصة هي استثناء، أما في الاقتصاد الإسلامي فالملكية الخاصة والملكية العامة كلاهما على السواء أصل. فإن الإسلام أقر الملكية الخاصة، وفرض عليها عدة قيود، كما أنه أوجد منذ أربعة عشر قرناً الملكية العامة بالقدر الذي تتطلبه احتياجات المجتمع وقتئذ ودرجة تطوره الاقتصادي، ومن قبيل ذلك أرض الحمى للرعي.. والوقف الخيري.. ومؤسسات المساجد، وانتزاع الملكية الخاصة من أجل توسيعها.. وموقف عمر من الأراضي المفتوحة ورفض تمليكها للفاتحين، وتحويلها إلى ملكية جماعية. ويمكن فقهاً التوسيع من دائرة أي نوع من الملكية بحسب ظروف الزمان والمكان.
ثالثاً ـ إن الفكر الماركسي يقوم على أساس الصراع بين الطبقات، وإقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة وهي طبقة البروليتاريا (العمال) . وفي حين إن الفكر الإسلامي يقوم على أساس تعاون جميع أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة.
وقد استطاع المسلمون الروس مثل سلطان جالييف وحنفي مظهر التوفيق بقدر الإمكان بين الاشتراكية والإسلام، وحاولوا إقناع القادة الروس بما يعارض الإسلام.(7/6)
أولاً ـ أوضح سلطان جالييف أنه لا علاقة بين المادية والاشتراكية، وأن محاولة الربط بين التفسير المادي للكون الذي يرفض الدين بالضرورة وبين الاشتراكية هي محاولة لا ضرورة لها ولا محل لها، فقد يكون المادي (الملحد) اشتراكياً وقد يكون غير اشتراكي. كما أن الاشتراكي قد يكون مادياً أو غير مادي. ثم إن التصور المادي للوجود والقول بأن المادة هي سبب كل موجود هو من قبيل التصورات الميتافيزيقية، وهو على هذا النحو نوع من عملية الاستبدال بإله حقيقي هو الله إلهاً آخر هو المادة. وقد بدأ كثير من الماركسيين يسلمون بهذه الحقيقة.
ثانياً ـ وأظهر سلطان جالييف أن إلغاء الملكية الخاصة والتأميم الكامل ليس هدفاً في ذاته، وليس هو السبيل الوحيد للاشتراكية، وإنما المهم هو سيطرة الشعب على أدوات الإنتاج. وقد اعتنق هذا الاتجاه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي سنة 1956.
ثالثاً ـ أبرز سلطان جالييف أنه بعد انتصار الثورة البلشفية، لم يعد هناك محل لفكرة صراع الطبقات أو الكراهية، كما لم يعد هناك محل لتمييز العمال على الفلاحين، أو إقامة دكتاتورية الطبقة الواحدة. وحل محل كل ذلك فكرة تعاون أفراد المجتمع، وإقامة تحالف قوى الشعب العاملة. وقد أخذت بذلك دول أوربا الشرقية.
رابعاً ـ يرى سلطان جالييف أن المجال الحيوي لثورة أكتوبر البلشفية هو الشرق وليس الغرب (1) .
__________
(1) من مقال الدكتور محمد شوقي الفنجري في مجلة العربي عدد 180 سنة 1973م.(7/7)
ثانياً ـ وظيفة المال وحق الملكية الفردية والقيود الواردة عليه في الإسلام: المال في الحقيقة لله سبحانه وتعالى كما قال: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/5] والناس جميعاً عباد الله، فهم شركاء في توزيع المال، سواء تمثّل هذا المال في سلعة اقتصادية أو في سلعة حرة، وتملك الإنسان للمال يعتبر تملكاً مجازياً، أي إنه مؤتمن على المال ومستخلف فيه ونائب أو خليفة عن الله فيه لقوله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/57] {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61/11] {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} [الأنعام:165/6] {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] .
ويترتب على هذا التصور للمال واستخلاف الإنسان فيه، أو وكالته عليه أنه يجب التقيد بأوامر الله تعالى، في التملك حسبما يريد صاحب الملك الحقيقي. والناس على السواء لهم حق في تملك خيرات الأرض، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجات، وإذا كانت الخلافة عن الله في المال للجماعة، فإن الملكية الخاصة تعتبر أسلوباً من أساليب قيام الجماعة بمهمتها في الخلافة، وإن لها صفة اجتماعية، لا صفة حق مطلق وسيطرة واستبداد. وللجماعة حق مراقبة ذوي الملكيات الخاصة لاستخدامها في سبيل الصالح العام، فيعتبر صاحب المال حينئذ مسؤولاً أمام الله عن ماله، ومسؤولاً أمام الجماعة أيضاً.
وليس المال مقياساً للاحترام والتعظيم، ولا لاحتكار النفوذ، فمن قواعد فقهنا: «من عظم غنياً لماله وغناه فقد كفر» .
بهذه النظرة الإسلامية إلى المال بأنه وسيلة لا غاية مقصودة لذاتها، ولا للتجميع والتكديس، يدق الإسلام أول معول في هدم الرأسمالية الظالمة.(7/8)
وأما حق الملكية في الإسلام فهو نزعة فطرية وحق شخصي أقرته الشريعة وصانته الديانات السماوية، لقوله تعالى: {زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة} [آل عمران:14/3] {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم» «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (1) .
إلا أن هذا الحق الشخصي مقيد بقيود كثيرة ستذكر قريباً، ومن أهمها عدم جواز الإضرار بالغير، مما يدل على أن لحق الملكية الفردية في تقدير الإسلام صفتين مزدوجتين: صفة الفردية وصفة الجماعية العامة في وقت واحد.
أما الصفة الفردية: فلأن الحق ليس في أصله وظيفة، بل هو ميزة تمنح صاحبها الحق في الانتفاع بثمرات ملكه والتصرف فيه، ولكن لا تعتبر هذه الملكية الخاصة هي الأصل العام الذي يسمح للأفراد وحدهم بتملك أموال الثروة في البلاد وبحسب النشاط والظروف، وإن الملكية العامة أمر استثنائي تقتضيه الظروف الاجتماعية، كما هو مقرر في النظام الرأسمالي. وعلى هذا فلا يمكن أن يعتبر المجتمع الإسلامي مجتمعاً رأسمالياً، وإن اعترف بالملكية الخاصة.
وأما صفة الحق الجماعية العامة فتتجلى في تقييد حق الملكية الخاصة بمنع اتخاذها سبيلاً إلى الإضرار بالآخرين، وأنه يمكن أن تقوم ملكيات عامة للجماعة أو الدولة، كالحمى والوقف والأموال العامة بجوار الملكية الخاصة. وعلى هذا فلا يعتبر النظام الإسلامي وإن أخذ بنظام الملكية العامة أو ملكية الدولة لبعض الثروات
__________
(1) الحديث الأول أخرجه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه، والحديث الثاني أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث الثاني أخرجه الدارقطني عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(7/9)
ورؤوس الأموال متطابقاً مع النظام الاشتراكي الذي يعتبر الملكية الجماعية هي المبدأ العام، ومع هذا فإن الحمى الذي قرره عمر رضي الله عنه إنما كان (تأميمه) صريحاً وبدون مقابل، فقد كانت الأرض التي حماها مملوكة لبني ثعلبة، فلما اعترضوا عليه قال: إنه فعل ذلك في سبيل الله. والخلاصة: إن حق الملكية في الإسلام حق مزدوج يقوم على ركيزتين: الصفة الفردية والصفة الجماعية، وإن الملكية نوعان: ملكية خاصة وملكية عامة. ويكون لحق الملكية الفردية وظيفة اجتماعية، يوجه الحق بمقتضاها نحو البر والخير والصالح العام، وليس هو بذاته وظيفة اجتماعية يمنحها المجتمع له ويقبل الزوال؛ لأن هذا المعنى يؤدي في النتيجة إلى إلغاء فكرة الحق من أصلها.
وأما القيود الواردة على الملكية الفردية في الإسلام فهي كثيرة:
منها قيود سلبية ومنها قيود إيجابية. أما القيود الإيجابية فسأذكرها في بحث وسائل تحقيق العدالة الاجتماعية ومبدأ تدخل الدولة.
وأما القيود السلبية فهي ما يأتي:
1 - منع الإضرار بالآخرين:
إن حق الفرد في التملك أو الانتفاع بالملك ينظر إليه في الإسلام على أن الفرد عضو في الجماعة المستخلفة عن الله في الأموال، فلا يصح بداهة أن يكون التملك أو استعمال الملك طريقاً للإضرار بالجماعة أو أن يكون مصدر قلق أو اضطراب ومنازعة وسيطرة، لذا فإن المالك يمنع أثناء استعمال ماله من إضرارغيره، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) فلا يصح اعتبار المال وسيلة ضارة أو طريقاً للتسلط والإيذاء، سواء أكان الضرر خاصاً أم عاماً.
__________
(1) أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.(7/10)
2 - عدم جواز تنمية المال بالوسائل غير المشروعة:
أوجب الإسلام استثمار المال وتنميته بالطرق المشروعة من زراعة وصناعة وتجارة ونحوها، وحرم كل الوسائل التي لا تتفق مع الإنسانية الحقة الرحيمة مما هو جاثم في بلدان الحضارة المادية والرأسمالية الغاشمة. وأخطرها الربا أو الفائدة، والقمار، والغش، والاحتكار والتدليس، وبذلك هدم الإسلام صرح الرأسمالية التي يمتص فيها الغني دماء الفقراء والطبقة العاملة، كما أنه قضى على مفاسد الرأسمالية والملكية الفردية، كما يظهر فيما يلي:
أما الربا فقد شن الإسلام عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها لاستئصاله من جذوره مهما كانت أشكاله، سواء أكان في القروض الاستهلاكية والإنتاجية أم في عقود المبادلات الأخرى التي يتفق فيها على بيع سلعة بسلعة من النوع نفسه الذي يعتبر من الأقوات الضرورية أو السلع الأساسية للمجتمع كالحبوب والأقطان والمعادن، قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون} [البقرة:278/2-279] ومن المعلوم أن مهاجمة الربا في الإسلام دليل على محاربة مختلف أشكال النظم الرأسمالية التي تتحكم فيها مصالح المرابين، وذلك حتى يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً ومتعاوناً على الخير، لا يستغل القوي فيه حاجة الضعيف، ولا تتكون فيه طبقة تعيش على حساب رأسمالها دون بذل جهد من عمل ولا كسب، أو دون أن تتعرض هذه الفئة كبقية المشروعات الاقتصادية لاحتمالات الربح أو الخسارة.(7/11)
وأما القمار بمختلف أنواعه ومنه اليانصيب فقد حرمه الإسلام؛ لأنه مرض فتاك خبيث يهدد طاقة الإنسان الجسدية والفكرية من دون فائدة مشروعة، ويعوِّد الإنسان على الخمول والكسل؛ لأنه محاولة للتوصل إلى كسب بلا جهد ولا عمل، وفضلاً عن ذلك فإنه يولّد بين الناس أحقاداً عميقة الجذور، ويثير شرارات نارية من المنازعات والاختلافات التي لا تنتهي ذيولها، حتى وصفه القرآن الكريم بأنه رجس من عمل الشيطان.
وأما الغش في المعاملات: فهو ممنوع منعاً مطلقاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» (1) إذ يهدم الثقة بين المتعاملين، ويجعل الحياة التجارية في اضطراب. ويشمل الغش كل أنواع الخلابة (أي خديعة المشتري) من خيانة (كذب في مقدار الثمن) .. وتناجش (إيهام الغير برغبة الشراء إغراء له به) وتغرير (إغراء بوسيلة كاذبة للترغيب في العقد) وتدليس العيب (كتمان عيب خفي في المعقود عليه) وغبن فاحش (وهو الإضرار بما يعادل نصف عشر القيمة في المنقولات والعشر في الحيوان، والخمس في العقارات) ومن صور الغبن: حالة تلقي الركبان، أي تلقي ابن المدينة قوافل الباعة الواردة من القرى والبوادي، وشراؤها بأقل من سعر السوق بغبن فاحش.
وأما الاحتكار فقد حرمه الإسلام تحريماً عاماً في كل ما يضرُّ بالناس حبسه ومنعه، وبخاصة السلع الغذائية وضروريات الناس الاستهلاكية؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» (2) لأن الاحتكار أمر لصيق بتنظيم السوق، ولأن فيه من المخاطر التي يعاني منها النظام الرأسمالي، والسبب في تحريم الاحتكار أمر واضح وهو منع استغلال المحتكر للمستهلكين بمغالاته في الثمن،
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه، لكنه ضعيف.(7/12)
ومنع السلعة أحياناً من السوق لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من احتكر طعاماً يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله ورسوله» (1) .
وهكذا حرَّم الإسلام كل أوجه الكسب غير المشروع مثل ما ذكر، ونحوه من الرشوة والاختلاس وابتزاز أموال الغير بالباطل واستغلال الحاكم أو الموظف لمنصبه ليقتنص أموال الناس ظلماً وعدواناً. والقصد من تحريم ذلك هو دفع الإنسان إلى العمل وإبعاده عن البطالة والكسل. وبهذا كله أوصد الإسلام الباب أمام تضخم الثروات؛ لأن الطرق غير المشروعة تؤدي عادة إلى ربح عظيم: قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا خضرة حلوة. من اكتسب فيها مالاً من حِلّه، وأنفقه في حقه، أثابه الله عليه، وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حِلّه، وأنفقه في غير حقه، أحله الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله، له النار يوم القيامة» (2) .
3 - منع الإسراف والتقتير:
أوجب الإسلام الاعتدال في النفقة لقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، فتقعد ملوماً محسوراً} [الإسراء:29/17] فلا يكون التقتير مقبولاً لما يترتب عليه من اكتناز الثروات الضخمة الذي يحول بدوره دون توفر نشاط تداول الأموال، الذي هو أمر ضروري لانتعاش الحياة الاقتصادية في كل مجتمع، فحبس المال تعطيل لوظيفته في توسيع ميادين الإنتاج وتهيئة وسائل العمل للعاملين، قال الله سبحانه وتعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/9] .
__________
(1) أخرجه أحمد والحاكم عن أبي هريرة، وهو حديث حسن. وفي رواية: «لايحتكر إلا خاطئ» عند مسلم وأحمد وأبي داود والترمذي (الترغيب والترهيب 582/2) والخاطئ: الآثم.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو صحيح.(7/13)
وكذلك يحرم الإسلام الإسراف وتبذير الأموال من دون وجه مشروع أو يؤدي إلى الضرر ولو في سبيل الخير، قال الله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/17] فالتبذير طريق الفقر الذي يصبح به المبذر في النهاية عالة على المجتمع، مما ينذر بمخاطر اجتماعية سيئة، فضلاً عن أن التبذير سبيل لغرس الأحقاد والبغضاء بين الناس والمحرومين، وهكذا أوضح الإسلام مبدأ سياسة الاعتدال في الاستهلاك والادخار، فقال الله سبحانه: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31/7] .
4 - ليس المال سبيلاً إلى الجاه والسلطان:
حظر الإسلام على أرباب الأموال استخدامها في هضم الحقوق عن طريق الرشوة أو للتوصل إلى منصب سياسي أو جاه أو وظيفة ليس أهلاً لها، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} [البقرة:188/2] وفي هذا إيصاد الباب أمام ما تفعله التكتلات الاحتكارية والشركات العالمية في التأثير على السياسة الداخلية والخارجية في الدول الرأسمالية..
5 - توزيع المال بعد الوفاة مقيّدٌ بنظام الإرث:
ليس المرء حراً بالتصرف في ماله بعد وفاته حسبما يشاء كما هو مقرر في النظام الرأسمالي، وإنما هو مقيد بنظام الإرث الذي يعتبر في الإسلام من قواعد النظام الإلهي العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فالإرث حق جبري، ولا يجوز الإيصاء بأكثر من ثلث المال، ولا يصح تفضيل بعض الورثة على حساب الآخرين، أو حرمان وارث أو الإضرار بالدائنين، وللسلطة القضائية الحق في إبطال التصرفات غير الشرعية في الإرث والوصية، فيكون تشريع الإرث عاملاً مهماً من عوامل تفتيت الثروات الضخمة، وتوزيع الملكيات والقضاء على التفاوت الفاحش بين الطبقات.(7/14)
ثالثاً ـ مبدأ الحرية الاقتصادية:
إذا كان مبدأ الاعتراف بالملكية المزدوجة (الخاصة والجماعة) وبمبدأ الملكية الفردية المقيدة بقيود كثيرة هو الركن الأول من أركان الاقتصاد الإسلامي كما تقدم، فإن مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة في حدود معينة هو الركن الثاني من أركان هذا النظام، وليست هذه الحرية مطلقة غير محدودة كما في النظام الرأسمالي، ولا هي غير موجودة كما في النظام الاشتراكي، وإنما هي مقررة ضمن حدود معينة، بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (1) .
ولقد نادى ابن خلدون بمبدأ الاقتصاد الحر، وحبَّذ الإسلام نظام المنافسة الكاملة الشريفة الذي يمنع فيه الاحتكار، والذي يتحدد فيه ثمن السلع طبقاً لمساومات البائعين والمشترين دون تدخل من جانب الدولة، إلا أن هذا كان في عصر صدر الإسلام حيث كانت صفات الورع والتقوى والتدين لها السيطرة المطلقة على النفوس، ثم أفتى الفقهاء السبعة في المدينة بجوار تدخل الدولة لتسعير الحاجيات ووضع حد لجشع التجار، ومنع الغبن، لأنه يجب أن يكون الثمن عادلاً غير مجحف بالبائع والمشتري. وبه يتبين أن مبدأ الحرية الاقتصادية أصبح مقيداً فيما يجيزه تشريع الإسلام من نشاط اقتصادي اجتماعي للأفراد، ولايجوز للإنسان الخروج عليه كالتعامل بالربا والاحتكار ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا البخاري عن جابر رضي الله عنه بلفظ: «لايبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» .(7/15)
كما أن هذا المبدأ مقيد بالرقابة الحازمة للدولة وإشراف الحاكم على النشاط العام، وتوجيهه وجهة تتمشى مع حفظ المصالح العامة، ومنع الضرر عن الجماعة، حسبما يقدر الاقتصاديون المتخصصون، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] وأولو الأمر: هم الحكام والعلماء المختصون، فما يقرره أهل الخبرة واجب الطاعة لحماية الأمة، وللحفاظ على كيان الدولة، ولتحقيق مبدأ التوازن الاجتماعي الإسلامي على وفق ما تقرره الشريعة.
رابعاً - قيمة العمل ودوره في الحياة الاقتصادية وأثره على أثمان الأشياء:
العمل شرف ومجد وفريضة على كل قادر عليه، ولقد حث الإسلام عليه، وحارب الكسل والخمول والبطالة والتسول؛ لأن الفقر مذلة ومرض اجتماعي خطير، وتنفير الإسلام منه لأنه يضر بالمصلحة العامة، فالأمة قوية بقوة أفرادها، ضعيفة بضعف أبنائها، قال عليه الصلاة والسلام: «كاد الفقر أن يكون كفراً» (1) واعتبر الإسلام العمل هو الوسيلة المفضلة الأغلبية للتملك، وأن لاعمل من غير أجر، وأن الأجر على قدر العمل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أطيب الكسب كسب الرجل من عمل يده» (2) ، «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (3) «من أمسى كاَّلا ـ أي متعباً ـ من عمل يده أمسى مغفوراً له» (4) «إن الله يحب العبد المحترف» (5) «طلب الحلال فريضة
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس، وسكت عنه السيوطي.
(2) أخرجه البزار وصححه الحاكم عن رفاعة بن رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: «أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرر» .
(3) أخرجه أحمد والبخاري عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه ضعيف.
(5) أخرجه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، لكنه ضعيف.(7/16)
بعد الفريضة» (1) «إن من الذنوب ذنوباً لايكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة» (2) «إن أطيب ماأكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (3) ... وقال عمر رضي الله عنه «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فإن من قصَّر به عمله لم يسرع به نسبه» وهذه الأحاديث النبوية مستمدة من القرآن الكريم وملتقية معه. قال الله تعالى: {ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لايُظلمون} [الأحقاف:19/46] {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [هود:85/11] {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} [الملك:15/67] {فابتغوا عند الله الرزق} [العنكبوت:17/29] .
وعقد النبي صلّى الله عليه وسلم موازنة بين العمل والاستجداء فقال: «لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيذهب به إلى الجبل، ثم يأتي به فيحمله على ظهره، فيأكل، خير له من أن يسأل الناس» (4) «لاتزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى، وليس في وجهه مُزْعة لحم» (5) «اليد العليا خير من اليد السفلى» (6) «اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير» (7) «لاتحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سوي» (8) .
كل هذه الآيات والأحاديث النبوية تدل على تقديس الإسلام للعمل وتقدير
__________
(1) أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، لكنه ضعيف.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه أحمد بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(6) أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح.
(7) أخرجه أبو الشيخ ابن حبان وفي مسند الفردوس للديلمي عن أنس رضي الله عنه، لكنه ضعيف.
(8) أخرجه أبو داود والترمذي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، والمرة: القوي، والسوي: المستوي الخلق، التام الأعضاء.(7/17)
تأثيره في الحياة الاقتصادية، وإن من حق العمال أن يتقاضوا من الأجور بقدر مايبذلونه من جهود، وبما يتفق مع خبراتهم ومواهبهم، فالكفاية وحدها، والمقدرة وحدها، هما معيار أهلية الفرد، وبذلك كفل الإسلام تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين الناس كافة في السعي، والجد المشروع في اكتساب المعاش والتماس الرزق، ولكن لاتشترط المساواة في ثمار هذا السعي؛ لأن الإسلام لايقول بالمساواة في الرزق نفسه، ولايعقل بل من الظلم الفاحش عدم الاعتراف بالتفاوت الفطري بين الأفراد في الإمكانات والمواهب والجهود، قال الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32/43] {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] .
إن العمل في تقدير الإسلام سبب لملكية العامل نتيجة عمله. وتكون القاعدة في الإسلام: (أن العمل سبب الملكية) لا قاعدة (أن العمل سبب لتملك المجتمع لا الفرد) أو قاعدة (أن العمل سبب لقيمة المادة، وبالتالي سبب تملك العامل لها) . ويشترك العمل أحياناً مع رأس المال المستثمر في كسب الملكية كما في شركة المضاربة، وكما تقرر نظرية كينز، فالعامل يتملك الربح بسبب عمله في المضاربة ورب المال يستثمر ماله ويشغله، فيكون ربح العامل بسبب جهده، وربح رب المال بسبب رأسماله الذي يحرك عجلة التجارة، كما أن ماله سبب في انتعاش السوق الاقتصادية، وفي ربح العامل بدون مشاركة في الخسارة، وإنما رب المال يتحمل وحده الخسارة التي هي حالة اضطرارية وغير غالبة.(7/18)
وإذا كان ابن خلدون مؤسس علم الاقتصاد ومن بعده ريكاردو وما ركس واضع نظرية الاشتراكية العلمية يرون أن العمل أساس القيمة، أي أن قيمة السلع والأشياء تتحدد بقيمة العمل الداخل فيها أو ساعات العمل التي بذلت في صنعها، فإن النظرية الإسلامية تجعل قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب الواقعين عليها مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة على تطبيق العدالة، أي أن قيمة الأشياء تتدخل فيها اعتبارات الندرة في المال، وسعر السوق النسبي، بحسب حاجة الشخص للسلعة وهو ما يريده الفقهاء من سعر المثل. وإذا كان مبدأ الاشتراكية في التوزيع (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) فإن مبدأ الإسلام (لكل حسب عمله، أو حسب حاجته) إذ قد يعجز الإنسان عن العمل، فتلتزم الجماعة بإغنائه وتوفير حاجياته رحمةً به، وتكريماً لإنسانيته.
خامساً ـ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي للأفراد:
الكلام في تدخل الدولة وحدود هذا التدخل يتضح فيما يأتي:
1 - رقابة الدولة على أعمال الأفراد:
يقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (1) في هذا الحديث دلالة واضحة على أن الدولة مسؤولة عن كل شيء يجري في داخلها. فلها الإشراف على نشاط الأفراد العام، ولها حق التدخل بالمصالح الخاصة لحماية المصالح العامة وكفالة تطبيق وتنفيذ الشريعة، ولها محاسبة الموظفين وأصحاب الولاية والسلطة في نواحي الدولة. ويمكنها أن تحاكمهم على أساس المبدأ القائل: (من أين لك هذا) . ليتبين الوجه المشروع لكسب المال. ولقد كان سيدنا عمر رضي الله عنه يحاسب ولاته ويشاطر عماله كما فعل مع عمرو بن العاص عامله على مصر، حينما شك في ماله وكسبه وطريقة إنمائه، وشاطر خالد بن الوليد أمواله، حتى زوجي نعله، وللدولة أن تراقب أرباب الأموال في كيفية استثمار أموالهم، فإذا جنحوا إلى تعطيل استثمار المال، جاز اتخاذ التدابير التي تحمي المصلحة
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.(7/19)
العامة، فإذا وضع امرؤ يده على أرض موات بقصد إحيائها وتعميرها واستصلاحها وهو ما يعرف بالاحتجار، ثم لم يقم بواجبه جاز سلخها عنه وإعطاؤها لغيره، قال صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1) «ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين» (2) لأنه لا بد من مداومة استثمار المال، حتى لا يؤدي الإهمال إلى فقر المال والإضرار بمصالح المجتمع وإفقار الأمة وخسارة الدخل القومي العام وضآلة الإنتاج.
وإذا حاول الناس تركيز استثمار أموالهم في نشاط اقتصادي معين، كان لولي الأمر حق التدخل بما يراه من إجراءات لتوزيع الناس أموالهم بين مختلف مصادر الإنتاج (وهي الأرض والعمل والمال) ، وعندئذ تضمن الدولة الحد الأدنى من إنتاج السلع الضرورية، والحد الأعلى الذي لا يجوز التجاوز عنه. وإذا تضخمت الثروة في أيدي فئة قليلة من المواطنين، ثم ثبت عجز أصحابها عن استثمارها، كان للحاكم أن يتدخل في استثمار الأموال أو وضعها تحت ولاية الدولة بما يدرأ الضرر العام عن المجتمع، كإلزامهم باتباع الأساليب الرشيدة في استثمار الأموال، ووضعها تحت ولاية الدولة لضمان تشغيلها بما ينفع البلاد.
2 - إقرار الملكية الجماعية:
قال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث» وفي رواية: «في أربع: الماء والكلأ والنار والملح» (3) والنص على هذه الأمور فقط لأنها كانت من ضروريات
__________
(1) أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو يوسف في كتاب الخراج عن سعيد بن المسيب رحمه الله، ولكنه ضعيف.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود، وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه الطبراني عن ابن عمر.(7/20)
الحياة في بيئة العرب، فهي مباحة لجميع الناس، والدولة هي التي تمثل مصالح الجماعة، فلها وضع اليد عليها، وعلى كل الأشياء الضرورية التي تعتبر من قبل الثروات الطبيعية الخام، والصناعات الاستخراجية وإنتاج المواد الأولية، والاستيلاء على المرافق العامة والتي تتغير وتتبدل وتتطور بحسب البيئات والعصور، مثل مختلف الأنهار العامة، والمعادن والنفط ولو وجدت في أرض مملوكة ملكية خاصة، والكهرباء، والمنشآت العامة ونحوها من المرافق الحيوية الأساسية لمصلحة الجماعة. ومما يؤيد وجود الملكية الجماعية: أن النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين قد اعتبروا بعض الأراضي كالنقيع والرَّبذَة (موضعين قرب المدينة) حمىً في سبيل الله لترعى فيها خيل المسلمين، أي من أجل الصالح العام وهو المعروف بـ (الحمى) قال عليه الصلاة والسلام: «لاحمى إلا لله ولرسوله» (1) أي لا حمى لأحد الأشخاص العاديين.
3 - التأميم أو نزع الملكية الخاصة:
إذا كان المبدأ العام في الإسلام هو الاعتراف بالملكية الفردية وبالحرية الاقتصادية كما أوضحت، فإنه لا مانع من تدخل الدولة لحماية مصلحة الأمة في وقت معين، بأن تتخذ من التدابير ماتجده محققاً للصالح العام، بناء على المبدأ المعروف في الإسلام بالاستحسان والمصالح المرسلة، وقواعد دفع الضرر العام، وأنه يتحمل الضرر الخاص من أجل دفع الضرر العام، وأنه يجب على الجماعة كفاية الجائع والعريان عملاً بالمبدأ الشرعي القائل: (إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد) ولكن بشرط دفع الثمن. وقال عمر قبيل وفاته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء» : وهذا ما
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود عن الصعب بن جثّامة رضي الله عنه.(7/21)
يجعل النظام الاقتصادي الإسلامي أبعد عن النظام الرأسمالي القائم في أصله على أساس من الحرية الفردية المطلقة.
لذا فإنه يحق للدولة التدخل في الملكيات غير المشروعة، كالملكية الحادثة بالسلب والقهر أو الاغتصاب، فترد الأموال إلى أصحابها أو تصادرها، وتستولي عليها بغير تعويض، سواء أكانت منقولة أم عقارية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) وقوله: «ليس لعرْقٍ ظالمٍ حق» (2) ، وقوله: «من زرع أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء وله نفقته» (3) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشاطر بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولاياتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة، وهو البعد بالملكية عن الشبهات، وعن اتخاذها وسيلة للثراء غير المشروع، وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل في التوزيع، سواء في حق أصل الملكية، أو منع المباح، أو في تقييد حرية التملك الذي هو من باب تقييد المباح، والملكية من المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعمال الملك إلى ضرر عام. وعلى هذا فيحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية الزراعية، فيحددها بمقدار مساحة معينة، أو ينتزعها من أصحابها إذا عطلها أو أهملها حتى خربت، أو ينزع ملكيتها من أي شخص مع دفع تعويض عادل عنها، إذا اقتضت المصلحة العامة أو النفع العام ذلك.
كماحدث في وقتنا الحاضر من تأميم المصارف والشركات الكبرى، وكما فعل عمر بن الخطاب في سبيل توسعة المسجد الحرام حينما ضاق على الناس،
__________
(1) أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) والحاكم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى.
(3) أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي عن رافع بن خديج رضي الله عنه.(7/22)
فأجبر الناس المجاورين للمسجد على بيع دورهم المحيطة به، وقال لهم: «إنما أنتم الذين نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم» . وكذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا الفعل مرة أخرى وقال: «إنما جرأكم علي حلمي، فقد فعل عمر بكم ذلك فلم تتكلموا» ثم أمر بحبسهم لمدة، مما يدل على جواز نزع الملكية الفردية لمصلحة المرافق العامة كتوسيع الطرق والمقابر وإقامة المساجد وإنشاء الحصون والمرافئ والمؤسسات العامة كالمشافي والمدارس والملاجئ ونحوها؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
ثم إن فقهاء المذاهب قرروا أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإذا منع من فعل مباح صار حراماً، وإذا أمر به صار واجباً. والدليل على إعطاء ولي الأمر مثل هذه الصلاحيات في غير المنصوص على حكمه صراحة هو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: هم الأمراء والحكام والعلماء، كما تبين سابقاً.
ولكن ليس كل مايتوهم من ضرر، أو يتخيل من مصلحة يكون مسوغاً لتقييد الملكية أو مصادرتها بالتعويض، وإنما ينبغي أن تكون المصلحة العامة محققة الحدوث، أو الضرر العام محقق الوقوع، أو غالب الوقوع، لا نادراً ولا محتملاً، ويكفي عند فقهاء المالكية والحنابلة أن يكون احتمال وقوع الضرر مسوغاً لمنع الفعل أخذاً بقاعدة: «دفع المضار والمفاسد مقدم على جلب المصالح» .
ويلاحظ أن مبدأ تقدير الضرر مقيد بثلاثة أمور:
أولاً ـ أن كل ضرر يلحق الناس كافة هو ممنوع.
ثانياً ـ لا ينظر في الأضرار العامة إلى قصد الضرر أو عدم قصده وإنما ينظر إلى النتائج المترتبة في الواقع..(7/23)
ثالثاً ـ لا يعتبر الضرر الواقع بآحاد الناس إلا إذا قصد الشخص إضرار غيره بالفعل بأن يتعسف في استعمال حقه، أو يستعمله استعمالاً غير عادي.
ومن هنا يمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها: كون صاحبها مانعاً لحقوق الله فيها، أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان أو للتبذير والإسراف، أو لإشعال نار الفتن والاضطرابات الداخلية أو للاحتكار والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو لتأمين متطلبات الدفاع عن البلاد، أو لدفع ضرر فقر مدقع ألم بفئة من الناس على أن يكون كل هذا إجراء استثنائياً بحسب الحاجة وبشرط عدم استئصال أصل رأس المال، مع دفع العوض. ولقد قرر دارسو الأوضاع الاقتصادية في البلاد العربية أن تركز أكثر الثروة القومية في أيدي فئة قليلة من الأغنياء ينشأ عنه ضرر عام جسيم بمصلحة البلاد، على عكس ما يتطلبه القرآن الكريم الذي يطالب بتداول الأموال في المجتمع في قوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59] ومما لا شك فيه أن تأميم المرافق العامة التي تقدم خدمات للشعب كالمواصلات والكهرباء والماء يرفع الحرج عن الناس، ومثل ذلك تحديد ملكية الأراضي الزراعية برفع الحرج عن الناس، وأما تأميم المصانع والشركات المملوكة للأفراد، فيتطلب وجود مصلحة عامة فيه.
ومن أدلة منع الضرر: الحديث النبوي السابق ذكره: «لا ضرر ولا ضرار» (1) وحديث «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (2) ومن الوقائع التاريخية
__________
(1) أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(7/24)
لتدخل الحاكم المسلم في ملكيات الأفراد في دائرة منع الضرر: «أنه كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، وكان يدخل هووأهله فيؤذي صاحب الأرض، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الرسول لصاحب النخل: بعه: فأبى: فقال الرسول صلّى الله عليه وسلم فاقطعه، فأبى، قال: فهبه ولك مثله في الجنة فأبى، فالتفت رسول إليه، وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال، اذهب فاقلع نخله» (1) ففي هذه الحادثة مايدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية.
ومن الأمثلة أيضاً: (أن رجلاً اسمه الضحاك بن خليفة أراد أن يمر بماء له في أرض محمد بن مَسْلمة، فأبى، فاشتكى الضحاك إلى عمر فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيل جاره، فقال محمد: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ماينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً وهو لايضرك، فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك) (2) ففي هذه الواقعة مايدل على أنه لايكفي الامتناع عن الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره، مادام لاضرر عليه فيه..
وعندما حمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَّبَذَة قرب المدينة، قال: «المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» فهذا يدل على أن تخصيص بعض الأراضي للمصلحة العامة أمر جائز، وأن نزع الملكية لضرورة المصلحة العامة للجماعة أو لدفع الحرج عن الناس لا مانع منه شرعاً..
__________
(1) رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين.
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ.(7/25)
هذا.. وقد حدد الفقهاء أربع حالات يجوز فيها شرعاً أن تنزع الأملاك وهي:
الحالة الأولى: أن تنزع الملكية للمنافع العامة كفتح الطرق وتوسيع المساجد والمقابر ونحوها، ولم يوجد عنه بديل، ودليل ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجازوا توسيع المسجد الحرام مرتين في عهد عمر وفي عهد عثمان.
الحالة الثانية: أن يترتب على صاحب الملك دين من نفقة أو خراج أو معاملة أو غير ذلك، ويمتنع عن أدائه، فيحكم القاضي بالبيع جبراً لوفاء الدين، فيبدأ بما بيعه أهون. وقد نصت على ذلك المادة 998 من المجلة.
الحالة الثالثة: أن تنزع الملكية منعاً من الاحتكار. وذلك كما إذا احتكرت طائفة من التجار أقوات الناس وحصل بذلك ضرر، فإنه يجوز للحاكم أن يمنعه ببيع أو تسعير دفعاً للضرر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم «نهى عن احتكار الطعام» وقد بيَّن ابن قدامة في المغني: 198/4 شروط الاحتكار المحرم.
الحالة الرابعة: حالة الأخذ بالشفعة للشريك، وذلك مراعاة لحق المالك القديم على الجديد. وما عدا ذلك لا يؤخذ ملك أحد إلا برضاه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] وحديث سابق: «إن دماءكم وأموالكم علي حرام» .
4 - تحقيق التوازن الاقتصادي:
إذا كان الإسلام يسمح بقيام ودوام الملكية الشخصية، فلا يدل ذلك أنه يجيز ما يعرف في النظام الرأسمالي بنظام الطبقات الذي يسمح لطبقة معينة تملك المال أن تملك السلطات ووسائل التشريع مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، فطبيعة نظام(7/26)
كم التشريع الإسلامي الذي يمنع من اكتناز النقود، ويحرم الفائدة المصرفية في غير حال الضرورة القصوى، ويفتت الملكية عن طريق الإرث، ويلغي الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام، كل ذلك يؤدي إلى إذابة الفوارق بين الطبقات، ويقلل التفاوت الصارخ بين الأفراد في تملك الأموال. وهكذا جفف الإسلام كل المنابع التي تؤدي إلى الطبقية، كما أن لولي الأمر صلاحيات واسعة النطاق في تحقيق العدالة ومنع الضرر والتعسف في استعمال الحق، مما يوجد نوعاً من التوازن الاقتصادي. ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين الفقراء وبين الأنصار، فكان يقاسم المهاجري مال الأنصاري، وكان أبو بكر الصديق يسوي في العطاء من الغنائم بين الناس، وحينما اتسعت الفتوحات الإسلامية، أجمع الصحابة بقيادة عمر بن الخطاب على عدم توزيع الأراضي بين الفاتحين، وإنما تركت في أيدي أهلها حفاظاً على مبدأ التوازن الاقتصادي بين الرعية جميعاً، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59] أي إن أموال الفيء والأراضي ملك للجميع.
سادساً ـ أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام:
مبدأ العدالة الاجتماعية هو الركن الثالث من أركان النظام الاقتصادي الإسلامي، ولقد استطاع المسلمون أن يترجموا هذا المبدأ إلى واقع فعلي فعّال، جعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً متراحماً متعاوناً متآخياً متحاباً، متناصراً متضامناً وقت اليسار والإعسار. وتلك هي صفات المجتمع الإنساني الأفضل، ذلك المجتمع الذي صانه الإسلام من مختلف العيوب الخلقية والاجتماعية والاقتصادية، فقرر ضرورة القضاء على الفقر والجهل والمرض والبطالة والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري والخضوع السياسي أو الإذلال المدني.
والكلام عن العدالة الاجتماعية في الإسلام كثير معروف يهمنا الإشارة فقط إلى أمرين:
أولهما ـ واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي.
ثانياً ـ القيود الإيجابية الواردة على حق الأفراد في الملكية الخاصة.(7/27)
أما الأمر الأول ـ وهو واجب الدولة في تحقيق مبدأ الضمان الاجتماعي: فإنه يستمد وجوده من اعتبار الدولة مسؤولة عن رعاياها، وأن المسلمين جميعاً يكفل بعضهم بعضاً. فالإسلام ألزم الدولة بضمان معيشة أفرادها، وعليها أن تهيء لهم سبل الكسب المشروع ووسائل العمل الشريف، وفرصة المساهمة في أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة التي تعود عليهم بالخير والثمار اليانعة بما يحقق لهم أولاً إشباع الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن، ثم الحاجات الكمالية بقدر المستطاع، قال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح منكم آمناً في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها» (1) ، هذا يدل على أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وما عداها فهو من الحاجات الكمالية، وإذا أصبح المرء عاجزاً عن العمل، ومحتاجاً إلى النفقة فعلى الدولة كفايته وتأمين حاجياته وسد عوزه ليعيش عيشة حرة كريمة تليق بعزة الإنسان، وتستطيع الدولة تأمين المال اللازم لهذه الغاية السامية، مما يساهم به الأفراد، ويلتزمون بدفعه من التكاليف المالية الآتية وهي موضوع الأمر الثاني.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب والترمذي وابن ماجه عن عبيد الله بن محصن رضي الله عنه، وهو حديث حسن.(7/28)
والأمر الثاني ـ هو القيود الإيجابية المفروضة على أصحاب الملكيات الخاصة: فرض الإسلام طائفة من القيود المتعددة على حق الملكية الفردية لتحقيق العدل والمصلحة العامة، منها قيود سلبية ذكرت أهمها، كمنع الاحتكار والتسعير الجبري، وعدم الضرر بالآخرين، ومنع تملك المباح إذا أفضى استعماله إلى ضرر عام. ومنها قيود إيجابية تجعل حق الملكية ذا هدف أو معنى اجتماعي أو ذا وظيفة اجتماعية تبعد فكرة الحق عن معنى السلطة المطلقة، أو حب الذات وتخفف من وجود الملكيات الكبيرة، وتقيم بناء التكافل الاجتماعي بين الأفراد في الإسلام على أمتن الأسس وأقوى الدعائم الدينية والخلقية والتشريعية من أجل رفع مستوى المعيشة العامة ورعاية مصالح الفقراء، وليؤخذ بأيديهم نحو الكسب المستقل، وأهم هذه القيود الإيجابية هي:(7/29)
1 - فريضة الزكاة:
تعتبر الزكاة كما هو معلوم ـ من أركان الإسلام، فهي تشريع مدني إلزامي يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه وإعطائه لمستحقيه من الفقراء، وتقوم الدولة في الأصل بجباية الزكوات من أصحاب رؤوس الأموال وتجبرهم على أدائها، فليست الزكاة كما يظن بعض الناس مجرد صدقة مستحبة، كما أنها ليست طريقاً لإذلال الفقير وإنما هي حق مستقيم واجب الأداء، قال الله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25] والهدف منها أن يؤخذ بيد الضعيف، ويتجه إلى الاعتماد على نفسه من طريق الكسب الحر، فهو علاج مؤقت لحالة كل فقير، وليست طعمة دائمة إلا للعاجزين عن العمل، وتستوفى الزكاة كما هو معروف من ثلاثة أنواع من الأموال: هي النقود المتداولة والسلع التجارية بنسبة 25%، والإبل والبقر والغنم السائمة (أي التي ترعى الكلأ المباح) بنسب تصاعدية، والزروع والثمار بنسبة العشر فيما يعتمد على الأمطار والأنهار العامة، ونصف العشر فيما يسقى بآلة ونحوها.
وإذا لم تكف حصيلة زكاة هذه الأموال، فلا مانع شرعاً في رأي فقهاء العصر من إيجابها على أصناف الأموال المستحدثة في زمننا وهي الآلات الصناعية، الأوراق المالية (كالأسهم والسندات) وكسب العمل والمهن الحرة، والدور والأماكن المستغلة عن طريق الإيجارات. غير أن قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة لم يوجب الزكاة على المستغلات العقارية ونحوها إلا بعد حولان الحول على الأموال المدخرة.
والعلماء يطالبون المسؤولين بالعودة إلى جباية فريضة الزكاة في وقتنا الحاضر كما فعلت بعض الدول الإسلامية والعربية بقانونها الحديث؛ لأنه مبدأ حيوي يحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية.(7/30)
2 - كفاية الفقراء:
للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي المسؤولة عن رعاية مصالحهم؛ لأن الإسلام يجعل العلاقات الاجتماعية قائمة على أساس من التراحم والتعاطف والتوادد، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كاد الفقر أن يكون كفراً» (1) . وقال صلّى الله عليه وسلم لعلاج ذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (2) ولقد أوجب الدين الحنيف أيضاً تكليفاً في المال غير الزكاة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن في المال حقاً سوى
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.(7/31)
الزكاة» (1) بل إن مبدأ كفاية الفقراء للعاجزين على العمل يتجلى في أصدق صورة في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم؛ ولن يُجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً، ويعذبهم عذاباً أليماً» (2) هذا بالإضافة إلى حث الإسلام على تقديم الصدقات المستحبة تقرباً إلى الله عز وجل كما هو معروف، يقول عليه الصلاة والسلام: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» (3) .
وكذلك يجب على الإنسان تقديم النفقات لكفاية أقاربه الفقراء المحتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم.
3 - الإنفاق في سبيل الله:
أوجب الإسلام على المسلمين الإسهام بالإنفاق في سبيل الله، والمقصود به الإنفاق على كل مايتطلبه المجتمع من مصالح ضرورية كالدفاع عن البلاد، وتزويد الجيش العامل بالمؤن والسلاح، وبناء المؤسسات الخيرية العامة التي لاغنى لأي بلد متحضر عنها. وللحاكم كيفية تنظيم الحصول على هذه الموارد الكافية لسد العجز في موازنة الخزينة العامة، من طريق وضع نظام ضريبي عادل يلتزم خطة التصاعد بحيث يرتفع سعر الضريبة كلما زاد دخل المكلف، وبحسب درجة الغنى واليسار، ونص فقهاء الإسلام كالغزالي والشاطبي والقرطبي على مشروعية طرح ضرائب
__________
(1) أخرجه الترمذي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. وأما حديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» فهو ضعيف أخرجه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس.
(2) أخرجه الطبراني عن علي رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(7/32)
جديدة على الأغنياء والغلات والثمار وغيرها بقدر مايكفي حاجات البلاد العامة، وأقر ذلك مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول المنعقد سنة 1964م في قراره الخامس (1) .
والخلاصة: إن الشريعة الإسلامية قيدت المالك في استعمال سلطاته على ملكيته، وفي حق التملك ذاته بقيود كثيرة، تحقيقاً لمبادئ المصلحة والعدل والمساواة بقدر الإمكان.
سابعاً ـ موقف الإسلام من تعارض مصلحتي الفرد والجماعة:
إن النظام الرأسمالي يقدس حرية الفرد ومصلحته، ويعتبر مصلحة الجماعة هي حصيلة المصالح الفردية، وإن النظام الاشتراكي يلغي دور الفرد ويقدس مصلحة الجماعة ويفضلها على مصلحة الفرد. ويعتبر التضامن الاجتماعي هو الأساس الوحيد لحياة الجماعة. والفرد مسخر لخدمة مصالحها. وأما الإسلام فقد راعى مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وأقام توازناً فعالاً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل الاجتماعي، فلم يسمح في الحالات العادية للفرد أن يطغى على حساب المجموع، ولا للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع، وذلك منعاً من الإخلال بميزان العدالة، ورعاية للحقين معاً بقدر الإمكان، فإذا تعارضت المصلحتان في ظرف استثنائي مثلاً، وتعذر التوفيق بينهما، قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة دفعاً للضرر العام، ولكن مع المحافظة على حق الفرد في التعويض.
__________
(1) واشترط لجواز فرض الضريبة أربعة شروط: الأول: أن تكون هناك حاجة حقيقية بالدولة إلى المال، ولا يوجد مورد آخر لتحقيق الأهداف وإقامة المصالح دون إرهاق الناس بالتكاليف. الثاني: أن توزع أعباء الضرائب بالعدل بحيث لا يرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا تحابى طائفة وتكلف أخرى. الثالث: أن تصرف الضريبة في المصالح العامة للأمة. الرابع: موافقة أهل الشورى والرأي في الأمة. لأن الأصل في أموال الأفراد الحرمة، والأصل أيضاً براءة الذمة من الأعباء والتكاليف.
هذا.. وهناك رأي آخر يقرر تحريم فرض الضرائب، لأنه لا حق في المال سوى الزكاة، ولأن الإسلام احترم الملكية وحرم الأموال كما حرم الدماء والأعراض. والضرائب مهما قيل في تسويغها فهي مصادرة لجزء من المال يؤخذ كرهاً عن مالكيه، ولأن الأحاديث النبوية قد جاءت بذم المكس ومنع العشور.(7/33)
وعلى أساس هذه النظرة المتوازنة، نظر الإسلام إلى المال، فاعترف بمصلحة الفرد فيه وبحقه في تملكه، كما أنه اعترف بمصلحة الجماعة وبحقها في التملك، وحينئذ تتجاور في الوجود الإسلامي الملكية الخاصة مع الملكية العامة وملكية الدولة، ويكون للإسلام عندئذ غاية مزدوجة رسم لها الشرع حدوداً معينة واضحة، فهو حين يبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ فإنه يضع لها حدوداً وقيوداً تمنع اتخاذها سبيلاً للضرر كما ذكرت، ويسخرها نحو مصلحة المجتمع، وللمجتمع استرداد هذه الملكية أو تعديلها إذا وجد فيما يفعل مصلحة عامة، وذلك كله حماية للمصالح الأساسية التي شرعت من أجلها الحقوق، ودرءاً للتعسف والظلم. وبه يتبين أنه لا خطورة في تشريع الإسلام في اعترافه بالملكية الفردية مادام يملك إلغاءها أو تعديلها.
وبإيجاد هذا النوع من التوازن الاقتصادي بين مصلحتي الفرد والجماعة على أسس من العدل، وحسبما تقتضي المصلحة، استطاع الإسلام حل المشكلة الاقتصادية التي يثيرها الاقتصاديون وهي: كيف يستطيع المجتمع تأمين إشباع الحاجات الكثيرة المتعددة بموارد الطبيعة المحدودة لديه؟
إن إجابة الإسلام عن هذه المشكلة هي أن الطبيعة ليست بخيلة ولا عاجزة عن تلبية حاجات الإنسان، فهي من صنع الله الذي تكفل بالرزق. لجميع مخلوقاته، وإنما المشكلة تتجسد في الإنسان نفسه، فظلم الإنسان في حياته العملية في توزيع الثروة، وعدم استثماره واستغلاله موارد الطبيعة هما السببان المزدوجان للمشكلة التي يعانيها الإنسان منذ القدم، فمتى انمحى الظلم في التوزيع، وجنَّد الإنسان كل طاقاته للاستفادة من الطبيعة المخلوقة المتجددة زالت المشكلة الاقتصادية.(7/34)
ثامناً ـ أثر الدين والأخلاق والتزام كل مبادئ الإسلام في تكوين مذهبنا الاقتصادي:
لا يمكن الحكم على نجاح المذهب الاقتصادي الإسلامي إلا بتطبيق كل أنظمة الإسلام السياسية والاجتماعية والمالية؛ لأن الإسلام كل لا يتجزأ، ووحدة متكاملة مترابطة لا يمكن تجزئة بعضه عن بعض، والاقتصاد الإسلامي يعتمد في الدرجة الأولى على الإطار العام من الدين أو العقيدة، والخلق أو السلوك، والمفهوم الشامل عن الكون والحياة.
العقيدة الإسلامية في قلب المسلم ووجدانه هي الدافع المحرك لاحترام النظام الاقتصادي والإيمان به والإذعان لتعاليمه.
والقيم الخلقية في الإسلام لا تقل أهمية عن النصوص التشريعية الملزمة في توجيه سلوك الفرد بالنسبة لغيره، واحترامه حقوق الآخرين، ورعايته لمصلحة الجماعة، وغيرته على حرمات بلاده والحفاظ عليها بطواعية واختيار ودافع ذاتي ورقابة داخلية للنفس على ذاتها، فالبر والإحسان والرحمة والإخاء العام والتضحية والإيثار والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، كل تلك العواطف التي هي من صميم الدين تؤثر تأثيراً واضحاً في تكييف الحياة الاقتصادية، وتساند المذهب فيما ينشده من غايات، وتسمو بالإنسان دائماً إلى مواطن الخير، وتبعده عن عوامل الشر، وتُسهم في إيجاد قاعدة عتيدة من التكافل والتضامن الاجتماعي بين جميع الأفراد، فالمؤمن المخلص التقي هو الذي يرعى مصالح غيره، كما يرعى مصالح نفسه، وهذه هي مقومات المجتمع الإنساني الفاضل.
ومفهوم الإنسان عن الكون والحياة والعلاقات الاجتماعية في أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الله هو القابض والباسط والرازق والمتصرف، وأن المال مال الله، والإنسان خليفة ووكيل عن الله في ملكه، وأن المال وسيلة لا غاية، فهو خير إن استعمله صاحبه في الخير، وشر إن أدى إلى الشر والضرر، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد وابن مَنيع عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.(7/35)
وإن الملكية الخاصة لها طابع ووظيفة اجتماعية، وإنها نعمة كبرى يجب صيانتها، والتوصل إليها من طرق حلال، وأن الربح المعقول هو الخالد الدائم والذي يصون التجارة ومصلحة التاجر، وأن العدو يجب جهاده، وأن الحاكم عادل أمين على مصالح الرعية، كل هذه المفاهيم ونحوها تؤثر في الحقل الاقتصادي تأثيرات بعيدة المدى.
تاسعاً ـ خلاصة هذا المبحث:
إن الإسلام ـ كشأنه في كل ما جاء به ـ هو شريعة التوسط والتوازن والاعتدال، وإنه نظام فريد مستقل بنفسه، قائم بذاته، له خصائص ومزايا تميزه عن كل ما عداه من النظم الأخرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتشريع، وإنه لا قصور فيه عن معالجة المشكلات والأوضاع الحديثة.
لذا فإنه يلتقي مع أحسن ما في النظامين الحاضرين: الاشتراكي والرأسمالي من مزايا وصفات، ويتجنب ما فيهما من مغالاة وانحراف عن سنن الفطرة الإنسانية، ويسير بأبنائه إذا التزموا مبادئه نحو السعادة الحقيقية التي من أبرز مظاهرها شعور الإنسان بالاستقرار المادي، والاطمئنان النفسي والثقة بالذات، والتمتع بالحرية والكرامة.
وليست فلسفة الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية قائمة على مجرد إشباع البطون؛ لأن الإنسان جسم وروح، لا مجرد آلة، وإنما هو يفيض بمشاعر الآمال والآلام، ويحس في قرارة نفسه العجز في يوم ما، والناس يتفاوتون عادة في قدراتهم الإنتاجية بحسب تفاوت استعدادهم الفطري وقواهم الفكرية والجسدية، وليس من العدل ولا من المعقول حرمان إنسان من ثمرات عمله أو الحد منها ما دامت مشروعة.
ولقد حارب الإسلام الثالوث الهدّام المخيف (وهو الفقر والجهل والمرض) وقاوم كل عوامل التخلف الاقتصادي: وهي البطالة ووسائل الكسب غيرالمشروع وإضعاف الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، كما أنه حقق في الواقع التاريخي مبادئه في التكافل الاجتماعي.(7/36)
المبحث الثاني ـ المعالم الكبرى لاشتراكية الإسلام:
تمهيد حول مصطلح الاشتراكية:
شاعت كلمة (الاشتراكية) في عصرنا الحاضر بدءاً من القرن التاسع عشر، وتحمس لها الناس لأنها نشأت كرد فعل لظلم الرأسمالية، ولأنهم وجدوا فيها ملامح الإنسانية والعدل والرفاه والمساواة، باعتبار أن النظام الاشتراكي يتضمن الأسس اللازمة لإسعاد الإنسان سعادة عادلة، ومنع استغلال الإنسان لغيره فرداً أو جماعة، سواء أكان استغلالاً اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً. وتتفاوت أنواع الاشتراكية تطرفاً واعتدالاً، بمقدار تنازل أفراد المجتمع للدولة عن الحريات السياسية والمالية. فكلما كان ذلك القدر المتنازل عنه أبعد عن محو شخصية الفرد ومسؤليته، كان أقرب إلى الوضع الطبيعي للإنسان.
ولكن الوسط الديني الإسلامي والمسيحي وأي دين نفر مما صاحب الاشتراكية السائدة من إلحاد وجحود لوجود الله وأصول الدين وعقيدة البعث بالذات بقصد إنصاف الطبقة الكادحة، مع أن هذا الجحود يذوب أمام براهين إثبات الإله المعروفة، بل ولا حاجة إليه إطلاقاً في ميدان العقل والتجربة لإنصاف تلك الطبقات المظلومة أو الكادحة، وإنما على العكس يقتضي العقل والتجربة أن تكون الدعوة لإنصاف هذه الطبقات أجدى فيما إذا اعتمدت على الإيمان بوجود الله وبالحساب يوم الجزاء.
ونتيجة لهذه النفرة مما اقترنت به الاشتراكية من إلحاد أو شيوع في الأموال والأعراض، فضّل كثير من كتاب الإسلام استخدام كلمة أخرى بديلة عنها وهي (العدالة الاجتماعية) أو (التكافل الاجتماعي) أو الضمان الاجتماعي: أي أن يكون كل فرد في الدولة في حمايتها ورعايتها بوصفها ممثلة للجماعة. وعندئذ يتحقق الضمان لآحاد الناس حين يجدون من المجتمع حماية وأمناً واستقراراً.(7/37)
والحقيقة أن اللغة العربية لا تمنع قبول هذا المصطلح الذي ينبئ عن الاشتراك في الملكيات، كما أن فقه الإسلام الذي يقرر الاعتماد على المقاصد والمعاني لا ينفر من هذه الكلمة فيما تستهدفه من غايات إنسانية، مجردة من العيوب التي صاحبتها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم عن اشتراك الناس في مصادر الإنتاج الأساسية والأموال الضرورية: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (1) . وكان الهدف الجوهري من رسالات السماء هو إقامة المجتمع الفاضل القائم على أساس من المحبة والإيثار والمساواة بين الأفراد والتزام الحق والعدل ومنع الظلم بمختلف أشكاله. فالاشتراكية في جوهرها الإنساني وغاياتها النبيلة قديمة منذ المجتمعات البدائية، ولا يضيرنا الاعتزاز بالإسلام والاعتراف بسموه وذاتيته واستقلاله عن الأنظمة الأخرى أن نعرف موقفه من نظام (الاشتراكية) الحالي، بل ونتعرف مبادئه وأسبقيته في الأخذ بأحسن ما ينشده هذا النظام، وإصلاح عيوبه وتجريد أخطائه، مما يؤدي إلى إعلان هذه الحقيقة وهي القول بـ (اشتراكية الإسلام) .
معالم اشتراكية الإسلام:
للإنسان منذ القدم مشكلة مثلثة تتطلب حلاً مناسباً في كل عصر، وهي تتكون أولاً من حاجاته البدنية الطبيعية المتنوعة كالغذاء والكساء والمسكن والثقافة والعلاج ونحوها، وثانياً غرائزه المتعارضة التي من أهمها غريزة التملك، وغريزة الاجتماعية أي العيش في مجتمع، وثالثاً حبه الحرية المطلقة في السلوك والتصرفات.
وقد أجاب الإسلام عن هذه المشكلة بوضع المبادئ التالية:
أولاً ـ التكافل الاجتماعي:
أبنت في المبحث الأول أسس العدالة الاجتماعية، وأوضح بعض جوانبها هنا.
__________
(1) سبق تخريجه.(7/38)
1 - المسلمون كالجسد الواحد (المشاركة الوجدانية والعملية) :
لا تتحقق سعادة الفرد في الإسلام إلا بسعادة الجماعة، فكل فرد يكمل الفرد الآخر لإقامة بنيان واحد، دل على ذلك أحاديث نبوية كثيرة مثل: «ذمة المسلمين واحدة، تتكافأ بها دماؤهم، وهم يد على من سواهم» (1) «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» (2) «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3) وهكذا تنمي الشريعة في نفس كل مسلم الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتدفعه إلى المشاركة العملية بباعث المشاركة الوجدانية أو الإيمان الذي يربطه بإخوته في العقيدة برباط متين لا تنفصم عراه. فيتضامن جميع الأفراد في سبيل تحقيق سعادة المجموع، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/5] .
2 - كفالة المجتمع الحاجات الأساسية لكل إنسان فيه:
يترتب على مبدأ التكافل الاجتماعي: كفالة الحاجات الضرورية لكل عضو في المجتمع، لا على أن ذلك مجرد صدقة، وإنما قياماً بحق يمنح صاحبه حق الادعاء به أمام القاضي حتى يستوفي ما يكفيه من بيت المال، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة.. ومن ترك ديناً أو ضياعاً (4) فليأتني فأنا مولاه» «ابغوني في ضعفائكم، إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم» (5)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(2) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه.
(4) الضَياع: هو ضياع الأطفال بموت عائلهم (عمدة القاري: 235/12) والحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن جابر.
(5) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه.(7/39)
والضعيف يشمل ضعف الجسد وضعف الفقر والعذر والحاجة. وابغوني: أي اطلبوا إلي ضعفاءكم. ويتم تنفيذ هذا الواجب عن طريق الزكاة التي هي التزام مدني واجب على الغني، لا مجرد التزام ديني، ويجب على الدولة جبايته، فإن لم تكف الزكوات جاز فرض ضرائب أخرى على الأغنياء لتحقيق كفاية الفقراء كما بان سابقاً. ويسأل كل حاكم مباشرة عن أي فرد من أفراد الفقراء كما ذكر سابقاً. ويسأل كل حاكم مباشرة عن أي فرد من أفراد الرعية، كما بدا ذلك واضحاً في إحساس الخلفاء الراشدين بهذه المسؤولية. وفي عهد عمر تكافل المسلمون جميعاً لدفع غائلة المجاعة عام الرمادة، وقال عمر وقتذاك: «لو أصابت الناس الشدة لأدخلت على أهل كل بيت مثلهم، فإن الناس لا يهلكون على أنصاف بطونهم» .
3 - توفير العمل والحث عليه:
على المجتمع ممثلاً بالدولة تهيئة فرص العمل المناسب لكل قادر عليه (1) ، ومقاومة كل أسباب التعطل والبطالة، حتى لا يثقل كاهل بيت المال بتأمين حاجات العاطلين. ويراعى في كل عمل مدى حاجة المجتمع إليه، وما يتطلبه العامل من حماية وتأمين وعدالة في التوزيع وراحة مناسبة. وعلى رب العمل إيفاء حق العامل بمجرد الفراغ من عمله لقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (2) وعليه ألا يكلفه ما لا يطيق، وأن يعاونه عليه إن كان
__________
(1) روى الترمذي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أرشد أنصارياً إلى أن يعمل بالاحتطاب، وساعده بأن أعدَّ له فأساً بيده الشريفة. وروى الإمام أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له امرأة فليتزوج، أو ليست له دابة فليتخذ دابة» وهذا بلا ريب من بيت مال المسلمين.
(2) أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو ضعيف.(7/40)
مرهقاً. وعلى الدولة العناية بالاستثمار والاستغلال المشروع والتنمية أكثر من اهتمامها بجباية ضرائب الإنتاج في الزراعة ونحوها، قال علي رضي الله عنه لأحد ولاته: «وليكن نظرك في عمارةالأرض (أي الإنتاج) أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج (أي من فرض الضرائب) ؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً» . وحث الإسلام في آيات وأحاديث متعددة كما عرفنا على العمل، واعتبره من أفضل موارد الكسب المشروع، ورأس وسائل الإنتاج. كما أنه هو أساس التفاضل بين الأفراد ومعيار تقييم الناس: «قيمة كل امرئ ما يحسنه» وقال سيدنا عمر: «إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل: لا عمل له سقط من عيني» . ومن هذا وجب إتقان الأعمال وتحسينها، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) . وينبغي الاتجاه إلى الكسب والعمل المنتج بدافع أو حافز داتي لقوله صلّى الله عليه وسلم «اليد العليا خير من اليد السفلى» (2) .
4 - كفالة القاصرين والعجزة عن العمل:
يجب على الأب كفاية ولده حتى البلوغ، وعلى الغني الموسر كفالة قريبه المعسر والإنفاق عليه إذا كان من الأصول والفروع. وأوجب بعض الفقهاء وهم الحنفية النفقة للمحارم كالإخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات. وجعل المذهب الحنبلي وجوب النفقة مع قاعدة الميراث، فإذا لم يكن للولد أو العاجز عن العمل أو الشيخ الهرم أحد يكفيه من أقاربه، وجبت كفايته من بيت المال.
وكان عمر رضي الله عنه يرتب نفقة للطفل منذ فطامه، ثم جعله منذ الولادة
__________
(1) أخرجه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، لكنه ضعيف.
(2) أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه وهو حديث صحيح، وقد سبق تخريجه.(7/41)
بمقدار مئة درهم، حتى لا تعجل الأمهات فطام أولادهن، ثم إذا ترعرع جعلها مئتين. وفرض عمر أيضاً نفقة لشيخ من أهل الذمة حينما وجده يسأل الناس بسبب الحاجة والسن وأداء الجزية. ومثل الولد والشيخ الهرم: كل عاجز عن العمل بسبب الإصابة في عمله أو بسبب آفة صحية أو عقلية تمنع من التكسب، أو بسبب فقد العائل أو بسبب كارثة مؤقتة كغرق أو حريق. وقد ذكرت مبدأ (كفاية الفقراء) في المبحث الأول، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (1) «ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به» (2) «أيما أهل عَرْصة ـ أي بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعاً، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (3) .
وإذا كان الصحابة كما لاحظنا قرروا صوراً من التكافل لمطلق المصلحة والعدل، فإن كل ما تسنه الدولة من قوانين للتأمين الاجتماعي أو للتقاعد أو للمساعدات لفئة من المواطنين نقداً أو عيناً كرعاية الطفولة أو إصلاحيات المنحرفين من الأحداث ونحوها بحسب الحاجة وتطور الزمن: يكون مقبولاً بشرط ألا يخالف أصلاً من أصول الشريعة. قال مجاهد: «ثلاثة من الغارمين: رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حرق فذهب بماله، ورجل معه عيال وليس معه مال» وقد طلب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتصدقوا على من أصابته جائحة.
5 - التعاون في درء الأخطار:
أبنت سابقاً أن للدولة الحق في فرض الضرائب على الأغنياء في حالة فقر بيت المال، وتهديد المجتمع بأي خطر كالمجاعة والوباء والحرب إذ «يتحمل الضرر
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه الطبراني عن أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه الحاكم وأحمد، وفيه شخص مختلف فيه.(7/42)
الخاص لدفع الضرر العام» ويجوز للجائع حال الضرورة أخذ الطعام من الآخرين، لإنقاذ نفسه من الهلاك، على أن يدفع ثمنه لأن (الاضطرار لا يبطل حق الغير) . وعلى مالك الطعام أن يدفعه إلى المحتاج إليه، وإلا كان آثماً، ويجوز للمضطر إليه مقاتلته، كما له أن يقاتل صاحب الماء الذي يمنعه عن العطشان، فإن قتل الجائع وجب القصاص على القاتل. وقد نوه سيدنا عمر بهذا المبدأ وما قبله فقال: «لو استقبلت من أمري مااستدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها على الفقراء» وقال ابن حزم الظاهري: «فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة» .
وهكذا يظهر لنا أن هناك تضامناً فعالاً بين الفرد والجماعة الممثلة بالدولة لتحقيق السعادة والرفاه، فكما أن الدولة مسؤولة عن رعاياها (مجتمعها) يعتبر كل فرد في المجتمع مسؤولاً عن أي فرد آخر، وهذا ليس مجرد تكافل أخلاقي، وإنما هو تكافل قانوني إلزامي، وإن لم يوجد جزاء أو عقاب دنيوي على تقصير الإنسان بواجبه فيه. وعليه تكون الدولة في النظام الإسلامي أشبه بدولة اشتراكية، وكل فرد فيها أقرب إلى أنه عضو اشتراكي فعال يساهم في تحمل المسؤولية الاشتراكية على وفق ترتيب منطقي وهو: «وابدأ بمن تعول» (1) أي ابدأ بنفسك ثم بمن تجب عليك نفقتهم من الأهل، ثم العناية بشأن الجار، والضيف، ثم كل محتاج، ثم التعاون في استغلال موارد الطبيعة. ولا يقتصر الأمر على جانب الاقتصاد، بل لا
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه، ومطلع الحديث: «اليد العليا خير من اليد السفلى» .(7/43)
بد من المشاركة في نواحي الحياة الأخرى من تربية وتعليم، وممارسة أصول الحياة السياسية والمدنية كالحرية والكرامة والعدالة والشورى وتكافؤ فرص الحياة السياسية.
ثانياً ـ الملكية الخاصة ووظيفتها الاجتماعية:
1) ـ إقرار الملكية الفردية: أوضحت سابقاً أن الإسلام يقر الملكية الفردية ويحترمها، تجاوباً مع فطرة الإنسان وغريزة التملك والاقتناء، فطلب الغنى ليس محرماً في ذاته، ولكن يشترط أن يتخذ الإنسان وسائل الكسب المشروعة له، ومن أهمها وأشرفها العمل، ومن أفضل الأعمال إحياء الأرض الموات التي لا مالك لها واستثمارها.
وإذ يجيز الإسلام التملك بدون عمل عن طريق الإرث أو الوصية أو الهبة، فما ذلك إلا لأن الوارث امتداد لشخصية المورث، وأما الوصية أو الهبة ونحوهما من التبرعات فهي أثر لحرية الإنسان في التصرف، وتشجيع على أعمال البر والخير وعمل المعروف الذي يدعم فريضة الزكاة، ويغطي نواحي الحاجة والنقص أو الحالات التي لا تصرف فيها الزكاة، مع توافر بعض المقتضيات الإنسانية لها.(7/44)
2) ـ قيود الملكية: عرفنا أيضاً أن إقرار الملكية الخاصة ليس بصفة مطلقة، وإنما هي مقيدة بقيود كثيرة تجعل للملكية وظيفة اجتماعية وطابعاً إنسانياً كريماً. وهذه القيود منها عام يرتبط بالنظام الإلهي العام للإسلام كتحريم المعاملات الربوية أو القمار أو الاتجار بالخمر وسائر ما حرمه الله، ومنها خاص يمس النشاط الفردي ويجعله ذا طابع أو اتجاه اشتراكي معتدل، كتحريم الاستغلال الممنوع والاحتكار والغش، وكراهية تكدس الثروات المالية. وتحريم الاستغلال شامل استغلال رب العمل فقر العامل فيظلمه، واستغلال التاجر حاجة المستهلك، فيغلي قيمة السلعة، أو جهل المنتج أو المصدر، فيشتري بضاعته بثمن بخس (تلقي الركبان) ، أو سذاجة البدوي فيبيعه السلعة بأزيد من ثمنها (بيع الحاضر للبادي) واستغلال النفوذ بسبب الولاية أو القرابة أو الحسب والنسب.
والاحتكار محرم لأنه يمنع تداول الثروة، ويؤدي إلى السيطرة والاستغلال، وقد يعطل الاستثمار، كمافي حال احتجار الأرض بغير استثمار مما يوجب سلبها من محتجرها بعد ثلاث سنين، كما تقدم.
وتكدس الثروات المكروه في الإسلام، وإن لم يصل إلى درجة التحريم، فهو ممقوت لا يتفق مع الهدف الأمثل للشريعة، وللدولة أن تتخذ السياسة التي تمنعه، لما يؤدي إليه من ترف وفساد وسيطرة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم من إقرار التوازن الاقتصادي بين المهاجرين والأنصار، وسار على نهجه الخلفاء الراشدون، فترك سيدنا عمر الأراضي المفتوحة في العراق والشام ومصر بيد أهلها، ولم يقسمها بين الفاتحين، حتى لا تنحصر الثروة بأيديهم، ولا يبقى شيء لمن يأتي بعدهم، واستدل على صحة فعله الذي وافقه عليه الصحابة بقوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} الآيات [الحشر:7/59-10] .(7/45)
وكان النبي حريصاً على عدم اتساع الملكيات الزراعية، فنهى عن كراء الأرض، كما سيتضح في بحثه المخصص له. ويعتبر نظام الإرث في الشريعة من أكبر العوامل على تفتيت الثروة ومنع تركيزها في أيدي فئة قليلة.
وقد أوردت أهم القيود التي تقيد حق الملكية الفردية، والتي تجعلها ذات وظيفة اجتماعية يمارسها صاحبها لمصلحة المجموع، ودون تمسك بأنها حق مطلق، باعتبار أن المالك الحقيقي للأموال هو الله تعالى، والناس لهم عليها حق الاستخلاف، قال الله تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/57] وهذه القيود الشرعية الواردة على الملكية الخاصة: هي ألا تؤدي الملكية إلى الإضرار بالغير، وأن يخرج مالكها منها الزكاة والنفقات الواجبة على الغني الموسر لقريبه المعسر، سواء أكان من الأصول أم الفروع أم الحواشي أم الزوجات. وأن تستخدم الملكية في صالح النفع العام، أي أنه يجوز تحديدها أو انتزاعها من مالكها إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك بشرط دفع ثمنها لصاحبها.
وأما إنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه، وأعطي لفقير، فذلك صحيح، لا يتنافى مع مبدأ مشروعية التأميم في أحوال استثنائية فقط؛ لأن واقع المجتمع قد تغير عما كان عليه حال المسلمين في صدر الإسلام، فقد كان أغنياء المسلمين يبذلون أموالهم في سبل الخيرالعامة عن طواعية واختيار، عملاً بما ندبهم إليه الإسلام ورسوله، والقيام بالواجب بدافع ذاتي أفضل وأكرم بلا شك من القهر عليه.
واشتكى أحد الولاة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله من تكدس الأموال في بيت المال، دون أن يجد فقيراً يعطيه، فأمر عمر بصرفه في قضاء ديون الغرماء المدينين، وكان الفقراء يتعففون من أخذ الزكوات، حتى نشأت مشكلة البحث عنهم في عهد عمر بن الخطاب، مما اضطره إلى إحداث نظام الخفراء (أو العَسس) في الليل للبحث عن المحتاجين لإعطائهم حقهم من بيت المال.(7/46)
وبما أنه قد تغيرت ظروف المجتمع اليوم، وساءت أحوال المسلمين وضنَّ الناس بما عندهم وقصروا في أداء واجبهم، فلا مانع من اتخاذ بعض الإجراءات الاستثنائية المرهونة بوقت الحاجة لتصحيح بعض الأوضاع الفاسدة، وإجبار الأغنياء على إعطاء حق الفقراء، أو تأميم بعض أموالهم ليقوم الفقير باستثمارها، بعد أن منعوا الزكاة ونحوها من الواجبات المفروضة. قال النبي صلّى الله عليه وسلم عن مانع الزكاة: «ومن منعها ـ أي الزكاة ـ فإنا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا عز وجل» (1) . هذا بالإضافة إلى أن بعض ملكيات الإقطاعيين الكبيرة كانت قد اكتسبت بوسائل غير مشروعة، إما بخدمة المستعمر، أو الحاكم الظالم. ولا شك بأنه يجوز مصادرة الأراضي والأموال المكتسبة بوسيلة غير شرعية كما عرفنا سابقاً. كما أنه إذا لم تتحقق كفاية الفقراء، لا مانع شرعاً من فرض الكفاية اللازمة على الأغنياء عملاً بالمبدأ الشرعي: «إذا بات مؤمن جائعاً فلا مال لأحد» .
