أعذار فسخ الإجارة:
تفسخ الإجارة بالأعذار عند الحنفية؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو ما يكون عارضاً يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. قال ابن عابدين: كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حق الفسخ (1) .
وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم كالبيع، فلا تفسخ كسائر العقود اللازمة من أي عاقد بلا موجب كوجود عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وعبارة الشافعية هي: لا تنفسخ الإجارة بعذر كتعذر وقود (بفتح الواو) حمام على مستأجر، وسفر عرض لمستأجر دار مثلاً، ومرض مستأجر دابة لسفر عليها، إذ لا خلل في المعقود عليه، والاستنابة من كل منهما ممكنة، وإنما تنفسخ الإجارة فقط عند فوات المعقود عليه وهو المنفعة كانهدام الدار وموت الدابة والأجير المعينين.
والفسخ بالنسبة للمستقبل لا في الزمن الماضي، أو عند وجود عيب في الشيء المؤجر مثل جموح الدابة أو نفورها، أو كونها عضوضاً، أو تعثر الظهر في المشي، أو العرج أو ضعف البصر أو الجذام أو البرص (2) .
والخلاصة: تنفسخ الإجارة بالاتفاق باستيفاء المنفعة المعقود عليها، وبالفسخ في حالتين هما: هلاك العين المؤجرة في إجارة العين، وعدم تسليم العين المؤجرة في المدة، واختلفوا في فسخ الإجارة بالأعذار، فتنفسخ عند الحنفية بالعذر ولا تنفسخ به عند الجمهور. واختلفوا في فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين، فتفسخ به عند الحنفية خلافاً للجمهور. ولا تنفسخ الإجارة بخروج العين المؤجرة من ملك المؤجر بالاتفاق، كإجارة دار ثم هبتها أو بيعها لغيره.
__________
(1) رد المحتار: 5 ص 55.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 355 ومابعدها، المهذب: 1 ص 405، بداية المجتهد: 2 ص 227، المغني: 5 ص 418، غاية المنتهى: 2 ص 209.(5/481)
وقد قسم الحنفية الأعذار الموجبة للفسخ إلى ثلاثة أنواع (1) :
1 - عذر من جانب المستأجر: مثل إفلاس المستأجر، أوانتقاله من الحرفة إلى الزراعة أو من الزراعة إلى التجارة، أو من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، لا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً. ومثله السفر أي انتقال المستأجر عن البلد؛ لأن في إبقاء العقد مع السفر ضرراً به.
ويترتب عليه أنه إذا لم يحصل النفع للمستأجر إلابضرر يلحقه في ملكه أو بدنه فله فسخ الإجارة، كما إذا استأجر شخص رجلاً لتنظيف ثياب وكيها، أو خياطتها، أو داراً له، أو ليقطع شجراً أو ليزرع أرضاً، أو ليحدث في ملكه شيئاً من بناء أو حفر أو ليحتجم أو يفتصد أو يقلع ضرساً له، ونحوه، ثم بدا له ألا يفعل، فله أن يفسخ الإجارة، ولا يجبر على شيء مما ذكر؛ لأنه تبين له ألا مصلحة له في العمل، فبقي الفعل ضرراً في نفسه.
2 - عذر من جانب المؤجر: مثل لحوق دين فادح به لا يجد طريقاً لقضائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، هذا إذا ثبت الدين قبل الإجارة بالبينة أو بالإقرار، أو ثبت عقد الإجارة بالبينة، وكذا بالإقرار عند أبي حنيفة؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يقر بالدين على نفسه كاذباً. وأما عند الصاحبين: فلا يقبل ثبوت الدين بالإقرار بعد الإجارة، لأنه متهم في هذا الإقرار.
ومثل أن يشتري المؤجر شيئاً ثم يؤجره، ثم يطلع على عيب به، فله أن يفسخ الإجارة ويرده بالعيب.
ولا يعد السفر أو النقلة عن البلد عذراً للمؤجر يبيح له فسخ الإجارة على عقار؛ لأن استيفاء منفعة العقار في غيبته لا ضرر عليه فيه.
__________
(1) انظر البدائع: 4 ص 197 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 4 ص 198 ومابعدها، 458، 459، 463، تكملة فتح القدير: 7 ص 222 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 130، المبسوط: 16 ص 2 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 145 ومابعدها، رد المحتار: 5 ص 54 ومابعدها.(5/482)
وأما مرض الحمال والجمال بحيث يضره الحمل فيعد عذراً في رأي أبي يوسف؛ لأن غير الحمال أو الجمال لا يقوم مقامهما على الدابة أو الإبل إلا بضرر، والضرر لا يستحق بالعقد.
وأما محمد: فقد ذكر في كتاب «الأصل» أن مرض الجمال لا يعتبر عذراً؛ لأن خروج الجمال بنفسه مع الإبل غير مستحق بالعقد، فإن له أن يبعث غيره معها.
3 - عذر في العين المؤجرة أو الشيء المأجور: مثال الأول: أن يستأجر رجل حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية فلا يجب عليه الأجر للمؤجر.
ومثلوا للثاني بعتق العبد المأجور كأن يؤجر رجل عبده سنة، فلما مضت ستة أشهر، أعتقه، فيكون العبد بالخيار بين الإبقاء على الإجارة وبين فسخها.
وقال الشافعية: الأصح أنه لا تنفسخ الإجارة؛ لأن العتق انصب على الرقبة، وأما المنافع فلم تكن للسيد وقت العتق، فكان العتق واقعاً على الرقبة مسلوبة المنفعة، والأصح أنه لاخيار للعبد في فسخ الإجارة بعد العتق؛ لأن سيده تصرف في خالص ملكه، فلا ينقض، والأظهر أنه لا يرجع على سيده بأجرة ما بعد العتق (1) ومثال آخر للثاني: استئجار عامل موظف لعمل، ثم منعه من العمل قانوناً.
خلاصة شروط الإجارة عند الشافعية: يشترط في أركان الإجارة الأربعة: وهي العاقدان والصيغة والمنفعة والأجرة ما يأتي من الشروط (2) :
1 ً - أهلية التعاقد في العاقدين: يشترط في العاقدين وهما المؤجر والمستأجر أن يكون كل منهما بالغاً عاقلاً غير محجور عليه، فلا تصح إجارة الصبي والمجنون والمحجور عليه، إذ لا ولاية لكل منهم على نفسه ولا على ماله.
2 ً - الصيغة: بأن تتم الإجارة بالإيجاب والقبول، أو بما يقوم مقامهما وهو التعاطي إن جرى العرف بذلك. قال في التوشيح: ولا أدري هل يختار النووي صحة المعاطاة فيها، كما اختاره في البيع أو لا، والأظهر: لا، فإنه لا عرف فيها، بخلاف البيع.
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 359.
(2) مغني المحتاج: 332/2-344.(5/483)
ويشترط في الصيغة توافق القبول مع الإيجاب، وألا يطول الفصل بينهما بسكوت أو كلام أجنبي عن العقد، وعدم تعليقها بشرط، مثل إن جاء فلان فقد آجرتك الدار بكذا.
3 ً - المنفعة: يشترط أن تكون متقومة أي ذات قيمة شرعاً أو عرفاً، فلا يصح استئجار آلات الملاهي، ولا استئجار كلب لصيد أو حراسة في الأصح، ولا استئجار رجل ليقول كلمة لا تتعب، وإن روجت السلعة، ولا استئجار دراهم ودنانير للتزيين بها.
ويشترط فيها أن يكون في مقدور المؤجر تسليمها، فلا تصح إجارة المغصوب لغير من في يده، ولا إجارة أرض للزراعة ليس فيها ماء دائم ولا يكفيها المطر المعتاد، ولا استئجار المرأة الحائض أو النفساء لخدمة المسجد.
وأن تحصل المنفعة للمستأجر لا للمؤجر، فلا تصح الإجارة على القُرَب التي تحتاج إلى نية ولا تدخلها النيابة كالصلاة والصوم؛ لأن منفعتها وهي الثواب تعود على المؤجر لا المستأجر.
وألا يكون في المنفعة استيفاء عين قصداً، فلا تصح إجارة البستان لأخذ ثمرته، ولا الشاة لأخذ صوفها أو لبنها.
وأن تكون المنفعة معلومة عيناً وقدراً وصفة ببيان محل المنفعة وعينها وصفتها، وتقديرها بالزمن كإجارة الدور للسكنى مدة سنة، أو بالعمل كالاستئجار لخياطة ثوب، وطلاء جدار وطبخ طعام، أو بأحد الأمرين: الزمن أو العمل كاستئجار رجل لخياطة، واستئجار سيارة للركوب، يصح التقدير بالزمن كيوم أو شهر، وبالعمل كالإيصال إلى مكان معين، كالمزرعة الفلانية أو دمشق أو مكة. ولا يصح تقدير المنفعة بالزمن والعمل معاً كاستئجار شخص لخياطة ثوب في يوم، لأن العمل قد لا يستغرق الوقت المعين، وقد يزيد عنه، فيكون في ذلك غرر، فيمنع صحة العقد، بسبب الغرر لاحتمال تقدم العمل أو تأخره.(5/484)
4 ً - الأجرة: يشترط فيها ما يشترط في الثمن في عقد البيع، بأن تكون طاهرة، فلا تصح الإجارة إذا كانت كلباً أو خنزيراً أو جلد ميتة، أو خمراً؛ لأنها نجسة العين. وأن تكون منتفعاً بها، فلا يصح كون الأجرة لا ينتفع بها، إما لخستها كالحشرات، وإما لإيذائها كالحيوانات المفترسة، وإما لحرمة استعمالها شرعاً كآلات اللهو والأصنام والتماثيل.
وأن تكون مقدوراً على تسليمها، فلا يصح كون الأجرة طيراً في الهواء، ولا سمكاً في الماء، ولا شيئاً مغصوباً إلا للغاصب أو القادر على انتزاعها منه.
وأن تكون معلومة للعاقدين: فلاتصح إجارة سيارة بوقودها، ولا دابة بعلفها، لجهالة الأجرة، ولا تصح إجارة العامل على حصاد الزرع بجزء من المحصول، ولا يصح إعطاء جباة الأموال للجمعيات والمساجد ونحوها جزءاً مما يجبونه من الأموال، ولا إعطاء سماسرة الدور جزءاً من قيمة ما يبيعونه كاثنين في المئة، لجهالة الأجرة، كما أن ما يأخذه هؤلاء الجباة بحجة كونهم من العاملين على الصدقات يعد كسباً خبيثاً غير مشروع؛ لأن المتبرع إنما يتصدق للفقراء والمساكين أوللمساجد ونحوها، لا إلى جيوب هؤلاء العاملين، فإذا أخذوا غير تكاليف السفر وحدها عدّ ذلك ظلماً وزوراً.
المبحث الثالث ـ صفة الإجارة وحكمها
صفة الإجارة: الإجارة عند الحنفية عقد لازم، إلا أنه يجوز فسخه بعذر كما عرفنا، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] والفسخ بحسب الأصل ليس من الإيفاء بالعقد (1) .
وقال جمهور العلماء: الإجارة عقد لازم لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] ولأن
__________
(1) البدائع: 4 ص 201، المبسوط: 16 ص 2.(5/485)
الإجارة عقد على منافع، فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معاوضة، فلم ينفسخ كالبيع (1) .
ويترتب على هذا الخلاف أن الحنفية يقولون: تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين: المستأجر أو المؤجر، لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة التي ملكها المستأجر بالعقد أو الأجرة التي ملكها المؤجر مستحقة لغير العاقد بالعقد وهو لا يجوز؛ لأن الانتقال من المورث إلى الوارث لا يتصور في المنفعة أو الأجرة المملوكة، إذ عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على المنافع. فلو قلنا بالانتقال كان قولاً بانتقال ما لم يملك المورث إلى الوارث؛ لأن ملكية العين انتقلت إلى الورثة، والمنافع تحدث على ملك الوارث، فلا يستحقها المستأجر، لأنه لم يعقد العقد مع الوارث (2) . وقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإيجار عقد لازم، وعقد معاوضة، فلا ينفسخ بموت العاقد كالبيع (3) .
الخيارات في عقد الإجارة: يثبت خيار العيب في العين المؤجرة في إجارة العين، كانقطاع ماء بئر الأرض الزراعية، وتعطل عجلات السيارة، ولا يثبت خيار العيب في إجارة الذمة، وعلى المؤجر إذا تعيبت العين المؤجرة إحضار بدلها. ولا يثبت خيار المجلس ولا خيار الشرط في عقد الإجارة؛ لأن الإجارة من عقود الغرر، والخيار أيضاً غرر، فلا يضم غرر إلى غرر.
__________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 227، مغني المحتاج: 2 ص 355، المغني لابن قدامة: 5 ص 409، 411، غاية المنتهى: 2 ص 209.
(2) تكملة فتح القدير وشرح العناية وحاشية سعدي جلبي: 7 ص 220، البدائع: 4 ص 222، تبيين الحقائق: 5 ص 144، مختصر الطحاوي: ص 128، رد المحتار: 5 ص 57.
(3) بداية المجتهد: 2ص 328، مغني المحتاج: 2 ص 356، المغني: 5 ص 428.(5/486)
حكم الإجارة:
حكم الإجارة الصحيحة: هو ثبوت الملك في المنفعة للمستأجر، وثبوت الملك في الأجرة المسماة للمؤجر، لأنها عقد معاوضة إذ هي بيع المنفعة (1) .
وحكم الإجارة الفاسدة أنه إذا استوفى المستأجر المنفعة يجب أجر المثل، بحيث لا يجاوز به الأجر المسمى، أي أن الواجب عند الحنفية هو الأقل من أجر المثل ومن المسمى إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد، لا باعتبار جهالة المسمى، ولا باعتبار عدم التسمية، فإنه في هاتين الحالتين يجب الأجر بالغاً ما بلغ (2) .
وقال زفر ومالك والشافعي: يجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل بالغاً ما بلغ، كما في البيع، فإن البيع إذا فسد وجبت القيمة بالغة ما بلغت (3) .
وسأتكلم عن كيفية ثبوت حكم الإجارة الصحيحة في المطلب التالي عند الكلام على نوعي الإجارة.
المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها:
الإجارة نوعان: إجارة على المنافع، أي أن المعقود عليه هو المنفعة، وإجارة على الأعمال، أي أن المعقود عليه هو العمل.
أحكام إجارة المنافع:
إجارة المنافع كإجارة الدور والمنازل والحوانيت والضياع، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال.
ويجوز العقد على المنافع المباحة، أما المنافع المحرمة كما عرفنا فلا تجوز الإجارة عليها، لأنها محرمة، فلا يجوز أخذ العوض عليها كالميتة والدم، وذلك باتفاق العلماء.
__________
(1) البدائع: 4 ص 201.
(2) البدائع: 4 ص 195، تكملة فتح القدير مع العناية: 7 ص 174 وما بعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 121، رد المحتار: 5 ص 31، درر الحكام: 2 ص 231. وسبب التفرقة بين البيع والإجارة في حالة الشرط الفاسد الممنوع: هو أن المبيع ذو قيمة في ذاته، فتجب قيمته حال فساد العقد أما المنافع فهي غير متقومة في ذاتها عند الحنفية، وإنما تصبح متقومة في ذاتها بالعقد فتجب القيمة في الإجارة الفاسدة بشرط عدم مجاوزة المتفق عليه بين العاقدين (البدائع: 4 ص 218) .
(3) تكملة فتح القدير، المصدر السابق، مغني المحتاج: 2 ص 358.(5/487)
وكيفية ثبوت حكم عقد الإجارة على المنافع عند الحنفية والمالكية: هو أنه يثبت شيئاً فشيئاً على حسب حدوث ووجود محل العقد وهو المنفعة؛ لأنها تحدث أو تستوفى شيئاً فشيئاً (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: يثبت حكم الإجارة في الحال، وتجعل مدة الإجارة موجودة تقديراً كأنها أعيان قائمة (2) .
ويترتب على هذا الخلاف:
1 - أن الأجرة تثبت الملكية فيها بمجرد العقد إذا أطلق عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، والمعاوضة إذا كانت مطلقة عن الشرط تقتضي الملك في العوضين عقب العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع.
وعند الحنفية والمالكية: لا تملك الأجرة بنفس العقد، وإنما تلزم جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، فلا يستحق المؤجر المطالبة بها إلا تدريجياً يوماً فيوماً؛ لأن المعاوضة المطلقة عن الشرط إذا لم يثبت الملك فيها في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر؛ لأن المساواة في العقود مطلوبة بين المتعاقدين.
متى تجب الأجرة وتملك عند الحنفية والمالكية؟ تجب الأجرة وتملك بأحد أمور ثلاثة:
أحدها: بأن يشترط تعجيلها في نفس العقد.
ثانيها: بتعجيلها من غير شرط؛ لأن تأخير التزام المستأجر بالأجرة ثبت حقاً له، فيملك إبطاله بالتعجيل، كما لو كان عليه دين مؤجل فعجله.
ثالثها: باستيفاء المعقود عليه وهو المنافع شيئاً فشيئاً، أو بالتمكين من الاستيفاء بتسليم العين المؤجرة إلى المستأجر، وتسليم المفتاح أيضاً؛ لأن المستأجر يملك حينئذ المعوض، فيملك المؤجر العوض في مقابلته تحقيقاً للمعاوضة المطلقة وتسوية بين العاقدين في حكم العقد.
__________
(1) البدائع: 4 ص 201، بداية المجتهد: 2 ص 226، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 4 ص 4، القوانين الفقهية: ص 275.
(2) المغني لابن قدامة: 5 ص 406، مغني المحتاج: 2 ص 334، المهذب: 1 ص 399، الميزان للشعراني: 2 ص 94، غاية المنتهى: 2 ص 116.(5/488)
وإذا تم الاتفاق بين العاقدين على أن الأجرة لا تجب إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فهو جائز، إذ أنه يكون تأجيلاً للأجرة بمنزلة تأجيل الثمن.
وأما إذا لم يشترط في العقد شيء فلأبي حنيفة قولان: متقدم ومتأخر، فأما قوله المتقدم أولاً وهو قول زفر: فهو أن الأجرة لا تجب إلا في آخر مدة الإجارة؛ لأن منافع المدة أو المسافة من حيث إنها معقود عليها شيء واحد، فما لو يستوفها كلها لا يجب شيء من بدلها. وأما قول أبي حنيفة المتأخر وهو المشهور الذي استقر عليه، وقول الصاحبين: فهو أن الأجرة تجب حالاً فحالاً، كلما مضى يوم يسلم المستأجر أجرته؛ لأن الأجرة تملك على حسب ملك المنافع، وملك المنافع يحدث شيئاً فشيئاً على ممر الزمان، فتملك الأجرة شيئاً فشيئاً بحسب ما يقابلها (1) .
وبما أن هذه القاعدة توجب تسليم الأجرة ساعة فساعة، وهو أمر متعذر، فتقدر الأجرة باليوم أو بالمرحلة استحساناً.
وأما بالنسبة لتأجيل الأجرة وتعجيلها عند الشافعية والحنابلة: فقد قرروا أنه إذا كانت الإجارة إجارة ذمة فيشترط فيها تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأنها بمثابة رأس المال في عقد السلم كأن يقول المستأجر: أسلمت إليك عشر ليرات في جمل صفته كذا يحمل لي متاعي إلى جهة كذا، أو يقول: استأجرت منك بكذا.. إلخ، لأن تأخير الأجرة حينئذ من باب بيع الدين بالدين.
وإن كانت الإجارة إجارة عين: فإن كانت الأجرة فيها معينة مثل: استأجرتك لتخدمني سنة بهذا الجمل، فإنه لا يصح تأجيلها، وإن كانت الأجرة في الذمة كأن يقول: بجمل صفته كذا، فيجوز تأجيلها وتعجيلها وفي حالة الإطلاق يجب تعجيلها، كما في عقد البيع يصح بثمن حالّ أو مؤجل (2) .
__________
(1) راجع البدائع: 4 ص 201 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 7 ص 152 وما بعدها، المبسوط: 15ص 108، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص 109، القوانين الفقهية: ص 275، بداية المجتهد: 226/2.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 334، المهذب: 1 ص 399، المغني: 5 ص 408.(5/489)
2 - ويترتب أيضاً على الخلاف السابق في كيفية وجوب الأجرة أنه يجب على المؤجر عند الحنفية والمالكية تسليم العين المستأجرة عقب العقد لتملك المستأجر منفعة العين المستأجرة، وليس له أن يحبسها عن المستأجر لاستيفاء الأجرة؛ لأن الأجرة لا تجب بمجرد العقد عندهم، فلا يستحق المطالبة بها إلا يوماً فيوماً؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع لم يستوفها المستأجر، فكانت معدومة، فلا يجب عليه الأجر، وذلك بعكس البيع، فإن الثمن واجب الدفع عقيب العقد.
3 - ويترتب على الخلاف أيضاً أن الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل تجوز عند الحنفية والمالكية والحنابلة:
كأن يقول شخص لآخر: أجرتك هذه الدار رأس شهركذا، أو أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة شهر رمضان، وكان العقد في رجب مثلاً؛ لأن عقد الإيجار ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المعقود عليه شيئاً فشيئاً، فكان العقد مضافاً إلى حين وجود المنفعة من طريق الدلالة الضمنية، وقد أجيزت الإضافة في الإجارة دون البيع للضرورة (1) . وترتب على مذهب الحنفية أن المؤجر لو باع الدار المؤجرة لا يصح في حق المستأجر، وإن لم يجئ الوقت الذي أضيف إليه عقد الإجارة.
واستدل الحنابلة على صحة هذا الحكم عندهم: بأن هذه المدة في المستقبل يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز العقد عليها مفردة، واشتراط القدرة على التسليم إنما يكون عند وجوب التسليم كالمسلم فيه.(5/490)
وقال الشافعية: لا تصح إجارة عين لمنفعة مستقبلة كإجارة الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من الغد، ما لم تكن المدة متصلة بالعقد؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، وطريق جوازها عندهم: أن تجعل منافع المدة موجودة تقديراً عقيب العقد، إذ لا بد من أن يكون محل حكم العقد موجوداً فجعلت المنافع كأنها أعيان قائمة بنفسها، وإضافة العقد إلى عين ستوجد لا تصح، كما في بيع الأعيان.
أما إجارة الذمة: فيصح تأجيل المنفعة فيها إلى أجل معلوم في المستقبل مثل: ألزمت ذمتك الحمل إلى مكة أول شهر كذا (2) .
وهناك أحكام أخرى لإجارة المنافع أبينها فيما يأتي:
كيفية الانتفاع بالعين المؤجرة: إذا استأجر شخص داراً أو حانوتاً ونحوهما من المنازل فله الانتفاع بها كيف شاء من السكنى بنفسه أو إسكان غيره بالإجارة أم بالإعارة، وله أن يضع فيه متاعه وغيره، غير أنه لا يسكن فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً ولا ما يضر البناء ويوهنه من آلات المعامل الحديثة. والدليل عليه أن الإجارة للانتفاع، والدور ونحوها معدة للانتفاع بها بالسكنى، والناس في العادة لا يتفاوتون في السكنى، فكانت أوجه الانتفاع معلومة من غير تسمية أو تعيين. وإنما لم يصح إسكان الحداد ونحوه؛ لأن مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف بين الناس، وذوو الحرف يؤثِّرون على البناء بآلاتهم، مما قد يؤدي إلى إتلاف العين المؤجرة، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين.
وبما أن المستأجر ملك المنفعة فله أن ينتفع بها بنفسه أو بغيره بواسطة الإجارة أو الإعارة.
__________
(1) البدائع: 4 ص 203، تبيين الحقائق: 5 ص 148، حاشية ابن عابدين: 5 ص 4، بداية المجتهد: 2 ص 224، المغني: 5 ص 400، القوانين الفقهية: ص 276.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 338، المهذب: 1 ص 396.(5/491)
وأما في إجارة الأرض: فلا بد فيها من بيان ما تستأجر له من الزراعة والغرس والبناء وغيرها وإلا كانت الإجارة فاسدة، وكذلك إذا كانت الإجارة للزراعة فلا بد من بيان ما يزرع فيها، أو يجعل له أن يزرع فيها ما شاء، وإلا فسدت الإجارة؛ لأن منافع الأرض تختلف باختلاف البناء والزراعة والمزروعات، والزروع مختلفة التأثير في الأرض.
وفي إجارة الدواب: لا بد من بيان أحد الشيئين: المدة أو المكان فإن لم يبين أحدهما فسدت الإجارة، وكذلك لا بد من بيان ما تستأجر له الدابة من الحمل أو الركوب، لأنهما منفعتان مختلفتان. ولا بد أيضاً من بيان ما يحمل عليها ومن يركبها؛ لأن الحمل يتفاوت بتفاوت المحمول، والناس يتفاوتون في الركوب، فترك البيان يفضي إلى المنازعة وتكون الإجارة فاسدة، وحينئذ إذا استوفى المستأجر المنفعة بعقد فاسد، فيجب عليه أجر المثل بمقتضى القياس؛ لأنه استوفى المنفعة بحكم عقد فاسد، كما عرفنا في بيان حكم الإجارة، إلا أنه بمقتضى الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن المفسد وهو الجهالة التي تفضي إلى المنازعة قد زال، وبانعدام العلة المفسدة ينعدم الفساد (1) .
إصلاح العين المستأجرة: قد تحتاج الدار المؤجرة مثلاً في مدة الإيجار إلى بعض الإصلاحات كتطيين الجدران، وانسداد مجاري المياه، وتعطل الأدوات الصحية، فمن الملتزم بالإصلاح والترميم؟
قرر الحنفية أن المؤجر صاحب الدار هو الملزم وحده دون المستأجر بتطيين الجدران وإصلاح ميازيب الدار وما ينهدم ويسقط من بنائها، حتى تكون صالحة للانتفاع؛ لأن الدار ملك للمؤجر، وإصلاح الملك يكون على المالك، لكن لا يجبر على الإصلاح؛ لأن المالك لا يجبر على إصلاح ملكه، وإنما يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن هذا الخلل يعتبر عيباً في المعقود عليه.
وكذلك على المؤجر إصلاح دلو الماء والبئر والبالوعة والمخرج، وإن امتلأ بفعل المستأجر، لكن لا يجبر عليه لما عرفنا.
__________
(1) راجع لكل ما ذكر تكملة فتح القدير: 7ص166 ومابعدها، البدائع: 4ص183، 207، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص113 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص19، 55.(5/492)
وأما المستأجر: فيلزم برفع التراب الذي يحدث من كنسه إذا انقضت مدة الإجارة؛ لأن التراب حدث بفعله، فصار كتراب وضعه في الدار.
والقياس يقضي بأن المستأجر هو المطالب بنقل ما يمتلئ به المخرج والبالوعة، لأن الملء حدث بفعله، فيلزمه نقله كالكناسة والرماد، إلا أن الحنفية استحسنوا وجعلوا نقله على صاحب الدار أخذاً بمقتضى العرف والعادة، إذ العادة بين الناس أن ما كان مغيباً في الأرض فنقله على صاحب الدار.
فإن أصلح المستأجر شيئاً مما ذكر متبرعاً به، ولا يحتسب له؛ لأنه أصلح ملك غيره بغير طلب منه ولا ولاية عليه، فإن فعل ذلك بطلب من المؤجر أو نائبه احتسب له (1) .
التزامات المستأجر بعد انتهاء الإجارة:
إذا انتهت مدة الإيجار فعلى المستأجر بعض الالتزامات، وأهمها ما يأتي (2) :
أولاً - يلتزم المستأجر بتسليم مفتاح الدار والحانوت إلى المؤجر بعد انتهاء المدة.
ثانياً ـ إذا استأجر شخص دابة من موضع معين في البلد ليركبها، أو يحمل عليها شيئاً إلى مكان معلوم غادياً ورائحاً، فإن على المستأجر أن يأتي بها إلى الموضع الذي قبضها منه؛ لا لأن الزاد واجب عليه بل لأجل المسافة التي تناولها العقد؛ لأن عقد الإجارة لا ينتهي إلا برد الدابة إلى موضعها، فإن ذهب بالدابة إلى منزله، فأمسكها حتى عطبت، ضمن قيمتها، لأنه تعدى في أخذها إلى غير موضع العقد.
فإن قال المستأجر: (أركبها من هذا الموضع إلى موضع كذا وأرجع إلى منزلي) فليس على المستأجر ردها إلى منزل المؤجر؛ لأنه لما عاد إلى منزله، فقد انقضت مدة الإجارة، فبقيت الدابة أمانة في يده، فلا يلزم بردها كالوديعة.
__________
(1) البدائع: 4 ص 208 ومابعدها.
(2) انظر البدائع: 4 ص 209.(5/493)
أما إذا استأجر الدابة ليركبها في حوائجه في بلد ما وقتاً معلوماً، فمضى الوقت، فليس على المستأجر تسليمها إلى صاحبها: بأن يذهب بها إلى منزله، وإنما على المؤجر أن يتسلمها من منزل المستأجر؛ لأن المنفعة التي حصل عليها المستأجر كانت مقابلة بعوض وهو الأجر المستحق للمؤجر فلم يكن على المستأجر الرد، فبقيت في يده أمانة كالوديعة، حتى إنه لو أمسكها أياماً فهلكت في يده، لم يضمن شيئاً. وهذا بخلاف المستعير والغاصب، فإنهما ملزمان برد الشيء على صاحبه؛ لأن المستعير ينتفع بالعارية بدون مقابل، والغاصب لا حق له في المغصوب.
أحكام الإجارة على الأعمال:
الإجارة على الأعمال: هي التي تعقد على عمل معلوم كبناء وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء ونحوه.
والأجير نوعان: أجير خاص وأجير مشترك.
فالأجير الخاص أو أجير الوَحَد: هو الذي يعمل لشخص واحد مدة معلومة. وحكمه: أنه لا يجوز له العمل لغير مستأجره.
والأجير المشترك: هو الذي يعمل لعامة الناس كالصباغ والحداد والكواء ونحوهم. وحكمه: أنه يجوز له العمل لكافة الناس، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره (1) .
ويلاحظ أن الظئر التي تستأجر للإرضاع هي بمنزلة الأجير الخاص، لا يجوز لها أن ترضع صبياً آخر، فإن أرضعته مع الصبي الأول فقد أساءت وأثمت إن كانت أضرت بالصبي، ولها أجر على إرضاع الصبيين استحساناً؛ لأن المعقود عليه مطلق الإرضاع، وقد وجد. والقياس ألا يكون لها الأجر؛ لأن العقد وقع على عملها، فلا تستحق الأجر بعمل غيرها.
__________
(1) البدائع: 4 ص 174، تكملة فتح القدير: 7 ص 200، تبيين الحقائق: 5 ص 133 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 336.(5/494)
وعلى الظئر القيام بالرضاع، وبأمر الصبي مما يحتاج إليه من غسله وغسل ثيابه وطبخ طعامه، وعلى الأب نفقات الطعام، وما يحتاج إليه الصبي من الريحان والدهن ونحوهما. وأما ما ذكر في كتاب الأصل من أن على الظئر ما يعالج به الصبي من الريحان والدهن، فهو محمول على عادة أهل تلك البلاد في الماضي (1) .
نوعا الإجارة عند الشافعية: الإجارة نوعان عند الشافعية: إجارة عين وإجارة ذمة.
أما إجارة العين: فهي الواردة على منفعة متعلقة بعين معينة، كهذه الدار، وهذه السيارة. ويشترط فيها ثلاثة شروط: أن تكون الأجرة معينة أو معلومة فلا تصح إجارة إحدى هاتين الدارين، وأن تكون العين المؤجرة مشاهدة من العاقدين، فلا تصح إجارة دار أو سيارة لم يرها العاقدان إلا إذا شاهداها قبل العقد بمدة لا تتغير فيها غالباً، وأن لا تضاف الإجارة للمستقبل، كإجارة داره الشهر المقبل أو العام القادم.
وأما إجارة الذمة: فهي الواردة على منفعة متعلقة بذمة المؤجر، كاستئجار دابة أو سيارة ذات أوصاف معينة لإيصاله إلى مكان معين، أو مدة معينة، أو القيام بعمل معين كبناء أو خياطة ونحو ذلك. ويشترط فيها شرطان:
أن تكون الأجرة حالّة أي نقداً في مجلس العقد؛ لأن هذه الإجارة سَلَم في المنافع، فيشترط تسليم رأس مال السلم.
وأن تعين العين المستأجرة جنساً ونوعاً وصفة، كسيارة أو باخرة كبيرة أو صغيرة، حديثة أو قديمة.
__________
(1) البدائع: 4 ص 209، تبيين الحقائق: 5 ص 129.(5/495)
المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين:
الكلام هنا عن ضمان الأجير العين التي استؤجر عليها، وعن ضمان العين التي يستأجرها أحد الناس للانتفاع بها.
ضمان العين المستأجرة: تعتبر يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة المنافع يد أمانة، فلا يضمن ما يتلف بيده إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، ويتقيد في الانتفاع بمقتضى العقد وما شُرط فيه وما جرى به العرف.
ضمان الأجير: عرفنا أن الأجير نوعان: خاص وعام، فالأجير الخاص (وهو الذي يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، وإن لم يعمل) كالخادم في المنزل والأجير في المحل، اتفق أئمة المذاهب وهم (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) على أنه لا يكون ضامناً العين التي تسلم إليه للعمل فيها؛ لأن يده يد أمانة كالوكيل والمضارب، كما إذا استأجر إنسان خياطاً أو حداداً مدة يوم أو شهر ليعمل له وحده، فلا يضمن العين التي تهلك في يده، ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في حفظه، سواء تلف الشيء في يده أو أثناء عمله.
وأما الأجير المشترك وهو الذي يعمل لعامة الناس أو هو الذي يستحق الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس كالصانع والصباغ والقصار ونحوهم فقد اختلفوا فيه: فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد والحنابلة في الصحيح من مذهبهم، والشافعي في الصحيح من قوليه إلا أنه لم يكن يفتي به لفساد الناس: إن يده يد أمانة كالأجير الخاص، فلا يضمن ما تلف عنده إلا بالتعدي أو التقصير؛ لأن الأصل ألا يجب الضمان إلا بالاعتداء لقوله تعالى: {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة:193/2] ولم يوجد التعدي من هذا الأجير، لأنه مأذون في القبض، والهلاك ليس هو سبباً فيه (1) .
وقال الصاحبان وأحمد في رواية أخرى: يد الأجير المشترك يد ضمان، فهو ضامن لما يهلك في يده، ولو بغير تعد أو تقصير منه، إلا إذا حصل الهلاك بحريق غالب عام، أو غرق غالب ونحوهما، واستدلوا بفعل عمر وعليّ الآتي بيانه (2) .
قال البغدادي عن بعض كتب الحنفية: وبقول الصاحبين يفتى اليوم لتغير أحوال الناس، وبه يحصل صيانة أموالهم (3) .
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص129، الفتاوى الهندية: 4ص486، تبيين الحقائق: 5 ص 110، 134، البدائع: 4 ص 211، تكملة فتح القير: 7 ص 207، المبسوط للسرخسي: 15ص103، مجمع الضمانات: ص 27، الشرح الكبير: 4ص28، بداية المجتهد: 2ص230، مغني المحتاج: 2ص351، المهذب: 1ص408، المغني: 5ص479 ومابعدها 487، القوانين الفقهية: ص276، 336، رسائل ابن عابدين: 2ص178.
(2) البدائع: 4 ص 210، تكملة فتح القدير: 7 ص 201، مختصر الطحاوي: والمبسوط: المرجعان السابقان، مغني المحتاج: 2 ص 351، المهذب، المرجع السابق، المغني: 5 ص 487، القوانين الفقهية: المكان السابق، غاية المنتهى: 2 ص 213 وما بعدها.
(3) مجمع الضمانات: ص 27.(5/496)
وقال المالكية: يضمن الأجير المشترك الذي يؤثره الأعيان بصنع، ما تلف بيده ولو بغير تعد أو تقصير إذا كان الشيء مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) فالقصار ضامن لما يتخرق بيده، والطباخ ضامن لما أفسد من طبيخه، والخباز ضامن لما أفسد من خبزه، والحمال يضمن ما يسقط من حمله عن رأسه، أو تلف أثناء عثرته، والجمال يضمن ما تلف بقيادته وسوقه وانقطاع حبله الذي يشد به بعيره، والملاح يضمن ما تلف من يده أو مما يعالج به السفينة (1) . ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (2) وماروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الصباغ والصواغ ويقول: «لا يصلح الناس إلا هذا» وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضمِّن الأجير المشترك احتياطاً لأموال الناس (3) ، ولأن الأجير المشترك قبض العين لمنفعته من غير استحقاق، فيضمن كالمستعير (4) .
وكذلك عند الإمام مالك يضمن الأجير الطعام الذي يحمله إذا كانت تتوق النفس إلى تناوله سداً للذرائع.
__________
(1) وفصل ابن جزي المالكي فقال: يضمن الصناع ما غابوا عليه أي أخفوه، سواء عمل بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، وهذا هو المعتمد لدى المالكية (الشرح الصغير: 47/4) .
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الحاكم عن سمرة بن جندب، ورواه أيضاً الطبراني والحاكم وابن أبي شيبة (انظر جامع الأصول: 9 ص 110، نصب الراية: 4 ص 167، التلخيص الحبير: ص 253، المقاصد الحسنة: ص 290، نيل الأوطار: 5 ص 298، سبل السلام: 3 ص 67) .
(3) حديث عمر أخرجه عبد الرزاق بسند منقطع عنه أن عمر ضمن الصناع. وأما حديث علي فرواه البيهقي من طريق الشافعي عن علي بسند ضعيف، قال الشافعي: هذا لا يثبت أهل الحديث مثله، ولفظه: أن علياً ضمن الغسال والصباغ، قال الشافعي: «لا يصلح الناس إلا ذلك» وروي عن عثمان من وجه أضعف من هذا، وروى البيهقي من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يضمن الصباغ والصائغ، وقال: «لا يصلح الناس إلا ذاك» (انظر التلخيص الحبير: ص 256، سنن البيهقي: 122/6، كنز العمال: 191/2 وما بعدها) .
(4) بداية المجتهد: 2 ص 229، 230، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي: 4 ص 27 ومابعدها، المغني: 5 ص 479 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 336، الفروق للقرافي: 2 ص 207، 4 ص 11، 27.(5/497)
ما يغيِّر الشيء من صفة الأمانة إلى صفة الضمان: إذا كان الشيء المأجور، كثوب الصباغة والخياطة والمتاع المحمول في السفينة أو على الدابة، يعتبر أمانة في يد الأجير، فذلك بحسب الأصل العام عند أبي حنيفة ومن وافقه، وبناء عليه، قد تتغير صفة الأمانة إلى الضمان في الأحوال الآتية (1) :
أولاً ـ ترك الحفظ: أي أن الأجير يهمل في حفظ المتاع، فيلتزم بضمانه؛ لأن الأجير لما قبض المأجور فقد التزم حفظه، وترك الحفظ موجب للضمان، كالوديع إذا ترك حفظ الوديعة حتى ضاعت.
ثانياً ـ الإتلاف والإفساد: إذا تعدى الأجير بأن تعمد الإتلاف أو بالغ في دق الثوب مثلاً، ضمن سواء أكان الأجير مشتركاً أم خاصاً.
__________
(1) راجع البدائع: 4 ص 211، تكملة فتح القدير: 7 ص 201 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 130، تبيين الحقائق: 5 ص 135، رد المحتار: 5 ص 46، المبسوط: 15 ص 104، 161، ج 16 ص 9 ومابعدها، جامع الفصولين: 2 ص 172 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 28 ومابعدها.(5/498)
وإن لم يكن الأجير متعدياً في الإفساد بأن أفسد الثوب خطأ بعمله من غير قصده: فإن كان الأجير خاصاً لم يضمن اتفاقاً، وإن كان مشتركاً كالقصار إذا دق الثوب فتخرق، أو ألقاه في المواد الكيماوية فاحترق، أو كالملاح إذا غرقت السفينة من عمله، أو الحمال إذا سقط على الأرض وفسد الحمل، أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب، فضرب بعضها بعضاً في حال سوقه حتى هلك بعضها، ففي كل هذه الحالات يكون الهالك مضموناً عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن العمل المأذون فيه هو العمل المصلح لا المفسد؛ لأن العاقل لا يرضى بإفساد ماله ولا يلتزم الأجرة بمقابلة الفاسد، فيتقيد الأمر بما يصلح دلالة.
وقال الشافعية وزفر: لا يضمن الأجير في تلك الحالات ما لم يحصل منه تعدٍ أو تقصير في عمله؛ لأن عمله مأذون فيه في الجملة، وإذا لم يكن مأذوناً فيه فلا يمكنه التحرز عن هذا الفساد؛ لأنه ليس في وسعه القيام بأصل مهمته إلا بحرج، والحرج منفي (1) .
تلميذ الأجير المشترك: إذا تلف الشيء المأجور في الحالات السابقة بيد تلميذ (صانع) الأجير، فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على معلمه، لأنه هو المسؤول أصالة، فكأنه فعل بنفسه.
وإذا وطئ التلميذ ثوباً في مهنة القصارة «أي المصبغة في عرفنا» فخرقه، يضمن لأن وطء الثوب غير مأذون فيه.
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 351، المبسوط، البدائع، تكملة فتح القدير: المراجع السابقة، مجمع الضمانات: ص 41-49.(5/499)
ولو وقع من يد التلميذ سراج فأحرق ثوباً من القصارة، فالضمان على المعلم، لا على التلميذ؛ لأن الذهاب والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه فيكون المعلم هو المسؤول، كأنه فعل الفعل بنفسه.
وكذلك لو وقعت مدقة القصار من يد التلميذ على ثوب فخرقته، فالضمان على المعلم، لأن هذا من عمل القصار فيضاف الفعل إليه.
فإن كان الثوب الذي وقعت المدقة عليه وديعة فخرقته، فالضمان على الغلام، لأن المعلم يسأل عن عمل التلميذ فيما يملك تسليطه عليه واستعماله فيه، وهو مايتعلق بشؤون الصنعة فقط (1) .
البزاغ والفصاد والختان (2) : يلاحظ أن حكم هؤلاء بخلاف حكم الحالات
__________
(1) مجمع الضمانات للبغدادي: ص 43-45.
(2) البزاغ: هو البيطار، يقال: بزغ الحاجم: شق وشرط، وبزغ دمه: أساله. والفصاد: الذي يشق العرق ويسحب الدم، يقال: فصد المريض: شق عرقه، وافتصد العرق: شقه، والختان: هو الذي يختن الأولاد أي (المطهر) .(5/500)
السابقة، فإذا كانوا يقومون بعمله، ثم سرى أثر العمل إلى تلف النفس والموت فلا ضمان عليه، لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك (1) .
ثالثاً ـ مخالفة المستأجر شرط المؤجر نصاً أو دلالة: المخالفة سبب لوجوب الضمان. وللمخالفة صور وهي إما في الجنس أو في القدر أو في الصفة، أو في المكان أو في الزمان، وتحصل المخالفة إما في استئجار الدواب وإما في استئجار الصناع.
أما استئجار الدواب: فإما أن يكون ضرر الدابة من جهة الخفة والثقل أو بسبب اختلاف الجنس (2) .
آـ فإن كان ضرر الدابة من حيث قدر الخفة والثقل: فإن كان الشيء المحمول مثل المتفق عليه من المؤجر أو أخف فلا شيء على المستأجر بهلاك الدابة، لأن التعيين بشيء محمول لا فائدة فيه، وليس هناك مخالفة في المعنى في تحميل مثل الشيء أو دونه.
وإن كان الشيء المحمول أثقل من المتفق عليه: فإن كان بخلاف جنسه، بأن حمّل مكان الشعير الحنطة، فعطبت الدابة، فهوضامن قيمتها، ولا أجر عليه، لأنها هلكت بفعل غير مسموح به من المؤجر؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان؛ إذ وجوب الضمان لصيرورته غاصباً، ولا أجرة على الغاصب (3) .
وإن كان الشيء المحمول الذي هو أثقل: من جنس المتفق عليه بأن حمل أحد عشر رطلاً مثلاً مكان عشرة أرطال، فإذا سلمت الدابة، فعليه ما سمي من الأجرة، ولا ضمان عليه. وإن عطبت ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة وعليه الأجر الذي سمي؛ لأن الدابة ماتت بفعل مأذون فيه وغير مأذون فيه، فيقسم التلف على قدر ذلك أي أحد عشر جزءاً، ويضمن بقدر الزيادة.
ب ـ وإن كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل، وإنما بسبب اختلاف الجنس: كأن يستأجر إنسان دابة ليحمل عليها قنطاراً من قطن فحمل عليها قنطاراً من حديد أو أقل، فتلفت الدابة، فيضمن قيمتها لأن ثقل القطن ينبسط على ظهر الدابة، وأما ثقل الحديد فيجتمع في موضع واحد، فيكون أنكى لظهر الدابة وأعقر لها، فلم يكن مأذوناً فيه فصار غاصباً، فيضمن، ولا أجرة لما عرفنا قريباً.
ويترتب عليه أنه لو استأجر إنسان دابة ليركبها بنفسه، فأركبها غيره ممن هو مثله في الثقل أو أخف منه ضمن قيمتها بالتلف؛ لأن المخالفة ههنا، لا من جهة الخفة والثقل، بل من حيث الحذق والعلم، فالناس يختلفون فيه اختلافاً واضحاً.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 7ص206، المبسوط: 15ص104، تبيين الحقائق: 5ص137، رد المحتار: 5ص47، مجمع الضمانات: ص47.
(2) انظر البدائع: 4ص213 ومابعدها، المبسوط: 15ص170 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5ص118 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 7ص170 ومابعدها، ورد المحتار: 5ص25 ومابعدها.
(3) المبسوط: 15 ص 147.(5/501)
ولو استأجر دابة ليركبها بنفسه فأركب معه غيره فعطبت فهو ضامن لنصف قيمتها إذا كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان؛ لأن التلف حصل بركوبهما المشتمل على مأذون فيه وغير مأذون فيه، فإن كانت الدابة لا تطيق أن يركبها اثنان، فيضمن جميع قيمتها، لأنه أتلفها بإركاب غيره.
وإذا استأجر دابة بإكاف (أي برذعة) فنزعه منها، وأسرجها، فلا ضمان عليه، لأن ضرر السرج أقل من ضرر الإكاف، لأنه يأخذ من ظهر الدابة أقل مما يأخذ الإكاف.
وإن استأجر حماراً بسرج فأسرجه سرجاً آخر: فإن كان مثل السرج الأصلي الأول لا يضمن، إذ لا تفاوت بين السرجين في الضرر، وإن أسرجه بسرج الفرس يضمن؛ لأن ضرره أكثر بسبب كبره، فكان إتلافاً للدابة. ولو استأجر حماراً بسرج، فنزع منه السرج وأوكفه فعطب، ففي كتاب الأصل لمحمد: يضمن قدر ما زاد الإكاف على السرج. وفي كتاب الجامع الصغير ذكر محمد اختلافاً بين أئمة الحنفية فيه، ففي قول أبي حنيفة: يضمن كل القيمة؛ لأن الإكاف لا يخالف السرج في الثقل، وإنما يخالفه من وجه آخر: وهو أنه يأخذ من ظهر الدابة أكثر مما يأخذ السرج، والمخالفة إذا لم تكن بسبب الثقل توجب الضمان لجميع الشيء التالف.
وفي قول الصاحبين: يضمن بمقدار الزيادة؛ لأن الإكاف والسرج كل واحد منهما يركب به عادة، وإنما يختلفان بالثقل والخفة؛ لأن الإكاف أثقل، فيضمن بقدر الثقل.
ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه، ثم ركب فعطب، كان ضامناً؛ لأن السرج أثقل على الدابة، وقيل: هذا إذا استأجره ليركبه في داخل مصر، وهو ممن يركب في المصر عادة بغير سرج، أما إذا استأجره ليركبه خارج المصر، أو هو من ذوي الهيئات لا يضمن؛ لأن الحمار لا يركب من بلد إلى بلد بغير سرج ولا إكاف، وذو الهيئة لا يركب عادة بغير سرج، فكان الإسراج مأذوناً فيه دلالة، فلا يضمن.(5/502)
ج ـ وإن كانت المخالفة في المكان: كأن يستأجر دابة للركوب أو للحمل إلى مكان معلوم، فجاوز المكان، فيضمن كل القيمة (1) .
د ـ وأما المخالفة في الزمان: كأن يستأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها مدة معلومة، فانتفع بها زيادة على المدة، فعطبت في يده، فيضمن القيمة أيضاً، لأنه صار غاصباً بالانتفاع بها فيما وراء المدة المحدودة.
وأما استئجار الصناع: كالحائك والخائط والصباغ ونحوهم (2) :
ففي حالة المخالفة في الجنس كأن يسلّم إنسان ثوباً إلى صباغ ليصبغه لوناً معيناً فصبغه لوناً آخر: يكون صاحب الثوب بالخيار: إن شاء ضمن الصباغ قيمة الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الصباغ ما زاد الصبغ فيه. ومثله أن يسلم شخص خياطاً قماشاً ليخيطه قميصاً، فخاطه معطفاً مثلاً، فيكون صاحب القماش بالخيار بين أن يضمن الخياط قيمة القماش، أو أن يأخذ المخيط ويعطي أجر المثل.
هـ ـ وأما المخالفة في الصفة: كأن يسلم صباغاً ليصبغه بصبغ معين، فصبغه بصبغ آخر من جنس اللون المتفق عليه، فيكون صاحب الثوب أيضاً مخيراً بين تضمين قيمة الثوب أو أخذه وإعطاء أجر المثل.
وكذلك الخلاف في القدر مثل أن يسلم شخص غزلاً إلى حائك ينسجه بغلظ معين: ثخين أو رفيع، فخالف بالزيادة أو بالنقصان، يكون صاحب الثوب حال الزيادة مخيراً بين تضمين مثل الغزل، أو أن يأخذ الغزل ويعطي الأجر المسمى. وفي حال النقصان يوجد روايتان: رواية في كتاب الأصل: مفادها أن لصاحب الثوب أن يأخذه، ويعطي الحائك من الأجر بحسابه. ورواية أخرى: مفادها أن على صاحب الثوب أجر المثل. وأدلة كل ما سبق ذكره يمكن ملاحظتها، ويرجع إلى «البدائع» وغيرها من الكتب عند العجز عن إدراك المقصود.
سقوط أجر الأجير بهلاك العين في إجارة الأعمال:
عرفنا فيما سبق رأي الجمهور في صفة يد الأجير المشترك وهي أنها يد أمانة، فلا يضمن هلاك العين إلا بالتعدي أو بالتقصير.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 128.
(2) انظر البدائع: 4 ص 216 وما بعدها، المبسوط: 15 ص 106، تكملة فتح القدير: 7 ص 170، مجمع الضمانات: ص 45 ومابعدها.(5/503)
وأما غير الجمهور وهم المالكية والصاحبان من الحنفية، فيرون أن يد الأجير المشترك هي يد ضمان، فيضمن الشيء التالف، ولو بغير تعد أو تقصير (1) .
أما ضمان العين المستأجرة، فلا خلاف بين العلماء أن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، فلا يضمنها إن تلفت أو تعيبت بغير تفريط منه لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها، فكانت أمانة (2) .
وبناء على الخلاف في صفة يد الأجير: هل تسقط الأجرة بهلاك العين في عقد إجارة الأعمال؟
قال الشافعية: إذا عمل الأجير في ملك المستأجر أو بحضرته وجبت له الأجرة، لأنه تحت يده، فكلما عمل شيئاً صار مسلّماً له. وإن كان العمل في يد الأجير لم يستحق الأجرة بهلاك الشيء في يده، لأنه لم يسلّم العمل (3) .
وقال الحنابلة بنحو مذهب الشافعية: وهو أن الأجير لا أجر له فيما عمل في يده، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه (4) .
وقال الحنفية بنحوه أيضاً، ولكن يحتاج مذهبهم إلى شيء من التفصيل، فقالوا: إن العين التي يعمل فيها الأجير إما أن تكون في يد الأجير أو في المستأجر (5) .
__________
(1) انظر الميزان للشعراني: 2 ص 95، المغني لابن قدامة: 5 ص 487.
(2) انظر المغني: 5 ص 488، البدائع: 4 ص 210، جامع الفصولين: 2 ص 163، القوانين الفقهية: ص 278، المهذب: 1 ص 408.
(3) المهذب: 1 ص 409.
(4) المغني: 5 ص 487.
(5) انظر البدائع: 4 ص 204 ومابعدها، تبيين الحقائق: 5 ص 109 ومابعدها، حاشية ابن عابدين والدر المختار: 5 ص 12.(5/504)
فإن كانت العين في يد الأجير ففيه حالتان:
1 - إن كان لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالخياطة والصباغة والقصارة فيجب الأجر بتسليم الأثر المطلوب، فإن هلك الشيء قبل التسليم في يد الأجير سقط الأجر؛ لأن الأثر المعقود عليه وهو صيرورة القماش مثلاً مخيطاً لم يسلم، والبدل يقابل ذلك الأثر، فكان كالمبيع.
2 - وإن لم يكن لعمل الأجير أثر ظاهر في العين كالحمال والملاح فيجب الأجر بمجرد انتهاء العمل، وإن لم يسلم العين لصاحبها؛ لأن البدل يقابل نفس العمل، فإذا انتهت مدة الإجارة، فقد فرغ من العمل، وصار مسلِّماً للعين التي هي ملك صاحبها، فلا يسقط الأجر بالهلاك بعدئذ.
حبس العين لاستيفاء الأجرة: وبناء على اختلاف الحكم في الحالتين السابقتين قال الحنفية: إن كان للعمل أثر في العين المملوكة لصاحبها يجعل للأجير حق حبس العين، حتى يستوفي الأجر؛ لأن البدل مستحق بمقابلة الأثر المطلوب. وما لا أثر له لا يثبت فيه حق الحبس، إذ العمل المقعود عليه ليس في العين.
ولهذا قال الحنفية: إن الحمال إذا حبس المتاع الذي هو في يده ليستوفي الأجر فهلك يضمن؛ لأن العين أمانة في يده، فإذا حبس صار غاصباً، فيضمن.
وأما إذا كانت العين المعمول فيها في يد المستأجر: بأن يعمل الأجيرفي ملك المستأجر أو فيما في يده من فناء ملكه ونحوه، فيستحق الأجير أجرته بعد الفراغ من العمل إذا أكمله، وإن لم يكمله وعمل بعض العمل، فيستحق من الأجر بقدر ما أنجزه من العمل، ويصير المعمول مسلماً إلى صاحبه، ويملك المطالبة بقدره من المدة. فلو استأجر شخص رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما في يده كأن يستأجره لبناء حجرة في داره أو لبناء سقيفة أو إيوان أو لحفر بئر أو قناة أو نهر في ملكه أو فيما في يده، فعمل بعضه، فله أن يطالب بقدر العمل من الأجرة.(5/505)
ولكن يجبر على إتمام العمل حتى إنه لو انهدم البناء أو انهارت البئر أو سقط الإيوان، فإن كان بعد الفراغ من العمل لم يسقط شيء من الأجرة، وإن كان قبل الفراغ من العمل يجب بقدر حصة العمل.
هذا بخلاف ما إذا كان العمل في غير ملك المستأجر أو في يده، فإن الأجرة حينئذ يتوقف وجوبها على تمام العمل، فما لم يسلم الأجير العمل لا يصير المستأجر قابضاً للمعقود عليه، ويسقط الأجر إذا فسد المعقود عليه أو هلك قبل التسليم.
وبناء عليه: إذا استأجر شخص إنساناً ليضرب له لبناً في ملكه أو فيما في يده فلا يستحق اللبّان الأجرة، ولا يصير المستأجر قابضاً حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة؛ لأن ذلك من تمام هذا العمل. وفي قول الصاحبين: لا يستحق الأجرة حتى يشرجه (1) ؛ لأن تمام العمل به، ويترتب على هذا الخلاف أنه لو تلف اللبن قبل نصبه في قول أبي حنيفة، وقبل التشريج في قول الصاحبين، فلا أجر له لأنه تلف قبل تمام العمل (2) .
أما إذا كان ضرب اللبن في غير ملك المستأجر أو في غير يده، فلا يستحق الأجير الأجرة إلا بالتسليم إلى صاحب اللبن، والتسليم: هو أن يخلي الأجير بين اللبن وبين المستأجر، بعد نصبه عند أبي حنيفة، وبعد تشريجه عند الصاحبين؛ لأن اللبن لم يكن في يد المستأجر، حتى يصير العمل مسلماً إليه، فلا بد من التخلية بعد الفراغ من العمل.
ومثله إذا استأجر إنسان خياطاً ليخيط له في منزله قميصاً: فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأن هذا العمل لا ينتفع ببعضه، فإذا فرغ منه، ثم تلف، فله الأجر، ولا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأنه صار مسلماً للعمل لحصوله في ملك صاحبه. وفي قول الصاحبين: تكون العين مضمونة، فلا يبرأ عن ضمانها إلا بتسليمها إلى مالكها، فإن هلك الثوب فإن شاء ضمنه قيمته صحيحاً ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وله الأجر.
__________
(1) شرَّج اللبن: نضد بعضه إلى بعض.
(2) المبسوط: 16 ص 58، تبيين الحقائق: 5 ص 110.(5/506)
المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة
إذا اختلف المتعاقدان في عقد الإجارة في مقدار البدل أو المبدل، وكانت الإجارة صحيحة فإما أن يحصل الاختلاف قبل استيفاء المنافع أو بعد استيفائها (1) .
فإن اختلفا قبل استيفاء المنافع تحالفا أي حلَّف كل منهما الآخر، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادّا» (2) .
وبما أن الإجارة نوع من البيع فيتناولها الحديث، وإذا تحالفا تفسخ الإجارة، وإذا نكل أحدهما عن اليمين لزمه ما ادعى به صاحبه.
__________
(1) راجع البدائع: 218/4 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 218/7، المبسوط: 10/16، رد المحتار على الدر المختار: 51/5.
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة والشافعي من طرق بألفاظ منها «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة، فالقول مايقول صاحب السلعة أو يترادان» وزاد ابن ماجه: «والمبيع قائم بعينه» وكذلك أحمد في رواية: «والسلعة كما هي» وقد صححه الحاكم وابن السكن (انظر نصب الراية: 5/4 ومابعدها، نيل الأوطار: 223/5) قال الشوكاني: والظاهر عدم الفرق بين بقاء المبيع وتلفه لعدم انتهاض الرواية المصرح فيها باشتراط بقاء المبيع للاحتجاج، والتراد مع التلف ممكن بأن يرجع كل واحد منهما بمثل المثلي وقيمة القيمي.(5/507)
وإن أقام كل منهما بينة على مدعاه: فإن كان الاختلاف في البدل فبينة المؤجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة الأجرة، وإن كان الاختلاف في المبدل فبينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت زيادة المنفعة.
وإن كان اختلاف العاقدين بعد استيفاء المستأجر بعض المنفعة بأن سكن الدار المستأجرة بعض المدة، أو ركب الدابة المستأجرة بعض المسافة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه، ويتحالفان وتفسخ الإجارة فيما بقي؛ لأن العقد على المنافع ساعة فساعة على حسب حدوثها شيئاً فشيئاً، فكان كل جزء من أجزاء المنفعة مقعوداً عليه عقداً مبتدءاً، فيجعل ما بقي من المدة والمسافة منفرداً بالعقد، فيتحالفان فيه.
وإن كان اختلافهما بعد انتهاء مدة الإجارة أو بعد بلوغ المسافة التي تم العقد عليها لا يتحالفان، والقول قول المستأجر في مقدار البدل مع يمينه، ولا يمين على المؤجر؛ لأن التحالف يؤدي إلى فسخ الإجارة، والمنافع غير الموجودة لا تحتمل فسخ العقد، فلا يثبت التحالف.(5/508)
وإن اختلف الخياط وصاحب الثوب، فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تعمله قَبَاء (1) وقال الخياط: أمرتني أن أعمله قميصاً، أو قال صاحب الثوب للصباغ: أمرتك أن تصبغه بلون أحمر، فصبغته بلون أصفر، وقال الصباغ: لا، بل أمرتني بلون أصفر، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه. وهذا هو القول الأظهر في مذهب الشافعية (2) ؛ لأن أصل الإذن صادر من المالك، فلو أنكر الإذن مطلقاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر صفة الإذن.
وإذا حلف المالك في هذه الحالة يكون الخياط ضامناً، أي أن المالك بالخيار: إن شاء ضمن الخياط، وإن شاء أخذ الثوب وأعطى الخياط أجر المثل، والخيار ثابت أيضاً للصباغ.
وإذا اختلف مالك الثوب مع الصانع في وجود الأجرة، فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بأجر، فالقول قول صاحب الثوب عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله؛ لأن تقومه بالعقد، وينكر الضمان، والصانع يدعيه، والقول قول المنكر.
وقال أبو يوسف: إن تكررت تلك المعاملة بينهما بأجر، فللصانع الأجر وإلا فلا؛ لأن ما سبق بينهما يعين جهة الطلب بأجر، جرياً على المعتاد بينهما.
وقال محمد: إن كان الصانع معروفاً بهذه الصنعة بالأجر، فالقول قوله؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجل أخذ الأجور جرى فعله مجرى التنصيص على الأجر، أخذاً بظاهر الأمور، قال المرغيناني في الهداية ما معناه: والقياس ما قاله أبو حنيفة، لأن المالك منكر.
__________
(1) ثوب يلبس فوق الثياب.
(2) مغني المحتاج: 354/2.(5/509)
والجواب عن استحسان الصاحبين: أن ظاهر الحال يتمسك به لدفع الحق لا للاستحقاق، والمطلوب هنا إثبات الاستحقاق (1) ، وهو لا يكفي في إثباته مجرد التمسك بظاهر الحال أو القرينة، بل لا بد من حجة أقوى كالبينة والإقرار.
وقال الشافعية: إذا كان الاختلاف بين المؤجر والمستأجر في دعوى التلف أو التعيب، فالقول قول المستأجر، لأنه أمين، فيصدق بيمينه. وإن كان الاختلاف في دعوى الرد، بأن ادعى المستأجر أنه رد العين المستأجرة إلى المؤجر، وأنكر المؤجر ذلك، فالقول قول المؤجر بيمينه؛ لأن الأصل عدم الرد، والقول قول المنكر بيمينه.
المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة
1 - تنتهي الإجارة عند الحنفية كما عرفنا في مبحث صفة الإجارة بموت أحد المتعاقدين؛ لأن الإرث يجري في الموجود المملوك، وبما أن المنافع في الإجارة تحدث شيئاً فشيئاً، فتكون عند موت المورث معدومة، فلا تكون مملوكة له، وما لم يملكه يستحيل توريثه فيحتاج عقد الإجارة للتجديد مع الوارث، حتى يكون العقد قائماً مع المالك. ولو مات الوكيل بالعقد لا تبطل الإجارة؛ لأن العقد لم يقع له، وإنما هو عاقد، ولو ماتت الظئر أو الصبي انتقضت الإجارة لأن كل واحد منهما معقود له.
وقال الجمهور: لا ينفسخ عقد الإيجار بموت أحد المتعاقدين؛ لأنه عقد لازم كالبيع، أي أن المستأجر ملك المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً لازماً فيورث عنه، ولكن تنفسخ الإجارة بموت الظئر أو الصبي لفوات المنفعة بهلاك محلها وهو الظئر، ولتعذر استيفاء المعقود عليه؛ لأنه لا يمكن إقامة غير هذا الصبي مقامه (2) .
2 - تنتهي الإجارة أيضاً بالإقالة؛ لأن الإجارة معاوضة مال بمال، فكانت محتملة للإقالة كالبيع.
3 - الإجارة تنقضي بهلاك العين المؤجرة المعينة كالدارأو الدابة المعينة وهلاك المؤجر عليه كالثوب المؤجر للخياطة أو للقصارة لوقوع اليأس عن استيفاء المعقود عليه بعد هلاكه، فلم يكن في بقاء العقد فائدة. فإن كانت الإجارة على دواب بغير أعيانها للحمل أو الركوب، فتسلم المستأجر الدواب، فهلكت لاتبطل الإجارة، وعلى المؤجر أن يأتي بغيرها لتحمل المتاع وليس له أن يفسخ العقد؛ لأن الإجارة
__________
(1) الهداية: 201/3.
(2) بداية المجتهد: 227/2، الشرح الكبير للدردير: 30/4، المهذب: 406/1، المغني: 456/5، القوانين الفقهية: ص 278.(5/510)
وقعت على منافع في الذمة، ولم يعجز المؤجر عن وفاء ما التزمه بالعقد، وهو حمل المتاع إلى موضع كذا، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (1) .
وقال الزيلعي أخذاً برأي الإمام محمد بن الحسن: والأصح أن الإجارة لا تنفسخ في هذ هـ الحالة؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها، وساحة الدار بعد انهدام البناء يتأتى فيها السكنى بنصب فسطاط (خيمة) ونحوها. ويظهر أن هذا الرأي عند الحنفية هو الأصح، أي أن الإجارة لا تنفسخ بالقوة القاهرة، كانهدام الدار كلها، بدليل ما قاله صاحب الدر المختار وأيده ابن عابدين: لو خربت الدار، سقط كل الأجر، ولا تنفسخ به ما لم يفسخها المستأجر، هو الأصح. وأضاف ابن عابدين: وبانهدام الدار كلها للمستأجر الفسخ بغيبة المؤجر، ولا تنفسخ ما لم يفسخ هو الصحيح، لصلاحيتها لنصب الفسطاط.
4 - تنتهي الإجارة بانقضاء المدة إلا لعذر؛ لأن الثابت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية، فتنفسخ الإجارة بانتهاء المدة إلا إذا كان هناك عذر بأن انقضت المدة، وفي الأرض زرع لم يستحصد، فإنه يترك إلى أن يستحصد بأجر المثل (2) . وانتهاء الإيجار بانقضاء المدة في الجملة محل اتفاق بين الفقهاء.
__________
(1) البدائع: 196/4، 223، تبيين الحقائق: 144/5، تكملة فتح القدير: 220/7، الدر المختار ورد المحتار:30/5، 53، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 84، بداية المجتهد: 228/2، الشرح الكبير: 29/4، القوانين الفقهية: ص277، مغني المحتاج: 357/2، المهذب: 405/1، المغني: 415/5، 421، 434، غاية المنتهى: 210/2.
(2) البدائع، المرجع السابق، غاية المنتهى: 218/2.(5/511)
الفَصْلُ الرّابع: الجِعَالَة
ـ أو الوعد بالجائزة ـ
الكلام فيها يتناول تعريفها، ومشروعيتها، وصيغتها، الفرق بينها وبين الإجارة على الأعمال، شروطها، صفة حكمها، الزيادة والنقص في الجُعل، حكم اختلاف العامل ورب المال.
تعريف الجعالة: الجعالة أو الجُعْل أو الجعلية لغة: هي ما يجعل للإنسان على فعل شيء أو ما يُعْطاه الإنسان على أمر يفعله. وتسمى عند القانونيين: الوعد بالجائزة (أي المكافأة أو الجُعْل أو الأجر المعين) ، فهي عقد أو التزام بإرادة منفردة.
وشرعاً: التزام عوض معلوم على عمل معين، أو مجهول، عسر علمه (1) .
وعرفها المالكية (2) : بأنها الإجارة على منفعة مظنون حصولها. مثل قول القائل: من رد علي دابتي الشاردة، أو متاعي الضائع، أو بنى لي هذا الحائط أو حفر لي هذا البئر حتى يصل إلى الماء، أو خاط لي قميصاً أو ثوباً، فله كذا.
ومنها ما يخصص من المكافآت لأوائل الناجحين، أو المتسابقين فيما يحل فيه السباق، أو ما يلتزمه القائد من مبلغ معين أو سهم من الغنيمة لمن يقتحم حصناً للعدو، أو يسقط عدداً من الطائرات.
ومنها الالتزام بمبلغ مالي لطبيب يشفي مريضاً من مرض معين، أو لمعلم يحفِّظ ابنه القرآن.
ويمثل لها الفقهاء عادة بحالة رد الدابة الضالة (الضائعة) ، والعبد الآبق (الهارب) .
__________
(1) مغني المحتاج: 429/2، كشاف القناع: 225/4، الشرح الصغير: 79/4.
(2) القوانين الفقهية: ص 275، الشرح الكبير للدردير: 60/4، بداية المجتهد: 232/2.(5/512)
مشروعية الجعالة:
لا تجوز الجعالة عند الحنفية (1) لما فيها من الغَرَر أي جهالة العمل والمدة قياساً على سائر الإجارات التي يشترط لها معلومية العمل والمأجور والأجرة والمدة. وإنما أجازوا فقط استحساناً دفع الجعل لمن يرد العبد الآبق (2) ، ولو بلا شرط، من مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً، ومقدار الجعل أربعون درهماً، تغطية للنفقة في مدة السفر. وإن رده لأقل من ذلك المقدار، فبحسابه، اعتباراً للأقل بالأكثر، فإذا رده مثلاً من مسافة يومين فله ثلثاها، ومن يوم ثلثها، ومن رده من أقل منه، أو وجده في البلد يرضخ له، أي يعطى بنسبة عمله. وسبب استحقاق الجعل: هو أخذ الآبق لصاحبه. فدفع الجعل طريق للمالك لصيانة ماله.
وتجوز الجعالة شرعاً عند المالكية والشافعية والحنابلة (3) ، بدليل قوله تعالى في قصة يوسف مع إخوته: {قالوا: نفقد صُواع الملك (4) ، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:72/12] أي كفيل. وبدليل ما جاء في السنة من أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة (أم القرآن) ، وهو ما رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري: «أن ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتوا حياً من أحياء العرب، فلم يُقْروهم (يضيفوهم) ، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ فقالوا: لم تقرونا، فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيع شاء، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه، ويتفل، فبرأ الرجل، فأتوهم بالشاء، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك، وقال: وما أدراك، إنها رقية؛ خذوها واضربوا لي فيها بسهم» (5) .
__________
(1) الدر المختار: 243/3، 355-359، 6/5، 32، البدائع: 203/6-205، اللباب شرح الكتاب: 217/2 ومابعدها.
(2) الإباق: انطلاق الرقيق تمرداً. سواء هرب من مستأجره أو وديعه المودع لديه، أو مستعيره، أو الوصي عليه.
(3) بداية المجتهد: 233/2، القوانين الفقهية، الشرح الكبير، المكان السابق، مغني المحتاج: 429/2، المغني: 656/5، كشاف القناع: 225/4، المهذب: 411/1.
(4) الصواع والصاع: مكيال يكال به، أو هو إناء يشرب فيه، كان سقاية الملك.
(5) نيل الأوطار: 289/5.(5/513)
والمعقول يؤيد ذلك: وهو أن الحاجة تدعو إلى الجعالة، من رد ضالة، وآبق، وعمل لا يقدر عليه صاحبه، فجاز بذل الجعل، كالإجارة والمضاربة، إلا أن جهالة العمل والمدة لا تضر بخلاف الإجارة؛ لأن الجعالة غير لازمة، والإجارة لازمة، وتفتقر إلى تعيين المدة لمعرفة قدر المنفعة، ولأن الجعالة رخصة اتفاقاً لما فيها من الجهالة، وأجيزت لإذن الشارع بها.
صيغة الجعالة:
الجعالة التزام بإرادة واحدة فلا تتحقق إلا بصيغة (1) من الجاعل من الصيغ السابقة في تعريفها ونحوها، تدل على إذن بالعمل بطلب صريح، بعوض معلوم مقصود عادة ملتزم به، فلو عمل العامل بلا إذن، أو أذن الجاعل لشخص، فعمل غيره، فلا شيء له؛ لأن الأول عمل متبرعاً، والشخص المعين في الحالة الثانية لم يعمل ولا يشترط في الجاعل كونه مالكاً، فيصح لغيره أن يلتزم بجعل ويستحقه العامل الذي رد الشيء.
كما لا يشترط قبول العامل، وإن عينه الجاعل؛ لأن الجعالة التزام من جانب واحد، كما أوضحت. ويصح أن تكون الجعالة لواحد معين، أو لغير معين، كما يصح أن يجعل الجاعل للمعين عوضاً ولسائر الناس عوضاً آخر.
__________
(1) مغني المحتاج: 429/2 ومابعدها، المهذب: 411/1، المغني: 658/5، الشرح الصغير: 81/4، الشرح الكبير: 60/4.(5/514)
الفرق بين الجعالة والإجارة على الأعمال:
تفترق الجعالة عن الإجارة على عمل معلوم كبناء وخياطة ثوب وحمل شيء إلى موضع معلوم من نواح أربع وهي (1) :
أولاً ـ لا يتم استيفاء المنفعة للجاعل إلا بتمام العمل كرد الشارد وبرء المريض. أما في الإجارة فيتم استيفاء المنفعة للمستأجر بمقدار ما عمل الأجير. وبعبارة أخرى: لا تتحقق المنفعة في الجعالة إلا بتمام العمل، أما في الإجارة فتتحقق المنفعة للمستأجر بجزء من العمل. وبناء عليه، لا يستحق العامل في الجعالة شيئاً إلا بتمام العمل. وإذا عمل الأجير في الإجارة بعض العمل استحق من الأجر بحساب (أو مقدار) ما عمل.
ثانياً ـ إن الجعالة عقد يحتمل فيها الغرر، وتجوز جهالة العمل والمدة بخلاف الإجارة، فالعمل في الجعالة قد يكون معلوماً، أو مجهولاً غير معلوم، كرد بهيمة ضالة، وحفر بئر حتى يخرج منها الماء، وكما تصح الجعالة على عمل مجهول أو معلوم، تصح جهالة المدة. أما الإجارة فلا بد من أن يكون العمل فيها معلوماً كالخياطة والبناء، والمدة معلومة. وإذا قدرت الإجارة بمدة لزم الأجير العمل في جميع المدة، ولا يلزمه العمل بعدها. أما الجعالة فالمهم فيها إنجاز العمل دون تقيد بالمدة.
ثالثاً ـ لا يجوز اشتراط تقديم الأجرة في الجعالة، بخلاف الإجارة.
رابعاً ـ الجعالة عقد جائز غير لازم، فيجوز فسخه، بخلاف الإجارة، فإنها عقد لازم لا يفسخ.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 275 ومابعدها، بداية المجتهد: 233/2، مغني المحتاج: 430/2، كشاف القناع: 225/4 ومابعدها، المغني: 657/5 ومابعدها.(5/515)
شروط الجعالة:
يشترط في الجعالة ما يأتي (1) :
أولاً ـ أهلية التعاقد: يشترط عند الشافعية والحنابلة في الجاعل ما لكاً كان أو غيره أن يكون مطلق التصرف (بالغاً عاقلاً رشيداً) ، فلا يصح من صبي ومجنون ومحجور سفه. وأما العامل: فإن كان معيناً اشترط فيه أهلية العمل، فلا يصح كونه عاجزاً عن العمل كصغير لا يقدر على العمل؛ لأن منفعته معدومة. وإن كان غير معين مبهماً كفى علمه بإعلان النداء على الجعل. وتصح الجعالة عند المالكية والحنفية من المميز، وأما التكليف فهو شرط لزوم.
ثانياً ـ كون الجعل (أو الأجرة) مالاً معلوماً. فإن كان الجعل مجهولاً فسد العقد لجهالة العوض، مثل من وجد سيارتي فله ثوب، أو أرضيه، ونحوه، ويكون للواجد (الرادّ) أجرة مثله، كالإجارة الفاسدة.
وإن كان الجعل حراماً كخمر أو مغصوب، فسد العقد أيضاً لنجاسة عين الخمر، وعدم القدرة على تسليم المغصوب.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 276، مغني المحتاج: 430/2 ومابعدها، المهذب: 411/1، المغني: 656/5 ومابعدها، 660، كشاف القناع: 225/4-228، الشرح الكبير للدردير: 64/4، الشرح الصغير: 81/4.(5/516)
ثالثاً ـ أن تكون المنفعة معلومة حقيقة، مباحاً الانتفاع بها شرعاً، فلا تجوز الجعالة على إخراج الجن من شخص، ولا على حل سحر مثلاً، لأنه يتعذر معرفة كون الجن خرج أم لا، أو انحل السحر أم لا. كما لا تجوز الجعالة على ما يحرم نفعه كالغناء والزمر والنواح وسائر المحرمات. والقاعدة في ذلك (1) : أن كل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة، جاز أخذ العوض عليه في الجعالة، ومالا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة، لا يجوز أخذ الجعل عليه، لقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] وأضاف المالكية: «كل ما جاز فيه الجعل كحفر الآبار في فلاة، جازت فيه الإجارة، لا العكس، فليس كل ما جازت فيه الإجارة، جاز فيه الجعل» مثل بيع سلع (2) وخدمة شهر، وحفر بئر بملك، تصح فيه الإجارة دون الجعالة، فالإجارة أعم، من ناحية المحل المعقود عليه. والسبب في عدم صحة الجعالة فيما ذكر: أن الجعالة تكون فيما لا يحصل للجاعل نفع إلا بتمام العمل، وهذه الأمور يبقى فيها للجاعل منفعة إذا لم يتم العامل العمل.
وأما أعمال العبادة البدنية التي لا يتعدى نفعها غير فاعلها كالصلاة والصيام ونحوهما من القربات الدينية، فلا يجوز أخذ الجعل عليه.
وما يتعدى نفعه لغير فاعله كالأذان وتعليم الفقه والقرآن والقضاء والإفتاء فيجوز أخذ الجعل عليه، لحديث أبي سعيد السابق في الرقية بالفاتحة.
__________
(1) كشاف القناع: 228/4، الشرح الكبير: 63/4 ومابعدها، الشرح الصغير: 84/4.
(2) بيع سلع من ثياب أو إبل إذا لم يأخذ العامل الجعل إلا على بيع الجميع، لأن تعدد السلع بمنزلة عقود متعددة يستحق الجعل في كل سلعة بانتهاء عملها.(5/517)
والمشهور عند المالكية أنه لا بد من تحقيق منفعة مقصودة للجاعل، فمن جعل ديناراً لمن يصعد جبلاً مثلاً، لا لشيء يأتي به، لا يصح التزامه ولا جعالته. واشترط الشافعية في العمل: أن يكون فيه كلفة، وإلا فلا يستحق شيئاً؛ لأن ما لا كلفة فيه لا يقابل بعوض.
رابعاً ـ اشترط المالكية ألا يحدد للجعالة أجل، وقال غيرهم: يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل، مثل من خاط لي هذا الثوب في يوم فله كذا، فإن أتى به في المدة استحق الجعل، ولم يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له، وذلك بخلاف الإجارة.
وأضاف بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب خلافاً لابن رشد) شرطاً خامساً: وهو أن تكون الجعالة في العمل اليسير، ولو كان متعدداً كإبل كثيرة شردت. واشترط المالكية كما تقدم عدم شرط النقد للجعل، فإن شرط النقد يفسدها؛ لأنه سلف جر نفعاً بطريق الاحتمال، وأما تعجيل الجعل بلا شرط فلا يفسدها.
صفة حكم الجعالة ووقت استحقاق الجعل:
اتفق الفقهاء القائلون بجواز الجعالة (1) على أنها بخلاف الإجارة عقد جائز غير لازم، فيجوز لكل من الجاعل والعامل فسخها، لكنهم اختلفوا في وقت جواز الفسخ. فقال المالكية: يجوز الفسخ قبل الشروع في العمل، ويلزم الجاعل دون العامل بالشروع في العمل. أما العامل المجعول له فلا يلزم بشيء قبل العمل أو بعده أو بعد الشروع فيه.
__________
(1) بداية المجتهد: 233/2، الشرح الكبير للدردير: 60/4، 65، مغني المحتاج: 433/2، المهذب: 412/1، كشاف القناع: 228/4، المغني: 657/5.(5/518)
وقال الشافعية والحنابلة: يجوز الفسخ في أي وقت شاء الجاعل والمجعول له المعين، كسائر العقود الجائزة مثل الشركة والوكالة، قبل تمام العمل. فإن فسخ العقد من المالك أو العامل المعين قبل الشروع في العمل، أو فسخ العامل بعد الشروع في العمل، فلا شيء له في الحالتين، لأنه في الأولى لم يعمل شيئاً، وفي الثانية لم يتحقق غرض المالك. أما إن فسخ المالك بعد الشروع في العمل، فعليه للعامل أجرة مثل عمله في الأصح عند الشافعية، لأنه عمل بعوض، ولم يسلم له أجرة عمله، كما لو فسخ رب المال المضاربة بعد الشروع في العمل ويستحق العامل الجعل أو الأجر المعين بإتمام العمل، فإن فسخ العامل قبل الفراغ من العمل، لم يستحق شيئاً (1) .
وإن حدد المالك مكاناً لرد المتاع المفقود، فرده العامل من مكان أقرب منه، فله قسطه من الجعل، كما يرى الشافعية (2) .
ولو اشترك اثنان في رد المتاع، اشتركا في الجعل، لحصول الرد منهما (3) .
وإذا رد العامل الشيء المجعول عليه فليس له حبسه لقبض الجعل، كما لا
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 275، الشرح الكبير: 61/4، مغني المحتاج: 433/4، المهذب: 412/1، كشاف القناع: 225/2، المغني: 658/5.
(2) مغني المحتاج: 431/2.
(3) الشرح الكبير: 61/4، مغني المحتاج: 431/2، المغني: 658/5.(5/519)
يحبسه لاستيفاء ما أنفقه عليه بإذن المالك؛ لأن استحقاق الجعل بتسليم الشيء، ولا حبس قبل الاستحقاق (1) .
ولا يستحق العامل الجُعْل إلا بإذن صاحب العمل، وبالفراغ من العمل، فإذا عمل عامل بدون إذن صاحب العمل لم يستحق شيئاً، وإذا لم يفرغ العامل من العمل كشفاء المريض، وتعلم القراءة والكتابة، لم يستحق الجعل.
الزيادة والنقص في الجعل:
يرى الشافعية والحنابلة (2) أنه يجوز للمالك الجاعل أن يزيد أو ينقص من الجعل؛ لأن الجعالة عقد جائز غير لازم، فجاز فيه ذلك كالمضاربة، إلا أن الشافعية أجازوا ذلك قبل الفراغ من العمل، سواء أكان قبل الشروع، أم بعده، كأن يقول: من رد متاعي الفلاني فله عشرة، ثم يقول: فله خمسة، أو بالعكس. وتظهر فائدة ذلك بعد الشروع في العمل، فتجب حينئذ أجرة المثل، لأن هذا التعديل بالزيادة أو النقص فسخ للإعلان السابق، والفسخ من المالك يقتضي الرجوع إلى أجرة المثل؛ وقيد الحنابلة هذا التعديل بما قبل الشروع في العمل، فيجوز ويعمل به.
حكم اختلاف المالك والعامل:
إذا حدث اختلاف بين المالك والعامل فأيهما يصدق بيمينه؟ في الأمر تفصيل (3) : إن اختلفا في أصل اشتراط الجعل بأن أنكره أحدهما، فيصدق المنكر بيمينه، كأن يقول العامل: شرطت لي جعلاً، وأنكر المالك، صدق المالك بيمينه؛ لأن الأصل عدم اشتراط الجعل. وإن اختلفا في نوع العمل كرد السيارة الضائعة أو المتاع الضائع، أو اختلفا فيمن قام بالعمل، يصدق صاحب العمل بيمينه، لأن العامل يدعي شيئاً والأصل عدمه، فيصدق المنكر بيمينه.
وكذلك يصدق المنكر إن اختلفا في سعي العامل، بأن قال المالك: لم ترده، وإنما رجع بنفسه، يصدق المالك؛ لأن الأصل عدم الرد.
__________
(1) مغني المحتاج: 434/2.
(2) مغني المحتاج: 433/2 ومابعدها، المهذب: 412/1، كشاف القناع: 229/4.
(3) الشرح الكبير: 64/4، مغني المحتاج: 434/2، المهذب: 412/1، المغني: 660/5 ومابعدها، كشاف القناع: 229/4.(5/520)
وإن اختلفا في قدر الجعل أوفي قدر المسافة أو المكان المحدد لوجود الضائع فقال المالكية والشافعية: تحالف الطرفان (1) ، وفسخ العقد، ووجب أجرة المثل، كما لو اختلفا في عقد الإجارة.
وقال الحنابلة: القول قول المالك بيمينه؛ لأن الأصل عدم الزائد المختلف فيه، ولأن القول قوله في أصل العوض، فكذلك في قدره، كرب المال في المضاربة، ولأنه منكر لما يدعيه العامل زيادة عما يعترف به، والأصل براءته منه. ويحتمل أن يتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، والأجير والمستأجر إذا اختلفا في قدر الأجر. فإن تحالفا فسخ العقد ووجب أجر المثل.
أوجه الاختلاف بين الجعالة والإجارة: تختلف الجعالة عن الإجارة من خمسة وجوه هي:
1 - تصح الجعالة مع عامل غير معين، ولا تصح الإجارة مع مجهول.
2 - تجوز الجعالة على عمل مجهول، أما الإجارة فلا تصح إلا على عمل معلوم.
3 - لا يشترط في الجعالة قبول العامل لأنها تصرف بإرادة منفردة، أما الإجارة فلا بد من قبول الأجير القائم بالعمل لأنها عقد بإرادتين.
4 - الجعالة عقد جائز غير لازم، أما الإجارة فهي عقد لازم، لا يفسخها أحد العاقدين إلا برضا الآخر.
5 - لا يستحق الجعل في الجعالة إلا بالفراغ من العمل، ولو شرط تعجيله فسدت، وفي الإجارة يجوز اشتراط تعجيل الأجرة.
__________
(1) أي حلف كل منهما على إثبات قوله، ونفي قول الآخر. فإذا حلفا تساقطت أقوالهما واستحق العامل أجرة المثل.(5/521)
الفَصْلُ الخامِسُ: الشَّرِكَات
ويتضمن مبحثين ـ الأول: شركات الأموال، والثاني ـ شركة المضاربة
المبحث الأول ـ شركات الأموال:
تمهيد في تعريف الشركة ومشروعيتها:
الشركة لغة: هي الاختلاط أي خلط أحد المالين بالآخر بحيث لا يمتازان عن بعضهما. ثم أطلقت عند الجمهور على العقد الخاص بها، وإن لم يوجد اختلاط النصيبين؛ لأن العقد سبب الخلط (1) .
واختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الشركة اصطلاحاً، فقال المالكية: هي إذن في التصرف لهما مع أنفسهما أي أن يأذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في أن يتصرف في مال لهما مع إبقاء حق التصرف لكل منهما (2) .
وقال الحنابلة: الشركة: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف (3) .
وقال الشافعية: الشركة: ثبوت الحق في شيء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع (4) .
وقال الحنفية: الشركة: عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (5) . وهو أولى التعاريف لأنه يعبر عن حقيقة الشركة في أنها عقد، أما التعاريف الأخرى فهي بالنظر إلى هدف الشركة وأثرها أو النتيجة المترتبة عليها.
مشروعية الشركة: ثبتت مشروعية الشركة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/4] وقوله سبحانه: {وإنَّ كثيراً من الخُلَطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} [ص:24/38] والخلطاء: هم الشركاء.
وأما السنة: ففي الحديث القدسي فيما يروى عن أبي هريرة رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يقول: «أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» رواه أبو داود والحاكم وصحح إسناده (6) والمعنى: أنا معهما بالحفظ والإعانة، أمدهما بالمعونة في أموالهما وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة والإعانة عنهما.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 2/5، تبيين الحقائق للزيلعي: 312/3.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 348/3.
(3) المغني: 1/5.
(4) مغني المحتاج: 211/2، حاشية قليوبي وعميرة: 332/2.
(5) رد المحتار: 364/3.
(6) وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حبان وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وسكت أبو داود والمنذري عن هذا الحديث، وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام (انظر جامع الأصول: 108/6، نيل الأوطار: 264/5) .(5/522)
وقد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والناس يتعاملون بالشركة فأقرهم عليها، كما ثبت في أحاديث كثيرة (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» (2) .
والمسلمون أجمعوا على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها (3) ، ولذا سيكون الكلام عن الشركة بأنواعها.
وحكمة مشروعيتها: تمكين الناس من التعاون في استثمار أموالهم وتنميتها وإقامة المشاريع الكبرى الصناعية والتجارية والزراعية التي يتعذر على الواحد الاستقلال بالقيام بها.
أقسام الشركة: الشركة قسمان: شركة أملاك، وهي الشركات الإجبارية في القوانين الوضعية، وشركة عقود، وهي الشركات الاختيارية في القوانين.
شركة الأملاك: هي أن يتملك شخصان فأكثر عيناً من غير عقد الشركة، وهي نوعان (4) :
1 - شركة اختيار: وهي التي تنشأ بفعل الشريكين، مثل أن يشتريا شيئاً أو يوهب لهما شيء أو يوصى لهما بشيء، فيقبلا، فيصير المشترى والموهوب والموصى به مشتركاً بينهما شركة ملك.
2 - شركة جبر: وهي التي تثبت لشخصين فأكثر بغير فعلهما، كأن يرث اثنان شيئاً، فيكون الموروث مشتركاً بينهما شركة ملك.
__________
(1) انظر نصب الراية للحافظ الزيلعي: 474/3،جامع الأصول، المرجع السابق، التلخيص الحبير: ص251.
(2) ذكره ابن قدامة في المغني: 1/5.
(3) المغني، المرجع السابق.
(4) البدائع: 56/6، فتح القدير: 3/5، رد المحتار: 364/3 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص284.(5/523)
وحكم هذه الشركة بنوعيها: هو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، إذ لا ولاية لأحدهما في نصيب الآخر (1) .
شركة العقود: هي عبارة عن العقد الواقع بين اثنين فأكثر للاشتراك في مال وربحه (2) ، وهو تعريف الحنفية السابق. وهي أنواع خمسة عند الحنابلة: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، والمضاربة. وقسمها الحنفية إلى ستة أنواع: وهي شركة الأموال، وشركة الأعمال، وشركة الوجوه. وكل نوع من هذه الأنواع إما مفاوضة وإما عنان (3) . وفي الجملة فإن الشركة عند فقهاء الأمصار ومنهم المالكية والشافعية أربعة أنواع: شركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه (4) .
واتفق العلماء على أن شركة العنان جائزة صحيحة. وأما الأنواع الأخرى فقد اختلفوا في مشروعيتها:
فالشافعية والظاهرية والإمامية يجعلون كل الشركات باطلة ما عدا شركة العنان وشركة المضاربة.
والحنابلة أجازوا كل الشركات ما عدا شركة المفاوضة.
والمالكية أجازوا كل الشركات ما عدا شركة الوجوه، وماعدا شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية.
وأما الحنفية والزيدية فأجازوا كل هذه الشركات دون استثناء إذا توافرت شروط معينة. وسأبحث شركة العقود وفقاً لمنهج الحنفية في التقسيم، في المطالب الآتية. وأما شركة المضاربة فأخصص مبحثاً مستقلاً لها.
خطة الموضوع:
المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود.
المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود.
المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود.
المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك.
المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة.
المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة.
__________
(1) البدائع: 65/6، المبسوط: 151/11، تبيين الحقائق: 312/3.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 83/3. أما الاشتراك في الربح دون الاشتراك في رأس المال فهو شركة المضاربة التي سيأتي بحثها.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي: 313/3.
(4) بداية المجتهد: 248/2، مغني المحتاج: 212/2.(5/524)
المطلب الأول ـ كيفية انعقاد شركات العقود
ركن شركة العقود عند الحنفية: الإيجاب والقبول: وهو أن يقول أحد الشريكين للآخر: شاركتك في كذا وكذا، ويقول الآخر: قبلت وهي ثلاثة أنواع: شركة أموال، وشركة وجوه، وشركة أعمال أو صنايع (1) . وسأذكر تعاريف كل نوع منها.
وأركان الشركة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان ومعقود عليه وصيغة.
أولاً ـ تعريف شركة الأموال:
وهي أن يشترك اثنان في مال، فيقولا: اشتركنا فيه على أن نبيع ونشتري معاً، أو أطلقا (أي لم يحددا البيع أو الشراء) ، على أن ما رزق الله عز وجل من ربح فهو بيننا على شرط كذا، أو يقول أحدهما ذلك، ويقول الآخر: قبلت. وهي إما مفاوضة أو عنان.
1 - شركة العنان (2) : وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه والربح بينهما (3) ، وهي جائزة بالإجماع كما ذكر ابن المنذر (4) .
وإنما اختلف في بعض شروطها، كما اختلف في علة تسميتها، فقيل: سميت بالعنان؛ لأن الأصل في الشريكين أن يتساويا في المال والتصرف، كالفارسين إذا سوَّيا بين فرسيهما وتساويا في السير، فإن عناني فرسيهما يكونان سواء. وشركة العنان: اتفاق الرجلين على الاشتراك في شيء معلوم من مالهما، وانفراد كل بباقي ماله، فهما متساويان فيما يشتركان فيه. وقال الفراء: هي مشتقة من عَنَّ الشيء: إذا عرض، يقال: عنَّت لي حاجة: إذا عرضت، فسميت الشركة عناناً؛ لأن كل واحد منهما عنَّ له أن يشارك صاحبه، أو أنها تقع على حسب ما يعن لهما في كل التجارات أو في بعضها.
__________
(1) فتح القدير: 4/5 ومابعدها، البدائع: 56/6، رد المحتار: 368/3، مجمع الضمانات: ص297.
(2) العنان بكسر العين وتفتح.
(3) أي والخسارة عليهما أيضاً، فالشركاء يشتركون في الربح والخسارة، ولا يصح إعفاء أحد الشركاء من تحمل الخسارة مع مقاسمته في الربح، وهذا المبدأ مقرر شرعاً وقانوناً.
(4) معنى شركة العنان هذا متفق عليه بين الحنفية والشافعية والزيدية والجعفرية والظاهرية والحنابلة في أحد قولين عندهم، فلا تنشأ الشركة إلا بالتصرف برأس المال بالشراء. وقال المالكية وفي قول راجح عند الحنابلة: تنعقد شركة المال بمجرد انعقاد العقد بين الشركاء. هذا هو المقرر قانوناً. (الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي الخفيف: 23-35، 48) .(5/525)
قال السبكي: المشهور أنها مأخوذة من عنان الدابة وهو ما تقاد به، كأن كل واحد من الشريكين أخذ بعنان صاحبه، لا يطلقه يتصرف حيث شاء (1) .
وهذا النوع من الشركات هو السائد بين الناس (2) ؛ لأن شركة العنان لا يشترط فيها المساواة لا في المال ولافي التصرف، فيجوز أن يكون مال أحد الشريكين أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن الشركة والآخر غير مسؤول، وهي من أجله ليس فيها كفالة، فلا يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهوغير مسؤول عنها، ويجوز مع ذلك أن يتساويا في الربح أو يختلفا، فيوزع الربح بينهما حسب الشرط الذي اتفقا عليه، أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال فحسب، عملاً بقاعدة: «الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين» .
2 - شركة المفاوضة: المفاوضة في اللغة. وسمي هذا النوع من الشركة مفاوضة لا عتبار المساواة في رأس المال والربح وفي القدرة على التصرف وغيرها، قال في الهداية: لأنها شركة عامة في جميع التجارات، يفوض كل واحد من الشريكين أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق. وقيل: هي من التفويض؛ لأن كل واحد منهما يفوض التصرف إلى صاحبه على كل حال في غيبته وحضوره. وقال المالكية والشافعية: سميت مفاوضة من تفاوض الرجلان في الحديث: شرعا فيه جميعاً.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 107، المبسوط: 151/11، فتح القدير: 20/5، البدائع: 57/6، رد المحتار: 373/3، الشرح الكبير: 359/3، المغني: 13/5، مغني المحتاج: 212/2.
(2) يختلف معنى شركة العنان بين الحنفية والمالكية، فعند الحنفية تتضمن هذه الشركة توكيل كل شريك لصاحبه في التصرف، وذلك ما يجعل له حق الاستقلال به إذا أراد. أما عند المالكية فلا تتضمن ذلك، ولا يملك أحد الشركاء أن يتصرف منفرداً إلا بإذن صاحبه، وفي هذه الحالة تكون الشركة شركة أملاك عند الحنفية وإذا كان الشريك مطلق التصرف في رأس المال مستقلاً بدون إذن صاحبه فالشركة مفاوضة عند المالكية (راجع الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي الخفيف) .(5/526)
وهي في الاصطلاح: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في عمل بشرط أن يكونا متساويين في رأس مالهما وتصرفهما ودينهما أي (ملتهما) ، ويكون كل واحد منهما كفيلاً عن الآخر فيما يجب عليه من شراء وبيع، أي أن كل شريك ملزم بما ألزم شريكه الآخر من حقوق ما يتجران فيه، وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر، أي أنهما متضامنان في الحقوق والواجبات المتعلقة بما يتاجران فيه، ويكون كل واحد منهما فيما يجب لصاحبه بمنزلة الوكيل له، وفيما يجب عليه بمنزلة الكفيل عنه.
فهما يتساويان في رأس المال وفي الربح، فلا يصح أن يكون أحدهما أكثر مالاً من الآخر، كأن يملك أحدهما ألف دينار والآخر خمس مئة، ولو لم يكن المبلغ مستعملاً في التجارة، أي أنه لا يجوز أن يبقيا شيئاً من جنس مال الشركة إلا ويدخلانه في الشركة. ويشترط التساوي في التصرف فلا تصح بين صبي وبالغ، ولا بين مسلم وكافر (1) ، ولا يصح أن يكون تصرف أحدهما أكثر من تصرف الآخر. فإذا تحققت المساواة الكاملة انعقدت الشركة، وكان كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه وكفيلاً عنه يطالب بما يعقده صاحبه، ويسأل عن جميع تصرفاته. فإذا اختل شرط من هذه الشروط، أو تملك أحد الشريكين مالاً يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد، تحولت الشركة إلى شركة عنان، لعدم تحقق المساواة (2) .
__________
(1) أجاز أبو يوسف هذه الشركة مع اختلاف الملة مع الكراهة (الدر المختار: 369/3) .
(2) يلاحظ أنه لا يشارك أحد المتفاوضين صاحبه فيما يرث من ميراث عيني ولا جائزة يمنحها الحاكم له أو هبة أو هدية إلا عند ابن أبي ليلى.(5/527)
وعلى هذا فإن هذه الشركة تتطلب الاشتراك بين الشريكين في كل ما لهما من الحقوق كإرث نقدي وركاز ولقطة، وما عليهما من الواجبات التي يلتزم بها كل واحد من دين بسبب التجارة واستقراض وضمان غصب وقيمة متلف وأرش (1) جناية على الدابة أو الثوب مثلاً ونحوها من مغارم الأموال (2) في قول أبي حنيفة ومحمد (3) .
وبعبارة أخرى: تنعقد شركة المفاوضة على أساس الاشتراك فيما يملكه كل شريك من مال يصح أن يكون رأس مال للشركة وهو النقود الحاضرة، مع تساوي جميع الشركاء في الربح وفي رأس المال، وعلى أن يعمل كل شريك في مال صاحبه مستبداً برأيه.
فإذا اختص أحد الشركاء فيها بملك مال يصلح أن يكون رأس مال لشركة العقد كالنقود لا تكون شركة مفاوضة، وإن عقدت بلفظها، لانعدام المساواة في المال، ولكن إذا اختص أحدهم بملك عَرْض أو دين على إنسان، أو بملك عقار لم يؤثر المملوك في صحتها؛ لأن كل ذلك لا يصلح أن تعقد عليه الشركة، فكان كاختصاص الشريك فيها بالزوجة (4) . فإذا استحق الشريك مالاً من إرث ونحوه، تفسد المفاوضة إذا كان المال نقوداً دراهم أو دنانير وتم قبضه فعلاً، أما إذا قبض عروضاً أو عقاراً فلا تفسد المفاوضة.
وقد أجاز الحنفية والزيدية هذه الشركة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا
__________
(1) الأرش: هو العوض المحدد شرعاً لما دون النفس بسبب الجناية على عضو مثلاً.
(2) لأن الجاني يملك المجني عليه بالضمان (رد المحتار: 371/3) .
(3) المبسوط: 153/11، 177، 189، فتح القدير: 5/5 ومابعدها، البدائع: 58/6، تبيين الحقائق: 313/3، مجمع الضمانات: 294، رد المحتار: 369/3، 372، مختصر الطحاوي: ص 106، بداية المجتهد: 251/2، الشرح الكبير: 351/3، مغني المحتاج: 212/2، المهذب: 346/1، المغني: 26/5، الفقه على المذاهب الأربعة: 89/3، الميزان: 82/1، المنتزع المختار: 354/3.
(4) حاشية الشلبي علي الزيلعي: 314/3، الشركات للأستاذ الخفيف: ص 58 وما بعدها.(5/528)
تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة» ، «فاوضوا فإنه أعظم للبركة» (1) ولأن الناس يتعاملون بها في سائر الأعصار من غير نكير من أحد. وأما الجهالة الحاصلة فيها وهي أنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس، والكفالة بمجهول، فإنها متحملة، لأنها تثبت تبعاً، والتصرف قد يصح تبعاً ولا يصح مقصوداً، كما هو الحال في المضاربة، فإنها تتضمن الوكالة بشراء مجهول الجنس.
وأما المالكية: فأجازوا شركة المفاوضة بغير هذا المعنى الذي ذكره الحنفية: وهو أن تعقد الشركة على أن يكون كل شريك مطلق التصرف في رأس المال استقلالاً، دون حاجة إلى أخذ رأي شركائه، حاضرين أم غائبين، بيعاً وشراء وأخذاً وعطاء وكراء واستكراء، وضماناً وتوكيلاً وكفالة وقراضاً وتبرعاً وغيرها مما تحتاج إليه التجارة من تصرف. ويلزم كل شريك بكل ما يعمله شريكه. ولا تكون إلا فيما تم العقد عليه من أموالهم، دون ما ينفرد به كل منهم من مال لم يدخله في الشركة.
أما إذا عقدت الشركة على ألا يستبد (ينفرد) أحد الشركاء بالتصرف في رأس المال، وليس له إلا أن يعمل مع شركائه جميعاً، فإنها حينئذ تسمى عندهم شركة عنان (2) .
وعلى هذا فشركة المفاوضة بمفهومها عند المالكية، لا خلاف فيها عند الفقهاء.
__________
(1) قال الحافظ الزيلعي عن هذا الحديث وما قبله: غريب أي لا أصل له، ثم حاول أن يجد أصلاً للحديث، فقال: أخرج ابن ماجه في سننه عن صهيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع» ثم قال الزيلعي: ويوجد في بعض نسخ ابن ماجه (المفاوضة) بدل (المقارضة) (راجع نصب الراية: 475/3) .
(2) الشركات في الفقه الإسلامي لأستاذنا المرحوم علي الخفيف: 34، الإفصاح: 25، القوانين الفقهية: 283، الشرح الكبير للدردير: 351/3، 359، الخرشي: 43/6.(5/529)
أما شركة المفاوضة بالمعنى الذي ذكره الحنفية والزيدية، فلا يجيزها الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، ولأن تحقق المساواة بالمعنى المطلوب في هذه الشركة أمر عسير، ولأن فيها غرراً كثيراً وجهالة لما فيها من الوكالة بالمجهول والكفالة به، فلم تصح كبيع الغرر. وبيان وجه الغرر فيه: هو أنه يلزم كل واحد منهما ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: «إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، فلا باطل أعرفه في الدنيا» وأما الحديث السابق فهو غير معروف، ولا رواه أصحاب السنن؛ بل إنه ليس فيه ما يدل على أنه أراد هذا العقد، فيحتمل أنه أراد المفاوضة في الحديث، ولهذا روي فيه: «ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان» (1) .
والواقع أن شركة المفاوضة بالمعنى المذكور عند الحنفية غير متيسرة الوجود، إن لم تكن متعذرة التحقيق (2) .
ثانياً ـ تعريف شركة الوجوه أو الشركة على الذمم:
هي أن يشترك وجيهان عند الناس، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن يشتريا في ذممهما بالنسيئة (أي بمؤجل) ، ويبيعا بالنقد، بما لهما من وجاهة عند
__________
(1) المراجع السابقة. قال الحنابلة: شركة المفاوضة الصحيحة: هي تفويض كل شريك إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمة، ومضاربة وتوكيلاً، ومسافرةً بالمال، وارتهاناً وضماناً، ما يرى من الأعمال، أويشتركان في كل ما يثبت لهما وعليهما إن لم يدخلا كسباً نادراً أو غرامة كوجدان لقطة أو ركاز وما يحصل من ميراث أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو أرش أو جناية وعارية ومهر (غاية المنتهى: 182/2، وانظر المغني: 26/5) . وقد تطلق شركة المفاوضة عند الحنابلة على أن يشترك الشريكان في جميع أنواع الشركة، مثل أن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان. فيصح ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده، فصح مع غيره. (انظر المغني: 25/5) .
(2) الشركات في الفقه الإسلامي، المرجع السابق: 61.(5/530)
الناس، فيقولا: اشتركنا على أن نشتري بالنسيئة ونبيع بالنقد، على أن ما رزق الله سبحانه من ربح أي (من فرق الأثمان) ، فهو بيننا على شرط كذا.
وسمي هذا النوع شركة الوجوه، لأنه لا يباع بالنسيئة إلا لوجيه من الناس عادة. وهي معروفة بالشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال.
وهي جائزة عند الحنفية والحنابلة والزيدية، لأنها شركة عقد تتضمن توكيل كل شريك صاحبه في البيع والشراء، وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بالشراء على أن يكون المشترى بينهما صحيح، فكذلك الشركة التي تتضمن ذلك. هذا بالإضافة إلى أن الناس تعاملوا بها في سائر الأعصار من غير إنكار من أحد. والخلاصة: أن ما اتفقا عليه يعد عملاً من الأعمال، فيجوز أن تنعقد عليه الشركة (1) .
وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية والليث وأبو سليمان وأبو ثور: إن هذه الشركة باطلة؛ لأن الشركة تتعلق بالمال أو بالعمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة (2) ، فلا يوجد مال مشترك بين الشركاء، مع ما فيها من الغرر إذ إن كل شريك يعاوض صاحبه بكسب غير محدد بصناعة، أو بعمل مخصوص، فلم يكن الربح نماء للمال، ولا مقابلاً للعمل، فلايستحق.
__________
(1) غاية المنتهى: 180/2، المغني: 12/5، البدائع: 57/6، فتح القدير: 30/5 ومابعدها، مجمع الضمانات: 303، المبسوط: 154/11. ويمكن اعتبار هذه الشركة صحيحة قانوناً على أساس أن رأس مالها هو مايشترى من السلع نسيئة.
(2) بداية المجتهد: 252/2، الخرشي: 55/6، ط ثانية، مغني المحتاج: 212/2، المهذب: 346/1، الميزان للشعراني: 83/1، القوانين الفقهية: 284.(5/531)
وبناء على الرأي الأول يصح تباين الشريكين في حصتهما في ملكية الشيء المشترى، فيصح أن يكون لأحدهما النصف أو أكثر من النصف، لحديث الرسول عليه السلام: «المسلمون على شروطهم» . وأما الربح فيكون بينهما على قدر الحصة في الملك، ولا يجوز أن يزيد أحدهما على ربح حصته شيئاً؛ لأن الربح في هذه الشركة يستحق بقدر ضمان ثمن السلع المشتراة (1) بالمال والعمل، والضمان يكون بقدر الحصة في الملك، فيكون الربح بقدر ذلك، فإن زاد الربح على مقدار الضمان، زاد بلا مقابل وهو لا يجوز.
وأما الخسارة: فهي على قدر ضمان كل من الشركاء اتفاقاً.
ثالثاً ـ تعريف شركة الأعمال أو الأبدان:
وهي أن يشترك اثنان على أن يتقبلا في ذمتهما عملاً من الأعمال، ويكون الكسب بينهما كالخياطة والحدادة والصباغة ونحوها، فيقولا: اشتركنا على أن نعمل فيه على ما رزق الله عز وجل من أجرة، فهو بيننا على شرط كذا، وهي المعروفة بشركة الحمالين وسائر المحترفة كالخياطين والنجارين والدلاّلين (السماسرة) ليكون بينهما كسبهما متساوياً أو متفاوتاً، سواء اتحدت حرفتهما كنجار ونجار، أو اختلفت كخياط ونجار. وتسمى شركة الصنايع وشركة التقبل وشركة الأبدان وشركة الأعمال. وهي اليوم شائعة في ورشة الحدادة أو النجارة ونحوهما، وتعتبر شركة التنقيب عن النفط وشركة التفريغ والشحن ونحوها من شركات الأعمال.(5/532)
وهي جائزة عند المالكية والحنفية والحنابلة والزيدية؛ لأن المقصود منها تحصيل الربح، وهو ممكن بالتوكيل، وقد تعامل الناس بها ولأن الشركة تكون بالمال، أو بالعمل كما في المضاربة، وهذا هنا عمل من الأعمال (2) . وقال ابن مسعود: «اشتركت أنا وعمار وسعد يوم بدر، فأصاب سعد أسيرين. ولم أصب أنا وعمار شيئاً، فلم ينكر النبي صلّى الله عليه وسلم علينا» (3) . فهذه شركة فيما يصيبون من سلَب في الحرب.
إلا أن المالكية يشترطون لصحة هذه الشركة اتحاد الصنعة وإن كان العمل بمكانين، فتجوز بين محترفي صنعة واحدة، ولا تجوز بين مختلفي الصنائع إلا إذا كان عَمَلا الشريكين متلازمين، بأن يتوقف وجود عمل أحدهما على وجود عمل الآخر كنساج وغزال. ويشترطون أيضاً لها الاتفاق في العقد على اقتسام الربح بقدر عمل كل من الشريكين، ولا يضر التبرع بعد ذلك، وتفسد الشركة إن شرطا التفاوت في الربح، ويكفي فيه التقارب عرفاً بين الربح والعمل، ولا يضر التفاوت اليسير في العمل مع كون الربح بينهما بالسوية.
ويرى الحنابلة جواز هذه الشركة حتى في المباحات كالحطب والحشيش ونحوهما، فتجوز عندهم فيما يشترك فيه الشريكان بأبدانهما من مباح كالاحتشاش والاصطياد والتلصص على دار الحرب، وأخذ سلَب قتلى الحرب، إلا أنهم قالوا: لا تصح شركة الدلالين.
وقال الشافعية والإمامية وزفر من الحنفية: هي شركة باطلة؛ لأن الشركة تختص عندهم بالأموال لا بالأعمال (4) ؛ لأن العمل لا ينضبط، فكان فيه غرر
__________
(1) أي أن كل شريك يعد ضامناً لحصة من الثمن بقدر مايخصه من الملك.
(2) البدائع: 57/6، 76، فتح القدير: 28/5، مختصر الطحاوي: 107، المبسوط: 154/11 ومابعدها، مجمع الضمانات: 303، رد المحتار: 380/3، بداية المجتهد: 252/2، المغني: 3/5، 11، الخرشي: 38/6، 51-53، الشركات للأستاذ الخفيف: 99، القوانين الفقهية: 284، غاية المنتهى: 180/2.
(3) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي عبيدة عن عبد الله، قال ابن تيمية في «منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار» عن هذا الحديث: «وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات» (راجع جامع الأصول: 108/6، نيل الأوطار: 265/5) .
(4) أبطل القانون المدني هذه الشركات لأنها لا تقوم على رأس مال، فلا يجوز أن يكون رأس مال الشركة عبارة عن مجرد أعمال الشركاء، وإنما يجب أن يتضمن جزءاً ما دياً.(5/533)
وعدم انضباط، إذ لا يدري أحدهما أن صاحبه يكسب أم لا، وربما قام أحد الشريكين بالعمل كله دون أن يقوم غيره بشيء، فيكون في ذلك غبن حين يتقاسم الشريكان ثمار العمل، ولأن كل واحد منهما متميز عن الآخر ببدنه ومنافعه، فيختص بفوائده، كما لو اشتركا في الاحتطاب والاصطياد وسائر المباحات، فإن ذلك لا يجوز حتى عند الحنفية؛ لأن الشركة مقتضاها الوكالة، ولا تصح الوكالة في تملك المباح، لأنه يملك بالاستيلاء (1) .
المطلب الثاني ـ شرائط شركة العقود
اشترط علماء الحنفية شروطاً في شركات العقود، منها ما هو عام لكل أنواع شركة العقود، ومنها ما هو خاص.
أولاً ـ الشروط العامة في شركات العقود:
يشترط لصحة شركات العقود شرائط هي (2) :
1 - قابلية الوكالة: وهي أن يكون التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة (3) ؛ لأن من حكم الشركة: ثبوت الاشتراك في الربح المستفاد بالتجارة، ولا يصير المستفاد بالتجارة مشتركاً بينهما، إلا أن يكون كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في بعض أموال الشركة، وعاملاً لنفسه في البعض الآخر. وبناء عليه
__________
(1) فتح القدير: 31/5، مغني المحتاج: 212/2.
(2) راجع فتح القدير مع العناية: 5/5 ومابعدها، البدائع: 58/6 وما بعدها، مغني المحتاج: 213/2، الخرشي: 39/6.
(3) هذا عند الحنفية احتراز عن الشركة في المباحات كالاحتشاش والاحتطاب والاصطياد، فإن الملك في هذه الحالات يقع لمن باشر سبب الملك بخصوصه. وأجاز الجمهور في الأظهر عند الشافعية التوكيل في تملك المباحات.(5/534)
تتطلب الشركة أن يأذن كل شريك لصاحبه في التصرف بالشراء والبيع وتقبل الأعمال، والوكيل هو المتصرف بإذن غيره. وبما أن الشركة على اختلاف أنواعها تتضمن معنى التوكيل، أي وكالة كل شريك عن صاحبه، فيشترط في الشركة قابلية الوكالة، وأن يكون كل شريك أهلاً للوكالة والتوكيل. ومالا يجوز التوكيل فيه عند الحنفية خلافاً للجمهور: هو الاستيلاء على المباحات.
2 - أن يكون الربح معلوم القدر بجزء محدد: أي بحيث تكون حصة كل شريك من الربح نسبة معلومة منه، كخمسه أو ثلثه أو عشرة في المئة، فإن كان الربح مجهولاً تفسد الشركة؛ لأن الربح هو المعقود عليه، وجهالة المعقود عليه تستوجب فساد العقد.
3 - أن يكون الربح جزءاً شائعاً في الجملة لا معيناً: فإن عينا ربحاً معيناً لأحدهما كعشرة أو مئة، كانت الشركة فاسدة؛ لأن العقد يقتضي تحقق الاشتراك في الربح، ومن الجائز ألا يتحقق الربح إلا في القدر المعين لأحد الشريكين، فكان التعيين منافياً لمقتضى عقد الشركة.
ثانياً ـ الشروط الخاصة بعقود شركات الأموال:
يشترط في شركات الأموال شروط خاصة بها، سواء أكانت الشركة عناناً أم مفاوضة، وهي (1) :
1 - أن يكون رأس مال الشركة عيناً حاضرة، إما عند العقد أو عند الشراء، وهو رأي جمهور الفقهاء: فلا يجوز أن يكون رأس المال ديناً ولا مالاً غائباً؛ لأن المقصود من الشركة الربح، وهو يتم بواسطة التصرف، والتصرف لا يمكن في
__________
(1) البدائع: 59/6 وما بعدها، غاية المنتهى: 166/2.(5/535)
الدين ولا في المال الغائب، فلا يتحقق المقصود من الشركة، ولأن المدين ربما لا يدفع الدين، وقد لا يحضر الغائب. وعلى هذا: لو دفع إنسان لآخر ألف درهم، وقال له: أخرج مثلها، واشتر بها وبع، فما ربحت يكون بيننا، فأخرج ألفاً واشترى بها، جاز، وإذن فالمهم هو حضور المال عند الشراء، ولا يشترط عند العقد؛ لأن الشركة تتم بالشراء، فيطلب الحضور عندئذ.
هل يشترط خلط المالين؟
قال الجمهور (وهم الحنفية والمالكية والحنابلة) (1) : لا يشترط خلط المالين، لأن الشركة يتحقق معناها بالعقد لا بالمال، ومورد العقد هو العمل، والربح نتيجته والمال تبع، فلا يشترط خلط المال كالمضاربة، ولأن الشركة عقد على التصرف، ففيها معنى الوكالة، والوكالة جائزة في المالين قبل خلطهما، فتجوز الشركة كذلك (2) ، فإن الشركاء إذا صرحوا بأن يشتري أحدهم بهذه الدراهم، والآخر بهذه الدنانير على أن المشترى بينهما صح.
إلا أن المالكية قالوا: إن عدم اشتراط اختلاط المالين لا يعني عزلهما من كل الوجوه، بل لا بد من أن يكون الخلط إما حساً أو حكماً، مثل أن يكون المالان في صندوق واحد، وأيديهما مطلقة عليهما.
__________
(1) مختصر الطحاوي: 107، فتح القدير: /24، البدائع: 60/6، المبسوط: 177/11، بداية المجتهد: 250/2، القوانين الفقهية: 283، المغني: 16/5، الخرشي: 41/6، ط ثانية، غاية المنتهى: 162/2.
(2) يلاحظ أنه لا محل لاشتراط خلط الأموال في التشريع الوضعي، لأن من آثار نشوء عقد الشركة وجود شخص اعتباري وهو الشركة، تنتقل إليه ملكية رأس المال جميعه (الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ الشيخ علي الخفيف: 46) .(5/536)
وقال زفر والشافعية والظاهرية والزيدية والإمامية: يشترط خلط المالين بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر، ولا بد من كون الخلط قبل العقد، فإن وقع بعده لم يكف في الأصح؛ لأن الشركة تعني الاختلاط، والاختلاط لا يتحقق مع تميز المالين، فلا يتحقق معنى الشركة، ولأن من أحكام الشركة أن الهلاك يكون من المالين، وإذا هلك أحد المالين قبل الخلط يهلك على صاحبه وحده، وهذا ليس من مقتضى الشركة (1) .
ويترتب على هذا الخلاف: أن الشركة تصح عند الجمهور إذا كان المالان من جنسين مختلفين كدراهم ودنانير، أو من جنس واحد لكن بصفتين مختلفتين كحنطة جديدة وحنطة عتيقة، أو بيضاء وسوداء، أو بيضاء وحمراء، إذ لا يشترط عندهم خلط المالين.
ولا يصح ذلك عند الشافعية وزفر، لإمكان التمييز وإن كان فيه عسر، لأنه يشترط خلط المالين خلطاً تاماً بحيث يتعذر التمييز بين المالين، وهو لا يتحقق في مختلفي الجنس أو الصفة.
قال ابن رشد المالكي: «والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم؛ لأن النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه» (2) .
2 - أن يكون رأس مال الشركة أثماناً مطلقة (3) أي نقوداً وهي الدراهم والدنانير في الماضي، والنقود المتداولة الآن. وهذا الشرط عند جمهور العلماء (4)
__________
(1) مغني المحتاج: 213/2،المهذب: 345/1، المنتزع المختار: 354/3.
(2) بداية المجتهد: 250/2.
(3) وهي التي لا تتعين بالتعيين.
(4) البدائع: 59/6، فتح القدير: 14/5، تبيين الحقائق: 316/3، مختصر الطحاوي: 107، المبسوط: 159/11 ومابعدها، مغني المحتاج: 213/2، المغني: 13/5ومابعدها، المهذب: 345/1، رد المحتار: 372/3، الخرشي: 40/6، ط ثانية.(5/537)
فلا تجوز الشركة في العروض (1) من عقار أو منقول، لأنها ليست من ذوات الأمثال، وإنما هي من ذوات القيمة التي تختلف باختلاف أعيانها، والشركة فيها تؤدي إلى جهالة الربح عند قسمة مال الشركة؛ لأن رأس المال يتكون من قيمة العروض لا عينها، والقيمة مجهولة؛ لأنها تعرف بالحزر والظن، وهو يختلف باختلاف التقويم، فيصير الربح مجهولاً؛ فيؤدي إلى المنازعة عند القسمة. ثم إن الشركة تتضمن الوكالة، والوكالة لا تصح في العروض، فلو قال شخص لغيره: بع عرضك (أي متاعك أو دارك) على أن يكون ثمنه بيننا، لا يجوز إذ الولاية عليه له وحده دون غيره، أما لو قال: اشتر بألف درهم من مالك على أن ما اشتريته يكون بيننا، وأنا أشتري بألف درهم من مالي على أن ما أشتري يكون بيننا، جاز؛ لأن الشركة تكون في النقود.
وقال الإمام مالك: لا يشترط كون رأس مال الشركة نقداً، وإنما تصح الشركة في الدراهم والدنانير، كما تصح في العروض سواء اتفقا جنساً أو اختلفا، وتكون الشركة في العروض مقدرة بقيمتها، ودليله أن الشركة عقدت رأس مال معلوم، فأشبه النقود (2) .
ويترتب على هذا الشرط عند الحنفية في الرواية الراجحة، وعند الحنابلة: أنه لا تصح الشركة في التبر (أي ما لم يضرب من الذهب والفضة) والنُقرة (أي القطعة المذابة من الذهب أو الفضة) بناء على أنه كالعروض.
أما في الرواية الأخرى عند الحنفية فتجوز الشركة فيه؛ لأنه كالأثمان المطلقة، والمدار على تعامل الناس به، فإذا تعاملوا به فحكمه حكم النقود، وإن لم يتعاملوا
__________
(1) قال في القاموس: العرض (أي بسكون الراء) : المتاع، ويحرك أي يفتح الراء.
(2) الشرح الكبير: 349/3، بداية المجتهد: 249/2.(5/538)
به فحكمه حكم العروض. وأما الشافعية فقد أجازوا الشركة فيه؛ لأنهم عدوه من المثليات (1) .
وأما الفلوس (2) : فلا تجوز الشركة فيها في الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لأنها إذا كانت كاسدة فهي كالعروض، وإن كانت نافقة (أي رائجة) فهي ليست أثماناً مطلقة عندهما (أي لا تلازمها صفة الثمنية) لأنها تتعين بالتعيين في الجملة، وتصير مبيعاً باصطلاح العاقدين. وإذا لم تكن أثماناً مطلقة لاحتمالها التعيين بالجملة في عقود المعاوضات، لم تصلح رأس مال الشركة كسائر العروض. وهذا هو رأي الشافعية والحنابلة وابن القاسم من المالكية؛ لأنها تنفق مرة وتكسد مرة أخرى فأشبهت العروض.
وقال محمد: يصح أن تكون الفلوس الرائجة رأس مال الشركة؛ لأنها بحسب الأصل عنده تعتبر من الأثمان المطلقة، لأن الثمنية لازمة لها (3) .
وأما الشركة في المثليات التي ليست بأثمان مطلقة من المكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض: فتصح الشركة فيها عند الشافعية والمالكية؛ لأن الشافعية جعلوا العدديات المتقاربة من المثليات فتصح الشركة فيها على الأظهر عندهم؛ ولأن المكيل أو الموزون إذا اختلط بجنسه ارتفع التمييز بينهما، فأشبه النقدين. وأما المالكية فأجازوا الشركة فيها بحسب قيمتها عند الخلط، لا قيمتها عند البيع، كما في العروض؛ لأن خلط الطعامين مثلاً يجعل من المتعذرفصلهما بخلاف العروض، فإنه يمكن تمييز كل عرض عن غيره (4) .
__________
(1) المراجع السابقة عند الحنفية.
(2) الفلوس جمع فلس وهو قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها.
(3) البدائع: 59/6، المغني: 15/5، المبسوط للسرخسي: 160/11، رد المحتار: 372/3، غاية المنتهى: 166/2.
(4) مغني المحتاج: 213/2، الشرح الكبير: 349/3.(5/539)
وقال الحنابلة: لا تجوز الشركة في ظاهر المذهب في المكيل والموزون والعدديات المتقاربة، كما لا تجوز في سائر العروض (1) .
وقال الحنفية والشيعة الإمامية والزيدية: لا تجوز الشركة في المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة قبل الخلط؛ لأنها إنما تتعين بالتعيين إذا كانت عيناً، فكانت كالعروض، فهي ليست أثماناً مطلقة، مع العلم بأن شرط جواز الشركة أن يكون رأس المال مما لا يتعين بالتعيين، فلو قال شخص لغيره: بع حنطتك على أن يكون ثمنها بيننا لم يجز، وأما بعد الخلط: فإن كانت الشركة في جنسين مختلفين كالحنطة والأرز والشعير فلا تجوز، وإن كانت من جنس واحد فلاتصح أيضاً عند أبي يوسف، وإنما تصير شركة أملاك.
وقال أبو حنيفة ومحمد: تصح الشركة فيها بعد الخلط، فيكون مذهب الحنفية قريباً من مذهب الشافعية.
وتظهر فائدة الخلاف عند التساوي في المالين واشتراط التفاضل في الربح، بأن كان المكيل نصفين بين شريكين، ولكنهما شرطا أن يكون الربح أثلاثاً، فخلطاه، واشتريا به، فعلى قول أبي يوسف: يكون الربح بينهما على قدر المالين نصفين. وعلى قول محمد: يكون الربح بحسب ما شرطا.
وجه قول أبي يوسف: هو أنه متمشٍ مع الأصل الذي بنى عليه الحنفية عدم جوازالشركة في المكيلات والموزونات ونحوها قبل الخلط: وهو أنها ليست أثماناً مطلقة على كل حال، بل قد تكون تارة ثمناً، وتارة مبيعاً؛ لأنها تتعين بالتعيين في الجملة فكانت كالفلوس، وشرط جواز الشركة ألا يكون رأس المال مما يتعين بالتعيين.
ووجه قول محمد: هو أن معنى الوكالة التي تتضمنها الشركة ثابت في هذه الأشياء بعد الخلط، فأشبهت الدراهم والدنانير، بخلاف ما قبل الخلط؛ لأن الوكالة التي هي من مقتضيات الشركة لا تصح في هذه الأشياء قبل الخلط.
__________
(1) المغني: 13/5 وما بعدها.(5/540)
والحيلة عند أبي يوسف في جواز الشركة بهذه الأشياء: أن يخلط المالان حتى تصير شركة ملك بينهما، ثم يعقدا عليهما عقد الشركة (1) .
ثالثاً ـ الشروط الخاصة بشركة المفاوضة:
اشترط الحنفية شروطاً خاصة بشركة المفاوضة وهي (2) :
1 - أن يكون لكل من الشريكين أهلية الوكالة والكفالة: بأن يكونا حرين بالغين عاقلين راشدين؛ لأن من أحكام المفاوضة أن ما يلزم أحدهما من الحقوق والواجبات فيما يتجران فيه يلزم الآخر، ويكون كل واحد منهما فيما وجب على صاحبه بمنزلة الكفيل عنه، كما أنه يكون كل واحد منهما فيما وجب لصاحبه بمنزلة الوكيل.
2 - المساواة في رأس المال قدراً وقيمة ابتداء وانتهاء، في الرواية المشهورة: فلو كان المالان متفاضلين قدراً لم تكن مفاوضة؛ لأن المفاوضة تنبئ عن المساواة فلابد من اعتبار المساواة فيها ما أمكن. وإذا كان المالان متفاضلين قيمة في الرواية المشهورة، كأن تفاضل النقدان في قيمة الصرف لم تجز المفاوضة؛ لأن زيادة القيمة بمنزلة زيادة في الوزن، فلا تثبت المساواة التي هي من مقتضى العقد.
__________
(1) انظر البدائع: 60/6، فتح القدير: 16/5، المبسوط: 161/11 وما بعدها.
(2) انظر البدائع: 60/6 وما بعدها، رد المحتار على الدر المختار: 369/3 وما بعدها.(5/541)
3 - أن يكون كل ما يصلح أن يكون رأس مال للشركة لأحد المتفاوضين داخلاً في الشركة (1) : فإن لم يكن داخلاً في الشركة لم تكن مفاوضة؛ لأن ذلك يتنافى مع مبدأ المساواة. أما ما لا تصلح فيه المفاوضة كالعروض والعقارات والديون والأموال الغائبة، فلا تلزم المشاركة فيه كالتفاضل في الزوجات والأولاد.
ولا تشترط المجانسة في المال ما دامت القيمة متحدة خلافاً للزيدية. وعليه إذا كان رأس مال أحدهما ذهباً ورأس مال الآخر فضة، وهما متساويان قيمة، صحت المفاوضة على أشهر الروايتين. كذلك لا يشترط كما ذكر اختلاط المالين خلافاً لزفر.
4 - المساواة في الربح في المفاوضة: فإن شرطا التفاضل في الربح لم تكن مفاوضة لعدم المساواة.
5 - أن تكون المفاوضة في جميع التجارات المباحة: فلا يختص أحد الشريكين بتجارة دون شريكه؛ لأن في الاختصاص إبطالاً لمعنى المفاوضة: وهو المساواة. وعلى هذا: يفهم سبب اشتراط أبي حنيفة ومحمد أن تكون المفاوضة بين مسلمين، فلا تصح بين مسلم وكافر؛ لأن الكافر الذمي مثلاً يختص بتجارة لا تجوز للمسلم: وهي تجارة الخمر والخنزير.
وقال أبو يوسف: تجوز المفاوضة بين مسلم وكافر، لاستوائهما في أهلية الوكالة والكفالة.
6 - أن تكون الشركة بلفظ المفاوضة: لأن للمفاوضة شرائط لا يجمعها إلا لفظ المفاوضة أو عبارة أخرى تقوم مقامها.
هذه هي شروط شركة المفاوضة، فإذا فقد شرط منها انقلبت الشركة عناناً؛ لأن شركة العنان
__________
(1) قال في كنز الدقائق والدر المختار: تبطل المفاوضة إن وهب لأحد الشريكين أو ورث ماتصح فيه الشركة، ووصل إلى يده وهو النقدان، لفوات المساواة فيما يصلح رأس مال، إذ المساواة في هذه الشركة شرط عند ابتدائها وفي حال استمرارها (تبيين الحقائق: 316/3، الدر المختار ورد المحتار: 372/3) .(5/542)
لا تتطلب هذه الشروط (1) .
فلا يشترط في شركة العنان أهلية الكفالة، فتصح ممن لا تصح منه الكفالة، كالصبي المأذون بالتجارة، ولا المساواة في رأس المال، فتجوز مع تفاضل الشريكين في رأس المال، وأن يكون لأحدهما مال آخر لم يدخل في عقد الشركة.
ولا يشترط أن تكون في عموم التجارات، فتجوز أن تكون عامة أو خاصة ببعض أنواع التجارة كالحبوب والأقمشة والحديد ونحوها، كما أنها تجوز بين المسلم والذمي؛ لأنه لا تشترط المساواة في شركة العنان.
كما لا يشترط التساوي في الربح، فيجوز تفاضلهما وتساويهما فيه.
قال أستاذ نا الشيخ علي الخفيف: والواقع أن شركة المفاوضة على ما ذهب إليه الحنفية والزيدية لا تعد شركة واقعية، وليس لوجودها بقاء إذا ما وجدت، فإن اشتراط تساوي أموال الشركاء في القيمة، وعدم اختصاص كل شريك بمال يصلح أن يكون رأس مال للشركة في جميع مراحل وجودها لا يبقي عليها زمناً طويلاً. فإن استمرار كل شريك على ما كان له من نقود عند تكوينها وعدم زيادتها بعد ذلك، أمر يكاد أن يكون أمراً عسيراً (2) .
رابعاً ـ شروط شركة الأعمال:
إذا كانت شركة الأعمال مفاوضة، فيشترط فيها شرائط المفاوضة السابق ذكرها، مثل أهلية الكفالة، والتساوي في الأجر، ومراعاة لفظ المفاوضة.
أما إذا كانت الشركة عناناً، فلا يشترط لها شيء من شروط المفاوضة وإنما تشترط أهلية الوكالة فقط. قال أبو حنيفة: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة، ومالا تجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة.
وإذا احتاجت الصنعة إلى استعمال آلة، فاستعملها أحد الشريكين فلا يؤثر ذلك في ثبوت الشركة، وهذا بشرط ألا يكون من عمله إجارتها لغيره. أما إذا أجرها فإن أجرتها تكون له خاصة، لا مشتركة، لأنها مقابل استعمال آلة مملوكة له، فكانت مختصة به. وبناء عليه تفسد الشركة بين رجلين لأحدهما بغل وللآخر بعير على أن يؤجرهما، كما سيذكر في بحث الشركة الفاسدة، وهذا ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة (3) .
خامساً ـ شروط شركة الوجوه:
إذا كانت شركة الوجوه مفاوضة، فيشترط أن يكون الشريكان من أهل الكفالة، وأن يلتزم كل منهما بنصف ثمن الشيء المشترى، وأن يكون المشترى بينهما نصفين، وأن يكون الربح بينهما نصفين، وأن يتلفظا بلفظ المفاوضة؛ لأن هذه الشركة قائمة على المساواة التامة بين الشريكين.
__________
(1) البدائع: 62/6، رد المحتار: 373/3.
(2) الشركات في الفقه الإسلامي: 63.
(3) البدائع: 63/6 ومابعدها، المغني: 6/5.(5/543)
وأما إذا كانت الشركة عناناً، فلا تشترط الشروط المذكورة في المفاوضة، فيصح تفاضلهما في الشيء المشترى، ويكون التزامهما بثمن المشترى على قدر ملكيهما، كما يكون الربح بينهما على قدر تحملهما ثمن المشترى، فإذا شرط لأحدهما زيادة ربح على حصته يكون الشرط باطلاً؛ لأن الربح يتقدر بقدر ضمانهما ثمن المشترى (1) .
المطلب الثالث ـ أحكام شركة العقود
شركة العقود إما أن تكون صحيحة أو فاسدة.
فإن كانت فاسدة: وهي التي اختل فيها شرط من شرائط الصحة السابق ذكرها، فلا تفيد شيئاً مما سيذكر في أحكام الشركة (2) الصحيحة.
وفي الجملة قال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن فسدت الشركة يقتسمان الربح على قدر رأس أموالهما، ويرجع كل شريك على الآخر بأجرة عمله في ماله؛ لأن المسمى يسقط في العقد الفاسد (3) .
وأما الشركة الصحيحة: وهي التي استوفت شروط صحتها، فيعرف حكمها بحسب كل نوع من أنواع الشركة، كما يتبين مما يأتي.
أولاً ـ أحكام شركة العنان في الأموال:
1 - شرط العمل: يجوز في شركة العنان أن يشترط الشريكان العمل عليهما أو على أحدهما دون الآخر، كأن يشترط على أن يبيعا ويشتريا على أن ما رزق الله من التجارة فهو بينهما على شرط كذا، أو أن يبيع ويشتري أحدهما دون الآخر.
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: 65.
(2) البدائع: 77/6.
(3) مغني المحتاج: 215/2، المغني: 17/5، فتح القدير: 33/5، تبيين الحقائق: 323/3، غاية المنتهى: 169/2 ومابعدها.(5/544)
2 - توزيع الربح: وأما الربح فيكون على قدر رأس المال متساوياً أو متفاضلاً، فإن كان رأس المال متساوياً بينهما (أي مناصفة) يكون الربح بينهما متساوياً، سواء شرط العمل عليهما أو على أحدهما؛ لأن استحقاق الربح عند الحنفية إما بالمال أو بالعمل أو بالتزام الضمان (1) ، وقد وجد التساوي في رأس المال، فينبغي التساوي في الربح.
ويصح أيضاً عند الحنفية ما عدا زفر أن يتفاضل الشريكان في الربح حالة التساوي في رأس المال، بشرط أن يكون العمل عليهما أو على الذي شرط له زيادة الربح؛ لأن الربح كما قالوا يستحق إما بالمال أو بالعمل أو بالضمان، وزيادة الربح في هذه الحالة كانت بسبب زيادة العمل؛ لأنه قد يكون أحد الشريكين أحذق وأهدى وأكثر عملاً وأقوى، فيستحق زيادة ربح على حساب شريكه، لحديث: «الربح على ما شرطا، والوضعية على قدر المالين» (2) .
وإن شرط العمل على أقلهما ربحاً، فلا تجوز الشركة؛ لأنه شرط لأحد الشريكين زيادة ربح بغير عمل ولا ضمان، والربح لا يستحق إلا بمال أو عمل أو ضمان. وكذلك لا تصح الشركة إذا شرط جميع الربح لأحد الشريكين، ويلاحظ أنه ليس المراد بالعمل وجوده، وإنما يكفي شرط العمل (3) .
__________
(1) أما استحقاقه بالمال فلأنه يعد نماء للمال. وأما استحقاقه بالعمل في المال فلأنه شبيه بالأجرة، لأنه جزاء العمل وناتج عنه. وأما استحقاق الربح بالضمان فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «الخراج بالضمان» أي مستحق بسببه، فإذا صار المال مضموناً على الشريك بسبب من الأسباب التي توجب ضمانه، وأصبح غير أمين فيه، فإن جميع الربح يكون له لضمانه إياه، لأنه خراج المال. ويعرف استحقاق الشريك من الربح بهذه الأسباب بالشرط.
(2) أي الخسارة في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله. قال الحافظ الزيلعي عن هذا الحديث: غريب جداً (أي لا أصل له) ويوجد في بعض كتب الأصحاب من قول علي (راجع نصب الراية: 475/3) .
(3) فتح القدير: 21/5، البدائع: 62/6 ومابعدها، تبيين الحقائق: 318/3.(5/545)
ورأي الحنابلة والزيدية كالحنفية: يجوز أن يتفاضل الشريكان في الربح (1) . وأما الخسارة فهي على قدر رأس المال باتفاق المذاهب.
وقال المالكية والشافعية والظاهرية والإمامية وزفر من الحنفية: يشترط لصحة شركة العنان أن يكون الربح والخسران على قدر المالين، أي نسبتهما؛ لأن الربح نماء مالهما والخسران نقصان ما لهما، فكانا على قدر المالين، أي أن الربح يشبه الخسران، فكما أنه لو اشترط أحد الشريكين أن يتحمل فقط جزءاً من الخسران لم يجز، كذلك إذا اشترط جزءاً من الربح زائداً عن رأس ماله لا يجوز، فكان الربح والخسران تابعين للمال. ويترتب عليه أنه لو شرط الشريكان التفاضل في الربح والخسران مع تساوي المالين، أو التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم يصح، كما لو شرط أن يكون الربح لأحدهما (2) .
3 - هلاك مال الشركة: قال الحنفية والشافعية: إذا هلك مال الشركة أو أحد المالين قبل الشراء وقبل الخلط، بطلت الشركة؛ لأن المعقود عليه في عقد الشركة هو المال، وقد تعينت الشركة فيه، وإذا هلك المعقود عليه يبطل العقد، كما في البيع. هذا إذا هلك المالان. وأما بطلان العقد حال هلاك أحد المالين، فلأن الشريك الذي لم يهلك ماله، ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا ليشركه في ماله، فإذا فات المقصود لم يكون راضياً بشركته، فيبطل العقد لعدم فائدته، وأي مال هلك يهلك من مال صاحبه. وهذا بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة.
__________
(1) المغني: 27/5، المنتزع المختار: 359/3، غاية المنتهى: 165/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 284، بداية المجتهد: 250/2، مغني المحتاج: 216/2. المهذب: 346/1.(5/546)
وإن اشترى أحد الشريكين بماله، وهلك مال الآخر بعد الشراء، فيكون ما اشتراه بينهما؛ لأنه اشتراه حالة قيام الشركة، فيصبح مملوكاً للشريكين، فهلاك المال بعدئذ لا يغير حكم المالك، وإذا وقع المشترى على الشركة يرجع الشريك على شريكه بحصته من الثمن، لأنه اشترى نصفه بوكالته، ونقد الثمن من مال نفسه (1) .
وقال المالكية والحنابلة: تنشأ الشركة بمجرد العقد ويصير به رأس المال مشتركاً بين الشركاء. فإذا هلك أحد المالين قبل الخلط أو قبل التصرف يهلك على حساب الشركاء (2) .
4 - التصرف بمال الشركة: لكل واحد من شريكي العنان أن يبيع مال الشركة؛ لأنهما بعقد الشركة أذن كل واحد لصاحبه ببيع مال الشركة، ولأن الشركة تتضمن الوكالة، فيصير كل واحد من الشريكين وكيلاً عن صاحبه بالبيع.
ولكل شريك أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة (أي بالدفع حالاً أو مؤجلاً) لأنه وجد الإذن بالبيع مطلقاً بمقتضى الشركة، ولأن الشركة تنعقد على عادة التجار، ومن عادتهم البيع نقداً ونسيئة.
ولا يجوز البيع نسيئة عند الشافعية. وعند الحنابلة فيه روايتان، أرجحهما أنه يجوز البيع نسيئة (3) .
وللشريك أن يبيع بقليل الثمن وكثيره إلا بما لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن المقصود من العقد وهو الاسترباح لا يحصل به، فكان مستثنى من العقد دلالة.
__________
(1) فتح القدير: 23/5، المبسوط: 167/11.
(2) غاية المنتهى: 166/2.
(3) غاية المنتهى: 167/2، مغني المحتاج: 214/2.(5/547)
وللشريك أيضاً أن يشتري بالنقد وبالنسيئة إذا كان في يده نقود (دراهم أو دنانير) أو مكيل أو موزون، فاشترى بالدراهم والدنانير شيئاً نسيئة، أو اشترى بالمكيل أو الموزون شيئاً نسيئة؛ لأن الشريك وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الشراء بالنسىئة، ولأنه يمكنه حينئذ وفاء الثمن مما تحت يده من هذا المال في الحال.
فإن لم يكن في يده دراهم ولا دنانير، وصار رأس مال الشركة كله أعياناً وأمتعة، فاشترى بدراهم أو بدنانير شيئاً نسيئة، فيكون المشترى له خاصة دون شريكه؛ لأنه لو صح في حق شريكه صار مستديناً على مال الشركة، والشريك لايملك الاستدانة على مال الشركة من غير أن يؤذن له بها، كالشريك المضارب؛ لأنه يصير رأس مال الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه، فلا يجوز من غير رضاه (1) .
وأذكر هنا أهم أنواع التصرفات:
آـ إبضاع مال الشركة وإيداعه: للشريك أن يبضع (2) مال الشركة؛ لأن الشركة تنعقد على عادة التجار، والإبضاع من عاداتهم، ولأن له أن يستأجر على العمل في البضاعة بأجر، فيكون الإبضاع أولى، إذ أن من يملك الأعلى يملك الأدنى، وللشريك أيضاً أن يودع مال الشركة؛ لأن الإيداع من عادة التجار، ومن ضرورات التجارة أيضاً.
__________
(1) البدائع: 68/6، رد المحتار: 377/3.
(2) أي أن يدفع مالاً من الشركة لمن يشتري به بضاعة من بلد كذا بدون جُعْل (الشرح الكبير للدردير: 352/2، 521، غاية المنتهى: 166/2) قال ابن عابدين في رد المحتار: 377/3: في القاموس: الباضع: الشريك اهـ. والمراد هنا دفع المال لآخر ليعمل فيه على أن يكون الربح لرب المال ولا شيء للعامل. وعرف الشافعية الإبضاع بتعريف أوضح مما سبق: وهو بعث المال مع من يتجر فيه متبرعاً. والبضاعة: المال المبعوث (راجع مغني المحتاج: 312/2) . انظر أحكام المباضعة في مجمع الضمانات: ص 313.(5/548)
وخالف الشافعية في ذلك، وللحنابلة في جواز الإبضاع روايتان.
ب ـ المضاربة بمال الشركة: وللشريك أن يدفع المال إلى شخص للمضاربة فيه، وهو ظاهر الرواية عند الحنفية والأصح؛ لأن الشريك يملك أن يستأجر أجيراً يعمل في مال الشركة، فلأن يملك الدفع مضاربة أولى؛ لأن الأجير يستحق الأجر، سواء حصل في الشركة ربح أم لم يحصل، والمضارب لا يستحق شيئاً بعمله إلا إذا كان في المضاربة ربح، فلما ملك الاستئجار فلأن يملك الدفع مضاربة أولى.
جـ ـ التوكيل بالبيع وبالشراء: وللشريك أن يوكل بالبيع؛ لأن التوكيل دون المضاربة، كما له أن يوكل بالشراء؛ لأن التوكيل بالبيع والشراء من أعمال التجارات، إذ التاجر لا يمكنه مباشرة جميع التصرفات بنفسه، فيحتاج إلى التوكيل، فكان التوكيل من ضرورات التجارة.
د ـ الرهن والارتهان: وله بإذن شريكه أن يرهن متاعاً من الشركة بدين وجب بعقد مارسه وهو الشراء، وأن يرتهن بما باعه؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاؤه، وأنه يملك الإيفاء والاستيفاء (1) .
هـ ـ الحوالة بثمن البضاعة: وله أن يقبل الحوالة بالثمن وأن يحيل؛ لأن الحوالة من أعمال التجارة؛ لأن التاجر يحتاج إليها لاختلاف الناس في الغنى والإعسار، فكانت الحوالة وسيلة إلى الاستيفاء، فكانت في معنى الرهن في التوثق للاستيفاء.
وـ الالتزام بحقوق العقد: كل ما يتعلق بحقوق العقد من القبض وتسليم
__________
(1) فتح القدير: 26/5، رد المحتار على الدر المختار: 378/3.(5/549)
المبيع والخصومة (1) يلتزم بها الشريك الذي مارس العقد دون شريكه، فلو باع أحدهما شيئاً لم يكن للآخر أن يقبض شيئاً من الثمن، وكذلك كل دين لزم إنساناً بعقد مارسه أحدهما ليس للآخر قبضه، وللمدين أن يمتنع عن دفعه إليه؛ لأن القبض من حقوق العقد، وهي متعلقة بالعاقد، وليس لأحد الشريكين أن يخاصم في أمر صدر من شريكه كبيع أو إدانة؛ لأن الخصومة من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالعاقد. ولو اشترى أحدهما شيئاً لا يطالب الآخر بالثمن، وليس للشريك قبض المبيع لما ذكر.
ز ـ السفر بمال الشركة: أما السفر بمال الشركة فيجوز عند أبي حنيفة ومحمد في أصح الروايات والمالكية والحنابلة؛ لأن الإذن بالتصرف يثبت بمقتضى الشركة، والشركة صدرت مطلقة عن المكان، والمطلق يجري على إطلاقه إلا لدليل. وعند أبي يوسف والشافعي: لا يجوز له السفر إلا بإذن شريكه، لأن السفر له خطر، فلا يجوز في ملك الغير إلا بإذنه.
ح ـ التبرع بمال الشركة أو الإقراض: ليس لأحد الشريكين أن يهب شيئاً من مال الشركة؛ لأن الهبة تبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه، كما ليس له أن يقرض شيئاً من مال الشركة؛ لأن القرض لا عوض له في الحال، فهو بمثابة التبرع، وهو لا يملك التبرع على شريكه (2) .
وخلاصة كلام الشافعية: أن الشريك يتصرف بلا ضرر كالوكيل، فلا يبيع
__________
(1) أي كل ما يتعلق بالدعوى التي تثار لدى القضاء بسبب منازعة تنشأ من العقد.
(2) انظر هذه الأحكام التي ذكرت في المبسوط: 174/11 ومابعدها، تبيين الحقائق: 320/3، فتح القدير: 25/5 وما بعدها، البدائع: 68/6-72، مجمع الضمانات: ص298 ومابعدها، رد المحتار: 377/3 ومابعدها، انظر أيضاً الشرح الكبير عند المالكية:352/2، الخرشي: 43/6، بداية المجتهد: 253/2، وعند الحنابلة: غاية المنتهى: 167/2، وعند الشافعية: مغني المحتاج: 214/2.(5/550)
نسيئة بسبب الغرر، ولا بغير نقد البلد، ولا بغبن فاحش ولا يسافر بالمال ولا ببعضه بغير إذن؛ لأن الشركة في الحقيقة توكيل وتوكل.
ثانياً ـ أحكام شركة المفاوضة في الأموال:
إن كل ما ذكرمن الأحكام مما يجوز لأحد شريكي العنان أن يفعله، يجوز لأحد شريكي المفاوضة أن يفعله، وإذا فعله فهو جائز على شريكه؛ لأن المفاوضة أخص من العنان، وكذلك كل ما كان شرطاً لصحة العنان فهو شرط لصحة المفاوضة، وكل ما فسدت به شركة العنان تفسد به شركة المفاوضة؛ لأن المفاوضة عنان وزيادة.
أما الأحكام الخاصة بشركةالمفاوضة فهي ما يأتي (1) :
1 - الإقرار بالدين:
يختص شريك المفاوضة بأنه يجوز إقراره بالدين على نفسه وعلى شريكه ويطالب المقر له أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن الآخر فيلزم المقر بإقراره ويلزم شريكه بكفالته. وكذلك يختص بجواز الرهن والارتهان على شريكه بدون إذن شريكه، خلافاً لما هو مقرر في شركة العنان.
2 - الالتزام بديون التجارة وما في معناها:
ويختص أيضاً بأن كل ما وجب على كل واحد منهما من دين التجارة أو ما في معنى التجارة يجب على الآخر تحقيقاً للمساواة بينهما، وذلك كالالتزمات الثابتة بسبب عقود التجارة كثمن المبيع في البيع الصحيح، وقيمته في البيع الفاسد،
__________
(1) المبسوط: 203/11 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 107، البدائع: 72/6 ومابعدها، فتح القدير: 9/5 ومابعدها، 26، رد المحتار: 369/3، 378، مجمع الضمانات: ص 297.(5/551)
وأجرة الشيء المأجور، أو ما في معنى التجارة كضمان الشيء المغصوب، وضمان الودائع والعواري (1) بسبب مخالفة طلب المودع في كيفية الحفظ، وضمان الاستهلاكات والإجارات والرهن والارتهان.
والسبب في التزام كل شريك بدين التجارة: هو أنه دين بسبب الشركة؛ لأن من مقتضيات عقد الشركة وجود البيع أو التجارة، وكل شريك منها كفيل عن صاحبه فيما يلزمه بسبب الشركة. وأما ضمان الغصب فلأنه في معنى ضمان التجارة، لأن تقرر الضمان فيه يفيد تملك الشيء المضمون، فكان في معنى ضمان البيع. وأما المخالفة في الودائع والعواري والإجارات ونحوها فضمانها في معنى ضمان الغصب، لأنه من باب التعدي على مال الغير بغير إذن مالكه.
3 - الالتزام بالكفالة المالية:
ويلتزم كل شريك بما يقوم به أحدهما من كفالة مالية عن شخص أجنبي عند أبي حنيفة؛ لأن الكفالة وإن كانت تبرعاً في مبدأ الأمر، فهي في النتيجة معاوضة لوجود معنى التمليك والتملك بين الكفيل والمكفول عنه، فيرجع الكفيل عن المكفول عنه بما كفل إذا كانت الكفالة بطلب منه.
وقال الصاحبان: الكفالة لا تلزم الشريك، لأنه تبرع بدليل أنها لا تصح من الصبي، وتعتبر من ثلث التركة فقط إذا صدرت من الكفيل في حالة مرضه.
4 - المطالبة بحقوق عقد البيع والشراء:
ويطالب كل شريك بكل ما يتعلق بحقوق عقد البيع والشراء، فلو اشترى أحد الشريكين شيئاً يطالب الآخر بالثمن، كما يطالب المشتري نفسه، وله أن
__________
(1) جمع عارية.(5/552)
يقبض المبيع كما للمشتري نفسه، وله أن يرد المبيع على البائع إذا وجد فيه عيباً، وله حق المطالبة بالثمن عند استحقاق المبيع لغير البائع، وله إقامة البينة عند حصول منازعة على شيء، كما له أن يحلف الطرف المتنازع معه في حالة إنكاره العيب على عدم علمه به.
5 - ضمان الجناية على الإنسان والمهر ونحوه والنفقة ونفقات المنزل:
أما أرش (1) الجنايات على الآدمي، والمهر، والنفقة، وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، فلا يؤاخذ بها الشريك؛ لأن هذه الديون بدل عما لا يصح الاشتراك فيه، فلا يلزم إلا المباشر لسببها؛ لأن كل واحد لم يلتزم عن صاحبه بالعقد إلا بديون التجارة، وهذه الأشياء ليست متعلقة بالتجارة ولا بما في معنى التجارة، لعدم وجود معنى معاوضة المال بالمال.
وكذلك كل ما يشتريه أحد الشريكين من طعام لأهله أو كسوة أو ما لا بد منه، ويشمل شراء بيت للسكنى، واستئجار للسكنى أو للركوب لحاجته كالحج وغيره، فهو كله جائز، وهو له خاصة استحساناً للضرورة؛ لأن ذلك مما لا بد منه، فكان مستثنى من المفاوضة، لأن المعلوم بدلالة الحال كالمشروط بالمقال. لكن للبائع أن يطالب بثمن المشتريات أي شريك شاء، وإن وقع المشترى للذي اشتراه خاصة، لأن هذا ما يجوز فيه الاشتراك، وكل واحد من الشريكين كفيل عن الآخر ببدل ما يجوز فيه الاشتراك، إلا أنهم قالوا: إن الشريك يرجع على شريكه بما أدى بقدر حصته؛ لأنه قضى ديناً عليه من مال مشترك بينهما لا على وجه التبرع بإذنه دلالة.
ومقتضى القياس أن يكون ما اشتراه أحد الشريكين من الطعام والكسوة والإدام لأهله مشتركاً بينهما؛ لأن هذه من عقود التجارة، فكانت من جنس ما يتناوله عقد الشركة.
__________
(1) أي دية الجراحات، وقد سبق شرح ذلك.(5/553)
ثالثاً ـ أحكام شركة الوجوه:
الشريكان في شركة الوجوه مفاوضة أوعناناً فيما يجب لهما وما يجب عليهما وما يجوز فيه فعل أحدهما على شريكه ومالا يجوز: هما بمنزلة شريكي العنان والمفاوضة في الأموال. فإذا أطلقا الشركة بينهما كانت شركة عنان؛ لأن الشركة المطلقة تقتضي العنان.
وإذا اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة فيجوز؛ لأنهما ضما إلى الوكالة المطلقة الكفالة، وهو جائز، إلا أنه لا بد من التساوي فيما يتبايعانه؛ لأن المفاوضة تمنع من التفاضل (1) .
ويلاحظ أن الحنابلة وإن أجازوا شركة الوجوه إلا أنهم قصروها على ما إذا كانت الشركة شركة عنان، أما إذا كانت الشركة شركة مفاوضة فلا تجوز عندهم مطلقاً، لأنها عقد لم يرد الشرع بمثله، لما فيه من الغرر، فلم يصح كبيع الغرر. ووجه الغرر كما تقدم: أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر، وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به.
رابعاً ـ أحكام شركة الأعمال:
أـ إذا كانت شركة الأعمال مفاوضة: بأن ذكر لفظ المفاوضة أو ما هو في معنى المفاوضة، فيلزم كل شريك بما لزم صاحبه بسبب هذه الشركة، ويطالب به، ويجوز إقرار أحد الشريكين بالدين كثمن صابون أو أشنان أو أجر أجير أو حانوت على نفسه، وعلى شريكه، وللمقر له أن يطالب بالدين أي شريك شاء؛ لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، فيلزم المقر بمقتضى
__________
(1) راجع البدائع: 77/6، رد المحتار: 382/3، مجمع الضمانات: ص 303.(5/554)
إقراره، والشريك بسبب كفالته (1) .
ومثال شركة المفاوضة في الأعمال: أن يشترك صانعان مثلاً في أن يتقبل كل منهما الأعمال، وأن يضمنا جميعاً العمل على التساوي، وأن يتساويا في الربح والخسارة (أي الوضيعة) ، وأن يكون كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما لزمه بسبب هذه الشركة.
ب- وإذا كانت شركة الأعمال عناناً: فما يتقبله كل شريك من العمل يلزمه ويلزم شريكه (2) ، وهي تشبه شركة المفاوضة بالنسبة لضمان العمل استحساناً، فلصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما شاء لوجوبه على كل واحد منهما، كما أنه لكل شريك أن يطالب صاحب العمل بكل الأجرة لأنه قد لزمه كل العمل، فكان له المطالبة بكل الأجرة، ويبرأ صاحب العمل بالدفع إلى أي شريك شاء.
وأما القياس: فلا يحق لصاحب العمل أن يطالب بالعمل أي شريك شاء، كما أنه ليس للشريك الذي لم يتقبل العمل أن يطالب صاحب العمل بالأجرة، ووجه القياس ظاهر: وهو أن هذه الشركة هي شركة عنان، لا شركة مفاوضة، وحكم شركة العنان: أن ما يلزم كل شريك بعقده لا يطالب به الآخر.
ووجه الاستحسان: أن هذه الشركة تقتضي وجوب العمل على كل واحد من الشريكين، وإذا كانت كذلك كانت مقتضية وجوب ضمان العمل (3) ، فكانت في معنى المفاوضة بالنسبة لوجوب الضمان عن الشريك الآخر، ولكنها ليست مفاوضة حقيقية، بدليل أن غير هذين الشيئين (وهما مطالبة كل واحد منهما بالعمل واقتضاء البدل) تطبق عليه أحكام شركة العنان. فإذا أقر أحد الشريكين بدين كثمن صابون أو أشنان صار مستهلكاً، وأقر بأجر أجير أو حانوت بعد مضي مدة الإجارة، فلا يصدق إقراره على صاحبه إلا بإقراره بنفسه أو بالبينة؛ لأن نفاذ الإقرار على الآخر من مقتضيات المفاوضة ولم ينصا عليها. أما إذا كان المشتري لم يستهلك أو المدة لم تمض، فإنه يلزمهما الدين بإقرار أحدهما، مما يدل على أنه ليس لهذه الشركة حكم المفاوضة من جميع الأوجه، وإنما من ناحية حق وجوب العمل فقط، فيكون كل شريك كفيلاً عن الآخر فيما تقبله من عمل. وهذا مذهب الحنابلة أيضاً (4) .
__________
(1) البدائع: 77/6، تبيين الحقائق: 321/3، مجمع الضمانات: ص 302 وما بعدها.
(2) أي أنه يلزمه العمل معه فيه.
(3) أي ضمان ما يقبله صاحبه إن ادعى تلفه أي يشترك معه في ضمانه.
(4) المغني: 5/5.(5/555)
وأما الزيدية فإن هذه الشركة تتضمن عندهم التوكيل لا الكفالة على أصح القولين عندهم.
جـ ـ اقتسام الربح في هذه الشركة: أما اقتسام الربح في هذه الشركة فيكون بحسب الضمان لا بالعمل حقيقة، فإذا عمل أحد الشريكين دون الآخر بأن مرض أو سافر فالأجر بينهما بحسب ما شرطا؛ لأن الأجر في هذه الشركة إنما يستحق بضمان العمل لا بالعمل فعلاً؛ لأن العمل قد يكون من نفس الشريك، وقد يكون من غيره كالخياط إذا استعان برجل على الخياطة، فإنه يستحق الأجر، وإن لم يعمل لوجود ضمان العمل منه، ويكفي اشتراط العمل عليهما.
ويجوز في هذه الشركة شرط التفاضل في الكسب إذا شرط التفاضل في ضمان العمل، بأن شرط لأحدهما ثلثي الكسب وهو الأجر، وللآخر الثلث، وشرطا العمل عليهما أيضاً، سواء عمل الذي شرط له الزيادة في الكسب أم لم يعمل؛ لأن استحقاق الأجرة في هذه الشركة بالضمان لا بالعمل.
وإذا كان استحقاق أصل الأجر بأصل ضمان العمل لا بالعمل في الواقع، كان استحقاق زيادة الأجر بزيادة الضمان لا بزيادة العمل، فلو كان عمل الذي شرط له الأجر القليل أكثر جاز؛ لأن الربح بقدر ضمان العمل لا بحقيقة العمل.
د ـ اقتسام الخسارة في هذه الشركة: وأما الوضيعة (1) ، فهي أيضاً على قدر الضمان، حتى إنه لو شرط الشريكان أن ما يتقبلانه من أعمال: ثلثاه على أحدهما، وثلثه على الآخر، والخسارة بينهما نصفان، كان هذا الشرط العائد للخسارة باطلاً، والشركة جائزة على ما شرطا على كل واحد منهما من ضمان العمل؛ لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان، كانت الوضيعة على قدر الضمان أيضاً.
ولو جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعاً؛ لأن ضمان الجناية مبني على ضمان العمل، وهذا قد ضمناه جميعاً (2) .
__________
(1) الوضيعة: أي الخسران، سواء أكانت لتلف أو نقصان ثمن أو غيره.
(2) راجع البدائع: 76/6 ومابعدها، المبسوط: 107/11 ومابعدها، فتح القدير: 29/5 ومابعدها، رد المحتار: 381/3.(5/556)
المطلب الرابع ـ صفة عقد الشركة ويد الشريك:
أولاً ـ حكم لزوم الشركة:
يرى جمهور الفقهاء أن عقد الشركة عقد جائز غير لازم (1) ، فيجوز لكل شريك أن يفسخ العقد، إلا أن من شروط جواز الفسخ: أن يكون بعلم الشريك الآخر؛ لأن الفسخ من غير علم الشريك إضرار به، ولهذا لم يصح عزل الوكيل من غير علمه، وبما أن الشركة تتضمن الوكالة وعلم الوكيل بالعزل شرط جواز العزل، فيشترط العلم في الوكالة التي تضمنتها الشركة.
وكون الشركة عقداً غير لازم عند المالكية هو كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وفي المقدمات. لكن جاء في مختصر خليل وشراحه أن المذهب المشهور لزومها بالعقد، حصل خلط بين أموال الشركاء أم لا. وقال ابن عبد السلام: المذهب لزومها بالعقد، ولا يتوقف ذلك على الشروع فيها بالتصرف. وهذا رأي سحنون من فقهاء المالكية، ورجح بعضهم أنها تلزم بالشروع بالتصرف أو العمل، وهو رأي ابن القاسم وابن الحاجب. والخلاصة: إن الشركة في المذهب المعتمد لدى المالكية عقد لازم، وهو الذي استظهره الحطاب إذا كانت شركة أموال. أما شركة الأعمال فلا تلزم بالعقد بل بالعمل.
ثانياً ـ يد الشريك يد أمانة:
اتفق الفقهاء على أن يد الشريك في المال يد أمانة كالوديعة، لأنه قبض المال
__________
(1) البدائع: 77/6، المهذب: 348/1، مغني المحتاج: 215/2،المغني: 21/5، بداية المجتهد: 253/2، الدردير: 349/3،الحطاب: 122/5، الخرشي: 39/6، الشركات في الفقه للأستاذ الخفيف: ص 49 ومابعدها.(5/557)
بإذن صاحبه، لا لأجل أن يدفع ثمنه كما في المقبوض على سوم الشراء، فإنه مقبوض لأجل أن يدفع الثمن، ولا لأجل التوثق به كما في الرهن، فإنه مقبوض لأجل التوثق بدينه، وبناء عليه فإنه إذا هلك المال في يد الشريك من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ والتصرف، فكان الهالك في يده كالهالك في يد شريكه. ويقبل قوله بيمينه في مقدار الربح والخسران وضياع بعض المال أو كله، ولو من غير تجارة. ويضمن بالتعدي أو التقصير، كما في سائر الأمانات (1) .
المطلب الخامس ـ مبطلات عقد الشركة:
هناك مبطلات تعم كل الشركات، ومبطلات تخص بعضها دون بعض.
فأما المبطلات التي تعم الشركات كلها فهي (2) :
1 - فسخ الشركة من أحد الشريكين، لأنها عقد جائز غير لازم عند الجمهور، كما عرفنا، فكان محتملاً للفسخ. ولا تنفسخ عند المالكية إلا باتفاق الطرفين على الفسخ؛ لأنها عقد لازم عندهم. قال الحنابلة: من قال من الشركاء: عزلت شريكي، ولو لم ينض (3) المال انعزل، ويتصرف المعزول في قدر نصيبه. ولو قال: فسخت الشركة: انعزلا، فلا يتصرف كل شريك إلا في قدر نصيبه.
__________
(1) المبسوط: 157/11، تبيين الحقائق: 320/3، فتح القدير: 27/5، رد المحتار لابن عابدين: 379/3، المهذب: 347/1، المغني: 18/5، بداية المجتهد: 253/2.
(2) البدائع: 78/6، تبيين الحقائق: 323/3، فتح القدير: 34/5، مختصر الطحاوي: ص 108، المبسوط: 212/11، رد المحتار: 384/3، المهذب: 348/1، المغني: 21/5، مغني المحتاج: 215/2.
(3) النض: أن تتحول أموال الشركة نقوداً بعد أن كانت أمتعة. وأهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير: النض والناضََّّ.(5/558)
2 - موت أحد الشريكين: إذا مات أحد الشريكين انفسخت الشركة لبطلان الملك، وزوال أهلية التصرف بالموت، سواء علم الشريك الآخر بالموت أو لم يعلم؛ لأن كل شريك وكيل عن صاحبه، وموت الموكل يكون عزلاً للوكيل علم به أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي.
3 - ارتداد أحد الشريكين ولحوقه بدار الحرب، لأن ذلك بمنزلة الموت.
4 - جنون الشريك جنوناً مطبقاً؛ لأن بالجنون يخرج الوكيل عن الوكالة، وقد عرفنا أن الشركة تتضمن الوكالة. والإغماء مثل الجنون، ويقدر إطباق الجنون بشهر أو بنصف حول على الخلاف عند الحنفية.
وأما المبطلات التي تخص بعض الشركات دون بعض فهي (1) :
1 - هلاك مال الشركة كله أو مال أحد الشريكين قبل القيام بشراء شيء في شركة الأموال، سواء أكان المالان من جنسين أم من جنس واحد قبل خلط المالين. والسبب فيه هو أن المعقود عليه في عقد الشركة هو المال، والمال في الشركة يتعين بالتعيين (2) ، وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في عقد البيع. هذا إذا هلك مال الشركة.
__________
(1) المراجع السابقة، فتح القدير: 22/4، المبسوط: 164/11، 178، مختصر الطحاوي: ص 107، تبيين الحقائق: 319/3، رد المحتار: 375/3.
(2) نص الحنفية على أن النقود بالقبض تتعين بالتعيين في الشركات والوكالات والأمانات والهبات والوصايا والغصوب، ولا تتعين في المعاوضات ولا في المضاربة. والفرق بين الشركة والمضاربة أن تعيين رأس المال يجب أن يكون لأنه محل العقد، غير أنه في المضاربة أمكن أن يجعل تعيينه بالقبض لاشتراطه لتمام المضاربة إذ لا بد فيها من تسليم رأس المال إلى المضارب، فكان هلاكه قبل القبض لا يعد هلاكاً لمحل العقد لعدم تعينه، فلا تبطل المضاربة بهلاكه في هذه الحال بخلاف هلاكه بعد قبضه، فتبطل حينئذ المضاربة لزوال محل العقد. أما في الشركة فلا يجب فيها قبض، وعليه لا سبيل إلى تعيين محل العقد فيها إلا بالعقد، فكانت النقود بذلك متعينة بناء على العقد عليها، فيعد هلاكها قبل القبض في يد الشريك الآخر وبعده سواء في أنه مبطل للعقد فيها (الشركات في الفقه الإسلامي: ص113) .(5/559)
أما إذا هلك أحد مالي الشريكين فتبطل الشركة أيضاً؛ لأن الشريك لم يرض بشركة صاحبه إلا ليشركه في ماله، فإذا هلك ماله لم يكن راضياً بشركته عند عقد الشركة، فيبطل العقد لعدم فائدته. ويهلك المال حينئذ على ذمة صاحبه، لأنه إذا كان المال في يده، فالأمر ظاهر، وإذا كان في يد صاحبه فإنه أمانة في يده كما عرفنا.
فإن حصل الهلاك لمال شريك بعد خلطه بمال الشريك الآخر، فإنه يهلك على الشركة؛ لأنه لا يتميز عن غيره، فيجعل الهلاك من المالين. وكذلك إن اشترى أحد الشريكين بماله، وهلك مال الآخر بعد الشراء قبل أن يشتري به شيئاً، فإن المشترى يكون بين الشريكين بحسب ما شرطا؛ لأن تملك الشيء المشترى حيث حدث أي (بالشراء) حدث مشتركاً بينهما لقيام الشركة وقت الشراء، فلا يتغير حكم الشركة بهلاك مال الآخر بعدئذ.(5/560)
ثم الشركة الواقعة في هذا الشيء المشترى بعد هلاك مال الآخر شركة عقد عند الإمام محمد خلافاً للحسن بن زياد، فإنها شركة ملك عنده، فلا ينعقد بيع أحدهما إلافي نصيبه؛ لأن شركة العقد بطلت بهلاك المال كما لو هلك قبل الشراء بمال الآخر، ولم يبق إلا حكم الشراء وهو الملك، فكانت شركتهما في المتاع شركة ملك.
وعلى قول محمد وهو الراجح: يجوز لأي منهما بيع كل المتاع، وينفذ بيعه، لأن الشركة قد تمت في المشترى، فلا تنتقض بهلاك المال بعد تمامها، كما لو كان الهلاك بعد الشراء بالمالين جميعاً.
وإذا وقع الشيء المشترى على الشركة فيرجع المشتري على صاحبه بحصته من الثمن؛ لأنه اشترى نصفه له بوكالته، ونقد الثمن من ماله نفسه، فيرجع عليه بحسابه. وإن هلك مال أحد الشريكين ثم اشترى الآخر بماله الذي في يده ينظر: إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة بأن نصا في العقد على أن (ما اشتراه كل منهما بماله هذا يكون مشتركاً بيننا) فالمشترى بينهما على ما شرطا؛ لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة، فتكون شركة ملك.
وإن لم يصرحا بالوكالة في العقد وذكرا مجرد الشركة، كان المشترى للذي اشتراه خاصة؛ لأن الشركة لما بطلت بطل ما في ضمنها من الوكالة (1) .
2 - عدم تحقق المساواة بين رأسي المال في شركة المفاوضة بعد وجودها في ابتداء العقد؛ لأن وجود المساواة بين المالين في ابتداء العقد شرط في انعقاد هذا العقد على الصحة، فيكون بقاء تلك المساواة شرطاً لبقاء هذه الشركة منعقدة؛ لأنها شركة مفاوضة، سواء في ابتداء العقد أم في أثناء بقائه.
ويترتب على هذا إذا انعقدت شركة المفاوضة، وكان رأس المال متساوياً بين الشريكين، ثم ورث أحدهما مالاً تصح فيه الشركة من الدراهم والدنانير، وصار المبلغ في يده، فتبطل المفاوضة لبطلان المساواة التي هي معنى العقد.
__________
(1) راجع فتح القدير: 23/5 ومابعدها، رد المحتار: 376/3.(5/561)
وكذا لو ازداد أحد المالين على الآخر قبل الشراء، بأن كان أحدهما دراهم، والآخر دنانير، فزادت قيمة أحدهما قبل الشراء، بطلت المفاوضة.
المطلب السادس ـ الشركة الفاسدة عند الحنفية:
عرفنا حكم الشركة الفاسدة، وأذكر هنا أنواع الشركة الفاسدة عند الحنفية وهي:
أولاً ـ الاشتراك في أعمال جميع المباحات التي تملك بالأخذ، مثل الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش، والاستقاء، واجتناء الثمر، وحفر الأرض لاستخراج المعادن.
فإن اشترك اثنان في تلك الأعمال على أن ما أصابا من المباح فهو بينهما، فالشركة فاسدة عند الحنفية، ولكل واحد منهما ما أخذه؛ لأن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المال المباح باطل؛ لأن أمر الموكل بأخذه غير صحيح، لعدم ملكه وولايته، والوكيل يملك أخذ المباح بدون توكيل، فلا يصلح الوكيل نائباً عن الموكل في المباح؛ لأن التوكيل إثبات ولاية لم تكن ثابتة للوكيل، وهذا غير متحقق ههنا، فإذا لم تثبت الوكالة لم تثبت الشركة.
وإذا كانت الشركة في المباحات فاسدة، فيثبت الملك لكل واحد منهما بالأخذ، وإحراز المباح، ثم ينظر:
آـ إن أخذاه جميعاً معاً، فهو بينهما نصفان، لاستوائهما في سبب الاستحقاق، فيستويان في الاستحقاق.
ب ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً من المذكور على الانفراد، كان المأخوذ ملكاً له؛ لأن سبب ثبوت الملك في المباحات هو الأخذ والاستيلاء، وكل واحد منهما انفرد بالأخذ والاستيلاء فينفرد بالملك.(5/562)
جـ ـ وإن أخذ كل واحد منهما شيئاً على الانفراد، ثم خلطاه، وباعاه: فإن كان مما يكال أو يوزن يقسم الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن الذي لكل واحد منهما. وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، قسم الثمن بينهما بالقيمة، فيأخذ كل واحد منهما بقيمة الذي له؛ لأن المكيل والموزون من الأشياء المتماثلة، فتمكن قسمة الثمن بينهما على قدر الكيل والوزن، أما غير المكيل والموزون من الأشياء المتفاوتة، فلا تمكن قسمة الثمن بينهما بحسب العين، فيقسم بحسب القيمة. وإن لم يعلم الكيل والوزن والقيمة، يصدق كل واحد منهما فيما يدعيه إلى النصف من المأخوذ، مع اليمين على دعوى صاحبه. فإن ادعى أكثر من النصف لا يقبل قوله إلا ببينة.
د ـ وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله، بأن قلعه أحدهما وجمعه الآخر، أو قلعه وجمعه أحدهما وحمله الآخر، فكله للعامل وللمعين أجر المثل بالغاً ما بلغ عند محمد؛ لأن المسمى مجهول، إذ لم يدر أي نوع من الحطب يصيبان، وأي قدر منه يجمعان، ولا يدريان أيضاً هل يصيبان شيئاً أو لا، والرضا بالمجهول لغو، فسقط اعتبار رضاه بالنصف للجهالة، وصار مستوفياً منافعه بعقد فاسد، فله أجر مثله بالغاً ما بلغ.
وقال أبو يوسف: له أجر مثله على ألا يجاوز به نصف المسمى أو قيمته أي (نصف الشيء الذي أعانه فيه أو قيمته) ؛ لأنه رضي بنصف مجموع ما سيأخذانه. وقاس حكمه على سائر الإجارات الفاسدة؛ لأنه لا يزاد على المسمى هناك، كذا الأمر هنا، والجامع بينهما: أنه رضي بأن لا يكون له زيادة على المسمى، فلا يستحق الزيادة، وصار حكمه كمن قال لرجل: (بع هذا الثوب على أن لك نصف ثمنه فباعه) كان له أجر المثل لا يجاوز به نصف الثمن (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 323/3، فتح القدير: 31/5 ومابعدها، البدائع: 63/6 ومابعدها، المبسوط: 216/11 ومابعدها، رد المحتار: 382/3.(5/563)
ويرى الجمهور في الأظهر عند الشافعية صحة الشركة في الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد والاستقاء وما يؤخذ من الجبال والمعادن وشبهه من المباحات، لجواز التوكيل بها، فيحصل الملك للموكل إذا قصده الوكيل به؛ لأن تملك المباحات أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء، كما يقول الشافعية (1) .
ثانياً ـ من أنواع الشركات الفاسدة أن يكون لأحد الشريكين بغل وللآخر حمار مثلاً، فيشترك اثنان على أن يؤجر الدابتين، فما رزق الله من شيء يكون بينهما، فأجراهما جميعاً بأجر معلوم وحمل معلوم، فهذه الشركة فاسدة؛ لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة، والوكالة على هذا الوجه لا تصح؛ لأن كل واحد منهما في المعنى موكل لصاحبه بأن يؤجر دابته ليكون نصف الأجر له، وهذا التوكيل باطل، كما إذا قال الرجل: (آجر بعيرك على أن أجره بيننا) فإن التوكيل فاسد، فكذا الشركة؛ لأن الوكالة والشركة يشتركان في معنى واحد: وهو أن التوكيل إنما يكون فيما لا يملك الوكيل مباشرته قبل التوكيل، وللمالك أن يبيع دابته ويؤجرها قبل التوكيل. فإذا لم يؤجرا دابتيهما، ولكنهما تقبلا حمولة معلومة ببدل معلوم، فحملا الحمولة عليهما، فالأجر على حسب الشرط؛ لأن الشركة حينئذ صحيحة، إذ أن الحمل صار مضموناً عليها بالعقد بمنزلة أي عمل يتقبلانه.
غير أنه إذا فسدت الشركة فالإجارة صحيحة، لوقوعها على منافع معلومة ببدل معلوم، فيقسمان ما أخذا من الأجر على قدر مثل أجر البغل وأجر الحمار (2) .
وهناك مثال آخر: وهو أن يكون لاثنين سيارتان، فلا يصح لصاحبي هاتين السيارتين الاشتراك من أجل قسمة الربح الناتج من الحمولة من طريق إجارة السيارتين للناس؛ لأن كل واحد يختص بثمرة ما يملكه.
__________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة: ص 205، مغني المحتاج: 216/2، 221، روضة الطالبين: 291/4، المغني: 81/5، كشاف القناع: 452/3.
(2) انظر تحفة الفقهاء، الطبعة الأولى: 19/3 ومابعدها، المبسوط: 170/11، 218 ومابعدها، رد المحتار: 383/3-385.(5/564)
ولم يجز الشافعية (1) أيضاً هذه الشركة؛ لأنها تقوم على منافع أشياء متميزة، وعلى كل شريك لصاحبه أجرة مثل ماله.
ثالثاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أن يدفع شخص إلى رجل دابة ليؤجرها على أن الأجر بينهما، فتكون الشركة فاسدة، والأجر كله أي (الربح) لصاحب الدابة؛ لأن المدفوع إليه هو وكيله في إجارتها، وإجارة الوكيل كإجارة الموكل. ومثله إيجار السفينة أو الدار.
وسبب الفساد: هو أن العقد ورد على ملك الغير بإذنه، وإذا فسد العقد وجب للذي أجرها أي (العامل) أجر المثل؛ لأنه ابتغى عن منافع الدابة عوضاً، ولم ينل العوض لفساد العقد، فكان له أجر مثله.
رابعاً ـ من أنواع الشركة الفاسدة أيضاً أن يشتري رجل شيئاً، فيقول له آخر: «أشركني فيه» فهذا بمنزلة البيع والشراء بمثل ما اشترى في النصف، فإن تم ذلك قبل أن يقبض المشتري الأول المبيع لم يجز الإشراك، لأن الإشراك والتولية كما عرفنا في عقود البيع لا يجوزان قبل القبض، ويكون العقد فاسداً؛ لأنه بيع لمبيع منقول قبل القبض، وهو لا يجوز كما عرفنا سابقاً.
وإن كان ذلك بعد القبض جاز، ويُلْزِم ُالمشتري الشريك نصف الثمن، فإن كان الشريك لا يعلم بمقدار الثمن فهو بالخيار إذا علم: إن شاء أخذ حصته من المبيع وإن شاء ترك.
ولو اشترى رجلان فرساً فأشركا فيها رجلاً بعد القبض فمقتضى القياس: أن يكون للشريك النصف؛ لأن كل واحد منهما لو أشركه في نصيبه على الانفراد استحق نصفه، فكذا إذا أشركاه جميعاً معاً. ومقتضى الاستحسان: أن يكون للشريك الثلث؛ لأن الشركة تقتضي المساواة، فإذا قالا للرجل: (أشركناك في الفر س) فكأنهما قالا: (شاركناك) .
فإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه، فأجاز شريكه قوله كان للشريك الجديد النصف، وللأولين النصف، لأنه لما أجاز شريكه في نصيبه صار نصف نصيبه له، وقد أشركه في نصيب نفسه هذا، فيكون مجموع ما استحقه الشريك الجديد هو النصف، وبقي لكل واحد منهما الربع.
وكل شركة فاسدة يقسم الربح فيها على قدر رأس المال، ويبطل شرط التفاضل (2) كما عرفنا في حكم الشركة.
__________
(1) مغني المحتاج: 216/2.
(2) فتح القدير: 33/5، رد المحتار: 383/3.(5/565)
المبحث الثاني ـ شركة المضاربة:
المضاربة أو القراض أو المعاملة من أنواع الشركات. وهي في لغة أهل العراق تسمى مضاربة وفي لغة أهل الحجاز تسمى قراضاً، وهو مشتق من القرض وهو القطع؛ لأن المالك يقطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها ويعطيه قطعة من الربح، أو مشتق من المقارضة: وهي المساواة لتساويهما في استحقاق الربح، أو لأن المال من المالك والعمل من العامل، وهي لهذا تشبه الإجارة؛ لأن العامل فيها يستحق حصته من الربح جزاء عمله في المال.
وأهل العراق يسمون القراض مضاربة؛ لأن كلاً من العاقدين يضرب بسهم في الربح، ولأن العامل يحتاج إلى السفر، والسفر يسمى ضرباً في الأرض (1) .
والكلام عن هذا العقد في المطالب الخمسة الآتية:
المطلب الأول ـ تعريف المضاربة ومشروعيتها وركنها وصفة عقدها.
المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة.
المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة.
المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل المضارب.
المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة.
__________
(1) مغني المحتاج: 309/2، تكملة فتح القدير: 57/7 ومابعدها، المبسوط: 18/22، تبيين الحقائق للزيلعي: 52/5، رد المحتار على الدر المختار: 504/4، مجمع الضمانات: ص303.(5/566)
المطلب الأول ـ تعريف المضاربة ومشروعيتها وركنها ونوعاها وصفة عقدها:
تعريف المضاربة: المضاربة: هي أن يدفع المالك إلى العامل مالاً ليتجر فيه، ويكون الربح مشتركاً بينهما بحسب ما شرطا (1) . وأما الخسارة فهي على رب المال وحده، ولا يتحمل العامل المضارب من الخسران شيئاً وإنما هو يخسر عمله وجهده. وعرفها صاحب الكنز بقوله: هي شركة بمال من جانب، وعمل من جانب.
ومحترزات التعريف الأول: هي أنه بكلمة (يدفع) : تبين أن المضاربة لاتصح على منفعة كسكنى الدار، وأنها لا تصح على دين، سواء أكان على العامل أم على غيره. وبكلمة (الربح مشتركاً) تبين أن الوكيل ليس مضارباً. والسبب في اشتراك العاقدين في الربح: هو أن رب المال يستحق الربح بسبب ماله؛ لأنه نماء ماله، والمضارب يستحقه باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح.
وعليه إذا شرط جميع الربح لرب المال كان العقد مباضعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضاً.
مشروعية المضاربة: اتفق أئمة المذاهب على جواز المضاربة بأدلة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، إلا أنها مستثناة من الغرر والإجارة المجهولة.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل:20/73] والمضارب: يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله عز وجل، وقوله سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة:10/62] . فهذه الآيات بعمومها تتناول إطلاق العمل في المال بالمضاربة.
__________
(1) المراجع السابقة.(5/567)
وأما السنة: فما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان سيدنا العباس بن عبد المطلب إذا دفع المال مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً، ولا ينزل به وادياً، ولايشتري به دابة ذات كبد رطبة، فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ شرطه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجازه» (1) ، وروى ابن ماجه عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع» (2) .
وأما الإجماع: فما روي عن جماعة من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة (3) ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعاً، وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرجا في جيش العراق، فلما قفلا مرا على عامل لعمر: وهو أبو موسى الأشعري، فرحب بهما وسهل، وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكما، فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، ثم تبيعانه في المدينة، وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون لكما ربحه.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه أبو الجارود الأعمى وهو متروك كذاب (راجع مجمع الزوائد: 161/4) .
(2) إسناده ضعيف (راجع سبل السلام: 76/3) والحق ما قال ابن حزم في مراتب الإجماع: «كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب أو السنة حاشا القراض، فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة، ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي نقطع به أنه كان في عصره صلّى الله عليه وسلم، فعلم به وأقره، ولولا ذلك لما جاز» (انظر التلخيص الحبير: ص 255) .
(3) انظر نصب الراية: 113/4.(5/568)
فقالا: وددنا، ففعل، فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا وربحا، فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقال: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما!! فأدّيا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال ضمناه. فقال: أدياه، فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضاً (أي لو عملت بحكم المضاربة: وهو أن يجعل لهما النصف، ولبيت المال النصف) فرضي عمر، وأخذ رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال (1) .وأثبت ابن تيمية مشروعية المضاربة بالإجماع القائم على النص، فإن المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة، كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يسافرون بمال غيره مضاربة، ولم ينه عن ذلك، والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة (2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن أبيه، وعن مالك رواه الشافعي في مسنده، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في «المعرفة» وأخرجه الدارقطني في سننه عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده (راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 173/2، نصب الراية: 113/4، التلخيص الحبير: ص 254) .
(2) فتاوى ابن تيمية: 195/19 ومابعدها.(5/569)
وأما القياس: فالمضاربة قيست على المساقاة لحاجة الناس إليها، لأن الناس بين غني وفقير، والإنسان قد يكون له مال، لكنه لا يهتدي إلى أوجه التصرف والتجارة به، وهناك من لا مال له، لكنه مهتد في التصرفات، فكان في تشريع هذا العقد تحقيق للحاجتين، والله تعالى ما شرع العقود إلا لمصالح العباد ودفع حوائجهم (1) .
وحكمة مشروعية المضاربة: تمكين الناس من تنمية الأموال وتحقيق التعاون بينهم، وضم الخبرات والمهارات إلى رؤوس الأموال لتحقيق أطيب الثمرات.
ركن المضاربة وألفاظها ونوعاها: ركن عقد المضاربة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، بألفاظ تدل عليهما.
فألفاظ الإيجاب: هي لفظ المضاربة والمقارضة والمعاملة، وما يؤدي معاني هذه الألفاظ بأن يقول رب المال: (خذ هذا المال مضاربة على أن ما رزق الله عز وجل من ربح فهو بيننا على كذا من نصف أو ربع أو ثلث أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة) .
وكذا إذا قال: مقارضة أو معاملة، أو قال (خذ هذا المال واعمل به على أن مارزق الله من شيء فهو بيننا على كذا) ولم يزد على هذا فهو جائز، لأنه أتى بلفظ يؤدي معنى هذا العقد، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ.
وألفاظ القبول: هي أن يقول العامل المضارب: أخذت، أو رضيت أو قبلت، ونحوها. وإذا توافر الإيجاب والقبول انعقد العقد (2) .
__________
(1) البدائع: 79/6، تكملة فتح القدير: 58/7، المبسوط: 18/22، المهذب: 384/1، مغني المحتاج: 309/2.
(2) البدائع: 79/6 ومابعدها.(5/570)
وأركان المضاربة عند الجمهور ثلاثة: عاقدان (مالك وعامل) ومعقود عليه (رأس المال، والعمل والربح) ، وصيغة (إيجاب وقبول) وعدها الشافعية خمسة: مال وعمل وربح (1) وصيغة وعاقدان.
نوعاها: المضاربة نوعان: مطلقة ومقيدة (2) :
فالمطلقة: هي أن يدفع شخص المال إلى آخر بدون قيد، ويقول: «دفعت هذا المال إلىك مضاربة على أن الربح بيننا كذا مناصفة أو أثلاثاً، ونحو ذلك» أو هي أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله.
والمقيدة: هي أن يعين شيئاً من ذلك أو أن يدفع إلى آخر ألف دينار مثلاً مضاربة على أن يعمل بها في بلدة معينة، أو في بضاعة معينة، أو في وقت معين، أو لا يبيع ولا يشتري إلا من شخص معين. وهذان النوعان الأخيران (حالة التأقيت وتخصيص شخص) جائزان عند أبي حنيفة وأحمد، وغير جائزين عند مالك والشافعي. وكذلك يجوز إضافتها إلى المستقبل عند الأولين ولا يجوز عند الآخرين كأن يقول رب المال: ضارب بهذا المال ابتداء من الشهر الآتي. وأما تعليق المضاربة على شرط كما إذا قال صاحب المال: إذا جاءك فلان بالدين الذي لي في ذمته (ومقداره ألف دينار) وسلمك إياه فضارب به، فقد أجازه الحنابلة والزيدية ولم يجزه الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأن المضاربة تفيد تمليك جزء من الربح، والتمليك لا يقبل التعليق (3) .
ويشترط في المضاربة عند الشافعية والمالكية أن تكون مطلقة، فلا تصح مقيدة بنوع معين من التجارة، ولا بشخص معين، ولا ببلد معين. ولا يشترط تعيين مدة فيها، فإن عينت مدة لا يتمكن فيها العامل من المتاجرة، فسدت الشركة، وإن عينت مدة يتمكن فيها من التجارة، ثم منع العامل من الشراء، ولم يمنع من البيع، صح ذلك لتمكنه من الربح بالبيع.
__________
(1) البدائع: 87/6.
(2) مغني المحتاج: 310/2، البدائع: 87/6-98.
(3) الميزان للشعراني: 92/2، المغني: 62/5-63. المنتزع المختار للزيدية: 320/3، المهذب: 386/1، الشرح الكبير للدردير: 521/3، غاية المنتهى: 173/2، كشاف القناع: 497/3.(5/571)
صفة عقد المضاربة:
اتفق العلماء على أن عقد المضاربة قبل شروع العامل في العمل غير لازم، وأنه لكل من المتعاقدين فسخه. واختلفوا فيما إذا شرع العامل في المضاربة، فقال الإمام مالك: هو عقد لازم بالشروع، وهوعقد يورث، فإن المضارب إذا كان له بنون أمناء كانوا في المضاربة أو القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين. وإن شرع العامل لا يفسخ العقد حتى ينض المال أي يتحول نقوداً لا عروضاً.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: العقد غير لازم، ولكل من العاقدين الفسخ إذا شاء، وليس هو عقداً يورث.
ومرجع الخلاف بين الفريقين: أن الإمام مالك جعل العقد لازماً بعد الشروع في العمل لما يترتب على الفسخ من ضرر، فكان من العقود الموروثة. وأما الفريق الثاني فقد شبهوا الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل؛ لأن المضاربة تصرف في مال الغير بإذنه، فيملك كل واحد من العاقدين فسخ العقد، كما في الوديعة والوكالة (1) .
__________
(1) انظر بداية المجتهد: 237/2، الخرشي: 223/6، ط ثانية: البدائع: 109/6، المهذب: 388/1، مغني المحتاج: 319/2، المغني: 58/5.(5/572)
ولكن الحنفية ومن وافقهم اشترطوا لصحة الفسخ وانتهاء المضاربة علم المتعاقد الآخر بالفسخ، كما في سائر أنواع الشركات، وأن يكون عند الحنفية رأس المال ناضاً أي نقوداً (1) وقت الفسخ، فإن كان من العروض من عقار أو منقول، لم يصح الفسخ عندهم.
وقال الشافعية والحنابلة: إذا انفسخت المضاربة ورأس المال عروض، فاتفق المتعاقدان على بيعه أو قسمته جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن طلب العامل البيع، وأبى رب المال، أجبر رب المال على البيع؛ لأن حق العامل في الربح، وهو لا يحصل إلا بالبيع (2) .
تعدد المضارب: قال المالكية (3) : إذا تعدد عامل القراض، فإن الربح يوزع عليهم على قدر العمل كشركاء الأبدان، أي فيأخذ كل منهما من الربح بقدر عمله، فلا يجوز أن يتساويا في العمل، ويختلفا في الربح، أو بالعكس، بل الربح على قدر العمل على المشهور.
حكم الشركات القانونية الحديثة: إن شركات الأشخاص التجارية في القانون الوضعي وهي شركة التضامن وشركة التوصية البسيطة وشركة المحاصة تعتبر جميعها في الجملة من قبيل شركة المضاربة في الفقه الإسلامي مع اختلاف بعض الأحكام بين القانون والشريعة حسبما تقتضيه مصلحة الناس وطبيعة التطور. ففي شركة التضامن حيث يكون المال من جميع الشركاء، والعمل من بعضهم، يكون العامل مضارباً في مال غيره. وفي شركة التوصية البسيطة حيث تتكون الشركة من شركاء متضامنين مسؤولين عن التزامات الشركة، وشركاء موصين تنحصر مسؤولية كل واحد فيما يقدمه من حصة في المال، تكون الشركة مضاربة في مال الموصين. وفي شركة المحاصة إذا سلمت الحصص لأحد الشركاء لاستثمارها، يكون هذا الشريك وكيلاً عنهم في استثمار هذا المال، وعمله في مال غيره يكون قراضاً (مضاربة) .
__________
(1) نضَّ المال: أي صار مثل حاله وقت العقد عليه دنانير أو دراهم.
(2) المراجع السابقة.
(3) الخرشي: 217/6.(5/573)
وكذلك شركات الأموال أو شركات المساهمة حيث يكون العمل في مالها عادة لغير أرباب الأموال فيها، تعد من قبيل القراض في هذه الحال. وكذلك الشركات ذات المسؤولية المحدودة التي لا يزيد عدد الشركاء فيها على خمسين شريكاً، يكون عمل المدير فيها قراضاً، كما يرى أستاذنا الشيخ علي الخفيف (1) . والأدق أن يعتبر عمله من باب التوظف، فهو يعمل بأجر بحكم التوظف لا بحكم المشاركة. ولا مانع شرعاً في شركة المساهمة وشركة التضامن من اعتبار مدير الشركة أجيراً موظفاً على العمل، ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة في شيء واحد؛ لأن المنع من وجود عقدين أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والخلاف، وعدم التنازع جرى عليه العرف والعادة، فلم يعد شرطاً مفسداً. وسأوضح ذلك قريباً.
المطلب الثاني ـ شرائط المضاربة:
يشترط لصحة المضاربة شروط في العاقدين وفي رأس المال وفي الربح:
أما ما يشترط في العاقدين وهما رب المال والمضارب: فهو أهلية التوكيل والوكالة؛ لأن المضارب يتصرف بأمر رب المال، وهذا معنى التوكيل، ولا يشترط كونهما مسلمين، فتصح المضاربة بين المسلم والذمي والمستأمن في دار الإسلام، والمذهب عند المالكية الكراهة بين مسلم وذمي إذا لم يعمل بمحرم كالربا.
__________
(1) راجع الشركات في الفقه الإسلامي لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 92-97.(5/574)
وأما شروط رأس المال فهي:
أولاً ـ أن يكون رأس المال من النقود الرائجة أي الدراهم والدنانير ونحوها، كما هو الشرط في شركة العنان. فلا تجوز المضاربة بالعروض من عقار أو منقول عند جمهور العلماء، ولو كان المنقول مثلياً عند الحنفية والحنابلة، وأجازها ابن أبي ليلى والأوزاعي، وتنعقد حينئذ على قيمها عند انعقاد المضاربة. وحجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضاً كان غرراً؛ لأن المضاربة تؤدي حينئذ إلى جهالة الربح وقت القسمة، إذ أن قيمة العروض تعرف بالحزر والظن، وتختلف باختلاف المقومين، والجهالة تفضي إلى المنازعة، والمنازعة تفضي إلى الفساد (1) ، وللعامل حينئذ أجر مثله في ذمة رب المال.
وكون القراض لا يجوز بالعروض عند المالكية مع جواز ذلك في شركة العنان، فلأن القراض رخصة يقتصر على ما ورد فيها.
أما إذا كان رأس المال ما به تباع العروض، بأن دفع إنسان لآخر عروضاً، وقال: بعها واعمل بثمنها مضاربة، فباعها بنقود، وتصرف فيها، جاز العقد عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، لأنه لم يضف المضاربة إلى العروض، وإنما أضافها إلى الثمن، والثمن تصح به المضاربة.
ولم يجز العقد عند الشافعي، لأنه قارضه على ماتباع به السلعة، وذلك مجهول، فكأنه قارضه على رأس مال مجهول.
وكما أنه لا تصح المضاربة على العروض لا تصح أيضاً على تبر الذهب والفضة والنقرة (القطعة الخالصة من الذهب والفضة) ، ولا على الفلوس عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك، لأنها لا تعتبر أثماناً مطلقة، وعند محمد: تجوز، لأنها أثمان للأشياء عنده، كما عرفنا في بحث شركات الأموال.
__________
(1) المبسوط: 33/22، تبيين الحقائق: 53/5، البدائع: 82/6، بداية المجتهد: 234/2، المهذب: 385/1، مغني المحتاج: 310/2، تكملة فتح القدير: 58/7، الخرشي: 3/6-2-209، ط ثانية، الدردير: 518/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 282.(5/575)
والخلاصة: أن كل ما يصلح رأس مال في الشركة، ويصح به عقد الشركة، تصح به المضاربة، وإلا فلا.
ثانياً ـ أن يكون رأس المال معلوم المقدار: فإن كان مجهولاً لا تصح المضاربة؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة الربح، وكون الربح معلوماً شرط لصحة المضاربة.
ثالثاً ـ أن يكون رأس المال عيناً (1) حاضرة لا ديناً: فلا تصح المضاربة على دين ولا على مال غائب. وعليه لا يجوز أن يقال لمن عليه دين: ضارب بالدين الذي عليك. وهذا الشرط والذي قبله باتفاق العلماء. والمضاربة بالدين فاسدة؛ لأن المال الذي في يد من عليه دين له، وإنما يصير لدائنه (أوغريمه) بقبضه، ولم يوجد القبض ههنا (2) .
والشرط أن يكون المال حاضراً عند التصرف، فلا يشترط الحضور في مجلس العقد، فلو وفي الدين، وسلم إلى المضارب أو أحضر المال الغائب، فسلم إليه، صحت المضاربة.
وبناء عليه: إذا كان لرب المال دين على رجل، فقال له: «اعمل بديني الذي في ذمتك مضاربة بالنصف» فقال أبو حنيفة: إذا اشترى المدين بذلك وباع، فجميع ما اشترى وباع يملكه هو، وله ربحه وعليه وضيعته (خسارته) والدين يظل قائماً في ذمته بحاله، وهذا مبني على الأصل المقرر عنده فيمن وكل رجلاً ليشتري له بالدين الذي في ذمته: وهو أنه لا يجوز.
وهذا متفق مع مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً، فلا تصح عندهم المضاربة بما في ذمة المضارب من دين لآخر، وإنما لا بد من تسليمه إلى الدائن، ثم يسلمه الدائن مرة أخرى للمضارب.
__________
(1) أي معيناً.
(2) راجع البدائع: 83/6، فتح القدير: 59/7، رد المحتار على الدر المختار: 506/4، بداية المجتهد: 335/2، مغني المحتاج: 310/2، المغني: 67/5، كشاف القناع: 263/2، القوانين الفقهية، المكان السابق، الخرشي: 202/6، 204، ط ثانية.(5/576)
وقال الصاحبان: إن جميع ما اشترى وباع لرب المال، له ربحه وعليه خسارته. وهذا مبني على الأصل المقرر عندهما في الوكالة السابقة: وهو أن هذا التوكيل جائز، ويبرأ المدين من الدين، ولكن المضاربة فاسدة؛ لأن الشراء وقع للموكل، فتصير المضاربة بعدئذ مضاربة بالعروض، كأنه وكله بشراء العروض، ثم دفعه إليه مضاربة، والمضاربة بالعروض لا تصح.
قبض الدين: أما إذا قال إنسان لرجل: (اقبض ما لي على فلان من الدين واعمل به مضاربة) جاز باتفاق العلماء؛ لأن المضاربة هنا أضيفت إلى المقبوض الذي هو أمانة في يده، فكان رأس المال عيناً لا ديناً، أي أن المضارب يكون وكيلاً في قبضه مؤتمناً عليه؛ لأنه قبضه بإذن مالكه من غيره، فجاز أن يجعله مضاربة، كما لو قال: اقبض المال من غلامي وضارب به. الوديعة: وكذلك تجوز المضاربة عند الحنفية والشافعية والحنابلة إذا كان في يد شخص وديعة، فقال له المودع: ضارب بها؛ لأن الوديعة ملك رب المال، فجاز أن يضاربه عليها، كما لو كانت حاضرة، فقال: (قارضتك على هذا الألف) وأشار إليه في زاوية البيت.
والفرق بين هذه الحالة والدين: أن عين المال في حالة الدين لا يصير ملكاً للدائن إلا بقبضه.
وقال المالكية: المرهون أو الوديعة لا يجوز أن يكون أحدهما رأس مال القراض؛ لأنه شبيه بالدين.
المغصوب: والمضاربة تجوز أيضاً فيما إذا كان المال مغصوباً، فضارب به الغاصب؛ لأنه مال لرب المال يباح له بيعه من غاصبه ومن يقدر على أخذه منه، فأشبه الوديعة (1) .
__________
(1) انظر البدائع: 83/6، المغني: 68/5 ومابعدها، المهذب: 385/1، مغني المحتاج: 310/2.(5/577)
رابعاً ـ أن يكون رأس المال مسلَّماً إلى العامل: ليتمكن من العمل فيه، ولأن رأس المال أمانة في يده، فلا يصح إلا بالتسليم وهو التخلية كالوديعة، ولا تصح المضاربة مع بقاء يد رب المال على المال، لعدم تحقق التسليم مع بقاء يده. ويترتب عليه أنه لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة، إذ لا بد من استقلال العامل بالتصرف والعمل بمقتضى طبيعة التجارة وظروفها التي يتعذر فيها الاشتراك في العمل الذي يحتاج إنجازه لسرعة واهتبال الفرصة المواتية. فإن استعان العامل بصاحب المال في العمل، دون اشتراط، جاز ذلك، لأن الاستعانة به لا تخرج المال من العامل.
وهذا الشرط محل اتفاق بين الجمهور (أبي حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وابن المنذر) . وأما الحنابلة فقد أجازوا اشتراط بقاء يد المالك على المال.
وأجاز المالكية للعامل أن يشترط عمل رب المال مجاناً أن يعمل معه في مال القراض، أو يشترط تقديم دابة رب المال حيث كان المال كثيراً. كما أجازوا أيضاً لمريد القراض أن يدفع مالين متعاقبين، أي واحداً بعد واحد لعامل واحد، إذا شرطا خلط المالين عند دفع الثاني؛ لأنه يرجع حينئذ إلى أجر واحد معلوم.(5/578)
وفي هذا الشرط تختلف المضاربة عن شركات الأموال، فإنها تصح مع بقاء يد رب المال على ماله. والفرق هو أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد الجانبين، وعلى العمل من الجانب الآخر، ولا يتحقق العمل إلا بعد خروج المال من يد صاحبه ليتمكن من التصرف فيه. أما الشركة فإنها انعقدت على العمل من الجانبين، فإذا شرط زوال يد رب المال عن العمل، فيكون هذا الشرط مناقضاً لمقتضى العقد، كما لو شرط في المضاربة عمل رب المال، فإن المضاربة تفسد، سواء عمل رب المال مع المضارب، أم لم يعمل؛ لأن شرط عمله معه معناه اشتراط بقاء يده على المال، وهذا شرط فاسد، لأنه يمنع المضارب من التمكن من التصرف، فلا يتحقق المقصود من العقد (1) .
وهذا الشرط مطلوب، سواء أكان المالك عاقداً أم غير عاقد، فلا بد من زوال يد رب المال عن ماله لتصح المضاربة.
ويترتب عليه أن الأب أوا لوصي إذا ضارب في مال الصغير، وشرط عمل الصغير، لم تصح
__________
(1) يلاحظ أن الخلاف في هذا الشرط إذا كان عمل رب المال مشترطاً في العقد. أما إذا عمل متبرعاً من غير شرط، كأن استعان به المضارب فلا يؤثر ذلك في صحة المضاربة اتفاقاً (الشركات للأستاذ الخفيف: ص 70) .(5/579)
المضاربة؛ لأن يد الصغير ثابتة له، وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب (1) . وكذلك أحد شريكي المفاوضة أو العنان إذا دفع مالاً مضاربة وشرط عمل شريكه مع المضارب، فالمضاربة فاسدة لقيام الملك لشريكه، وإن لم يكن عاقداً، فيمنع تحقق التسليم (2) .