3) ـ مبدأ المساواة الاجتماعية في الإسلام:
من البدهيات المسلمة المعروفة أن الإسلام دين المساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع المسلم، فلا تمييز بين الناس بسبب الجنس أو اللون، أو الحسب والنسب، أو الغنى والفقر، وإنما الكل أمام الله تعالى، وفي المنزلة الاجتماعية سواء، حتى يقضى على كل بواعث الجرائم التي يدفع إليها وجود الامتياز المادي والأدبي. وحينئذ فلا يسمح الإسلام بوجود طبقات اجتماعية تتفاوت في الدرجة الاجتماعية، وإن كان هناك تفاوت مادي بين غني وفقير، في حدود كفاية الفقير، وعدم اكتناز المال لدى الغني، قال الله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} [الزخرف:32/43] {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/9] والآية الأولى لا تعني وجود مجتمع طبقي في نظام الإسلام، إذ ليس في
__________
(1) أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.(7/47)
الإسلام طبقات ذات امتيازات اجتماعية، وإنما يقر الإسلام وجود تفاوت مادي بين الإسلام؛ لأن الغنى والفقر كل منهما محل مسؤولية وابتلاء واختبار، فلا طبقية إذن، وإنما هي مسؤولية على كل منهما، الغني في استغلال ماله، والفقير في اختبار صبره ومدى جهاده في الحياة.
والتفاوت المادي لا عيب فيه؛ لأنه يتمشى مع الفطرة الإنسانية في حب التملك والاقتناء، ويولد عنصر المنافسة الحرة الشريفة، وتقتضيه طبيعة الناس بحسب تفاوتهم في العلم والعمل والقدرة على الكفاح والإنتاج. وهذا يعطينا الدليل لتوزيع الأعمال والكفايات بين الأفراد. وبذلك تكون أسباب التفاوت المحدودة في المجتمع الإسلامي محصورة في سببين: العمل والعلم. فبالعمل تشتد المنافسة في الإنتاج، وبالتالي في الحفاظ على ثمرات الكسب والغنى واليسار. وبالعلم تتقدم الأمم، ويستفيد العالم من ثمرات علمه لنفع المجتمع وإعلاء كلمة الحق وإبداء النصيحة والإرشاد إلى الخير. والتفاوت في المقدرة والنشاط والعلم لايخلق طبقية اجتماعية لها امتياز أو استعلاء، وإنما هومسؤولية أمام الله، ومسؤولية أمام المجتمع، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» (1) .
ثالثاً ـ الحرية الاشتراكية في الإسلام:
الناس جميعاً أحرار في ميزان الإسلام، ولا خضوع إلا لله وحده، ولا يخضع إنسان لغيره إلا بالحق والمعروف، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
__________
(1) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(7/48)
فمن هذا المبدأ تتأصل الحرية والكرامة للإنسان. فهي شيء ينبع من ذات الإنسان وتكوينه، لا أنها منحة من المجتمع للإنسان. والحرية تكون مصدر الاعتزاز بالشخصية، والشجاعة الأدبية في إعلاء كلمة الحق، ومجابهة الصعاب وعدم خشية أحد إلا الله قال عليه الصلاة والسلام: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (1) وحرية الفرد تستتبع حرية الجماعة السياسية والاقتصادية.
غير أن هذه الحرية ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بالمعيار الاشتراكي الذي يقوم على تكافل أفراد المجتمع، سواء في ذلك الحاكم والمحكومون. فالحاكم الذي ترشحه الأمة وتبايعه مقيد بالعمل بنظام الشريعة، وبمشاورة أهل الخبرة والاختصاص (أهل الحل والعقد) قال الله تعالى آمراً نبيه: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159/3] والمحكومون من الرعية مطالبون بالطاعة في المعروف، وبالنصرة، إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (2) وقال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:71/9] أي، متناصرون، ولهم إبداء الرأي في تصرفات الحاكم كما طالب بذلك أبو بكر في خطبته المعروفة، والدولة الإسلامية مقيدة في علاقتها مع الدول الأخرى بعدم الاعتداء، لقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة:190/2] .
رابعاً ـ القيم الخلقية في النظام الاشتراكي الإسلامي:
أشرت سابقاً إلى دور الأخلاق في بناء الفرد والجماعة، وأضيف هنا أن أفضل أنواع الاشتراكية هي التي لا تفرض بالحديد والنار وبالمجازر الدموية
__________
(1) أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) حديث نبوي أخرجه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنهما.(7/49)
والصراع الحاد بين الطبقات، وإنما التي تنبع من الذات المؤمنة السامية والضمير الإنساني اليقظ والمثل الدينية العليا. فالاشتراكية السياسية والاقتصادية الوطيدة الأركان هي التي تقوم على الاقتناع بضرورة التنازل عن شيء من المصالح الفردية في سبيل تحقيق مصلحة المجموع، وهذا الاقتناع يحتاج إلى تذوق خلقي للعلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، والفهم الخلقي يحتاج إلى قوة دافعة من العقيدة السامية التي قررتها الأديان، وتبلورت ـ أخيراً في الإسلام، لأن الدين سند الأخلاق وحارسها وحافظها من الضعف والانهيار أثناء الأزمات.
ومن أهم الأخلاق الاشتراكية: الإحساس المرهف بالمسؤولية والسمو البشري في التعاطف والتعامل وحب الخير والحق والإيثار. أما الإحساس بالمسؤولية فموزع على الحكام والأفراد، قال صلّى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها» (1) وقد بلغ الإحساس بالمسؤولية عند الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان درجة عالية انعكست على كل الولاة والعمال في الدولة، بل على سائر أفراد المسلمين، إذ كان الواحد يندفع إلى تلبية الواجب وتنفيذ أوامر الإسلام من دون حاجة إلى مراسيم وقوانين وأوامر متتابعة ومتراكمة من الخليفة والحكام بحيث يزحم بعضها بعضاً، وقد ينقض واحد منها الآخر.
وكان أخطر أنواع المسؤولية: هو توزيع الحقوق المالية على الناس في أجزاء البلاد، وقيام الحاكم بواجبه نحو الرعية، وهو الذي أحس به سيدنا عمر حينما قال: «لئن عشت إلى قابل ليبلغنَّ الراعيَ في صنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في
__________
(1) سبق تخريجه.(7/50)
وجهه» وقال أيضاً: «لئن ضلت شاة على شاطئ الفرات لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة» .
وأما التعاطف بين أبناء المجتمع فهو السمة البارزة لاشتراكية الإسلام القائمة على المحبة والإيثار، والأخوة والتضامن والسعي في سبل الخير، قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9/59] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله» (2) «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» (3) «تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك» (4) .
وهناك أحاديث نبوية كثيرة ترغّب في فعل الخير وعمل المعروف وبذل المال، ومساعدة المحتاج، وتقديم القربات، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» (5) «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» (6) .
بهده الأصول الخلقية قامت اشتراكية الإسلام، وبها وحدها تم التوصل لحل مشكلة الإنسان المعقّدة المثلثة، فتحقق التقاء الفرد والمجتمع، والتوافق بين غرائز الإنسان الذاتية الخاصة ومصلحة المجموع، وأثبت التطبيق العملي للاشتراكية بالاعتماد على القيم الخلقية أن القوانين والأنظمة أو السلطة والقهر لا تكفي لنجاح الاشتراكية في إسعاد الإنسان، بل ولن يكتب لها الدوام والاستمرار. وهذه مقولة أعلنتُ عنها منذ عام 1965م قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.
__________
(1) أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو يعلى والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن مسعود، لكنه ضعيف.
(3) الثابت في السنة: «وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً» .
(4) أخرجه أحمد عن معاذ بن أنس رضي الله عنه (الترغيب والترهيب: 23/4) .
(5) سبق تخريجه.
(6) أخرجه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه (الفتح الكبير: 376/3) .(7/51)
المبحث الثالث ـ نظرية القيمة في الإسلام:
تكلمت في المبحث الأول عن هذه النظرية، وبينت أن الإسلام حض على العمل، وطالب القرآن باستخراج خيرات الطبيعة لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] لأن العمل في الحقيقة أساس التقدم وبناء الكون كله. وبه يتم التفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة، أما العمل في الدنيا: فهو كل جهد يؤدي إلى جلب نفع عام أو خاص، أو منع أذى خاص أو عام، أو ازدهار صناعة مفيدة، أو زيادة طيبات الحياة، أو انتشار عمران.
وأما العمل للآخرة: فهو أداء الفروض الدينية فكراً وتعلماً وعملاً وامتناعاً عن الشر ومختلف أنواع الجرائم. ويشمل أيضاً النية الطيبة في إنجاز الأعمال الدنيوية.
والمهم الآن تكرار ما قلته من أن العمل وإ ن كان هو الأساس الأول للقيمة الاقتصادية للسلع وللقيمة الاجتماعية للفرد وللتنمية الاقتصادية، ولاستغلال الثروة الطبيعية، فإن قيمة السلعة تتحدد بحسب العرض والطلب الواقعين عليها، مع التزام مبدأ السعر العادل، وفي ظل من رقابة الدولة. بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (1) ويضم إليه إفتاء فقهاء المدينة السبعة
__________
(1) سبق تخريجه.(7/52)
في عصر التابعين والمالكية والحنابلة ومتأخري الزيدية بجواز تسعير السلع، حينما استبد الجشع والطمع ببعض الناس، وتغالوا في قيم البضائع (1) ، وذلك عملاً بالمصلحة المرسلة مما أوجب القول بتدخل الحاكم لرد التجار إلى مبدأ السعر العادل (أو قيمة المثل) الذي لا يشتمل على غبن فاحش (2) . وعلى هذا فإن أسعار البضائع المصنوعة الآن يدخل العمل أساساً في تقدير أثمانها، ويراعى في ذلك المصلحة العامة، والعدالة في التقييم.
المبحث الرابع ـ كراء الأرض في الإسلام:
قبل أن أذكر اختلاف العلماء الكثير في موضوع كراء الأرض، أبيّن اتجاهات الإسلام وغاياته العامة وروحه التشريعية ومبادئ اشتراكية الإسلام التي أشرت إليها.
إن الإسلام بلا شك يرغب ترغيباً أكيداً في استثمار خيرات الطبيعة واستخراج كنوزها، ويكره تعطيل المال وإضاعته، كما يكره بطالة العامل، ومن هنا كره بعض العلماء تعطيل الأرض عن الزراعة، لأن فيه تضييع المال.
ويحرص الإسلام أيضاً على تعميم الرفاه والرخاء على الناس وقصد النفع العام، وتوزيع الملكيات، وعدم اتساع الملكيات الزراعية بالذات خشية العجز عن استثمارها، ويكره تكدس الثروات واحتكار ملكية الأراضي، وحرمان الأغلبية من تملكها؛ لأن الأرض لله، والله يحب العدالة في التوزيع.
__________
(1) وقال جمهور الفقهاء بحرمة التسعير إلا إذا حصل تعدٍ فاحش في قيمة السلع استناداً إلى قول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الخمسة إلا النسائي عن أنس: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر» ولأن الثمن حق البائع، فكان إليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه. وهذا صحيح في عصر النبي حيث كان يسود الورع.
(2) قال ابن القيم: يجوز التسعير في الأعمال، فإذا احتاج الناس إلى أرباب الصناعات كالفلاحين وغيرهم، أجبروا على ذلك بأجرة المثل. وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال.(7/53)
ويفضل الإسلام أن يكون مورد الإنسان من طريق العمل، ويمقت بصفة عامة كون الإيراد بدون عمل، ومن هنا حرم الربا والقمار والتدليس والغبن والاستغلال والاحتكار. وتأثر بعض العلماء بهذا الاتجاه التشريعي، فحرم أيضاً إجارة الأرض، وتمسك برأيه القائلون بجواز التأميم أو تحديد الملكية.
واشتراكية الإسلام ينبغي أن تنبع كما بينت من الباعث الذاتي والدافع الخلقي، وتكره إجمالاً القهر والجبر وفرض الأمر على الناس بالقوانين الرادعة والزواجر الصارمة ما لم يضطر الحاكم إليها ويقصر الناس بواجباتهم، حتى يكون احترام الحكم قائماً على الرضا والطواعية والاختيار، وليتوفر له الخلود والدوام والبقاء وتمتنع الشحناء والبغضاء والحقد بين الأفراد. ومن هذه الروح أجاز جمهور العلماء كراء الأرض، ولم يجبروا مالكها على استثمارها أو إعارتها للآخرين أو بذلها مجاناً لمن يحرثها، عملاً بمبدأ الحرية الاقتصادية، أي أن كل مالك حر التصرف بماله.
فمن هذه الاتجاهات اختلف الفقهاء في حكم كراء الأرض من أجل زراعتها على رأيين: رأي يمنع ذلك إطلاقاً، ورأي يجيز. ثم إن المجيزين لكراء الأرض اختلفوا فيما بينهم اختلافات جزئية يحسن ذكرها.
أما الفريق الأول الذي يمنع كراء الأرض وهم الأقل فهم بعض التابعين: طاوس وأبو بكر بن عبد الرحمن وطائفة قليلة، وأخذ برأيهم ابن حزم الظاهري، قالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقاً، لا بجزء من ثمرها أو طعامها من الحبوب ونحوها، ولا بشيء من النقود ذهباً أو فضة، ولا بغير ذلك. واستدلوا على رأيهم بدليلين:
أـ دليل عقلي: وهو أن مثل هذا الكراء يتضمن الغرر، أي احتمال إضرار المكتري وهو الفلاح؛ لأنه يمكن أن يصاب الزرع بآفة سماوية أو جائحة من نار أو قحط، أو غرق، فتلزمه الأجرة أو الكراء من غير أن ينتفع من ذلك بشيء.(7/54)
ب ـ دليل نقلي من السنة النبوية: وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلم تنهى عن كراء المزارع. منها: مارواه مالك عن رافع بن خديج: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع. وروي عن رافع بن خديج عن أبيه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن إجارة الأرضين (1) .
وعن جابر قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها، أو ليُحرثها أخاه وإلا فليدعها» (2) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها، أو ليُحرثها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه» (3) ومعنى «فليُحرثها» أي يجعلها مزرعة لأخيه بلا عوض، وذلك بأن يعيره إياها، بدليل ماروى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يمنح أحدكم أخاه - أي أرضاً - خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً» (4) . فهذه الأحاديث تدل صراحة على أن كل مالك مكلف بزراعة أرضه بنفسه، فإن لم يستطع زراعتها كلها أو بعضها، منحها أو منح الجزء الزائد عن طاقته لبعض إخوانه بدون مقابل.
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري والنسائي.
(2) أخرجه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري ومسلم.
(4) أخرجه أحمد والبخاري وابن ماجه وأبو داود (نيل الأوطار 279/5) . وقوله: «لأن يمنح..» أي يجعلها منحة له، والمنحة: العارية.(7/55)
وأما الفريق الثاني وهم الجمهور المجيزون لكراء الأرض مبدئياً فقد اختلفوا اختلافات تتعلق بنوع الأجرة منشؤها ضرورة رعاية بعض قواعد الشريعة الأخرى التي تحرم الربا والغرر. وينحصر اختلافهم في جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها:
1 ً - مذهب بعض التابعين: ربيعة وسعيد بن المسيب: لايجوز كراء الأرض إلا بالدراهم والدنانير فقط، بدليل ماروى رافع بن خديج عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرع مامُنح، ورجل اكترى بذهب أو فضة» (1) ، قالوا: فهذا تصنيف لمستثمري الأرض، ولايجوز تعدي مافي هذا الحديث.
وأما الأحاديث الأخرى فهي مطلقة الكلام، وهذا الحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، أي أنها تفهم وتفسر بحسب مادل عليه هذا الحديث، أو أن النهي المطلق عن المخابرة والمزارعة يحمل على حالة اشتمال العقد على الجهالة والغرر، أو يحمل على اجتنابها ندباً واستحباباً. قال ابن حجر في فتح الباري: إن النهي عن المزارعة محمول عند الجمهور على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها مطلقاً حتى بالذهب والفضة.
2 - مذهب المالكية على المشهور: يجوز كراء الأرض بكل شيء من النقود والمعادن والحيوان وعروض التجارة ومنافع الأموال ماعدا شيئين: الطعام سواء أكان خارجاً من الأرض أم لم يكن، وماتنبته الأرض سواء أكان طعاماً أم غيره سوى الخشب والحطب والقصب ونحوها من كل ما يطول مكثه في الأرض حتى يعد كأنه أجنبي عنها.
فالطعام المستثنى يشمل كل ما أنبتته الأرض كالقمح، وما لم تنبته كاللبن والعسل. وغير الطعام الذي تنبته الأرض، ولا يجوز الكراء به مثل القطن والكتان والعصفر والزعفران.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (نيل الأوطار: 276/5) .(7/56)
والسبب في استثناء الطعام هو عدم الوقوع في الربا ببيع الطعام بالطعام لأجل. وأما استثناء غير الطعام مما تنبته الأرض فسببه وجود الغرر في هذا العقد (أي احتمال أن تخرج الأرض قدر ما أكرى به المكتري أو أقل أو أكثر) ووجود الجهالة أيضاً أي العقد على معلوم هو الأرض بمجهول وهو ما يخرج منها. وكل من الغرر والجهالة يوجب المشاجرة. وعلى هذا فإن المساقاة والمزارعة جائزة عند المالكية. أما المساقاة فهي عقد بين صاحب الأرض والعامل على القيام بخدمة أو مؤنة شجر مثمر كنخل أو كرم عنب بجزء معلوم من الثمرة للأجير. ويجوز أن يضم إليه تباعاً استثمار جزء من الأرض بشرط أن يكون قليلاً بأن تكون أجرته بالنسبة للأجرة الكلية من الثمرة الثلث فأقل.
والمزارعة: هي المعاملة على استغلال الأرض ببعض مايخرج منها، وتجوز عند المالكية بشرط خلوها من كراء الأرض بممنوع بأن لاتقع الأرض أو بعضها في مقابلة بذر، أو طعام ولو لم تنبته، أو ماتنبته ولو غير طعام، كما تقدم. ولم يجز أبو حنيفة المزارعة، ويرى الشافعية عدم صحة المزارعة إلا تبعاً للمساقاة، وتعسر إفراد الشجر بالسقي وبياض الأرض التي لازرع فيها بالعمارة، أي الاستثمار.
ودليل المالكية على ماذهبوا إليه: ما رواه رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولايكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام معين» (1) واستكراء الأرض بالحنطة يعرف بالمحاقلة وقد نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهذا دليلهم على منع كراء الأرض بالطعام. أما حجتهم على منع كراء الأرض
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي.(7/57)
مما تنبت فهو ماورد من نهيه صلّى الله عليه وسلم عن المخابرة (1) : وهي كراء الأرض مما يخرج منها.
3 - مذهب أبي يوسف ومحمد من الحنفية، والحنابلة، والثوري والليث وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة: يجوز كراء الأرض بكل شيء، ولو بجزء مما يخرج منها. وهذا ما عليه المسلمون في كل مكان، لأن ذلك كراء منفعة معلومة (وهي العمل في الأرض) بشيء معلوم (وهو الأجرة) ، فجاز قياساً على إجارة سائر المنافع مثل سكنى الدور واستعمال الحوانيت ونحوها. ويؤكد ذلك من ناحية الأثر حديث ابن عمر الثابت: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر مايخرج منها من ثمر أو زرع» (2) ، أي دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ماتخرجه الأرض والثمرة. ورويت أحاديث أخرى بمعناه عن ابن عباس وأبي هريرة، وكان كل المهاجرين في المدينة يزرعون على ثلث أو ربع إنتاج الأرض، وقد زارع علي كرم الله وجهه وسعد بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وآل عمر، ومعاذ بن جبل في عهد النبي والخلفاء الراشدين.
ورد هؤلاء على أحاديث غيرهم بأن أحاديث رافع ضعيفة لأنها مضطربة المتون أي متغايرة الألفاظ. وإن فرض كونها صحيحة فهي محمولة على الكراهية لا الحظر أو الحرمة، بدليل ما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينه عنها» ولكن قال: «إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيراً له من أن يأخذ
__________
(1) أخرجه أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(2) أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر رضي الله عنه (نيل الأوطار: 272/5) .(7/58)
منه شيئاً» أو إن النهي عن كراء الأرض محمول على ما إذا كانت الأجرة مجهولة أو مضمونة من إنتاج مكان معين من الأرض، مثل اشتراط صاحب الأرض ناحية منها، أو اشتراط ماينبت على حفة النهر لصاحب الأرض، لما فيه من الغرر والجهالة. فدل ذلك على أن الأحاديث التي تمنع من كراء الأرض محمولة على الندب والاستحباب، والأفضل بذلها مجاناً للفلاحين والعمال، بدليل إجماع الصحابة على أن الإجارة جائزة، ولاتجب الإعارة بالإجماع.
المبحث الخامس - الأجر في الإسلام:
الإجارة نوعان: إجارة على المنافع بأن يكون المعقود عليه هو المنفعة، وإجارة على الأعمال بأن يكون المعقود عليه هو العمل. ومثال النوع الأول: إجارة العقارات والدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال، ونحو ذلك بشرط أن تكون المنافع مباحة، فإن كانت محرمة كالميتة والدم وأجر النوائح وأجر المغنيات فلا تصح الإجارة عليها. ومثال النوع الثاني: وهي التي تعقد على عمل معلوم: الاستئجار من أجل البناء والخياطة والحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء، ونحو ذلك من كل مايباح الاستئجار عليه، روي عن رافع بن رفاعة، قال: «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم عن كسب الأمة إلا ماعملت بيديها، وقال: هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش» (1) أي عجن العجين وخبزه، وغزل الصوف والقطن والكتان والشعر، أو نفشه وندفه، وفي رواية (النقش) وهو التطريز.
والإجارة بنوعيها مشروعة مباحة بالقرآن والسنة والإجماع، قال الله تعالى:
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار 282/5 ومابعدها) .(7/59)
{فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] ، {يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص:26/28] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (1) ، «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» (2) . وأجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإجارة، لحاجة الناس إلى المنافع مثل حاجتهم إلى أعيان الأشياء.
لكن أحاط الشرع حق الأجير بضمانات متعددة: وهي الرضا، والعدالة أو الكفاءة، والعرف. فينبغي أن يكون الأجر عادلاً متمشياً مع العرف السائد ومراعى فيه نوع الخبرة، ومعتمداً في التقدير على الحرية والرضا والطواعية، فلا يجوز الإكراه على العمل، ولا إلحاق الظلم بالأجير، ولا منعه حقه أو المماطلة في أدائه، أو استيفاء منفعة منه بغير عوض، إذ إن من استخدم عاملاً بغير أجرة فكأنه استعبده، كما قال فقهاء الإسلام أخذاً من حديث نبوي اعتبر آكل جهد العامل بمثابة من باع حراً وأكل ثمنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره» (3) قال ابن التين: هو سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. وأكد النبي صلّى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى على ضرورة إيفاء حق العامل، كما ذكرت، وكما في قوله: «ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» (4) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر، وأبو يعلى عن أبي هريرة، والطبراني في الأوسط عن جابر، والحكيم الترمذي عن أنس، وهو ضعيف.
(2) أخرجه البيهقي وعبد الرزاق وإسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع بهذا اللفظ عند بعضهم. وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره» (نيل الأوطار: 292/5، 293) .
(3) أخرجه أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، (نيل الأوطار: 295/5) .
(4) أخرجه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار: 295/5) .(7/60)
وحرصاً من الشريعة على حقوق العامل والعمال، ومن أخصها الأجور اشترطت شروط معينة عند الاتفاق على عقد الاستئجار، منها: أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً قدره للعامل جنساً وقدراً وصفة كالثمن في البيع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم: «من استأجر أجيراً فليسمّ له أجرته» والعلم بالأجرة لا يحصل إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان الصريح. ويشترط أيضاً أن تكون المنفعة المؤجرعليها معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب ونحوهما من إجارة الأعمال، وإما بتحديد الأجل إذا لم تكن هناك غاية معروفة، مثل خدمة الأجير مياومة أو مشاهرة أو سنوياً، وذلك إما بالزمان إن كان المأجور عليه عملاً واستيفاء منفعة متصلة الوجود متتابعة التحصيل، مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان إن كان المطلوب مشياً مثل كراء الرواحل، أي وسائط النقل من مكان إلى مكان آخر.
واستحقاق تسلم الأجرة يكون بالعمل أو إنجاز المطلوب من العامل، للحديث السابق: «ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» فإذا لم يكمل عمله، يلزم المستأجر قدر عمل الأجير.(7/61)
أما ثبوت حق العامل في تملك الأجرة ففيه رأيان للفقهاء: قال الشافعية والحنابلة: تثبت الملكية في الأجرة بمجرد انعقاد العقد، أي بنفس عقد الإجارة، لأنه عقد معاوضة، والمعاوضة تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وبناء عليه إذا كانت الإجارة في الذمة، أي تعهد شيء كخياطة أو بناء في ذمة العامل، يلزم تسليم الأجرة في مجلس العقد. وإن كانت الإجارة واردة على شيء معين كعقار معين بذاته أو دابة معينة بذاتها، ملكت الأجرة في الحال ويجب تعجيلها إلا إذا وجد شرط يقتضي التأجيل. وقال المالكية والحنفية: تجب الأجرة باستيفاء المنفعة فعلاً أو بالتمكين من الاستيفاء، ولا تملك الأجرة بالعقد نفسه؛ لأن المستأجر يملك حينئذ الشيء المأجور عليه، فيملك الأجير العوض المستحق تحقيقاً لمبدأ المساواة المطلوبة العاقدين. وذلك إلا إذا اشترط تعجيل الأجرة بالعقد نفسه، أو عجلت فعلاً من غير شرط أو تم الاتفاق على تأجيل الأجرة. وبناء عليه: يستحق الأجير أجرته شيئاً فشيئاً بحسب المنفعة التي قدمها للمستأجر وملكها شيئاً فشيئاً على ممر الزمان. وبعبارة أخرى: يلزم المكري دفع الكراء جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، إلا إذا وجد شرط خلافه، أو كان هناك ما يقتضي التقديم، مثل أن يكون الكراء عوضاً معيناً بذاته، أو يكون كراء في الذمة.(7/62)
والخلاصة: إن العلاقة بين رب العمل والعامل تقوم في الإسلام على أساس الإنسانية والرحمة والتعاون، والعدالة أو الكفاءة والرضا والعرف. ويرغِّب الإسلام أيضاً في إكرام العامل زيادة على أجره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «خيركم أحسنكم قضاء» (1) ويتحدد قدر الشيء المقابل بحسب ما يتعارفه الناس في مثله إذا لم يكن هناك اتفاق صريح على التقدير، أو فوض شخص بأداء شيء لآخر ولم يقدر حدود الشيء المدفوع. ويلزم رب العمل بتعويض العامل عما قد يصيبه من أضرار الآلة والعمل منعاً من الضرر، وللحكومة أن تتدخل في علاقات أرباب العمل والعمال بأن تقرر أن تكون أجور العمال متفقة مع مشقة العمل، ولا تجحف بمصلحة الملاك، منعاً لاستغلال حاجة العمال، ومحافظة على نمو رأس المال للأمة.
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان عن أبي هريرة بلفظ «إن خيركم أحسنكم قضاء» وأخرجه أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله بلفظ «خياركم أحاسنكم قضاء» وأخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي رافع بلفظ «فإن من خير الناس أحسنهم قضاء» (نيل الأوطار: 230/5 ومابعدها) .(7/63)
المبحث السادس ـ السوق المالية:
تمهيد: هذا بحث يتناول حكم الإسلام في أهم المعاملات المعاصرة التي تتم فيما يسمى بالبورصة أو السوق المالية.
والمقصود بالبورصة هنا: مجموعة العمليات التي تتم في مكان معين بين مجموعة من الناس لإبرام صفقات تجارية حول منتجات زراعية أو صناعية أو أوراق مالية، سواء أكان محل الصفقة حاضراً ـ وجود نموذج أو عينة منه ـ أو غائباً عن مكان العقد، أو حتى لا وجود له أثناء التعاقد (معدوم) لكن يمكن أن يوجد (1) ، فيكون التعامل به أمراً احتمالياً، أو ما يسمى في فقهنا غرراً.
وليست البورصة في الحقيقة سوقاً بالمعنى الشائع من كلمة السوق، لأن البورصة تختلف عن السوق في ثلاثة أمور:
1 - تتم الصفقات في الأسواق على أشياء موجودة بالفعل، أما في البورصة فيتم التعامل بالنموذج (عينة) أو بالوصف الشامل لسلعة.
2 - التعامل في السوق يحدث في جميع السلع، أما في البورصة فلا بد من أن تتوافر في السلعة: القابلية للادخار، وأن تكون من المثليات وتكرار التعامل، وكون أثمانها عرضة للتغير في فترة زمنية معينة بسبب ظروف العرض والطلب أو الأحوال المناخية.
3 - تكون الأسعار في الأسواق ثابتة لا تؤثر الأسواق فيها لقلتها، بينما تؤثر البورصات على مستوى الأسعار، لكثرة ما يعقد فيها من صفقات، ولذلك وصفت البورصة بأنها كجهنم.
ومن أهم وظائف البورصة: المضاربة، أي المخاطرة بالبيع أو الشراء بناء على التنبؤ بتقلبات الأسعار بغية الحصول على فارق الأسعار، والبورصة ثلاثة أنواع:
1 - بورصة البضاعة الحاضرة: وهي التي يتم التعامل فيها بناء على عيّنة، ثم يدفع غالب الثمن عند التعاقد، والباقي عند التسليم.
2 - بورصة الأوراق المالية: وهي التي تباع فيها أسهم الشركات المختلفة، أو السندات بسعر بات أو بسعر البورصة في تصفية محددة بتاريخ معين. وهذه الأوراق قد تكون حاضرة، وقد تكون على المكشوف، أي لا يملكها بائعها.
3 - بورصة العقود أو بورصة (الكونتراتات) : وهي التي يتم البيع فيها لسلع غائبة غير حاضرة بسعر بات أو بسعر معلق على سعر البورصة في تصفية محددة، ويكون البيع فيها على المكشوف، أي بيع مقدور التسليم في المستقبل لا في الحال.
وعمليات البورصة ذات أشكال ثلاثة هي:
1 - العمليات العاجلة: ويلجأ إليها الراغبون في استثمار أموالهم بشراء أوراق مالية، ويتم بيعها عند توافر فرصة للربح، أو وجود أمل في الحصول على الجوائز التي تعطى لبعض السندات بطريق السحب للأرقام.
2 - العمليات الآجلة: وهي نوعان:
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 391/5.(7/64)
أـ العمليات الشرطية البسيطة: وهي التي يكون فيها الخيار للمضارب بين فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله، أو تنفيذ العملية إذا رأى تقلب الأسعار لصالحه، على أن يدفع تعويضاً متفقاً عليه سلفاً.
ب ـ العمليات الشرطية المركبة: وهي التي يكون فيها الخيار للمضارب بين أن يكون مشترياً أو بائعاً، وأن يفسخ العقد، إذا رأى مصلحة له في ذلك عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة، يدفعه لصاحبه.
جـ ـ العمليات المضاعفة: وهي التي يكون فيها الحق للمضارب في مضاعفة الكمية التي اشتراها أو باعها، بسعر التعاقد، إذا رأى مصلحة في التصفية، على أن يدفع تعويضاً مناسباً متفقاً عليه، يختلف بنسبة الكمية المضاعفة.
ويختلف معنى المضاربة في البورصة عن معناها الشرعي، فمضاربة البورصة: هي المخاطرة على سعر السلعة في البورصة في تصفية معينة. وهي إما مضاربة على الصعود: وهي أن المضارب يشتري السلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سيرتفع، فيبيع حالاً ما اشتراه مؤجلاً بالسعر المرتفع، ويقبض الفرق. وإما مضاربة على الهبوط: وهي أن يبيع الشخص سلعة بسعر، وهو يخاطر في أنه سينخفض يوم التصفية، حيث يبيع بالثمن الحال، ويشتري ما اتفق عليه مؤجلاً، ويقبض الربح.
وفي كلتا الحالتين قد يحدث خلاف المتوقع فيخسر المضارب، ويتم البيع على المكشوف، فلا تكون السلعة في حيازة البائع، ولا الثمن في حيازة المشتري وقت التعاقد، ولا يتم تسليم أو تسلم إلا يوم التصفية. وهذا كله حرام شرعاً.
أما المضاربة الشرعية أو القراض فهي عقد يقوم على تقديم المال من أحد طرفي العقد، والعمل من الطرف الآخر.(7/65)
خطة البحث: يتضمن البحث قسمين: الأول: أحكام بورصة الأوراق المالية.
والثاني: أحكام بورصة العقود «الكونتراتات» .
القسم الأول ـ أحكام بورصة الأوراق المالية:
الأوراق المالية: هي الأسهم والسندات.
أما الأسهم: فهي حصص الشركاء في الشركات المساهمة، فيقسم رأس مال الشركة إلى أجزاء متساوية، يسمى كل منها سهماً، والسهم: جزء من رأس مال الشركة المساهمة، وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود، لتحديد مسؤوليته ونصيبه في ربح الشركة أو خسارتها. فإذا ارتفعت أرباح الشركة ارتفع بالتالي ثمن السهم إذا أراد صاحبه بيعه، وإذا خسرت انخفض بالتالي سعره إذا أراد صاحبه بيعه.
ويجوز شرعاً وقانوناً بيع الأسهم، بسعر بات، أما إذا كان السعر مؤجلاً لوقت التصفية فلا يجوز البيع لجهالة الثمن، لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع عند جماهير العلماء. وأجاز الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم البيع بما ينقطع عليه السعر، قياساً على القول بمهر المثل في الزواج، وأجر المثل في الإجارة، وثمن المثل في البيع، وعملاً بالمتعارف، وبما يحقق مصالح الناس.
أما بيع الأسهم على المكشوف، أي إذا كان البائع لا يملكها في أثناء التعاقد، فلا يجوز، للنهي الثابت شرعاً عن بيع ما لا يملك الإنسان.
أما السندات: فهي أوراق مالية، ضماناً لدين على الدولة، أو على إحدى الشركات، ويقدر لها فائدة ثابتة أو ربح ثابت، كما يكون هناك خصم في إصدار السندات بمعنى أن يدفع المكتتب أقل من القيمة الاسمية على أن يسترد القيمة الاسمية كاملة عند الاستحقاق، علاوة على الفوائد السنوية، والخلاصة: أنها قرض بفائدة سنوية، لا تتبع الربح والخسارة.(7/66)
والرأي الراجح المتعين في حكم هذه السندات أنها حرام شرعاً، ولا يجوز التعامل بها بيعاً أو شراء، لأن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، وهذا قرض جر نفعاً، فهو من الربا الواضح. والبديل لاستمرار الشركات التي تصدرها أن تتحول هذه السندات إلى أسهم، وأن تباع أو تشترى بعقد حالّ، بحيث يشارك حاملوها في الربح والخسارة، وهذا يناقض المبدأ الشرعي: «لا ضرر ولا ضرار» ويناقض قاعدة «الغنم بالغرم» وتكون المساهمة في الربح والخسارة عدلاً، والعدل واجب، وغيره ظلم، والظلم حرام شرعاً وعقلاً وعرفاً وقانوناً، ولأن التعامل بالسندات يعتمد على الفكر الربوي الرأسمالي وهو أن المال يولد المال، أما الفكر الإسلامي فهو أن العمل هو الذي يثمر المال.
أما الذين أجازوا التعامل بالسندات من المعاصرين كالشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضرورياً بعد فساد ذمم الكثير من الناس، فإنهم يصادمون صراحة النصوص التي تحرّم الفائدة الثابتة أو الربا، ويعتمدون على مصالح تصادم النص، فلا تعتبر كما أنه لا تتوافر ضوابط الضرورة الشرعية التي تسوغ الاستثناء.
القسم الثاني ـ أحكام بورصة العقود (الكونتراتات)
الكلام في هذا القسم يتناول حكم بيع الإنسان مالا يملك، وبيع الشيء قبل القبض، والعقد دون تحديد السعر، والعمليات الآجلة الشرطية البسيطة، والعمليات الآجلة الشرطية المركبة، والعمليات المضاعفة، وحكم بدل التأجيل للتسليم والتسلم، وبيع الدين بالدين، وعمولات المصارف مقابل الخدمات أو الضمانات.(7/67)
أولاً: حكم بيع الإنسان مالا يملك (بيع المعدوم وبيع معجوز التسليم في الحال وبيع الغرر) :
اشترط جمهور العلماء لانعقاد العقد أن يكون محل العقد موجوداً وقت التعاقد، فلا يصح التعاقد على معدوم، كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتاً، وكبيع اللبن في الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخاً، وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فإن الميت لا يصلح محلاً للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع احترق، فكل هذه العقود باطلة.
هذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (1) ، سواء أكان التصرف من عقود المعاوضات أم من عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم باطل، سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة (2) ونهيه عن بيع المضامين والملاقيح (3) وعن بيع ما ليس عند الإنسان فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عند ك» .
__________
(1) المبسوط: 194/12، البدائع: 138/5، فتح القدير: 192/5، مغني المحتاج: 30/2، المهذب: 262/1.
(2) أي بيع ولد ولد الناقة أو بيع ولد الناقة، والحديث رواه أحمد ومسلم والترمذي عن ابن عمر.
(3) المضامين: ما في أصلاب الإبل، والملاقيح: ما في بطون النوق، والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر.(7/68)
واستثنى هؤلاء الفقهاء من قاعدة المنع من التصرف بالمعدوم عقود السلم والإجارة والمساقاة والاستصناع، مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، استحساناً، مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها، وإذن الشرع في السلم والإجارة والمساقاة ونحوها.
واكتفى المالكية باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، دون التبرعات كالهبة والوقف والرهن (1) .
ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر الذي نهى عنه الشرع، كبيع الحمل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، وأجازوا فيما عدا ذلك بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً، كبيع الفرس الهارب والجمل الشارد، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم. بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان المتقدم، فالسبب فيه هو الغرر، لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم (2) .
__________
(1) الشرح الصغير: 305/3، القوانين الفقهية: ص 367.
(2) المغني: 200/4، 208، نظرية العقد لابن تيمية: ص 224، أعلام الموقعين: 8/2.(7/69)
وعلى أي حال فقد اتفقت المذاهب الثمانية (1) وجميع الفقهاء، ومنهم ابن حزم وابن تيمية وابن القيم على أن بيع الإنسان ما لا يملك لا يجوز، إما لأنه معدوم أثناء العقد عند الأغلبية الساحقة، وإما لأنه غرر عند الحنابلة للأحاديث الثلاثة التالية:
1 - حديث حكيم بن حزام الذي أخرجه أصحاب السنن قال: «قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك» .
2 - حديث عبد الله بن عمرو المتقدم الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والدارمي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» .
3 - حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة» .
واتفقت المذاهب الأربعة على بطلان بيع معجوز التسليم، أي ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء، والسمك في الماء والجمل الشارد والفرس الهارب والمال المغصوب في يد الغاصب، وكبيع الدار أو الأرض تحت يد العدو، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ كما تقدم ـ نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، وهذا غرر (2) .
واتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، كبيع اللبن في الضرع، والصوف
__________
(1) فتح القدير والبدائع، المكان السابق، المقدمات الممهدات: 202/3، الشرح الصغير والقوانين الفقهية، المكان السابق، مغني المحتاج والمهذب، المكان السابق، المغني، المكان السابق، المحلى: 363/9، منهاج الصالحين عند الزيدية: 24/2، البحر الزخار: 291/3.
(2) البدائع: 295/5، بداية المجتهد: 156/2، المهذب: 263/1، المغني: 202/4.(7/70)
على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر أم في النهر، أي في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن (1) .
ثانياً: بيع الشيء المملوك قبل قبضه من آخر:
اتفق الفقهاء من حيث المبدأ على عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه من مالك آخر، ولكنهم اختلفوا في مدى عموم الحكم وإطلاقه وتقييده، لاختلاف روايات الأحاديث المانعة منه، أو بسبب تأويل معنى الحديث، أو للعمل بظاهر الحديث فقط.
منهم كالشافعية، ومحمد وزفر من الحنفية من منع التصرف في المبيع قبل قبضه مطلقاً. ومنهم من منع منه في المنقولات دون العقارات وهو مذهب الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف، ومنهم من جوزه في غير الطعام وهم المالكية، ومنهم من جوزه في غير المعدود والموزون والمكيل من الطعام (أي غير المقدرات) وهم الحنابلة، وقريب منهم الإمامية والزيدية، ومنهم من جوزه في غير القمح خاصة وهم الظاهرية.
وأما الشافعية ومحمد بن الحسن وزفر فقالوا: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، في حديث أحمد وغيره المتقدم عن حكيم بن حزام: «لا يحل سلف وبيع، ولا
__________
(1) المجموع للنووي: 280/9، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 76/2، نيل الأوطار: 148/5.(7/71)
ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عند ك» وهذا من باب ما لم يضمن، ومعناه: مالم يقبض، لأن السلعة قبل تلفها ليست في ضمان المشتري، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز، فالعلة في منع البيع هي الغرر (1) .
وأما المعتمد عند الحنفية وهو رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف فهو التفصيل، وهو أنه لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض، والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود، أي إنه يحتمل الهلاك، فلا يدري المشتري: هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر، كما تقدم.
وأما العقار: كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض، استحساناً استدلالاً بعمومات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالباً بعد وقوع البيع وقبل القبض، أي إن تلف العقار غير محتمل، فلا يتقرر الغرر (2) . والخلاصة: أن العلة في مذهب الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قبل قبضه هي الغرر، كما قال الشافعية.
وبما أن السلع التي تباع في البورصة (بيع الكنتراتات) هي منقولات لها مقدرات مثلية، وليست عقارات، فلا يجوز بيعها قبل قبضها عند الحنفية والشافعية.
ويكون البيع فاسداً عند الحنفية باطلاً عند الشافعية، لأنه يتم فيه البيع قبل القبض وبثمن مختلف.
__________
(1) مغني المحتاج: 68/2، المهذب: 264/1.
(2) فتح القدير: 193/4، البدائع: 139/5.(7/72)
أما المالكية: فإنهم قصروا المنع في بيع الشيء قبل قبضه على بيع الطعام (1) خاصة، إذا بيع بالكيل أو الوزن أو العد، أما غير الطعام أو الطعام المبيع جزافاً: فيجوز بيعه قبل قبضه، لغلبة تغير الطعام بخلاف ما سواه، ولمفهوم حديث ابن عمر الذي رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه أن رسول لله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه» . والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عندهم: هي أنه قد يتخذ ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نسيئة، فيحرم سد اً للذرائع (2) .
وأما الحنابلة: فقالوا: لا يجوز بيع الشيء قبل قبضه إذا كان كيلاً أو موزوناً أو معدوداً أي المقدرات، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالاً بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه، يدل على إباحة البيع فيما سواه، ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أو العدد، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يضمن. فالعلة في منع البيع عندهم هي الغرر كما قال الحنفية (3) .
وأما غير المكيل والموزون والمعدود، أي غير المقدرات، فيصح عند الحنابلة بيعه قبل قبضه.
وبناء عليه يصح عند المالكية للمشتري التصرف في المبيع قبل قبضه، سواء كان البيع أعياناً منقولة أو أعياناً ثابتة كالأرض والنخيل ونحوها إلا الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود. ويصح عند الحنابلة بيع غير المكيل أو الموزون أوالمعدود. فما يجري داخل البورصة من بيع العقود قبل قبضها يصح في هذين المذهبين بالتخلية، أي بتسليم البائع المبيع وقبض المشتري برفع الحوائل وإزالة المانع.
وأما الظاهرية: فأجازوا بيع الشيء قبل قبضه إلا القمح خاصة، سواء بيع كيلاً أو وزناً أوجزافاً، عملاً بظاهر النهي في الحديث، والطعام عندهم لا يكون إلا في القمح. ومعنى القبض: أن يطلق
__________
(1) يشمل الطعام عنده كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعهاكالزيت والعسل ونحوها.
(2) المنتقى على الموطأ: 279/4، بداية المجتهد: 142/2.
(3) المغني: 110/4، 113 وما بعدها.(7/73)
البائع يد المشتري في المبيع، بألا يحول بينه وبينه (1) .
وأما الإمامية: فقالوا: لا بأس ببيع ما لم يقبض، ويكره فيما يكال أو يوزن، وتتأكد الكراهية في الطعام، وقيل: يحرم (2) .
وأما الزيدية: فأجازوا بيع الشيء قبل القبض إن كان مما لا يكال ولا يوزن، ومنعوا في الأظهر البيع بالربح فيما يكال أو يوزن قبل القبض (3) .
والظاهر رجحان رأي الشافعية، لعموم النهي عن بيع الشيء قبل قبضه في حديث حكيم بن حزام، دون قصره على الطعام، ويكون حديث النهي عن الطعام في حالة من حالات النهي لا تمنع غيرها، وهو احتجاج بالمفهوم المخالف من الحديث، والمنطوق في حديث حكيم بن حزام مقدم عليه، ويؤيده حديث زيد بن ثابت الذي أخرجه أبو داود بسند صحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، ثم إن الملكية في الشيء قبل القبض ضعيفة، وفيها غرر أي احتمال الحصول وعدم الحصول، ويترجح عدم الحصول في حال احتكار المنتجين للسلع وإيقاع البائعين على المكشوف في حرج.
__________
(1) المحلى: 292/1، 297.
(2) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 148.
(3) منهاج الصالحين: 51/2.(7/74)
ثالثاً ـ البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع عليه السعر) :
اتفقت المذاهب الثمانية على اشتراط معرفة الثمن في عقد البيع حال العقد أو قبله، فلا يجوز البيع بثمن مجهول، ولا بد من بيان جنس الثمن وقدره وصفته (1) . وعليه فلا يصح عندهم البيع بما ينقطع عليه السعر أو بسعر السوق في يوم معين أو في فترة محددة.
لكن روي عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس، ولتعاملهم به في كل زمان ومكان. وقد رجح ابن تيمية وابن القيم هذا الرأي، وأرادوا به سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل (2) .
وبه يتبين أن جميع المذاهب لا تجيز البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في خلال فترة محددة هي فترة التصفية، حتى عند ابن تيمية وابن القيم ورواية عن أحمد الذين يجيزون البيع بما ينقطع عليه السعر، فإنهم أرادوا كما تقدم سعر السوق وقت البيع، لا أي سعر في المستقبل، كمن يشتري شيئاً من خباز أو لحام أو سمّان أو غيرهم، بسعر يومه، ثم يحاسبه في نهاية الشهر ويعطيه ثمنه، وهذا ما يسمى ببيع الاستجرار.
وقد تورط بعض الأساتذة المعاصرين برأي بعض الحنابلة، فأجازوا البيع بسعر السوق يوم كذا، أو بسعر الإقفال في بورصة كذا، لرضا المتعاقدين بذلك، ولأن جهالة الثمن حينئذ لا تؤدي إلى المنازعة، واحتجاجاً بقول ابن تيمية بأنه عمل الناس في كل عصر ومصر، وقوله: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس.
وكل ذلك في رأيي محل نظر وتأمل، فإن ما أراده ابن تيمية غير ما يحدث في بورصة العقود الحالية، كما أن بيع الاستجرار ونحوه روعي فيه حاجة بعض الناس، وأين مثل هذه الحاجة في البورصة؟!
__________
(1) المبسوط: 49/13، البدائع:158/5، فتح القدير: 113/5، رد المحتار: 30/4، الشرح الكبير للدردير: 15/3، القوانين الفقهية: ص 257، مغني المحتاج: 17/2، المهذب: 266/1، المغني: 187/4، المحلى: 19/9، المختصر النافع: ص 143، منهاج الصالحين: 25/2.
(2) غاية المنتهى: 14/2، 26، نظرية العقد لابن تيمية: ص 220، أعلام الموقعين: 5/4-6.(7/75)
رابعاً: العمليات الآجلة الشرطية البسيطة:
وهي كما عرفنا أن يكون من حق المضارب فسخ العقد في ميعاد التصفية أو قبله إذا أحس بانقلاب الأسعار في غير صالحه، على أن يدفع أولاً تعويضاً للطرف الآخر، ولا يرد إليه، ويسمى هذا بالشرط البسيط.
ويمكن معرفة حكم هذه العمليات في ضوء ما يعرف في فقهنا بشرط الخيار، وقد أجاز جميع الفقهاء ما عدا الظاهرية خيار الشرط (1) ، ولكنهم اختلفوا في مدة الخيار المشروع:
فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام، عملاً بحديث حبان بن منقذ الذي أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عمر، فقد شكا أنه يغبن في البياعات إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا بايعت فقل؛ لا
__________
(1) المبسوط: 40/12، البدائع: 174/5، المدونة: 223/3، المنتقى على الموطأ: 108/5، المهذب: 258/1، مغني المحتاج: 47/2، المغني: 585/3، غاية المنتهى: 30/2، بداية المجتهد: 207/2، الدردير والدسوقي: 91/3، 95، المحلى: 328/9، المختصر النافع: ص 145، منهاج الصالحين: 32/2، البحر الزخار: 349/3.(7/76)
خلابة (1) ، ولي الخيار ثلاثة أيام» .
وأجاز أبو يوسف ومحمد والحنابلة والإمامية والزيدية اشتراط مدة الخيار حسبما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلت مدته أو كثرت، لأن الخيار يعتمد الشرط، فيرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل.
وأجاز المالكية الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة. ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، فخيار الشرط في الفاكهة يوم، وفي الثياب والدابة ثلاثة أيام، وفي الأرض أكثر من ثلاثة أيام، وفي الدار ونحوها مدة شهر.
وبناء على هذا الرأي للمالكية والحنابلة ومن وافقهم، تجوز العمليات الآجلة الشرطية البسيطة إذا كانت مدة استعمال حق الخيار معلومة على النحو المذكور، ومدة الخيار في هذه العمليات معلومة وهي الفترة ما بين وقت العقد إلى وقت أقرب تصفية. ويجوز دفع المال بشرط متفق عليه أو التبرع به لاستعمال حق الخيار، لأن المسلمين على شروطهم، ولأن دفع المال يؤيد ما شرعه الشرع من حق الخيار. لكن لا يجوز الاتفاق على إسقاط حق الخيار بعوض، فقد نص فقهاؤنا على أنه لو صالح شخص بعوض عن خيار في بيع أو إجارة، لم يصح الصلح، لأن الخيار لم يشرع لاستفادة مال، وإنما شرع للنظر في الأحظ، فلم يصح الاعتياض عنه (2) .
__________
(1) أي لا خديعة ولا غبن، والمعنى: لا يحل لك خديعتي، أو لا تلزمني خديعتك.
(2) العقود المسماة في القانونين الإماراتي والأردني للباحث: ص 205، التقنين الحنبلي (م 264) كشاف القناع: 387/3.(7/77)
خامساً: العمليات الشرطية المركبة:
وهي العمليات التي يكون للبائع الحق فيها في أن يتحول إلى مشتر وأن يفسخ العقد، أو أن يظل بائعاً حسبما يتراءى له من تقلبات الأسعار عند التصفية أو قبلها، مقابل تعويض أكبر مما يدفع في العمليات البسيطة يدفعه لصاحبه.
وهي جائزة كالعمليات الشرطية البسيطة (1) ، عملاً بما يراه الجهور من اشتراط مدة في خيار الشرط بحسب الحاجة أو الأحوال.
سادساً ـ العمليات المضاعفة:
وهي التي يكون فيها الحق لأحد العاقدين: البائع أو المشتري في مضاعفة الكمية التي باعها أو اشتراها، بسعر يوم التعاقد، مقابل تعويض يدفعه الراغب في المضاعفة عند اتضاح الأسعار، ولا يرد إليه، وتختلف قيمة التعويض بحسب كمية الزيادة وموضوع التخزين. وهذا أيضاً جائز إذا كانت الكمية المضاعفة معلومة (2) ، لأنه لا يجوز تعديل العقد بشرط إضافي، ويعتبر التعويض مضافاً إلى أصل الثمن، والمسلمون عند شروطهم.
سابعاً ـ حكم بدل التأجيل:
إذا تم تسليم المبيع والثمن في وقت التسليم، فلا إشكال وتنتهي الصفقة، أما إذا اتفق العاقدان على تأجيل التسليم والتسلم لوقت لاحق هو وقت التصفية القادمة مقابل تعويض يدفعه إلى الآخر الذي يقبل نقل الصفقة إليه، وهو شخص آخر غير العاقدين، فهذا ربا واضح، لأنه يبيع ديناً حالاً بثمن مؤجل مع زيادة، كربا الجاهلية: إما أن تدفع أو تربي، لأن مشتري الصفقة الذي يحل محل المشتري، إنما يأخذ فائدة المبلغ الذي سيدفعه إليه العاقد الأصلي، وهذا ربا محقق، لأن دافع التعويض يدفعه مضطراً لنقل تصفية صفقته إلى وقت مؤجل، يأمل فيه تغير الأسعار لمصلحته، ولم يدفعه متبرعاً كالعمليات الثلاث السابقة، كما أن الآخذ لم يأخذ التعويض مقابل حق تنازل عنه كما هو الحال في العمليات المتقدمة.
ثامناً ـ بيع الدين بالدين:
الدين هو الشيء الثابت في الذمة، كثمن مبيع، وبدل قرض، وأجرة مقابل منفعة، وغرامة متلف، ومسلم فيه في عقد السلم (بيع آجل بعاجل) .
وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين، وفي كل من الحالين إما أن يباع الدين في الحال، أو نسيئة مؤجلاً.
وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ، أي بيع الدين بالدين، وهو بيع ممنوع شرعاً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الدارقطني عن ابن عمر، والطبراني عن رافع بن خديج نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (3) . ومع أن الحديث ضعيف لكن أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.
مثال الأول ـ وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر: اشتريت منك هذه السلعة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً، أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول
__________
(1) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 425/5.
(2) المرجع السابق.
(3) إلا أنه حديث ضعيف.(7/78)
للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض، فيكون هذا ربا حراماً تطبيقاً لقاعدة: «زدني في الأجل، وأزيدك في القدر» كما تقدم في النوع السابق: سابعاً.
ومثال بيع الدين لغير الدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك السلعة التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر. وهذا أيضاً حرام.
وإذا كانت أغلب عمليات البورصة تتم في صورة بيع الدين بالدين دون تسليم ولا تسلم كما هو ملاحظ، فلا تجوز هذه العمليات، ولا بد من تعجيل تنفيذ الصفقة دون تأخير.
أما بيع الدين نقداً في الحال: فمختلف فيه، فقد أجاز جمهور الفقهاء غيرالظاهرية بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له، ولم يجز الجمهور غير المالكية بيع الدين لغير المدين، وأجازه المالكية بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه (1) . ولا داعي لتفصيل الكلام في هذا النوع من البيع في الحال، لأنه غير موجود في البورصة، لاعتماد أغلب العمليات فيها على التأجيل.
تاسعاً ـ عمولات المصارف (البنوك) مقابل الخدمات أو الضمانات:
إن ما يأخذه المصرف (البنك) مقابل خدمات الحراسة، واستئجار الأرض، واستعمال المخازن (التخزين) وأجرة إعداد الفواتير وكتابة الحسابات، جائز مشروع لا شبهة فيه، لأنه مقابل منفعة، وإجارة المنافع والأعمال جائزة شرعاً.
__________
(1) البدائع: 148/5، تكملة ابن عابدين: 326/2، الشرح الكبير للدردير: 63/3، بداية المجتهد: 146/2، المهذب: 262/1، المغني: 120/4، 30، غاية المنتهى: 80/2، كشاف القناع: 237/4، المحلى: 7/9، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع إمام: ص 19، الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق محمد الضرير: ص 315.(7/79)
أما ما يأخذه المصرف من الفوائد على المال المودع زيادة على الخدمات، أو مقابل القروض أو الضمانات غير المغطاة فعلاً، فهو غير مشروع، إلا إذا دخل البنك مع المضارب في شركة صحيحة، أو مضاربة شرعية، في الحالات التي لا يجوز فيها البيع أو الشراء داخل البورصة وهي حالات البيع الحال أو الشراء الحال. أما المؤجل فقد بينت عدم جوازه للغرر والتصرف فيما لا يملك، وبيع الشيء قبل القبض (1) .
والخلاصة: إن حكم عمليات العقود داخل السوق المالية أو البورصة ما يلي:
1 - إذا كانت البضاعة حاضرة (أي وجود عيِّنة) والسعر بات، فهذا حلال.
2 - إذا كانت البضاعة حاضرة، والسعر مؤجل ليوم التصفية، فهذا غير جائز عند جماهير العلماء، وأجازه بعض المعاصرين عملاً برأي الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم في البيع بما ينقطع عليه السعر.
3 - العقود المؤجلة: وهي الحاصلة في بعض عمليات البورصة، فهذه غير جائزة، لأنها بيع الإنسان ما ليس عنده، وهو غير جائز بسبب وجود الغرر فيه، ولأنها بيع للشيء قبل قبضه، وهو الرأي الذي رجحته من مذهب الشافعية ومن وافقهم، وهي بيع دين بدين.
والبديل الشرعي عن العقود المؤجلة هو عقد السلم الجائز شرعاً، وهو بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة ببدل عاجل يجب قبضه عند الجمهور في مجلس العقد، ويجوزتأخيره مدة قليلة كيوم أو ثلاثة أيام عند المالكية، ويصح عقد السلم بلفظ البيع، ولا يشترط كون المعقود
__________
(1) الموسوعة السابقة: 426/5.(7/80)
عليه موجوداً عند التعاقد، ولا أن يكون في ملك البائع المسلم إليه، وإنما يكفي وجوده عند التسليم، وإنما يشترط فيه ألا يكون العقد مشتملاً على ربا النسيئة، أي ألا يكون مطعوماً أو نقداً في مقابل مطعوم أو نقد، ويصح أن يكون مطعوماً مؤجلاً في مقابل نقود.
المبحث السابع - عائد الاستثمار:
تمهيد:
التنمية أو المزيد من استثمار الأموال من قواعد الإسلام وثوابته الاقتصادية، لأن في ذلك إنعاش الاقتصاد، والإسهام في تنشيط الحركة التجارية، وتحقيق الرخاء أو الرفاه الذي يستفيد منه أكبر مجموعة من الناس.(7/81)
لذا رغب الإسلام في التجارة وحث عليها لكسب المعاش، وبارك الله فيها لتحصيل الربح، وتنمية الإنتاج، وجعل الإسلام العمل هو أساس الاسترباح، والعقود المشروعة هي أعمال تتطلب خبرة وجهداً، فقال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] ، فالبيع التجاري طريق للكسب المشروع، فهو حلال، والربا أو الفائدة حرام، لأن النقود لا تولد النقود، فالكسب الحاصل بالمراباة حرام؛ لأنه من غير جهد ولا عمل، وإنما هو ظلم واستغلال، ومن أهم عوامل التضخم النقدي، وانتشار الاحتكارات، ووجود التفاوت الصارخ بين فئة الأغنياء المترفين، والفقراء المستضعفين والمعدِمين. بل إن الإسلام حرم كل المكاسب الخبيثة كالغصب والرشوة والسرقة والنهب والغش، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/4] . وجاءت آيات قرآنية أخرى تؤيد كسب العمل والتجارة والاحتراف، مثل قوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10/62] وقوله سبحانه: {هو الذي جعل لكم الأرض ذَلولاً، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور} [الملك:15/67] . وقوله عز وجل على سبيل تزكية التجارة المباحة المبارك فيها: {يرجون تجارةً لن تبور} [فاطر:29/35] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم حينما سئل عن أي الكسب أطيب: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (1) أي لا غش فيه ولا خيانة، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «تسعة أعشار الرزق في التجارة» (2) .
__________
(1) رواه البزار وصححه الحاكم عن رفاعة بن رافع (سبل السلام: 4/3) .
(2) حديث حسن عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر الطائي مرسلاً (الجامع الصغير للسيوطي 130/1) .(7/82)
وفي الحياة الاقتصادية الحديثة وجدت استثمارات مشروعة تختلف عن الأحوال الضيقة ذات الصبغة المنفردة (المضاربة الخاصة) بين عاقدين فأكثر، متمثلة في (المضاربة المشتركة) حيث يتعدد أرباب المال وهم جماعة المستثمرين، الذين يقدمون المال بصورة انفرادية ليعمل به مضاربة، ويتلقاه جماعة المضاربين في صورة مصرف (بنك) شركة أو جماعة، وهم الذين يأخذون المال منفردين أيضاً، ويقومون بتشغيله لدى شخص أو جهة للعمل فيه بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد.
وأصبح هذا اللون من الاستثمار أكثر رغبة واجتذاباً لرؤوس الأموال المكدسة لتوافر قدر أكبر من الثقة والائتمان.
خطة البحث:
- ماهو المراد من العائد، وما الفرق بينه وبين الربح؟
- ماهي أنواع العوائد وما حكم كل منها؟
- ماهي الطريقة السائغة شرعاً لتحديد العائد على الاستثمار؟
- في الحالات التي يتغير فيها المستثمرون (المودعون) هل يجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد؟
-وإذا وافق جميع المستثمرين على هذه الطريقة السابقة، فهل تكون جائزة؟
- وفي الحالات التي لايمكن فيها الرجوع على عميل قبض حصته، ثم يظهر أن الربح لم يتحقق في نهاية المدة، كيف تكون المحاسبة؟ ومن يتحمل الفرق، الشركة أم المستثمر، أم غير ذلك؟
- إذا أنشأ البنك حافظة استثمارية (صندوق) مقسمة إلى حصص يقوم بإدارتها نيابة عن المستثمرين، فهل يجوز له اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح؟ وهل يجوز أن يكون مبلغاً محدداً مقطوعاً؟ وهل يجب على البنك أن يوضح هذا؟
- ماهي التكاليف التي يجوز تحميلها للشركة في عقد المضاربة؟
-إذا كان العامل في المضاربة شركة (شخصية معنوية مستقلة) فهل تعتبر جميع رواتب الموظفين والإدارة من ضمن التكاليف؟
- هل يجوز تنازل المستثمرين عن كل حق في التدخل في الإدارة؟
- هل يجوز حساب العائد يومياً؟
وأبدأ ببحث هذه العناصر:(7/83)
- ما المراد من العائد، وما الفرق بينه وبين الربح؟ :
عائد الاستثمار: هو ربح الاستثمار المشروع الذي يوزع من باقي الربح على الأعضاء المستثمرين - بعد احتجاز الاحتياطي ومايخصص للخدمات العامة - بنسبة المعاملات التي أبرمها كل منهم مع المصرف (البنك) أو الجمعية التعاونية (1) .
إن القدر المخصص لفئة من المستثمرين يوزع بينهم بنسبة تعاملهم مع البنك الإسلامي، وهذا التعامل امتزاج بين المال المودع بالبنك لاستثماره، وبين الزمن، أي المدة التي ظل فيها المال مستثمراً بالبنك.
ويكون التوزيع العادل لحصة المستثمرين فيما بينهم على أساس حواصيل ضرب المبالغ المستثمرة في المدد التي بقيت في الاستثمار، وهذه الحواصل هي المتعارف عليها في أعمال البنوك باسم (النِّمر) أو الأعداد.
وعائد الاستثمار يحدث بسبب الاستثمار التعاقدي للنقود وهو المضاربة (أو القراض) وغيرها كالمرابحة للآمر بالشراء. والمقصود المضاربة المشتركة كنظام جماعي للاستثمار.
أما الربح: فهو كما قال ابن قدامة: الفاضل عن رأس المال، ومالم يفضل فليس بربح، ولانعلم في هذا خلافاً (2) . وكما قال الزيلعي: الربح تابع لرأس المال، فلا يسلم الربح بدون سلامة الأصل (3) .
__________
(1) المدخل إلى النظرية الاقتصادية للدكتور أحمد النجّار: ص176.
(2) المغني: 51/5.
(3) تبيين الحقائق: 67/5.(7/84)
والربح يعتبر بعد الأجر (1) النوع الثاني من الدخول (جمع دخل) التي يقرها الاقتصاد الإسلامي، ويستحق شرعاً لكل من قام بإنفاق عمل في سبيل إنتاج سلعة أو الاتجار بها، سواء كان إنفاق العمل في السابق أو في الحال.
والربح عائد للتنظيم، أي أن رب العمل المنظم الذي يقوم على المشروع يستحق الناتج أو الربح المتأتي من العملية الإنتاجية كعوص عن إسهامه في هذه العملية. وقد يشترك معه آخرون من مديرين وموظفين وعمال. أما رأس المال التجاري فلا يتقاضى أجراً مقابل إسهامه في العملية الإنتاجية، إنما يتقاضى نصيباً في الأرباح مقابل إسهامه في أعباء العملية الإنتاجية، وإذا دفعه صاحب رأس المال إلى غيره ليتجر به، تحمل وحده الخسارة، وإذا حدث ربح يقتسم بين صاحب رأس المال التجاري وبين العامل المنظِّم بالنِّسَب المتفق عليها (2) .
ودور المنظِّم في التوصل للربح إما أن يكون في مال الإنسان الخاص، فيكون صافي الناتج من المشروع الذي نهض به (عمل + تنظيم) وإما أن يكون في مال الغير من طريق الشركة، ومنها المضاربة (3) .
إن الحصول على الربح يكون إذن إما بالأجر أو من طريق المغامرة بالدخول في عمل غير مضمون العائد، بدلاً من العمل بأسلوب الأجر التعاقدي. وإذا فعل ذلك وحصل على رأس مال نقدي أو عيني من شخص آخر، أو من مؤسسة من المؤسسات، على أساس اقتسام الربح، فإنه في هذه الحالة يسمى (منظِّماً) أو مستحدثاً. ويمكن اشتراك العمال في شراكة في عمل واحد كالخياطة أو الغسيل أو
__________
(1) الأجر يعتبر النوع الأول من الدخول، وهو مكافأة العامل مقابل إسهامه في العملية الإنتاجية (عنصر العمل) أو مكافأة عنصر الطبيعة المملوك ملكية خاصة كالأرض، وعنصر رأس المال.
(2) اقتصادنا في ضوء القرآن والسنة للدكتور حسن أبو يحيى: ص214.
(3) النظرية الاقتصادية في الإسلام للأستاذ أحمد نعمان: ص256 ومابعدها.(7/85)
غير ذلك، ثم يقتسمان صافي الربح بطريقة يتفقان عليها، كما يمكن للمتخصصين من محامين ومهندسين وأطباء وغيرهم التجمع في مؤسسة تقدم الخدمات الاستشارية ليقتسموا أيضاً الأرباح على وفق نسب متفق عليها. ويختلف هذا النوع من الدخول عن الأجور؛ لأن الحصول عليه لايتم عن طريق التعاقد الثابت، فهو أقرب في طبيعته إلى الربح، لاشتماله على احتمال الخسارة (1) .
ويشترك عائد الاستثمار والربح في أغلب الخصائص والضوابط، فإن كلاً منهما غير مضمون، بعكس الفائدة الربوية فإنها مضمونة، وقد يصبح عائد الاستثمار مضموناً كله لرب المال في حال دفع العامل المضارب رأس المال كله أو بعضه إلى مضارب ثان، والعمل به عند الحنفية، أو في حال خلط مال المضاربة بمال المضارب نفسه أو بمال قراض (مضاربة) عنده؛ لأن المضاربة تكون حينئذ فاسدة. وفي حال فساد المضاربة يكون الربح كله لرب المال، وللعامل أجر المثل عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (2) . ويزول فساد المضاربة المشتركة بإذن المودعين المستثمرين في خلط أموالهم مع غيرها، كما هو حاصل الآن في هذه المعاملة.
ويرد العامل عند المالكية (3) في جميع أحكام المضاربة الفاسدة إلى قراض مثله في الربح والخسارة في أحوال معدودة (4) ، وله أجر مثل عمله في غيرها من
__________
(1) بحث الدكتور محمد نجاة صدّيقي في مجلة الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز: ص133.
(2) المبسوط: 22/22، البدائع: 108/6، تكملة فتح القدير 58/7، مختصر الطحاوي: ص124، مجمع الضمانات: ص311، مغني المحتاج 315/2، غاية المنتهى: 179/2.
(3) الشرح الكبير للدردير 519/3 ومابعدها، الخرشي: 205/6 - 208، بداية المجتهد: 240/3، القوانين الفقهية: ص282.
(4) أهم هذه الحالات: حالة القراض بالعروض، وحالة جهالة الربح دون وجود عادة يحتكم إليها، وحالة توقيت القراض كسنة مثلا، وإضافة القراض للمستقبل، وحالة اشتراط ضمان رأس المال على العامل، وحالة الاختلاف بين العاقدين بعد العمل على جزء الربح. وأهم حالات وجوب أجرة المثل في ذمة رب المال سواء حصل ربح أم لا: وقوع القراض بدين لرب المال على العامل قبل قبضه منه، أو بوديعة له عند العامل، واشتراط يد رب المال مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء، واشتراط مشاورته عند البيع والشراء، أو اشتراط أمين مع العامل يراقبه، أو مشاركة الغير في مال القراض أو خلط أموال المضاربة.(7/86)
الحالات. فإذا حدث ربح في الأحوال المعدودة يثبت حق المضارب في الربح نفسه، لا في ذمة رب المال، حتى إذا هلك المال، لم يكن للمضارب شيء، وإذا لم يكن ربح فلا شيء له.
والفرق عند المالكية بين قراض المثل وأجره المثل: أن الأجرة تتعلق بذمة رب المال، سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل: هو على سنة القراض، إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له (1) .
ويشترط في عائد الاستثمار والربح كون كل منهما معلوم القدر، وجزءاً شائعاً من الجملة، والربح حينئذ بالمقاسمة بحسب الاتفاق، فإذا كان هناك جهالة في المقدار، فسد العقد، وإذا شُرط ربح أو عائد مقطوع لأحد العاقدين، مثل كل شهر كذا درهماً فسد العقد أيضاً، وإذا لم يكن ربح، فصاحب المال عطّل ماله، والعامل خسر جهده (2) .
والفرق بين الربح وعائد الاستثمار يظهر في حال قسمة الربح، والأمر يختلف بين المضاربة الخاصة، والمضاربة المشتركة، ففي حال المضاربة الخاصة: لايكون الربح إلا بعد تنضيض رأس المال (أي تحويله من أعيان إلى نقود) وذلك
__________
(1) بداية المجتهد: 241/2، المقدمات الممهدات: 14/3.
(2) البدائع: 85/6، تبيين الحقائق: 55/5 ومابعدها، الدر المختار: 505/4، الخرشي: 209/6، بداية المجتهد: 234/2، مغني المحتاج 313/2، المهذب 385/1، المغني: 30/5، نهاية المحتاج: 162/4.(7/87)
لايتم إلا بعد التصفية الكاملة للعملية، ووجود الربح الفعلي، والغاية من ذلك: هي أن يعود رأس المال نقوداً كما كان، حتى يتمكن رب المال من استرداد رأس ماله أولاً، ثم تجري قسمة الربح المتبقي بعد ذلك الاسترداد؛ لأن الأصل في الربح أنه وقاية لرأس المال، فلا ربح إلا بعد سلامة رأس المال لصاحبه.
أما عائد الاستثمار فيكون بسبب الاستثمار الجماعي المشترك أو المضاربة المشتركة، وهذا الاستثمار يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع للأرباح في فترات دورية من الناحية الأخرى، حيث يتعذر إجراء التصفية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. ويكون المضارب المشترك بمثابة الأجير المشترك، والمضاربة المشتركة مستمرة بطبيعتها لاتتوقف أو تصفى إلا إذا صفّي العمل بكامله.
ولامجال للقول بالربح المقدر أو المفترض لمعرفة عائد الاستثمار، مع استمرار المضاربة المشتركة؛ لأن الربح لايستقر إلا بالقسمة، والقسمة لاتصح إلا بعودة رأس المال نقوداً كما كان، لكي يقبضه المضارب المشترك الذي هو ممثل المالك بالنسبة للمضاربين.
واستمرار المضاربة إلى أجل غير محدد يلجئنا إلى أن نجري القسمة سنوياً كما تفعل الشركات المساهمة، بقصد تحقيق نوع من الانتظام، وإيجاد طريقة لتأدية عائد دوري للمستثمرين في مواعيد محددة. ففي نهاية كل عام تحصى الأرباح المتحققة حتى يجري تقسيمها بنسبة الأموال المخصصة للاستثمار، سواء أكانت أموالاً للمستثمرين وحدهم، أم كانت مشتركة بينهم وبين المضارب المشترك الذي هو المصرف اللاربوي أو أية مؤسسة مالية عاملة في مجال الاستثمار بهذا الأسلوب الجديد (1) .
__________
(1) تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود: ص424 - 425، 453 - 455.(7/88)
وحساب عائد الاستثمار على هذا النحو يجعله مختلفاً عن حساب الربح الفعلي في المضاربة الخاصة.
والخلاصة: إن عائد الاستثمار نوع خاص من الربح، له طريقة حسابية معينة تختلف عن الطريقة العادية في حساب الربح من المضاربة الخاصة القائمة بين رب المال والعامل المضارب، تعتمد على استثمار النقود على أساس تعاقدي بين من يملك مالاً، وبين من يعمل في ذلك المال. وإنما تعتمد على المضاربة المشتركة كنظام جماعي للاستثمار وهي تختلف عن المضاربة الخاصة في أشخاصها، باعتبار أن المضاربة الخاصة - وإن تعدد الأشخاص المتعاملون فيها - مقصورة على علاقة ثنائية بين مالك المال والعامل فيه، أما المضاربة المشتركة فإنها تضم ثلاث علاقات مترابطة، تمثل مالكي المال، والعاملين فيه وهم جماعة المضاربين، والجهة الوسيطة بين الفريقين لتحقيق التوافق والانتظام في توارد الأموال، وإعطائها للراغبين من الفريق الثاني للعمل فيها بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد. كما تنفرد المضاربة المشتركة - كنظام جماعي - بعدد من المزايا يتعذر تحقيقها في نطاق المضاربة الخاصة ومايذكر فيها من قيود، مجملها مباراة النظام المصرفي الحديث في تجميع المدخرات واستثمارها، حيث لا حاجة للبحث في السوق عن شخص أمين مستقيم خبير بالتجارة الرابحة، ويستطيع المستثمر استرداد نقوده المستثمرة قبل إجراء التصفية والمحاسبة، ويجد المضاربون لدى المضارب المشترك - كما يجد المقترضون عند المصرف الحديث - استعداداً لتلبية طلباتهم من غير تعرض لحساسيات وانفعالات شخصية يتعرضون لها في حال المضاربة الخاصة مع المستثمرين المنفردين (1) .