ويترتب على هذا الشرط أن المضارب لو دفع إلى رب المال مضاربة بالثلث فالمضاربة الثانية فاسدة، والمضاربة الأولى على حالها جائزة.
وأما شروط الربح فهي ما يأتي:
أولاً ـ أن يكون الربح معلوم القدر: لأن المعقود عليه أو المقصود من العقد هو الربح، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد (3) . وإذا دفع شخص لآخر ألف درهم على أن يشتركا في الربح، ولم يبين مقدار الربح، جاز العقد، ويكون الربح بينهما نصفين؛ لأن الشركة تقتضي المساواة كما في قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكاء ُفي الثلث} [النساء:12/4] .
حالة فساد المضاربة وحالة فساد الشرط فقط عند الحنفية:
إن كان هناك شرط يؤدي إلى جهالة الربح فسدت المضاربة، لاختلال المقصود من العقد: وهو الربح. وإن كان الشرط لا يؤدي إلى جهالة الربح يبطل الشرط ويصح القعد. مثل أن يشترط المالك أن تكون الخسارة على المضارب أو عليهما، فالشرط يبطل، ويبقى العقد صحيحاً، والخسارة تكون على المالك في مال المضاربة. والسبب في أن شرط الخسارة عليهما شرط فاسد: هو أن الخسارة تعتبر جزءاً هالكاً من المال، فلا يكون إلا على رب المال، لا أنه يؤدي إلى جهالة الربح، فيؤثر في العقد فيجعله فاسداً.
__________
(1) أما إذا اشترط على المضارب أن يعمل معه نفس الأب أو الوصي فذلك جائز اتفاقاً (المرجع السابق) .
(2) انظر المبسوط: 83/22 ومابعدها، تبيين الحقائق: 56/5، البدائع: 84/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 63/7، الدر المختار: 506/4، مغني المحتاج: 310/2، كشاف القناع: 262/2، الشرح الكبير للدردير: 520/3 ومابعدها، نهاية المحتاج: 163/4، الخرشي: 210/6، 212 ط ثانية.
(3) المبسوط: 27/22، البدائع: 85/6، تبيين الحقائق: 55/5 ومابعدها، الدر المختار: 505/4، بداية المجتهد: 234/2، مغني المحتاج: 313/2، المهذب: 385/1، المغني: 30/5، نهاية المحتاج: 162/4،الخرشي: 209/6، ط ثانية.(5/580)
ومثله أيضاً: أن يدفع شخص لآخر ألف دينار مضاربة على أن الربح بينهما نصفان، وعلى أن يدفع إليه رب المال أرضه ليزرعها سنة أو داراً ليسكنها سنة فالشرط باطل، والمضاربة جائزة، لأنه ـ أي رب المال ـ ألحق بها شرطاً فاسداً لا يقتضيه العقد. أما لو كان المضارب هو المشروط عليه بأن شُرط عليه أن يدفع أرضه ليزرعها رب المال سنة أو يدفع داره إلى رب المال ليسكنها سنة، فإن المضاربة تفسد، لأنه جعل نصف الربح عوضاً عن عمله وعن أجرة الدار أو الأرض، فصارت حصة العمل مجهولة بالعقد، فلم يصح العقد (1) .
وخلاصة ضابط الفساد عند الحنفية باقتران شرط في المضاربة: هو أنه إذا كان الشرط مؤدياً إلى عدم توافر شرط من شروط صحة المضاربة، فإنه يفسدها، كجهالة الربح أو عدم كمال تسليم المال إلى المضارب. أما إذا كان الشرط لا يمس شروط صحة المضاربة، فإن اشتراط شرط فاسد في المضاربة، لا يفسدها، وإنما يفسد الشرط ويلغو، وتصح المضاربة، كاشتراط الوضيعة (الخسارة) على المضارب، يبطل الشرط، وتصح المضاربة.
ولو جعل الربح كله لرب المال وقبل المضارب أن يعمل فيه بالمجان لم يكن العقد مضاربة، ولكن صار إبضاعاً أو مباضعة، والعامل فيه مستبضعاً. ولو شرط في المضاربة كون جميع الربح للمضارب، فالعقد قرض عند الحنفية والحنابلة، وهو مضاربة فاسدة عند الشافعية، وحينئذ يكون للعامل أجرة مثل عمله؛ لأن مقتضى المضاربة الاشتراك في الربح، فإذا شرط استئثار العامل بالربح، كان الشرط فاسداً.
__________
(1) البدائع: 86/6، تكملة فتح القدير: 62/7.(5/581)
ويجوز عند الحنفية أن يشترط لأحد العاقدين دراهم معدودة معلومة إن زاد الربح على مقدار كذا من الدراهم، فذلك شرط صحيح لا يؤثر في صحة المضاربة؛ لأنه لا يؤدي إلى جهالة الربح (1) .
وقال المالكية: يجوز أن يشترط العامل الربح كله له (2) ، وعبارتهم: يجوز اشتراط الربح كله في القراض لرب المال أو للعامل أو لغيرهما؛ لأنه من باب التبرع، وإطلاق القراض عليه حينئذ مجاز، وليس هو بقراض حقيقة، أي أن العامل يضمن المال إذا أخذه على أن الربح كله له، لأنه حينئذ يشبه السلف.
ووجه قول الحنفية والحنابلة: أنه إذا لم يمكن تصحيح العقد مضاربة يجعل قرضاً؛ لأنه أتى بمعنى القرض، والعبرة في العقود لمعانيها (3) . ويترتب على هذا أنه إذا شرط جميع الربح لرب المال فهو مباضعة عندهم، لوجود معنى الإبضاع (4) كما تقدم.
ثانياً ـ أن يكون الربح جزءاً مشاعاً: أي نسبة عشرية أو سهماً من الربح، كأن يتفقا على ثلث أو ربع أو نصف، وهذا مستثنى من حكم الإجارة المجهولة؛ لأن جواز عقد المضاربة كان للرفق بالناس، فإذا عين المتعاقدان مقداراً مقطوعاً محدداً، بأن شرطا مثلاً أن يكون لأحدهما مئة دينار أو أقل أو أكثر، والباقي للآخر، فلا يصح هذا الشرط، والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح، وهذا الشرط يمنع الاشتراك في الربح، لاحتمال ألا يربح المضارب إلا هذا القدر المذكور، فيكون الربح لأحدهما دون الآخر، فلا تتحقق الشركة، وبالتالي لا يكون التصرف مضاربة.
ولا تجوز المضاربة إذا جعل للعامل جزء من ربح غير المال المتجر فيه، وصرح المالكية أنه يجوز أن يتراضى العاقدان بعد العمل على جزء قليل أو كثير.
__________
(1) الشركات للأستاذ الخفيف: ص 71.
(2) بداية المجتهد: 335/2، الخرشي: 203/6، 209، ط ثانية، بولاق.
(3) البدائع: المصدر السابق، مغني المحتاج: 312/2، المهذب: 385/1، المغني:30/5.
(4) الإبضاع هنا: أي التوكيل بلا جعل أو أجر. وبعبارة أخرى: هو استعمال شخص في المال بغير عوض (البدائع: 87/6) .(5/582)
وكذلك تفسد المضاربة إذا شرط زيادة ربح كعشرة مثلاً لأحد الشريكين، لاحتمال ألا يربح العامل إلا هذا القدر، فلا تتحقق الشركة في الربح. وحينئذ يلزم للعامل أجر المثل كما في سائر أنواع المضاربة الفاسدة (1) .
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة.
وبناء عليه: لا تصح المضاربة بربح محدد كالفائدة التي تقدمها المصارف على الودائع؛ لأن المضاربة تقتضي الاشتراك في الربح بدون تحديد نسبة مقطوعة كسبعة في المئة مثلاً. ولا تصح المضاربة على أن يأخذ العامل راتباً شهرياً معيناً، ونسبة من الأرباح عند تصفية الشركة أو الجرد السنوي وغيره.
__________
(1) انظر المبسوط: 27/22، تبيين الحقائق: 54/5، البدائع: 85/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 60/7، مجمع الضمانات: ص 303، الشرح الكبير للدردير: 517/3، مغني المحتاج: 313/2، بداية المجتهد: 234/2، المغني: 34/5، نهاية المحتاج: 165/4.(5/583)
المطلب الثالث ـ أحكام المضاربة:
المضاربة إما صحيحة أو فاسدة، ولكل واحد منهما أحكام، وسأبدأ في أحكام المضاربة الفاسدة التي اختل فيها شرط من شروط صحتها، لأن الكلام فيها يسير.
حكم المضاربة الفاسدة: إذا كانت المضاربة فاسدة كأن يقول شخص لآخر: صد بشبكتي والصيد بيننا، فليس للمضارب عند الحنفية والشافعية والحنابلة (1) أن يعمل شيئاً مما تقتضيه المضاربة الصحيحة، ولا يثبت بها شيء من أحكام المضاربة الصحيحة التي سنعرفها، ولا يستحق النفقة ولا الربح المسمى، وإنما له أجر مثل عمله، سواء أكان في المضاربة ربح أم لم يكن؛ لأن المضاربة الفاسدة في معنى الإجارة الفاسدة، والأجير لا يستحق النفقة ولا المسمى في الإجارة الفاسدة، وإنما يستحق أجر المثل. وعلى هذا إذا لم يربح المضارب، فله أجر مثل عمله؛ لأن رب المال استعمله مدة في عمله، فكان عليه أجر العمل، وينفذ تصرف العامل، والربح للمالك.
وأما الربح الحاصل حينئذ أو الصيد في مثالنا، فيكون كله لرب المال؛ لأن الربح نماء ملكه، ولم يستحق المضارب منه شيئاً نظراً لفساد العقد. وكذلك الخسران يكون على رب المال.
والقول قول المضارب مع يمينه إذا فسد العقد، وذلك في دعوى الهلاك والضياع، والمال في يده أمانة، كما في المضاربة الصحيحة.
ومذهب الشافعية والحنابلة في المضاربة الفاسدة كالحنفية إلا أنهم قالوا:
إذا تصرف المضارب نفذ تصرفه، لأنه أذن له فيه، فإذا بطل العقد بقي الإذن، فملك به التصرف كما في الوكالة الفاسدة، وهذا بخلاف البيع، فإنه لو فسد لاينفذ تصرف المشتري، مع أن البائع قد أذن له في التصرف، والفرق هو أن المشتري إنما يتصرف بالملك لا بالإذن، ولا ملك في البيع الفاسد.
__________
(1) البدائع: 108/6، مغني المحتاج: 315/2، تكملة فتح القدير: 58/7، مختصر الطحاوي: ص124، المبسوط: 22/22، مجمع الضمانات: ص 311، غاية المنتهى: 179/2، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 165.(5/584)
والربح جميعه في هذين المذهبين حين الفساد لرب المال؛ لأنه نماء ملكه، وعليه الخسران أيضاً. ويكون للمضارب أجرة مثل عمله، وإن لم يكن ربح، لأنه عمل طامعاً في المسمى، فإذا لم يحصل له المسمى وجب رد عمله إليه، وهو متعذر، فتجب قيمته وهي أجرة مثله، كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا وتلف أحد العوضين في يد القابض له، وجب رد قيمته (1) .
وقال المالكية: يرد العامل في جميع أحكام المضاربة الفاسدة إلى قراض مثله في الربح والخسارة وغيرها في أحوال معدودة، وله أجر مثل عمله في غيرها من الحالات. وعليه إذا حدث ربح في الحالات الأولى، فيثبت حق المضارب في الربح نفسه، لا في ذمة رب المال، حتى إذا هلك المال لم يكن للمضارب شيء، وإذا لم يكن ربح فلا شيء له (2) .
والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل: أن الأجرة في أجرة المثل تتعلق بذمة رب المال، سواء كان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل: هو على سنة القراض، إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شيء له (3) .
__________
(1) مغني المحتاج: 315/2، المهذب: 388/1، المغني: 65/5 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 519/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 240/2، القوانين الفقهية: ص 282، الخرشي: 205/6-208، ط ثانية ببولاق 1317 هـ.
(3) بداية المجتهد: 241/2، المقدمات الممهدات: 14/3.(5/585)
وأهم حالات رد المضاربة الفاسدة إلى قراض المثل: حالة القراض بالعروض، وحالة جهالة الربح وليس هناك عادة يحتكم إليها، وحالة توقيت القراض كسنة مثل: اعمل به سنة، أو إضافة القراض للمستقبل مثل: إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل به، وحالة الاشتراط على العامل ضمان رأس المال إن تلف بلا تفريط، أو قال له: اشتر بدين مؤجل فاشترى نقداً، فالربح له والخسارة عليه؛ لأن الثمن صار قرضاً في ذمته، أو شرط عليه ما يقل وجوده، بأن يوجد تارة ويعدم أخرى، أو اختلف العاقدان بعد العمل في جزء الربح، وادعى كل من رب المال والعامل مالاً يشبه أن يكون له، كأن يقول العامل: الثلثين، ورب المال: الثلث.
وأهم حالات وجوب أجرة المثل في الذمة (أي ذمة رب المال) سواء حصل ربح أم لا في المضاربة الفاسدة ما يأتي:
ـ وقوع القراض بدين لرب المال على العامل قبل قبضه منه، أو بوديعة له عند العامل قبل قبضها منه.
ـ واشتراط يد رب المال مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء. أو اشتراط مشاورته عند البيع والشراء بحيث لا يعمل عملاً فيه إلا بإذنه. أو اشترط المالك أميناً على العامل يراقبه. أو اشترط على العامل أن يخيط ثياب التجارة، أو يخرز الجلود المشتراة لها. أو اشترط عليه أن يشارك غيره في مال القراض، أو يخلط المال بماله أو بمال القراض عنده، أو أن يبضع بمال القراض (أي يرسله أو بعضه مع غيره ليشتري به ما يتجر العامل به مجاناً) ففي كل هذه الحالات يجب للعامل أجرة مثله.(5/586)
وأما أحكام المضاربة الصحيحة: فكثيرة، منها ما يرجع إلى حال يد المضارب، وبعضها يرجع إلى عمل المضارب، وبعضها يرجع إلى ما يستحقه المضارب بالعمل، ومايستحقه رب المال بالمال.
1ً - أما حال يد المضارب: فقد اتفق أئمة المذاهب (1) على أن العامل المضارب أمين فيما في يده من رأس المال بمنزلة الوديعة، لأنه قبضه بإذن مالكه، لا على وجه البدل (أي المبادلة) كالمقبوض على سوم الشراء، ولا على وجه الوثيقة كالرهن.
وإذا اشترى المضارب شيئاً صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع، لأنه تصرف في مال الغير بإذنه وهو معنى الوكيل، فتطبق عليه أحكام الوكالة المعروفة بالنسبة للشراء: وهو أن يكون الشيء بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله كالوكيل بالشراء. وأما بالنسبة للبيع فيعتبر كالوكيل بالبيع المطلق، كما سنعرف.
فإذا ربح المضارب صار شريكاً فيه بقدر حصته من الربح؛ لأنه ملك جزءاً من المال بعمله، والباقي لرب المال، لأنه نماء ماله، فهو له.
وإذا فسدت المضاربة بسبب من الأسباب صارت إجارة، والمضارب بمنزلة الأجير لرب المال، ويستحق حينئذ أجر المثل.
وإذا خالف المضارب شرط رب المال، كأن فعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئاً منع من شرائه، صار بمنزلة الغاصب، ويصير المال مضموناً عليه؛ لأنه تعدى في ملك غيره.
وإذا تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن؛ لأنه نائب عن رب المال في التصرف، فلم يضمن من غير تفريط، كالوديع.
وإذا ظهرت خسارة كانت على رب المال وحده، واحتسب أولاً من الربح إن كان في المال ربح.
وإن شرط على العامل ضمان رأس المال إن تلف، بطل الشرط والعقد صحيح عند الحنفية والحنابلة. وبناء عليه: يكون تشغيل المال على حساب الربح مع ضمان رأس المال صحيحاً والشرط باطل.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 124، تكملة فتح القدير والعناية: 58/7، البدائع: 87/6، المبسوط: 19/22، مجمع الضمانات: ص 303 ومابعدها، الشرح الكبير: 536/3، بداية المجتهد: 234/2، الخرشي: 213/6، 223، مغني المحتاج: 322/2، المهذب: 388/1، المغني: 69/5، تبيين الحقائق: 53/5، القوانين الفقهية: ص 283، غاية المنتهى: 171/2، 178.(5/587)
وقال المالكية والشافعية: تفسد المضارب حينئذ، لأنه شرط فيه زيادة غرر يتنافى مع طبيعة العقد (1) . لكن قال ابن قدامة في المغني 144/5 في المضاربة: «وإن قال: خذ هذا المال فاتجر به، وربحه كله لك، كان قرضاً لا قراضاً. وقال الدردير: يجوز أن يضمن العامل مال القراض ـ أي المضاربة ـ لربه لو تلف أو ضاع بلا تفريط في اشتراط الربح له، أي للعامل، بأن قال ربه (صاحب المال) : اعمل فيه والربح لك؛ لأنه حينئذ صار قرضاً، وانتقل من الأمانة إلى الذمة (2) .
2ً - وأما تصرفات المضارب: فيختلف حكمها بحسب ما إذا كانت المضاربة مطلقة أو مقيدة.
والمطلقة كما عرفنا: أن يدفع المالك المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله. والمقيدة: أن يعين المالك شيئاً من ذلك.
فإذا كانت المضاربة مطلقة: فللمضارب أن يتصرف في مال المضاربة ما بدا له من أنواع التجارات، في سائر الأمكنة، مع سائر الناس، لإطلاق العقد، فله أن يشتري به ويبيع؛ لأن المقصود من المضاربة: هو تحصيل الربح، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع، إلا أنه في الشراء مقيد بالمعروف، وهو أن يكون بمثل قيمة المشترى، أو بأقل منه مما يتغابن الناس في مثله؛ لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع على ما هو متعارف.
وأما بيعه فهو على الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في التوكيل بمطلق البيع.
فعند أبي حنيفة رضي الله عنه: يملك البيع نقداً ونسيئة وبغبن فاحش.
وعند الصاحبين: لا يملك البيع بالنسيئة، ولا بما لا يتغابن الناس في مثله، وإنما يتقيد بالمتعارف وهذا هو الرأي الأرجح. وهو ما ذهب إليه الشافعية والمالكية والحنابلة، إلا أن الحنابلة أجازوا للمضارب أن يبيع نقداً ونسيئة كما يقول أبو حنيفة.
__________
(1) تحفة الفقهاء: 25/3، المغني: 25/5، بداية المجتهد: 236/2.
(2) أقرب المسالك مع بلغة السالك: 249/2.(5/588)
وللمضارب أن يدفع المال بضاعة (1) ؛ لأن الإبضاع من عادة التجار، ولأن المقصود من هذا العقد هو الربح، والإبضاع طريق إليه، ولأنه يملك الاستئجار فالإبضاع أولى؛ لأن الاستئجار استعمال شخص في المال بعوض، والإبضاع استعماله فيه بغير عوض، فكان أولى.
ولا يجوز عند المالكية الإبضاع إلا بإذن رب المال، وإلا ضمن (2) .
وللمضارب عند الحنفية أن يودع، لأن الإيداع من عادة التجار ومن ضرورات التجارة. وليس للمضارب عند المالكية أن يأتمن على المال أحداً ولا أن يودعه، فإن خالف فهو ضامن.
وله أن يستأجر أجيراً ليعمل في المال؛ لأن الاستئجار من عادة التجار وضرورات التجارة. كما له أن يستأجر البيوت ليجعل المال فيها؛ لأنه لا يقدر على حفظ المال إلا به. وله أيضاً أن يستأجر السفن والدواب للعمل؛ لأن الحمل من مكان إلى مكان طريق لتحصيل الربح، ولا يمكنه النقل بنفسه.
وله أن يوكل بالشراء والبيع؛ لأن التوكيل من عادة التجار، ولأنه طريق الوصول إلى الربح. وله أن يرهن بدين عليه في المضاربة من مال المضاربة، وأن يرتهن بدين له منها على رجل؛ لأن الرهن بالدين والارتهان من باب إيفاء الدين واستيفائه، وهو يملكها. ولكن ليس له أن يرهن بعد نهي رب المال عن العمل ولا بعد موته؛ لأن المضاربة تبطل بالنهي والموت.
__________
(1) الإبضاع من مال الشركة: بأن يعطي إنساناً مالاً منه ليشتري له بضاعة من بلد كذا، من دون عوض.
(2) الشرح الكبير: 521/3.(5/589)
وللمضارب أن يسافر بالمال في الرواية المشهورة عند الحنفية، وكذلك عند المالكية وفي وجه عند الحنابلة (1) ؛ لأن المقصود من المضاربة استنماء المال، ولأن العقد مطلق، كما أن اسم المضاربة دليل على جواز السفر؛ لأن المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير (2) . وقال الشافعي وفي وجه آخر عند الحنابلة: لا يسافر به إلا بإذن رب المال.
ما لا يجوز للمضارب فعله: ليس للمضارب في المضاربة المطلقة أن يفعل بعض الأفعال إلا بالنص عليها صراحة (3) ، فليس له أن يستدين على مال المضاربة إلا بإذن صريح، ولو استدان لم يجز على رب المال، ويكون ديناً على المضارب في ماله؛ لأن الاستدانة إثبات زيادة في رأس المال من غير رضا رب المال، بل فيه إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه؛ لأن ثمن المشترى مضمون على رب المال، فلو جوزنا الاستدانة على المضاربة لألزمناه زيادة ضمان لم يرض به، وهذا لا يجوز.
وإذا كانت الاستدانة لا تجوز، فلا يجوز الإقراض من رأس المال من باب أولى. وعدم جواز الاستدانة إلا بإذن صاحب المال هو مذهب الحنابلة والشافعية أيضاً.
وقال المالكية: لا يجوز للمضارب أن يشتري سلعاً بالدين وإن أذن له رب المال بالشراء، فإن فعل ضمن ما اشتراه، وكان الربح له وحده، ولا شيء منه لرب المال؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ربح ما لم يضمن، فكيف يأخذ رب المال ربح ما يضمنه العامل في ذمته؟!
ولا يجوز للمضارب أيضاً أن يشتري سلعاً للقراض بأكثر من مال المضاربة نقداً أو إلى أجل، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وذلك لأن العامل يضمن ما زاد في ذمته.
فإن فعل كان ما يشتريه شركة بينه وبين رب المال بنسبة ما زاد على مال
__________
(1) قال القاضي أبو يعلى: قياس المذهب جوازه (أي سفر المضارب بالمال إذا لم يكن مخوفاً) بناء على السفر في الوديعة) .
(2) راجع هذه الأحكام في البدائع: 87/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 63/7، 79، مختصر الطحاوي: ص 125، المبسوط: 38/22 ومابعدها، 68، تبيين الحقائق: 57/5، 68، مجمع الضمانات: ص 305 ومابعدها، الدر المختار بهامش رد المحتار: 506/4، الشرح الكبير للدردير: 524/3، 528، مغني المحتاج: 315/2، 317، كشاف القناع: 263/2، المغني: 35/5-38، الخرشي: 211/6، ط ثانية.
(3) البدائع: 90/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 80/7، المبسوط: 178/22، تبيين الحقائق: 69/5، الدر المختار: 507/4.(5/590)
القراض. وهذا إذا لم يرض رب المال، فإذا رضي بالتصرف، كان ذلك من جملة القراض. ولا يجوز للمضارب أن يهب شيئاً كثيراً من مال القراض بغير ثواب (1) .
وليس للمضارب أخذ المال على سبيل القرض ليسلمه إلى مدين في بلد آخر يريده المقرض؛ لأنه يكون محتملاً تبعة مخاطر الطريق، ولأن دافع المال (وهو المقرض) استفاد من هذه العملية، وقد ثبت النهي عن قرض جر نفعاً. وهذه هي المسألة المعروفة في الفقه بمسألة السفاتج (2) .
وكذلك ليس للمضارب أن يدفع المال إلى غيره مضاربة، أو أن يشارك به، أو أن يخلطه بمال نفسه أو بمال غيره، إلا إذا قال له رب المال: اعمل برأيك، أو أذن له بالتصرف. أما المضاربة فلا تجوز لأنها مثل المضاربة الأولى، والشيء لا يستتبع مثله، فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله، كما لا يملك الوكيل التوكيل بمطلق العقد. وأما الشركة فهي أولى ألا يملكها بمطلق العقد؛ لأنه أعم من المضاربة، والشيء لا يستتبع مثله فما فوقه أولى. وأما الخلط فلأنه يوجب في مال رب المال حقاً لغيره، فلا يجوز إلا بإذنه (3) .
ما يجب على العامل المضارب: يجب على العامل القيام بأعمال المضاربة بحسب المعتاد من أمثاله، وبحسب عادة التجار فيما يتعاملون به، فإذا استأجر على عمل يلزمه القيام به، وجبت الأجرة عليه في ماله خاصة لا في مال القراض. وله أن يستأجر على عمل من مال المضاربة إذا كان من الأعمال التي لا يلزمه القيام بها بحسب العرف التجاري.
__________
(1) كشاف القناع: 256/4، مغني المحتاج: 216/2، الدردير: 528/3، بداية المجتهد: 239/2، القوانين الفقهية: ص 283، الخرشي: 211/6، 216، 226، ط ثانية.
(2) السفاتج: جمع سفتجة بضم السين وفتح التاء، فارسي معرب: وهي سلف الخائف من غرر الطريق يعطى بموضع ويؤخذ حيث يكون متاع الآخر، فينتفع الدافع والقابض في ذلك (راجع القوانين الفقهية لابن جزي: ص 251، غاية المنتهى: 167/2) .
(3) البدائع: 95/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 64/7، تبيين الحقائق: 58/5، الدر المختار بهامش رد المحتار: 507/4.(5/591)
المضارب يضارب:
أولاً ـ مذهب الحنفية: لا يجوز للمضارب أن يضارب بالمال مع شخص آخر، إلا إذا فوضه رب المال، فإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال، فإن المال لا يكون عند أبي حنيفة مضموناً على المضارب الأول بمجرد الدفع إلى الثاني، ولا بتصرف المضارب الثاني فيه حتى يربح. فإذا ربح ضمن المضارب الأول لرب المال، أما قبل الربح فلا يضمن. فلو هلك المال في يد الثاني قبل أن يربح، هلك هلاك الأمانات.
وجه الحالة الأولى (أي قبل العمل) : أن مجرد الدفع من المضارب إيداع منه، وهو يملك إيداع مال المضاربة، فلا يضمن بالدفع.
ووجه الحالة الثانية (أي بعد العمل) : أن الدفع من المضارب الأول إلى المضارب الثاني يعتبر إبضاعاً، وهو يملك الإبضاع.
فإذا ربح الثاني فقد أثبت للأول شركة في المال، فيضمن الأول لرب المال كما لو خلط المال بغيره.
هذا إذا كانت المضاربة صحيحة. فإن كانت فاسدة فلا يضمن المضارب الأول بعد الربح؛ لأن المضارب الثاني أجير في المال حينئذ، وله أجر مثله، فلم تثبت الشركة الموجبة للضمان.
وقال زفر: يضمن المضارب الأول بمجرد الدفع، عمل الثاني أو لم يعمل؛ لأن المضارب يملك الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة، فإذا دفع صار بالدفع مخالفاً، فصار ضامناً كالوديع إذا أودع الوديعة عند غيره.(5/592)
وقال الصاحبان وهو ظاهر الرواية: إذا عمل المضارب الثاني ضمن الأول المال، ربح أو لم يربح؛ لأن المضارب الثاني لما عمل فقد تصرف الأول في المال بغير إذن المالك، فيتعين به الضمان سواء ربح أم لم يربح (1) . وحينئذ إذا عمل المضارب الثاني يخير رب المال: إن شاء ضمن المضارب الأول رأس ماله، وإن شاء ضمن الثاني.
فالراجح عند الحنفية: أن المضارب الأول لا يضمن في المضاربة الصحيحة بمجرد دفع المال إلى المضارب الثاني، وإنما يضمن إذا عمل الثاني، ربح المال أو لم يربح.
وأما الربح الناتج من المضاربة فيوزع حسب الشرط، فيعطى لرب المال ربحه على حسب شرطه في عقد المضاربة الأولى؛ وما يبقى من الربح بعدئذ يكون بين المضارب الأول والثاني على حسب شرطيهما في عقد المضاربة الثاني.
هذا ما ذهب إليه الحنفية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (2) .
وقال ابن قدامة: ليس هذا موافقاً لأصول المذهب، ولا لنص أحمد، فإن أحمد قال: لا يطيب الربح للمضارب (3) .
ثانياً ـ مذاهب غير الحنفية: قال المالكية: يضمن العامل إذا قارض في مال القراض بغير إذن رب المال، أي دفعه لعامل غيره يعمل فيه، لتعديه، والربح حينئذ للعامل الثاني ولرب المال، ولا ربح للعامل الأول؛ لأن ربح القراض جُعْل لايستحق إلا بتمام العمل، والعامل الأول لم يعمل، فلا ربح له، ويغرم العامل الأول للثاني ماشرطه له من زيادة في الربح المستحق له من رب المال.
وقال الشافعية في الأصح، لا يجوز للعامل أن يقارض آخر ليشاركه في العمل والربح، ولو كان ذلك بإذن رب المال.
__________
(1) البدائع: 96/6، تكملة فتح القدير: 70/7 ومابعدها، المبسوط: 98/22، تبيين الحقائق: 63/5، الدر المختار: 509/4.
(2) المراجع السابقة، الشركات للأستاذ الخفيف: ص 81، المغني: 44/5.
(3) المغني، المكان السابق.(5/593)
وحينئذ يظل القراض مع العامل الأول صحيحاً، ويستحق العامل الثاني من الأول أجر المثل إذا عمل (1) ؛ لأن القراض على خلاف القياس، وموضوعه أن يكون أحد العاقدين مالكاً لا عمل له، والآخر عاملاً ولو متعدداً، فلا يعدل عما ذكر إلى أن يعقده عاملان مع نفسيهما، فيصير القراض بين عاملين فلا يصح.
والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على أن الضمان بمضاربة العامل غيره يستقر على الأول.
وأما خلاصة أحكام تصرفات المضارب في المضاربة المطلقة عند الحنفية فهي ثلاثة أنواع:
1 - نوع يملكه المضارب عرفاً: وهو جميع ما تتناوله أعمال التجارة عادة، كالبيع والشراء، والتوكيل فيهما، وإن لم يؤذن له بذلك صراحة، ويكون شراؤه على المعروف، فلا يتجاوز ما يتغابن فيه الناس عادة، لأنه وكيل، وشراء الوكيل يقع بحسب المعتاد، أما البيع ففيه خلاف بين الحنفية، والراجح أنه يتقيد أيضاً بالمعتاد.
2 - ونوع لا يملكه إلا إذا فوض إليه العمل في المضاربة برأيه، فقال له: اعمل فيها برأيك، أو كما ترى: وهو ما يحتمل أن يلحق بأعمال التجارة، كإعطاء المال مضاربة لشخص آخر يضارب فيه، أو جعله رأس مال لشركة عنان، فإذا فوض له ذلك صح.
3 - ونوع لا يملكه المضارب إلا بالنص عليه صراحة، كالتبرعات، من هبة أو محاباة بالبيع والشراء، والإقراض، والشراء لأجل عند الشافعية والمالكية والحنابلة، والشراء بأكثر من رأس المال والربح عند أكثر الفقهاء.
وأما المضاربة المقيدة: فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع الأحكام التي ذكرت، وإنما تفارقها في قدر القيد الذي قيدت به، فإن خصص رب المال تصرف المضارب في بلد بعينه، أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها، لأنه توكيل، وفي التخصيص بما ذكر فائدة، فيتخصص به.
__________
(1) مغني المحتاج: 314/2، المغني: 43/5، القوانين الفقهية: ص 283، الخرشي: 214/6.(5/594)
أـ تعيين المكان: وعلى هذا إذا كان القيد متعلقاً بالمكان، كأن دفع رجل إلى رجل مالاً مضاربة على أن يعمل به في بلدة معينة كدمشق مثلاً، فليس له أن يعمل في غير دمشق؛ لأن قوله «على أن» من ألفاظ الشرط، وهو شرط مفيد؛ لأن الأماكن تختلف بالرخص والغلاء، وفي السفر خطر.
وكذا لا يعطيها بضاعة (1) لمن يخرج بها من دمشق، لأنه إذا لم يملك الإخراج بنفسه فلأن لا يملك الإذن به أولى.
فإن أخرجها من دمشق: فإن اشترى بها وباع ضمن؛ لأنه تصرف لا على الوجه المأذون فيه فصار مخالفاً فيضمن، وكان ما اشتراه لنفسه له ربحه وعليه خسارته، لكن لا يطيب له الربح عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يطيب.
وإن لم يشتر بمال المضاربة شيئاً حتى رده إلى البلدة المعينة المذكورة برئ من الضمان، ورجع المال مضاربة على حاله، كالوديع إذا خالف أمر المودع ثم عدل عن المخالفة (2) .
ولو دفع المال إلى رجل ليعمل في سوق دمشق العام، فعمل في دمشق نفسها في غير سوقها، فهو جائز على أساس المضاربة استحساناً عند الحنفية. والقياس ألا يجوز. وجه القياس: أنه شرط عليه العمل في مكان معين، فلا يجوز في غيره، كما لو شرط العمل في بلد معين.
ووجه الاستحسان: أن التقييد بسوق دمشق غير مفيد غالباً؛ لأن البلد الواحد بمنزلة بقعة واحدة، فلا فائدة في هذا الشرط، فيلغو، ومن المقرر أن الشرط معتبر إذا كان مفيداً.
ولو قال له: (لا تعمل به إلا في سوق دمشق) فعمل في غير السوق، فباع واشترى، فهو ضامن؛ لأن قوله السابق حجر له، فلا يجوز تصرفه بعد الحجر. وفي المثال الأول لم يحجر عليه، وإنما شرط عليه أن يكون عمله في السوق، والشرط غير مفيد، فيلغو.
__________
(1) أي أن يدفعها إلى شخص ليتجر في المال تبرعاً أي (بغير عوض) .
(2) المبسوط: 42/22، 46، تبيين الحقائق: 59/5، البدائع: 98/6، تكملة فتح القدير: 64/7 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 125.(5/595)
وكذلك إذا قال له: (خذ هذا المال تعمل به في دمشق أو فاعمل به في دمشق) لم يجز له العمل في غيرها؛ لأن (في) كلمة ظرف، فتصبح دمشق ظرفاً للتصرف الذي أذن له فيه، فلو جاز في غير دمشق لم تكن دمشق ظرفاً لتصرفه.
وأما قوله (فاعمل به..) فالفاء للوصل والتعقيب، والمتصل المتعقب للمبهم تفسير له.
وكذا قوله: (خذه بالنصف بدمشق) لأن الباء تفيد الإلصاق، فتقتضي التصاق الصفة بالموصوف: يعني أنه يجب عليه العمل بالمال ملصقاً بدمشق، وهو أن يكون العمل فيها.
أما لو قال: (خذ هذا المال واعمل به بدمشق) فله أن يعمل به فيها وفي غيرها، لأن الواو للعطف، وهو مما يجوز الابتداء به، فيجعل مشورة، كأنه قال: (إن فعلت كذا كان أنفع) .
ب ـ تعيين الشخص: ولو قال: (على أن تشتري من فلان وتبيع منه) صح التقييد عند الحنفية والحنابلة لأنه مفيد لزيادة الثقة به في المعاملة. وخالف في هذا المالكية والشافعية كما عرفنا؛ لأن هذا التقييد يمنع مقصود المضاربة وهو التقلب في الأسواق وطلب الربح.
جـ ـ توقيت المضاربة: ولو وقَّت المضاربة بوقت معين، على أنه إذا مضى بطل العقد، صح العقد عند الحنفية والحنابلة؛ لأنه توكيل، فيتأقت بما وقته، والتوقيت مفيد، وأنه تقييد بالزمان، فصار كالتقييد بالنوع والمكان (1) .
ولم يصح العقد عند الشافعية والمالكية كما عرفنا لإخلال التأقيت بمقصود القراض، إذ قد لا يربح في المدة، وقد يكون الربح والحظ في إبقاء المتاع وبيعه بعد المدة المعينة (2) .
__________
(1) البدائع: 99/6، تكملة فتح القدير والعناية: 65/7.
(2) مغني المحتاج: 312/2، المغني: 63/5، الشرح الكبير للدردير: 521/3.(5/596)
والضابط في تقييد المضاربة عند الحنفية: هو أن المضاربة تقبل التقييد المفيد ولو بعد العقد ما لم يصر المال عرضاً؛ لأنه إذا صار المال من العروض التجارية، لا يملك رب المال عزل المضارب، فلا يملك تخصيصه. أما التقييد بغير المفيد فلا يعتبر أصلاً كنهيه عن بيع المال حالاً (1) .
ويرى الشافعية والمالكية: أن وظيفة المضارب هو التجارة في المال للاسترباح والتنمية، وهو بالبيع والشراء مما جرت العادة بأن يتولاه التجار. وعليه فكل شرط يحول دون عمله المعتاد المتعارف مفسد للقراض عندهم (2) .
التقيد الطارئ على المضاربة المطلقة: قال الحنفية: إذا كانت المضاربة مطلقة فخصصها رب المال بعد العقد:
فإن كان رأس المال بحاله نقداً أو اشترى به المضارب متاعاً ثم باعه وقبض ثمنه من النقود: فإن تخصيصه جائز، كما لو خصص المضاربة في الابتداء؛ لأن رب المال يملك التخصيص إذا كان فيه فائدة.
أما إذا كان مال المضاربة عروضاً فلا يصح تقييد رب المال للمضارب أو نهيه عن أمر حتى يصير رأس المال نقداً، مثل أن يقول له: (لا تبع بالنسيئة) لأن المضاربة تمت بالشراء.
3 ً - وأما حقوق المضارب: التي يستحقها بعمله في مال المضاربة فهي شيئان: النفقة، والربح المسمى في العقد.
أولاً ـ أما النفقة من مال المضاربة: فاختلف الفقهاء في وجوبها للمضارب
__________
(1) الدر المختار: 508/4.
(2) المراجع السابقة، الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ علي الخفيف: ص 74.(5/597)
على أقوال ثلاثة، فقال الإمام الشافعي في الأظهر من قوليه: لا نفقة للمضارب على نفسه من مال المضاربة لا حضراً ولا سفراً إلا أن يأذن له رب المال؛ لأن للمضارب نصيباً من الربح، فلا يستحق شيئاً آخر، ويكون المأخوذ زيادة منفعة في المضاربة، ولأن النفقة قد تكون قدر الربح، فيؤدي أخذه إلى انفراده به، وقد تكون أكثر فيؤدي إلى أن يأخذ جزءاً من رأس المال، وهذا ينافي مقتضى العقد، فلو شرطت النفقة للمضارب في العقد فسد (1) .
وقال قوم منهم إبراهيم النخعي والحسن البصري: له نفقته حضراً وسفراً (2) .
وقال جمهور الفقهاء منهم أبو حنيفة ومالك والزيدية: للمضارب النفقة في السفر لا في الحضر من مال المضاربة من الربح إن وجد وإلا فمن رأس المال بما يحتاج إليه من طعام وكسوة (3) ، إلا أن الإمام مالك قال: إذا كان المال يحمل ذلك. ولا نفقة له من مال المضاربة في حال الإقامة، وإنما في مال نفسه، إلا إذا كانت المضاربة تشغله عن الوجوه التي يقتات منها، فله حينئذ الإنفاق من مال المضاربة.
وأما الحنابلة فأجازوا اشتراط المضارب نفقة نفسه في الحضر أو في السفر (4) ، أي أنهم في هذا كالشافعية لا يوجبون النفقة للمضارب في السفر أو الحضر إلا بالشرط.
__________
(1) المهذب: 387/1، مغني المحتاج: 317/2.
(2) بداية المجتهد: 238/2.
(3) البداية، المرجع السابق، البدائع: 105/6، تكملة فتح القدير: 81/7، المبسوط: 63/22، مختصر الطحاوي: ص 125، الدردير: 530/3، المنتزع المختار: 333/5، القوانين الفقهية: ص 283، الخرشي: 217/6 ومابعدها، ط ثانية.
(4) المغني: 64/5، كشاف القناع: 265/2.(5/598)
ودليل هؤلاء المجيزين: هو أنه لو لم تجعل نفقة المضارب من مال المضاربة لامتنع الناس من قبول المضاربات مع مساس الحاجة إليها. والسبب في استحقاق المضارب النفقة في السفردون الحضر: هو أنه حبس نفسه عن الكسب وسافر لأجل المضاربة، فأشبه حبس الزوجة التي تستحق النفقة بالاحتباس بخلاف الحضر، فلو أنفق المضارب في السفر من ماله الخاص تضرر بذلك.
والنفقة الواجبة للمضارب في مال المضاربة، كما ذكر الحنفية: هي ما تصرف إلى الحاجة الراتبة وهي الطعام والكسوة والإدام والشراب، وأجر الأجير وأجرة الحمام، ودهن السراج والحطب، وفراش ينام عليه وعلف دابته التي يركبها في سفره ويتصرف عليها في حوائجه، وغسل ثيابه ونحوه مما لا بد في السفر منه عادة. أما ثمن الدواء ففي مال المضارب خاصة في ظاهر الرواية؛ لأن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع، وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة المرأة على الزوج، ودواؤها في مالها كما يذكر متقدمو الحنفية، وهذا محل نظر.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الدواء يدخل في نفقة المضارب؛ لأنه لإصلاح بدنه، ولا يتمكن من التجارة إلا به، فصار كالنفقة (1) .
وأما قدر النفقة: فهو أن يكون بالمعروف عند التجار من غير إسراف، فإن جاوز المعروف ضمن الفضل؛ لأن الإذن ثابت بالعادة، فيعتبر القدر المعتاد.
ولو سافر فلم يتفق له شراء متاع من حيث قصد، وعاد بالمال، فنفقته ما دام مسافراً في مال المضاربة؛ لأن عمل التجار على هذا، وهو أن الشراء قد يحصل في وقت دون وقت، ومكان دون مكان.
__________
(1) البدائع: 106/6، تكملة فتح القدير: 81/7، تبيين الحقائق: 70/5، الدر المختار: 512/4، مجمع الضمانات: ص 308.(5/599)
ويكون للمضارب النفقة، سواء سافر بمال المضاربة وحده، أو بماله ومال المضاربة، أو بمال المضاربة لواحد أو لاثنين، إلا إذا سافر بماله ومال المضاربة أو بمالين لرجلين، كانت النفقة من المالين بالحصص؛ لأن السفر لأجل المالين، فتكون النفقة فيهما (1) .
وأما ما تحتسب النفقة منه: فالنفقة تحتسب من الربح إن حدث ربح، فإن لم يحدث فهي من رأس المال؛ لأن النفقة جزء هالك من المال، والأصل أن الهلاك ينصرف إلى الربح.
ولو أقام المضارب في بلد من البلدان للبيع والشراء، ونوى الإقامة خمسة عشر يوماً، فنفقته من مال المضاربة، ما لم يتخذ من البلد داراً للتوطن. وقال المالكية: ما لم يتزوج.
وإذا رجع المضارب إلى بلده: فما فضل عنده من الكسوة والنفقة رده إلى مال المضاربة؛ لأن الإذن له بالنفقة كان لأجل السفر، فإذا انقطع السفر لم يبق الإذن، فيجب رد ما بقي إلى مال المضاربة.
وإذا أنفق المضارب من ماله على نفسه فيما يحق له أن ينفقه من مال المضاربة، فما أنفقه فهو دين في مال المضاربة، كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال نفسه؛ لأن تدبير أمره مفوض إليه (2) .
ثانياً ـ وأما الحق الثاني للمضارب فهو الربح المسمى: يستحق المضارب بعمله في المضاربة الصحيحة الربح المسمى إن كان في المضاربة ربح، فإن لم يكن ربح فلا شيء للمضارب، لأنه عامل لنفسه فلا يستحق الأجر. وإنما يظهر الربح بالقسمة، وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل أخذ رأس المال من يد المضارب.
__________
(1) البدائع: المصدر السابق.
(2) البدائع، المصدر السابق: ص 107.(5/600)
فلو دفع رجل إلى آخر ألف دينار مضاربة بالنصف، فربح ألفاً فاقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، فهلك (1) في يد المضارب بعد قسمة الربح، فلا تصح هذه القسمة، ويكون ما قبض رب المال محسوباً عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال حتى يستوفي رأس ماله، فإن فضل ربح فهو بينهما.
والدليل على أن رب المال يأخذ رأس ماله قبل قسمة الربح: هو ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل المؤمن مثل التاجر لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله، كذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له عزائمه» (2) فدل الحديث على أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح؛ لأن الربح زيادة، والزيادة على الشيء لا تكون إلا بعد سلامة الأصل.
وإذا اختلف المضارب مع رب المال في رد المال، فقال المضارب: قد كنت دفعت إليك رأس مالك قبل قسمة الربح، وقال رب المال: لم أقبض رأس المال قبل القسمة، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب المال، ويرد المضارب ما قبضه لنفسه لإتمام رأس المال. فإن بقي شيء بعدئذ مما قبضه المضارب كان بينهما نصفين. وإنما كان الحكم هو قبول قول رب المال؛ لأن المضارب في هذه الحالة مدعٍ، ورب المال منكر، والمضارب وإن كان أميناً لكن القول قول الأمين في إسقاط الضمان عن نفسه، لا في التسليم إلى غيره (3) . ويتفق الحنفية مع المالكية والشافعية في الأظهر عندهم، في أنه لا يملك العامل حصة من الربح الحاصل بعمله إلا بقسمة المال لا بظهور الربح.
__________
(1) أي رأس المال.
(2) ذكره الكاساني في البدائع: 107/6، ولم أجده في كتب الحديث المشهورة.
(3) البدائع: 107/6 ومابعدها، المبسوط: 20/22، 105، تبيين الحقائق: 68/5، رد المحتار: 511/4.(5/601)
وقال الحنابلة والزيدية: إن العامل يملك حصته من الربح بظهوره ولو لم يقسم المال. واتفق الفقهاء على أنه يجب على العامل أن يسلم لرب المال أولاً رأس ماله، فلا يستحق شيئاً من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه. وما زاد عنه فهو ربحه، ويكون بين العامل ورب المال بحسب الشرط (1) .
4 ً - وأما حق رب المال: فهو أن يأخذ حصته من الربح المسمى إذا كان في المال ربح، وإن لم يكن فلا شيء له على المضارب (2) .
ولا ربح للعامل في المال حتى يَنِضّ إلى رب المال رأس ماله، أي يتحول نقوداً ويسلم إليه نقداً (3) قال ابن رشد: أجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال، وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بيّنة ولا غيرها. ويغرم رب المال جميع ما تتعرض له تجارة القراض من خسارة أو تلف سماوي مما ليس فيه تعدٍ ولا تقصير من المضارب (4) .
نقص رأس المال: إذا نقص رأس المال بعد التصرف أو العمل بسبب رخص الأسعار أو عيب حدث في الشيء المشترى أو بسبب آفة سماوية كحريق أو غريق أو غصب أو سرقة، يحسب من الربح ويجبر به؛ لأن العامل أمين لا يسأل عن النقص أو التلف إلا بتعد أو تقصير منه.
__________
(1) مغني المحتاج: 318/2، المغني: 51/5، غاية المنتهى: 175/3.
(2) البدائع، المرجع المذكور: ص 108.
(3) المقدمات الممهدات: 8/3.
(4) بداية المجتهد: 238/2.(5/602)
المطلب الرابع ـ حكم اختلاف رب المال والعامل المضارب:
قد يختلف رب المال والمضارب في أمور تتعلق بتنفيذ مقتضى المضاربة كالاختلاف في عموم التصرفات أو خصوصها، وفي تلف المال، وفي رد المال، وفي قدر الربح المشروط، وفي قدر رأس المال.
أ - فإن اختلفا في عموم التصرفات أو خصوصها، فيقبل قول من يدعي العموم، كأن ادعى أحدهما المضاربة في عموم التجارات أو في عموم الأمكنة أو مع عموم الأشخاص الذين يضارب معهم، وادعى الآخر نوعاً دون نوع، ومكاناً دون مكان، وشخصاً دون شخص، فيقبل قول مدعي العموم؛ لأنه يتفق مع مقصود عقد المضاربة، إذ المقصود من العقد هو الربح، وهذا المقصود يتحقق بنحو أوفر في التعميم.
وكذلك يقبل قول من يدعي الإطلاق إذا اختلفا في الإطلاق والتقييد كأن قال رب المال: أذنت لك أن تتجر في الحنطة دون ما سواها، وقال المضارب: ما سميت لي تجارة بعينها، فيقبل قول المضارب مع يمينه؛ لأن الإطلاق أقرب إلى تحقيق المقصود من العقد.
أما لو اختلف المتعاقدان في النوع المخصص للمضاربة فيه، فقال رب المال: دفعت المال إليك مضاربة في القماش، وقال المضارب: في الحبوب، فالقول قول رب المال؛ لأنه لا يمكن الترجيح هنا بالمقصود من العقد؛ لأن المضاربة تصلح في النوعين فيرجح أحدهما بالإذن الصادر من رب المال (1) .
ب ـ وإن اختلف رب المال والمضارب في تلف المال، فادعاه المضارب وأنكره رب المال، أو اختلفا في الخيانة أو (التعدي) فادعاها رب المال وأنكر المضارب، فالقول قول المضارب باتفاق العلماء؛ لأن المضارب ـ كما عرفنا ـ أمين، والأصل عدم الخيانة، فكان القول قوله كالوديع.
جـ ـ وإن اختلف العاقدان في رد المال، فادعاه العامل وأنكره رب المال، فالقول عند الحنفية والحنابلة قول رب المال، كما تقدم، ولأن المضارب قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله بالنسبة للرد كالمستعير.
__________
(1) البدائع: 109/6، تكملة فتح القدير: 87/7، المبسوط: 42/22، تبيين الحقائق: 75/5.(5/603)
وعند المالكية والشافعية في الأصح: القول هو قول المضارب، لأنه مأمون كالوديع (1) .
د ـ وإن اختلفا في قدر رأس المال يقبل قول المضارب باتفاق الفقهاء (2) كأن قال رب المال: دفعت إليك ألفين، وقال المضارب: دفعت إلي ألفاً، فيقبل قول المضارب؛ لأن المتعاقدين اختلفا في مقدار المقبوض، فكان القول قول القابض بدليل أنه لو أنكر القبض أصلاً، وقال: لم أقبض منك شيئاً كان القول قوله، فكذا لو أنكر البعض دون البعض.
ولو اختلف المتعاقدان في قدر رأس المال وفي مقدار الربح أيضاً، كأن قال رب المال: رأس المال ألفان، والمشروط ثلث الربح. وقال المضارب: رأس المال ألف، والمشروط نصف الربح، فقال الحنفية والحنابلة: القول قول المضارب أيضاً في قدر رأس المال، وقول رب المال في مقدار الربح. ويرى الشافعية أن المصدق بيمينه في الحالتين هو العامل؛ لأن الأصل عدم دفع زيادة على رأس المال، والأصل عدم الربح.
هـ ـ وإذا اختلف رب المال مع المضارب في مقدار الربح المشروط في العقد: فقال الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القول قول رب المال، مثل أن يقول المضارب: شرطت لي نصف الربح، فيقول رب المال: بل ثلثه، فيقبل قول رب المال؛ لأن صاحب المال ينكر الزيادة على النصف والقول قول المنكر (3) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ولكن اليمين على المدعى عليه» (4) .
__________
(1) البدائع: 108/6، المغني: 70/5، مغني المحتاج: 322/2، المهذب: 389/1، الشرح الكبير: 536/3، غاية المنتهى: 178/2.
(2) تبيين الحقائق: 74/5، البدائع: 109/6، تكملة فتح القدير: 86/7، المبسوط: 27/22، بداية المجتهد: 241/2، مغني المحتاج: 321/2، المهذب: 389/1، المغني: 69/5، غاية المنتهى: 178/2.
(3) المبسوط: 89/22، البدائع: 109/6، المغني: 70/5، غاية المنتهى: 178/2.
(4) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس، ولفظه عند البيهقي في سننه: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (انظر نصب الراية: 96/4) وهناك حديث أخرجه الترمذي والدارقطني في سننيهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (راجع نصب الراية: 390/4) .(5/604)
وقال المالكية: القول قول المضارب بيمينه في قدر جزء الربح؛ لأنه أمين، وذلك بشرطين: أولهما ـ أن يأتي بما يشبه أحوال الناس في المضاربة. وثانيهما ـ أن يكون المال ما زال موجوداً في يد المضارب حساً أو معنى، ككونه وديعة عند شخص أجنبي (1) .
وقال الشافعية: إذا اختلفا في القدر المشروط للعامل من الربح، كأن قال: شرطت النصف، فقال المالك: بل الثلث، تحالفا، كاختلاف المتبايعين في قدر الثمن، فلا ينفسخ العقد بالتحالف، بل يفسخانه أو يفسخه أحدهما أو الحاكم. ويكون للعامل حينئذ أجرة المثل لعمله، بالغة ما بلغت، لتعذر رجوع عمله إليه، فوجب له قيمته وهو الأجرة (2) . فإن اختلفا في الربح، فقال العامل: لم أربح شيئاً أو لم أربح إلا كذا، صُدِّق العامل بيمينه؛ لأن الأصل عدم الربح.
وـ وإن اختلف المتعاقدان في صفة رأس المال، فقال رب المال: دفعت إليك مضاربة أو وديعة أو بضاعة لتشتري به وتبيع (3) ، وقال العامل: بل أقرضتني المال، والربح لي، فالقول عند الحنفية والحنابلة والشافعية قول رب المال؛ لأن الشيء المدفوع ملكه، فالقول في صفة خروجه عن يده، ولأن المضارب يدعي على رب المال التمليك، وهو منكر، وذلك كالخلاف في نوع رأس المال. وقال المالكية: القول للعامل بيمينه كالاختلاف في جزء الربح، لرجحان جانب العامل بالعمل، ولأنه أمين (4) .
__________
(1) الشرح الكبير: 537/3، بداية المجتهد: 241/2.
(2) مغني المحتاج: 322/2، المهذب: 389/1.
(3) أي أن الربح جميعه لرب المال، لأن العامل لم يطلب لعمله بدلاً، وعمله لا يتقوم إلا بالتسمية، فكان وكيلاً متبرعاً، وهذا هو معنى البضاعة.
(4) تبيين الحقائق: 75/5، تكملة فتح القدير: 86/7، البدائع: 110/6، المبسوط: 91/22، المغني: 71/5، الشرح الصغير: 707/3.(5/605)
ولو قال رب المال: أقرضتك، وقال المضارب: دفعت إلي مضاربة، فالقول قول المضارب عند جمهور العلماء؛ لأنهما اتفقا على أن الأخذ كان بإذن رب المال، ورب المال يدعي على المضارب الضمان، وهو ينكر، فكان القول قوله. وقال المالكية: القول لرب المال بيمين؛ لرجحان جانبه بأن الأصل في وضع اليد على مال الغير هو الضمان، كما هو مقتضى دعوى رب المال (1) .
المطلب الخامس ـ مبطلات المضاربة:
تبطل المضاربة في الحالات التالية (2) :
1 - الفسخ والنهي عن التصرف أو العزل: تبطل المضاربة بالفسخ، وبالنهي عن التصرف أو العزل إذا وجد شرط الفسخ والنهي: وهو علم صاحبه بالفسخ والنهي، وأن يكون رأس المال ناضاً أي نقداً وقت الفسخ والنهي، حتى يتبين ما إذا كان هناك ربح مشترك بين المضارب ورب المال، فإن كان متاعاً لم يصح العزل. ويترتب عليه أنه إذا لم يعلم المضارب بالفسخ أو بالنهي وتصرف، جاز تصرفه، وإذا علم بالعزل وكان المال أمتعة (عروضاً) فله أن يبيعها لينض رأس المال ويظهر الربح، ولا يملك رب المال عندئذ نهيه عن البيع لما فيه من إبطال حقه. وهذا متفق عليه بين فقهاء المذاهب الأربعة. إلا أن المالكية قالوا: يصبح العقد بالشروع في العمل لازماً للطرفين، فلا يفسخ إلا باتفاقهما. وغير المالكية يعتبرون العقد غير لازم قبل الشروع وبعده، كما تقدم.
2 - موت أحد العاقدين: إذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة عند الجمهور؛ لأن المضاربة تشتمل على الوكالة، والوكالة تبطل بموت الموكل
__________
(1) المراجع السابقة، الشرح الكبير: 536/3، مغني المحتاج: 321/2، الشرح الصغير: 708/3.
(2) البدائع: 6 ص 112 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 74/7 ومابعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص 66 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 308، رد المحتار على الدر المختار: 4 ص 510، وانظر مغني المحتاج: 2 ص 319 ومابعدها، المهذب: 1 ص 388، المغني: 5ص58، كشاف القناع: 2 ص 269، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 535.(5/606)
أو الوكيل. ويتم بطلان المضاربة سواء علم المضارب بموت رب المال أو لم يعلم؛ لأن الموت عزل حكمي، فلا يقف على العلم، كما في الوكالة.
وقال المالكية: لا تنفسخ المضاربة بموت أحد العاقدين، ولورثة العامل القيام بالمضاربة إن كانوا أمناء، أو يأتوا بأمين (1) .
3 - جنون أحد العاقدين: تبطل المضاربة بجنون أحد المتعاقدين إذا كان عند غير الشافعية مطبقاً؛ لأن الجنون يبطل الأهلية، وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة، مثل الإغماء والحجر على رب المال نفسه. أما الحجر على المضارب للسفه فإنه لا ينعزل عند الحنفية؛ لأنه يصبح كالصبي المميز، والمميز عندهم أهل لأن يوكل عن غيره، فكذلك السفيه.
4 - ارتداد رب المال عن الإسلام: إذا ارتد رب المال عن الإسلام، ومات أو قتل على الردة، أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه، بطلت المضاربة من يوم الردة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن اللحوق بدار الحرب بمنزلة الموت، وهو يزيل أهلية رب المال بدليل أن المرتد يقسم ماله بين ورثته.
وإذا ارتد المضارب فالمضاربة على حالها لتوافر أهليته، حتى إنه لو اشترى وباع وربح، ثم قتل على ردته أو مات أو لحق بدار الحرب فإن جميع ما فعل مما ذكر جائز، والربح بينهما على ما شرطا؛ لأن عبار ة المرتد صحيحة لتوافر التمييز والآدمية دون خلل فيهما.
ويلاحظ أنه إذا صار رأس المال متاعاً، فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز حتى ينض رأس المال (أي يتحول إلى النقدية) ، وحينئذ لا ينعزل المضارب بالعزل والنهي ولا بموت رب المال ولا بردته أيضاً (2) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 283.
(2) المبسوط: 19 ص 104، 22 ص 86، تكملة فتح القدير: 7 ص 76، البدائع، المرجع السابق.(5/607)
5 - هلاك مال المضاربة في يد المضارب: إذا هلك رأس المال في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئاً بطلت المضاربة؛ لأن المال تعين لعقد المضاربة بالقبض، فيبطل العقد بهلاكه كالوديعة.
وكذا تبطل المضاربة باستهلاك المضارب مال المضاربة أو إنفاقه أو دفعه إلى غيره، فاستهلكه، حتى إن المضارب لا يملك أن يشتري به شيئاً للمضاربة. فإن أخذ المضارب مثل المال من الذي استهلكه، كان له أن يشتري به على المضاربة.
هذه هي الحالات التي تبطل بها المضاربة كما ذكر الحنفية. وإذا انفسخت المضاربة ومال المضاربة ديون على الناس، وامتنع المضارب عن تقاضي الديون وقبضها: فإن كان المضارب قد ربح، أجبره الحاكم على اقتضاء الديون، لأنه بمنزلة الأجير، والربح كالأجر له، والأجير مجبور على العمل فيما التزم. وإن لم يكن هناك ربح لم يلزمه اقتضاء الدين، لأنه يعتبر وكيلاً، والوكيل متبرع، والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به، غير أنه يؤمر المضارب أو الوكيل أن يحيل رب المال على الذي عليه الدين، حتى يمكنه قبضه؛ لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد، فلا تثبت ولاية القبض لرب المال إلا بالحوالة من العاقد، فيلزمه أن يحيله حتى لا يضيع حقه.
وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال؛ لأن الربح تابع للمال، ورأس المال أصل له، ولا يعتبر التبع قبل حصول الأصل، فيكون صرف الهلاك إلى التابع أولى. فإذا زاد الهلاك على الربح فلا ضمان على المضارب؛ لأنه أمين.(5/608)
...........................الشركات بين القديم والحديث...........................
...................................في الفقه الإسلامي.................................
الإسلام دين الحياة كما هو معروف، فما من كسب مشروع حلال إلا أقرته الشريعة، وما من كسب مشبوه يوقع في النزاع والجدال، ويحطم علاقات الود والتعاون بين الناس إلا حظرته الشريعة، وأوصدت الباب أمامه، فالشريعة مع الناس يسراً وسماحة إذا تحققت مصالحهم دون تصادم بينهم، وهي لا تقرهم إذا هم أوقعوا أنفسهم في متاهات الجهالة والمنازعات والظلم والاستغلال، وعليه نظمت الشركات في الإسلام على أساس التراضي المشترك، والعدل، ومراعاة المصالح، والأعراف الصحيحة المشروعة، وأن الأصل في العقود هو الإباحة والحل، وما أجمل قول الفقهاء في هذا الصدد: «الشركة تنعقد على عادة التجار» .
ومن أهم موارد الكسب المشروع ثلاثة هي: التجارة والصناعة والزراعة، وقد يقوم الفرد عند استطاعته بها، والغالب أنه يحتاج إلى التعاون مع غيره، لعدم توافر القدرات والإمكانات المالية أو البشرية لديه، سواء بالنسبة للخبرة الفنية، أو الجهد، أو من أجل التخفيف من احتمالات المخاطر التي قد تصادف المرء في خضم الحياة الرهيب. ومن هنا شرعت الشركة في الشرائع السماوية؛ لأن التعاون بين الناس أمر ضروري، وقد قص القرآن الكريم علينا على لسان داود عليه السلام نبأ الشركاء، فقال تعالى: {وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} [ص:24/38] (1) ، وأشرك الله بعض الورثة في بعض الأنصبة فقال عن الإخوة لأم: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} [النساء:12/4] .
__________
(1) الخلطاء هنا أي الشركاء.(5/609)
وأكدت السنة النبوية مبدأ مشروعية الشركة، ففي الحديث القدسي: «إن الله عز وجل يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما» والمعنى: أنا معهما بالحفظ والإعانة، أمدهما بالمعونة في أموالهما، وأنزل البركة في تجارتهما، فإذا وقعت بينهما الخيانة رفعت البركة والإعانة عنهما. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلم تعاون الناس بالشركة، كما في أحاديث كثيرة، وقال: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» وصح أن السائب بن أبي السائب قال للنبي صلّى الله عليه وسلم بعد بعثته: «كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني» [أي لاتمانعني ولاتحاورني] رواه أبو داود. ولفظ ابن ماجه: «كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري» وجاء السائب يوم الفتح، فقال له النبي عليه السلام: «مرحباً بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري» .
والشركة كما أبان الحنفية هي: عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح.
وتعددت أنواع الشركات قديماً وحديثاً، إما على أساس الاشتراك في الأموال، أو في الأعمال والتصرفات، أو في الضمان (الالتزام) .
فشركة الأموال تعتمد على عنصر الاشتراك في رأس المال. وشركة الأعمال تعتمد على الحرفة والصنعة وضمان العمل، وشركة الوجوه ترتكز على عنصر ثقة الناس بالشريكين، من غير أن يكون لهما رأس مال.(5/610)
وأجاز فقهاء الحنفية والزيدية كل أنواع الشركات: الإجبارية وهي شركات الأملاك، والاختيارية وهي شركات العقود. ومن أهم أنواع الشركات في الماضي والحاضر: شركة المضاربة وهي التي يكون المال فيها من جانب، والعمل من جانب آخر، أجازها الشرع لحاجة الناس إليها، إذ قد يوجد ذو المال الذي لا يتمكن من التصرف فيه، ويوجد من يحسن التصرف ولا مال له، ويوزع الربح بينهما بحسب الاتفاق، ويتحمل صاحب رأس المال الخسارة وحده، ويكفي العامل ضياع جهده وعمله.
وتعارف الناس في عصرنا أنواعاً جديدة من الشركات، نظم القانون المدني بعضها كشركة التضامن والتوصية البسيطة والمساهمة وغيرها، وأغفل تنظيم بعضها الآخر كشركة المحاصة والشركة على البهائم، وشركات السيارات إما مع إجارة أو بدون إجارة، ولا بد لنا من بيان حكم هذه الشركات في الشريعة، لكثرة سؤال الناس عنها، وتعارفهم ألواناً من الشركات قد تكون معقدة وغير جائزة.
واكتفى القانون المدني الأردني المستمد من الشريعة ببيان أحكام بعض أنواع الشركات بنحو خاص وهي شركة الأعمال، وشركة الوجوه، وشركة المضاربة في المواد 611-635 بعد بيان الأحكام العامة للشركات بوجه عام في المواد 582-610، وقد استقى هذا القانون شركتي الأعمال والوجوه من المذهبين الحنفي والحنبلي، وأحكام شركة المضاربة من المذهب الحنفي.
والقانون المدني الوضعي في سورية ومصر قسم الشركات إلى قسمين: شركات أشخاص وشركات أموال.
أما شركات الأشخاص: فهي التي يبرز فيهاالعنصر الشخصي، فتقوم على شخصية الشركاء والثقة المتبادلة بينهم، بصرف النظر عن المال الذي يقدمه كل شريك. وهي تشمل شركة التضامن، وشركة التوصية البسيطة، وشركة المحاصة.
وأما شركات الأموال: فهي التي تعتمد عند تكوينها على عنصر المال، بقطع النظر عن شخصية الشريك، وهي تشمل شركة المساهمة، وشركة التوصية بالأسهم، والشركة ذات المسؤولية المحدودة.(5/611)
فما حكم كل نوع من هذه الأنواع في الشريعة الإسلامية؟
1 - شركة التضامن: وهي الشركة التي يعقدها اثنان أو أكثر بقصد الاتجار في جميع أنواع التجارات أو في بعضها، ويكون الشركاء فيها مسؤولين بالتضامن عن جميع التزامات الشركة، ليس في حدود رأس المال فقط، بل قد يتعدى ذلك إلى الأموال الخاصة لكل شريك.
ويلاحظ أن لعنصر الضمان (أو الكفالة أو الالتزام) في هذه الشركة شبهاً فيما تتميز به شركة المفاوضة التي لم يجزها غير الحنفية والزيدية، وهي التي تتطلب الاشتراك في عموم التجارات، بشرط التساوي بين الشركاء في رأس المال والتصرف والدين أي الملة، ويكون كل شريك كفيلاً عن الآخر فيما يلتزم به من التزامات تتعلق بالشركة. وبما أن تحقيق المساواة بين الشركاء أمر عسير، لاحتمال حدوث زيادة في أموال كل من الشركاء، فتصبح هذه الشركة نادرة الوجود، أو قصيرة الأجل وعديمة الاستمرار، مما يجعلها سريعة التحول والانقلاب إلى شركة عنان.(5/612)
وشركة العنان لا تتطلب المساواة في المال ولا في التصرف ولا في الملة، وهي أن يشترك اثنان في مال لهما على أن يتجرا فيه، والربح بينهما. فيجوز أن يكون مال أحدهما أكثر من الآخر، كما يجوز أن يكون أحدهما مسؤولاً عن الشركة، والآخر غير مسؤول، فليس فيها كفالة، فلا يطالب أحدهما إلا بما عقده بنفسه من التصرفات، أما تصرفات شريكه فهو غير مسؤول عنها. ويقسم الربح بينها بحسب شرطهما الذي اتفقا عليه عند جمهور الفقهاء (خلافاً للشافعي فإن الربح عنده على قدر المال) ، فيجوز أن يزيد ربح أحدهما عن الآخر بسبب خبرته في التجارة، مع التساوي في رؤوس الأموال أو التفاوت فيها، وتكون الوضيعة أو الخسارة على قدر رأس المال باتفاق المذاهب عملاً بالحديث: «الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين» ، ولا مانع في تقديري خلافاً لرأي الكمال بن الهمام الحنفي من اشتراط الكفالة في شركة العنان، فيصبح كل شريك كفيلاً عن صاحبه وضامناً له؛ لأن الكفالة عقد تبرع، وقد شرطها الشريكان، وهي جائزة في غير الشركة، وإذا جازت الكفالة بين شخصين لا علاقة مالية بينهما، فلأن تجوز بين شخصين ارتبطا بعقد الشركة أولى. ويؤكد ذلك أن الأصل في العقود هو التراضي، والشركة عقد يقوم على التراضي، فيلزم الوفاء بكل شرط لا يصادم النصوص الشرعية.
2 - شركة التوصية البسيطة: هي الشركة التي تعقد بين شركاء بعضهم متضامنون، وبعضهم موصون، فالمتضامنون هم الذين لهم أموال ويقومون بأعمال إدارة الشركة، وهم مسؤولون عن الإدارة، متحملون لالتزاماتها، متضامنون في هذه المسؤولية وفي إيفاء ديون الشركة. والموصون: يقدمون المال، ولا يسألون عن إدارتها، ولا يتحملون التزاماتها.(5/613)
وهذه الشركة جائزة أيضاً، لأن فقهاءنا أجازوا في شركة العنان أن يشترط العمل لأحد الشريكين، ويسأل عنه دون غيره، ويجوز بناء على ذلك أن تشترط زيادة الربح للعامل، أو يقدر له مرتب خاص، ويكون أجيراً. ولا فرق بين أن يكون المسؤول عن إدارة الشركة شريكاً واحداً أو أكثر، وغير المسؤول واحداً أو أكثر، فاشتراط الكفالة والمسؤولية بين الفريق الأول دون الثاني جائز، كما تبين في شركة التضامن.
كما أنه يمكن جعل هذه الشركة نوعاً من أنواع شركة المضاربة، الشريك المتضامن هو المضارب، المتصرف في الشركة، المسؤول عن الحقوق المتعلقة بها أمام الغير. والشريك الموصي هو رب المال في شركة المضاربة، وهو غير مسؤول عن إدارة الشركة، ولا يضمن لأصحاب الحقوق المتعاملين حقوقهم، ولا يتحمل من الالتزامات إلا خسارة رأس مال في حالة الخسارة، ولا يسأل العامل المضارب عن الخسارة فيما يسمح له من التصرفات، ويكون المضارب حر التصرف بحسب عادة التجار، وتوزع الأرباح على حسب الاتفاق بين المتشاركين في شركة المضاربة.
والخلاصة: إن هذه الشركة تعتبر شركة مضاربة مع بعض الفروق الطفيفة بينهما في الأحكام الفقهية. ويلاحظ أن انتشار شركات المساهمة حدَّ كثيراً من انتشار شركات التوصية؛ لأن شركات المساهمة تمارس عادة نشاطاً واسعاً في الاستثمارات، وكثيراً ما يكون التوفيق حليفها لما يتوفر لها من رؤوس أموال كبيرة. ومزية شركة التوصية تتحقق في شركة المساهمة، وهذه المزية هي أن المساهم لا يكتسب صفة التاجر، ولا يسأل إلا في حدود قيمة الأسهم التي اكتتب فيها.(5/614)
3 - شركة المحاصة: هي عقد كباقي العقود، بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي، بتقديم حصة من مال، أو من عمل، لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو من خسارة، إلا أنها تمتاز بخفائها عن الجمهور، فليس لها رأس مال شركة، ولا عنوان شركة، فهي غير معروفة من الناس، وليس لها وجود ظاهر، وليس لها شخصية معنوية مستقلة كباقي الشركات. فهي شركة وقتية كالتي تنشأ في مزاد مثلاً أو في صفقة تنتهي بانتهائها، وتصفى الأرباح عقب الفراغ منها. فالذي يبرز منها شريك واحد يتعامل في الظاهر باسمه، وتبقى الشركة مستترة، ليس لها شخصية اعتبارية.
وهذه الشركة إجمالاً جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من أنواع شركة العنان، ليست فيها مساواة، ولا تضامن، ولا تكافل، وهي معقودة على نوع خاص من أنواع التجارات، والربح يوزع فيها بحسب الاتفاق، والخسارة تكون بحسب رؤوس الأموال التي استعملت فيها.
وبصفة دقيقة تعد شركة المحاصة شركة عنان إذا كانت حصص الشركاء شائعة الملكية بين الشركاء. وتعد شركة عنان ومضاربة إذا احتفظ كل شريك بملكية حصته، لكنه سلمها لواحد لاستثمارها مع بقية الحصص لمصلحة الكل، على أن يقتسموا الربح أو الخسارة فيما بينهما بحسب الاتفاق أو الحصص. فالمال المقدم من أصحابه إلى أحدهم يعد مضاربة، ويكون الشريك المتصرف مضارباً، لكنه لما كان متقدماً بجزء من رأس المال فهو شريك عنان أيضاً، كما أنه إذا تصرف معه بعض الشركاء في إدارة الشركة، كانت الشركة شركة عنان بينهم. وأما الذين لم يساهموا في الإدارة فهم شركاء مضاربون. ومن المعلوم أن شركة المفاوضة: هي اشتراك أنواع من شركة العنان والوجوه والأبدان؛ لأن ما صح بانفراده؛ صح مع غيره. فيجوز بناء عليه تعدد أنواع الشركات في شركة واحدة.(5/615)
4 - شركة المساهمة: هي أهم أنواع شركات الأموال، وهي التي يقسم فيها رأس المال إلى أجزاء صغيرة متساوية، يطلق على كل منها سهم غير قابل للتجزئة، ويكون قابلاً للتداول. وتتحدد مسؤولية المساهم بقدر القيمة الاسمية لأسهمه. ويعتبر مدير الشركة وعمالها أجراء عند المساهمين، لهم مرتبات خاصة، سواء أكانوا مساهمين أم غير مساهمين. وليس لمدير الشركة أن يستدين عليها بأكثر من رأس مالها، فإن فعل ضمن هو، ولا ضمان على المساهمين إلا في حدود أسهمهم. وتوزع الأرباح بنسبة الأسهم أي بنسبة رؤوس الأموال. وتسمى شركة مغْفَلة لإغفال الاعتبار الشخصي فيها، وإنما الاعتبار الأول في تكوينها هو للمال، وليس لشخصية الشركاء، بل لا يعرف الشركاء بعضهم بعضاً، ولا يعرفون شيئاً عن إدارة الشركة إلا ما يعرضه مجلس إدارتها على الجمعية العمومية عند اجتماعها كل سنة. ورأى المشرع الوضعي قصر نشاطات الشركات المساهمة على المشروعات الكبيرة نسبياً التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة لا تتوافر عادة لدى الأشخاص، كصناعة الغزل والنسيج، والمنسوجات القطنية وغيرها، والحديد والصلب، والخزف ونحو ذلك.
وهذه الشركة جائزة شرعاً؛ لأنها شركة عنان، لقيامها على أساس التراضي، وكون مجلس الإدارة متصرفاً في أمور الشركة بالوكالة عن الشركاء المساهمين، ولا مانع من تعدد الشركاء، واقتصار مسؤولية الشريك على أسهمه المالية مشابه لمسؤولية رب المال في شركة المضاربة. ودوام الشركة أو استمرارها سائغ بسبب اتفاق الشركاء عليه، والمسلمون على شروطهم فيما هو حلال. وإصدار الأسهم أمر جائز شرعاً. أما إصدار السندات أي القروض بفائدة فلا يحل شرعاً.(5/616)
5 - شركة التوصية بالأسهم: هي التي تضم نوعين من الشركاء: متضامنين ومساهمين، والمساهمون كالشركاء الموصين في شركة التوصية البسيطة، لا يسأل الواحد منهم إلا في حدود الحصة التي يقدمها، إلا أن المساهمين عددهم أكثر بحيث يسمح بقيام جمعية عمومية منهم، ويختلف المساهم عن الموصي في أن الأول يملك أسهماً قابلة للتداول، على عكس الثاني. ولا اعتبار لأشخاص الشركاء، وإنما الاعتبار لأموالهم في هذه الشركة. وهي شركة جائزة شرعاً؛ لأنها نوع من شركات العنان التي يشترط فيها التضامن بين بعض الشركاء، وتلك كفالة جائزة. وحرية الشريك المتضامن بالتصرف مستمدة من إذن الشركاء الآخرين. وعمل المتضامنين في أموال المساهمين خاضع لأحكام شركة المضاربة، ولا مانع من كون بعض الشركاء مساهمين كما بان في شركة المساهمة؛ لأن تقديم الحصة بالأسهم جائز شرعاً، خصوصاً إذا انحصر عدد المساهمين، وعرف بعضهم بعضاً.
6 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة: هي شركة تجارية كباقي شركات الأموال، لا اعتبار فيها لشخصية الشركاء، واشترط القانون فيها ألا يزيد عدد الشركاء عن خمسين شريكاً، لا يكون كل منهم مسؤولاً إلا بقدر حصته. فهي تجمع بين خصائص شركات الأموال وشركات الأشخاص. ففيها من شركات الأموال أن مسؤولية الشريك محدودة بمقدار حصته، وأن حصته تنتقل إلى ورثته، وإدارتها كما في شركات المساهمة، يجوز أن يعين لها مدير من المساهمين أو من غيرهم بمرتب محدد، ويكون أجيراً، أو يديرها أحد الشركاء نظير جزء من الأرباح. وفيها من شركات الأشخاص أن الشريك يكون صاحب حصة في الشركة وليس مساهماً، ولا تكون حصص الشركاء قابلة للتداول كالأسهم التجارية. وأهم ما يميزها أنها تتم بالاشتراك الشخصي لا بالاكتتاب العام.(5/617)
وكل ذلك جائز شرعاً، وتعتبر هذه الشركة من شركات العنان، وقد يكون فيها بعض خصائص المضاربة كما في تحديد مسؤولية الشريك بمقدارحصته، كما أن رب المال في المضاربة لا يسأل إلا في حدود رأسماله.
والخلاصة: إن هذه الشركات التي أقرها القانون المدني ليست غريبة عن قواعد الفقه الإسلامي، وإنما هي منسجمة مع أنظمة الشركات التي عرفها فقهاؤنا، ولكنها متطورة بحسب حاجة العصر وعرفه، فشركات الأشخاص تعتبر جميعها من قبيل شركة المضاربة في الفقه الإسلامي مع اختلاف في بعض الأحكام بين الشريعة والقانون حسبما تقتضيه مصلحة الناس وطبيعة التطور. وشركات الأموال تعتبر في الغالب من قبيل شركات العنان، مع بعض أوصاف شركة المفاوضة في حال التضامن، وأوصاف شركة المضاربة في حال تحديد مسؤولية الشريك بمقدار حصته فقط. والإدارة توكيل في القيام بالأعمال، إذا كان المدير شريكاً مساهماً، والوكالة تصح بأجر أو بغير أجر أو أن المدير أجير بعقد الاستئجار أو التوظف إذا كان غير مساهم، فهو يعمل بأجر بحكم التوظف، لا بحكم المشاركة.(5/618)
شركات السيارات: كثيراً ماتنعقد الشركة في ملكية سيارة شاحنة أو صغيرة سياحية أو لنقل الركاب، ويكون بعض الشركاء ملاَّكاً لحصص معينة، وواحد منهم سائق للسيارة وشريك يملك بعض الأسهم معاً، ويتقاضى السائق عادة أجراً أو راتباً شهرياً معيناً، وقد يوافق مالك السيارة على أن يتنازل عن ربعها مثلاً للسائق على أن تسدد قيمة الربع من الأرباح في المستقبل. وهذا كله جائز لتعارف الناس؛ لأن الشركة تنعقد على حسب العادة، وهي مبنية على التوسع والمسامحة، وتنعقد أيضاً على الضمان أو على ذمم الشركاء أو على عملهم، والشركة تنبني على الوكالة أو على الوكالة والكفالة. ويأخذ السائق حصته من الأرباح، كما يتقاضى الأجر المتفق عليه، ولا مانع من أن يكون الأجر مقطوعاً محدداً أو مسمى، أو جزءاً نسبياً من الربح. وقد بينت في بحث شركة المساهمة وشركة التضامن أنه لا مانع شرعاً من اعتبار مدير الشركة أجيراً موظفاً على العمل. ولا مانع من وجود صفتي الشركة والإجارة، في شيء واحد، في رأي المالكية والشافعية قياساً على المزارعة والمساقاة، ولأن المنع من وجود عقدين في عقد أو شرطين في عقد يزول إذا زالت علته أو حكمته وهو عدم إثارة النزاع والجدال، وعدم المنازعات جرى عليه العرف والعادة، فلم يعد الشرط مفسداً، وللناس فيها حاجة.
شركة البهائم: تقوم شركات متعددة في وقتنا الحاضر بين الناس لرعي الماشية أو لتربية الأبقار والأغنام، فيقدم المال من شريك، والعمل من الشريك الآخر، وقد يشترك الشريكان في دفع ثمن البهائم، ثم ينفرد أحدهما في العمل إما بالرعي أو بتقديم الطعام والشراب، والحراسة والتنظيف. وذلك كله جائز شرعاً بشرط انتفاء الجهالة الفاحشة المفضية الى النزاع والخصام، ولا تضر الجهالة اليسيرة التي لا تفضي الى التنازع، ويتسامح الناس فيها عادة. وبناء على هذا المبدأ يعرف حكم الصور الآتية:(5/619)
1 - إذا اشترى شخص بعض البهائم، ودفع ثمنها كله من ماله، وتعهد شخص آخر بتربيتها وشراء الطعام لها، فهذه الشركة لا تصح؛ لأن ما يشتريه العامل من الطعام مجهول جهالةفاحشة تؤدي إلى المنازعة فيفسد أو يبطل العقد.
2 - إذا كان ثمن العلف يستوفى مما تنتجه البهائم من ألبان، ويوزع باقي ريع اللبن على الشريكين، فلا تصح الشركة، إذ قد يكفي اللبن للطعام وقد لا يكفي. فإذا تكفل صاحب رأس المال بما قد تحتاجه من طعام، صح العقد.
3 - إذا اقتصر عمل العامل على التربية والرعاية والإطعام. وتكفل أو تعهد رب المال بأثمان النفقات والطعام، صحت الشركة، وتكون شركة مضاربة. ولايقال: إن تناول الحيوان طعامه باختياره أمر طبيعي، لا أثر له في نمو وزيادة الحيوان، كما تصور الحنفية؛ لأن عمل العامل ضروري من تقديم الطعام بنسب معينة وفي وجبات مخصصة، والقيام بالخدمة والإشراف والتنظيف والرعاية، وفي ذلك أثر ملحوظ في تسمين الحيوانات وزيادة سعرها وتحسين نتاجها.
4 - إذا اشترك اثنان في دفع ثمن الحيوان ونفقة الطعام والشراب، وتبرع أحدهما بالخدمة، صحت الشركة؛ لأنها اقتصرت على المشاركة في رأس المال، دون العمل.
5 - الصورة الغالبة الآن: هي الاشتراك في أثمان الماشية، وأخذ الراعي أو العامل ألبان الماشية وأسمانها نظير القيام بما يلزمها من خدمة وعناية ورعاية، وأما النتاج من أولاد وأصواف فيقسم بين الشريكين مناصفة. هذه الشركة جائزة شرعاً كما قررت لجنة الفتوى بالأزهر عام 1948م، لتعامل الناس بها وتعارفهم عليها، وحاجتهم إليها، ولم يوجد نص يحظرها من كتاب أو سنة أو إجماع، ولا يترتب عليها حدوث منازعات وعداوات، فتجوز تيسيراً على الناس، وأما الجهالة فهي يسيرة لا تفضي إلى المنازعة.
والخلاصة: إن دين الله يسرلا عسر، والأعراف الصحيحة التي لا تصادم الشريعة معتبرة، والاجتهاد في ذلك متعين، والتجديد والتطور أمران ضروريان.(5/620)
الفَصْلُ السّادس: الهِبَة
خطة الموضوع:
بيان الهبة في المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ ركن الهبة.
المبحث الثالث ـ شروط الهبة.
المبحث الرابع ـ حكم الهبة.
المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة.
المبحث السادس ـ عطية الأبناء.
المبحث الأول ـ تعريف الهبة ومشروعيتها:
الهبة تشمل الهدية والصدقة؛ لأن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، فإن قصد منها طلب التقرب إلى الله تعالى بإعطاء محتاج، فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدى إليه، إعظاماً له وتودداً، فهي هدية، وإلا فهي هبة. والعطية: الهبة في مرض الموت. والهبة في الاصطلاح الشرعي: عقد يفيد التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً (1) ، وعرفها الحنابلة (2) بأنها: تمليك جائز التصرف مالاً معلوماً أو مجهولاً تعذر علمه (3) ، موجوداً، مقدوراً على تسليمه، غير واجب، في الحياة، بلا عوض، بما يعد هبة عرفاً (4) من لفظ هبة وتمليك ونحوهما. والقيود احتراز عن العارية، ونحو كلب، وحَمْل، ونفقة زوجة، ووصية، ونحو بيع. فكلمة تمليك لإخراج العارية، والمال لإخراج ما ليس بمال كالكلاب، والمقدور على تسليمه لإخراج الحمل، وغيرا لواجب لإخراج الديون والنفقات، وفي الحياة لإخراج الوصية، وبلا عوض لإخراج عقود المعاوضات.
والهبة مشروعة مندوب إليها لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مرئياً} [النساء:4/4] .
وقوله سبحانه: {وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ... } [البقرة:177/2] الآية. ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» (5) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتحقرن جارة أن تهدي لجارتها ولو فرسن شاة» (6) : أي
__________
(1) مغني المحتاج: 396/2، المغني: 591/5، فتح القدير: 113/7، حاشية ابن عابدين: 530/4.
(2) غاية المنتهى: 328/2، كشاف القناع: 329/4.
(3) بأن اختلط مال اثنين على وجه لايتميز، فوهب أحدهما الآخر ماله.
(4) قوله بما يعد هبة: متعلق بتمليك، والباء للسببية.
(5) أخرجه أصحاب الكتب المشهورة عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وروي مرسلاً، فحديث أبي هريرة رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى والنسائي والبيهقي وابن عدي، وقال ابن حجر: «إسناده حسن» وذلك لكثرة شواهده. وإن كان في كل رواته مقال. وحديث ابن عمرو رواه الحاكم. وحديث ابن عمر رواه ابن القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب، وحديث عائشة رواه الطبراني في الأوسط. وأما الحديث المرسل: فرواه مالك في الموطأ عن عطاء الخرساني (راجع نصب الراية: 120/4، سبل السلام: 92/3، نيل الأوطار: 347/5، التلخيص الحبير: ص259) .
(6) رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة (راجع جامع الأصول: 262/12، التلخيص الحبير: ص259، سبل السلام: 93/3) .(5/621)
ظلفها، وهو في الأصل خف البعير، فاستعير للشاة، وقوله أيضاً: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1) .
والسنة: المكافأة على الهبة حينما يتيسر ذلك للموهوب له، لما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها» .
وانعقد الإجماع على استحباب الهبة بجميع أنواعها، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/5] . وهي للأقارب أفضل؛ لأن فيها صلة الرحم (2) ، ولقوله تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء:1/4] ولما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسأ له في أثره، فليصل رحمه» وبسط الرزق: التوسعة فيه والمباركة له فيه. وينسأ له في أثره: يطيل الله عمره ويؤخر له فيه.
واتفق الأئمة على أن الهبة تصح بالإيجاب والقبول والقبض، وأجمعوا على أن الوفاء بالوعد في الخير مطلوب، وعلى أن تخصيص بعض الأولاد بالهبة مكروه، وكذا تفضيل بعضهم على بعض (3) .
__________
(1) أخرجه أصحاب الكتب الستة عن ابن عباس ولفظه: «ليس لنا مثل السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه» وفي رواية: «كالكلب يقيء، ثم يعود فيه فيأكله» وفي رواية أبي داود: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» قال قتادة: «ولا نعلم القيء إلا حراماً» (راجع جامع الأصول: 265/12، نصب الراية: 126/4) .
(2) المبسوط: 47/12 ومابعدها، والمراجع السابقة قبل تخريج هذه الأحاديث.
(3) الميزان للشعراني: 99/2، فتح القدير، المرجع السابق.(5/622)
المبحث الثاني ـ ركن الهبة:
ركن الهبة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول قياساً؛ لأنه عقد كالبيع، وكذا
القبض ركن كما في المبسوط؛ لأنه لا بد منه لثبوت الملك، بخلاف البيع. واستحساناً عند الكاساني وبعض الحنفية: ليس القبول من الموهوب له ركناً، وإنما الركن فقط هو الإيجاب من الواهب؛ لأن الهبة في اللغة عبارة عن مجرد إيجاب المالك من غير شرط القبول، وإنما القبول لثبوت حكمها أي الأثر المترتب عليها، وهو نقل الملكية. وفائدة الاختلاف تظهر فيمن حلف: لا يهب هذا الشيء لفلان، فوهبه منه، فلم يقبل: يحنث استحساناً، ولا يحنث قياساً، وأكثر شراح الحنفية (1) على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده في حق الواهب، وبالإيجاب والقبول في حق الموهوب له؛ لأن الهبة عقد تبرع، فيتم بالمتبرع كالإقرار والوصية، لكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، لكن نصت المادة 837 من المجلة على أنه «تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، وتتم بالقبض» . وأركان الهبة عند الجمهور (2) أربعة: هي الواهب، والموهوب له، والموهوب، والصيغة.
__________
(1) المبسوط: 57/12، البدائع: 115/6، العناية على تكملة فتح القدير معها: 113/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 531/4، تكملة ابن عابدين: 329/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 366، الدسوقي: 97/4 ومابعدها.(5/623)
أما الواهب: فهو المالك إذا كان صحيحاً مالكاً أمر نفسه. فإن وهب المريض ثم مات، كانت هبته في ثلث تركته عند الجمهور. وأما الموهوب له: فهو كل إنسان ويجوز أن يهب الإنسان ماله كله لأجنبي اتفاقاً. وأما هبة جميع ماله لبعض ولده دون بعض أو تفضيل بعضهم على بعض في الهبة، فمكروه عند الجمهور، وإن وقع جاز.
وأما الموهوب: فكل مملوك.
وأما الصيغة: فكل ما يقتضي الإيجاب والقبول من قول وفعل كلفظ الهدية والهبة والعطية والنحلة، وشبه ذلك.
والإيجاب: إما صريح، مثل: أن يقول الواهب: وهبت هذا الشيء لك، أو ما يجري مجرى الصريح كقوله، ملكته منك، أو جعلته لك أو هو لك، أو أعطيته، أو نحلته، أو أهديته إليك، أو أطعمتك هذا الطعام، أو حملتك على هذه الدابة، ونوى به الهبة؛ لأن تمليك العين للحال أو جعلها له من غير عوض هو معنى الهبة، ولأن بقية الألفاظ تفيد التمليك في الحال في عرف الناس أو في استعمالهم.
هذا في الإيجاب المطلق، أما إذا كان مقروناً بقرينة فهي لا تخلو إما أن تكون القرينة وقتاً، أو شرطاً، أو منفعة (1) .
__________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 116/6 ومابعدها.(5/624)
مثال الإيجاب المقترن بقرينة الوقت (العمرى) : أن يقول: (أعمرتك هذه الدار، أو جعلت هذه الدار لك عمري (1) ، أو عمرك، أو حياتك أو حياتي، فإذا مت أنا فهي رد على ورثتي) فهذا كله هبة، وهي للمعمر له في حياته، ولورثته بعد وفاته، لصحة التمليك، والتوقيت باطل، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أمسكوا عليكم أموالكم، لا تعمروها، فإن من أعمر شيئاً، فإنه لمن أعمره» (2) أي المعمر له أوالموهوب له؛ ولأن الهبة لا تبطل بالشرط الفاسد بخلاف عقود المعاوضات المالية، ومنها البيع فإنها أي المعاوضات تفسد بالشرط الفاسد للنهي عن بيع وشرط.
__________
(1) العمرى: مايجعل للإنسان طول عمره، وإذا مات ترد عليه، بأن يقول الرجل: أعمرتك داري هذه أو عمري، أو مدة حياتك أو ماحييت. فالعمرى نوع من الهبة، مأخوذة من العمر، كذا كانوا يفعلونه في الجاهلية، فأبطل الشرع ذلك.
(2) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأحمد وأصحاب السنن الأربعة بألفاظ مختلفة عن جابر بن عبد الله، منها: ما اتفق عليه الشيخان بلفظ: «العمرى لمن وهبت له» ومنها: مارواه مسلم وأحمد بلفظ: «أمسكوا عليكم أموالكم ولاتفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه» .
(راجع جامع الأصول: 112/9، نيل الأوطار: 13/6، سبل السلام: 93/3) .(5/625)
ومثال الإيجاب المقترن بشرط (الرقبى) : أن يقول: (هذه الدار لك رقبى (1) أو حبيسة) فهي عارية في يده، ويأخذها منه متى شاء عند أبي حنيفة ومحمد، واستدلا بما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه أجاز العمرى وأبطل الرقبى (2) ، ولأن قوله ذلك تعليق للتمليك بأمر على خطر الوجود وخطر العدم، والتمليكات لا تحتمل التعليق بالخطر الاحتمالي المتردد بين الوجود وعدم الوجود فلم تصح هبة، وصحت عارية؛ لأنه دفع الدار إليه، وأطلق له الانتفاع به، وهذا معنى العارية.
وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة (3) : إذا قبضها فهي هبة، وقوله: (رقبى، وحبيسة) باطل: ودليلهم ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه أجاز العمرى والرقبى (4) ،ولأن قوله: (داري لك) تمليك العين، لا تمليك المنفعة، وقياساً على قوله: (هي عمرى) .
أما المالكية (5) فقد أجازوا العمرى وأبطلوا الرقبى كالحنفية، وعرفوا العمرى بأنها تمليك منفعة عقار أو غيره لشخص بغير عوض مدة حياته. فإذا مات المعمر له رجع الشيء المعمر لمن أعمره له، إن كان حياً، ولورثته إن كان ميتاً.
وأما الرقبى: فهي اتفاق اثنين على أن من مات منهما قبل الآخر يكون ماله للآخر الحي.
__________
(1) الرقبى: أن يقول: «إن مت أنا قبلك فهو لك، وإن مت أنت قبلي فهو لي» سميت بذلك، لأن كلاً منهما يترقب، وينتظر موت الآخر قبل موته.
(2) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب (راجع نصب الراية: 128/4) .
(3) المغني: /5 624، تحفة الطلاب: ص 172.
(4) هذا الحديث ثابت في رواية عن جابر في الحديث السابق الذي خرجناه بلفظ: «العمرى جائزة لأهلها» . رواه الترمذي وابن ماجه. ويؤيد ذلك أحاديث منها: ماروي عن ابن عمر مرفوعاً عند النسائي وابن ماجه: «لا عمرى ولا رقبى، فمن أعمر شيئاً، أو أرقبه، فهو له حياته ومماته» ومنها: ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت بلفظ: «من أعمر شيئاً فهو لمعمره حياته ومماته، ولا ترقبوا، فمن أرقب شيئاً فهو سبيله» ومنها: ماروى النسائي عن ابن عباس، وماروى الترمذي عن سمرة بن جندب، وغير ذلك (راجع جامع الأصول: 111/9-115، نصب الراية: 128/4، نيل الأوطار: 12/6 ومابعدها، سبل السلام: 91/3، التلخيص الحبير: ص 260) .
(5) الشرح الكبير مع الدسوقي: 97/4 ومابعدها.(5/626)
والخلاصة: أجاز أكثر العلماء العمرى والرقبى، على أنهما نوعان من الهبة يفتقران إلى الإيجاب والقبول والقبض ونحوه. ومنع الحنفية والمالكية الرقبى وأجازوا العمرى.
ومثال الإيجاب المقترن بالمنفعة (المنحة) : أن يقول: (هذه الدار لك سكنى) ، أو (هذه الشاة، أو هذه الأرض لك منحة) فهي عارية باتفاق الحنفية (1) ؛ لأنه لما ذكر (السكنى) دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن المنحة عبارة عن بذل المنافع، فإذا أضاف ذلك إلى عين ينتفع بها مع بقائها، عمل بحقيقته.
أما إذا أضاف إلى شيء لا ينتفع به إلا باستهلاكه، كما إذا منحه طعاماً، أو لبناً، فإنه يكون هبة؛ لأنه لا منفعة له مع قيام عينه.
وبناء على هذه التفرقة قالوا: إن عارية الأعيان تمليك المنافع، وعارية المكيل والموزون ومنها الدراهم والدنانير قرض، ويكون تمليك العين (2) ، فالعارية: هي عارية استعمال. والقرض: هو عارية استهلاك.
وكذا لو قال: (هذه الدار لك سكنى عمرى، أو عمرى سكنى) فهي عارية، لأنه لما ذكر السكنى دل على أنه أراد تمليك المنافع، ولأن قوله: (سكنى) موضوع للمنفعة لا تستعمل إلا لها. وكلمة (عمرى) صفة أو نعت وهي قيد في الموصوف قبلها، فدل على أنها عارية.
وكذا إذا قال: (هبة سكنى، أو سكنى هبة) فهي عارية، لأنه لما ذكر (سكنى) بعد ذكر (الهبة) كان تفسيراً للهبة، لأن الهبة تحتمل هبة العين، وهبة المنافع، فإذا قال: (سكنى) فقد عيَّن هبة
__________
(1) هذا في استعمال الماضين، وفي عصرنا يراد بالمنحة الهبة تماماً.
(2) البدائع: 215/6.(5/627)
المنافع (1) ؛ لأن هذه الكلمة نعت أو صفة لما تقدمها، والصفة قيد في الموصوف.
وإن قال: (هذه الدار لك عمرى تسكنها، أو صدقة تسكنها) فهي هبة وصدقة، لأن في هذا المثال لم يفسر الهبة عن طريق النعت، وإنما وهب الدار منه، ثم أشار عليه فيما يعمل بملكه، والمشورة في ملك الغير باطلة، فيكون شرطاً فاسداً، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة (2) ، فتعلقت الهبة بالعين. وأما قوله (تسكنها) فهو بمنزلة قوله (لتسكنها) كما إذا قال: (وهبتها لك لتؤجرها) .
ولو قال: هي لك هبة تسكنها» كانت هبة أيضاً، كما في المثال السابق (3) .
المبحث الثالث ـ شروط الهبة:
هناك شروط في الواهب، وشروط في الموهوب. وقد ذكر الحنابلة (4) أحد عشر شرطاً في الهبة وهي: كونها من جائز التصرف، مختار جادّ، بمال يصح بيعه، بلا عوض، لمن يصح تملكه، مع قبوله، أو وليه قبل تشاغل بقاطع، مع تنجيز، وعدم توقيت. وجائز التصرف: هو الحر المكلف الرشيد.
وكون الموهوب مالاً لإخراج الاختصاصات.
أما شروط الصيغة: فهي عند الشافعية اتصال القبول بالإيجاب من غير فاصل معتبر شرعاً، وعدم تقييدها بشرط؛ لأن الهبة تمليك، والتمليكات لا تحتمل التعليق بماله خطر الوجود والعدم، وعدم تقييدها بوقت كشهر أو سنة لأن الهبة تفيد التمليك المطلق الدائم كالبيع.
__________
(1) المرجع السابق: 118/5، فتح القدير: 120/7.
(2) هذا بخلاف البيع فإنه يفسد بالشرط الفاسد، للنهي الوارد فيه، ولا نهي في الهبة، وإنما على العكس ورد فيها مايدل على عدم فسادها بالشرط الفاسد، لأنه عليه السلام أجاز العمرى، وأبطل شرط المعمر (انظر البدائع: 117/6، حاشية ابن عابدين: 532/4) .
(3) البدائع: 118/6.
(4) غاية المنتهى: 334/2، كشاف القناع: 329/4، ط مكة.(5/628)
شروط الواهب:
يشترط أن يكون الواهب له أهلية التبرع بالعقل والبلوغ مع الرشد، وهذا شرط انعقاد؛ لأن الهبة تبرع، فلا تجوز هبة الصبي والمجنون؛ لأنهما لا يملكان التبرع، لكونه ضرراً محضاً، وكذا الأب لا يملك هبة مال الصغير من غير شرط العوض بلا خلاف؛ لأن ولايته قاصرة على وجوه النفع، والهبة تبرع فيه ضرر محض فلا تجوز منه.
فإن شرط الأب العوض لم يجز أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهبة بشرط العوض تبرع ابتداء أي قبل القبض، ثم تصير بيعاً انتهاء، أي بعد القبض، والأب لا يملك التبرع، وقال محمد: تجوز الهبة من الأب بشرط العوض؛ لأن ذلك في معنى البيع، والعبرة باتفاق المعنى (1) .
شروط الموهوب:
يشترط في الموهوب شروط:
1 - أن يكون موجوداً وقت الهبة: فلا تنعقد هبة ما ليس بموجود وقت العقد (2) مثل أن يهب ما يثمر نخله في هذا العام، أو ما تلد أغنامه هذه السنة؛ لأنه تمليك لمعدوم، فيكون العقد باطلاً (3) .
ومثل: أن يهب ما في بطن هذه الشاة، وسلطه على القبض عند الولادة، فلا ينعقد لاحتمال الوجود والعدم؛ لأن انتفاخ البطن قد يكون للحمل أو لداء في البطن.
وكذلك لو وهب دقيقاً في حنطة أو دهناً في سمسم أو زبداً في لبن، أو زيتاً في زيتون: لا يجوز، وإن سلطه على قبضه عند حدوثه؛ لأنه معدوم للحال، والمعدوم ليس بمحل للملك، فوقع العقد باطلاً، فلا ينعقد إلا بالتجديد.
أما هبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم، والزرع والنخيل في الأرض، والتمر في النخيل: فهي كهبة المشاع الآتية تقع فاسدة، فلو فصل ذلك وسلم إلى الموهوب له، جاز؛ لأن الموهوب موجود مملوك للحال، إلا أنه لم ينفذ لمانع، وهو كونه مشغولاً بغيره، فإذا فصل فقد زال المانع، فتجوز الهبة وتصير صحيحة (4) .
ووافق الشافعية والحنابلة مذهب الحنفية في هذا الشرط، فقالوا: كل ما صح
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) المبسوط: 71/12، تكملة فتح القدير: 124/7، البدائع: 119/6، حاشية ابن عابدين: 534/4، الكتاب مع اللباب: 172/2، تكملة ابن عابدين: 329/2.
(3) قال المالكية: لا تأثير للغرر على صحة الهبة، فتجوز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، كالعبد الآبق، والبعير الشارد والمجهول، والثمرة قبل بدو الصلاح، وفي الجملة: كل مالا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر (بداية المجتهد: 324/2، القوانين الفقهية: ص 367) .
(4) البدائع: 119/6، والمراجع السابقة في بدء الكلام عن هذا الشرط. ويلاحظ أن هبة اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم حكمها باطل في تحفة الفقهاء والبدائع، والأصح أن الهبة فاسدة كما في الدر المختار ورد المحتار.(5/629)
بيعه صحت هبته. وقال المالكية: تجوز هبة ما لا يصح بيعه كالعبد الآبق والبعير الشارد والمجهول والثمرة قبل بدو صلاحها والمغصوب.
2 - أن يكون مالاً متقوماً: فلا تنعقد هبة ما ليس بمال أصلاً كالحر والميتة والدم وصيد الحرم والإحرام وغير ذلك، ولا تجوز هبة ما ليس بمتقوم كالخمر (1) .
3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: فلا تنعقد هبة المباحات، وهذه الشروط السابقة كلها شروط انعقاد.
4 - أن يكون مملوكاً للواهب: فلا تنفذ هبة مال الغير بغير إذنه، لاستحالة تمليك ما ليس بمملوك (2) ، وهذا شرط نفاذ عند الحنفية. وبناء على الشرط الأخير يجوز عند الحنفية هبة المملوك، سواء أكان عيناً أم ديناً، فتجوز هبة الدين لمن عليه الدين؛ لأن ما في الذمة مقدور التسليم والقبض؛ لأن قبض العين قائم مقام قبض عين ما في الذمة. كما تجوز هبة الدين لغير من عليه الدين إن أذن له صراحة بالقبض، وقبضه استحساناً، كما سيتضح في شرط الإذن بالقبض.
5 - أن يكون محرزاً أي مفرزاً: فلا تصح عند الحنفية هبة المشاع إذا كان يحتمل القسمة كالدار والبيت الكبير، وتكون الهبة فاسدة، فإن قسم المشاع وسلم، جازت الهبة، وهذا شرط صحة للهبة.
وتجوز الهبة إذا كان مشاعاً لا يحتمل القسمة، كالسيارة والحمام، والبيت الصغير والجوهر. وجواز الهبة للضرورة، لأنه قد يحتاج إلى هبة بعض ذلك، ويكتفى بصورة التخلية مقام القبض (3) . ودليلهم على الحالة الأولى: أن القبض
__________
(1) البدائع: المكان السابق.
(2) البدائع: المرجع والمكان السابق.
(3) المبسوط: 64/12، 74، البدائع، المرجع السابق. تكملة فتح القدير: 121/7 ومابعدها، 128، حاشية ابن عابدين: 534/4.(5/630)
في الهبة شرط كالرهن، كما سأبين، والشيوع يمنع من القبض؛ لأن التصرف في النصف الشائع وحده، لا يتصور، فإن سكنى نصف الدار شائعاً محال، ولا يتمكن من التصرف فيه إلا بالتصرف في الكل، والعقد لم يتناول كل الدار، فعدم قسمة الموهوب يمنع صحة القبض وتمامه (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن هبة المشاع جائزة، كالبيع، فإن القبض في هبة المشاع يصح كالقبض في المبيع المشاع. وصفة قبضه: أن يسلم الواهب جميع الشيء إلى الموهوب له، فيستوفي منه حقه، ويكون نصيب شريكه في يده كالوديعة (2) ، والدليل على ذلك من السنة أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يرد عليهم ما غنمه منهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» (3) وهذا هبة المشاع: وهي هبة الشخص ما له من حصة غير معينة في شيء. أو هبة ما يملكه من شيء لاثنين أو أكثر.
وهذا الخلاف يجري في التصدق بالمشاع على الغني؛ لأن الصدقة عليه هبة. وأما الصدقة بعشرة على مسكينين مثلاً فتجوز؛ لأن الصدقة تقع من المتصدق لله تعالى، لا للفقير، فلا يتحقق الشيوع. ويترتب على قاعدة الحنفية: وهو أنه لاتجوز الهبة في المشاع الذي يحتمل القسمة ما يلي (4) :
__________
(1) الضابط فيما يقبل القسمة ومالا يقبلها: أن كل شيء يضره التبعيض فيوجب نقصاناً في ماليته: يكون مما لايحتمل القسمة. ومالا يوجب ذلك فهو يحتملها (انظر العناية مع تكملة فتح القدير: 121/7، حاشية ابن عابدين: 533/4) .
(2) القوانين الفقهية: ص 367، ط النهضة بفاس، بداية المجتهد: 323/2، حاشية الدسوقي: 97/4، المهذب: 446/1، المغني: 596/5.
(3) انظر قصة وفد هوازن في نيل الأوطار: 3/8. ويؤيده حديث أبي قتادة عند الشيخين في قصته المعروفة، وهي اصطياده حماراً وحشياً، ثم هبته أصحابه حصصاً شائعة منه، وأقرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم على فعلهم.
(4) البدائع: 121/7، 122.(5/631)
الهبة لاثنين:
لو وهب إنسان داراً من رجلين أو مداً من حنطة أو ألف درهم أو نحو ذلك مما يقسم، فإنه لا يصح عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يصح، ويجري الخلاف فيما لو وهب رجل داراً لرجلين وقال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها، ولهذا نصفها) .
ومنشأ الخلاف في ذلك: أن أبا حنيفة يعتبر الشيوع عند القبض ما نعاً من صحة الهبة. وأما الصاحبان: فيعتبران الشيوع عند العقد والقبض معاً هو المانع من صحة الهبة. وبناء عليه: يجوز هبة الاثنين من الواحد بالاتفاق، لعدم وجود الشيوع عند القبض في رأي أبي حنيفة، ولانعدام الشيوع في الحالتين معاً في رأي الصاحبين؛ لأن الشيوع وجد عند العقد، ولم يوجد عند القبض.
ولا تجوز هبة الواحد من الاثنين عند أبي حنيفة، لوجود الشيوع عندا لقبض، ويجوز ذلك عند الصاحبين؛ لأنه لم يوجد الشيوع عند العقد والقبض جميعاً.(5/632)
ولا تجوز الهبة بالاتفاق إذا قال في هبة الدار: (وهبت لك نصفها، ولهذا نصفها) لأن الشيوع دخل على العقد نفسه، فمنع الجواز، بخلاف المثال السابق: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها ولهذا نصفها) فعند أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأن هذا تمليك مضاف إلى الشائع. وعند الصاحبين: يجوز، لأن قوله: (لهذا نصفها، ولهذا نصفها) لا يمكن جعله تفسيراً لنفس العقد؛ لأن العقد وقع على تمليك الدار جملة منهما، وإنما هو تفسير للحكم الثابت بالعقد أي أثر العقد، فلا يوجب ذلك إشاعة في العقد نفسه.
ولو قال: (وهبت لكما هذه الدار: لهذا ثلثها، ولهذا ثلثاها) لم يجز عند أبي يوسف وأبي حنيفة، وجاز عند محمد. أما أبو حنيفة فكما قال في المثال السابق. وأما محمد فقال كما في المثال السابق أيضاً: إن العقد متى جاز لاثنين يستوي فيه حالة التساوي والتفاضل في الأنصباء كما في البيع. وأما أبو يوسف فقد خالف قاعدته حالة التفاضل في الأنصباء؛ لأن مطلق العقد لا يحتمل التفاضل، فكان تفضيل أحد النصيبين في معنى إفراد العقد لكل منهما، فكان ذلك هبة المشاع، فيتعذر جعل قوله: (لهذا ثلثها ولهذا ثلثاها) مفسراً للحكم الثابت بالعقد، بخلاف حالة التساوي.
والخلاصة: إن الشيوع حالة القبض يمنع صحة الهبة، أما حالة العقد فلا يمنع صحتها، وكذا الشيوع الطارئ لا يفسد الهبة، وهو كأن يرجع الواهب في نصف الموهوب شائعاً.(5/633)
6 - أن يكون الموهوب متميزاً عن غيره، ليس متصلاً به، ولا مشغولاً بغير الموهوب: لأن معنى القبض، وهو التمكن من التصرف في المقبوض لا يتحقق مع شغل الموهوب بغيره (1) وهذا شرط صحة للهبة.
وبناء عليه لو وهب شخص أرضاً فيها زرع للواهب دون الزرع، أو زرعاً دون الأرض، أو نخلاً فيها ثمرة للواهب معلقة بها دون الثمرة، أو ثمرة النخل دون النخل: لا يجوز، وإن قبض الموهوب، وتكون الهبة فاسدة، فلو جز الثمر، وحصد الزرع، ثم سلمه فارغاً، جاز؛ لأن المانع من نفاذ حكم العقد وهو ثبوت الملك، قد زال.
وكذا لو وهب داراً فيها متاع للواهب، أو ظرفاً فيه متاع للواهب دون المتاع، أو وهب دابة عليها حمل للواهب دون الحمل، وقبض الموهوب، فإنه لاتجوز الهبة، ولا يزول الملك عن الواهب إلى الموهوب له؛ لأن الموهوب مشغول بغيره، فيكون بمنزلة هبة المشاع، وتكون الهبة حينئذ فاسدة، فلو ميز الموهوب عن غيره، وسلمه وحده، جازت الهبة. والخلاصة: إن هبة المشغول لا تصح بخلاف الشاغل، وهبة المتصل بغير الهبة اتصال خلْقة مع إمكان الفصل لا تجوز (2) .
مسألة استثناء ما في البطن:
يتفرع على هذا الشرط السابق، بمقتضى القياس: أنه لو وهب دابة واستثنى ما في بطنها، لا يجوز، لأنه هبة ما هو مشغول بغيره.
وأما استحساناً فقالوا: تجوز الهبة في الأم والحِمْل جميعاً، ويبطل الاستثناء. والعقود في هذه المسألة في الجملة ثلاثة أنواع (3) .
1 - قسم يفسد فيه العقد أي لا يجوز فيه أصل التصرف: وهو البيع والإجارة والرهن (4) ، فإذا عقد على الأم، دون الحَمْل، بأحد هذه العقود، فسد العقد، وبطل الاستثناء؛ لأن الحمل تبع للأم، فاستثناؤه إخراج لبعض ما اقتضاه
__________
(1) المبسوط: 73/12، تكملة فتح القدير: 7ص/124، 127، البدائع: 6ص/125، حاشية ابن عابدين: 4 ص/533ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 336.
(2) الفرائد البهية في القواعد الفقهية: ص 204.
(3) المبسوط: 12 ص/72، جـ 13 ص/19، تكملة فتح القدير: 7 ص/139 ومابعدها، البدائع: 6 ص/125، ورد المحتار: 4 ص/113، مجمع الضمانات: ص 337، الفرائد البهية في القواعد الفقهية: 206.
(4) اعتبار الرهن كالبيع في أنه يبطل بالشرط الفاسد هو بحسب ما جاء في البدائع، لكن الأصح ما جاء في الزيادات: وهو أن الرهن كالهبة، لا يبطل بالشرط الفاسد، وإنما يصح الرهن، ويبطل الشرط، لأنه عقد تبرع، لاعقد معاوضة.(5/634)
العقد، لأن العقد ثبت في الأم وولدها، ففسد العقد، والقاعدة المقررة: أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية يفسد العقد (1) .
2 - وقسم يصح فيه العقد ويبطل الشرط أو الاستثناء: وهو النكاح والخلع، والصلح عن دم العمد، والهبة؛ لأن موجب العقد أن يثبت الحكم في الكل، وقد استثني بعض الموجَب؛ فيكون شرطاً فاسداً، والقاعدة المقررة: أن الشرط الفاسد لايبطل عقود التبرعات والتوثيقات والزواج، بل العقد صحيح، والشرط لغو باطل، فالهبة إذن لا تبطل بالشروط الفاسدة.
والأصل في ذلك بالنسبة للهبة أنه صلّى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر (2) ، وهي بخلاف البيع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط (3) .
3 - وقسم يجوز فيه العقد والاستثناء جميعاً: وهو الوصية، كما إذا أوصى بفرس إلا حَملْها، صحت الوصية في الفرس، وبقي الحَمْل لورثة الموصي؛ لأن الحمل أصل على حدة بالنسبة للوصية، حتى إنه يجوز إفراده بالوصية، فيجوز استثناؤه إذن؛ لأن عقد الوصية والإيصاء، كل منهما بطبيعته لا يكون إلا مضافاً لزمن مستقبل، ولا يثبت الملك في الموصى به إلا بعد وفاة الموصي.
7 - الشرط السابع وهو قبض الموهوب: وهو أهم الشروط، وهو شرط لزوم وتمام الهبة، لا شرط صحة وركن عند بعض الحنفية وابن عقيل من الحنابلة
__________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 423.
(2) المرجع السابق. وهذا بمقتضى حديث جابر السابق تخريجه، ففي بعض رواياته عند أبي داود والنسائي والترمذي وصححه، قال: «أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك، ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» وروى النسائي بمعناه عن عبد الله بن الزبير.
(3) رواه الطبراني في معجمه الوسط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيع وشرط، البيع باطل، والشرط باطل» (راجع نصب الراية: 4 ص/17) .(5/635)
كما سبق بيانه، وقد أخر إلى هنا، لكثرة ما يتبعه من أمور. فالقبض في الهبة: أن يكون الموهوب مقبوضاً، فلا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض بل لا تتحقق الهبة إلا بالقبض، فبالقبض توجد الهبة، والقبض مولد لآثار الهبة عند الحنفية. وأتكلم هنا في بيان أصل القبض أنه شرط أم لا عند الفقهاء.
ما نوع شرط القبض؟
اختلف الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية (1) : القبض شرط للزوم الهبة، حتى إنه لا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض، بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جداد عشرين وَسقاً (2) من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يابنية: إن أحب الناس عندي بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً من مالي، ولو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، قالت: هذان أخواي، فمن أختاي، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة، فإني أظنها جارية (3) .
فهذا نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، وإن الهبة تملك بالقبض لقوله: «لو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك» ، وقال عمر رضي الله عنه: ما بال رجال
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 533/4، 341/5، مغني المحتاج: 400/2.
(2) الجد: صرام النخل أي أعطاها ما لا يجد عشرين وسقا، أي يحصل من ثمرته ذلك، والوسق: ستون صاعاً أو حمل بعير، حوالى (130 كغ) .
(3) تتمة الأثر: «فولدت جارية، أخواها عبد الرحمن ومحمد. وبنت خارجة: هي حبيبة بنت خارجة بن زيد، زوجة أبي بكر، كانت ذلك الوقت حاملاً، فولدت أم كلثوم» رواه عن عائشة مالك في الموطأ، ورواه عنه محمد بن الحسن وعبد الرزاق والبيهقي (راجع جامع الأصول: 12 ص/269، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 223/2، نصب الراية: 122/4، التلخيص الحبير: ص260، نيل الأوطار: 5 ص/349) .(5/636)
يَنْحَلون أبناءهم نُحلاً، ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم، قال: «مالي بيدي، لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه، فمن نحل نحلة فلم يَحُزْها الذي نحلها ـ وأبقاها ـ حتى تكون إن مات لورثته، فهي باطلة» (1) .
وهذا هو قول عثمان وعلي أيضاً (2) ، وفي الجملة فإن الخلفاء الراشدين وغيرهم اتفقوا على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة محوزة (3) .
وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القبض شرط لصحة الهبة في المكيل أو الموزون، لإجماع الصحابة على ذلك، ويظهر أن المراد بكون القبض شرط صحة أنه شرط لزوم، بدليل قول ابن قدامة: إن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض، وهو قول أكثر الفقهاء.
أما غير المكيل أو الموزون فتلزم الهبة فيه بمجرد العقد، ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (4) .
__________
(1) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، الموضع السابق. والنحلة: العطية من غير عوض، أو الهبة.
(2) والصدقة على الفقير كالهبة، بجامع التبرع، فلا تصح إلا بالقبض لأنها تبرع كالهبة، لاتجوز في مشاع يحتمل القسمة لأنها كالهبة، لكن إذا تصدق على فقيرين بشيء يحتمل القسمة، جاز، لأن المقصود في الصدقة هو الله تعالى، وهو واحد، والفقير نائب عنه في القبض. ولا يصح الرجوع في الصدقة، ولو على غني استحساناً بعد القبض لأن المقصود هو الثواب وقد حصل.
(3) هذا أثر عن الصحابة، ورد الزيلعي على من قال: إنه حديث بقوله: غريب، ورواه عبد الرزاق من قول النخعي قال: «لا تجوز الهبة حتى تقبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض» (راجع نصب الراية: 4 ص/121، وراجع المبسوط: 12 ص 57، تكملة فتح القدير: 7ص 113 ومابعدها، البدائع: 6 ص 123، المهذب: 1 ص 447، مغني المحتاج: 2 ص/400) .
(4) المغني: 5 ص 591 ومابعدها.(5/637)
وقال المالكية: لايشترط القبض لصحة الهبة، ولا للزوم الهبة، وإنما هو شرط لتمامها، أي لكمال فائدتها، بمعنى أن الموهوب يملك بمجرد العقد أي القول، على المشهور عندهم. والقبض أو الحيازة لتتم الهبة، ويجبر الواهب على تمكين الموهوب له من الموهوب. ودليلهم تشبيه الهبة بالبيع وغيره من سائر التمليكات، ولقول الأصحاب: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (1) .
والخلاصة: أن غير المالكية يرون أن الموهوب يملك بالقبض لا بالعقد (2) ، وعند المالكية: يملك بالعقد.
__________
(1) بداية المجتهد: 2 ص/324، حاشية الدسوقي: 4 ص/101.
(2) لما روى الحاكم في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلم «أهدى إلى النجاشي ثلاثين أوقية مسكاً، ثم قال لأم سلمة: إني لأرى النجاشي قد مات، ولا أرى الهدية التي قد أهديت له، إلا تستردّ، فإذا ردت إلي، فهي لك، فكان كذلك» ولأن الهبة عقد إرفاق وتبرع كالقرض، فلا يملك إلا بالقبض.(5/638)
8 - يشترط لصحة القبض عند جمهور العلماء: أن يكون بإذن الواهب: فلو قبض بلا إذن لم يملكه، ودخل في ضمانه؛ لأن التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه، ولأن الإذن بالقبض شرط لصحة القبض في البيع، ففي الهبة من باب أولى؛ لأن القبض فيها شرط لصحتها، بعكس البيع (1) إلا أن الحنفية قالوا: القياس أن لا يجوز قبض الهبة إلا بإذن الواهب، سواء تم القبض في مجلس العقد أم بعد الافتراق. والاستحسان أن الموهوب له إذا قبض الموهوب في مجلس العقد بغير أمر الواهب، جاز. وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض.
وجه القياس: أن القبض تصرف في ملك الواهب لأن ملكه قبل القبض باق، فلا يصح بدون إذنه.
ووجه الاستحسان: أن القبض في الهبة بمنزل القبول؛ لأنه يتوقف عليه ثبوت الملك، والمقصود من الهبة إثبات الملك، فيكون الإيجاب من الواهب تسليطاً للموهوب له على القبض، فكان إذناً دلالة. وإنما قيد ذلك بالمجلس لأنه ثبت التسليط فيه، إلحاقاً له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذلك ما يلحق به.
__________
(1) البدائع: 6 ص 123، الهداية وتكملة فتح القدير: 115/7 ومابعدها، مغني المحتاج: 2ص/400، المغني: 5 ص/592.(5/639)
وقال المالكية: يصح القبض ولو بلا إذن من الواهب، ويجبر الواهب على تمكين الموهوب من القبض حيث طلبه؛ لأن الهبة تملك بالقول أي بالإيجاب، على المشهور عندهم (1) .
ويترتب على مذهب الحنفية: أنه لو وهب إنسان ثوباً، أو عيناً من الأعيان، مفرزاً، مقسوماً، ولم يأذن له في قبضه، فقبضه الموهوب له فإن كان بحضرة الواهب: يجوز استحساناً، والقياس أن لا يجوز قبضه بعد الافتراق من المجلس، وهو قول زفر؛ لأن القبض عنده ركن بمنزلة القبول في حق إثبات الحكم، فلا يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس، كما لا يجوز القبول بعد الافتراق.
ووجه الاستحسان: أن الإذن بالقبض وجد من طريق الدلالة؛ لأن الإيجاب فيه دلالة الإذن بالقبض.
وأما في هبة الدين لغير من عليه الدين، فلا بد من الإذن صراحة بالقبض، ولا يكفي الإذن دلالة. وجه الفرق بين هبة العين وهبة الدين: هو أن الإيجاب في هبة العين يدل على الإذن بالقبض دلالة؛ لأن قصده تمليك ما هو ملكه للموهوب له، أما في هبة الدين: فالإيجاب لايعطي تلك الدلالة؛ لأن الدلالة متوقفة على قصد التملك، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لايتحقق إلا بالتصريح بالإذن بالقبض؛ لأنه بالتصريح يقوم قبضه مقام قبض الواهب، فيصير المقبوض ملكاً له أولاً، ثم يصير الموهوب له قابضاً لنفسه من الواهب. وبناء على هذا التقدير: يصير الواهب واهباً ملك نفسه، والموهوب له قابضاً ملك الواهب.
وتجويز هبة الدين لغير من عليه الدين ثابت استحساناً، وصورتها: أن يهب رجل لرجل ديناراً له على رجل، ويأمر بقبضه ويقبضه فعلاً، فيجوز استحساناً؛ لأنه أنابه في القبض مناب نفسه، فيجعل قبض الموهوب له كقبض الواهب. وأما قياساً فلا يجوز، وهو قول زفر؛ لأن الدين ليس بمال عند الحنفية، حتى إن حلف لا مال له، وله دين على إنسان: لا يحنث في يمينه. والهبة عقد
__________
(1) حاشية الدسوقي: 4 ص 101.(5/640)
مشروع لتمليك المال، فإذا أضيف إلى ما ليس بمال لا يصلح (1) .
ويشترط أيضاً عند الحنفية والشافعية شرطان آخران لصحة القبض وهما أهلية القبض: بالعقل عند الحنفية، وبالعقل والبلوغ عند الشافعية، فلا يصح عندهم قبض الصبي والمجنون؛ لأن القبض من باب الولاية، ولا ولاية لغير البالغ العاقل على نفسه وماله. والشرط الثاني ـ ألا يكون الموهوب مشغولاً بغيره مما ليسبموهوب؛ لأن معنى القبض: التمكن من التصرف في المقبوض، وهو لا يتحقق مع شغل الشيء بغيره. وأضاف الحنفية شرطاً ثالثاً، كماتقدم: وهو أن يكون الموهوب مفرزاً عن غيره حتى يتمكن الموهوب له من قبضه، فلا يصح عندهم هبة المشاع كما تقدم.
نوعا القبض:
قبض الهبة عند الحنفية نوعان: قبض بطريق الأصالة، وقبض بطريق النيابة (2) .
أما القبض بطريق الأصالة: فهو أن يقبض بنفسه لنفسه، وشرط جوازه العقل فقط، فلا يجوز قبض الصبي غير المميز والمجنون. وأما البلوغ: فليس بشرط لصحة القبض استحساناً، فيجوز قبض الصبي العاقل (أي المميز) ما وهب له.
والقياس وهو رأي غير الحنفية: أن يكون البلوغ شرطاً؛ لأن القبض من باب الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فلا يجوز قبضه في الهبة، كما لا يجوز في البيع.
ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة من التصرفات النافعة نفعاً محضاً، فيملكه الصبي العاقل.
وأما القبض بطريق النيابة، فالنيابة في القبض نوعان:
نوع يرجع إلى القابض، ونوع يرجع إلى القبض نفسه.
أما الأول ـ فهو القبض للصبي، وشرط جوازه وجود ولاية أو عيلة أي كون الصبي في حِجْر وعيال شخص أي في رعايته وتربيته عند عدم الولي.
فلو وهب أجنبي للصغير شيئاً، فيقبض عنه وليه على هذا الترتيب عند الحنفية: الأب، ثم وصيه، ثم الجد، ثم وصيه، ومن غاب من هؤلاء غيبة منقطعة
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 70/12، البدائع: 119/5، 124، حاشية ابن عابدين: 544/4.
(2) انظر التفصيل في البدائع: 126/5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 125/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 535/4، الكتاب مع الباب: 173/2.(5/641)
تنتقل الولاية إلى الأبعد، كما في ولاية النكاح؛ لأن التأخير إلى قدوم الغائب يؤدي إلى تفويت المنفعة على الصغير، فتنتقل الولاية إلى ما يتلوه.
وبناء على ذلك لو وهب أحد هؤلاء الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير، وكذلك إذا باع الأب ماله من ابنه الصغير، ثم هلك المبيع عقب البيع، كان الهلاك على الصغير؛ لأنه صار قابضاً بقبض الأب.
ولو قبض الصغير العاقل ما وهب له أحد أوليائه المذكورين، جاز قبضه استحساناً، والقياس: أن لا يجوز، كما تبين في القبض بطريق الأصالة.
ولا يجوز قبض غير هؤلاء الأولياء الأربعة المذكورين مع وجود واحد منهم، أجنبياً كان أو ذا رحم محرم منه، كالأخ والعم والأم؛ لأنه ليس لهم ولاية التصرف في مال الصبي.
فإن لم يكن أحد من هؤلاء الأولياء الأربعة، جاز قبض من كان الصبي في حجره وعياله استحساناً، والقياس: أن لا يجوز لعدم الولاية، وإنما جاز ذلك استحساناً؛ لأن من هو في عياله، له عليه نوع ولاية، إذ أنه يؤدبه، ويعمل له ما فيه المنفعة، وللصبي في قبض الهبة منفعة محضة، فكيون ذلك من باب الحفظ.
وأما النوع الثاني من النيابة: وهو الذي يرجع إلى القبض نفسه فهو أن القبض الموجود بسبب من الأسباب ينوب عن قبض الهبة، سواء أكان مثل قبض الهبة أم أقوى منه، وبيانه:
أـ إذا كان الموهوب في يد الموهوب له وديعة أو عارية، فوهب منه، جازت الهبة، ولا يحتاج إلى تجديد القبض بعد العقد استحساناً، والقياس: أن لا يصير قابضاً ما لم يجدد القبض، وهو أن يخلي بين الموهوب له وبين الموهوب بعد العقد؛ لأن يد الوديع هي يد صورية، وهي في الحقيقة والمعنى يد المودع، فكان المال في يده فيحتاج إلى تجديد القبض.(5/642)
ووجه الاستحسان: أن قبض الهبة وقبض الوديعة أو العارية متماثلان في القوة؛ لأن كل واحد منهما قبض أمانة غير مضمون، إذ الهبة عقد تبرع، وكذا الوديعة والعارية، فتماثل القبضان، فيقوم أحدهما مقام الآخر.
ب ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بنفسه، كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء (1) ، والمقبوض ببيع فاسد، فوهب منه: تصح الهبة، ويبرأ عن الضمان؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، فينوب عنه، لوجود المستحق بالعقد وهو القبض، وزيادة ضمان.
ج ـ وإذا كان الموهوب في يد الموهوب له مضموناً بغيره، كالمرهون المضمون بالدين، والمبيع المضمون بالثمن، فوهبه مالكه لصاحب اليد: فإنه لا يصير قابضاً بذلك عند الكرخي ما لم يجدد القبض؛ لأن قبض الرهن أو البيع، وإن كان قبض ضمان، لكنه ضمان لا تصح البراءة منه، فلا يحتمل الإبراء بالهبة، ليصير قبض أمانة، وبالتالي يتماثل القبضان، وحينئذ على سوم الشراء؛ لأن ذلك الضمان مما تصح البراءة عنه، فيبرأ عنه بالهبة؛ ويبقى قبضاً بغير ضمان، فتماثل القبضان فيتناوبان.
وفي الجامع الصغير والبدائع، وهو الأرجح: يصير الموهوب له في المضمون بغيره قابضاً؛ لأن قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة، والأقوى ينوب عن الأدنى.
__________
(1) وهو أن يقبض الإنسان شيئاً لينظره أو ليشتريه، فإن بين البائع للمقبوض ثمناً، كان المقبوض مضموناً على القابض، بخلاف المقبوض على سوم النظر، فإنه أمانة. وعلى هذا فالمقبوض على سوم الشراء مضمون بالقيمة عند بيان الثمن، لا المقبوض على سوم النظر، فهو ليس بمضمون مطلقاً (راجع مجمع الضمانات للبغدادي: ص 213، 217، الدر المختار ورد المحتار: 52/4 ومابعدها، حاشية الشرقاوي على التحفة: 150/2، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 96) .(5/643)
المبحث الرابع ـ حكم الهبة:
أصل حكم الهبة: هو ثبوت الملك للموهوب له في الموهوب من غير عوض.
صفة حكم الهبة: قال الحنفية: حكم الهبة ثبوت الملك للموهوب له غير لازم، فيصح الرجوع والفسخ، لقوله عليه السلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» (1) أي يعوض، فإنه عليه السلام جعل الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض، وهذا نص في المراد، فيصح الرجوع ما لم يحصل تعويض، وإن تم القبض، وهناك موانع أخرى من الرجوع ستذكر. ولكن يكره الرجوع؛ لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد. ولا يصح الرجوع إلا بتراض أو بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ بعد تمام العقد، فصار كالفسخ بسبب العيب بعد القبض (2) ، فالرجوع في الهبة بالتراضي يعد من الإقالة.
وقال المالكية: يثبت الملك في الهبة بمجرد العقد ويصبح لازماً بالقبض، فلا
__________
(1) روي من حديث أبي هريرة وابن عباس وابن عمر. فحديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه والدارقطني، وفيه ضعيف. وحديث ابن عباس له طريقان: أحدهما عند الطبراني في معجمه، والثاني عند الدارقطني في سننه، وحديث ابن عمر رواه الحاكم وصححه، كما صححه ابن حزم، وعن الحاكم رواه البيهقي وقال: والصحيح من هذه الرواية عن عمر من قوله (راجع نصب الراية: 125/4، التلخيص الحبير: ص 260 ومابعدها، سبل السلام: 93/3) .
(2) البدائع: 127/6، تكملة فتح القدير: 129/7، مجمع الضمانات: ص 338.(5/644)
يحل الرجوع بعدئذ، أما قبل القبض أو بعده فيصح للواهب الأب فقط أن يرجع فيما وهبه لابنه، ما لم يترتب عليه حق الغير كأن يتزوج مثلاً، أو يستحدث ديناً. والرجوع في الهبة يعرف عندهم بالاعتصار في الهبة (1) .
والاعتصار أو الرجوع في الهبة جائز عند المالكية فيما يهبه الوالد لولده صغيراً أو كبيراً بشروط خمسة: وهي ألا يتزوج الولد بعد الهبة، ولا يحدث ديناً لأجل، وألا يتغير الموهوب عن حاله، وألا يحدث الموهوب له في الموهوب حدثاً، وألا يمرض الواهب أو الموهوب له. فإن وقع شيء من ذلك يمتنع الرجوع، هذا في هبة التردد والمحبة. أما الهبة لوجه الله تعالى وهي التي تسمى صدقة فلا رجوع فيهاأصلاً ولا اعتصار، ولا ينبغي للواهب أن يرتجعها بشراء ولا غيره، وإن كانت شجراً فلا يأكل من ثمرها، وإن كانت دابة فلا يركبها إلا أن ترجع إليه بالميراث، وأما هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له فهي جائزة عند المالكية، والموهوب له مخير بين قبولها أو ردها، فإن قبلها فيجب أن يكافئه بقيمة الموهوب، ولا يلزمه الزيادة عليها، ولا يلزم الواهب قبول ما دونه.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته، إلا الوالد فيما أعطى ولده، لقوله عليه الصلاة والسلام: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» ، «ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس لأحد أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد، فيما يعطي ولده» (1) ، وكالوالد: سائر الأصول عند الشافعية (2) .
والخلاصة: إن حكم الهبة غير لازم عند الحنفية، ولازم عند الجمهور إلا هبة الوالد لولده، فيصح له الرجوع قبل القبض عند المالكية، وبعد القبض أيضاً عند الشافعية والحنابلة. ويثبت ذلك الحق عند الشافعية في هبة الأصل (الوالد والجد) للفرع مطلقاً.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 110/4، بداية المجتهد: 324/2، 327، المنتقى على الموطأ: 113/6، 116، القوانين الفقهية: ص 367، ط فاس.
(2) تقديم تخريجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، والرواية الأولى عند النسائي والثانية عند أبي داود (راجع سبل السلام: 90/3) .
(3) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل فإذا شبع قاء، ثم عاد فيه» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم عن ابن عباس وصححاه، ورواه أحمد والطبراني والدارقطني وعبد الرزاق عن طاوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلاً، وله طريق آخر عند النسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لا يرجع في هبته إلا الوالد من ولده» (راجع جامع الأصول: 266/12، نصب الراية: 124/4، سبل السلام: 90/3، التلخيص الحبير: ص 260) .
(4) مغني المحتاج: 401/2، المهذب: 1ص 447، المغني: 621/5.(5/645)
المبحث الخامس ـ موانع الرجوع في الهبة عند الحنفية:
نظم بعضهم هذه الموانع وهي سبعة، فقال:
ومانع من الرجوع في الهبة يا صاحبي حروف (دمع خزقة)
الدال رمز للزيادة المتصلة في نفس العين، والميم للموت، والعين للعوض، والخاء لخروج الموهوب عن ملك الموهوب له، والزاي للزوجية، والقاف للقرابة، والهاء للهلاك.
وتفصيل ذلك يعرف مما يأتي:
أولاً ـ العوض المالي: إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضاً، وقبضه الواهب، امتنع على الواهب الرجوع في هبته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» أي يعوض وذلك هو هبة الثواب أي العوض، ولأن التعويض دليل على أن مقصود الواهب هو الوصول إلى العوض، فإذا عوض امتنع الرجوع، لكن يشترط في المعوض أن يقول شيئاً من الألفاظ يؤذن بالعوض، أما إذا سكت ولم يقل شيئاً، جاز الرجوع فيما أعطى.
والعوض نوعان: عوض مشروط في العقد، وعوض متأخر عن العقد (1) .
أـ العوض المشروط في العقد (أو الهبة بشرط العوض أو هبة الثواب) :
__________
(1) انظر التفصيل في المبسوط: 75/12 ومابعدها، البدائع: 130/6، تكملة فتح القدير: 133/7، حاشية ابن عابدين: 539/4 ومابعدها.(5/646)
إذا قال الواهب: «وهبت لك هذا القلم على أن تعوضني هذا الثوب» فقد اتفق الأئمة الأربعة على صحة هذا الشرط، والعقد الذي اشتمل عليه، واختلفوا في تكييف العقد المذكور.
فقال الحنفية ما عدا زفر: يعتبر هذا العقد هبة ابتداء، بيعاً انتهاءً، فتطبق عليه أحكام الهبة قبل القبض، فلا تجوز هبة المشاع ويشترط القبض، ويجوز الرجوع في السلعتين، ما لم يتقابضا. وأما بعد التقابض فيعد العقد بمنزلة البيع، بحيث يرد البدلان بالعيب وعدم الرؤية، ويرجع في الاستحقاق، وتجب الشفعة في العقار.
وقال زفر: هو عقد بيع ابتداءً وانتهاءً، وتثبت فيه أحكام البيع، فلا يفسد بالشيوع، ويفيد الملك بنفسه، بدون اشتراط القبض؛ لأن معنى البيع موجود في هذا العقد، إذ البيع تمليك العين بعوض.
واعتمد جمهور الحنفية على أنه وجد في هذا العقد لفظ الهبة، ومعنى البيع، فيعطى شبه العقدين (1) .
وقال المالكية: يعتبر هذا العقد كالبيع في غالب الأحوال، ويخالفه في الأقل منها؛ لأن هبة الثواب تجوز مع جهل عوضها، وجهل أجله، وليس للواهب رد الثواب المعيب، وإنما يلزم بقبوله، ما لم يكن العيب فادحاً كجذام وبرص، وإلا فلا يلزم الواهب قبوله، ولو كمل له القيمة (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: يعتبر العقد بيعاً على الصحيح، فيلتزم الموهوب له بدفع العوض المشروط، وتطبق عليه أحكام البيع من الشفعة والخيار وضمان الدرَك أي ما يدرك المبيع من استحقاق، ونحو ذلك (3) . والسب هو أن اشتراط العوض صراحة يبطل الهبة، لأنه شرط مخالف لمقتضى العقد.
ب ـ العوض المتأخر عن العقد:
العوض المتأخر عن العقد إما أن يضاف إلى الهبة الأولى مثل: هذا عوض عن هبتك، أو بدل عنها أو مكانها، وإما ألا يضاف إليها.
__________
(1) البدائع: 132/6.
(2) بداية المجتهد: 326/2، حاشية الدسوقي: 114/4، القوانين الفقهية: ص 352.
(3) المهذب: 447/1، مغني المحتاج: 404/2، ضمان الدرك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل التبعة عند ظهور حق فيه لأحد. (عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 97) .(5/647)
فإذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى، تكون الهبة الثانية هبة مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين.
وأما إذا أضيف العوض إلى الهبة الأولى، فيكون التعويض المتأخر عن الهبة الأولى هبة مبتدأة بلا خلاف، تصح بما تصح به الهبة، وتبطل بما تبطل به الهبة، ولكن يخالف الهبة المبتدأة في إسقاط الرجوع في الهبة الأولى، فكان فيه معنى العوض (1) .
ولكن هل الهبة المطلقة عن شرط التعويض عنها تقتضي الإثابة والتعويض؟
اختلف العلماء: فقال الحنفية، والحنابلة، والشافعية في الأرجح عندهم: لاتقتضي ثواباً، سواء أكانت من الإنسان لمثله، أم دونه، أم أعلى منه، فلا يلزم الموهوب له بالإثابة والتعويض للواهب (2) .
وقال المالكية: الهبة تقتضي الثواب وتحمل على إرادة التعويض إذا اختلف الواهب والموهوب له في ذلك، وخصوصاً: إذا دلت قرينة الحال على قصد الثواب. مثل: أن يهب الفقير الغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. ودليلهم قول عمر رضي الله عنه: ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته يرجع فيها، إذا لم يرض منها (3) .
ثانياً ـ العوض من حيث المعنى: وهو ليس بعوض مالي، وهو ثلاثة أنواع (4) .
الأول ـ الثواب من الله تعالى: فلا رجوع في الهبة من الفقير بعد قبضها؛ لأن الهبة إلى الفقير صدقة، ويطلب بها الثواب، ولا رجوع في الصدقة.
__________
(1) البدائع: 131/6، المبسوط: 76/12، 82.
(2) البدائع: 132/6، المهذب: 447/1، مغني المحتاج: 404/2، المغني: 623/5.
(3) بداية المجتهد: 326/2، حاشية الدسوقي: 114/4، المنتقى على الموطأ: 111/6.
(4) البدائع: 132/6، تكملة فتح القدير: 134/7، حاشية ابن عابدين: 541/4.(5/648)
الثاني ـ صلة الرحم: فلا يصح الرجوع في هبة ذوي الأرحام المحارم؛ لأن هذه الصلة عوض معنوي؛ لأن التواصل سبب التناصر والتعاون في الدنيا، فيكون وسيلة إلى استيفاء النصرة، وسبب الثواب في الدار الآخرة، فكان ذلك أقوى من المال.
الثالث ـ صلة الزوجية: فلا يصح الرجوع في هبة الزوجين؛ لأن هذه الصلة تجري مجرى صلة القرابة الكاملة، بدليل أنه يتعلق بها التوارث في جميع الأحوال.
ثالثاً ـ الزيادة المتصلة في الموهوب بفعل الموهوب له أو بفعل غيره: هذه الزيادة تمنع الرجوع، سواء أكانت متولدة أم غير متولدة، كأن يكون الموهوب داراً، فبنى الموهوب له فيها بناء، أو كان أرضاً فغرس فيها أشجاراً، أو أقام مضخة ماء وثبّتها في الأرض وبنى عليها، أو كان الموهوب ثوباً فصبغه بصباغ زادت به قيمته، أو قطعه قميصاً وخاطه، أو طرأ سمن وجمال، فلا يصح الرجوع؛ لأن الموهوب اختلط بغيره، والرجوع لا يمكن في غير الموهوب، لأنه ليس بموهوب، وبما أنه لا يمكن الرجوع في الأصل بدون الزيادة، فامتنع الرجوع أصلاً.
وأما الزيادة المنفصلة: فلا تمنع من الرجوع، سواء أكانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمر، أم غير متولدة كالأرش (1) والكسب والغلة؛ لأن هذه الزوائد لم يرد عليها العقد، فلا يرد عليها الفسخ، وإنما ورد على الأصل، ويمكن فسخ العقد في الأصل دون الزيادة، بخلاف المتصلة، وبخلاف زوائد المبيع، فإنها تمنع الرد بالعيب، حتى لا يحصل هناك ربا؛ لأنه يترتب على فسخ البيع وردِّ
__________
(1) الأرش: هو العوض المالي الذي يقدر ويجب على الجاني في غير النفس أو الأعضاء، وذلك في كل جناية بحسبها كما في الكسر أو الرض.(5/649)
الأصل أن يبقى الولد مثلاً عند المشتري بدون مقابل، وهذا هو معنى الربا، ومعنى الربا لا يتصور في الهبة؛ لأن الربا يختص بالمعاوضات.
وأما نقصان الموهوب فلا يمنع من الرجوع في الهبة، لأنه ما دام له الحق في الرجوع في كل الموهوب، فيكون له الرجوع في بعض الموهوب مع بقائه، فكذا عند نقصانه. ولا يضمن الموهوب له النقصان؛ لأن قبض الهبة ليس بقبض مضمون (1) .
رابعاً ـ خروج الموهوب عن ملك الموهوب له: بأي سبب كان، كالبيع أو الهبة ونحوهما؛ لأن الملك يختلف بهذه التصرفات، واختلاف الملكين كاختلاف العينين، فلو وهب عيناً لم يكن له أن يرجع في عين أخرى، فكذا إذا أوجب ملكاً لم يكن له أن يفسخ ملكاً آخر (2) .
خامساً ـ موت أحد العاقدين: إذا مات الموهوب له امتنع الرجوع؛ لأن الملك انتقل إلى ورثته، فصار كما إذا انتقل في حياته. وكذا إذا مات الواهب؛ لأن الملك ينتقل إلى وارثه، وهو أجنبي، لم تحدث منه الهبة (3) .
سادساً ـ هلاك الموهوب أو استهلاكه: لأنه لا سبيل إلى الرجوع في الهالك، ولا سبيل إلى الرجوع في قيمته؛ لأنها ليست بموهوبة، لعدم ورود العقد عليها، وقبض الهبة غير مضمون (4) .
__________
(1) راجع المبسوط: 88/12، البدائع: 129/6، تكملة فتح القدير: 132/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 538/4 ومابعدها، المبسوط: 83/12.
(2) البدائع: 128/6، حاشية ابن عابدين: 541/4، تكملة فتح القدير، المرجع السابق، المبسوط: 84/12.
(3) تكملة فتح القدير، المرجع السابق، حاشية ابن عابدين: 539/4.
(4) البدائع: 128/6، حاشية ابن عابدين: 542/4.(5/650)
ماهية الرجوع: لا خلاف في أن الرجوع في الهبة بقضاء القاضي فسخ. واختلف العلماء في الرجوع فيها بالتراضي، فقال جمهور الحنفية: إنه فسخ أيضاً كالرجوع بالقضاء، فيجوز بالمشاع، ولا يشترط لصحته القبض.
وقال زفر: إنه هبة مبتدأة؛ لأن ملك الموهوب عاد إلى الواهب بتراضيهما، فصار يشبه الرد بالعيب، فيعتبر عقداً جديداً بالنسبة لشخص ثالث غير المتعاقدين.
واستدل جمهور الحنفية بأن الواهب بالفسخ يستوفي حق نفسه، واستيفاء الحق لا يتوقف على قضاء القاضي، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء القاضي: إنه يعتبر بيعاً جديداً في حق شخص ثالث (أي غير المتعاقدين) ، لأنه لا حق للمشتري في الفسخ، وإنما حقه في كون المبيع سالماً من العيوب، فإذا لم يسلم اختل رضاه (1) .
المبحث السادس ـ عطية الأولاد:
لا خلاف بين جمهور العلماء في استحباب التسوية في العطاء بين الأولاد، وكراهة التفضيل بينهم في حال الصحة كما تقدم، واختلفوا في بيان المراد من التسوية المستحبة.
فقال أبو يوسف من الحنفية، والمالكية والشافعية وهو رأي الجمهور: يستحب للأب أن يسوي بين الأولاد ـ الذكور والإناث ـ في العطية، فتعطى الأنثى مثلما يعطى الذكر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثراً
__________
(1) البدائع: 134/6.(5/651)
لآثرت النساء على الرجال» (1) رواه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي بإسناد حسن، وفي رواية للبخاري: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (2) ، ولأن العدل في القسمة والمعاملة مطلوب (3) ، وقدحملوا الأمر في هذه الأحاديث على الندب.
وقال الحنابلة، ومحمد من الحنفية: للأب أن يقسم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى في الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن الله تعالى قسم بينهم كذلك، وأولى ما اقتدى به: هو قسمة الله، ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحالة الموت، والميراث المترتب عليه. يدل لهذا أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسبه (4) .
أما عن حكم التسوية في العطية: فقال جمهور العلماء (5) : لا تجب التسوية بل تندب، فإن فضل بعض الورثة صح وكره، وحملوا الأمر بالتسوية في الأحاديث على الندب؛ لأن الإنسان حر التصرف بماله، لوارث وغيره، وكذلك حملوا النهي الثابت في رواية لمسلم بلفظ «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن» على التنزيه، فالعدل: هو التسوية بين الأولاد.
__________
(1) ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء» وفي إسناده سعيد بن يوسف، وهو ضعيف، وذكر ابن عدي في الكامل أنه لم يرو له أنكر من هذا (راجع التلخيص الحبير: ص260، مجمع الزوائد: 153/4) .
(2) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير قال: «تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي - عمرة بنت رواحة -: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم؟ فرجع أبي، فرد تلك الصدقة» وله روايات أخرى (راجع جامع الأصول: 266/12 ومابعدها، التلخيص الحبير: ص260، سبل السلام: 89/3) .
(3) تحفة الفقهاء: 274/3، الطبعة القديمة، الميزان: 100/2، المهذب: 446/1. مغني المحتاج: 401/2.
(4) المغني: 604/5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 367، ط فاس، غاية المنتهى: 335/2.
(5) نيل الأوطار: 7/6، سبل السلام: 89/3، كشاف القناع: 342/4-345.(5/652)
وقال جماعة (وهم أحمد والثوري وطاووس وإسحاق وآخرون) : تجب التسوية بين الأولاد في العطية أو الهبة، وتبطل العطية مع عدم المساواة، عملاً بظاهر الأمر في الأحاديث، الذي يقتضي الوجوب مثل قوله عليه السلام: «اتقوا الله» وقوله: «اعدلوا بين أولادكم» (1) وقوله: «فلا إذن» وقوله في حالة إعطاء بعض دون بعض: «لا أشهد على جور» .
واختلف هؤلاء في كيفية التسوية، فقيل بأن تكون عطية الذكر والأنثى سواء وهو ظاهر رواية عند النسائي: «ألا سويت بينهم» وعند ابن حبان: «سووا بينهم» وحديث ابن عباس: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء» .
وقال الحنابلة: بل التسوية أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب التوريث.
وروي عن أحمد: أنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته المرضية أو لعمى، أو لقضاء دينه، أو كثرة عائلته، أو للاشتغال بالعلم، أو نحو ذلك دون الباقين (2) .
العطية للوالدين: تسن التسوية أيضاً في العطية للوالدين، ويجوز تفضيل الأم أحياناً وتخصيصها بمزيد من العطاء والإكرام؛ لما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» .
العطية للإخوة والأخوات: يستحب كذلك التسوية بين الإخوة والأخوات في العطاء والهبات والهدايا في المناسبات وغيرها، إذا كانوا بدرجة واحدة من الحاجة، ويجوز تخصيص الأكبر بشيء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حقُّ كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده» وفي رواية «الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب» (3) .
__________
(1) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير (نيل الأوطار: 6/6) .
(2) أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر جواباً عن سؤال حول إمكان التمييز بين الورثة، وتضمنت الفتوى ما يلي:
أولاً ـ يجب على الوالدين التسوية بين الأولاد في العطية والهدايا والإنفاق، ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا لمبرر يأتي، عملاً بالأحاديث السابقة الآمرة بالتسوية.
ثانياً ـ إذا أنفق أحد الوالدين على أحد الأولاد نفقة ذات قيمة بأن زوجه ودفع له مهر الزوجة، أو أنفق على تعليمه بما أوصله إلى وظيفة ذات غناء، أو جهز إحدى بناته، كان عليه أن يعوض سائر ولده الآخرين بمقدار ما أنفقه على ولده الأول.
ثالثاً ـ يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض لمبرر شرعي، ومن المبررات الشرعية: العاهات المانعة من التكسب كالزمانة، والعمى المانع، والشلل، وكذلك العجز عن التكسب، والاشتغال بالعلم الديني (مجلة الأزهر ـ العدد الثالث من السنة الرابعة عشرة) .
(3) الحديث الأول رواه البيهقي عن سعيد بن العاص، وهو ضعيف، والحديث الثاني رواه البيهقي والطبراني وابن عدي عن كليب الجهني، وهو ضعيف أيضاً.(5/653)
الفَصْلُ السّابع: الإِيدَاع
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الإيداع في المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الإيداع ومشروعيته.
المبحث الثاني ـ ركن الإيداع وشرائطه.
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإيداع، وطريقة حفظ الوديعة.
المبحث الرابع ـ حال الوديعة: هل يد الوديع يد أمانة أو يد ضمان؟.
المبحث الخامس ـ حالات ضمان الوديعة.
المبحث السادس ـ انتهاء الإيداع.(5/654)
المبحث الأول ـ تعريف الإيداع ومشروعيته:
الودع في اللغة: الترك، والوديعة لغة: الشيءالموضوع عند غير صاحبه للحفظ. وشرعاً: تطلق على الإيداع، وعلى العين المودعة، والراجح أنها عقد إلا أن الأصح أن يقال: الإيداع عقد، لا الوديعةعقد؛ لأن الأرجح أنها عقد. وتعريف الإيداع عند جماعة من شراح الحنفية: هو تسليط الغير على حفظ ماله صريحاً أو دلالة (1) مثل قول المودع لغيره: أودعتك (2) ، فيقبل الآخر ويتم الإيداع صراحة عندئذ، أو دلالة كأن يجيء رجل بثوب إلى رجل ويضعه بين يديه، ويقول: هذا وديعة عندك، ويسكت الآخر، فيصير مودعاً دلالة.
وعرفه الشافعية والمالكية بقولهم: توكيل في حفظ مملوك، أو محترم مختص، على وجه مخصوص (3) ، فيصح إيداع الخمر المحترمة (4) ، وجلد ميتة يطهر بالدباغ، وزبل وكلب معلم للصيد. أما غير المختص كالكلب الذي لا يقتنى، والثوب الذي طيرته الريح ونحوه، فهذا لا اختصاص فيه؛ لأنه مال ضائع مغاير لحكم الوديعة.
ويقال لدافع الوديعة: مودع ـ بكسر الدال ـ ولآخذها: مودع ـ بفتح الدال ـ ووديع.
والإيداع مشروع ومندوب إليه لقوله سبحانه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/4] وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة:283/2] وقال صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (5) ،
__________
(1) تكملة فتح القدير: 88/7، حاشية ابن عابدين: 515/4، مجمع الضمانات: ص 68.
(2) أودعتك الشيء من الأضداد، تطلق على: جعلته عندك وديعة، وقبلته منك وديعة.
(3) مغني المحتاج: 79/3، قليوبي وعميرة: 180/3، شرح التحرير: ص 167، نهاية المحتاج: 5 ص 87، حاشية الشرقاوي: 96/2 ومابعدها، حاشية الدسوقي: 419/3.
(4) الخمر المحترمة: هي التي يملكها امرؤ أسلم وكانت عنده، أو ورثها منه وارثه.
(5) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه، واستنكره أبو حاتم الرازي وأخرجه جماعة من الحفاظ، فرواه البيهقي ومالك والدارقطني، وأحمد وأبو نعيم من طرق مطعون فيها. وفي موضوعه عن أبي بن كعب عند ابن الجوزي والدارقطني، وعن أبي أمامة عند البيهقي والطبراني، وفيهما ضعيف، وعن أنس عند الدارقطني والطبراني والبيهقي، وأبي نعيم، وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبي داود والبيهقي وفي إسناده مجهول آخر غير الصحابي، قال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت. قال في نيل الأوطار: ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المعتبرة مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضهما، وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضاً للاحتجاج به. (راجع التلخيص الحبير: ص 270، نيل الأوطار: 297/5، سبل السلام: 68/3) .(5/655)
وأجمع العلماء في كل عصر من العصور الإسلامية على جواز الإيداع والاستيداع، لأن بالناس حاجة، بل ضرورة إلى الإيداع (1) .
المبحث الثاني ـ ركن الإيداع وشرائطه:
ركن الإيداع عند الحنفية هو الإيجاب والقبول. وهو أن يقول لغيره: أودعتك هذا، أو احفظ هذا الشيء لي، أو خذ هذا الشيء وديعة عندك، ونحو ذلك ويقبله الآخر (2) .
وأركانه عند الجمهور أربعة (3) : عاقدان (مودع ووديع) ، ووديعة (الشيء المودع) وصيغة (إيجاب وقبول) والقبول إما أن يكون لفظاً مثل: قبلت، أو دلالة كمن يضع ماله عند شخص فيسكت، فيكون السكوت قائماً مقام القبول كالمعاطاة في البيع.
شرائط الركن:
يشترط عند الحنفية في العاقدين: العقل، فلا يصح الإيداع من الصبي الذي لا يعقل، والمجنون، كما لا يصح قبول الوديعة من المجنون والصبي الذي لا يعقل، ولا يشترط البلوغ، فيصح الإيداع من الصبي المأذون في التجارة؛ لأن ذلك
__________
(1) المراجع السابقة، المغني لابن قدامة: 382/6، المبسوط: 109/11.
(2) البدائع: 307/6، مجمع الضمانات: ص 68.
(3) الشرح الكبير: 419/3، مغني المحتاج: 80/3، كشاف القناع: 186/4، غاية المنتهى: 269/2. قال الشافعية: الأصح أنه لا يشترط في الوديع القبول لفظاً، ويكفي القبض للوديعة، كما في الوكالة بل أولى، عقاراً كانت أو منقولاً.(5/656)
مما يحتاج إليه التاجر، كما يصح قبول الوديعة من الصبي المأذون؛ لأنه من أهل الحفظ. وأما الصبي المحجور عليه فلا يصح قبول الوديعة منه؛ لأنه لا يحفظ المال عادة (1) .
ويشترط عند الجمهور في الإيداع ما يشترط في الوكالة من البلوغ والعقل والرشد.
ويشترط في الوديعة: أن يكون المال قابلاً لإثبات اليد عليه، فلو أودع الآبق أو الطير في الهواء أو المال الساقط في البحر: لم يضمن (2) .
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإيداع وطريق حفظ الوديعة:
حكم عقد الإيداع: لزوم الحفظ للمالك؛ لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ وائتمان، ومن جانب الوديع التزام بالحفظ، فيلزمه الحفظ، لقوله عليه السلام: «المسلمون على شروطهم» (3) .
إيداع رجلين من رجل: لو أودع رجلان عند رجل وديعة، وغابا ثم حضر أحدهما وطلب نصيبه، فليس له أن يدفع إليه حصته، حتى يحضر الآخر، وقال
__________
(1) البدائع: المرجع السابق.
(2) حاشية ابن عابدين: 516/4.
(3) هذا جانب من حديث: «الصلح جائز بين المسلمين» الذي روي عن أبي هريرة وعمرو بن عوف. فحديث أبي هريرة أخرجه أبو داود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الصلح جائز» إلخ، ورواه ابن حبان والحاكم. وحديث عمرو بن عوف أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» زاد الترمذي «والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» وقال: حديث صحيح، ورواه بتمامه الحاكم في المستدرك، وسكت عنه (راجع نصب الراية: 112/4، سبل السلام: 59/3) .(5/657)
الصاحبان: للوديع أن يقسم الوديعة، ويدفع إلى أحد المودعين نصيبه، ولا يكون ذلك قسمة على الغائب، حتى إنه لو هلك النصف الباقي في يد الوديع، كان للغائب أن يشارك القابض فيما قبض.
دليلهما: أن أحد المودعين طالب الوديع بدفع نصيبه، فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك.
واستدل لأبي حنيفة: بأنه لا نسلم أن أحد المودعين طالب بتسليم نصيبه، بل بدفع نصيب الغائب؛ لأنه يطالب بالنصيب المفرز، وحقه ليس فيه، وإنما في المشاع، وهو كل الوديعة، والمفرز المعين منها يشتمل على الحقين، ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للوديع ولاية القسمة؛ لأنه ليس بوكيل في ذلك، بخلاف الدين المشترك؛ لأن الشريك يطالب المديون بتسليم حقه أي بقضاء حقه، وحقه من حيث القضاء ليس بمشترك بين الدائنين؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، والمثل مال المديون ليس بمشترك بين الدائنين، فلا يكون هذا تصرفاً في حق الغير، بل يكون المدين متصرفاً في مال نفسه، فيجوز (1) .
إيداع رجل من رجلين: لو أودع رجل عند رجلين وديعة مما يقسم، فلهما أن يقسماه، ويأخذ كل واحد نصفه للحفظ؛ لأن المالك رضي بحفظهما، ولم يرض بحفظ أحدهما لكل الوديعة.
ولو دفع أحدهما الوديعة كلها إلى صاحبه، ضمن النصف عند أبي حنيفة؛ لأنه رضي بحفظهما، لا بحفظ أحدهما؛ لأن الأصل أن فعل الاثنين إذا أضيف إلى ما يقبل التجزئة، تناول البعض، فإذا سلم أحدهما الكل إلى الآخر، ولم يرض المالك به، ضمن.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 94/7 وما بعدها، المبسوط: 123/11، مجمع الضمانات: ص 78.(5/658)
وقال الصاحبان: لايضمن؛ لأنه رضي بأمانتهما، فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر، ولا يضمنه، كما هو الشأن فيما لا يقسم.
واتفقوا على أن الوديعة إذا كانت لا تقسم، لا تضمن؛ لأنه لا يمكن حفظها إلا في مكان واحد، فكان المالك راضياً بحفظ أحدهما لعلمه أنهما لا يجتمعان عليه أبداً (1) .
طريقة حفظ الوديعة: اختلف العلماء في طريقة حفظ الوديعة، فقال الحنفية والحنابلة: على الوديع أن يحفظ الوديعة، كما يحفظ به ماله في حرز مثله، وذلك بيده أو بيد من هو في عياله (2) ممن تلزمه نفقته، كامرأته وولده وغلامه وخادمه؛ لأن حفظها بهؤلاء مثلما يحفظ به ماله، فأشبه ما لو حفظها بنفسه.
وله عند الحنفية أن يحفظ الوديعة أيضاً بيد من ليس في عياله، ممن يحفظ عنده ماله بنفسه عادة كشريكه المفاوض والعنان، لا المستأجر مياومة (3) . فإن حفظ الوديع الوديعة عند غير هؤلاء فتلفت، ضمنها؛ لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره والأيدي تختلف في الأمانة إلا أن يقع في دار الوديع حريق، فيسلمها إلى جاره أو يكون الوديع في سفينة وهاجت الريح وصار بحيث يخاف الغرق، فيلقيها إلى سفينة أخرى، فله ذلك لأنه إجراء تعين طريقاً للحفظ في هذه الحالة، فيرتضيها المالك. ولا يصدق الوديع على ذلك إلا ببينة؛ لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق سبب الضمان.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 96/7، مجمع الضمانات: ص 78، الكتاب مع اللباب: 199/2.
(2) وهو الذي يسكن معه ويمونه، فيكفيه طعامه وشرابه وكسوته، كائناً من كان، قريباً أم أجنبياً كولده وامرأته، وخادمه وأجيره.
(3) المبسوط: 109/11، تكملة فتح القدير: 89/7، مجمع الضمانات: ص 77، البدائع: 207/6، المغني: 385/6، الكتاب مع اللباب: 197/2.(5/659)
وقال المالكية: للوديع حفظها عند عياله الذين يأمنهم كالزوجة والابن والأجير الذين اعتيد حفظ ماله عندهم بأن طالت إقامتهم عنده، ووثق بهم بالتجربة، بخلاف ما لم يعتادوا ذلك كالزوجة إثر تزوجه بها، والأجير إثر استئجاره (1) .
وقال الشافعية: على الوديع أن يحفظ الوديعة بنفسه، ولا يجوز حفظها عند زوجته أو ولده بلا إذن من المودع، أو إذا لم يكن هناك عذر بذلك؛ لأن المودع لم يرض بأمانة غير هذا الوديع لا بيد غيره. فإن خالف الوديع طريق الحفظ ضمن، إلا إذا كان الإيداع لعذر كمرض أو سفر، فإنه لا يضمن (2) .
المبحث الرابع ـ حال الوديعة: هل هي أمانة أو مضمونة؟
اتفق علماء المذاهب على أن الوديعة قربة مندوب إليها، وأن في حفظها ثواباً، وأنها أمانة محضة، لا مضمونة، وأن الضمان لا يجب على الوديع إلا بالتعدي أو التقصير، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس على المستودع غير المغل ضمان» (3) وقوله «لا ضمان على مؤتمن» (4) واشتراط الضمان على الأمين باطل، وهو المفتى به عند الحنفية.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 423/3، بداية المجتهد: 307/2.
(2) مغني المحتاج: 81/3، المهذب: 361/2.
(3) أخرجه الدارقطني والبيهقي في سننيهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس على المستودع غير المغل ضمان، ولا على المستعير غير المغل ضمان» المغل: الخائن. قال الحافظ ابن حجر: وفي إسناده ضعيفان. قال الدارقطني: وإنما يروى هذا من قول شريح غير مرفوع. ورواه من طريق أخرى ضعيفة بلفظ «لا ضمان على مؤتمن» (راجع نصب الراية: 115/4، التلخيص الحبير: ص 270، نيل الأوطار: 296/5) .
(4) رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي إسناده ضعف (نيل الأوطار: 296/5) .(5/660)
ويترتب عليه أنه يجب ردها عند طلب المالك مع الإمكان، لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/4] .
ولكل واحد من العاقدين فسخ الإيداع متى شاء دون إذن العاقد الآخر؛ لأن عقد الإيداع جائز غير لازم، فللمودع استرداد الوديعة متى شاء، وللوديع ردها على المودع أيضاً متى شاء.
فإذا طالب المالك الوديع بها، فقال: (ما أودعتني شيئاً) ثم قال بعدئذ: ضاعت، فيضمن، لخروجه عن حد الأمانة، وإذا قال: ما تستحق عندي شيئاً، ثم قال: ضاعت، كان القول قوله بيمينه. ويترتب عليه أنه يجب أداء الوديعة إلى المالك نفسه؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فلو ردها إلى منزل المالك، من غير حضرته، أو دفعها إلى من هو في عيال المالك يضمن؛ لأنه لم يرض بيد عياله حيث أودع عند غيرهم. بخلاف العارية والإجارة: لو رد المستعار أو العين المؤجرة إلى بيت المالك أو إلى من في عياله: لا يضمن، لعادة الناس الجارية في رد المستعار ونحوه، حتى لو كانت العارية شيئاً نفيساً كعقد جوهر ونحوه، يضمن، لعدم جريان العادة به.
ويترتب عليه أيضاً أن القول قول الوديع في التلف والرد على الإطلاق مع يمينه على التفصيل الآتي (1) :
__________
(1) البدائع: 210/6، تكملة فتح القدير: 89/7، الكتاب مع اللباب: 196/2، مجمع الضمانات: ص 68، 87، 89، حاشية ابن عابدين: 516/4، مغني المحتاج: 81/3، قليوبي وعميرة: 182/3، المغني: 382/6.(5/661)
تعارض الادعاءات والبينات:
إذا اختلف المودع مع الوديع، فقال الوديع: هلكت الوديعة عندي أو (رددتها إليك) وأنكر المودع، وقال: (لا، بل أتلفتها) فالقول قول الوديع، لأنه أمين في الحفظ، ولكن مع اليمين، كما تقدم.
فإن أقام المودع البينة على الإتلاف: يضمن الوديع، وكذا إذا استحلف الوديع على الإتلاف، فنكل. فلو أقام المودع البينة على أن الوديع أتلفها، وأقام الوديع البينة على أنها هلكت بنفسها، فبينة المودع أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ لأن فيها إثبات الهلاك وزيادة عليه وهو التعدي. فإذا أقام الوديع البينة على إقرار المودع أنها هلكت، تقبل بينته، ويكون هذا الإثبات تكذيباً لبينة المودع.
المبحث الخامس ـ حالات ضمان الوديعة:
يتغير حال الوديعة من الأمانة إلى الضمان بحالات، هي (1) :
1 - ترك الوديع الحفظ: لأنه بالعقد التزم حفظ الوديعة على وجه لو ترك حفظها حتى هلكت، يضمن بدلها بطريق الكفالة، فلو رأى إنساناً يسرق الوديعة، وهو قادر على منعه ضمن، لترك الحفظ الملتزم بالعقد.
2 - إيداع الوديع عند من ليس في عياله، ولا هو ممن يحفظ ماله بيده عادة:
إذا أخرج الوديع الوديعة من يده، وأودعها عند غيره بغير عذر، يصير ضامناً؛ لأن المودع ارتضى بحفظ الوديع الأول، دون حفظ غيره إلا إذا كان هناك عذر فلا يضمن، كأن وقع في داره حريق، أو كان في سفينة فخاف الغرق، فدفعها إلى غيره؛ لأن الدفع إليه في هذه الحالة تعين
__________
(1) البدائع: 211/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 91/7 ومابعدها، المبسوط: 113/11، مجمع الضمانات: ص 68.(5/662)
طريقاً للحفظ، فكان الدفع بإذن المالك دلالة (1) .
وإذا أودعها عند شخص آخر بغير عذر، فهلكت أو ضاعت وهي في يد الثاني، فالضمان على الأول، لا على المودع الثاني عند أبي حنيفة والحنابلة (2) ؛ لأن الثاني محسن إلى المالك بصيانة الوديعة عن أسباب الهلاك، والله سبحانه يقول: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/9] وأما المودع الأول فهو مخصوص من النص.
وقال الصاحبان: المالك بالخيار، إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني، فإن ضمن الأول، لا يرجع بالضمان على الثاني؛ لأنه ملك الوديعة بأداء الضمان، وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول؛ لأن الأول غره بالإيداع، فيلزمه ضمان الغرور. وسبب التخيير هو أنه وجد من كل منهما سبب لوجوب الضمان فيخير المالك. أما الأول: فلأنه دفع مال الغير إلى غيره بغير إذنه، وأما الثاني: فلأنه قبض مال الغير بغير إذنه.
وأما إذا استهلك المودع الثاني الوديعة، فالمالك بالخيار: إن شاء ضمن وإن شاء ضمن الثاني بالاتفاق، غير أنه إن ضمن الأول يرجع بالضمان على الثاني، وإن ضمن الثاني لا يرجع بالضمان على الأول؛ لأن سبب وجوب الضمان وجد من الثاني حقيقة وهو الاستهلاك، ولم يوجد من الأول إلا الدفع إلى الثاني على طريق الاستحفاظ (3) .
__________
(1) البدائع: 208/6، تكملة فتح القدير: 91/7، المبسوط: 125/11، 132، حاشية ابن عابدين: 516/4.
(2) القواعد لابن رجب: ص 217.
(3) المراجع السابقة عند الحنفية.(5/663)
والقاعدة عند جمهور الحنفية: أن الوديعة إذا صارت مضمونة، ثم أزيل سبب الضمان، كأن يسترد الوديع الأول من المودع الثاني الوديعة، ويحفظها بنفسه أو نحو ذلك مما سيأتي، فإنه يبرأ عن الضمان؛ لأنه في عودته لحالته الأولى يعتبر وديعاً، والوديع إذا هلكت الوديعة بدون سبب منه لا ضمان عليه (1) . هذا بخلاف المستأجر والمستعير، إذا خالفا، ثم تركا الخلاف بقي الضمان.
والقاعدة عند زفر والشافعي وبقية الأئمة: أن الوديعة متى صارت مضمونة بانتفاع وغيره مما سيأتي، ثم ترك الوديع الخيانة، لم يبرأ من الضمان؛ لأن الوديعة لما صارت مضمونة، فقد ارتفع العقد، لتغيرطبيعته، فلا يعود إلا بالتجديد، ولم يوجد، فصار كما لو جحد الوديعة، ثم أقر بها (2) .
3 - استعمال الوديعة: إذا انتفع الوديع بالوديعة كركوب الدابة ولبس الثوب، فإنه يصير ضامناً، فإن ترك الاستعمال، فقال جمهور الحنفية كما عرفنا من قاعدتهم: لا ضمان عليه؛ لأنه ممسك لها بإذن مالكها، فأشبه ما قبل الاستعمال (3) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا تلفت الوديعة بعد استعمالها يضمنها، ولو كان التلف بسبب سماوي؛ لأنه بالتعدي في الاستعمال قد ارتفع حكم الوديعة وبطل الاستئمان، فصار كما لو جحد الوديعة ثم أقر بها، فلا يبرأ من الضمان إلا بالرد على المالك، كما تقرر (4) .
4 - السفر بالوديعة: قال أبو حنيفة: للوديع أن يسافر بالوديعة إذا كان الطريق آمناً، ولم ينهه صاحب الوديعة، بأن كان العقد مطلقاً؛ لأن الأمر بحفظ الوديعة صدر مطلقاً عن تعيين المكان، فلا يجوز التعيين إلا بدليل، وعلى هذا فلو سافر فتلفت الوديعة لا يضمن.
وقال الصاحبان: إن كان للوديعة حمل ومؤنة، لا يملك المسافرة بها؛ لأن في المسافرة بما له حمل ومؤنة ضرراً بالمالك، لجواز أن يموت الوديع في السفر، فيحتاج المالك إلى الاسترداد من موضع
__________
(1) البدائع: 212/6، تكملة فتح القدير: 92/7، مجمع الضمانات: ص 73، 76 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: /90.
(3) البدائع: 211/6، المبسوط: 123/11.
(4) مغني المحتاج، المرجع السابق: 88/3، المهذب: 362/1، حاشية الدسوقي: 420/4، 427، القوانين الفقهية: ص 374، المغني: 401/6.(5/664)
يكلفه حِمْلاً ومؤنة عظيمة، فيتضرر به، بخلاف ما إذا لم يكن لها حمل ومؤنة (1) .
وقال المالكية: ليس للوديع أن يسافر بالوديعة، إلا أن تعطى له في سفر، فإذا أراد السفر، فله إيداعها عند ثقة مؤتمن من أهل البلد، ولا ضمان عليه، سواء قدر على دفعها إلى الحاكم، أو لم يقدر (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوديع المسافرة بالوديعة، فإن أراد السفر ردها إلى صاحبها أو وكيله إن قدر على الرد، فإن لم يقدر، كأن لم يجد صاحبها سلمها إلى الحاكم؛ لأنه متبرع بإمساكها، فلا يلزمه استدامته، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته، فإن سافر بها ضمن؛ لأنه عرضها للضياع، والحرز في السفر دون حرز الحضر، سواء أكان الطريق آمناً أم مخوفاً (3) ، وقال عليه الصلاة والسلام «إن المسافر وماله لعلى قَلَت إلا ما وقى الله» أي على خطر الهلاك (4) .
5- جحود الوديعة: إذا طلب المودع الوديعة فجحدها الوديع، أو حبسها عنه وهو يقدر على تسليمها ضمن؛ لأنه لما طالبه بالرد، فقد عزله عن الحفظ، فيكون بعدئذ بالإمساك غاصباً مانعاً، فيضمنها إذا أقام المودع البينة على الإيداع أو لكل الوديع عن اليمين أو أقر به. فإن جحد ثم عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد.
ولو جحد الوديعة ثم أقام الوديع البينة على هلاكها فثلاثة أوجه: إن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود أو مطلقاً لا ينتفع ببينته؛ لأن العقد ارتفع بالجحود، أو عنده، فيضمن. وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك قبل الجحود يؤدي إلى انتهاء العقد.
__________
(1) البدائع: 209/6، تكملة فتح القدير: 93/7، حاشية ابن عابدين: 521/4، المبسوط: 122/11، مجمع الضمانات: ص 69.
(2) بداية المجتهد: 307/2، حاشية الدسوقي: 421/3، 423.
(3) مغني المحتاج: 82/3 ومابعدها، المهذب: 361/1، القاموس المحيط: 183/1.
(4) رواه السلفي في أخبار أبي العلاء المعري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو علم الناس رحمة الله بالمسافر، لأصبح الناس وهم على سفر، إن المسافر ورحله على قلت إلا ما وقى الله» قال الخليل: والقلت: الهلاك. قال ابن حجر: وكذا أسنده أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من هذا الوجه من غير طريق المعري. وكذا ذكره القاضي النهرواني في كتاب الجليس والأنيس بعد أن ذكره مرفوعاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، لكنه لم يسق له إسناداً. وقد أنكره النووي في شرح المهذب، فقال: ليس هذا خبراً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام بعض السلف، قيل: إنه علي بن أبي طالب (راجع التلخيص الحبير: ص 271، كشف الخفا للعجلوني: ص 255) .(5/665)
ولو ادعى الهلاك قبل الجحود، ولا بينة له، وطلب اليمين من المودع حلفه القاضي (بالله تعالى ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده) فإن حلف، يقضى بالضمان، وإن نكل، يقضى بالبراءة (1) .
6 - خلط الوديعة بغيرها: إذا خلط الوديع الوديعة بمال نفسه فإن كان يمكن التمييز بينهما، لاشيء عليه ويميز. وإن كان لايمكن التمييز، يضمن المثل عند أبي حنيفة؛ لأن الخلط إتلاف للوديعة من حيث المعنى.
وكذلك إذا كانت وديعتان كدراهم مثلاً، فخلط إحداهما بالأخرى، يضمن مثلها لكل منهما عنده.
وكذا في سائر المكيلات والموزونات إذا خلط الجنس بالجنس خلطاً لا يتميز، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، أو بغير جنسه كخلط الحنطة بالشعير، يضمن عند أبي حنيفة لكل واحد مثل حقه، دليله: أنه لما خلطهما خلطاً لا يتميز، فقد عجز كل منهما عن الانتفاع بالمخلوط، فكان الخلط منه إتلافاً للوديعة لكل واحد منهما فيضمن.
__________
(1) المبسوط: 116/11 ومابعدها، البدائع: 212/6، تكملة فتح القدير: 93/7، مجمع الضمانات: ص 84 ومابعدها.(5/666)
وقال الصاحبان في كل ما سبق: المالك بالخيار إن شاء ضمن الوديع مثل حقه، وإن شاء أخذ نصف المخلوط أو باعه المالكان وقبضا الثمن، دليلهما: أن الوديعة قائمة بعينها، لكن عجز المالك عن الوصول إليها بعارض الخلط (1) .
ولو مات الوديع ولم يبين الوديعة، فإن كانت معروفة وهي قائمة، ترد إلى صاحبها؛ لأن هذا عين ماله و «من وجد عين ماله، فهو أحق به» على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلم (2) ، وإن لم تعرف بعينها، يضمن، وتكون ديناً في تركته لأنه لما مات مجهلاً الوديعة فقد أتلفها معنى. وعلى هذا فالأمانات تصبح مضمونة بالموت عن تجهيل إلا في ثلاثة أحوال:
1 - إذا مات ناظر الوقف مجهلاً غلات الوقف.
2 - إذا مات القاضي مجهلاً أموال اليتامى عند من أودعها أو عنده.
__________
(1) المبسوط: 110/11، تكملة فتح القدير: 92/7، البدائع: 213/6، حاشية ابن عابدين: 519/4، مجمع الضمانات: ص 83 وما بعدها، 87.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيِّع من باعه» وفي لفظ: «إذا سرق من الرجل متاع، أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن» رواه أحمد وابن ماجه (راجع نيل الأوطار: 240/5) .(5/667)
3 - إذا مات الحاكم ولم يبين عند من أودع بعض الغنائم الحربية، ونحو ذلك (1) .
والأئمة الآخرون قالوا مثل قول أبي حنيفة: إذا تعذر التمييز بين الوديعة وغيرها أو تعسر كخلط الدراهم بالدراهم، والدهن بالدهن، والزيت بالزيت، والسمن بغيره، سواء خلطها بمثلها، أو دونها أو أجود منها، من جنسها، أو من غير جنسها، فيضمنها الوديع؛ لأن المودع لم يرض بذلك. إلا أن المالكية قالوا: إذا كان الخلط بالمثل كخلط الحنطة بمثلها، والدنانير بمثلها، فلا يضمن الوديع، إذا كان الخلط بقصد الإحراز والحفظ والرفق، وإلا ضمن.
وأما إذا لم يتعذر التمييز بين الوديعة وغيرها، كخلط الدراهم بالدنانير أو الجيد بالرديء، فإن الوديع لا يضمن شيئاً، إلا إذا حدث بالخلط نقص في القيمة، فيضمن عند الشافعية والحنابلة (2) .
7 - مخالفة شرط المودع في حفظ الوديعة: إذا شرط المودع على الوديع حفظ الوديعة في مكان معين كدار أو بيت أو صندوق، فنقلها إلى مكان آخر بدون عذر، فقال الحنفية وغيرهم من الأئمة:
إذا نقلها إلى حرز دون الحرز السابق في الحفظ يضمن، وإن نقلها إلى مكان مماثل للحرز السابق، أو أحرز منه، فلا يضمن.
أما إذا أمره بحفظ الوديعة في مكان، ونهاه عن حفظها في مكان آخر، كأن قال له: احفظها في هذه الدار، ولا تحفظها في دار أخرى.
فقال الحنفية والمالكية والشافعية: إذا نقلها إلى الدار الأخرى، وكانت مماثلة للدار الأولى في الحرز، أو أحرز منها، فلا يضمن؛ لأن التقييد غير مفيد (3) ، فإن نقلها من بلد إلى بلد ضمنها عند المالكية.
وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: يضمن سواء نقلها إلى مثل المكان أو دونه أو فوقه، لأنه خالف صاحب الوديعة لغير فائدة ولا مصلحة، ولا يجوز تفويت غرض رب الوديعة من تعيينه المكان من غير ضرورة. ولكن إن خاف عليها في موضعها فعليه نقلها، فإن تركها فتلفت ضمنها؛ لأن نهي صاحبها عن نقلها إنما كان لحفظها، وحفظها ههنا في نقلها، فأشبه ما لو لم ينهه عن نقلها (4) .
وإذا قال صاحب الوديعة للوديع: (لا تسلمها إلى زوجتك) فسلمها إليها وهلكت، لم يضمن عند الحنفية؛ لأنه لا يجد بداً من التسليم، فإنه إذا خرج، كان البيت وما فيه مسلَّماً إليها، فلا يمكنه الحفظ مع مراعاة هذا الشرط وإن كان مفيداً (5) .
وبه يتبين أن أسباب ضمان الوديعة عند المالكية (6) ستة هي:
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 67/2،فتح القدير: 27/5.
(2) حاشية الدسوقي: 420/3، مغني المحتاج: 89/3، المهذب: 361/1، المغني: 383/6، 387.
(3) المبسوط: 121/11، نكملة فتح القدير: 97/7، مجمع الضمانات: ص 69 ومابعدها، البدائع: 210/6، حاشية الدسوقي: 423/3، حاشية الشرقاوي: 99/2، المهذب: 359/1 ومابعدها،، مغني المحتاج: 84/3-86.
(4) المغني: 387/6 ومابعدها.
(5) الكتاب مع اللباب: 200/2.
(6) القوانين الفقهية: ص 374.(5/668)
1 - إيداع الوديعة عند غير الوديع لغير عذر، حتى ولو استردها بعدئذ فضاعت.
2 - نقل الوديعة من بلد إلى بلد، بخلاف نقلها من منزل إلى منزل.
3 - خلط الوديعة بما لا يتميز عنها مما هو غير مماثل لها كخلط القمح بالشعير، فإن خلطها بما تنفصل عنه، لم يضمن.
4 - الانتفاع بالوديعة، فلو لبس الثوب أو ركب الدابة فهلكت في حال الانتفاع، ضمن، وكذا إن تسلف الدنانير والدراهم أو ما يكال أو يوزن، فهلك في تصرفه فيه.
5 - التضييع والإتلاف بأن يلقيه في مضيعة أو يدل عليها سارقاً.
6 - المخالفة في كيفية الحفظ، مثل أن يأمره ألا يقفل عليها، فقفل، فإنه يضمن.
وكذلك قال الشافعية (1) قريباً من مذهب المالكية: إن أسباب الضمان ستة:
1 - إيداع الوديعة عند غيره بلا إذن ولا عذر له.
2 - وضعها في غير حرز مثلها.
3 - نقلها إلى دون حرز مثلها.
4 - إهمال حفظها الواجب عليه بالتزامه، كما لو ترك علف دابة فماتت.
5 - العدول عن الحفظ المأمور به مع تلفها بذلك.
6 - الانتفاع بها، كما لو لبس الثوب أو ركب الدابة لغير غرض المالك، فإنه يضمن لتعديه، كما يضمن كل أنواع التعدي عليها. ومتى صارت مضمونة بانتفاع أو غيره، ثم ترك الخيانة، لم يبرأ إلا أن يحدث المالك له استئماناً.
__________
(1) تحفة الطلاب: ص 167.(5/669)
وقال الحنابلة (1) : تضمن الوديعة بما يلي:
1 - إيداعها عند غيره بلا عذر.
2 - إهمال حفظها أو دلالة لص عليها.
3 - المخالفة في كيفية الحفظ المتفق عليه ولو أنه حرز مثلها.
4 - خلطها بغيرها خلطاً لا يتميز.
5 - الانتفاع بها. ومتى خان لا تعود وديعة بغير عقد متجدد.
أحكام فرعية للوديعة: ذكر ابن جزي المالكي طائفة من أحكام الفروع الفقهية في الوديعة، وهي ما يأتي (2) :
أولاً ـ الاتجار بالوديعة: من اتجر بمال الوديعة، فالربح له حلال. وقال أبو حنيفة: الربح صدقة. وقال قوم: الربح لصاحب المال.
ثانياً ـ سلف الوديعة: من أقرض الوديعة، فإن كانت عيناً كره، وأجازه أشهب إن كان له وفاء بها، وإن كانت عروضاً لم يجز، وإن كانت مما يكال أو يوزن كالطعام، ففيه قولان مفرعان على موضوع: هل يلحق الطعام بالنقد أو بالعروض؟.
ثالثاً ـ الاختلاف في الوديعة: إذا طولب الوديع بالوديعة، فادعى التلف، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك إذا ادعى الرد، إلا أن يكون قبضها ببينة، فلا يقبل قوله في الرد إلا ببينة. وقال ابن القاسم وأبو حنيفة والشافعي: إن القول قوله وإن قبضها ببينة.
رابعاً ـ طلب الأجرة على حفظ الوديعة: إذا طلب الوديع أجرة على حفظ الوديعة، لم يكن له ذلك، إلا أن تكون مما يشغل منزله، فله كراؤه. وإن احتاجت إلى غلق أو قفل فهو على صاحبها.
خامساً ـ الجحود المماثل لوديعة أخرى: إذا أودع شخص وديعة عند آخر، فخانه وجحده، ثم إن الوديع الأول استودع المودع مثلها، فهل له أن يجحده فيها؟ المشهور عند المالكية المنع، وقيل: بالكراهة، وقيل بالإباحة.
المبحث السادس ـ انتهاء الإيداع:
ينتهى عقد الإيداع بما يأتي:
1ً - استرداد الوديعة أو ردها: إذا استرد المودع الوديعة أو رد الوديع الوديعة، انتهى الإيداع، لأن الإيداع عقد غير لازم ينتهي بالاسترداد أو الرد.
2ً - موت المودع أو الوديع: ينتهي العقد بالموت، لأنه جرى بين العاقدين.
3ً - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه، لزوال الأهلية.
4ً - الحجر على المودع للسفه وعلى الوديع للفلس، رعاية للمصلحة.
5ً - نقل ملكية الوديعة لغير المالك: ينتهي الإيداع بنقل المالك ملكية الوديعة لغيره ببيع أو هبة أو نحوهما.
__________
(1) غاية المنتهى: 269/2-272، الإفصاح: ص 268 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 374 ومابعدها.(5/670)
الفَصْلُ الثَّامن: الإِعَارة
خطة الموضوع:
الكلام في عقد الإعارة يشتمل على المباحث الستة التالية:
المبحث الأول ـ تعريف الإعارة ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ ركن الإعارة وشرائطها.
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإعارة.
المبحث الرابع ـ حال العارية، هل هي مضمونة أو أمانة؟.
المبحث الخامس ـ الاختلاف بين المعير والمستعير.
المبحث السادس ـ انتهاء الإعارة.
المبحث الأول ـ تعريف الإعارة ومشروعيتها:
العارية: بتشديد الياء، وقد تخفف، والأول أفصح وأشهر. وهي اسم لما يعار، أو لعقد العارية: مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، وقيل: من التعاور أي التداول أو التناوب. وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار وعيب، واعترض عليه بأنه صلّى الله عليه وسلم فعلها، ولو كانت عاراً وعيباً ما فعلها (1) .
وعرف السرخسي والمالكية الإعارة بأنها: تمليك المنفعة بغير عوض. سميت إعارة: لتعريها عن العوض (2) . وعرفها الشافعية والحنابلة (3) بأنها إباحة المنفعة بلا عوض. فهي تختلف عن الهبة بأنها واردة على المنافع، أما الهبة فترد على عين المال، والفرق بين التعريفين أن الأول يفيد التمليك، فللمستعير إعارة الشيء لغيره، والثاني يفيد الإباحة، فليس له إعارة الشيء لغيره، أو إجارته.
__________
(1) مغني المحتاج: 263/2، تكملة فتح القدير: 99/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 524/4.
(2) المبسوط: 133/11، القوانين الفقهية: /373.
(3) مغني المحتاج: 264/2، كشاف القناع: 67/4.(5/671)
والإعارة قربة مندوبة إليها، لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة:2/5] وفسر جمهور المفسرين قوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7/107] بما يستعيره الجيران بعضهم من بعض، كالدلو والفأس والإبرة، ونحوها (1) . وفي الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم استعار فرساً من أبي طلحة فركبه (2) . وفي رواية لأبي داود بإسناد جيد أنه صلّى الله عليه وسلم استعار درعاً من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة (3) .
__________
(1) مغني المحتاج، المرجع السابق، المهذب: 392/1 ومابعدها، المغني: 203/5.
(2) رواه أحمد والشيخان عن أنس بن مالك. قال: «كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلّى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة يقال له: المندوب فركبه، فلما رجع قال: ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحراً» أي ما وجدناه إلا بحراً أي واسع الجري (راجع نيل الأوطار: 299/5) .
(3) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه الحاكم عن صفوان بن أمية أن النبي صلّى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعاً، فقال أغصباً يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة، قال: فضاع بعضها، فعرض عليه النبي صلّى الله عليه وسلم أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب. وله شاهد صحيح عن ابن عباس ولفظه: «بل عارية مؤداة» وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي عن إسحاق بن عبد الواحد وهو متروك الحديث، وأخرجه الحاكم أيضاً من حديث جابر، وذكر أنها مئة درع ومايصلحها. وفي رواية أبي داود أن الأدراع كانت مابين الثلاثين إلى الأربعين. وللحديث طريق أخرى مرسلة في السنن عند أبي داود والنسائي (راجع جامع الأصول: 109/9، نصب الراية: 116/4، التلخيص الحبير: ص 252، نيل الأوطار: 299/5، سبل السلام: 69/3) والفرق بين لفظي «مضمونة» و «مؤداة» هو أن المضمونة: هي التي تضمن إن تلفت بالقيمة، والمؤداة: هي التي تجب تأديتها مع بقاء عينها فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.(5/672)
المبحث الثاني ـ ركن الإعارة وشرائطها:
ركن الإعارة عند الحنفية: هو الإيجاب من المعير. وأما القبول من المستعير فليس بركن عند جمهور الحنفية استحساناً. والقياس أن يكون ركناً وهو قول زفر كما في الهبة، حتى إن من حلف: لا يعير فلاناً، فأعاره، ولم يقبل، يحنث عند جمهور الحنفية، ولا يحنث عنده، كما سبق في الهبة.
والإيجاب: أن يقول: أعرتك هذا الشيء، أو منحتك هذا الثوب، أو هذه الدار، أو أطعمتك هذه الأرض، فلفظ الإعارة صريح فيها، والمنحة: هي العطية التي ينتفع الإنسان بها زماناً، ثم يردها على صاحبها وهو معنى العارية. والإطعام المضاف إلى الأرض: هو إطعام منافعها التي تحصل منها بالزراعة من غير عوض عرفاً وعادة، وهو معنى العارية (1) .
واشترط الشافعية في الأصح عندهم وجود لفظ من المعير أو المستعير في صيغة العقد: مثل أعرتك أو أعرني؛ لأن الانتفاع بمال الغير يعتمد إذنه (2) .
وأركان الإعارة عند الجمهور (3) أربعة: المعير والمستعير والمعار، والصيغة وهي كل ما يدل على هبة المنفعة من قول أو فعل.
__________
(1) البدائع: 214/6.
(2) مغني المحتاج: 266/2.
(3) القوانين الفقهية: 373، مغني المحتاج: 264/2، غاية المنتهى: 227/2، كشاف القناع: 67/4.(5/673)
شروط الإعارة:
يشترط عند الفقهاء ما يأتي:
1ً - كون المعير عاقلاً، فلا تصح الإعارة من المجنون والصبي غير العاقل. ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، ويشترط عند غيرهم كون المعير أهلاً للتبرع مختاراً؛ لأن العارية تبرع بإباحة المنفعة، فلا تصح ممن لا يصح تبرعه كصبي وسفيه ومفلس، ولا من مستكره (1) .
2ً - القبض من المستعير: لأن الإعارة عقد تبرع، فلا يثبت حكم العارية بدون القبض كالهبة.
3ً - أن يكون المستعار مما يكن الانتفاع به بدون استهلاكه، وإلا لم تصح إعارته (2) .
وقد قرر العلماء أنه تصح الإعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها كالدور والأرضين والثياب والدواب وسائر الحيوان، وجميع ما يعرف بعينه، إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال. فلا تجوز إباحة الجواري للاستمتاع، ويكره للاستخدام، إلا أن تكون لذي رحم محرم؛ لأنه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها (3) ، ويحرم إعارة السلاح والخيل للحربي، والمصحف وما في معناه للكافر، وإعارة الصيد للمحرم (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) البدائع: المرجع السابق.
(3) المهذب: 363/1، القوانين الفقهية: 373.
(4) مغني المحتاج: 266/2.(5/674)
المبحث الثالث ـ حكم عقد الإعارة:
البحث هنا في أصل حكم الإعارة، وفي بيان صفته.
أصل حكم الإعارة:
يطلق اسم العارية في العرف بطريقتين: بطريق الحقيقة، وبطريق المجاز، أما الإطلاق بطريق الحقيقة فهو محل البحث هنا، وهو إعارة الأعيان التي ينتفع بها، مع بقائها. وحكمها عند المالكية وجمهور الحنفية: هو ملك المنفعة للمستعير، بغير عوض، أو ما هو ملحق بالمنفعة عرفاً وعادة (1) .
وقال الكرخي والشافعية والحنابلة: إن موجب الإعارة هو إباحة الانتفاع بالعين، فهي عقد إباحة (2) . والإعارة عندهم: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال.
ويترتب على الخلاف بين الفريقين: أن المستعير يجوز له عند الفريق الأول إعارة الشيء المستعار لغيره، وإن لم يأذن له المالك، إذا كان لا يختلف باختلاف المستعمل. غير أن المالكية قالوا: إذا منع المستعير من الإعارة، فلا يجوز له أن يعير.
ودليل الحنفية: أن المعير سلط المستعير على تحصيل المنافع، والتسليط على هذا الوجه تمليك، لا إباحة، كما في الأعيان، ومقتضى التمليك أن للمستعير حرية التصرف في الانتفاع بالعارية بنفسه أو بغيره.
ولا يجوز للمستعير عند الفريق الثاني أن يعير العارية لغيره؛ لأن الإعارة إباحة المنفعة، فلا يملك بها الإباحة لغيره، كإباحة الطعام، فالضيف لا يبيح لغيره ما قدم له.
ودليلهم أيضاً اتفاق العلماء على أن عقد الإعارة يجوز من غير أجل، فلو كان مقتضى الإعارة تمليك المنفعة، لما جازت من غير أجل، كالإجارة.
واتفق الفريقان على أن المستعير لا يملك إجارة العين المعارة. والسبب عند الفريق الثاني هو أن العارية تبيح المنافع فقط، ولكن لا تملكه إياها. وأما السبب عند الفريق الأول فهو أن المستعير لا يملك الإجارة، لأنها عقد لازم، والإعارة عقد تبرع، جائز غير لازم، فلا يملك به ما هو لازم، فيؤدي إلى تغيير طبيعة الإعارة.
__________
(1) المبسوط: 133/11، البدائع: 214/6، تكملة فتح القدير: 98/7، 106، حاشية ابن عابدين: 524/4، حاشية الدسوقي: 433/3.
(2) مغني المحتاج: 264/2، المهذب: 364/1، المغني: 209/5.(5/675)
كذلك ليس للمستعير أن يرهن ما استعاره؛ لأن الشيء لا يتضمن ما فوقه (1) .
وأما إطلاق الإعارة بطريق المجاز: فهو إعارة المكيل والموزون والمعدود المتقارب، مثل الجوز والبيض وكل ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه كإعارة الدراهم والدنانير، فهو قرض حقيقة، فعليه المثل أو القيمة، ولكنه إعارة مجازاً، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، ولا سبيل إليه إلا بالتصرف بالعين، بخلاف الإعارة حقيقة، فإن محل العقد فيها هو المنفعة لا العين، سواء قلنا: إنها تفيد تمليك المنفعة أو إباحة المنفعة (2) .
حقوق الانتفاع بالعارية:
قال الجمهور غير الحنفية: للمستعير الانتفاع بالعارية بحسب الإذن.
وقال الحنفية: الحقوق التي يمنحها عقد الإعارة للمستعير تختلف بين ما إذا كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة.
فالإعارة المطلقة: هي أن يستعير إنسان شيئاً، ولم يبين في العقد أنه يستعمله بنفسه أو بغيره، ولم يبين كيفية الاستعمال، مثل: أن يعير شخص دابته لآخر، ولم يسم مكاناً ولا زماناً، ولم يحدد الركوب ولا الحمل. فحكمها: أن المستعير ينزل منزلة المالك، فكل ما ينتفع به المالك ينتفع به المستعير، فله أن يستعمل الدابة في أي مكان وزمان، وله أن يركب أو يحمل، أو يركب غيره؛ لأن الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه، وقد ملَّكه منافع العارية مطلقاً، إلا أنه لا يحمل عليها فوق المعتاد لمثلها ولا يستعملها ليلاً ونهاراً، مالم يستعمل مثلها من الدواب، فلو فعل
__________
(1) أما الوديعة فلا تؤجر ولا ترهن ولا تودع ولا تعار (الدر المختار: 525/4) .
(2) البدائع: 215/6، المبسوط: 145/11، تكملة فتح القدير: 108/7، مجمع الضمانات: /55، الكتاب مع اللباب: 203/2.(5/676)
فعطبت، يضمن؛ لأن العقد المطلق مقيد بالعرف والعادة ضمناً، كما يتقيد نصاً، كما في الإجارة (1) .
وأما الإعارة المقيدة: فهي أن تكون مقيدة في الزمان والانتفاع معاً أو في أحدهما. وحكمها: أنه يراعى فيها القيد ما أمكن؛ لأن الأصل في المقيد اعتبار القيد فيه، إلا إذا تعذر اعتباره لعدم الفائدة ونحوه، فيلغو القيد؛ لأن التقييد يجري مجرى العبث (2) . وبيانه فيما يأتي:
إذا قيده في استعمال العارية بنفسه: فإن كان الاستعمال مما يتفاوت الناس فيه كالركوب واللبس، فإنه يختص به، ولا يجوز أن يركب غيره، أو يلبس الثوب غيره.
وإن كان الاستعمال لا يتفاوت بتفاوت الناس، مثل سكنى الدار فله أن يسكن غيره؛ لأن المملوك بالعقد هو السكنى، والناس لا يتفاوتون فيه عادة، فلم يكن التقييد بسكناه مفيداً، فيلغو القيد، إلا إذا كان الذي يسكنها إياه حداداً، أو قصاراً (3) ، ونحوهما ممن يوهن البناء، فليس له أن يسكنها إياه ولا أن يعمل بنفسه ذلك؛ لأن المعير لا يرضى به عادة.
وإذا حدد زماناً أو مكاناً، فجاوز ذلك المكان، أو زاد على الوقت: يضمن؛ لأن التخصص مفيد.
وإذا بين مقدار الحمل والجنس: فإن حمله عليه وزاد، يضمن، بقدر الزيادة، فلو ركب الدابة بنفسه، وأردف غيره، فعطبت فإن كانت الدابة مما تطيق حملها جميعاً، يضمن نصف قيمة الدابة؛ لأنه لم يخالف إلا في قدر النصف، وإن كانت الدابة مما لا تطيق حملهما، ضمن جميع قيمتها، لأنه استهلكها.
ولو حمل على الدابة شيئاً بخلاف الجنس المحدد في العقد: فإن كان مثله في الخفة أو أخف منه، لا يضمن. وإن كان أثقل منه، يضمن.
__________
(1) المبسوط: 144/11، البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 107/7، حاشية ابن عابدين: 527/4، مجمع الضمانات: /57 ومابعدها.
(2) البدائع: 215/6-216، تكملة فتح القدير: 107/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 527/4، المبسوط: 137/11 ومابعدها، مجمع الضمانات: /60 ومابعدها.
(3) القصار: محور الثياب ومبيضها.(5/677)
وإن كان الحمل مثل المعين في العقد في الوزن والثقل: بأن استعار دابة ليحمل عليها مئة رطل من القطن، فحمل عليها مئة رطل من الحديد، فإنه يضمن؛ لأن ثقل الحديد يتركز في موضع واحد على ظهر الدابة، وثقل القطن يتوزع على جميع ظهرها وبدنها، فكان ضرره بالدابة أكثر، والرضا بأدنى الضررين لا يكون رضا بأعلاهما.
وإن كان الحمل أثقل من المبين في العقد: فإن كان من الجنس المذكور في العقد، يضمن بقدر الزيادة، وإن كان من خلاف الجنس، يضمن كل القيمة.
وإن اختلف المعير والمستعير في مدة العارية أو في مقدار الحمل، أو في المكان، فالقول قول المعير (1) ؛ لأن المعير هو الذي يأذن بالانتفاع بالعارية، فيقبل قوله في تحديد وجه الانتفاع، والمستعير يدعي بأن وجه الانتفاع هو على النحو الذي يريده، والمعير منكر لذلك فيقبل قوله بيمينه.
صفة حكم الإعارة:
قال الحنفية والشافعية والحنابلة: إن الملك الثابت للمستعير ملك غير لازم؛ لأنه ملك لا يقابله عوض، فلا يكون لازماً، كالملك الثابت بالهبة، فيجوز للمعير أن يرجع في الإعارة، كما للمستعير أن يردها في أي وقت شاء، سواء أكانت الإعارة مطلقة أم مؤقتة بوقت، ما لم يأذن المعير في شغل المستعار بشيء يتضرر بالرجوع فيه، أو كانت العارية لازمة. كمن أعار أرضاً لدفن ميت محترم، فلا يجوز للمعير الرجوع في الموضع الذي دفن فيه، وامتنع على المستعير رده، فهذه إعارة لازمة من الجانبين، حتى يندرس أثر المدفون بأن يصير تراباً (2) . ومثله: لو استعار مكاناً لسكنى معتدة، فليس للمعير الاسترداد.
ودليلهم على أن العارية عقد جائز (غير لازم) قوله صلّى الله عليه وسلم: «المنحة مردودة، والعارية مؤداة» (3) .
__________
(1) المبسوط: 143/11.