__________
(1) تطوير الأعمال المصرفية للدكتور سامي حمود: ص434-437.(7/89)
- ماهي أنواع العوائد وما حكم كل منها؟
إن أنواع عوائد الاستثمار في البنوك الإسلامية (1) كثيرة ومتنوعة، فالبنك الإسلامي يقوم بالعمل في الاتجاهات أو المجالات الثلاثة الآتية (2) :
1 - في مجال الاستثمار والمشا ركات، ويشمل الاستثمار المباشر وغير المباشر في مجال الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، ويشمل أيضاً العمليات التجارية ذات الآجال القصيرة وهي شراء السلع وغيرها من الأموال المنقولة، وعمليات الاستيراد والتصدير لكافة السلع، وتخزين السلع والمحاصيل والمنقولات، وتخليص بوالص الشحن والمستندات الأخرى. وكذلك يشمل المشاركات في الاستثمار لآجال طويلة المدى، والمشاركات في العمليات التجارية لآجال قصيرة نسبياً. وهذه كلها مشروعة.
2 - في مجال الأعمال والخدمات المصرفية الأخرى التي لا تعارض الطبيعة الإسلامية، وهي قبول الودائع: ودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) وودائع التوفير، وودائع مع التفويض في الاستثمار، وتحصيل الشيكات لحساب العملاء بالعملات المحلية والأجنبية، وتحويل الأموال، وإصدار خطابات ضمان أو فتح اعتمادات مستندية، وخطابات الضمان تشمل الابتدائية، والنهائية لضمان تنفيذ عمليات مشاركة أو عن دفعات مقدمة. وتحصيل كمبيالات خاصة بعملاء لاتتضمن فوائد، ومقابل أتعاب معينة للبنك، وشراء وبيع أوراق مالية باسم العملاء، لاتتضمن سندات أو فوائد بشكل عام، وحفظ الأوراق المالية وتحصيل
__________
(1) البنك الإسلامي: مؤسسة مالية تقوم بجميع الأعمال المصرفية والمالية والتجارية وأعمال الاستثمار وإنشاء مشروعات التصنيع والتنمية الاقتصادية والعمران والمساهمة فيها في الداخل والخارج (انظر: 100 سؤال و100 جواب في البنوك الإسلامية للدكتور أحمد النجار: ص127) .
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 239/3-242.(7/90)
مستحقاتها والحقوق المترتبة عليها، وحفظ جميع المعادن الثمينة والمستندات وإيجار الخزائن الخاصة، والقيام بأعمال أمناء الاستثمار والوكلاء، وإصدار الأسهم لحساب المؤسسات والشركات ومعاونتها في عمليات الاكتتاب عند تأسيسها أو زيادة رؤوس أموالها. وهذه كلها أعمال مشروعة في الإسلام إذا التزمت الشروط والأحكام الإسلامية.
3 - في مجال التكافل الاجتماعي: بإيتاء الزكاة، وصناديق التأمين ضد المخاطر، والقروض الاجتماعية: قروض المرضى، وقروض المسنّين وصغار الحرفيين والطلبة. وهذا المجال لايحقق عوائد استثمار فيما عدا استثمار أموال التأمين التعاوني المشروع في الإسلام.
ويلاحظ أن أهم حالات الاستثمار والمشاركة: هي المضاربة على النحو المذكور سابقاً، والمضاربة مشروعة في الإسلام بالإجماع، وكذلك بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهو مشروع كما ذكر الإمام الشافعي في كتابه الأم (1) حيث قال: « ... وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه..» وهذه المعاملة ليست من قبيل بيع الإنسان ماليس عنده؛ لأن المصرف لايعرض أن يبيع شيئاً ولكنه يتلقى أمراً بالشراء، وهو لايبيع حتى يملك ماهو مطلوب ويعرضه على المشتري الآمر، ليرى ما إذا كان مطابقاً لما وصف. كما أن هذه العملية لاتنطوي على ربح مالم يَضْمن؛ لأن المصرف قد اشترى، فأصبح مالكاً، يتحمل تبعة الهلاك، فلو عطبت الأجهزة المشتراة أو تكسرت قبل تسليمها لطالبها الذي أمر بشرائها، فإنها تهلك على حساب المصرف، وليس على حساب الآمر (2) .
__________
(1) الأم: 29/3.
(2) تطوير الأعمال المصرفية: ص479.(7/91)
- ماهي الطريقة السائغة شرعاً لتحديد العائد على الاستثمار:
يتحدد عائد الاستثمار في المصارف الإسلامية على النحو الذي يجري في الشركات المساهمة، في خلال فترة زمنية معينة، وهي سنة مالية، نظراً لاستمرار المضاربة المشتركة.
وعلى ذلك فإن الربح المعلن في نهاية كل سنة مالية، لايتقرر إلا للمبلغ الذي يبقى من أول السنة إلى نهايتها. فإذا استرد المستثمر في المضاربة المشتركة كامل مبلغه أو جزءاً منه قبل انتهاء السنة، حيث لايكون هناك إعلان للربح، فإن هذا المبلغ المسترد لايكون له نصيب من الربح الذي يجري حسابه وإعلانه للتوزيع في نهاية تلك السنة (1) .
ولهذا نظير مماثل في المضاربة الخاصة المقرر أحكامها لدى فقهائنا، ذكر الرملي في نهاية المحتاج: أنه إذا استرد المالك بعض مال القراض قبل ظهور ربح أو خسارة، فإن المال المضارب به يرجع إلى الباقي، لأن مالك المال لم يترك في يد المضارب غيره، فصار كما لو اقتصر في الابتداء على إعطائه (2) .
ويعرف العائد بضرب المبلغ المستثمر في المدة التي بقي فيها في الاستثمار، والحاصل هو المعروف في أعمال البنوك الربوية بنظام الأعداد أو النِّمر (3) : وهو ضرب الرصيد اليومي في عدد الأيام التي مكثها هذا الرصيد. والعدد الناتج هو مقدار الفائدة لمدة يوم واحد. علماً بأن الربح يكون بالمال، أو بالعمل حسب الاتفاق، أو بضمان العمل كما في شركة الأعمال، وتضمين الغاصب؛ لأن الغنم
__________
(1) المرجع السابق: ص 458-460.
(2) نهاية المحتاج: 176/4.
(3) وهو طريقة حسابية لتحديد فائدة المبلغ الذي يتحرك زيادة أو نقصاناً بشكل يومي غالباً.(7/92)
مقابل الغرم أو الخراج بالضمان، أي مستحق بسببه (1) . فإذا صار الشريك ضامناً بسبب ما، كان جميع الربح له لضمانه إياه، لأنه خراج المال.
وبما أن الاستثمار اللاربوي استثمار إنتاجي يعتمد على الربح الفعلي الذي لايتحقق بالسرعة التي يبدأ فيها الاستثمار المصرفي حركة الحساب في ميدان الفوائد، فإن الطريقة الحسابية المصرفية في البنوك الإسلامية تكون المدة فيها على أساس الشهور بدل الأيام. فمن يدفع ألف دينار للاستثمار السنوي لايتساوى مع من يدفع نفس الألف في منتصف العام، أي الاستثمار لمدة ستة أشهر فقط، ويكون عائد الاستثمار السنوي أكثر بنسبة 9% مثلاً، وعائد الاستثمار النصف سنوي 7%، فإن اقتصر الاستثمار على نصف سنة فقط، فتكون النسبة نصف نسبة العائد السنوي.
وذكر الدكتور أحمد النجار: أن وحدة المدة إما اليوم أو الأسبوع أو الشهر وفقاً لما تقرره اللوائح التنظيمية المعتمدة للبنك، وتكون معلنة للمستثمرين (2) . وهذا مقبول من حيث المبدأ، إن تحقق الربح كما سيأتي بيانه.
وأضاف الدكتور النجار: أنه في حالات تغير مبلغ المستثمر الواحد خلال السنة، بأن تتناولها الإضافة أو السحب، يكون حساب النِّمر على أساس أرصدة الاستثمار عقب كل تعديل، مابين تاريخ التعديل وتاريخ إنهاء الاستثمار، أو نهاية السنة المالية أيهما أقرب. كما يمكن - كطريق آخر - أخذ الفرق بين نمر المبالغ المضافة للاستثمار، ونمر المبالغ المسحوبة محسوبة من تاريخ الإضافة ومن تاريخ السحب إلى تاريخ إنهاء الاستثمار أو تاريخ انتهاء السنة المالية أيهما أقرب، وإن اتباع أي من الطريقين يعطي نفس النمر التي تعطيها الطريقة الأخرى.
__________
(1) البدائع: 77/6.
(2) المدخل إلى النظرية الاقتصادية: ص177.(7/93)
- في الحالات التي يتغير فيها المستثمرون (المودعون) هل يجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد؟.
الأصل العام المقرر في المضاربة الخاصة: أن كل تعاقد ثنائي قائم بذاته، تصفى فيه الأرباح بعد وفاء رأس المال إلى المالك، ولايوزع الربح ولايعرف الحظ منه إلا بعد تنضيض جميع رأس المال، أي تحويله إلى نقود (1) .
وأرباح المضاربات المشتركة يجب أن تبقى قائمة على الأسس التي أبانها الفقهاء، وفقاً لأصول المحاسبة التامة، حيث يسترد رأس المال، وتقسم الأرباح الفاضلة، بحسب الاتفاق. وبناء عليه، لا مجال للقول بالربح المقدر أو المفترض مع استمرار المضاربة؛ لأن الربح لايستقر إلا بالقسمة، والقسمة لاتصح إلا بعودة رأس المال نقوداً كما كان (2) .
وهذا يرشدنا إلى أنه لايجوز توزيع نسبة مئوية بصفة دورية محسوبة على اعتبار ماسيقع من الأرباح أو العائد.
ويتبع بنك ناصر الاجتماعي طريقة محاسبية في تقدير الربح، على أساس الافتراض المبني على دراسة ميدانية للمشروع الذي يقدم له البنك قرض المشاركة بالأرباح. وعقب على ذلك الدكتور سامي حمود بقوله: إننا نرى أن هذا التطبيق لايتفق مع الأسس الفقهية المقررة من ناحية مسألة تحقق الربح. وهذا الأسلوب المتبع لايعدو في نظرنا أن يكون أسلوباً من أساليب الإقراض الربوي. وإنني أؤيده تأييداً تاماً في هذا الرأي - فهو محق، وأما طريقة الافتراض فهي غير سائغة شرعاً، منعاً من الغرر والظلم، فكثيراً مايكون الواقع خلاف الأمر المفترض.
__________
(1) بداية المجتهد: 237/2، قال ابن رشد: ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح، بعد أن ينض جميع رأس المال، وأنه إن خسر ثم اتجر، ثم ربح، جبر الخسران من الربح.
(2) تطوير الأعمال المصرفية، د. حمود: ص 453.(7/94)
- وإذا وافق جميع المستثمرين على هذه الطريقة السابقة، فهل تكون جائزة؟
الوضع في الشريعة يختلف عن القوانين الوضعية التي تقرر أن «العقد شريعة المتعاقدين» أما في الشريعة فهذا المبدأ مقيد بما تقرره أحكام شرع الله التي تسمو على النظرة الضيقة أو المحدودة، ولاتقر الظلم أو الغبن أو الاستغلال أو أكل أموال الناس بالباطل، كما ذكرت في مقدمة البحث.
فلا قيمة مثلاً لاتفاق المتراهنين على الرهان، أو العاقدين في البيع أو القرض على الربا، فهذا اتفاق مصادم لأصول الشريعة، فيكون باطلاً، وإن تراضى عليه الطرفان؛ لأن شرع الله عادل يحمي مصالح الناس على الدوام، ويقيهم من سوء تصرفاتهم وتورطهم فيما يضرهم ولاينفعهم في نهاية الأمر، وإن تراءى لهم أن هناك مصلحة موقوتة، أو تسوية سريعة لأوضاع تجارية متشابكة، لكنها تتجاوز الحق، وتوقع الناس في الباطل.
- وفي الحالات التي لايمكن فيها الرجوع على عميل قبض حصته، ثم يظهر أن الربح لم يتحقق في نهاية المدة، كيف تكون المحاسبة؟ ومن يتحمل الفرق، الشركة أم المستثمر أم غير ذلك؟.
الأصل المقرر في شركات المضاربة أن الخسارة على رب المال، ويكفي العامل أنه خسر جهده، وحينئذ يتحمل المودعون (المستثمرون) الخسارة الواقعة. وإذا تعذر الرجوع على عميل قبض حصته، وهذا خطأ من إدارة شركة المضاربة المشتركة، فإن هذه الإدارة تتحمل تَبِعَة الخطأ الصادر منها، وهو الفرق الحاصل بسبب المدفوع خطأ، أي تضمن ما دفع لعميل من غير حق، وتوزع بقية الخسارة على المستثمرين بنسبة ودائعهم الاستثمارية؛ لأن القاعدة الشرعية في شركات العنان وغيرها هي: «الربح على ماشرطا، والوضيعة على قدر المالين» (1) أي أن الخسارة في الشركة على كل شريك بقدر ماله. ولايتحمل شيئاً من الخسارة أحد غير ماذكر على النحو السابق إلا إذا كان متبرعاً بالضمان، لأنه يجوز لشخص آخر غير العاقدين الالتزام بهذا الضمان تبرعاً وإحساناً، لإنقاذ سمعة شركة مضاربة معينة.(7/95)
- إذا أنشأ البنك حافظة استثمارية (صندوق) مقسمة إلى حصص يقوم بإدارتها نيابة عن المستثمرين، فهل يجوز له اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح، وهل يجوز أن يكون مبلغاً محدداً مقطوعاً، وهل يجب على البنك أن يوضح هذا؟
يعتبر البنك مضارباً بالنسبة للمستثمرين (وهم أصحاب الأموال) فيقوم بالإدارة والعمل نيابة عن المستثمرين، ومن قواعد الربح أو ضوابطه كما تقدم: أن يكون جزءاً شائعاً مقسوماً بين العاقدين، فإذا عين المتعاقدان مقداراً مقطوعاً محدداً لأحدهما، فلا يصح هذا الشرط، والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح، وهذا الشرط يمنع الاشتراك في الربح، لاحتمال ألا يربح المضارب إلا هذا القدر، فيكون الربح لأحدهما دون الآخر، فلا تتحقق الشركة، ولايكون التصرف مضاربة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، أي المضاربة إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة (2) .
__________
(1) يذكر الفقهاء هذا النص حديثاً عادة، ولكنه في الواقع هو قاعدة وليس حديثاً، قال الحافظ الزيلعي عنه: غريب جداً (أي لا أصل له) ويوجد في بعض كتب الفقهاء من قول علي (نصب الراية: 475/3) .
(2) المغني لابن قدامة: 34/5.(7/96)
وذكر ابن قدامة علة عدم جواز أن يجعل لأحد الشركاء فضل دراهم، قائلاً (1) ، وإنما لم يصح ذلك لمعنيين:
أحدهما: أنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لايربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، واحتمل أن لايربحها، فيأخذ من رأس المال جزءاً، وقد يربح كثيراً، فيستضرر من شرطت له الدراهم.
والثاني: أن حصة العامل المضارب ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء، لما تعذر كونها معلومة بالقدر. فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوماً به. ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره، بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح.
وإذا أخذ المضارب شيئاً من العائد قبل القسمة أو الاستحقاق على أن يحتسب من حصته، جاز ذلك موقوفاً على القسمة، قال البغدادي في مجمع الضمانات (2) :
قسمة الربح قبل قبض رب المال رأس ماله موقوفة: إن قبض رأس المال صحت القسمة وإلا بطلت؛ لأن الربح فضْل على رأس المال، ولايتحقق الفضل إلا بعد سلامة الأصل، وما هلك من مال المضاربة، فهو من الربح دون رأس المال بقسمته، حتى لو اقتسما الربح قبل قبض رب المال رأس المال، ثم هلك في يد المضارب، فالقسمة باطلة.
يتبين مما ذكر أمران:
__________
(1) المرجع والمكان السابق.
(2) ص311.(7/97)
الأول - لايجوز للبنك اقتطاع أجر لنفسه محسوب كنسبة من الربح، ولايجوز أن يكون أجره مبلغاً محدداً مقطوعاً، سواء أوضح هذا للعملاء، أم لا.
الثاني - لايجوز حصول المضارب على حصة من ربح المضاربة إضافة إلى مايناله من أجر ثابت (أجير + شريك) (1) . ولا عبرة لرضا حملة الصكوك بهذا الأجر، ولا إلى معقولية أجر المضارب (المؤلف من عنصرين: ثابت ومتغير) .
- ماهي التكاليف التي يجوز تحميلها للشركة في عقد المضاربة؟
بحث فقهاؤنا في نطاق المضاربة الخاصة مسألة التكاليف أو النفقات التي يجوز للمضارب أخذها من مال المضاربة، والشركة الآن كالمضارب الخاص.
ولهم في ذلك اتجاهان:
- اتجاه لايجيز للعامل المضارب اقتطاع النفقة من مال المضاربة.
- واتجاه يجيز ذلك بقيود.
أما الاتجاه الأول: فهو للظاهرية والشافعية (2) ، أما الظاهرية فيقولون: لايحل للعامل أن يأكل من مال المضاربة شيئاً، ولا أن يلبس منه شيئاً لا في سفر ولا حضر.
وأما الشافعية فقالوا في الأظهر من قولي الإمام الشافعي: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة، لا حضراً ولا سفراً، إلا أن يأذن له رب المال؛ لأن للمضارب نصيباً من الربح، فلا يستحق شيئاً آخر، ويكون المأخوذ زيادة منفعة في المضاربة، ولأن النفقة قد تكون قدر الربح، فيؤدي أخذه إلى انفراده به، وقد تكون أكثر، فيؤدي إلى أن يأخذ جزءاً من رأس المال، وهذا ينافي مقتضى العقد، فلو شرطت النفقة للمضارب في العقد فسد.
وأما الاتجاه الثاني فهو لجمهور الفقهاء ومنهم الزيدية والإمامية. أما الحنفية ومثلهم الزيدية
__________
(1) هذا جواب تساؤل في بحث «طلائع البنوك الإسلامية» في «دراسات في الاقتصاد الإسلامي» - جامعة الملك عبد العزيز: ص202.
(2) المحلى: 248/8، المهذب: 387/1، مغني المحتاج: 317/2.(7/98)
والإمامية (1) فأجازوا للمضارب أن ينفق من مال المضاربة في السفر دون الحضر، وهي النفقة الخاصة بحاجة الطعام والشراب والإدام والكسوة والتنقل وأجر الأجير وأجرة الحمام ودهن السراج والحطب، وعلف الدابة، والفراش الذي ينام عليه وغسل الثياب ونحو ذلك مما لابد في السفر منه عادة.
وأما المالكية (2) : فأجازوا للعامل النفقة من مال القراض في السفر لا في الحضر، إن كان المال يحمل ذلك، إلا إذا كانت المضاربة في الإقامة (الحضر) تشغله عن الوجوه التي يقتات منها، فله حينئذ الإنفاق من مال المضاربة.
وأما الحنابلة (3) : فأجازوا النفقة للمضارب في الحضر أو في السفر إذا اشترطت، فهم كالشافعية؛ لأن الإذن أو الشرط في النتيجة شيء واحد، وإن كان الشافعية لايجيزون الاشتراط كما تقدم.
أما في نطاق المضاربة المشتركة: فذهب الدكتور محمد عبد الله العربي إلى جواز خصم (حسم) البنك الإسلامي مصاريفه العمومية بما فيها أجور موظفيه وعماله (4) .
وجاء في نظام الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي بالشارقة التي طرحت «صكوك المضاربة والقروض الإسلامية» مايلي: تتحمل شركة المضاربة مصاريفها الفعلية الخاصة بها تحت إشراف مراقب الاستثمار وموافقته. وتشمل هذه المصاريف الأعباء الإدارية العامة والمباشرة للمضارب وتكاليف إدارة أموال شركة المضاربة.. على أن لاتتجاوز كل هذه المصروفات سنوياً دولارين عن كل 100 دولار أمريكي من أصول شركة المضاربة، ويتحمل المضارب المصاريف الزائدة من نصيبه في الأرباح إذا وجدت. وحامل الصك ينيب المضارب في سداد الزكاة المستحقة عليه شرعاً تحت إشراف هيئة الرقابة الشرعية (5) .
وذهب الدكتور سامي حمود (6) إلى أن حكم التكاليف أو النفقات تختلف فيه المضاربة المشتركة عن المضاربة الخاصة، باعتبار أن المضارب المشترك لايتقيد بطبيعة عمله بالشروط التي يمكن أن يتقيد بها المضارب الخاص، فليس له أن يشترط النفقة للاعتبارات التالية:
1 - إن النفقة التي أجاز الفقهاء تحميلها على المال المضارب به هي النفقة الطارئة بمناسبة السفر، وليست النفقة العادية.
2 - إن النفقة التي أجازها الحنفية محصورة في حوائج السفر، والتي أجازها الحنابلة محددة بالطعام والكسوة وهي نفقة منضبطة بحسب العرف.
__________
(1) المبسوط: 63/22، تكملة فتح القدير: 81/7، المنتزع المختار: 333/5، فقه الإمام جعفر الصادق للشيخ محمد جواد مغنية: 162/4.
(2) بداية المجتهد: 238/2، القوانين الفقهية: ص283، الخرشي 217/6، ط ثانية
(3) المغني 64/5، كشاف القناع 265/2.
(4) بحثه «المعاملات المصرفية ورأى الإسلام فيها» الذي قدمه للمؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية في القاهرة 1965/1385: ص103.
(5) دراسات في الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز: ص 201
(6) تطوير الأعمال المصرفية: ص 492-494.(7/99)
3 - إن النفقة بالنسبة للعمل المصرفي، سواء بالنسبة لأجور الموظفين والعمال أو المصاريف الإدارية والعمومية، تعتبر من المستويات العالية في الإنفاق، وهي حالات لاتدخل في حسبان الشخص العادي بالنسبة لما يراه في تقديره أمراً معقولاً، وهذا بخلاف ما راعاه الفقهاء حيث اعتبروا أن لنفقة شخص المضارب حدوداً -قابلة للتوقع- في الطعام والكساء والانتقال من مكان إلى مكان.
وبالنظر للواقع فإن تحميل الأرباح مصاريف البنك وأجور عماله وموظفيه، قد يؤدي إلى أن تأكل هذه المصاريف والأجور كل الأرباح المتحققة، ولاسيما في السنوات الأولى من بدء العمل.
لذا فلا تتحمل الأرباح أية نفقات سوى مايتعلق بعمل المضاربة نفسه من سجلات ومطبوعات خاصة بالعمل الاستثماري. أما أجور العمال والموظفين ومصاريف البنك والإدارة، فهي من حصة البنك في الربح باعتباره مضارباً مشتركاً. فإذا لم يكن ربح، تحمل البنك خسران مصاريفه، كما يتحمل المستثمرون عدم الحصول على أرباح طوال العام.
أما المضاربون الذين يعملون مع البنك، فتكون النفقة بحسب الاتفاق المحدد لكل حالة بظروفها.
وإني أؤيد رأي الدكتور سامي حمود، مع إضافة شيء من التعديل عليه: وهو أن الموظف الذي يبعثه البنك لدولة أجنبية من أجل استيراد سلع معينة لحساب المضاربة تكون نفقاته في السفر على حساب مال المضاربة.
- إذا كان العامل في المضاربة شركة (شخصية معنوية) فهل تعتبر جميع رواتب الموظفين والإدارة من ضمن التكاليف؟
تبين مما سبق أنه يصعب الإفتاء بمثل هذا، فلا يجوز صرف شيء من رواتب الموظفين والإدارة من مال المضاربة؛ لأن هؤلاء مقيمون في مراكز تجارية، وهم ذوو كفاءات عالية لتحسين مستوى الخدمة والأداء، ولكسب العملاء وزيادة حجم العمل في المستقبل.(7/100)
وقد عرفنا في البحث السابق أن الفقهاء إما مانعون لأخذ شيء من النفقات من مال المضاربة، وإما مقيِّدون لتلك النفقة في السفر لا في الحضر. إلا أن إبراهيم النخعي والحسن البصري أجازا للمضارب أخذ نفقته حضراً وسفراً في باب المضاربة الخاصة.
وقد لاحظنا أن ظروف عمل المؤسسات المصرفية في نطاق المضاربة المشتركة لاتتفق مع أوضاع المضاربة الخاصة، فلا يحق حينئذ للبنك صرف الرواتب والنفقات الإدارية من مال المضاربة، ماعدا ما ذكرته سابقاً وهو نفقات التسجيل والطباعة أو الكتابة والتوثيق ونحو ذلك.
- هل يجوز تنازل المستثمرين عن كل حق في التدخل في الإدارة؟ .
من المعلوم أن إدارة المضاربة الخاصة والمشتركة للمضارب ليتمكن من استثمار الأموال بحسب خبرته وبمقتضى ضرورات وحاجات التجارة وغيرها. وأرباب المال في المضاربة لايستطيعون التدخل في أعمال الشركة، وإن كانوا يستطيعون المراقبة طبعاً.
ويترتب عليه أن ليس للمستثمرين الحق في التدخل في شؤون الإدارة، وإذا لم يكن لهم الحق في ذلك، فلا يملكون شيئاً يتنازلون عنه. أما حق الرقابة فهو حق طبيعي شرعي لايتنازل عنه إلا بالتراضي، ومن له حق مقرر يثبت له حق التنازل عنه. ومن أهم عناصر الإدارة التي شرطها جمهور فقهائنا (1) : أن يسلّم رأس المال إلى العامل المضارب، ولاتصح المضاربة مع بقاء يد رب المال على المال، لعدم تحقق التسليم مع بقاء يده، فلو شرط بقاء يد المالك على المال أو مشاركة المالك في عمل المضاربة، فسدت المضاربة.
أما الحنابلة (2) فأجازوا اشتراط بقاء يد المالك على المال، ويقتضي هذا جواز مشاركة المالك في إدارة أعمال المضاربة.(7/101)
- هل يجوز حساب العائد يومياً؟
عرفنا فيما سبق أن نظام المضاربة اللاربوي يعتمد على الربح الفعلي، والطريقة الحسابية المصرفية المعروفة بنظام الأعداد أو النِّمر يَسْهُل في نظام المضاربة المشتركة تحقيقها أو الأخذ بها على أساس الشهور بدل الأيام، نظراً لأن الاستثمار اللاربوي استثمار إنتاجي يعتمد على الربح الفعلي الذي لايتحقق بالسرعة التي يبدأ فيها الاستثمار المصرفي الربوي حركة الحساب في ميدان الفوائد (3) .
وبناء عليه لايجوز حساب العائد يومياً؛ لأن حساب الفوائد الربوية يعتمد على عنصر الزمن، وحساب الأرباح أو العوائد الاستثمارية في الشريعة يعتمد على وجود الربح فعلاً.
فإذا كانت عجلة الإنتاج دائمة والربح دورياً، فيجوز حساب العائد يومياً، وهذا متروك لطبيعة العمل الاقتصادي وتقدير المضارب وإشرافه على النشاط التجاري وغيره بالنيابة عن المستثمرين، فهو أدرى بظروف العمل ومردوده.
ويقوم البنك عادة بتسوية حسابات المضاربة في نهاية كل ربع سنة، فيقوم بإعداد بيان عن جميع أنشطته، ويقوم كذلك بتحديد إجمالي الربح والخسارة، وفي ضوئها يقوم البنك بتحديد قيمة حساب المضاربة. ولاينبغي تخمين ربح وخسارة المشروع قبل انتهائه. واختيار مدة ربع السنة ليست لها أهمية خاصة، إذ يمكن اقتراح فترات أقصر أو أطول كما قال البروفيسور نجاة صديقي (4) .
والخلاصة: إن المهم معرفة الربح، فإذا عرف جاز اقتسام وحداته، سواء في اليوم أو الأسبوع أو الشهر ونحوه.
__________
(1) الدر المختار 506/4، الشرح الكبير للدردير: 520/3 ومابعدها، مغني المحتاج، 310/2.
(2) كشاف القناع: 262/2.
(3) تطوير الأعمال المصرفية، الدكتور سامي حمود، ص 460.
(4) النظام المصرفي اللاربوي، البروفيسور محمد نجاة الله صديقي: ص 28 - 31.(7/102)
.............................قرارات مجمع الفقه الإسلامي...............................
................................في مقره الأصلي ـ جدّة..................................
..............................التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي................................
نظراً لأهمية هذه القرارات البناءة والتي هي ثمرة بحوث واجتهاد جماعي ومناقشات طويلة لمدة أسبوع في كل دورة، ونظراً لكثرة سؤال الناس عنها، وتمكينهم من معرفتها، رأيت إضافة هذه القرارات ليسهل الاطلاع عليها وهي ولله الحمد موفقة وموضوعية ومعتدلة، لقيت القبول والاستحسان من الجميع.
علماً بأنني أحد ثلاثة أسهموا في وضع منهج وخطة عمل هذا المجمع، ورسم سياسته، وتطلعاته. وكنت في دورتين أوليين ممثلاً لسورية، وأصبحت بعدهما خبيراً علمياً فيه، شاركت في جميع دوراته ببحث أو أكثر، وقمت مع لجنة الصياغة بصياغة كثير من قراراته.
وأبدأ بإيراد قرار حقوق التأليف في طليعة القرارات.
(حقوق التأليف مصونة شرعاً لا يجوز الاعتداء عليها)
قرار مجمع الفقه الإسلامي
لمنظمة المؤتمر الإسلامي
القرار رقم (5) د 88/09/5
بشأن الحقوق المعنوية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 10/1409 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانيا ً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً.
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
والله أعلم..(7/103)
القَرارات والتوصيَات
الدَّورَة الثانية لمجلس مجْمَع الفقه الإسلامي
جدة: 10-16 ربيع الثاني هـ/22-28 ديسمبر 1985 م
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1)
بشأن
زكاة الديون
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22/-28 ديسمبر (كانون الأول) 1985 م.
بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول «زكاة الديون» وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين: 1 - أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم يُفصل زكاة الديون.
2 - أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نطر في طريقة إخراج زكاة الديون.
3 - أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناءً على ذلك اختلافاً بيناً.
4 - أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يعطى المال الممكَّن من الحصول عليه صفة الحاصل؟.
وبناء على ذلك قرر:
1 - أنه تجب زكاة ـالدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئاً باذلاً.
2 - أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسراً أو مماطلاً.
والله أعلم.. قرار رقم (2)
بشأن
زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/18-22 ديسمبر 1985 م.
بعد أن استمع المجلس لما أعد من دراسات في موضوع «زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية» .
وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبين:
أولاً: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة.
ثانياً: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية.
ولذلك قرر:
أولاً: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة.
ثانياً: أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع.
والله أعلم(7/104)
قرار رقم (3)
بشأن
أجوبة استفسارات المعهد العالمي
للفكر الإسلامي بواشنطن
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ22/-28 ديسمبر 1985 م.
إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها:
ـ أن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جداً لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض.
ـ أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب.
قرر:
1 - تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية. وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة.
2 - تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة.
والله أعلم قرار رقم (4)
بشأن
القاديانية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من «مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا» بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية.
وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (ميرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية.(7/105)
وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (ميرزا غلام أحمد) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد. وبعد أن اطلع المجمع (أيضاً) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه.
قرر ما يلي:
1 - أن ما ادعاه (ميرزا غلام أحمد) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتاً قطعياً يقينيّاً من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده. وهذه الدعوى من (ميرزا غلام أحمد) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام. وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (ميرزا غلام أحمد) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم.
2 - ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامعها وعلمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إلا إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، فحكم مثل هذه المحكمة باطل.
والله أعلم(7/106)
قرار رقم (5)
بشأن
أطفال الأنابيب
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
إذ استعرض البحوث المقدمة من السادة الفقهاء والأطباء الذين عرضوا موضوع «أطفال الأنابيب» من جانبيه الفقهي والفني الطبي، ناقش ما قدم من دراسات وافية، وما أثير من جوانب مختلفة لاستيضاح الموضوع.
وإذ تبين له أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبياً وفقهياً، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصور من جميع جوانبه.
قرر:
1 - تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع.
2 - يعهد لفضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد ـ رئيس المجمع ـ بإعداد دراسة وافية في الموضوع تلم بكل المعطيات الفقهية والطبية.
3 - توجيه الأمانة ما يصل إليها إلى جميع الأعضاء قبل انعقاد الدورة القادمة بثلاثة أشهر على الأقل.
والله الموفق قرار رقم (6)
بشأن
بنوك الحليب
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب:
وبعد التأمل: فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين:
1 - أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها.
2 - أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.
3 - أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب. وبناء على ذلك قرر:
أولاً: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
ثانياً: حرمة الرضاع منها.
والله أعلم(7/107)
قرار رقم (7)
بشأن
أجهزة الإنعاش
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن نظر فيما قدم من دراسات فقهية وطبية في موضوع «أجهزة الإنعاش» .
وبعد المناقشات المستفيضة، وإثارة متنوع الأسئلة، وخاصة حول الحياة والموت نظراً لارتباط فك أجهزة الإنعاش بانتهاء حياة المنعش.
ونظراً لعدم وضوح كثير من الجوانب.
ونظراً لما قدمت به جمعية الطب الإسلامي في الكويت من دراسة وافية لهذا الموضوع، يكون من الضروري الرجوع إليها. قرر:
أولاً: تأخير البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع.
ثانياً: تكليف الأمانة العامة بجمع دراسات وقرارات مؤتمر الطب الإسلامي في الكويت وموافاة الأعضاء بخلاصة محددة واضحة له.
والله الموفق
قرار رقم (8)
بشأن
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد استماعه إلى عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الأسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها.
وبعد استماعه إلى تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذي تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم.
ولكون الموضوع يحتاج إلى دراسة أوسع وأكمل تقتضي الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه. وبناء على ذلك قرر:
1 - إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة.
2 - مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيئته العلمية الشرعية.
والله الموفق
قرار رقم (9)
بشأن
التأمين وإعادة التأمين
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.(7/108)
بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع «التأمين وإعادة التأمين» .
وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة.
وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها.
وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن. قرر:
1 - أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعاً.
2 - أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
3 - دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.
والله أعلم
قرار رقم (10)
بشأن
حكم التعامل المصرفي بالفوائد
وحكم التعامل مع المصارف الإسلامية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م. بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر.
وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التأمل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئياً وكلياً تحريماً واضحاً بدعوته إلى التوبة منه، وإلى الاقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر:(7/109)
أولاً: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد! هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً.
ثانياً: أن البديل الذي يضمن السيولة المالية والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التي يرتضيها الإسلام، هو التعامل وفقاً للأحكام الشرعية.
ثالثاً: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التي تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامي لتغطي حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
والله أعلم قرار رقم (11)
بشأن
توحيد بدايات الشهور القمرية
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية.
وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية.
قرر:
1 - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية.
2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية.
3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويراً واضحاً يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي.
والله الموفق(7/110)
قرار رقم (12) بشأن
خطاب الضمان
أما بعد
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985 م.
بحث مسألة خطاب الضمان: وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي:
1 - أن خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فإن كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيما يلزم حالا أو مآلاً، وهذه هي حقيقة ما يعنى في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة) .
وإن كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدِّره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) .
2 - إن الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان. وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعاً على المقرض، وذلك ممنوع شرعاً. ولذلك فإن المجمع قرر ما يلي:
أولاً: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) سواء أكان بغطاء أم بدونه.
ثانياً: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعاً، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.
والله أعلم(7/111)
القَرارَات وَالتوصيَات
الدّورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
عمَّآن: 8-13 صفر 1407 هـ/11-16 اكتوبر 1986 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
قرار رقم (1)
بشأن
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
ـ بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي:
(أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية: 1 - جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2 - أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3 - كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعاً.
(ب) بخصوص عمليات الإيجار:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
المبدأ الثاني:
أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.
المبدأ الرابع:
أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل. المبدأ الخامس:
أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه.
المبدأ السادس:
أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك.
(جـ) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
المبدأ الثاني:(7/112)
أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض له، وأن يبرم بعقد منفصل. (د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية:
قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن.
(هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:
قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي:
يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته. ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية.
والله أعلم
قرار رقم (2)
بشأن
زكاة الأسهم في الشركات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م. ـ بعد مناقشته لموضوع «زكاة الأسهم في الشركات» من جميع جوانبه والاطلاع على البحوث المقدمة بخصوصه.
قرر:
تأجيل إصدار القرار الخاص به إلى الدورة الرابعة للمجلس، والله الموفق.
قرار رقم (3)
بشأن
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
أما بعد:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.(7/113)
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع «توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق» وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه.
قرر:
يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
والله أعلم قرار رقم (4)
بشأن
أطفال الأنابيب
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي «أطفال الأنابيب» وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء.
وبعد التداول.
تبين للمجلس:
أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع:
الأولى: أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
الثانية: أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
الثالثة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها. الرابعة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
الخامسة: أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.
وقرر:
أن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.(7/114)
أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة.
والله أعلم قرار رقم (5)
بشأن
أجهزة الإنعاش
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع «أجهزة الإنعاش» واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.
قرر ما يلي:
يعتبر شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعاً للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 - إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلاً لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة.
والله أعلم قرار رقم (6)
بشأن
«توحيد بدايات الشهور القمرية»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه في قضية «توحيد بدايات الشهور القمرية» مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة. قرر:
1 - في المسألة الأولى:
إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2 - في المسألة الثانية:(7/115)
وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.
والله أعلم قرار رقم (7)
بشأن
«الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع «الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة» .
قرر:
أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضاً أو جواً أو بحراً لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة.
والله أعلم قرار رقم (8)
بشأن
«صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استماعه لبيان الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي حول أنشطة صندوق التضامن الإسلامي وحاجته الماسة إلى الدعم المادي، واقتراحه أن يكون مصرفاً من مصارف الزكاة.
قرر:
تكليف الأمانة العامة بالتعاون مع صندوق التضامن الإسلامي بإعداد الدراسات اللازمة لبحث الموضوع وعرضها على مجلس المجمع في دورته القادمة.
والله الموفق قرار رقم (9)
بشأن
«أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة» .
قرر:
أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية:(7/116)
أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.
ثانياً: بخصوص قيمة العملة:
تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفى دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس.
والله الموفق قرار رقم (10)
بشأن
«سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد اطلاعه على البحث المقدم في موضوع «سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار» واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وجرياً على خطة المجمع في وجوب إعداد عدد من الدراسات في الموضوع الواحد.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة بحث استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف على جميع الآراء فيه.
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع بتكليف من تراه لإعداد عدد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورته الرابعة.
والله الموفق قرار رقم (11)
بشأن
«استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها «المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن» وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء.
قرر:
تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات.
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ما أقره المجمع من أجوبة على الاستفسارات (1) .
السؤال الثالث:
ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج
__________
(1) أرجئ اتخاذ القرار بالنسبة للأسئلة 1، 2، 7، 15، 22.(7/117)
حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟
الجواب:
زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعاً بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا وقع فهو باطل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح، والأولاد المولودون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين. ورجاء إسلام الرجال لا يغير من هذا الحكم شيئاً.
السؤال الرابع:
ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه.
وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟
الجواب:
بمجرد إسلام المرأة وأبى الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة، فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدهما السابق.
أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما فإن أسلم ـ بعد ذلك ـ ورغب للعودة إلى زواجهما عاد بعقد جديد. ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية. السؤال الخامس:
ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح للدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟
الجواب:
إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة.
السؤال السادس:(7/118)
ماحكم بيع المسجد «إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه» . فكثيراً ما يشتري المسلمون منزلاً ويحولونه مسجداً فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون. ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون. فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
الجواب:
يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه أو خيف استيلاء الكفار عليه، على أن يشترى بثمنه مكاناً آخر يتخذ مسجداً.
السؤال الثامن:
بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟
الجواب:
لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعاً في بلاد الغربة. السؤال التاسع: كثيرات من النساء هنا، يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهنّ جهات العمل من ستر رؤوسهن فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
الجواب:
إن حجاب المرأة المسلمة ـ عند جمهور العلماء ـ ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة، فإن خيفت فتنة يجب سترهما أيضاً.
السؤال العاشر والسؤال الحادي عشر:
ـ يضطر الكثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيراً منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيراً ما لا يجد عملاً إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيره من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟(7/119)
ـ وما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علماً بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم.
الجواب:
للمسلم إذا لم يجد عملا مباحاً شرعاً، العمل في مطاعم الكفار بشرط ألا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنازير ونحوها من المحرمات. السؤال الثاني عشر:
هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تترواح بين 01% و25% ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما قارب 95% من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟
الجواب:
للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته.
السؤال الثالث عشر:
هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جداً، فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟
الجواب:
لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعاً غُنية عن ذلك.
السؤال الرابع عشر:
اضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيراً ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهن أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة هذه الحفلات في المساجد؟ الجواب:
يندب عقد النكاح في المساجد، ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن والرقص والغناء.
السؤال السادس عشر:(7/120)
ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجاً لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون ـ عادة ـ عقداً عادياً بالصيغة نفسها التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟
الجواب:
الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه.
السؤال السابع عشر:
ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟
الجواب:
الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعاً. أما نتف بعض الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوهاً لخلقة المرأة.
السؤال الثامن عشر:
بعض المسلمات يجدن حرجاً في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعاً للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟
وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟
الجواب:
مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوعة شرعاً وكذلك العكس.
السؤال التاسع عشر:
ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة.. علماً بأن الكنائس ـ في الغالب ـ أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في هذه المناسبات دون مقابل؟
الجواب:
استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعاً عند الحاجة، وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة.
السؤال العشرون:
ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ الجواب:(7/121)
ذبائح الكتابيين جائزة شرعاً إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعاً، ولم يذكر اسم الله عليها، ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورته القادمة.
السؤال الحادي والعشرون:
كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد.
فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟
الجواب:
في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا يجوز للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات.
السؤال الثالث والعشرون:
في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟
وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علماً أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟ ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالباً ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد.
الجواب:
يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.
وإذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
السؤال الرابع والعشرون:
ما حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟
الجواب:(7/122)
يجوز للمسلم العمل المباح شرعاً في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين.
السؤال الخامس والعشرون والسؤال السادس والعشرون:
ـ ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علماً بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ ـ ما حكم تبرع المسلم فرداً كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنَسِية؟
الجواب:
لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك مالياً أو فعلياً.
السؤال السابع والعشرون:
كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علماً بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟
الجواب:
للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب الحلال أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعاً، كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من المكاسب الحرام بعد بذل الجهد في إقناعه بالكسب الحلال والبحث عن عمل.
السؤال الثامن والعشرون:
ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحاً محدداً على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علماً بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عموماً، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟
الجواب: لا يجوز شرعاً.
والله أعلم قرار رقم (12)
بشأن
«المشاريع العلمية للمجمع»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد دراسة تقرير شعبة التخطيط عن اجتماعها يومي 8 و 9 صفر 1407 هـ 11-12 أكتوبر 1986 م، والذي بحثت فيه عدداً من الأمور المدرجة على جدول أعمالها.
قرر:
أولاً: الموافقة على المشاريع التالية بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات:
1 - الموسوعة الفقهية.
2 - معجم المصطلحات الفقهية.
3 - معلمة القواعد الفقهية.
4 - مدونة أدلة الأحكام الفقهية.
5 - إحياء التراث الفقهي.
6 - اللائحة المالية للموسوعة الفقهية.
7 - اللائحة المالية لمعجم المصطلحات الفقهية.
8 - اللائحة المالية لإحياء التراث الفقهي.
9 - منهج سير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس.
ثانياً: تأليف لجنة علمية رباعية لوضع منهج لكل من مشروعي معلمة القواعد الفقهية ومدونة أدلة الأحكام الفقهية بالتشاور بين رئيس المجلس والأمين العام.
والله الموفق(7/123)
توصيات الدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استماعه إلى بيان سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الأمير الحسن ابن طلال، حول المشكلات الملحة التي يعاني منها المسلمون في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وضرورة التوجه لتلبية الحاجات الملحة للمسلمين في مواجهة آثار الفقر والمرض والجهل، وتحقيق الحياة الكريمة للإنسان.
وبعد اطلاعه على نداء سمو ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية الموجه إلى العالم العربي والإسلامي لإغاثة السودان.
وبعد استشعاره وهو ينعقد على مقربة من المسجد الأقصى المبارك بضرورة مضاعفة الجهد من أجل استنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
وفي ضوء قناعته بضرورة الاهتمام بالدرجة الأولى بالقضايا التي تتصل بحياة المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والتضامنية، وبضرورة تعميق الدراسة والبحث فيها بالتركيز على الندوات العلمية والأيام الدراسية ونحوها.
يوصي بما يلي:(7/124)
أولاً: ضرورة تبني برنامج إسلامي واسع للإغاثة ينفق عليه من صندوق مستقل ينشأ لهذا الغرض ويمول من أموال الزكاة والتبرعات والأوقاف الخيرية.
ثانياً:
مناشدة الأمة الإسلامية شعوباً وحكومات أن تعمل جهدها لاستنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وتحرير الأرض المحتلة بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة.
ثالثاً:
الاهتمام بأعمال المجمع في مجالات الدراسات والبحوث والفتوى والمشاريع، وبالقضايا الهامة للمسلمين والتي تتصل بحياتهم الاجتماعية والاقتصادية وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم وتحقيق أسباب التكافل والتضامن بينهم وتمكينهم من مواجهة كل التحديات ومن إقامة حياتهم على هدي من شريعة الله سبحانه.
رابعاً:
التمييز بين قضايا الدراسات والبحوث وموضوعات الفتوى وذلك بالتركيز في البحوث والدراسات بصفة خاصة على الندوات العلمية والأيام الدراسية وفق خطة تعدها شعبة التخطيط في المجمع لتعرض على المجلس.
والله الموفق(7/125)
القَرارَات وَالتوصيَات
الدَّورَة الرابعة لمجلس مجْمع الفقه الإسلامي
جدة: 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ/ 6-11 فبراير 1988م
القرارات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (1)
بشأن
انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كانَ أو ميتاً
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية والطبية الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً» .
وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع أمر واقع فرضه التقدم العلمي والطبي، وظهرت نتائجه الإيجابية المفيدة والمشوبة في كثير من الأحيان بالأضرار النفسية والاجتماعية الناجمة عن ممارسته دون الضوابط والقيود الشرعية التي تصان بها كرامة الإنسان، ومع مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية الكفيلة بتحقيق كل ما هو خير ومصلحة غالبة للفرد والجماعة، والداعية إلى التعاون والتراحم والإيثار.
وبعد حصر هذا الموضوع في النقاط التي يتحرر فيها محل البحث وتنضبط تقسيماته وصوره وحالاته التي يختلف الحكم تبعاً لها.
قرر ما يلي:
من حيث التعريف والتقسيم:
أولاً: يقصد هنا بالعضو: أي جزء من الإنسان، من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها، كقرنية العين، سواء أكان متصلاً به، أم انفصل عنه.
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث، هو استفادة دعت إلىها ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة، أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه.
على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:
1 - نقل العضو من حي
2 - نقل العضو من ميت
3- النقل من الأجنّة
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي، تشمل الحالات التالية:
أـ نقل العضو من مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه، كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها.
ب ـ نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه.
أما ما تتوقف عليه الحياة، فقد يكون فردياً، وقد يكون غير فردي، فالأول كالقلب والكبد، والثاني كالكلية والرئتين.(7/126)
وأما ما لا تتوقف عليه الحياة، فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم، ومنه ما لا يتجدد، ومنه ما له تأثير على الأنساب والموروثات، والشخصية العامة، كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي، ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية: وهي نقل العضو من ميت:
ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين:
الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً.
الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس معاً توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً.
فقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة.
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة، وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:
حالة الأجنة التي تسقط تلقائياً.
حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي.
حالة «اللقائح المستنبتة خارج الرحم» . من حيث الأحكام الشرعية:
أولاً: يجوز نقل العضو من مكان من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.
ثانياً: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية، وتحقق الشروط الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان حي إلى إنسان آخر.(7/127)
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة وليّ المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. سابعاً: وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها، مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو. إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد، ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً، فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة، مما يدخل في أصل الموضوع، فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة، على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية.
والله أعلم قرار رقم (2)
بشأن
صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على المذكرة التفسيرية بشأن «صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته» المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع «صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي» .
يوصي:(7/128)
ـ عملاً على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة (المبينة في نظامه الأساسي) والتي أنشئ من أجلها، والتزاماً بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظراً لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها الطوعية له، يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية.
ويقرر: أولاً: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي، لأن في ذلك حبساً للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم.
ثانياً: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلاً عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية:
أـ أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل.
ب ـ أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي، وأهدافه، التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات.
جـ ـ أن يخصص صندوق التضامن حساباً خاصاً بالأموال الواردة من الزكاة بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها.
د ـ لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية.
هـ ـ لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق ـ في هذه الحالة ـ أن يتقيد بذلك.
وـ يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها، وفي مدة أقصاها سنة.
والله أعلم(7/129)
قرار رقم (3)
بشأن
زكاة الأسهم في الشركات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «زكاة أسهم الشركات» .
قرر ما يلي:
أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:(7/130)
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات. وتمشّياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5% من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
والله أعلم قرار رقم (4)
بشأن
انتزاع الملكية للمصلحة العامة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد الاطلاع على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «انتزاع الملك للمصلحة العامة» .
وفي ضوء ما هو مسلَّم في أصول الشريعة، من احترام الملكية الفردية، حتى أصبح ذلك من قواطع الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وأن حفظ المال أحد الضروريات الخمس التي عرف من مقاصد الشريعة رعايتها وتواردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة على صونها، مع استحضار ما ثبت بدلالة السنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من نزع ملكية العقار للمصلحة العامة، تطبيقاً لقواعد الشريعة العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة وتحمل الضرر الخاص لتفادي الضرر العام.
قرر ما يلي:(7/131)
أولاً: يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، ولا يجوز تضييق نطاقها أو الحد منها، والمالك مسلط على ملكه، وله - في حدود المشروع- التصرف فيه بجميع وجوهه وجميع الانتفاعات الشرعية. ثانياً: لا يجوز نزع ملكية العقار للمصلحة العامة إلا بمراعاة الضوابط والشروط الشرعية التالية:
1 - أن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل.
2 - أن يكون نازعه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال.
3 - أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها كالمساجد والطرق والجسور.
4 - أن لا يؤول العقار المنزوع من مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان.
فإن اختلت هذه الشروط أو بعضها كان نزع ملكية العقار من الظلم في الأرض والغصوب التي نهى الله تعالى عنها ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
على أنه إذا صرف النظر عن استخدام العقار المنزوعة ملكيته في المصلحة المشار إليها تكون أولوية استرداده لمالكه الأصلي، أو لورثته بالتعويض العادل.
والله أعلم(7/132)
قرار رقم (5)
بشأن
سندات المقارضة وسندات الاستثمار
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة في موضوع «سندات المقارضة وسندات الاستثمار» والتي كانت حصيلة الندوة التي أقامها المجمع بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6-9 محرم 1408 هـ/8/30-1987/9/2 م تنفيذاً لقرار رقم (10) المتخذ في الدورة الثالثة للمجمع وشارك فيها عدد من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثي المعهد وغيره من المراكز العلمية والاقتصادية وذلك للأهمية البالغة لهذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه، وللدور الفعال لهذه الصيغة في زيادة القدرة على تنمية الموارد العامة عن طريق اجتماع المال والعمل.
وبعد استعراض التوصيات العشر التي انتهت إليها الندوة ومناقشتها في ضوء الأبحاث المقدمة في الندوة وغيرها.
قرر ما يلي:
أولاً: من حيث الصيغة المقبولة شرعاً لصكوك المقارضة:
1 - سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه، بنسبة ملكية كل منهم فيه.
ويفضل تسمية هذه الأدلة الاستثمارية (صكوك المقارضة) .
2 - الصورة المقبولة شرعاً لسندات المقارضة بوجه عام لا بد أن تتوافر فيها العناصر التالية:
العنصر الأول:
أن يمثل الصك ملكية حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله، وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته.
وترتب عليها جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، مع ملاحظة أن الصكوك تمثل رأس مال المضاربة.
العنصر الثاني:
يقوم العقد في صكوك المقارضة على أساس أن شروط التعاقد تحددها (نشرة الإصدار) وأن (الإيجاب) يعبر عنه (الاكتتاب) في هذه الصكوك، وأن (القبول) تعبر عنه موافقة الجهة المصدِّرة.(7/133)
ولا بد أن تشتمل نشرة الإصدار على جميع البيانات المطلوبة شرعاً في عقد القراض (المضاربة) من حيث بيان معلومية رأس المال وتوزيع الربح مع بيان الشروط الخاصة بذلك الإصدار على أن تتفق جميع الشروط مع الأحكام الشرعية. العنصر الثالث:
أن تكون صكوك المقارضة قابلة للتداول بعد انتهاء الفترة المحددة للاكتتاب باعتبار ذلك مأذوناً فيه من المضارب عند نشوء السندات مع مراعاة الضوابط التالية:
أـ إذا كان مال القراض المتجمع بعد الاكتتاب وقبل المباشرة في العمل بالمال ما يزال نقوداً، فإن تداول صكوك المقارضة يعتبر مبادلة نقد بنقد وتطبق عليه أحكام الصرف.
ب ـ إذا أصبح مال القراض ديوناً تطبق على تداول صكوك المقارضة أحكام تداول التعامل بالديون.
ج ـ إذا صار مال القراض موجودات مختلطة من النقود والديون والأعيان والمنافع، فإنه يجوز تداول صكوك المقارضة وفقاً للسعر المتراضى عليه، على أن يكون الغالب في هذه الحالة أعياناً ومنافع. أما إذا كان الغالب نقوداً أو ديوناً فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة.
وفي جميع الأحوال يتعين تسجيل التداول أصولياً في سجلات الجهة المصدِّرة.
العنصر الرابع:
أن من يتلقى حصيلة الاكتتاب في الصكوك لاستثمارها وإقامة المشروع بها هو المضارب، أي عامل المضاربة ولا يملك من المشروع إلا بمقدار ما قد يسهم به بشراء بعض الصكوك فهو رب مال بما أسهم به بالإضافة إلى أن المضارب شريك في الربح بعد تحققه بنسبة الحصة المحددة له في نشرة الإصدار وتكون ملكيته في المشروع على هذا الأساس.
وأن يد المضارب على حصيلة الاكتتاب في الصكوك وعلى موجودات المشروع هي يد أمانة لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية.
3 - مع مراعاة الضوابط السابقة في التداول:(7/134)
يجوز تداول سندات المقارضة في أسواق الأوراق المالية إن وجدت بالضوابط الشرعية وذلك وفقاً لظروف العرض والطلب ويخضع لإرادة العاقدين. كما يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين، ويحسن أن يستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقاً لظروف السوق والمركز المالي للمشروع. كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه.
4 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمناً بَطَلَ شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل.
5 - لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع ولو كان معلقاً أو مضافاً للمستقبل. وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعداً بالبيع. وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء وبرضى الطرفين.
6 - لا يجوز أن تتضمن نشرة الإصدار ولا الصكوك المصدرة على أساسها نصاً يؤدي إلى احتمال قطع الشركة في الربح فإن وقع كان العقد باطلاً. ويترتب على ذلك:
أـ عدم جواز اشتراط مبلغ محدد لحملة الصكوك أو صاحب المشروع في نشرة الإصدار وصكوك المقارضة الصادرة بناء عليها.
ب ـ أن محل القسمة هو الربح بمعناه الشرعي، وهو الزائد عن رأس المال وليس الإيراد أو الغلة. ويعرف مقدار الربح، إما بالتنضيض أو بالتقويم للمشروع بالنقد، وما زاد عن رأس المال عند التنضيض أو التقويم فهو الربح الذي يوزع بين حملة الصكوك وعامل المضاربة، وفقاً لشروط العقد.
ج ـ أن يعد حساب أرباح وخسائر للمشروع وأن يكون معلناً وتحت تصرف حملة الصكوك.(7/135)
7 - يستحق الربح بالظهور، ويملك بالتنضيض أو التقويم ولا يلزم إلا بالقسمة. وبالنسبة للمشروع الذي يدر إيراداً أو غلة فإنه يجوز أن توزع غلته. وما يوزع على طرفي العقد قبل التنضيض (التصفية) يعتبر مبالغ مدفوعة تحت الحساب.
8 - ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال.
9 - ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد.
ثانياً:
استعرض مجلس المجمع أربع صيغ أخرى اشتملت عليها توصيات الندوة التي أقامها المجمع، وهي مقترحة للاستفادة منها في إطار تعمير الوقف واستثماره دون الإخلال بالشروط التي يحافظ فيها على تأبيد الوقف وهي:
أ - إقامة شركة بين جهة الوقف بقيمة أعيانه وبين أرباب المال بما يوظفونه لتعمير الوقف.
ب ـ تقديم أعيان الوقف (كأصل ثابت) إلى من يعمل فيها بتعميرها من ماله بنسبة من الريع.
ج ـ تعمير الوقف بعقد الاستصناع مع المصاريف الإسلامية لقاء بدل من الريع.
د ـ إيجار الوقف بأجرة عينية هي البناء عليها وحده، أو مع أجرة يسيرة.
وقد اتفق رأي مجلس المجمع مع توصية الندوة بشأن هذه الصيغ من حيث حاجتها إلى مزيد من البحث والنظر، وعهد إلى الأمانة العامة الاستكتاب فيها، مع البحث عن صيغ شرعية أخرى للاستثمار، وعقد ندوة لهذه الصيغ لعرض نتائجها على المجمع في دورته القادمة.
والله أعلم(7/136)
قرار رقم (6)
بشأن
بدل الخلو
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث الفقهية الواردة إلى المجمع بخصوص (بدل الخلو) وبناء عليه.
قرر ما يلي:
أولاً: تنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور هي:
1 - أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد.
2 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
3 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين مستأجر جديد، في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
4 - أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة، أو بعد انتهائها. ثانياً: إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً) ، فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
ثالثاً: إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.(7/137)
أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو، لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
رابعاً: إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.
والله أعلم قرار رقم (7)
بشأن
بيع الاسم التجاري والترخيص
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع «بيع الاسم التجاري والترخيص» والتي تفاوتت في تناولها للموضوع واختلفت المصطلحات المستخدمة فيها تبعاً للأصول اللغوية التي ترجمت عنها تلك الصيغ العصرية، بحيث لم تتوارد الأبحاث على موضوع واحد وتباينت وجهات النظر.
قرر ما يلي:
أولاً: تأجيل النظر في هذا الموضوع إلى الدورة الخامسة للمجلس حتى تستوفى دراسته من كل جوانبه مع مراعاة الأمور التالية:
(أ) اتباع منهجية متقاربة في البحث تبدأ من مقدماته التي يتم فيها تحرير المسألة وتحديد نطاق البحث مع تناول جميع المصطلحات المتداولة في الأبحاث الحقوقية مع مرادفاتها.(7/138)
(ب) الإشارة إلى السوابق التاريخية للموضوع وما طرح فيه من أنظار شرعية أوحقوقية لها أثر في إيضاح التصور وأحكام التقسيم. ثانياً: محاولة إدراج موضوع (بيع الاسم التجاري والترخيص) تحت موضوع عام لتكون الدراسة أحكم والفائدة أعم وأوسع، وذلك تحت عنوان (الحقوق المعنوية) لكي تستوفي المفردات الأخرى من مثل (حق التأليف ـ حق الاختراع أو الابتكار ـ حق الرسالة ـ حق الرسوم والنماذج الصناعية والتجارية من علامات وبيانات.. إلخ) .
ثالثاً: يمكن للباحثين أن يركزوا على مفردة معينة من الحقوق المشار إليها، كما يمكنهم توسيع نطاق أبحاثهم لتشمل المفردات المتقاربة في هيكل الموضوع العام.
والله الموفق قرار رقم (8)
بشأن
التأجير المنتهي بالتمليك
والمرابحة للآمر بالشراء وتغير قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
قرر مايلي:
أولاً: تأجيل النظر في كل من موضوع «التأجير المنتهي بالتمليك» وموضوع «المرابحة للآمر بالشراء» وكذلك تأجيل البت في موضوع «تغير قيمة النقد» للحاجة لاستيفاء جوانبه إلى الدورة القادمة.
ثانياً: تكليف الأمانة العامة استيفاء دراسة الموضوعين واستحضار ما قدم من أبحاث في موضوع «التأجير المنتهي بالتمليك» وما صدر فيه من قرارات عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي التي عقدت عام 1407 هـ (1987 م) . وما قدم من أبحاث في موضوع «المرابحة للآمر بالشراء» في ندوة استراتيجية الاستثمار في المصارف الإسلامية التي أقيمت في عمان عام 1407 هـ/1987 م بالتعاون بين المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب للبنك الإسلامي للتنمية، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية.
والله الموفق(7/139)
قرار رقم (9)
بشأن
البهائية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
ـ انطلاقاً من قرار مؤتمر القمة الإسلامي الخامس المنعقد بدولة الكويت من 26 إلى 29 جمادى الأولى 1407 هـ (الموافق 26 إلى 29 يناير 1987 م) ، والقاضي بإصدار مجمع الفقه الإسلامي رأيه في المذاهب الهدامة التي تتعارض مع تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ـ واعتباراً لما تشكله البهائية من أخطار على الساحة الإسلامية وما تلقاه من دعم من قبل الجهات المعادية للإسلام.
ـ وبعد التدبر العميق في معتقدات هذه الفئة والتأكد من أن البهاء مؤسس هذه الفرقة يدعي الرسالة ويزعم أن مؤلفاته وحي منزل، ويدعو الناس أجمعين إلى الإيمان برسالته، وينكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين ويقول: إن الكتب المنزلة عليه ناسخة للقرآن الكريم، كما يقول بتناسخ الأرواح.
ـ وفي ضوء ما عمد إليه البهاء في كثير من فروع الفقه بالتغيير والإسقاط، ومن ذلك تغييره لعدد الصلوات المكتوبة وأوقاتها إذ جعلها تسعاً تؤدى على ثلاث كرات، في البكورة مرة، وفي الآصال مرة، وفي الزوال مرة، وغير التيمم فجعله يتمثل في أن يقول البهائي «بسم الله الأطهر الأطهر» وجعل الصيام تسعة عشر يوماً تنتهي في عيد النيروز في الواحد والعشرين من مارس في كل عام، وحول القبلة إلى بيت البهاء في عكا بفلسطين المحتلة، وحرم الجهاد وأسقط الحدود، وسوى بين الرجل والمرأة في الميراث وأحل الربا.
وبعد الاطلاع على البحوث المقدمة في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية) المتضمنة التحذير من الحركات الهدامة التي تفرق الأمة وتهز وحدتها وتجعلها شيعاً وأحزاباً وتؤدي إلى الردة والبعد عن الإسلام.
يوصي:(7/140)
بوجوب تصدي الهيئات الإسلامية في كافة أنحاء العالم بما لديها من إمكانات لمخاطر هذه النزعة الملحدة التي تستهدف النيل من الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة.
ويقرر:
اعتبار أن ما ادعاه البهاء من الرسالة ونزول الوحي عليه ونسخ الكتب التي أنزلت عليه للقرآن الكريم، وإدخاله تغييرات على فروع شرعية ثابتة بالتواتر، هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنكر ذلك تنطبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين.
والله أعلم قرار رقم (10)
بشأن
مشروع تيسير الفقه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد دراسة التقرير المعد عن مشروع تيسير الفقه والمشتمل على الخطة المقترحة للمشروع كما وردت من اللجنة المكلفة بالإشراف عليه.
وبعد اطلاعه على تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع تيسير الفقه وتوصيتها باعتماد الخطة المشار إليها وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه.
قرر ما يلي:
اعتماد الخطة الواردة في تقرير اللجنة المشرفة على مشروع تيسير الفقه وفق التعديل المقترح منها، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه.
والله الموفق قرار رقم (11)
بشأن
مشروع الموسوعة الفقهية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد دراسة التقرير المعد من اللجنة المكلفة بإعداد الخطة التنفيذية لمشروع الموسوعة الفقهية، والمشتمل على الخطوات المقترحة للتنفيذ، وهيكل الزمرة المرشحة للبدء بها (زمرة المشاركات) ، وخطط مقرراتها.(7/141)
وبعد اطلاعه على تقرير اللجنة الفرعية المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع الموسوعة الفقهية وتوصياتها باعتماد الخطة التنفيذية للمشروع وفق التعديل المقترح منها، والجوانب المقترح إدخالها على خطط الموضوعات والمراجع المضافة إلى قائمة المراجع.
قرر ما يلي:
اعتماد الخطة التنفيذية الواردة في تقرير اللجنة المكلفة بإعدادها وفق الاقتراحات المقترحة من اللجنة الفرعية، وتكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذه.
والله الموفق قرار رقم (12) بشأن
مشروع موسوعة القواعد الفقهية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
وبعد دراسة التقرير المعد عن مشروع معلمة القواعد الفقهية واطلاعه على تقرير اللجنة المكونة في أثناء انعقاد هذه الدورة لدراسة مشروع موسوعة القواعد الفقهية ومراحل السير فيه، والمشتمل على الصياغة النهائية للمشروع ثم المراحل السبع المقترحة لإعداد الموسوعة وما في المرحلة الأولى والخامسة من تعدد الرأي.
قرر مايلي:
أولاً: اعتماد الصياغة النهائية لمشروع موسوعة القواعد الفقهية والمراحل المتفق على اقتراحها من لجنة المشروع.
ثانياً: تكليف الأمانة العامة للمجمع متابعة تنفيذ ما يترك لها واختيار ما تراه مناسباً من الرأيين المطروحين من لجنة المشروع بالنسبة للمرحلة الأولى والخامسة من مراحل إعداده.
والله الموفق(7/142)
قرار رقم (13)
بشأن
ميزان المجمع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
بعد الإحاطة بما أفادته أمانة المجمع من أن تأخر عقد هذه الدورة اقتضى قيامها بنظر (الميزان) ، ثم قامت بفحص بنوده لجنة الرقابة التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ثم قدم إلى اللجنة المالية الدائمة التابعة للمنظمة التي أقرته وستدرجه في أعمال مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية.
قرر:
اعتماد الإجراء الذي قامت به الأمانة العامة، واعتماد ميزان المجمع.
والله الموفق توصيات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ، الموافق 6-11 فبراير 1988 م.
أولاً:
بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع «كيفية مكافحة المفاسد الأخلاقية» والتي أوضحت ما يعانيه العالم بأسره من المفاسد الأخلاقية التي أخذت تنتشر في عالمنا الإسلامي بصورة لا ترضي الله تعالى ولا تتوافق مع الدور القيادي المنوط بهذه الأمة في قيادة البشرية نحو الطهر العقدي والأخلاقي والسلوكي.
وانسجاماً مع خصائص الإسلام المتكاملة وكون الجانب الأخلاقي من أهم جوانب الدين ولا تتحقق الثمار الكاملة للانتماء إلى الإسلام إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية بجميع مبادئها وأحكامها وفي شتى مرافق الحياة.
يوصي:
أـ العمل على تصحيح وتقوية الوازع العقدي عبر القيام بتوعية شاملة وتحسيس بآثار العقيدة الصحيحة في النفوس.
ب ـ السعي إلى تطهير الإعلام المقروء، والمرئي والمسموع والإعلانات التجارية في عالمنا الإسلامي من كل ما يشكل معصية لله تعالى وتنقيته تماماً من كل ما يثير الشهوة أو يسبب الانحراف ويوقع في المفاسد الأخلاقية.(7/143)
جـ ـ وضع الخطط العملية للمحافظة على الأصالة الإسلامية والتراث الإسلامي والقضاء على كل محاولات التغريب والتشبه واستلاب الشخصية الإسلامية والوقوف أمام كل أشكال الغزو الفكري والثقافي الذي يتعارض مع المبادئ والأخلاق الإسلامية.
وأن توجد رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها.
د ـ توجيه التعليم وجهة إسلامية وتدريس كل العلوم من منطلق إسلامي وجعل المواد الدينية مواد أساسية في كل المراحل والتخصصات مما يقوي العقيدة الإسلامية ويؤصل الأخلاق الإسلامية في النفوس. كما يجب أن تحرص الأمة أن تكون رائدة في مجالات العلم المتعددة.
هـ ـ بناء الأسرة الإسلامية بناء صحيحاً وتيسير الزواج والحث عليه وحث الآباء والأمهات على تنشئة البنين والبنات تنشئة صحيحة حتى يكونوا جيلاً قوياً يعبد الله على حق ويتولى المهمة الدائمة لنشر الإسلام والدعوة إليه. وأن تهيأ المرأة لتقوم بدورها أمّاً وربة بيت حسبما تقضي به الشريعة الإسلامية والقضاء على ظاهرة انتشار استخدام المربيات الأجنبيات خاصة غير المسلمات.
وـ تهيئة جميع الوسائل التي تحقق تربية النشء تربية إسلامية بحيث يلتزم بأركان الإسلام وسلوكياته ويدرك واجباته تجاه ربه وأمته ويتخلص من الخواء الروحي الذي يتسبب في تعاطي المخدرات والمسكرات والتفسخ الأخلاقي بأشكاله المتعددة وإشغال الشباب بمهمات الأمور وإعطائه المسؤوليات كل حسب قدرته وكفاءته وإشغال أوقات الفراغ لديهم بما هو مفيد وإيجاد وسائل الترفيه والرياضيات والمسابقات البريئة الطاهرة وأن توجه وجهة إسلامية كاملة.
ثانياً:(7/144)
بعد الاطلاع على البحوث الواردة للمجمع في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها) وانطلاقاً من أولوية رابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية وهي رابطة لا انفصام لها، وأساس متين للتضامن المنشود وقاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة وتحقيق العزة والتقدم.
وبما أن في رابطة الإسلام حافزاً قوياً وعاملاً باقياً لأحكام التوجه ولتنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتوثيق علاقات التناصر والتعاون والمرحمة بين شعوب الأمة في رفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية ويجابهها من التحديات المعاصرة وفي بلوغ ما تسعى لتحقيقه من رقي ومنعة وازدهار.
يوصي أيضاً بما يلي:
أـ الذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها أو التشكيك في أصولها، ويقسم وحدة المسلمين ويجعلهم مختلفين متنابذين.
ب ـ تأكيد عناية مجمع الفقه الإسلامي بالأبحاث والدراسات الفقهية التي ترمي إلى مجابهة التحديات الفكرية الناشئة عن مقتضيات المعاصرة واهتمام الفقه الإسلامي بمشكلات المجتمع واعتماده كعنصر أساسي في النهضة الفكرية للأمة وتوسيع دائرة اعتماده فيما تسنه الدول الإسلامية من تشاريع وقوانين في عامة شؤون المجتمع.
جـ ـ وجوب التناسق الوثيق في ميدان التربية والتعليم مضموناً ومنهاجاً على السبيل القويمة للحضارة الفكرية التي بناها الإسلام بغية تكوين أجيال من المسلمين متوحدين في المرجع التعبدي متقاربين في التوجه الفكري متشاركين في الاعتزاز بالانتساب الحضاري.
د ـ إعطاء درجة عالية من الأولوية للبحث العلمي في مختلف ميادين المعرفة وتخصيص نسبة 1% من الناتج الإجمالي لتمويل البرامج البحثية وإنشاء المخابر العلمية على أساس وثيق من التكامل والتعاون بين الجامعات الإسلامية.(7/145)
هـ ـ العمل مع الجامعات الإسلامية على ضبط برنامج دراسي يتألف من عدد من المحاور الكبرى تكون غرضاً للبحث الفقهي، وإنشاء لجنة عليا من المفكرين المسلمين لمتابعة هذه الأبحاث وإجازتها، وتخصيص جائزة تفوق لمكافأة أحسنها.
وـ أن يكون الإعلام في بلاد المسلمين بكل أنواعه المسموعة والمقروءة والمرئية إعلاماً هادفاً إلى تحقيق العبودية لله في أرضه، وبث الخير ونشر الفضيلة والتحرر من المبادئ الهدامة للفكر والخلق، والملحدة في دين الله، والمنحرفة عن الصراط المستقيم. ودعم جهود توحيده.
ز ـ إقامة اقتصاد إسلامي لا شرقي ولا غربي، بل اقتصاد إسلامي خالص مع إقامة سوق إسلامية مشتركة، يتعاون فيها المسلمون على الإنتاج وتسويقه دون الحاجة إلى غيرهم؛ لأن الاقتصاد ركن مهم من أركان قيام المجتمعات، وتكامله سبيل للوحدة بين شعوب الأمة الإسلامية. ثالثاً:
انطلاقاً من أن (إسلامية التعليم) في الديار الإسلامية اليوم ضرورة لا مناص منها لبناء الأجيال الإسلامية بناء سوياً متكاملاً في الفكر والتصور والسلوك والعمل. وذلك بجعل جميع العلوم محكومة بالإسلام في المنطلقات والأهداف، وأن يكون الإسلام بنظمه وضوابطه إطاراً لهذا العلوم، وأن تكون العقيدة الإسلامية قاعدة وأصلاً في بناء المنهج التربوي والتعليمي. وتتلخص أهم معالم المنهج المنشود في (إسلامية التعليم) فيما يلي:
أـ جعل العقيدة الإسلامية قاعدة التصور الإسلامي الكبير الذي يعطي نظرة كلية شاملة للكون والإنسان والحياة، كما تعرِّف الإنسان بخالق الحياة وعلاقته بالكون، وعلاقة الإنسان بخالقه، وبمجتمعه.
ب ـ اتخاذ الإسلام محوراً للعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية والسياسية وإبراز نظرياته الإنسانية وتعلقها بخالق الكون والإنسان والحياة بالتنسيق مع المنظمات الإسلامية العاملة في هذا المجال كالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم.(7/146)
جـ ـ العمل على إظهار فساد ما يخالف العقيدة الإسلامية من علوم مادية وملحدة وأخرى مضللة كالكهانة والسحر والتنجيم والتحذير من العلوم التي ذمها وحرمها الإسلام وكذلك العلوم التي تقوم على الفسق والفجور.
د ـ إعادة كتابة تاريخ العلوم والمعارف وبيان تطورها وإسهامات المسلمين في كل منها وتنقيتها مما دس فيهامن نظريات استشراقية وتغريبية تحرِّف المسار التاريخي الحق، وإعادة النظر في تصنيف العلوم ومناهج البحث وفق النظرة الإسلامية من خلال أنشطة مراكز ومعاهد البحث العلمي ومراكز الاقتصاد الإسلامي في شتى البلاد الإسلامية. هـ ـ إعادة الوشائج بين العلوم التي تبحث في الكون والإنسان والحياة وبين خالقها، فإن العالم الباحث في هذه المجالات يجب أن ينظر فيها على أنها تمثل الإبداع الإلهي، والصنعة الربانية المحكمة.
وـ وضع الضوابط والقواعد المستخلصة من الدين الإسلامي أو المنسقة مع أهدافه وغاياته لأن تكون مبادئ لجميع العلوم أو لعلم واحد منها وإبراز عيوب المناهج الغربية التي أقامت فصاماً موهوماً بين الدين والعلم، أو بنت العلوم بناء خاطئاً كعلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن هناك مشروعاً يشكل ظهيراً لإسلامية التعليم بل ربما كان من الوسائل الضرورية له وهو مشروع (إسلامية المعرفة) وينهض (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) بمتطلباته من حيث التخطيط ورسم سبل التنفيذ من خلال مقالات ومؤلفات وندوات.
والله الموفق(7/147)
القرَارات وَالتوصيَات
الدَّورَة الخامسَة لمجلس مجْمَع الفقه الإسلامي
الكويت: 1-6 جمادى الأولى 1409 هـ/10-15 ديسمبر 1988 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبييين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1)
بشأن
تنظيم النسل
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها.
قرر مايلي:
أولاً: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف بـ (الإعقام) أو (التعقيم) ، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثاً: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم.
والله أعلم قرار رقم (2،3)
بشأن
الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.
قرر:(7/148)
أولاً: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز، طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانياً: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثاً: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم من بيع الإنسان ما ليس عنده.
ويوصي المؤتمر:
في ضوء ما لاحظه من أن أكثر المصارف الإسلامية اتجه في أغلب نشاطاته إلى التمويل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء.
يوصي بما يلي:
أولاً: أن يتوسع نشاط جميع المصارف الإسلامية في شتى أساليب تنمية الاقتصاد ولا سيما إنشاء المشاريع الصناعية أو التجارية بجهود خاصة أو عن طريق المشاركة والمضاربة مع أطراف أخرى.
ثانياً: أن تدرس الحالات العملية لتطبيق (المرابحة للآمر بالشراء) لدى المصارف الإسلامية، لوضع أصول تعصم من وقوع الخلل في التطبيق وتعين على مراعاة الأحكام الشرعية العامة أو الخاصة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
والله أعلم قرار رقم (4)
بشأن
تغير قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.(7/149)
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تغير قيمة العملة) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (9) في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما.
قرر مايلي:
ـ العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار.
والله أعلم. قرار رقم (5)
بشأن
الحقوق المعنوية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الحقوق المعنوية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً.
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
والله أعلم قرار رقم (6)
بشأن
الإيجار المنتهي بالتمليك
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.(7/150)
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم (1) في الدورة الثالثة بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار.
قرر:
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان:
(الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
(الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
ـ مد مدة الإجارة. ـ إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
ـ شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراستها وإصدار القرار في شأنها.
والله أعلم
قرار رقم (7)
بشأن
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد عرض موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها) .
قرر:
تأجيل النظر في موضوع (التمويل العقاري لبناء المساكن) لإصدار القرار الخاص به إلى الدورة السادسة، من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق قرار رقم (8)
بشأن
تحديد أرباح التجار
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تحديد أرباح التجار) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:(7/151)
أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} . [البقرة:2/188]
ثانياً: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش، والخديعة، والتدليس، والاستغفال وتزييف حقيقة الربح، والاحتكار، الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة. رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار ناشئاً من عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
والله أعلم
قرار رقم (9)
بشأن
العرف
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (العرف) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: يراد بالعرف ما اعتاده الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبراً شرعاً أو غير معتبر.
ثانياً: العرف إن كان خاصاً فهو معتبر عند أهله وإن كان عاماً فهو معتبر في حق الجميع. ثالثاً: العرف المعتبر شرعاً هو ما استجمع الشروط الآتية:
أـ أن لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
ب ـ أن يكون العرف مطرداً (مستمراً) أو غالباً.(7/152)
ج ـ أن يكون العرف قائماً عند إنشاء التصرف.
د ـ أن لا يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه فلا يعتد به.
رابعاً: ليس للفقيه ـ مفتياً كان أو قاضياً ـ الجمود على المنقول في كتب الفقهاء من غير مراعاة تبدل الأعراف.
والله أعلم
قرار رقم (10)
بشأن
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبمراعاة أن مجمع الفقه الإسلامي الذي انبثق عن إرادة خيّرة من مؤتمر القمة الإسلامية الثالثة بمكة المكرمة، بهدف البحث عن حلول شرعية لمشكلات الأمة الإسلامية وضبط قضايا حياة المسلمين بضوابط الشريعة الإسلامية، وإزالة سائر العوائق التي تحول دون تطبيق شريعة الله وتهيئة جميع السبل اللازمة لتطبيقها، إقراراً بحاكمية الله تعالى، وتحقيقاً لسيادة شريعته، وإزالة للتناقض القائم بين بعض حكام المسلمين وشعوبهم وإزالة لأسباب التوتر والتناقض والصراع في ديارهم وتوفيراً للأمن في بلاد المسلمين.
قرر:
أن أول واجب على من يلي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها تحكيماً تاماً كاملاً مستقراً في جميع مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإسلامية أفراداً وشعوباً ودولاً للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكاً ونظام حياة.
ويوصي بما يلي:
أـ مواصلة المجمع الأبحاث والدراسات المتعمقة في الجوانب المختلفة لموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية ومتابعة ما يتم تنفيذه بهذا الشأن في البلاد الإسلامية.(7/153)
ب ـ التنسيق بين المجمع وبين المؤسسات العلمية الأخرى التي تهتم بموضوع تطبيق الشريعة الإسلامية وتعد الخطط والوسائل والدراسات الكفيلة بإزالة العقبات والشبهات التي تعوق تطبيق الشريعة في البلاد الإسلامية. ج ـ تجميع مشروعات القوانين الإسلامية التي تم إعدادها في مختلف البلاد الإسلامية ودراستها للاستفادة منها.
د ـ الدعوة إلى إصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المختلفة، وتوظيفها للعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، وإعداد جيل مسلم يحتكم إلى شرع الله تعالى.
هـ ـ التوسع في تأهيل الدارسين والخريجين من قضاة ووكلاء نيابة ومحامين لإعداد الطاقات اللازمة لتطبيق الشريعة الإسلامية.
والله الموفق قرار رقم (13)
بشأن
اللجنة الإسلامية الدولية للقانون
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ/10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على المذكرة المتعلقة بمشروع النظام الأساسي للجنة الإسلامية الدولية للقانون المحال إليه من المؤتمر السابع عشر لوزراء الخارجية الإسلامية المنعقد بعمان ـ بالمملكة الأردنية الهاشمية بالقرار رقم 17/45 س.
قرر:
الموافقة على دراسة مشروع النظام الأساسي للجنة الإسلامية الدولية للقانون وتسلم المهام الموكلة إلى اللجنة لتكون من ضمن نشاطات المجمع.
والله الموفق(7/154)
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس
المنعقد في جدة (المملكة العربية بالسعودية)
17 -23 شعبان 1410 هـ/14-20 مارس 1990 م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
قرار رقم (6/1/52)
بشأن
التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها)
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله،
قرر:
1 - أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان، وينبغي أن يوفر بالطرق المشروعة بمال حلال، وأن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة قلت أو كثرت، هي طريقة محرمة شرعاً لما فيها من التعامل بالربا.
2 - هناك طرق مشروعة يستغنى بها عن الطريقة المحرمة، لتوفير المسكن بالتملك (فضلاً عن إمكانية توفيره بالإيجار) منها:
أـ أن تقدم الدولة للراغبين في تملك مساكن قروضاً مخصصة لإنشاء المساكن، تستوفيها بأقساط ملائمة بدون فائدة سواء أكانت الفائدة صريحة أم تحت ستار اعتبارها (رسم خدمة) على أنه إذا دعت الحاجة إلى تحصيل نفقات لتقديم عمليات القروض ومتابعتها وجب أن يقتصر فيها على التكاليف الفعلية لعملية القرض على النحو المبين في الفقرة (أ) من القرار رقم (1) للدورة الثالثة لهذا المجمع.
ب ـ أن تتولى الدول القادرة إنشاء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك مساكن بالأجل والأقساط بالضوابط الشرعية المبينة في القرار (6/2/53) لهذه الدورة.
جـ ـ أن يتولى المستثمرون من الأفراد أو الشركات بناء مساكن تباع بالأجل.
د ـ أن تملك المساكن عن طريق عقد الاستصناع ـ على أساس اعتباره لازماً ـ وبذلك يتم شراء المسكن قبل بنائه، بحسب الوصف الدقيق المزيل للجهالة المؤدية للنزاع، دون وجوب تعجيل جميع الثمن، بل يجوز تأجيله بأقساط يتفق عليها، مع مراعاة الشروط والأحوال المقررة لعقد الاستصناع لدى الفقهاء الذين ميزوه عن عقد السلم.
ويوصي:
بمواصلة النظر لإيجاد طرق أخرى مشروعة توفر تملك المساكن للراغبين في ذلك. قرار رقم (6/2/53)(7/155)
بشأن
(البيع بالتقسيط)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:
البيع بالتقسيط
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله،
قرر:
1 - تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال. كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالأقساط لمدد معلومة. ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد فهو غير جائز شرعاً.
2 - لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة. 3 - إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
4 - يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
5 - يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين في أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
6- لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.
ويوصي:
بدراسة بعض المسائل المتصلة ببيع التقسيط للبت فيها إلى ما بعد إعداد دراسات وأبحاث كافية فيها، ومنها:
أـ حسم (خصم) البائع كمبيالات الأقساط المؤجلة لدى البنوك.
ب ـ تعجيل الدين مقابل إسقاط بعضه وهي مسألة (ضع وتعجل) .
جـ ـ أثر الموت في حلول الأقساط المؤجلة.(7/156)
قرار رقم (6/3/54)
بشأن
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة،
ونظراً إلى التطور الكبير الذي حصل في وسائل الاتصال وجريان العمل بها في إبرام العقود لسرعة إنجاز المعاملات المالية والتصرفات.
وباستحضار ما تعرض له الفقهاء بشأن إبرام العقود بالخطاب وبالكتابة وبالإشارة وبالرسول، وما تقرر من أن التعاقد بين الحاضرين يشترط له اتحاد المجلس (عدا الوصية والإيصاء والوكالة) وتطابق الإيجاب والقبول، وعدم صدور ما يدل على إعراض أحد العاقدين عن التعاقد، والموالاة بين الإيجاب والقبول بحسب العرف:
قرر:
1 - إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول) ، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكومبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2 - إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقداً بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
3 - إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجاباً محدد المدة يكون ملزماً بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4 - أن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
5 - ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.(7/157)
قرار رقم (6/4/55)
بشأن
القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:
القبض: صوره وبخاصة المستجدة منها وأحكامها،
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله،
قرر:
أولاً: قبض الأموال كما يكون حسياً في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتباراً وحكماً بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حساً، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضاً لها.
ثانياً: أن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعاً وعرفاً:
1) القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
أ - إذا أودع في حساب العميل مبلغ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية. ب ـ إذا عقد العميل عقد صرف ناجز بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
ج ـ إذا اقتطع المصرف ـ بأمر العميل ـ مبلغاً من حساب له إلى حساب آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر. وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية.
ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل. على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.
2) تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه، وحجزه للمصرف. قرار رقم (6/5/56)
بشأن
(زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.(7/158)
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23-26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23-1989/10/26م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
وفي ضوء ما انتهت إليه الندوة المشار إليها من أنه لا يقصد من ذلك نقل مخ إنسان إلى إنسان آخر، وإنما الغرض من هذه الزراعة علاج قصور خلايا معينة في المخ عن إفراز مادتها الكيميائية أو الهرمونية بالقدر السوي فتودع في موطنها خلايا مثيلة من مصدر آخر، أو علاج فجوة في الجهاز العصبي نتيجة بعض الإصابات.
قرر:
1 - إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعاً.
2 - إذا كان المصدر هوأخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.
3 - إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الاسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي:
أـ الطريقة الأولى:
أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبيعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم (6/8/59) لهذه الدورة.
ب - الطريقة الثانية:(7/159)
وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولا بأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
4 - المولود اللادماغي:
طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها مماتضمنه القرار رقم (1) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الانعاش إلى ما بعد موت جذع المخ (والذي يمكن تشخيصه) للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها.
قرار رقم (6/6/57)
بشأن
البييضات الملقحة الزائدة عن الحاجة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23-26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23-1980/10/26 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية،
وبعد الاطلاع على التوصيتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة المتخذتين في الندوة الثالثة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت 20-23 شعبان 1407 هـ/18-1987/4/21 م بشأن مصير البييضات الملقحة والتوصية الخامسة للندوة الأولى للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الكويت 11-14 شعبان 1403 هـ/24-1982/5/27 م في الموضوع نفسه.
قرر:(7/160)
1 - في ضوء ما تحقق علمياً من إمكان حفظ البييضات غير ملقحة للسحب منها، يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة، تفادياً لوجود فائض من البييضات الملقحة.
2 - إذا حصل فائض من البييضات الملقحة بأي وجه من الوجوه تترك دون عناية طبية إلى أن تنتهي حياة ذلك الفائض على الوجه الطبيعي.
3 - يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى، ويجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالحيلولةدون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع.
قرار رقم (6/7/58)
بشأن
استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان 1410 هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23-26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23-1989/10/26م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
قرر:
1 - لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط لابد من توافرها:
أـ لا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، بل يقتصر الإجهاض على الإجهاض الطبيعي غير المتعمد والإجهاض للعذر الشرعي ولا يلجأ لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت لإنقاذ حياة الأم.
ب ـ إذا كان الجنين قابلاً لاستمرار الحياة فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها، لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء وإذا كان غير قابل لاستمرار الحياة فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد موته بالشروط الواردة في القرار رقم (1) للدورة الرابعة لهذا المجمع.
2 - لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق.(7/161)
3 -لا بد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة متخصصة موثوقة. قرار رقم (6/8/59) بشأن
زراعة الأعضاء التناسلية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14-20 آذار/مارس 1990 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات المتعلقة بهذا الموضوع الذي كان أحد موضوعات الندوة الفقهية الطبية السادسة المنعقدة في الكويت من 23-26 ربيع الأول 1410 هـ، الموافق 23-1989/10/26 م، بالتعاون بين هذا المجمع وبين المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
قرر:
1 - زرع الغدد التناسلية:
بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية (الشفرة الوراثية) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلق جديد، فإن زرعهما محرم شرعاً.
2 - زرع أعضاء الجهاز التناسلي:
زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التي لا تنقل الصفات الوراثية ـ ما عدا العورات المغلظة ـ جائز لضرورة مشروعة ووفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم (1) للدورة الرابعة لهذا المجمع. قرار رقم (6/9/60)
بشأن
زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14-20 آذار/مارس 1990 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع:
(زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص)
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبمراعاة مقاصد الشريعة من تطبيق الحد من أجل الزجر والردع والنكال، وإبقاء للمراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة وقطع دابر الجريمة، ونظراً إلى أن إعادة العضو المقطوع تتطلب الفورية في عرف الطب الحديث، فلا يكون ذلك إلا بتواطؤ وإعداد طبي خاص ينبئ عن التهاون في جدية إقامة الحد وفاعليته.
قرر:(7/162)
1 - لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد لأن في بقاء أثر الحد تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً، ومنعاً للتهاون في استيفائها، وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. 2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفير الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً للقصاص، إلا في الحالات التالية:
أـ أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع.
ب ـ أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه.
3 - يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ. قرار رقم (6/10/61)
بشأن
الأسواق المالية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410 هـ، الموافق 14-20 آذار/مارس 1990 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة من ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20-24 ربيع الثاني 1410 هـ، 20-1989/10/24 م بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
وفي ضوء ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية من الحث على الكسب الحلال واستثمار المال وتنمية المدخرات على أسس الاستثمار الإسلامي القائم على المشاركة في الأعباء وتحمل المخاطر، ومنها مخاطر المديونية.(7/163)
ولما للأسواق المالية من دور في تداول الأموال وتنشيط استثمارها، ولكون الاهتمام بها والبحث عن أحكامها يلبي حاجة ماسة لتعريف الناس بفقه دينهم في المستجدات العصرية ويتلاقى مع الجهود الأصيلة للفقهاء في بيان أحكام المعاملات المالية وبخاصة أحكام السوق ونظام الحسبة على الأسواق، وتشمل الأهمية الأسواق الثانوية التي تتيح للمستثمرين أن يعاودوا دخول السوق الأولية وتشكل فرصة للحصول على السيولة وتشجع على توظيف المال ثقة بإمكان الخروج من السوق عند الحاجة.
وبعد الاطلاع على ما تناولته البحوث المقدمة بشأن نظم وقوانين الأسواق المالية القائمة وآلياتها وأدواتها.
قرر:
1 - أن الاهتمام بالأسواق المالية هو من تمام إقامة الواجب في حفظ المال وتنميته باعتبار ما يستتبعه هذا من التعاون لسد الحاجات العامة وأداء ما في المال من حقوق دينية أو دنيوية.
2 - إن هذه الأسواق المالية ـ مع الحاجة إلى أصل فكرتها ـ هي في حالتها الراهنة ليست النموذج المحقق لأهداف تنمية المال واستثماره من الوجهة الإسلامية. وهذا الوضع يتطلب بذل جهود علمية مشتركة من الفقهاء والاقتصاديين لمراجعة ما تقوم عليه من أنظمة، وما تعتمده من آليات وأدوات، وتعديل ما ينبغي تعديله في ضوء مقررات الشريعة الإسلامية.
3 - إن فكرة الأسواق المالية تقوم على أنظمة إدارية وإجرائية، ولذا يستند الالتزام بها إلى تطبيق قاعدة المصالح المرسلة فيما يندرج تحت أصل شرعي عام ولا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية، وهي لذلك من قبيل التنظيم الذي يقوم به ولي الأمر في الحرف والمرافق الأخرى وليس لأحد مخالفة تنظيمات ولي الأمر أو التحايل عليها ما دامت مستوفية الضوابط والأصول الشرعية.
ويوصي:
باستكمال النظر في الأدوات والصيغ المستخدمة في الأسواق المالية بكتابة الدراسات والأبحاث الفقهية والاقتصادية الكافية.(7/164)
قرار رقم (6/11/62)
بشأن
السندات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410هـ، الموافق 14-20 آذار/مارس 1990م.
بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20-24 ربيع الثاني 1410هـ/20-1989/10/24م، بالتعاون بين هذا المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية.
وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً (خصماً) .
قرر:
1 - إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أم التداول، لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أم عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2 - تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً (خصماً) لهذه السندات.
3 - كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار.
4 - من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراءً أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث لايكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر مايملكون من هذه السندات أو الصكوك ولاينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار رقم (5) للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة.
يوصي:
1 - بمراعاة هذه المقترحات، مع تفويض الأمانة العامة للاختيار منها بحسب ماتقدره من مقتضيات المصلحة، وبخاصة ما اقترح درسه في الدورة السابقة.
2 - قيام الأمانة العامة بالإعداد لعقد الندوات المقترحة مع إعطاء الأولوية للموضوعات التي طرحت في الدورات حسب الظروف والإمكانات المتاحة.(7/165)
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع
المنعقد في جدة - المملكة العربية السعودية
في: 7-12 ذو القعدة 1412 هـ
(9-14) مايو 1992 م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم
قرار رقم 7/1/64
بشأن الأسواق المالية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو (أيار) 1992م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الأسواق المالية) الأسهم، الاختيارات، السلع، بطاقة الائتمان،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر:
أولاً: الأسهم
1 - الإسهام في الشركات:
أـ بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب ـ لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.(7/166)
ج ـ الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، بالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة.
د ـ أما المساهمة في الشركات التي تتعامل أحياناً بالمحرمات، فيرى المجلس تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة لمزيد من الدراسة والبحث.
2 - ضمان الإصدار:
ضمان الإصدار: هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم، أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره، وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه ـ غير الضمان ـ مثل إعداد الدراسات أو تسويق الأسهم.
3 - تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه وتأجيل سداد بقية الأقساط، لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه، والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محذور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.
4 - السهم لحامله:
بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.
5 - محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصل الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6 - الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح. ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
7 - التعامل في الأسهم بطرق ربوية:(7/167)
أـ لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
ب ـ لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع ما لا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.
8 - بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم، أو رهنه مع مراعاة ما يقتضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.
9 - إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة تدفع مع قيمة السهم، لتغطية مصاريف الإصدار، لا مانع منها شرعاً ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً.
10 - إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة) أو بالقيمة السوقية. 11 - ضمان الشركة شراء الأسهم:
يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
12 - تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرور عمن يتعامل مع الشركة.
كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.
13 - حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:(7/168)
للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل، لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة، وذلك لتغطية النفقات أو لجباية ضريبة غير مباشرة. 14 - حق الأولوية:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
15 - شهادة حق التملك:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
ثانياً: بيع الاختيارات:
صورة العقد:
إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.
حكمه الشرعي:
إن عقود الاختيارات ـ كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية ـ لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة، فهي عقود مستحدثة.
وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعاً.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداء فلا يجوز تداولها.
ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
1 - السلع:
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:
الطريقة الأولى:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثالثة:(7/169)
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها. الطريقة الرابعة:
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرط أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع وهذا العقد غير جائز أصلاً.
2 - التعامل بالعملات:
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربعة المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.
3 - التعامل بالمؤشر:
المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.
4 - البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم والصرف والوعد بالبيع في وقت آجل والاستصناع وغيرها. ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة.(7/170)
رابعاً: بطاقة الائتمان:
تعريفها:
بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري ـ بناء على عقد بينهما ـ يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالاً لتضمنه التزام المصدر بالدفع. ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف، ولبطاقات الائتمان صور:
ـ منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة، ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
ـ ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة، ومنها ما لا يفرض فوائد.
ـ وأكثرها يفرض رسماً سنوياً على حاملها ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسماً سنوياً.
وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
والله أعلم قرار رقم 7/2/65
بشأن
البيع بالتقسيط
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (البيع بالتقسيط) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
1 - البيع بالتقسيط جائز شرعاً، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجّل.
2 - الأوراق التجارية (الشيكات ـ السندات لأمر ـ سندات السحب) من أنواع التوثيق المشروع للدين بالكتابة.
3 - إن حسم (خصم) الأوراق التجارية غير جائز شرعاً، لأنه يؤول إلى ربا النسيئة المحرم.
4 - الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعاً، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق سابق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية.(7/171)
5 - يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه مالم يكن معسراً.
6 - إذا اعتبر الدين حالا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي، ويجب هذا الحط من الدين لتعجيله إذا كان قد زيد فيه لتأجيله.
7 - ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقداً أو عيناً.
والله أعلم قرار رقم 7/3/66
بشأن
عقد الاستصناع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد الاستصناع) ،
واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، ومراعاة لمقاصد الشريعة في مصالح العباد والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، ونظراً لأن عقد الاستصناع له دور كبير في تنشيط الصناعة، وفي فتح مجالات واسعة للتمويل والنهوض بالاقتصاد الإسلامي.
قرر:
1 - أن عقد الاستصناع ـ هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة ـ ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
2 - يشترط في عقد الاستصناع ما يلي:
أـ بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة. ب ـ أن يحدد فيه الأجل.
3 - يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله، أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة.
4 - يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطاً جزائياً بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
والله أعلم قرار رقم 7/4/67
بشأن بيع الوفاء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (بيع الوفاء) .(7/172)
واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول بيع الوفاء، وحقيقته: «بيع المال بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري إليه المبيع» .
قرر:
1 - أن حقيقة هذا البيع «قرض جر نفعاً» فهو تحايل على الربا، وبعدم صحته قال جمهور العلماء.
2- يرى المجمع أن يبقى هذا العقد غير جائز شرعاً.
والله أعلم قرار رقم 7/5/68
بشأن العلاج الطبي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (العلاج الطبي) ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر:
أولاً: التداوي
الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من (حفظ النفس) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع.
وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:
ـ فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.
ـ ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.
ـ ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.
ـ ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها.
ثانياً: علاج الحالات الميئوس منها:
أـ مما تقتضيه عقيدة المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل، وأن التداوي والعلاج أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله. وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض، والدأب في رعايته وتخفيف آلامه النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه.(7/173)
ب ـ إن ما يعتبر حالة ميئوساً من علاجها هو بحسب تقدير الأطباء وإمكانات الطب المتاحة في كل زمان ومكان وتبعاً لظروف المرضى.
ثالثاً: إذن المريض:
أـ يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليه، حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقاً لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه.
على أنه لا عبرة بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر. ب ـ لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية.
ج ـ في حالات الإسعاف التي تتعرض فيها حياة المصاب للخطر لا يتوقف العلاج على الإذن.
د ـ لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين) . ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر.
ولا يجوز إجراء الأبحاث الطبية على عديمي الأهلية أو ناقصيها ولو بموافقة الأولياء
ويوصي مجلس المجمع:
الأمانة العامة للمجمع بالاستكتاب في الموضوعات الطبية التالية لطرحها على دورات المجمع القادمة:
ـ العلاج بالمحرمات وبالنجس، وضوابط استعمال الأدوية.
ـ العلاج التجميلي.
ـ ضمان الطبيب.
ـ معالجة الرجل للمرأة، وعكسه، ومعالجة غير المسلمين للمسلمين.
ـ العلاج بالرقى (العلاج الروحي) .
ـ أخلاقيات الطبيب (مع توزيعها على أكثر من دورة إن اقتضى الأمر) .
ـ التزاحم في العلاج وترتيب الأولوية فيه.
والله أعلم قرار رقم 7/6/69
بشأن
الحقوق الدولية في نظر الإسلام
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 17إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الحقوق الدولية في نظر الإسلام) ،(7/174)
واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، رأى المجلس ما يلي:
أولاً:
يثني المجلس على الجهود المشكورة في البحوث التي قدمت ونوقشت في دورته السابعة حول هذا الموضوع، وقد رأى أن الموضوع من الأهمية والسعة بحيث يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة في الجوانب المتعددة التي ما زال الموضوع في حاجة إليها.
ثانياً:
يقترح المجلس تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد ورقة عمل لندوة متخصصة تعقد لمعالجة تفاصيل هذا الموضوع والخروج بمشروع لائحة للحقوق الدولية في الإسلام تعرض على المجلس في دورته القادمة. ثالثاً:
يقترح المجلس أيضاً أن يكون من محاور ورقة العمل ما يلي:
1 - مصادر القانون الدولي الإسلامي والعلاقات الدولية وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتطبيقات العملية عند الخلفاء الراشدين، كما يستفاد من اجتهادات الفقهاء في هذا.
2 - المقاصد والخصائص العامة للشريعة الاسلامية، والتي تترك أثرها العملي على المواقف كلها:
أـ المقاصد الشرعية.
ب ـ الخصائص العامة.
3 - مفهوم الأمة ووحدتها في الإسلام.
4 - مذاهب الفقهاء في أقسام الديار.
5 - الجذور التاريخية للحالة القائمة في العالم الإسلامي.
6 - علاقات الدولة الإسلامية في داخلها (الشعب والأقليات) .
7 - علاقات الدولة الإسلامية بالدول الأخرى.
8 - موقف الدولة الإسلامية من المواثيق والمعاهدات والمنظمات الدولية.
رابعاً:
يقترح المجلس على اللجنة التحضيرية أن تقوم بوضع أوراق شارحة يسترشد بها الباحثون في تفصيل هذه المحاور وأن يكون ذلك في خلال الأشهر القادمة.
والله ولي التوفيق(7/175)
قرار رقم 7/7/70
بشأن
الغزو الفكري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412 هـ الموافق 9-14 مايو 1992م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الغزو الفكري) والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صوراً مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذا الغزو وكيف أحبط كثيراً من خططه ومؤامراته.
وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذا الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الأصعدة.
وبعد استماعه للمناقشات التي دارت حول هذه البحوث.
يوصي بضرورة مايلي:
1 - العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجاً في رسم علاقتنا السياسية المحلية منها والعالمية. 2 - الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحميهم من كل مظاهر الغزو الثقافي.
3 - تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى اطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعي وبصيرة.
4 - إعطاء المسجد دوره التربوي المتكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل.
5 - رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة وبثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف.
6 - الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة والمبادئ المستوردة والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية.(7/176)
7 - الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات الدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي على المستوى الفردي والجماعي وفي كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
8 - الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم باعتبارها لغة القرآن الكريم واتخاذها لغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية والإسلامية.
9 - الحرص على بيان سماحة الإسلام وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها.
10 - الاستفادة الفعالة والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام مما يمكن من إيصال كلمة الحق والخير إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمال لكل وسيلة متاحة.
11 - الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان.
12 - العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة وحل خلافاتهم ومنازعاتهم فيما بينهم وبالطرق السلمية وفق أحكام الشريعة المعروفة إفساداً لمخططات الغزو الثقافي في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم.
13 - العمل على بناء قوة المسلمين واكتفائهم الذاتي اقتصادياً وعسكرياً.
14 - مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض ودعم قضاياهم ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.
كما يوصي المجلس أيضاً الأمانة العامة للمجمع باستمرار الاهتمام بطرح أهم قضايا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظراً لأهمية موضوع الغزو الفكري وضرورة وضع استراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره ومستجداته ويمكن البدء بقضيتي التبشير والاستشراق في الدورة القادمة.
والله ولي التوفيق.(7/177)
القرارات والتوصيات الصادرة عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثامن
المنعقد ببندر سري بجاون (بروناي دار السلام)
1 - 7 محرم 1414هـ / 21 - 27 يونيو 1993م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 1/74/د8
بشأن
الأخذ بالرخصة وحكمه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الأخذ بالرخصة وحكمه» . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي:
1 - الرخصة الشرعية: هي ماشرع من الأحكام لعذر، تخفيفاً عن المكلفين، مع قيام السبب الموجب للحكم الأصلي.
ولا خلاف في مشروعية الأخذ بالرخص الشرعية إذا وجدت أسبابها، بشرط التحقق من دواعيها، والاقتصار على مواضعها، مع مراعاة الضوابط الشرعية المقررة للأخذ بها.
2 - المراد بالرخص الفقهية: ماجاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمر في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره.
والأخذ برخص الفقهاء: بمعنى اتباع ماهو أخف من أقوالهم، جائز شرعاً بالضوابط الآتية في (البند 4) .
3 - الرخص في القضايا العامة تعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محققة لمصلحة معتبرة شرعاً، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية.(7/178)
4 - لايجوز الأخذ برخص المذاهب الفقهية لمجرد الهوى، لأن ذلك يؤدي إلى التحلل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:
أـ أن تكون أقوال الفقهاء التي يترخص بها معتبرة شرعاً ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.
ب ـ أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة، دفعاً للمشقة سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية. ج ـ أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.
د - ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع الآتي بيانه في (البند 6) .
هـ ـ ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع.
وـ أن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة.
5 - حقيقة التلفيق في تقليد المذاهب: هي أن يأتي المقلد في مسألة واحدة ذات فرعين مترابطين فأكثر بكيفية لا يقول بها مجتهد ممن قلدهم في تلك المسألة.
6 - يكون التلفيق ممنوعاً في الأحوال التالية:
أـ إذا أدى إلى الأخذ بالرخص لمجرد الهوى، أو الإخلال بأحد الضوابط المبينة في مسألة الأخذ بالرخص.
ب ـ إذا أدى إلى نقض حكم القضاء.
ج ـ إذا أدى إلى نقض ما عمل به تقليداً في واقعة واحدة.
د ـ إذا أدى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه.
هـ ـ إذا أدى إلى حالة مركبة لا يقرها أحد من المجتهدين.
والله أعلم قرار رقم: 2/75/د 8
بشأن
حوادث السير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «حوادث السير» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،(7/179)
وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم، واقتضاء المصلحة سَنّ الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والحمولة.
قرر ما يلي:
1 - أ- إن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعاً، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناء على دليل المصالح المرسلة. وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال.
ب ـ مما تقتضيه المصلحة أيضاً سَنّ الأنظمة الزاجرة بأنواعها، ومنها التعزير المالي، لمن يخالف تلك التعليمات المنظمة للمرور لردع من يعرض أمن الناس للخطر في الطرقات والأسواق من أصحاب المركبات ووسائل النقل الأخرى أخذاً بأحكام الحسبة المقررة.
2 - الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ. والسائق مسؤول عما يحدثه بالغير من أضرار سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر، ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية:
أـ إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
ب ـ إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة.
ج ـ إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية.
3 - ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها، والفصل في ذلك إلى القضاء.(7/180)
4 - إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال.
5 - أـ مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً.
ب ـ إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد.
ج ـ إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر، فعلى كل واحد من المتسببين المسئولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر. وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما على السواء.
والله أعلم. قرار رقم: 3/76/د 8
بشأن
بيع العربون
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «بيع العربون» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي:
1 - المراد ببيع العربون: بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن وإن تركها فالمبلغ للبائع.
ويجري مجرى البيع الإجارة، لأنها بيع المنافع. ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2 - يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.(7/181)
قرار رقم: 4/77/د 8
بشأن
عقد المزايدة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (عقد المزايدة)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
وحيث إن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، كما اعتمدته المؤسسات والحكومات، وضبطته بتراتيب إدارية، ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد.
قرر مايلي:
1 - عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء، أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2- يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك، وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد، وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء. وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة، والهيئات الحكومية والأفراد.
3 - إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي، وتنظيم، وضوابط وشروط إدارية أو قانونية، يجب أن لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
4- طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعاً، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة.
5- لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمناً له.
6 - يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي، أو غيره مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح، سواء أكان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7 - النجش حرام، ومن صوره:
أـ أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ليغري المشتري بالزيادة.(7/182)
ب ـ أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها، ويمدحها ليغر المشتري فيرفع ثمنها. ج ـ أن يدعي صاحب السلعة، أو الوكيل، أو السمسار، ادعاء كاذباً أنه دفُع فيها ثمن معين ليدلس على من يسوم.
د ـ ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية، والمرئية، والمقروءة، التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة، أو ترفع الثمن لتغر المشتري، وتحمله على التعاقد.
والله أعلم.
قرار رقم: 5/78/د8
بشأن
تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (تطبيقات شرعية لإقامة السوق الإسلامية) التي كانت استكمالاً لموضوعات الأسواق المالية، والأوراق المالية الإسلامية التي سبق بحثها في الدورات السابقة، ولاسيما في دورة مؤتمره السابع بجدة، وفي الندوات التي أقامها لهذا الغرض للوصول إلى مجموعة مناسبة من الأدوات المشروعة لسوق المال، حيث إنها الوعاء الذي يستوعب السيولة المتوافرة في البلاد الإسلامية، ويحقق الأهداف التنموية، والتكافل والتوازن، والتكامل للدول الإسلامية.
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول كيفية الإفادة من الصيغ التي بها تكتمل السوق الإسلامية، وهي الأسهم، والصكوك والعقود الخاصة لإقامة السوق الإسلامية على أسس شرعية.
قرر مايلي:
1 - الأسهم:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم 1/65/د7، بشأن الأسواق المالية: الأسهم، والاختيارات، والسلع، والعملات، وبين أحكامها مما يمكن الإفادة منها لإقامة سوق المال الإسلامية.
2 - الصكوك (السندات) :
أ - سندات المقارضة وسندات الاستثمار:
أصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره رقم /5د4 بشأن صكوك المقارضة.(7/183)
ب - صكوك التأجير، أو الإيجار المنتهي بالتمليك. وقد صدر بخصوصها قرار المجمع رقم 6/د5، وبذلك تؤدي هذه الصكوك دوراً طيباً في سوق المال الإسلامية في نطاق المنافع.
3 - عقد السلم:
بما أن عقد السلم - بشروطه - واسع المجال إذ أن المشتري يستفيد منه في استثمار فائض أمواله لتحقيق الربح، والبائع يستفيد من الثمن في النتاج، فهو أداة فعالة لإقامة سوق مال إسلامية في مجال بيع شيء موصوف في الذمة. مع التأكيد على قرار المجمع رقم 1/64/د7 بشأن عدم جواز بيع المسلم فيه قبل قبضه ونصه: «لايجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها» .
4 - عقد الاستصناع:
أصدر المجمع قراره رقم 3/66/د7 بشأن عقد الاستصناع.
5 - البيع الآجل:
البيع الآجل صيغة تطبيقية أخرى من صيغ الاستثمار، تيسر عمليات الشراء، حيث يستفيد المشتري من توافر الحصول على السلع حالاً، ودفع الثمن بعد أجل، كما يستفيد البائع من زيادة الثمن، وتكون النتيجة اتساع توزيع السلع ورواجها في المجتمع.
6 - الوعد والمواعدة:
أصدر المجمع قراره رقم 2-3/د5 بشأن الوعد، والمواعدة في المرابحة للآمر بالشراء.
7 - يدعو المجمع الباحثين من الفقهاء والاقتصاديين لإعداد بحوث ودراسات في الموضوعات التي لم يتم بحثها بصورة معمقة، لبيان مدى إمكانية تنفيذها، والاستفادة منها شرعاً في سوق المال الإسلامية وهي:
أـ صكوك المشاركة بكل أنواعها.
ب ـ صياغة صكوك من الإيجار أو التأجير المنتهي بالتمليك.
ج ـ الاعتياض عن دين السلم، والتولية والشركة فيه، والحطيطة عنه والمصالحة عليه ونحو ذلك.
د ـ المواعدة في غير بيع المرابحة، وبالأخص المواعدة في الصرف.
هـ ـ بيع الديون.
وـ الصلح في سوق المال (معاوضة أو نحوها) .
ز ـ المقاصة.
والله أعلم.(7/184)
قرار رقم: 6/79/د8
بشأن
قضايا العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (قضايا العملة)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1 - يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور، على ألا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور: تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغيرفي مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص. والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات. وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً.
على أنه إذا تراكمت الأجرة وصارت ديناً تطبق عليها أحكام الديون المبينة في قرار المجمع رقم (4/د5) .
2 - يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد ـ لا قبله ـ على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد. وكذلك يجوز في الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط أيضاً على أدائه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم.
ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة، مع مراعاة القرار الصادر عن المجمع برقم 1/55/د6 بشأن القبض.
3 - يجوز أن يتفق المتعاقدان عند العقد على تعيين الثمن الآجل أو الأجرة المؤجلة بعملة تدفع مرة واحدة أو على أقساط محددة من عملات متعددة أو بكمية من الذهب وأن يتم السداد حسب الاتفاق. كما يجوز أن يتم حسبما جاء في البند السابق.(7/185)
4 - الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى، على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
5 - تأكيد القرار رقم (4/د5) الصادر عن المجمع بشأن تغير قيمة العملة.
6 - يدعو مجلس المجمع الأمانة العامة لتكليف ذوي الكفاءة من الباحثين الشرعيين والاقتصاديين من الملتزمين بالفكر الإسلامي بإعداد الدراسات المعمقة للموضوعات الأخرى المتعلقة بقضايا العملة، لتناقش في دورات المجمع القادمة إن شاء الله، ومن هذه الموضوعات ما يلي:
أـ إمكان استعمال عملة اعتبارية مثل الدينار الإسلامي وبخاصة في معاملات البنك الإسلامي للتنمية ليتم على أساسها تقديم القروض واستيفاؤها، وكذلك تثبيت الديون الآجلة ليتم سدادها بحسب سعر التعادل القائم بين تلك العملة الاعتبارية بحسب قيمتها، وبين العملة الأجنبية المختارة للوفاء كالدولار الأمريكي.
ب ـ السبل الشرعية البديلة عن الربط للديون الآجلة بمستوى المتوسط القياسي للأسعار.
ج ـ مفهوم كساد النقود الورقية وأثره في تعيين الحقوق والالتزامات الآجلة.
د ـ حدود التضخم التي يمكن أن تعتبر معه النقود الورقية نقوداً كاسدة.
قرار رقم: 7/80/د8
بشأن
مشاكل البنوك الإسلامية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مشاكل البنوك الإسلامية)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
وبعد استعراض مجلس المجمع ما جاء في الأوراق المقدمة بشأن مشاكل البنوك الإسلامية، والمتضمنة مقترحات معالجة تلك المشاكل بأنواعها من شرعية وفنية وإدارية ومشاكل علاقاتها بالأطراف المختلفة وبعد الاستماع إلى المناقشات التي دارت حول تلك المشكلات.
قرر:(7/186)
1 - عرض القائمة التالية المصنفة على أربعة محاور على الأمانة العامة للمجمع لاستكتاب المختصين فيها وعرضها في دورات المجمع القادمة بحسب الأولوية التي تراها لجنة التخطيط: المحور الأول: الودائع وما يتعلق بها:
أـ ضمان ودائع الاستثمار بطرق تتلاءم مع أحكام المضاربة الشرعية.
ب ـ تبادل الودائع بين البنوك على غيرأساس الفائدة.
ج ـ التكييف الشرعي للودائع والمعالجة المحاسبية لها.
د ـ إقراض مبلغ لشخص بشرط التعامل به مع البنك عموماً أوفي نشاط محدد.
هـ ـ مصاريف المضاربة ومن يتحملها (المضارب أو وعاء المضاربة) .
وـ تحديد العلاقة بين المودعين والمساهمين.
ز ـ الوساطة في المضاربة والإجارة والضمان.
ح ـ تحديد المضارب في البنك الإسلامي (المساهمون أو مجلس الإدارة، أو الإدارة التنفيذية) .
ط ـ البديل الإسلامي للحسابات المكشوفة.
ي ـ الزكاة في البنوك الإسلامية لأموالها وودائعها.
المحور الثاني: المرابحة:
أـ المرابحة في الأسهم.
ب ـ تأجيل تسجيل الملكية في بيوع المرابحة لبقاء حق البنك مضموناً في السداد.
ج ـ المرابحة المؤجلة السداد مع توكيل الآمر بالشراء واعتباره كفيلاً. د ـ المماطلة في تسديد الديون الناشئة عن المرابحة أو المعاملات الآجلة.
هـ ـ التأمين على الديون.
وـ بيع الديون.
المحور الثالث: التأجير:
أـ إعادة التأجير لمالك العين المأجورة أو لغيره.
ب ـ استئجار خدمات الأشخاص وإعادة تأجيرها.
ج ـ إجارة الأسهم أو إقراضها أو رهنها.
د ـ صيانة العين المأجورة.
هـ ـ شراء عين من شخص بشرط استئجاره لها.
وـ الجمع بين الإجارة والمضاربة.
المحور الرابع: العقود:
أـ الشرط الاتفاقي على حق البنك في الفسخ في حال التخلف عن سداد الأقساط.
ب ـ الشرط الاتفاقي على تحويل العقد من صيغة إلى صيغة أخرى عند التخلف عن سداد الأقساط.
ويوصي مجلس المجمع بما يلي:(7/187)
1 - مواصلة البنوك الإسلامية الحوار مع البنوك المركزية في الدول الإسلامية لتمكين البنوك الإسلامية من أداء وظائفها في استثمار أموال المتعاملين معها في ضوء المبادئ الشرعية التي تحكم أنشطة البنوك وتلائم طبيعتها الخاصة. وعلى البنوك المركزية أن تراعي متطلبات نجاح البنوك الإسلامية للقيام بدورها الفعال في التنمية الوطنية ضمن قواعد الرقابة بما يلائم خصوصية العمل المصرفي الإسلامي ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية لاستئناف اجتماعات البنوك المركزية للدول الإسلامية، مما يتيح الفرصة لتنفيذ متطلبات هذه التوصية.
2 - اهتمام البنوك الإسلامية بتأهيل القيادات والعاملين فيها بالخبرات الوظيفية الواعية لطبيعة العمل المصرفي الإسلامي، وتوفير البرامج التدريبية المناسبة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب وسائر الجهات المعنية بالتدريب المصرفي الإسلامي.
3 - العناية بعقدي السلم والاستصناع، لما يقدمانه من بديل شرعي لصيغ التمويل الإنتاجي التقليدية.
4 - التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء وقصرها على التطبيقات التي تقع تحت رقابة المصرف ويؤمن فيها وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها. والتوسع في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والمشاركات والتأجير مع الاهتمام بالمتابعة والتقويم الدوري، وينبغي الاستفادة من مختلف الحالات المقبولة في المضاربة مما يتيح ضبط عمل المضاربة ودقة المحاسبة لنتائجها.
5 - إيجاد السوق التجارية لتبادل السلع بين البلاد الإسلامية بديلاً عن سوق السلع الدولية التي لاتخلو من المخالفات الشرعية.
6 - توجيه فائض السيولة لخدمة أهداف التنمية في العالم الإسلامي، وذلك بالتعاون بين البنوك الإسلامية لدعم صناديق الاستثمار المشتركة وإنشاء المشاريع المشتركة.(7/188)
7 - الإسراع بإيجاد المؤشر المقبول إسلامياً الذي يكون بديلاً عن مراعاة سعر الفائدة الربوية في تحديد هامش الربح في المعاملات.
8 - توسيع القاعدة الهيكلية للسوق المالية الإسلامية عن طريق قيام البنوك الإسلامية فيما بينها، وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية، للتوسع في ابتكار وتداول الأدوات المالية الإسلامية في مختلف الدول الإسلامية.
9 - دعوة الجهات المنوط بها سن الأنظمة لإرساء قواعد التعامل الخاصة بصيغ الاستثمار الإسلامية، كالمضاربة والمشاركة والمزارعة والمساقاة والسلم والاستصناع والإيجار.
10 - دعوة البنوك الإسلامية لإقامة قاعدة معلومات تتوافر فيها البيانات الكافية عن المتعاملين مع البنوك الإسلامية ورجال الأعمال، وذلك لتكون مرجعاً للبنوك الإسلامية وللاستفادة منها في تشجيع التعامل مع الثقات المؤتمنين والابتعاد عن سواهم.
11 -دعوة البنوك الإسلامية إلى تنسيق نشاط هيئات الرقابة الشرعية لديها، سواء بتجديد عمل الهيئة العليا للرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية أم عن طريق إيجاد هيئة جديدة بما يكفل الوصول إلى معايير موحدة لعمل الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية.
والله أعلم.
قرار رقم: 8/81/د 8
بشأن
المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على توصيات الندوة الاقتصادية حول حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمة المتعاملة بالربا، والأبحاث المعدة في تلك الندوة.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه.
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله أعلم.(7/189)
قرار رقم: 9/82/د8
بشأن
بطاقات الائتمان
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «بطاقات الائتمان» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة استكمال جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته والتعرف إلى جميع الآراء فيه،
قرر:
أن تقوم الأمانة العامة للمجمع باستكتاب المزيد من البحوث فيه ليتمكن مجلس المجمع من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.
والله الموفق.
قرار رقم: 10/83/د8
بشأن
السر في المهن الطبية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «السر في المهن الطبية»
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي:
1 - أـ السر: هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب ـ السر: أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.
ج ـ الأصل حظر إفشاء السر. وإفشاؤه بدون مقتض معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً. د ـ يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.(7/190)
2 - تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:
أـ حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
ـ ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
ـ وما فيه درء مفسدة عن الفرد.
ب ـ حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:
ـ جلب مصلحة للمجتمع.
ـ أو درء مفسدة عامة.
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
ج ـ الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
3 - يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع. ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.
والله أعلم.
قرار رقم: 11/84/د8
بشأن
أخلاق الطبيب: مسؤوليته وضمانه
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه»
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:(7/191)
1 - تأجيل إصدار قرار في موضوع أخلاقيات الطبيب: مسؤوليته وضمانه وموضوع التداوي بالمحرمات، والنظر في دستور المهنة الطبية المعد من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، والطلب إلى الأمانة العامة لاستكتاب المزيد من الأبحاث في تلك الموضوعات لعرضها في دورة قادمة للمجمع.
والله أعلم. قرار رقم: 12/85/د8
بشأن
مداواة الرجل للمرأة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (مداواة الرجل للمرأة)
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:
1 - الأصل أنه إذا توافرت طبيبة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غير مسلمة ثقة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم. على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته وألا يزيد عن ذلك وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة.
2 - يوصي المجمع أن تولي السلطات الصحية جل جهدها لتشجيع النساء على الانخراط في مجال العلوم الطبية والتخصص في كل فروعها، وخاصة أمراض النساء والتوليد، نظراً لندرة النساء في هذه التخصصات الطبية، حتى لا نضطر إلى قاعدة الاستثناء.
والله أعلم. قرار رقم: 13/86/د8
بشأن
مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) »
وبعد استماعها إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر ما يلي:(7/192)
1 - بما أن ارتكاب فاحشتي الزنا واللواط أهم سبب للأمراض الجنسية التي أخطرها الإيدز (متلازمة العوز المناعي المكتسب) ، فإن محاربة الرذيلة وتوجيه الأعلام والسياحة وجهة صالحة تعتبر عوامل مهمة في الوقاية منها. ولا شك أن الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف ومحاربة الرذيلة وإصلاح أجهزة الإعلام ومنع الأفلام والمسلسلات الخليعة ومراقبة السياحة تعتبر من العوامل الأساسية للوقاية من هذه الأمراض.
ويوصي مجلس المجمع الجهات المختصة في الدول الإسلامية باتخاذ كافة التدابير للوقاية من الإيدز ومعاقبة من يقوم بنقل الإيدز إلى غيره متعمداً. كما يوصي حكومة المملكة العربية السعودية بمواصلة تكثيف الجهود لحماية ضيوف الرحمن واتخاذ ما تراه من إجراءات كفيلة بوقايتهم من احتمال الإصابة بمرض الإيدز.
2 - في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض، فإن عليه أن يخبر الآخر وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة.
ويوصي المجمع بتوفير الرعاية للمصابين بهذا المرض. ويجب على المصاب أو حامل الفيروس أن يتجنب كل وسيلة يعدي بها غيره، كما ينبغي توفير التعليم للأطفال الذين يحملون فيروس الإيدز بالطرق المناسبة.
3 - يوصي مجلس المجمع الأمانة العامة باستكتاب الأطباء والفقهاء في الموضوعات التالية، لاستكمال البحث فيها وعرضها في دورات قادمة:
أـ عزل حامل فيروس الإيدز ومريضه.
ب ـ موقف جهات العمل من المصابين بالإيدز.
ج ـ إجهاض المرأة الحامل المصابة بفيروس الإيدز.
د ـ إعطاء حق الفسخ لامرأة المصاب بفيروس الإيدز.
هـ ـ هل تعتبر الإصابة بمرض الإيدز من قبيل مرض الموت من حيث تصرفات المصاب؟
وـ أثر إصابة الأم بالإيدز على حقها في الحضانة.
ز ـ ما الحكم الشرعي فيمن تعمد نقل مرض الإيدز إلى غيره؟
ح ـ تعويض المصابين بفيروس الإيدز عن طريق نقل الدم أو محتوياته أو نقل الأعضاء.
ط ـ إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج لتجنب مخاطر الأمراض المعدية وأهمها الإيدز.
والله أعلم.
قرار رقم: 14/87/د8
بشأن
تنظيم استكتاب الأبحاث ومناقشتها في دورات المجمع
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سري بجاون، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الموافق 21 - 27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على قواعد النشر لأبحاث المجمع، والشروط المطلوب توافرها في البحوث.
وبعد استماعه إلى الملابسات التي تحصل في عملية الاستكتاب وتحديد أجل معين لتسلم الأبحاث بحيث تتمكن الأمانة العامة للمجمع من تقويم البحوث في ضوء قواعد النشر المشار إليها.
قرر ما يلي:
1 - في حالة انتهاء الأجل المحدد لتلقي البحوث يحق للأمانة العامة الاقتصار على الأبحاث الواردة خلال الأجل دون أي التزام تجاه ما تأخر عنه.
2 - لا تستقبل الأمانة العامة للمجمع أي بحوث يتطوع أصحابها بإعدادها دون استكتاب من الأمانة العامة.
3 - تقتصر المناقشة في الدورة القادمة على من تمت استضافتهم من أعضاء المجمع وخبرائه وباحثيه.
والله أعلم.(7/193)
قرارات وتوصيات الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي في أبو ظبي
1 - 6 من ذي القعدة 1415 هـ
1 - 6 من نيسان (أبريل) 1995م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم: 1/88 /د 9 بشأن
«تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «تجارة الذهب، الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر أولاً بشأن تجارة الذهب مايلي:
أ - يجوز شراء الذهب والفضة بالشيكات المصدقة، على أن يتم التقابض بالمجلس.(7/194)
ب-تأكيد ماذهب إليه عامة الفقهاءمن عدم جوازمبادلة الذهب المصوغ بذهب مصوغ أكثر مقداراً منه، لأنه لا عبرة في مبادلة الذهب بالذهب بالجودة أو الصياغة، لذا يرى المجمع عدم الحاجة للنظر في هذه المسألة، مراعاة لكون هذه المسألة، لم يبق لها مجال في التطبيق العملي، لعدم التعامل بالعملات الذهبية بعد حلول العملات الورقية محلها، وهي إذا قوبلت بالذهب تعتبر جنساً آخر.
جـ - تجوز المبادلة بين مقدار من الذهب ومقدار آخر أقل منه مضموم إليه جنس آخر، وذلك على اعتبار أن الزيادة في أحد العوضين مقابلة بالجنس الآخر في العوض الثاني.
د - بما أن المسائل التالية تحتاج إلى مزيد من التصورات والبحوث الفنية والشرعية عنها، فقد أرجئ اتخاذ قرارات فيها، بعد إثبات البيانات التي يقع بها التمييز بينها وهي:
- شراء أسهم شركة تعمل في استخراج الذهب أو الفضة.
- تملّك وتمليك الذهب من خلال تسليم وتسلّم شهادات، تمثِّل مقادير معينة منه، موجودة في خزائن مصدّر الشهادات، بحيث يتمكن بها من الحصول على الذهب، أو التصرف فيه متى شاء.
قرر ثانياً بشأن الحلول الشرعية لاجتماع الصرف والحوالة مايلي:
أ - الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بالعملة نفسها جائزة شرعاً، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل، فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه، وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة، وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر. وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس، فإنهم ضامنون للمبالغ، جرياً على تضمين الأجير المشترك.(7/195)
ب-إذا كان المطلوب في الحوالة دفعهابعملة مغايرة للمبالغ المقدمة من طالبها، فإن العملية تتكون من صرف وحوالة بالمعنى المشار إليه في الفقرة (أ) ، وتجري عملية الصرف قبل التحويل، وذلك بتسليم العميل المبلغ للبنك، وتقييد البنك له في دفاتره بعد الاتفاق على سعر الصرف المثبت في المستند المسلَّم للعميل، ثم تجري الحوالة بالمعنى المشار إليه.
قرار رقم: 2/89 /د9
بشأن «السلم وتطبيقاته المعاصرة»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «السلم وتطبيقاته المعاصرة» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر أولاً بشأن (السلم) مايلي:
أ - السلع التي يجري فيها عقد السلم تشمل كل مايجوز بيعه ويمكن ضبط صفاته ويثبت ديناً في الذمة، سواء أكانت من المواد الخام أم المزروعات أم المصنوعات.
ب - يجب أن يحدد لعقد السلم أجل معلوم، إما بتاريخ معين، أو بالربط بأمر مؤكد الوقوع، ولو كان ميعاد وقوعه يختلف اختلافاً يسيراً، لا يؤدي للتنازع كموسم الحصاد.
جـ - الأصل تعجيل قبض رأسمال السلم في مجلس العقد، ويجوز تأخيره ليومين أو ثلاثة ولو بشرط، على أن لاتكون مدة التأخير مساوية، أو زائدة عن الأجل المحدد للسلم. د - لا مانع شرعاً من أخذ المسلم (المشتري) رهناً أو كفيلاً من المسلَم إليه (البائع) .
هـ - يجوز للمسلم (المشتري) مبادلة المسلم فيه بشيء آخر - غير النقد - بعد حلول الأجل، سواء كان الاستبدال بجنسه أم بغير جنسه. حيث إنه لم يرد في منع ذلك نص ثابت ولا إجماع، وذلك بشرط أن يكون البدل صالحاً لأن يجعل مسلماً فيه برأس مال السلم.(7/196)
و - إذا عجز المسلم إليه عن تسليم المسلم فيه عند حلول الأجل، فإن المسلم (المشتري) يخير بين الانتظار إلى أن يوجد المسلم فيه وفسخ العقد وأخذ رأس ماله، وإذا كان عجزه عن إعسار، فنظِرة إلى ميسرة.
ز - لايجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولايجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير.
ح - لايجوز جعل الدين رأس مال للسلم؛ لأنه من بيع الدين بالدين.
قرر ثانياً بشأن (التطبيقات المعاصرة للسلم) :
يعد السلم في عصرنا الحاضر أداة تمويل ذات كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي وفي نشاطات المصارف الإسلامية، من حيث مرونتها واستجابتها لحاجات التمويل المختلفة، سواء أكان تمويلاً قصير الأجل أم متوسطة أم طويلة، واستجابتها لحاجات شرائح مختلفة ومتعددة من العملاء، سواء أكانوا من المنتجين الزراعيين أم الصناعيين أم المقاولين أم من التجار، واستجابتها لتمويل نفقات التشغيل والنفقات الرأسمالية الأخرى.
ولهذا تعددت مجالات تطبيق عقد السلم، ومنها مايلي:
أ - يصلح عقد السلم لتمويل عمليات زراعية مختلفة، حيث يتعامل المصرف الإسلامي مع المزارعين الذين يتوقع أن توجد لديهم السلعة في الموسم من محاصيلهم، أو محاصيل غيرهم التي يمكن أن يشتروها ويسلّموها إذا أخفقوا في التسليم من محاصيلهم، فَيُقَدِّم ُ لهم بهذا التمويل نفعاً بالغاً، ويدفع عنهم مشقة العجز المالي عن تحقيق إنتاجهم.
ب - يمكن استخدام عقد السلم في تمويل النشاط الزراعي والصناعي، ولاسيما تمويل المراحل السابقة لإنتاج وتصدير السلع والمنتجات الرائجة، وذلك بشرائها سَلَماً، وإعادة تسويقها بأسعار مجزية.
جـ - يمكن تطبيق عقد السلم في تمويل الحرفيين وصغار المنتجين الزراعيين والصناعيين، عن طريق إمدادهم بمستلزمات الإنتاج في صورة معدات وآلات أو مواد أولية كرأس مال سلم، مقابل الحصول على بعض منتجاتهم وإعادة تسويقها.(7/197)
ويوصي المجلس باستكمال صور التطبيقات المعاصرة للسلم بعد إعداد البحوث المتخصصة.
قرار رقم: 90 / 3 / د9
بشأن «الودائع المصرفية (حسابات المصارف) »
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الودائع المصرفية (حسابات المصارف) » .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي:
أولاً - الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية: هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلِّم لهذه الودائع يده يد ضمان لها، وهو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب. ولايؤثر على حكم القرض كون البنك (المقترض) مليئاً.
ثانياً - إن الودائع المصرفية تنقسم إلى نوعين بحسب واقع التعامل المصرفي:
أ - الودائع التي تدفع لها فوائد، كما هو الحال في البنوك الربوية: هي قروض ربوية محرمة، سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير.
ب - الودائع التي تسلم للبنوك الملتزمة فعلياً بأحكام الشريعة الإسلامية بعقد استثماري على حصة من الربح: هي رأس مال مضاربة، وتطبق عليها أحكام المضاربة (القراض) في الفقه الإسلامي التي منها عدم جواز ضمان المضارب (البنك) لرأس مال المضاربة.
ثالثاً - إن الضمان في الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) هو على المقترضين لها (المساهمين في البنوك) ماداموا ينفردون بالأرباح المتولدة من استثمارها، ولايشترك في ضمان تلك الحسابات الجارية المودعون في حسابات الاستثمار، لأنهم لم يشاركوا في اقتراضها ولا استحقاق أرباحها.(7/198)
رابعاً - إن رهن الودائع جائز، سواء أكانت من الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع الاستثمارية، ولايتم الرهن على مبالغها إلا بإجراء يمنع صاحب الحساب من التصرف فيه طيلة مدة الرهن. وإذا كان البنك الذي لديه الحساب الجاري هو المرتهن، لزم نقل المبالغ إلى حساب استثماري، بحيث ينتفي الضمان للتحول من القرض إلى القراض (المضاربة) ويستحق أرباح الحساب صاحبه تجنباً لانتفاع المرتهن (الدائن) بنماء الرهن.
خامساً - يجوز الحجز من الحسابات إذا كان متفقاً عليه بين البنك والعميل. سادساً - الأصل في مشروعية التعامل: الأمانة والصدق بالإفصاح عن البيانات بصورة تدفع اللبس أو الإيهام، وتطابق الواقع، وتنسجم مع المنظور الشرعي، ويتأكد ذلك بالنسبة للبنوك تجاه مالديها من حسابات لاتصال عملها بالأمانة المفترضة ودفعاً للتغرير بذوي العلاقة.
قرار رقم: 91 / 4 /د9
بشأن «الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على الأبحاث الثلاثة الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية» التي تبين منها أن الموضوع تضمن بين عناصره مسألة شراء أسهم الشركات التي غرضها وأنشطتها الأساسية مشروعة، لكنها تقترض أو تودع أموالها بالفائدة، وهي لم يقع البتّ في أمرها، بالرغم من عقد ندوتين لبحثها، وصدور قرار مبدئي فيها للمجمع في دورته السابعة، ثم قرار لاحق في دورته الثامنة بأن تقوم الأمانة العامة باستكتاب المزيد من البحوث في هذا الموضوع، ليتمكن من اتخاذ القرار المناسب في دورة قادمة.(7/199)
وبعد الشروع في المناقشات التي دارت حوله، تبين أن الموضوع يحتاج إلى الدراسات المتعددة المعمَّقة، لوضع الضوابط المتعلقة بهذا النوع من الشركات الذي هو الأكثر وقوعاً داخل البلاد الإسلامية وخارجها.
قرر مايلي:
أولاً - تأجيل النظر في هذا الموضوع على أن يعدّ فيه مزيد من الدراسات والأبحاث بخصوصه، وتستوعب فيه الجوانب الفنية والشرعية. وذلك ليتمكن المجمع من اتخاذ القرار المناسب فيه حسب توصية الدورة الثامنة (قرار 8/81/د8) .
ثانياً - الاستفادة مما تضمنته الأبحاث الثلاثة عن الصناديق والإصدارات الاستثمارية لإعداد اللائحة الموصى بوضعها في القرار (5) للدورة الرابعة (بند أولاً /2 في العنصر الرابع) .
قرار رقم: 5/92/د9
بشأن «المناقصات»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحثين الواردين إلى المجمع بخصوص موضوع: «المناقصات» ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
وجرياً على خطة المجمع في وجوب إعداد عدد من الدراسات في كل موضوع لاستقصاء التصورات الفنية له، واستيعاب الاتجاهات الفقهية فيه،
قرر مايلي:
أولاً - تأجيل إصدار القرار الخاص بالنقاط التي درست في هذا الموضوع، نظراً لأهميته، وضرورة استكمال بحث جميع جوانبه وتغطية كل تفصيلاته، والتعرف على جميع الآراء فيه، واستيفاء المجالات التي تجري المناقصات من أجلها، ولاسيما ماهو حرام منها كالأوراق المالية الربوية وسندات الخزانة. ثانياً - أن يقوم أعضاء المجمع وخبراؤه بموافاة الأمانة العامة - قبل انتهاء الدورة إن أمكن أو خلال فترة قريبة بعدها - بما لديهم من نقاط فنية أو شرعية تتعلق بموضوع «المناقصات» سواء تعلقت بالإجراءات، أم بالصيغ والعقود التي تقام المناقصة لإبرامها.(7/200)
ثالثاً - استكتاب أبحاث أخرى في موضوع (المناقصات) يسهم فيها أهل الخبرات الفنية والفقهية والعملية في هذا الموضوع.
قرار رقم: 93/ 6 /د9
بشأن «قضايا العملة»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «قضايا العملة» ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها:
أ - أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضاً بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه «العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ماهي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار» .
ب - أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود) . جـ - أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام) .
د - أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير أضرار الطرفين (الدائن والمدين) .
هـ - التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها، بإصدار قرار صريح في ذلك، بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح.
والتفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجاً عن سياسات تتبناها الحكومات، وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية.
ز - الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة.
وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص.
قرر مايلي:(7/201)
أولاً - أن تعقد الأمانة العامة للمجمع - بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإسلامية - ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه.
ثانياً - أن يشتمل جدول الندوة على:
أ - دراسة ماهية التضخم وأنواعه وجميع التصورات الفنية المتعلقة به.
ب - دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصادياً.
جـ - طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ماسبقت الإشارة إليه في ديباجة القرار. ثالثاً - ترفع نتائج الندوة - مع أوراقها ومناقشاتها - إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة.
قرار رقم: 94/ 7 / د9
بشأن «مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) والأحكام الفقهية المتعلقة به»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) والأحكام المتعلقة به» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
اعتبر الموضوعات المطروحة على الدورة ذات صبغتين:
الأولى تناولت الجوانب الطبية لمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) من حيث أسبابه وطرق انتقاله وخطورته.
والثانية تناولت الجوانب الفقهية، وتشتمل هذه على:
1 - حكم عزل مريض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) .
2 - حكم تعمد نقل العدوى.
3 - حقوق الزوج المصاب وواجباته.
أ - حكم إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) .
ب - حكم حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم وإرضاعه.(7/202)
جـ- حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) .
هـ - حق المعاشرة الزوجية.
4 - اعتبار مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت.
أولاً - عزل المريض:
تؤكد المعلومات الطبية المتوافرة حالياً أن العدوى بفيروس العوز المناعي البشري مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لاتحدث عن طريق المعايشة أو الملامسة أو التنفس أو الحشرات أو الاشتراك في الأكل والشرب أو حمامات السباحة أو المقاعد أو أدوات الطعام، ونحو ذلك من أوجه المعايشة في الحياة اليومية العادية، وإنما تكون العدوى بصورة رئيسية بإحدى الطرق التالية:
1 - الاتصال الجنسي بأي شكل كان.
2 - نقل الدم الملوث أو مشتقاته.
3 - استعمال الإبر الملوثة، ولاسيما بين متعاطي المخدرات، وكذلك أمواس الحلاقة.
4 - الانتقال من الأم المصابة إلى طفلها في أثناء الحمل والولادة.
وبناء على ماتقدم فإن عزل المصابين إذا لم تخش منه العدوى، عن زملائهم الأصحاء غير واجب شرعاً، ويتم التصرف مع المرضى وفق الإجراءات الطبية المعتمدة.
ثانياً - تعمد نقل العدوى:
تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عمل محرم، ويعد من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية، وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع.
فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع، فعمله هذا يعد نوعاً من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة (سورة المائدة - آية 33) .
وإن كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه وتمت العدوى ولم يمت المنقول إليه بعد، عوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة، وعند حدوث الوفاة ينظر في تطبيق عقوبة القتل عليه.(7/203)
وأما إذا كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه ولكن لم تنتقل إليه العدوى، فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية.
ثالثاً - إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) :
نظراً لأن انتقال العدوى من الحامل المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) إلى جنينها لا تحدث غالباً إلا بعد تقدم الحمل (نفخ الروح في الجنين) أو أثناء الولادة، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعاً.
رابعاً - حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم وإرضاعه:
أ - لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) لوليدها السليم، وإرضاعها له، شأنها في ذلك شأن المخالطة والمعايشة العادية، فإنه لامانع شرعاً من أن تقوم الأم بحضانته ورضاعته مالم يمنع من ذلك تقرير طبي. خامساً - حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) :
للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض مُعْد تنتقل عدواه بصورة رئيسية بالاتصال الجنسي.
سادساً - اعتبار مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت:
يعد مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) مرض موت شرعاً إذا اكتملت أعراضه، وأقعد المريض عن ممارسة الحياة العادية، واتصل به الموت.
سابعاً - حق المباشرة الزوجية:
تؤجل لاستكمال بحثها.
ويوصي مجلس المجمع بضرورة الاستمرار على التأكد في موسم الحج من خلو الحجاج من الأمراض الوبائية، وبخاصة مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز) .
قرار رقم 95 / 8 /د 9
بشأن «مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.(7/204)
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي» .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي: أولاً - التحكيم: اتفاق بين طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعة بينهما، بحكم ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية.
وهو مشروع، سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية.
ثانياً - التحكيم: عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكَم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه مالم يشرع الحكَم في التحكيم، ويجوز للحكَم أن يعزل نفسه - ولو بعد قبوله - مادام لم يصدر حكمه، ولايجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين، لأن الرضا مرتبط بشخصه.
ثالثاً - لايجوز التحكيم في كل ماهو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم ُفيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه.
فإذا قضى الحكَم فيما لايجوز فيه التحكيم، فحكمه باطل ولاينفذ.
رابعاً - يشترط في الحكَم بحسب الأصل توافر شروط القضاء.
خامساً - الأصل أن يتم تنفيذ حكم المُحكَّم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه مالم يكن جوراً بيِّناً أو مخالفاً لحكم الشرع.
سادساً - إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية توصلاً لما هو جائز شرعاً.
سابعاً - دعوة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلى استكمال الإجراءات اللازمة لإقامة محكمة العدل الإسلامية الدولية، وتمكينها من أداء مهامها المنصوص عليها في نظامها. قرار رقم: 96 / 9 / د9
بشأن «سدّ الذرائع»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.(7/205)
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «سد الذرائع» ،
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
قرر مايلي:
1 - سدّ الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات.
2 - سدّ الذرائع لايقتصر على مواضع الاشتباه والاحتياط، وإنما يشمل كل مامن شأنه التوصل به إلى الحرام.
3 - سد الذرائع يقتضي منع الحيل إلى إتيان المحظورات أو إبطال شيء من المطلوبات الشرعية، غير أن الحيلة تفترق عن الذريعة باشتراط وجود القصد في الأولى دون الثانية.
4 - والذرائع أنواع:
(الأولى) مجمع على منعها: وهي المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أو المؤدية إلى المفسدة قطعاً أو كثيراً غالباً، سواء أكانت الوسيلة مباحة أم مندوبة أم واجبة. ومن هذا النوع العقود التي يظهر منها القصد إلى الوقوع في الحرام بالنص عليه في العقد. (والثانية) مجمع على فتحها: وهي التي ترجح فيها المصلحة على المفسدة.
(والثالثة) مختلف فيها: وهي التصرفات التي ظاهرها الصحة، لكن تكتنفها تهمة التوصل بها إلى باطن محظور، لكثرة قصد ذلك منها.
5 - وضابط إباحة الذريعة: أن يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، أو أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
وضابط منع الذريعة: أن تكون من شأنها الإفضاء إلى المفسدة لا محالة (قطعاً) أو كثيراً، أو أن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على الوسيلة من المصلحة.
قرار رقم: 97 / 10 / د9
بشأن «معلمة القواعد الفقهية»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 أبريل 1995م.
بعد استحضار القرار المتخذ في الدورة الثالثة بإصدار معلمة القواعد الفقهية،(7/206)
وبعد اطلاعه على المذكّرة المعدة من الأمانة العامة عن المشروع المتضمنة بيان محتويات المعلمة، ومصادرها من الكتب المفردة للقواعد ومتعلقاتها أو المدونات الفقهية والأصولية، والخطة العملية المقترحة للشروع في إعداد المعلمة والنموذج المقترح للبطاقات المستخدمة في الإعداد، لضمان توفية كل قاعدة حقها من البيانات، ومنهج إعداد المعلمة ومراحل الإعداد، مع تفصيل المرحلة الأولى والتجهيزات التقنية، باستخدام الحاسوب (الكومبيوتر) لاختصار الوقت اللازم للإعداد والتحقق من الاستقصاء والتناسق.