(2) البدائع: 216/6، الكتاب مع اللباب: 202/2، مغني المحتاج: 270/2، المهذب: 363/1، المغني: 211/5، تحفة الطلاب: ص 166.
(3) روي من حديث ثلاثة وهم أبو أمامة وأنس وابن عباس، فحديث أبي أمامة أخرجه أبو داود والترمذي من حديث ذكر فيه: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» أي الكفيل. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، ورواه أيضاً أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى والدارقطني وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. وحديث أنس رواه الطبراني في كتاب مسند الشاميين وحديث ابن عباس أخرجه ابن عدي في الكامل (راجع نصب الراية: 57/4، التلخيص الحبير: 250، جامع الأصول: 110/9) .(5/678)
وقال المالكية في المشهور عندهم: ليس للمعير استرجاع العارية، قبل الانتفاع بها، وإذا كانت العارية إلى أجل، فلا يجوز للمعير الرجوع إلا بعد انقضاء الأجل. وإن لم يتحدد أجل، يلزم المعير من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية، وقال الدردير في الشرح الكبير: الراجح أن للمعير أن يرجع في الإعارة المطلقة متى أحب (1) .
وبهذا يظهر أن المالكية يسوغون الرجوع في العارية المطلقة ويمنعونه في العارية المقيدة بالشرط أو العمل أو الزمن أو العرف والعادة.
وسبب الخلاف بين الفريقين: هو ما يوجد في العارية من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة.
الرجوع في الأرض المعارة للبناء أو الغراس أو الزراعة:
قال الحنفية: إذ اكانت الإعارة مطلقة، فللمعير صاحب الأرض أن يستردها في أي وقت شاء؛ لأن الإعارة غير لازمة، ويجبر المستعير على قلع الغرس ونقض البناء؛ لأن في الترك ضرراً بالمعير، ولا يضمن المعير شيئاً من قيمة الغرس أو البناء؛ إذ أنه لم يغرر المستعير بشيء حيث أطلق العقد، بل هو الذي غرر بنفسه، حيث حمل المطلق على الأبد فهو مغتر غير مغرور.
__________
(1) بداية المجتهد: 308/2، حاشية الدسوقي: 439/3.(5/679)
وإن كانت الإعارة مؤقتة بوقت: فللمعير استرداد العارية أيضاً للحديث السابق: «المنحة مردودة، والعارية مؤداة» . ولكن يكره الرجوع قبل انتهاء الوقت، لما فيه من خلف الوعد، وليس له إجبار المستعير على النقض والقلع، والمستعير حينئذ بالخيار: إن شاء ضمن المعير قيمة غرسه وبنائه؛ لأنه غره بتوقيت العارية، ثم بإخراجه قبل الوقت، وإن شاء أخذ غرسه وبناءه إن لم يضر القلع بأرض المعير، فإن أضر القلع بها كان الخيار للمعير: إن شاء أخذ الغرس والبناء بالضمان، وإن شاء رضي بالقطع.
هذا ما ذكر الحاكم الشهيد في مختصره. وعند القدوري: يضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع؛ لأن المستعير مغرور، حيث وقت له المعير، إذ الظاهر الوفاء بالعهد، والمغرور يرجع على الغار، دفعاً للضرر عن نفسه.
وأما إذا استعار شخص أرضاً للزراعة، فلا تؤخذ منه، حتى يحصد الزرع، وقّت العارية أو لم يوقت؛ لأن للزرع نهاية معلومة، وفي ترك الزرع لوقت الحصاد بطريق الإجارة بأجر المثل مراعاة لحقي المعير والمستعير، بخلاف الغرس، لأنه ليس له نهاية معلومة، فيقلع دفعاً للضرر عن المالك (1) .
وقال المالكية: الراجح أن للمعير أن يرجع في الإعارة المطلقة متى أحب، أما إذا كانت الإعارة مقيدة بشرط أو بعرف أو عادة، فلا يجوز الرجوع قبل انقضاء الأجل، وبناء عليه: إذا أعار أرضاً لبناء أو غرس، وبنى أوغرس، فإن لم يحصل تقييد بأجل، فللمعير إخراج المستعير، ويملك المعير بناء المستعير وغرسه، إن دفع له ما أنفق.
__________
(1) البدائع: 217/6، تكملة فتح القدير: 109/7 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 527/4، 11، المبسوط: 141/11 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 203/2.(5/680)
ففي الإعارة المقيدة على هذا النحو: ليس للمعير الرجوع في الأرض، إذا حصل البناء أو الغرس، قبل انقضاء أجل الإعارة، مالم يدفع للمستعير ما أنفقه، فإن انقضت مدة البناء أو الغرس المشترطة أو المعتادة، فالمالك بالخيار: إن شاء أمر المستعير بهدم البناء، وقلع الشجر، وتسوية الأرض، كما كانت؛ وإن شاء دفع قيمة ذلك منقوضاً أو مقلوعاً، إذا كان مما له قيمة بعد القلع، بعد إسقاط أجرة من يهدمه ويسوي الأرض، إذا كان المستعير لا يتولى الأمر بنفسه أو خادمه (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: إذا كانت الإعارة للبناء أو الغراس، مطلقة المدة، فللمستعير أن ينتفع بالأرض مالم يرجع المعير، فإن رجع المعير بعد أن بنى المستعير أو غرس، فإن كان المعير قد شرط عليه القلع، لزمه قلعه، عملاً بالشرط، فإن امتنع فللمعير القلع.
ويلزم المستعير تسوية الأرض المحفورة، إن شرطت وإلا فلا يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه لما شرط عليه القلع، رضي بما يحصل بالقلع من الحفر، ولأنه مأذون فيه، فلا يلزمه ضمان ما حصل به من النقص.
وإن لم يشرط عليه القلع: فإن اختار المستعير القلع، قلع، دون أن يلتزم المعير بدفع قيمة النقص. ويلزم المستعير بتسوية الأرض في الأصح عند الشافعية، ويحتمل أن تلزمه التسوية عند الحنابلة؛ لأن القلع حصل باختياره، فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه، فلزمه تسوية الحفر كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها، إلا أن القاضي من الحنابلة ذكر أنه لا يلزمه تسوية الحفر؛ لأن المعير رضي بذلك، حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه، وهو الأصح عندهم.
وإن لم يختر المستعير القلع، فللمعير الخيار بين أن يبقيه بأجرة المثل، أو يقلع ويضمن قدرالنقص بين قيمته قائماً ومقلوعاً.
__________
(1) بداية المجتهد: 309/2، حاشية الدسوقي: 439/3، القوانين الفقهية: /373.(5/681)
وإن كانت الإعارة لبناء أو غراس أو غيره مؤقتة، فللمعير الرجوع أيضاً، فإذا رجع أو انتهت المدة، طبقت الأحكام السابقة نفسها في الإعارة المطلقة: من ناحية اشتراط القلع أو عدم اشتراطه، وآثار ذلك.
وإذا أعار شخص أرضاً للزراعة، فله الرجوع، ما لم يزرع، فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى وقت الحصاد، وعليه إبقاء الزرع إلى ذلك الوقت، فإن رجع المعير قبل الحصاد، وجب على المستعير دفع أجرة المثل من وقت الرجوع إلى الحصاد (1) .
والخلاصة: إن المعير له الرجوع في الإعارة للبناء أو الغراس عند الشافعية والحنابلة والحنفية، سواء أكانت الإعارة مطلقة أم مؤقتة، وأما في الإعارة للزراعة فيقتصر أثر الرجوع على إعطاء المعير حق المطالبة بأجرة المثل، في المدة التي بين الرجوع والحصاد.
وعند المالكية: للمعير الرجوع في الإعارة المطلقة، وليس له الرجوع في الإعارة المقيدة، قبل انقضاء أجل العقد، فهذه الإعارة لازمة لانتهاء الأجل المعلوم.
المبحث الرابع ـ حال العارية: هل هي مضمونة أو أمانة؟
قال الحنفية: إن الشيء المستعار أمانة في يد المستعير، في حال الاستعمال وفي غير حال الاستعمال، لا يضمن على كل حال إلا بتعدٍ أو تقصير؛ لأنه لم يوجد من المستعير سبب وجوب الضمان، فلا يجب عليه الضمان، كالوديعة والإجارة؛ لأن الضمان لا يجب على المرء بدون فعله، ولم يفعل ما يوجب الضمان؛ لأنه يقوم بحفظ مال الغير، وهذا إحسان في حق المالك، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن:60/55] (2) .
__________
(1) المهذب: 364/1، مغني المحتاج: 271/2-273، المغني: 212/5 ومابعدها.
(2) المبسوط: 135/11، البدائع: 217/6، تكملة فتح القدير: 103/7، مجمع الضمانات للبغدادي: /55، الكتاب مع اللباب: 202/2.(5/682)
وقال المالكية (1) : يضمن المستعير ما يُغاب عليه: وهو ما يمكن إخفاؤه كالثياب والحلي والسفينة السائرة في عرض البحر، وذلك إذا لم يكن على التلف أو الضياع بينة على حصوله بلا سبب منه، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار، ولا فيما قامت البينة على تلفه. ودليلهم الجمع والتوفيق بين حديثين: أولهما ـ أنه عليه الصلاة والسلام قال لصفوان بن أمية: «بل عارية مضمونة مؤداة» وفي رواية «بل عارية مؤداة» وثانيهما ـ حديث: «ليس على المستعير غير المغل ـ أي الخائن ـ ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان» فحمل الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه. وهذا المذهب قريب في شطره من مذهب الحنفية في أن العارية أمانة (2) .
والأصح عند الشافعية: أن العارية مضمونة على المستعير بقيمتها يوم التلف إذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه وإن لم يفرط، لحديث صفوان: «بل عارية مضمونة» ولأنه مال يجب رده لمالكه، فيضمن عند تلفه كالشيء المتسلم، أي المقبوض على سوم الشراء، أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه فلا ضمان (3) ، لحدوث التلف عن سبب مأذون فيه، فلو تعسرت الدابة من ثقل حمل مأذون فيه أو ماتت به، أو انمحق أي (تلف بالكلية) ثوب يلبسه المأذون فيه، أو سقط ثور في
__________
(1) بداية المجتهد: 308/2، حاشية الدسوقي: 436/3، القوانين الفقهية: /373، والحديثان تقدم تخريجهما.
(2) تتلخص أحكام العارية عند المالكية بأربعة وهي: 1 - الضمان، 2 - الانتفاع للمستعير حسبما يؤذن له، 3 - اللزوم إن كانت لأجل معلوم أو قدر معلوم، كعارية الدابة إلى موضع كذا، فلا يجوز لصاحبها أخذها قبل ذلك، 4 - إذا قال المستعير: كانت عارية، وقال صاحبها: كانت كراء، فالقول قوله مع يمينه (القوانين الفقهية: /373) .
(3) قال البغدادي في مجمع الضمانات: ص 55: محل الخلاف (أي بين الحنفية والشافعية) في ضمان المستعير: أن تهلك العارية في غير حالة الانتفاع، أما لو هلكت في حالة الانتفاع لم يضمن بالإجماع.(5/683)
ساقية استعير لاستعماله فيها، فلا ضمان في هذه الحالات كلها (1) . كذلك لايضمن المستعير ما استعاره ليرهنه، فرهنه، فتلف عند المرتهن. لكن يشترط ذكر جنس الدين وقدره وصفته والمرهون عنده.
ويد المستعير على العارية عند الشافعية يد ضمان في أثناء الاستعمال غير المأذون فيه، فيضمنها بالتلف سواء تعدى أم لم يتعد، وسواء قصر في حفظها أم لم يقصر، قال النووي في المنهاج: فإن تلفت (أي العين المستعاره عند المستعير) لا باستعمال لها مأذون فيه، ضمنها، وإن لم يفرط، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «بل عارية مضمونة» ولأنه مال يجب رده لمالكه، فيضمن عند تلفه، كالمستام، أي الذي يسوم السلعة.
والأصح أن العارية تضمن بقيمة يوم التلف، لا بأقصى القيم، ولا بيوم القبض.
وقال الحنابلة في ظاهر المذاهب (2) : إن العارية مضمونة على المستعير مطلقاً، تعدى أو لم يتعد، بقيمتها يوم التلف، بدليل حديث صفوان بن أمية السابق الإشارة إليه، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم استعار منه درعاً يوم حنين، فقال ـ فيما رواه أحمد وأبو داود ـ أغصباً يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» فهذا إخبار بصفة العارية وحكمها، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة.
__________
(1) المجموع 204/14 ومابعدها، المهذب: 363/1، مغني المحتاج: 267/2، 274، الأشباه والنظائر للسيوطي: 150، الإقناع وحاشية البجيرمي عليه: 136/3، 139، متن أبي شجاع مع حاشية الباجوري: 10/2، تحفة الطلاب: /166،كناية الأخيار: 555/1.
(2) كشاف القناع: 76/4 ومابعدها، المغني: 203/5، القواعد لابن رجب: /59.(5/684)
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) ، ولأنه مال لغيره، أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الوثيقة كالرهن، ومن غير استحقاق، ولا إذن في الإتلاف، فكان مضموناً كالمغصوب.
وأضاف الحنابلة أن المستعير لو استعاروقفاً ككتب علم وأدرع موقوفة على المجاهدين فتلفت بغير تفريط ولا تعد، فلا ضمان، لكون تعلم العلم وتعليمه والجهاد من المصالح العامة.
والخلاصة: إن يد المستعير يد ضمان عند الشافعية والحنابلة، ويد أمانة عند الحنفية والمالكية، على التفصيل السابق عند المالكية والشافعية.
ويبرأ المستعير برد العارية إلى من جرت العادة بتسلم الشيء منه كزوجة وخازن ووكيل عام في قبض الحقوق.
شرط المعير الضمان: قال الحنفية: إذا شرط المعير على المستعير ضمان العارية يكون الاشتراط باطلاً، وبه يفتى، كما في الوديعة، وكشرط عدم الضمان في الرهن، لأن في ذلك تغييراً لمقتضى العقد (2) .
وقال المالكية: إذا اشترط المعير الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه الضمان، لا يضمنه المستعير بإجارة المثل في استعماله العارية؛ لأن الشرط يخرج
__________
(1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وصححه الحاكم عن الحسن بن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» زاد أبو داود والترمذي قال قتادة: «ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه، يعني العارية» ورواه الطبراني والحاكم وابن أبي شيبة (راجع جامع الأصول: 110/9، نصب الراية: 167/4، التلخيص الحبير: /253، المقاصد الحسنة: /290، نيل الأوطار: 298/5، سبل السلام: 67/3) .
(2) حاشية ابن عابدين: 516/4، 525، مجمع الضمانات: /55.(5/685)
العارية عن حكمها إلى باب الإجارة الفاسدة، إذا كان صاحبها لم يرض أن يعيرها، بغير ضمان، فهو عوض مجهول، فيجب أن يرد إلى معلوم (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: إذا شرط المستعير أن تكون العارية أمانة أو نفي الضمان لم يسقط الضمان ويلغو الشرط؛ لأن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط، كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد (2) .
تغير حال العارية من الأمانة إلى الضمان: يتغير حال العارية عند الحنفية من الأمانة إلى الضمان بالأسباب نفسها التي يتغير بها حال الوديعة، منها (3) :
1 - التضييع، والإتلاف حقيقة بإلقائها في مضيعة أو كأن يدل عليها سارقاً؛ أو الإتلاف معنى بمنع العارية بعد طلبها أوبعد انقضاء المدة.
2 - ترك الحفظ في استعمال العارية، أو إيجارها.
3 - استعمال العين المعارة استعمالاً غير مشروط أو غير مألوف عادة.
4 - المخالفة في كيفية الحفظ: مثل أن يأمره ألا يغفل عنها، فغفل، فيضمن. فإن عاد إلى موافقة مطلب المعير لا يبرأ عن الضمان، بخلاف ما عرفناه في الوديعة عند الحنفية، فإنه يبرأ عن الضمان؛ لأن المقصود في الوديعة، هو الحفظ للمالك، والحفظ يتحقق بعد المخالفة كما كان قبل المخالفة.
وهناك فرق آخر: وهو أن المستعير لو رد العارية إلى منزل المالك، كما إذا رد الدابة إلى إصطبل مالكها، يبرأ عن الضمان بخلاف الوديعة، للعادة الجارية في
__________
(1) حاشية الدسوقي: 436/3، بداية المجتهد: 309/2.
(2) المغني: 204/5.
(3) البدائع: 218/6 ومابعدها.(5/686)
العارية بردها إلى بيت المالك أو بدفعها إلى عياله، ولم تجر العادة بذلك في الوديعة، فخصصت العارية من عموم آية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/4] ، وبقيت الوديعة على ظاهر النص، كما سبق ذكره. والعين المغصوبة مثل الوديعة ترد إلى المالك نفسه.
لكن إذا كانت العارية شيئاً نفيساً فرده المستعير إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن؛ لأن الأعيان النفيسة لا ترد إلا إلى صاحبها في العادة.
وكذلك إذا اختلف المعير والمستعير، فالقول قول المالك كما تقدم بخلاف الوديعة: القول قول الوديع (1) .
مؤنة رد العارية: إن أجرة رد العارية على المستعير؛ لأن الرد واجب عليه؛ لأنه قبضها لمنفعة نفسه، والأجرة مؤنة الرد، فتكون عليه. وكذلك أجرة رد العين المغصوبة على الغاصب؛ لأن الرد واجب عليه دفعاً للضرر عن المالك، فتكون مؤنته عليه.
أما أجرة رد العين المستأجرة فعلى المؤجر؛ لأن الواجب على المستأجر التمكين من الرد والتخلية بين الشيء وصاحبه، دون الرد (2) . والفرق أن غرض المؤجر والغاصب ومثلهما المرتهن هو حصول المنفعة لهم بخلاف المستعير، قبض الشيء لمنفعته الخاصة.
وكذلك أجرة رد الوديعة على المالك المودع؛ لأن الوديع يجب علىه فقط رد الوديعة عند طلب المالك لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء:58/4] .
__________
(1) انظر البدائع، المرجع نفسه: /211 ومابعدها، مجمع الضمانات: /57.
(2) الكتاب مع اللباب: 204/2، الدر المختار ورد المحتار: 527/4 ومابعدها.(5/687)
المبحث الخامس ـ الاختلاف بين المعير والمستعير:
قد يحدث اختلاف في بعض الأمور بين المعير والمستعير، فمن الذي يصدق قوله؟
1 ً - الاختلاف في أصل العقد أو صفته: إذا ادعى المنتفع الإعارة وادعى المالك الإجارة، وادعى المنتفع الإعارة وادعى المالك الغصب بأن المنتفع غصب الشيء منه، يصدق المالك بيمينه على المذهب عند الشافعية؛ لأن الأصل عدم الإذن بالانتفاع، فيحلف ويستحق أجرة المثل.
2 ً - الاختلاف في التلف: إذا تلفت العين المستعارة، وادعى المستعير أنها تلفت بالاستعمال المأذون فيه، وأنكر المعير ذلك، وقال: بل تلفت بغير الاستعمال، أو باستعمال غير مأذون فيه، يصدق المستعير بيمينه بالاتفاق، لأنه يصعب عليه إثبات قوله بالبينة عند القائلين بأن يد المستعير يد ضمان، ولأن الأمين يقبل قوله عند القائلين بأن يد المستعير يد أمانة.
3 ً - الاختلاف في الرد: إذا ادعى المستعير أنه رد العين المستعارة على المعير، وأنكر المعير ذلك، فيحلف المعير على قوله ويصدق بيمينه، لأن الأصل عدم الرد، والمستعير مدع فعليه البينة، والمعير منكر، واليمين على المنكر (1) .
المبحث السادس ـ انتهاء الإعارة: تنتهي الإعارة بما يلي:
1ً - طلب المعير رد العارية: لأن الإعارة عقد غير لازم، فتنتهي بالفسخ.
2ً - رد العارية: إذا رد المستعير العين المستعارة على المعير، انتهت الإعارة، سواء قبل انتهاء مدة الإعارة أم قبلها.
3ً - جنون أحد العاقدين أو إغماؤه: تنتهي الإعارة بالجنون أو الإغماء، لزوال أهلية التبرع المطلوبة لإبرام العقد وأثناء بقائه.
4ً - موت أحد العاقدين- المعير أو المستعير: لأن الإعارة إباحة الانتفاع بالإذن، وبالموت لم يبق الآذن أو المأذون له.
5ً - الحجر على أحد العاقدين بالسفه: لأنه بالحجر يفقد المحجور أهلية التبرع، فتفسخ الإعارة.
6ً - الحجر بالإفلاس على المعير المالك: لأنه يمتنع عليه تفويت منافع أمواله، لمصلحة دائنيه.
__________
(1) مغني المحتاج: 273/2 ومابعدها، المهذب: 366/1 ومابعدها، المغني: 217/5-219، حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 579/3.(5/688)
الفَصْلُ التَّاسع: الوَكَالة
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الوكالة في المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها ومشروعيتها.
المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة.
المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة.
المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء.
المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة.
المبحث الأول ـ تعريف الوكالة وركنها ومشروعيتها:
تعريف الوكالة: الوكالة بفتح الواو وكسرها، وهي تطلق لغة ويراد بها الحفظ، كما في قوله عز وجل: {وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/3] أي الحافظ، وقوله سبحانه: {لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} [المزمل:9/73] قال الفراء: أي حفيظاً. وتطلق ويراد بها التفويض، يقال: وكل أمره إلى فلان: فوضه إليه واكتفى به، ومنه? توكلت على الله) قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/14] ، وقال سبحانه مخبراً عن هود عليه السلام: {إني توكلت على الله ربي وربكم} [هود:56/11] أي اعتمدت على الله، وفوضت أمري إليه.
والوكالة شرعاً عند الحنفية (1) : هي عبارة عن إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. أو هي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل.
والتصرف يشمل التصرفات المالية من بيع وشراء وغيرهما من كل ما يقبل النيابة شرعاً كالإذن بالدخول. وقال الشافعية: الوكالة تفويض شخص ماله فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته (2) . والتقييد بالحياة للتمييز عن الوصية.
ركن الوكالة: ركن الوكالة عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، فالإيجاب من الموكل ويسمى الأصيل: أن يقول: وكلتك بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل: أن يقول: قبلت وما يجري مجراه (3) . ويتم القبول بكل فعل دل على القبول، ولا يشترط كونه لفظاً؛ لأن التوكيل إباحة ورفع حجر، فأشبه إباحة الطعام (4) .
__________
(1) تكملة فتح القدير: 3/6، البدائع: 19/6، رد المحتار: 417/4، تبيين الحقائق: 254/4.
(2) مغني المحتاج: 217/2.
(3) البدائع، المرجع السابق: /20.
(4) مغني المحتاج: 222/2، المغني: 84/5.(5/689)
ويجوز بالاتفاق قبول الوكالة على الفور والتراخي؛ لأن قبول وكلائه صلّى الله عليه وسلم كان بفعلهم، وكان متراخياً عن توكيله إياهم.
فإذا لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد، فلو وكل إنسان غيره بقبض دينه، فأبى أن يقبل، ثم ذهب الوكيل فقبضه، لم يبرأ المدين؛ لأن تمام العقد
بالإيجاب والقبول، وكل واحد منهما يرتد بالرد قبل وجود الآخر، كما في البيع ونحوه.
وللوكالة عند الجمهور أركان أربعة: هي الموكل والوكيل والموكل فيه والصيغة.
وتصح الوكالة الدورية (1) عند الحنابلة (2) : وهي وكلتك، وكلما عزلتك أو انعزلت فقد وكلتك أو فأنت وكيلي، ويصح عزله بقوله: كلما وكلتك أو عدت وكيلي فقد عزلتك.
تعليق الوكالة على شرط أو زمن: الوكالة عند الحنفية والحنابلة قد تكون مطلقاً وقد تكون معلقة بالشرط، مثل: إن قدم زيد فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب، ولا يصح تصرف الوكيل قبل تحقق الشرط، وقد تكون مضافة إلى وقت في المستقبل بأن يقول: وكلتك في بيع هذا الكتاب غداً، ولا يصير وكيلاً قبل الغد. ودليلهم على جواز ذلك أن التوكيل عقد يبيح التصرف مطلقاً، والإطلاقات مما تحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت كالطلاق، وبما أن التوكيل إذن في التصرف فهو يشبه الوصية (3) .
وقال الإمام الشافعي في الأصح من مذهبه: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت، مثل: إن جاء زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا. ودليله أن التوكيل عقد تؤثر الجهالة في إبطاله، فلم يصح تعليقه على شرط كسائر العقود من
__________
(1) الدور عند المناطقة: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وسميت وكالة دورية لدورانها على العزل.
(2) غاية المنتهى: 156/2.
(3) البدائع: 20/6، غاية المنتهى: 147/2.(5/690)
بيع وإجارة. ويخالف الوصية لأنها لايؤثر فيها غرر الجهالة، فلا يؤثر فيها غرر الشرط، فتقبل التعليق. أما الوكالة فتؤثر الجهالة في إبطالها فيؤثر غرر الشرط فيها، فلا تقبل التعليق. لكن لو تصرف الوكيل في هذه الحالة صح تصرفه لوجود الإذن، وإن كان العقد فاسداً، وحينئذ إذا كان وكيلاً بأجر سقط المسمى، ووجب له أجر المثل، لأنه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل، فوجب أجر المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة (1) . وإذا نجَّز الوكالة وشرط للتصرف شرطاً جاز اتفاقاً، مثل: وكلتك بشراء شيء، ولكن لا تشتره إلا بعد شهر.
تأقيت الوكالة: اتفق الفقهاء على صحة تأقيت الوكالة بزمن معين كشهر أو سنة؛ لأن الوكالة بحسب الحاجة.
الوكالة بأجر: تصح الوكالة بأجر وبغير أجر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمولة (2) ، ولهذا قال له أبناء عمه: «لو بعثتنا على هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونصيب ما يصيبه الناس» أي العمولة، ولأن الوكالة عقد جائز لا يجب على الوكيل القيام بها، فيجوز أخذ الأجرة فيها، بخلاف الشهادة فإنها فرض يجب على الشاهد أداؤها.
__________
(1) مغني المحتاج: 223/2، المهذب: 350/1.
(2) قال ابن حجر: هذا مشهور، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: بعث النبي صلّى الله عليه وسلم السعاة على الصدقة، وفيهما عن أبي حميد الساعدي: استعمل النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية، وفيهما عن عمر: أنه استعمل ابن السعدي. وعند أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث أبا مسعود ساعياً، وفي مسند أحمد أنه بعث أبا جهم بن حذيفة متصدقاً، وفيه من حديث قرة بن دعموص بعث الضحاك بن قيس ساعياً، وفي المستدرك أنه بعث قيس بن سعد ساعياً، وفيه من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعثه على أهل الصدقات، وبعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ساعياً (راجع التلخيص الحبير: /176، 251، 275) .(5/691)
فإن كانت الوكالة بغير أجرة فهي معروف من الوكيل، وإذا كانت الوكالة بأجر أي (بجعل) فحكمها حكم الإجارات، فيستحق الوكيل الجُعْل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن تسليمه كثوب يخيطه، فمتى سلمه مخيطاً، فله الأجر. وإن وكل في بيع أوشراء أو حج استحق الأجر، إذا عمله، وإن لم يقبض الثمن في البيع (1) .
وفي الوكالة بأجر يجوز للموكل أن يشترط على الوكيل ألا يخرج نفسه منها إلا بعد أجل محدود، وإلا لما كان عليه التعويض.
عموم الوكالة وتخصيصها: تصح الوكالة العامة عند الحنفية والمالكية (2) ؛ لأنها تجوز في كل ما يملكه الموكل وفي كل ما تصح فيه النيابة من التصرفات المالية وغيرها. وقال الشافعي والحنابلة (3) : لا تصح الوكالة العامة؛ لما فيها من عظيم الغرر. واتفق الفقهاء على جواز الوكالة الخاصة، وهو الأصل الغالب فيها.
__________
(1) المغني: 85/5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 2/6، القوانين الفقهية: /329.
(2) تكملة رد المحتار: 357/7، بداية المجتهد: 302/2.
(3) تحفة المحتاج: 308/5، كشاف القناع: 471/3، مغني المحتاج: 221/2.(5/692)
مشروعية الوكالة: الوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف: {فابعثوا أحدكم بوَرِقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه} [الكهف:19/18] وهذه وكالة في الشراء، وقوله عز وجل: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/4] وقوله سبحانه: {اذهبوا بقميصي هذا} [يوسف:93/12] وقوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف:55/12] . وقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} [التوبة:60/9] أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة، لأن الله سبحانه جوز العمل
على الصدقات، وهو بحكم النيابة عن المستحقين. وقوله سبحانه: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} [النساء:35/4] والحكمان وكيلان عن الزوجين.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها خبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم بعث السعاة لأخذ الزكاة» ، ومنها: «توكيله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمري في نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان» (1) ومنها «توكيله أبا رافع في قبول نكاح ميمونة بنت الحارث» (2) ومنها «توكيله حكيم بن حزام بشراء الأضحية، وتوكيله عروة البارقي في شراء الشاة» (3) .
__________
(1) رواه أبو داود في سننه: 468/1، وقال البيهقي في المعرفة: روينا عن أبي جعفر محمد بن علي أنه حكى ذلك ولم يسنده البيهقي في المعرفة، وكذا حكاه في الخلافيات بلا إسناد، وأخرجه في السنن من طريق ابن إسحاق، حدثني أبو جعفر، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فزوجه أم حبيبة، ثم ساق عنه أربع مئة دينار.. (راجع التلخيص الحبير: ص 251 ومابعدها) .
(2) رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان عن سليمان بن يسار أن النبي صلّى الله عليه وسلم «بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة بنت الحارث، وهو بالمدينة قبل أن يخرج» أي إلى الحج، قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وهو دليل على أن تزوجه بها قد سبق إحرامه، وأنه خفي على ابن عباس (راجع التلخيص الحبير: 252، نيل الأوطار: 269/5) .
(3) توكيل حكيم بن حزام صحيح: رواه أبو داود والترمذي عن حبيب بن أبي ثابت عن حكيم بن حزام، وفيه أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال له: «ضح بالشاة، وتصدق بالدينار» وقصة توكيل عروة البارقي صحيحة أيضاً رواها أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن شبيب بن غرقدة السلمي الكوفي عن عروة بن أبي الجعد البارقي، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم «دعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه» (راجع جامع الأصول: 289/12، نصب الراية: 90/4، التلخيص الحبير: /251، نيل الأوطار: 270/5) .(5/693)
ومنها خبر البخاري في التوكيل بإعطاء بعير سداداً لدين رجل، وقوله عليه السلام: «إن خياركم أحسنكم قضاء» .
وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على جواز الوكالة، ولأن الحاجة داعية إليها، فإن الشخص قد يعجز عن قيامه بمصالحه كلها (1) ، فكانت جائزة لأنها نوع من أنواع التعاون على البر والتقوى.
وحكمة تشريع الوكالة واضحة: وهي رعاية المصلحة وسد الحاجة ودفع الحرج عن الناس، فقد تتوافر القدرة والكفاءة والخبرة عند إنسان دون آخر، وقد يكون الإنسان محقاً، ولكنه عاجز عن تقديم الحجة والبيان، وخصمه أقدر وأعرف بالحجج، فيكون محتاجاً لتوكيل غيره للدفاع عنه، وإظهار حقه.
__________
(1) المغني: 79/5، تكملة فتح القدير: 3/6، مغني المحتاج: 217/2، المهذب: 348/1، المبسوط: 2/19 ومابعدها.(5/694)
الحكم التكليفي للوكالة:
الأصل في الوكالة الإباحة، وقد تصبح مندوبة إن كانت إعانة على مندوب. وقد تصير مكروهة إن أعانت على مكروه، وقد تكون حراماً إن أعانت على حرام، وقد تكون واجبة إن دفعت ضرراً عن الموكل.
المبحث الثاني ـ شرائط الوكالة:
يشترط لصحة الوكالة شروط في الصيغة وفي العاقدين وفي محل العقد.
والعاقدان هما: الموكل والوكيل، والموكل يجوز أن يكون غائباً أو امرأة أو مريضاً بالاتفاق، أو حاضراً صحيحاً خلافاً لأبي حنيفة. والوكيل: كل من جاز له التصرف لنفسه في شيء، جاز له أن ينوب فيه عن غيره، إلا أنه لا يجوز توكيل العدو على عدوه. ولا يجوز عند المالكية توكيل الكافر على بيع أو شراء أو عقد سلَم لئلا يفعل الحرام، ولا توكيله على قبض من المسلمين لئلا يستعلي عليهم.
أما ما يشترط في الصيغة: فهو شرطان عند الشافعية:
1ً - أن تتم الوكالة بلفظ يدل على الرضا بالتوكيل إما صراحة أو كناية، مثل وكلتك ببيع داري، أو أقمتك مقامي في بيعه، ولا يشترط اللفظ في القبول، بل يكفي الفعل، كإباحة الطعام للضيف.
2ً - عدم تعليقها على شرط عند الشافعية، مثل إن جاء فلان من السفر فأنت وكيلي بكذا.
ولكن يصح تعليق التصرف بأمر إذا كانت الوكالة منجزة، مثل وكلتك في بيع داري على أن يتم البيع عند قدوم فلان. ويصح تقييد الوكالة بوقت، كأن يتم التوكيل لمدة شهر أوسنة.(5/695)
أما شرط الموكل: فهو أن يكون مالكاً للتصرف الذي يوكل فيه، وتلزمه أحكام ذلك التصرف. فلا يصح التوكيل من المجنون والمغمى عليه والصبي غير المميز؛ لعدم وجود العقل الذي هو من شرائط الأهلية، ولأنه لا تلزمهما أحكام التصرفات، كما لا يصح التوكيل من الصبي المميز بما لايملكه بنفسه من التصرفات كالطلاق والهبة والصدقات ونحوها من التصرفات الضارة ضرراً محضاً به. أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول التبرعات، فيجوز للصبي المميز التوكيل بها. وأما التصرفات المترددة بين النفع والضرر كالبيع والإجارة: فإن كان المميز مأذوناً في التجارة يصح منه التوكيل بها، لأنه يملكها بنفسه، وإن كان ممنوعاً من التصرف ينعقد التوكيل منه موقوفاً على إجازة وليه، وعلى إذن وليه بالتجارة أيضاً (1) .
__________
(1) البدائع: 20/6، تكملة فتح القدير: 12/6، 134.(5/696)
وقال الإمام الشافعي: لا يصح توكيل الصبي مطلقاً، إذ لا تصح عنده مباشرته لأي تصرف. وهذا هو رأي المالكية والحنابلة (1) .
واكتفى أبو حنيفة باشتراط أن يكون التوكيل حاصلاً بما يملكه الوكيل، وبناء عليه يجوز عنده توكيل المسلم ذمياً بشراء الخمر والخنزير.
ولا يصح توكيل المحجور عليه لسفه في تصرف مالي؛ لأنه لا يملك مباشرته. ولا يصح للمرأة والمحرم بحج أو عمرة عند الجمهور غير الحنفية التوكيل بمباشرة عقد الزواج؛ لأنه لا يصح منهما مباشرته. كما لا يصح للأب الفاسق أن يوكل في تزويج ابنته؛ لأنه لا يملك مباشرة ذلك بنفسه. ويستثنى من ذلك الأعمى عند الشافعية فإنه لا يصح له البيع والشراء ونحوهما مما يتوقف على الرواية، ويصح أن يوكل في ذلك للضرورة.
وأما شروط الوكيل: فهو:
1 - أن يكون عاقلاً أي يعقل العقد بأن يعرف مثلاً أن البيع سالب والشراء جالب، ويعرف الغبن اليسير من الغبن الفاحش، فلا تصح وكالة المجنون والصبي غير المميز. أما الصبي المميز فتصح وكالته عند الحنفية سواء أكان مأذوناً في التجارة أم محجوراً.
واشترط هذا الشرط؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في العبارة، فلابد من أن يكون من أهل العبارة، وأهلية العبارة لاتكون إلا بالعقل والتمييز، وقد زوج ابن أم سلمة - وكان صبياً - النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي والمالكية والحنابلة: وكالة الصبي والمجنون والمغمى عليه غير صحيحة؛ لأن كل واحد منهم غير مكلف، فلا تصح مباشرته التصرف لنفسه، فلا يصح توكله، وأجاز الشافعية على الصحيح توكيل الصبي المميز في الإذن بدخول دار وإيصال هدية وحج وتطوع وذبح ضحية وتفرقة زكاة.
ولا يصح توكيل السفيه في تصرف مالي، ولا توكيل المحرم بحج أو عمرة، ولا توكيل المرأة في إبرام عقد نكاح عند الجمهور غير الحنفية، لعدم صحة مباشرة المحرم والمرأة عقد الزواج. ولا يصح عند الشافعية توكيل الأعمى في تصرف يتطلب الرؤية.
2 - ويشترط عند الحنفية أيضاً: أن يكون الوكيل قاصداً العقد، بألا يكون هازلاً، وأن يعلم بالتوكيل في الجملة، فلو وكل رجلاً ببيع كتابه، فباعه الوكيل من رجل قبل أن يعلم بالوكالة، لا يجوز بيعه، حتى يجيزه الموكل أو الوكيل بعد علمه بالوكالة؛ وعلم الوكيل بالوكالة يثبت بالمشافهة أو الكتابة إليه، أو بإرسال
__________
(1) مغني المحتاج: 217/2، المهذب: 349/1، الفقه على المذاهب الأربعة: 236/3 ومابعدها.(5/697)
رسول إليه، أو بإخبار رجلين أورجل واحد عدل أو غير عدل وصدقه الوكيل (1) .
3 - أن يكون الوكيل معيناً إما بنسبة أو إشارة إليه، فلو وكل أحد رجلين لم تصح الوكالة للجهالة. وأن يكون عالماً بموكله بوصف له أو شهرة (2) .
واشترط المالكية في الموكل والوكيل ثلاثة شروط: الحرية، والرشد، والبلوغ، فلا يصح التوكيل بين الأرقاء والأحرار، ولا بين السفهاء والمحجورين، ولا بين الصبيان أو بينهم وبين البالغين. واشترط الشافعية في الوكيل أن يكون عدلاً إذا كان وكيلاً عن القاضي أو عن الولي في بيع مال من تحت ولايته.
وأما شروط الموكل به فهي:
1 - ألا يكون الموكل فيه من الأمور المباحة: فلا يصح لإنسان أن يوكل غيره بالاحتطاب والاحتشاش واستقاء الماء واستخراج المعادن كالنحاس والرصاص والجواهر، فإذا حصل التوكيل في شيء مما ذكر فهو للوكيل، وليس للموكل فيه شيء. وهذا الشرط عند الحنفية، وأجاز الجمهور في الأظهر عند الشافعية التوكيل في هذه الأمور، ويقسم بينهم على قدر أجر كل منهم بلا ترجيح بينهم لحصوله بمنافع مختلفة (3) ؛ لأن تملك المباحات أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء والبيع، فصح التوكيل فيه.
2 - أن يكون الموكل به مملوكاً للموكل: لأن ما لا يملكه لا يتصور تفويض التصرف به لغيره، وهذا متفق عليه.
3 - أن يكون معلوماً من بعض الوجوه بحيث لا يعظم الغرر فيه، وهذا شرط للشافعية.
4 - ألا يكون الموكل فيه طلب قرض من الغير، فإذا وكل إنسان غيره في أن يقترض له من شخص مالاً، فقال الوكيل: أقرضني كذا، فأقرضه، كان القرض للوكيل لا للموكل، لكن يصح ذلك بطريق الرسالة، بأن يقول: أرسلني فلان ليستقرض كذا.
5 - أن يكون قابلاً للنيابة شرعاً: وهو كل ما تصح النيابة فيه من الأمور المالية وغيرها، فلا تصح الوكالة في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث؛ لأن المقصود منها الابتلاء والاختبار بإتعاب النفس، وهو لا يحصل
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: 20 ومابعدها، المبسوط: 158/19 ومابعدها، رد المحتار: 417/4، مغني المحتاج: 218/2.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدسوقي: 378/3، مغني المحتاج: 219/2، كشاف القناع: 450/3.
(3) الفتاوى الهندية: 440/3، مغني المحتاج: 221/2، روضة الطالبين: 291/4، المغني: 81/5.(5/698)
بالتوكيل، ولا يصح التوكيل باليمين؛ لأن المقصود منها إظهار صدق الحالف وتعتمد على الإجلال والتعظيم والعبودية لله تعالى، وهذا أمر شرعي، ولا يصح التوكيل بالنكاح بمعنى الوطء؛ لأن المقصود به الإعفاف وإنجاب ولد ينسب إليه.
وتجوز الوكالة عند الجمهور في العبادات التي لها تعلق بالمال قبضاً وإخراجاً ودفعاً إلى المستحق كالزكاة والكفارة والنذر والصدقة والحج والعمرة عند العجز وبعد الموت، وذبح الهدي وجبران النقص في الإحرام بالحج أو العمرة وذبح الأضحية ونحوها (1) ؛ لأن المقصود بها إيصالها لأهلها، ولم يجز المالكية التوكيل بالحج؛ لأن المقصود به تهذيب النفس وتعظيم شعائر الله (2) ، وأما إنفاق المال فهو أمر عارض.
وقد اختلف الفقهاء في بعض الأمور التي يجوز التوكيل بها، مما يقتضينا قسمة ما يجوز التوكيل به وما لا يجوز إلى قسمين: إما أن يكون التوكيل بحقوق الله عز وجل وهي كل الحدود عند الحنفية، وعند غيرهم ما عدا حد القذف. وإما أن يكون بحقوق العباد.
أولاً ـ الوكالة في حقوق الله تعالى: التوكيل في حقوق الله تعالى نوعان: أحدهما ـ بالإثبات، والثاني ـ بالاستيفاء.
1 - التوكيل بإثبات الحدود: قال الحنفية: إن كان الحد لايحتاج في إظهاره
__________
(1) تكملة ابن عابدين: 271/7، بداية المجتهد: 297/2، مغني المحتاج: 219/2، المغني: 83/5، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 377/3 ومابعدها، روضة الطالبين: 294/4.
(2) وضع الشافعيةضابطاً لما يجوز التوكيل فيه وما لا يجوز، فقالوا: تصح الوكالة إلا في مجهول مطلق، كأن وكله في كل قليل وكثير، وإلا في حد أو قود، أو قبض في مال ربوي أو رأس مال سلم، وإلا في وطء، أو شهادة، أو يمين كإيلاء أو لعان، أو إقرار، أو ظهار، أو عبادة إلا نُسكاً من حج أوعمرة، وتفرقة زكاة وذبح أضحية (تحفة الطلاب: ص 169) .(5/699)
لكن استثناء القود محل نظر كما سيأتي. عند القاضي إلى الخصومة (أي للدعوى) كحد الزنا وشرب الخمر فلا يصح فيه التوكيل بإثباته؛ لأنه يثبت عند القاضي بالبينة أو الإقرار من غير حاجة إلى رفع دعوى من صاحب الحق، فتكفي فيه شهادة الحسبة بدون دعوى. فيتلخص من هذا أنه يشترط في الموكل فيه ألا يكون حداً من الحدود التي لا يشترط فيها إقامة الدعوى كحد الزنا وحد شرب الخمر.
وإن كان مما يحتاج فيه إلى الخصومة (أي إقامة دعوى) كحد السرقة وحد القذف فيجوز التوكيل بإثباته عند أبي حنيفة ومحمد، بإقامة البينة على الجريمة الموجبة للحد. ولا يجوز التوكيل بذلك عند أبي يوسف وإنما لا يثبت إلا بالبينة أو الإقرار من الموكل، وهذا الخلاف يجري أيضاً في إثبات القصاص، استدل أبو يوسف على رأيه؛ وهو أن الوكالة لا تجوز في إثبات الحدود والقصاص بالقياس على عدم جواز الوكالة بالاستيفاء، فكما لا يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص لا يجوز التوكيل بإثباتها؛ لأن الإثبات وسيلة إلى الاستيفاء.
ورد أبو حنيفة ومحمد على دليل أبي يوسف بأن هناك فرقاً بين الإثبات والاستيفاء، فإن امتناع التوكيل بالاستيفاء بسبب وجود شبهة كما سنعرف، وتلك الشبهة غير متوفرة في التوكيل بالإثبات (1) .
وقال الشافعية: لا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى، لأن الحق فيها لله سبحانه، وهو قد أمرنا بدرء الحدود والتوصل إلى إسقاطها، وبالتوكيل يتوصل إلى إيجاب الحد، فلا يجوز. أما إثبات القصاص وحد القذف فيجوز التوكيل فيهما؛ لأنهما حق آدمي، فجاز التوكيل في إثباته، كالحق في المال (2) . ويجوز التوكيل عندهم في استيفاء الحدود كما سيأتي بيانه.
__________
(1) البدائع: /21، تكملة فتح القدير: 7/6، مختصر الطحاوي: ص 109.
(2) المهذب: 349/1، مغني المحتاج: 221/2.(5/700)
وقال الحنابلة (1) : يجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنهما من حقوق الآدميين، وتدعو الحاجة إلى التوكيل فيهما. وكذلك الحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا والسرقة: يجوز التوكيل في إثباتها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل أنيساً في إثبات واستيفاء حد الزنا، فإنه قال: «فإن اعترفت فارجمها» وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت، وقد وكله في إثبات الحد واستيفائه جميعاً.
والوكيل يقوم مقام الموكل في درء الحدود بالشبهات.
2 - التوكيل في استيفاء الحدود: اتفق أئمة المذاهب الأربعة في الجملة على أنه يجوز للحاكم التوكيل في استيفاء (2) حدود الله تعالى وفي القصاص، غير أنه قد يوجد خلاف في المذهب في صحة التوكيل بالاستيفاء حال غياب الموكل عن مجلس الاستيفاء أي والموكل غير حاضر. وأذكر هنا تفصيل كل مذهب على حدة:
__________
(1) المغني: 81/5 ومابعدها، غاية المنتهى: 150/2.
(2) استيفاء: أي توفية الحد وتنفيذه على الجاني. وحقوق الله أي أن الله تعالى قرر لها عقوبة ثابتة ليس للمجني عليه فيها شأن، فلا بد من تنفيذها.(5/701)
قال أبو حنيفة ومحمد: أما التوكيل من صاحب الحق باستيفاء الحدود التي تحتاج إلى إقامة الدعوى كحد القذف وحد السرقة، فإن كان الموكل حاضراً بأن يحضر هو ووكيله حال تنفيذ الحد، فإنه يجوز التوكيل إذ ليس كل أحد يحسن الاستيفاء إما لضعف قلبه أو لنقص خبرته ومعرفته. وأبو يوسف: لا يجيز التوكيل في استيفاء حد القذف وحد السرقة، كما لا يجوز التوكيل في إثباتهما، والظاهر أنه يقول: إن التوكيل في الحدود التي هي من حقوق الله تعالى لا معنى له، سواء احتاجت لدعوى أم لا؛ لأن ولي الأمر مطالب باستيفائها، فلا بد له من تنفيذها، وليس للمجني عليه فيها شأن (1) .
وأما إن كان المقذوف والمسروق منه غائباً وقت الاستيفاء فاختلفت فيه مشايخ الحنفية.
فقال بعضهم: يجوز التوكيل؛ لأن عدم الجواز لاحتمال حدوث العفو والصلح، وهنا لا يتأتى ذلك الاحتمال؛ لأن الأمر وصل إلى القاضي، والحق صار لله تعالى وحده، فلو عفا عنه المسروق منه لا يلتفت إليه.
وقال بعضهم وهو الأرجح عند الحنفية: لا يجوز التوكيل بالاستيفاء؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وغيبة الموكل شبهة؛ لأنه لو كان حاضراً وقت الاستيفاء وإن لم يملك العفو والصلح إلا أنه إذا كان مقذوفاً قد يصدق القاذف فيما قذفه به، وإذا كان مسروقاً منه فقد يترك الخصومة (أي يسقط ادعاءه) ، فلا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة.
والنتيجة: أنه لا يصح وقوع الحد بدون حضور الموكل وهو المجني عليه.
وأما التعازير: فيجوز التوكيل بإثباتها واستيفائها باتفاق الحنفية وباقي المذاهب (2) ، وللوكيل أن يستوفي سواء أكان الموكل غائباً أم حاضراً؛ لأن التعزير حق الشخص، ولا يسقط بالشبهات بخلاف الحدود.
وأما التوكيل باستيفاء القصاص: فإن كان الموكل وهو ولي الدم حاضراً جاز، لأنه قد لا يقدر على الاستيفاء، فيحتاج إلى التوكيل، وإن كان غائباً لا
__________
(1) راجع الفقه على المذاهب الأربعة: 232/3، الإفصاح لابن هبيرة: ص 208.
(2) البدائع، المرجع السابق، الشرح الصغير: 503/3، روضة الطالبين: 293/4، الشرح الكبير مع المغني: 207/5.(5/702)
يجوز، لاحتمال صدور العفو منه عن القاتل إذا كان حاضراً، فلا يجوز استيفاء القصاص مع قيام الشبهة.
هذا هو مذهب الحنفية في الاستيفاء (1) ، وخلاصته: أنه لا يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص بدون حضور الموكل وهو المجني عليه وقت الاستيفاء؛ لأنها تدرأ بالشبهات، وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بخلاف حال حضرته أو وجوده لانتفاء الشبهة.
وقال المالكية: تجوز الوكالة باستيفاء العقوبات في حضرة الموكل وغيبته (2) .
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب عندهم: تجوز الوكالة باستيفاء الحدود والقصاص في حضرة الموكل وغيبته؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس، فاعترفت، فأمر بها فرجمت» (3) وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم برجم ماعز، فرجموه، ووكل عثمان علياً في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة، ووكل علي الحسن في ذلك، فأبى الحسن، فوكل عبد الله بن جعفر، فأقامه وعلي يعد، ولأن الحاجة قد تدعو إلى التوكيل؛ لأن الإمام لا يمكنه تولي الحد بنفسه.
وقال بعض الحنابلة كالحنفية: لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة الموكل؛ لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حال غيبته فيسقط العقاب، وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء، ولأن العفو مندوب إليه، فإذا حضر احتمل أن يرحم المقتص منه أو القاذف، فيعفو.
__________
(1) المبسوط: 9/19، 106، فتح القدير: 104/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 6/6 ومابعدها، البدائع: 21/6 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار: 218/4.
(2) بداية المجتهد: 297/2، الشرح الكبير: 378/3.
(3) تقدم تخريجه في الحدود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، رواه الموطأ وأحمد وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.(5/703)
إلا أن الرأي الأول هو ظاهر مذهب الحنابلة كما ذكرت؛ لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر الحقوق، واحتمال العفو بعيد، والظاهر أنه لو عفا أعلم وكيله بعفوه، والأصل عدم العفو فلا يؤثر (1) .
وقال الشافعية: يصح التوكيل في استيفاء عقوبة آدمي كقصاص وحد قذف كسائر الحقوق المالية، بل قد يجب التوكيل في حد القذف، وكذا في حد قطع الطريق، سواء في حضرة الموكل أو في غيبته.
ويصح التوكيل أيضاً للإمام في استيفاء حدود الله تعالى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث أنيساً لإقامة الحد، وقال: «واغد ياأنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» وقال عليه الصلاة والسلام في قصة ماعز: «اذهبوا به فارجموه» ووكل عثمان رضي الله عنه علياً كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبة (2) . جاء في البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم وكل في رجم من ثبت زناه. وجلد من ثبت شربه المسكر.
والخلاصة: إن المالكية والشافعية والحنابلة يجيزون استيفاء الحدود والقصاص مع غيبة الخصم، أما الحنفية: فلا يجيزون ذلك إلا بحضور الخصم.
ولا يجوز التوكيل في المعصية أو المحرَّم كالظهار، فلا يوكل من يظاهر عنه زوجته؛ لأنه منكر ومعصية (3) . ولا يصح التوكيل في غصب شيء أو سرقته أو ارتكاب جناية؛ لأن حكم المعاصي أو المحرمات مختص بمرتكبها، فيسأل عنها بذاته دون غيره.
__________
(1) المغني: 84/5، الإفصاح لابن هبيرة: /208.
(2) مغني المحتاج: 221/2، المهذب: 349/1.
(3) الشرح الصغير: 504/3، نهاية المحتاج: 22/5.(5/704)
ثانياً ـ الوكالة في حقوق العباد: حقوق العباد تنقسم إلى قسمين:
نوع لا يجوز استيفاؤه مع وجود شبهة كالقصاص في القتل أو الأطراف. ونوع يجوز استيفاؤه مع الشبهة. وحكم النوع الأول كما عرفنا: هو أنه يصح التوكيل في إثباته عند أبي حنيفة ومحمد.
ولا يجوز التوكيل في استيفائه حال غيبة المجني عليه؛ لأنه قد يرتفع بحضور المجني عليه وعفوه عنه، ففيه شبهة العفو، والحدود تدفع بالشبهات كما تقدم.
وأما النوع الثاني: وهو ما يجوز استيفاؤه مع الشبهة فهو كالديون والأعيان وسائر الحقوق غير القصاص، فإنه يجوز للوكيل أن يتسلمها مع وجود شبهة عفو صاحبها، وتركها لمن هي عليه. حكم هذا النوع: أنه يصح التوكيل باستيفائه وإثباته باتفاق العلماء، والدليل على جواز التوكيل بالخصومة هو حاجة الناس؛ إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات، وقد صح أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنهم، وبعد ما أسن وكل عبد الله بن جعفر عند عثمان رضي الله عنهما، وقال: إن للخصومة قُحَماً، وإن الشيطان ليحضرها، وإنى لأكره أن أحضرها (1) .
غير أن الحنفية اختلفوا في اشتراط توافر رضا الخصم للزوم التوكيل بإثبات الدين والعين وسائر الحقوق.
فقال أبو حنيفة: لا يلزم التوكيل بالخصومة إذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل إلا برضا الخصم إلا أن يكون الموكل مريضاً أو مسافراً مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً أو لا يحسن الادعاء والتقاضي؛ أو كانت امرأة مستورة في خدرها، أو كانت المرأة حائضاً أو نفساء والقاضي في المسجد؛ لأنها تستحي من
__________
(1) رواه البيهقي، والقُحَم: جمع قُحْمة: وهي الأمر الشاق الذي لا يكاد يحتمل، وقحم الخصومات: ما يحمل الإنسان على ما يكرهه.(5/705)
الحضور لمحافل الرجال، وعن الجواب بعد الخصومة، فيضيع حقها، وفي غير المذكور للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا لم يكن حاضراً مجلس القضاء؛ لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه، فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه كالدين الذي عليه (1) . والخلاصة: أن أبا حنيفة لا يجيز التوكيل بغير رضا الخصم لمن لا عذر له إذا لم يكن الموكل حاضراً مجلس القضاء مع الوكيل. أما إذا كان الموكل حاضراً مجلس الحكم فتجوز الوكالة بلا خلاف بين الإمام وصاحبيه.
وقال الصاحبان وبقية الأئمة غير الحنفية: يجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها، حاضراً كان الموكل أو غائباً، صحيحاً أو مريضاً وإن لم يرض الخصم، بشرط ألا يكون الوكيل عدواً للخصم؛ لأن المذكور حق تجوز النيابة فيه، فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضا خصمه كحال غيبته ومرضه، وكدفع المال الذي عليه، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإن علياً رضي الله عنه وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنه، وقال: «إن للخصومة قُحَماً، ـ أي مهالك ـ وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها» ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات، فإنه قد يكون له حق أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة (2) ، أو لايريد أن يتولاها بنفسه (3) .
__________
(1) المبسوط: 7/19 ومابعدها، فتح القدير: 104/6-105، تكملة فتح القدير: 8/6 ومابعدها، البدائع: 22/6، مختصر الطحاوي: /108، رد المحتار: 418/4، تكملة ابن عابدين: 280/7، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: /134، قال ابن عابدين: لاخلاف في الجواز، إنما الخلاف في اللزوم يعني هل ترتد الوكالة برد الخصم؟ عند أبي حنيفة: ترتد، وعند الصاحبين: لا ترتد ويجبر عليها.
(2) إن أصل معنى الخصومة في اللغة: هو النزاع والجدال، ولكن هذا المعنى غير مقصود في اصطلاح الفقهاء، فيحمل مجازاً على معنى الإجابة على دعوى المدعي من قبيل ذكر المطلق وإرادة المقيد.
(3) مختصر خليل: ص 216، الميزان: 83/2، المغني: 81/5، المهذب: 348/1، الشرح الكبير للدردير: 378/3، الإفصاح لابن هبيرة: ص 207، كشاف القناع: 471/3.(5/706)
واستثنى المالكية حالة ما إذا جالس الموكل خصمه ثلاث جلسات فأكثر عند القاضي، فحينئذ لا يجوز له التوكيل إلا لعذر كمرض. واشترط الحنابلة شرطين لجواز الوكالة بالخصومة وهما:
1 - ألا يكون التوكيل ممن علم ظلم موكله في الخصومة، لقوله تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء:105/4] .
2 - ألا يخاصم الوكيل عن الموكل في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمر موكله.
والمختار للفتوى عند الحنفية تفويض التوكيل للحكم، فإن علم القاضي التعنت من الخصم يقبل التوكيل من غير رضاه. وإن علم قصد الموكل إضرار خصمه لا يقبل التوكيل (1) .
والتوكيل بالشهادة: لا يجوز؛ لأن الشهادة تتعلق بعين الشاهد، لكونها خبراً عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق هذا المعنى في وكيله (2) . وكذلك لا تصح الوكالة في النذور والأيمان، لأن فيها تعظيم الله تعالى، فأشبهت العبادة المحضة، وتعلقت بعين الحالف والناذر. ولا تصح الوكالة أيضاً في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان.
وأما التوكيل بالإقرار في الوكالة بالخصومة: فيجوز عند الحنفية كما ذكر محمد في (الأصل) وعند المالكية والحنابلة، كأن يقول (وكلتك لتقر عني لفلان بكذا) فيقول الوكيل: (أقررت عنه بكذا، أو جعلته مقراً بكذا) ؛ لأن هذا الإقرار معناه إثبات حق في الذمة بالقول، فجاز التوكيل فيه كالبيع (3) .
__________
(1) الدر المختار: 418/4.
(2) نهاية المحتاج: 22/5، المغني: 82/5.
(3) البدائع: 22/6، بداية المجتهد: 297/2، المغني: 82/5.(5/707)
وأما الشافعية: فلا يجوز عندهم في الأصح التوكيل في الإقرار؛ لأنه إخبار عن حق، فلا يقبل التوكيل كالشهادة، فإنه لا يصح التوكيل بها؛ لأنها تتعلق بعين الشاهد؛ لكونها خبراً عما رآه أو سمعه، ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه (1) . ورد الجمهور على قياس الإقرار على الشهادة بأن هناك فرقاً بينهما، فإن الشهادة لا تثبت الحق، وإنما هي إخبار بثبوت الحق على غيره.
ويجوز فيما عدا ذلك التوكيل بقبض الدين؛ لأن الموكل قد لا يقدر على الاستيفاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى غيره كالوكيل بالبيع والشراء وسائر التصرفات، إلا أن التوكيل بقبض رأس مال السلم وبدل الصرف: إنما يجوز في مجلس العقد، لا خارج المجلس؛ لأن الموكل نفسه يملك القبض فيه لا في غيره، وبالقبض يبرأ المدين (2) .
وتجوز الوكالة بقضاء الدين، لأن الموكل يملك القضاء بنفسه، وقد لايتهيأ له القضاء بنفسه، فيحتاج إلى التفويض إلى غيره.
وتجوز الوكالة بالإبراء من الدين؛ لأنه إذا جاز التوكيل في إثباتها واستيفائها، جاز التوكيل في الإبراء عنها.
وتجوز الوكالة بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة؛ لأن هذه حقوق يتولاها المرء بنفسه، فيملك توليتها غيره.
ويجوز التوكيل بالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والصلح عن إنكار؛ لأنه يملك هذه التصرفات بنفسه، فيملك تفويضها إلى غيره.
ويجوز أيضاً بالهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والاستعارة والارتهان والاستيهاب (أي طلب الهبة من الغير) كما ذكر.
ويجوز بالشركة والمضاربة أيضاً، كما يجوز بالإقراض والاستقراض، إلا أن في التوكيل بالاستقراض لا يملك الموكل ما استقرضه الوكيل إلا إذا قال: (أرسلني فلان إليك ليستقرض كذا) وحينئذ يكون المرسل رسولاً، لا وكيلاً.
__________
(1) مغني المحتاج: 221/2، المهذب: 349/1.
(2) البدائع، المرجع السابق.(5/708)
ويجوز التوكيل بالصلح والإبراء، كما يجوز بالطلاق والإجارة والاستئجار لما ذكر.
ويجوز بالسلم والصرف، لأنه يملكها بنفسه، فيملك تفويضهما إلى غيره، ولكن بشرط قبض البدل في مجلس العقد، كما هو معروف (1) .
إلا أن بعض هذه العقود لا يصح للوكيل فيها أن يسندها إلى نفسه، بل لا بد من إسنادها إلى الموكل، ومنها النكاح، فلا بد من أن يقول الوكيل: (قبلت الزواج لفلان موكلي) أو (زوجت فلانة موكلتي) فإذا قال: (قبلت الزواج) ولم يقيده بأحد غيره، أو قال: (قبلت الزواج لنفسي) فإنه ينعقد له، لا لموكله.
ومنها ـ الهبة فإنه لا بد من أن يقول الوكيل فيها: (وهب موكلي) فإذا قال: (وهبت) لا تصح الهبة.
ومنها ـ الصلح عن دم العمد، والصلح عن إنكار: فإذا ادعى شخص على آخر مئتي درهم، فأنكر المدعى عليه، ثم وكل من يصالح على مئة، فإنه لا بد في الصلح من أن يقول الوكيل: (قبلت الصلح لفلان على مئة مثلاً) وإلا لم يصح الصلح. وهذا بخلاف الصلح عن إقرار فإنه يصح إضافته إلى الوكيل والموكل.
ومنها ـ التصدق: فإذا وكله في أن يتصدق من ماله بكذا، فإنه ينبغي للوكيل أن يضيف الصدقة إلى موكله، وإلا كانت من ماله.
ومنها ـ الإيداع والإعارة والرهن والشركة والمضاربة،
__________
(1) راجع البدائع: 23/6، بداية المجتهد: 297/2، مغني المحتاج: 220/2 ومابعدها، المغني: 81/5، المهذب: 348/1، تكملة فتح القدير: 21/6 ومابعدها.(5/709)
فلا بد من إضافتها إلى الموكل (1) .
والخلاصة: إن كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه، جاز أن يوكل به غيره، كما قال الحنفية (2) .
وتجوز الوكالة بفسخ العقود؛ لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها، ففي فسخها أولى.
وأما التوكيل في تملك المباحات وتحصيلها: كإحياء الموات وسقاية الماء والاصطياد والاحتشاش واستخراج المعادن، فلا يجوز عند الحنفية، فإذا حصل الوكيل على شيء مما ذكر فهو له، وليس للموكل منه شيء. ويجوز عند المالكية وعند الشافعية في الأظهر، وعند الحنابلة، لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز التوكيل فيه كسائر أسباب الملك من بيع أو هبة ونحوهما (3) .
أما الوكالة بالخصومة كالمحاماة اليوم: فتجوز في حقوق الناس، لما روي أن علياً وكل عقيلاً في الخصومة عند أبي بكر وعمر، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (4) ، ولأن الحاجة تدعو إلى التوكيل فيها، إذ قد لا يحسن المرء الدفاع عن حقوقه، أو يكره أن يتولى الخصومة بنفسه (5) .
وأما التوكيل بالبيع والشراء: فيجوز بلا خلاف بين الفقهاء، لأنهما مما يملك الموكل مباشرتهما بنفسه، فيملك التفويض إلى غيره، إلا أن لجواز التوكيل بالشراء شرطاً: وهو الخلو عن الجهالة الكثيرة إذا كانت الوكالة خاصة.
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 233/3.
(2) راجع البداية: 109/3.
(3) المراجع السابقة.
(4) سنن البيهقي: 81/6.
(5) الهداية: 136/2، مختصر خليل: ص 216، المهذب: 148/1، المغني: 81/5.(5/710)
وبيان المذكور عند الحنفية أن التوكيل بالشراء نوعان: عام وخاص (1) :
الوكالة العامة: كأن يقول الموكل: اشتر لي ما شئت أو ما رأيت، أو أي ثوب شئت أو أي دار شئت ونحوها. وهي تصح مع الجهالة الفاحشة من غير بيان النوع والصفة والثمن؛ لأنه فوض الرأي إليه، فتصح مع الجهالة الكثيرة، كما في عقد المضاربة.
ووافق المالكية الحنفية في تجويز الوكالة العامة، ويدخل فيها جميع ما تصح فيه النيابة من الأمور المالية والزواج والطلاق وغيرها، إلا ما يستثنيه الموكل من الأشياء.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح التفويض العام، كأن يوكله في كل قليل وكثير، لوجود الغرر الكثير الذي لا ضرورة إلى احتماله.
والوكالة الخاصة: كأن يقول الموكل: اشتر لي ثوباً أو بيتاً أو جوهراً أو شاة ونحوها، ويتنازع أمر الجهالة فيها قياس واستحسان. فالقياس: أنها لا تصح مع الجهالة قليلة كانت أم كثيرة، فلا بد من بيان الجنس والنوع والصفة ومقدار الثمن؛ لأن البيع والشراء لا يصحان مع الجهالة اليسيرة، فلا يصح التوكيل بهما أيضاً.
والاستحسان: أن الجهالة اليسيرة لا تؤثر، وإنما تؤثر الجهالة الكثيرة في صحة التوكيل. وجه الاستحسان: ما ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم «دفع ديناراً إلى حكيم ابن حزام ليشتري له به أضحية» .
ولو كانت الجهالة القليلة ما نعة من صحة التوكيل بالشراء، لما فعله الرسول عليه السلام؛ لأن جهالة الصفة لا ترتفع بذكر الأضحية وقدر الثمن، ولأن الجهالة القليلة في باب الوكالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن مبنى التوكيل على المسامحة.
وضابط الجهالة القليلة: هو أنه إذا كان اسم ما وكل بشرائه مما لا يتناول إلا نوعاً واحداً، وذكر فيه أحد أمرين: إما الصفة أو مقدار الثمن، فتكون الجهالة قليلة.
وأما إذا كان اسم ما وكل بشرائه يتناول أنواعاً مختلفة أو في حكم الأنواع المختلفة، فإن الجهالة تكون كثيرة، فلا تجوز الوكالة إلا إذا بين النوع الموكل بشرائه، ولا يكفي بيان مقدار الثمن أو الصفة.
وعلى هذا فإن الجهالة اليسيرة: هي جهالة النوع المحض أي الذي لا تتفاوت قيم آحاده تفاوتاً فاحشاً.
وأما الجهالة الكثيرة: فهي جهالة الجنس. وعلى هذا، يغتفر الحنفية من الغرر في الوكالة ما لا يغتفرونه في البيع، والجهالة التي اعتبروها هنا: هي جهالة فاحشة مانعة من صحة البيع عند
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 328، تحفة الطلاب: ص 169، غاية المنتهى: 151/2.(5/711)
أكثرهم ومن لزومه عند بعضهم (1) .
من أمثلة الجهالة القليلة ما يلي:
إذا قال الموكل للوكيل: (اشتر لي صوفاً انكليزياً أو هندياً أو يابانياً) تصح الوكالة لأنه بين الصفة، أو قال: (اشتر لي صوفاً بألف ليرة) تصح الوكالة، لأنه بين مقدار الثمن.
ولو قال: (اشتر لي حماراً أو بغلاً أو فرساً أو بعيراً) ولم يبين له صفة ولا ثمناً، قالوا: تصح الوكالة؛ لأن النوع معلوم، وهو لا يختلف باختلاف أفراده، وأما الصفة فهي معلومة هنا أيضاً، وذلك بحسب حال الموكل.
ولو قال (اشتر لي شاة أو بقرة) ولم يذكر صفة ولا ثمناً: لا تصح الوكالة؛ لأن الشاة والبقرة لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل، ولا بد من أن يكون أحدهما معلوماً كما ذكر.
ومن أمثلة الجهالة الكثيرة ما يأتي:
إذا قال الموكل للوكيل: اشتر لي حيواناً أو ثوباً أو دابة أو أرضاً أو جوهراً أو حنطة أو داراً ونحوها، لا تصح الوكالة لوجود الجهالة الفاحشة؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء اسم يقع على أنواع مختلفة، الثوب مثلاً يطلق على ثوب الحرير والقطن والكتان والصوف ونحوها، فكان لا بد من ذكر نوع معين بأن يقول: اشتر لي ثوباً قطنياً من صنع دمشق مثلاً، أو يقول: (اشتر لي حنطة بثمن كذا، أو بوزن كذا) (1) .
__________
(1) رسالة الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق الأمين: ص 559.
(2) راجع المبسوط 38/19 ومابعدها، البدائع: 23/6، تكملة فتح القدير: 27/6 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار: 420/4، تكملة رد المحتار: 365/7.(5/712)
المبحث الثالث ـ أحكام الوكالة:
إذا وقعت الوكالة صحيحة كان لها أحكام تتعلق بالتصرفات التي يملكها الوكيل، وبالحقوق التي ترجع له في التوكيل بالبيع والشراء، وبحال المقبوض في يده، هل يعتبر أمانة أو مضموناً؟
أولاً ـ تصرف الوكيل:
يترتب على الوكالة ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر هنا أنواع الوكالات لمعرفة أوجه التصرف التي يملكها الوكيل والتي لا يملكها.
1 - الوكيل بالخصومة (المحامي) :
أ - صلاحية الإقرار: الوكيل بالخصومة أي بالمرافعة أمام القاضي مثل المحامي اليوم، يملك الإقرار على موكله بغير القصاص والحدود عند جمهور الحنفية؛ لأن الوكيل بالخصومة وكيل بالجواب عن دعوى المدعي لبيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه. والجواب قد يكون إنكاراً، وقد يكون إقراراً (1) . وقيده أبو حنيفة ومحمد أن يكون الإقرار في مجلس القاضي، بينما لم يقيده أبو يوسف، فأجاز إقرار الوكيل في مجلس القاضي وغيره.
وقال زفر ومالك والشافعي وأحمد: إذا كانت الوكالة مطلقة، فلا تتضمن الإقرار على الموكل، فلو وكل رجلاً في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق وغيره؛ لأن الوكالة بالخصومة معناها التوكيل بالمنازعة، والإقرار مسالمة؛ لأنه معنى يقطع الخصومة، فهو يتنافى مع معنى الوكالة بالخصومة، فلا يملكه الوكيل فيها كالإبراء. وفارق الإقرار الإنكار: بأنه لا يقطع الخصومة، ولأن الوكيل لا يملك الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار، فلو ملك الإقرار لامتنع على الموكل الإنكار، وهو لا يجوز بدليل أن الوكيل لا يملك المصالحة عن الحق ولا الإبراء منه بدون خلاف (2) .
واستثنى المالكية حالة كون الوكيل عاماً وجعل له الموكل الإقرار في عقد الوكالة، وحالة اشتراط خصم الموكل أن يجعل الإقرار لوكيله، بأن يقول له: لاأتعاطى المخاصمة مع وكيلك حتى تجعل له الإقرار.
ومنشأ الخلاف في الحقيقة هو في قاعدة «هل الأمر المطلق الكلي يقتضي الأمر بشيء من جزئياته أو لا يقتضي؟» قال الحنفية: يقتضي ما ذكر، لاشتمال الكلي على الجزئي ضرورة، فيصح إقرار الوكيل بالخصومة.
__________
(1) البدائع: 24/6، تكملة فتح القدير: 10/6، المبسوط: 4/19 ومابعدها، الدر المختار: 430/4، الكتاب مع اللباب: 151/2.
(2) بداية المجتهد: 297/2، الشرح الكبير: 379/3، المهذب: 351/1، المغني: 91/5.(5/713)
وقال غير الحنفية: لا يقتضي ما ذكر، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا فرد من أفراده، فلم يصح إقرار الوكيل بالخصومة؛ لأن اللفظ من حيث إطلاقه لا يتناوله، والقرينة العرفية إن لم تنفه فلا تقتضيه.
وبناء عليه قال الجمهور غير الحنفية:
ليس للوكيل المطلق ببيع شيء كأن يقول الموكل للوكيل: بع هذه العين، أن يبيعه بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل ولا بدون ثمن المثل، ولا بالنقد ولا بالنسيئة، إذ لا اختصاص للجنس بنوع من أنواعه ولا فرد من أفراده، وإنما ملك البيع بثمن المثل، لقيام القرينة الدالة على الرضا بسبب العرف (1) .
ثم إن الحنفية القائلين بجواز إقرار الوكيل اختلفوا في مكان صحته:
فقال أبو حنيفة ومحمد: يصح إقرار الوكيل في مجلس القاضي لا في غيره، فيما عدا الحدود والقصاص؛ لأن الموكل فوض الأمر إليه، لكن في مجلس القضاء؛ لأن التوكيل هو بالخصومة أو بجواب الخصومة، وكل ذلك يختص بمجلس القاضي، بدليل أن الجواب لا يلزم في غير مجلس القاضي.
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول: ص 100.(5/714)
وقال أبو يوسف: يصح إقرار الوكيل في مجلس العقد وفي غيره؛ لأن التوكيل تفويض ما يملكه الموكل إلى غيره، وإقرار الموكل لا تقف صحته على مجلس القاضي، فكذا إقرار الوكيل (1) .
واتفق الحنفية على أنه إذا وكل بالخصومة، واستثنى الإقرار وتزكية الشهود في عقد الوكيل يصح، ويكون وكيلاً بالإنكار. وإذا كان الاستثناء بكلام منفصل عن العقد بعد أن تم التوكيل مطلقاً، فيصح عند أبي يوسف. ولا يصح عند محمد.
واتفق العلماء على أن إقرار الأب والوصي وأمين القاضي على الصغير لايصح.
ب ـ صلاحية القبض: إن الوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي به يملك قبضه عند جمهور الحنفية، وعند زفر: لا يملك، ودليله: أن المطلوب من الوكيل بالخصومة الاهتداء إلى الحق، ومن الوكيل بالقبض الأمانة، وليس كل من يهتدي إلى شىء يؤتمن عليه، فلا يكون التوكيل بالخصومة توكيلاً بالقبض.
ورد جمهور الحنفية على دليل زفر بأن الموكل لما وكل غيره بالخصومة فقد ائتمنه على قبضه؛ لأن الخصومة فيه لا تنتهي إلا بالقبض، فكان التوكيل بها توكيلاً بالقبض (2) .
قال صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال (3) .
وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل بالخصومة لا يملك القبض؛ لأنه غير مأذون به صراحة ولا عرفاً، إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت حقه يرضاه لقبضه (4) .
جـ ـ صلاحية الصلح والإبراء: لا يملك الوكيل بالخصومة عند الحنفية والشافعية المصالحة عن الحق الموكل به ولا الإبراء عنه (5) .
د ـ توكيل الوكيل بالخصومة غيره: ليس للوكيل بالخصومة أن يوكل غيره، إلا إن أذن له الموكل؛ لأن الناس متفاوتون في الكفاءة في الخصومة، وقد رضي الموكل برأي الوكيل لا برأي غيره (6) .
2 - الوكيل بتقاضي الدين (7) : إن أصل المنقولة عن أئمة الحنفية تقضي بأن الوكيل بتقاضي الدين يملك قبض الدين؛ لأن حق التقاضي لا يتم المقصود منه إلا بالقبض، فكان التوكيل به توكيلاً بالقبض، ولأن التقاضي بمعنى القبض في الوضع اللغوي، يقال: تقاضيته ديني وبديني، واقتضيته ديني واقتضيت منه حقي أي أخذته. وقال في القاموس: وتقاضاه الدين: قبضه منه.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 102/6 ومابعدها.
(2) البدائع: 6 ص 24 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 96/6.
(3) تكملة فتح القدير: 97/6، المبسوط: 19/19، مجمع الضمانات: ص 261.
(4) المهذب: 351/1، المغني: 91/5.
(5) تكملة ابن عابدين: 365/7، المهذب: 351/1.
(6) المبسوط: 12/19.
(7) تقاضي الدين لغة: هو أخذ الدين، وعرفاً: هو المطالبة بالدين، والعرف قاضٍ على اللغة، كما هو معروف.(5/715)
ولكن المتأخرين من الحنفية قالوا: إن الوكيل بتقاضي الدين لا يملك القبض عرفاً؛ لأن الناس في هذا الزمان فسدت أحوالهم، فلا يرضون بقبض الوكلاء لتهمة الخيانة في أموال بعضهم بعضاً. وهذا هو المفتى به عملاً بتعارف الناس، والعرف قاض على أصل وضع المذهب (1) .
والوكيل بتقاضي الدين لا يملك أن يوكل غيره؛ لأن الناس يتفاوتون في التقاضي، فقد يتضايق المدين من تقاضي بعض الناس.
3 - الوكيل بقبض الدين: اختلف أئمة الحنفية في أن الوكيل بقبض الدين، هل يملك الخصومة في إثبات الدين إذا أنكر المدين أو لا؟
فقال أبو حنيفة: يملك الخصومة في إثبات الدين، حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل الدين من المدين أو إبرائه المدين عن الدين تقبل البينة. ودليله: أن التوكيل بقبض الدين توكيل بالمبادلة (أي أن يتملك المقبوض بمقابلة ما في ذمة المدين قاصاً) والحقوق في مبادلة المال بالمال تتعلق بالعاقد كما في البيع والإجارة، والوكيل هنا هو العاقد.
__________
(1) انظر البدائع: 25/6، تكملة فتح القدير: 97/6، المبسوط: 67/19 ومابعدها، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 429/4، الكتاب مع اللباب: 150/2.(5/716)
ولإيضاح كون قبض الدين يعتبر مبادلة قيل: إن الديون تقضى بأمثالها؛ لأن قبض نفس الدين غير متصور استيفاؤه، لأنه وصف ثابت في ذمة من عليه الدين، فكان استيفاء الدين عبارة عن نوع مبادلة، وهو مبادلة ما يأخذه عيناً بما في ذمة المدين، فأشبهت هذه العملية عملية البيع، وحقوق عقد البيع يمارسها العاقد نفسه، فإذا كان البيع قد تم بواسطة وكيل عن البائع، فإن الوكيل هو المسؤول أمام المشتري عن كل ما يتعلق بالتزامات العقد مثل تسليم المبيع وكونه خالياً من العيوب ونحوهما، كما أنه هو الذي يطالب بتسليم الثمن.
وقال الصاحبان: إن الوكيل بقبض الدين لا يكون وكيلاً بالخصومة؛ لأن القبض هو استيفاء عين الحق، فهو غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي إلى وجه الخصومة، فلا يكون الرضا بالقبض رضا بالخصومة.
واتفق الحنفية على أن الوكيل بقبض العين كالكتاب مثلاً لا يملك الخصومة، لأنه أمين محض حيث لا مبادلة هنا، لكونه وكيلاً بقبض عين حق الموكل، والقبض ليس بمبادلة، فأشبه الرسول. وعلى هذا إذا وكل إنسان غيره بقبض كتاب له من شخص آخر، فأقام من بيده الكتاب بينة على أن الموكل باعه إياه، وقف الأمر حتى يحضر الموكل.
واتفقوا أيضاً على أن الوكيل بملازمة المدين ليحمله على وفاء الدين: لا يملك قبض الدين ولا الخصومة فيه.
وكذلك اتفق أئمة الحنفية الثلاثة على أن الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض؛ لأن من ملك شيئاً ملك تمامه، وتمام الخصومة بالقبض. وقال زفر: ليس وكيلاً بالقبض لأن الموكل رضي بخصومته والقبض غير الخصومة، ولم يرض به. والفتوى على قول زفر، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال.(5/717)
أما الوكيل بطلب الشفعة أو بالرد بالعيب أو بالقسمة فإنه يملك الخصومة بالاتفاق أيضاً؛ لأن الوكيل بأخذ الشفعة وكيل بالمبادلة؛ لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء، وكذا الرد بالعيب والقسمة فيهما معنى المبادلة، فكانت الخصومة فيها من حقوقها (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: إن الوكيل بقبض الدين أو العين يكون وكيلاً بالخصومة في إثباته في أحد الوجهين؛ لأنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالإثبات، فكان إذناً فيه عرفاً، ولأن القبض لا يتم إلا به. وفي وجه آخر لا يكون وكيلاً بالخصومة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن في الإثبات لا نطقاً ولا عرفاً؛ لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للإثبات. وكذلك هناك وجهان عندهم في الوكالة لطلب الشفعة أو قسمة شيء (2) .
ويظهر لنا أن الأصح من الوجهين هو الثاني عند الشافعية، والأول عند الحنابلة.
وهناك أحكام أخرى عند الحنفية تتعلق بالوكيل بالقبض، منها:
توكيل الوكيل بالقبض غيره: القاعدة العامة هي أن الوكيل لا يجوز له أن يوكل غيره فيما وكل به، بدون إذن موكله أو أن يقول له: اعمل برأيك؛ لأن الموكل رضي برأيه وأمانته وحده، والناس متفاوتون في الآراء والأمانة. ولكن مع هذا ينبغي أن نقسم الوكالة عند الحنفية إلى قسمين لمعرفة مدى انطباق هذه القاعدة، وهما: الوكالة العامة والوكالة الخاصة.
فإذا كانت الوكالة عامة: بأن قال الموكل وقت التوكيل بالقبض: اصنع ما شئت، أو ما صنعت من شيء فهو جائز علي، أو نحوه، فإنه يجوز للوكيل أن يوكل غيره بالقبض، عملاً بمقتضى العموم.
وإذا كانت الوكالة خاصة: بأن لم يقل الموكل لفظاً يشعر بعموم الإذن بالتصرف، فإنه لا يجوز للوكيل أن يوكل غيره بالقبض؛ لأن الوكيل يتصرف بتفويض الموكل، فيملك قدر ما فوض إليه.
__________
(1) المبسوط: 17/19، البدائع: 25/6، تكملة فتح القدير: 99/6-102، رد المحتار: 429/4، الكتاب مع اللباب: 150/2....
(2) المهذب: 351/1، المغني: 91/5 ومابعدها.(5/718)
فإن وكل مع ذلك وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ المدين من الدين، لأن توكيله بالقبض إذا لم يصح، فقبضه وقبض الأجنبي سواء، إلا إذا وصل ما قبض إلى الوكيل الأول، فيبرأ المدين من الدين، لأنه وصل إلى يد من هو نائب الموكل في القبض.
فإن هلك المقبوض في يد القابض قبل أن يصل إلى الوكيل الأول، ضمن القابض للمدين، وكان للدائن أن يأخذ الدين من المدين؛ لأن التوكيل بالقبض لم يصح، فإذا أخذه منه، رجع على من دفعه إليه، فيرجع هذا بما ضمن على الوكيل الأول إن هلك ما قبض في يده، لأنه صار مغروراً به من جهته بتوكيله بالقبض، فيرجع عليه، إذ كل غار ضامن للمغرَّر به بما لحقه من المسؤولية من جهة ضمان الكفالة (1) .
وقال المالكية: ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به أمر حقير، فله التوكيل حينئذ (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: ليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به بلا إذن الموكل متى كان قادراً على ما وكل فيه، أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما وكل فيه فله أن يوكل غيره (3) .
أخذ العوض عن الدين: ليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عيناً مكان الدين؛ لأن هذا يعتبر معاوضة، وعقد المعاوضة ليس من صلاحية الوكيل بالقبض، لأنه موكل بقبض الحق لا غير، لا بالاستبدال ولا بالاعتياض (4) .
توكيل اثنين بقبض الدين: لو وكل إنسان وكيلين بقبض دينه، فليس لأحدهما أن ينفرد بالقبض دون صاحبه؛ لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما، فإن قبض أحدهما لم يبرأ الغريم، حتى يصل ما قبض أحدهما إلى
__________
(1) البدائع: 25/6، تكملة فتح القدير: 89/6 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 388/3.
(3) مغني المحتاج: 226/2، المغني: 88/5.
(4) البدائع، المرجع السابق: ص 26.(5/719)
صاحبه، فيقع المقبوض في أيديهما جميعاً، أو يصل إلى الموكل؛ لأن المقصود بالقبض قد حصل، فكأنهما قد قبضاه من ابتداء الأمر (1) .
قبض الشيء معيباً: لو أن الوكيل بقبض الدين قبضه، فوجده معيباً، فما كان للموكل رده فله رده، وأخذ بدله، لأنه قائم مقام الموكل، فهو يملك قبض حقه أصلاً ووصفاً، فكذا الوكيل (2) .
ادعاء الوكالة عن الغائب في قبض الدين: إذا ادعى إنسان أنه وكيل فلان الغائب في قبض دينه، فصدقه المدين، أمر بتسليم الدين إليه (3) ؛ لأن تصديق المدين إياه معناه: أنه أقر بالدين على نفسه، ومن أقر على نفسه بشيء أمر بتسليمه إلى المقر له.
وحينئذ إذا حضر رب الدين الغائب، فصدق مدعي الوكالة بأنه وكيله، فبها ونعمت، وإن لم يصدقه، فهناك ثلاثة أوجه:
أحدها: إن صدق المدين مدعي الوكالة، ودفع الدين إليه، فإنه يدفع إلى الدائن دينه مرة أخرى؛ لأنه إذا أنكر الوكالة، لم يثبت للدائن استيفاء حقه، والقول في إنكار الوكالة قول رب الدين مع يمينه؛ لأن الدين كان ثابتاً، والمدين يدعي أمراً عارضاً وهو سقوط الدين بأدائه إلى الوكيل، ورب الدين ينكر الوكالة، ومن المعروف أن القول قول المنكر مع يمينه، وإذا لم يثبت الاستيفاء يفسد الأداء إلى مدعي الوكالة، وحينئذ يجب الدفع ثانية إلى رب الدين؛ لأن أداء الدين واجب على المدين، ثم يرجع المدين بما دفعه ثانياً على مدعي الوكالة إن كان المال باقياً في
__________
(1) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 86 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(3) أي إلى مدعي الوكالة.....(5/720)
يده؛ لأن غرض المدين من الدفع إلى الوكيل براءة ذمته من الدين، ولم تحصل تلك البراءة، فيحق للمدين أن ينقض قبض الوكيل. وإن كان ما دفعه إليه، ضاع في يده، لم يرجع المدين على الوكيل؛ لأن المدين بتصديق الوكيل اعترف أن الوكيل محقّ في القبض، والمحق في القبض لا رجوع عليه، ولأن المدين بتصديقه اعترف أنه مظلوم في أخذ الدين مرة ثانية، والمظلوم لا يظلم غيره.
ولكن إذا قال مدعي الوكالة: إني وكيل فلان الغائب بقبض الوديعة التي عندك، فصدقه الوديع، لم يؤمر بالتسليم إليه؛ لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف الدين، لأن الدين حق شخصي ثابت في الذمة، فيلزم المدين إذا صدق المدعي بتسليمه الدين عملاً بإقراره، أما في حالة الوديعة فلا يلزم بتسليمها إلى مدعي الوكالة؛ لأن حق المودع فيها حق عيني، وهو الملكية المتعلقة بعينها، فلا يعمل بإقراره لمساسه بحق الغير. أما الدين فيقتصر أثر الإقرار فيه على المقر فينفذ.
والثاني: إن صدق المدين مدعي الوكالة وضمنه عند الدفع بأن يقول له: اضمن لي ما دفعته عن الدائن، حتى لو أخذ مني الدائن ماله آخذ منك ما دفعته إليك، فإن المدين يرجع على الوكيل حينئذ بما دفعه له أولاً؛ لأن الذي أخذه الدائن منه مرة ثانية ضامن له في زعم الوكيل والمدين؛ لأن الدائن في نظرهما يعتبر غاصباً فيما يقبضه ثانياً. وكأن هذا يعتبر كفالة من مدعي الوكالة كما لو قال: «أنا ضامن لك ما يقبضه منك فلان» ، وهذه الكفالة صحيحة؛ لأنها كالكفالة المضافة إلى وجوب شيء في المستقبل على المكفول عنه، أي بما يجب على إنسان في المستقبل.(5/721)
والثالث: إذا كذب المدعي مدعي الوكالة، أو لم يصدق ولم يكذب ومع ذلك دفع الدين إليه على ادعائه، فإن رجع صاحب المال على المدين، رجع المدين على الوكيل، لأنه إذا كذبه، صار الوكيل في حقه، بمنزلة الغاصب، وللمغصوب منه حق الرجوع على الغاصب قطعاً. وإذا لم يصدقه ولم يكذبه في ادعاء الوكالة، فهو إنما دفع إليه على رجاء أن يجيزه صاحب المال، فإذا انقطع رجاؤه بسبب أخذ الدائن حقه منه، رجع المدين الغريم على الوكيل (1) .
4 - الوكيل بالبيع: الوكيل بالبيع إما أن يكون مطلق التصرف أو مقيد التصرف. فإن كان مقيد التصرف، فيراعى فيه القيد بالاتفاق، فإذا خالف قيده، لا ينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على إجازته إلا إذا كانت مخالفته إلى خير؛ لأنه محقق لمقصوده ضمناً. بيانه بالمثال: أن يقول الموكل: بع بستاني هذا بألف ليرة، فباعه بأقل من ألف، لا ينفذ لأنه خلاف إلى شر، وإن باعه بأكثر من ألف ليرة نفذ لأنه خلاف إلى خير. وإذا وكله بالبيع نقداً، فباع مؤجلاً لم ينفذ، بل يتوقف على إجازة الموكل. أما إذا وكله بالبيع مؤجلاً فباع نقداً نفذ.
وإذا وكله بالبيع في مكان معين لكون الثمن فيه أجود أو أكثر، لا يجوز له البيع في غيره عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه قد يفوت غرضه. وكذا عند الحنفية إن أكده بالنفي، فقال له: لا تبعه إلا في سوق كذا.
وإذا وكله بالبيع في زمان معين، لزمه بيعه فيه؛ لأنه قد يحقق له مصلحة أو حاجة في ذلك الزمان بعينه.
وإذا وكله بالبيع من رجل بعينه، لا يجوز له أن يبيعه لغيره؛ لأنه قد يؤثر الموكل تمليك هذا الرجل دون غيره.
وإذا وكله بالبيع بمئة مثلاً، لا يجوز أن يبيع بأقل منها، لفوات المقدار المنصوص عليه، ومخالفته للإذن الصادر.
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 113/6 ومابعدها، البدائع: 26/6، مجمع الضمانات: ص 253، الكتاب مع اللباب: 152/2.(5/722)
وإن كان الوكيل مطلق التصرف، فيعمل بمقتضى الإطلاق عند أبي حنيفة، فيجوز له أن يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً، وإن كان بغبن فاحش، أو كان الثمن عيناً أو ديناً في الذمة. دليله: أن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل كوجود تهمة، فيتناول كل ما يطلق عليه البيع، ولا يعتمد على العرف؛ لأن العرف متعارض، فإن البيع بغبن فاحش ليتوصل بثمن المبيع إلى شراء ما هو أربح منه متعارف أيضاً، فلا يجوز تقييد المطلق مع تعارض العرف.
وقال الصاحبان وبه أخذ الطحاوي وهو الراجح المفتى به عند الحنفية: لا يجوز للوكيل بالبيع مطلقاً أن يبيع إلا بالنقود الرائجة في البلد (أي الأثمان المطلق في اصطلاح الفقهاء) وبمثل القيمة، فلا يجوز البيع إلا بما يتغابن الناس فيه عادة، والمقدار الذي يتغابن الناس فيه عند الطحاوي كما ذكر محمد في الجامع الصغير: هو نصف العشر فأقل منه، ودليلهما: أن الوكالة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى البيع المتعارف، والبيع بغير النقود أوبغبن فاحش ليس بمتعارف، وإنما المتعارف هو البيع بالنقود وبثمن المثل، فيتقيد الإطلاق بالعرف، كما في التوكيل بالشراء (1) .
والصحيح في تقدير الغبن الذي يفصل بين الغبن اليسير والغبن الفاحش: هو ما روي عن محمد رحمه الله في النوادر: وهو أن كل غبن يدخل تحت تقويم المقومين، فهو يسير، وما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو فاحش (2) .
__________
(1) البدائع: 27/6، مختصر الطحاوي: ص 111، تكملة ابن عابدين: 383/7، تكملة فتح القدير: 70/6 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص 249، مختصر خليل: ص 216 ومابعدها، المجموع: 563/13، المهذب: 353/1 وما بعدها، الكافي لابن قدامة: 254/2، طبع المكتب الإسلامي، كشاف القناع: 463/3 ومابعدها.
(2) تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 76-77، البدائع: 30/6، الدر المختار: 425/4.(5/723)
وضبطاً للمقاييس القضائية حددت مجلة الأحكام العدلية (م 165) الغبن الفاحش بما يعادل 5% في المنقولات، و 10% في الحيوان، والخمس أو 20% في العقارات، أو أزيد من ذلك، وما دونه غبن يسير.
وقال جمهور العلماء بما قال به الصاحبان، فلم يجيزوا البيع بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن الإضرار بالموكل، مأمور بالنصح له، كما لم يجيزوا البيع بغير نقد البلد (أي بلد البيع) بدلالة القرينة العرفية عليه (1) . فإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما، وإن استويا باع بما هو أنفع للموكل.
ويجري هذا الخلاف في صفة البيع نقداً أو نسيئة: فقال أبو حنيفة: يملك الوكيل البيع بالنقد وبالنسيئة، لإطلاق الوكالة.
وقال الصاحبان وجمهور العلماء: لا يملك الوكيل إلا البيع بالنقد أي حالاً غير مؤجل؛ لأن الأصل في البيع النقد، وإنما يحصل التأجيل لظروف طارئة كما في أحوال الكساد (2) .
وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له بالاتفاق أن يشتري إلا بثمن المثل أو بما يتغابن الناس في مثله عادة، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله. ففي الوكالة بالشراء يتفق أبو حنيفة مع بقية العلماء. والسبب في تفرقته بين البيع والشراء: هو أن الشراء يشتمل على التهمة، فإن الوكيل الذي يشتري الشيء الموكل به يستحسن
__________
(1) الشرح الكبير: 382/3، المهذب: 353/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 223/2 ومابعدها، المغني: 124/5، بداية المجتهد: 298/2، قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ط الاستقامة: 107/2.
(2) المراجع السابقة.(5/724)
هذا الشيء فيشتريه لنفسه، فإذا لم يوافقه بأن تبين فيه الغبن، ألحق الشراء بغيره وهو الموكل، ومثل هذه التهمة غير متحققة في البيع (1) .
بيع الوكيل بعض الموكل ببيعه: إذا باع الوكيل بعض الموكل ببيعه فهو على وجهين:
أـ إن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه، جاز باتفاق الحنفية، وذلك مثل المكيل والموزون، أو بيع شيئين كدارين، فباع إحداهما، جاز اتفاقاً.
ب ـ وإن كان في تبعيضه ضرر بأن وكله ببيع كتاب، فباع نصفه، جاز عند أبي حنيفة رحمه الله. وعند الصاحبين والشافعية والحنابلة: لا يجوز إلا بإجازة الموكل، أو بيع النصف الباقي، دليلهم: أن التوكيل ينصرف إلى المتعارف، وبيع النصف غير متعارف، لما فيه من ضرر الاشتراك بملكية الأعيان، ويجب دفع الضرر.
ودليل أبي حنيفة: هو أنه كما يجوز للوكيل بيع الكل بهذا القدر من الثمن الذي باع به، يجوز بيع البعض به من باب أولى؛ لأنه نفع موكله حيث أمسك البعض على ملكه.
وأما الوكيل بالشراء: فلا يجوز له باتفاق الحنفية أن يشتري البعض إلا بإجازة الموكل، أو بشراء البعض الآخر. والفرق بين الوكيل بالشراء والوكيل بالبيع عند أبي حنيفة: هو أن الشراء تتحقق فيه التهمة بعكس البيع، كما عرفنا، فلا يجوز للوكيل بالشراء أن يشتري البعض بثمن الكل (2) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، تكملة الفتح، المرجع السابق: ص 75، رد المحتار: 424/4، تكملة المجموع: 573/13، المغني: 127/5.
(2) البدائع: 27/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 78/6 ومابعدها.(5/725)
أخذ الشافعية والحنابلة كما تقدم بمذهب الصاحبين في بيع بعض الموكل ببيعه (1) . وأما المالكية فقالوا: إن لفظ الموكل العام يتخصص بالعرف (2) . والعرف في بيع كتاب مثلاً أن يعقد على جميعه.
إبراء المشتري من الثمن: الوكيل بالبيع يملك عند أبي حنيفة إبراء المشتري من الثمن، وله أن يؤخره عنه كما له أن يأخذ عوضاً به أو أن يصالحه على شيء، أو يحال به على شخص آخر، ويكون حينئذ ضامناً الثمن للموكل. دليله: أن قبض الثمن من حق الوكيل. فتكون هذه التصرفات حقاً له، ولكن يضمن الثمن للموكل؛ لأنه وإن كان التصرف في حق نفسه، لكنه تعدى إلى ملك غيره بالإتلاف، فيجب عليه الضمان (3) .
ولا يملك الوكيل عند الصاحبين شيئاً مما ذكر؛ لأنه تصرف في حق الموكل بغير إذنه.
توكيل الوكيل بالبيع غيره: ليس للوكيل بالبيع بالاتفاق أن يوكل غيره بدون إذن موكله؛ لأن الوكالة ملحوظ فيها خصوص شخص الوكيل لاعتبارات تتعلق بالرأي والخبرة والأمانة ونحوها (4) . واستثنوا مما قالوا ما يأتي:
أـ أن يكون الموكل فيه مما لا يليق بمروءة الوكيل، كبيع دابة في السوق، والحال أن الوكيل شريف النفس لا يناسبه تولي مثل البيع بنفسه.
ب ـ أن يكون الموكل فيه كثيراً مما لايمكنه تولي العمل كله بنفسه إلا بمساعدة غيره.
جـ ـ أن يكون الموكل فيه مما يحتاج إلى مهارة خاصة كالهندسة ونحوها، والوكيل ليس أهلاً لذاك. وهذا في الوكيل الخاص، أما الوكيل العام عند الحنفية والمالكية فيجوز له توكيل غيره مطلقاً.
التصرفات المشبوهة أو المتهم فيها بالمحاباة: ليس للوكيل بالبيع أن يبيع لنفسه؛ لأنه متهم في تصرفه، ولأن حقوق العقد تعود إلى الوكيل، فيؤدي بيعه من نفسه إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً مطالِباً ومطالَباً، هذا محال. وبناء عليه اشترط الفقهاء لانعقاد البيع تعدد العاقد.
__________
(1) المهذب: 353/1، المغني: 126/5.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 381/3.
(3) البدائع: 28/6، مجمع الضمانات: ص 245.
(4) البدائع، المرجع السابق، تكملة ابن عابدين: 356/7، الشرح الصغير: 513/3، مغني المحتاج: 226/2، المغني: 88/5 ومابعدها.(5/726)
كما أنه ليس للوكيل عند أبي حنيفة أن يبيع أو يشتري بثمن المثل أو أقل (1) من أبيه وجده وولده وسائر من لا تقبل شهادته له كولد ولده وزوجته؛ لأن البيع من هؤلاء بيع من نفسه من حيث المعنى، لاتصال منافع ملك كل واحد منهم به (2) ، فكان في بيعه لهم تهمة بإيثار العين المبيعة لهم، بدليل أنه لا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه بخلاف الأجنبي.
وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء أي لا لنفسه بمثل القيمة؛ لأن التوكيل مطلق، والبيع من هؤلاء ومن شخص آخر أجنبي عنهم سواء، ولا تهمة هنا؛ لأن أملاكهم متباينة، فلا يملك أحدهم ما يملكه الآخر، وإذا كانت الأملاك متباينة تكون المنافع منقطعة فيما بينهم (3) .
__________
(1) أما بأكثر من ثمن المثل فيجوز.
(2) بدليل أن كل واحد منهم ينتفع بمال الآخر عادة، فصار مال كل واحد منهم كمال صاحبه من وجه.
(3) البدائع، المرجع السابق، تكملة فتح القدير: 67/6 ومابعدها، رد المحتار: 424/4، مجمع الضمانات: ص261.(5/727)
وقال المالكية: لا يجوز للوكيل أن يبيع ما وكل ببيعه لنفسه أو من في حِجْره من صغير أو سفيه أو مجنون، ويجوز أن يبيع لزوجته وولده الرشيد إذا لم يحابهما، وروي عن الإمام مالك أنه يجوز للوكيل أن يشتري الشيء لنفسه (1) .
وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد: لا يجوز للوكيل أن يبيع لنفسه وولده الصغير، ويجوز أن يبيع لأبيه وجده وابنه البالغ وسائر فروعه المستقلين؛ لأنه باع بالثمن الذي لو باع به لأجنبي لصح، فلا تهمة حينئذ، فهو كما لو باع من صديقه (2) . وبه يتبين أن الحنفية لا يجيزون مطلقاً بيع الوكيل لنفسه، وأما الجمهور فلا يجيزون هذا البيع إلا إن أذن له الموكل بالبيع. واشترط المالكية أيضاً شرطين آخرين:
1ً - أن يكون البيع بحضرة الموكل ولم ينكر عليه.
2ً - أن تتناهى الرغبات فيه ويسمى الثمن.
ومنع أبو حنيفة البيع للأصول والفروع والزوجة، وأجاز الجمهور البيع للأصول والزوجة بثمن المثل دون الفروع. ورأي أبي حنيفة أرجح لدي لا سيما في عصرنا بعداً عن التهمة.
والخلاصة: أن على الوكيل أن يلتزم بواجباته، وتنفيذ ما التزم به في حق الموكل. وعلى الموكل واجب تحمل الخسارة العارضة إن لم تكن بتعدٍ أو تقصير، وواجب دفع ما يستحقه الوكيل من أجر إذا كانت الوكالة مأجورة، وأدى الوكيل العمل المأمور به.
__________
(1) الشرح الكبير: 387/3 ومابعدها، المغني: 107/5 ومابعدها، الخرشي: 77/6 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 224/2 ومابعدها، المغني: 107/5 ومابعدها.(5/728)
5 - تصرفات الوكيل بالشراء: بينت حكم الجهالة في نوعي الوكالة بالشراء العامة والخاصة، وأبيّن هنا تصرفات الوكيل بالشراء في نوعي الوكالة المطلقة والمقيدة (1) .- إذا كانت الوكالة مقيدة فإنه يراعى فيها القيد ما أمكن، سواء أكان القيد راجعاً إلى الْمُشتَرى، أم إلى الثمن، فإذا خالف الوكيل لا يلزم الموكل بالشراء إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه.
مثال القيد العائد للمشتَرى: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة من صنع بلدة معينة، فاشترى ثلاجة من صنع بلدة أخرى، فلا يلزم الموكل بالشراء، ويلزم الوكيل؛ لأن الأصل في كل مقيد اعتبار القيد فيه إلا قيداً لا فائدة من اعتباره، وهذا القيد المذكور مفيد.
ومثال القيد العائد للثمن: أن يقول الموكل: اشتر لي ثلاجة بألف ليرة، فاشترى ثلاجة بأكثر من الألف، فيلزم الشراء بالوكيل دون الموكل؛ لأنه خالف أمر الموكل، فيصير مشترياً لنفسه.
وإن اشترى ثلاجة بثمان مئة ليرة، ومثله يشترى عادة بألف، لزم الشراء الموكل؛ لأن الخلاف إلى خير لا يكون خلافاً معنى.
وإن وكله بشراء شيء فاشترى بعضه: فإن كان في تبعيضه ضرر كالسيارة لم يلزم الموكل بشراء البعض، وإن لم يكن في تبعيضه ضرر، كالأرض الواسعة، لزم الموكل الشراء عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
ولو وكله بالشراء بالتقسيط أو مؤجلاً، فاشترى بثمن حالّ، لزم الشراء الوكيل، لأنه خالف قيد الموكل. فإن كانت الوكالة بالعكس، فاشترى بالتقسيط أو مؤجلاً، لزم الشراء الموكل؛ لأنه وإن خالف الوكيل مخالفة صورية، فقد وافق طلب الموكل في المعنى، والعبرة للمعنى لا للصورة.
ولو وكله أن يشتري ويشترط الخيار للموكل، فاشترى بغير خيار، لزم الشراء الوكيل.
وإذا وكله بشراء شيء بعينه، فاشترى الوكيل غيره، يكون الموكل عند الحنفية مخيراً بين القبول والرد، وعند الجمهور: إن الشراء لازم للوكيل.
وفي الجملة: إن القاعدة العامة هي أن الوكيل بالشراء إذا خالف أمر الموكل يكون عند الحنفية مشترياً لنفسه إلا إذا كان خلافاً إلى خير فيلزم به الموكل باتفاق الفقهاء، والوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل يتوقف بيعه على إجازة الموكل. والفرق بينهما كما عرفنا سابقاً: هو أن الوكيل بالشراء متهم في جعل الشراء لنفسه، فينفذ عليه (2) .
وبناء عليه: إذا وكله في شراء شاة بدينار فاشترى بالدينار شاتين يلزم الموكل بهما عند الحنفية؛ لأنه خلاف إلى خير. وكذا يلزم الموكل بهما بلا خيار عند المالكية. ويلزم بها عند الشافعية والحنابلةإن ساوت كل واحدة منهما أو إحداهما ديناراً (3) عملاً بقصة عروة البارقي وكيل النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) راجع التفصيل في البدائع: 29/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 75/6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 وما بعدها، المبسوط: 39/19، الدر المختار: 421/4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 249.
(2) المبسوط: 117/19.
(3) تكملة ابن عابدين: 311/7، مختصر خليل: ص 217، الخرشي: 75/6، المهذب: 355/1، تكملة المجموع: 584/13، المغني: 128/5.
- وإذا كانت الوكالة مطلقة فيراعى فيها الإطلاق ما أمكن إلا إذا قام دليل
__________(5/729)
على التقييد من عرف أو غيره، فيتقيد به. وعليه إذا وكل رجلاً بشراء دابة وسمى نوعها وثمنها، بأن قال: حماراً أو نحوه، فاشترى دابة عوراء، جاز الشراء ولزم الموكل، وكذا إذا اشترى دابة عمياء أو مشلولة اليدين أو الرجلين، ألزم الموكل بالشراء عند أبي حنيفة؛ لأن اسم الدابة بإطلاقها يقع على هذه الدابة، كما يقع على سليمة الأعضاء، فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل.
وقال الصاحبان: لا يلزم الموكل بهذا الشراء، ويلزم الوكيل به؛ لأن الدابة تشترى لاستخدامها عرفاً وعادة، وغرض الاستخدام لايحصل عند فوات جنس المنفعة، فيتقيد المشترى بالسلامة عن هذه الصفة بدلالة العرف.
وإذا وكِّل إنسان بشراء شيء وكالة صحيحة ولم يسمِّ له الموكل ثمناً، فاشترى الوكيل الشيء بمثل القيمة، أو بأقل من القيمة، أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها، جاز الشراء على الموكل. وإن اشترى الوكيل بزيادة لا يتغابن الناس في مثلها، يلزم الوكيل بالشراء؛ لأن الزيادة القليلة مما لا يمكن الاحتراز عنها، فجاز الشراء على الموكل، حتى لا يضيق الأمر على الوكلاء، ولتأمين حاجة الناس إلى الوكالات، وهذا هو الراجح لدى الحنفية.
وأما الزيادة الكثيرة فلا ضرورة فيها، لإمكان الاحتراز عنها (1) .
والضابط المميز بين الزيادة القليلة والكثيرة في الراجح عند الحنفية هو كما عرفنا سابقاً: إن كانت الزيادة داخلة تحت تقويم المقومين لثمن الشيء، فهي قليلة، وإن كانت غير داخلة تحت تقويمهم فهي كثيرة؛ لأن الزيادة حينئذ تكون متحققة.
__________
(1) الخلاصة أن الشراء بالغبن الفاحش لاينفذ على المشتري باتفاق أئمة الحنفية، أما البيع بغبن فاحش ففيه اختلاف، قال أبو حنيفة: ينفذ البيع على الموكل عملاً بإطلاق التوكيل، وقال الصاحبان: لا ينفذ البيع؛ لأن المطلق مقيد بالعرف، وهو الراجح.(5/730)
ومنعاً من الاختلاف: لا بد للموكل الذي يوكل غيره بشراء شيء من تسمية جنسه وصفته، أو جنسه ومقدار ثمنه، إلا أن يوكله وكالة عامة، فيقول: اشتر لي ما رأيت؛ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلاً في رأي أبي حنيفة خلافاً للصاحبين إذ يتقيد بالعرف والعادة (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إذا كانت الوكالة بالشراء مطلقة، فيلزم المشتري أن يشتري بثمن المثل، ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به من غير إذن الموكل؛ لأن الوكيل منهي عن الإضرار بالموكل، مأمور بالنصح له، وفي الزيادة على ثمن المثل في الشراء إضرار وترك للنصح (2) . ولا يشتري شيئاً معيباً مع العلم بالعيب؛ لأن الموكل لم يأذن له بشراء المعيب، وقد لا يتمكن الموكل من رد المبيع لهرب البائع، فيتضرر بذلك.
وإذا وُكل رجل بشراء شيء بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه، وإذا اشترى يقع الشراء للموكل؛ لأن شراءه لنفسه عزل لنفسه عن الوكالة، وهو لا يملك العزل إلا بمحضر من الموكل.
أما إذا وكل بشراء شيء بغير عينه، فيكون الشراء لنفسه، إلا أن ينويه للموكل. والوكيل بالشراء لا يملك الشراء من نفسه، كما لا يملكه الوكيل بالبيع، وهذا باتفاق الحنفية والشافعية والحنابلة وكذا المالكية؛ لأن حقوق العقد كما عرفنا ترجع عند الحنفية والشافعية إلى الوكيل، ولا يمكن أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، مطالِباً ومطالباً، ولأنه متهم في الشراء من نفسه. وروي عن الإمام مالك: أنه يجوز للوكيل أن يشتري من نفسه بثمن المثل فأكثر (3) .
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 142/3، 147.
(2) بداية المجتهد: 298/2، الشرح الكبير: 382/3، المهذب: 354/1، المغني: 124/5.
(3) بداية المجتهد، المرجع السابق، المغني: 107/5 ومابعدها، الميزان للشعراني: 85/2.(5/731)
ويجوز عند المالكية: أن يبيع الوكيل لزوجته وولده الرشيد إذا لم يحابهما، كما يجوز له الشراء منهما مما وكل فيه إذا لم يكن محاباة لهما وقت الشراء.
وكذلك لا يملك الشراء من أبيه وجده وولده وولد زوجته، وكل من لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فيجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها. وقد ذكرت أدلة مختلف الآراء في الوكالة بالبيع، وتعرف آراء المذاهب الأخرى في الشراء لنفسه وأصوله وفروعه من حكم البيع لنفسه.
وإذا وُكل إنسان بشراء طعام، فيراد به الحنطة والدقيق بقرينة الشراء في العرف.
وإذا وكل بشراء لحم ينصرف المقصود إلى اللحم الذي يباع في السوق، ويشتري الناس منه في الأغلب من لحم الضأن والمعز والبقر والإبل إن جرت العادة بشرائه، ولا ينصرف المراد إلى المشوي والمطبوخ إلا إذا كان مسافراً، ولا إلى لحم الطير والوحش والسمك ولا إلى شاة حية ولا إلى مذبوحة غير مسلوخة، لعدم جريان العادة بشرائه، ولا إلى البطن والكرش والكبد والرأس والكراع، لأنها ليست بلحم عرفاً.
ولو وكل إنسان بشراء سمك، فيراد به الطري الكبير، لا المملح ولا الصغير، لأن العادة كذلك.
ولو وكل بشراء الرأس، فيقصد منه الرأس النيء لا المطبوخ والمشوي ويحدد المطلوب برأس الغنم دون الإبل والبقر إلا في موضع جرت العادة بما اشتراه.
ولو وكل بشراء فاكهة، فله أن يشتري أي فاكهة تباع في السوق عادة. وإذا وكل بشراء البيض فيراد به بيض الدجاج. وإذا وكل بشراء لبن فيراد به ما يباع عادة في السوق من الغنم والبقر والإبل.
وبه يلاحظ أن المقصود فيما يوكل الإنسان بشرائه يتحدد بحسب العرف السائد عادة وفعلاً بحسب كل زمان ومكان.(5/732)
علاقة الوكيل بالشراء بموكله:
إذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله من غير صريح إذن الموكل وقبض المبيع، فله أن يرجع به على الموكل لوجود الإذن دلالة؛ لأن حقوق العقد كما سأبين لما كانت عائدة إلى العاقد وقد علم الموكل بالثمن، يكون راضياً بدفعه. فإن هلك المبيع في يد الوكيل قبل حبسه عن الموكل، هلك من مال الموكل، ولم يسقط الثمن؛ لأن يده كيد الموكل. وللوكيل بالشراء أن يحبس المبيع في يده حتى يستوفي الثمن، وإن لم يكن قد دفعه بعد؛ لأنه مع الموكل بمنزلة البائع. فإن حبسه لاستيفاء الثمن، فهلك في يده، كان مضموناً عليه ضمان الرهن عند أبي يوسف، فيضمن الأقل من قيمته ومن الثمن، وضمان الغصب عند زفر فيجب مثله أو قيمته بالغة ما بلغت، وضمان المبيع عند أبي حنيفة ومحمد، فيسقط الثمن قليلاً كان أو كثيراً (1) .
وأما علاقة الوكيل بمن تعامل معه لحساب الموكل فهي تنفيذ حقوق العقد، كدفع الثمن والرد بالعيب ما دام المبيع في يده.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 143/2، الهداية: 140/3، تكملة ابن عابدين: 304/7، الدسوقي: 381/3، المهذب: 353/1، كشاف القناع: 460/3، 467.(5/733)
ثانياً ـ حقوق العقد وحكمه في الوكالة:
حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للحصول على الغاية والغرض من العقد، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والرد بالعيب أو بخيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع مثلاً (1) .
وقد اتفق الفقهاء على أن الوكيل إذا أضاف العقد إلى الموكل في العقود التي تتم بالإيجاب والقبول كالبيع، تنصرف حقوق العقد إلى الموكل. فإن أضاف العقد إلى نفسه، فالقاعدة العامة في التوكيل بالبيع والشراء: أن حقوق العقد ترجع عند الجمهور إلى الوكيل، فهو الذي يلتزم بتسليم المبيع ويقوم بتسليمه فعلاً وبقبضه، وهو الذي يقبض الثمن ويطالب به، ويخاصم في الرد بالعيب، ونحو ذلك.
وعند الحنابلة ترجع إلى الموكل، على تفصيل سيأتي قريباً.
قال الحنفية: الوكالة: منها ـ ما لا حقوق له إلا ما أمر به الوكيل، كالوكالة بتقاضي الدين، والوكالة بالملازمة (2) ونحوهما.
ومنها ـ ما تعود حقوقه للوكيل، ومنها ما تعود حقوقه للموكل.
أـ والقاعدة العامة في هذا عند الحنفية أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه: فحقوقه راجعة إلى العاقد، كالبياعات والأشرية والإجارات والصلح الذي هو في معنى البيع (أي الصلح عن إقرار) فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والمطالبة بالثمن إذا اشترى، وقبض المبيع، والمخاصمة بالعيب.
فيجب عليه تسليم المبيع إلى المشتري، وقبض الثمن. وإذا وجد المشتري بالمبيع عيباً فله أن يخاصم الوكيل، وإذا ظهر أن المبيع مستحق لغير البائع، فيجب على الوكيل الضمان، إلا إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً للمسؤولية والتزام الحقوق) كالصبي المحجور عن التصرف، والقاضي، وأمين القاضي، ونحوهم، فحينئذ ترجع حقوق العقد للموكل نفسه لا إلى الوكيل، وكذلك ترجع حقوق العقد للموكل، إذا أضاف الوكيل العقد إلى الموكل.
وللوكيل أن يوكل غيره في تحمل حقوق العقد، وليس للموكل أن يباشر شيئاً منها بنفسه ما دام الوكيل قائماً، فإذا طالب الموكل بالبيع المشتري بالثمن، فللمشتري أن يمنعه من قبضه؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه؛ لأن الحقوق إلى العاقد. فإن دفع المشتري الثمن إلى الموكل جاز؛ لأن نفس الثمن المقبوض يعتبر حقه، وليس للوكيل أن يطالبه به ثانياً لعدم الفائدة لأنه لو أخذه منه لوجب عليه إعادته له.
__________
(1) الاستحقاق: هو أن يدعي أحد ملكية شيء موجود في يد غيره ويثبتها بالبينة، ويقضى له بها.
(2) هو أن يقول إنسان لآخر: وكلتك بأن تلازم فلاناً بمال لي عليه حتى يدفعه لي، ويختار للملازمة عادة أسفه الناس ومن يتأذى المدين بملازمته.(5/734)
ب ـ وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل، أي أن يذكر اسم الموكل في عبارته ليدل على أنه يتصرف له: فحقوقه ترجع إلى الموكل كالنكاح، والطلاق على مال، والخلع، والصلح عن دم العمد، والصلح عن إنكار المدعى عليه، ونحوها، فحقوق هذه العقود تكون للموكل وعليه، والوكيل فيها يكون سفيراً ومعبراً محضاً، حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا يطالب بالمهر، وإنما يطالب به الزوج، إلا إذا ضمن المهر، فحينئذ يطالب به بحكم الضمان، ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر، ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها. وكذا الوكيل بالخلع لا يملك قبض بدل الخلع إن كان وكيلاً عن الزوج، وإن كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب ببدل الخلع إلا بالضمان، وكذا الوكيل بالصلح عن دم العمد.
جـ ـ وكذلك العقود التي لا تتم إلا بالقبض، أي العقود العينية كالهبة والقرض والإعارة والرهن ونحوها لا بد من إضافتها إلى الموكل وترجع الحقوق له، وإلا وقع العقد للوكيل. والسبب في أن هاتين الفئتين من العقود لا بد فيها من نسبة العقد للأصيل: هو أنه يكون للاعتبار الشخصي فيها المقام الأول.
هذا مذهب الحنفية (1) ، ويذكرون في كتبهم كعادتهم في كثير من الأحيان: أن الشافعية يخالفونهم، فيجعلون حقوق العقد راجعة للموكل دون الوكيل (2) ، إلا أن الواقع يوجب الاعتماد في نقل أحكام المذاهب على الكتب المعتمدة عند أصحابها، ففي كتاب المنهاج للنووي نص صريح على أن أحكام العقد أي (حقوقه) تتعلق بالوكيل دون الموكل (3) ، فهم كالحنفية في هذا.
وكذلك قال المالكية: ترجع حقوق العقد للوكيل من قبض الثمن وغيره لا للموكل (4) .
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 109، البدائع: 33/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 16/6 ومابعدها، رد المحتار: 419/4، مجمع الضمانات: ص 243، الكتاب مع اللباب: 141/2.
(2) راجع البدائع مثلاً: 33/6، تبيين الحقائق للزيلعي: 256/4، تكملة فتح القدير: 17/6.
(3) نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي: 47/4، مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 230/2 ومابعدها، المهذب: 353/1.
(4) الشرح الصغير: 506/3 ومابعدها، المدونة الكبرى: 83/10، 186، ط 1323 هـ. قال العلامة خليل وشارحه الدردير: 382/3: وطولب الوكيل بالعهدة من عيب أو استحقاق ما لم يعلم المشتري أنه وكيل (أي كالسمسار) وإلا فالطلب على الموكل لا الوكيل إلا أن يكون مفوضاً أي فإن كان مفوضاً كان للعاقد الرجوع عليه وعلى الموكل، كالشريك المفوض.(5/735)
أما الحنابلة فيقولون: إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد الأصيل (1) . وفي هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره في أموره ليخفف من عناء مباشرته لها بنفسه أو لأنه لا يليق به أن يباشرها، أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (2) .
هذا الاختلاف بين المذاهب محصور فيما إذا لم يصرح الوكيل بأن التعاقد لحساب الأصيل، فإن صرح بأن التعاقد باسم الأصيل فالمذاهب مجمعة على ثبوت حكم العقد وحقوقه معاً تقع للأصيل دون النائب.
يستفاد من هذا البحث معرفة حقوق كل من الموكل والوكيل وواجباتهما في البيع، فواجبات الموكل في الوكالة بالبيع: تحمل الخسارة العارضة إذا لم يكن تعد أو تفريط، ودفع الأجر للوكيل إن كانت الوكالة بأجر ونفذ العمل، وحق الموكل: تنفيذ الوكيل ما التزم به في حقه.
__________
(1) كشاف القناع: 467/4، المغني: 97/5، غاية المنتهى: 156/3، مطالب أولي النهى: 462/3.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 376.(5/736)
وواجبات الوكيل بالبيع: التقيد بالقيود ومراعاة الشروط المبينة في الوكالة المقيدة، ومراعاة العرف والعادة في الوكالة المطلقة.
وواجبات الموكل في الوكالة بالشراء: دفع ثمن السلعة المشتراة، وتحمل الخسارة العارضة في التصرف الموكل فيه إذا لم تكن بتعدٍ أو تفريط، ودفع أجر الوكيل إن كانت الوكالة بأجر.
وواجبات الوكيل بالشراء: الشراء بثمن المثل عملاً بالعرف، وشراء السلعة السليمة من العيوب عند الجمهور غير أبي حنيفة، وعليه عند الحنفية شراء الشيء المعين للموكل لا لنفسه وأقاربه، وعليه عند المالكية فعل كل ما فيه مصلحة للموكل، فإن خالف الوكيل شروط الموكل كان عند الحنفية مشترياً لنفسه.
وحقوق الوكيل بالشراء: الشراء بأقل مما عينه له الموكل؛ لأنه خلاف إلى خير، والرجوع على الموكل بما دفع من ماله ثمناً للسلعة المشتراة للموكل، وحبس ما اشتراه للموكل حتى يستوفي الثمن منه، والرد بالعيب ما دام المعيب في يده.
حكم العقد: تكلمنا عن حقوق عقد الوكالة التي ترجع إلى الوكيل عند الحنفية والشافعية. وقد رأينا من المناسب أن نذكر حكم العقد هنا استطراداً. المراد بحكم العقد: هو الغرض والغاية منه:
أـ ففي عقد البيع ونحوه مما يتوقف على الإيجاب والقبول يكون الحكم: هو ثبوت الملكية في المبيع للمشتري وفي الثمن للبائع. واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل يقع للموكل نفسه لا للوكيل؛ لأن الوكيل متكلم باسم الموكل وعاقد له، فهو قد استمد ولايته منه. وينصرف حكم العقد للموكل عند الجمهور مطلقاً، سواء أضاف الوكيل العقد لنفسه أم أسنده إلى الموكل. وعند المالكية: ينصرف الحكم للموكل إذا أعلن الوكيل في العقد أنه يعمل لحساب موكله.(5/737)
وتثبت الملكية للموكل مباشرة بمجرد تمام العقد أي من ابتداء الأمر دون حاجة لثبوتها للوكيل أولاً، ثم انتقالها عنه لموكله، وهذا في المذاهب الأربعة؛ لأن الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره (1) . ويترتب عليه أن المسلم لو وكل ذمياً بشراء خمر أو خنزير لم يصح الشراء؛ لأن المسلم ليس له أن يتملك شيئاً من هذين. هذا هو مذهب الحنفية لا ما تذكره كتب الحنابلة والمالكية من أن مذهب أبي حنيفة أن الملكية تنتقل إلى الوكيل ثم إلى الموكل.
ب ـ العقود التي لا تتم إلا بالقبض كالهبة والإعارة: يقع حكم العقد للموكل ولو أضاف الوكيل العقد لنفسه بأن قال: وهبت أو أعرت هذا الشيء؛ لأن الوكيل في هذه العقود مجرد سفير ومعبر.
جـ ـ عقد الزواج: إذا أضاف العقد لموكله بأن قال: تزوجك فلان، انصرف حكمه إلى الموكل. وإذا أضافه إلى نفسه فقال: تزوجتك، كان الزواج له لا لموكله.
د ـ الطلاق مثل الزواج في التفصيل السابق، إن كان وكيلاً عن الزوج، فإن كان وكيلاً عن الزوجة، فلا بد من إضافة الطلاق إليها، فيقول: طلِّق فلانة على كذا.
ثالثاً ـ حال المقبوض في يد الوكيل:
اتفق الفقهاء على أن المقبوض في يد الوكيل يعتبر أمانة بمنزلة الوديعة ونحوها؛ لأن يده نيابة عن الموكل بمنزلة يد الوديع، فيضمن بما يضمن في الودائع، ويبرأ بما يبرأ فيها، ويكون القول قوله في
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 256/4، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 137، المغني لابن قدامة: 130/5، مغني المحتاج: 229/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 298/2، المهذب: 356/1.(5/738)
دفع الضمان عن نفسه (1) . ومجمل القول في سبب الحكم: هو أن الوكيل أمين فلا ضمان عليه لموكله إلا إذا حدث منه تعد أو تفريط، ويتحمل الموكل الخسارة العارضة إذا لم تكن بتعدٍ أو تفريط من الوكيل.
وبناء على هذه القاعدة ذكر ابن قدامة في المغني حكم ستة أحوال يختلف فيها الوكيل والموكل عادة، أذكرها باختصار:
أحدها ـ أن يختلفا في تلف أو ضياع المال، فقال الوكيل: تلف مالك في يدي، أو ضاع، فيكذبه الموكل، فالقول بالاتفاق قول الوكيل مع يمينه، لأنه أمين، وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف بالبينة كالوديع. واستثنى الحنابلة حالة ادعاء الوكيل التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب ونحوهما، فعليه إقامة البينة على وجود التلف.
ثانيها ـ أن يختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر الموكل، مثل: أن يدعي عليه أنه حمل الدابة فوق طاقتها أو فرط في حفظها، أو أمره برد المال فلم يفعل، ونحوها، فالقول قول الوكيل أيضاً مع يمينه، لأنه أمين كما تقدم. والمشهور عند المالكية أن يحكم بقول الموكل (2) .
والوكيل أمين سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن الوكيل نائب عن الموكل في اليد (أي الحيازة) والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، فلا يضمن ما تلف في يده بلا تعد.
ثالثها ـ أن يختلفا في التصرف، فيقول الوكيل: بعت الثوب وقبضت الثمن، فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض. أو يقول: بعت ولم تقبض شيئاً، أي أن الخلاف إما في حدوث البيع، أو في قبض الثمن بعد الاتفاق على البيع، فالقول قول الوكيل عند الحنابلة والحنفية؛ لأنه يملك البيع والقبض، فيقبل قوله فيهما (3) .
وعند الشافعية قولان: أصحهما أنه يصدق قول الموكل بيمينه؛ لأن الأصل عدم التصرف، وبقاء ملك الموكل (4) .
رابعها ـ أن يختلفا في رد الشيء الموكل فيه إلى الموكل، فيدعيه الوكيل وينكره الموكل، فالقول قول الوكيل عند أئمة المذاهب الأربعة في الراجح منها، سواء أكانت الوكالة بجعل أم بغير جعل؛ لأن الموكل ائتمنه، وإذا كانت الوكالة بجعل، فإن الوكيل ينتفع بالعمل بالعين لا بالعين نفسها، فلم يكن قبضه لنفع نفسه كالمستعير (5) .
__________
(1) راجع البدائع: 34/6، مجمع الضمانات: ص 251، درر الحكام: 287/2، بداية المجتهد: 299/2، الشرح الصغير: 519/3، مغني المحتاج: 230/2، المهذب: 357/1 ومابعدها، المغني: 94/5.
(2) بداية المجتهد: 299/2 ومابعدها.
(3) البدائع: 36/6، المغني: 95/5.
(4) مغني المحتاج: 235/2، المهذب: 357/1.
(5) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 10/19، المغني، المرجع السابق، ص96، مغني المحتاج: 235/2، المهذب: 358/1، بداية المجتهد: 299/2.(5/739)
خامسها ـ إذا اختلفا في أصل الوكالة، فقال الوكيل: وكلتني، فأنكر الموكل، فالقول قول الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فلم يثبت أنه أمينه، ليقبل قوله عليه (1) .
سادسها ـ أن يختلفا في صفة الوكالة بأن يقول الوكيل: وكلتني في البيع نسيئة، أو الشراء بعشرين ليرة مثلاً، أو ببيع هذا الكتاب، فقال الموكل: بل نقداً، أو بعشرة، أو هذا القلم، فالقول قول الموكل بيمينه في المذاهب الأربعة؛ لأن الأصل عدم الإذن فيما ذكره الوكيل، ولأن الموكل أعرف بحال الإذن الصادر منه (2) .
وإن تنازعا في الثمن المدفوع للسلعة في الوكالة بالشراء فالقول عند الحنفية قول الوكيل إن كان الشيء يساوي ما ادعاه الوكيل، وإن كان لا يساويه فالقول قول الموكل. وقال الشافعية والحنابلة: القول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه أمين (3) . وإن تنازعا في نوع الشيء المشترى كأن اشترى الوكيل تمراً فزعم الموكل أنه أمره بشراء عنب، فالقول قول الوكيل مع يمينه. وقال المالكية: إن اشترى الوكيل شيئاً بالثمن المدفوع له لشراء سلعة، فزعم الموكل أنه أمره بشراء سلعة غيرها، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وكذا إذا وكل شخص غيره ببيع سلعة، فباعها بعشرة، وادعى أن الموكل أمره بذلك، وقال الموكل: بل أمرته بأكثر من ذلك، فالقول قول الوكيل بيمينه (4) .
__________
(1) المغني، المرجع السابق: ص97، مغني المحتاج: 233/2، الشرح الكبير: 393/3.
(2) المراجع السابقة، الهداية: 147/3.
(3) الهداية: 144/3، تكملة المجموع: 606/13، المغني: 95/5.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي: 393/3، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 521/3 ومابعدها.(5/740)
المبحث الرابع ـ تعدد الوكلاء
قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام القضاء كما يحدث عادة في كثير من الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر.
فإن وكل إنسان وكلاء متعددين كلاً في عقد خاص وأعمال خاصة، كان للواحد منهم عند الحنفية أن يقوم بما وكل فيه وحده دون حاجة لاستشارة غيره. وإن كانت الوكالة لعمل واحد كان لأي وكيل القيام به وحده أيضاً.
وإن كانت الوكالة للجميع في عقد واحد فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ الانفراد بالقيام بما وكلوا فيه، إلا إذا كان التصرف مما لا يحتاج لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو مما لا يمكن الاجتماع فيه كالوكالة بالخصومة، أي المرافعة أمام مجلس القضاء، وكالطلاق.(5/741)
وأجاز المالكية تعدد وكلاء الخصومة بشرط موافقة الخصم على التعدد. ولم يجز الشافعية لأحد وكلاء الخصومة المتعددين الانفراد بالخصومة؛ لأن الموكل لم يرض إلا بتصرفهما معاً، وعند الحنابلة قولان: قول كالشافعية، وقول يجيز الانفراد بالتصرف عرفاً (1) .
هذه هي القواعد العامة لتعدد الوكلاء، وتطبيقها يظهر في استعراض أنواع الوكالات فيما يأتي:
إذا كان التصرف مما يحتاج فيه لأخذ الرأي، فليس لأحد الوكلاء أن يتصرف فيما وكلوا به دون الآخرين؛ لأن الموكل رضي برأيهم المشترك، لا برأي أحدهم، فإذا وكل اثنان بالبيع، فلا يملك أحدهما التصرف بدون صاحبه، ولو فعل لم يجز البيع حتى يجيزه صاحبه، أو الموكل؛ لأن البيع يحتاج فيه إلى أخذ الرأي، والموكل رضي برأيهما، لا برأي أحدهما.
وإذا وكل اثنان بالشراء فلا يملك أحدهما الانفراد بالتصرف إلا أنه في الشراء إذا اشترى أحدهما بدون وجود الآخر ينفذ العقد على المشتري، ولا يقف على الإجازة، بخلاف البيع؛ لأن الوكيل بالشراء متهم بمراعاة مصلحته كما عرفنا.
وإذا وكل اثنان بعقد الزواج أو الطلاق على مال ونحوهما من كل عقد فيه عوض مالي، فلا يملك أحدهما إجراء العقد بدون الآخر؛ لأن الأمر هنا يحتاج إلى تبادل وجهات النظر وأخذ الآراء.
والوكيلان بقبض الدين لا يملك أحدهما أيضاً أن يقبض دون وجود صاحبه؛ لأن قبض الدين مما يحتاج إلى أخذ الرأي والأمانة، وقد فوض الموكل الرأي لهما، لا إلى أحدهما، ورضي بأمانتهما، لا بأمانة أحدهما.
__________
(1) الشرح الصغير: 505/3، تكملة المجموع: 557/13، الفروع لابن مفلح المقدسي: 693/3.(5/742)
وأما إذا كان التصرف مما لا يحتاج فيه لأخذ الرأي، فيملك أحد الوكيلين أن ينفرد بالتصرف دون الآخر، مثل الوكيلين بالطلاق بغير عوض، أو برد الوديعة أو قضاء الدين، فينفرد أحدهما بالتصرف فيما وكلا به؛ لأن هذه التصرفات مما لا يحتاج فيها إلى أخذ الرأي، وإنما هي تعبير محض، وعبارة الواحد أو أكثر سواء.
وأما الوكيلان بالخصومة أي القيام بالمرافعة فعلاً أمام المحكمة فكل واحد منهما يتصرف بانفراده عند جمهور الحنفية؛ لأن الاجتماع فيها في وقت واحد أمر متعذر؛ لأن الغرض من الخصومة إعلام القاضي بما يملكه الخصم من وسائل الدفاع واستماع القاضي إليها، واجتماع الوكيلين على الدفاع يخل بالإعلام والاستماع، كما هو واضح. أما إعداد المذكرات للدفاع بها فيمكن طبعاً الاجتماع على تحضيرها، كما يمكن تقسيم الدفاع على المحامين الموكلين فيما بينهم، فيقوم كل واحد منهما بقسم منه.
وقال زفر: لا ينفرد أحد الوكيلين بالخصومة بالقيام بها دون الآخر؛ لأن الخصومة مما تحتاج إلى أخذ الرأي، ولم يرض الموكل برأي أحدهما (1) .
وقال الجمهور (2) (المالكية والشافعية والحنابلة) : إذا تعدد الوكلاء فليس لأحدهم الانفراد بالتصرف بدون مشاورة الآخر؛ لأنه لم يرض بتصرف أحدهما دون الآخر، إلا إذا أذن لهما الموكل بإفراد التصرف، فيجوز لكل واحد منهما أن يستقل بالتصرف.
المبحث الخامس ـ طرق انتهاء الوكالة
صفة عقد الوكالة: اتفق الفقهاء (3) على أن عقد الوكالة بغير أجر جائز غير لازم بالنسبة للعاقدين، أما من جانب الموكل: فلأنه قد يرى المصلحة في ترك ما وكل فيه، أو في توكيل شخص آخر.
وأما من جانب الوكيل: فلأنه قد لا يتفرغ لأعمال الوكالة، فيكون لزوم العقد مضراً بالطرفين. وبناء عليه، لكل من طرفي عقد الوكالة الرجوع عنه متى شاء، وتنتهي حينئذ الوكالة. وأذكر هنا طرق انتهاء الوكالة.
__________
(1) انظر البدائع: 32/6، تكملة فتح القدير: 86/6-88.
(2) الخرشي: 82/6 ط ثانية، المهذب: 351/1، المغني: 87/5.
(3) البدائع: 37/6، تكملة ابن عابدين: 351/7، الحطاب: 215/5، بداية المجتهد: 297/2، مغني المحتاج: 231/2 ومابعدها، المهذب: 356/1، المغني: 113/5، الشرح الكبير مع الدسوقي: 396/3 ومابعدها، الدر المختار: 433/4، وانظرحالات لزوم الوكالة المستثناة في كل مذهب من المذاهب ما عدا الحنابلة في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: 278/3-282.(5/743)
وأما الوكالة بأجر: فإن كانت على سبيل الجعالة بأن لم يعين في العقد الزمن أو العمل فهي غير لازمة أيضاً بالاتفاق، إلا أن المالكية قالوا: تلزم الجاعل فقط بعد الشروع في العمل.
وإن كانت على سبيل الإجارة بأن عين الزمن والعمل كالبياع والسمسار، فهي لازمة عند الحنفية وفي المشهور لدى المالكية؛ وغير لازمة عند الشافعية والحنابلة.
وتنتهي الوكالة بأمور كثيرة وهي (1) :
1 - عزل الموكل وكيله: تنتهي الوكالة بالاتفاق بعزل الموكل وكيله؛ لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فكان بطبيعته قابلاً للفسخ بالعزل، ولكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية والمالكية شرطان:
أحدهما ـ أن يعلم الوكيل بالعزل؛ لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به كالفسخ. والعلم بالعزل يتم إما بحضور الوكيل، أو بالكتابة له، أو بإرسال رسول إليه، أو بإخبار رجلين أو رجل واحد عدل، أوغير عدل وصدقه بالعزل. وأما قبل العلم بالعزل، فتكون تصرفات الوكيل كتصرفاته قبل العزل في جميع الأحكام.
وهذا الشرط مشروط أيضاً في الأرجح عند المالكية وفي رواية عن الإمام أحمد:
__________
(1) راجع مذهب الحنفية في البدائع: 37/6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص109، تكملة فتح القدير: 123/6 ومابعدها، المبسوط: 12/19 ومابعدها، الدر المختار: 434/4، الكتاب مع اللباب: 145/2، تكملة ابن عابدين: 308/7.(5/744)
والسبب في اشتراط هذا الشرط: هو أن العزل يترتب عليه إضرار بالوكيل من ناحيتين: أولهما ـ أنه يترتب عليه إبطال ولايته بالعزل. وثانيهما ـ أنه يكون متحملاً لحقوق العقد، فيدفع الثمن إن كان وكيلاً بالشراء، ويسلم المبيع إن كان وكيلاً بالبيع.
وقال الشافعي في الأصح عنده، وأحمد في الرواية الثانية عنه وهي الراجحة في مذهبه: لا يشترط هذا الشرط، فلو عزل الموكل وكيله في حضوره أو أثناء غيبته
انعزل في الحال، لأنه رفع عقد لايفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه كالطلاق، وقياساً على ما لو وكل شخص غيره، وكان الوكيل غائباً (1) .
واتفقت المذاهب على أنه في حال عزل الوكيل نفسه عن الوكالة يشترط إخبار الموكل بالأمر، صيانة لحق الموكل، ومنعاً من التغرير به.
ثانيهما ـ ألا يتعلق بالوكالة حق للغير، فإذا تعلق حق للغير بها لم يصح العزل بغير رضا صاحب الحق، مثل وكيل المدين ببيع الرهن لسداد الدين عند حلول الأجل، فإنه لا يملك المدين الموكل عزل وكيله هذا إلا برضا الدائن، لتعلق حقه بالوكالة إذ أنه يريد أخذ دينه عن طريق بيع العين. ومثل وكيل الزوج بطلاق زوجته متى شاء، فإنه لا يملك الزوج الموكل الرجوع عن وكالته إلا برضا المرأة. ومثل الوكالة بالخصومة بطلب الدائن عند غيبة المدين، كأن يكون لشخص عند آخر دين، ثم يعزم المدين السفر إلى بلاد بعيدة، فيطلب صاحب الدين من المدين أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه في طلب الدين حال غيابه، فوكل عنه بناء على هذا الطلب، فيصبح هذا لوكيل غير قابل للعزل، لأنه قام مقام المدين الغائب، وليس لصاحب الدين من يطالبه بدينه سواه، فلو عزله ضاع عليه حقه.
__________
(1) بداية المجتهد: 298/2، الشرح الكبير: 396/3، مواهب الجليل 214/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 232/2، المهذب: 356/1، المغني: 113/5 ومابعدها، غاية المنتهى: 155/2، القوانين الفقهية: ص 329.(5/745)
2- تصرف الموكل فيما وكل به: أي أن يقوم الموكل صاحب الشأن بالعمل الذي وكل فيه غيره، كأن يوكل إنسان غيره ببيع شيء ثم يبيعه الموكل، فتنتهي الوكالة بالاتفاق (1) ؛ لأن العقد يصبح حينئذ غير ذي موضوع، فينعزل الوكيل وإن لم يعلم بالعزل.
3 - انتهاء الغرض من الوكالة: وهو أن يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل، لأن العقد يصبح حينئذ غير ذي موضوع.
4 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية: بموت بالاتفاق أو جنون مطبق (2) عند الجمهور خلافاً للشافعية، أو حجر عليه لسفه باتفاق المذاهب الأربعة، وألحق الشافعية الإغماء بالجنون في الأصح عندهم. وقال غيرهم: الإغماء لا يخرج عن أهلية التصرف. ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم العاقد بخروج الطرف الآخر عن الأهلية بهذه العوارض (3) . وقال المالكية: الأرجح أن الوكيل لا ينعزل بموت الموكل حتى يعلم به (4) .
واختلف أبو يوسف ومحمد في حد الجنون المطبق، فقال أبو يوسف: هو ما استوعب شهراً؛ لأن الشهر يسقط به صوم شهر رمضان.
وقال محمد: هو ما استوعب حولاً كاملاً؛ لأن الحول يسقط به جميع العبادات فيقدر به احتياطاً. قال قاضي زاده صاحب تكملة فتح القدير: والمختار ما قاله أبو حنيفة أنه مقدر بالشهر؛ لأن ما دون الشهر في حكم العاجل، فكان قصيراً، والشهر فصاعداً في حكم الآجل، فكان طويلاً، قال صاحب الدر: وبه يفتى.
__________
(1) المبسوط: 50/19، الشرح الصغير: 523/3، كشاف القناع: 457/3.
(2) المطبق: أي الدائم، ومنه الحمى المطبقة أي الدائمة التي لا تفارق ليلاً ولا نهاراً. وقد اشترط الجمهور كون الجنون مطبقاً، وقال الشافعية: تنتهي الوكالة بالجنون وإن زال عن قرب.
(3) البدائع: 38/6، تكملة فتح القدير والعناية: 126/6 ومابعدها، مغني المحتاج: 232/2، المغني: 113/5، المهذب: 357/1، المبسوط: 13/19.
(4) بداية المجتهد: 298/2، الشرح الكبير: 396/3، مغني المحتاج: 232/2، المغني: 113/5، القوانين الفقهية: ص 329.(5/746)
5 - لحاق الموكل مرتداً بدار الحرب: هذه الحالة عند أبي حنيفة؛ لأنه يصير حينئذ من أهل الحرب. وقال الصاحبان: لا تنتهي الوكالة بذلك؛ لأن تصرفات المرتد عندهما نافذة، فلا تبطل الوكالة إلا بموته أو بقتله بسبب ردته، أو بحكم القاضي بلحاقه. وأما مذهب أبي حنيفة في هذا فهو أن تصرفات المرتد موقوفة عنده، ومنها الوكالة، فإن أسلم الموكل نفذت، وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة.
وأما الوكيل إذا لحق بدار الحرب مرتداً فإنه لا يخرج عن الوكالة باتفاق الحنفية إلا أن يقضي القاضي بلحاقه، لكن بمجرد لحوقه لا يجوز له التصرف إلا أن يعود مسلماً، فإن عاد مسلماً من دار الحرب إلى دار الإسلام قال محمد: تعود الوكالة إليه لزوال المانع من التصرف. وقال أبو يوسف: لا تعود الوكالة؛ لأنه بلحاقه بدار الحرب يلحق بالأموات، فيبطل ما ملكه من ولاية تنفيذ التصرف على الموكل، وإذا بطلت الولاية بطل التوكيل، وإذا بطلت الولاية لا تعود.
وقال المالكية: ينعزل الوكيل بردته أيام الاستتابة، وأما بعدها فإن قتل انعزل، وإن أخر قتله لمانع كوجود حمل عند المرأة، فإن العلماء ترددوا في عزله، وكذا ينعزل بردة الموكل بعد مضي أيام(5/747)
الاستتابة، ولم يرجع ولم يقتل لمانع (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: لا تبطل الوكالة بردة الوكيل، سواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الإسلام؛ لأن الردة لا تمنع ابتداء وكالته، فلم تمنع استدامتها كسائر أنواع الكفر. وأما ارتداد الموكل فلا يبطل الوكالة فيما له التصرف فيه عند الحنابلة، وهو الظاهر عند الشافعية لعدم زوال ملكه (2) .
6 - عزل الوكيل نفسه أو أن يخرج الوكيل نفسه من الوكالة: إذا قال الوكيل: عزلت نفسي أو رددت الوكالة أو خرجت منها ونحوها انعزل (3) ، لدلالة ذلك عليه. وقد اشترط الفقهاء لانتهاء الوكالة مما ذكر أن يعلم الموكل بهذا، حتى لا يتضرر مما فعل الوكيل.
وذكر المالكية أن للوكيل بغير أجر أن يعزل نفسه متى شاء إلا حيث يمنع موكله من عزل نفسه.
7 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها: تنتهي الوكالة أيضاً باتفاق
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 396/3.
(2) المغني: 116/5، كشاف القناع: 458/3، مغني المحتاج: 219/2، تحفة المحتاج: 341/5، المهذب: 357/1.
(3) مغني المحتاج: 232/2، القوانين الفقهية: ص 329.(5/748)
الفقهاء (1) بهلاك العين التي وكل فيها إنسان بالتصرف فيها بالبيع أو الشراء، أو الإيجار مثلاً؛ لأن العقد يصبح في هذه الحالة غير ذي موضوع، فيكون التصرف في المحل المعقود عليه غير متصور بعد هلاكه، والوكالة بالتصرف فيما لا يحتمل التصرف محال، فتبطل الوكالة.
8 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل: كأن وكله ببيع منزل فصادرته الدولة، فتزول الوكالة (2) .
9 - الإفلاس: تنتهي الوكالة بإفلاس الموكل إذا كانت الوكالة بأعيان ماله؛ لأنه بالإفلاس ينتقل مال الموكل لغرمائه (3) .
10 - الجحود: تنتهي الوكالة عند الحنفية والشافعية بحجودها من الموكل أو الوكيل؛ لأن الجحود بمثابة رد الوكالة. ولا تبطل الوكالة عند الحنابلة بالجحود (4) .
11 - التعدي: تنتهي الوكالة في أحد وجهين عند الشافعية بتعدي الوكيل في التصرف الموكل فيه، كأن يوكله ببيع ثوب فيلبسه؛ لأن الوكالة عقد أمانة تبطل بخيانة الوكيل فيها. وفي الوجه الثاني لا تبطل، وإنما تبطل الأمانة ويصير ضامناً، ويبقى التصرف (5) ، ويظهر لي أن الوجه الثاني أصح وهو رأي الحنابلة.
12 - الفسق: تبطل الوكالة عند الشافعية والحنابلة بفسق الوكيل في عقد ينافيه الفسق كإيجاب في الزواج لخروجه عن أهلية التصرف (6) ، بخلاف قبول الزواج أو الشراء.
13 - الطلاق: قال المالكية: ينعزل الزوج عن وكالته لزوجته بالطلاق إذا طلقها؛ لأن الطلاق بيده، ولا تنعزل الزوجة عن وكالتها بطلاقه لها، إلا أن يعلم
__________
(1) الفتاوى الهندية: 493/3، المغني: 116/5.
(2) المبسوط: 50/19، مغني المحتاج: 232/2، المغني: 116/5.
(3) الدسوقي: 396/3، المغني والشرح الكبير: 213/5.
(4) تكملة رد المحتار: 387/7، مغني المحتاج: 233/2، كشاف القناع: 458/3.
(5) المهذب: 357/1، تكملة المجموع: 600/13.
(6) تكملة المجموع: 566/13، كشاف القناع: 457/3.(5/749)
من الموكل كراهة ذلك منها. وقال الحنابلة: لا تبطل الوكالة بطلاق امرأة وكلها زوجها بشيء (1) .
14 - مضي الوقت: تنتهي الوكالة بمضي المدة المحددة لها كعشرة أيام مثلاً عند المالكية والشافعية والحنابلة، ولا تنتهي به على الأصح عند الحنفية (2) .
هذه هي أهم الحالات التي تنتهي بها الوكالة عند الفقهاء، وهي فيما عدا حالة العزل تنتهي بها الوكالة على رأي الحنفية، سواء علم بها الوكيل أم لم يعلم.
انتهى الجزء الخامس
ويتبعه الجزء السادس
تتمة العقود وما يتعلق بها
الملكية وتوابعها
__________
(1) الدسوقي: 396/3، كشاف القناع: 470/3.
(2) تكملة رد المحتار: 393/7، مغني المحتاج: 233/2، كشاف القناع: 460/3.(5/750)
....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
..........................................الجزء السادس...................................
الفَصْلُ العاشِر: الكَفَالة
الكفالة والحوالة والرهن هي عقود الاستيثاق، تبحث تباعاً.
خطة الموضوع وأسماء الكفالة:
الكفالة لها أسماء وهي: كفالة وحمالة وضمانة وزعامة. ويقال للملتزم بها: ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير. قال الماوردي من كبار الشافعية: غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال، والحميل الديات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النفوس، والصبير في الجميع. والشائع الاستعمال أن الكفالة بالدين تسمى الضمان، والكفالة بإحضار الملزم بحق من دين أو قصاص وغيرهما تسمى كفالة بالنفس، أو الكفالة بالوجه.
والكلام عن هذا العقد في المباحث الخمسة الآتية:
المبحث الأول ـ مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها.
المبحث الثاني ـ شرائط صحة الكفالة.
المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة.
المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة.
المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل (المكفول عنه) .
المبحث الأول: مشروعية الكفالة وتعريفها وركنها وألفاظها:
مشروعية الكفالة: الكفالة في الجملة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/12] قال ابن عباس: الزعيم: الكفيل.
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «الزعيم غارم» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه (1) . وجاء في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل ليصلي عليه، فقال: «هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران (2) .
__________
(1) روي عن ثلاثة من الصحابة وهم: أبو أمامة الباهلي، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وقد تقدم تخريجه (انظر جامع الترمذي: 295/6، ط حمص) .
(2) وفي لفظ: ثلاثة دنانير.(6/1)
فقال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي صلّى الله عليه وسلم» (1) .
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة لحاجة الناس إليها ودفع الضرر عن المدين (2) . وإنما اختلفوا في بعض الفروع التي ستذكر إن شاء الله تعالى. ويلاحظ أن الكفالة بالنية الحسنة تكون طاعة يثاب عليها فاعلها. أما في الواقع، فأولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها غرامة (1) ، فبعد تمامها في أول الأمر يلوم الكفيل نفسه أو يلومه الناس، وعند المطالبة بالمال يندم على إتلافه لماله، ثم بعدئذ يغرم المال.
وحكمة تشريعها: توثيق الحقوق وتحقيق التعاون بين الناس وتيسير معاملاتهم في إقراض الديون والأموال وإعارة الأعيان، ليطمئن صاحب الحق في الدين أو العين المعارة للوصول إلى حقه ورعاية مصالحه، ودفع الحرج عن الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وابن حبان عن سلمة بن الأكوع، وروى أحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة. وصححه الترمذي، وقال فيه النسائي وابن ماجه: فقال أبو قتادة: «أنا أتكفل به» هذا صريح في الإنشاء لا يحتمل الإخبار بما مضى. وروى القصة أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم عن جابر بن عبد الله. وفي موضوع القصة روى الدارقطني والبيهقي حديثاً عن أبي سعيد الخدري بأسانيد ضعيفة، وفي موضوعها أيضاً روى البزار ورجاله رجال الصحيح حديثاً عن أبي هريرة. ورواية القصة بأن الدين كان درهمين وأن الكفيل كان علياً بن أبي طالب رواية ضعيفة، كما قال ابن حجر (راجع التلخيص الحبير: ص 250 ومابعدها، مجمع الزوائد: 127/4، سبل السلام: 62/13، نيل الأوطار: 237/5 ومابعدها) .
(2) سبل السلام:62/3، المبسوط: 160/19 ومابعدها، مغني المحتاج: 198/2، المغني: 534/4.(6/2)
تعريفها: الكفالة لغة كما في كتب الحنفية والحنابلة: هي الضم. وفي كتب الشافعية: هي الالتزام. واصطلاحاً في الأصح عند الحنفية: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة مطلقاً أي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المدين في المطالبة بنفس أو بدين أو عين كمغصوب ونحوه، فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل (2) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: الكفالة: هي ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في ذمتهما جميعاً، كما جاء في المغني لابن قدامة الحنبلي (3) .
ويلاحظ أنه ليس من ضرورة ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل أن يترتب عليه زيادة حق للدائن؛ لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل، فلا يحق لرب الدين إلا استيفاء قيمة واحدة: إما من الكفيل أو من الأصيل.
كما يلاحظ أيضاً أنه لا مانع من ثبوت الدين في أكثر من ذمة؛ لأن الدين أمر اعتباري من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، وإنما الممتنع هو ثبوت عين في زمن واحد في ظرفين حقيقيين.
والدليل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صحت الهبة، وأن الكفيل يرجع بالدين على الأصيل مع أن هبة الدين لغير من عليه الدين لا تجوز. ويصح أيضاً للدائن أن يشتري شيئاً من الكفيل بالدين الذي له، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح.
__________
(1) قال بعض أصحاب القفال الشافعي: إن في التوراة مكتوباً: إن الكفالة مذمومة، أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة.
(2) راجع فتح القدير: 389/5، البدائع: 2/6، الدر المختار: 260/4.
(3) راجع الشرح الكبير: 329/3، مغني المحتاج: 198/2، المغني: 534/4.(6/3)
وأما دليل الحنفية على مذهبهم: فهو أن الدين وإن أمكن شرعاً اعتباره في ذمتين لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب هنا؛ لأن التوثق بالدين يحصل بثبوت حق المطالبة، وأجابوا عن صحة الهبة ونحوها بأنهم جعلوا الدين في حكم الدينين لضرورة تصحيح تصرف صاحب الحق (1) .
ومن أدلة الحنفية أيضاً أن الكفالة كما تصح بالمال تصح بالنفس مع أنه لا دين فيها، والمضمون بالكفالة بالنفس هو إحضار المكفول به، وكما تصح بالدين تصح بالأعيان المضمونة، وتعريف الكفالة بما يفيد ثبوت حق المطالبة فيها هو من أجل شمول جميع هذه الأنواع بخلاف ما لو قصرنا معناها على الضم في الدين، فإنه يراد بها الكفالة بالمال فقط. والخلاصة: إن تعريف الكفالة بالضم في المطالبة أعم لشموله أنواع الكفالة: وهي الكفالة بالمال وبالنفس وبالأعيان، وهو معنى كون هذا التعريف أصح.
وأما من عرفها بالضم في الدين فإنه أراد تعريف نوع منها وهو الكفالة بالمال. وأما النوعان الآخران فمتفق على كون الكفالة بهما كفالة بالمطالبة. فيكون تصحيح الحنفية للتعريف الذي اختاروه مقبولاً من هذه الزاوية فقط وهي كونه أعم وأشمل لأنواع الكفالة الثلاث.
أما من ناحية الواقع بالنسبة لأحكام الكفالة فقد استظهر ابن عابدين أن الفقهاء متفقون على ثبوت الدين في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل، بدليل الاتفاق على صحة هبة الدين والشراء به كما عرفنا، ولأن اعتبار الدين في ذمتين ممكن كما تقدم، ولو كانت الكفالة ضَمّاً في المطالبة فقط بدون دين لزم ألا يؤخذ المال من تركة الكفيل؛ لأن المطالبة تسقط عنه بموته كالكفيل بالنفس، مع أن المنصوص عليه حتى عند الحنفية هو أن المال يحل بموت الكفيل، ويؤخذ من تركته. وبدليل أنه يجوز أن يكفل الكفيل كفيل آخر بالمال المكفول به.
__________
(1) المراجع السابقة.(6/4)
وتظهر ثمرة الخلاف بين التعريفين فيما إذا حلف الكفيل ألا دين عليه، فإنه يحنث إذا قلنا بأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في الدين، ولا يحنث إذا قلنا بأنها ضم في المطالبة (1) .
ركن الكفالة: ركن الكفالة عند أبي حنيفة ومحمد: هو الإيجاب والقبول أي الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن (2) .
وقال أبو يوسف وجمهور الفقهاء: ركن الكفالة هو الإيجاب وحده. وأما القبول فليس بركن.
وعلى هذا تتم الكفالة بالكفيل وحده في الكفالة بالمال والنفس، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء قبول المكفول له وهو الدائن، ولا رضاه لعدم التعرض للقبول في حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه صحت الكفالة بمجرد أن قال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه، ولم ينقل أنه قبل الدائن. ولأن الكفالة ضم لغة والتزام المطالبة بما على الأصيل شرعاً، ومعنى الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فأشبه النذر (3) .
وقال أبو حنيفة ومحمد: يشترط رضا المكفول له، كما سيأتي في شروط الكفالة.
وأما رضا المكفول عنه أي الأصيل فلا يشترط بالاتفاق بين العلماء؛ لأن قضاء دين الغير بغير إذنه جائز، فالتزامه أولى، ولأنه يصح الضمان عن الميت اتفاقاً ما عدا أبا حنيفة وإن لم يترك وفاء لدينه أي كان مفلساً. وأركان الكفالة أو الضمان عند الجمهور (4) أربعة: ضامن (وهو كل من يجوز تصرفه في ماله فلا يجوز ضمان الصغير ولا السفيه) . ومضمون (وهو كل حق تصح النيابة فيه، وهو الدين أو العين المضمونة، وذلك في الأموال، لا في الحدود ولا في القصاص؛ لأنه لا تصح النيابة فيه) ومضمون عنه (وهو كل مطلوب بمال، حياً كان أو ميتاً) وصيغة (إيجاب) وأضاف الشافعية ركناً خامساً وهو المضمون له (وهو مستحق الدين) .
__________
(1) راجع رد المحتار على الدر المختار: 261/4.
(2) فتح القدير: 390/5،البدائع: 2/6، الدر المختار، المرجع السابق، مجمع الضمانات: ص 275.
(3) مغني المحتاج: 200/2، المهذب: 340/1، المغني: 535/5.
(4) القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 198/2، غاية المنتهى: 104/2.(6/5)
ألفاظ الكفالة: تنعقد الكفالة بصيغة معينة، وألفاظها عند الحنفية والشافعية: إما صريح أو كناية: وهي كل لفظ ينبئ عن العهدة في العرف والعادة (1) .
الصريح: أن يقول الكفيل: تكفلت أو ضمنت أو أنا ضامن ما عليه، أو أنا زعيم، أو قبيل، أو هو إلي أو علي، أو لك عندي، أو لك قبلي، أو على أن أوافيك به، أو على أن ألقاك به، أو دعه إلي.
والكناية: أن يقول: خل عن فلان، والدين الذي عليه عندي، أو دين فلان إلي، أو ضمنت فلاناً، أو ضمان فلان علي، فإن نوى المال، أو البدن لزم وإلا لغا. وإذا قال: لفلان عندي كذا، فهو يحتمل كونه وديعة ويحتمل كونه في الذمة، لأن كلمة (عند) تفيد القرب والحضرة، وهو موجود في المعنيين السابقين، فإذا أطلق اللفظ يحمل على كونه وديعة في يده، وعند قرينة الدين يحمل على ما في الذمة أي في ذمتي؛ لأن الدين لا يحتمله إلا الذمة.
والكفالة نوعان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال. وتنعقد الكفالة بالنفس إذا قال الكفيل: تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه أو ببدنه، وكذا إذا قال: بنصفه أو بثلثه، أو بجزء منه؛ لأن القاعدة الفقهية: «ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله» فيكون كفيلاً بكله؛ لأنه مما لا يتجزأ (2) بخلاف ما إذا قال: بيد فلان أو برجله. وكذا تنعقد إذا قال: ضمنته، أو قال: علي، أو قال: أنا زعيم به أو قبيل، بخلاف قوله: أنا ضامن بمعرفته.
أحوال ركن الكفالة: الاتفاق على الكفالة إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً بوصف، أو معلقاً بشرط، أو مضافاً إلى وقت (3) .
__________
(1) فتح القدير: 292/5، البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 264/4، مجمع الضمانات: ص 265، مغني المحتاج، المرجع السابق: ص 206، حاشية قليوبي وعميرة: 330/2.
(2) ومثل ذلك ما لو طلق رجل زوجته نصف تطليقة أو ربعها مثلاً، تطلق تطليقة كاملة رجعية؛ لأنها مما لا يتجزأ، بخلاف كفالة المال، فلو كفل بجزء من الدين، كنصفه أو ربعه، لم يكن كفيلاً بأكثر؛ لأنه مما يقبل التجزئة.
(3) راجع التفصيل في البدائع: 3/6، فتح القدير: 404/5، 411.(6/6)
أـ إن كانت الكفالة مطلقة: فتجوز بالشروط التي ستذكر، غير أنها تتقيد بوصف الدين: فإن كان حالاً كانت الكفالة حالة، وإن كان مؤجلاً كانت الكفالة مؤجلة.
ب ـ وإن كانت الكفالة مقيدة: فإما أن تقيد بوصف التأجيل أو بوصف الحلول. فإن كانت مؤجلة إلى أجل معلوم كشهر أو سنة، جازت. ويجوز أن يكون أجل الكفالة مماثلاً لأجل الدين أو أزيد منه أو أنقص؛ لأن المطالبة بالدين حق الدائن المكفول له، فله أن يتفق مع الكفيل والمدين على ما يشاء.
وإن كان الدين حالاً، جاز التأجيل في الكفالة، ويستفيد المدين نفسه من الأجل أيضاً في ظاهر الرواية؛ لأن التأجيل إذا كان في نفس العقد، يجعل الأجل صفة للدين، والدين واحد. أما إذا كان التأجيل بعد تمام العقد، فيختص به الكفيل فقط. وإذا كان التأجيل عن الأصيل، فيستفيد الكفيل من الأجل، أما إذا أجل الكفيل، فلم يستفد الأصيل من الأجل؛ لأن المقصود تأخير المطالبة، لا إسقاط الحق.
وإذا كانت الكفالة مؤجلة إلى سنة مثلاً، فمات الأصيل قبل تمام السنة، يحل الدين في ماله، ويبقى الأجل للكفيل، وكذا يحل الدين في مال الكفيل إذا مات، ويبقى الأصيل على أجله.
هذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية (1) ؛ لأن الموت عند الحنفية يعصف بذمة الإنسان ويبطل الأهلية إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة تسوية الحقوق وثبوت الأحكام التي لها سبب في حال الحياة.
وعند الحنابلة روايتان، رجح ابن قدامة أن الدين لا يحل بالموت؛ لأن الدين مؤجل، فلا تجوز المطالبة به قبل الأجل، كما لو لم يمت (2) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 28/20، مختصر الطحاوي: ص 105، الشرح الكبير: 337/3، مغني المحتاج: 208/2.
(2) المغني: 545/5.(6/7)
وإن كان التأجيل إلى وقت مجهول، فتجوز الكفالة عند الحنفية والحنابلة والمالكية إذا كان الأجل متعارفاً بين الناس كالحصاد والدياس والنيروز ونحوه؛ لأن هذه الجهالة ليست فاحشة فتتحملها الكفالة. وقال الشافعي: لا يجوز التأجيل إلى هذه الأوقات، لأنه أجل مجهول (1) .
وإن لم يكن الأجل متعارفاً بين الناس كالتأجيل إلى مجيء المطر أو هبوب الريح، فالأجل باطل، والكفالة صحيحة؛ لأن هذه جهالة فاحشة، فلا تتحملها الكفالة، فلا يصح التأجيل، فبطل. هذا إذا كانت الكفالة مؤجلة.
فإن كانت الكفالة حالَّة، فيجوز للدائن أن يشرط الحلول على الكفيل، سواء أكان الدين حالاً أم مؤجلاً. ولو كفل الكفيل حالاً يصح للدائن أن يؤجله بعدئذ، ويكون التأجيل خاصاً به.
وفي الجملة: يجوز في المذاهب الأربعة ضمان الدين الحال مؤجلاً، وضمان المؤجل حالاًّ؛ لأن الضمان تبرع، والحاجة تدعو إليه، فيصح على حسب ما التزم به الضامن (2) ، وقد روى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم ضمن مديناً لوفاء دينه لمدة شهر.
وفي الكفالة بالنفس: لو تكفل شخص برجل إلى شهر أو ثلاثة أيام ونحوها: جاز، ولكن الكفيل إنما يطالب بتسليم المكفول بنفسه بعد مضي تلك المدة المتفق عليها ولا يطالب به في الحال في ظاهر الرواية.
__________
(1) المغني، المرجع السابق: ص 560، مغني المحتاج: 307/2، المبسوط: 172/19، مجمع الضمانات: ص 273، الفرائد البهية في القواعد الفقهية: ص 142.
(2) البدائع، المرجع السابق: الشرح الكبير: 331/3، نهاية المحتاج للرملي: 416/3، مغني المحتاج: 207/2، المغني: 544/4.(6/8)
وقال أبو يوسف: إنه يطالب به للحال، إذا مضى الأجل يبرأ الكفيل. وهو قول الحسن بن زياد، وقال القاضي النسفي: وقول أبي يوسف أشبه بعرف الناس. وكان بعضهم يفتي به (1) .
ج ـ إن كانت الكفالة معلقة بشرط: فتجوز عند الحنفية إذا كان الشرط ملائماً لمقتضى العقد، مثل أن يكون الشرط سبباً لوجوب الحق، كأن يقول الكفيل: إذا استحق المبيع فأنا كفيل، أو شرطاً لإمكان الاستيفاء (أي لسهولته) مثل قوله: إذا قدم زيد ـ وكان هو المكفول عنه ـ فأنا كفيل، أو شرطاً لتعذر الاستيفاء وصعوبته مثل: إن غاب زيد عند البلدة فأنا كفيل.
وفيما عدا مثل هذه الحالات كالتعليق بهبوب الريح أو مجيء المطر، أو دخول زيد الدار بأن يقول: إذا جاء المطر أو نحوه فأنا كفيل، تثبت الكفالة حالة، ويبطل الأجل (2) . والخلاصة: أنه يصح تعليق الكفالة بنوعيها بشرط متعارف، والمتعارف كأن يعلق الكفالة بما هو سبب الحق، أو سبب لإمكان التسليم. وأما التعليق بهبوب الريح ونحوه فهو غير متعارف.
وقال الشافعية: الأصح أنه لا يجوز تعليق الكفالة بشرط مثل: إذا جاء رأس الشهر، فقد ضمنت ما على فلان، أو تكفلت ببدنه (3) .
تعليق كفالة المال على عدم الموافاة بالنفس:
لو كفل إنسان بنفس آخر، فقال: إن لم أحضر غداً فأنا ضامن ما عليه، فلم
__________
(1) مجمع الضمانات: ص 266.
(2) فتح القدير: 414/5، البدائع: 4/6، الدر المختار: 277/4، مجمع الضمانات: ص 273، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 142.
(3) نهاية المحتاج: 415/3، المهذب: 341/1، مغني المحتاج: 207/2.(6/9)
يحضر به، أو مات المكفول، فالمال لازم للكفيل عند الحنفية، لأن هنا كفالتين: بالنفس والمال، وكل ما في الأمر أنه كفل بالنفس مطلقاً، وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالنفس، وهذا التعليق صحيح إذا أقر المدين بالمدعى به، أو ثبت بالبينة وقضى به القاضي (1) .
وقال الشافعية: لايضمن المال (2) . وذكر الحنفية تفريعات أخرى قريبة من هذا الموضوع. منها: لو كفل إنسان بنفس رجل، وقال: إن لم أوافك به غداً، فعلي ألف ليرة، ولم يقل الألف التي عليه أو الألف التي ادعيت، وكان المطالب بالمبلغ ينكر المال، فالمال لازم للكفيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: لا يلزمه. وجه قول محمد: أن هذا إيجاب المال معلقاً بالخطر أي بالاحتمال، لأنه لم توجد الإضافة إلى الواجب، ووجوب المال لا يتعلق بالخطر، أما الكفالة بمال ثابت فتتعلق بالخطر.
ووجه قول الشيخين: أن مطلق الألف ينصرف إلى الألف المعهودة، وهي الألف المضمونة.
ولو كفل رجل بالمال، وقال للمكفول له: «إن وافيتك به غداً، فأنا بريء» فوافاه من الغد يبرأ من المال في رواية؛ لأن هذا ليس بتعليق البراءة بشرط الموافاة، بل هو جعل الموافاة غاية للكفالة بالمال، والشرط قد يذكر بمعنى الغاية لمناسبة بينهما. وفي رواية وهي الراجحة: لا يبرأ من المال لأن قوله: «إن وافيتك به غداً فأنا بريء» تعليق البراءة عن المال بشرط الموافاة بالنفس، والبراءة
__________
(1) البدائع: 4/6 ومابعدها، فتح القدير: 396/5، المبسوط: 176/19، الدر المختار: 269/4، مجمع الضمانات: ص 266 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 25/2 ومابعدها.(6/10)
لا تحتمل التعليق بالشرط؛ لأن فيها معنى التمليك، والتمليكات لا يصح تعليقها بالشرط (1) .
د ـ وإن كانت الكفالة مضافة إلى وقت في المستقبل: جازت عند الحنفية مثل أن يضمن إنسان لآخر ما يقرضه لفلان، أو ما يستهلكه من ماله أو ما يغصبه منه، أو ثمن ما يبايعه به، فهذه الكفالة صحيحة لأنها أضيفت إلى سبب الضمان. وقد أجاز القانون المدني تعليق الكفالة على شرط أو إضافتها إلى زمن مستقبل.
الخيار في الكفالة: اتفق العلماء على أنه لا يدخل في الضمان والكفالة خيار؛ لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ، والضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما، ولأن الضمان عقد لا يفتقر إلى القبول، فلم يدخله خيار كالنذر (2) .
المبحث الثاني ـ شروط الكفالة:
تشترط في الكفالة شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالكفيل، أو بالأصيل، أو بالمكفول له، أو بالمكفول به، فالذي تلزمه المطالبة بالمال الذي على المدين هو الكفيل، والمدين: هو المكفول عنه، ويسمى الأصيل أيضاً، والمدعي ـ وهو الدائن: مكفول له، ومحل الكفالة ـ وهو المال أو النفس المكفولة: هو المكفول به.
شروط الصيغة: يشترط في صيغة الكفالة ثلاثة شروط وهي:
1 ً - أن تكون بلفظ يدل على الالتزام صراحة أو كناية كما تقدم، مثل ضمنت دينك على فلان أو تكفلت به أو تكفلت بنفس فلان ونحو ذلك من الصريح، أو يقول: الدين الذي لك على فلان هو علي ونحو ذلك من الكنايات.
2 ً - التنجيز في العقد: فلا تصح الكفالة المعلقة على شرط غير متعارف، مثل إن قدم فلان من السفر فأنا كفيل لك بما على فلان، أو إن فعلت كذا تكفلت بإحضار فلان، أو إن نزل المطر فأنا كفيل؛ لأن الكفالة عقد يفيد أثره في الحال، فلا يقبل التعليق.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط للسرخسي: 178/19.
(2) المغني: 555/4.(6/11)
3 ً - عدم التأقيت: سواء في كفالة المال؛ لأن المقصود منها الأداء، أم في كفالة البدن؛ لأن المقصود الإحضار. لكن يصح ضمان النفس في الحال بشرط تأخير إحضار المكفول إلى أجل معلوم. ويصح تنجيز الكفالة بالدين الحال على أن يؤديه في أجل معين؛ لأنه قد لا يتيسر للضامن الأداء حالاً، ويصح ضمان الدَّيْن المؤجل حالاً؛ لأنه تبرع بالتزام التعجيل؛ ولكن لا يلزمه التعجيل، بل له الحق في الأجل تبعاً للأصيل الذي عليه الدَّين، كما تقدم.
شروط الكفيل: اشترط فقهاء الحنفية وغيرهم في الكفيل شرطين (1) :
أولهما ـ أهلية العقل والبلوغ أي أهلية التبرع: فلا تنعقد كفالة الصبي والمجنون؛ لأن الكفالة عقد تبرع بالتزام المال، فلا تنعقد ممن ليس من أهل التبرع، وهذا شرط متفق عليه، وهو المعبر عنه بالرشد أي صلاح الدين والمال عند الشافعية خلافاً للجمهور الذين يكتفون بصلاح المال. لأن الكفالة تصرف مالي، فلا تصح من مجنون وصبي ومحجور عليه بسفه، لعدم رشدهم.
أما ضمان المريض مرض الموت المخوف فحكمه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله، وإلا توقف على إجازة الوارث. ولم يجز المالكية خلافاً لجمهور الفقهاء كفالة المرأة في الديون إلا في حدود ثلث مالها كالمريض، لأنها محجورة عندهم عن التصرف فيما يزيد عن ثلث مالها، منعاً من الإضرار بالزوج، فإن زاد الدين عن ثلث مالها، لم يلزمها الضمان، بل يتوقف على إجازة الزوج.
ثانيهما ـ الحرية: وهذا شرط نفاذ للتصرف، فلا يجوز كفالة العبد؛ لأنها تبرع، والعبد لا يملك التبرع بدون إذن سيده، ولكن الكفالة تنعقد، حتى إن العبد يطالب بموجبها بعد عتقه.
__________
(1) البدائع: 5/6 ومابعدها، المبسوط: 8/20، الدر المختار: 262/4، الكتاب مع اللباب: 159/2، الشرح الصغير: 433/3، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 198/2، غاية المنتهى: 103/2، المغني: 541/4 ومابعدها.(6/12)
شروط الأصيل: يشترط في الأصيل المكفول عنه شرطان أيضاً (1) :
أولهما ـ أن يكون قادراً على تسليم المكفول به إما بنفسه أو بنائبه. وهذا الشرط خاص عند أبي حنيفة، فلا تصح الكفالة عنده بالدين عن ميت مفلس مات ولم يترك وفاء لدينه؛ لأنه دين ساقط، فلم يصح ضمانه، كما لو سقط بالإبراء، ولأن ذمة الميت قد زالت بالموت، فلم يبق فيها دين، والضمان: ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة به.
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (2) : يصح ضمان الدين عن الميت المفلس بدليل حديث أبي قتادة السابق ذكره، فإنه ضمن دين ميت لم يترك شيئاً لوفاء دينه. والنبي صلّى الله عليه وسلم حض الصحابة على ضمان دين الميت في حديث أبي قتادة بقوله: «ألا قام أحدكم فضمنه؟» ولأن دين الميت دين ثابت، فصح ضمانه ما لو خلف وفاء لدينه. والدليل على ثبوت هذا الدين: أنه لو تبرع رجل بقضائه، جاز لصاحب الدين اقتضاؤه، وكذا لو ضمنه حياً، ثم مات لم تبرأ ذمة الضامن، مما يدل على أنه لم تبرأ ذمة المضمون عنه.
ثانيهما ـ أن يكون الأصيل معروفاً (أي معلوماً) عند الكفيل: فإذا قال الكفيل: كفلت ما على أحد من الناس، لا تصح الكفالة؛ لأن الناس لم يتعارفوا ذلك، ولأن اشتراط هذا الشرط إنما هو لأجل معرفة المكفول عنه: هل هو موسراً وممن يبادر إلى قضاء دينه أو يستحق اصطناع المعروف أو لا، وأجاز بعض الفقهاء أن يكون المكفول عنه مجهولاً. ولا يشترط حضرة الأصيل، فتجوز
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص6، الدر المختار: 262/4، 278، فتح القدير: 419/5.
(2) بداية المجتهد: 294/2، الشرح الكبير للدردير: 331/3، المهذب: 339/1، المغني: 537/4.(6/13)
الكفالة عن غائب أو محبوس؛ لأن الحاجة إلى الكفالة في الغالب تظهر في مثل هذه الأحوال (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: الأصح أنه لا يشترط معرفة المكفول عنه قياساً على رضاه، فإنه ليس بشرط، وأما اصطناع المعروف فهو معروف، سواء أكان لأهله أم لغير أهله (2) .
شروط المكفول له: يشترط في المكفول له وهو الدائن شروط (3) وهي:
أولاً ـ أن يكون معلوماً: فلو كفل إنسان لأحد من الناس، فلا تجوز الكفالة، لأنه إذا كان المكفول له مجهولاً لا يتحقق المقصود من الكفالة وهو التوثق. ويوافق الشافعية على هذا الشرط في الأصح عندهم؛ لأن مستحقي الدين يتفاوتون عادة في استيفاء الدين تشديداً وتسهيلاً (4) .
وأجاز المالكية والحنابلة الضمان مع جهالة المكفول له، نحو: أنا ضامن زيداً بالدين الذي عليه للناس. ويستدلون بقوله تعالى: {قالوا: نفقد صُواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:72/12] لأن المنادي لم يكن مالكاً، وإنما كان نائباً عن يوسف عليه السلام، فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، وتحمل هو به عن يوسف (5) .
ثانياً ـ أن يكون المكفول له حاضراً في مجلس العقد: وهذا شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد إذا لم يكن هناك نائب عن المكفول له يقبل الكفالة في المجلس. فلو كفل إنسان لغائب عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز لا تجوز الكفالة عندهما إذا لم يقبل به حاضر في المجلس. دليلهما: أن في الكفالة معنى التمليك، والتمليك لا يحصل إلا بالإيجاب والقبول، فلا بد من توافره لإتمام صيغة العقد.
__________
(1) بداية المجتهد: 294/2، البدائع: 6/6، مغني المحتاج: 204/3.
(2) مغني المحتاج: 200/2، المغني: 535/4.
(3) راجع البدائع: 6/6 ومابعدها، فتح القدير: 417/5، المبسوط: 9/20، الدر المختار: 280/4.
(4) مغني المحتاج، المرجع السابق.
(5) أحكام القرآن لابن العربي: 1085/3، المغني: 535/5 ومابعدها.(6/14)
وأما أبو يوسف فعنه روايتان، والقول المتأخر عنه أن الكفالة عن الغائب تجوز؛ لأن معنى الكفالة وهو الضم والالتزام يتم بإيجاب الكفيل، فكان إيجابه صالحاً وحده لإتمام العقد، وهذا رأي جمهور الفقهاء القائلين بأن الكفالة تنعقد بالإيجاب وحده.
ثالثاً ـ أن يكون المكفول له عاقلاً: وهذا متفرع على مذهب أبي حنيفة ومحمد في اشتراط الشرط السابق، فلا يصح قبول المجنون والصبي غير المميز، لأنهما ليسا أهلاً لصدور القبول عنهما باعتباره ركناً في العقد.
شروط المكفول به: يشترط في المكفول به شروط ثلاثة (1) :
أولاً ـ أن يكون المكفول به مضموناً على الأصيل، سواء أكان ديناً أم عيناً أم نفساً أم فعلاً عند الحنفية بشرط أن تكون العين مضمونة بنفسها (2) كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد، والمقبوض على سوم الشراء.
أما العين التي هي أمانة سواء أكانت غير واجبة التسليم كالودائع ومال الشركات، أم واجبة التسليم كالعارية والمستأجر في يد الأجير أو المضمونة بغيرها، كالمبيع قبل القبض، والرهن، فلا تصح الكفالة بهما؛ لأن العين التي هي أمانة ليست بمضمونة، ولأن المضمون بغيره ليس بمضمون بنفسه. فإذا هلك المبيع قبل القبض لا يجب على البائع شيء، ولكن يسقط الثمن عن المشتري، وإذا هلك الرهن لا يجب على المرتهن شيء ولكن يسقط الدين عن الراهن بقدره.
والمراد بالفعل المكفول به: هو فعل التسليم مثل الكفالة بتسليم المبيع والرهن، وتصح الكفالة بالفعل؛ لأن التسليم مضمون على الملتزم به، فالمبيع مضمون التسليم على البائع، والرهن مضمون التسليم على المرتهن في الجملة بعد قضاء الدين.
__________
(1) البدائع: 7/6 ومابعدها، فتح القدير: 402/5 ومابعدها، رد المحتار: 264/4، 281، مجمع الضمانات: ص 271، روضة الطالبين 255/4، المغني: 538/4 ومابعدها.
(2) العين نوعان: أمانة ومضمونة. فالأمانة كالودائع ومال الشركات والمضاربات والعارية والمستأجر في يد الأجير، والمضمونة إما بنفسها كالمغصوب ونحوه، أو بغيرها كالمبيع قبل القبض، فإنه مضمون بالثمن، والرهن فإنه مضمون بالدين.(6/15)
ضمان الأعيان: يتبين من هذا أنه يجوز ضمان الأعيان المضمونة، ولا يصح ضمان الأعيان إذا لم تكن مضمونة على من هي في يده، وهذا رأي جمهور الفقهاء، وأحد قولي الشافعي الراجح في المذهب؛ لأن الأعيان المضمونة مضمونة على من هي في يده، فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة. أما القول الآخر للشافعي فلا يصح ضمان الأعيان؛ لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة، والجواب:
الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها، والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها، وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع، فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقاً.
وظاهر كلام أحمد صحة ضمان الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط إن صارت مضمونة على صاحبها إن تعدى فيها.
الكفالة بالنفس: وعلى هذا تصح الكفالة بنفس من عليه الحق لأن الكفالة بالنفس (1) كفالة بالفعل: وهو تسليم النفس، وفعل التسليم مضمون على الأصيل، فجازت الكفالة به.
__________
(1) الكفالة بالنفس أو بالبدن وتسمى كفالة الوجه: هي التزام إحضار المكفول إلى المكفول له، للحاجة إليها.(6/16)
وقد أجاز الكفالة بالنفس إذا كانت بسبب المال جمهور الفقهاء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة، لقوله تعالى: {قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتُنني به إلا أن يحاط بكم} [يوسف:66/12] ولقوله عليه الصلاة والسلام «الزعيم غارم» وهذا يشمل الكفالة بنوعيها، ولأن ما وجب تسليمه بعقد، وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال، ولأن الكفيل يقدر على تسليم الأصيل بأن يعلم من يطلبه مكانه، فيخلي بينه وبينه، أو يستعين بأعوان القاضي في التسليم. وأما قول الشافعي: «كفالة البدن ضعيفة» فإنه أراد أنها ضعيفة من جهة القياس؛ لأن الشخص الحر لا يدخل تحت اليد، ولا يقدر على تسليمه (1) . هذا هو تحقيق مذهب الشافعي وهو المشهور بخلاف ما تذكره كتب الحنفية. إلا أن الشافعية قالوا: المذهب صحة الكفالة بالنفس أو البدن لمن عليه مال أو لمن عليه عقوبة لآدمي كقصاص وحد قذف، والمذهب منعها في حدود الله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة؛ لأنه يسعى في دفعها ما أمكن.
وقال الحنابلة والمالكية: لا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء أكان حقاً لله تعالى، كحد الزنا والسرقة، أم لآدمي كحد القذف والقصاص.
__________
(1) راجع الشرح الكبير: 344/3، بداية المجتهد: 291/2، مغني المحتاج: 203/2، المهذب: 342/1، المغني: 556/4، المبسوط: 162/19، البدائع: 8/6، فتح القدير: 391/5. الكتاب مع اللباب: 153/2، كشاف القناع: 362/3.المقدمات الممهدات 399/3.(6/17)
ومن أحكام الكفالة بالنفس: أنه إذا شرط الأصيل في الكفالة تسليم المكفول به في وقت بعينه، لزم الكفيل إحضار المكفول به إذا طالبه به في الوقت، وفاء بما التزمه كالدين المؤجل إذا حل، فإن أحضره، فبها، وإن لم يحضره، حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه. وإن أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له على محاكمته كالمصر، برئ من الكفالة، لأنه أتى بما التزمه. وإذا تكفل به على أن يسلمه في مجلس القاضي، فسلمه في السوق برئ أيضاً؛ لأن المقصود هو إمكان الخصومة وإثبات الحق، وهذا حاصل متى سلمه في السوق لتعاون الناس معه على إحضاره إلى القاضي.
ويلاحظ أن المالكية يمنعون الزوجة من كفالة النفس مالم يأذن زوجها؛ لأنها قد تحبس أو تخرج لخصومة أو لطلب المضمون، وفي ذلك معرة، وأجازوا ما سموه بضمان الطلب وهو في الحقيقة نوع من كفالة النفس أو الوجه، ولكن بشرط عدم غرم المال إلا إذا فرط في الطلب، فهو التزام طلب المكفول والبحث عنه إن تغيب، وإرشاد صاحب الحق عليه، كأن يقول: أنا كفيل أو حميل بطلبه أو علي طلبه بشرط عدم غرم المال إن لم أجده (1) .
__________
(1) الشرح الصغير: 430/3، 433، 451.(6/18)
ثانياً ـ أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء من الكفيل ليكون العقد مفيداً، وذلك في الأموال عند جمهور العلماء. وعليه لا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل (أي لأن النيابة لا تجري في العقوبات) ، فلا تفيد الكفالة فائدتها. هذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (1) . ودليلهم ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا كفالة في حد» (2) ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء والإسقاط بالشبهات، فلا يلائمها الاستيثاق، ولأن الحق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به.
ويلاحظ أن عدم جواز الكفالة بالحدود والقصاص معناه عند الحنفية: عدم جواز الإجبار على إعطاء الكفالة، فإن سمحت نفس المدعى عليه وتبرع بإعطاء الكفالة في حالة القصاص والحد الذي فيه حق للعبد وهو حد القذف وحد السرقة، جازت الكفالة بالنفس؛ لأنها كفالة بمضمون على الأصل مقدور الاستيفاء من الكفيل، فتصح كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين.
فإن لم يتبرع المدعى عليه وهو الذي توجه عليه الحد أو القصاص، فلا يجبر عند أبي حنيفة على تقديم كفيل بنفسه بإحضاره في مجلس القضاء لإثبات دعوى المدعى عليه؛ لأن الكفالة لا تتلاءم مع الحدود كما عرفنا، وحينئذ يحبسه القاضي حتى تقام عليه البينة أو يستوفى الحد. وقال الصاحبان: يجبر على تقديم كفيل بنفسه في القصاص وفي حد القذف؛ لأن فيهما حق العبد.
والخلاصة: أنه لا تجوز الكفالة بنفس الحد أو القصاص بدون نفس من عليه الحد، إذ الحد عقوبة لا تجري فيها النيابة، أما لو كفل بنفس من عليه الحد فتصح الكفالة.
وقال الشافعية: المذهب أنه لا تجوز كفالة النفس (أو البدن) في الحدود الخالصة لله تعالى كحد الخمر والزنا والسرقة، لأنه يسعى في دفعها ما أمكن.
وتجوز كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير؛ لأنها حق
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، الشرح الكبير: 346/3، بداية المجتهد: 293/2، المغني: 557/4، فتح القدير: 399/5، مجمع الضمانات: ص 272، الكتاب مع اللباب: 157/2 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي بإسناد ضعيف، وقال: إنه منكر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه ابن عدي في الكامل، وأعله أيضاً برواية أبي عمر الكلاعي بأن أحاديثه منكرة (راجع سبل السلام: 63/3، نصب الراية: 59/4) .(6/19)
لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية (1) .
ويتفرع على هذا الشرط عند الحنفية: أنه تصح الكفالة بالتزام حمولة شيء في ذمة متعهد النقل بوسيلة نقل غير معينة بذاتها كأي سيارة أو دابة لأن المستحق حينئذ مقدور للكفيل. لكن لا تصح الكفالة بالتزام نقل حمل من مكان إلى آخر على سيارة أو دابة معينة بذاتها دون غيرها؛ لأن الكفيل قد يعجز عن الحمولة بتلف وسيلة النقل المخصصة.
ثالثاً - أن يكون الدين لازماً صحيحاً: وهو ما لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء. وهذا الشرط خاص بالكفالة بالمال. ويترتب عليه أنه لا تصح الكفالة ببدل الكتابة، لأنه ليس بدين لازم، أو أنه دين ضعيف؛ لأن للمكاتب إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب، فلا معنى للتوثق به، ولا تصح أيضاً الكفالة بما ليس بدين كنفقة الزوجة قبل القضاء بها أو التراضي عليها؛ لأنها لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو الرضا (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 203/2 ومابعدها، المهذب: 343/1.
(2) الدر المختار مع رد المحتار: 262/4، 274، الشرح الكبير: 333/3، الشرح الصغير: 431/3-434، المهذب: 340/1، مغني المحتاج: 201/2، كشاف القناع: 356/3.(6/20)
قال البغدادي: لو كفل بالنفقة المقررة الماضية صحت الكفالة مع أنها تسقط بدون الأداء أو الإبراء، بموت الكفيل أو المكفول له. وكذا لو كفل بنفقة شهر مستقبل، وقد قرر لها في كل شهر كذا، أو بيوم يأتي وقد قرر لها في كل يوم، فإنها صحيحة (1) .
ضمان ما لم يجب: لا خلاف في جواز ضمان الدين اللازم في الحال إذا كان معلوماً، أما غير اللازم في الحال فلا خلاف أيضاً في عدم جواز ضمانه إن كان لا يؤول إلى اللزوم، فإن كان يؤول إلى اللزوم في المستقبل كجعل الجعالة، وكقول قائل لآخر: داينْ فلاناً أو بايعه أو عامله، وأنا ضامن، فهو جائز عند الجمهور، بدليل تجويزهم ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وهو أحد وجهين عند الشافعية في ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل، والراجح عندهم عدم الجواز، فلا يصح عندهم ضمان ما لم يجب، سواء أجرى سبب وجوبه: كنفقة ما بعد اليوم للزوجة وخادمها، أم لا كضمان ما سيقرضه لفلان؛ لأن الضمان وثيقة بالحق، فلا يسبقه كالشهادة، فيصح بنفقة اليوم للزوجة وما قبله لثبوته، لا بنفقة القريب لمستقبل.
ضمان المجهول: لا يشترط في الكفالة بالمال عند جمهور الفقهاء (2) أن يكون الدين معلوم القدر والصفة والعين، فتصح الكفالة بالمعلوم كقوله: تكفلت عنه بألف، أو بالمجهول كقوله: تكفلت عنه بمالك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع من الضمان؛ لأن الكفالة عقد تبرع مبينة على التوسع، فيحتمل فيها الجهالة بعكس البيع،
__________
(1) مجمع الضمانات: ص 269.
(2) البدائع: 9/6، فتح القدير: 402/5 ومابعدها، بداية المجتهد: 294/2، مغني المحتاج: 200/2، المغني: 536/4-539، 557، المبسوط: 50/20، الدر المختار: 275/4، مجمع الضمانات، المرجع السابق.(6/21)
وقد أجمع الفقهاء على صحة ضمان الدَّرَك (1) : وهو أن يضمن شخص للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقاً أو معيباً أو ناقصاً إما لرداءته أو لنقص صنجات الوزن التي وزن بها.
وصحح الحنفية الكفالة فيما لو قال إنسان لغيره: اسلك هذا الطريق فإن أخذ مالك فأنا ضامن، فأخذ ماله، صح الضمان، والمضمون عنه مجهول، وكذا لو قال: لو غصب مالك فلان أو واحد من هؤلاء القوم فأنا ضامن، صح الضمان (2) .
ومذهب الشافعي الجديد: أنه ينبغي أن يكون المضمون به معلوماً جنساً وقدراً وصفةً وعيناً؛ لأن الضمان إثبات مال في الذمة لآدمي بعقد، فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، فلا يصح المجهول ولا غير المعين كأحد الدينين. وأما ضمان الدَّرَك فهو جائز عندهم لحاجة الناس إليه (3) .
__________
(1) بفتح الراء وسكونها، وهو التبعة أي المطالبة والمؤاخذة، وإن لم يكن له حق ثابت، لأن الحاجة قد تدعو إلى معاملة الغريب، ويخاف أن يخرج ما يبيعه مستحقاً ولا يظفر به، فا حتيج إلى التوثق به. ويسمى أيضاً ضمان العهدة لالتزام الضامن ما في عهدة البائع رده. والعهدة في الحقيقة عبارة عن الصك المكتوب فيه الثمن، ولكن الفقهاء يستعملونه في الثمن مجازاً (انظر مغني المحتاج، المرجع الآتي) فالكفالة بالدرك (بفتحتين) : هي الكفالة بما يدرك المال المبيع ويلحق به من خطر بسبب سابق على البيع (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف271) قال بعض الحنفية: الكفالة بالدرك جائزة وهو التزام تسليم الثمن عند استحقاق المبيع، ولا يلزمه حتى يقضى بالاستحقاق على البائع أو على المشتري (مجمع الضمانات: ص 275) .
(2) مجمع الضمانات: ص 270.
(3) نهاية المحتاج: 403/3، مغني المحتاج: 201/2، المهذب: 340/1 - 342.(6/22)
المبحث الثالث ـ أحكام الكفالة:
للكفالة حكمان (1) :
أحدهما ـ ثبوت ولاية مطالبة الكفيل بما على الأصيل. والمطالب به يختلف بحسب محل الكفالة. فإن كانت الكفالة بالدين، فيطالب الكفيل بما على الأصيل بالدين كله إن كان واحداً. فإن كان هناك كفيلان والدين ألف مثلاً، فيطالب كل واحد منهما بخمس مئة إذا لم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، لأنهما استويا في الكفالة، والمكفول به يحتمل الانقسام، فينقسم عليهما في حق المطالبة. ولو أدى أحدهما لا يرجع على صاحبه؛ لأنه يؤدي عن نفسه، لا عن صاحبه، لكن يرجع على الأصيل بما أدى.
وإن كانت الكفالة بالنفس: فيطالب الكفيل بإحضار المكفول بنفسه إن لم يكن غائباً. وإن كان غائباً يؤخر الكفيل إلى مدة يمكنه إحضاره فيها، فإن لم يحضر في المدة ولم يظهر عجزه، للقاضي حبسه إلى أن يظهر عجزه له. فإذا ظهر للقاضي أنه لا يقدر على الإحضار بدلالة الحال، أو بشهادة الشهود أو غيرها، أطلقه من الحبس وأنظره إلى حال القدرة على إحضاره، لأنه بمنزلة المفلس بالنسبة للدين. وإذا أخرجه القاضي فإن الدائنين الغرماء يلازمونه، ولا يحول القاضي بينه وبين الغرماء، ولكن ليس للغرماء أن يمنعوه من أشغاله أو من الكسب وغيره. هذا مذهب الحنفية.
وقال الشافعية: يلزم الكفيل بإحضار المكفول إن علم مكانه، فإن جهل مكانه لم يلزم بإحضاره، وإذا ألزم بالإحضار يمهل مدة الذهاب والإياب، فإن مضت تلك المدة ولم يحضره حبس إلى أن يتعذر إحضار المكفول بموت أو جهل بموضعه أو إقامة عند شخص يمنعه من إمكان الوصول إليه (2) .
وإن كانت الكفالة بالعين، فيطالب الكفيل بتسليم العين إن كانت قائمة وبمثلها أو قيمتها إن كانت هالكة.
__________
(1) البدائع: 10/6 ومابعدها، فتح القدير: 391/5، 403، المبسوط: 162/19، الدر المختار: 262/4، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 208/2، كشاف القناع: 352/3، المغني: 547/5.
(2) مغني المحتاج: 205/2.(6/23)
هل يبرأ الأصيل من الدين؟
يلاحظ أنه لا يترتب على الكفالة عند جمهور الفقهاء براءة الأصيل (1) ، فيكون الدائن بالخيار بين أن يطالب الأصيل أو يطالب الكفيل إلا إذا كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنها حوالة معنى (2) .
ولم يجز الشافعية في الأصح عندهم الكفالة بشرط براءة الأصيل؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الضمان.
وقال الإمام مالك في أحد قوليه: ليس للدائن أن يطالب الكفيل إلا إذا تعذر مطالبة المكفول عنه؛ لأن الضمان وثيقة، فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصيل كالرهن.
وقال ابن أبي ليلى وابن شُبْرمة وأبو ثور وابن سيرين والظاهرية والإمامية: إن الكفالة توجب براءة الأصيل، وينتقل الحق إلى ذمة الكفيل، فلا يملك الدائن مطالبة الأصيل أصلاً كما في الحوالة، واحتجوا بقصة ضمان أبي قتادة رضي الله عنه الدينارين عن ميت، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال له: «جزاك الله خيراً وفك رهانك كما فككت رهان أخيك» (3) فدل هذا على أن المضمون عنه برئ من الضمان.
والصحيح هو قول الجمهور؛ لأن الكفالة معناها ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة أو في حق أصل الدين على الخلاف السابق، والبراءة تنافي الضم، ولأنَّ الكفالة لو كانت مبرئة، لكانت حوالة، وهما متغايران؛ لأن تغاير الأسامي دليل
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، مغني المحتاج: 208/2، بداية المجتهد: 292/2، المغني: 546/4، 547، فتح القدير: 390/5.
(2) المبسوط: 46/20.
(3) ذكر سابقاً أن رواية علي ضعيفة كما قال ابن حجر، والأصح منها رواية القصة عن أبي قتادة. تغاير المعاني في الأصل.(6/24)
واستدلوا من السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلَّقة بدينه حتى يقضى عنه» (1) . وقوله في قصة أبي قتادة: «الآن بردت جلدته» (2) حين أخبره أنه قضى دينه. وأما صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم على المضمون عنه، فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما امتنع عن الصلاة على مدين لم يخلف وفاء. وأما قوله: «فك الله رهانك إلخ» فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ضمن عنه فكه عن ذلك أو عما في معناه (3) .
وهناك فرق بين وضع الكفالة ووضع الغاصب وغاصب الغاصب، فإن للمالك المغصوب منه أن يضمن أيهما شاء، وإذا اختار تضمين أحدهما لا يملك اختيار تضمن الآخر. ووجه الفرق: أن المالك المغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب أو غاصب الغاصب أي إن قضى القاضي عليه فاختياره يتضمن التمليك منه للمضمون، فيبرأ الآخر بالضرورة، بخلاف المطالبة بمقتضى الكفالة، فإنها لا تقتضي التمليك للمضمون؛ لأن مقتضى الكفالة هو الضم، ولا يحصل التمليك فيها، حتى ولو قضى القاضي ما لم توجد حقيقة الاستيفاء.
الحكم الثاني للكفالة: هو ثبوت ولاية مطالبة الكفيل الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره في جميع أنواع الكفالات، فإذا كانت الكفالة بدين مثلاً يطالب
__________
(1) رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة. وفي معناه روى الطبراني في الأوسط عن البراء بن عازب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صاحب الدين مأسور بدينه يشكو إلى الله الوحدة» وفيه مبارك بن فضالة وثقه عفان وابن حبان وضعفه جماعة (راجع الجامع الصغير: 188/2، مجمع الزوائد: 129/4) .
(2) هذا ثابت في رواية جابر بن عبد الله عند أحمد والدارقطني والحاكم بلفظ «الآن بردت عليه جلده» وفي رواية: «قبره» (راجع التلخيص الحبير: ص 251، نيل الأوطار: 239/5) .
(3) فتح القدير: 390/5 والمراجع السابقة.(6/25)
الكفيل المكفول عنه بالخلاص إذا طولب، وإن حبس فله أن يحبس المكفول عنه؛ لأنه هو الذي أوقعه في هذه التبعة (المسؤولية) ، فكان عليه تخليصه منها.
أما إذا كانت الكفالة بغير أمر الأصيل فليس للكفيل حق ملازمة الأصيل إذا لوزم، ولا حق الحبس إذا حبس.
وإذا قضى الكفيل الدين متبرعاً به، لا ينوي الرجوع به على المكفول عنه، برئ المدين، وأصبح غير ملتزم بالدين، سواء تمت الكفالة والأداء بأمر المكفول عنه وبغير أمره.
وليس للكفيل أن يطالب بالمال قبل أن يؤدي هو، وإن كانت الكفالة بأمر الأصيل؛ لأن ولاية المطالبة إنما تثبت بحكم القرض والتمليك، وكل ذلك يقف على الأداء ولم يوجد فلا يكون الرجوع إلا بعد الأداء، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء، فإن له مطالبة الموكل بالثمن بعد الشراء قبل أن يؤدي هو من مال نفسه؛ لأن الثمن هنا يقابل المبيع، وملك المبيع وقع للموكل، فكان الثمن عليه، فيكون للوكيل الحق في أن يطالبه به. وأما في الكفالة فإن حق المطالبة هو بسبب القرض أو التمليك، ولم يوجد بعد.
فإذا أدى الكفيل كان له أن يرجع على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره؛ لأن العلاقة بينهما تكون حينئذ علاقة قرض واستقراض، فالأصيل مستقرض والكفيل بأداء المال مقرض، والمقرض يرجع على المستقرض بما أقرضه.
المبحث الرابع ـ انتهاء الكفالة:
أذكر هنا طرق انتهاء الكفالة بإيجاز بحسب كل نوع من أنواعها. فإذا كانت الكفالة بالمال فهي تنتهي بأحد أمرين (1) :
أولهما ـ أداء المال إلى الدائن أو ما هو في معنى الأداء، سواء أكان الأداء من الكفيل أم من الأصيل؛ لأن حق المطالبة بالدين طريق إلى الأداء، فإذا وجد فقد حصل المقصود من الكفالة، فينتهي حكم العقد.
__________
(1) البدائع: 11/6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 104، الدر المختار: 285/4، مجمع الضمانات: ص 274، المغني: 546/4 ومابعدها.(6/26)
وتنتهي الكفالة إذا وهب الدائن المال إلى الكفيل أو إلى الأصيل؛ لأن الهبة بمنزلة الأداء. ومثل الهبة التصدق بالدين على الكفيل أو على الأصيل. ومثله أيضاً إذا مات الدائن وورثه الكفيل أو الأصيل؛ لأن بالميراث يملك ما في ذمته، فإن كان الوارث هو الكفيل فقد ملك ما في ذمته، فيرجع على الأصيل، كما لو ملكه بالأداء. وإن كان الوارث هو المكفول عنه برئ الكفيل، كأنه أدى.
ثانيهما ـ الإبراء وهو في معناه: إذا أبرأ الدائن الكفيل أو الأصيل انتهت الكفالة، غير أنه إذا أبرأ الكفيل لا يبرأ الأصيل، وإذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الدين على الأصيل لا على الكفيل، فكان إبراء الأصيل إسقاطاً للدين عن ذمته، فيسقط حق المطالبة للكفيل بالضرورة؛ لأنه إذا سقط الأصل سقط الفرع.
أما إبراء الكفيل فهو إبراء عن المطالبة لا عن الدين، إذ لا دين عليه وليس من ضرورة إسقاط حق المطالبة عن الكفيل سقوط أصل الدين عن الأصيل، لأنه إذا سقط الفرع لا يسقط الأصل.
ولو قال الدائن للكفيل أو المدين: (برئت إلي من المال) يبرأ، لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء؛ لأنه جعل نفسه غاية لبراءته (1) ، وتلك هي براءة القبض والاستيفاء، ويبرأ الكفيل والأصيل جميعاً؛ لأن استيفاء الدين يوجب براءتهما جميعاً، فيرجع الكفيل على الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره.