قرر مايلي:
أولاً - المضي في الخطوات التنفيذية لإعداد معلمة القواعد الفقهية وفق المنهج المقترح من الأمانة العامة بالتعاون مع اللجنة المكونة منها لهذا المشروع.
ثانياً - الاستفادة من خدمات الحاسوب للاطمئنان إلى استيعاب ماجاء في الكتب المتخصصة والكتب الفقهية والأصولية العامة، بصورة شاملة لكل من القواعد والضوابط والمقاصد العامة للتشريع.
ثالثاً - موافاة الأعضاء والخبراء الأمانة العامة في أقرب وقت بما يبدو لهم من ملاحظات أو مقترحات حول المرحلة الأولى من الإعداد، للاستفادة منها قبل الشروع في التكليف باستخراج البيانات.
قرار رقم: 98 /11/د9
بشأن «المراحل المنجزة من مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية»
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 إلى 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1 - 6 أبريل 1995م.
بعد استحضار القرار المتخذ في الدورة الثالثة بإصدار الموسوعة الفقهية الاقتصادية.(7/207)
وبعد اطلاعه على المذكرة المعدة من الأمانة العامة عن المشروع المتضمنة بيان الخطوات والإجراءات التي قامت بها الأمانة العامة في هذا الصدد من عقد جلسات عمل، وتشكيل لجنة فنية لإعداد الخطة التنفيذية، واستخلاص قائمة بالموضوعات الأساسية للموسوعة، وقد تضمنت المذكرة الخطة التفصيلية بعدة زمر منها، مع الاستكتاب المشترك للمختصين من الاقتصاديين والفقهاء في موضوعات الزمرة الأولى منها:
قرر مايلي:
أولاً - مواصلة العمل في إنجاز الموسوعة الفقهية الاقتصادية وفق المنهج المعد من الأمانة العامة بالتعاون مع اللجنة المكونة منها لهذا المشروع.
ثانياً - العمل على نشر ماينجز من موضوعات الموسوعة طبعة تمهيدية (كل بحث على حدة) لوضع نماذج تساعد على الإنجاز، وتمكن المختصين من تقديم ملاحظاتهم واقتراحاتهم بشأن هذا الموضوع.
توصيات الندوة الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت
من 22-1415/12/24هـ الموافق لـ 22-1995/5/24م
استمراراً لمسيرة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في تصديها للمشاكل الطبية والصحية من خلال رؤية إسلامية والتي تمثلت في العديد من ندواتها المتتابعة.
ولما كانت الحاجة تدعو لاستخدام الترقيع الجلدي وسبله لإنقاذ حياة من يتعرض لحروق نسبتها كبيرة، فقد رأت المنظمة أن تعرض هذا الموضوع في ندوتها التالية.
كما أن المنظمة رأت ضرورة بحث «المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء» نظراً للتوسع الكبير في تكنولوجيا الغذاء والدواء واستخدام مواد فيها شبهة الحرمة والنجاسة.
فقد تم بفضل من الله وعونه عقد الندوة الثامنة، وموضوعها «رؤية إسلامية لبعض المشاكل الصحية» وذلك بمشاركة الأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلاميبجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية، ووزارة الصحة بدولة الكويت، وذلك في الفترة من 22-24 من شهر ذي الحجة 1415هـ الذي يوافقه 22-24 من شهر مايو 1995م.(7/208)
التوصيات الخاصة
أولاً - الترقيع الجلدي:
1- للآدمي مسلماً وغير مسلم حرمة ذاتية. وتكريم الآدمي والحفاظ على حرمته مقصد من مقاصد الشريعة، لذا فإن عمليات الترقيع الجلدي الجائزة بالشروط المبينة فيما يلي، لا تتنافى مع هذا المقصد بل تحققه وترسخه.
2 - الجلد عضو حي ينطبق عليه من حيث النقل ماينطبق على نقل الأعضاء وزرعها طبقاً لما قررته المجامع الفقهية.
3 - عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي ربما تكون ضرورة شرعية تخضع في أحكامها للشروط العامة للضرورة.
4 - الرقعة الجلدية المأخوذة من مصدر آدمي حي أو ميت، ذاتية (من الشخص لنفسه) ، أو مثلية (من آدمي لآدمي) ، طاهرة شرعاً.
5 - يتوقف جواز عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي على توافر الشروط التالية:
أ - أن يكون الترقيع الجلدي هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لعلاج المريض.
ب - أن لايتسبب نزع الجلد في حالة التبرع من الحي في ضرر يماثل ضرر المتبرع له أو يفوقه.
ج - أن يبلغ نجاح عملية الترقيع حد غلبة الظن.
د - أن يكون الحصول على الجلد الآدمي عن غير طريق البيع أو الإكراه أو التغرير، ولا مانع من بذل المال من قبل المحتاج من أجل الحصول على الجلد اللازم إذا لم يجد متبرعاً.
6 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان طاهر مذكىً حسب الشروط الشرعية مصدر يبيحه الشرع.
7 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان غير مأكول (باستثناء الكلب والخنزير) يجوز الترقيع بها إن ذكيّ تذكية شرعية.
8 - الرقع الجلدية المأخوذة من الميتة أو من حيوان حي، نجسة لايجوز استخدامها إلا عند الضرورة.
9 - الرقع الجلدية المأخوذة من الكلب أو الخنزير لايجوز استخدامها إلا عند عدم وجود البديل الجائز شرعاً وعند الضرورة، شريطة أن تكون مؤقتة.
10 - يجوز إنشاء بنك لحفظ الجلد الآدمي مع مراعاة مايلي:
أ - أن يكون البنك بيد الدولة أو هيئة مؤتمنة تحت إشراف الدولة.(7/209)
ب - أن يكون الاختزان للجلود الآدمية على قدر الحاجة الواقعية والمتوقعة.
ج - أن تحترم قطع الجلد التي يستغنى عنها، فتدفن، ولا تلقى في مصبّ الفضلات.
ثانياً - المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء:
المبادئ العامة
1 - يجب على كل مسلم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وبخاصة في مجال الغذاء والدواء، وذلك محقق لطيب مطعمه ومشربه وعلاجه، وإن من رحمة الله بعباده، وتيسير سبيل الاتباع لشرعه مراعاة حال الضرورة والحاجة العامة إلى مبادئ شرعية مقررة، منها: أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الحاجة تنزّل منزلة الضرورة مادامت متعينة، وأن الأصل في الأشياء الإباحة مالم يقم دليل معتبر على الحرمة، كما أن الأصل في الأشياء كلها الطهارة مالم يقم دليل معتبر على النجاسة. ولايعتبر تحريم أكل الشيء أو شربه حكماً بنجاسته شرعاً.
2 - مادة الكحول غير نجسة شرعاً، بناء على ماسبق تقريره من أن الأصل في الأشياء الطهارة، سواء كان الكحول صرفاً أم مخففاً بالماء ترجيحاً للقول بأن نجاسة الخمر وسائر المسكرات معنوية غير حسية، لاعتبارها رجساً من عمل الشيطان.
وعليه، فلا حرج شرعاً من استخدام الكحول طبياً كمطهر للجلد والجروح والأدوات وقاتل للجراثيم، أو استعمال الروائح العطرية (ماء الكولونيا) التي يستخدم الكحول فيها كمذيب للمواد العطرية الطيارة، أو استخدام الكريمات التي يدخل الكحول فيها. ولا ينطبق ذلك على الخمر لحرمة الانتفاع به.
3 - لما كان الكحول مادة مسكرة فيحرم تناولها، وريثما يتحقق مايتطلع إليه المسلمون من تصنيع أدوية لايدخل الكحول في تركيبها ولاسيما أدوية الأطفال والحوامل، فإنه لا مانع شرعاً من تناول الأدوية التي تصنع حالياً ويدخل في تركيبها نسبة ضئيلة من الكحول، لغرض الحفظ، أو إذابة بعض المواد الدوائية التي لاتذوب في الماء على ألا يستعمل الكحول فيها كمهدئ، وهذا حيث لايتوافر بديل عن تلك الأدوية.(7/210)
4 - لايجوز تناول المواد الغذائية التي تحتوي على نسبة من الخمور مهما كانت ضئيلة، ولاسيما الشائعة في البلاد الغربية كبعض الشوكولاته وبعض أنواع المثلجات (الآيس كريم، الجيلاتي، البوظة) وبعض المشروبات الغازية، اعتباراً للأصل الشرعي في أن ما أسكركثيره فقليله حرام، ولعدم قيام موجب شرعي استثنائي للترخيص فيها.
5 - المواد الغذائية التي يستعمل في تصنيعها نسبة ضئيلة من الكحول لإذابة بعض المواد التي لاتذوب بالماء من ملونات وحافظات وما إلى ذلك، يجوز تناولها لعموم البلوى ولتبخر معظم الكحول المضاف أثناء تصنيع الغذاء.
6 - المواد الغذائية التي يدخل شحم الخنزير في تركيبها دون استحالة عينه مثل بعض الأجبان وبعض أنواع الزيت والدهن والسمن والزبد وبعض أنواع البسكويت والشوكولاته والآيس كريم، هي محرمة ولايحل أكلها مطلقاً، اعتباراً لإجماع أهل العلم على نجاسة شحم الخنزير وعدم حل أكله، ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد.
7 - الإنسولين الخنزيري المنشأ يباح لمرضى السكري التداوي به للضرورة بضوابطها الشرعية.
8 - الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تحوّل المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعاً.
وبناءً على ذلك:
أ - الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتاره: طاهر وأكله حلال.
ب - الصابون الذي ينتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصيرطاهراً بتلك الاستحالة ويجوز استعماله.
ج - الجبن المنعقد بفعل إنفحة ميتة الحيوان المأكول اللحم طاهر، ويجوز تناوله.
د - المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لايجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه. أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسة.
9 -المواد المخدرة محرمة لايحل تناولها إلا لغرض المعالجة الطبية المتعينة، وبالمقادير التي يحددها الأطباء وهي طاهرة العين.
ولا حرج في استعمال جوزة الطيب ونحوها في إصلاح نكهة الطعام بمقادير قليلة لاتؤدي إلى التفتير أو التخدير.
التوصيات العامة
1 - توصي الندوة بضرورة الاستفادة من جلود وعظام الحيوانات المذكاة لاستخراج مادة الجيلاتين التي تستخدم في الغذاء والدواء، وذلك حفاظاً على الثروة الوطنية وتجنباً لشبهات استعمال مواد من مصادر غير مقبولة شرعاً.
2 - توصي الندوة المسؤولين في البلاد الإسلامية بأن تراعى في الصناعة الدوائية والغذائية الشروط والمواصفات المقبولة شرعاً من حيث المواد الخام وطرق التحضير.
3 - توصي اللجنة المسؤولين في البلاد الإسلامية بإلزام الشركات المنتجة والمستوردة للمواد الغذائية المحفوظة ببيان التركيب التفصيلي لجميع مقومات كل عبوة بشكل واضح وباللغة الوطنية.(7/211)
القِسْمُ الخامِس: الفقهُ العَّام (1)
يشتمل على ستة أبواب وهي ما يأتي:
الباب الأول - الحدود الشرعية
الباب الثاني - التعزير
الباب الثالث - الجنايات وعقوباتها: القصاص والديات
الباب الرابع - الجهاد وتوابعه
الباب الخامس - القضاء وطرق إثبات الحق
الباب السادس - نظام الحكم في الإسلام
البَاب الاوَل: الحدود الشّرعيّة
يشتمل هذا الباب على تمهيد وستة فصول وهي مايأتي:
الفصل الأول - حد الزنا
الفصل الثاني - حد القذف
الفصل الثالث - حد السرقة
الفصل الرابع - حد الحرابة
الفصل الخامس - حد الشُّرْب وحد السُّكْر
الفصل السادس - حد الردة
__________
(1) يراد بالفقه العام: ماله صلة بالدولة إما بممارسة السلطة العامة على مواطنيها كالقضاء، وإما بمباشرة علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى أو مع غير المسلمين في دار الإسلام، ويقابله «الفقه الخاص» الشامل علاقات الأفراد فيما بينهم أو بينهم وبين الله عز وجل.(7/212)
تمهيد
هدفنا: كلما نقب الإنسان في آفاق الفقه وكتب الفقهاء المسلمين، ازداد إيماناً بخلود شريعة الإسلام في تنظيم الحياة، وسلامة الفكر الإسلامي، وعبقرية الفقهاء، وعظمة الفقه، الذي لا تقتصر أحكامه على الدليل النقلي من القرآن والسنة فحسب، وإنما تتغلغل في أعماق الوجدان والعقل الإنساني لتجد لها ما يؤيدها ويدعمها حتى اليوم، ويساندها من أجل التطبيق العملي، ويشد أزرها للنهوض من جديد في حكم العلاقات الاجتماعية والمعاملات المتكررة يومياً بين الأفراد، وفي العلاقات الدولية أيضاً.
والهدف من الأخذ بأحكام الإسلام هو إقامة مجتمع إسلامي عزيز كريم نظيف آمن مطمئن، لا محل فيه لإعطاء الدنية أو الاستسلام للعدو، ولا قرار فيه للجريمة والفوضى، ولا اعتبار للشذوذ والانحراف، والفساد أو المنكر والمعصية، وذلك بقدر الإمكان، وضمن مبادئ الإسلام التي من أهمها مبدأ الستر على المعصية الخفية غير المعلنة، ومبدأ درء الحدود ـ لا التعزيرات ـ بالشبهات.(7/213)
ومما يشدنا إلى إسلامنا بحق أن الناس جربوا في عصرنا المستورد من القوانين والأنظمة، والأفكار والثقافات والمعارف المتعددة، المصطبغة كلها بصبغة مادية ضيقة أو بحتة، وآب الواعون في النهاية إلى حظيرة الإسلام ليجدوا فيه الحل الأفضل، بعد أن أفلست البضاعة المستوردة، في تقدم الفرد والجماعة، وانكشف طلاؤها المزيف بزيف الحضارة، التي أخذنا منها الساقط الحقير، وتركنا الجوهر أو النافع المفيد، فنقم الناس على تلك الأنظمة والثقافات، لما أدت إليه من إفساد الضمائر والأفكار، وزرع الشك وعدم الثقة بالنفس، واهتزاز القيم والفضائل والأخلاق، ولم تفلح في النهاية إلا في إبقائنا ضعفاء عالة على الغير، مجهولي الهوية، ليست لنا ذاتية مستقلة، إسلاماً أو عروبة، شرقاً أو غرباً.
وبدافع قوي من الشعور أو اللاشعور اتجه المجتمع إلى الإسلام ـ طريق الخلاص، ولكنهم ظلوا في فلك العبادات وحدها يعملون، فأصبحت نظم الحياة في جانب، والعبادة في جانب، فصاروا في ازدواجية وترنح وتناقض، وحيرة وملل، واضطراب جديد أقل سوءاً من البعد النهائي عن الإسلام.
ولا نجاة من تلك الازدواجية إلا بتطبيق كامل لشرعة الله في المعاملات والجنايات والحدود وغيرها، وتغيير القوانين الوضعية. وبالفعل برقت آمال في اتجاهات صادقة نحو قوانين الشريعة في دنيا العرب والإسلام لتطهير المجتمع من الرذيلة والانحراف، وإثبات الذات، ومعالجة شؤون الحياة بفكر الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ولتحطيم قيود الذل والهوان، ودحر العدوان بمختلف أشكاله، ومحاربة الاستغلال بكل أصنافه، والاعتماد على النفس، وجمع المسلمين تحت راية القرآن، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والإفادة من فقه الشريعة الذي لا يخرج عن هذين المصدرين.(7/214)
وأحسَّ كل مسلم أن سبيل العزة، ورد العدوان، وتخليص الأراضي والحقوق المغتصبة، هو بالانضمام تحت راية الجهاد المقدس لإعلاء كلمة الله تعالى، على النحو الذي وُجد به العدو، وجمَّع قواته، وقاتلنا تحت شعار مذهبه العنصري البغيض.
ومعرفة أحكام العقود، كما بان سابقاً، وتنظيم الجهاد في الفقه، وتفصيل الكلام عن الحدود والجنايات، والقضاء الإسلامي العادل، ومبادئ الحكم الإسلامي، فرع من تلك الدوحة العظيمة والثروة الكبرى لفقهنا الذي له من المكانة العالية عند كل رجال التشريع والفقه والقضاء في العالم.
ومع الأسف الشديد وصف بعض الجاهلين هذا الفقه الخصب بأنه «مجرد ركام» تأثراً منهم بحب الغرب، وشعوراً منهم بالنقص، وعدم الثقة بالنفس، وجهلاً فاضحاً بما تتطلبه الحياة من فرضيات واحتمالات كثيرة موجودة في ظل تطبيق القوانين الحالية، ويحلو لهم بعدها التطفل على موائد الغرب، وترديد ما قال (المسيو فلان والمستر فلان) متجاهلين أو تاركين عمداً ما قاله شيوخ الإسلام العظام، الذين ما زالت أفكارهم ونظرياتهم وجهودهم مرقى العظماء، ومطمح العلماء، ومأوى الفلاسفة والمفكرين.
فإلى فقه الإسلام يا جيلنا، وإلى ثروته الخصبة، وإلى ينابيعه العذبة لتغترف منها ما تراه مناسباً لعصرك، فالله يسَّر لك الطريق باختيار السمح السهل من الأحكام، وزودك باليقين الصادق والعقل الناضج والحس المرهف لأخذ الصالح، وكشف الحق في مهاده، وقمع الباطل في وهاده. وحينئذ تعلم أن رفع راية الإسلام تتطلب تهيئة أرضية صلبة لها، من الواقع العملي المتمثل بالفقه الإسلامي، والفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية البناءة؛ لأن الدعوة ليست مجرد عاطفة تؤجج، أو هيكل فارغ المضمون والمحتوى والمنهج. وإعداد هذه الأرضية إنما هو من أجل ضمان بقاء هذه الدعوة، حتى لا تهتز أمام تحرك العواصف الهوجاء، أو تدابير الأعداء.(7/215)
ففي فقه الإسلام بكل مذاهبه إذن دليل على صلاحية الإسلام للتطبيق في كل عصر، وطريق لتحقيق تماسك الشخصية الإسلامية، فهو عامل بناء وتجميع وتوحيد لا تفريق وتمزيق كما يرى السطحيون، وأما اختلاف الفقهاء فليس إلا في الفروع والجزئيات الاجتهادية لا في الأصول والغايات، لكن ما أشد الحاجة حينئذ لعرض الفقه بأسلوب سهل حديث مدعم بالدليل الصحيح، لموازنة الآراء الفقهية، وتعرف سبل الترجيح بينها، أو اختيار الأصلح المناسب للزمن منها.
وهذا ما حاولت فعله في إعداد هذا الكتاب، بعد بذل جهود ـ الله أعلم بها ـ لتحقيق كل رأي فقهي، ومعرفة حكم كل مسألة في متاهات الكتب القديمة، رجاء تحقيق النفع به والإفادة منه.
تعريف الحد:
الحد في اللغة: المنع، ولذا سمي البواب حداداً لمنعه الناس عند الدخول، وسميت العقوبات حدوداً، لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها، وحدود الله: محارمه؛ لأنها ممنوعة، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187/2] وحدود الله أيضاً: أحكامه أي ما حده وقدره، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان، وسميت حدوداً؛ لأنها تمنع عن التخطي إلى ما وراءها، بدليل قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229/2] .
والحد في الشرع في اصطلاح الحنفية: عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى، فلا يسمى التعزير حداً؛ لأنه ليس بمقدر، ولا يسمى القصاص أيضاً حداً؛ لأنه وإن كان مقدراً، لكنه حق العباد، فيجري فيه العفو والصلح، وسميت هذه العقوبات حدوداً؛ لأنها تمنع من الوقوع في مثل الذنب.
والمراد من كونها حقاً لله تعالى: أنها شرعت لصيانة الأعراض والأنساب والأموال والعقول والأنفس عن التعرض لها (1) . غير أن بعض هذه الحدود كحد
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 9 ص 36، فتح القدير: 4 ص 112، البدائع: 7 ص 33، تبيين الحقائق للزيلعي: 3 ص 163، حاشية ابن عابدين: 3 ص 154، مغني المحتاج: 4 ص155.(7/216)
الزنا وشرب الخمر حق خالص لله تعالى، أي حق للمجتمع، وبعضها الآخر مثل حد القذف فيه حق لله، وحق للعبد، أي أنه يشترك فيه الحق الشخصي والحق العام (1) .
والحد في اصطلاح الجمهور غير الحنفية: عقوبة مقدرة شرعاً، سواء أكانت حقاً لله أم للعبد.
والحدود أنواع: حد الزنا وحد القذف وحد السرقة وحد الحرابة أو قطع الطريق وحد شرب الخمر ونحوه، قال الحنفية: الحدود خمسة: وهي حد السرقة وحد الزنا وحد الشرب وحد السُكْر وحد القذف (2) . أما قطع الطريق فهو داخل تحت مفهوم السرقة بالمعنى الأعم، ويضاف إليها لدى غير الحنفية حدان آخران وهما حد القصاص وحد الردة، فيصبح مجموع الحدود سبعة في رأي هؤلاء باعتبار أن الحد هو عقوبة مقدرة حدها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، وباعتبار أن الحد يشمل في الأصح ما كان من حقوق الله تعالى، وما كان من حقوق الناس، ومنها القصاص.
وعلى هذا يكون لدينا اصطلاحان في الحدود:
أولهما ـ مذهب الحنفية المشهور: وهو تخصيص الحد بالعقوبة المقدرة المقررة حقاً لله تعالى، أي لصالح الجماعة، وهي خمسة أنواع ذكرتها، بإدخال حد الحرابة في حد السرقة، والتفرقة بين حد الخمر (ماء العنب النيء المتخمر) وحد السكر للأشربة المسكرة المتخذة من غير العنب كالشعير والذرة والعسل ونحوها.
وثانيهما ـ مذهب الجمهور غير الحنفية: وهو إطلاق لفظ الحد على كل عقوبة
__________
(1) الجريمة والعقوبة لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة: ص 64 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق.(7/217)
مقدرة، سواء أكانت مقررة رعاية لحق الله تعالى أم لحق الأفراد، وهي سبعة أنواع، منها القصاص وحد الردة. وسأذكر هذه الأنواع السبعة مبيناً أن جرائم الحدود ثمانية: وهي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي (1) : الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة وهي: القتل والجرح، والزنى، والقذف، وشرب الخمر، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام.
ويلاحظ أن الجناية هي الجريمة في اصطلاح الفقه الإسلامي. قال الماوردي (2) : الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، كما يلاحظ أن عقوبة الزندقة والمذكور بعدها هنا هي القتل، كعقوبة الردة. وقد أفردت الجنايات ببحث مستقل؛ لأن الكلام عنها لدى فقهائنا لا يقتصر على ما يوجب القصاص الذي هو حدٌ عند الجمهور، وإنما يشمل بحث الديات والاعتداء على الحيوان، وكيفية التعويض عن الأضرار الناجمة من سقوط الحائط أو البناء، وطرق إثبات الجناية.
الحكمة من تشريع الحدود:
إن الحكمة من هذه الحدود أو العقوبات: هي زجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم، وصيانة المجتمع عن الفساد، والتطهر من الذنوب، قال ابن تيمية: «من رحمة الله سبحانه وتعالى أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 344، ط فاس.
(2) الأحكام السلطانية: ص 211.(7/218)
الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه» (1) .
وتطبيق الحدود يتطلب أموراً أربعة:
أولها ـ الإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً.
وثانيها ـ تطبيق شريعة الله في جميع أحكامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وثالثها ـ الإدراك العقلي والتجريبي بفائدة الحدود.
ورابعها ـ الحرص على مصلحة الجماعة وتفضيلها على مصلحة الفرد.
هل في قطع اليد تعذيب وقسوة وتنكيل؟ إن في تطبيق عقوبة القطع زجراً مناسباً للمجرم ولأمثاله في المجتمع، فهو رحمة بالناس عامة، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون حدي السرقة والحرابة رقم 148 لسنة 1972م الصادر في ليبيا ما يأتي: ولقد يحلو لبعض المرتابين والمتشككين أن يصفوا عقوبة القطع (أي في حدي السرقة والحرابة) بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة. وهؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة ويتناسون فظاعة الجريمة وآثارها الخطيرة على المجتمع، إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهولهم جريمة
__________
(1) راجع رسالته في القياس: ص 85، والسياسة الشرعية له: ص 98، وانظر مثل ذلك في قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 163/1-165 ومثله أيضاً قول ابن القيم في أعلام الموقعين: 95/2، 107 وما بعدها.(7/219)
السرقة ومضاعفاتها الخطيرة، كم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة، كم من جرائم اعتداء على الأشخاص وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، كم من أموال اغتصبت وثروات سلبت وأناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم ومصدر رزقهم، كل ذلك لا يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة في سبيل أمن المجموع واستقراره، فيكون الهدف من إقامة الحدود توفير سلامة المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره ومنع كل ما يهدد المصالح الكبرى للأمة.
ألا يتساءل هؤلاء، أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام، وتختفي السرقة، ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم، أم يحبس ويسجن ويحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة والمؤبدة في جريمة السرقة وحدها، في أغلب الدول، عشرات الآلاف كل عام، ثم لا تنقضي السرقة، بل تزداد وتتنوع وتستفحل، فما زلنا نسمع عن مصارف بأسرها تسرق، وقطارات تنهب في وضح النهار، وخزائن تسلب، وجرائم على الأموال تصحبها جرائم على الأشخاص والأعراض لا تقع تحت حصر، ولا يكاد يلاحقها علم ولا فن ولا سلطة.(7/220)
ثم إن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة، فاسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف. والعقاب الناجح هو ذلك الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة. ثم إن المشرعين الوضعيين لم يستغلظوا عقوبة الإعدام بالنسبة إلى بعض الجرائم الخطيرة، وما من شك في أن هذه العقوبة أشد من عقوبة القطع في السرقة والحرابة، فالعبرة إذن بالعقوبة المناسبة والفعالة في مقاومة الجريمة. والحقيقة التي لا مراء فيها أن قطع يد سارق أو عدو معدود من السراق أهون كثيراً من ترك السرقة ترتع في المجتمع تروع الآمنين بما تفضي إليه من العديد من الجرائم والمنكرات.
ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود، عاش آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه، حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه. وقد كانت الحجاز ـ بل وسائر الجزيرة العربية ـ مرتعاً خصباً لأشنع جرائم السرقة وقطع الطريق، حتى على حجاج بيت الله الحرام رجالاً ونساء، فلم يكن يعود إلى بلده منهم إلا النزر اليسير. فما أن طبقت الحجاز ـ أي الدولة السعودية ـ هذين الحدين حتى استتب الأمن وانقطعت السرقات، وانهارت عصابات قطع الطريق، حتى أصبحت البلاد مضرب المثل المستغرب في انقطاع دابر جريمتي السرقة وقطع الطريق، بالرغم من أن ما قطع من الأيدي منذ تطبيق الحدود لا يمثل إلا عدداً ضئيلاً جداً لا يوازي ما كان يقطعه قطاع الطريق من رقاب الأبرياء في هجمة واحدة. ويذكر أن عدد الأيدي التي قطعت في المملكة السعودية ستة عشر يداً خلال أربعة وعشرين عاماً.(7/221)
ومما تقدم جميعه يتضح أن القسوة التي تتسم بها عقوبة القطع في السرقة والحرابة، هي في الواقع رحمة عامة بالمجتمع في مجموعه حتى يتخلص من شرور هاتين الجريمتين، وأخطارهما الوبيلة، فإن التضحية بعدد محدود جداً من الأيدي والأرجل بالنسبة لأناس آثمين خارجين على حكم الله، أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء في أرواحهم وأبدانهم وثرواتهم.
بل إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في مهاوي الإجرام، فهي شدة في نطاق محدود، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة إلى المجتمع الواسع العريض، كيف لا، وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، أليس الله هو القائل: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام:54/6] وهو الرحمن الرحيم حيث نذكر الله في كل وقت وحين. والرسول يقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن» (1) ، بل أمرنا بالشفقة على الحيوان. وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تحمل أحكامها في الحدود على محمل الشدة والقسوة، وإنما هي رحمة بالناس في مجموعهم. والنظر إلى أثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل، هو نظر مقلوب ومعكوس. ويكاد أن يكون نظراً مغرضاً ومريباً؛ لأن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بلفظ «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، والرحمة شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» وشجنة: عروق الشجر المشتبكة.(7/222)
ومع ذلك فلا يغرب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات. ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفادياً لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هاتيك الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن. بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد ـ بأصوله الشرعية ـ أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن، قلت أم كثرت. وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض.
ومما يجب الانتباه له أن الإسلام قبل تشريع الحدود، شرع تشريعات واقية من
الوقوع في الجريمة، فأمر بالستر والحجاب ونهى عن الاختلاط والخلوة بالمرأة، وأمر بالتبكير في الزواج، ومنع كل وسائل الإغراء والفتنة، ووفر للإنسان حاجياته بتهيئة فرص العمل، وتكافل المجتمع عند العجز والتعطل ورغّب في العمل، وجعل التكافل سبيلاً للتوجه نحو العمل والإنتاج، لا الإبقاء في دائرة العوز والكسل والاعتماد على الآخرين.
الفرق بين الحدود والتعازير:
ذكر القرافي المالكي عشرة فروق بين الحدود والتعازير وهي ما يأتي (1) :
1 ً - التقدير: إن عقوبات الحدود والقصاص مقدرة مقدماً في الشرع للجرائم الموجبة لها، وليس للقاضي تقدير العقوبة بحسب ظروف المجرم أو ظروف الجريمة. أما عقوبات التعزير فمفوض تقديرها إلى القاضي، يختار العقوبة المناسبة بحسب ظروف المتهم وشخصيته وسوابقه ودرجة تأثره بالعقوبة، ودرجة ظروف الجريمة وأثرها في المجتمع.
__________
(1) الفروق: 177/4-183.(7/223)
لكن يلاحظ أن إعطاء هذه السلطة التقديرية للقاضي في التعزير مقيد بضوابط أهمها اختيار ما يراه مناسباً من العقوبات المشروعة في التعزير، للحالات التي تعرض عليه، وتعتبر من المعاصي. فضلاً عن أن القاضي المسلم يجب أن يكون في غاية العدالة والورع، وينبغي أن يكون عند المالكية والشافعية والحنابلة بالغاً رتبة الاجتهاد. وبه يتبين أن سلطته ليست تحكمية لا ضابط لها، أو ليس فيها ضمانات للمتهمين، أو أن المتهم قد يضار بها، حتى بخطأ القاضي أو بجهله، إن لم يكن بميله وظلمه (1) . ومع ذلك فلا بأس بتقنين العقوبات واعتماد الدولة نظاماً محدداً للجرائم والعقوبات التعزيرية، فإن أصل التفويض في تقدير التعزير هو للإمام أي رئيس الدولة إذا كان مجتهداً، وتصدى للقضاء، فإذا ناب عنه قضاة متخصصون، تقيدوا بما يقيدهم به من أنظمة وقواعد.
هذا وقد اتفق الفقهاء على عدم تحديد أقل التعزير، ولكنهم اختلفوا في تحديد أكثره، فقال المالكية: هو غير محدود، بدليل إجماع الصحابة على أن معن بن زائدة (1) زوركتاباً على عمر رضي الله عنه، ونقش خاتماً مثل خاتمه، فجلده مئة، فشفع فيه قوم، فقال: أذكروني الطعن، وكنت ناسياً، فجلده مئة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مئة أخرى، ولأن الأصل مساواة العقوبات للجنايات، ولأن الخليفة عمر ابن عبد العزيز رحمه الله قال: تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور.
وقال أبو حنيفة: لا يجاوز بالتعزير أقل الحدود، وهو أربعون جلدة (حد العبد في الخمر والقذف) بل ينقص منه سوط واحد.
__________
(1) رسالة التعزير للدكتور عبد العزيز عامر: ص 50.
(2) يظهر أنه معن بن أوس، وهو غير معن المشهور بحلمه، وهوغير صحابي أيضاً.(7/224)
وللشافعي قولان: أصحهما كرأي أبي حنيفة. وسأوضحه في بحثه أيضاً، ودليلهم خبر في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تجلدوا فوق عشر، في غير حدود الله تعالى» (1) وقد أجيب عن هذا الحديث بسبب تقرير هؤلاء الفقهاء الزيادة على عشرة أسواط بأنه محمول على التأديب للمصالح، الصادر من غير الولاة كالسيد يضرب عبده، والزوج يضرب زوجته، والأب يضرب ولده. أو أن المراد به جلد غير المكلفين كالصبيان والمجانين والبهائم.
وقال الحنابلة (2) : لا يبلغ بتعزير الحر أدنى حدوده، إلا فيما سببه الوطء، فيجوز أن يبلغ بالتعزير عليه في حق الحر مئة جلدة بدون نفي. وقيل: لا يبلغ المئة، بل ينقص منه سوطاً، ويجوز النقص منه على ما يراه السلطان.
2ً - وجوب التنفيذ: الحدود، والقصاص إذا لم يكن عفو من ولي الدم واجبة التنفيذ على ولاة الأمر، فليس فيها عفو ولا إبراء ولا شفاعة ولا إسقاط لأي سبب من الأسباب.
وأما التعزير فمختلف فيه، فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد (الجمهور) : إن كان التعزير لحق الله تعالى وجب تنفيذه كالحدود، إلا أن يغلب على ظن الإمام أن غير الضرب من الملامة والكلام يحقق المصلحة، أي أن التعزير، إذا كان من حق الله تعالى، لا يجوز للإمام تركه، لكن يجوز فيه العفو والشفاعة إن رئيت في ذلك المصلحة، أو كان الجاني قد انزجر بدونه.
أما التعزير الذي يجب حقاً للأفراد، فإن لصاحب الحق فيه أن يتركه بالعفو أو بغيره، وهو يتوقف على رفع الدعوى إلى القضاء، لكن إذا طلبه صاحبه لا يكون لولي الأمر فيه عفو ولا شفاعة ولا إسقاط.
وقال الشافعي: التعزير غير واجب على الإمام، إن شاء أقامه، وإن شاء تركه، بدليل ما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يعزر الأنصاري الذي قال له في حق الزبير في أمر السقي: أن كان ابن عمتك؟! يعني فسامحته (3) ، ولأن
__________
(1) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي بردة بلفظ: «لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى» (نيل الأوطار: 149/7) .
(2) القواعد لابن رجب: ص 311، المغني: 324/8.
(3) راجع نيل الأوطار: 307/5، أعلام الموقعين: 99/2، جامع الأصول: 565/9، والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الزبير.(7/225)
التعزير غير مقدر، فلا يجب كضرب الأب والمعلم والزوج (1) .
وأساس الخلاف بين الحدود والتعازير في هذا: أن الحدود خالصة لله تعالى، وأن القصاص من حق الأفراد، فيجوز لهم العفو عنه، وأن التعزير منه ما هو من حق الله تعالى، ومنه ما هو من حق الأفراد.
3 ً - الاتفاق مع الأصل أو القاعدة العامة: إن التعزير موافق الأصل أو القاعدة العامة التي تقرر ضرورة اختلاف العقوبة باختلاف الجريمة. أما الحدود فلا تختلف باختلاف جسامة الجريمة، بدليل تسوية الشرع في السرقة بين سرقة القليل كدينار، وسرقة الكثير كألف دينار، وفي شرب الخمر سوَّى الشرع في الحد بين شارب القطرة، وشارب الجرة مثلاً. وفي القصاص سوى بين قتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل وقتل الوضيع، وهكذا.
4 ً - وصف الجريمة بالمعصية وعدمها: إن التعزير تأديب يتبع المفاسد، وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور كتأديب الصبيان والبهائم والمجانين استصلاحاً لهم، مع عدم المعصية.
أما الحدود المقدرة فلم توجد في الشرع إلا في معصية، عملاً بالاستقراء.
5 ً - سقوط العقوبة: إن التعزير قد يسقط، وإن قلنا بوجوبه، كما إذا كان الجاني من الصبيان، أوا لمكلفين إذا جنى جناية حقيرة، لا تحقق العقوبة فيها المقصود، لعدم كون العقوبة الخفيفة رادعة، ولعدم إيجاب العقوبة الشديدة، أما الحد فلا يسقط بعد وجوبه بأي حال.
__________
(1) ورد على الاستدلال بالحديث بأن التعزير حق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فله تركه، بخلاف حق الله تعالى لايجوز تركه، وكذلك رد على الاستدلال بأنه غير مقدر: بأن غيرالمقدر قد يجب كنفقات الزوجات والأقارب ونصيب الإنسان في بيت المال.(7/226)
6 ً - أثر التوبة: إن التعزير يسقط بالتوبة، دون أن يعلم فيه خلاف. أما الحد كما سأبين فلايسقط بالتوبة على الصحيح عند جمهور العلماء غيرالحنابلة، إلا الحرابة لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34/5] .
7 ً - التخيير: التخيير يدخل في التعازير مطلقاً، ولا يدخل في الحدود، إلا في الحرابة.
8 ً - مراعاة الظروف المخففة: إن التعزير يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه، والجناية، أي أنه يختلف باختلاف الأشخاص والجريمة، فلا بد في عقوبة التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه. أما الحدود فلا تختلف باختلاف فاعلها، وليس للظروف المخففة أي أثر على جرائم الحدود والقصاص. ويلاحظ أن هذا متمم للفرق الأول.
9 ً - مراعاة مكان الجريمة وزمانها: إن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرب تعزير في بلاد يكون إكراماً في بلد آخر.
10 ً - حق الله وحق العبد: يتنوع التعزير نوعين: فمنه ما هو مقرر، رعاية لحق الله تعالى، كالاعتداء على الصحابة أو القرآن ونحوه من انتهاك الحرمات الدينية. ومنه ما هو مقرر رعاية لحق العبد، أي الحق الشخصي، كشتم فلان وضربه ونحوه.
أما الحدود فكلها عند أئمة المذاهب حق لله تعالى، إلا القذف ففيه خلاف، كما سيأتي بيانه. ومن الفروق عند الشافعي بين الحد والتعزير: أن ما يحدث عن الحد من التلف هدر، لكن إن حصل تلف من التعزير فإنه يوجب الضمان بدليل فعل عمر حينما استدعى امرأة حاملاً فخافت منه فألقت جنيناً ميتاً، فشاور علياً في الأمر فألزمه بدية الجنين، قيل: على عاقلة ولي الأمر. وقيل: إنها تكون في بيت المال.
وأما عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، فلا ضمان مطلقاً، فمن حده الإمام أو عزره فمات من ذلك، فدمه هدر؛ لأن الإمام في الحالتين مأمور بالحد والتعزير، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة (1) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 355/4، رد المحتار لابن عابدين: 196/3 وراجع رسالة التعزير: ص 51 ومابعدها.(7/227)
السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع
تمهيد:
إن نظام الشريعة في تبيان الحرام والمحظور، وفي الحملة الشديدة على مرتكبي المنكرات والفواحش في القرآن والسنة، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأييد الأحكام الأصلية بالمؤيدات المدنية كالبطلان والفساد في العقود والمعاملات، والجزائية كالحدود والتعزيرات من توبيخ وحبس وضرب غير مهين ولا مشين، إن ذلك كله ساهم مساهمة بناءة في إقامة المجتمع الإسلامي النظيف الذي تقل فيه الجرائم، ويمتنع فيه إلى حد كبير شيوع الكبائر.
وقد أكد سلامة هذا النظام وكفاءته واقع الأمة الإسلامية في عصورها المتلاحقة بنحو إجمالي لا تفصيلي، فإنها بالمقارنة مع الأمم الأخرى والدول المتحضرة المعاصرة التي تقع فيها جريمة أو جريمتان كل ثانية، تعد أقل الأمم نزعة إلى الإجرام، والنسبة الإجرامية فيها أقل النسب إحصائياً، ما دامت متمسكة بدينها، ملتزمة بأخلاقها الإسلامية الرصينة، متبعة هدي القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، باستثناء وقائع فردية لشذوذ أو جهالة أو بدائية، أو دوافع عصبية سياسية لم يتوافر لها التكوين الإسلامي الصحيح، والتربية والثقافة الدينية الرادعة الكافية. ويمكن لكل مطلع على هذا البحث وهو (السياسة العقابية في الإسلام وأثرها الإصلاحي في المجتمع) تكوين قناعة كافية بصدق هذه الحقيقة الواقعية وإدراك سلامتها ونقائها، من خلال المبادئ النظرية والواقع العملي في البلاد التي تطبق فيها أحكام الشريعة.(7/228)
وخطة البحث كما يلي:
أولاً: مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني.
ثانياً: أصول السياسة العقابية أو الجنائية الإسلامية.
ثالثاً: أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي.
رابعاً: أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة.
خامساً: تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية: الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام.
سادساً: مبادئ العقاب في الشريعة ومالها من أثر في تخفيف الجريمة.
سابعاً: الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة.
ثامناً: العقوبات وحقوق الإنسان في الإسلام.
تاسعاً: شرعية الجريمة والعقوبة أو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام.
عاشراً: موانع العقاب وموانع المسؤولية، وأسباب الإباحة، وإنسانية العقوبة.
حادي عشر: الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام.(7/229)
أولاً - مفاهيم عامة عن الجريمة وأوضاعها في العصر الحاضر بسبب غيبة الوازع الديني:
الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة ومستمرة ومتطورة، ولها تأثيرات ضارة ومؤذية وهي في مفهوم الناس سلوك شاذ يحظره قانون الدولة، ويرتب له جزاء، أو هي الخروج على أوامر قانون العقوبات ونواهيه (1) . ويتطور مفهوم الجريمة من زمن لآخر، ومن مجتمع لآخر في الزمن الواحد. والجريمة هي الجناية بالمعنى الخاص في اصطلاح الفقه الإسلامي، قال القاضي الماوردي: الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير (2) . والمحظور إما إتيان منهي عنه أو ترك مأمور به. والجناية بالمعنى العام: هي كل فعل محرَّم شرعاً، سواء وقع الفعل على نفس أو مال أوغيرهما. وهذا هو معنى الجريمة عند أغلب القانونيين، فإنهم صوروها بأنها كل فعل ينهى عنه القانون ويفرض له عقوبة.
والظاهرة الإجرامية إحدى سمات المجتمعات بسبب الصراع على إشباع حاجات الأفراد غير المتناهية. ووجدت فكرة الجزاء بالفطرة في كل جماعة إنسانية، وإن اختلفت صورته، أو تباينت وجهات النظر في تحديد أهداف العقوبة
__________
(1) الجريمة والتنمية للدكتور حسني درويش عبد الحميد: ص 13، 15، قانون العقوبات القسم العام للدكتور عمر السعيد رمضان: ص 35.
(2) الأحكام السلطانية: ص 211، ط صبيح.(7/230)
بالانتقام من الجاني، أو تطبيق العدالة، أوإصلاح المتهم وتهذيبه (1) . والواقع أن الهدف من العقوبة مجموع هذه الأمور، فإن الجزاء للردع والتخويف، وللإصلاح والتهذيب معاً، ولإرضاء الشعور بالعدالة في ضمير المجتمع، وقد أدى التطور أخيراً إلى اعتبار العقوبة وسيلة دفاع عن المجتمع من خطر الجريمة، فالعقوبة بمعناها الحديث تؤدي وظيفتها الدفاعية عن المجتمع في لحظات ثلاث: اللحظة التشريعية: أي عند سن قانون العقوبات لإظهار الخشية من العقاب، واللحظة القضائية: أي عند إصدار الحكم بالعقوبة، لحماية المجتمع من جرائم جديدة تحدث فيه لو لم تلق الجريمة جزاءها، واللحظة التنفيذية: أي عند توقيع العقوبة المحكوم بها لإصلاح الجاني عن طريق إيلامه، حتى لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى، وللجرائم أنواع كثيرة من الناحية الاجتماعية، فهناك جرائم ضد الممتلكات كالسرقة وتسميم الماشية، والحريق، وجرائم ضد النفوس والأفراد، كالضرب والقتل وهتك العرض، وجرائم ضد النظام العام، كجرائم أمن الدولة والتخريب والتجسس، وجرائم على الدين وأهله كالاعتداء على أماكن العبادة وعلى المصلين، وجرائم على الأسرة كإهمال الأطفال والزنا والخيانة الزوجية، وجرائم ضد الأخلاق كالأفعال الفاضحة الجارحة للحياء في الأماكن العامة (2) .
وتنوعت الجرائم وتفنن المجرمون فيها في العصر الحاضر، فارتكبوا جرائم لاتكاد تخطر على بال، كاغتصاب المرأة وهي تسير في شارع عام، وخطف الأطفال والنساء للبيع، وهو الرقيق الأبيض، ذكرت وكالة رويتر أن ضابطاً كبيراً في قوة حرس الحدود في بنغلاديش قال: إن أفراد الحرس أنقذوا حوالي (60) رجلاً وامرأة وطفلاً من البيع خارج البلاد للعمل في البغاء واستخدامهم كمصادر
__________
(1) الإجرام والعقاب في مصر للدكتور حسن المرصفاوي: ص 231.
(2) الجريمة والتنمية، المرجع السابق: ص 21-22.(7/231)
لعمليات زرع الأعضاء البشرية. وقد تقدمت الحكومة في (1988/7/1) بمشروع قانون إلى البرلمان يقضي بإعدام بائعي بنات حواء (1) . وتصاعدت عملية الاتجار بالأطفال، فهناك مليون طفل يخطفون ويباعون سنوياً في العالم (2) ، ويوجد في الكيان الصهيوني اليوم 2000 طفل برازيلي مخطوفين، تزودهم لإسرائيل (16) عصابة تقوم بدراسة عمليات خطف الأطفال. وتعيش فرنسا من عدة أشهر في عامي (87) ، (1988) ظاهرة اجتماعية خطيرة هي ظاهرة خطف الفتيات دون العاشرة من الأماكن العامة لاغتصابهن ثم قتلهن بصورة وحشية (3) ، وبدأت فئات كثيرة تنادي بإعادة عقوبة الإعدام.
وكثر تعاطي المخدرات والإدمان عليها، حتى ارتفع عدد ضحاياها في إيطاليا مثلاً إلى (500) قتيل من جراء الإدمان، وكشفت إحصائية لمنظمة الصحة العالمية في عام (1985) عن وجود (32) مليون مدمن في العالم، وطالب مفتي مصر بإعدام تجار المخدرات علانية أمام الشعب في الساحات العامة، للعظة والعبرة والزجر بسبب شيوع المخدرات في مصر (4) .
وتزايدت نسبة الجرائم في بريطانيا، وكذا في المجتمع الأمريكي من قتل وسرقة واغتصاب واعتداء، حتى بلغت في أمريكا أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه بين (1950، 1964) بسبب الرخاء والازدهار الاقتصادي في كل من مدينة نيويورك وأطلنطا وبوسطن، وتفشت ظاهرة المخدرات في أوربا وآسيا وأفريقيا، وكثر المصابون بالإيدز أو الشذوذ الجنسي، حتى بلغ عددهم في العالم
__________
(1) جريدة البيان في الإمارات بتاريخ 1988/7/2م.
(2) جريدة الاتحاد في الإمارات بتاريخ 1988/6/23م.
(3) جريدة الاتحاد المرجع السابق بتاريخ 88/4/30، و 1988/10/3م.
(4) جريدة الفجر في الإمارات بتاريخ 1988/9/22م، الاتحاد 1988/10/8م.(7/232)
أكثر من عشرة ملايين من الذكور والإناث (1) . وزادت نسبة جرائم النهب والسلب في بريطانيا في عام (1987) بنسبة (12%) وبلغت (000،45) جريمة، بسبب زيادة معدل الرخاء، وغيبة الوازع الديني، فإن المدنية الحديثة البعيدة عن هدي الله والدين وتعاليمه أفرزت مثل هذه الظواهر الإجرامية الشاذة، كما أفرزت فلسفات مادية منحدرة، وكلها تؤذن بتدمير وتخريب معالم الحضارة الحديثة القائمة على مجرد المادة، وتغفل جانب الأخلاق والدين والقيم الإنسانية، والخروج عن مبادئ العدالة والمساواة. ومثال ذلك: يعتبر عدد السجناء الذين ينتظرون الموت في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى رقم سجل في ذلك البلد عام (1986) ، ويتزايد معدل تنفيذ الإعدام بصورة مستمرة، وتشير الأدلة إلى أن استخدام عقوبة الإعدام في أمريكا يقوم على أساس تعسفي ومتحيز عنصرياً وغير عادل، ويشمل من ينتظرون الموت رجالاً ونساء، مرضى عقليين أو متخلفين عقلياً، وأشخاصاً ما زالت أعمارهم أقل من (18 عاماً) ، أو كانت أعمارهم أقل من (18 عاماً) عندما ارتكبوا جرائمهم، ونصف هؤلاء تقريباً من السود، والكثير منهم قد أدين بموجب سلطات قضائية، وجسدت الدراسات أن تطبيق عقوبة الإعدام فيها قائمة على التمييز العنصري (2) .
وتقدم العلوم والفنون لم يكن سبباً لمنع الجرائم؛ لأن الغالب على العلوم المعاصرة الصبغة المادية المحضة، البعيدة في الأكثر عن النزعة الإنسانية، أما العلوم الإنسانية فهي التي تهذب المشاعر، وتقوّم الطبائع، وتقلّل الجرائم، ولكن دورها في الحياة الحاضرة والحضارة المادية الحديثة ضعيف التأثير في الغالب، مع أن الشأن في العلم أو المعرفة أن يكون طريقاً لانخفاض معدل الجرائم، وإذا وجد الجهل ارتفعت نسبة الجرائم.
__________
(1) المجلة العربية للدراسات الأمنية في الرياض، شهر ذي الحجة 1406هـ الموافق شهر آب «أغسطس» عام 1986م. ص 106.
(2) نشرة منظمة العفو الدولية عام 1986: ص1.(7/233)
ثانياً - أصول السياسة العقابية أوالجنائية الإسلامية:
إن استراتيجية منع الجريمة وقيامها بوظيفتها تتطلب في رأي فلاسفة القوانين الوضعية تحقيق أهداف السياسة الجنائية، وضرورة تميزها بالخصائص التالية:
1 - الشمول: بمعنى أن تطبيق الاستراتيجية على جميع مجالات السياسة الجنائية بالتجريم والعقاب والمنع.
2 - متكاملة: بمعنى أن تتفق مع الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
3 - عملية: بمعنى قيام الاستراتيجية على منهج عملي، فينظر مثلاً في مدى فاعلية العقوبات السالبة للحرية من حبس وسجن مع الأشغال الشاقة في تحقيق غاية معينة هي تأهيل المجرم للحياة الاجتماعية (1) .
ونحن نلاحظ أن هذه الخصائص كلها مرعية في نظام السياسة العقابية في الإسلام، أما الشمول فكل المجالات الجنائية للحياة المعاصرة تستوعبها أنظمة التحريم والحظر والمنع والتجريم والعقاب، فما من أمر ضارّ بمصلحة الفرد والجماعة إلا وقد حرَّمته الشريعة وعاقبت عليه إما بعقاب أخروي أو دنيوي. وأما التكامل، فإن أنظمة التجريم والعقاب في الإسلام تحقق جميع الأهداف المرجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مثل عقوبات البغاة وقطاع الطرق والزنى والقذف والاعتداء على الأموال والأشخاص بالسرقة والخطف والاغتصاب والاختلاس والنهب والحريق ونحو ذلك.
__________
(1) الجريمة والتنمية، د/ حسني درويش: ص 89.(7/234)
وأما الهدف العملي من العقوبة فواضح من خلال تطبيقها إذا التزمت ضوابط الشريعة وآدابها في التنفيذ والرقابة والرعاية والتوجيه، ومحاولات الإصلاح المتكررة في السجون بأساليب مختلفة تشمل الوعظ والإرشاد، والتشغيل وإيقاظ الضمير، والإحساس بمخاطر الجريمة، فإن كثيراً من السجناء ما عدا زمرة شاذة كان السجن مثلاً في الجرائم التعزيرية وسيلة لصلاحهم وعودتهم أسوياء ومواطنين صالحين، استقاموا على منهج الحياة الصحيحة.
وفضلاً عن ذلك فإن للسياسة الجنائية الإسلامية مجالاً آخر يتمثل في أسلوب المنع والوقاية من الجريمة قبل وقوعها، بواسطة نظام الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في جميع مرافق الحياة، وبخاصة في الأسواق العامة، كما أن اتباع أساليب الدين وأحكامه الشرعية والاهتداء بهديها في العبادات والمعاملات والأخلاق، ووعظ الناس بتعاليم دينهم، وإرشادهم إلى الطريق السوي، والاعتماد على عناصر الترغيب والترهيب بآي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، كل ذلك سيؤدي حتماً إلى صلاح المجتمع والأفراد، ويقلل من عدد الجرائم المرتكبة، لما له من أثر ملحوظ في التربية والثقافة والتهذيب الأخلاقي والاجتماعي، وتقويم الانحراف، والدفع الإيجابي إلى حياة أفضل وأقوم.(7/235)
ثالثاً - أنواع الأحكام الشرعية ودورها الوقائي والعلاجي:
يلاحظ أن الأحكام الشرعية نوعان: أحكام أصلية وأحكام مؤيدة أو زجرية، أما الأحكام الأصلية الأساسية فهي التي تكوّن نظام الشريعة الأصلي في دائرة الإيجاب والمنع، والقصد من المنع وقاية الإنسان من المحظورات التي يترتب على اقترافها ضرر واضح في الدين أو النفس أو المال أو العقل أو العرض، فكان تحريم الحرام لاتقاء الإضرار والأذى، وليس لأغلب المحرّمات عقاب دنيوي، وإنما العقاب عليها أخروي، فالشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف من السبع الموبقات أو الكبائر لا عقاب عليها في الدنيا، إلا إذا رأى الحاكم مصلحة في ذلك بسبب الإخلال بالنظام الاجتماعي، وكذلك في مجال العبادات قد يرتكب الإنسان فيها الحرام، كالصلاة من غير طهارة، والصيام مع الغيبة والنميمة، والحج مع الرفث والفسوق (الكلام الفاحش) والزكاة باختيار رديء المال، ولاعقوبه عليه.
وفي المعاملات: قد يقع الإنسان في غش أو غبن أو استغلال أو ظلم، وقد يحتكر أو يغصب، أو يغرر بآخر، أو يبيع على بيع أخيه ولا يعاقب في الدنيا، وفي العلاقات الدولية قد ينقض الحاكم المعاهدة من غير مسوغ شرعي، ولا يعاقب على فعله، وفي المواريث والحقوق العامة قد يجور أحد الورثة فيأخذ شيئاً من التركة، وقد يأخذ المجاهد شيئاً من الغنيمة من غير حق، ولايعجل له عقاب في الدنيا، وفي الأحوال الشخصية قد يلحق الرجل ضرراً بالمرأة، وقد يعضلها (يمنعها) عن الزواج من كفء وقد يخطب على الخطبة ولا يعاقب، وفي دائرة الأخلاق الاجتماعية قد يقع الإنسان في الغيبة والنميمة وقد يسعى ببريء ظلماً إلى حاكم، ولا عقاب على ذلك في الدنيا ما لم ينكشف أمره.(7/236)
وعدم العقاب الدنيوي لا يعني الإباحة أو الحل، فإن العقاب الأخروي أشد وأنكى، وأخطر وأدوم، فيكون تحريم الحرام أمراً وقائياً لتجنب الوقوع في المخاطر والمضار والمفاسد والشرور والمنازعات، والتأمل في ذلك يدفع المرء إلى التزام جادة الاستقامة، والبعد عن كل ما حرمه الشرع، لئلا يؤدي اقترافه الحرام إلى جريمة، وهذا من خصائص الشريعة والدين السماوي الذي يميزه عن أي نظام قانوني وضعي لا يهتم بالممنوع إلا إذا أدى إلى المساس بالعلاقات الاجتماعية. وقد يشمل المنع دائرة المشتبهات خشية التورط في الحرام والممنوع، فيكون اجتناب المشتبه فيه أولى وأسلم، لئلا يقع الإنسان في جريمة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه..» (1) .
فهذه الأحكام الحاظرة أو المانعة أحكام وقائية ذات أثر تربوي واضح، تعمل على منع الجريمة واقترافها.
ومن أهم الأحكام الوقائية كما تقدم نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يطلب من كل مسلم في صريح كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويتكرر التذكير به أيام الجمعة والأعياد، قال الله عز وجل: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران:104/3] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2) . وفي حديث آخر أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «من غشنا فليس منا» .
وقام على أساس هذه الأوامر نظام الحسبة الذي يقي الأفراد والمجتمع من غائلة الجريمة. والحسبة كما تقدم: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(7/237)
ظهر فعله (1) . أو هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال ابن خلدون (2) .
والحسبة وإن كانت واجباً عاماً على كل مسلم، إلا أنها إذا أصبحت نظاماً أو وظيفة صارت فرض عين على المحتسب بحكم ولايته أو وظيفته المأجورة. ويتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة، فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي تحتاج إلى أدلة إثباتية، كدعاوى الغش، والتدليس والتطفيف، فهو بهذا كالقاضي، ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهراً، أو تخل بآداب الإسلام، فهو بهذا كناظر المظالم يرعى النظام العام والآداب والأمن في الشوارع والأسواق مما لا تجوز مخالفته، فيكون بذلك كالشرطة أوالنيابة العامة (3) .
ويشمل قيامه بواجبه في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعلق بالجماعة أو الأفراد كترك الواجبات الدينية العامة، الشعائر وغيرها، وتعطل مرافق البلد العامة من مساجد وشوارع، ومماطلة في أداء الحقوق والديون، وكفالة الصغار والمطالبة بترويج الفتيان والفتيات. وفي المحظورات يمنع الناس من مواقف الريب ومظان التهمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4) مثل اختلاط النساء بالرجال في المساجد والأماكن العامة، والمجاهرة بإظهار المسكرات والملاهي المحرمة. ويمنع المعاملات المنكرة كالربا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه كالغش والتدليس وبخس الكيل والميزان.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 231.
(2) مقدمة ابن خلدون: ص 576.
(3) المرجعان السابقان.
(4) رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.(7/238)
وأما المؤيدات فهي إما مدنية أو جزائية، والمؤيدات المدنية أربعة: هي البطلان والفساد والتوقف (عدم النفاذ) وعدم اللزوم، فكل عقد لم تكتمل أركانه أو شرائطه، فهو إما باطل أو فاسد أو موقوف أو غير لازم. والمؤيدات الجزائية هي العقوبات الرادعة، وهي الحدود والتعزيرات. والمؤيدات بقسميها شرعت لحماية أحكام الشريعة الأصلية، فيكون لأحكام الشريعة إما دور وقائي، أو علاجي، وكل من الوقاية والعلاج سبب للإصلاح ومنع الإجرام والانحراف، كما سيأتي بيانه.
رابعاً - أنواع العقوبات في الإسلام وأثرها في منع الجريمة:
الجزاء أو العقاب في شرعة الإسلام إما أخروي وإما دنيوي، والعقاب الأخروي مردّه إلى الله تعالى، إن شاء عذب العاصي أو المجرم، وإن شاء غفر ورحم، والله غفور رحيم، وهو شديد العقاب، والمؤمن الحق يخشى من عقاب الآخرة وعذاب النار أكثر من عقاب الدنيا.
والعقوبة الأخروية: يمليها قانون الحق والعدل، قال الله تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار} [ص:28/38] وقال سبحانه: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون} [القلم:35/68-36] . فليس عدلاً أبداً ولا منطقاً وعقلاً أن يتساوى العاصي مع الطائع، والمنحرف مع المستقيم، لذا كان يوم الدين أو يوم القيامة يوم الجزاء الفاصل هو أمل المعذبين والمظلومين في الدنيا. روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مجلس: فقال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك، فستره الله عليه، فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» .(7/239)
وما أكثر الآيات القرآنية المعبرة عن مبدأ الإنصاف المطلق المذكور، وعن عدالة الله الشاملة في عباده الذين امتثلوا، أوخالفوا وقصروا، أو كانوا رسل خير وهداية وإصلاح أو دعاة شر وضلال وفساد، ليكون ذلك مبعث الاستقامة، وتهديداً وترهيباً للجناة والمجرمين، قال الله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يَدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، ويَنْهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. ولاتكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا، من بعد ما جاءهم البيِّنات، وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبْيَضُّ وجوه، وتسوّد وجوه، فأما الذين اسوّدت وجوههم، أكفرتم بعد إيمانكم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم، ففي رحمة الله هم فيها خالدون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وما الله يريد ظلماً للعالمين} [آل عمران:104/3-108] .
وأما العقوبات الدنيوية في الإسلام، فهي نوعان:
1 ـ الحدود: وهي العقوبات المقدرة من الشارع نوعاً ومقداراً بالنصوص الصريحة (1) ، وهي محدودة جداً، وعددها خمسة أنواع في رأي الحنفية: حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، ويشمل حد الحرابة أو قطع اليد، وحد شرب الخمر، وحد المسكر، وقد قصروها على ما شرع حقاً لله تعالى، أي مراعاة للصالح أو النفع العام، ولم يجعلوا القصاص من الحدود، لأن المقصود به والغالب فيه مراعاة حق العبد أو الإنسان.
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 36/9، فتح القدير: 112/4، البدائع: 33/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 163/3، رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار: 154/3، اللباب شرح الكتاب: 72/2.(7/240)
والحدود عند جمهور العلماء (1) غير الحنفية سبعة: هي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد المسكرات الشامل للخمر وجميع الأنبذة المسكرة، وحد القصاص، وحد الردة، باعتبار أن الحد عقوبة مقدرة حدّها الله تعالى وقدرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها، سواء أكان المقصود منها مراعاة حقوق الله تعالى، أي الحق العام أو مصلحة المجتمع، أم مراعاة حقوق الناس الخاصة، ومنها القصاص. وسميت هذه العقوبات حدوداً، لأنها تمنع من الوقوع في الجرم أو الذنب.
ويقصد بالحدود كلها مراعاة حق المجتمع في أصل العقاب للتأديب والانزجار عما يتضرر به الناس، وتحقيقاً لمصلحة الأمن والاستقرار، والحفاظ على حرمات الحياة وصيانة الأعراض والنفوس والعقول والأموال عن التعرض لها (2) ، ويراعى فيها أيضاً حق الشرع في نوع العقوبة المقدرة المنصوص عليها إما في القرآن الكريم: وهي حدود الزنا والقذف والسرقة والحرابة والقصاص، وإما في السنة النبوية وهي حد المسكرات والرجم.
والقصد من النص على هذه الحدود بالذات تقدير الشرع مالجرائمها من خطورة بالغة، تمس أصول القيم الإنسانية، وهي الحفاظ على حق الحياة (النفس) والفكر الإنساني (العقل) والعرض (حد الزنا والقذف) والمال (السرقة والحرابة) والدين أو العقيدة الذي هو أسمى شيء في الوجود.
وتطبيق هذه الحدود الشرعية بضوابطها وشرائطها المقررة شرعاً، وهي كثيرة
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 277/6، التاج والإكليل للمواق: 277/6 الطبعة الأولى، مغني المحتاج: 155/4، حاشية البجيرمي علي الخطيب: 140/4، ط بيروت كشاف القناع: 77/6، ط بيروت.
(2) المراجع السابقة.(7/241)
جداً، مما يجعل احتمال تطبيق الحد نادراً، كفيل بمنع هذه الجرائم الخطيرة، والواقع أصدق شاهد في البلاد التي تطبق فيها الحدود كالسعودية.
وجرائم الحدود عند الجمهور ثمانٍ: هي الزنا، والقذف، وشرب المسكر، والسرقة، والحرابة، والبغي، والردة، والقتل العمد الموجب للقصاص، على أساس أن عقوباتها جميعاً مقدرة شرعاً. وقال ابن جزي المالكي: الجنايات أي الجرائم الموجبة للعقوبة ثلاث عشرة: وهي القتل والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر ـ علماً بأن كل مسكر خمر ـ والسرقة، والبغي، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله، وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام (1) .
وزيادة العدد في تقدير ابن جزي منشؤه ضم عقوبات تعزيرية ليس منصوصاً عليها صراحة في القرآن والسنة، وإنما باجتهاد الفقهاء إجماعاً، أو بالأكثرية، علماً بأن العقوبة واحدة وهي القتل في القصاص، وفي الزندقة والسب والسحر وترك الصلاة والصيام.
2 - التعزيرات: وهي العقوبات غير المقدرة شرعاً، وإنما فوض الشرع النظر في نوعها ومقدارها إلى ولي الأمر (الدولة) لمعاقبة المجرم بما يكافئ جريمته، ويقمع عدوانه، ويحقق الزجروالإصلاح، ويراعي أحوال الشخص والزمان والمكان والتطور، وذلك يختلف باختلاف درجة الرقي وتحضر المجتمعات، وتهذيب الجماعات وأحوال الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة.
وأغلب العقوبات في القوانين الوضعية من قبيل التعزير، لأنها مجرد تنظيم يراعى فيه ما يلائم الجريمة وحال المجرم للزجر والإصلاح والتقويم والتهذيب، وتحقيق الأمن والاستقرار.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 344، ط فاس.(7/242)
والتعزير يكون في كل جريمة لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت اعتداء على حق الله تعالى، كالأكل في نهار رمضان بغير عذر، وترك الصلاة في رأي الجمهور، والربا وطرح النجاسة وأنواع الأذى في طريق الناس، أم على حق الأفراد أو العباد، كتقبيل الأجنبية أو المفاخذة، وسرقة ما دون النصاب الشرعي (دينار أوعشرة دراهم في رأي الحنفية) والسرقة من غير حرز، وخيانة الأمانة، والرشوة، والقذف والسب والإيذاء بغير ألفاظ القذف.
قال ابن القيم: إن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحد ولا كفارة فيه، كالسرقة والشُّرب والزنا والقذف، فالحد فيه مغنٍ عن التعزير. ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه كالوطء في نهار رمضان عند الشافعية والحنابلة بعكس الحنفية والمالكية، والوطء في الإحرام. ونوع ثالث لا حد فيه ولا كفارة، مثل قبلة الأجنبية والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك، وهذا النوع فيه التعزير، ولا يجوز للإمام تركه في قول الجمهور، وقال الشافعية: إنه راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه، كما يرجع إلى اجتهاده في قدره (1) .
والعقوبات التعزيرية كالتوبيخ، والحبس، والضرب، والتغريم بالمال، والقتل سياسةً لمعتادي الإجرام وفي جرائم أمن الدولة والتجسس واللواط وسب النبي صلّى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما يراه الحاكم ولي الأمر رادعاً للشخص، بحسب اختلاف حالات الناس والزمان والمكان ودرجة الرقي والحضارة.
وتطبيق هذه العقوبات دون إفساح المجال للتحايل والشفاعة والرشوة يؤدي إلى الإقلال من الجريمة أو منعها.
والخلاصة: أن تطبيق الحدود الشرعية بمعاييرها وضوابطها وشرائطها والتعازير دون تلكؤ ولا مجاملة، ومراعاة التفاوت بين موجب الحد وموجب التعزير، يؤدي إلى تحقيق سلامة المجتمع، وأمن الناس واستقرارهم، والقضاء على ظاهرة الإجرام تدريجياً.
__________
(1) أعلام الموقعين: 99/2.(7/243)
خامساً - تطبيق مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية:
إن تطبيق أصول السياسة الجنائية الإسلامية يعرفنا على الوسائل وأهداف العقوبة وغاياتها المنشودة ومدى تأثيرها في قمع الإجرام على وفق التصور التالي:
تقويم المجرم: إن الهدف من العقوبة في الشريعة والأنظمة الوضعية هو تقويم المجرم، ومعنى هذا المبدأ أن ألم العقوبة ليس غاية في ذاته، وإما هو وسيلة إلى غاية، هي تقويم الجاني، فلا داعي لإ يلام المجرم أوإذلاله، ولا تكليفه بعمل في السجن، ما لم يكن وراء ذلك تقويم المجرم (1) .
العقاب ليس مقصوداً لذاته: ليس أصل العقاب أيضاً غاية مقصودة لذاتها في مفهوم الإسلام، وليس هو أولى وسائل الإصلاح والتهذيب الفردي والجماعي، وإحداث التغيير الجذري في حياة الناس والمجتمع، وإنما هو آخر الوسائل إذا استعصت الحلول، كما أن آخر الدواء الكي في عرف العرب في الماضي.
الإنذار السابق: إذا أردنا التوصل إلى غاية العقوبة فيجب تقديم البيان الكافي للاقتناع بسلامة المبدأ أو تنفيذ الأحكام وطاعة الشريعة، فكما لا يصح الإيمان بالقهر والإكراه من غير استدامة عليه، وكما لا يتعين الجهاد بالقتال، وربما كان الأفيد هو الإقناع والبرهان، والدعوة والإرشاد، والكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، كذلك لا يلجأ إلى العقاب دائماً، ويقبح العقاب ولا يسوغ بحال بلا بيان وإنذار وتحذير، كما أن الثواب والجزاء لا يكون قبل التكليف الشرعي القائم على توافر الأهلية من العقل الكافي والبلوغ الجسدي، وإصدار الأوامر والنواهي وتعليل الأحكام الشرعية، وبيان الحكمة التشريعية، فإن كل العقلاء يستهجنون توجيه اللوم والعتاب، وتطبيق العقوبة والعذاب، دون سبق هداية أو إنذار.
__________
(1) الجريمة والتنمية، د/حسن درويش: ص 102.(7/244)
لذا قدم الله سبحانه للناس جميعاً كل وسائل الإقناع، والبراهين العقلية والحسية، والإرشاد إلى الإيمان الصحيح وتوحيد الله، ونبذ كل هياكل الوثنية والشرك، ثم أرشدهم إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، ودلهم على طرق الخير والبر والإحسان، ونوّع الأساليب، وألقى المواعظ والعبر، وضرب الأمثال من قصص الأمم الغابرة، وشد الأنظار نحو التأمل في الكون، ونبّه العقول والأفكار، وأيقظ الضمير والوجدان، وأهاب باستقلال الشخصية عن الآخرين، وحارب الموروثات السيئة والتقليد الأعمى للآباء والأجداد، من أجل تغيير العقيدة الفاسدة أو المشوهة أو المنعدمة وإصلاح الأخلاق، ووضع الأنظمة الصالحة للحياة الهانئة السعيدة المستقرة، والتخلص من فوضى الجاهلية، والوثنية الدينية.
التدرج في الإصلاح: في حال البيان السابق تدرج القرآن في خطوات الإصلاح الاجتماعي والفردي، ولم يفاجئ الناس بجميع بنود التغيير والإصلاح، وإنما روّضهم على تقبل أحكام الشريعة ببطء وانتظار وقت غير قصير، فلما استحكم العناد بالزعماء والقادة والكبراء، واستكبروا عن سماع الحق، والإصغاء للأفضل، وتكررت منهم محاولات الاعتداء على أهل القرآن والإيمان، وتعذيب المستضعفين، وفتنة الأتباع الضعفاء لمدة ثلاثة عشر عاماً في مكة، بعد أن حصل منهم كل هذا وغيره، تنزلت آيات الوحي ملأى بالزجر والقوة والتهديد والوعيد، والإنذار بالعقاب والتحذير من تعجيل العذاب الشديد، فأعذر الحق سبحانه وتعالى نفسه من هؤلاء المعاندين المعرضين علواً في الأرض واستكباراً ومكراً سيئاً، وحفاظاً على الزعامات والرياسات والمصالح المادية، وتبين للناس قاطبة أن شيئاً سيحدث، وأن المقصرين والمعرضين عن إجابة نداء الوحي والقرآن بالإصلاح والإقلاع عن الجريمة جديرون بالتأديب مستحقون للعقاب.(7/245)
أدلة وجوب البيان السابق: تم الإعلان الشهير في آي القرآن عن قبح العقاب بلا بيان، فقال الله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/4] ثم أوضح القرآن كل ما يقطع الأعذار والإمهال والتراخي في الاستجابة لرسالة الإصلاح، فقال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قَبْله، لقالوا: ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً، فنتَّبِع آياتِك من قبل أن نَذِل ونَخْزَى} [طه:134/20] وقدَّم سبحانه العذر قبل مفاجأة العذاب الأخروي، فقال: {كلما ألقي فيها فوج، سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذَّبنا وقُلْنا: مانزَّل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير} [المُلك:8/67-9] ونفى القرآن الكريم احتمال تطبيق العقاب قبل بعثة الرسل المزوَّدين بأنواع الهداية، والتعريف بأصول الحياة المستقيمة والازدهار والحضارة والإرشاد إلى أرقى الأنظمة، فقال الله تعالى: {وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/17] .