وإذا قال الدائن للكفيل أو للمدين: (برئت من المال) ولم يقل: (إلي) فيبرأ أيضاً عند أبي يوسف مثل الصورة السابقة. فهو إقرار بالقبض؛ لأن البراءة المضافة إلى المال تستعمل في الأداء عرفاً وعادة فتحمل عليه.
__________
(1) أي أن مفاد هذا التركيب براءة من المال مبدؤها من الكفيل، ومنتهاها صاحب الدين، وهذا هو معنى الإقرار بالقبض من الكفيل، فكأنه قال (دفعت إلي) .(6/27)
وعند محمد: يبرأ الكفيل دون الأصيل، مثل قوله: (أبرأتك) لأن البراءة عن المال قد تكون بالأداء، وقد تكون بالإبراء، فلا تحمل على الأداء إلا بدليل زائد، وقد وجد هذا في الصورة السابقة وهي قوله: (إلي) لأن الكلام ينبئ عن معنى الأداء لما ذكر، ولم يوجد هنا.
وإذا أحال الكفيل أو المدين الدائن بمال الكفالة على رجل، وقبل المحال، فتنتهي الكفالة؛ لأن الحوالة مبرئة عن الدين والمطالبة جميعاً.
وكذلك تنتهي الكفالة بالصلح: بأن يصالح الكفيل الدائن على بعض المدعى به، ويبرأ حينئذ الكفيل والأصيل في حالتين:
إحداهما ـ أن يقول: على أني والمكفول عنه بريئان من الباقي.
والثانية ـ أن يقول: (صالحتك على كذا) مطلقاً عن شرط البراءة.
ويبرأ الكفيل وحده في حال واحدة وهي أن يقول: (على أني بريء من الباقي) (1) .
وتنتهي الكفالة أيضاً بفسخ سبب الكفالة أو إبطاله وهو الدين المكفول: كأن يكفل شخص ما في ذمة المشتري من ثمن الشراء، أو يكفل البائع في تسليم المبيع، ثم فسخ عقد البيع، فتنتهي الكفالة حيث لا يوجد دين مكفول ويسقط حق المكفول له في مطالبة الكفيل.
وإذا كانت الكفالة بالنفس فإنها تنتهي بثلاثة أمور (2) :
الأول ـ تسليم النفس (3) إلى المطالب بها في موضع يقدر على إحضاره مجلس القاضي، مثل أن يكون في مصر من الأمصار؛ لأن الكفيل أتى بما التزمه، وحصل المقصود من الكفالة بالنفس: وهو إمكان المحاكمة عند القاضي، وإذا تحقق المقصود تنتهي الكفالة.
فإن سلمه في صحراء أو برية، لم يبرأ الكفيل؛ لأنه لا يقدر على المحاكمة فيها، فلم يحصل المقصود. وكذا إذا سلمه في بلد ليس فيها قاض أو أعوان القاضي، كالشرطة مثلاً، لعدم إمكان المحاكمة فيها.
__________
(1) المبسوط: 58/20، 91، البدائع، المرجع السابق: ص 12، فتح القدير: 412/5، مختصر الطحاوي: ص 105، مجمع الضمانات: ص 274.
(2) البدائع: 12/6 ومابعدها، المبسوط: 166/19، 175، فتح القدير: 393/5 ومابعدها، 411، الدر المختار: 267/4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 266، 274، الكتاب مع اللباب: 153/2 ومابعدها.
(3) التسليم يتحقق بالتخلية بين المكفول بنفسه والمكفول له.(6/28)
وإن سلمه في السوق أو في المصر، فإنه يبرأ؛ لأن المطلوب هو أن يتحقق التسليم في مكان يقدر فيه على إحضاره إلى مجلس القاضي.
وإن شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه في مصر معين، فسلمه في مصر آخر، فيبرأ عند أبي حنيفة لوجود القدرة على المحاكمة في المصر المعين. ولا يبرأ عند الصاحبين إلا بتسليمه في المكان المشروط؛ لأن التقييد بالمصر قد يكون لغرض مفيد، كأن يكون له شهود فيما عينه دون غيره.
ولو شرط على الكفيل أن يسلم المكفول بنفسه عند الأمير، فسلمه عند القاضي، فإنه يبرأ.
الثاني ـ الإبراء: أي أن يبرئ صاحب الحق الكفيل من الكفالة بالنفس فتنتهي الكفالة؛ لأن مقتضى الكفالة ثبوت حق المطالبة بتسليم النفس، فإذا أسقط حق المطالبة بالإبراء فينتهي الحق ضرورة.
ولا يبرأ الأصيل في هذه الحالة؛ لأن الإبراء صدر للكفيل دون الأصيل. فإن صدر الإبراء للأصيل برئا جميعاً.
الثالث ـ موت المكفول بنفسه: إذا مات الأصيل المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة؛ لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل، فيسقط الإحضار عن الكفيل.
وكذلك تنتهي الكفالة إذا مات الكفيل؛ لأنه لم يبق قادراً على تسليم المكفول بنفسه. وأما ماله فلا يصلح لتنفيذ هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال.(6/29)
ولو مات المكفول له فلا تسقط الكفالة بالنفس كما لا تسقط الكفالة بالمال؛ لأن الكفيل ما زال قادراً على تنفيذ واجبه، ويقوم الوصي أو الوارث مقام الميت في المطالبة.
وأما الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها، فتنتهي بأحد أمرين (1) :
أحدهما ـ تسليم العين المضمونة بنفسها إن كانت قائمة، وتسليم مثلها أو قيمتها إن كانت هالكة.
الثاني ـ الإبراء: أي إبراء الكفيل من الكفالة، بأن يقول له: (أبرأتك من الكفالة) فيبرأ؛ لأن الكفالة حقه، فيسقط بإسقاطه كالدين، أو إبراء الأصيل.
المبحث الخامس ـ رجوع الكفيل على الأصيل:
الكلام في هذا البحث عن ناحيتين: شرائط الرجوع، وبيان ما يرجع به ومتى يرجع. أما شرائط الرجوع فهي ما يأتي (2) :
1 - أن تكون الكفالة بأمر المكفول عنه أي بإذنه: فإن لم تكن بأمره لم يرجع بما يؤديه؛ لأن الكفيل حينئذ يكون متبرعاً بما أدى، ولو كان له الرجوع لما صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على الميت بضمان أبي قتادة، هذا هو مذهب الحنفية والشافعية (3) .
وقال الإمام مالك والإمام أحمد في رواية عنه: لا يشترط أن يكون الضمان بإذن المضمون عنه، لأنه قضاء مبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، كما قال ابن قدامة. وأما أبو قتادة فإنه تبرع بالقضاء والضمان، إذ أنه قضى دين الميت قصداً لتبرئة ذمته، ليصلي عليه النبي صلّى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لم يترك وفاء، والمتبرع لا يرجع بشيء (4) .
__________
(1) البدائع: 13/6.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 13 ومابعدها، فتح القدير: 408/5 ومابعدها، المبسوط: 178/19.
(3) المهذب: 341/1، مغني المحتاج: 209/2.
(4) بداية المجتهد: 294/2، المغني: 449/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 325.(6/30)
2 - أن تكون الكفالة بإذن صحيح: أي بإذن شخص أهل لصدور الإقرار على نفسه بالدين، فلا يعتبر إذن الصبي المحجور عن التصرفات، وبالتالي لايحق للكفيل الرجوع عليه بما أداه عنه؛ لأن العلاقة علاقة استقراض، واستقراض الصبي لا يتعلق به الضمان.
3 - إضافة الضمان إلى الأصيل بأن يقول للكفيل: اضمن عني، لأنه إذا لم يضف إلى نفسه، فلا يتحقق معنى الإقراض الذي تقوم عليه العلاقة بين الكفيل والأصيل؛ لأن الكفالة بالنسبة للمكفول عنه استقراض (أي طلب القرض) وبالنسبة للكفيل بعد الأداء إقراض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء إلى المكفول له. أما بالنسبة للمكفول له: فهو تمليك ما في ذمة المكفول عنه من الكفيل بما أخذه من المال، فيرجع عليه بما أقرضه.
4 - ألا يكون للأصيل على الكفيل دين مثل الدين الذي أداه الكفيل؛ لأنه إذا أدى الدين، حصلت مقاصة بينهما:
ولو وهب صاحب الدين المال للكفيل يرجع على الأصيل؛ لأن الهبة في معنى أداء المال. وإذا وهب الدين إلى الأصيل برئ الكفيل؛ لأن هذا وأداء المال سواء.
ولو مات الدائن فورثه الكفيل يرجع على الأصيل، ولو ورثه الأصيل يبرأ الكفيل؛ لأن الإرث من أسباب الملكية، ومتى ملك الأصيل المال برئ، فيبرأ الكفيل.
ولو أبرأ الدائن الكفيل لا يرجع على الأصيل؛ لأن الإبراء إسقاط وهو بالنسبة للكفيل إسقاط حق المطالبة لا غير. وإذا أبرأ الكفيل الأصيل مما ضمنه عنه بإذنه أو وهبه منه جاز، فلو أدى الكفيل الدين بعدئذ، لا يرجع على الأصيل.
ولو قال الدائن للكفيل: (برئت إليَّ من المال) يرجع الكفيل على الأصيل باتفاق الحنفية؛ لأن هذا إقرار بالقبض والاستيفاء، باعتبار أن اللفظ يستعمل في الأداء، فيرجع: أي أن هذه البراءة لا تكون إلا بالإيفاء فكان ذلك بمنزلة قوله: (دفعت إليَّ المال أو قبضته منك) وهو إقرار بالقبض.(6/31)
أما إذا قال: (برئت من المال) فهو إقرار بالقبض عند أبي يوسف كأنه قال: (برئت إليَّ من المال) لأنه أقر ببراءة خاصة بالكفيل وهو يكون بفعل صادر عنه، كما إذا قيل: (قمت وقعدت مثلاً) وهذا الفعل هنا هو الإيفاء.
وعند محمد: لا يرجع الكفيل على المكفول عنه؛ لأن هذا بمنزلة قوله: (أبرأتك من المال) لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه (أي بالقبض والإبراء) فيثبت القدر الأدنى وهو براءة الكفيل، وأما الزائد عليه (وهو الأداء) ففيه شك، فلا يثبت القبض بالشك، وبالتالي لا يحق للكفيل الرجوع حينئذ على المكفول عنه، وهذا هو الرأي الأرجح عند الحنفية.
وأما سبب عدم رجوع الكفيل على المكفول عنه في قول الدائن له: (أبرأتك) فهو أن هذا اللفظ يفيد تخصيص البراءة بالكفيل، ولا يتعدى أثره إلى غيره بإسقاط الدين عن المدين، فلم يكن هذا اللفظ متضمناً إقرار الدائن بإيفاء الدين. والفرق بين هذه الصورة وصورة: (برئت من المال) عند أبي يوسف: هو أن البراءة بالإبراء لا تتحقق بفعل الكفيل بل بفعل الدائن، فلا يكون الفعل حينئذ منسوباً إلى الكفيل (1) .
والخلاصة: أن الراجح عند الحنفية هو أن الكفيل لا يرجع على الأصيل في قول الدائن للكفيل: (برئت) بدون إلي أو (أبرأتك) لأنه إبراء لا إقرار بالقبض.
رجوع الكفيل على الأصيل حالة تعدد الكفلاء: إذا كفل رجلان رجلاً بألف ليرة مثلاً، ولم يكفل كل واحد منهما عن صاحبه، فأدى أحدهما ما عليه، فلا يرجع على صاحبه بشيء مما أدى؛ لأنه أدى عن نفسه لا عن صاحبه، ولكنه يرجع على الأصيل؛ لأنه كفيل عنه بأمره.
فإن كفل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فالقول قول الكفيل فيما أدى أنه من كفالة الكفيل الآخر، أو من كفالة نفسه؛ لأنه لزمه المطالبة بالمال من وجهين:
أحدهما ـ من جهة كفالة نفسه عن الأصيل.
__________
(1) المبسوط: 93/20، فتح القدير: 413/5، رد المحتار على الدر المختار: 287/4 ومابعدها.(6/32)
والثاني ـ من جهة الكفالة عن صاحبه. وليس أحد الوجهين أولى من الآخر، فكان له ولاية الأداء عن أيهما شاء.
وإذا كفل كل واحد منهما عن صاحبه بما عليه، فما أدى كل واحد منهما، يكون عن نفسه إلى نصف المكفول به: وهو خمس مئة ليرة في مثالنا. ولا يقبل قوله فيه أنه أدى عن شريكه لا عن نفسه، بل يكون عن نفسه إلى هذا القدر، فلا يرجع على شريكه. كما لا يقبل قوله أيضاً حين الأداء أنه يؤدي عن شريكه لا عن نفسه.
ولا يرجع على شريكه ما لم يزد المؤدى عن نصف المكفول به وهو خمس مئة في مثالنا، فإن زاد على خمس مئة يرجع بالزيادة إن شاء على شريكه، وإن شاء على الأصيل.
وهذه القاعدة تنطبق أيضاً في فروع أخرى منها: لو اشترى رجلان شيئاً بألف ليرة، وكفل كل واحد منهما عن صاحبه بحصته من الثمن، فما أدى أحدهما يقع عن نفسه، ولا يرجع على شريكه حتى يزيد على النصف.
ومنها: أن الشريكين شركة مفاوضة إذا افترقا وعليهما دين، فلصاحب الدين أن يطالب كل واحد منهما، وأيهما أدى شيئاً لا يرجع على شريكه حتى يزيد المؤدى على النصف (1) .
وأما ما يرجع به الكفيل على الأصيل: فهو أنه يرجع عند الحنفية بما ضمن، لا بما أداه؛ لأنه ملك ما في ذمة الأصيل، فيرجع بما تمت الكفالة عليه. فلو كانت الكفالة على شيء جيد، فأدى ما هو أدون منه، فإنه يرجع على الأصيل بالجيد.
وكذلك إذا كفل ديناً نقدياً، فأدى عنه مكيلاً أو موزوناً أو عروض تجارة، فإنه يرجع بما كفل، لا بما أدى.
وهذا بخلاف الوكيل بقضاء الدين، فإنه يرجع على الموكل بما أدى لا بالدين، لأنه بالأداء ما ملك الدين، بل أقرض ما أداه الموكل، فيرجع عليه بما أقرضه. أما في حالة الصلح على بعض الدين فإنه يرجع بما صالح به، لا بكل الدين، لأنه بأداء البعض لم يملك ما في ذمة الأصيل وهو كل الدين، إذ لا يمكن اعتبار الصلح تمليكاً؛ لأنه يؤدي إلى الربا (2) .
__________
(1) البدائع: 14/6 ومابعدها، فتح القدير: 437/5 وما بعدها، المبسوط: 34/20، الدر المختار: 298/4.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 15.(6/33)
وقال المالكية والشافعية في الأصح عندهم: يرجع الكفيل بما غرم (أي بما أدى فعلاً) لأنه هو الشيء الذي بذله. وكذلك في حالة الصلح أو الإبراء من بعض الدين يرجع الكفيل بما أدى عند الشافعية، وبالأقل من الدين وقيمة الشيء المصالح به عند المالكية (1) .
وقال الحنابلة: يرجع الكفيل على الأصيل بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين؛ لأنه إن كان الأقل هو الدين، فالزائد لم يكن واجباً، فهو متبرع بأدائه.
وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم (2) ، فيكون مذهبهم كالمالكية والشافعية.
متى يرجع الكفيل على الأصيل؟ ليس للكفيل أن يطالب الأصيل (المكفول عنه) بالمال الذي كفله عنه قبل أن يؤديه عنه؛ لأنه لا يملكه قبل الأداء، بخلاف الوكيل بالشراء، حيث يرجع قبل الأداء كما بان سابقاً؛ لأنه بمنزلة البائع. فإن لوزم الكفيل بالمال المكفول به، كان له أن يلازم الأصيل المكفول عنه. وإن حبس به، كان له أن يحبسه، حتى يخلصه؛ لأنه لم يلحقه من السوء ما لحقه، إلا بسببه، فيجازى بمثله (3) .
ملحق ـ أخذ الأجر على الكفالة في الوقت الحاضر:
الكفالة عقد تبرع، وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل الرجوع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والأولى تتم تبرعاً بدون مقابل، فذلك أبعد عن الشبهة. ولو قام المكفول له بتقديم شيء من المال للكفيل هبة أو هدية، جاز، جزاء المعروف
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 346/3، مغني المحتاج: 209/2 ومابعدها.
(2) المغني: 551/4.
(3) الكتاب مع اللباب: 157/2.(6/34)
الذي أسداه له الكفيل. لكن إن شرط الكفيل تقديم مقابل أو أجر على كفالته، وتعذر على المكفول عنه تحقيق مصلحته من طريق المحسنين المتبرعين، جاز دفع الأجر للضرورة أو الحاجة العامة، لما يترتب على عدم الدفع من تعطيل المصالح كالسفر للخارج للدراسة أو للارتزاق، أو لتأجيل الجندية ونحوها، وأساس القول بالجواز فيه: أن الفقهاء أجازوا دفع الأجر للحاجة لأداء القربات والطاعة من تعليم قرآن وممارسة الشعائر الدينية، كما أنهم أجازوا دفع شيء من المال على سبيل الرشوة للوصل إلى الحق أو دفع الظلم، أو الدفع لعدو لدرء خطره وضرره عن البلاد. والمكفول عنه يحقق بالكفالة منفعة له تتعين الكفالة المأجورة سبيلاً إليها، لكن يجب عدم الاستغلال أو المغالاة في اشتراط المقابل، مراعاة لأصل مشروعية الكفالة وهو التبرع. كما يمكن اعتبار الأجر لمكاتب الكفالات مقابل الأتعاب في إنجاز معاملة الكفالة.
الاعتماد المستندي: الاعتماد المستندي يستعمل في تمويل التجارة الخارجية، وهو تعهد كتابي صادر من مصرف بناء على طلب مستورد لصالح مورد، يتعهد فيه المصرف بدفع المبالغ التي يستحقها المورد ثمناً لسلع يصدرها للمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد المستندات المتعلقة بالسلع، والشحن، على أن تكون هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد.
وحكم الاعتماد المستندي المغطى غطاء كلياً يكون المصرف فيه وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وإن كان كفيلاً بالنسبة للمصدِّر الذي يعتبر مكفولاً له، وللمصرف أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته، لا عن كفالته.
أما في الاعتماد غير المغطى كلياً أو جزئياً، فالمصرف كفيل، وفاتح الاعتماد غير المغطى مكفول عنه، فإذا أخذ المصرف عمولة مقابل المبلغ المكفول به، لا مقابل العمل الذي يقوم به، فقد أخذ أجراً مقابل الكفالة ذاتها، وهو لا يجوز (1) .
وينطبق حكم الكفالة على خطابات الضمان (2) التي تصدرها البنوك إذا كان الخطاب غير
__________
(1) الكفالة للدكتور علي السالوس: ص 159-160.
(2) خطاب الضمان: تعهد كتابي، يتعهد بمقتضاه المصرف بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول، وذلك ضماناً لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة في مدة الخطاب.(6/35)
مغطى من العميل، والحكم الشرعي أنه لا يجوز للبنك أخذ الأجر على هذا العمل؛ لأنه أجر على الكفالة. أما إذا كان الخطاب مغطى بالغطاء النقدي من العميل ولو غطاءً جزئياً لا كلياً، فيجوز للبنك أخذ مقابل إصدار الخطاب وما يقترن به من العمل على أساس الوكالة، ومن المعلوم أنه يجوز أخذ الأجر على الوكالة، ولا يجوز أخذ الأجر على الكفالة، ويكون أجر الوكالة ـ كما جاء في المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية في دبي ـ مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف بحسب العرف المصرفي.
وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية تتعلق بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع. ويجوز للمصرف أخذ مقابل الخدمات والمصاريف في الضمان غير المغطى.
تطبيقات على الكفالات المعاصرة
أولاً ـ أهم أنواع الكفالات التجارية:
عرف الفقهاء أنواعاً مهمة من الكفالات التجارية التي تشبه في جوهرها الكفالات المصرفية أهمها ما يلي:
1 - ضمان الدرك أو ضمان العهدة: وهو كما تقدم ضمان الثمن للبائع، وضمان المبيع للمشتري.(6/36)
2 - ضمان السوق: وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول. وقد أجازه الجمهور وأبطله الشافعي (1) . ودليل جوازه قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} [يوسف:72/12] . وصرح صاحب الفتاوى الحامدية بجوازه (2) .
نصت مجلة الأحكام الشرعية (م 1094) على هذا النوع: «يصح ضمان السوق، مثلاً: لو ضمن ما يلزم التاجر أو مايبقى عليه للتجار أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان» .
3 - ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع: وهو كما تقدم وكما هو واضح: التعهد بضمان نقص أدوات الكيل أو الوزن أو المساحة كالذراع ونحوه.
جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م 1091) : «يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلاً، لو اشترى موزوناً فشك في نقص الصنجة، أو مكيلاً فشك في نقص المكيال أو مذروعاً، فشك في نقص الذراع فضمن شخص النقص صح ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص والقول له بيمينه» .
وهذه الأنواع الثلاثة ضمان مجرد: وهو عقد تبرع خالص لا أجر له، بخلاف أنظمة المصارف الربوية.
ثانياً ـ الاعتمادات المستندية:
الاعتماد المستندي: تعهد كتابي من المصرف لصالح مورِّد، يتعهد فيه المصرف بدفع ثمن السلع المصدرة لمستورد طالب فتح الاعتماد، متى قدم المورد مستندات السلع والشحن، على أن تكون
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 549/29.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 285/1.(6/37)
هذه المستندات مطابقة لشروط الاعتماد. ويستعمل في تمويل التجارة الخارجية (1) .
وحكمه حكم خطاب الضمان: إن كان مغطى غطاء كلياً، كان المصرف وكيلاً عن فاتح الاعتماد، وله أن يأخذ عمولة أو أجراً عن وكالته. وإن كان غير مغطى كلياً أو جزئياً، كان المصرف كفيلاً، وفاتح الاعتماد مكفول عنه، فلا يجوز للمصرف أخذ أجر مقابل الكفالة ذاتها، وإنما مقابل الإجراءات والمصاريف الإدارية فقط. وإذا كان الغطاء جزئياً لاستيراد سلعة معينة، فإن البنك يصبح شريكاً لفاتح الاعتماد في الكسب أو الخسارة بنسبة معينة هي 2% مثلاً، وليس كفالة مجردة.
ثالثاً ـ التأمين التجاري ذو القسط الثابت:
يسمى هذا التأمين أيضاً بالضمان، ومنه شركة الضمان السورية، وذلك حتى يلتبس بالكفالة ويوهم الناس بمشروعيته، وربما أدخل تحت كفالة المجهول وضمان ما لم يجب.
وتعريفه قانوناً: هو عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له (المستأمن) أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن.
فهو كما يتبين عقد من العقود الاحتمالية ومن عقود المعاوضات المالية، وليس العوض تبرعاً من المؤمِّن. والعقود الاحتمالية داخلة تحت فئة عقود الغرر؛ إذ لايعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد
__________
(1) الكفالة في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور علي السالوس: ص 159.(6/38)
يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث (1) .
وهو بهذه الأوصاف غير جائز شرعاً لاشتماله على الغرر والربا.
أما الغرر: فواضح فيه؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (2) . ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين. والغرر في التأمين كثير لا يسير ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له (المستأمن) لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً.
وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق. وبالرغم من ذلك لا تنتفي مع هذه القواعد صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً.
وليس الأمان بالنسبة للمستأمن هو محل العقد، وإنما هو الباعث على عقد التأمين، ولو كان هو محل العقد، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به.
__________
(1) الغرر وأثره في العقود: ص 639-663.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/39)
وأما الربا: فمن المؤكد أن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه، لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً. ثم إن الربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن؛ لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر، والدفع متأخر في المستقبل، فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام.
وكان ابن عابدين المتوفى سنة 1252 هـ أول من اعتبر عقد التأمين البحري غير مشروع، قال بعد بيان ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب: «والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لايلزم» (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 273/3، ط البابي الحلبي.(6/40)
وتأيد هذا بما قرره المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396 هـ/1976 م) وكذا مجمع الفقه في جدة عام 1406هـ/1985م من عدم مشروعية التأمين التجاري.
وقال ابن نجيم المصري (1) : الغرور لا يوجب الرجوع، فلو قال: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن، فسلكه فأخذه اللصوص، أو كل هذا الطعام، فإنه ليس بمسموم، فأكله فمات فلا ضمان. ثم استثنى من ذلك ثلاث حالات، منها إذا كان الغرور بالشرط، كما لو زوجه امرأةً على أنها حرة، ثم استحقت، فإنه يرجع على المخبر بما غرمه للمستحق من قيمة الولد.
أما التأمين التعاوني بين فئة من الناس، فهو جائز شرعاً؛ لأنه عقد من عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر من حريق أو غرق أو سرقة أو حادث سيارة أو بسبب حوادث العمل أو موت حيوان ونحو ذلك، ولأنه لا يهدف إلى تحقيق الأرباح، كما تفعل شركات التأمين ذات القسط الثابت.
وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385 هـ/1965 م) ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972 م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره المجمع الفقهي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978 م) ومجمع الفقه الإسلامي في جدة في قراره رقم 9 عام 1406هـ/ 1985م.
والخلاصة: لا يجوز التأمين التجاري لاشتماله على الربا والغرر، وليس هو من باب الكفالة سواء كفالة المجهول وضمان ما لم يجب؛ لأن الكفالة تبرع، والتأمين عقد معاوضة احتمالي.
ويجوز التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني لقيامه على التبرع، والتعاون على البر والخير والإحسان المحض من غير معاوضة.
رابعاً ـ كفالات الإقامة والسفر:
عرفنا أن الكفالة عقد تبرع وطاعة يثاب عليها الكفيل؛ لأنها تعاون على الخير، وللكفيل أن يرجع على المكفول عنه بما تحمله من مسؤولية الضمان إذا دفعه لصالح الجهة المكفول لها. والكفالة مشروعة سواء كانت كفالة بالمال (أو الدين) أو كفالة بالنفس.
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 252 وما بعدها، ط دار الفكر بدمشق.(6/41)
ومن المعروف أن دول الخليج تشترط تقديم كفيل بالنفس والمال على العمال وأرباب العمل الذين يمارسون أعمالهم فيها، ويلتزم الكفيل من أجل منح هؤلاء الإقامة في هذه البلاد التي يعملون فيها تقديم الأجنبي للسلطات المختصة لترحيله عند انتهاء إقامته أو إلغائها، أو صدور قرار بإبعاده، مع سداده نفقات الترحيل. كما يلتزم بجميع الديون والالتزامات التي تترتب في ذمة مكفوله الأجنبي خلال مدة إقامته في البلاد، إذا لم يف بها، ولم تكن له أموال ظاهرة يمكن التنفيذ عليها.
كما توجب قوانين بعض الدول تقديم كفيل بالنفس والمال عند السماح لبعض رعاياها بالسفر للخارج من أجل العمل أو الدراسة أو تأجيل خدمة العلم (الجندية) ونحوها، ويلتزم الكفيل بدفع مبلغ من المال إذا لم يقدم المكفول بنفسه للدولة حال مطالبة السلطات الحكومية بإحضاره. وحكم هذين النوعين من الكفالة: كفالة الإقامة والسفر للخارج: أن الكفالة بالرغم من كونها عقد تبرع، يجوز بموجبها للكفيل أخذ مقابل عمله وجهده فقط، وله الرجوع بما يغرم، وما زاد عن هذا فهو سحت حرام (1) ، بل هو ظلم وغبن فاحش إذا تجاوز الكفيل هذه الحدود المشروعة، بأن طالب المكفول بتقديم نسبة من أرباح العمل، أو بأقساط شهرية دورية، دون أن يقدم الكفيل لمكفوله أي عمل، أو يتحمل أي جهد، أو يؤدي عنه أي نفقة.
وقد نصت المادة (1098) من قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات، المستمد من الفقه الإسلامي على ما يلي:
«لا يجوز للكفيل أن يأخذ عوضاً عن كفالته، فإن أخذ عوضاً عنها وجب عليه رده لصاحبه، وتسقط عنه الكفالة إن أخذه من الدائن أو من المدين أو من أجنبي بعلم من الدائن، فإن أخذه بدون علم منه لزمته الكفالة مع رد العوض» .
وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة: وإنما منع أخذ الضامن عوضاً عن ضمانه؛ لأن الدين إن دفعه المدين، كان أخذ الضامن للعوض من أكل أموال الناس بالباطل. وإن دفعه الضامن ثم رجع به على المدين، كان دفعه للدين وأخذه من المدين سلفاً للمدين بزيادة، وهي العوض الذي أخذه، وهذا ممنوع.
والخلاصة: يجوز أخذ الأجر على كفالة الإقامة أو السفر إذا كانت مقابل عمل وجهد فقط أو بسبب غرم الكفيل، وما زاد على ذلك فهو مال حرام.
__________
(1) الكفالة للدكتور علي السالوس: ص 172.(6/42)
الفَصْلُ الحادي عَشَر: الحَوالَة
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الحوالة في المباحث الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الحوالة ومشروعيتها وركنها وصيغتها.
المبحث الثاني ـ شروط الحوالة.
المبحث الثالث ـ أحكام الحوالة.
المبحث الرابع ـ انتهاء الحوالة.
المبحث الخامس ـ رجوع المحال عليه على المحيل.
وأبدأ الكلام عن:
المبحث الأول ـ تعريف الحوالة ومشروعيتها وركنها وصيغتها:
تعريف الحوالة: الحوالة في اللغة: الانتقال، يقال: حال عن العهد: أي انتقل عنه وتغير. وفي الاصطلاح عند الحنفية: نقل المطالبة من ذمة المدين إلى ذمة الملتزم، بخلاف الكفالة، فإنها ضم في المطالبة لا نقل، فلا يطالب المدين بعد الحوالة بالاتفاق. وهل ينتقل الدين أو لا؟ اختلف أئمة الحنفية فيه، والصحيح أنه ينتقل كما سيأتي بيانه. لذا عرف صاحب العناية الحوالة بقوله: الحوالة في اصطلاح الفقهاء: تحويل الدين من ذمة الأصيل إلى ذمة المحال عليه على سبيل التوثق به (1) .
وعرفها غير الحنفية بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة (2) .
مشروعيتها: الحوالة بالدين جائزة بالسنة والإجماع استثناء من منع التصرف في الدين بالدين.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 443/5، وانظر الدر المختار أيضاً:300/4، مجمع الضمانات: ص 282.
(2) الشرح الكبير: 325/3، مغني المحتاج: 193/2، المغني: 528/4، غاية المنتهى: 114/2، كشاف القناع: 370/3.(6/43)
أما السنة فقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء (1) فليتَّبع» (2) : أي فليحتل، كما رواه البيهقي. وفي رواية الطبراني في معجمه الوسط: «ومن أحيل على مليء فليتبع» وفي رواية أحمد وابن أبي شيبة: «ومن أحيل على مليء فليحتل» وقد يروى: «فإذا أحيل» . وجمهور العلماء على أن الأمر المذكور أمر استحباب فلا يجب قبول الحوالة. وقال داود وأحمد: الأمر للوجوب، فيجب على المحال قبول الحوالة (3) .
__________
(1) المطل بالدين: المماطلة به، من مطلت الحديدة: إذا ضربتها ومددتها لتطول. والمليء: الغني، وأصله الواسع الطويل.
(2) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة وابن أبي شيبة والطبراني في معجمه الوسط عن أبي هريرة، ورواه أيضاً أحمد وابن ماجه والترمذي عن ابن عمر بلفظ: «مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على مليء فاتبعه» ورواه أيضاً البزار عن جابر بلفظ: «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» وفيه ضعيف. (راجع نصب الراية: 59/4، التلخيص الحبير: ص 250، مجمع الزوائد: 130/4، سبل السلام: 61/3، نيل الأوطار: 236/5) . وكلمة «فليتبع» الأكثر على التخفيف، وقيده بعضهم بالتشديد، والأول أجود، والمعنى: إذا أحيل فليحتل، أي فليقبل الحوالة.
(3) سبل السلام: 61/3، المغني: 527/4، الميزان للشعراني: 80/2.(6/44)
وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة (1) . فهي عقد جائزفي الديون دون الأعيان؛ لأنها تنبئ عن النقل، والتحويل يكون في الدين لا في العين، أي أن النقل الحكمي لا يكون في العين فلا تصح فيها الحوالة.
ركن الحوالة: ركن الحوالة عند الحنفية: الإيجاب من المحيل، والقبول من المحال والمحال عليه، بألفاظ مخصوصة هي صيغة الحوالة. فالإيجاب: أن يقول المحيل للدائن: أحلتك على فلان. والقبول من المحال والمحال عليه: أن يقول كل واحد منهما: قبلت أو رضيت أو نحوهما. والسبب في أنه لا بد من رضا المحال عليه عند الحنفية: هو أن الحوالة تصرف على المحال عليه بنقل الحق إلى ذمته، فلا يتم إلا بقبوله ورضاه، إذ أنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً للمحيل لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً.
وأما رضا المحال: فلا بد منه؛ لأن الدين حقه، وهو في ذمة المحيل، والدين هو الذي ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوافيه.
وأما المحيل فقد شرط القدوري رضاه؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين، وذكر في الزيادات وهو الرأي المختار عند بعضهم: أن الحوالة تصح بدون رضاه؛ لأن التزام الدين من المحال عليه تصرف في حق نفسه، والمحيل لا يتضرر به بل فيه نفعه (2) .
__________
(1) انظر المغني: 521/4، المهذب: 337/1، مغني المحتاج: 193/2، بداية المجتهد: 294/2، فتح القدير: 444/5.
(2) البدائع: 15/6 ومابعدها، فتح القدير: المرجع السابق مع العناية بهامشه، مختصر الطحاوي: ص 102، رد المحتار: 301/4 ومابعدها.(6/45)
وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة؛ لأن الأمر في الحديث عندهم للوجوب كما عرفنا، ولايعتبر رضاهما (1) ، بعكس الحنفية تماماً، واكتفى الحنابلة باشتراط علم المحال به والمحال عليه. والسبب في عدم اشتراط رضا المحال عليه هو أن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل.
وقال المالكية في المشهور عندهم والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضاالمحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة، وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء. وأما المحال فلا يجب عليه الرضا بالحوالة؛ لأن الأمر في الحديث الوارد بمشروعية الحوالة للاستحباب، فلا يلزم المحال قبول الإحالة.
ولايشترط رضا المحال عليه؛ لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض، فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه، ويخالف المحال عليه المحال بأن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع، أما المحال عليه فالحق عليه، فلا يعتبر رضاه، كالشيء المبيع (2) .
يفهم مما سبق أن للحوالة عند الجمهور غير الحنفية أركاناً أو عناصر ستة تقوم عليها وهي: محيل وهو المدين، ومحال ويسمى أيضاً محتالاً وحويلاً وهو رب الدين أو الدائن، ومحال عليه أو محتال عليه وهو الذي التزم الدين للمحال،
__________
(1) المغني: 522/4، 525، 527، غاية المنتهى: 114/2، كشاف القناع: 374/3.
(2) بداية المجتهد: 294/2، الشرح الكبير: 325/3، المهذب: 338/1، مغني المحتاج: 193/2 ومابعدها.(6/46)
ومحال أو محتال به: وهو نفس الدين الذي للمحال على المحيل، ودين للمحيل على المحال عليه، وصيغة (1) .
المبحث الثاني ـ شروط الحوالة:
يشترط لصحة الحوالة عند الحنفية شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالمحيل، أو بالمحال، أو بالمحال عليه، أو بالمحال به.
شروط الصيغة: تنعقد الحوالة بتوافر الإيجاب والقبول أو ما في معناهما كالتوقيع على سند الحوالة والكتابة والإشارة، والإيجاب: أن يقول المحيل: أحلتك على فلان، والقبول: أن يقول المحال: قبلت أو رضيت. ويشترط في الإيجاب والقبول كونهما في مجلس العقد. وأن يكون العقد باتاً، فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط.
شروط المحيل: يشترط في المحيل شرطان:
أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح حوالة المجنون والصبي الذي لا يعقل، لأن العقل شرط لممارسة أي تصرف.
ولا تنفذ حوالة الصبي المميز، وإنما تتوقف على إجازة وليه، فالبلوغ إذن شرط نفاذ لا انعقاد.
ثانياً ـ رضا المحيل: فلو كان مكرهاً على الحوالة لا تصح؛ لأن الحوالة إبراء فيها معنى التمليك، فتفسد بالإكراه كسائر التمليكات (2) . ووافقهم المالكية والشافعية والحنابلة في هذا الشرط.
وقال ابن كمال في الإيضاح: وأما رضا المحيل فإنما يشترط للرجوع عليه.
شروط المحال: يشترط في المحال شروط ثلاثة:
أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد كالشرط في المحيل بأن يكون عاقلاً؛ لأن قبوله ركن في العقد، وغير العاقل ليس من أهل القبول. وبأن يكون بالغاً وهو شرط نفاذ لا شرط انعقاد كما تبين، فإذا كان المحال غير بالغ، فيحتاج في الحوالة لإجازة وليه.
__________
(1) راجع مغني المحتاج، المرجع السابق، فتح القدير: 443/5.
(2) البدائع: 16/6، مجمع الضمانات: ص 282.(6/47)
ثانياً ـ الرضا: فلا تصح الحوالة إذا كان المحال مكرهاً، لما ذكر، ووافقهم المالكية والشافعية في هذا الشرط.
ثالثاً ـ أن يتم قبوله في مجلس الحوالة: وهذا شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد، فلو كان المحال غائباً عن المجلس، فبلغه الخبر، فأجاز، لا ينفذ عندهما. وعند أبي يوسف: هذا شرط نفاذ. قال الكاساني: والصحيح قولهما؛ لأن قبول المحال أحد أركان الحوالة (1) .
شروط المحال عليه: يشترط في المحال عليه شروط ثلاثة هي شروط المحال نفسها:
أولاً ـ أن يكون أهلاً للعقد، بأن يكون عاقلاً بالغاً، فلا تصح الحوالة على الصبي والمجنون، إلا أن البلوغ يعتبر هنا شرط انعقاد، فلا يصح من الصبي قبول الحوالة أصلاً.
ثانياً ـ الرضا: فلو أكره على قبول الحوالة، لا يصح العقد، ولم يشترط المالكية رضا المحال عليه.
__________
(1) المرجعان السابقان.(6/48)
ثالثاً ـ أن يتم قبوله في مجلس العقد، وهو شرط انعقاد عند أبي حنيفة ومحمد (1) .
شروط المحال به: يشترط شرطان في المحال به وهما (2) :
أولاً ـ أن يكون دَيْناً: أي أن يكون هناك دين للمحال على المحيل. فإن لم يكن هناك دين، فيكون العقد وكالة تثبت فيها أحكامها، وليس حوالة. ويترتب عليه أنه لا تصح الحوالة بالأعيان القائمة؛ لأنها لا تثبت في الذمة.
ثانياً ـ أن يكون الدين لازماً: مثل دين القرض فلا تصح الحوالة ـ في الماضي ـ على المكاتب ببدل الكتابة؛ لأنه دين غير لازم؛ لأن السيد لا يجب له على عبده دين. وفي الجملة: إن كل دين لا تصح الكفالة به لا تصح الحوالة به، وهو الدين الحقيقي غير الاحتمالي الذي يعبرون عنه بالدين الصحيح. واشترط كون الدين لازماً هو رأي الجمهور غيرالحنابلة، وأجاز الحنابلة الحوالة بدين الكتابة أو بدين الثمن في مدة الخيار. وأجاز الشافعية كون الدين آيلاً إلى اللزوم بنفسه، كدين الثمن المقترن بخيار في العقد، والصداق قبل الدخول، والأجرة قبل استيفاء المنفعة.
وكذلك لا تصح الحوالة إذا كان دين المحيل في ذمة المحال عليه غير لازم كدين صبي وسفيه بغير إذن ولي، فلا تصح الإحالة عليهما لعدم لزوم هذا الدين؛ لأن لولي الصغير والسفيه طرح الدين عنهما وإسقاطه.
ومثله أيضاً ثمن سلعة مبيعة بالخيار قبل لزومه؛ لأنه يعد ديناً غير لازم.
وأما وجوب الدين على المحال عليه للمحيل قبل الحوالة، فليس بشرط عند الحنفية لصحة الحوالة، فإن الحوالة تصح سواء أكان للمحيل على المحال عليه دين أم لم يكن، وسواء أكانت الحوالة مطلقة أم مقيدة.
واشترط المالكية والشافعية (3) في المحال به ثلاثة شروط:
الأول ـ أن يكون الدين المحال به قد حلّ.
الثاني ـ أن يكون الدين المحال به مساوياً للمحال عليه في الصفة والمقدار، فلا يجوز أن يكون أحدهما أقل أو أكثر أو أدنى أو أعلى؛ لأنه يخرج عن الإحالة إلى البيع، فيدخله الدين بالدين.
الثالث ـ ألا يكون الدينان أو أحدهما طعاماً من سلَم؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه، وهو لا يجوز، فإن كان أحدهما من بيع والآخر من قرض، جاز إذا حل الدين المحال به.
نوعا الحوالة عند الحنفية: الحوالة نوعان: مطلقة ومقيدة.
المطلقة: أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل الرجل المحال عليه. ولم يقل بجوازها غير الحنفية، ووافقهم فيها الشيعة الإمامية والزيدية على الراجح عندهم. والحوالة المطلقة في المذاهب الثلاثة غير الحنفية حيث لا يكون للمدين دين في ذمة المحال عليه تعد كفالة محضة، ولا بد فيها من رضاء الأطراف الثلاثة بها (وهم الدائن والمدين والمحال عليه جميعاً) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع: 16/6، بداية المجتهد: 295/3، الشرح الكبير: 325/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 194/2، المهذب: 337/1، المغني: 533/4.
(3) الشرح الصغير: 425/3-426، الشرح الكبير: 326/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 194/2 ومابعدها.(6/49)
والمقيدة: أن يحيله ويقيده بالدين الذي له عليه. وهذه هي الحوالة الجائزة باتفاق العلماء (1) .
وكلا النوعين جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحيل على مليء فليتبع» إلا أن الحوالة المطلقة تختلف عن الحوالة المقيدة في بعض الأحكام كما يأتي (2) :
1 - إذا كانت الحوالة مطلقة ولم يكن للمحيل على المحال عليه دين، فإن المحال يطالب المحال عليه بدين الحوالة فقط.
وإن كان له عليه دين، ولم يقيد الحوالة به بأن لم يقل: (أحيله عليك بما لي عليك) أو (على أن تعطيه مما عليك) وقبل المحال عليه، فإن المحال عليه يطالب بدينين: دين الحوالة ودين المحيل، فالمحال يطالب بدين الحوالة، والمحيل يطالب بالدين الذي له عليه، كما إذا كان عند رجل ألف ليرة وديعة، فأحال شخصاً عليه بألف ليرة، ولم يقيده بالألف الوديعة، فقبله، فللمحيل أن يأخذ الوديعة، وعلى المحال عليه أداء الألف بالحوالة.
فأما إذا قيد الحوالة بالدين الذي له عليه، فليس للمحيل أن يطالبه بالأداء إليه؛ لأنه قيد الحوالة بهذا الدين، فيقيد به، أي يتعلق به حق المحال، ويكون هذا الدين، بمنزلة الرهن عنده، وإن لم يكن رهناً حقيقة، فإذا أدى المال تقع المقاصة بين المحال عليه والمحيل.
__________
(1) وهي في رأي القانوني الدكتور السنهوري أقرب إلى أن تكون طريقاً من طرق الوفاء بالدين، من أن تكون حوالة بالمعنى الدقيق بالفقه القانوني (الوسيط: ف 240) ، ويرى السنهوري أيضاً أن الفقه الإسلامي لم يقر حوالة الدين بالمعنى المفهوم في الفقه الغربي في أي مذهب من مذاهبه. وقد أقر حوالة الحق بشروط معينة في أحد مذاهبه وهو مذهب مالك، دون المذاهب الأخرى عن طريق هبة الدين أو بيع الدين لغير المدين (الوسيط: ف 240) ، وهذا محل نظر.
(2) راجع البدائع: 16/6ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 306/4، مجمع الضمانات: ص283.(6/50)
2 - إذا كانت الحوالة مقيدة وظهرت براءة المحال عليه من الدين الذي قيدت به الحوالة، بأن كان الدين ثمن مبيع فاستحق المبيع، تبطل الحوالة؛ لأنه لما قيد الحوالة بالدين فقد تعلق الدين بالحوالة، فإذا ظهر أنه لا دين، فقد ظهر أنه لا حوالة.
أما إذا كانت الحوالة مطلقة وظهرت براءة المحال عليه من الدين، فإنها لا تبطل؛ لأن الدين لم يتعلق بالحوالة، وإنما تعلق بالذمة، فلا يظهر أن الحوالة كانت باطلة.
3 - إذا كانت الحوالة مقيدة ثم مات المحيل قبل أن يؤدي المحال عليه الدين إلى المحال، وكان على المحيل ديون أخرى غير دين المحال، وليس له مال سوى هذا الدين الذي على المحال عليه، فإنه لا يكون المحال أحق به من بين سائر الغرماء (أي الدائنين) عند أئمة الحنفية الثلاثة. وعند زفر: يكون أحق به من بين سائر الغرماء كالرهن. ورد عليه بأن هناك فرقاً بين الحوالة والرهن وهو أن المرتهن يتحمل وحده غرم الرهن، فيختص بغنمه أخذاً بالحديث: «الخراج بالضمان» (1) أي أن الغنم بالغرم، أما المحال فلم يختص بتحمل غرم المال، فلا يكون له الحق في أن يختص بالغنم، وحينئذ يكون له الحق في مقاسمة الغرماء فقط.
أما إذا كانت الحوالة مطلقة: فإنه يؤخذ من المحال عليه جميع الدين الذي
__________
(1) أخرجه أحمد والشافعي وأبو داود الطيالسي، وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى أن «الخراج بالضمان» الخراج: هو الدخل والمنفعة أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه، فالباء للسببية. وفي رواية النسائي: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى أن «الخراج بالضمان، ونهى عن ربح ما لم يضمن» وفي رواية: «أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله، ثم وجد به عيباً فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الغلة بالضمان» وهناك لفظ آخر لهذه الرواية (انظر جامع الأصول: 28/2-32، نيل الأوطار: 213/5) .(6/51)
عليه، ويقسم بين غرماء المحيل، ولا يدخل المحال في تلك المقاسمة؛ لأن الحوالة لم تتعلق بالدين، ولأن حق المحال ثبت عند المحال عليه فقط.
حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو بتعبير آخر: حلول دائن محل دائن بالنسبة إلى المدين. فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة، لا بعين، كانت الحوالة حوالة حق. والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه.
وهي تقابل حوالة الدين: وهي تبدل المدين بالنسبة إلى الدائن أي تبديل مدين بمدين، والمحيل فيها: هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه. وهي مشروعة باتفاق العلماء كما تقدم.
وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة، وليس فقط عند غير الحنفية، كما فهم بعض أساتذة الشريعة، والقانون؛ لأن الحوالة المقيدة المشروعة عند الحنفية تتضمن حوالة حق، إذ يكون الإنسان فيها مديناً لشخص ودائناً لآخر، فيحيل دائنه على مدينه، ليقبض الدائن المحال دين المحيل من مدينه المحال عليه، فهي حوالة حق وحوالة دين في وقت واحد.(6/52)
وقد عرفنا أن غير الحنفية لا يجيزون إلا الحوالة المقيدة، فهي الحوالة إطلاقاً، ويشترط في المقيدة عندهم تساوي الدين المحال به والدين المحال عليه في الصفة والمقدار، فإن تساويا جنساً وقدراً صحت الحوالة، وإن اختلفا في شيء مما ذكر لم تصح الحوالة.
أما الحوالة المطلقة فهي حوالة دين فقط، إذ يحيل بها المدين دائنه على آخر، فيتبدل فيها المدين، ويبقى الدائن هو نفسه. ومن صور حوالة الحق ضمن الحوالة المقيدة: أن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن. ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر. ويحيل صاحب الحق في ريع الوقف دائنه على ناظر الوقف في حقه من الغلة بعد حصولها في يد الناظر. ويحيل الغانم حقه في الغنيمة المحرزة على الإمام. ففي كل هذه الأمثلة حل دائن جديد ـ وهو المحال ـ محل الدائن الأصلي وهو البائع، أو المرتهن أو الزوجة، أو مستحق غلة الوقف، أو الغانم.
ومنشأ اللبس في فهم مذهب الحنفية حول حوالة الحق راجع إلى أن الحنفية لا يرون الحوالة نوعاً من البيع تجري فيها كل أحكامه، بل هي عندهم عقد مستقل شرع لغاية معينة يحتاج إليه التعامل، وليس فرعاً من غيره، ولكن فيه تشابه مع عقود وتصرفات أخرى في بعض النواحي، فالحوالة تشبه البيع (بيع الدين أو الحق) وليست ببيع، وتشبه الكفالة وليست بكفالة، وتشبه قبض الدين وليست قبضاً، وتشبه الوكالة بالقبض أو بالأداء وليست بوكالة، وتشبه ما يسمى بلغة العصر اليوم فتح الاعتماد، وليست به، وفيها بعض سمات التبرع، وبعض سمات المعاوضة إلخ.. وقد أخذت الحوالة أحكاماً متنوعة تتناسب مع تلك المشابهات العديدة فيها.(6/53)
وإذا كان الحنفية لا يجيزون تمليك أو بيع الدين لغير من عليه الدين، فلا يعني أنهم ينكرون حوالة الحق، إذ أن تبدل دائن بدائن، لا يفيد عندهم تمليك الدين لغير من هو عليه؛ لأن مقتضى الحوالة هو نقل الدين أو نقل المطالبة به إلى المحل الجديد، نقلاً مؤقتاً بعدم التوى (أي موت المحال عليه أو إفلاسه أو جحوده الحوالة) لا تمليكه، وإنما يملك المحال ما يقبضه وفاءً به بعد تنفيذ الحوالة بالقبض، وبذلك تكون الحوالة عندهم غير البيع. أما غير الحنفية الذين يجيزون حوالة الحق فمستندهم هو إطلاق الترخيص الشرعي الثابت في شأن الحوالة، سواء بعدئذ أكانت بيع دين بدين أم لم يكن.
إذ أن هؤلاء مختلفون في مسألة بيع الدين بالدين أو هبته لغير من هو عليه، فالمالكية والشافعية يجيزونه بشروط، مثل شرط قبض العوض أو تعينه في مجلس البيع وأن يكون الدين المبيع غير طعام، وأن يكون الثمن من غير جنس المبيع، وأن يقع البيع لغير خصم المدين، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه. فليست حوالة الحق عندهم بيع دين بدين.
والحنابلة: لا يجيزونه.
والخلاصة: إن الحوالة عند الفقهاء المسلمين ليست بيعاً، وإنما هي عقد خاص، يفترق عن البيع في شرائطه ونتائجه (1) . والمالكية والشافعية الذين يجيزون هبة الدين لغير المدين تظهر عندهم حوالة الحق في هذين العقدين بنحو كامل واضح. لكن بشرط تحقيق شروط الهبة كالإذن بالقبض، وشروط بيع الدين.
المبحث الثالث ـ أحكام الحوالة
يترتب على الحوالة أحكام (2) :
أولاً ـ براءة المحيل: إذا تمت الحوالة بالقبول برئ المحيل من الدين عند جماهير الفقهاء. ولا تنتقل تأمينات الدين من رهن أو كفالة، بل تنقضي.
__________
(1) راجع الموسوعة الفقهية في الكويت ـ بحث الحوالة: ص 95-100، مدخل نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 64 ومابعدها.
(2) البدائع: 17/6 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 160/2.(6/54)
وقال الحسن البصري: لا يبرأ المحيل إلا بالإبراء.
وقال زفر من الحنفية: الحوالة لا توجب براءة المحيل، ويبقى الحق في ذمته بعد الحوالة على ما كان عليه قبلها، وقاس الحكم على الكفالة، إذ كل واحد منهما عقد توثق.
وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحوالة مشتقة من التحويل وهو نقل الحق فكان معنى الانتقال لازماً فيها، والشيء إذا انتقل إلى موضع لا يبقى في المحل الأول، ومعنى التوثق يحصل بسهولة التوصل إلى الحق باختيار الأكثر ملاءة والأحسن قضاء.
أما الكفالة: فهي مشتقة من الضم أي ضم ذمة إلى ذمة، فعلق على كل من الكفالة والحوالة مقتضاه، وما دل عليه لفظه؛ لأن أحكام العقود الشرعية تتنزل على وفق المعاني اللغوية (1) .
واختلف أئمة الحنفية في كيفية النقل الذي يتم بالحوالة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إنها نقل المطالبة والدين جميعاً من ذمة المدين إلى ذمة المحال عليه، ولكن الدين يعود إلى ذمة المدين إذا توي عند المحال عليه (والتوى: هو الموت مفلساً، وجحود الحوالة ولا بينة، وزاد الصاحبان: الإفلاس وهو حي) . فلو أبرأ الدائن المحال عليه من الدين، صح الإبراء، ولو أبرأ المدين لا يصح، وقال محمد: إنها نقل المطالبة وحدها دون الدين، فأصل الدين باق في ذمة المحيل. وقد استدل كل منهم بأدلة يظهر منها أن أدلة الفريق الأول أرجح بدليل أنه لو أبرئ المحيل من الدين أو وهب الدين له لا يصح التصرف؛ لأن الدين انتقل إلى ذمة المحال عليه، وفرغت ذمة المحيل من الدين، وبدليل أن الحوالة يترتب عليها النقل؛ لأنها مشتقة من التحويل وهو النقل، فتقتضي نقل ما أضيفت إليه وهو الدين، لا المطالبة فقط.
__________
(1) راجع البدائع: 17/6، فتح القدير: 445/5 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 102، الدر المختار: 300/4، الشرح الكبير: 328/3، مغني المحتاج: 195/2، المهذب: 338/1، المغني: 525/4.(6/55)
وعند زفر كما تقدم: لا ينتقل الدين ولا المطالبة إلى ذمة المحال عليه، بل تضم ذمة المحال عليه إلى ذمة المدين في المطالبة فيكون المحال عليه كفيلاً للمدين.
ثانياً ـ ثبوت ولاية المطالبة للمحال على المحال عليه بدين في ذمته؛ لأن الحوالة اقتضت النقل إلى ذمة المحال عليه بدين في ذمته، وهو نقل الدين والمطالبة جميعاً كما رجحت.
ثالثاً ـ ثبوت حق الملازمة للمحال عليه على المحيل إذا لازمه المحال، فكلما لازمه المحال، فله أن يلازم المحيل ليتخلص من ملازمة المحال، وإذا حبسه له أن يحبسه إذا كانت الحوالة بأمر المحيل، ولم يكن على المحال عليه دين يماثله للمحيل، أي أن الحوالة مطلقة. أما إذا كانت الحوالة بغير أمره، أو كانت بأمره ولكن للمحيل على المحال عليه دين مثله، أي أن الحوالة مقيدة، فليس للمحال عليه أن يلازم المحيل إذا لوزم، ولا أن يحبسه إذا حبس.
المبحث الرابع ـ انتهاء الحوالة
تنتهي الحوالة بأمور (1) :
1 - فسخ الحوالة: إذا فسخت الحوالة يعود الحق للمحال في أن يطالب المحيل. والفسخ في اصطلاح الفقهاء: هو إنهاء العقد قبل أن يبلغ غايته.
__________
(1) البدائع: 18/6 ومابعدها، فتح القدير: 447/5، المبسوط: 52/20، الدر المختار: 304/4، مجمع الضمانات: ص 282.(6/56)
2 - أن يتوى (1) حق المحال بموت أو إفلاس أو غيره: وهو مذهب الحنفية بدليل ما روي عن سيدنا عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحال عليه: «إذا مات مفلساً عاد الدين إلى ذمة المحيل» ، ولأن الحوالة مقيدة بسلامة حق المحال له، لأنه هو المقصود، فصار كوصف السلامة في المبيع.
والتوى عند أبي حنيفة بأحد أمرين: إما أن يموت المحال عليه مفلساً أو أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة للمحال؛ لأن العجز عن الوصول إلى الحق يتحقق بكل واحد منهما، وهو التوى في الحقيقة.
وقال الصاحبان: يتحقق التوى بوجه ثالث: وهو أن يفلس المحال عليه حال حياته، ويقضي القاضي بإفلاسه حال حياته. وهذا مبني على قاعدة أخرى مختلف فيها بين الإمام وصاحبيه: وهي أن القاضي يقضي بالإفلاس حال الحياة عندهما، وعنده: لا يقضي به لأن مال الله غاد ورائح.
وإذا تحقق التوى يرجع صاحب الدين على المحيل.
وقال الحنابلة والشافعية والمالكية: إذا تمت الحوالة وانتقل الحق ورضي المحال، لم يعد الحق إلى المحيل أبداً، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غيرها. فلو كان المحال عليه مفلساً عند الحوالة، وجهله المحال، فلا رجوع له على المحيل؛ لأنه مقصر بترك البحث، فأشبه من اشترى شيئاً هو مغبون فيه، فإن شرط المحال يسار المحال عليه، فبان معسراً، رجع على المحيل عند الحنابلة والمالكية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (2) .
والمالكية قالوا أيضاً: لكن يرجع المحال على المحيل إذا غرره بأن أحاله على معدم مفلس. ودليل هؤلاء في الجملة أن جد سعيد بن المسيب: «كان له على علي رضي الله عنه دين، فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا، أبعدك الله» فأبعده بمجرد الحوالة، ولم يخبره أن له الرجوع، ولأن الحوالة تقتضي البراءة من الدين، وقد حصلت مطلقة عن شرط سلامة الحق، فتفيد البراءة مطلقاً.
__________
(1) التوى في اللغة: الهلاك والتلف. يقال توي بوزن علم يتوى توى، وفي الاصطلاح كما سيأتي عن أئمة الحنفية: هو تعذر تحصيل الدين بسبب لا دخل للمحال فيه كإفلاس المحال عليه مثلاً.
(2) رواه الترمذي والحاكم عن عمرو بن عوف (راجع نصب الراية: 112/4، سبل السلام: 59/3) ، وقد سبق تخريجه.(6/57)
وأما حديث عثمان (الذي استدل به الحنفية) فلم يصح، ولو صح كان قول علي مخالفاً له (1) .
3 - أداء المحال عليه المال إلى المحال: وهذا أمر بدهي، فإذا أدى المحال عليه المال انتهت الحوالة، إذ أن حكمها قد انتهى.
4 - أن يموت المحال ويرث المحالُ عليه مالَ الحوالة؛ لأن الإرث من أسباب الملك، فيملك المحال عليه الدين في هذه الحال. وتنتهي الحوالة المقيدة عند أبي حنيفة وصاحبيه، خلافاً لبقية الفقهاء، بموت المحيل لدخول المال الذي قيدت به الحوالة في تركة المحيل.
5 - أن يهب المحال المال للمحال عليه ويقبل الهبة.
6 - أن يتصدق المحال على المحال عليه، ويقبل الصدقة؛ لأن الهبة والصدقة في معنى الإرث أو الأداء.
7 - أن يبرئ المحال المحال عليه.
المبحث الخامس ـ رجوع المحال عليه على المحيل
الكلام هنا في موضعين: شرائط الرجوع، وبيان ما يرجع به.
أما شرائط الرجوع فهي ما يأتي:
1 - أن تكون الحوالة بأمر المحيل: فإن كانت بغير أمره لا يرجع مثل أن يقول رجل للدائن: إن لك على فلان كذا وكذا من الدين، فاحتل بها علي، فرضي بذلك، جازت الحوالة. ولكنه إذا أدى المحال عليه المال لا يرجع على المحيل؛ لأنه سيكون حينئذ متبرعاً، ولم يحصل معنى التمليك للدين من المحال للمحال عليه، فلا يحق له الرجوع.
2 - أداء مال الحوالة أو ما هو في معنى الأداء كالهبة والصدقة إذا قبل المحال عليه، وكذا إذا ورث المحال عليه المحال؛ لأن الإرث من أسباب الملك، فإذا ورثه فقد ملك الشيء الموروث، فكان له حق الرجوع.
ولو أبرئ المحال عليه من الدين لا يرجع على المحيل؛ لأن الإبراء إسقاط حقه، فلم يملك المحال عليه شيئاً فلا يرجع.
3 - ألا يكون للمحيل على المحال عليه دين مماثل للدين الذي أحيل به المحال.
فإن كان هناك دين وقعت المقاصة بينهما (2) .
__________
(1) المغني: 526/4، بداية المجتهد: 296/2، القوانين الفقهية: ص 327، الشرح الكبير: 326/3، المهذب: 338/1، مغني المحتاج: 195/2 ومابعدها.
(2) البدائع: 19/6، مجمع الضمانات: ص 283.(6/58)
وأما ما يرجع به المحال عليه على المحيل: فهو أنه يرجع بالمحال به، لا بالمؤدى، كالكفيل، فلو أدى عروضاً مكان النقود، فإنه يرجع على المحيل بالنقود؛
لأن الرجوع يحق له بحكم ما تم له من الملك، وأنه يملك دين الحوالة، لا المؤدى، وذلك بخلاف الوكيل بقضاء الدين كما ذكر في الكفالة.
اختلاف المحيل مع المحال:
لو قبض المحال مال الحوالة ثم اختلف مع المحيل، فقال المحيل: لم يكن لك علي شيء، وإنما أنت وكيلي في القبض، والمقبوض لي، وقال المحال: لا، بل أحلتني بألف مثلاً كانت لي عليك، فحينئذ القول قول المحيل مع يمينه؛ لأن المحال يدعي عليه ديناً، والمحيل ينكر، والقول قول المنكر عند عدم البينة مع يمينه (1) .
السفاتج: هي كما بينت في بحث القرض جمع سُفْتَجة: وهي الورقة. وهي أن يدفع امرؤ إلى تاجر مبلغاً قرضاً ليدفعه إلى صديقه في بلد آخر ليستفيد به سقوط خطر الطريق. وهذا مكروه تحريماً عند الحنفية؛ لأنه في الحقيقة قرض استفاد به المقرض أمن خطر الطريق. وهو نوع من النفع المستفاد على حساب القرض، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعاً (2) . كراهة هذا التصرف ناشئة عما إذا كان أمن خطر الطريق مشروطاً. فإذا تم القرض دون أن يشترط المقرض في عقد القرض دفع المال في بلد آخر بالحوالة ونحوها، جاز القرض. ويجوز أيضاً إذا دفع المال إليه أمانة لتسليمها في بلد آخر (3) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، فتح القدير: 449/5، المبسوط: 57/20، الدر المختار ورد المحتار: 305/4.
(2) رواه الحارث بن أبي أسامة عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» وأعله المحدثون بأن فيه سوار بن مصعب وهو متروك. ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفاً عليهم. وأخرج ابن عدي في الكامل عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «السفتجات حرام» وهو حديث ضعيف معلول براوٍ فيه (راجع نصب الراية: 60/4، التلخيص الحبير: ص 254) .
(3) الكتاب مع اللباب: 162/2.(6/59)
الفَصْلُ الثَّاني عَشَر: الرَّهن
خطة البحث:
الكلام عن عقد الرهن في المباحث السبعة التالية:
المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله.
المبحث الثاني ـ شروط الرهن:
(شروط العاقدين، والصيغة، والمرهون به، والمرهون، وشروط تمام الرهن، قبض الرهن، ما يجوز ارتهانه، وما لا يجوز، وما يتفرع عن القبض وغيره من الشروط) .
المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره
الرهن الصحيح والرهن الفاسد
المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده
المبحث الخامس ـ الزيادة في الرهن والدين
المبحث السادس ـ انتهاء الرهن وحالاته
المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن
المبحث الأول ـ تعريف الرهن ومشروعيته وركنه وعناصره وأحواله:
تعريف الرهن: الرهن لغة: إما الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن أي راكد، وحالة راهنة: أي ثابتة. وإما الحبس واللزوم، قال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر:38/74] أي محبوسة. والظاهر أن في الحبس معنى الدوام والثبوت، فأحد المعنيين تطور للمعنى الآخر، والظاهر أن المعنى الأول هو الحبس؛ لأنه المعنى المادي. وعلى كل حال، فالمعنى الشرعي ذو صلة بالمعنى اللغوي، وقد يطلق الرهن لغة على الشيء المرهون: وهو ما جعل وثيقة للدين، من باب تسمية المفعول بالمصدر.(6/60)
وعقد الرهن شرعاً (1) : حبس شيء بحق يمكن استيفاؤه منه، أي جعل عين لها قيمة مالية في نظر الشرع وثيقة بدين بحيث يمكن أخذ الدين كله أو بعضه من تلك العين. أو هو عقد وثيقة بمال، أي عقد على أخذ وثيقة بمال، لا بذمة شخص، فامتاز عن الكفالة؛ لأن التوثق بها إنما يكون بذمة الكفيل، لا بمال يقبضه الدائن، ومعنى «وثيقة» أي متوثق بها، فقد توثق الدين وصار مضموناً محكماً بالعين المرهونة، وكون الوثيقة ذات قيمة مالية لإخراج العين النجسة والمتنجسة بنجاسة لا يمكن إزالتها، فإنها لا يجوز أن تكون وثيقة للدين.
وعرفه الشافعية (2) بقولهم: جعل عين وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه. وقولهم «جعل عين» يفيد عدم جواز رهن المنافع؛ لأنها تتلف فلا يحصل بها استيثاق.
__________
(1) اللباب: 5/2، الدر المختار: 339/5، المبسوط: 63/21.
(2) مغني المحتاج: 121/2، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب للأنصاري: 122/2، 124.(6/61)
وعرفه الحنابلة (1) بأنه: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه.
وعرفه المالكية (2) : بأنه شيء متموَّل يؤخذ من مالكه، توثقاً به، في دين لازم، أو صار إلى اللزوم، أي أنه تعاقد على أخذ شيء من الأموال عيناً كالعقار والحيوان والعروض (السلع) ، أو منفعة، على أن تكون المنفعة معينة بزمن أو عمل، وعلى أن تحسب من الدَّين. ولا بد من أن يكون الدين لازماً كثمن مبيع، أو بدل قرض، أو قيمة متلف، أو صائراً إلى اللزوم، كأخذ رهن من صانع أو مستعير، خوفاً من ادعاء ضياع، فيكون الرهن في القيمة على ما يلزم.
وليس المراد من الأخذ عند المالكية: التسليم الفعلي؛ لأن التسليم بالفعل ليس شرطاً عندهم في انعقاد الرهن، ولا في صحته، ولا في لزومه، بل ينعقد ويصح ويلزم بالصيغة أي بمجرد الإيجاب والقبول، ثم يطلب المرتهن أخذه.
صفة الرهن العامة: والرهن عقد من عقود التبرع؛ لأن ما أعطاه الراهن للمرتهن غير مقابل بشيء (3) ، وهو من العقود العينية: وهي التي لا تعتبر تامة الالتزام إلا إذا حصل تسليم العين المعقود عليها، وهذه العقود خمسة: الهبة، والإعارة، والإيداع، والقرض، والرهن. والسبب في اشتراط القبض لتمامها: هو أنها تبرع، والقاعدة تقول: «لا يتم التبرع إلا بالقبض» فيعتبر العقد فيها عديم الأثر قبل القبض، والتنفيذ هو المولد لآثار العقد.
مشروعيته وحكمه: الرهن مشروع بالقرآن والسنة والإجماع. أما القرآن: فقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] .
والرهن باتفاق الفقهاء جائز في الحضر والسفر، خلافاً لمجاهد والظاهرية (4) ، لإطلاق مشروعيته في السنة، وذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب في الماضي غير متوافر في السفر غالباً، ولا يشترط أيضاً عدم وجود الكاتب، لثبوت جوازه في السنة مطلقاً. والآية أرادت إرشاد الناس إلى وثيقة ميسَّرة لهم عند فقدان كاتب يكتب لهم الدين.
وأما السنة: فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ورهنه درعاً من حديد» (5) وعن أنس قال: «رهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درعاً عند يهودي بالمدينة، وأخذ منه شعيراً لأهله» (6) .
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (7) .
__________
(1) المغني: 326/4.
(2) الشرح الصغير: 303/3 ومابعدها، 325.
(3) رد المحتار: 340/5.
(4) المغني: 327/4، المهذب: 305/1، البدائع: 135/6، بداية المجتهد: 271/2، القوانين الفقهية: ص 323، الإفصاح: 238/1، كشاف القناع: 307/3 ومابعدها.
(5) انظر هذا الحديث ومايليه في نصب الراية: 319/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 233/5 ومابعدها.
(6) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.
(7) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي (نيل الأوطار: 234/5) .(6/62)
وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غُرْمة» (5) وغلق الرهن: استحقاق المرتهن إياه، لعجز الراهن عن فكاكه، أي لا ينفك ملك الرهن عن صاحبه، ولا يستحقه المرتهن، إذا لم يفتكه في الوقت المشروط. وفي هذا رد على ما كان في الجاهلية، من أن المرتهن كان يتملك الرهن إذا لم يؤد الراهن إليه ما يستحقه في الوقت المعيّن، فأبطله الشارع. والحكمة من تشريع الرهن توثيق الديون، فكما أن الكفالة توثق الدين شخصياً، يوثق الرهن الدين مالياً، تسهيلاً للقروض. والرهن يفيد الدائن بإعطائه حق الامتياز أو الأفضيلة على سائر الدائنين الغرماء.
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الرهن.
أما الكفالة أو الكتابة أو الإشهاد فلا تُحقق بنحو مؤكد مصلحة الدائن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين في يد المرتهن مقابل حقه، ويتمكن من استيفاء دينه منه ببيعه بإذن القاضي أو بإذن مالكه الراهن. ويحقق الرهن أيضاً مصلحة الراهن بالحصول على الدين أي النقد، أو بتأجيل الثمن بدفع متاع يكون رهناً، فيكون الرهن محققاً مصلحة الطرفين.
__________
(1) رواه الشافعي والدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن متصل.(6/63)
وحكم الرهن التكليفي شرعاً: أنه جائز غير واجب بالاتفاق؛ لأنه وثيقة بالدين، فلم يجب، كما لم تجب الكفالة. وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] أمر إرشاد للمؤمنين، لا إيجاب عليهم، بدليل قوله تعالى عقبه: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة:283/2] ، ولأنه تعالى أمر به عند عدم وجود الكاتب، وبما أن الكتابة غير واجبة، بدليل: {فإن أمن ... } [البقرة:283/2] فكذلك بدلها (1) .
ركن الرهن وعناصره:
للرهن عناصر أربعة: هي الراهن، والمرتهن، والمرهون، والمرهون به. فالراهن: معطي الرهن، والمرتهن: آخذه، والمرهون أو الرهن: ما أعطي من المال وثيقة للدين، والمرهون به هو الدين.
وركن الرهن عند الحنفية (2) : هو الإيجاب والقبول، من الراهن والمرتهن، كسائر العقود، ولكن لا يتم ولا يلزم إلا بالقبض أي التخلية أو النقل كأن يقول الراهن: رهنتك هذا الشيء بما لك علي من الدين، أو هذا الشيء رهن بدينك، ونحوه. ويقول المرتهن: ارتهنت أو قبلت، أو رضيت ونحوه. ولا يشترط لفظ «الرهن» فلو اشترى شيئاً بدراهم، وسلم إلى البائع شيئاً، وقال له: أمسكه، حتى أعطيك الثمن، انعقد الرهن؛ لأن العبرة في العقود للمعاني.
وقال غير الحنفية (3) : للرهن أركان أربعة: صيغة، وعاقد، ومرهون، ومرهون به.
وهكذا الخلاف في قضية الركن بين الحنفية وغيرهم في كل العقود، فالركن عند الجمهور أوسع منه عند الحنفية، فإن الركن عند الحنفية: ما كان جزءاً من شيء، وتوقف وجوده عليه؛ لأن من الأجزاء ما يتوقف عليها الوجود، ومنها مالايتوقف عليها الوجود. أما الركن عند الجمهور: فهو ما توقف عليه وجود الشيء، ولا يمكن تصوره إلا به، سواء أكان جزءاً منه، أم لا. فالعاقد ركن، إذ لايتصور عقد بدون عاقد، وإن لم يكن جزءاً من العقد، أما العاقد عند الحنفية، فيعد من شروط العقد.
أحوال الرهن: للرهن المتفق عليه أحوال ثلاثة (4) :
__________
(1) المغني: 327/4، كشاف القناع: 307/3.
(2) البدائع: 135/6، الدر المختار: 340/5، تكملة الفتح: 189/8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 63/6، اللباب شرح الكتاب: 54/2.
(3) الشرح الصغير: 304/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 121/2، كشاف القناع: 307/3 ومابعدها.
(4) المغني: 327/4، مغني المحتاج: 127/2، المهذب: 305/1، كشاف القناع: 308/3، حاشية الدسوقي على الدردير: 245/3.(6/64)
الأولى ـ أن يقع مع العقد المنشئ للدين: كأن يشترط البائع على المشتري بثمن مؤجل إلى المستقبل في مدة معينة تسليم رهن بالثمن. وهذا صحيح باتفاق المذاهب، لأن الحاجة داعية إليه.
الثانية ـ أن يقع بعد الحق أو نشوء الدين: وهو صحيح أيضاً بالاتفاق؛ لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به، فجاز أخذها به كالضمان (الكفالة) . وآية {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] تشير إليه؛ لأن الرهن بدل عن الكتابة، والكتابة بعد وجوب الحق.
الثالثة ـ أن يقع قبل نشوء الحق: مثل: رهنتك متاعي هذا بمئة تقرضنيها: يصح عند المالكية والحنفية؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبل وجوبه، كالكفالة وهذا هو المعقول. ولا يصح عند الشافعية والحنابلة في ظاهر المذهب؛ لأن الوثيقة بالحق لا تلزم قبله، كالشهادة، ولأن الرهن تابع للحق، فلا يسبقه.
المبحث الثاني - شروط الرهن:
للرهن شروط انعقاد، وشروط صحة، وشرط لزوم وهو القبض.
المطلب الأول ـ شروط العاقدين:
يشترط في عاقدي الرهن (الراهن والمرتهن) ما يأتي (1) :
الأهلية: الأهلية عند الحنفية والمالكية: هي أهلية البيع، فكل من يصح بيعه يصح رهنه؛ لأن الرهن تصرف مالي كالبيع، فوجب أن يراعى في عاقديه ما يراعى
__________
(1) البدائع: 135/6، بداية المجتهد: 268/2، حاشية الشرقاوي: 123/2، كشاف القناع: 309/3، الشرح الكبير للدردير:231/3 ومابعدها، 292.(6/65)
في عاقدي البيع. فيشترط في عاقدي الرهن: العقل أو التمييز، فلا يجوز الرهن والارتهان من المجنون والصبي غير المميز أو الذي لا يعقل.
ولا يشترط البلوغ، فيجوز الرهن من الصبي المأذون في التجارة؛ لأن ذلك من توابع التجارة. ويصح رهن الصبي المميز والسفيه، موقوفاً على إجازة وليه.
والأهلية عند الشافعية والحنابلة تتمثل في أهلية البيع والتبرع، فيصح الرهن ممن يصح بيعه وتبرعه؛ لأن الرهن تبرع غير واجب، فلا يصح من مستكره، ولا من صبي غير بالغ، ولا مجنون، ولا سفيه، ولا مفلس، ولا يصح من ولي أباً أو جداً أو وصي أو حاكم إلا لضرورة أو مصلحة ظاهرة للقاصر، مثال الضرورة: أن يرهن على ما يقترض لحاجة المؤنة (القوت) ، ليوفي مما ينتظر من غلة، أو حلول دين، أو رواج متاع كاسد (بائر) ، أو أن يرتهن ما يقرضه أو يبيعه مؤجلاً لضرورة نهب أو نحوه.
ومثال المصلحة (أو الغبطة) الظاهرة للقاصر: أن يرهن ما يساوي مئة على ثمن ما اشتراه بمئة نسيئة مؤجلة، وهو يساوي مئتين حالّتين. وأن يرتهن على ثمن ما يبيعه نسيئة بمصلحة ظاهرة.
وإذا رهن الولي أو الوصي: فلا يرهن إلا من أمين غير خائن، موسر، وأن يشهد على الرهن، وأن يكون الأجل قصيراً عرفاً. فإن فقد شرط من هذه الشروط، لم يجز الرهن (1) . ولا يصح للولي أو الوصي أن يرهن مال موليه لدين عليهما لأجنبي، إذ ليس فيه مصلحة المولى عليه.
وعبر الحنابلة عن هذا الحكم بشرطين: أن يكون عند ثقة، وأن يكون للقاصر
__________
(1) حاشية الشرقاوي: 123/2، مغني المحتاج: 122/2.(6/66)
فيه حظ أي حاجة إلى نفقة أو كسوة أو إصلاح عقاره المتهدم أو رعاية بهائمه (1) . وللأب أن يرهن من نفسه لولده، ولنفسه من ولده، والجد كالأب عند الشافعية لوفور شفقتهما.
رهن الولي والوصي مال الصغير عند الحنفية:
هنا أمور ثلاثة: رهن مال الصغير بدين للصغير، أو بدين للولي، وموقف الصغير من الرهن بعد البلوغ (2) . وقد عرفنا قبله مباشرة حكم رهن مال القاصر عند غير الحنفية.
1 ً - رهن مال الصغير أو المجنون بدين لهما:
للولي أو الوصي أو القيم أن يرهن مال القاصر (صبي أو مجنون ونحوهما) لدين للقاصر استدين من أجل كسوته وطعامه، أو بسبب الاتجار في ماله؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة، والتجارة تثمير لمال القاصر، والرهن إيفاء للحق، فيجوز.
وإذا كان الأب أو الجد هو الدائن للقاصر أو كان كل من الدائن والمدين تحت ولايته، جاز له أن يتولى طرفي العقد، فيكون راهناً بالنيابة عن موليه، ومرتهناً بالنسبة إلى نفسه، في الحالة الأولى. وراهناً عن أحد مولييه، ومرتهناً بالنسبة إلى الآخر، في الحالة الثانية، لأنه لوفور شفقته، نزل منزلة شخصين، وقامت عبارته مقام عبارتين، كما في بيعه مال القاصر لنفسه.
ولا يجوز ذلك للحاكم، ولا للوصي، لقصور شفقتهما بالنسبة للأب، ولأن كليهما وكيل محض، والأصل أن الشخص الواحد لا يتولى طرفي العقد، سواء في البيع أو الرهن ونحوهما.
2 ً - رهن مال القاصر بدين للولي:
الاستحسان عند أبي حنيفة ومحمد: يقتضي أن يجوز للأب أو الجد أو الوصي أن يرهن مال موليه بدين نفسه عند دائنه؛ لأن للولي أو الوصي إيداع مال موليه، والرهن أولى من الإيداع؛ لأن الوديع أمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، والمرتهن يضمن الرهن إن هلك، ولو بلا تعدٍ ولا تقصير.
__________
(1) المغني: 359/4، كشاف القناع: 319/3.
(2) تبيين الحقائق: 72/6 ومابعدها، تكملة الفتح: 209/8 ومابعدها، الدر المختار: 352/5، 364.(6/67)
والقياس وهو رأي أبي يوسف وزفر: ألا يجوز للولي أو الوصي رهن مال القاصر بدين لهما؛ لأنهما لا يملكان إيفاء دينهما بأموال موليهما، وفي إقدامهما على رهن مال موليهما إيفاء لدينهما حكماً، فيمنع، كالإيفاء حقيقة.
وإذا جاز الرهن عملاً بمقتضى الاستحسان، ثم هلك عند الدائن، يضمن الولي للمولى عليه الأقل من قيمة الرهن ومن الدين، دون زيادة عليه، أما الوصي فيضمن قيمة الرهن في جميع الأحوال؛ لأن للأب أو الجد أن ينتفع بمال الصغير، وليس للوصي الحق في الانتفاع.
وللولي أباً أو جداً رهن ماله بدين عليه للصغير عند ولده الصغير، ويحبسه الولي لأجل الصغير، ولا يجوز هذا الرهن للوصي.
كما يجوز للولي عكس المذكور: وهو أن يرهن عنده مال الصغير بدين عليه؛ لأنه لوفور شفقته جعل كشخصين، وتقوم عبارته مقام عبارتين أي عبارتي الإيجاب والقبول، كشرائه مال طفله. ولا يجوز هذا الرهن للوصي، لأنه وكيل محض، فلا يتولى طرفي العقد في رهن ولا بيع ونحوهما مما يتطلب وجود عاقدين في عقود ذات حقوق متباينة.
3 ً - موقف الصغير من الرهن بعد البلوغ:
إذا بلغ الصغير أو زال عارض الحجر، فوجد مالاً له مرهوناً، فليس له إبطال الرهن، أو استرداده حتى يقضى الدين؛ لأن تصرف الولي بالرهن وقع نافذاً لازماً، وصدر ممن له ولاية إصداره، سواء أكان الرهن بدين على الصغير، أم بدين على الولي نفسه، أم بدين عليهما معاً.
فإن قضي الدين عن الولي نفسه من مال الصغير المرهون أو هلك المرهون قبل أن يفتكه الراهن، كان للصغير بعد بلوغه حق الرجوع طبعاً في مال الولي، والمطالبة بتسديد حقه؛ لأنه مضطر إلى إحياء ملكه، والمحافظة على حقوقه سواء أكان الولي حياً أم ميتاً، ويكون في هذه الحالة مثل من أعار متاعه لآخر، ليرهنه المستعير بدين عليه لشخص ثالث، فللمعير أن يفتك ـ عند الضرورة ـ رهنه، بدفع دين المستعير، ويرجع بما أوفى من الدين على المستعير.(6/68)
تعدد أطراف الرهن:
قد يتعدد الراهن أو المرتهن، كما لو رهن رجلان بدين عليهما رهناً عند آخر، أو يرهن رجل شيئاً بدين عليه عند رجلين، يصح الرهن في الحالتين لعدم الشيوع المانع من صحة الرهن عند الحنفية (1) ؛ لأنه في حالة تعدد الراهن يحصل قبض المرهون من المرتهن بدون إشاعة، فصار كرهن الواحد من الواحد، وفي حالة تعدد المرتهن أضيف الرهن إلى جميع العين المرهونة بصفقة واحدة، ومقتضى الرهن (أو موجبه) حبس المرهون بالدين، والحبس لا يتجزأ، فصار الرهن محبوساً بكل من المرتهنين.
وذلك بخلاف هبة الواحد لاثنين لا تجوز عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود من الهبة هو التملك، والشيء الواحد الموهوب لا يتصور كونه ملكاً لكل من الموهوب لهما على سبيل الكمال والاستقلال، فلا بد من قسمة الموهوب ليتصور تملك الموهوب له للموهوب.
وأحكام الحالتين كما يأتي:
في حالة تعدد الراهنين: يصح الرهن بكل الدين، وللمرتهن حبس المرهون حتى يستوفي كل الدين من الراهنين. فإذا أدى أحد الراهنين ما عليه من الدين، لم يكن له أن يقبض شيئاً من الرهن؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المرتهن في الإمساك. ويرى الشافعية أنه إذا وفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، انفك من الرهن بمقدار نصيبه أو قسطه، ولا يبقى الشيء كله رهناً حتى يفك الراهن الآخر حصته.
في حالة تعدد المرتهنين: يعتبر المرهون كله أيضاً رهناً محبوساً عند كل واحد منهما بدينه، لحمل الراهن على وفاء الدين، ما دام الرهن قائماً. فإن قضى الراهن أحد المرتهنين دينه، كانت العين المرهونة كلها رهناً في يد الآخر، حتى يستوفي دينه؛ لأن العين كلها رهن في يد كل منهما بلا تفرق أو تجزئة.
__________
(1) تبيين الحقائق: 78/6 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 354/5 وما بعدها، تكملة الفتح: 218/8 وما بعدها، اللباب: 63/2 ومابعدها.(6/69)
وكيفية حبس المرهون عند المرتهنين: هو أنه إذا كان المرهون مما يقبل التجزؤ، فعلى كل واحد من المرتهنين حبس النصف، فلو سلم أحدهما كل المرهون للآخر، ضمنه عند أبي حنيفة، خلافاً للصاحبين. وأما إذا كان المرهون مما لا يتجزأ، فيحبسه المرتهنان على طريق المهايأة (1) ، فإن تهايآ، كان كل واحد منهما في نَوْبته كالعَدْل في حق الآخر. ويرى الشافعية أنه إذا وفى الراهن دين أحد المرتهنين، انفك من المرهون قسطه الذي يقابله من الدين. أما إن تعددت العين المرهونة كرهن سيارتين مقابل دين مقداره مئتا ألف، ثم وفى المدين بعض الدين الذي يقابل إحدى السيارتين، فإن كان رهن السيارتين مقابل الدين بلا تفريق، لم يكن له الحق بقبض سيارة حتى يوفّي الدين كله. وإن كان رهن السيارتين مفرقاً بأن قال: كل سيارة بمئة ألف، كان له الحق بقبضها؛ لأن العقد صار في حكم عقدين حين عين حصة كل من المرهونين.
وإذا هلك المرهون، صار كل واحد من المرتهنين مستوفياً حصة دينه من المرهون؛ لأن الاستيفاء يتجزأ. وفي حالة الهلاك هذه لو قضى الراهن دين أحدهما، استرد ما قضاه من الدين؛ لأن ارتهان كل منهما باق، حتى يعود الرهن إلى الراهن؛ لأن كل مرتهن كالعدل بالنسبة للمرتهن الآخر في حالة عدم قابلية تجزئة المرهون.
المطلب الثاني ـ شروط الصيغة:
اشترط الحنفية (2) في صيغة الرهن ألا يكون معلقاً بشرط، ولا مضافاً إلى زمن مستقبل؛ لأن عقد الرهن يشبه عقد البيع من ناحية كونه سبيلاً إلى إيفاء الدين واستيفائه، فلا يقبل التعليق بشرط، والإضافة للمستقبل، وإذا علق الرهن أو أضيف، كان فاسداً كالبيع (3) .
__________
(1) المهايأة: أن يتفق الاثنان على أن يأخذ كل واحد منهما المرهون عنده مدة معلومة.
(2) البدائع: 135/6.
(3) الدر المختار: 374/5، 357، قال في الدر: الأجل في الرهن يفسده.(6/70)
وإذا اقترن الرهن بالشرط الفاسد أو الباطل، صح الرهن، وبطل الشرط؛ لأن الرهن ليس من عقود المعاوضات المالية. جاء في الزيادات والبزازية: والرهن لا يبطل بالشروط الفاسدة؛ لأنه تبرع بمنزلة الهبة، إذ لا يستوجب الراهن على المرتهن شيئاً، بتمليكه حبس الرهن عنده.
ولكن جاء في البدائع (1) : أن الرهن تبطله الشروط الفاسدة كالبيع، بخلاف الهبة.
والأصح في تقديري هو رواية البزازية والزيادات؛ لأن الرهن ليس من المعاوضات، فيصح الرهن وإن سقط الدين بهلاكه، جاء في الهداية: الرهن عقد تبرع، لأنه لا يستوجب بمقابلته شيئاً على المرتهن (2) .
والشرط المشروط في الرهن عند غير الحنفية إما صحيح أو فاسد، والفاسد إما مفسد للعقد، وإما لاغٍ باطل وحده والعقد صحيح، على تفصيل فيما يأتي.
قال الشافعية (3) : الشروط المشروطة في الرهن ثلاثة أنواع:
1 - الشرط الصحيح: وهو أن يشترط في الرهن ما يقتضيه كتقدم وفاء المرتهن عند تزاحم الغرماء، ليستوفي منه دينه، مفضلاً على بقية الدائنين، أو أن يشرط فيه مصلحة للعقد ولا يترتب عليه جهالة، كالإشهاد به، فيصح العقد والشرط، كالبيع.
2 - الشرط الباطل أو اللغو: وهو أن يشرط فيه مالا مصلحة فيه ولا غرض، كأن لا يأكل الحيوان المرهون كذا، فيبطل الشرط، ويصح العقد.
__________
(1) 140/6.
(2) تكملة فتح القدير على شرح الهداية: 190/8.
(3) مغني المحتاج: 121/2 ومابعدها، المهذب: 310/1-312، نهاية المحتاج: 254/3 ومابعدها.(6/71)
3 - الشرط المفسد للعقد: وهو أن يشرط ما يضر المرتهن، كشرط ألا يبيعه بعد حلول أجل وفاء الدين إلا بعد شهر، أو ألا يباع بأكثر من ثمن المثل، أو أن يشرط ما يضر الراهن وينفع المرتهن، كشرط منفعة غير مقدرة بمدة للمرتهن ولا بأجر عليها، أو إعطاء المرتهن زوائد الرهن، فيبطل الشرط للجهل بها ولعدمها حين الاشتراط ولحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1) ، ويبطل العقد في الأظهر، لمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن.
وكذلك يفسد الشرط والعقد إذا شرط جعل زوائد الرهن كالصوف والثمرة والولد مرهونة؛ لأنها معدومة حين الاشتراط ومجهولة.
والظاهر أن الرهن يفسد أيضاً بتعليقه أو إضافته للمستقبل. وبه يتبين أن الشرط الفاسد: هو ما كان ضاراً بأحد العاقدين، أو كان فيه جهالة. والأظهر أنه متى فسد الشرط، فسد العقد.
وقال المالكية (2) : يصح الشرط الذي لا يتنافى مع مقتضى العقد، ولا يؤول إلى حرام، أما ما يتنافى مع مقتضى العقد، فهو شرط فاسد، مبطل للرهن، كأن يشترط في الرهن أن يكون تحت يد الراهن، لا يقبضه المرتهن، أو ألا يباع المرهون في الدين عند حلول الأجل، أو ألا يباع الرهن إلا بما يرضى به الراهن من الثمن.
وأما الشرط الحرام الممنوع الفاسخ للعقد: فهو أن يرهن الرجل رهناً، على أنه لو جاء بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فهذا فاسخ للعقد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَقِ الرهن» (3) .
__________
(1) أخرجه الشيخان عن عائشة بلفظ: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق» (سبل السلام: 10/3) .
(2) الشرح الكبير: 240/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 271/2.
(3) سبق شرحه، والمعنى: أنه لا يستحقه المرتهن، إذ الم يستفكه صاحبه. وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين، ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 379/3) .(6/72)
والخلاصة أن الشرط عند المالكية نوعان: صحيح وفاسد.
ومذهب الحنابلة (1) كالمالكية: قالوا: الشرط في الرهن نوعان: شرط صحيح، وشرط فاسد.
الصحيح: ما كان فيه مصلحة للعقد، ولايتنافى مع مقتضاه، ولا يؤول إلى حرمة يكرهها الشرع، مثل أن يشترط في الرهن أن يكون عند عدل، أو عدلين، أو أكثر، أو أن يبيعه العدل عند حلول أجل الدين أو الحق.
والفاسد: هو ما ينافي مقتضى العقد، مثل ألا يباع الرهن عند حلول أجل الحق، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أولا يباع إذا ما خيف تلفه، أو أن يباع بأي ثمن كان، أو ألا يباع إلا بما يرضى به الراهن. فهذه كلها شروط فاسدة، لمنافاتها مقتضى عقد الرهن؛ لأنها شروط تحول دون الوفاء بالدين عادة، وذلك يتنافى مع الغرض المقصود من الرهن.
ومن الشروط الفاسدة: أن يشترط الخيار للراهن نفسه، أو ألا يكون الرهن لازماً في حقه، أو توقيت الرهن، أو أن يكون الرهن يوماً، ويوماً لا يكون، أو كون الرهن في يد الراهن، أوأن ينتفع به، أو أن ينتفع به المرتهن، أو يكون مضموناً عليه، أو أنه متى حل أجل الحق ولم يوفه الراهن، فالرهن للمرتهن بالدين أو فهو مبيع بالدين، ولا يصح الرهن معلقاً بشرط كالبيع، أي أنه فاسد.
وهل يفسد الرهن بالشرط الفاسد عند الحنابلة؛ فيه آراء عندهم. قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن يفسد الرهن بهذا الاشتراط؛ لأن العاقد إنما بذل ملكه، ورضي بالرهن على هذا الشرط، فإذا لم يسلم له، لم يصح العقد لعدم الرضا به بدونه.
__________
(1) المغني: 381/4-383، كشاف القناع: 309/3.(6/73)
وقيل: إن شرط الرهن مؤقتاً، أو رهنه يوماً، ويوماً لا، فسد الرهن، وإن شرط غيرذلك من الشروط الفاسدة، فعلى وجهين:
قيل: يفسد الرهن، وقيل: لا يفسد، وأيد أبو الخطاب عدم فساده؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن» وقد قاله في رهن شرط فيه شرط فاسد، ولم يحكم بفساده، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به.
وقيل: ما ينقص حق المرتهن يبطله وجهاً واحداً، وما لا، فعلى وجهين، والمعتمد عندهم كما جاء في مجلة الأحكام الشرعية (م962) : «لايفسد عقد الرهن بفساد الشرط، وإنما يلغو الشرط فقط» .
المطلب الثالث ـ شروط المرهون به:
المرهون به: هو الحق الذي أعطي به الرهن. ويشترط فيه عند الحنفية ما يأتي:
الشرط الأول ـ أن يكون حقاً واجب التسليم إلى صاحبه: لأنه إذا لم يكن واجب التسليم، فلا محل لأن يعطى به رهن لتوثيقه، إذ لا إلزام على المطالب بالحق حتى يستوجب التوثق به (1) .
وعبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون ديناً مضموناً (2) ، أي أن يكون الدين واجب التسليم على الراهن، وعبارتنا أوضح؛ لأن الحق المرهون به: إما أن يكون ديناً، وإما أن يكون عيناً واجبة التسليم.
__________
(1) مذكرة بحث الرهن لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 45.
(2) البدائع: 142/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 196/8، 206 ومابعدها، تبيين الحقائق: 66/6، اللباب: 55/2 ومابعدها، الدر المختار: 350/5.
ومعنى كون الدين مضموناً: أن يكون متحققاً من حيث الظاهر، لا متحققاً في الواقع والباطن، فلو ادعى رجل على آخر حقاً من قرض مثلاً، ثم صالحه المدعى عليه على مبلغ معين أعطاه به رهناً، ثم تصادقا على أنه لم يكن حق، ولم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء، ثم هلك الرهن في يد المرتهن (المدعي) ، فإنه يهلك بالأقل من ثمنه، وما رهن به (البدائع: 144/6) .(6/74)
أولاً - إن كان ديناً، جاز الرهن به، أياً كان سبب هذا الدين، قرضاً أو بيعاً، أو إتلافاً أو غصباً؛ لأن الديون واجبة الوفاء، فكان الرهن بها رهناً بحق واجب التسليم إلى صاحبه.
وسواء في هذا أن يكون الدين مما يجوز استبداله قبل قبضه، أو مما لا يجوز استبداله قبل قبضه، كرأس مال السلم، وبدل الصرف، والمسلم فيه. وهذا عند أئمة الحنفية الثلاثة.
وقال زفر: لا يجوز الرهن بما لا يصح الاستبدال فيه قبل القبض؛ لأن سقوط الدين بهلاك الرهن إذا هلك، إنما يكون نتيجة لاستبداله بما وجب في ذمة المرتهن بذلك الهلاك، بمعنى أن عين الرهن صارت بدلاً عن الدين الذي رهنت به، واستبدال هذه الديون لا يصح، كما تبين في بحث السلم، فلو جاز الرهن بهذه الديون، لزم منه استبدال هذه الديون قبل قبضها، إذا هلك الرهن، وهو لا يجوز شرعاً.
ولا يقال في هذه الحال: إن سقوط الدين، كان بطريق الاستيفاء؛ لأن الاستيفاء لايتحقق إلا عند اتحاد الرهن والدين جنساً، والغالب أن يكونا مختلفي الجنس. فيختص جواز الرهن بدين يمكن استبداله.
ودليل جمهور الحنفية: أن سقوط الدين دائماً عند هلاك الرهن، إنما هو بطريق الاستيفاء، لا بطريق الاستبدال. ويكفي في تحقق الاستيفاء وجود المجانسة في المالية، إذ أن الاستيفاء يتم بمالية الرهن، لا بصورته، والأموال كلها من ناحية المالية جنس واحد. وقد يسقط اعتبار المجانسة من حيث الصورة، ويكتفي بالمجانسة المالية للحاجة والضرورة، كما في إتلاف مالا مثل له من جنسه (1) ، وقد تحققت الحاجة والضرورة في الرهن، لحاجة الناس إلى توثيق ديونهم في جميع الأحوال (2) .
__________
(1) إذ لايعد هذا من قبيل المبادلة والمعاوضة، وإلا لتوقف على الرضا، وإنما يعد استيفاء، ولذا لايتوقف على رضا صاحب الحق.
(2) وإذا هلك الرهن المعطى برأس مال السلم أو بدل الصرف في مجلس العقد، صح العقد، لأنه صار المسلم إليه مستوفياً عين حقه في المجلس. وإن هلك بعد انقضاء المجلس، بطل العقد، لعدم تحقق قبض رأس المال أو بدل الصرف في المجلس. وإذا كان الرهن بالمسلم فيه، فهلك عند رب السلم قبل الوفاء، فإنه يهلك بالأقل من قيمته ومن قيمة المسلم فيه. ولو تفاسخا السلم وهناك رهن بالمسلم فيه، يصير المرهون استحساناً رهناً برأس المال، لأنه بدل عن المسلم فيه. وحينئذ لو هلك الرهن بعد التفاسخ، فلا يهلك برأس المال، وإنما يهلك بالمسلم فيه، لأنه رهن به ابتداء، فيظل على هذا الحكم، وإن كان محبوساً بغيره (تكملة الفتح: 207/8) .(6/75)
وأما غير الحنفية (1) : فروي عن الإمام أحمد روايتان في دين المسلم، رواية بالجواز، ورواية بعدم الجواز. وعلى الرواية الأولى: إذا كان الرهن بالمسلم فيه، ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد، بطل الرهن، لزوال الدين الذي رهن به. وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال إلى رب السلم (المسلم) .
وقال مالك والشافعية: لا يجوز الرهن في بدل الصرف ورأس مال السلم المتعلق بالذمة؛ لأنه يشترط التقابض في مجلس العقد. ويجوز أخذ الرهن في المسلم فيه؛ لأنه دين، والآية أجازت الرهن في المداينة.
ثانياً ـ وإن كان المرهون به عيناً، ففيه تفصيل:
إن كانت العين أمانة كالوديعة والعارية والمأجور ومال الشركة والمضاربة فلايجوز الرهن بها بالاتفاق؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد من أن يقابله مضمون، أي لا رهن إلا بمضمون، ليصبح القبض موصلاً إلى الاستيفاء.
__________
(1) بداية المجتهد: 269/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 323، مغني المحتاج: 127/2. المهذب: 305/1، المحرر في الفقه الحنبلي: 335/1.(6/76)
وإن كانت العين مضمونة بنفسها: وهي التي يجب ضمان مثلها إن كان لها مثل، أو قيمتها إن لم يكن لها مثل كالمغصوب في يد الغاصب، والمقبوض على سوم الشراء، والمهر في يد الزوج، وبدل الخلع في يد الزوجة، وبدل الصلح عن دم العمد، فيجوز الرهن بها عند الحنفية، وللمرتهن أن يحبس الرهن حتى يسترد العين المرهون بها. وإن هلك الرهن في يد المرتهن قبل استرداد العين، وهي قائمة باقية، يقال للراهن: سلِّم العين إلى المرتهن، وخذ منه الأقل من قيمة الرهن، ومن قيمة العين؛ لأن المرهون مضمون بالأقل المذكور.
وأجاز المالكية والحنابلة (1) كالحنفية كون المرهون به عيناً مضمونة بنفسها.
وقال الشافعية (2) لا يصح الرهن بالعين التي هي أمانة أو مضمونة لاشتراطهم كون المرهون به ديناً؛ لأنه تعالى ذكر الرهن في المداينة، فلا يثبت في غيرها؛ ولأن هذه العين لا تستوفى من ثمن المرهون، وذلك مخالف لغرض الرهن عند البيع (3) .
وأما إن كانت العين مضمونة بغيرها: كالمبيع في يد البائع، فإنه مضمون بغيره، وهو الثمن، فلو هلك المبيع في يد البائع، سقط الثمن عن المشتري، فلا يصح الرهن به، في رواية النوادر عن أبي حنيفة؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء، ولا يتحقق معنى الاستيفاء في المضمون بغيره، إذ لو هلك الرهن في يد المشتري، لا يصير مستوفياً شيئاً بهلاك الرهن.
__________
(1) بداية المجتهد: 270/1، كشاف القناع: 311/3، 4248.
(2) مغني المحتاج: 126/2، نهاية المحتاج: 265/3، المهذب: 305/1.
(3) وبناء عليه: يعرف بطلان ما جرت به عادة بعض الناس من كونه يقف كتاباً ويشرط ألا يعار، أو لا يخرج من مكان محبوس إلا برهن (البجيرمي على الخطيب: 59/3) .(6/77)
وفي ظاهر الرواية: إنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض؛ لأنه مضمون، وللمشتري أن يحبس المرهون حتى يقبض المبيع؛ لأن الاستيفاء المطلوب يتحقق من حيث المعنى؛ لأن المبيع قبل قبضه، إن لم يكن مضموناً بقيمته، مضمون بالثمن، ويعد سقوط الثمن عن المشتري بهلاك المبيع قبل تسليمه إليه، كالعوض عنه، فيصير المشتري مستوفياً مالية المبيع.
وبناء على اشتراط كون المرهون به حقاً واجب التسليم إلى صاحبه يتفرع ما يأت:
1 - الرهن على نقود بعينها: لو تزوج شخص امرأة على نقود بعينها، أو اشترى شيئاً بنقود بعينها، فأعطى بها رهناً، لم يجز الرهن عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، وجاز عند زفر؛ لأن النقود تتعين عنده بالتعيين.