وسواء قلنا: إن الرسول: هو المرسل بهداية إلهية ومواعظ سماوية وأحكام تشريعية، وهو الحق المتبادر إلى الذهن، وهوقول جمهور المسلمين، أو إن الرسول هو العقل، كما يقول المعتزلة، فإن العقل لا يعدو أن يكون أحد وسائل الهداية الإلهية؛ لأن الهداية أنواع: هداية الله وتوفيقه وعونه، وهداية الحواس من السمع والبصر والفؤاد وهداية العقل والفكر، وكل هذه الأنواع مقدمة على الحساب والعقاب والتكليف وتنفيذ النظام أو القانون الإلهي.(7/246)
أدلة التسامح في العقاب: مما يدل على عدم الحرص الشديد في الشريعة على تطبيق العقاب كما ذكر سابقاً: أن القرآن في مجال تبيان مهام الأنبياء والرسل جعل العقوبة أو القوة آخر ما يلجأ إليه في أساليب الحكم في الإسلام، فقال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافعُ للناس، وليعلمَ الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويَّ عزيز} [الحديد:25/57] قرن الله سبحانه إنزال الكتب والأمر بالعدل بإنزال الحديد، إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية، والعدل يمثل القوة القضائية، وإنزال الحديد، وهو آخر الأسس، يمثل القوة التنفيذية المؤيدة للأحكام التشريعية، سواء بعقوبة المجرمين في داخل الدولة الإسلامية أو بعقوبة المعتدين غير المسلمين خارج حدود الدولة بالجهاد واستخدام السلاح، والاستعداد للقتال، لأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب في العرف الشائع، قال الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين في تفسيره المشهور عند هذه الآية: يقول الله تعالى في الآية السالفة: لقد أرسلنا رسلنا بالمفصَّلات من البيان والدلائل وهذا هو الأول، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، وهذا هو الثاني، والميزان بالعدل، وهذا هو الثالث، وأنزلنا الحديد، وهذا هو الرابع، لما فيه من قوة شديدة ومنافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو، وغير ذلك من منافعه.(7/247)
التوبة: كما أن هداية الله سبقت إنذاراته وتهديداته وعقوباته، كذلك بعد ارتكاب الجرم أو الذنب سبقت رحمته غضبه وسخطه، ولم يكن الإسلام في كل تشريعاته حريصاً على إنزال العقوبة الصارمة فوراً بالمخطئين، وإنما ترك لهم فرصة للإصلاح الداخلي النابع من القناعة الذاتية، والرضا بالإقلاع عن الجريمة، والندم والتوبة المكفِّرة للذنوب، حتى إن التوبة في رأي فقهاء الحنابلة، وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله تسقط جميع العقوبات من الحدود وغيرها، من غير اشتراط مضي زمان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «التوبة تجبُّ ما قبلها» (2) ولأن في إسقاط الحد ترغيباً في التوبة، وذلك ما عدا حد القذف، فإنه لا يسقط، لأنه حق آدمي، أو حق شخصي. ولا خلاف بين العلماء في أن المحاربين أو قطاع الطرق إن تابوا قبل القدرة عليهم، وإلقاء سلطة القبض عليهم، تسقط عنهم حدود الله تعالى من قتل، وقطع يد ورجل من خلاف، ونفي وصلب؛ لقوله تعالى في آية المحاربين: {إلا الذين تابوا من قبل أن تَقْدِروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيمٌ} [المائدة:34/5] .
ولقد اشتد غضب النبي صلّى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك الأسلمي الذي أقر أمامه بالزنا، وأعرض عنه ثلاث مرات، وأظهر الكراهية من قوله، بل لقنه الرجوع عن الإقرار بالزنا بقوله: «لعلك مسستها، لعلك قبَّلتها!» وقال لأصحابه حينما هرب ماعز أثناء رجمه، فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (3) .
الشبهة: إن الشبهة بأنواعها العديدة في الجريمة، سواء أكانت شبهة في الفعل، أم شبهة في الفاعل، أم شبهة في المحل، تدرأ الحدود وتسقطها (4) ؛ لقوله
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، والطبراني في الكبير والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) المعروف أن التوبة تصح بالإسلام، والإسلام يجب ماكان قبله كما في الحديث الذي رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم، وضعفه السيوطي، أما حديث «التوبة تجب ماقبلها» فهو مذكور في مغني المحتاج للخطيب: 184/4، والمغني لابن قدامة: 201/9، وتؤيده أحاديث في معناه في مجمع الزوائد: 31/1، 199/10 ومابعدها، منها حديث «الندم توبة» رواه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة، ورجاله وثقوا، وفيهم خلاف.
(3) رواه أبو داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه، ورواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة.
(4) فتح القدير: 140/4، 147، البدائع: 36/7، حاشية ابن عابدين: 165/3.(7/248)
صلّى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» (1) . «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلمين مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (2) . قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات، فمن زنى أو سرق أو شرب خمراً جاهلاً بالتحريم بأن أسلم حديثاً أو نشأ في بلد بعيد عن العلماء أو سرق الدائن من مدينه مايعادل دينه، ولو كان الدين مؤجلاً، أو سرق الضيف من مضيفه، أو سرق أحد الزوجين من الآخر، أو سرق الشخص من أحد أقاربه المحارم، أو ادعى المتهم وجود زوجية بينه وبين امرأة، فلا يقام عليه الحد؛ لأن الشبهة تجعل له معذرة.
__________
(1) أخرجه ابن عدي عن ابن عباس، وأخرجه مسدِّد في مسنده موقوفاً على ابن مسعود، وهو حسن، وأخرجه آخرون مرفوعاً مرسلاً.
(2) أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة وغيرها، وفيه ضعيف، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً، قال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب.(7/249)
تقدير المخاوف والمخاطر: هناك بواعث داخلية نفسية ودينية كثيرة تبعث النفس على الإقلاع عن الخطيئة، وهي مقبولة عرفاً وقضاءً، أهمها الشعور بالندم، والخوف من عقاب الله وعذابه في الآخرة، وخشية الله في السر والعلن، والحياء من الله ومن الناس، ومن رقابة السلطة أو الدولة، وتقدير مخاطر الزج في قيعان السجون والتشهير وتشويه السمعة بالمثول أمام القضاء، ومحاكم الجنايات والجرائم، والتأثير على مورد المعيشة بالفصل من العمل أو الوظيفة مثلاً، وسقوط الاعتبار وسوء السمعة بين الناس، وغير ذلك من المثبِّطات التي تضعف روح الإقدام على الجريمة، وكلها من الدواعي والأسباب المانعة من الإجرام. كما أن تنمية الوازع الديني وإذكاء العاطفة والحرارة الدينية، والتربية الخلقية التي يغرسها
الإسلام في نفوس المؤمنين، كلها عوامل أيضاً لإضغاف بواعث الإقدام على الجريمة، والصد عن اقتراف المعصية حتى يكاد ذلك كله يمنع الانحراف، وليس أدل على ذلك من أن نسبة الجرائم في البلاد الإسلامية أقل عدداً، وأخف خطراً، وأرقى نوعاً مما نسمعه ونشاهده من جرائم عديدة ومتنوعة في البلاد المتطورة أو المتقدمة المتمدنة حديثاً كما سبق بيانه.(7/250)
الأمل في العفو: هناك آمال معقودة في القضاء يقرها الشرع عند النظر في التهمة، بإصدار الحكم بالبراءة لعدم ثبوت أو كفاية الأدلة، أو العفو من الحاكم أو رئيس الدولة، أو بإسقاط المدعي حقه الشخصي، أو بحكم القاضي بوقف التنفيذ أو تأجيل تنفيذ الحكم الجزائي، أو بإعطاء القاضي سلطة تقديرية مرنة في اللجوء إلى أخف العقوبات، أو العفو عنها في نطاق التعزيرات «أي العقوبات المفوضة إلى رأي القضاة نوعاً ومقداراً» في غير دائرة الحدود أو بالتخيير بين حدين أدنى وأعلى، وهي دائرة واسعة تشمل أكثر الجرائم، وتكاد تكون عقوبات القوانين الجزائية كلها والمطبقة في البلاد العربيةوالإسلامية، تدخل تحت اسم التعزيرات، كما أن احتمالات العفو من صاحب الحق الشخصي كثيرة، لترغيب القرآن الكريم بالعفو والصفح، قال الله تعالى: {والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين} [آل عمران:134/3] وقال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} [البقرة:237/2] .
حكمة تنوع العقاب: اقتضت الحكمة الإلهية كما تقدم أن يكون العقاب في الإسلام نوعين: العقاب الأخروي، والعقاب الدنيوي.(7/251)
الأول: الذي هو أشد وأنكى وأدوم وأخطر مؤجل أو مرجأ لنهاية الحياة الإنسانية، كما عرفنا، لإعطاء الفرصة الكافية أمام البشر عبر مسيرة حياتهم لتدارك ما قصروا فيه، وإصلاح ما أفسدوه، وتصحيح ما أخطؤوا فيه، والإقلاع عن كل مخالفة تغضب الله عز وجل. ولعل أخطر ما تجب ملاحظته أن أخطر الجرائم في الإسلام من شرك أو كفر أو نفاق، لا تعجل عقوبته في الدنيا، كما عرفنا، وإنما أرجأ الله الفصل في أمره إلى عالم الآخرة، جرياً على سنة الله تعالى في خلقه، قال الله تعالى: {وربُّك الغفور ذو الرَّحْمة، لو يؤاخذهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ، لن يجدوا من دونه مَوْئلاً، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لِمَهْلِكِهم موعداً} [الكهف:58/18-59] . وهذا دليل واضح على أنه ليس العدل فوق الرحمة أو على العكس، وإنما العدل والرحمة قرينان، لكن الرحمة فوق القوة، ورحمة الله وسعت كل شيء، قال الله تعالى: {ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شيء ... } [الأعراف:156/7] وقال سبحانه: {ربَّنَا وَسِعَتْ كلَّ شيء رحمة ً وعلماً ... } [غافر:7/40] .(7/252)
وبالرغم من ترك العقاب الدنيوي على الشرك ما لم يقترن بالعدوان أو الإشاعة والترويج بين الناس، فإن الله سبحانه إعذاراً وإنذاراً وإبعاداً للوم والعقاب، حذر تحذيراً شديداً من الشرك، وجعله قمة الجرائم ورأس الكفر وذروة الكفر وذروة الطغيان، وسمى القرآن أداة الشرك وهي الأصنام والشيطان طاغوتاً، فقال الله تعالى: {إن الله َ لا يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ به ويِغْفِرُ ما دُون ذلك لمن يشاء ُ، ومن يُشْرِكْ بالله، فقد افترى إثماً عظيماً} [النساء:48/4] وقال سبحانه: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّن الرشدُ من الغيَّ، فمن يكفرْ بالطاغوت، ويؤمنْ بالله، فقد استمسك بالعُرْوةِ الوثقى، لا انفصامَ لها، والله ُ سميعٌ عليم} [البقرة:256/2] وقال عزَّ وجل: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوتُ..} [البقرة:257/2] وقال سبحانه {الذين آمنوا يُقاتِلون في سبيلِ الله، والذين كفَروا يقاتلون في سبيل الطاغوت..} [النساء:76/4] : والطاغوت: كل ماعبد من دون الله. والنفاق كالشرك جرم عظيم، لذا أنذر الحق سبحانه جماعة المنافقين بما ينتظرهم من أشد العذاب، فقال: {إن المنافقين في الدَرْك الأسفل من النار، ولن تجدَ لهم نصيراً} [النساء:145/4] .
وكذلك العقاب على كثير من الرذائل الخلقية المشينة والموقعة في أشرار كثيرة مؤجل تنفيذه إلى الآخرة، مثل الحسد والحقد والنميمة والسعاية بالإفساد بين الناس أو إلى الحاكم ظلماً، والغيبة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور التي لم يكشف أمرها ونحو ذلك، كما تقدم.(7/253)
وأما العقاب الدنيوي: فليس مراداً به التنكيل والتشفي وإلحاق الضرر بالبنية الإنسانية، وإنما يستهدف الزجر والتهديد والإصلاح والتنفير من الجريمة، بل إن الله تعالى لم يوقع عقوبة دنيوية على المنافقين بالرغم من أخطارهم الشديدة على الدولة والمجتمع، وبخاصة وقت الأزمات والحروب. وما أحسن ما قاله الجصاص الرازي عند بيان عقوبة المنافقين الأخروية في الآية التي هي: {إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار} [النساء:145/4] :
ومع ما أخبر بذلك من عقابهم وما يستحقونه في الآخرة، خالف بين أحكامهم وأحكام سائر المظهرين للشرك، في رفع القتل عنهم، بإظهارهم الإيمان، وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث وغير ذلك، فثبت أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الإجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه، فأوجب رجم الزاني المحصن، ولم يزل عنه الرجم بالتوبة، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في ما عز بعد رجمه، وفي الغامدية بعد رجمها: «لقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس ـ جمارك ظالمة ـ لغفر له» . والكفر أعظم من الزنا، ولو كفر رجل، ثم تاب قبلت توبته، وقال تعالى: {قل للذين كفروا، إن ينتهوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَف} . [الأنفال:38/8] . وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين، ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد، وهو أعظم من الزنا. وأوجب على شارب الخمر الحد، ولم يوجبه على شارب الدم وآكل الميتة، فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، ولأنه لما كان جائزاً في العقل ألا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حداً رأساً، ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف بينها، فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض، ولذلك قال أصحابنا (أي الحنفية) : «لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق» أي أن العقوبة لا تثبت إلا بالنص عليها لا بالاجتهاد (1) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 26/1-27.(7/254)
وهذا مطابق لقول القانونيين: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص» .
الشعور القوي بضرورة التطهر من الذنب: تمتاز شريعة الله بأنها تلقي في نفس الإنسان شعوراً قوياً بمخاطر الجريمة أو المعصية، وإحساساً متدفقاً بضرورة تطهير نفسه من آثار الذنب، فيبادر إلى الإقرار بالجريمة، كما فعلت المرأة الغامدية حين اعترفت بالزنا في حال حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذا امرأة العسيف (الأجير) وماعز ابن مالك الأسلمي. ورُجم الكل (1) ، إحساساً منهم بضرورة التطهر من أثر المعصية. وهذا الشعور يولد الخوف من اقتراف الجريمة، وينمي ذلك الشعور معرفة فضل الله بعدم تكرار العقوبة الأخروية، في رأي أكثر العلماء غير الحنفية القائلين بأن الحدود جوابر للمسلم تسقط عقوبتها في الآخرة إذا استوفيت في الدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أصاب حداً، فعُجِِّل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يُثنِّي على عبده العقوبة في الآخرة، ومن أصاب حداً فستره الله وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» (2) .
حكمة العقاب في ذاته: تبين مما سبق أن الحكمة من الحدود والتعزيرات في شريعة الله واضحة الأهداف، وهي تقويم المجرم وإصلاح حاله ومنعه من العود أو التكرار، وزجر الناس وردعهم عن اقتراف تلك الجرائم المخلة بأمن الجماعة ومصالحها، وصيانة المجتمع من ألوان الفوضى والفساد، وتطهير النفوس الجانحة أو المنحرفة من آثار الذنوب والمعاصي، التي تؤثر في صفاء القلب، وطهارة النفس، وتركيز الضمير، وترقية الوجدان وإذكاء الشعور الإنساني بمراعاة حقوق الآخرين، والبعد عن مختلف أنواع الأذى والضرر، قال ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والدارقطني وغيرهم (جامع الأصول: 279/4، نصب الراية: 314/3، نيل الأوطار: 111/7) .
(2) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (جامع الأصول: 349/4) .(7/255)
من رحمة الله سبحانه وتعالى: أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال والقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان، ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته، ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه (1) .
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 98، ورسالته في القياس: ص 85. ولابن القيم قول مشابه لهذا في أعلام الموقعين: 95/2، 107 وما بعدها، وكذا لعز الدين بن عبد السلام شيخ الإسلام في قواعد الأحكام: 163/1-165.(7/256)
يمكننا في ضوء ما تقدم بيان أهداف أو غايات العقوبة في شريعة الله تعالى بإيجاز فيما يلي:
1 - الزجر والردع: إن في تطبيق العقوبة الشرعية زجراً للمتهم ولأمثاله من الإقدام على الجريمة مرة أخرى، وذلك يساهم إلى حد كبير في إضعاف وتقليل نسبة الجريمة؛ لأن الحكمة من العقوبات أو الحدود الشرعية كما تبين هي زجر الناس، وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن ممارسة ألوان الفساد، والتخلص من ظاهرة الإجرام بقدر الإمكان.
2 - الإصلاح والتهذيب والتقويم: إن من أهداف العقوبة أيضاً هو إصلاح النفوس، وتهذيب الحواس، وإقناع المتهم بخطئه، وحماية الجماعة من طبائع النفوس الشريرة، وليس تأديب المجرم بقصد الانتقام أو التشفي منه، قال الماوردي عن الحدود: «الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر» (1) . وقال عن التعازير (العقوبات المفوضة للحاكم) وعن الحدود أيضاً: «إنها تأديب واستصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب» (2) .
3 - محاربة الجريمة في ذاتها: الجريمة في واقعها ضرر بالنفس وبالمال وبالجماعة، فهي وباء فتاك أو نار تقتضي الحصر في أضيق نطاق ممكن للحد من آثارها الفاحشة، وعدم إشاعتها، حتى لا يتجرأ الناس على اقتحامها، ويستسهلوا أمر اقترافها أو ارتكابها ويستمرئوا فعلها.
لذا كان العقاب عليها أمراً لازماً، لاستئصالها من جنبات المجتمع، قال الماوردي: الجرائم محظورات شرعية، زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، ولها
__________
(1) الأحكام السلطانية: ص 213.
(2) المرجع السابق: ص 223.(7/257)
عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية (1) .
4 - منع عادة الأخذ بالثأر، وإطفاء نار الغيظ لدى المعتدى عليه أو أقاربه: إن عادة الانتقام أو الأخذ بالثأر التي كانت سائدة في الجاهلية، والتي هي من طبائع النفوس، عادة قبيحة توسع من رقعة انتشار الجريمة، وتطول غير المجرم غالباً. لذا كان من حكمة الإسلام المبادرة إلى تطبيق العقوبة على المجرمين، منعاً من التورط في تلك العادة الذميمة، وإطفاءً لنار الحقد والغيظ المضطرمة في نفس المعتدى عليه أو أقاربه.
ومن الحكمة أن تكون العقوبة من جنس الجريمة كالقصاص، أو أشد منها تحقيقاً للمصلحة العامة بالحفاظ على الأموال والأعراض والدماء والعقول، فلا تكون المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام في مصلحة أحد سواء المجتمع أو أقارب المجني عليه.
سادساً ـ مبادئ العقاب في الشريعة وما لها من أثر في تخفيف الجريمة:
اشتملت الشريعة الإسلامية على مبادئ كثيرة تبدد المخاوف من تطبيقها في جانب العقوبات، وتقتلع من بعض النفوس في ديار العرب والإسلام وفي العالم الخارجي التهمة بقسوة أحكام الشريعة، وما فيها من تنكيل وتعذيب تتنافى مع الإنسانية وأوضاع الحضارة الحديثة، وتعد هذه المبادئ صمَّام أمان لحقوق الناس الاجتماعية، وقيوداً على الحرية بمعناها المطلق، وحاجزاً منيعاً من الجريمة.
وهذه المبادئ التي تنطلق منها أنواع العقاب في الشريعة تلازم وجدان القاضي وضميره وشعوره وأصوله في القضاء، وهي الرحمة والعدالة وحماية الكرامة الإنسانية، ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق المجتمع والشخص معاً، والمساواة بين الجريمة والعقوبة، وعدم الحرص على توقيع العقوبة في ظل مبدأ الستر حيث لا مجاهرة ولا إعلان بالفسق، والعفو عن المتهم في حالات كثيرة، ودرء الحد بالشبهة، والتركيز على العقوبة في حال المجاهرة والإعلان والمفاخرة بالمعصية، والاستخفاف بالقيم الإنسانية، وتحدي مشاعر المجتمع وإحساسه ونظامه العام وآدابه العامة.
أما مبدأ الرحمة: فمراعى أصلاً من الشرع حين وضع العقوبات، لأن الله رحيم حقاً بعباده، قال الله تعالى: {كتب ربُّكم على نفسه الرحمةَ} [الأنعام:6/54] وقال جل جلاله: {ورحمتي وسعت كلَّ شيء} [الأعراف:156/7] .
ووصف الله تعالى مهمة أو وظيفة نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم بأنها رسالة الرحمة والهداية، فقال: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107/21] .
__________
(1) المرجع السابق: ص 211.(7/258)
والمقصود من الرحمة المرعية في العقاب والتطبيق القضائي: الرحمة العامة بالجماعة، فينظر إلى المصلحة العامة من ناحية المبدأ والحكم المطبق، بقطع النظر عن مصلحة كل شخص بعينه. أما التسامح الخاص والشفقة والرفق بالم بعينه، أو ما يسمى بالرأفة بالمتهم الذي ثبتت عليه الجريمة، فلا ينظر إليه، وتستبعد مراعاته ومحاولة إعفاء الجاني من العقوبة، لذا قال الله تعالى في تطبيق الحد على الزناة: {ولا تأخذْكم بهما رأفةٌ في دينِ الله} [النور:2/24] فإذا ثبت الجرم وبلغ الألى الحاكم أو القضاء فلا مجال لترك العقوبه عليه. أما في مجال التعاون العام من أجل الخير المشترك، والتضامن في سبيل الصالح العام، والدفاع عن الأمة في مواجهة العدو الخارجي، فإن المجتمع الإسلامي مجتمع متراحم متعاون، كما قال
مر إتهموما أرسل الله تعالى: {محمدٌ رسول ُالله، والذين معه أشدَّاء على الكفّار، رُحَماء ُ بينهم ... } [الفتح:29/48] وسمة المسلم وشأنه وخاصيته الرحمة بالآخرين، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمْكم من في السماء» (1) وقال أيضاً، «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (2) وفي حديث آخر: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» (3) .
قال ابن تيمية رحمه الله: إن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدّب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحاً لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه وهوصحيح.
(2) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه وهو صحيح.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حسن.
(4) السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 98.(7/259)
وأما العدالة: فتقتضيها موازين العقوبات العامة، ويوجبها إلزام السلطة الحاكمة بالعدل، حتى لا تضطرب الموازين، ولئلا يتجرأ المفسدون في الأرض على متابعة فسادهم دون رقيب ولا عتيد، ولأن مبدأ الإسلام أن كل إنسان مجزي بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال الله تعالى مبيناً مهام الأنبياء والمرسلين ووظائفهم العامة: {لقد أرسلنا رُسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ، ليقوم الناسُ بالقِسْط، وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ، ومنافعُ للناس} [الحديد:25/57] .
والعدل والقسط بين الناس ملازم للرحمة الشاملة، كما تقدم، فليست الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق الرحمة، كما ذكر سابقاً، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى: {وربُّك الغفورُ ذو الرحمةِ، لو يؤاخذُهم بما كَسَبوا، لعجَّل لهم العذابَ، بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً} [الكهف:58/18] .
وحماية كرامة الإنسان: أصل من أصول العقاب في الإسلام، فليس في الشريعة ما ينافي الكرامة، ولا تسمح الشريعة للحاكم باتخاذ عقوبات تخل بالشرف والمروءة والكرامة، فلا يجوز ضرب الأعضاء الحساسة المخوفة التي قد تؤدي إصابتها إلى القتل، كالوجه والرأس والصدر والبطن والفرج والأعضاء التناسلية، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ليس في هذه الأمة مدٌ ولا تجريد ولا غَل ولا صفد» (1) وجلد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد منهم مدّ ولا تجريد، ولا ينزع عن المجلود ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان (2) .
ومن مظاهر حماية الكرامة الإنسانية تحريم التمثيل أو الممثلة بالقتيل، ولو كان من الأعداء، قال الله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم ... } [الإسراء:70/17] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء ... » (3) ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المُثْلة والنهبى، وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان: «ولا تمثّلوا» .
__________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي: وهو منقطع الإسناد، وفيه جويبر، وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 253/6) . والغل بالفتح: شد العنق بحبل أو غيره، والصفد بالتحريك: القيد وهو الغل في العنق أيضاً.
(2) المهذب: 270/2، ومغني المحتاج: 190/4، المغني: 313/8 وما بعدها.
(3) أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن شداد بن أوس رضي الله عنه.(7/260)
ورعاية المصالح العامة والخاصة أو حقوق الجماعة والأفراد معاً: هي ميزان الإسلام في كل ما شرع وحكم، فحفظ النظام للجماعة واجب أساسي لا يجوز للأفراد إسقاطه أو العفو عنه، أو إهمال إقامته، كما أنه ليس للجماعة الحق في مصادرة حقوق الأفراد الخاصة كالملكية الشخصية والحرية المنظمة.
وتعتبر الحدود على الجرائم الخطيرة كالزنا والسرقة والقذف وشرب المسكرات، كما تقدم، من مقومات المصلحة أو حقوق الجماعة أو حقوق الله، مثل الصلاة والصوم والزكاة؛ لأن المقصود بها إقامة الدين، والدين في تشريع الإسلام أساس نظام الجماعة العام؛ لأن المصالح التي لاحظها الإسلام هي الأصول الخمسة الكلية الضرورية لكل مجتمع، وهي مقاصد الشريعة المعروفة وهي حفظ الدين أو العقيدة، وحفظ النفس (أو حق الحياة) وحفظ العقل وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال والممتلكات، فلا تتوافر الحياة الإنسانية الصحيحة إلا بها.(7/261)
والمساواة بين الجريمة والعقوبة: أساس تشريع العقوبات الإسلامية، فلا تجاوز عن الحدود المقررة شرعاً، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين» (1) . ومن مبادئ الإسلام أنه لا افتئات فيه على أحد بجرم لم يصدر عنه، وأن الأصل في المتهم البراءة حتى تثبت إدانته. والقصاص أو إمكان المماثلة بين الجناية والعقوبة شرط جوهري في العقوبة، حتى يطمئن الناس إلى عدالة الحكم القضائي، ولتسهم العقوبة في توفير عنصر الرهبة والزجر المانع في الغالب من الإقدام على الجريمة دون إثارة ولا تشنيع ولا نقد، لذا قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179/2] .
وعدم الحرص من المشرع الإسلامي على إيقاع العقوبة: ليترك المجال للإنسان لإصلاح عيوب نفسه وأخطائه بنفسه، لذا أمر الشرع بالستر على المخطئ غير المجاهر، جاء في الحديث
__________
(1) رواه الطبراني بلفظ «من جلد حدا..» وفيه شخصان غير معروفين للهيثمي كما قال، ورواه البيهقي عن النعمان بن بشير، وقال: المحفوظ المرسل، ورواه ابن ناجية في فوائده، ورواه محمد بن الحسن مرسلاً (نصب الراية: 354/3، مجمع الزوائد: 281/6) .(7/262)
الصحيح: «ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» (1) وفي حديث آخر: «من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه، كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته» (2) .
وتجوز الشفاعة في الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم، ترغيباً في الستر ومنع إشاعة الفاحشة، وتحرم الشفاعة وقبولها في حدود الله بعد أن تبلغ الحاكم؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فهو مضادٌ الله في أمره» (3) . وقصة إنكار النبي صلّى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد شفاعته في حد السرقة على المرأة المخزومية معروفة مشهورة (4) .
ولا توقع العقوبة أو يحكم بها إلا بعد انتفاء الشبهات المقررة فقهاً وشرعاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق عند ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .
ولصاحب الحق الخاص العفو عن القاتل أوالمخطئ؛ لقوله تعالى: {وجزاء ُ سيئة سيئةٌ مِثْلها، فمن عفا وأصلح فأجرهُ على الله} [الشورى:40/42] وقوله سبحانه في القصاص: {فمن عُفي له من أخيه شيء، فاتباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسان} [البقرة:178/2] . والعفو كثيراً ما يلجأ إليه في الأوساط الإسلامية بسبب محاولات الصلح والتسوية الودية والتقاليد المتبعة بين القبائل والعشائر وفي الأرياف. وهذا سبيل رحب للتخلص من العقوبة، والدفع إلى الاستحياء من الجريمة حتى في القتل، والعفو يكون بالاختيار والرضا والطواعية لا بالإكراه أو بإلغاء العقوبة من القوانين.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً الترمذي والحاكم.
(2) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنه.
(4) أخرج الحديث أحمد ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله عنها.(7/263)
والحالة التي لا بد فيها من العقاب: هي حالة المجاهرة بالمعصية وإشاعة الفاحشة، والإصرار على الإقرار أمام القاضي، وإعلان الردة عن الإسلام المتضمن الخروج عن نظام الجماعة، والكيد للمجتمع وحرماته والعمل على تقويض أركان العقيدة الإسلامية بالترويج للشكوك والشبهات، جاء في الحديث الثابت: «أيها الناس من ارتكب من هذه القاذورات، فاستتر، فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته، أقمنا عليه الحد» . وقد وصف الله تعالى الذين يعلنون الجرائم ويكذبون على الناس ويرمونهم بالتهم الباطلة ويفترون عليهم، بأنهم أعداء المؤمنين، فقال الله تعالى: {إن الذين يحبِّون أن تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور:19/24] .
وإن رقابة الله في السر والعلن: أو تكوين وازع الدين، وإيقاظ سلطان الضمير هو كما تقدم من أهم عوامل منع الجريمة والإجرام، وهو العنصر الأساسي المساعد للقاضي في الحكم على المتهم، وإصدار الحكم بالعقاب تخفيفاً أو تشديداً عليه؛ لأن من لا يصلح حاله بنفسه، صعب على الدولة أو المجتمع إصلاحه.
وإذا كانت الغاية من العقاب كما عرفنا إصلاح الإنسان، فبالأولى أن يكون تجنب كل ما يوقع في الجرائم بوازع الدين للإصلاح، لأن الدفع أو المنع أولى من الرفع «ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح» كما جاء في القواعد الشرعية الكلية.
ولقد بلغ من شدة الخوف من الله ومن قوة ضمير المسلم أن كان المؤمن الصادق الإيمان يقدم على الموت بلا تردد ولا وجل من أجل تطهير نفسه، وإرضاء ربه، فهل لهذا مثيل في قوانين الدين أو عادات الشعوب؟!.
والخلاصة: أن هذه المبادئ أو القواعد الشرعية تساهم مساهمة فعالة في منع الجريمة أو التخفيف منها أو توجيهها الوجهة الصالحة.(7/264)
سابعاً - الحدود الشرعية وحكمتها وأثر تطبيقها في منع الجريمة في عصرنا:
لا شك بأن حقيقة الحد الشرعي قاسية، ولكن القسوة تفيد أحياناً في الزجر والردع والإصلاح، وهي أفعل وأمضى وأنفذ من العقوبات التعزيرية كالحبس والضرب البسيط، وليس أدل على أثرها في منع الجريمة من تطبيقها في البلاد السعودية، حيث استتب الأمن، وانقطعت السرقات، وانتهت عصابات قطع الطريق أو المحاربين، بالرغم من أن قطع اليد في ربع قرن فأكثر لا يزيد عن ستة عشر يداً. وكذلك عندما طبقت الحدود في السودان في عام (1983) ، قلّت الجرائم، وعندما جمدت وأوقفت كثرت وانتشرت.
فالعقوبةالحدية أداة زجر وإصلاح معاً، ووسيلة تهذيب وتقويم فعال، لكني ألاحظ أن البدء في تطبيق الشريعة الإسلامية بأقسى ما فيها من عقوبات الحدود وما يصحبها من تصورات مغلوطة وأوهام فاسدة ومبالغات مسرفة، ليس منهجاً صحيحاً ولربما أدى عند تغير السلطة ورئاسة الدولة إلى ردود فعل عنيفة تسيء إلى الإسلام ديناً وعقيدة ونظام حياة، كما حدث في السودان في أواسط الثمانينات في رجب سنة (1406 هـ) الموافق (1985) بعد تطبيق الحدود سنة (1983) وحدث عام (1409 هـ) في الباكستان بعد أن فجرت طائرة الرئيس ضياء الحق الذي طبق الشريعة، لأن شريعة الإسلام منهج متكامل وكل لا يتجزأ، يشمل آفاق الحياة المختلفة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
وطريقة الإسلام أو أسلوبه في الإصلاح يبدأ أولاً بالتوجيه والإقناع، والبرهان والبيان، والدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، والإرشاد الهادئ غير الثائر في الداخل، المعتمد على الإقناع ومناقشة أولئك الذي ألفوا تطبيق القوانين الغربية البعيدة عن فلسفة الإسلام وتصوراته.(7/265)
وبالحكمة ونشر تعاليم الإسلام في أوساط الناس يمكن تحويل المجتمع بما فيه من طاقات خيّرة عن تقاليده وموروثاته الاستعمارية، وتصوراته الغربية الدنيوية، إلى عدل الإسلام ورحمته الشاملة ويسره وإسعاده الفرد والجماعة في عالمه القائم. ولا بد أيضاً من إصلاح أنظمة الحكم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بجعل الشورى أصلاً للحكم، والعدل والإنصاف رائداً للقضاء والسياسة فعلاً، لا مجرد شعار، والعمل بقدر الإمكان على تحقيق الرخاء أو الرفاه الاقتصادي للجميع، وتوزيع الثروة العامة بالعدل، ومحاولة إنهاء مشكلة الفقر والبطالة ومحو الأمية، وتغيير معالم المجتمع الجاهلية، وإصلاح مناهج التربية والتعليم ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وإزالة كل ما فيها من تناقضات وإشكالات، حتى تزول الاضطرابات الفكرية، وتستأصل العُقَد لدى الشباب، وتبدد الشبهات والمشكلات الطارئة في الأوساط العامة، بتأثير بعض النظريات المادية الخالية من تفسير ظواهر الكون تفسيراً دينياً مقبولاً، فإذا ما توافرت القاعدة الإسلامية، واستعد المجتمع نسبياً للعمل بالإسلام، وساد الاحترام لمبادئه وأحكامه، سهل حينئذ البدء بتطبيق أحكام الإسلام وشرعه المتكامل الشامل، ووضع خطة شاملة لتنفيذ جميع أحكامه فور العمل بشريعة الله عز وجل، ودون تدرج.(7/266)
أما أن تصدر قوانين الحدود شكلاً واسماً، ويعلّق أو يجمد تطبيقها فعلاً أو أن نقتصر من تطبيق الإسلام على الحدود الشرعية، وترك الناس في متاهة أو جهالة أو مجاعة أو غليان داخلي بسبب الحاجة والفقر، فذلك ليس من شرع الله ودينه الذي يراد له الهيمنة على كل شؤون الحياة، وربما كان الاقتصار على تطبيق الحدود الشرعية فقط وسيلة لتنفير الناس من الإسلام، وإظهار فشله وعدم صلاحيته أو العمل على تجزئة أحكامه، قال الله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض، فما جزاء ُمن يفعل ُذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّون إلى أشدِّ العذاب، وما الله ُ بغافلٍ عما تعملون} [البقرة:85/2] .
ثامناً - العقوبات الشرعية وحقوق الإنسان في الإسلام:
ترى بعض الجهات العلمية والاجتماعية في أوساط الغرب أن الحدود الشرعية تتنافى مع حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية. وتطالب منظمة العفو الدولية بإلغاء عقوبة الإعدام من قوانين العقوبات في الدول المعاصرة، وقد استجابت بعض الدول الغربية لهذا الاتجاه، كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبعض الولايات المتحدة الأمريكية التي ألغت هذه العقوبة، وبعضها أو أكثرها لم تلغها.
ويردد بعض رجال القانون الوضعي في البلاد العربية مثل هذه الأفكار واصفين العقوبات الشرعية أو الشريعة الإسلامية بأوصاف غير لائقة، ربما أدت بهم إلى الكفر. وتروّج بعض أجهزة الإعلام من صحف وإذاعات، في طليعتها إذاعة لندن بالقسم العربي، الإشاعات المغرضة من جراء تطبيق أحكام الشريعة، ويكثر الحديث في بلاد الغرب عما سمي بحركة الأصوليين الإسلاميين، ويتهمون كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم متزمتون متشددون متعصبون، مع أنهم هم المتعصبون ضد الإسلام وأهله، أو هم الجاهلون السطحيون الذين لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولديهم استعداد لفهم الإسلام خطأ بسبب الدعايات المغرضة والأفكار الشائعة المشوهة.(7/267)
ويعلن في أديس أبابا عاصمة الحبشة اتفاق يوم الثلاثاء الواقع في (1988/11/16) بين رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي السوداني السيد محمد عثمان الميرغني والعقيد جون قرنق زعيم حركة التمرد لتحقيق السلام في جنوب السودان، مقابل تجميد تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان (1) .
ومصدر جميع هذه الاتجاهات المشبوهة شيء واحد هو التعصب ضد الإسلام ومقاومة الاتجاه الإسلامي، ودوافع ذلك وبواعثه معروفة يقصد بها تشويه أحكام الشريعة بسبب الجهل البيِّن بالحكم الشرعي ومسوغاته وحقيقته، أو عدم الربط بين الوسائل والغايات التشريعية، أو تجزئة أحكام الشريعة والنظر إلى جانب واحد منها دون إلمام باتجاهها العام ومراعاة بقية أحكامها. فمن نظر إلى حكم إسلامي ما من زاوية الوسيلة وحدها دون ربطه بالهدف التشريعي العام، بدا له وجه من النقد في تقديره الشخصي من خلال البيئة التي يعيش فيها، والغريبة عن الوسط الإسلامي، وحينئذ يتهم الشريعة بعدم صلاحيتها للمجتمع المتمدن المعاصر ذي النزعة الفردية المتحيزة لواحد من الناس، ويصف عقوباتها بالقسوة والعنف، أو التنكيل والتعذيب والوحشية في زعمه وتصوره القاصر.
__________
(1) اتفق الجانبان على تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 198 3، وألا تصدر أية قوانين تحتوي عى مثل تلك المواد، وذلك إلى حين انعقاد المؤتمر القومي الدستوري والفصل نهائياً في مسألة القوانين (جريدة الاتحاد في الإمارات 8 ربيع الثاني 1409 هـ الموافق 17 نوفمبر 1988) ثم أعلنت إذاعة لندن في مساء الثلاثاء 11 جمادى الأولى 1409 الموافق 20 ديسمبر 1988، وتبعتها جريدة الاتحاد السابقة في اليوم التالي أن الجمعية التأسيسية لم توافق في يوم الثلاثاء المذكور على هذا الاتفاق.(7/268)
والواقع أن الادعاء بوجود التعارض والمنافاة بين حقوق الإنسان وبين الحدود الشرعية أمر باطل للأسباب التالية:
أولاً: إن الله سبحانه وتعالى الذي شرع الحدود في الشريعة الإلهية هو أرحم بعباده وبالناس جميعاً من أنفسهم، وهو أدرى وأعلم بما يصلحهم وينفعهم، ويحقق الخير والنفع والأمن والطمأنينة لهم.
ثانياً: إن الجاني الذي يرتكب جريمة موجبة للحد الشرعي قد خرج عن الحدود الإنسانية الصحيحة، وشذ شذوذاً واضحاً عن معاير الحياة السوية، وطعن المجتمع في أقدس مقدساته، وإن شوهت معالم التقديس في الأوساط الغربية، فأصبح ما يسمى لدينا بالعِرْض مثلاً مفقوداً من المفاهيم الأخلاقية العامة والخاصة عند الغربيين، ومثل هذا المعتدي على حرمات المجتمع الجوهرية بمقتضى النظرة الصحيحة، لم يعد يردعه إلا مثل هذه العقوبة الشرعية المقررة في شرع الله ودينه.
ثالثاً: إن العقوبات البديلة عن الحدود الشرعية في القوانين الوضعية لم تحقق الهدف المطلوب، فانتشرت ظاهرة الجريمة، وكثر المجرمون، وتفننوا في ابتكار عجائب وألوان الإجرام مما لا يكاد يصدّق به عقل.
رابعاً: إن القرآن الكريم واضح الدلالة في الإعلان عن حقوق الإنسان في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70/17] وإن الفقهاء المسلمين أشد العلماء حرصاً على رعاية كرامة الإنسان فيما استنبطوه من أحكام شرعية، فقرروا ضوابط كثيرة وشرطوا شرائط عديدة لتطبيق الحدود، وقد عرفنا أنه لا غل ولا تجريد ولا تصفيد ولا تمثيل في الإسلام، وأن للسجين الحق على الدولة في الغذاء والكساء (1) والمأوى الملائم، ومنع التعذيب الوحشي وغير ذلك من أصول الحفاظ على الكرامة الإنسانية.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 182/4، ط بولاق سنة 1315 هـ.(7/269)
خامساً: إن دعاة حقوق الإنسان أخطؤوا حينما رأوا أن تطبيق العقوبة الشرعية بشرائطها وضوابطها وموازينها العادلة يتنافى مع حقوق الإنسان، كما أخطؤوا أيضاً في محاولة الرأفة بشخص معين لذاته، وليس هو في الواقع أهلاً للرأفة، وإنما مراعاة للمصلحة الشخصية، وإهدار مصلحة الجماعة، والاعتداء على المصلحة العامة، وما يؤدي إليه من فقد الأمن والاستقرار، وانتشار ظاهرة القلق والخوف وعدم الاطمئنان على حق الحياة المقدس والحرية والأموال والممتلكات.
والخلاصة: إن العقوبات الشرعية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل بناءة نفاذه في نشر الأمن والسلام واستئصال نزعة الإجرام بدليل الفارق الواضح والواقع المرّ الأليم في أرقى دول العالم تحضراً كأمريكا زعيمة العالم الحر وبريطانيا وغيرها، حيث تزداد نسبة الجريمة والاعتداء على الأشخاص والأموال، مما لا يردع المجرمين غير الحكم بشرع الله أحكم الحاكمين وأعدل القضاة.
قال الله تعالى عن القرآن الكريم: {قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين، يهدي به الله ُ من اتبَّع رضوانَه سبُلَ السلام ويخرجُهم من الظلُمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم} [المائدة:15/5-16] وقال سبحانه: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتَّبعوه واتقوا لعلكم تُرْحَمون} [الأنعام:155/6] وهذا بلا شك يحتاج إلى إيمان برسالة السماء وهدي الله تعالى.(7/270)
تاسعاً - شرعية الجريمة والعقوبة، أو مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) ، وتأثير ذلك على ظاهرة الإجرام:
إن التصور السابق للجريمة المنصوص على تجريمها في قوانين الدولة العقابية، ومعرفة نوع العقوبة المقررة قانوناً في تقنين منشور متداول، يعد حاجزاً قوياً ما نعاً من الإجرام والتفكير بالجريمة والتخطيط لها.
لذا ظلت النظم الديمقراطية تحترم مبدأ قانونية أو شرعية الجرائم والعقوبات، بمعنى تركيز سلطة التجريم في يد الشارع أو من يفوضه في ذلك ضمن حدود معلومة، وقد أعلنت هذا المبدأ الثورة الفرنسية ونصت عليه وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام (1789م) في المادة الثامنة، استجابة لصيحات الفلاسفة والمفكرين الذين حملوا على ما كان عليه القضاة من سلطة تحكمية أدت إلى إسراف في العقاب وعسف بحريات الأفراد، ونص عليه في المادة الرابعة من قانون العقوبات الذي أصدره نابليون سنة (1810م) ، ثم انتقل إلى الشرائع الأخرى، وصاغه العرف القانوني بعبارة موجزة هي «لا جريمة ولا عقوبة بغير نص» . والحكمة منه كفالة حقوق الأفراد وحريتهم في أفعالهم وتصرفاتهم، إذ لو ترك أمر التجريم للقاضي، لأضحى الأفراد في حيرة من أمرهم، ثم إن العدالة والمنطق يقضيان به حتى لا تواجه الدولة الأفراد بعقاب لا علم لهم به.
وبما أن هذا المبدأ يؤدي إلى جمود التشريع الجنائي وتخلفه عن مسايرة التطورات الحديثة، فقد اتجه الفقه والقضاء عامة إلى ضرورة التخفيف من حدته، وتوسيع سلطة القاضي في تقرير العقوبة أو إيقاف تنفيذها أحياناً، ولكن دون إخلال بأصل المبدأ، وهو حرمان القاضي من سلطة التجريم.(7/271)
وفي هذا المجال أيضاً نجد بعض رجال القانون الوضعي يتهمون الشريعة الإسلامية جهلاً وغلطاً وظلماً وتعصباً ضدها بأنها تترك أمر التجريم للقاضي. ومنشأ الاتهام راجع في تقديرنا إلى ناحية تنظيمية: هي عدم وجود تقنين خاص بالجرائم والعقوبات عند الفقهاء الشرعيين المعاصرين، مع أن الأمر سهل جداً، إذ لا مانع شرعاً من وجود مثل هذا التقنين، ومن اليسير على فقهاء الشريعة إيجاده وصياغته في أشهر معدودة، إذا أظهرت السلطة الحاكمة استعدادها لتطبيق وإنفاذ العمل به، وقد وجد فعلاً بعض هذه التشريعات في ليبيا والسودان والإمارات. ولكن لا يعني عدم التقنين أن القاضي حر التصرف بالعقاب حرية مطلقة، وإنما الأمر في شأن التعازير (العقوبات غير المنصوص صراحة على نوعها ومقدارها) راجع شرعاً وفقهاً لتقدير ولي الأمر الحاكم أي الدولة، فالدولة تضع للقضاة من الأنظمة والقوانين الجزائية ما يناسب العصر، وعلى وفق ما تراه اللجان المتخصصة المكونة عادة من العلماء والفقهاء، بحسب متطلبات المصلحة العامة، ومقتضيات الزمان وتطور الأحداث.
لذا كان ينبغي أن يعرف هؤلاء القانونيون أن مبدأ التفويض لولي الأمر في تقدير العقوبات التعزيرية في الإسلام، هو في الأصل مبدأ دستوري تمارسه الدولة مقيدة بأحكام الشريعة، كما هو الشأن في أن كل دولة لها الحق في وضع القوانين الداخلية التي تريدها.(7/272)
وعليهم أن يعرفوا أن الإسلام يفترض في كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام شريعته، ومعرفة الفرائض والحلال والحرام، والمعاصي والعقوبات أو الجزاءات المقررة في الإسلام؛ لأن من الفرائض الشرعية العينية المطلوبة من كل المسلمين تعلم الحد الأدنى المفروض العلم به من الشريعة، فلا يصلح الاحتجاج بتقصير المسلمين في التعلم سبباً للقول بأن الأفراد لا يعلمون ما هو ممنوع ولا أنواع العقوبات، حتى توجد التقنينات. ثم إن كتب الشريعة، سواء القرآن والسنة ومصنفات الفقهاء المطولة والموجزة، فيها البيان الواضح المفصل لكل المعاصي والمخالفات، والكبائر والصغائر، والتحذير من مخاطرها وبيان مدى ضررها، والتصريح بالعقوبات الدنيوية والأخروية المقررة لها.
والقاضي لا يملك في الشريعة سلطة التجريم وتحديد أصل العقاب بحسب رغبته وهواه، كما يفهم خطأ، وإنما هو مقيد في ذلك بأحكام الشريعة، وبما تضعه له الدولة من نظام، إذ ليس لأي مسلم سلطة التشريع، وإنما السلطان في الأحكام إنشاء ووضعاً للشريعة والمشرع وهو الله تعالى، كل ما في الأمر هو أن للقاضي سلطات تقديرية في التطبيق فقط، حسبما يرى ملائماً لظروف الجريمة والجاني ولكن في غير دائرة الحدود والقصاص المنصوص على أحكامها صراحة، وإنما في مجال التعزيرات التي يمكن إدخال أغلب نصوص القوانين الجزائية الحديثة في مضمونها.(7/273)
ويوضح ذلك أن الشريعة ـ كما هو معروف ـ جاءت حرباً على الأهواء الشخصية والنزعات والميول الفردية، كما دل على ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء:36/17] وقوله سبحانه: {إن يتّبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى} [النجم:23/53] وقوله عز وجل: {وما لهم به من علم، إن يتَّبعون إلا الظن، وإن الظنَّ لا يُغْني من الحق شيئاً، فأعرضْ عمن تولَّى عن ذِكْرنا، ولم يرِدْ إلا الحياة الدنيا} [النجم:28/35-29] وقوله جل جلاله: {ولو اتّبعَ الحقُّ أهواءهم، لفسدت السموات والأرضُ ومن فيهن، بل أتيناهم بِذِكْرهم، فهم عن ذِكْرهم مُعْرضون} [المؤمنون:23/71] . لذا وضعت الشريعة نظاماً تشريعياً متكاملاً ودقيقاً للحياة، وسبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» كما يتضح من القاعدتين الأصوليتين التاليتين:
1 - «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص» .
2 - «الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال: الإباحة» .
ومصدر هاتين القاعدتين قول الله تبارك وتعالى: {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15/17] وقوله سبحانه: {وما كان ربُّك مُهْلِكَ القرى حتى يبعثَ في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/28] وأمها: أصلها وعاصمتها ومركزها، وقوله جل وعز: {رسلاً مبشرِّين ومنذِرِين، لئلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسُلِ} [النساء:165/4] .
هذه النصوص الشريفة قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار.
وترتب على هذا المبدأ أن فترة الجاهلية عند جمهور المسلمين لا عقاب على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت إراقة دم حرام أم غيرها من الربا والزنا والنهب والغصب والمنكرات.(7/274)
ويمكن القول إجمالاً: إن الشريعة والقانون الوضعي الجنائي يلتقيان في أنه إذا لم يكن هناك نص مانع من شيء، فهو مباح، بيد أن المنصوص عليه قانوناً صريح محصور في دائرة التقنين الموضوع، أما المنصوص عليه شرعاً فهو غير مقنن في مجموعة قانونية محدودة وموحدة بين المذاهب، وليس ذلك بعسير علينا عند الطلب، فقد يكون التحريم أو التجريم والعقاب مأخوذاً من نص القرآن الكريم أو السنة النبوية، أو من إجماع الأمة، أو من اجتهاد المجتهدين في ضوء النصوص، وروح التشريع الإسلامي. والنص الحاظر شرعاً أو المانع من فعل قد يكون صريحاً، كما هو الشأن في الحدود (العقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً) وقد يفهم دلالة وضمناً من طريق اجتهاد علماء الإسلام الثقات. ودور العلماء في الحقيقة مجرد كاشف ومظهر لحكم الله في الحادثة، ومبيّن للقيود والشروط والأوصاف. أما أصل الحكم حظراً وعقاباً، فمرده إلى الحكم الإلهي، إذ لا بد لصحة الاجتهاد من مستند شرعي يعتمد عليه في الاستنباط.
ثم إن المحذور الذي يخشى منه القانونيون من مخالفة قاعدة: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» وهو أن يلجأ القاضي فيما لا نص بتجريمه إلى الأخذ بالقياس، هذا المحذور قد فرغ من بحثه علماء الأصول من الحنفية ومن وافقهم الذين قرروا بصراحة عدم جواز القياس في الحدود والمقدرات الشرعية، سواء بالنسبة للمجتهد الفقيه أم للقاضي، وقرروا عدم جواز القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات؛ لأن القياس إنما يفيد الظن، والظن سبيل الخطأ، فكان في سلوكه شبهة، فلا يثبت من طريقه عقاب أو تجريم لحادثة لا نص فيها؛ لأن «الحدود تدرأ بالشبهات» وفي هذا التقعيد الأصولي ضمانة كافية أكيدة لحقوق وحريات الأفراد في تصرفاتهم وأفعالهم.(7/275)
والقائلون بالقياس في الحدود كالمالكية والشافعية لا ينشئون حكماً جديداً بناء على تحريم حادثة، وإنما يطبقون النص المذكور في حادثة على حادثة مشابهة تماماً، مساوية للواقعة المنصوص عليها، فيكون عملهم من قبيل تطبيق النص على الوقائع، إذ ليست الوقائع كلها منصوصاً عليها حتى في القوانين النافذة الآن، ويكون القياس المنفي قانوناً في التجريم والعقاب معمولاً به شرعاً باتفاق الفقهاء، إذ ليس للمجتهد سلطة التشريع، أو إنشاء ووضع أحكام جديدة بالمنع والعقاب فيما لم يأذن به الشرع.
وتوضيحاً لذلك يحسن بيان مضمون التشريع الإسلامي في مجال العقوبات:
إن الجرائم والعقوبات محددة بذاتها ونوعها، معروفة تماماً في الإسلام، وهي كل ما نهى عنه القرآن الكريم أو السنة النبوية أو أبانه الفقهاء، والعقوبات الإسلامية منها كما تقدم ما هو مستوجب للإثم والعقاب الأخروي فقط، ومنها ما يجتمع فيه الوصفان: العقاب في الدنيا، والعقاب في الآخرة. والعقوبات الدنيوية تكون على فعل محرّم أو ترك واجب، وهي كما عرفنا نوعان: عقوبة مقدّرة، وعقوبة غير مقدّرة الكمّ شرعاً، والمقدّرة تختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم وكبرها وصغرها، وبحسب حال العاصي أو المذنب أو المجرم نفسه، كما أبان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.(7/276)
والعقوبات المقدرة نوعاً ومقداراً وهي الحدود الشرعية الخمسة أو السبعة كما تبين سابقاً لدى الفقهاء قد نص عليها القرآن الكريم أو السنة النبوية صراحة، ثم أجمع عليها الصحابة الكرام والفقهاء من بعدهم. والسبب في نص الشرع عليها: هو حرصه على إقامة ركائز وحصون أساسية في حياة المجتمع، تعد بمثابة القواعد الصلبة، لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة في الأنفس والأموال والأعراض والعقول وإقرار دين التوحيد الحق، ومنع الرذيلة، ودرء المفسدة، واستئصال نزعة الشر، وبتْر أسباب المنازعات والأمراض والفوضى الأخلاقية عن الناس في أخطر ما يمس جوهر حياتهم الاجتماعية التي لا بد لها من وجود نظام ثابت صحيح، غيرمِعْوَج. وليس للقاضي بداهة مخالفة النصوص في تجريم وعقاب هذه الجرائم التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً من العقوبات، ولم يجز الشرع في العقوبات المقدرة عدا القصاص العفو عنها، ولا الشفاعة فيها، ولا الصلح والتنازل عنها، ولا إسقاطها والإبراء عنها، ولا المعاوضة عنها، بعد رفع الأمر فيها إلى القاضي، صوناً لحق الجماعة العام فيها وفي تطبيقها. ولا يملك القاضي التدخل في شأن هذه العقوبات إلا بإصدار الحكم فيها بعد ثبوت الجريمة، بطرق الإثبات الشرعية المقبولة، لأنها تمس النظام العام للمجتمع: وهو المحافظة على مقاصد الشريعة أو أصولها الكلية الخمسة، وهي الدين والنفس والعرض أو النسب والعقل والمال.(7/277)
وأما العقوبات غير المقدرة نوعاً ومقداراً وهي التعزيرات، فهي أيضاً معروفة لدى كل مسلم، ويجب عليه تعلم أحكام شرعه، والتعزير: هو العقوبة المشروعة على معصية أو جناية (جريمة) لا حد فيها ولا كفارة، سواء أكانت الجريمة على حق الله تعالى، أي حق المجتمع، كالأكل في نهار رمضان عمداً، والإخلال بأمن الدولة، والتجسس، وترك الصلاة، وطرح النجاسة ونحوها في طريق الناس، أو على حق الأفراد، كمباشرة المرأة الأجنبية (غير القريبة قرابة رحم محرم) فيما دون الجماع، والتقبيل واللمس، والنظر والخلوة المحرمة ونحوها، وسرقة الشيء القليل الذي هو دون النصاب الشرعي الموجب للحد (دينار أو ربع دينار على الخلاف بين الفقهاء) والسرقة من غير حرز حافظ للمال، والقذف بغير لفظ الزنا ونحوه من أنواع السب، والضرب والإيذاء بأي وجه، كالقول: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، يا فاجر، يا زنديق، يا آكل الربا، يا شارب الخمر أو يا حمار، أو بغل أو ثور، في رأي الأكثرين، وخيانة الأمانة من الحكام وولاة الوقف ونظّار الأوقاف، وتبديد أموال الأيتام، وإهمال الوكلاء والشركاء، والغش في المعاملة، وتطفيف المكيال والميزان (النقص من البائع والزيادة من المشتري) وشهادة الزور التي كشف أمرها، والرشوة، والحكم بغير ما أنزل الله تهاوناً، والاعتداء على الرعية، والدعاء بدعوة الجاهلية وعصبيتها ونحو ذلك (1) .
ويمكن وضع ضابط عام للتعزير بمثابة تقنين أو تعريف عام: وهو كل ما فيه اعتداء على النفس أو المال أو العرض أو العقل أو الدين مما لا حدّ فيه، وذلك يشمل كل الجرائم التي هي ترك واجب ديني أو دنيوي، أو فعل محرم محظور شرعاً للمصلحة العامة أو الخاصة بالشخص.
وذكر فقهاء الحنفية ضابطاً مختصراً لجرائم التعزير وهو: يعزر كل مرتكب منكر ـ خطيئة لا حد فيها ـ أو معصية ليس فيها حد مقدر أو مؤذي مسلم أو غير مسلم بغير حق، بقول أو فعل أو إشارة بالعين أو باليد (2) . أو بعبارة أخرى: إن ضابط موجب التعزير: هو كل من ارتكب منكراً أو آذى غيره بغير حق بقول أو فعل أو إشارة، سواء أكان المعتدى عليه مسلماً أم كافراً (3) .
__________
(1) البحر الرائق: 240/8، تكملة المجموع: 361/18.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 195/3 وما بعدها.
(3) البدائع: 63/7.(7/278)
وهذا الضابط، وإن كان فيه عموم وإجمال، خلافاً لما تتطلبه قوانين العصر من النص صراحة على كل جريمة بعينها وعقوبتها، إلا أنه بمثابة القاعدة الفقهية الكلية المفيدة في التفقيه ووضع الإطار العام للجرائم غير الحدية، ويمكن بسهولة إفراد كل جريمة بالبيان، لأن مرجع القاضي في التجريم ـ كما تقدم ـ إنما هو الشرع، وليس هو العقل والهوى الشخصي، الذي ليس له أثر في شرع الله بإنشاء الأحكام، وما على القاضي إلا أن يتقيد في كل تجريم بأوامر الشرع ونواهيه في القرآن والسنة، ويهتدى بما أجلاه الفقهاء تماماً في هذا الشأن، فما قبّحه الشرع أو منعه فهو قبيح ممنوع، وما حسّنه الشرع أو طلبه، فهو حسن مطلوب أو مباح، كما
يقول الأصوليون غير المعتزلة. وحكم الشرع دائماً مقيد بالمصلحة العامة، ودفع الضرر العام. فإن لم تكن هناك مصلحة عامة أو ضرر عام، روعيت المصلحة الشخصية، دون إضرار بالآخرين. ويقسم ابن تيمية رحمه الله الجرائم التعزيرية، من ناحية أصل التكليف إلى قسمين:
الأول: ما تكون العقوبة فيه على إتيان فعل نهى الله عنه كالغش، والتزوير، وشهادة الزور (أي التي ظهر أمرها للقاضي) وخيانة الأمانة، والتدليس ... الخ.(7/279)
الثاني: ما تكون العقوبة فيه على ترك واجب أو على الامتناع من أداء حق، وتكون هذه العقوبة بقصد حمل الشخص على أداء الواجب أو الحق، كعقوبة تارك الزكاة، فهي للحمل على الأداء وليست على ترك الزكاة، فإن أداها التارك فلا عقاب. وكذلك الحال بالنسبة لحبس المرتد، فإن تاب فلا عقاب، وحبس المدين المماطل، فإن وفى الدين فلا عقاب (1) .
والعقوبات التعزيرية: هي التوبيخ أو الزجر بالكلام، والحبس، والنفي عن الوطن، والضرب. وقد يكون التعزير بالقتل سياسة في رأي الحنفية وبعض المالكية، وبعض الشافعية إذا كانت الجريمة خطيرة تمس أمن الدولة أو النظام العام في الإسلام، مثل قتل المفرّق جماعة المسلمين، أو الداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أو التجسس، أو انتهاك عرض امرأة بالإكراه، إذا لم يكن هناك وسيلة أخرى لقمعه وزجره (2) .
__________
(1) الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي للأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة: 122/1.
(2) الفروق للقرافي: 79/4، الاعتصام للشاطبي: 120/2، الطرق الحكيمة لابن القيم: ص 101 وما بعدها، أحكام القرآن للجصاص: 412/2، تبيين الحقائق: 207/2، المغني: 328/9، رد المحتار: 196/3، الشرح الكبير للدردير: 355/4، المهذب: 242/2، غاية المنتهى: 334/3، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 114، الحسبة لابن تيمية: ص48.(7/280)
يدل هذا على أن العقوبات التعزيرية معروفة أيضاً في الشريعة، وقد أوضحها الفقهاء في كتبهم، لكنهم قد يذكرونها إجمالاً، ويتركون اختيار إحداها للقاضي يفعل ما يراه محققاً للمصلحة من العقاب، وفي هذا مرونة ومنح للقاضي شيئاً من الحرية، وإعطاؤه سلطة تقديرية، وقد يحدد الفقهاء العقوبة الخاصة بكل جريمة على حدة، فتكون الكتب الفقهية بمثابة التقنينات، وإن كان ينقصها الجمع والتنظيم والإيجاز وحسن التبويب والتفصيل، لتعرف عقوبة كل جريمة بعينها. وليس للقاضي أصلاً الحكم بعقوبة غير مألوفة شرعاً، أما إن لم يكن في الكتب أحياناً تقدير محدد لعقوبة كل جريمة بذاتها، فحينئذ يتمكن القاضي من اختيار نوع العقوبة الملائم قدرها للجريمة، ومراعاة ظروف الجاني وأحواله تغليظاً أو تخفيفاً، لأن المقصود من التعزير: هو الزجر، والناس يتفاوتون بتفاوت مراتبهم فيما يحقق الهدف المقصود من العقاب، ولأنه قد تحدث جرائم لم يألفها الناس، حسبما تقتضي طبيعة التطورات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتفنن المجرمون في ابتكار ألوان مختلفة لجريمة واحدة، كما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «سيحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» (1) .
وإذا حكم القاضي بالضرب، فليس لأقله حد معين، فهو سوط فأكثر، ويفعل ما يراه محققاً للمصلحة والزجر. وأما أقصى الضرب فهو مقيد بألا يتجاوز مقداراً معيناً، وهو ما دون أقل الحدود الشرعية، للحديث المتقدم: «من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين» .
__________
(1) انظر كتاب الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله للكاتب صاحب البحث.(7/281)
لكن اختلف الفقهاء في أكثر الضرب، فقال أبو حنيفة ومحمد والشافعية والحنابلة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود الشرعية، وهو أربعون جلدة، وإنما ينقص
منه سوط واحد، فلا يتجاوز الحكم تسعة وثلاثين سوطاً، باعتبار أن أقل الحدود للعبيد أربعون جلدة. وقال أبو يوسف: لا يبلغ بالحد ثمانين جلدة، وينقص منه خمسة أسواط، فلا يتجاوز خمسة وسبعين سوطاً، باعتبار أن أقل حد الأحرار ثمانون جلدة (1) .
وقال المالكية: يجوز التعزير بمثل الحدود فأقل وأكثر بحسب الاجتهاد (2) .
وتقدير مدد الحبس أو السجن متروك للقاضي. وعلى كل حال يمكن إصدار نظام أو قانون عام يحدد الحدود الدنيا والقصوى لكل عقوبة، ويبين مدى سلطة القاضي، فهذا متروك لاجتهاد ولاة الأمور، ولا حظر فيه شرعاً، أو عقلا، وإنما هو مستحسن بحسب الأعراف المعاصرة، ويمكننا بسهولة وضع تقنين شرعي يتناسب مع ظروف العصر، وقد حدث هذا فعلاً في القوانين الجنائية المستمدة من الشريعة الإسلامية كما تقدم.
ومن صفات التعزير عند الحنفية والشافعية: أنه ليس واجباً على القاضي الحكم به، وإنما يجوز له العفو عنه وتركه، إذ الم يتعلق به حق شخصي لإنسان معين (3) ، لما روي أن النبي قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» (4) . وهذا يدل على أنه يراعى في التعزير مصلحة المتهم، ويسلك معه مسلك التخفيف.
__________
(1) البدائع: 64/7، فتح القدير: 214/4، تبيين الحقائق: 209/3، نهاية المحتاج: 175/7، المهذب: 288/2، المغني: 324/8، غاية المنتهى: 333/3 - 335، السياسة الشرعية لابن تيمية: ص 112، الطرق الحكمية: ص 265.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 355/4.
(3) البدائع: 64/7، حاشية ابن عابدين: 204/3، مغني المحتاج: 193/4، قواعد الأحكام للعز: 158/1، المهذب: 288/2.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي عن عائشة، وصححه ابن حبان.(7/282)
يتجلى مما سبق أن العقوبات التعزيرية تتصف بصفة المرونة في التطبيق، فيترك فيها للقاضي الحرية في اختيار نوع العقاب الملائم، أو الإعفاء من العقوبة أو التفاوت بين المجرمين بحسب الظروف والأحوال، وليس للقاضي أصلاً سلطة في التجريم والعقاب كيفما يشاء، وإنما هو مقيد في حكمه بأوامر الشرع وقيوده وقواعده، ويستأنس بتصنيف الفقهاء للعقوبات. وهذا كله يساعد في إصلاح المجرم وبالتالي الإقلال من الجريمة ومنعها، بسبب رهبته من العقاب المحدد مطلقاً، وهو أسمى ما ينشده رجال القانون للتخفيف من حدة مبدأ قانونية الجرائم، وإعطاء سلطات تقديرية للقاضي في العقاب، مثل ترتيب العقوبة بين حد أقصى وحد أدنى يتراوح بينهما تقديره، أو ائتمانه على تطبيق نظام الظروف المخففة، أو تخويله سلطة الأمر بإيقاف تنفيذ العقوبة في بعض الأحوال. وبذلك بدأت الشريعة الإسلامية في العقوبات التعزيرية بما انتهت إليه القوانين الحديثة في أفضل وأسمى نظرياتها.(7/283)
عاشراً ـ موانع العقاب أو موانع المسؤولية، وأسباب الإباحة وإنسانية العقوبة:
قد يمتنع تطبيق العقوبة لأسباب إنسانية تؤدي إلى منع الجريمة وحماية المجتمع من تكرار وقوع الجريمة وهي نوعان:
1 - موانع العقاب أو موانع المسؤولية: هي أسباب شخصية ترجع إلى تخلف الركن المعنوي للجريمة وهو القصد الجنائي (أو الإرادة الآثمة) إما لانعدام أهلية الفاعل وهو عذر صغر السن أو عدم التمييز والجنون، وإما بسبب انتفاء التكوين الطبيعي للإرادة وهو عذر الإكراه.
2 - أسباب الإباحة: هي أسباب موضوعية ترجع إلى ظروف خارجة عن شخص الفاعل تمنع توافر علة التجريم، وتؤدي إلى عدم تطبيق العقوبة على من يرتكب فعلاً يعد في الأصل جريمة، مثل ممارسة حق الدفاع الشرعي واستعمال الحق، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسؤولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية، إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً وجزائياً. والدفاع عامل مهم من عوامل منع الجريمة. واستعمال الحق مثل رضاء المجني عليه يسقط القصاص للشبهة، ورفع العقاب عن المكره ومثله المضطر في الشريعة يتمشى مع مراعاة الوظيفة الإنسانية للعقوبة، فلا قصاص في رأي الحنفية والظاهرية على المستكره على القتل، ولا عقاب عند جمهور الفقهاء على المرأة المستكرهة على الزنا، لقوله تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فتياتِكم على البِغَاءِ إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومَنْ يكرِههن، فإنَّ الله من بعد إكراهِهِن غفورٌ رحيمُ} [النور:33/24] وكذا لا عقاب على الرجل المكره على الزنا في مذهبي الحنفية والشافعية، لأن الإكراه يوّرث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (1) .
والمضطر لا عقاب عليه، لأن عمر رضي الله عنه أوقف قطع يد السارق عام الرمادة أو المجاعة العامة بالناس، وقال: «لا أقطع في عام سنة» (2) . وذكر ابن القيم أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستقت، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت، فشاور الناس في رجمها، فقال علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها: {فمن اضْطُرَّ غير باغ ولا عاد فلا إثمَ عليه} [الأنعام:145/6] فخلى عمر سبيلها (3) . وهذا يتفق أيضاً مع مبدأ انتفاء القصد الجنائي، وتطبيق قاعدة رفع الحرج، ودرء الحدود بالشبهات.
__________
(1) البدائع: 175/7 وما بعدها، بداية المجتهد: 389/2، الشرح الكبير للدردير: 444/3، الفروق للقرافي: 208/2، قواعد الأحكام: 132/2، القواعد لابن رجب: ص 286 وما بعدها، كشاف القناع: 98/4، المغني: /645، أعلام الموقعين: 183/4، بتحقيق عبد الحميد.
(2) أعلام الموقعين: 33/3، مطبعة النيل بمصر.
(3) المرجع السابق.(7/284)
حادي عشر ـ الآثار الإصلاحية الكبرى لسياسة العقاب في الإسلام:
تبين مما سبق، وهذا بمثابة الخاتمة للبحث أن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات، ومراعاة مبادئ السياسة الجنائية الإسلامية يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود من العقاب وهو تقويم المجرم، ومنع الجريمة أو التخفيف والإقلال منها، وهذه هي أهم آثار التطبيق للنظام الجنائي في الإسلام:
1 - تحقيق الزجر والردع للجاني ولأمثاله وللناس قاطبة، وإصلاح المجرم وتهذيبه أيضاً وعودته إلى الحياة عضواً صالحاً مستقيماً، كما سأبين، ففي إقامة الحدود الشرعية الزجر الكافي الذي يمنع من الجريمة، وليس أدل على صدق ذلك من أن تطبيق العقوبات الشرعية في السعودية وغيرها أدى إلى تحقيق الأمن والاطمئنان مما لا نجد له مثيلاً في العالم. وأن الخوف من العقوبة الأخروية ومن العذاب الشديد في نار جهنم يملأ النفس رهبة وخشية من اقتراف الجريمة.
والتوبة باب مفتوح لصلاح الجناة والمجرمين، كما أن المواعظ والإرشادات المتكررة في الحياة الإسلامية من أمر بمعروف ونهي عن منكر، وسماع خطب الجمعة والعيدين وغيرهما في المناسبات الإسلامية يعد عاملاً مهماً جداً في الإصلاح والتقويم، والزجر الردع معاً.
2 - عدم الحرص الشديد على تطبيق الحدود الشرعية: إن الأخذ بمبدأ(7/285)
الستر على غير المجاهر بالمعصية، ودرء الحدود بالشبهات الكثيرة يؤديان إلى ندرة العقوبة وعدم الحرص الشديد على تطبيقها.
3 - منع الجريمة أو التخفيف منها: لا يمكن في الغالب استئصال الجريمة في أي مجتمع ولكن يمكن إضعافها وتقليل نسبتها باتباع نظام صحيح يحقق الهدف من العقوبة وهو صيانة الأمن، واستتباب النظام، ومنع الفوضى وجعل احتمال الجريمة أمراً بعيد الحصول.
4 - إصلاح المجرم وتقويمه واستقامته: إن كل إنسان يشعر ذاتياً بفداحة المسؤولية والعقاب، ويحس بضرر ذلك على سمعته وشرفه واعتباره، فإذا عوقب مرة، دفعه ذلك في الغالب إلى العزم على عدم العود إلى جرم آخر، وصلح حاله واستقام أمره.
5 - نظافة المجتمع وطهره وحمايته من ظاهرة الإجرام: وهذا هدف أساسي في سياسة العقاب في الإسلام، لأن أمن الفرد من أمن الجماعة، والعيش في سلام هو غاية كل إنسان، فيكون توقيع العقوبة المناسبة أدعى إلى صون مصلحة المجتمع أكثر من رعاية مصلحة فرد أو إنسان معين.
6 - تقدير المخاطر، والتوعية بأن الوقاية خير من العلاج: إن تطبيق العقوبة في الإسلام أمر علني لينزجر الناس، ويحاسبوا أنفسهم، ويقدروا ما قد يقعون فيه من الحساب العسير والعقاب الصارم؛ لأن كل امرئ بما كسب رهين، والوقاية خير من العلاج، وسد الذرائع المؤدية إلى الفساد أمر واجب، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.(7/286)
7 - نشر ظاهرة الخوف من العقاب الدنيوي والأخروي يحقق مصالح عامة كثيرة أهمها صون أمن المجتمع، والتوجه نحو التنمية والإنتاج وتوفير الطاقات، وتقليل الإنفاق على مقاومة الجريمة، فهناك خسائر تلحق بالممتلكات ومصادر الثروة كالسرقة والنصب والاختلاس، وتهريب الأموال، وخسائر في الأرواح بسبب القتل أو الإصابة بالعجز الكلي أو الجزئي، وتعطيل جزء من الطاقة بإيداع المجرمين في السجون، وإن صارت السجون الآن طاقة إنتاجية من خلال التدريب وتأهيل المسجونين ليتعلموا حرفة أو مهنة يتعيشون منها بعد إطلاق سراحهم من السجون. وهناك نفقات طائلة تنفقها الدولة في مكافحة الجريمة، كمرتبات رجال الشرطة والقضاء، ونفقات السجون ودور القضاء والموظفين في هذه المؤسسات وغير ذلك.
8 - تحقيق الأمن والاستقرار الدائم: إن ظاهرة الجريمة تحدث قلقاً بالغاً واضطراباً شديداً وغلياناً لا يهدأ إلا بالعقوبة الصارمة.
9 - بقاء العالم: إن في تطبيق العقوبة كالقصاص (أو الإعدام) صوناً لحياة العالم وأرواح الناس، وبقاء النوع الإنساني، لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل إذا قتل، ارتدع وانزجر، فأحيا نفسه، وأحيا غيره، قال الله تعالى: {ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أولي الألبابِ، لعلكم تتقون} [البقرة:179/2] . لذا كانت المطالبة بمنع عقوبة الإعدام خطأ بيناً لا يتفق مع المصلحة العامة والخاصة في شيء أبداً.(7/287)
10 - حصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن: وهذا من مقاصد التشريع وأصول العقاب في الإسلام، ويتمثل هذا بالترهيب من إشاعة الفاحشة في المجتمع، قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} [النور:19/24] . وإذا شاعت الفاحشة تجرأ الناس على ارتكابها وهان عليهم اقترافها، ويتمثل أيضاً بمبدأ تفريد العقاب القضائي في نطاق التعازير (أي إصدار العقوبة الملائمة لكل فرد على حدة حسبما يلائمه ويزجره، فيحقق فكرة السلطة التقديرية للقاضي ويساير التطور) وكذا المسؤولية الشخصية، قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/6] . ثم إن العقوبة واجبة التطبيق عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة، ولو وقعت خارج دار الإسلام، لأن الممنوع أو الحرام لا تتغير صفته في أي مكان.
11 - الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة: لقد حرص الإسلام على هذا المعنى، وأقام مبدأ التكافل الاجتماعي ضد الجريمة، أو المسؤولية الجماعية المفروضة على كل فرد أن يرعى مصالح الجماعة، كأنه حارس لها أو موكل بها، وهذا ما صوره الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث السفينة بقوله: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (1) .
12 - الحفاظ على المقاصد العامة للتشريع أو الأصول الخمس الكلية: تقوم خطة الشريعة في التجريم والعقاب على أساس الحفاظ على المصالح الأساسية المعتبرة في الإسلام، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي المصالح التي لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بوجودها وصيانتها من الاعتداء، فيكون الاعتداء عليها جريمة يعاقب عليها المعتدى بما يتناسب مع جسامة الجرم وخطورته (2) .
والخلاصة: إن العقوبات الإسلامية أدوات فعالة في القضاء على الجريمة والمجرمين، ووسائل نفّاذة في نشر الأمن والسلام واستئصال الجريمة، والدليل على ذلك واقع البيئة التي تطبق فيها، وحينئذ لا يلتفت إلى أي نقد أو اعتراض أو تشويه لمعنى العقوبة وأساليبها وأنواعها في شريعة الله تعالى، فتلك المزاعم باطلة، وأفكار مروجيها خطأ، ومصدرها الجهل بحقيقة الأمور في الشريعة، ومراعاة مصلحة شخص على حساب الجماعة كلها.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه.
(2) التعزير والاتجاهات الجنائية المعاصرة للدكتور عبد الفتاح خضر: ص 9.(7/288)
الفَصْلُ الأوَّل: حَدّ الزِّنا
تمهيد:
الزنا حرام وفاحشة عظيمة، وهو من الكبائر العظام، واتفق أهل الملل على تحريمه ولم يحل في ملة قط، ولهذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، قال الله تعالى: {ولا تقربوا الزنى، إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32/17] وقال سبحانه: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهاناً} [الفرقان:68/25-69] .
والأصل في مشروعية حد الزنا للبكر قوله عز وجل: {الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور:2/24] . وأما الرجم للمحصن فقد ثبت في السنة، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم رجم ماعزاً وامرأة من بني غامد، بأخبار بعضها متواتر، كما أثبتنا في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء (1) ، وأجمع الصحابة على مشروعية الرجم.
وحد الزنا من حقوق الله تعالى الخالصة له، أي من حقوق المجتمع، لما يترتب على الزنا من اعتداء على الأسرة والنسل ونظام المجتمع.
__________
(1) راجع تحفة الفقهاء: 188/3، 192 وسيأتي تخريج الحديث بإيجاز.(7/289)
واتفق أئمة المذاهب على أنه لا يجب الحد على الصبي والمجنون، لقوله صلّى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» (1) .
وكما أن الزنا حرام، اللواط محرم أيضاً، بل هو أفحش من الزنا، لقوله عز وجل: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة، ما سبقكم بها من أحد من العالمين} [الأعراف:80/7] فسماه الحق تعالى فاحشة، وقال: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام:151/6] . وقد عذب الله عز وجل قوم لوط بما لم يعذب به أحداً من الناس. وقال صلّى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (2) . وروى البيهقي عن أبي موسى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجل ُالرجلَ فهما زانيان» .
والسحاق: (وهو فعل النساء بعضهن ببعض) حرام أيضاً، ويعزر فاعل المساحقة ولو كان ذلك بين رجل وامرأة، أو بين رجلين. وروى البيهقي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجل ُالرجل فهما
__________
(1) أخرجه البزار في مسنده بهذا اللفظ عن أبي هريرة. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص وهو متروك اهـ. إلا أنه روي عن صحابة آخرين بألفاظ مختلفة: منها ـ ما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان، ولفظه: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» وروي أيضاً عن علي بن أبي طالب وأبي قتادة وثوبان وشداد بن أوس.
(راجع نصب الراية: 161/4 وما بعدها، جامع الأصول: 271/4، 349، مجمع الزوائد: 251/6، سبل السلام: 180/3) .
(2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم والبيهقي عن ابن عباس، ورواه البزار في مسنده وابن ماجه والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وإسناده أضعف من الأول (راجع نصب الراية: 339/3 وما بعدها، جامع الأصول: 305/4، 271، التلخيص الحبير: ص 351) .(7/290)
زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» (1) . وعن واثلة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سحاق النساء بينهن زنا» (2) .
وفي الجملة: إن العين بريد الزنا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه» (3) مما يدل على أن غض البصر واجب شرعاً. قال تعالى: {قل للمؤمنين: يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} [النور:30/24] {وقل للمؤمنات: يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [النور:31/24] فمن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط، حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة، لقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/23-6] .
__________
(1) رواه البيهقي عن أبي موسى. قال ابن حجر: «وفيه محمد بن عبد الرحمن القشيري كذبه أبو حاتم، ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى، وفيه بشر بن الفضل البجلي، وهو مجهول. وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه» . (راجع التلخيص الحبير: ص 352) .
(2) رواه أبو يعلى ورجاله ثقات، ورواه الطبراني أيضاً بلفظ «السحاق بين النساء زنا بينهن» . (راجع مجمع الزوائد: 256/6) .
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ آخر، ورواه أحمد وأبو يعلى، والبزار والطبراني وإسنادهما جيد عن ابن مسعود بلفظ: «العينان تزنيان والرجلان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يزني» . (راجع نصب الراية: 248/4، التلخيص الحبير: ص 324، مجمع الزوائد: 256/6) والمقصود من كتابة الزنا على ابن آدم: تقرير الواقع من الإنسان بحسب علم الله المحيط بكل الأحداث والتصرفات، لا بمعنى الفرض والإلزام، ولا بد من أن يقع تصرف الإنسان مطابقاً لما في علم الله؛ لأن علمه لا يتغير.(7/291)
ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:5/23-6] ، ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل، فإن فعل عزر ولم يحد؛ لأنها مباشرة محرمة من غير إيلاج، فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج. ويحرم إتيان الميتة والبهيمة للآية السابقة (1) . وسنعرف حكم الحد فيه.
خطة الموضوع:
الكلام في حد الزنافي المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ سبب حد الزنا «الجريمة» وتعريف الزنا.
المبحث الثاني ـ شروط الحد.
المبحث الثالث ـ عقوبة الزنا «الحد» .
المبحث الرابع ـ إثبات الزنا عند القاضي.
المبحث الخامس ـ إقامة الحد (كيفيته، حالة المحدود، مكان الإقامة) .
ويلحق بها بيان حكم اللواط، ووطء البهيمة، ووطء الميتة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 171/3، المهذب: 268/2 ومابعدها، حاشية الدسوقي: 316/4، المغني: 187/8، غاية المنتهى: 334/3.(7/292)
المبحث الأول ـ سبب حد الزنا وتعريف الزنا:
إن سبب حد الزنا هو ارتكاب جريمة الزنا، ولكن الفقهاء وضعوا ضوابط دقيقة لتحقق هذه الجريمة؛ لأن الحدود عموماً مبنية على الدرء والإسقاط، صيانة
للمجتمع من سماع وقوع هذه الفاحشة، فضلاً عن انتشارها والخوض في مساوئها، فإذا لم تتوافر هذه الضوابط سقط الحد. ويجب التعزير أو المهر إذا كان الوطء بشبهة؛ لأن كل وطء حرام لا يخلو عن عَقر (أي عقوبة أو حد زاجر) أو عُقر (1) (أي مهر جابر في حالة الشبهة) .
تعريف الزنا (2) :
الزنا في اللغة والشرع بمعنى واحد: وهو وطء الرجل المرأة في القُبُل في غير الملْك وشبهته (3) .
وقد ذكر الحنفية تعريفاً مطولاً يبين ضوابط الزنا الموجب للحد، فقالوا: هو الوطء الحرام في قُبل المرأة الحية المشتهاة في حالة الاختيار في دار العدل، ممن التزم أحكام الإسلام، الخالي عن حقيقة الملك، وحقيقة النكاح، وعن شبهة الملك، وعن شبهة النكاح، وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح جميعاً (4) .
شرح التعريف وبيان محترزات قيوده:
الوطء: فعل معلوم وهو إيلاج فرج في فرج بقدر الحشَفة. فالوطء الذي يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج، فلا يجب الحد بأدنى من ذلك كالمفاخذة والتقبيل.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 22/3، 28.
(2) الزنا تكتب بالقصر في لغة أهل الحجاز، وبالمد في لغة أهل نجد.
(3) حاشية ابن عابدين: 154/3، فتح القدير: 138/4، تبيين الحقائق للزيلعي: 164/3، وقال في المهذب: 266/2: إذا وطئ رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه، من غير عقد ولا شبهة عقد، وغير ملك ولا شبهة ملك، وهو عاقل بالغ مختار، عالم بالتحريم، وجب عليه الحد. فإن كان محصناً وجب عليه الرجم.
(4) البدائع: 33/7، العناية شرح الهداية: 138/4.(7/293)
الحرام: أي الوطء الحاصل من الشخص المكلف (أي العاقل البالغ) . أما وطء غير المكلف كالصبي والمجنون فلا يعتبر زنا موجباً للحد؛ لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة، لكونهما غير مكلفين، بقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ (1) ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق» السابق ذكره.
في قبل: أخرج بذلك الوطء في الدبر في الأنثى أو الذكر، فإنه لايسمى زنا عند الإمام أبي حنيفة، بخلاف الصاحبين والشافعية والحنابلة والمالكية.
المرأة: أخرج وطء البهيمة؛ لأنه أمر نادر ينفر منه الطبع السليم كما تقدم.
الحية: أخرج وطء الميتة؛ لأنه أمر نادر، كما ذكر.
المشتهاة: لا يحد واطئ غير المشتهاة كالصغيرة التي لم تبلغ حداً يشتهى؛ لأن الطبع السليم لا يقبل هذا.
حالة الاختيار: يجب أن يكون الواطئ مختاراً، سواء أكان رجلاً أم امرأة موطوءة، فلا يحد المكرَه على الزنا. وقد اتفق العلماء على أنه لا حد على المرأة المكرهة على التمكين من الزنا، لقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (2) .
وأما الرجل المكرَه على الزنا، فلا حد ولاتعزير عليه أيضاً عند الشافعية، وهو المختار عند محققي المالكية، للحديث السابق ولقيام عذره بالإكراه.
وقال الحنابلة: يحد؛ إذ أنه ما دام قد حصل الانتشار منه، دل على انتفاء الإكراه.
__________
(1) هذا اللفظ أخرجه أبو داود عن علي بن أبي طالب. وهناك روايات أخرى مثل «حتى يحتلم» أو «حتى يكبر» وقد تقدم تخريج الحديث (انظر نصب الراية: 163/4) .
(2) أخرجه الطبراني عن ثوبان، وله لفظ آخر: «إن االله تجاوز عن أمتي ثلاثة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» قال النووي: حديث حسن، وصححه السيوطي، وهو غير صحيح، فقد تعقبه الهيثمي بأن فيه يزيد بن ربيعة الرحبي وهو ضعيف، ورواه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم في المستدرك من حديث الأوزاعي، واختلف عليه، فقيل: عن ابن عباس بلفظ: «إن الله وضع» وللحاكم والدارقطني والطبراني بلفظ: «تجاوز» . (راجع التلخيص الحبير: ص 109، الجامع الصغير: 24/2، فيض القدير: 34/4، مجمع الزوائد: 250/6) .(7/294)
وقال أبو حنيفة أولاً: إن أكرهه السلطان فلا حد عليه، وإن أكرهه غير السلطان حد استحساناً؛ لأن الإكراه لا يتحقق في رأيه إلا من السلطان.
وأما وقوع الزنا بإكراه غير السلطان، فإنه يدل على عدم تحقق معنى الإكراه، لوجود الطواعية والرضا من الفاعل، بدلالة الحال وحصول الانتشار والشهوة.
ثم استقر رأي أبي حنيفة على أنه لا يحد المستكره؛ لأن الانتشار قد يكون دليل الفحولية لا دليل الاختيار.
وقال الصاحبان: لا يحد المكره في الحالتين وهو المعتمد في الفتوى. وقال زفر: يحد فيهما جميعاً (1) .
في دار العدل: أي في دار الإسلام؛ إذ لا ولاية لولي الأمر على دار الحرب أو دار البغي.
ممن التزم أحكام الإسلام: أي المسلم أو الذمي وهو احتراز عن الحربي، فإنه لم يلتزم أحكام الإسلام.
__________
(1) راجع البدائع: 34/7، 180، حاشية ابن عابدين: 172/3، مغني المحتاج: 145/4، المهذب: 267/2، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 318/4، بداية المجتهد: 431/2، المغني لابن قدامة: 187/8، 205.(7/295)
الخالي عن حقيقة الملك: هذا القيد لإخراج وطء المملوكة بملك اليمين، مثل وطء الجارية المشتركة والمجوسية (1) والمرتدة والمكاتبة والمحرمة برضاع أو صهرية أو جمع (2) ، حتى وإن كان الوطء حراماً وعلم بالحرمة (3) . والصحيح عند الشافعية أن من ملك ذات رحم محرم، فوطئها، لا حد عليه؛ لأنه وطء في ملك، فلم يجب به الحد، كوطء أمته الحائض. وكذا من وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره، لا يجب عليه الحد.
الخالي عن حقيقة النكاح: هذا قيد آخر لإخراج وطء المرأة بملك النكاح، مثل وطء الزوجة الحائض أو النفساء، أو الصائمة، أو المُحرمة في الحج، أو التي ظاهر منها زوجها أو آلى منها، فلا يجب الحد وإن كان الوطء حراماً، لقيام ملك النكاح (4) .
شبهة الملك: إذا قامت شبهة في ملك أو نكاح، فلا يجب الحد؛ لقوله عليه السلام: «ادرؤوا الحد بالشبهات» (5) وهذا الحديث وإن كان موقوفاً، فله حكم
__________
(1) من المعلوم أنه لا يجوز نكاح المجوسية (عابدة النار) ولا الوثنية، ولا وطؤها بملك يمين (حاشية ابن عابدين: 398/2) .
(2) لا يعتق بالملك إلا عمودا النسب: وهم الآباء والأمهات وإن علوا، والأولاد وإن سفلوا.
(3) فتح القدير: 140/4، البدائع: 35/7.
(4) البدائع: 35/7، فتح القدير: 140/4.
(5) قال الزيلعي: غريب بهذا اللفظ ورواه البيهقي عن علي موقوفاً، وتمامه «ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود» إلا أن فيه المختار بن نافع قال البخاري عنه: وهو منكر الحديث، قال: وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: «ادرؤوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» أخرجه ابن عدي ومسدد في مسنده موقوفاً على ابن مسعود، وهو حسن، وأخرجه آخرون مرفوعاً ومرسلاً. وروي عن عقبة بن عامر ومعاذ أيضاً موقوفاً، وروي منقطعاً وموقوفاً على عمر. وفي مسند أبي حنيفة عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ (ادرؤوا الحدود بالشبهات) ورواه ابن ماجه بإسناد ضعيف عن أبي هريرة بلفظ: (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) وأخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة بلفظ: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» ولكن في إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف كما قال الترمذي، ورواه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما مرفوعاً، وقال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب. والحديث الصحيح هو ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة بلفظ «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً، فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة» . (راجع نصب الراية: 309/3، 333، التلخيص الحبير: ص 352، نيل الأوطار: 104/7، سبل السلام: 15/4، جامع الأصول: 343/4، مجمع الزوائد: 248/6، فيض القدير: 227/1، الجامع الصغير: 14/1) .(7/296)
المرفوع، ولأن الحدود عقوبة كاملة فتستدعي جناية كاملة، ووجود الشبهة ينفي تكامل الجناية، مثل وطء الأب جارية ابنه، فإن فيه شبهة ملك أو حق، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» (1) ؛ ووطء جارية العبد المكاتب؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فيملك السيد الرقبة، فيورث ملكها شبهة في ملك الكسب؛ ووطء جارية العبد المأذون، سواء أكان عليه دين أم لم يكن، فإذا لم يكن عليه دين، فتكون الجارية ملك السيد، وإن كان عليه دين، فتكون رقبة المأذون مملوكة للسيد، وملك الرقبة يقتضي ملك الكسب، لكن توجد شبهة بسبب كون المكاتب والمأذون يملكان التصرف في الجارية.
ومثل وطء الجارية من المغنم في دار الحرب أو بعد الإحراز في دار الإسلام، ولكن قبل القسمة لثبوت حق الاستيلاء.
__________
(1) روي من حديث جابر وعائشة وسمرة بن جندب، وعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر، فحديث جابر رواه ابن ماجه وإسناده صحيح. وحديث عائشة رواه ابن حبان في صحيحه، وحديث سمرة أخرجه البزار والطبراني، وحديث عمر أخرجه البزار، وحديث ابن مسعود أخرجه الطبراني، وحديث ابن عمر رواه أبو يعلى الموصلي. (راجع نصب الراية: 337/3 وما بعدها) . إلا أن الملك هنا على سبيل الأدب والبر، لا على سبيل الحقيقة؛ لأن ملك الأب مستقل عن ملك الابن.(7/297)
فلا يجب الحد في هذه الحالات لوجود شبهة الملك وإن علم أن الوطء حرام (1) .
شبهة النكاح: أي شبهة العقد بأن وطئ الرجل امرأة تزوجها بغير شهود أو بغير ولي، أو بنكاح مؤقت وهو نكاح المتعة، فلا يجب الحد وإن كان الواطئ يعتقد التحريم، لاختلاف العلماء في جواز عقد النكاح بغير شهود، أو بغير ولي، أو تأقيت العقد، والاختلاف يورث شبهة. وإذا تزوج إنسان من محارمه بسبب نسب أو رضاع أوصهارة موجبة لتحريم مؤبد، أو جمع بين أختين أو عقد على خمس أو تزوج معتدة الغير، وحصل وطء بموجب العقد، فلا حد عليه عند أبي حنيفة والثوري وإن علم بالحرمة، لكن عليه التعزير؛ لأنه وطء تمكنت الشبهة منه بسبب وجود صورة المبيح، وهو عقد النكاح، فلم يوجب الوطء حداً.
وقال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية: يجب الحد في كل وطء حرام على التأبيد؛ لأن النكاح باطل بالإجماع، ولا عبرة بشبهته؛ لأنها شبهة فاسدة، وما ليس بحرام على التأبيد، كالمحرم بالصهرية مثل أخت الزوجة، أو المختلف في تحريمه، كالنكاح بغير شهود: لا يوجب الحد.
لكن قيد المالكية وجوب الحد بوطء ذات الرحم المحرم أو ذات الرضاع أو الزوجة الخامسة بأن كان الواطئ عالماً بالحرمة، فإن لم يعلم بالحرمة، فلا يحد.
وكذلك لا يحد عند الشافعية حال الجهل بالتحريم، أو بكون المرأة من المحارم.
ومنشأ الخلاف: أن الأصل عند أبي حنيفة أن النكاح إذا وجد من أهل له، في محل قابل لمقاصد النكاح، يمنع وجوب الحد، سواء أكان هذا النكاح حلالاً أم حراماً، وسواء أكان التحريم مختلفاً فيه أم مجمعاً عليه، وسواء ظن الحل فادعى الاشتباه أم علم بالحرمة.
__________
(1) البدائع: المرجع السابق، فتح القدير: 141/4.(7/298)
والأصل عند الصاحبين والجمهور: أن النكاح إذا كان محرماً على التأبيد، أو كان تحريمه مجمعاً عليه، يجب الحد؛ لأن الوطء فيه صادف محلاً ليس فيه شبهة، وهو مقطوع بتحريمه. وإن لم يكن محرماً على التأبيد أو كان تحريمه مختلفاً فيه لا يجب الحد (1) .
وقول الصاحبين هو الأظهر، وعليه الفتوى عند الحنفية، لكن قال صاحب الدر المختار: «لكن المرجح في جميع الشروح قول الإمام، فكان الفتوى عليه أولى» (2) .
وذكر الشافعية أن من استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها، أو تزوج ذات رحم محرم وهو يعتقد تحريمها، وجب عليه الحد؛ لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها، فكان وجوده كعدمه.
شبهة الاشتباه:
الشبهة: هي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وهي إما شبهة في الفعل، وتسمى شبهة اشتباه، أي أنها شبهة في حق من اشتبه عليه، وليست بشبهة في حق من لم يشتبه عليه، حتى لو قال: علمت أنها تحرم علي، حد.
أو شبهة في المحل، وتسمى شبهة حكمية وهي تتحقق بقيام دليل على نفي الحرمة، سواء ظن الحل أو علم الحرمة.
__________
(1) راجع البدائع: 35/7 وما بعدها، مغني المحتاج: 145/4، 146، المهذب: 268/2، الميزان للشعراني: 157/2، حاشية الدسوقي: 251/3، 314/4، المغني: 182/8، الفروق: 174/4، رحمة الأمة: 136/2.
(2) حاشية ابن عابدين: 168/3.(7/299)
وشبهة في الفاعل، وسيأتي بيانها (1) .
أما شبهة الفعل: فتثبت في ثمانية مواضع إذا ظن الواطئ الحل، أما لو قال: علمت أنها حرام علي، فيحد.
وهذه المواضع هي:
1 - المرأة المطلقة ثلاثاً ما دامت في العدة، فإذا وطئها زوجها لم يحد إذا ظن بقاء حلها، نظراً لبقاء النكاح في حق إلحاق النسب به: (وهو مايعبرون عنه بقيام أثر الفراش) وحرمة زواجها بآخر، ولوجوب النفقة والسكنى على الرجل.
2 - المطلقة طلاقاً بائناً على مال، أو المختلعة، ما دامت في العدة، للأسباب السابقة في المطلقة ثلاثاً (2) .
__________
(1) راجع فتح القدير مع العناية: 140/4 وما بعدها، 147، البدائع: 36/7، حاشية ابن عابدين: 165/3 وما بعدها.
(2) وأما المواضع الستة الباقية فهي «جارية الأب وجارية الأم وجارية الزوجة؛ لأن الرجل يتبسط في مال أبويه وزوجته، وينتفع به من غير استئذان وحشمة عادة. وأم الولد إذا أعتقها مولاها ما دامت تعتد منه لقيام أثر الفراش، والعبد إذا وطئ جارية مولاه؛ لأن العبد يتبسط في مال مولاه عادة بالانتفاع. والجارية المرهونة إذا وطئها المرتهن في الرواية المذكورة في كتاب الحدود، وهي الرواية الصحيحة، لأن ملك المال في الجملة، أي حالة الهلاك سبب لملك المتعة.
وقال الحنابلة: (المغني: 749/6) : إذا كان الصداق جارية، فوطئها الزوج عالماً بزوال ملكه وتحريم الوطء عليه، فعليه الحد؛ لأنه وطء في غير ملكه، وعليه المهر لسيدتها، سواء أكرهها أو طاوعته؛ لأن المهر لمولاتها، فلا يسقط ببذلها ومطاوعتها.
أما وطء المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وادعى أنه جهل تحريمه، ففيه وجهان عند الشافعية (المهذب: 268/2) : أحدهما ـ أنه لا يقبل دعواه إلا إذا كان ممن يعذر بالجهل بالأحكام، والثاني ـ أنه يقبل قوله؛ لأن معرفة ذلك تحتاج إلى فقه.(7/300)
وأما شبهة المحل فتتحقق في ستة مواضع، سواء ظن الواطئ الحل، أو قال: علمت أنها علي حرام، وهذه المواضع هي:
1 - المرأة المطلقة طلاقاً بائناً بالكنايات، مثل: أنت بائن، أنت بتة، أنت بتلة، فلا يحد الواطئ، لاختلاف الصحابة في كون هذه المرأة رجعية أو بائنة (1) .
وأما شبهة الفاعل: فتظهر فيما لو رأى إنسان ليلاً على فراشه امرأة، فظنها زوجته، فوطئها، أو نادى أعمى زوجته فأجابته امرأة أجنبية فوطئها، وهو يظنها زوجته، ثم بانت الموطوءة أنها أجنبية، فلا حد عليه عند المالكية والشافعية وزفر من الحنفية، لقيام عذره بالظن المجوز للإقدام على الوطء في الجملة. وذلك مثل المرأة التي زفت إلى رجل، وقالت النساء: إنها زوجتك مع أنها لم تكن امرأته، فوطئها، فلا حد عليه، وعليه المهر (2) .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والحنابلة: يحد الشخص في الحالتين؛ لأن الظن لا يسوغ له الإقدام على الوطء، فكان الواجب عليه التربص حتى يعلم أنها
__________
(1) وبقية المواضع هي:
1 - جارية الابن وإن سفل، لقيام المقتضي للملك وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك)
2 - والجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل القبض أو التسليم؛ لأن ملك اليد قائم فيورث شبهة، وإن زال ملك الرقبة بالبيع.
3 - الجارية التي جعلت مهراً في عقد زواج، ثم وطئها الزوج قبل التسليم: لأن ملك اليد قائم فيورث شبهة، وإن زال ملك الرقبة بالنكاح.
4 - الجارية بين الشريكين، لقيام الملك في النصف.
5 - الجارية المرهونة في الرواية المذكورة في كتاب الرهن؛ لأنه انعقد له فيها سبب الملك، فلا يجب عليه الحد، اشتبه عليه أو لم يشتبه، قياساً على ما لو وطئ جارية اشتراها على أن البائع بالخيار (راجع العناية على الهداية في فتح القدير: 142/4) .
(2) راجع فتح القدير: 146/4.(7/301)
زوجته، ولا شبهة هنا سوى وجود المرأة على فراش الرجل، وهو لا يصلح شبهة مسقطة للحد (1) .
وقال محمد: إذا دعا الزوج الأعمى امرأته فقال: يافلانة، فأجابت امرأة بقولها: (أنا فلانة امرأتك) فوطئها، لا حد عليه؛ لأنه لا سبيل للأعمى إلى أن يعرف أنها امرأته إلا بذلك الطريق، فكان معذوراً.
أما إذا أجابته ولم تقل: (أنا فلانة) فيجب الحد؛ لأنه في وسعه أن يتثبت بأكثر من هذا الجواب، فلا يصير شبهة (2) .
وقال الشافعية والمالكية (3) : الشبهات دارئة للحدود، وهي ثلاثة:
1 - شبهة في الفاعل: وهو ظن حل الوطء إذا وطئ امرأة يظنها زوجته أو مملوكته.
2 - شبهة في الموطوءة: كوطء الشركاء الجارية المشتركة.
3 - شبهة في السبب المبيح للوطء، كالنكاح المختلف فيه، كنكاح المتعة والشغار (مبادلة فتاة بأخرى) والتحليل والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية. قال ابن قدامة الحنبلي: وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات (4) .
__________
(1) البدائع: 37/7، فتح القدير: 147/4، المغني: 184/8.
(2) المرجعان السابقان.
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 137/2، الفروق: 172/4.
(4) المغني: 184/8.(7/302)
ووافق الحنابلة على اعتبار الشبهة الثانية والثالثة دارئة الحد، أما شبهة الفاعل فلا تدرأ الحد (1) .
أما الشبهة الأولى عند الشافعية والمالكية فدرأت الحد؛ لأن الفاعل غير آثم لاعتقاده الإباحة، والنسب لاحق به، والعدة واجبة على الموطوءة، والمهر واجب عليه.
أما الشبهة الثانية: فدرأت الحد؛ لأن ما فيها له من ملك يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم، فلا تكون المفسدة فيه كمفسدة الزنا المحض، فيحصل الاشتباه بسبب عدم وجود مقتض للحد في حقه، وإن وجد موجب الحد بسبب ملك غيره.
وأما الشبهة الثالثة، فليس اختلاف العلماء هو الشبهة، وإنما الشبهة ناجمة عن التعارض بين أدلة التحريم والتحليل، فإن الحلال: ما قام دليل تحليله، والحرام: ما قام دليل تحريمه، وليس أحدهما أولى من الآخر، كما أن ملك أحد الشريكين يقتضي التحليل، وملك الآخر يقتضي التحريم.
وإنما غلب درء الحد مع تحقق الشبهة؛ لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان عبادة الله الديان، والحدود أسباب محظرة لا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها.
الجهل بتحريم الزنا: يعذر الجاهل بالتحريم إن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلماء، أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام (2) .
__________
(1) المغني: 181/8-184.
(2) المهذب: 268/2.(7/303)
المبحث الثاني ـ شروط حد الزنا:
لا حد على الزاني والزانية إلا بشروط، منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه، وهي عشرة (1) :
الأول ـ أن يكون الزاني بالغاً، فلا يحد الصبي غير البالغ بالاتفاق.
الثاني ـ أن يكون عاقلاً، فلا يحد المجنون بالاتفاق، فإن زنى عاقل بمجنونة أو مجنون بعاقلة، حد العاقل منهما.
الثالث ـ أن يكون مسلماً، في رأي المالكية، فلا يحد الكافر إن زنى بكافرة ولكنه يؤدب إن أظهره، وإن استكره مسلمة على الزنا قتل، وإن زنى بها طائعة نكَّل به وعزر. وقال الجمهور: يحد الكافر حد الزنا، لكنه لا يرجم المحصن عند الحنفية، وإنما يجلد. ولا حد للزنا وشرب الخمر عند الشافعية والحنابلة على المستأمن؛ لأنه حق لله تعالى، ولم يلتزم بالعهد حقوق الله تعالى.
الرابع ـ أن يكون طائعاً مختاراً، واختلف الفقهاء في أنه هل يحد المكره على الزنا، فقال الجمهور (2) : لا يحد، وقال الحنابلة: يحد، كما بان في التعريف. ولا تحد المرأة إذا استكرهت على الزنا أو اغتصبت.
الخامس ـ أن يزني بآدمية، فإن أتى بهيمة فلا حد عليه باتفاق المذاهب الأربعة في الأصح عند الشافعية، ولكنه يعزر، ولا تقتل البهيمة ولا بأس بأكلها عند الجمهور، وتقتل بشهادة رجلين على فعله بها، ويحرم أكلها ويضمنها عند الحنابلة.
السادس ـ أن تكون المزني بها ممن يوطأ مثلها، فإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فلا حد عليه ولا عليها عند الحنفية. ولا تحد المرأة إذا كان الواطئ غير بالغ. وقال الجمهور: يحد واطئ الصغيرة التي يمكن وطؤها، وإن كانت غير مكلفة لصدق حد الزنا عليه دونها كالنائمة والمجنونة (3) .
السابع ـ ألا يفعل ذلك بشبهة (انتفاء الشبهة) فإن كان الوطء بشبهة، سقط الحد، مثل أن يظن بامرأة أنها زوجته أو مملوكته، فلا حد عند المالكية والشافعية، ويجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف والحنابلة، وهذه هي شبهة الفاعل. وكذلك لا يحد بالاتفاق من وطئ بعد وجود نكاح فاسد مختلف فيه، كالزواج دون ولي أو بغير شهود، وذلك بسبب شبهة العقد. فإن كان الزواج فاسداً بالاتفاق، كالجمع بين الأختين، ونكاح خامسة، ونكاح ذوات المحارم من النسب أو الرضاع، أو تزوج في العدة، أو ارتجاع من طلاق ثلاث دون أن تتزوج غيره، أو شبه ذلك، فيحد فيما ذكر كله، إلا أن يدعي الجهل بتحريم المذكور كله، ففيه قولان عند المالكية.
الثامن ـ أن يكون عالماً بتحريم الزنا، فإن ادعى الجهل به، وهو ممن يظن به الجهل، ففيه قولان عند المالكية لابن القاسم وأصبغ، والراجح أنه لا يحد الجاهل والغالط والناسي، كمن نسي طلاق امرأته.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 353 وما بعدها، اللباب شرح الكتاب: 190/3-193، المهذب: 263/2، 266، 269، غاية المنتهى: 319/3 وما بعدها.
(2) هذا هو المفتى به عند المالكية، وهو مذهب المحققين كابن العربي وابن رشد، خلافاً لرأي الأكثر والمشهور، لعذر المكره كالمرأة (حاشية الدسوقي: 318/4) .
(3) الشرح الكبير: 314/4، حاشية قليوبي وعميرة: 179/4، كشاف القناع: 99/6.(7/304)
التاسع ـ أن تكون المرأة غير حربية في دار الحرب أو دار البغي، وهذا عند الحنفية كما تقدم، أما المذاهب الأخرى، فيحد من وطئ حربية ببلاد الحرب أو دخلت عندنا بأمان.
العاشر ـ أن تكون المرأة حية فلا يحد عند الجمهور واطئ الميتة ويحد في المشهور عند المالكية، كما سيأتي بيانه.
ويشترط أيضاً تحقيق معنى الزنا وهو تغييب حشفة أصلية في قبل امرأة كما تقدم، أما الوطء في الدبر أو اللواط، فلا يوجب الحد وإنما يوجب التعزير عند أبي حنيفة، ويوجب الحد كحد الزنا مكرراً أو محصناً عند سائر المذاهب ومنهم الصاحبان، لكن يرجم اللائط والملوط به مطلقاً بشرط التكليف عند المالكية (1) . وأما من وطئ أجنبية غير محرم فيما دون الفرج، كتفخيذ وتبطين، فيعزر اتفاقاً؛ لأنه فعل منكر ليس فيه شيء مقدر شرعاً. ويشترط كذلك أن يكون الوطء في دار الإسلام، فلا حد على من وطئ في دار الحرب، كما تقدم.
ولا يقام حد الزنا إلا بعد ثبوت الزنى بإقرار أو ببينة أربعة شهود عدول، كما سيأتي بيانه.
المبحث الثالث ـ عقوبة الزنا:
الزاني إما محصن فيجب عليه حد الرجم، أو غير محصن، فيجب عليه حد الجلد.
1 - حد الزاني البكر غير المحصن:
حد الزاني البكر هو الجلد، لقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/24] . وقال المالكية: لا يحد الكافر الذمي والحربي حد الزنا؛ لأن وطأه لا يسمى زنا شرعاً، فيكون الإسلام شرطاً عندهم لهذا الحد،
__________
(1) الشرح الصغير: 456/4، مغني المحتاج: 144/4، كشاف القناع: 94/6. كما تقدم.(7/305)
واختلف العلماء في النفي، فهل يجمع بين الجلد والتغريب على الزاني البكر (1) .
قال الحنفية: لا يضم التغريب أي النفي إلى الجلد؛ لأن الله تعالى جعل الجلد جميع حد الزنا، فلو أوجبنا معه التغريب. كان الجلد بعض الحد، فيكون زيادة على النص، والزيادة عليه نسخ، ولا يجوز نسخ النص بخبر الواحد، ولأن التغريب تعريض للمغرّب على الزنا، لعدم استحيائه من معارفه وعشيرته.
فالنفي عندهم ليس بحد، وإنما هو موكول إلى رأي الإمام، إن رأى مصلحة في النفي فعل، كما أن له حبسه حتى يتوب.
وقال الشافعية والحنابلة: يجمع بين الجلد والنفي أو التغريب عاماً، لمسافة تقصر فيها الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مئة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم» (2) إلا أن الشق الثاني من هذا الحديث غير معمول به عند هؤلاء وغيرهم، بل الواجب على المحصن الرجم فقط للأحاديث الآتية الواردة في الرجم، ولكن لا تغرب المرأة وحدها بل مع زوج أو محرم لخبر: «لا تسافر المرأة إلا ومعها زوج أو محرم» (3) .
__________
(1) راجع المبسوط للسرخسي: 44/9، البدائع: 39/7، فتح القدير: 134/4، 136، مختصر الطحاوي ص 262، مغني المحتاج: 147/4، المهذب: 267/2، 271، حاشية الدسوقي: 313/4، 322، بداية المجتهد: 427/2، المنتقى على الموطأ: 137/7، القوانين الفقهية: ص354، الشرح الصغير: 447/4، المغني لابن قدامة: 166/8، كشاف القناع: 90/6.
(2) رواه أحمد والموطأ وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي عن عبادة بن الصامت (راجع جامع الأصول: 264/4، مجمع الزوائد: 264/6، نصب الراية: 330/3، نيل الأوطار: 87/7، سبل السلام: 45/4، التلخيص الحبير: ص 350) .
(3) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها» وفي لفظ مسلم: «ثلاثاً» وفي لفظ «فوق ثلاث» وفي لفظ له «ثلاثة أيام فصاعداً» وأخرجه الدارقطني عن أبي أمامة الباهلي موفوعاً: «لا تسافر امرأة سفر ثلاثة أيام، أو تحج إلا ومعها زوجها» ورواه البخاري ومسلم بألفاظ أخرى عن ابن عمر وأبي هريرة (راجع نصب الراية: 11/3، سبل السلام: 183/2، الجامع الصغير: 200/2، التلخيص الحبير: ص 351) .(7/306)
ويؤكده قصة العسيف التي رواها الجماعة عن أبي هريرة وزيد بن خالد، والتي قضى فيها النبي صلّى الله عليه وسلم على الولد الأجير بجلد مئة وتغريب عام، وعلى المرأة بالرجم.
وقال المالكية: يغرب الرجل سنة، أي يسجن في البلد التي غرب إليها، ولا تغرب المرأة خشية عليها من الوقوع في الزنا مرة أخرى بسبب التغريب.
قال الشوكاني (1) : والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية فيما ورد من السنة زائداً عن القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل.
وبهذا يظهر أنه لا يجمع بين الجلد والرجم بالاتفاق بين المذاهب الأربعة.
وقال الظاهرية: يجمع بين الجلد والرجم لظاهر حديث: «والثيب بالثيب جلد مئة، ورجم بالحجارة» .
2 - حد الزاني المحصن:
اتفق العلماء ما عدا الخوارج على أن حد الزاني المحصن هو الرجم، بدليل ما ثبت في السنة المتواترة وإجماع الأمة، والمعقول (2) .
__________
(1) نيل الأوطار: 89/7.
(2) المبسوط: 37/9، مغني المحتاج: 146/4، فتح القدير: 121/4، المنتقى على الموطأ: 132/7 وما بعدها، نيل الأوطار: 86/7، القوانين الفقهية: ص 354 وما بعدها.(7/307)
أما السنة فكثير من الأحاديث: منها قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) ومنها قصة العسيف الذي زنى بامرأة، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لرجل من أسلم: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (2) .
وقصة ماعز التي وردت من جهات مختلفة، فقد اعترف بالزنا فأمر الرسول عليه السلام برجمه (3) . وقصة الغامدية التي أقرت بالزنا فرجمها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وضعت (4) .
وأجمعت الأمة على مشروعية الرجم، ولأن المعقول يوجب مثل هذا العقاب؛ لأن زنا المحصن غاية في القبح، فيجازى بما هو غاية من العقوبات الدنيوية (5) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود، وروي بألفاظ أخرى عن عثمان وعائشة وأبي هريرة وجابر وعمار بن ياسر (راجع نصب الراية: 317/3، ومجمع الزوائد: 252/6، الأربعين النووي: ص38) .
(2) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (راجع نصب الراية: 314/3، جامع الأصول: 296/4، التلخيص الحبير: ص 522، سبل السلام: 2/4 وما بعدها) . والعسيف: الأجير.
(3) روى الحديث مسلم وأبو داود عن بريدة. ورواه أحمد والشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة. ورواه مسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي عن جابر بن سمرة، وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه عن ابن عباس، وأخرجه أحمد عن أبي بكر الصديق وبريدة، وأخرجه أيضاً أبو يعلى والبزار والطبراني عن أبي بكر. وفي الجملة: إن قصة ماعز قد رواها جماعة من الصحابة وهي متواترة (راجع جامع الأصول: 279/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 95/7، 109، مجمع الزوائد: 266/6، نصب الراية: 314/3 وما بعدها، سبل السلام: 6/4، التلخيص الحبير: ص 350، النظم المتناثر من الحديث المتواتر: ص 18) .
(4) رويت القصة في صحيح مسلم عن بريدة، كما رواها أحمد وأبو داود (راجع المراجع السابقة، نيل الأوطار: 109/7) .
(5) العقوبات الشرعية وأسبابها لأستاذنا علي قراعة: ص 3.(7/308)
شرط الرجم ـ الإحصان: يشترط لإقامة حد الرجم توافر الإحصان، والإحصان لغة: المنع، وشرعاً جاء بمعنى الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والعفة والتزويج، ووطء المكلف الحر في نكاح صحيح. والمراد هنا هو المعنى الأخير عند الشافعية (1) .
وقال الحنفية: الإحصان نوعان: إحصان الرجم وإحصان القذف، أما إحصان الرجم: فهو عبارة في الشرع عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم، وهي سبعة: العقل والبلوغ، والحرية، والإسلام والنكاح الصحيح، والدخول في النكاح الصحيح على وجه يوجب الغسل، ولو من غير إنزال، وكون الزوجين جميعاً على هذه الصفات وقت الدخول (2) . فإذا اختل شرط من هذه الشروط، وجب الجلد، لقوله تعالى: {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2/24] .
وقد ترتب على اشتراط الشرط الأخير: أنه لو دخل الزوج البالغ العاقل الحر المسلم بزوجته وهي صبية أو مجنونة أو أمة، لا يصير محصناً ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض؛ لأن اجتماع هذه الصفات في الزوجين معاً يشعر بكمال حالهما، وهذا يشعر بكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين.
وروي عن أبي يوسف: أنه لم يشترط هذا الشرط الأخير، فيصير المسلم محصناً إذا وطئ كافرة مثلاً. وهو رأي الشافعية (3) ، فإنهم قالوا: لو كان أحد الشريكين في الوطء صغيراً، والآخر بالغاً، أو أحدهما مستيقظاً والآخر نائماً، أو
__________
(1) مغني المحتاج: 146/4.
(2) البدائع: 37/4، حاشية ابن عابدين: 163/3، فتح القدير: 130/4، المبسوط: 39/9.
(3) المهذب: 268/2.(7/309)
أحدهما عاقلاً والآخر مجنوناً، أو أحدهما عالماً بالتحريم والآخر جاهلاً، أو أحدهما مختاراً والآخر مستكرهاً، أو أحدهما مسلماً والآخر مستأمناً، وجب الحد على من هو من أهل الحد، ولم يجب على الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر بما يسقط الحد، فوجب الحد على أحدهما، وسقط عن الآخر. وإن كان أحدهما محصناً، والآخر غير محصن، وجب على المحصن الرجم، وعلى غير المحصن الجلد والتغريب؛ لأن أحدهما انفرد بسبب الرجم، والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب.
اختلاف العلماء في اشتراط الإسلام للإحصان:
قال أبو حنيفة ومالك: الإسلام من شروط الإحصان، فلا يرجم الذمي إذا تحاكم إلينا، ولا تحصن الذمية مسلماً؛ لأن الرجم تطهير، والذمي ليس من أهل التطهير، بل لا يطهر إلا بحرقه في الآخرة بالنار، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «من أشرك بالله فليس بمحصن» (1) .
وقال صلّى الله عليه وسلم لكعب بن مالك حين أراد أن يتزوج يهودية: «دعها فإنها لا تحصنك» (2) . قالوا: وأما رجمه اليهوديين (3) فكان بحكم التوراة قبل نزول آية
__________
(1) رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن عمر، رفعه مرة فقال: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووقفه مرة. ومن طريق إسحاق بن راهويه رواه الدارقطني في سننه، ثم قال: «لم يرفعه غير إسحاق، ويقال: إنه رجع عن ذلك والصواب موقوف» . (راجع نصب الراية: 327/3، التلخيص الحبير: ص 351) .
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ومن طريقه في معجمه والدارقطني في سننه وابن عدي في الكامل من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهودية، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تتزوجها فإنها لا تحصنك» قال الدارقطني: وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف، وعلي بن أبي طلحة لم يدركا كعباً (راجع نصب الراية: 328/3) .
(3) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر مختصراً، ومطولاً. ورواه أبو داود عن أبي هريرة وفيه رجل مجهول، ورواه الحاكم من حديث ابن عباس، ورواه البيهقي من حديث عبد الله بن الحارث الزبيدي، وإسناده ضعيف، ورواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر (راجع نصب الراية: 326/3، التلخيص الحبير: ص 351، نيل الأوطار: 92/7) .(7/310)
الرجم ثم نسخ (1) .
وقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف (2) : ليس الإسلام من شروط إحصان الرجم، فيحد الذمي إذا ترافع إلينا، وإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا، فأمر برجمهما، ولو كان الإسلام شرطاً لما رجم، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «الثيب بالثيب رمياً بالحجارة» (3) ، ولأن اشتراط الإسلام للزجر عن الزنا، والدين عموماً يصلح للزجر عن الزنا؛ لأن الزنا حرام في الأديان كلها.
__________
(1) انظر المبسوط: 39/9، 40، فتح القدير: 132/4، البدائع: 38/7، حاشية ابن عابدين: 163/3، الميزان: 154/2، بداية المجتهد: 426/2، حاشية الدسوقي: 320/4، القوانين الفقهية: ص 355.
(2) مغني المحتاج: 147/4، المهذب: 267/2، الميزان: 154/2، المغني: 163/8.
(3) أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت «الثيب بالثيب جلد مئة ورمياً بالحجارة» .(7/311)
والخلاصة: إن الفقهاء اتفقوا على خمسة شروط في الإحصان المشترط للرجم، وهي البلوغ والعقل والحرية، وتغييب الحشفة، وتقدم الوطء بنكاح صحيح: وهو أن يتقدم للزاني والزانية وطء مباح في الفرج بتزويج صحيح، فلا يحصن زنا متقدم، ولا وطء بملك اليمين، ولا وطء فيما دون الفرج، ولا وطء بنكاح فاسد أو شبهة، ولا وطء في صيام أو حيض أو اعتكاف أو إحرام، ولا وطء نكاح في الشرك، ولا بعد عقد نكاح دون وطء. واختلفوا في اشتراط الإسلام على رأيين، منها تحقق هذه الشروط في كلا الزوجين.
صفة حد الزنا: حد الزنا حق خالص الله تعالى، أي حق للمجتمع؛ لأنه وجب صيانة للأعراض عن التعرض لها، ومحافظة على المصالح العامة، وهي دفع الفساد الراجح إليهم، ويترتب عليه ما يلي:
1 - إنه حد لا يحتمل العفو والصلح والإبراء عنه، بعد ما ثبت بالحجة، لأنه كما تقدم حق خالص لله تعالى، لا حق للعبد فيه، فلا يملك أحد إسقاطه.
2 - إنه يجري فيه التداخل (1) ، حتى لو زنى مراراً لا يجب عليه إلا حد واحد؛ لأن المقصود من إقامة الحد، هو الزجر، وإنه يحصل بحد واحد، لكنه لو زنى فحد، ثم زنى ثانياً حد ثانياً؛ لأنه تبين أن المقصود وهو الزجر لم يحصل بالحد الأول، بدليل وقوعه منه ثانية، فيحد مرة أخرى، رجاء أن يحصل به الزجر المطلوب (2) .
الفرق بين حق الله تعالى وحق الآدمي:
حق الله: أمره ونهيه. وحق العبد: مصالحه وتكاليفه، وهو كل ما للعبد إسقاطه. أما حق الله: فهو كل ما ليس للعبد إسقاطه.
وتكاليف الشريعة ثلاثة أقسام بالنسبة لهذه القسمة (3) .
__________
(1) معنى التداخل: أن الجرائم في حالة التعدد تتداخل عقوباتها بعضها في بعض بحيث يعاقب على جميع الجرائم بعقوبة واحدة.
(2) انظر البدائع: 55/7 وما بعدها.
(3) الفروق: 141/1 وما بعدها، وانظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 66/2.(7/312)
1 - حق الله تعالى فقط كالإيمان وتحريم الكفر.
2 - وحق العباد فقط كالديون وأثمان الأشياء.
3 - وقسم اختلف فيه، هل يغلب فيه حق الله، أو حق العبد كحد القذف.
قال القرافي: نعني بحق العبد المحض: أنه لو أسقطه لسقط، كما تبين، وإلا
فما من حق للعبد، إلا وفيه حق لله تعالى: وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى. وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه فهو حق الله تعالى.
وقد يوجد حق الله تعالى: وهو ما ليس للعبد إسقاطه، ويكون معه حق العبد، كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات، فإن الله تعالى إنما حرمها صوناً لمال العبد عليه، وصوناً له عن الضياع بعقود الغرر والجهل، فلا يحصل المعقود عليه بكامله أو أغلبه، فيضيع المال، فحجر الرب تعالى برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته، ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك، لم يؤثِّر رضاه.
وكذلك حجر الرب تعالى على العبد في إلقاء ماله في البحر، وتضييعه من غير مصلحة، ولو رضي العبد بذلك لم يعتبر رضاه.
وكذلك تحريمه تعالى المسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه، وحرم السرقة صوناً لماله، والزنا صوناً لنسبه، والقذف صوناً لعرضه، والقتل والجرح صوناً لنفسه وأعضائه ومنافعها عليه، ولو رضي العبد بإسقاط حقه من ذلك، لم يعتبر رضاه، ولم ينفذ إسقاطه.(7/313)
فهذه كلها وما يلحق بها من نظائرها مما هو مشتمل على مصالح العباد: حق الله تعالى؛ لأنها لا تسقط بالإسقاط، وهي مشتملة على حقوق العباد، لما فيها من مصالحهم ودرء مفاسدهم. وأكثر الشريعة من هذا النوع كالرضا بولاية الفسقة وشهادة الأراذل ونحوها، فحجر الرب تعالى على العبد في هذه المواطن لطفاً به ورحمة له سبحانه وتعالى.
هل يجب الحد والمهر على الرجل المكرَه على الزنا؟ :
الرأي الذي استقر عليه أبو حنيفة أخيراً، ورأي الصاحبين: أنه لا يحد المستكره على الزنا، وإنما عليه الصداق؛ لأنه حيث سقط الحد، يجب المهر للمرأة.
وقال الحنابلة وبعض المالكية: عليه الصداق والحد جميعاً. وقال الشافعية ومحققو المالكية: عليه الصداق فقط، وليس عليه الحد لوجود الشبهة (1) ولحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (2) . والخلاصة: أن الجمهور على الأرجح يرون الصداق على المستكره وليس عليه العقوبة، وأن الحنابلة يوجبون عليه الصداق والعقوبة معاً.
المبحث الرابع ـ إثبات الزنا عند القاضي:
أجمع العلماء على أن الزنا يثبت بالإقرار أو بالشهادة، ولا تثبت حدود الله تعالى كالزنا والسرقة والمحاربة والشرب بعلم القاضي حالة القضاء أو قبل القضاء؛ لأنها تدرأ بالشبهات ويندب سترها (3) .
أما الحكمة من اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة فواضحة، وهي أن من تمام حكمة الله ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة، كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم: وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان، فإن من قامت
__________
(1) راجع بداية المجتهد: 319/2، البدائع: 180/7، حاشية ابن عابدين: 172/3، المهذب: 267/2.
(2) أخرجه الطبراني عن ثوبان.
(3) مغني المحتاج: 398/4، 149، الميزان للشعراني: 154/2، المغني: 209/8، البدائع: 52/7.(7/314)
عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقيئها، ووجود المسروق في دار السارق، وتحت ثيابه، أولى بالعقوبة، ممن قامت عليه شهادة على إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب. وهذا متفق عليه بين الصحابة، وإن نازع فيه بعض الفقهاء.
وإما أن تكون الحجة من غير الجناة: وهي البينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التهمة. وهما شرطان توجبهما العقول والفطر السليمة ويحققان المصلحة (1) .
وجعل الصحابة الحمل علامة على الزنا (2) وقد أخذ بذلك المالكية وابن القيم، أما الحنابلة فقالوا: تحد الحامل بالزنا، وزوجها بعيد عنها، إذا لم تدّع شبهة، ولا يثبت الزنا بحمل المرأة وهي خلية لا زوج لها. ولم يأخذ الحنفية والشافعية بإثبات الزنا بالقرائن.
أما البينة: فهي شهادة أربعة رجال، ذكور، عدول، أحرار، مسلمين، على الزنا بأن يقولوا: رأيناه وطئها في فرجها، كالميل في المُكحُلة، على حد تعبير الفقهاء.
يفهم مما ذكر ومما قرره الحنفية أنه يشترط في البينة شروط: بعضها وهي البلوغ والعقل والذكورة والحرية والعدالة والأصالة يعم كل الحدود، وبعضها وهو عدم التقادم يخص الزنا والسرقة وشرب الخمر. والباقي خاص بالزنا (3) .
__________
(1) أعلام الموقعين: 100/2.
(2) الطرق الحكمية: ص 97، 214، الشرح الكبير للدردير، المنتقى على الموطأ: باب حد الزنا، المهذب: 266/2، القوانين الفقهية: ص 356، مطالب أولي النهي: 193/6.
(3) انظر البدائع: 46/7 ومابعدها، فتح القدير: 114/4، 161-177، تبيين الحقائق للزيلعي: 164/3.(7/315)
1 - عدد الأربع في الشهود في حد الزنا لقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء:15/4] وقوله عز اسمه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/24] وقوله سبحانه في حد القذف: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور:4/24] . فإذا شهد ثلاثة، وقال الرابع: رأيتهما في لحاف واحد، ولم يزد عليه: يحد الثلاثة عند الحنفية حد القذف، ولا حد على الرابع؛ لأنه لم يقذف. وإن شهد شهود دون أربعة في مجلس الحكم بزنا حدوا بالاتفاق حد القذف؛ لأن عمر حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا (1) .
2 - التكليف: أي البلوغ والعقل، فلا تقبل شهادة الصبيان والمجانين.
3 - الذكورة: فلا تقبل شهادة النساء بحال، تكريماً لهن؛ لأن الزنا فاحشة.
وأما الإحصان فيثبت بشهادة الرجال مع النساء عند الحنفية ما عدا زفر.
4 - العدالة: فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقاً. فإن شهد أربعة بالزنا وهم فساق، أو ظهر أنهم فساق لم يحدوا حد القذف؛ لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق.
5 - الحرية: فلا تقبل شهادة العبيد.
6 - الإسلام: فلا تقبل شهادة أهل الذمة لعدم تحقق عدالتهم.
7 - الأصالة: فلا تقبل الشهادة على الشهادة، ولا كتاب القاضي إلى القاضي، لتمكن الشبهة في وقوع الجريمة، والحدود لا تثبت مع الشبهات.
8 - اتحاد المشهود به: وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد، في مكان واحد وزمان واحد.
__________
(1) ذكره البخاري في صحيحه.(7/316)
9 - اتحاد المجلس: أي أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة. فإن جاؤوا متفرقين واحداً بعد واحد لا تقبل شهادتهم، ويحدون حد القذف، لقول عمر رضي الله عنه: «لو جاؤوا مثل ربيعة ومضر فرادى لجلدتهم» أي أن المراد اتحاد المجلس عند أداء الشهادة. وهذا عند الحنفية، وأما بقية الفقهاء فلم يقولوا بهذا الشرط.
10 - أن يكون المشهود عليه الزنا ممن يتصور منه الوطء، فلو كان مجبوباً لاتقبل شهادتهم، ويحدون حد القذف.
11 - أن يكون المشهود عليه الزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة، فإن كان أخرس، لم تقبل شهادتهم، إذ قد يدعي الشبهة لو كان قادراً.
12 - عدم التقادم من غير عذر ظاهر: وهو شرط في حد الزنا والسرقة وشرب الخمر كما تقدم. ومعناه ألا تمضي مدة بعد مشاهدة الجريمة وأداء الشهادة، منعاً من التهمة وإثارة الفتنة، إذ أن أداء الشهادة بعد مضي مدة من غير عذر ظاهر، يدل على أن الضغينة هي الحاملة على الشهادة، كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «أيما قوم شهدوا على حد، لم يشهدوا عند حضرته، فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم» .
فإذا كان التقادم لعذر ظاهر، كعدم وجود حاكم في موضع أو بُعد مسافة خوف طريق، فلا يمنع من قبول الشهادة.
ومدة التقادم متروك تقديرها إلى اجتهاد القاضي عند أبي حنيفة، لاختلاف أعذار الناس في كل زمان وبيئة. وقال الصاحبان: مدة التقادم شهر أو أكثر، فإن كان دون شهر فليس بمتقادم؛ لأن الشهر أدنى الآجل، فكان ما دونه في حكم العاجل.(7/317)
13 - بقاء الشهود على أهليتهم حتى يقام الحد: فلو ماتوا، أو غابوا، أو عموا، أو ارتدوا، أو خرسوا، أو ضربوا حد القذف قبل إقامة الحد، أو قبل أن يقضى بشهادتهم، سقط الحد؛ لأن هذه العوارض لو اقترنت بالشهادة منعت من قبولها، فكذلك إذا اعترضتها بعدئذ (1) ، ويحد الباقي حد القذف؛ لأن الشهود حينئذ أقل من أربعة، ومتى كانوا أقل حدوا حد القذف. وقال الشافعية والحنابلة: لا تؤثر هذه العوارض بعد أداء الشهادة (2) .
ولو رجع الشهود عن شهادتهم على محض بالزنا، بعد أن حكم القاضي عليه بالرجم فرجم، ضمنوا ديته. ولو أنكر الشاهد شهادته بعد الحكم بالرجم، لا يضمن شيئاً من الدية؛ لأن إنكار الشهادة ليس برجوع، بل الرجوع أن يقول: كنت مبطلاً في الشهادة (3) .
اختلاف العلماء في بعض شروط الشهادة على الزنا:
1 - اتحاد المشهود به: قال الأئمة الأربعة: يشترط في شهادة الشهود الأربعة اتحاد المشهود به: وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد، في المكان والزمان، كما بان عند الحنفية. فإن اختلفوا لا تقبل شهادتهم، فلو شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا، وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر في بيت صغير وزواياه متقاربة، أو شهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا، وشهد اثنان آخران أنه زنى بها في يوم آخر، فإنه لا يحد المشهود عليه، ولا حد على الشهود أيضاً عند جمهور الحنفية؛ لأن المشهود به لم يختلف عند الشهود؛ لأن عندهم أن هذا زنا واحد. وعند زفر: يحدون؛ لأن عدد الشهود قد انتقص، ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفاً، كما لو شهد ثلاثة بالزنا.
واختلفوا فيما لو شهد اثنان أنه زنى بها في هذه الزاوية من البيت، وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى، وكان المكان ضيقاً:
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 50/9.
(2) المغني لابن قدامة: 207/8.
(3) مجمع الضمانات: ص 360 وما بعدها.(7/318)
فقال أبو حنيفة وأحمد: تقبل هذه الشهادة، لجواز ابتداء الفعل في زاوية، وانتهائه في زاوية أخرى، أما لو كان البيت كبيراً فلا تقبل؛ لأنه يكون بمنزلة البيتين (1) .
وقال مالك والشافعي: لا تقبل هذه الشهادة، ولا يثبت بها الحد؛ لأنهم لم يتفقوا على زنية واحدة (2) .
2 - اتحاد مجلس الشهادة: قال أبو حنيفة: يشترط أن يكون الشهود مجتمعين، وأن يؤدوا الشهادة في مجلس واحد، فإن جاؤوا متفرقين يشهدون واحداً بعد الآخر، لا تقبل شهادتهم، كما بان سابقاً.
وقال مالك وأحمد: يشترط اتحاد مجلس القاضي فقط، فإن جاء الشهود متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم، تقبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قَذَفة وعليهم الحد (3) .
وقال الشافعي: ليس ذلك بشرط، لا في مجيئهم، ولا في اجتماعهم، بل متى شهدوا بالزنى متفرقين، ولو واحداً بعد الآخر، وجب الحد، لقوله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور:13/24] ولم يذكر المجلس، ولأن المهم هو اتحاد شهادة الشهود، سواء في مجلس واحد أو في مجالس،
__________
(1) البدائع: 49/7، المغني: 200/8، فتح القدير: 167/4.
(2) مغني المحتاج: 151/4، بداية المجتهد: 430/2، الشرح الكبير: 185/4.
(3) المغني: 200/8، المنتقى على الموطأ: 144/7، القوانين الفقهية: ص 356.(7/319)
كسائر الشهادات (1) .
تقادم الشهادة:
قال الحنفية: لا تقبل الشهادة بمضي الزمن، على الخلاف السابق الذي ذكر.
وقال مالك والشافعي وأحمد: إن الشهادة في الزنا والقذف وشرب الخمر تقبل بعد مضي زمان طويل من الواقعة، لعموم آية الشهادة في الزنا، ولأنه حق لم يثبت لنا ما يبطله، وقد يكون التأخير لعذر أو غيبة، والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال (2) .
دور القاضي مع شهود الزنا:
إذا اجتمعت الشروط السابقة في الشهود، وشهدوا عند القاضي، سألهم عن ماهية الزنا، وكيفية الزنا، ومكان الزنا، وزمان الزنا، والمزني بها (3) .
أما سؤاله عن ماهية الزنا: فلأنه يحتمل أن يريد غير الزنا الموجب للحد، كالزنا بالعين، أو باليد.
وأما سؤاله عن كيفية الزنا: فلأنه يحتمل أن يريد الجماع فيما دون الفرج، كالمفاخذة.
وأما سؤاله عن مكان الزنا: فلأنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب، أو في دار البغي في رأي الجمهور غير الشافعية كما سيأتي في حد البغاة.
وأما سؤاله عن زمان الزنا: فلأنه يحتمل أن يشهد بزنا متقادم.
وأما سؤاله عن المزني بها: فلأنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها، كالموطوءة بشبهة.
الإقرار بالزنا:
هو عند الحنفية أن يقر البالغ العاقل، أربع مرات بالزنا، عند القاضي، في أربعة مواطن.
شروط الإقرار:
اشترط الحنفية شروطاً في الإقرار: منها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص بعضها.
أما الشرائط التي تعم الحدود كلها، فهي (4) :
1 - البلوغ: فلا يصح إقرار الصبي في شيء من الحدود؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بكونه جناية.
2 - النطق: وهو أن يكون الإقرار بالخطاب والعبارة، دون الكتابة أو الإشارة، فلا يكفي الإقرار من الأخرس، لا بالكتابة ولا بالإشارة، لأن الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي، والبيان لا يتناهى إلا بالصريح.
وقال الشافعية: يكفي في ثبوت الحد إشارة الأخرس بالإقرار بالزنا.
3 - الاختيار أو الطواعية: فلا يقبل إقرار المكره في الحدود والأموال.
__________
(1) المغني، المرجع السابق، الميزان: 156/2.
(2) الميزان: 158/2، المغني: 207/8، فتح القدير: 161/4.
(3) المبسوط: 38/9، البدائع: 49/7، فتح القدير: 115/4، المغني: 200/8.
(4) انظر البدائع: 49/7-51، فتح القدير: 117/4، المبسوط: 91/9.(7/320)
وأما الشرائط التي تخص بعض الحدود فهي:
1 - تعدد الإقرار: أي كون الإقرار مكرراً أربع مرات في حد الزنا خاصة، بأن يقر أربع مرات على نفسه مع كونه بالغاً عاقلاً، طلباً للتثبت في إقامة الحد، ولأن ماعزاً أقر أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم أربع مرات (1) . وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة (2) .
وقال المالكية والشافعية (3) : يكفي في وجوب الحد إقرار واحد مرة واحدة (4) ؛ لأن من المستبعد كذب الإنسان على نفسه، واعترافه بما يوجب الحد، ولأن الإقرار إخبار، والخبر لا يزيد رجحاناً بالتكرار، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلم في قصة العسيف: «اغد يا أنيس ـ رجل من أسلم ـ إلى امرأ ة هذا، فإن اعترفت
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة، ورواه مسلم وأحمد عن بريدة، وقد سبق تخريجه (راجع جامع الأصول: 283/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 109/7) .
(2) المغني: 191/8 وما بعدها.
(3) حاشية الدسوقي: 318/4، المنتقى على الموطأ: 135/7، القوانين الفقهية: ص 356، مغني المحتاج: 150/4.
(4) قال الزنجاني الشافعي في تخريج الفروع على الأصول: ص 181، مبيناً وجه قصة ماعز ومقرراً قاعدة عامة وهي «لا يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين، قضى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحكم، وذكر علته أيضاً، إذا أمكن اختصاص العلة بصاحب الواقعة عند الشافعي رضي الله عنه» . ويتفرع عنه: سقوط اعتبار التكرار في الإقرار بالزنا عند الشافعي رضي الله عنه سلوكاً لجادة القياس، كما في سائر الأقارير.(7/321)
فارجمها» (1) كما سبق ذكره. واعترفت الغامدية بالزنا، فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: «ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: وما ذاك؟ قالت: إنها حبلى من الزنى، قال: أنتِ؟ قالت: نعم، فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك» (2) ونحوهما من الأحاديث.
2 - تعدد مجالس الإقرار بالزنا: وهو أن يقر في أربعة مجالس متفرقة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتبر اختلاف مجالس ماعز، حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة، ثم يعود، ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف، وهذا هو مذهب الحنفية.
وقال جمهور العلماء: يكفي أن يكون الإقرار في مجلس واحد (3) .
3 - أن يكون الإقرار بين يدي الإمام أو القاضي: وإلا لم يعتبر؛ لأن إقرار ماعز كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن شهد شهود على إقرار شخص أربع مرات في مجالس مختلفة أمام من ليس له إقامة الحد، فلا يقبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الزاني إن كان منكراً، فقد رجع عن الإقرار، وإ ن كان مقراً، فلا عبرة لشهادة مع الإقرار.
4 - الصحو في الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر: فإذا أقر شخص وهو سكران، لم يصح إقراره.
5 - أن يكون الإقرار بالزنا ممن يتصور منه الزنا: فإن كان لا يتصور كالمجبوب لفقدان آلته، لم يصح إقراره، أما لو كانت آلته موجودة كالعنِّين والخصي، فيصح إقراره، لوجود الآلة عنده.
6 - أن يكون المزني به ممن يقدر على ادعاء الشبهة بأن كان ناطقاً: فإن لم يقدر كأن تكون المزني بها خرساء، أو المزني به أخرس، لم يصح إقراره، لجواز ادعائه وجود عقد النكاح، أو إنكار الزنا.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وغيرهم عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، وقد سبق تخريجه، فقد رواه الجماعة والبيهقي.
(2) رواه مسلم والدارقطني عن سليمان بن بريدة عن أبيه، وقال الدارقطني: هذا حديث صحيح (راجع جامع الأصول: 279/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 111/7، نصب الراية: 314/3) .
(3) بداية المجتهد: 430/2.(7/322)
الإقرار حجة قاصرة: إذا أقر أحد الشريكين في الوطء بالزنا وأنكر الآخر، وجب على المقر الحد (1) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في قصة العسيف: «على ابنك جلد وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (2) وروى سهل بن سعد الساعدي أن رجلاً أقر أنه زنى بامرأة، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلم إليها، فجحدت، فحد الرجل (3) .
تقادم الإقرار: اتفق العلماء على أن التقادم لا يؤثر في الإقرار بالزنا؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه. وعلى هذا فيقبل الإقرار بالزنا بعد مدة (4) .
دور القاضي مع المقر بالزنا:
إذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي، ينبغي أن يظهر له الكراهية، أو يطرده، يفعل ذلك ثلاث مرات، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم مع ماعز.
فإذا أقر أربع مرات عند الحنفية نظر القاضي في حاله: أهو صحيح العقل أم به آفة، كما فعل الرسول عليه السلام مع ماعز، حيث قال له: أبك خبَل أم بك جنون؟ وبعث به إلى قومه، فسألهم عن حاله. فإذا عرف أنه صحيح العقل، سأله عن ماهية الزنا، وعن كيفيته، وعن مكانه، وعن المزني بها، للأسباب التي ذكرت في الشهادة على الزنا.
فإذا بين ذلك كله سأله القاضي عن حاله: أهو محصن أم لا؟ لأن حكم الزنا يختلف بالإحصان وعدمه. فإذا قال: أنا محصَن، سأله القاضي عن الإحصان: ماهو؟ لأنه عبارة عن اجتماع شرائط
__________
(1) البدائع: 51/7، المغني: 207/8.
(2) المهذب: 268/2.
(3) رواه الجماعة والبيهقي عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
(4) رواه البيهقي بألفاظ متقاربة، وأحمد وأبو داود، وفيه عبد السلام بن حفص، متكلم فيه.(7/323)
لا يعرفها كل واحد. فإذا فسره التفسير الشرعي المطلوب، حكم عليه بالرجم وأمر بإقامته عليه (1) .
الرجوع عن الإقرار:
قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إذا اعترف شخص عند القاضي بالزنا، ثم رجع عن إقراره بعد الحكم بالحد، أوبعد إقامة بعض الحد، أو هرب، فإنه يسقط عنه الحد (2) ، عملاً بحديث «ادرؤا الحدود بالشبهات» ، والرسول عليه السلام لقن ماعزاً الرجوع بقوله: «لعلك مسستها أو لعلك قبلتها!» (3) وقال لأصحابه حينما هرب ماعز فاتبَعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه» (4) .
والمشهور عند المالكية: أن الرجوع عن الإقرار لشبهة أو لا لشبهة، كقوله: كذبت على نفسي، أو وطئت زوجتي وهي محرمة، فظننت أنه زنا، يسقط الحد، وروي عن الإمام مالك أنه قال: لا يعذر إلا إذا رجع لشبهة، عملاً بحديث: «لا عذر لمن أقر» (1) .
والخلاصة: أن الرجوع عن الإقرار جائز بالاتفاق.
__________
(1) المبسوط: 46/9، البدائع: 51/7، فتح القدير: 120/4، تبيين الحقائق: 166/3. (2) فتح القدير: 120/4، مغني المحتاج: 150/4، المهذب: 271/2، المغني: 197/8.
(3) رواه الحاكم في المستدرك بلفظ «لعلك مسستها أو قبلتها؟» من حديث ابن عباس، والحديث عند البخاري بلفظ: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟» وعند أحمد في مسنده بلفظ: «لعلك قبلت أو لمست أو نظرت؟» (راجع نصب الراية: 316/4، سبل السلام: 8/4) .
(4) رواه أبو داود عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه. ورواه أحمد وابن ماجه والترمذي، وقال: «حسن» من حديث أبي هريرة بلفظ: «هلا تركتموه» . (راجع جامع الأصول: 287/4، نيل الأوطار: 102/7) .(7/324)
المبحث الخامس ـ إقامة الحد على الزاني:
شروط إقامة الحد: يشترط لإقامة الحد ما يلي:
أولاً ـ هناك شرائط لإقامة الحد: منها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص حد الرجم. أما ما يعم الحدود كلها فهو الإمامة كما سيأتي، وأما ما يخص حد الرجم: فهو شرط البداية من الشهود في الرجم. وعلى هذا فالإمام أو من ينوب عنه هو مقيم الحد. فإذا كان الحد جلداً فهو الذي يقيمه أو ينيب عنه أحداً. وأما إذا كان الحد رجماً، فيشترط البداية من الشهود في الرجم، إذا ثبت الحد بالشهادة، فإذا ثبت بالإقرار، فيبدأ الإمام بالرجم (2) .
اختلاف العلماء في اشتراط بداءة الشهود بالرجم:
قال الحنفية: إن ثبت وجوب الرجم بالشهادة، فيشترط بدء الشهود بالرجم استحساناً، بدليل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «يرجم الشهود أولاً ثم
__________
(1) بداية المجتهد: 430/2، حاشية الدسوقي: 318/4.
(2) البدائع: 57/7 وما بعدها، فتح القدير: 122/4، 124، حاشية الدسوقي: 320/4، بداية المجتهد: 428/2.(7/325)
الإمام ثم الناس» (1) وكلمة «ثم» للترتيب، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر أحد، فكان إجماعاً، ولأن في اعتبار هذا الشرط احتياطاً في درء الحد؛ لأن الشهود إذا بدؤوا بالرجم ربما استعظموا فعله، فيحملهم هذا على الرجوع عن الشهادة، فيسقط الحد عن المشهود عليه، فإن امتنع بعض الشهود عن الرجم، سقط الرجم عند أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف؛ لأن امتناعهم عن الرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم.
هذا بخلاف الجلد، فلا يشترط ابتداء الشهود به؛ لأنهم لا يعرفونه على وجهه الصحيح، ولأن الأثر عن علي ورد في الرجم خاصة، فيبقى أمر الجلد على أصل القياس.
وقال المالكية: إذا حضر الإمام الرجم، جاز له أن يبدأ هو وأن يبدأ غيره، فلم يثبت عند الإمام مالك في حديث صحيح ولا سنة معمول بها بداءة البينة بالرجم، ثم من بعدهم الإمام، أي الحاكم، ثم الناس عقبه (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: السنة إذا ثبت الحد بالبينة أن يبدأ الشهود بالرجم، ثم الحاكم، ثم الناس؛ لأن الشهود في غير أداء الشهادة هم وسائر الناس سواء، فلا يلزم أحد بذاك. والإمام هو الذي يستوفي الحدود، ولأن الرجم أحد نوعي الحد، فيقاس على الجلد، الذي لا يشترط فيه البداية من الشهود (3) .
__________
(1) رواه البيهقي في سننه عن عامر الشعبي، ورواه أحمد في مسنده عن الشعبي أيضاً، ورواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن أبي ليلى، وعن ابن مسعود عن علي بألفاظ مختلفة (راجع نصب الراية: 319/3 وما بعدها، نيل الأوطار: 108/7) .
(2) القوانين الفقهية: ص 356، الشرح الكبير وحاشيته: 320/4، مواهب الجليل: 320/6، ط ثانية.
(3) البدائع، فتح القدير، المرجعان السابقان، المنتقى على الموطأ: 133/7، بداية المجتهد: 438/2، مغني المحتاج: 152/4، المهذب: 269/2 وما بعدها، المغني: 159/8. .(7/326)
وهذا الرأي هو مقتضى القياس عند الحنفية.
ثانياً ـ لا يقيم الحدود إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام، باتفاق الفقهاء؛ لأنه لم يقم حد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، ولأن الحد حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام (1) .
ثالثاً ـ يشترط عند الحنفية وجود أهلية أداء الشهادة لدى الشهود عند إقامة الحد، فلو بطلت أهليتهم بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو نحوها، سقط الحد (2) كما سبق بيانه. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط.
رابعاً ـ يشترط بالاتفاق: ألا يكون في إقامة حد الجلد خوف الهلاك؛ لأن هذا الحد شرع زاجراً لا مهلكاً، فلا يجوز إقامة حد الجلد في الحر الشديد والبرد الشديد، والمرض والنفاس، والحمل؛ لأن الحد إذا أقيم في هذه الأحوال أدى إلى القتل، ولأنه يخشى هلاك الحامل وهلاك ولدها (3)
لكن الشافعية والحنابلة أجازوا إقامة الحد في المرض الذي لا يرجى برؤه (4) ، وقالوا في هذه الحالة أو إذا كان نضو الخلق لا يطيق الضرب: يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة، لما روى سهل بن حنيف أنه أمر في رجل مريض أضنى أن يأخذوا مئة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة (5) ، ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يتلف به، ولا يمكن تركه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد. أما الضمان فقال الشافعية:
إن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز إقامته، فهلك منه، لم يضمن؛ لأن الحق قتله، وإن أقيم في الحال التي لا تجوز إقامته، فإن كانت حاملاً، فتلف منه الجنين وجب الضمان؛ لأنه مضمون، فلا يسقط ضمانه بجناية غيره، وإن تلف المحدود فإذا أقيم الحد في شدة حر أو برد، فهلك لا ضمان عليه. وقال الجمهور: لا ضمان بهلاك المحدود. وسيأتي مزيد بيان له في بحث التعزير.
وأما الرجم فلا يشترط لإقامته عدم خوف الهلاك؛ لأنه حد مهلك، إلا الحامل، فإنه لا يقام عليها الرجم وقت حملها؛ لأنه يؤدي إلى إهلاك ولدها بدون حق، وهو لا يجوز، فيؤخر رجم الحامل حتى تضع حملها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رد المرأة الغامدية أو الجهنية حينما
__________
(1) المهذب: 269/2، البدائع: 57/7.
(2) البدائع: 59/7.
(3) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 100/9، المهذب: 270/2 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 155/4، المهذب: 270/2 وما بعدها، حاشية الدسوقي: 330/4، القوانين الفقهية: ص 356، ط، فاس، المغني: 171/8، 173.
(5) رواه أحمد وابن ماجه.(7/327)
قالت: «فوالله إني لحبلى» . فقال: «إما لا، فاذهبي حتى تلدي» ثم قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» (1) .
حالة المحدود: ذهب الجمهور إلى أن المحدود بالرجم إذا كان رجلاً يقام عليه الحد قائماً، ولا يربط بشيء، ولا يمسك، ولا يحفر له، سواء ثبت الرجم بالبينة أم بالإقرار، كما فعل الرسول عليه السلام بماعز، فلم يحفر له (2) ، ولأن الحفر له لم يرد به الشرع في حق المحدود فوجب ألا يثبت، ولأن المرجوم قد يفر، فيكون فراره
__________
(1) البدائع، مغني المحتاج، الدسوقي، المغني، المراجع السابقة، وقد سبق تخريج حديث الغامدية، وسيأتي قريباً تخريج حديث الجهنية. ويظهر أن الجهنية هي الغامدية لأن «غامداً» بطن من جهينة.
(2) رواه مسلم وأحمد وأبو داود عن أبي سعيد الخدري، قال: «لما أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع، فو الله ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا، فرميناه بالعظام والخزف (وهي أكسار الأواني المصنوعة من المدر) ، فاشتكى فخرج يشتد حتى انتصب لنا في عرض الحرة (وهي أرض ذات حجارة سود) فرميناه بجلاميد (بصخور) الجندل (ما يقله الرجل من الحجارة) حتى سكت» (راجع نصب الراية: 325/3، نيل الأوطار: 109/7) .(7/328)
دلالة على الرجوع عن قراره، وقد هرب ما عز من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة (1) .
وإذا كان المحدود امرأة، فقال الحنفية: يخير الإمام في الحفر لها، إن شاء حفر لها وإن شاء ترك الحفر، أما الحفر فلأنه أستر لها، وقد روي أن الرسول صلّى الله عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى ثَنْدوتها (أي ثديها) (2) . وأما ترك الحفر فلأن الحفر للستر وهي مستورة بثيابها؛ لأنها لا تجرد عند إقامة الحد.
وقال الشافعية: الأصح استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة، لئلا تنكشف، بخلاف ما إذا ثبت زناها بالإقرار لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها.
وقال المالكية والحنابلة: لا يحفر للمرأة، لعدم ثبوته. قال ابن رشد: وبالجملة فإن الأحاديث في ذلك مختلفة. والمشهور عند المالكية أنه لا يحفر للمرجوم حفرة. وقال أحمد (3) : أكثر الأحاديث على ألا حفر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولالماعز، ولا لليهوديين (4) .
وأما حالة المحدود قياماً أو قعوداً في أثناء الجلد، فقال الحنفية: يقام الرجل، وتضرب المرأة قاعدة، وينزع عن الرجل ثيابه إلا الإزار، ويجرد عن ثيابه في كل الحدود والتعزير إلا حد القذف، فيكتفى بنزع الحشو والفرو.
__________
(1) المبسوط: 15/9، بداية المجتهد: 429/2، المنتقى على الموطأ: 142/7، القوانين الفقهية: ص 356، حاشية الدسوقي: 320/4، مغني المحتاج: 153/4، المغني: 158/8، البدائع: 59/7، فتح القدير: 128/4.
(2) رواه أبو داود في سننه عن أبي بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها إلى الثندرة، قال الزيلعي: وفيه مجهول. وروى مسلم وأحمد وأبو داود قصة الغامدية، وذكر فيها: «ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها» (راجع جامع الأصول: 294/4، نصب الراية: 325/3، التلخيص الحبير: ص 353، نيل الأوطار: 109/7) .
(3) المراجع السابقة.
(4) كونه صلّى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز: ثابت في رواية أبي سعيد الخدري كما سبق بيانه، وأما عدم الحفر للجهنية فهو استدلال بظاهر الحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن عمران بن حصين، فإنه قال: «فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها» فلم يذكر الحفر، قال ابن حجر في التلخيص: «لكنه استدلال بعدم الذكر، ولا يلزم منه عدم الوقوع» وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن ابن عمر في قصة رجم اليهوديين لم يذكر فيه الحفر (راجع التلخيص الحبير: ص 353، نيل الأوطار: 92/7، 111، سبل السلام: 11/4، جامع الأصول: 277/4) .(7/329)
وأشد الضرب: هو التعزير إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع، ثم الجلد في الزنا، ثم حد الشرب، ثم حد القذف؛ لأن جناية الزنا أعظم من جناية الشرب والقذف؛ لأن القذف نسبة إلى الزنا، فكان دون حقيقة الزنا، ولأن قبح الزنا ثبت شرعاً وعقلاً. أما جريمة نفس الشرب فقد ثبتت شرعاً لا عقلاً، ولهذا كان الزنا حراماً في كل الأديان بخلاف الشرب، والخمر أيضاً يباح عند المخمصة والإكراه، ولا يباح الزنا عند الإكراه وغلبة الشهوة، وكذا وجوب الجلد ثبت في الزنا بنص الكتاب العزيز، وأما حد الشرب فثبت بالاجتهاد.
وأما المرأة فلا ينزع عنها ثيابها إلا الفرو والحشو في كل الحدود؛ لأن كشف عورتها حرام، والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى المضروب، والستر حاصل بدونهما، فينزعان ليتحقق الزجر، والزجرواجب (1) .
وقال مالك: يضرب الرجل قاعداً لا قائماً، وكذا المرأة ويجرد الرجل في ضرب الحدود كلها ما عدا ما بين السرة والركبة؛ لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه (2) .
__________
(1) البدائع: 60/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 171/3، المبسوط: 71/9 وما بعدها، فتح القدير: 128/4.
(2) بداية المجتهد: 429/2، حاشية الدسوقي: 354/4.(7/330)
وقال الشافعي وأحمد: لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو أو الجبة المحشوة، فإنها تنزع عنه؛ لأنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، وما عدا المذكور لا يجرد، لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: «ليس في هذه الأمة مدّ، ولا تجريد، ولا غَل ولا صفَد» (1) وجلد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا تجريد، ولا ينزع عنه ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان (2) .
وأما الرجم فترجم المرأة بالاتفاق قاعدة، والرجل يرجم عند الجمهور قائماً، وقال مالك كما تقدم: يرجم قاعداً.
أداة الحد (كيفية الضرب والرجم) :
يقام حد الرجم بالضرب بالمدَر (الطين المتحجر) وبالحجارة المعتدلة (أي بملء الكف) لا بحصيات خفيفة لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات تقضي عليه بسرعة لئلا يفوت التنكيل المقصود (3) .
وأما الجلد: فيكون بسوط لا ثمرة له، ولا يمدد المحدود على الأرض، كما يفعل اليوم؛ لأنه بدعة، ولا يرفع الجلاد يده إلى ما فوق رأسه (4) ؛ لأنه يخاف منه
__________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي: وهو منقطع الإسناد، وفيه جويبر، وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 253/6) الغل بالفتح: شد العنق بحبل أو غيره، والصفد بالتحريك: القيد وهو الغل في العنق أيضاً.
(2) المهذب: 270/3، مغني المحتاج: 190/4، المغني: 313/8 وما بعدها.
(3) راجع مغني المحتاج: 153/4، فتح القدير: 126/4، المنتقى على الموطأ: 134/7، القوانين الفقهية: ص 356.
(4) بدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود أنهم قالوا للجلاد: «لا ترفع يدك حتى ترى بياض إبطك» رواه البيهقي (راجع التلخيص الحبير: ص 361) .(7/331)
الهلاك أو تمزيق الجلد، ويضرب ضربة متوسطة ليست بمبرحة، ولا بالتي لا مسَّ فيها، حتى لا يؤدي إلى الهلاك، ويتحقق معنى الانزجار. والدليل فعل عمر وعلي وابن مسعود حيث ضربوا حداً بسوط بين سوطين (1) . ويلاحظ أنه لا خلاف بين العلماء في أن ضرب المحدود في غير حد الخمر يكون بالسوط. أما حد الخمر: فقال بعضهم: يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب، فقال: اضربوه، فقال أبو هريرة: «فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه» (2) .
مكان الضرب في حد الجلد:
يجب عند الحنفية ألا يجمع الضرب في عضو واحد؛ لأنه يؤدي إلى إتلاف العضو أو إلى تمزيق جلده، وإنما يفرق الضرب على الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين، ويتقى المواضع المخوفة التي يخشى من ضربها القتل، وهو الوجه والرأس والصدر والبطن والأعضاء التناسلية (3) . قال علي للجلاد: «اضربه وأعط كل عضو منه حقه، واتق وجهه ومذاكيره» (4) .
__________
(1) رواه البيهقي، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن أبي كثير، ويؤيد فعلهم: ما رواه الموطأ عن زيد بن أسلم من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه دعا بسوط بين سوطين لجلد رجل اعترف بالزنا (راجع جامع الأصول: 340/4، نصب الراية: 323/3، التلخيص الحبير: ص 361، نيل الأوطار: 114/7) .
(وراجع فقهاً البدائع: 60/7، فتح القدير: 126/4، تبيين الحقائق: 169/3، حاشية ابن عابدين: 161/3، مغني المحتاج: 190/4، المهذب: 287/2، حاشية الدسوقي: 354/4، القوانين الفقهية: ص 346) .
(2) رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة (راجع نيل الأوطار: 138/7) .
(3) البدائع: 60/7، فتح القدير: 126/4، المهذب: 270/2.
(4) قال الهيثمي: غريب مرفوعاً، وروي موقوفاً على علي، رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي من طرق عن علي (راجع نصب الراية: 324/3، التلخيص الحبير: ص 361، سبل السلام: 32/4) .(7/332)
وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه (1) .
وقال الشافعي: يفرق الضرب على الأعضاء ويتقى الوجه والفرج والخاصرة وسائر المواضع المخوفة. ودليلهم قول علي السابق، وما روي عن عمر أنه أتي بجارية قد فجرت، فقال: «اذهبا، واضرباها، ولا تخرقا لها جلداً» ولأن القصد من الحد الردع دون القتل (2) .
وقال أحمد: يضرب في الأعضاء كلها ما عدا ثلاثة: وهي الرأس والوجه والفرج من الرجل والمرأة جميعاً؛ لأن ما عدا هذه الأعضاء ليس بمقتل، فأشبهت الظهر، ودليلهم قول علي السابق للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه (3) .
مكان إقامة الحد:
قال الحنفية والحنابلة: ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس؛ لقوله تعالى: {وليشهد عذابَهما طائفة من المؤمنين} [النور:2/24] ، ولأن المقصود من الحد هو زجر الناس (4) .
وقال الشافعية والمالكية: يستحب حضور جماعة، وأن يكونوا أربعة على الأقل (5) .
__________
(1) بداية المجتهد: 429/2، حاشية الدسوقي: 354/4.
(2) مغني المحتاج: 154/4، المهذب: 270/2، الميزان: 173/2.
(3) المغني لابن قدامة: 313/8 وما بعدها.
(4) البدائع: 60/7، المغني: 170/8.
(5) مغني المحتاج: 152/4، القوانين الفقهية: ص 356، المهذب: 270/2.(7/333)
وقال الجمهور منهم الحنفية والشافعية والحنابلة (1) : لا تقام الحدود في المساجد لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل بالولد الوالد» (2) وقوله أيضاً: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم، وشراءكم وبيعكم، وإقامة حدودكم، وجمِّروها في جُمعكم، وضعوا على أبوابها المطاهر» (3) .
ولأن تعظيم المساجد واجب، ولهذا نهينا عن سل السيوف في المساجد، ولأنه لا يؤمن أن يخرج من المحدود نجاسة تلوث المسجد، فيجب الاحتياط في أمرها وتنزيه المسجد عنها (4) .
حكم الميت بالرجم: قال الجمهور: إذا مات المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (5) ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في ماعز: «اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم» (6) .
__________
(1) المهذب: 287/2، المبسوط: 101/9، المغني، المرجع السابق.
(2) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس. وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه، وأخرجه أبو داود والحاكم وابن السكن والدارقطني والبيهقي من حديث حكيم بن حزام، ولا بأس بإسناده، ورواه البزار من حديث جبير بن مطعم وفيه الواقدي، وهو ضعيف لتدليسه، ورواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة (راجع جامع الأصول: 346/4، التلخيص الحبير: ص 361، مجمع الزوائد: 282/6، سبل السلام: 32/4) .
(3) رواه البزار من حديث ابن مسعود، ثم قال: يرويه موسى عن عمير، قال البزار: ليس له أصل من حديث ابن مسعود، ورواه ابن ماجه والطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع، ورواه الطبراني في الكبير أيضاً عن معاذ (راجع نصب الراية: 492/2، الترغيب والترهيب: 199/1) .
(4) البدائع: المرجع السابق.
(5) البدائع: 63/7، المغني لابن قدامة: 166/8.
(6) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن بريدة. وروى حديث الصلاة عليه جابر بن عبد الله عند البخاري، وأبو أمامة بن سهل عند الزبيدي (راجع نصب الراية: 320/3، تحفة الفقهاء: 192/3) .(7/334)
ثلاثة مباحث ختامية
1 - حكم اللواط:
قال مالك والشافعي وأحمد: إن اللواط يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه غلظ عقوبة فاعله في كتابه المجيد، فيجب فيه حد الزنا، لوجود معنى الزنا فيه.
وقال أبو حنيفة: يعزر اللوطي فقط، إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالباً حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنا (1) .
وحد اللائط في رأي المالكية والحنابلة في أظهر الروايتين عن أحمد: هو الرجم بكل حال، سواء أكان ثيباً أم بكراً، لقوله عليه السلام: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» (2) .
وحد اللائط عند الشافعية: هو حد الزنا، فإن كان اللائط محصناً، وجب عليه الرجم، وإن كان غير محصن، وجب عليه الجلد والتغريب، لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب، قياساً على حد الزنا بجامع أن كلاً منهما إيلاج محرم في فرج محرم (3) .
__________
(1) العناية على هامش فتح القدير: 150/4.
(2) حاشية الدسوقي: 314/4، المغني: 187/8، المنتقى على الموطأ: 142/7، القوانين الفقهية: ص355.
(3) الميزان للشعراني: 157/2، المهذب: 268/2، مغني المحتاج: 144/4، تخريج الفروع على الأصول: ص 184.(7/335)
2 - حكم إتيان البهيمة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن واطئ البهيمة يعزره الحاكم بما يردعه؛ لأن الطبع السليم يأبى هذا الوطء، فلم يحتج إلى زاجر بحد، بل يعزر، وفي سنن النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس على الذي يأتي البهيمة حد» (1) ، ومثل هذا لا يقوله صحابي إلا عن توقيف، ونقل عن الرسول صلّى الله عليه وسلم.
واختلفوا في حكم البهيمة الموطوءة، فقال المالكية: حكمها كغيرها في الذبح والأكل فلا تحرم ولا تكره.
وقال الشافعية: لا تذبح في الأصح، وإن كانت مأكولة وذبحت، حل أكلها على الأصح، ولكنه يكره لشبهة التحريم. وإن كانت البهيمة لغيره، وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل، وضمان ما نقص بالذبح إذا كانت تؤكل؛ لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها.
وقيل عند الحنفية: إنها تذبح ولا تؤكل.
وقال الحنابلة: يجب قتلها، سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة، لقوله عليه السلام: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» (2) ، ولأن في بقائها تذكيراً بالفاحشة، فيعيَّر بها صاحبها (3) .
3 - حد إتيان الميتة:
قال المالكية: يحد من أتى ميتة في قبلها أو دبرها؛ لأنه وطء في فرج آدمية، فأشبه وطء الحية، ولأنه أعظم ذنباً وأكثر إثماً؛ لأنه انضم إلى الفاحشة هتك حرمة الميتة (4) .
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم: لا يحد واطئ الميتة؛ لأن هذا ينفر الطبع عنه، فلا يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول، بل يعزر ويؤدب (5) .
__________
(1) أخرجه الترمذي وأبو داود، وفي لفظ «من أتى بهيمة فلا حد عليه» (راجع جامع الأصول: 308/4، التلخيص الحبير: ص 352، نيل الأوطار: 118/7) .
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من طريق عمرو بن أبي عمر عن ابن عباس، قال الترمذي عن هذا الحديث: (لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمر) وضعفه أبو داود بحديث ابن عباس السابق: (ليس على الذي يأتي البهيمة حد) قال الترمذي: هذا أصح من الأول (راجع المراجع السابقة، ونصب الراية: 342/3، مجمع الزوائد: 273/6) .
(3) انظر فتح القدير: 152/4، البدائع: 34/7، حاشية الدسوقي: 316/4، المغني: 189/8، مغني المحتاج: 146/4، المهذب: 269/2.
(4) حاشية الدسوقي: 314/4.
(5) البدائع: 34/7، المغني: 181/8، مغني المحتاج: 145/4، المهذب: 269/2.(7/336)
الفَصْلُ الثَّاني: حَدّ القَذف
خطة الموضوع:
توضيح حد القذف في المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول: مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره.
المبحث الثاني: تعريف القذف لغة، وتفسيره شرعاً.
المبحث الثالث: شرائط وجوب حد القذف.
المبحث الرابع: صفة حد القذف.
المبحث الخامس: إثبات القذف.
المبحث السادس: صلاحيات القاضي في إثبات القذف.
المبحث الأول ـ مشروعية حد القذف وسبب وجوبه ومقداره:
مشروعيته: القذف محرم من الكبائر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (1) .
وحد القذف مشروع بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأولئك هم الفاسقون} [النور:4/24] .
سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأنه نسبة إلى الزنا، تتضمن إلحاق العار بالمقذوف، فيجب الحد دفعاً للعار عنه، وصيانة لسمعته (2) .
مقداره: حد القذف مقدر بثمانين جلدة بنص الآية السابقة، ويضم إليه عقوبة أدبية أخرى هي رد الشهادة والتفسيق، فلا تقبل شهادته بعدئذ إلا إذا تاب في رأي غير الحنفية.
المبحث الثاني ـ تعريف القذف لغة وتفسيره شرعاً:
القذف لغة: هو الرمي بالحجارة ونحوها، ثم استعمل في الرمي بالمكاره لعلاقة المشابهة بين الحجارة والمكاره في تأثير الرمي بكل منهما؛ لأن في كل منهما أذى، فالقذف إذاية بالقول. ويسمى فرية ـ بكسر الفاء ـ كأنه من الافتراء والكذب (3) .
وأما في الاصطلاح الشرعي: فهو نسبة آدمي غيره لزنا، أو قطع نسب
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه (راجع التلخيص الحبير: ص 355، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 518، نيل الأوطار: 252/7) .
(2) البدائع: 40/7.
(3) فتح القدير: 190/4، حاشية الدسوقي: 324/4، مغني المحتاج: 155/4، المغني: 215/8.(7/337)
مسلم. وبعبارة أخرى تُخصص المراد هنا: هو نسبة آدمي مكلف غيره، حراً، عفيفاً، مسلماً، بالغاً عاقلاً أو مطيقاً، للزنا، أو قطع نسب مسلم. وهذا التعريف عند المالكية (1) .
وقد فسره الحنفية بقولهم: القذف نوعان:
ـ أن يقذفه بصريح الزنا، وما يجري مجرى الصريح، وهو نفي النسب (2) .
فالأول: أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن الشبهة، الذي لو أقام القاذف عليه أربعة من الشهود، أو أقر به المقذوف، لزمه حد الزنا.
والثاني: أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف، فيقول: (لست بابن فلان) أو (هو ليس بأبيك) فيكون قاذفاً، كأنه قال: (أمك زانية) .
وبيانه: إذا قال رجل لآخر: يا زاني، أو زنيت، أو أنت زانٍ، يحد؛ لأنه قذفه بصريح الزنا، وكذلك لو قال له: (يا ابن الزاني) أو (يا ابن الزانية) فهو قاذف لأبيه أو أمه.
أما لو قال له: (لست لأمك) فلا يكون قذفاً، إذ أنه كذب محض؛ لأنه نفي النسب من الأم، ونفي النسب من الأم لا يتصور؛ لأن أمه ولدته حقيقة. وكذا لو قال له: (لست لأبويك) لأنه نفي نسبه عنهما، ولا ينتفي عن الأم؛ لأنها ولدته، فيكون كذباً.
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي: 324/4 وعرفه ابن جزي في القوانين الفقهية: ص 342 بتعريف أوجز: وهو الرمي بوطء حرام من قبل أو دبر أو نفي من النسب للأب (خلاف النفي من الأم) أو تعريض بذلك.
(2) انظر التفصيل في البدائع: 42/7 وما بعدها، المبسوط: 119/9 وما بعدها، فتح القدير والعناية: 190/4، 202، تبيين الحقائق للزيلعي: 199/3 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 185/3 وما بعدها.(7/338)
هذا بخلاف ما لو قال: (لست لأبيك) فهو قاذف لأمه؛ لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم، بل هو نفي النسب عن الأب، ونفي النسب عن الأب يكون قذفاً للأم. ولو قال: (أنت ابن فلان) لعمه أو لخاله، أو لزوج أمه، في غير حال الغضب، لا يكون قذفاً عند الحنفية؛ لأن العم يسمى أباً، وكذلك الخال، وزوج الأم، قال الله سبحانه: {قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل} [البقرة:133/2] وإسماعيل كان عم يعقوب عليه السلام، وقد سماه أباً.
وقال جل وعلا عن يوسف عليه السلام: {ورفع أبويه على العرش} [يوسف:100/12] قيل: إنهما أبوه وخالته، وإذا كانت الخالة أماً كان الخال أباً، وقال الله تعالى: {إن ابني من أهلي} [هود:45/11] قيل في التفسير: إنه كان ابن امرأته من غيره.
فإن كان ذلك في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفاً.
ولو قال: (لست بابن فلان) لجده، لم يكن قاذفاً؛ لأنه صادق في كلامه حقيقة؛ لأن الجد لا يسمى أباً حقيقة بل مجازاً.(7/339)
ولو قال لرجل: (يا زانية) لا يجب الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لمحمد والشافعي. دليل محمد والشافعي: أن الهاء قد تدخل صلة زائدة في الكلام مثل: {ما أغنى عني ماليهْ، هلك عني سلطانيهْ} [الحاقة:28/69-29] ومعناه مالي وسلطاني، والهاء زائدة، فيحذف الزائد فيبقى قوله: (يا زاني) وقد تدخل الهاء في الكلام للمبالغة في الصفة مثل: علاَّمة ونسابة ونحوهما، فلا يختل به معنى القذف، كما لو قال لامرأة: «يا زاني» يجب الحد بالاتفاق. ودليل الشيخين: أنه قذفه بما لا يتصور، فيلغو، ودليل عدم التصور أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لأن الهاء في الزانية هاء التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها، وهو لا يتصور من الرجل، بخلاف ما إذا قال لامرأة: (يا زاني) ؛ لأنه أتى بمعنى الاسم، وحذف الهاء في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف، وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحوها.
فيفهم منه حكم ما لو قال لامرأته: (يا زاني) فإنه يحد بالاتفاق بين الحنفية والشافعية. ولو قال: (يا زانئ) بالهمزة وعنى به الصعود، يحد؛ لأن العامة لا تفرق بين المهموز والملين، وبعض العرب يهمز الملين، فيبقى مجرد النية، فلا يعتبر.
ولو قال: (زنأت في الجبل) وعنى به الصعود، فلا يصدق، ويحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: يصدق ولا يحد.
دليل محمد: أن الزنا الذي هو فاحشة ملين، والزنأ الذي هو صعود مهموز. فإذا قال: عنيت به الصعود، فقد عنى به ماهو موجب اللفظ لغة، فلزم اعتباره.
ودليل الشيخين: أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفاً وعادة، والعامة لا تفصل بين المهموز والملين، فلا يصدق في الصرف عن المتعارف.
وقال الشافعية (1) : إن قال: زنأت في الجبل، فليس بقذف من غير نية؛ لأن الزنأ هو الصعود في الجبل، بدليل قول الشاعر:
وارق إلى الخيرات زنأً في الجبل
__________
(1) المهذب: 273/2.(7/340)
وإذا قال: (زنأت على الجبل) فيحد بالاتفاق؛ لأنه لا تستعمل كلمة (على) في الصعود، فلا يقال: صعد على الجبل، وإنما يقال: صعد في الجبل.
ولو قال: (يا ابن القحبة) لم يكن قاذفاً؛ لأن هذا الاسم كما يطلق على الزانية، يستعمل في المهيأة المستعدة للزنا وإن لم تزن، فلا يجعل قذفاً مع الاحتمال.
وكذلك لو قال: (يا ابن الدعية) لا يحد؛ لأن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة لا نسب لها منهم، فلا يدل على كونها زانية، لجواز ثبوت نسبها من غيرهم.
ولكن إذا تغير العرف، وأصبح استعمال اللفظين الأخيرين مقصوداً به القذف في عرف الناس وعاداتهم، وجب الحد.
هذا كله في القذف بصريح الزنا، أو بما جرى مجرى الصريح، وفيما ليس قذفاً بالزنا، فما حكم القذف بطريق الكناية والتعريض؟ وجوابه فيما يأتي:
هل التعريض بالقذف يوجب الحد؟
اتفق الفقهاء على أن القذف إذا كان بلفظ صريح بالزنا، وجب الحد. واختلفوا إذا كان بتعريض مثل: أن يقول لمن يخاصمه: (ما أنت بزان) ، (ما يعرفك الناس بالزنا) ، (يا حلال ابن الحلال) . أو يقول: (ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، ولا أبي بزان) .
فقال الحنفية: إن التعريض لا يوجب الحد، وإن نوى به القذف؛ لأن التعريض أمر خفيف في الأذى عادة، وهو بمنزلة الكناية المحتملة للقذف ونحوه، ولا يحد الشخص بالاحتمال، لقوله عليه الصلاة وسلام: (ادرؤوا الحدود بالشبهات) . كذلك لا يحد بالألفاظ المشتركة بين الزنا وغيره، أو بما يدل صراحة على وطء غير الزنا.
مثال الأول: أن يقول لامرأة: (وطئك فلان وطأً حراماً) أو (فجر بك فلان) أو يقول لرجل: (وطئت فلانة حراماً) أو (جامعتها حراماً) فلا يحد، إذ قد يكون الوطء حراماً ولا يكون زنا، فكان قذفه محتملاً، ولا يجب الحد مع الاحتمال.(7/341)
ومثال الثاني: أن يقول لرجل: (يا لوطي) أو (تعمل عمل قوم لوط) فلا يحد؛ لأنه في الأول نسبه إلى قوم لوط فقط، وفي الثاني قذفه باللواط، وهو ليس زنا عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه، كما سبق بيانه بالتفصيل (1) .
وقال المالكية: التعريض بالقذف يوجب الحد إن أفهم تعريضه القذف بالزنا بالقرائن، كالخصام، كأن يقول: (أما أنا فلست بزان) أو (أنا معروف) لأنه ثقيل على غالب الناس، والكناية قد تقوم في العادة والاستعمال مقام الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملاً في غير موضعه أي مقولاً بالاستعارة، وهذا معنى قول الأدباء: الكناية أبلغ من الصريح. وقد وقعت هذه القضية في زمان عمر، فشاور فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد، فجلد القاذف (2) .
وقال الشافعية: التعريض إن نوى به القذف، وفسره به وجب الحد، فهو بمنزلة الكناية، والكناية توجب الحد؛ لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق. وإن لم ينو به القذف لم يجب الحد، سواء أكان التعريض في حال الخصومة أم غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره،
__________
(1) انظر المبسوط: 120/9، فتح القدير: 191/4، البدائع: 42/7-44، تبيين الحقائق: 200/3.
(2) بداية المجتهد: 432/2، حاشية الدسوقي: 327/4، المنتقى على الموطأ: 150/7، القوانين الفقهية: ص 357.(7/342)
والحدود تدرأ بالشبهات (1) . ومن الكناية عندهم أن يقول: يا فاجر، يا خبيث، ياحلال ابن الحلال، فإن نوى به القذف، وجب به الحد، وإن لم ينو به القذف، لم يجب به الحد، سواء أكان القول في حال الخصومة أم في غيرها؛ لأنه يحتمل القذف وغيره.
وقال الحنابلة: اختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف: في رواية لا حد عليه، وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر. وفي رواية: عليه الحد بدليل فعل عمر السابق ذكره (2) .
القذف باللواط: قال الشافعية (3) : إن قال شخص لغيره: لطت أو لاط بك فلان باختيارك، فهو قذف؛ لأنه قذفه بوطء يوجب الحد، فأشبه القذف بالزنا، وإن قال: يا لوطي، وأراد أنه على دين قوم لوط لا يحد؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد. والقذف باللواط موجب للحد عند الجمهور غير الحنفية.
قذف الجماعة: قال الحنفية والمالكية: إذا قذف الشخص جماعة يحد حداً واحداً، كأن يقول: «كلكم زان» أو يقول لكل واحد منهم في مجلس، أو متفرقين: «يا زاني» أو «فلان زان، وفلان زان» . ودليلهم أن هلال بن أمية قذف أمرأته بشريك بن سحماء، فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما، ولم يحد هلالاً لقذفه شريك بن سحماء (4) ؛ لأن القذف جناية توجب
__________
(1) المهذب: 273/2.
(2) المغني: 222/8.
(3) المهذب: 273/2.
(4) أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات من حديث أنس بن مالك، قال: «أول لعان كان في الإسلام أن شريك ابن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إن الله يعلم أني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهري من الحد، فأنزل الله عز وجل آية اللعان، ولاعن النبي صلّى الله عليه وسلم وفرق بينهما» والحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس (راجع نصب الراية: 306/3، سبل السلام: 16/4) .(7/343)
حداً، فإذا تكرر كفى حد واحد، كما لو سرق من جماعة، أو زنى بنساء (1) .
وقال الشافعي، وزفر من الحنفية: إذا قذف شخص جماعة، فيجب لكل واحد منهم حد، سواء أكان القذف لكل واحد على انفراد أم بكلمة واحدة؛ لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم، فلزمه لكل واحد منهم حد، كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف (2) .
وقال الحنابلة: إن قذف الجماعة بكلمة واحد، فيحد حداً واحداً، إذا طالبوا جميعاً، أو طالب واحد منهم؛ لأن مطلق الآية: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/24] لم يفرق فيها بين قذف واحد أو جماعة، ولأنه قذف واحد، فلم يجب إلا حد واحد. فإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد؛ لأن القذف حق للآدمي، وحقوق الآدميين لا تتداخل كالديون والقصاص (3) ، أي لا يجزئ بعضها عن بعض.
تكرار القذف: قال الشافعية (4) : إن كرر القاذف القذف بنفس الزنا السابق الذي حد عليه، يعزر للأذى، ولم يحد؛ كما فعل عمر مع أبي بكرة الذي كرر قذف المغيرة. وإن قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد، يلزمه في الصحيح حد واحد؛ لأنهما حدان من جنس واحد، لمستحق واحد، فتداخلا كما لو زنى، ثم زنى.
__________
(1) المبسوط: 111/9، البدائع: 42/7، 56، حاشية الدسوقي: 327/4، القوانين الفقهية: ص358، بداية المجتهد: 433/2، الشرح الكبير: 327/4.
(2) المهذب: 275/2، الميزان: 160/2.
(3) المغني: 233/8 وما بعدها.
(4) المهذب: 275/2.(7/344)
وقال المالكية (1) : من قذف شخصاً واحداً مراراً كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد لواحد منها، اتفاقاً، فإن قذفه فحد، ثم قذفه مرة أخرى، حد مرة أخرى اتفاقاً.
وأيد الحنابلة (2) ذلك فقالوا: إن اجتمعت حدود الله في جنس، بأن زنى أو سرق أو شرب مراراً، تداخلت، فلا يحد سوى مرة، فإن كانت من أجناس وفيها قتل، استوفي وحده، وإلا وجب أن يبدأ بالأخف فالأخف.
المبحث الثالث ـ شرائط وجوب حد القذف:
اشترط الحنفية لوجوب حد القذف ستة أنواع من الشرائط، يتعلق بعضها بالقاذف، وبعضها بالمقذوف، وبعضها بهما جميعاً، وبعضها بالمقذوف به، وبعضها بالمقذوف فيه، وبعضها بنفس القذف.
أولاً ـ شروط القاذف:
يشترط في القاذف ستة شروط متفق عليها:
1 - العقل: فلا عبرة بكلام المجنون.
2 - البلوغ: فلا يحد القاذف إذا كان صبياً كالمجنون، والسبب في عدم العقاب أن الحد عقوبة، فتستدعي كون القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون، لايوصف بكونه جناية. ولافرق بين كون القاذف مسلماً أو كافراً التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد. واشترط الشافعية كون القاذف مختاراً غير مكره.
3 - عدم إثباته ما قذف به بأربعة شهود، فإن أتى بهم وشهدوا على المقذوف بالزنا، لم يحد حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/24] (3) واشترط أبو حنيفة أن يأتي الشهود جماعة؛ لأن الشاهد الواحد إذا شهد بانفراده صار قاذفاً، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهداً، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، إذ الآية مطلقة، بل تفريقهم أولى؛ لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وأجاز الحنفية كون الزوج أحد الشهود الأربعة. وقال الجمهور: يلاعن الزوج، ويحد الشهود الثلاثة؛ لأن الشهادة بالزنى قذف.
4 - أن يكون القاذف ملتزماً بأحكام الشريعة، لا الحربي، وعالماً بالتحريم.
5 - الاختيار أو الطواعية، فلا يحد المكره بالقذف.
6 - ألا يأذن المقذوف للقاذف بالقذف بالزنا، فإن أذن له بالقذف لم يحد للشبهة.
ثانياً ـ شروط المقذوف:
يشترط في المقذوف بالاتفاق شرطان (4) :
1 - أن يكون المقذوف محصناً: رجلاً كان أو امرأة. وشرائط إحصان
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 357 وما بعدها، الشرح الكبير: 327/4.
(2) غاية المنتهى: 315/3.
(3) البدائع: 40/7.
(4) انظر البدائع، المرجع السابق، فتح القدير: 191/4، المبسوط: 116/9، تبيين الحقائق للزيلعي: 200/3، حاشية ابن عابدين: 184/3، المهذب: 272/2، 276، الدرديرمع الدسوقي: 325/4 وما بعدها، المغني: 215/8، 227 وما بعدها.(7/345)
القذف خمسة: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزنا. وبناء عليه لا يجب الحد بقذف الصبي والمجنون والرقيق والكافر، ومن لاعفة له من الزنا.
أما اشتراط العقل والبلوغ: فلأن الزنا لا يتصور من الصبي والمجنون، فكان قذفهما بالزنا كذباً محضاً، فيوجب التعزير، لا الحد.
وأما الحرية: فلأن الله سبحانه وتعالى شرط الإحصان في آية القذف، وهي قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور:4/24] والمراد من المحصنات هنا: الحرائر لا العفائف عن الزنا. فلو أريد من المحصنات: العفائف، لكان تكراراً مع ما بعده من الأوصاف الآتية.
وأما الإسلام والعفة عن الزنا، فلقوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور:23/24] والغافلات: العفائف عن الزنا.
وتفسير العفة عن الزنا: هو ألا يكون المقذوف قد وطئ في عمره وطأً حراماً، في غير ملك، ولا نكاح أصلاً، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه في عهد السلف، مثل وطء المرأة بشبهة: بأن زفت إليه غير امرأته فوطئها.
ومن لا يجب عليه الحد، لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف، على الخلاف السابق فيه، عزر؛ لأنه آذى من لا يجوز إيذاؤه.(7/346)
2 - أن يكون المقذوف معلوماً: فإن كان مجهولاً لا يجب الحد، كما إذا قذف جماعة على النحو الذي سبق بيانه، أو قال لجماعة: (ليس فيكم زان إلا واحد) أو قال لرجلين: (أحدكما زان) فإنه في هذه الصور الثلاث لا يجب الحد لكل واحد من الجماعة؛ لأن المقذوف مجهول. والمذهب لدى الشافعية (1) : أنه إذا قذف الوالد ولده، أو قذف الجد ولد ولده، لم يجب عليه الحد؛ لأن الحد عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص. وإن قذف زوجته، فماتت، وله منها ولد، سقط الحد؛ لأن المطالبة حق للولد، ولم يثبت له هذا الحق على والده. وإن كان لها ابن آخر من غيره، وجب له الحد، لثبوت حقه فيه.
ثالثاً ـ ما يشترط في القاذف والمقذوف معاً:
يشترط بالاتفاق ألا يكون القاذف أباً للمقذوف، ولا جده وإن علا، ولا أمه ولا جدته وإن علت. فإن كان كذلك، فلا حد عليه، للأوامر التي تطالب بالإحسان إلى هؤلاء، وفي إقامة الحد ترك للتعظيم والاحترام الواجب شرعاً (2) .
رابعاً ـ مايشترط في المقذوف به:
يشترط أن يكون القذف بصريح الزنا، أو بما يجري مجرى الصريح. وقد سبق تفصيله في مطلب تفسير القذف شرعاً.
خامساً ـ شرط المقذوف فيه أي المكان:
يشترط أن يكون القذف حاصلاً في دار العدل، فإن حصل في دار الحرب أو في دار البغي، فلا يجب الحد؛ لأن الإمام هو الذي يقيم الحد، ولا ولاية له على دار الحرب، ولا على دار البغي (3) في رأي الجمهور، وقال الشافعية: يستحق الباغي الحد.
__________
(1) المهذب: 272/2.
(2) البدائع: 42/7، المهذب: 272/2، الدردير مع الدسوقي: 327/4، 331، المغني: 219/6.
(3) البدائع: 45/7.(7/347)
سادساً ـ ما يشترط في القذف نفسه:
يشترط أن يكون القذف مطلقاً عن الشرط والإضافة إلى وقت في المستقبل. فإن كان معلقاً بشرط أو مضافاً إلى وقت، لا يجب الحد؛ لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفاً للحال، وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجز القذف، فكان قاذفاً تقديراً مع انعدام القذف حقيقة، فلا يجب الحد. فإذا قال رجل لآخر: (إن دخلت هذه الدار فأنت زان) فدخل، فلا حد عليه. وكذلك إذا قال لغيره: (أنت زان غداً) أو (أنت زان رأس شهر كذا) فجاء الغد والشهر، لا حد عليه (1) .
والخلاصة: قال القرطبي: للقذف عند العلماء شروط تسعة: شرطان في القاذف، وهما العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف؛ إذ التكليف ساقط دونهما. وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنا واللواطة، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي. وخمسة في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها، كان عفيفاً من غيرها، أم لا.
المبحث الرابع ـ صفة حد القذف:
اختلف الفقهاء في تكييف حد القذف، هل هو حق لله تعالى أو حق للعباد (2) .
__________
(1) البدائع: المرجع السابق.
(2) المراد بحق العبد: هو أنه لو أسقطه لسقط كالديون والأثمان. والمراد بحق الله: هو أنه ليس للعبد إسقاطه (الفروق: 141/1) .(7/348)
قال الحنفية: إن حد القذف فيه حقان: حق للعبد، وحق لله تعالى، إلا أن حق الله تعالى فيه غالب؛ لأن القذف جريمة تمس الأعراض، وفي إقامة الحد على القاذف تتحقق مصلحة عامة: وهي صيانة مصالح العباد، وصيانة الأعراض، ودفع الفساد عن الناس (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: إن حد القذف حق خالص للآدمي المقذوف؛ لأن القذف جناية على عرض المقذوف، وعرضه حقه، فكان البدل (وهو العقاب) حقه، كالقصاص (2) .
ويترتب على هذا الخلاف: أنه بناء على القول الأول، وهو مذهب الحنفية: لا يصح للمقذوف إسقاط الحد ولا الإبراء منه والعفو عنه، ولا الصلح والاعتياض عنه (أي بعد أن يرفع الأمر إلى الحاكم، أما قبل ذلك فيسقط بالعفو) ولا يجري فيه الإرث، ولكن يسقط بموت المقذوف؛ لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث، لقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فهو لورثته» (3) وحد القذف ليس حقاً للمورث عندهم، وإنما هو حق لله تعالى في غالبه، فلا يرثه ورثته، ويجري فيه التداخل كما في قذف الجماعة، فيجب حد واحد إذا تكرر القذف كما سبق بيانه.
وإذا طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف، فلا يحلفه كما في حد الزنا. ومثل حد القذف: حد الزنا والشرب والسكر والسرقة.
__________
(1) فتح القدير: 194/4، البدائع: 56/7، حاشية ابن عابدين: 189/4، المبسوط: 113/9.
(2) المهذب: 274/2 وما بعدها، الميزان: 160/2 وما بعدها، المغني: 217/8، 219، 230، 233، 236.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته: «من خلّف مالاً أو حقاً فلورثته، ومن خلف كلاً أو ديناً، فكله إلي، ودينه علي» وفي لفظ: «من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاًّ فإلينا» وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة وزاد: «وعلى الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين» وفي إسناده عبد الله بن سعيد الأنصاري متروك، وعن أبي أمامة عند ابن حبان في ثقاته. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك كلاً فإلي، ومن ترك مالاً فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل منه، وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» . (راجع نصب الراية: 58/4، التلخيص الحبير: ص 251، نيل الأوطار: 238/5) .(7/349)
وبناء على القول الثاني، وهو مذهب الشافعية والحنابلة: يصح للمقذوف ولو بعد رفع الأمر للحاكم إسقاط الحد والإبراء منه، والعفو عنه، والصلح، والاعتياض عنه، ويورث حق المطالبة بحد القذف؛ لأنه من حقوق العباد. أما حديث صفوان الآتي فهو في حد السرقة الذي هو حق لله تعالى. ودليلهم ما رواه ابن السني أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول: تصدقت بعرضي» أي بنفسي، والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له.
وأما التداخل: فلا يجري فيه عندهم، حتى لو قذف جماعةً، كل واحد منهم على انفراد، وجب لكل واحد منهم حد كما سبق بيانه وتفصيله.
وإذا ادعى شخص على رجل أنه قذفه فيستحلف؛ لأنه حق لآدمي كالدين.
وأما مذهب المالكية فمختلف فيه؛ لأن قول مالك اختلف: فمرة قال بقول الشافعي: وهو أن حد القذف حق للآدمي، فيجوز فيه العفو وهو الأظهر عند ابن رشد، ومرة قال: فيه حقان: حق لله وحق للعبد، إلا أنه يغلب فيه حق الإمام إذا وصل إليه أمر الحد، فإذا رفع أمر الحد إلى الإمام لا يملك المقذوف العفو عن الحد، إلا إذا أراد المقذوف الستر على نفسه، تغليباً لحق ولي الأمر إذا وصل إليه الحد، قياساً على الأثر الوارد في السرقة (1) ، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في حادثة سارق رداء صفوان: «فهلا ـ أي عفوت عنه ـ قبل أن تأتيني به» فلم يعمل
__________
(1) انظر بداية المجتهد: 433/2 وما بعدها، المنتقى على الموطأ: 148/7، حاشية الدسوقي: 331/4، الفروق للقرافي: 141/1، القوانين الفقهية: ص 358، تهذيب الفروق: 157/1، الفروق: 141/1، 175/4.(7/350)
الرسول بقول صفوان: «إني لم أرد هذا ـ أي قطع يده ـ هوـ أي الرداء ـ عليه صدقة» (1) .
والرأي الأول هو المشهور عن مالك والراجح في مذهبه، فيجوز عنده للمقذوف العفو عن قاذفه قبل بلوغ الإمام أو نائبه، أو بعد بلوغه إليه إن أراد المقذوف ستراً على نفسه، كأن يخشى أنه إن ظهر أمره قامت عليه بينة بما رماه به. أما إن لم يرد المقذوف الستر، فلا يجوز له العفو عن القاذف بعد بلوغ الإمام أو نائبه، لصيرورته حقاً لله تعالى.
المبحث الخامس ـ إثبات القذف:
تثبت جرائم الحدود كلها عند القاضي بالبينة أو بالإقرار، بشرط توافر شروط معينة، بعضها في وسيلة الإثبات نفسها، أي في البينة أو الإقرار، وبعضها يتوقف عليها النظر في إثبات الحد بالوسائل المذكورة، وهو شرط الخصومة (2) ، أي رفع الدعوى.
الخصومة: الخصومة معناها: رفع الدعوى، وهي ليست بشرط في حد الزنا والشرب، ولكنها شرط في ثبوت حد السرقة كما سأبين، وشرط في ثبوت حد
__________
(1) أخرجه الموطأ وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن الجارود والحاكم عن صفوان بن أمية. ورواية الموطأ: أن صفوان بن أمية قيل له: إنه إن لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق، فأخذ رداءه. فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تقطع يده، فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به. (راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 49/3، جامع الأصول: 342/4، مجمع الزوائد: 276/6، نصب الراية: 368/3، سبل السلام: 26/4) .
(2) البدائع: 46/7، 52.(7/351)
القذف بالشهادة والإقرار. أما على أصل الشافعي فلأن حد القذف حق خالص للعبد، فيشترط فيه الدعوى، كما في سائر حقوق العباد، ويسقط إذا عفا عنه، بدليل ما روى ابن السني: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له.
وأما عند الحنفية: فحد القذف وإن كان المغلب فيه حق الله عز وجل، ولكن للشخص فيه حق؛ لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك، فيشترط فيه رفع الدعوى عن جهة حق الشخص؛ لأن حق الشخص الخاص لا يثبت إلا بمطالبته وخصومته (1) . وسأتكلم عن الخصومة في موضعين: حكم الخصومة، ومن يملك الخصومة.
حكم الخصومة أو الدعوى: الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لأن فيها إشاعة الفاحشة، وهو مندوب إلى تركها، وكذا العفو عن الخصومة أفضل لقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237/2] ويستحسن للقاضي إذا رفع الأمر إليه أن يرغب المدعي بترك الدعوى (2) .
من يملك الخصومة ومن لا يملكها:
المقذوف: إما أن يكون حياً وقت القذف، وإما أن يكون ميتاً. فإن كان حياً فلا خصومة لأحد سواه، ولو كان ولداً أو والداً له، سواء أكان حاضراً أم غائباً؛ لأنه إذا كان حياً وقت القذف، كان هو المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به، فكان حق الخصومة له.
وتجوز الإنابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالإثبات بالبينة عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا تجوز، إذ لا تصح وكالة في حد ولاقصاص عنده. دليله: أنه كما لا يجوز التوكيل في استيفاء حد القذف، فلا يجوز ذلك في إثباته؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء.
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 52، المهذب: 274/2.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 52.(7/352)
ودليل الطرفين: أنه يفرق بين الإثبات والاستيفاء، وهو أن امتناع التوكيل في الاستيفاء بسبب الشبهة، وهي منعدمة في التوكيل بالإثبات (1) .
وأما إذا كان المقذوف ميتاً: فإن حق الخصومة للوالد وإن علا، وللولد وإن سفل؛ لأن معنى القذف وهو إلحاق العار عائد إلى الأصل والفرع، لوجود الجزئية بالنسبة للفرع والبعضية بالنسبة للأصل، وقذف الإنسان يكون قذفاً لأجزائه، فكان القذف لاحقاً بهم من حيث المعنى، أما الميت فلا يرجع إليه معنى القذف؛ لأنه ليس بمحل لإلحاق العار به (2) . فإذا كان المقذوف حياً ثم مات، فليس لأحد من هؤلاء حق الخصومة؛ لأنه حد لا يورث كما عرفنا.
ولا حق في الخصومةأصلاً للإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات؛ لأنه وإن كان يؤلمهم نسبة الزنا إلى قريبهم، ولكنهم لا يلحقهم القذف لا صورة ولا معنى، لعدم انتسابهم إلى المقذوف لا بجزئية ولا بأصل.
وأما أولاد البنات فمختلف فيهم: فعند محمد: لا يملكون الخصومة؛ لأن ولد البنت ينسب إلى أبيه، لا إلى جده، فلم يكن مقذوفاً معنى بقذف جده.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يملكون الخصومة؛ لأن النسبة الحقيقية بين المقذوف وأولاد بناته ثابتة بوساطة أمهاتهم، فصاروا مقذوفين معنى (3) .
__________
(1) البدائع: 21/6، فتح القدير: 197/4، المبسوط: 113/9.
(2) البدائع: المرجع السابق: 55/7، حاشية ابن عابدين: 187/4، فتح القدير: 195/4.
(3) البدائع، المرجع السابق نفسه، المبسوط: 112/9.(7/353)
ويلاحظ أن حق الخصومة يثبت لأقارب المقذوف هؤلاء على السواء، دون مراعاة الترتيب في القرابة، فالأقرب والأبعد في هذا الحق سواء؛ لأنه ثابت لهم ابتداء، وليس من طريق الإرث عن الميت وانتقاله لهم.
وقال زفر: يراعى الترتيب في القرابة؛ لأن عار الأقرب يزيد على الأبعد (1) .
ونص المالكية والشافعية والحنابلة (2) : على أن حق القذف يثبت للورثة، فإن كان هناك وارثان، فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع الحد، تحقيقاً للردع الذي شرع الحد من أجله. فإن لم يكن وارث، ثبت الحق فيه للمسلمين، ويستوفيه السلطان.
التوكيل في استيفاء الحد:
عرفنا خلاف الحنفية في التوكيل في إثبات الحد، فهل تصح الوكالة في استيفاء الحد؟
اتفق الحنفية على أنه لا تصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص، فلا بد من وجود المقذوف، ووجود ولي القصاص حين الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء عند غيبة الموكل استيفاء مع الشبهة، فقد يجوز فيما لو حضر المقذوف أن يصدِّق القاذف، والحدود لا تستوفى مع الشبهات (3) .
وإذا حضر المقذوف يقوم ولي الأمر أو نائبه باستيفاء حد القذف، لتطلبه معرفة معينة. وأما القصاص فيستوفيه ولي الدم، أو من يوكله بسبب عجزه وضعف قلبه بإشراف الحاكم.
وإذا طلب المقذوف إقامة الحد على القاذف، وخاصم بين يدي القاضي، وحكم القاضي بالحد، ثم مات المقذوف، أو مات قبل المطالبة، أو مات بعد ما ضرب بعض الحد، فيبطل الحد ويبطل ما بقي منه، وإن كان سوطاً واحداً. وليس لأحد الحق في متابعة الخصومة أو الاستيفاء، وحينئذ فلا تبطل شهادة القاذف عند الحنفية؛ لأن المغلب في حد القذف هو حق الله تعالى، فلا يورث كما
__________
(1) البدائع، المرجع السابق نفسه.
(2) تكملة المجموع: 201/8، المهذب: 275/2، الشرح الكبير: 331/4.
(3) البدائع: 55/7.(7/354)
عرفنا (1) .وقال الشافعي وأحمد: يقوم الوارث مقام المقذوف في إثبات الحد واستيفائه؛ لأن حد القذف حق خالص للإنسان عنده، فيورث كل ما ترتب على القذف من حق الخصومة، ومتابعتها، واستيفاء الحد، وما تبقى منه (2) .
شرائط البينة لإثبات القذف:
لا يشترط في بينة المقذوف لإثبات القذف سوى الشروط التي تعم الحدود التي سبق ذكرها، وهي الذكورة والأصالة، فلا تقبل شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي (3) .
ولا يشترط عدم التقادم في حد القذف، فلو تأخر الشهود زمناً طويلاً عن أداء الشهادة، ثم شهدوا على القذف، تقبل شهادتهم، بخلاف بقية الحدود كما عرفنا. والسبب في التفرقة بين حد القذف وغيره: هو أن التأخير فيه لا يدل على الضغينة والتهمة؛ لأنه يشترط رفع الدعوى في القذف، فاحتمل أن يكون التأخر في أداء الشهادة لتأخر المدعي في رفع الدعوى (4) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق نفسه، فتح القدير: 197/4، المبسوط: 114/9. (2) المهذب: 275/2.
(3) المبسوط: 111/9.
(4) البدائع: 46/7.(7/355)
شرائط الإقرار بالقذف:
كذلك لا يشترط في الإقرار بالقذف سوى الشروط العامة في الإقرارات في كل الحدود: وهي البلوغ والنطق، فلا يصح إقرار الصبي في الحدود، ولا إقرار الأخرس، سواء بالكتابة أم بالإشارة، كما ذكر في حد الزنا.
ولا يشترط تعدد الإقرار بالقذف بالاتفاق، ولا عدم التقادم أيضاً (1) .
إثبات القذف بعلم القاضي:
اتفق الحنفية على أن حد القذف يثبت بعلم القاضي في زمان القضاء ومكانه. واختلفوا في إثباته في غير زمان القضاء ومكانه (2) . فقال متقدموهم: له أن يقضي بعلمه في الواقعة، وقال متأخروهم: لا يجوز له أن يقضي بعلمه مطلقاً في الحوادث المتنازع فيها بسبب غلبة الفساد والسوء في القضاة!.
تحليف القاذف ونكوله:
إذا لم يكن للمدعي بينة على القذف، وطلب من القاضي أن يستحلف القاذف بالله تعالى ما قذفه، فلا يحلف عند الحنفية؛ لأن المقصود من الاستحلاف القضاء بالنكول عند عدم الحلف، والنكول يكون قائماً مقام الإقرار، ولكن الحد لا يقام بما هو قائم مقام غيره (3) .
وقال مالك والشافعي: يحلف، وإذا نكل لا ترد اليمين على المدعي في الحدود. وقال أحمد: يحلف ولا ترد اليمين على المدعي، وإنما يقضي القاضي على المدعى عليه بالنكول عن اليمين، بإلزامه بادعاء المدعي (4) .
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور: هل حد القذف خالص للإنسان، فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد، أو أن فيه حقين، وحق الله غالب، فلا يحلف، وقد سبق بيانه في صفة حد القذف.
المبحث السادس ـ صلاحيات القاضي في إثبات القذف:
إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي، فإما أن ينكر القاذف، أو يقر. فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي التأجيل لإقامة البينة، وادعى أن له بينة في المصر على قذفه، فإنه يؤجله إلى أن يقوم من مجلسه، ويحبس (5) المدعى عليه القذف في تلك الفترة. فإن أحضر البينة قبل قيام الحاكم من مجلسه، تمَّ المقصود، وإلا خلَّى سبيله.
ولا يجوز عند أبي حنيفة في فترة الانتظار إلى آخر مجلس الحاكم أن يأخذ كفيلاً بنفس المدعى عليه؛ لأن المقصود من الكفالة إقامة الكفيل مقام المكفول عنه في إيفاء الحد، وهذا لا يتحقق في الحدود والقصاص، ولأن الكفالة شرعت للاستيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط، قال عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» (6) فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة، بخلاف الحبس، فإن الحبس للتهمة مشروع.
وقال الصاحبان والشافعية: يأخذ القاضي من المدعى عليه كفيلاً بنفسه إلى ثلاثة أيام، ليأتي بالبينة، ولا يحبسه؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه، فتؤخذ منه
__________
(1) البدائع: 49/7-50.
(2) البدائع، المرجع نفسه: 54/7، المبسوط: 108/9.
(3) المبسوط للسرخسي: 105/9، البدائع: 52/7.
(4) القوانين الفقهية: ص 358.
(5) المراد من الحبس: الملازمة، أي يقال للمدعي: لازمه إلى هذا الوقت، لأن الحبس عقوبة، وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة على أحد (المبسوط: 106/9) .
(6) تقدم تخريجه عن عائشة، وأنه ضعيف الإسناد، والأصح أنه موقوف على جماعة من الصحابة مثل عمر وعلي وابن مسعود وعقبة بن عامر ومعاذ.(7/356)
الكفالة كما في الأموال، ولأنه إذا كان الحبس جائزاً في الحدود، فالكفالة أولى؛ لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة، فلما جاز الحبس، فالكفالة أحق بالجواز (1) ، وأما مدة الثلاثة الأيام فهي وقت قريب، لقوله عز وجل: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} [هود:64/11] ثم قال: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} [هود:65/11] .
وإن قال المقذوف: (لا بينة لي) أو (بينتي غائبة، أو خارج المصر) فإن القاضي يخلي سبيل القاذف، ولا يحبس بالاتفاق لعدم التهمة (2) .
موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف:
إن أقام المقذوف البينة على صحة القذف، أو أقر القاذف كما ذكر، فإن القاضي يقول للقاذف: «أقم البينة على صحة قولك» .
فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا، أو على إقرار المقذوف بالزنا، بين يدي الإمام أربع مرات، سقط الحد عن القاذف، ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لأنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته (3) .
وإن عجز عن إقامة البينة، يقام عليه حد القذف، لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور:4/24] .
فإن طلب التأجيل من القاضي، وقال: (شهودي غيَّب) أو (خارج المصر) لم يؤجله.
__________
(1) المبسوط: 106/9، البدائع: 53/7، المهذب: 273/2.
(2) المرجعان السابقان.
(3) البدائع: 53/7.(7/357)
وإن قال: (شهودي في المصر) أجله إلى آخر المجلس، ولازمه المقذوف، ويقال له: «ابعث أحداً إلى شهودك فأحضرهم» ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه عند أبي حنيفة؛ لأن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعاً من استيفاء الحد بعد ظهوره.
وقال الصاحبان: يؤجل (أي القاذف) يومين أو ثلاثة، ويؤخذ منه كفيل؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إخباره أن له بينة في المصر، وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت، فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني، وأخذ الكفيل لئلا يفوت حقه.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر، ولم يجد أحداً يبعثه إلى الشهود، فإن القاضي يبعث معه من الشُّرَط (1) من يحفظه ولا يتركه حتى يفر، فإن عجز، أقيم عليه الحد. فإن ضرب القاذف بعض الحد، ثم حضر الشهود، وشهدوا على صدق مقالته، قبلت بينته، وبطل الحد الباقي، ولا تبطل شهادته، ويقام حد الزنا على المقذوف.
وإن ضرب القاذف الحد بتمامه، ثم شهد الشهود على صدق مقالته، تقبل شهادتهم. ويظهر أثر القبول في استرداد عدالة القاذف وقبول شهادته؛ لأنه تبين أنه لم يكن محدوداً في القذف حقيقة، حيث ظهر أن المقذوف لم يكن محصناً؛ لأن من شرائط الإحصان: العفة عن الزنا، وقد ظهر زناه بشهادة الشهود، فلم يصر القاذف مردود الشهادة (2) .
اللعان بعد إثبات القذف: قال الشافعية (3) : إن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر، فشهد شاهدان أنه قذفها، جاز أن يلاعن؛ لأن إنكاره للقذف لايكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأنه يقول: إنما أنكرت القذف، وهو الرمي بالكذب، وما كذبت عليها؛ لأني صادق أنها زنت، فجاز أن يلاعن.
ما يسقط حد القذف: يسقط حد القذف بأحد أمور ثلاثة:
1 - إثبات الزنى على المقذوف بالبينة أو بإقراره به.
2 - عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لأنه عندهم حق من حقوق العباد.
3 - اللعان بين الزوجين، لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} [النور:6/24] .
__________
(1) الشرط: هم الطائفة من خيار أعوان الولاة، وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة، والواحد: شرطي.
(2) راجع البدائع: 53/7 وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 199/3.
(3) المهذب: 276/2.(7/358)
الفَصْلُ الثَّالث: حَدّ السَّرقة
خطة الموضوع:
بيان حد السرقة في المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول: تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها.
المبحث الثاني: شروط السرقة الموجبة للحد.
المبحث الثالث: إثبات السرقة، وإقامة الدعوى بها.
المبحث الرابع: ما يسقط الحد بعد وجوبه.
المبحث الأول ـ تعريف السرقة وحكمها وصفة حدها:
تعريف السرقة: السرقة: هي أخذ مال الغير من حرز المثل على الخفية والاستتار. ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك.
ووقت الخفية: هو عند ابتداء وانتهاء أخذ المسروق إذا كانت السرقة نهاراً، ويمتد النهار إلى وقت العشاء، وعند ابتداء الأخذ فقط إذا كانت السرقة ليلاً، حتى لو دخل السارق البيت ليلاً خفية، ثم أخذ المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة ممن في يده، قطع استحساناً، إذ لو اعتبروا الخفية في الليل في نهاية الأخذ أيضاً لامتنع الحد في أكثر السرقات في الليالي؛ لأن أكثرها يصير مغالبة عند انتهاء الأخذ، لأنه وقت لايلحق فيه الغوث. وهل العبرة في الخفية لزعم السارق أن رب الدار لم يعلم به أم لزعم أحدهما وإن كان رب الدار؟ فيه خلاف عند الحنفية. ويظهر الخلاف فيما لو ظن السارق أن رب الدار علم به، مع أنه لم يعلم، فالخفية هنا في زعم رب الدار، لا في زعم السارق، فعند الزيلعي: لا يقطع؛ لأن شرط السرقة أن تكون خفية على زعم السارق. وفي الخلاصة والمحيط والذخيرة: يقطع اكتفاء بكونها خفية في زعم أحدهما. أما لو زعم اللص أن المالك لم يعلم به مع أنه عالم، يقطع، اكتفاء بزعمه الخفية. وكذا لو يعلما معاً، وأما لو علما(7/359)
بالأخذ معاً فلا قطع (1) .
واتفق العلماء على أنه ليس في الاختطاف أو الخيانة فيما ائتمن عليه أو الاختلاس أو النهب أو الغصب حد، لقوله عليه الصلاة والسلام:
«ليس على الخائن ولا المختلس قطع» (2) وقوله أيضاً: «ليس على المنتهب قطع» (3) .
والاختلاس: أن يستغل صاحب المال فيخطفه ويذهب بسرعة جهراً، فهو من يتعمد الهرب.
والخائن: هو الذي يضمر ما لا يظهره في نفسه. والمراد به: هو الذي يأخذ المال خفية من مالكه، مع إظهاره له النصيحة والحفظ.
__________
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار: 212/3، العناية وفتح القدير: 219/4، تبيين الحقائق: 212/3.
(2) حديث قوي رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي وابن حبان، وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله بلفظ: «ليس على خائن، ولا منتهب، ولامختلس قطع» وفي لفظ: «ليس على المختلس ولا على الخائن قطع» وفي رواية أبي داود: «ليس على المنتهب قطع، ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا» ورواه الطبراني في معجمه الوسط عن أنس بن مالك بلفظ: «ليس على منتهب، ولا مختلس، ولا خائن قطع» (راجع جامع الأصول: 321/4، نصب الراية: 363/3، التلخيص الحبير: ص 356، نيل الأوطار: 130/7، سبل السلام: 33/4) .
(3) هذه هي رواية أبي داود عن جابر، كما ذكر في الحديث السابق.(7/360)
والمنتهب: هو المغير، مأخوذ من النهبة: وهي الغارة والسلب، والمراد به: الذي يأخذ المال على جهة الغلبة والقهر (1) .
ورأى الحنابلة أن جاحد عارية قيمتها نصاب يقطع، ولا يقطع جاحد وديعة، أي أن خائن الوديعة لا يقطع عندهم. وقال الجمهور: لا يقطع جاحد المستعار، ولا جاحد الوديعة.
والفرق بين السارق الذي تقطع يده، والمختلس والمنتهب والغاصب الذين لا تقطع أيديهم هو ما يأتي (2) :
إن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر مما قام به، فلو لم يشرع قطعه، لسرق الناس بعضهم بعضاً، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بسبب السراق، بخلاف المنتهب والمختلس.
فإن المنتهب: هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يديه، ويخلصوا حق المظلوم، أو يشهدوا له عند الحاكم.
وأما المختلس: فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره، فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ، لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه. وأيضاً فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالباً، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالباً، فهو كالمنتهب.
وأما الغاصب، فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب. وإذا لم تقطع يد هؤلاء، يكف عدوانهم بالضرب والنكال والسجن الطويل، والعقوبة بأخذ المال.
حكم السرقة: الأصل في مشروعية حد السرقة قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا
__________
(1) المبسوط: 133/9، البدائع: 65/7، فتح القدير: 233/4، حاشية ابن عابدين: 208/3، حاشية الدسوقي: 355/4، المهذب: 289/2، الميزان: 172/2، المغني: 327/8، مغني المحتاج: 171/4، القوانين الفقهية: ص 360، غاية المنتهى: 336/3.
(2) أعلام الموقعين: 61/2 وما بعدها.(7/361)
إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه» (1) . وفي رواية: «أقاموا عليه الحد» وإذا ثبتت السرقة فالواجب فيها القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع.
واختلفوا: هل يجمع بين الضمان والقطع؟
لا خلاف بين العلماء في أنه إذا قطع السارق، والعين قائمة، ردت على صاحبها، لبقائها على ملكه. فإن كانت تالفة اختلفوا في ضمانها، فقال الحنفية: إذا هلك المسروق، فلا يجتمع على السارق وجوب الغرم (أي الضمان) مع القطع. فإن اختار المسروق منه الغرم لم يقطع السارق، أي قبل وصول الأمر إلى الحاكم. وإن اختار القطع، واستوفي منه لم يغرم السارق؛ لأن الشارع سكت عن الغرم، فلا يجب مع القطع شيء. قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، جزاء بما كسبا} [المائدة:38/5] فالله سبحانه جعل القطع كل الجزاء، فلو أوجبنا الضمان، لصار القطع بعض الجزاء، فيكون نسخاً لنص القرآن (2) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن عائشة، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أم سلمة (راجع جامع الأصول: 314/4، مجمع الزوائد: 259/6، نيل الأوطار: 131/7، 136) .
(2) البدائع: 84/7، فتح القدير: 261/4، المبسوط: 156/9، تبيين الحقائق: 231/3، مجمع الضمانات: ص 203.(7/362)
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قطع السارق فلا غرم عليه» (1) .
وقال المالكية: إن كان السارق موسراً عند القطع، وجب عليه القطع والغرم، تغليظاً عليه، وإن كان معسراً لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم تخفيفاً عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: يجتمع قطع وضمان، فيرد ما سرق لمالكه، وإن تلف فيرد بدله، فإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله: برد مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن كان قيمياً، سواء أكان موسراً أم معسراً، قطع أم لم يقطع، فلا يمنع القطع وجوب الضمان، لاختلاف سبب وجوب كل منهما، فالضمان يجب لحق الآدمي، والقطع يجب لحق الله تعالى، فلا يمنع أحدهما الآخر، كالدية والكفارة، والجزاء والقيمة في قتل الصيد الحرمي المملوك (3) .
ويلاحظ أن منشأ الخلاف بين الحنفية وغيرهم: هو قاعدة تملك المضمون عند الحنفية، وهي «أن المضمونات تملك بالضمان، ويستند الملك فيها إلى وقت وجوب الضمان» فلا يجتمع عندهم القطع والضمان؛ لأنه لو ضمن لملك المسروق، واستند ملكه إلى وقت الأخذ، فيحصل القطع في ملك نفسه، وهو لا يجوز.
وقال الشافعي وغيره: لا تملك المضمونات بالضمان، فيجتمع القطع والضمان لتعدد السبب، وعدم إسناد الضمان إلى وقت الأخذ (4) .
والراجح الواضح هو قول الشافعية والحنابلة، لاختلاف سبب كل من الضمان والقطع، ولضعف الحديث الذي استند إليه الحنفية.
حالة تكرار السرقة: اتفق العلماء على أن السارق تقطع يده اليمنى في السرقة الأولى، فإذا سرق ثانية تقطع رجله اليسرى. واختلفوا في قطع اليد اليسرى في السرقة الثالثة، والرجل اليمنى في السرقة الرابعة.
__________
(1) قال الزيلعي عن حديث «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» : غريب بهذا اللفظ ومثله اللفظ الوارد هنا، وبمعناه ما أخرجه النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد» قال النسائي: هذا مرسل وليس بثابت، وأخرجه البيهقي أيضاً، وذكر له علة أخرى، وأخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لا غرم على السارق بعد قطع يمينه» (راجع جامع الأصول: 327/4، نصب الراية: 375/3، سبل السلام: 24/4) .
(2) بداية المجتهد: 442/2، حاشية الدسوقي: 346 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص360.
(3) المهذب: 284/2، المغني: 270/8، غاية المنتهى: 344/3.
(4) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: ص 107.(7/363)
قال الحنفية والحنابلة: لا يقطع السارق أصلاً بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى، ولكنه يضمن المسروق، ويعزر، ويحبس حتى يتوب، بدليل ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أتي بسارق، فقطع يده، ثم أتي به ثانية وقد سرق، فقطع رجله، ثم أتي به ثالثة، فقال: «لا أقطعه، إن قطعت يده فبأي شيء يأكل، بأي شيء يتمسح، وإن قطعت رجله فبأي شيء يمشي، إني لأستحي من الله» فضربه بخشبة وحبسه (1) . وروي مثل ذلك عن سيدنا عمر رضي الله عنه (2) . وهذا استحسان.
وقال المالكية والشافعية: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، ثم يعزر (3) ؛ لأن فعله معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فعزر فيها، والدليل لقطع اليد والرجل الأخرى: ما روى أبو هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في السارق: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق
__________
(1) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن علي بن أبي طالب، ومن طريق محمد رواه الدارقطني بسنده ومتنه، ورواه عبد الرزاق في مصنفه، واللفظ الوارد هنا أخرجه البيهقي عن علي (راجع نصب الراية: 374/3) .
(2) البدائع: 86/7، فتح القدير: 248/4، المغني: 264/8، غاية المنتهى: 343/3.
(3) الشرح الكبير: 332/4، بداية المجتهد: 443/2، مغني المحتاج: 178/4، المهذب: 283/2، القوانين الفقهية: ص 360.(7/364)
فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» (1) وهو فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (2) .
وبما أنه لم يثبت حديث صحيح في هذا الأمر، فلا بأس في عصرنا بالأخذ برأي الحنفية والحنابلة.
والحكمة في قطع اليد والرجل: أن اعتماد السارق في السرقة على البطش والمشي، فإنه يأخذ بيده وينتقل برجله، فتعلق القطع بهما، وإنما قطع من خلاف، لئلا يفوت جنس المنفعة عليه فتضعف حركته (3) .
الفرق بين اعتبار اليد في السرقة وبين اعتبارها في الدية:
إن قطع اليد في ربع دينار، وجعل ديتها عند الاعتداء عليها بالبتر أو القطع خمسمئة دينار (أي نصف دية في الشرع) هو من أعظم المصالح والحكمة البالغة، فإن الشرع احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقرر قطعها في سرقة ربع دينار فصاعداً، حفظاً لأموال الناس، وإهانة لها حال كونها خسيسة، وجعل ديتها بالعدوان عليها خمسمئة دينار، حفظاً لها وصيانة، وتقديراً لأهميتها حال كونها شريفة (4) . وقد تساءل بعضهم، قيل: إنه أبو العلاء المعري (5) ، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وُدِيَت..... ما باله قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له..... ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم قوله:
يد بخمس مئين عسجد وديت..... لكنها قطعت في ربع دينار
عز الأمانة أغلاها، وأر خَصَها..... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
وروي أن الشافعي رحمه الله أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها..... وههنا ظلمت، هانت على الباري
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة، وفي إسناده الواقدي، وفيه مقال. ورواه الشافعي عن بعض أصحابه عن أبي هريرة مرفوعاً. وفي موضوعه عن عصمة بن مالك رواه الطبراني والدارقطني، وإسناد ضعيف (راجع نصب الراية: 368/3، التلخيص الحبير: ص 357) .
(2) أخرج أحمد والترمذي عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» .
(3) مغني المحتاج، المرجع السابق.
(4) أعلام الموقعين: 63/2.
(5) يظهر أن التساؤل من بعض الزنادقة، بدليل رد الشافعي الآتي، إذ من المعلوم أن المعري متأخر عن الشافعي، ويظهر أن الاعتراض تكرر من بعض الزنادقة، ومن المعري أيضاً في عصرين مختلفين بدليل رد شمس الدين الكردي على المعري في قوله:
قل للمعري عار أيما عار..... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
لا تقدحن زناد الفكر في حكم..... شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب..... فإن تعدت فلا تسوى بدينار(7/365)
مكان القطع: قال جمهور العلماء: مكان القطع في اليد هو من الكوع أو مفصل الزند (الرسغ) ، لما روي أنه عليه السلام قطع يد السارق من مفصل الزند (1) وقال قوم: الأصابع فقط.
ومكان القطع في الرجل عند الجمهور من مَفْصِل القدم، بدليل ما روى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قطع الرجل من المفصل. وروى البيهقي عن علي
__________
(1) فيه أحاديث: منها ما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سارق رداء صفوان بن أمية وفيه «ثم أمر بقطعه من المفصل» ومنها ما روى ابن عدي عن عبد الله بن عمرو قال: قطع النبي صلّى الله عليه وسلم سارقاً من المفصل. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن رجاء بن حيوة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قطع رجلاً من المفصل وهو مرسل (راجع نصب الراية: 37/3) . والكوع: طرف الزند الذي يلي الإبهام في اليد. ويقابله الكرسوع في القدم، والذي يقابل الخنصر: هو البوع.(7/366)