2 - الرهن بالدين الموعود به أو بما سيقرضه المرتهن للراهن: مقتضى هذا الشرط ألا يصح الرهن بالدين الموعود به، أو بما سيقرضه المرتهن للراهن؛ لأن الدين لا وجود له عند عقد الرهن، حتى يكون واجب التسليم.
ولكن الحنفية والمالكية: أجازوا الرهن بالدين الموعود به الذي سيقرض في المستقبل، استحساناً لحاجة الناس إليه (1) ، أما إذا ارتهن المرتهن بما يثبت له على الراهن في المستقبل بدون وعد فلا يجوز، ولا يصح الرهن عند الشافعية، والحنابلة في ظاهر المذهب (2) بما سيقرضه، أي بدين مستقبل؛ لأنه ليس بحق ثابت في الذمة عند عقد الرهن، وقد شرع الرهن عند ثبوت الدين، لا عند الوعد به.
__________
(1) البدائع: 143/3، الدر المختار: 351/5، الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 245/3.
(2) مغني المحتاج: 127/2، المهذب: 305/1، المغني: 328/4.(6/78)
3 - الرهن بالدَّرَك (1) : أي بما يدرك المبيع من استحقاق، كأن باع شخص شيئاً وقبض الثمن، وسلم المبيع إلى المشتري، فخاف المشتري الاستحقاق، فأخذ بالثمن من البائع رهناً قبل الدَّرَك: لا يجوز هذا الرهن وإن جاز ضمانه (كفالته) ؛ لأن استحقاق الشيء المبيع قد يتحقق وقد لا يتحقق، فكان الرهن به رهناً بما لا يجب فيه التسليم حالاً، بل وبما لا وجود له في الحال، وربما في المستقبل.
وأما الكفالة بالدرك فجائزة؛ لأن الكفالة التزام وضمان المطالبة، ويصح التزام الأفعال وضمانها في المستقبل، كالنذور. قال الحنفية: الرهن بالدرك باطل، والكفالة بالدرك جائزة (2) .
أما الرهن فهو لاستيفاء الديون، وإذا لم يثبت الدين، فكيف يستوفى؟ فلا استيفاء قبل ثبوت الدين أو وجوبه، والاستيفاء فيه معنى المعاوضة، والمعاوضات والتمليكات لا يصح أن تضاف إلى المستقبل، لما في الإضافة من الخطر والغرر، والرهن بالدرك من هذا القبيل. فكأن الراهن البائع يقول للمرتهن المشتري: إن ظهر مستحق، فهذا الشيء رهن، تستوفي منه عوض الثمن.
والفرق بين حالة الدرك والدين الموعود: أن الأول معدوم، والثاني كالموجود أي على وشك الثبوت، وقد صحح الحنفية الثاني للحاجة، كما تقدم.
الشرط الثاني ـ أن يمكن استيفاء الدين من المرهون به: فإن لم يمكن الاستيفاء منه، لم يصح الرهن؛ لأن الارتهان استيفاء، فإذا انتفى الاستيفاء، انتفى الرهن والغرض منه (3) . وعليه فلا يصح الرهن بما يأتي:
__________
(1) الدرك: هو رجوع المشتري بالثمن على البائع عند استحقاق المبيع (العناية على الهداية بهامش تكملة الفتح: 206/8) .
(2) تكملة الفتح: 206/8، البدائع: 143/6 ومابعدها، الدر المختار: 350/5.
(3) البدائع: 143/6 ومابعدها، تكملة الفتح: 208/8، الدر المختار ورد المحتار: 351/5.(6/79)
1 - القصاص بالنفس أو ما دونها، لا يجوز الرهن به؛ لأنه لا يمكن أو يتعذر استيفاء القصاص من المرهون. لكن يجوز الرهن بأرش (تعويض) الجناية؛ لأن استيفاء الأرش من الرهن ممكن.
2 - الكفالة بالنفس أي إحضار شخص إلى مجلس القضاء ونحوه: لا يجوز الرهن بها؛ لأن المكفول به لا يحتمل استيفاؤه من الرهن. مثل أن يكفل زيد نفس خالد، على أنه إن لم يواف به إلى سنة، فعليه الألف الذي عليه. ثم قدم خالد رهناً بالمال إلى سنة، فالرهن باطل، لأنه لم يجب المال بعد على خالد، ولأن استيفاء المكفول به (وهو تسليم نفس من عليه الحق) من الرهن غير ممكن.
3 - الشفعة: أي لا يجوز أخذ الرهن من المشتري الذي وجب عليه تسليم المبيع من أجل الشفعة، فلا يصح للشفيع أن يقول للمشتري: أعطني رهناً بالدار المشفوعة؛ لأن حق الشفعة لا يمكن استيفاؤه من الرهن، فلم يصح الرهن به. كما أن الشفعة ليست بمضمونة (واجبة التسليم) على المشتري، بدليل أنه لو هلك العقار المشفوع فيه، لا يجب عليه شيء.
4 - أجرة على فعل محرم: كأجر النائحة أو المغنية، أو الراقصة، كأن استأجرها شخص، وأعطاها بالأجرة رهناً، لا يصح الرهن، لعدم صحة الإجارة، فلا تجب الأجرة، فكان الرهن بشيء غير مضمون لعدم مقابلته بشيء مضمون، فلم يصح الرهن.
كما لا يصح الرهن بالمنفعة الثابتة في الذمة التي يلتزم بها الأجير المشترك، إذ لا يمكن استيفاء المنفعة من المال.
الشرط الثالث ـ أن يكون الحق المرهون به معلوماً: فلا يصح الرهن بحق مجهول، فلو أعطاه رهناً بأحد دينين له، دون أن يعينه، لم يصح الرهن.(6/80)
واشترط الشافعية والحنابلة (1) في المرهون به شروطاً ثلاثة:
1ً - أن يكون ديناً ثابتاً واجباً كقرض وقيمة متلف، أو منفعة كالعمل في إجارة الذمة كالأجير المشترك الذي استؤجر لخياطة ثوب وبناء دار، وحمل معلوم إلى موضع معين، لإمكان استيفاء المنفعة ببيع المرهون وتحصيلها من ثمنه، فإذا لم يقم الأجير بفعل المنفعة المستأجر عليها، بيع الرهن، واستؤجر منه من يعمل العمل المأجور عليه، وذلك خلافاً للحنفية، أما إجارة العين فلا يصح الرهن بها، لتعذر استيفاء المرهون به من غيرالمعين، وإن بيع المرهون.
ويترتب على اشتراط الدين ألا يصح الرهن عند الشافعية بالأعيان المستعارة أو المغصوبة. وأجاز الحنابلة أخذ الرهن على عين مضمونة كالمغصوب والعاريّة، والمقبوض على سوم الشراء، والمقبوض بعقد فاسد، لأنهم قالوا: يصح الرهن بكل دين واجب أو مآله إلى الوجوب، كثمن في مدة الخيار.
ولا يصح عند الشافعية والحنابلة الرهن بدين لم يثبت بعد، وهو الدين الموعود به خلافاً للحنفية.
ولا فرق في الدين بين أن يكون مستقراً، كدين القرض، وثمن المبيع المقبوض، أوغير مستقر، كثمن المبيع قبل قبضه، والأجرة قبل الانتفاع في إجارة العين، والصداق قبل الدخول. أما الأجرة في إجارة الذمة فلا يصح الرهن بها لعدم لزومها في الذمة، إذ يلزم قبضها في مجلس العقد قبل التفرق، فهي كرأس مال السلم.
2ً - أن يكون الدين لازماً في الحال أو آيلاً إلى اللزوم: فيصح الرهن بالثمن بعد لزوم البيع، كما يصح أثناء مدة الخيار قبل لزوم العقد؛ لأن العقد آيل إلى اللزوم بعد انتهاء مدة الخيار.
ولا يصح الرهن بدين أونجوم الكتابة، ولا بجعل الجعالة قبل الفراغ من العمل، لعدم لزوم الدين؛ لأن للعبد المكاتب، أو المجعول له أن يفسخ العقد متى شاء، فيتنافى ذلك مع معنى الرهن: وهو التوثق.
__________
(1) نهاية المحتاج: 264/3، مغني المحتاج: 126/2 ومابعدها، البجيرمي على الخطيب: 60/3، كشاف القناع: 311/3.(6/81)
3ً - أن يكون الدين معلوماً أو معيناً قدره وصفته للعاقدين: فلو جهلاه أو جهله أحدهما، أو رهن بأحد الدينين، لم يصح الرهن.
وأما المالكية (1) فقالوا: يصح الرهن في المرهون فيه: وهو جميع الحقوق من بيع أو سلف أوغيرهما، إلا بدل الصرف ورأس مال السلم. واشترطوا في المرهون فيه أن يكون ديناً فلا يصح الرهن بالأمانة من وديعة أو مضاربة، وأن يكون في الذمة فلا يصح الرهن بالمعين ومنفعته (2) ، وأن يكون لازماً أو آيلاً للزوم، فلا يصح الرهن في نجوم الكتابة.
المطلب الرابع ـ شروط المال المرهون:
المرهون: مال حبس لدى المرتهن لاستيفاء الحق الذي رهن به. فإذا كان المرهون من جنس الحق، أخذ الحق منه، وإن كان من غير جنسه بيع واستوفي الحق من ثمنه، إن أدى البيع إلى الاستيفاء، كأن يكون الدين نقوداً (دنانير أو ليرات مثلاً) والمرهون من الأموال القيمية، وإلا كان الوفاء من طريق المعاوضة، كأن يكون الدين حنطة، والرهن نقوداً أو مالاً مثلياً من غير النقود.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 323، الشرح الكبير والدسوقي: 245/3.
(2) مثال الرهن في شيء معين: أن يبيع شخص دابة معينة، ويأخذ المشتري من البائع رهناً على أنها إن استحقت أو ظهر بها عيب، أتى له بعينها من ذلك الرهن. ومثال منفعة المعين: أن يؤجر إنسان سيارة بعينها، على أن يدفع المستأجر رهناً فإن تلفت أو استحقت أتى له بعينها، ليستوفي العمل منها، وكل من المثالين مستحيل عقلاً فلا يجوز شرعاً، لكن يصح الرهن بقيمة العين أو قيمة المنفعة.(6/82)
ولذا اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المرهون ما يشترط في المبيع حتى يمكن بيعه، لاستيفاء الدين منه (1) .
وطريقة البيع عند الحنفية تتم بإذن الحاكم إذا كان الراهن غائباً، لا يعرف موته ولا حياته. أما إن كان حاضراً، فيجبر على بيع المرهون، فإذا امتنع، باعه القاضي، أو نائبه، وأوفى المرتهن حقه (2) .
وشروط المرهون عند الحنفية (3) : أن يكون مالاً متقوماً، معلوماً، مقدور التسليم، مقبوضاً، محازاً، فارغاً عما ليس بمرهون، منفصلاً، متميزاً عنه، عقاراً كان أو منقولاً، مثلياً كان أو قيمياً. وأشرح هذه الشروط تباعاً:
1 ً - أن يكون المرهون قابلاً للبيع: وهو أن يكون موجوداً وقت العقد، مقدور التسليم، فلا يجوز رهن ما ليس بموجود عند العقد، ولا رهن ما يحتمل الوجود والعدم، كما لو رهن ما يثمر شجره هذا العام، أو ما تلد أغنامه هذه السنة، أورهن الطير الطائر، والحيوان الشارد، ونحوه، مما لا يتأتى استيفاء الدين منه ولا يمكن بيعه.
رهن الثمر أو الزرع الأخضر قبل بدو صلاحه: هذا الشرط متفق عليه بين أغلب الفقهاء، فهو رأي الحنفية، والشافعية في الأظهر، وظاهر الروايات عند
__________
(1) المغني: 337/4.
(2) رد المحتار: 357/5.
(3) البدائع: 135/6-140، الدر المختار: 340/5، 348، 351، تكملة الفتح: 193/8، 208، اللباب: 54/2 ومابعدها، 57.(6/83)
المالكية كما حقق الدسوقي، وفي وجه عند الحنابلة. فلا يجوز عندهم رهن الثمر قبل بدو صلاحه، ولا الزرع الأخضر من غير شرط القطع، لأنه لا يجوز بيعه، فلا يصح رهنه، كسائر ما لا يجوز بيعه (1) .
وقال ابن القاسم وابن الماجشون المالكيان، والحنابلة في الأصح عندهم: يستثنى من قاعدة: «ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه» : رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، ورهن الزر ع الأخضر بلا شرط القلع، ورهن الشارد والضال من الحيوان؛ لأن النهي عن البيع، إنما كان لعدم الأمن من العاهة أو للغرر والخطر، ولهذا أمر الشرع بوضع الجوائح، وهذا المعنى مفقود في الرهن؛ لأن الدين في ذمة المدين الراهن، والغرر أو الخطر قليل في الرهن، لأنه إذا تلف المرهون لا يضيع حق المرتهن من الدين، وإنما يعود الحق إلى ذمة الراهن. وإذا لم يتلف المرهون بأن أدرك الزرع، وأثمر الثمر، وعاد الضال، تحققت منفعة المرتهن، فيباع متى حل الحق، ويؤخر البيع متى اختار المرتهن. وعليه يجوز عند بعض المالكية، والحنابلة ارتهان ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان، ولا يباع إلا إذا بدا صلاحه، وإن حل أجل الدين.
2 ً - أن يكون مالاً: فلا يصح رهن ما ليس بمال، كالميتة، وصيد الحرم والإحرام، لأن هذا الصيد ميتة لا يحل تناوله.
رهن المنفعة: ولا يصح أيضاً رهن المنفعة عند جمهور الفقهاء غير المالكية، كأن يرهن سكنى داره مدة شهر أو أكثر (2) لأنها عند الحنفية ليست بمال، وعند غير
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 233/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 269/2، القوانين الفقهية: ص 323، المغني: 343/4، مغني المحتاج: 124/2، كشاف القناع: 315/3، المهذب: 309/1.
(2) عبارة الحنابلة: لا يصح ذلك، لأن مقصود المرتهن استيفاء الدين من ثمن المرهون، والمنافع تهلك إلى حلول الحق (المغني: 350/4، كشاف القناع: 307/3) .(6/84)
الحنفية: ليست مقدورة التسليم، لأنها وقت العقد غير موجودة، ثم إذا وجدت فنيت (1) ، ووجد غيرها، فلا يكون لها استقرار ولا ثبوت، فلا يمكن تسليمها ولا وضع اليد عليها، ولا بقاؤها إلى حلول أجل الدين أو وقت الاستيفاء. لكن امتناع رهن المنفعة عند الشافعية هو في حالة الابتداء، فيجوز جعل المنفعة مرهوناً بلا إنشاء الرهن، كما لو مات الشخص عن المنفعة وعليه دين.
3 ً - أن يكون متقوماً: أي يباح الانتفاع به شرعاً بحيث يمكن استيفاء الدين منه.
رهن الخمر والخنزير: بناء على هذا الشرط: لا يصح للمسلم أن يرهن خمراً أو خنزيراً، ولا أن يرتهنهما من مسلم أو ذمي؛ لأن الرهن إيفاء الدين، والارتهان استيفاء، ولا يجوز للمسلم إيفاء الدين من الخمر ونحوه، ولا استيفاؤه.
ولو رهن المسلم خمراً ونحوه عند ذمي، لم يضمنها هذا للمسلم، كما لا يضمنها بالغصب منه لعدم ماليتها.
ولو كان الراهن للخمر هو الذمي عند مسلم، فعليه عند الحنفية ضمانها للذمي، كما يضمنها بالغصب منه؛ لأنها مال بالنسبة للذمي، والتقى الدينان حينئذ قصاصاً أو مقاصة.
ويصح لأهل الذمة رهن الخمر والخنزير، وارتهانهما بينهم؛ لأن كلاً منهما مال متقوم في حقهم، كالخل والشاة عندنا.
4 ً - أن يكون معلوماً: كما يشترط في المبيع أن يكون معلوماً.
رهن المجهول: وعليه فكل ما صح بيعه مع نوع من الجهالة، يصح رهنه، وما لا يصح بيعه للجهالة، لا يصح رهنه. والعلم المشترط في المبيع: هو ما يرتفع به النزاع، أو هو ما لا يقع منه نزاع في العادة.
__________
(1) عبارة الشافعية في ذلك هي: لا يصح رهن منفعة جزماً، لأن المنفعة تتلف فلا يحصل بها استيثاق (مغني المحتاج: 122/2، حاشية الباجوري: 124/2) .(6/85)
فلو قال الراهن: رهنتك هذا المنزل بما فيه، وقبل المرتهن، وتسلم المنزل، صح الرهن عند الحنفية، لصحة بيعه، على هذا الوضع. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة (1) ، لعدم صحة بيعه على هذا الوضع، لجهالة ما يحويه.
ولو قال: رهنتك أحد هذين البيتين، صح عند الحنفية (2) ، لصحة بيعه على أن يكون للمرتهن خيار التعيين. ولم يصح عند الشافعية والحنابلة، لعدم التعيين (3) .
ولو دفع الراهن للمرتهن ثوبين، وقال له: خذ أيهما شئت رهناً بدينك، فأخذهما، لم يكن واحد منهما رهناً، قبل أن يختار أحدهما، لأنه إنما رهن ما يختاره المرتهن منهما، ففيما قبل الاختيار يكون المرهون غير معلوم، وبعده يكون معلوماً، فيصح الرهن.
ولو هلك الثوبان، ذهب نصف قيمة كل منهما بالدين، إن ساوى الدين قيمة أحدهما.
5 ً - أن يكون مملوكاً للراهن: وهذا ليس شرطاً لجواز صحة الرهن، وإنما هو عند الحنفية والمالكية شرط لنفاذ الرهن، وبه يعرف حكم رهن مال الغير.
فيجوز رهن مال الغير بغير إذن وإنما بولاية شرعية كالأب والوصي، يرهن مال الصبي بدينه، وبدين نفسه، ويجوز رهن مال الغير بإذنه، كالمستعار من إنسان ليرهنه بدين على المستعير. فإن لم يكن هناك إذن من المالك بالرهن، كان الرهن كالبيع موقوفاً على الإجازة، فإن أجاز نفذ، وإلا بطل.
__________
(1) المهذب: 309/1، 263، المغني:348/4، الدر المختار: 356/5، الشرح الكبير: 231/3.
(2) الدر المختار: 356/5، 61/4، البدائع: 157/5.
(3) المرجعان السابقان عند الشافعية والمغني (المكان السابق) .(6/86)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا يصح رهن مال الغير بغير إذنه، لأنه لا يصح بيعه، ولا يقدر على تسليمه، ولا على بيعه في الدين، فلم يجز رهنه، كالطير الطائر، والحيوان الشارد. فإن رهن شيئاً يظنه لغيره، ثم تبين أنه لأبيه، وأنه قد مات، وصار ملكاً له بالميراث، صح الرهن عند الحنابلة وفي وجه عند الشافعية، إذ العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
والمنصوص عند الشافعية: أن العقد باطل، لأنه عُقِد، والعاقد لاعب، فلم يصح.
فإن استعار الراهن الشيء ليرهنه، جاز عن أئمة المذاهب اتفاقاً (2) ؛ لأنه بالاستعارة يقبض ملك غيره لينتفع به وحده من غير عوض. وهو شأن الإعارة، فهي جائزة لتحصيل منفعة واحدة من منافع العين المستعارة.
6 ً - أن يكون مفرَّغاً أي غير مشغول بحق الراهن، فلا يصح رهن النخل المشغول بالثمرة بدون الثمر، ولا الأرض المشغولة بالزرع بدون الزرع، ولا الدار المشغول بأمتعة الراهن بدون الأمتعة ونحوها. أما رهن الشاغل كحمل السيارة ومتاع الدار، غيرالمتصل بالمشغول، فجائز رهنه.
7 ً- أن يكون محوزاً (3) أي مجموعاً منفصلاً، لا متفرقاً متصلاً بغيره، فلا يجوز رهن الثمر على شجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدون الأرض، إذ لا يمكن حيازة الثمر أو الزرع بدون الشجر أو الأرض.
8 ً - أن يكون متميزاً: أي غير مشاع، فلا يجوز رهن نصف دار أو ربع سيارة، ولو من الشريك.
__________
(1) المهذب: 308/1، كشاف القناع: 315/3.
(2) بداية المجتهد: 269/2، تبيين الحقائق: 88/6.
(3) المحوز: من الحوز: وهو الجمع وضم الشيء.(6/87)
والسبب في اشتراط التفرغ، والحيازة، والتميز: هو أن القبض شرط لازم لاشرط صحة في الرهن، والقبض متعذر مع وجود هذه الموانع. فإذا قبض الرهن مفرغاً محوزاً متميزاً، تم العقد فيه ولزم، وما لم يقبضه المرتهن، فالراهن بالخيار: إن شاء سلمه، وإن شاء رجع عن الرهن، كما في الهبة: لأن الرهن كالهبة عقد تبرع غير لازم إلا بالقبض. وبه يظهر أن هذه الشروط الثلاثة هي في الواقع العناصر التي يتحقق بتوافرها قبض المرهون.
المطلب الخامس ـ شرط تمام الرهن ـ قبض المرهون:
اتفق الفقهاء في الجملة على أن القبض شرط في الرهن، لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] ، واختلفوا في تحديد نوع الشرط، هل هو شرط لزوم، أو شرط تمام؟ وفائدة الفرق: أن من قال: شرط لزوم، قال: ما لم يقع القبض، لم يلزم الراهن بالرهن، وله أن يرجع عن العقد. ومن قال: شرط تمام، قال: يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت (1) .
__________
(1) بداية المجتهد: 270/1 ومابعدها.(6/88)
1 - قال الجمهور غير المالكية (1) : القبض ليس شرط صحة وإنما هو شرط لزوم الرهن، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، فما لم يتم القبض يجوز للراهن أن يرجع عن العقد، وإذا سلمه الراهن للمرتهن وقبضه، لزم الرهن، ولم يجز للرهن أن يفسخه وحده بعد القبض.
ودليلهم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] فلو لزم بدون القبض، لم يكن للتقييد به فائدة فقد علقه سبحانه بالقبض فلا يتم إلا به، ولأن الرهن عقد تبرع أو إرفاق (أي نفع) يحتاج إلى القبول، فيحتاج إلى القبض ليكون دليلاً على إمضاء العقد وعدم الرجوع، فلا يلزم إلا بالقبض كالهبة والقرض.
2 - وقال المالكية (2) : لا يتم الرهن إلا بالقبض أوا لحوز، فهو شرط تمام الرهن أي لكمال فائدته، وليس شرط صحة أو لزوم، فإذا عقد الرهن بالقول (الإيجاب والقبول) لزم العقد، وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن بالمطالبة به. فإن تراخى المرتهن في المطالبة به، أو رضي بتركه في يد الراهن، بطل الرهن.
ودليلهم: قياس الرهن على سائر العقود المالية اللازمة بالقول، لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] والرهن عقد فيجب الوفاء به. كما أن الرهن عقد توثق كالكفالة، فيلزم بمجرد العقد قبل القبض.
وبناء على اشتراط القبض: لو تعاقد الراهن والمرتهن على أن يكون الرهن في يد الراهن، لم يصح الرهن. فلو هلك الرهن في يده لا يسقط الدين، ولو أراد
__________
(1) الدر المختار: 340/5 وما بعدها، البدائع: 137/6، اللباب: 54/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 128/2، المهذب: 305/1 ومابعدها، كشاف القناع: 317/3، المغني: 328/4.
(2) بداية المجتهد: 271/2، القوانين الفقهية: ص 323 ومابعدها، الشرح الصغير: 313/3.(6/89)
المرتهن أن يقبضه من يد الراهن ليحبسه رهناً، ليس له قبضه، إذ لا يصير الرهن صحيحاً بعد فساده (1) .
كيفية القبض أو ما يتحقق به القبض:
اتفق الفقهاء على أن قبض العقار يكون بالتسليم الفعلي أو بالتخلية أي رفع المانع من القبض أو التمكن من إثبات اليد بارتفاع الموانع، فيُخلّى بين المرتهن والمرهون، ويمكن من إثبات يده عليه.
أما قبض المنقول: ففي ظاهر الرواية عند الحنفية (2) : أنه يكتفى فيه بالتخلية، فإذا حصلت، صار الراهن مسلِّماً، والمرتهن قابضاً؛ لأن التخلية تعتبر إقباضاً في العرف والشرع، أما في العرف: فلأنه لا يكون في العقار إلا بها، فيقال: هذه الأرض أو الدار في يد فلان، فلا يفهم منه إلا التخلي: وهو التمكن من التصرف.
وأما في الشرع: فإن التخلية تعتبر إقباضاً في البيع بالإجماع من غير نقل أو تحويل. وهذا الرأي هو المعقول تمشياً مع طبيعة التعامل وسرعته.
وقال أبو يوسف: لا تكفي التخلية في المنقول، وإنما يشترط فيه النقل والتحويل، فما لم يوجد لا يصير المرتهن قابضاً؛ لأن القبض ورد مطلقاً في الآية: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] فينصرف إلى القبض الحقيقي، وهو لا يتحقق إلا بالنقل، أما التخلية فالذي يتحقق بها قبض حكمي، فلا يكتفى فيه. ثم إن قبض الرهـ*ن يترتب عليه إنشاء ضمان على المرتهن لم يكن ثابتاً قبل العقد، فلا
__________
(1) مغني المحتاج: 128/2، المغني: 328/4، كشاف القناع: 318/3.
(2) البدائع: 138/6، بداية المجتهد: 269/2، مغني المحتاج: 128/2، المغني: 232/4، المهذب: 305/1 ومابعدها.(6/90)
بد فيه من تمام النقل بالقبض ليحدث الضمان، كالشأن في الغصب، بخلاف البيع، فإن الذي يترتب عليه إنما هو نقل الضمان من البائع للمشتري، فيكتفى فيه بالتخلية. لكن يلاحظ أن هذا الفرق بين الرهن والبيع لا تأثير له.
ويتفق الشافعية والحنابلة (1) مع أبي يوسف: فإنهم قالوا: المراد بالقبض هو القبض المعهود في البيع، فقبض الرهن كقبض البيع، فإن كان عقاراً أو مما لا ينقل كالدور والأرضين، يكون قبضه بالتخلية أي التخلية من الراهن بين المرهون والمرتهن من غير حائل. وذلك ينطبق على الثمر على الشجر والزرع في الأرض وإن كان منقولاً، فقبضه يكون بنقله أو تناوله، أي أخذه إياه من راهنه فعلاً.
فإن كان كالحلي فيتم قبضه بنقله، وإن كان كالدراهم والثوب، فيتم نقله بتناوله، وإن كان مكيلاً أوموزوناً، فقبضه يكون بكيله أو وزنه. وإن كان مذروعاً، فقبضه بذرعه، وإن كان معدوداً فقبضه بعدّه. ويعتبر العرف المتعارف في المذكور كله.
الرهن الرسمي للعقار أو ما ينوب مناب القبض: الظاهر أن المقصود من قبض الرهن هو تأمين الدائن المرتهن، وإلقاء الثقة والطمأنينة لديه، بتمكينه من حبس المرهون تحت يده، حتى يستوفي منه دينه، وليس المقصود من اشتراط القبض هو التعبد أي تنفيذ المطلوب بدون معنى.
وقياساً عليه: يصح أن يقوم مقام القبض كل وسيلة تؤدي إلى تأمين الدائن، ومنها ما أحدثه القانون المدني من الرهن الرسمي في العقار بوضع إشارة الرهن في صحيفة العقار في دائرة التسجيل العقاري، فهو محقق لحفظ المرهون وبقائه ضماناً
للدائن، وتأميناً لمصلحته، فيقوم هذا مقام القبض المطلوب شرعاً. وهذا ما أقره المالكية من جواز الرهن الرسمي، بالإضافة لمشروعية الرهن الحيازي المتفق عليه بين الفقهاء.
شروط القبض:
يشترط لصحة القبض ما يأتي:
أولاً ـ أن يكون بإذن الراهن: اتفق الفقهاء (2) على أنه لا بد لصحة القبض من إذن الراهن بالقبض، إذ به يلزم الرهن، ويسقط حق الراهن في الرجوع عن الرهن. فإن تعدى المرتهن، فقبضه بغير إذن، لم يثبت حكمه وكان بمنزلة من لم يقبض رهناً. وإن أذن الراهن في القبض، ثم رجع عن الإذن قبل القبض، زال حكم الإذن. أما رجوعه بعد القبض فلا يؤثر.
وإذا قبض المرتهن شيئاً بغصب، ثم أقره المغصوب منه في يده رهناً، فقال مالك: يصح أن ينقل الشيء من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهناً في يد الغاصب قبل قبضه منه.
وقال الشافعي: لا يجوز، بل يبقى على ضمان الغصب، حتى يعود إلى الراهن ثم يأذن بقبضه ولايبرأالغاصب على الضمان بارتهان المغصوب منه.
والإذن نوعان: صريح، ودلالة.
الصريح: أن يقول الراهن: أذنت لك في القبض، أو رضيت به، أو يأمر
__________
(1) مغني المحتاج: 128/2، المغني: 328/4، كشاف القناع: 318/3.
(2) البدائع: 138/6، بداية المجتهد: 269/2، مغني المحتاج: 128/2، المغني: 332/4، المهذب: 305/1 ومابعدها.(6/91)
المرتهن بقبض الرهن بأن يقول له: اقبض، ونحوه، سواء تم القبض في مجلس العقد، أم بعده.
والإذن دلالة أو ضمناً: أن يقبض المرتهن المال المرهون في مجلس العقد، والراهن ساكت، لا يعترض، فيصح قبضه؛ لأن الإيجاب بالرهن يدل على إرادة ترتب الأثر على العقد، ولا يترتب إلا بالقبض، فكان الإيجاب إذناً بالقبض ضمناً، في مجلس العقد، لا بعده، إذ قد يتغير رأيه بعد انتهاء المجلس.
وقياس قول زفر في الهبة: أنه لا بد من الإذن بالقبض صراحة، ولا يجوز القبض بعد الافتراق من مجلس عقد الرهن؛ لأن القبض ركن في نظره.
ثانياً ـ أن يكون كل من عاقدي الرهن حين القبض أهلاً للعقد: بأن يكون عاقلاً بالغاً، غير محجور عليه لصغر، أو جنون أو سفه، أو فلس عند مجيزي الحجر على المفلس؛ لأن القبض هو المولد لآثار الرهن، فوجب فيه ما يجب للعقد. وهذا رأي الشافعية والحنابلة، وصرح الحنفية بأن الصبي المأذون يجوز له الرهن والارتهان؛ لأن الرهن من توابع التجارة، فيملكه من يملك التجارة، أي أن البلوغ ليس بشرط في العقد والقبض، والمالكية مثلهم (1) .
فإن جن أحد العاقدين بعد العقد، وقبل القبض، أو عته، أو مات، بطل العقد عند الحنفية لزوال أهلية العاقد قبل تمام العقد.
وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: لا يبطل الرهن، كالبيع الذي فيه الخيار، ويقوم ولي المجنون أو المعتوه مقامه، كما يقوم الوارث مقام الميت المورث، وكذلك
__________
(1) البدائع: 135/6، 141، بداية المجتهد: 268/2، 271، مغني المحتاج: 122/2، 129، المغني: 328/4 وما بعدها، الشرح الصغير: 316/3، كشاف القناع: 319/3، الشرح الكبير للدردير، 241/3، المهذب: 307/1.(6/92)
يقوم القيم على السفيه مقامه لو حجر عليه لسفه، أما إن حجر عليه لفلس لم يكن له تسليم الرهن. وإن أغمي عليه، لم يكن للمرتهن قبض الرهن.
وقال المالكية: يبطل الرهن بموت الراهن أو جنونه أو إفلاسه، أو مرضه المتصل بموته قبل القبض. ولا يبطل بموت المرتهن، أو تفليسه، أو الحجر عليه للجنون؛ لأن العقد تم بالقول، وفي إمضائه منفعة ظاهرة للمرتهن، فيقوم وارثه مقامه في القبض.
وإذا مرض الراهن مرض الموت قبل القبض، لم يجز له عند الحنفية إقباض أو تسليم المرهون، إذا كان ماله مستغرقاً بالدين، وله غرماء آخرون، إذ ليس له أن يوفي بعض الغرماء ديونهم دون بعض، لتعلق حقوقهم جميعاً حينئذ بماله، إلا إذا رضي سائر الغرماء.
وهذا موافق لرأي المالكية أيضاً كما تقدم.
وقال الشافعية في الأصح، والحنابلة في قول: للمريض أن يخص بعض غرمائه بالوفاء، ولو أحاط الدين بماله؛ لأنه يؤدي ما وجب عليه، فله إقباض الرهن. وقيل في المذهبين: ليس له تسليم الرهن.
ثالثاً ـ استدامة قبض الرهن: يشترط لصحة القبض عند الحنفية والمالكية والحنابلة (1) دوام القبض، فإن قبض الرهن، ثم رده المرتهن باختياره إلى الراهن أو عاد إليه بإعارة أو إيداع أو إجازة أو استخدام أو ركوب دابة أو سيارة، بطل الرهن عند المالكية ولم يبطل عند الحنفية، وإنما يخرج من ضمان المرتهن، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، وزال لزوم الرهن وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض عند
__________
(1) البدائع: 142/6، بداية المجتهد: 271/2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 241/3 وما بعدها، 243، القوانين الفقهية: ص 324، المغني: 331/4، تكملة فتح القدير 228/8.(6/93)
الحنابلة، فإن عاد الراهن فرده إلى المرتهن، عاد اللزوم عند الحنابلة بحكم العقد السابق. وعند الحنفية والمالكية: لا يعود الرهن إلا بعقد جديد.
ودليلهم عموم قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] الذي يفهم منه اشتراط وجود القبض واستدامته.
وقال الشافعية (1) : ليس استدامة القبض فيما يمكن الانتفاع به مع بقائه من شروط صحة القبض، فلا يمنع القبض إعارة المرهون للراهن، أو أخذ الراهن المرهون بإذن المرتهن، واستعماله للركوب والسكنى والاستخدام، ويبقى وثيقة بالدين، لخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً» ، ولأن الرهن عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم يشترط استدامته كالهبة.
وأما إذا كان المرهون مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه، لم يكن للراهن طلب استرداده للانتفاع به بعد قبضه، ووجب استمرار يد المرتهن عليه؛ إذ لا ضمان لحقه إلا بذلك، حتى لا يتعرض حقه للضياع والتلف.
القبض السابق للرهن، أو رهن ما في يد المرتهن:
إذا كان المرهون موجوداً في يد المرتهن بطريق الإعارة أو الإيداع أو الإجارة أو الغصب، فهل يكتفى بالقبض السابق على عقد الرهن عن قبض الرهن بعده، فيصح العقد ويلزم بمجرد الإيجاب والقبول، أو يلزم تجديد القبض المطلوب للرهن بعد العقد مرة أخرى؟
فيه رأيان: رأي الجمهور ورأي الشافعية:
__________
(1) المهذب: 311/1، مغني المحتاج: 130/2، 131، 132.(6/94)
1 - قول الجمهور: يرى الحنفية والمالكية والحنابلة (1) : أنه يكتفى بالقبض السابق عن قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض.
أما الحنفية فقرروا بالمناسبة مبدءاً ينطبق على الهبة والرهن ونحوهما. فقالوا: إن المرهون إذا كان مقبوضاً عند العقد، فينوب عن قبض الرهن إذا تجانس القبضان، بأن كان كل منهما مماثلاً للآخر في قوته، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى.
وتوضيحه أن القبض كما تبين في الهبة نوعان: قبض أمانة، وقبض ضمان. فقبض الأمانة كقبض الوديعة. وقبض الضمان كقبض الغصب، والثاني أقوى من الأول.
فإذا تجانس القبضان: السابق واللاحق المطلوب، أي أنهما كانا من نوع واحد، بأن كان كلاهما قبض أمانة أو قبض ضمان، قام القبض الأول مقام القبض الثاني المطلوب. وقبض الرهن قبض أمانة (2) ، وليس هناك حالة يكون فيها القبض أدنى من قبض الرهن.
فلو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً على سبيل الإيداع أو الإعارة أو الإجارة ثم رهنه الراهن لدى الدائن، لزم الرهن، دون حاجة لتجديد قبض آخر؛ لأن قبض الوديعة ونحوه وقبض الرهن متجانساً، فكل منهما قبض أمانة، فينوب أحدهما مناب الآخر.
ولو كان المال موجوداً بيد الدائن سابقاً بطريق الغصب، فرهنه صاحبه لدى الغاصب بسبب علاقة دين من بيع أو قرض، ناب قبض الغصب؛ لأنه قبض ضمان أقوى، عن قبض الرهن؛ لأنه قبض أمانة أدنى، والأعلى ينوب مناب الأدنى، أو الأقوى ينوب مناب الأضعف.
__________
(1) البدائع: 142/6، 126/5 وما بعدها، الشرح الكبير للدردير: 236/3، المغني: 334/4، الشرح الصغير: 309/3، بداية المجتهد: 269/2.
(2) أما أن الدين يسقط كله أو بعضه بهلاك المرهون فلمعنى آخر: هو أن مالية المرهون تعتبر محبوسة لدى الدائن ضماناً لحقه ووفاء له من وجه، بوضع يده على قيمة المرهون أو على بعضها، فإذا هلك امتنع رد مالية المرهون إلى مالكه، فيتقرر بذلك استيفاء دينه من المرهون، فيسقط من الدين بقدر مالية المرهون. وعليه فإن ما يزيد من الرهن على الدين يهلك هلاك الأمانات، لأنه ليس محبوساًعلى وجه الاستيفاء.(6/95)
وأما المالكية: فينوب عندهم أيضاً أي قبض سابق عن قبض الرهن؛ لأن غرضهم من القبض هو الحيازة، وهي متحققة. وقد نصوا على أنه يجوز رهن العين المستأجرة عند مستأجرها قبل انتهاء مدة الإجارة، ورهن البستان عند العامل فيه بعقد المساقاة، ويكفي حوزها السابق بالإجارة والمساقاة.
وأما الحنابلة فقالوا أيضاً: إذا ارتهن المرتهن ما في يده بطريق الإعارة أو الإيداع أو الغصب ونحوه، صح الرهن، ولزم بالإيجاب والقبول، من غير حاجة إلى أمر زائد عليهما، لثبوت يده حينئذ على المال المرهون، ولم يشترط القبض إلا لإثبات اليد.
2 - وقال الشافعية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة (1) : يكفي القبض السابق، لكن لا يصير الشيء رهناً مقبوضاً حتى تمضي مدة يتأتى فيها قبضه. فإن كان منقولاً، فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلاً فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية. وإن كان غائباً عن المرتهن، لم يصر مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن العقد يفتقر إلى القبض، والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه، وهو لا يكون إلا في زمن.
والجمهور يقولون: إذا كانت يد المرتهن على المال المرهون قبل رهنه يد ضمان، فإنها تنقلب يد أمانة بارتهانه؛ لأن السبب المقتضي للضمان قد زال بالارتهان، فيزول أثره وهو الضمان بزوال سببه، بدليل أن الضمان يزول برد المال إلى مالكه لزوال السبب المقتضي للضمان، وسبب الضمان هو الغصب أو الاستعارة عند من يقول بأن يد المستعير يد ضمان، وهم الحنابلة، والشافعية أحياناً.
__________
(1) المهذب: 306/1، المغني: 334/4، مغني المحتاج: 128/2.(6/96)
وبارتهان المال لم يبق المرتهن غاصباً ولا مستعيراً، فلا يبقى الحكم مع زوال سببه. وقال الشافعية: تظل اليد السابقة إذا كانت يد ضمان كما هي. فإذا كان المال المرهون في يد المرتهن بطريق اغتصابه أو إعارته، لا يبرئه ارتهانه عن الغصب (1) ، أو الإعارة، لأنه لا منافاة بين الأمرين، فلا منافاة بين يد الغرض منها التوثق وهي يد المرتهن ـ يد الأمانة، وبين اعتبارها ضامنة، بدليل أن المرتهن لو تعدى على المرهون، ضمنه، مع بقاء الرهن، بدليل اختصاصه بضمانه دون باقي الغرماء. وإذا كان عقد الرهن لا يبطل أو لا يرتفع بالضمان، بل يبقى معه، فلا يرفع الضمان الرهن ابتداء من طريق أولى.
لكن إيداع الشيء عند الغاصب يبرئه عن الغصب في الأصح؛ لأن الإيداع ائتمان، وهو ينافي الضمان، بدليل أنه لو تعدى في الوديعة لم يبق أميناً، بخلاف الرهن.
__________
(1) وإذا كان الارتهان لا يبرئ الغاصب من الغصب، فلو أبرأ المالك غاصباً من ضمان المغصوب الباقي، لم يبرأ، لأن الأعيان لايبرأ منها، إذ الإبراء إسقاط ما في الذمة أو تمليكه، وكذا لو أبرأه عن ضمان ما يثبت في ذمته بعد تلفه، لأنه إبراء عما لم يجب. وكذلك لو أجره المغصوب، أو ضاربه به، أو وكله في التصرف فيه، لم يبرأ، كالارتهان.(6/97)
من يتولى قبض الرهن:
يتولى قبض الرهن المرتهن أو وكيله. ولا يصح أن يكون وكيله هو الراهن؛ لأن المقصود من القبض تأمين المرتهن، ولا يتم مع بقاء الرهن في يد الراهن.
ويجوز أن يتفق الراهن والمرتهن على أن يوضع الرهن عند شخص يختارانه، فيقبضه ويحفظه عنده، ويسمى بالعدل، لأن الراهن قد يكره وضعه عند المرتهن، والمرتهن قد يكره وضعه عنده، خوف الضمان إذا تلف، أو لسبب آخر (1) .
العدل ـ تعيينه، عزله، ما له وما عليه أو أحكامه.
تعيين العدل: العدل: هو الذي يثق الراهن والمرتهن بكون الرهن في يده (2) ، لحفظه وحيازته. ويعتبر نائباً عن الراهن والمرتهن جميعاً. أما الراهن فلقيامه على حفظ المرهون باختيار الراهن وثقته به واطمئنانه إلى أمانته. وأما المرتهن فيعد العدل وكيلاً عنه في القبض، برضا المرتهن، بل إنه يعد احتباسه للرهن استيفاء للدين من وجه.
فللعدل أو الأمين صفتان: صفة الأمانة، باعتباره نائباً عن الراهن المالك، فهو وديعة في عين المرهون. وصفة الضمان، باعتباره نائباً عن المرتهن، فهو وديعة في مالية المرهون.
وبما أن العدل وكيل عن الراهن والمرتهن، فيشترط فيه ما يشترط في الوكيل (3) ، فلا يكون صغيراً غير مميز، ولا محجوراً عليه لجنون أو عته عند جميع الفقهاء، كما لا يكون صبياً مميزاً ولا محجوراً عليه لسفه عند الجمهور غير الحنفية.
__________
(1) الشرح الصغير: 321/3.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 80/6.
(3) البدائع: 150/6، المغني: 351/4، مغني المحتاج: 133/2.(6/98)
ولا يصلح المدين المكفول عنه أن يكون عدلاً في رهن يقدمه كفيله؛ لأنه يكون عاملاً لنفسه، والشريك لا يصلح عدلاً في رهن يقدمه شريكه، ورب المال في المضاربة لايصلح أن يكون عدلاً في رهن يقدمه المضارب في دين للمضاربة؛ لأن يده كيد المضارب.
ولو اتفق عاقدا الرهن على أن يكون العدل هو الراهن: فإن كان الاتفاق قبل قبض المرتهن، لم يصح الرهن اتفاقاً لوجود شرط فاسد لحق العقد. وإن كان الاتفاق بعد قبض المرتهن الرهن، فهو جائز عند الشافعية (1) ، إذ لا يشترط عندهم استدامة قبض الرهن لدى المرتهن، ولا يصح الرهن عند غير الشافعية.
ويحصل تعيين العدل باتفاق الراهن والمرتهن، سواء قبل أن يقبضه المرتهن، أو بعد قبض المرتهن، إذ قد تدعو الحاجة إليه، كأن يأبى الراهن أن يكون الرهن في يد الدائن؛ لأنه لا يثق به، أو لا يطمئن إلى حفظه، أو يخشى عليه منه، وهو في حاجة إليه.
وإذا قبض العدل الرهن، صح قبضه، ولزم الرهن به عند جمهور الفقهاء؛ لأنه قبض في عقد، فجاز فيه التوكيل، كسائر أنواع القبض، وكان العدل وكيلاً عن المرتهن في القبض، بالنسبة لمالية الرهن بصفة الضمان، وإن كان وكيلاً أيضاً عن الراهن بالنسبة لعين الرهن، بصفة الأمانة، ويد الضمان غير يد الأمانة.
وقال بعضهم كابن أبي ليلى وزفر وقتادة: لا يصح قبض العدل؛ لأن القبض من تمام العقد، فوجب أن يقوم به أحد العاقدين، وهو المرتهن، كالقبول والإيجاب (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 133/2 وما بعدها.
(2) المغني: 351/4، مغني المحتاج: 133/2، المهذب: 310/1، تكملة الفتح: 220/8، تبيين الحقائق: 80/6، الد المختار: 357/5، الشرح الصغير: 321/3.(6/99)
ويجوز لعاقدي الرهن أن يجعلا المرهون في يد عدلين، فيحفظانه معاً، ولا ينفرد أحدهما بحفظه، وإن سلمه أحدهما إلى الآخر، كان ضامناً لنصفه: وهو القدر الذي تعدى فيه، وهذا عند الحنابلة، والأصح عند الشافعية (1) ؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد بالحفظ، ويجعلانه في مخزن لكل واحد منهما مفتاح.
وقال أبو حنيفة: إن كان مما ينقسم اقتسماه، وإلا فلكل واحد منهما إمساك جميعه؛ لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما.
وقال الصاحبان: إذا رضي أحدهما بإمساك الآخر، جاز.
عزل العدل: ينعزل العدل في الأحوال التالية (2) :
1ً - الاستقالة: إذا استقال العدل، ورد الرهن إلى العاقدين، انتهت وكالته، لأنه أمين متطوع بالحفظ. فلا يلزمه الاستمرار عليه. فإن امتنعا رفع أمره إلى القاضي، فأجبرهما على قبول استقالته، أو دفعه إلى عدل آخر.
2ً - إنهاء ولايته: إذا اتفق العاقدان على عزل العدل، أو تغييره، أو أن يكون المرهون بيد المرتهن، انعزل العدل؛ لأنه وكيل عنهما جميعاً. فإن لم يتفقا رفع الأمر إلى القاضي ليرى رأيه، فإن شاء غيره، وإن شاء أبقاه.
3ً - بيع الرهن وتسديد دين المرتهن من ثمنه.
4ً - موت الراهن، لا موت المرتهن، في ظاهر الرواية عند الحنفية، فإذا توفي الراهن، وكان تعيين العدل متأخراً عن عقد الرهن، انعزل العدل؛ لأنه في هذه الحالة وكيل، وتنتهي الوكالة بموت الموكل. أما إذا مات المرتهن فلورثته عند الحنفية إمساك الرهن؛ لأن الدين قد انتقل إليهم بوثيقته، فينتقل إليهم حق إمساكه.
أما إذا كان تعيين العدل في عقد الرهن، فلا ينعزل بموت الراهن، ولا بموت المرتهن؛ لأن تعيين العدل تابع للرهن، والرهن لا يبطل بموت أحد العاقدين، فلا ينعزل العدل الذي هو تابع. وقال الحنابلة والشافعية (3) : ينعزل العدل بموت الراهن؛ لأنه وكيله، ولا ينعزل بموت المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له.
5ً - موت العدل: إذا توفي العدل لم يكن لورثته حق إمساك الرهن إلا إذا اتفق العاقدان على ذلك.
6ً - جنون العدل: إذا جن العدل جنوناً لا ينتظر برؤه منه، انعزل به. أما إذا كان يرجى شفاؤه منه فلا ينعزل به.
7ً - عزل الراهن العدل: ينعزل العدل عند الشافعية والحنابلة (4) بعزل الراهن له، سواء اشترط تعيينه في عقد الرهن، أم بعده لأنه وكيله. ولا ينعزل عندهم بعزل المرتهن؛ لأنه ليس وكيلاً له، كما هو الحكم في موت الراهن.
وقال الحنفية (5) : إذا كان تعيين العدل عقب الرهن، فللراهن عزله، ولاينعزل فيما إذا كان التعيين في نفس عقد الرهن. وقال مالك: لا ينعزل العدل بعزل الراهن؛ لأن وكالته صارت من حقوق الرهن، فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه.
__________
(1) المغني: 134/4، المهذب: 310.
(2) البدائع: 151/6، المغني: 353/4 ومابعدها، مغني المحتاج: 134/2 ومابعدها، المهذب: 307/1.
(3) المغني: 354/4.
(4) المغني: 353/4.
(5) البدائع: 151/6.(6/100)
والخلاصة: إن موت الراهن وعزله العدل، ينعزل به العدل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكالة عقد جائز غير لازم، فلا يجبر الراهن على إبقائها.
وقال الحنفية: ينعزل في تعيين متأخر عن الرهن، ولا ينعزل في تعيين مقترن بالرهن.
وقال المالكية: لا ينعزل. واتفقوا على أن العدل لا ينعزل بعزل المرتهن له ولا بموته؛ لأنه وكيل الراهن، إذ الرهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح، فلم ينعزل بعزل غيره.
أحكام العدل أو ما له وما عليه:
للعدل حقوق وواجبات هي ما يأتي (1) :
1ً - يجب على العدل أن يحفظ الرهن، كما يحفظ ماله. فيحفظه بنفسه أو بواسطة من يحفظ ماله عنده؛ لأنه في الحفظ بحكم الوديع.
2ً - وعليه أن يبقيه تحت يده، فليس له أن يدفعه إلى الراهن أو إلى المرتهن إلا بإذن الآخر، لاتفاقهما على وضع الرهن تحت يده، وعدم رضا كل منهما عن حفظ الآخر له. وليس للمرتهن ولا للراهن أخذ الرهن من يد العدل؛ لأن لكل منهما حقاً في الرهن، فحق الراهن في الحفظ، وحق المرتهن في الاستيفاء، ولا يملك أحدهما إبطال حق الآخر.
ولو دفعه العدل إلى أحدهما من غير رضا صاحبه، فلصاحبه أن يسترده ويعيده إلى يد العدل.
وإذا هلك الرهن في يد أحدهما قبل استرداده، ضمن العدل قيمته، بسبب اعتدائه عليه بدفعه إلى أحدهما، أي ضمن الأقل من قيمته ومن الدين، وهذا باتفاق الحنفية، والمالكية.
__________
(1) البدائع: 148/6 ومابعدها، تبيين الحقائق: 80/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 221/8 ومابعدها، الدر المختار: 358/5 ومابعدها، اللباب: 57/2، الشرح الصغير: 321/3، مغني المحتاج: 134/2 ومابعدها، المغني: 353/4 ومابعدها.(6/101)
ومثله في الحكم أن يسلمه العدل إلى أجنبي بدون رضاها قبل سقوط الدين. وإذا ضمن العدل قيمته، فدفعها إليهما، فلهما عندئذ أن يجعلاها رهناً في يده، إلى وفاء الدين. وليس للعدل بنفسه أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنه هو الذي دفع القيمة، فلو جعلها رهناً يصير قاضياً ومقضياً وبينهما تناف. فإن وفى الراهن الدين وأراد أن يأخذ قيمة الرهن من العدل، نظرنا في الأمر:
إن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى الراهن، لم يكن للراهن أخذ قيمة الرهن منه؛ لأن حقه قد وصل إليه حين دفع إليه الرهن، فتكون القيمة حقاً للعدل.
وإن كان العدل قد ضمن بسبب دفعه إلى المرتهن، كان للراهن أن يأخذ قيمة الرهن منه؛ لأنها بدل عن عين الرهن. وعندئذ ليس للعدل أن يرجع بما ضمن على المرتهن، إذا كان قد دفعه إليه على وجه العارية أو الوديعة؛ لأن العدل قد دفع إليه ملكه الذي تملكه من وقت الدفع حين ضمن قيمته (1) . وإن كان قد دفعه إليه رهناً فيكون مضموناً على المرتهن كالمقبوض على سوم الرهن أو على سوم البيع؛ لأنه دفعه إليه على وجه الضمان.
3ً - ليس للعدل أن ينتفع بالرهن، ولا أن يتصرف فيه بالإجارة، أو الإعارة، أو الرهن؛ لأن الواجب عليه الإمساك، وليس له حق الانتفاع والتصرف. وليس له أن يبيعه إلا إذا كان مسلطاً على بيعه في عقد الرهن، أو بعده. وإذا توفي العدل، لم يحل وارثه محله في بيع الرهن؛ لأن الوكالة لا تورث. وكذلك لا يحل وصيه محله في البيع أيضاً، لأن الراهن لم يرض برأي وصيه.
وعن أبي يوسف: أنه يحل محله؛ لأن الوكالة لازمة، فصار وصيه كوصي العامل المضارب إذا مات.
__________
(1) وبعباره أخرى: إن العدل بأداء الضمان ملك العين المرهونة من وقت الدفع للمرتهن، وتبين أنه أودع أو أعار ملك نفسه، ولا يضمن المستعير ولا الوديع إلا بالتعدي.(6/102)
ورد عليه بأن للمضارب ولاية التوكيل في حياته بدون إذن صاحب المال، بخلاف العدل، فجاز أن يقوم وصيه مقامه، كالأب في مال الصغير.
وإذا باع العدل الرهن، لم يعد رهناً؛ لأنه صار ملكاً للمشتري، وصار ثمنه هو الرهن، لأنه قام مقامه.
وللعدل أن يبيع الزيادة المتولدة من الرهن، لكونها مرهونة تبعاً للأصل. وله أن يبيع بمثل قيمة الرهن أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه، وبالنقد والنسيئة عند أبي حنيفة. وله أن يبيع قبل حلول الأجل ويكون الثمن حينئذ رهناً عنده إلى أن يحل الأجل؛ لأن ثمن المرهون مرهون.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يبيع العدل إلا بثمن المثل حالاً، من نقد بلده كالوكيل. وإذا باع العدل وقبض الثمن، كان الثمن عنده من ضمان الراهن لأنه ملكه، والعدل أمينه، حتى يقبضه المرتهن.
4ً - إذا هلك الرهن في يد العدل من غير تعد، كان كهلاكه في يد المرتهن؛ لأن يد العدل بالنسبة لمالية الرهن، كيد المرتهن، ويكون عند الحنفية مضموناً على المرتهن بالأقل من قيمته (أي قيمة الرهن) ومن الدين.
وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بتعديه، أو ضمنها الأجنبي المتعدي على الرهن بعد أن دفعه العدل إليه بلا حق، لم يستطع العدل أن يجعل القيمة رهناً في يده؛ لأنها واجبة عليه في الحالين، ولا يصلح الشخص الواحد أن يكون في آن واحد قاضياً ومقتضياً، ولكن يأخذها الراهن والمرتهن، فيجعلانها رهناً عند العدل أو عند غيره. وقال الشافعية والحنابلة: تجعل القيمة رهناً في حالة كون الأجنبي هو المتعدي على الرهن.
وإذا استحق الرهن وهو قائم في يد العدل أخذه المستحق وبطل الرهن. وإذا استحق بعد هلاكه كان المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته أو يضمن العدل ويرجع العدل على الراهن بما ضمن لأنه غرّه.(6/103)
5ً - ليس للعدل المسلط على البيع عند الحنفية أن يعزل نفسه إلا برضا المرتهن، مراعاة لحقه، إذا كانت الوكالة بالبيع مشروطة في عقد الرهن. فيجبر على البيع إذا حل أجل الدين وأبى البيع. وإجباره بأن يحبسه القاضي أياماً ليبيع، فإن أبى بعد الحبس باعه القاضي؛ لأن بيع الرهن في هذه الحالة صار حقاً للمرتهن.
أما إذا كانت وكالة العدل بالبيع بعد عقد الرهن، فللعدل أن يعزل نفسه؛ لأنها تعد وكالة مستقلة مبتدأة، فتطبق عليها أحكام الوكالة، وقال أبو يوسف: ليس له أن يعزل نفسه.
وقال الشافعية والحنابلة: للعدل في جميع الأحوال أن يعزل نفسه؛ لأنه وكيل منفصل، فلا يجبر على المضي في الوكالة.
المطلب السادس ـ ما يترتب على شروط الرهن أو ما يجوز ارتهانه وما لا يجوز:
بالإضافة لما ذكر سابقاً من الأمور المترتبة على شروط الرهن، ولا سيما شرط القبض، هناك حالات تتطلب مزيد بيان وتفصيل، أهمها ما يأتي:
1 - رهن المشاع:
اختلف الفقهاء في رهن جزء مشاع كنصف وثلث وربع، فمنعه الحنفية، وأجازه الجمهور. وسبب الخلاف: هل تمكن حيازة المشاع أو لا تمكن (1) ؟
أما مذهب الحنفية (2) : فهو أنه لا يجوز رهن المشاع، سواء كان يحتمل القسمة أو لا، من شريكه أو غيره. والصحيح أن الرهن حينئذ فاسد، يضمن بالقبض؛ لأن القبض شرط تمام العقد ولزومه، لا شرط جوازه أو انعقاده.
ودليلهم: أن الرهن يستوجب ثبوت يد الاستيفاء، واستحقاق الحبس الدائم للمرهون، والحبس الدائم لا يتصور في المشاع، لما فيه من مهايأة في حيازته، وكأن الراهن قد رهنه يوماً، ويوماً لا، فلم يصح سواء فيما يقبل القسمة أو فيما لايقبلها، ولو من الشريك، لوجود المهايأة في الحيازة.
__________
(1) بداية المجتهد: 269/2.
(2) البدائع: 138/6، تكملة الفتح: 203/8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 68/6 ومابعدها، الدرالمختار: 348/5، اللباب: 56/2.(6/104)
بل إن قبض أو حيازة الجزء الشائع وحده لا يتصور، والجزء الآخر ليس بمرهون، فلا يصح قبضه. والشيوع يمنع تحقق الجزء الشائع، سواء فيما يقبل القسمة، وما لا يقبلها، بخلاف الهبة حيث تصح فيما لا يحتمل القسمة للضرورة؛ لأنها تفيد الملك، والشيوع لا ينافيه، فاكتفي بالقبض الممكن.
وهذا الحكم سواء أكان الشيوع مقارناً لعقد الرهن أم طارئاً عليه، فإذا طرأ الشيوع على الرهن، أفسده. وروي عن أبي يوسف: أن الشيوع الطارئ على العقد، لا يفسده؛ لأنه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء، كالهبة التي يطرأ عليها الشيوع بعد القبض، فلا يفسدها.
ورد عليه: أن العلة في المنع كون الشيوع ما نعاً من تحقق القبض، وهذا يستوي فيه الابتداء والبقاء، بخلاف الهبة؛ لأن الملك لا يتنافى مع الشيوع.
وأما مذهب الجمهور غير الحنفية (1) : فهو أنه يصح رهن المشاع أو هبته أو التصدق به أو وقفه، كرهن كله، من الشريك وغيره، محتملاً للقسمة أم لا؛ لأن كل ما يصح بيعه يصح رهنه، ولأن الغرض من الرهن استيفاء الدين من ثمن المرهون ببيعه عند تعذر الاستيفاء من غيره، والمشاع قابل للبيع، فأمكن الاستيفاء من ثمنه. والقاعدة عندهم: كل ما جاز بيعه جاز رهنه من مشاع وغيره.
وأما كيفية الحيازة، فقال المالكية: يجب قبض جميع ما يملكه الراهن، ما رهنه وما لم يرهنه، لئلا تجول يد الراهن فيما رهنه، فيبطل الرهن. فإن كان الجزء غير المرهون غير مملوك للراهن، اكتفي بحيازة الجزء المرهون. ولا يستأذن الراهن شريكه في رهن حصته، إذ لا ضرر على الشريك، وهذا قول ابن القاسم المشهور. نعم يندب الاستئذان لما فيه من جبر الخواطر. وقال أشهب: يجب استئذانه.
ويرى الشافعية والحنابلة: أن قبض المشاع في العقار يكون بالتخلية، وإن لم يأذن الشريك، وفي المنقول يكون بالتناول، ويشترط فيه إذن الشريك، ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك. فإن أبى ورضي المرتهن بكونه في يد الشريك، جاز وناب
__________
(1) الشرح الكبير: 235/3، بداية المجتهد: 269/2، القوانين الفقهية: ص 323، المهذب: 308/1، مغني المحتاج: 122/2 ومابعدها، المغني: 337/4 ومابعدها، كشاف القناع: 312/3.(6/105)
عنه في القبض. وإن تنازع الشريك والمرتهن عين الحاكم عدلاً يكون في يده، إما أمانة أو بأجرة. وتجري المهايأة بين المرتهن والشريك كجريانها بين الشريكين.
2 - رهن المتصل بغيره والمشغول:
الخلاف في هذا كالخلاف في رهن المشاع، على رأيين:
قال الحنفية (1) : لا يصح رهن شيء متصل بغير المرهون كالثمر على الشجر بدون الشجر، والزرع في الأرض بدونها، والشجر في الأرض بدونها، والأرض بدون ما عليها من زرع أو شجر؛ لأن المرهون متصل بغيره، فيتعذر الحبس بدونه، فهوكرهن المشاع.
ولا يصح رهن المشغول بغير المرهون، كرهن دار فيها متاع الراهن دونه؛ لأن المرهون مشغول بغيره، ولا يمكن حبسه، فهو في معنى رهن المشاع.
وأما الجمهور الذين جوزوا رهن المشاع، فجوزوا رهن المتصل والمشغول، لإمكان تسليمه مع ما هو متصل به. وأما المتاع الموضوع في الدار، فلا يدخل في الرهن إلا بالنص عليه؛ لأنه ليس بتابع للدار.
ويدخل في رهن الأرض أو الدار عند الحنابلة ما يدخل في البيع، فإذا رهن أرضاً، كان في دخول الشجر وجهان. وإذا رهن شجراً مثمراً، لم تدخل الثمرة الظاهرة، كما لا تدخل في البيع، وإن لم تكن ظاهرة دخلت.
وذهب الشافعية إلى عدم دخول الثمرة مطلقاً ـ ظهرت أو لم تظهر، في الرهن بحال.
__________
(1) البدائع: 138/6، 140، تكملة فتح القدير: 205/8، الدر المختار: 350/5، تبيين الحقائق: 69/6.(6/106)
ولو رهن داراً فخلى بينه وبينها، وعاقدا الرهن فيها، ثم خرج الراهن، صح الرهن عند الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية: لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها (1) .
3 - رهن الدين:
أجاز المالكية دون غيرهم رهن الدين.
فقال الحنفية (2) : لا يجوز رهن الدين؛ لأنه ليس مالاً لأن المال عندهم لا يكون إلا عيناً، ولا يتصور فيه القبض، والقبض لا يكون إلا للعين. فلو كان خالد دائناً لعمر بمئة دينار، وعمر دائن لخالد بمئة مد حنطة، لم يجز لعمر أن يجعل دينه من الحنطة رهناً عند خالد بدينه الذي يستحقه قبل عمر، فهذا رهن الدين عند المدين، حيث جعل الدين الذي للدائن رهناً في الدائن الذي عليه.
وكذلك قال الشافعية والحنابلة في الأصح عندهم (3) : شرط المرهون كونه عيناً يصح بيعها، فلا يصح رهن دين ولو ممن هو عليه، أو من هو عنده؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
لكن امتناع رهن الدين عند الشافعية هو في حالة جعل الدين رهناً ابتداء، أما في حالة البقاء فلا مانع من الرهن كضمان المرهون عند الجناية عليه، فبدله في ذمة الجاني يكون رهناً بالدين على الأرجح؛ لأن الدين قد يصير رهناً ضرورة في البقاء، حتى امتنع على الراهن أن يبرئه منه بلا رضاء المرتهن.
لكن أقول: لا حاجة أن يعد ما في الذمة من ضمان رهناً بالدين، وإنما هو في الواقع دين تعلق به حق المرتهن، كتعلق حق الدائن بما يكون للمدين المتوفى من ديون عند الغير.
__________
(1) المغني: 333/4، 340، مغني المحتاج: 123/2.
(2) البدائع: 135/6، تبيين الحقائق: 69/6.
(3) مغني المحتاج: 122/2، كشاف القناع: 307/3، المغني: 347/4 ومابعدها، المهذب: 309/1.(6/107)
وأما المالكية (1) : فقالوا: يجوز رهن كل ما يباع، ومنه الدين، لجواز بيعه عندهم، فيجوز رهنه من المدين ومن غيره. وقد ذكرت صورة رهنه من المدين. أما صورة رهنه من غير المدين: أن يكون لخالد دين عند عمر، ولعمر دين على أحمد، فيرهن عمر دينه الثابت له في ذمة أحمد لدى خالد بدينه الثابت له في ذمته (أي ذمة عمر) . والطريقة: هي أن يدفع له وثيقة الدين الذي له على أحمد، حتى يوفيه دينه.
ويشترط لصحة هذه الصورة الأخيرة قبض الوثيقة، والإشهاد على حيازتها، أما في الصورة الأولى فيشترط لصحتها، سواء أكان الدينان من قرض أم مبايعة، أن يكون أجل الدين المرهون هو أجل الدين المرهون به، أو أبعد منه، بأن يحل الدينان في وقت واحد، أو يحل دين الرهن بعد حلول الدين المرهون به.
أما إذا كان أجل حلول الدين المرهون أقرب، أو كان الدين المرهون حالاً، فرهنه لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى إقراض نظير إقراض، إن كان الدينان من قرض. وإلى اجتماع بيع وسلف إن كانا من بيع؛ لأن بقاء الدين المرهون بعد أجله عند المدين به يعد سلفاً في نظير سلف الدين المرهون به. وإذا كان الدينان من بيع، فبقاء الدين المرهون يعد سلفاً مصاحباً للبيع، وهو ممنوع عند المالكية.
__________
(1) بداية المجتهد: 269/2، القوانين الفقهية: ص 323، الشرح الكبير مع الدسوقي 231/3، 237، الشرح الصغير: 310/3 ومابعدها.(6/108)
4 - رهن العين المستأجرة أو المعارة:
يجوز عند أئمة المذاهب رهن المدين مالاً له، ولو كان مأجوراً أو مستعاراً (1) ، على النحو التالي (2) :
قال الحنفية: يجوز رهن المستعار والمستأجَر عند المستعير أو المستأجر، وينوب قبض العارية وقبض الإجارة مناب قبض الرهن (3) . إلا أنهم قرروا: إذا اتفق المتراهنان على الرهن، تبطل الإجارة والإعارة، فلا يبقى في يد المرتهن مستأجراً ولا مستعاراً، ويصح الرهن، إذ لا يجتمع على عين واحدة، في وقت واحد إجارة ورهن.
وإذا طرأت الإجارة على الرهن، بطل الرهن وصحت الإجارة؛ لأن الرهن عقد غير لازم، والإجارة عقد لازم.
وعبارة المالكية تتضمن جواز رهن العين المستأجرة، فإن رهنها مؤجرها عند مستأجرها بدين له عليه، ناب القبض السابق لها بعقد الإجارة عن قبض الرهن. وإن رهنها عند غير مستأجرها بدين له عليه، جاز إذا عين الدائن المرتهن أميناً ليلازم مستأجرها يكون قبضه وحيازته بدلاً عن قبض المرتهن وحيازته؛ لأن قبض المستأجر إنما كان لنفسه، فلا يقوم قبضه مقام قبض المرتهن.
ويلاحظ أن الأرض في يد المزارع، والبستان في يدالمساقي يجوز رهنها كالعين المستأجرة.
وأجاز الحنابلة أيضاً رهن المأجور أو المعار أو الوديعة أو المغصوب، وينوب القبض السابق مناب قبض الرهن، ولا حاجة لتجديد القبض، كما بينت سابقاً.
والشافعية أيضاً أجازوا رهن العين المستأجرة والمستعارة والوديعة، بشرط مضي زمان يتأتى فيه القبض. فإن رهنها لدى المستأجر والمستعير، بقي الرهن لبقاء يد المرتهن، وعدم المنافاة بين كونه مستأجراً، وكونه مرتهناً. وإن رهنها عند غير المستأجر أو المستعير، صح إذا رضي به المرتهن عدلاً، فتبقى في يد المستأجر والمستعير على اعتبار أنه أمين عن كل من عاقدي الرهن، ويظل الرهن أيضاً.
__________
(1) البدائع: 146/6، بداية المجتهد: 269/2، الشرح الكبير: 236/3، المهذب: 306/1، المغني: 334/4، مغني المحتاج: 128/2، حاشية الباجوري: 127/2، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 88/6.
(2) يلاحظ أن رهن الدين ورهن العين المستأجرة أو المعارة يمثلان مبدأ رهن الحقوق.
(3) يلاحظ أن قول الكاساني في البدائع: «إن قبض الرهن دون قبض الإجارة» محل نظر، إذ القبضان قبض أمانة.(6/109)
وإن لم يرض المرتهن بالمستأجر أو بالمستعير عدلاً، ينظر: فإن كان الرهن بإذن المستأجر بطلت الإجارة، وإن كان بغير إذنه بطل الرهن، وأما العارية فهي عقد غير لازم، فإذا رهن المستعار، فسخت الإعارة.
5 - رهن المستعار:
يلاحظ أنه في الحالة السابقة: الراهن هو المالك للعارية، فيرهن ملك نفسه، أما في هذه الحالة: فالراهن غير مالك للعارية وإنما يرهن مستعاراً مملوكاً لغيره.
اتفق الفقهاء كما تقدم سابقاً على أنه يجوز للإنسان أن يستعير مال غيره، ليرهنه بإذن مالكه، في دين عليه (1) ؛ لأن مالكه متبرع حينئذ بإثبات اليد أو الحيازة عليه، والمالك حر التصرف بملكه، فله إثبات ملك العين واليد معاً عن طريق الهبة مثلاً، كما له إثبات اليد فقط بالإعارة للرهن.
وفي حالة الإذن من المالك بالرهن، قال الحنفية (2) : للمستعير عند إطلاق المعير وعدم تقييده بشيء أن يرهن العارية عند من يشاء، وبأي دين أراد، وفي أي بلد أحب. وهو رأي الشافعية أيضاً.
أما إذا قيده بقيود فإنه يتقيد بها، فإن قيده بقدر، لم يرهن بأكثر منه، ولا بأقل إذا كان ما رهنه به أقل من قيمة الرهن؛ لأن المتصرف بإذن يتقيد تصرفه بقدر الإذن، ولأن المرهون مضمون، والمالك جعله مضموناً بقدر ما حدد، وقد يكون له غرض بالقيد. أما إذا كان المستعار مساوياً لقيمة الرهن أو كانت هي أكثر، فلا يعد مخالفاً الإذن؛ لأنه خلاف إلى خير؛ لأن المالك حين يريد فكاك الرهن لا يكلف إلا بقدر الدين، ولا يناله ضرر بسبب الرهن عند الهلاك؛ لأن الضائع عليه أقل من قيمة الرهن.
وإذا قيده بجنس من الدين لم يجز له أن يرهنه بجنس آخر؛ لأن قضاء الدين من بعض الأجناس قد يكون أيسر من بعض.
وإذا قيده بدائن أو بلد، لم يجز له أن يخالف القيد.
__________
(1) المغني: 344/4، بداية المجتهد: 269/2، كشاف القناع: 309/3.
(2) البدائع: 136/6، تبيين الحقائق: 88/6، الدر المختار: 365/5.(6/110)
فإن خالف في شيء من هذه القيود، فهو ضامن لقيمته، إذا هلك؛ لأنه بهذه المخالفة يصير غاصباً، وكان الرهن باطلاً؛ لأنه وقع على مال مغصوب.
وإذا هلك المال المستعار عند المرتهن، كان مالكه بالخيار: إن شاء ضمن المستعير قيمته لاعتباره غاصباً بسبب مخالفته، وبأدائه الضمان يتملكه المستعير من وقت قبضه من المعير، وإن شاء ضمن المرتهن لهلاك المال في يده، فصار كغاصب الغاصب، وإذا ضمن المرتهن رجع على الراهن. والخلاصة: أنه بالمخالفة يبطل الرهن ويضمن المستعير.
وكذلك قال المالكية (1) : إن خالف المستعير قيود المعير، فهلكت العارية أو سرقت أو نقصت، ضمن المستعير مطلقاً لتعديه. ولو لم تتلف العارية فللمعير ردها وتبطل الإعارة.
ويتقيد المستعير عند الشافعية والحنابلة (2) بقيود المعير، إلا أنهم قالوا: إذا قيده بمقدار من الدين، فرهنه بأقل منه، لم يكن مخالفاً؛ لأن الإذن بما زاد يعتبر إذناً بما نقص عنه، وليس في النقص ضرر؛ لأن الرهن عندهم أمانة في يد المرتهن.
انتفاع المستعير بالعارية: إن مستعير العارية لرهنها يعتبر عند الحنفية وديعاً قبل الرهن، لا مستعيراً؛ لأنه غير مأذون له إلا بالرهن، فليس له أن ينتفع بالعارية، لا قبل رهنها، ولا بعد فكاكها، فإن فعل ضمن، لأنه لم يؤذن له إلا بانتفاع على وجه خاص وهو رهنها.
فإذا انتفع بغير الرهن، كان مخالفاً، فيضمن، وإذا انتفع بها قبل رهنها، ثم رهنها، برئ من الضمان، حيث رهن؛ لأنه بالرهن عاد إلى وفاق المعير، فيبرأ بسبب الوفاق من الضمان، وبما أنه كالوديع، فالوديع إذا عاد إلى الوفاق بعد خلاف في الوديعة لا يضمن لأن القصد من الوديعة وهو الحفظ للمالك قد تحقق. وهذا بخلاف المستعير، إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، فإنه لايبرأ من الضمان لثبوت التعدي، كما بينت وجه الفرق في بحث العارية.
__________
(1) الشرح الكبير: 239/3.
(2) مغني المحتاج: 129/2، المغني: 344/4 ومابعدها، كشاف القناع: 309/3، نهاية المحتاج: 269/3.(6/111)
نوع ضمان هلاك العارية: إذا قبض المستعير العارية لرهنها، فهلكت في يده قبل رهنها أو هلكت في يده بعد فكاكها، لم يضمنها؛ لأنها هلكت وهي مقبوضة قبض العارية، لا قبض الرهن، وقبض العارية قبض أمانة، لا قبض ضمان عند الحنفية. وذلك بخلاف المالكية والشافعية، والحنابلة في أظهر القولين عندهم، فإن العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، وفي بعض الحالات عند المالكية والشافعية، كما تبين في بحث الإعارة.
وإذا هلكت العارية عند المرتهن، فليس لمالكها عند الحنفية إلا ما كان مضموناً منها، وهو الأقل من قيمتها ومن الدين. وإذا كان الدين هو الأقل، فلا يرجع المالك على المستعير بالزيادة؛ لأن العارية أمانة، وهي لا تضمن إلا بالتعدي.
وقال المالكية: يرجع المالك على المستعير بقيمة العارية يوم استعارها. وقال الشافعية، والحنابلة في أظهر القولين: إذا تلفت العارية لدى المرتهن من غير تعد، ضمن المستعير (الراهن) قيمتها يوم تلفها، إذ العارية مضمونة مطلقاً عند الحنابلة، ومضمونة أحياناً عند الشافعية والمالكية.
طلب المعير فكاك العارية من الرهن: إذا رهن المستعير العارية، كان لمالكها أن يطلب من الراهن فكاكها في أي وقت شاء عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) ؛ لأن العارية عندهم عقد غير لازم، وللمستعير أن يستردها متى شاء، ولو كانت مقيدة بوقت. فإن افتكها الراهن ردها إلى مالكها وإن عجز عن فكاكها، كان لمالكها أن يفتكها، تخليصاً لحقه، ويرجع بجميع ما أداه للمرتهن على المستعير.
وقال المالكية: الراجح أن للمعير الرجوع في الإعارة لمطلقها متى أحب، وليس له الرجوع في العارية المقيدة بالشرط أو العرف، أو العادة، كما ذكر في بحث العارية.
الاستئجار للرهن: إذا جاز استعارة عين لترهن، جاز كذلك استئجارها لترهن (1) .
__________
(1) الشرح الكبير: 236/3.(6/112)
وإذا هلكت بلا تعد، فلا ضمان؛ لأن المستأجر أمانة غير مضمونة في يد المستأجر اتفاقاً، وليس للمؤجر فكها قبل انتهاء مدة الإجارة.
6 - رهن ملك الغير:
يجوز للإنسان كما بان سابقاً أن يرهن ملك الغير بإذنه كالمستعار والمستأجر، وليس لأحد رهن ملك غيره إلا بولاية عليه، فإذا لم يكن له ولاية في الرهن، وسلم المرهون إلى المرتهن، كان بهذا التسليم متعدياً وغاصباً، وكان الرهن عند الحنفية موقوفاً على الإجازة، فإن لم يجزه مالك المرهون بطل الرهن، وكانت العين في ضمان الراهن بسبب غصبه. هذا بالنسبة للراهن.
أما بالنسبة للمرتهن:
فقال الحنفية (1) : إذا هلك الرهن عند المرتهن، ثم تبين أنه مستحق لغير الراهن، أي لم يكن المرتهن عالماً بأنه ملك لغير الراهن، فإن المالك المستحق بالخيار بين أن يضمن الراهن قيمته، أو يضمن المرتهن؛ لأن كل واحد متعدٍ في حقه، أما الراهن فباستيلائه عليه بغير حق وتسليمه للمرتهن، وأما المرتهن فبقبضه وتسلمه.
فإن ضمن المستحق (المالك) الراهنَ، صار المرتهن بسبب الضمان مستوفياً لدينه، بقدر قيمة الرهن، لهلاك الرهن في يده؛ لأن الراهن قد ملكه إذا أدى ضمانه ملكاً مستنداً إلى وقت استيلائه عليه بغير حق، قبل عقد الرهن، فيصبح راهناً ما يملك، ثم يصير المرتهن مستوفياً لدينه بالهلاك عنده إذا كانت قيمته مساوية لدينه، أو أكثر، وإلا فبقدر قيمته.
وإن ضمن المستحق المرتهنَ ابتداء (مباشرة) ، رجع المرتهن على الراهن بما ضمن، كما يرجع بدينه. أما رجوعه بما ضمن من مثل أو قيمة فلأنه تسلم الرهن مغروراً من جهة الراهن، والمغرور يرجع بما ضمن، وأما رجوعه بالدين، فلأن استيفاءه لدينه، قد انتقض بظهور أنه قد تسلم عيناً مملوكة لغير راهنها، فبطل الرهن، وعاد حقه كما كان.
__________
(1) تبيين الحقائق: 83/6 ومابعدها، البدائع: 147/6.(6/113)
وقال الحنابلة (1) : إما أن يكون المرتهن عالماً بالغصب، وإما أن يكون غير عالم به. فإن كان عالماً به، وأمسك الشيء حتى تلف في يده، استقر عليه الضمان.
وكان المالك حينئذ بالخيار: إن شاء ضمن المرتهن، وغرم القيمة من ماله، وإن شاء ضمن الراهن. وعندئذ يرجع الراهن بما ضمن على المرتهن، لاستقرار الضمان عليه، إذا كان عليه أن يرد الشيء إلى مالكه، ولم يفعل حتى تلف في يده.
وإن أمسك المرتهن الشيء غير عالم بغصبه حتى تلف في يده بتفريطه، فالحكم كما تقدم. وإن تلف بغير تفريط منه ولا تقصير فثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يضمن، ويستقر عليه الضمان؛ لأنه متعد بإمساك مال غيره، وتلف المال تحت يده، فيضمن كما لو علم بالغصب. ويلاحظ أنه في الحقيقة غير متعد؛ لأنه أمسك المال بإذن الراهن ولا علم له بالغصب.
ثانيها: أنه لا ضمان عليه؛ لأن المرتهن قبضه على أنه أمانة من غير علمه بالغصب، فيكون الضمان على الراهن.
ثالثها: أن للمالك الخيار في تضمين أيهما شاء، ولكن الضمان يستقر على الراهن. وهذا في تقديري أولى الآراء.
ومثل هذا في الحكم ما لو حكم باستحقاق الرهن لغير راهنه، مع ملاحظة أن الرهن لا يهلك بالدين، وإنما هو أمانة عند الحنابلة والشافعية.
7 - رهن العين المرهونة (تعدد الرهن) :
الرهن إما أن يقع على بعض الشيء أو على كله، وفي الحالتين يتعدد الرهن.
أـ فإن وقع الرهن على بعض الشيء، ثم رهن البعض الآخر، طبقت أحكام رهن المشاع.
__________
(1) المغني: 397/4 ومابعدها.(6/114)
فعند الجمهور (مالكية وشافعية وحنابلة) القائلين بجواز رهن المشاع: إذا رهُن جزء من عين على الشيوع بدين، جاز رهن الجزء الباقي منها شائعاً بذلك الدين، أو بدين آخر، لنفس الدائن المرتهن الأول أو لغيره. لكن إذا كان الرهن لشخص آخر غير المرتهن الأول، لزم رضا الثاني بيد المرتهن الأول (1) ، أو أن يحدث اتفاق جديد بين الثلاثة (الراهن والمرتهن الأول والثاني) على وضع الرهن تحت يد عدل.
وأما عند الحنفية الذين لا يجيزون رهن المشاع أصلاً، فلا يتصور عندهم هذه الحالة، إلا إذا أفرزت العين أو قسمت، وسلمت غير مشغولة بغيرها.
ب ـ وأما إن رهن الشيء كله بدين، وأريد رهنه بدين آخر، فلا يجوز الرهن الثاني عند الحنفية والشافعية والحنابلة (2) ؛ لأن فيه مساساً بحق المرتهن الدائن، إذ مالية المرهون له، فلا يكون لغيره أن يتعلق حقه به.
لكن إذا أجاز المرتهن الأول الرهن الثاني نفذ، وبطل ارتهانه للشيء، ويبطل ارتهان المرتهن أيضاً، إذا رهن الشيء وهو بدين عليه، بإذن مالكه، ويصير رهناً بدينه، ويكون حكمه حكم رهن الشيء المستعار للرهن.
أما إن رهنه المرتهن الأول بدون إذن مالكه الراهن، كان رهنه غير صحيح، وكان للمالك إعادة الشيء إلى يد المرتهن الأول كما كان.
فلو هلك الشيء في يد المرتهن الثاني قبل إعادته للأول، فمالكه بالخيار عند الحنفية: إن شاء ضمن المرتهن الأول، وإن شاء ضمن المرتهن الثاني، كما هو الحكم في رهن ملك الغير. فإن ضمن الأول، جاز رهنه؛ لأن بدل المرهون يصير مرهوناً. وإن ضمن المرتهن الثاني، بطل رهن الأول، وكان الضمان رهناً لدى المرتهن الأول، ويرجع الثاني على الأول بما ضمن، لأنه غرره.
__________
(1) الشرح الصغير: 308/3.
(2) البدائع: 147/6، نهاية المحتاج: 267/3، 305، مغني المحتاج: 127/2، المغني: 347/4 ومابعدها.(6/115)
وقال المالكية (1) : يجوز رهن العين المرهونة إذا كانت قيمتها تزيد على قيمة الدين، فيكون الرهن الجديد لتلك الزيادة، ويكون الدين الثاني المتعلق بالمرهون في المنزلة الثانية، فإذا بيعت العين في الدين يوفى الدين الأول، والباقي يوفى به الدين الثاني. وبه يظهر أن حق الدائن الأول لم يمس، فلا يتوقف نفاذ الرهن الثاني على إجازته.
وإذا كانت العين في يد عدل، والرهن الجديد للمرتهن الأول أو لأجنبي غيره، لم يتم الرهن الثاني إلا برضا العدل بحوزه على الوضع الجديد.
وهذا الرأي بجواز الرهن على الرهن يتفق مع القانون المدني. وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، فهل يشترط رضا المرتهن الأول؟ عند المالكية أقوالاً ثلاثة: قيل: لا يشترط رضاه، وقيل: لا بد من رضاه، وقيل: لا يجوز وإن رضي. وإذا كانت العين بيد عدل، ففيه القولان: الأول والثاني.
وإذا كان الرهن الثاني لأجنبي، وكان الدينان بأجل واحد فلا إشكال. فإن اختلف الأجلان، وحل أجل الدين الثاني أولاً، قسم الرهن بين الدينين إن أمكنت قسمته بلا ضرر، كنقص قيمته، ويدفع للمرتهن الأول قدر ما يفي بدينه، والباقي للثاني.
وإن لم تمكن قسمته، بيع المرهون، وقضي الدينان، على أن يكون للدين الأول الأسبقية في الوفاء، والباقي للثاني.
وهذا كله إن كان في الرهن فضل يفي بالثاني، وإن لم يوجد، لا يباع الرهن إلا بعد أن يحل الدين الأول.
أما إن حل أجل الدين الأول أولاً، فإن الرهن يباع، ويقضى الدينان من ثمنه على الوضع السابق، إن لم تمكن قسمته بين الدينين من غير ضرر.
ولا يضمن المرتهن الأول الجزء الفاضل للثاني إن هلك الرهن بيده، وكان مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه كالثياب والحلي) إلا بالتعدي؛ لأنه أمين في الجزء الفاضل.
__________
(1) الشرح الكبير: 238/3.(6/116)
8 - رهن الوارث جزءاً من التركة المديونة:
قد يكون هناك حق لغير الراهن في المرهون يمنع الرهن كرهن المرهون ورهن التركة المدينة، كما أن رهن ملك الغير يكون موقوفاً على إجازة المالك. فإذا رهن الوارث بعض أعيان التركة التي يتعلق بها دين على الميت، فقال الحنفية: يكون الرهن موقوفاً على تخليص أو تطهير التركة من الدين، لكي تخلص العين المرهونة لمرتهنها، ولأن الدين يمنع تملك الورثة للتركة، على خلاف بين الحنفية في الدين الذي لا يحيط بها.
وكذلك قال المالكية: إن رهن الوارث في هذه الحال صحيح، ولكن نفاذه موقوف على سداد الدين، فإذا لم يسدد، نقض هذا التصرف؛ لأن الدين يمنع من تملك الورثة عندهم.
وقال الحنابلة (1) في أصح الوجهين عندهم: لو رهن الوارث تركةا لميت، أو باعها، وعلى الميت دين، ولو من زكاة، صح الرهن والبيع، لانتقال التركة إليه بموت مورثه، فتصرفه صادف ملكه، ولم يرتب عليه من قبله أوباختياره حقاً لغيره، فلم يكن مثل رهن المر هون الذي رهنه من قبل والذي تعلق به حق الغير باختياره، وإنما في التركة لم يتعلق دين المتوفى بالمال باختيار الوارث، بل بحكم الشرع. وهكذا الحكم في كل حق ثبت وتعلق بالمال من غير إثباته وفعله كالزكاة والجناية، فلا يمنع ذلك من رهن ما تعلق به الحق.
فيصح الرهن، وتكون أعيان التركة محملة بالدين. فإن تم الرهن، ثم وفى الوارث الحق الذي تعلق بالتركة: وهو الدين الذي على المتوفى، من مال آخر، فالرهن على حاله، وإن لم يقض الحق، فلغرماء التركة انتزاع ما رهن منها؛ لأن حقهم أسبق.
وهذا مثل ما لو تصرف الوارث في التركة، ثم رد عليه مبيع باعه المورث بعيب ظهر فيه، أو تعلق بالتركة حق بعد وفاة المورث بسبب سابق، كأن وقعت
__________
(1) المغني: 350/4، كشاف القناع: 316/3 ومابعدها.(6/117)
بهيمة بعد موته في بئر حفره في غير ملكه، فتصرف الوارث في هذه الأحوال صحيح غير لازم، فإن وفى الوارث الحق من ماله مثلاً أجزأه، وإلا فسخ تصرفه.
ويراعى حينئذ أن يكون الوارث مختصاً بالعين التي رهنها، حتى لا يكون رهنه لما يملك غيره من الورثة.
وقال الشافعية (1) : يبطل رهن الوارث بعض أعيان التركة؛ لأن التصرف عندهم، إما صحيح نافذ وإما باطل، وتصرف الفضولي عندهم كالحنابلة غير صحيح، وقد منع من صحة هذا الرهن ونفاذه تعلق الدين بالتركة، وتعلق الدين وإن كان لا يمنع تملك الورثة، لكن تعتبر التركة مرهونة بالدين رهناً شرعياً، لا نتيجة لعقد رهن.
والأظهر عندهم ألا فرق بين أن يكون الدين محيطاً بالتركة (مستغرقاً) ، أو غير محيط (غير مستغرق) بها. ولهذا يمنعون الوارث من أن يتصرف في التركة مع تعلق حق الدين بها، كما يمنعون الراهن من أن يتصرف في العين المرهونة مع قيام الدين الذي رهنت العين به.
9 - رهن ما يتسارع إليه الفساد:
يصح رهن ما يسرع إليه الفساد بالدين الحال والمؤجل عند الحنابلة وغيرهم (2) ، سواء أكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف كالعنب والرطب، أم لا يمكن كالبطيخ والطبيخ. فإن كان قابلاً للتجفيف، فعلى الراهن تجفيفه؛ لأنه من مؤنة حفظه وتبقيته. وإن كان مما لا يجفف، فإنه يباع ويقضى الدين من ثمنه، إن كان حالاً، أو يحل قبل فساده، وإن كان لا يحل قبل فساده، جعل ثمنه مكانه رهناً، سواء شرط في الرهن بيعه أو أطلق؛ لأن العرف يقتضي ذلك، لحرص المالك على ملكه، فإذا تعين حفظ ملكه ببيعه، حمل عليه مطلق العقد، كتجفيف ما يجف والإنفاق على الحيوان.
__________
(1) مغني المحتاج: 144/3 ومابعدها، نهاية المحتاج: 304/3 ومابعدها.
(2) المغني: 341/4،المهذب: 308/1، البدائع: 148/6.(6/118)
وقال الشافعية (1) : إن رهنه بدين مؤجل لا يحل قبل فساد المرهون، ينظر فيه: فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد، جاز رهنه. وإن أطلق فلم يشترط، ففيه قولان: الصحيح أنه لا يصح رهنه؛ لأنه لا يمكن بيعه بالدين قبل حلول أجل الحق، كما لا يصح إن شرط منع بيعه. وإن لم يعلم، هل يفسد المرهون قبل حلول الأجل، صح الرهن المطلق في الأظهر؛ لأن الأصل عدم فساده قبل الحلول.
10 - رهن العصير:
يجوز رهن العصير؛ لأنه يجوز بيعه، وتعرضه للخروج عن المالية بالتخمر لا يمنع صحة رهنه. فإن صار خلاً، فالرهن بحاله. وإن صار خمراً بعد القبض وجبت إراقته، وزال لزوم العقد، فإن أريق بطل العقد فيه، ولا خيار للمرتهن؛ لأن التلف حصل في يده.
وإن استحال خمراً قبل قبض المرتهن له بطل الرهن عند الحنابلة، وقال الحنفية والمالكية، وفي الأصح عند الشافعية: لم يبطل الرهن، وهو بحاله؛ لأنه يغتفر في الدوام والبقاء مالا يغتفر في الابتداء، ولأنه كانت له قيمة حالة كونه عصيراً، ويجوز أن يصير له قيمة (2) . قال ابن قدامة: وهذا أقرب إلى الصحة؛ لأنه يعود رهناً باستحالته خلاً.
__________
(1) المهذب: 308/1، مغني المحتاج: 123/2 ومابعدها.
(2) المغني: 342/4، مغني المحتاج: 129/2، كشاف القناع: 316/3.(6/119)
11 - رهن المصحف:
يصح عند الحنفية والمالكية. وفي الأصح عند الشافعية (1) : رهن المصحف وكتب الحديث والتفسير والآثار، ولا يقرأ فيها المرتهن؛ لأن عقد الرهن يفيد حق الحبس، لاحق الانتفاع، فإن انتفع بالمرهون، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً.
والأصح عند الحنابلة (2) : أنه لا يصح رهن المصحف؛ لأنه لا يصح بيعه، والمقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل ذلك إلا ببيعه، وبيعه غير جائز. ولكن يصح رهن كتب الحديث والتفسير، ولو لكافر إذا شرط أن تكون بيد مسلم عدل.
المبحث الثالث ـ أحكام الرهن أو آثاره:
الكلام عن أحكام الرهن يتناول أمرين:
أولاً ـ أحكام الرهن الصحيح.
وثانياً ـ أحكام الرهن الفاسد.
الرهن الصحيح: هو ما توافرت فيه شروط الرهن. وغير الصحيح: هو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن. وغير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد.
الباطل: هو ما كان الخلل فيه في أصل العقد، بأن يفقد أهلية التعاقد عند العاقد كالمجنون والمعتوه، أو يزول محل العقد مثل رهن غير مال أصلاً، أو أن يكون المرهون به لا يستوفى بالمال كالقصاص والشفعة، أو يفقد معناه كاشتراط ألا يباع المرهون في الدين، أو ألا يكون للمرتهن فيه امتياز على سائر الغرماء.
والفاسد: ما لحق الخلل فيه وصف العقد، كأن يكون المرهون مشغولاً بغيره، أو أن يكون المرهون به مضموناً بغيره كالمبيع في يد البائع، على رواية النوادر. وظاهر الرواية أنه يصح الرهن بالمبيع قبل القبض، كما بينت في بحث الشروط.
وغير الصحيح عند غير الحنفية نوع واحد: باطل أو فاسد: وهو ما لم تتوافر فيه شروط الرهن الصحيح التي يشترطونها، على خلاف بينهم في بعضها.
أحكام الرهن الصحيح:
فيه بيان حكم لزوم الرهن، وعشرة مطالب في آثار الرهن:
حكم الرهن الصحيح أو حكم لزوم الرهن:
يلزم الرهن بالنسبة للراهن لا للمرتهن، فلا يملك الراهن فسخه؛ لأنه عقد وثيقة بالدين، ويملك المرتهن فسخه في أي وقت؛ لأن العقد لمصلحته (3) ، ولا تترتب آثاره عند جميع الفقهاء إلا بالقبض، فلا يختص المرتهن بثمن العين المرهونة، ولا يثبت له حق الامتياز على غيره من الدائنين إلا بالقبض.
ولا يتحقق لزوم الرهن عند الجمهور إلا بالقبض، ويلزم عند المالكية بالإيجاب والقبول. وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
قال الجمهور من الحنفية والشافعية، والحنابلة في الأصح (4) : لا يلزم الرهن في جميع أحواله إلا بالقبض، أما قبل القبض، فللراهن إمضاء الرهن أو فسخه.
__________
(1) البدائع: 146/6، بداية المجتهد: 269/1، المهذب: 309/1، حاشية الباجوري: 126/2.
(2) كشاف القناع: 314/3، المغني: 343/4.
(3) المهذب: 305/1، 307.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 340/5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 63/6، المهذب: 305/1، المغني: 328/4 ومابعدها.(6/120)
ودليلهم ـ كما بان سابقاً ـ قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] إذ المعنى فرهن رهان مقبوضة، لأن المصدر المقترن بالفاء في جواب الشرط هو في معنى الأمر، أي «فارهنوا» ، والأمر بالشيء الموصوف يقتضي أن يكون الوصف شرطاً فيه، فما شرع بصفة لا يوجد شرعاً إلا بها، فلا يلزم الرهن إلا بالقبض، ولأن الرهن عقد تبرع، لا يجبر الراهن على شيء فيه، فوجب لنفاذه وإمضائه القبض، إذ ليس للرهن قبل قبضه مظهر في الخارج إلا القبض، كما هو الشأن في الهبة والصدقة، فلا يوجد عقد الرهن شرعاً، ولا يترتب عليه أثره إلا مع القبض، ولا يلزم إلا بالقبض.
وقال المالكية (1) : يلزم الرهن بالإيجاب والقبول، ويتم بالقبض. فإذا ما صدر الإيجاب والقبول، لزم العقد، ويجبر الراهن على تسليم الرهن إلى المرتهن ما لم يوجد أحد الموانع الأربعة التالية وهي:
موت الراهن بعد العقدوقبل التسليم، مطالبة الغرماء بأداء الراهن ديونهم، حالة التفليس العام (أي أن تكون الديون محيطة بمال الراهن) . مرض الراهن المخوف، أو جنونه المتصلان بوفاته.
ودليلهم ـ كما سبق بيانه ـ على أن الرهن يلزم بالعقد: أن العقد والالتزام يتحققان بالإيجاب والقبول، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] والرهان عقد، والأمر للوجوب، فكان الوفاء به واجباً، من طريق لزومه بالنسبة للراهن، لأنه هو الملتزم.
__________
(1) بداية المجتهد: 270/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 240/3 ومابعدها.(6/121)
آثار عقد الرهن:
إذا تم عقد الرهن بتسليم العين المرهونة إلى المرتهن، ترتب على تمامه وتسليمه الأحكام الآتية:
1 - تعلق الدين بالمرهون.
2 - حق حبس الرهن.
3 - حفظ الرهن.
4 - مؤنة الرهن.
5 - منع الراهن من التصرف بالرهن.
6 - عدم الانتفاع بالرهن.
7 - ضمان الر هن (ضمان ما قابل الدين من الرهن عند الحنفية) .
8 - بيع الرهن، أو مطالبة المرتهن ببيع الرهن لسداد الدين.
9 - امتياز الدائن المرتهن عن سائر الغرماء.
10 - تسليم الرهن أو رده عند انتهاء الدين.
المطلب الأول ـ تعلق الدين بالمرهون:
المبدأ العام في هذا هو عدم تجزئة الرهن، فإذا رهنت عين بدين، تعلق هذا الدين بجميع أجزاء العين المرهونة، أو بجميع وحداتها، كما أنها هي رهن بجميع أجزاء الدين. فإذا سقط جزء من الدين بإبراء أو وفاء مثلاً، ظل باقيه متعلقاً بجميع العين المرهونة. وبه أخذ القانون المدني المصري والسوري. والدين الذي تعلق بالرهن: هو الذي جعل المال رهناً به فقط، ولا يتعلق غيره من الديون بالمرهون.
وعلى أساس هذا التعلق، يثبت حق الحبس للمرتهن، فله حبس جميع المرهون، حتى يوفى كل الدين، سواء أكان المال شيئاً أم عدة أشياء.
وهذا المبدأ أو الأصل السابق متفق عليه فقهاً، لكن الفقهاء اختلفوا في تطبيقه في حالة تعدد العقد، وعدم تعدده.
فقال الحنفية (1) : إن اتحاد العقد يقوم على اتحاد الصيغة، فإذا اتحدت الصيغة اتحد العقد، سواء أكان الرهن في دين واحد أم أكثر، فلو وفى المدين الديون لا يسترد ما يقابله من المرهون، سواء اتحد المرهون أم تعدد. فلو وفى الراهن ما يقابل أحد الأعيان المرهونة لا يسترده، حتى ولو سمى في عقد الرهن لكل عين مرهونة حصة من الدين؛ لأن العقد واحد، لا يتعدد بالتسمية.
وسواء تعدد الراهن (كأن يرهن مدينان شيئاً عند دائن) أو تعدد المرتهن (بأن كانا شريكين أو كان لكل واحد منهما دين مستقل على الراهن) .
فإذا اتحد العقد لا يتحرر شيء من الرهن؛ لأن الرهن محبوس بجميع الديون، أو بجميع الدين. وإذا تعدد العقد بتعدد الصيغة يتحرر من الرهن ما يقابله.
وقال المالكية (2) : يتعدد العقد بتعدد كل من الراهن والمرتهن، أو بتعدد أحد الطرفين. ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً.
__________
(1) البدائع: 153/6، تبيين الحقائق: 78/6.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 258/3، الدردير: 257/3.(6/122)
فإذا اتحد عقد الرهن، يكون جميع المرهون رهناً بما بقي من الدين بعد وفاء بعضه؛ لأن كل جزء من المرهون رهن بكل جزء من الدين.
وإذا تعدد الرهن، بأن كان الراهن اثنين، والمرتهن واحداً، فوفى أحد الراهنين ما عليه من الدين، استرد حصته. أو كان الراهن واحداً والمرتهن متعدداً، فوفى الراهن حصة أحد الدائنين، فإنه يسترد من الرهن ماقابلها.
ويلاحظ أن الراهن إذا كان واحداً، والمرتهن متعدداً، وكان المرهون مما لا ينقسم، ووفى أحد الدائنين، يجعل الرهن تحت يد أمين، أو تبقى الحصة في يد المرتهن أمانة.
وقال الحنابلة (1) بمثل قول المالكية: يتعدد العقد بتعدد الموجب أو القابل، فإذا كان الموجب اثنين والقابل واحداً، نشأ عقدان. وإذا كان الموجب واحداً، والقابل اثنين، نشأ أيضاً عقدان. وإذا كان كل من الموجب والقابل اثنين، نشأ أربعة عقود.
ويكون عقد الرهن واحداً إذا كان كل من الراهن والمرتهن واحداً، سواء أكان الدين واحداً أم متعددا. فإذا وفى المدين بعض الدين، أو ديناً من الديون، لم يكن له أن يسترد ما يقابله من الرهن.
وإذا تعدد الراهن، فمن وفى دينه، خرجت حصته من الرهن. وإذا تعدد المرتهن، فوفى الراهن أحد الدائنين، خرجت حصته من الرهن، واستردها الراهن.
وإذا تعدد الراهن والمرتهن معاً، وهذه أربعة عقود، فيصير كل ربع من المرهون رهناً بربع الدين، فإذا وفى ربع الدين أو أكثر، انفك من الرهن ما يقابله قدراً، قال القاضي أبو يعلى: وهذا هو الصحيح.
__________
(1) المغني: 346/4، 402.(6/123)
وقال الشافعية (1) :يتعدد الرهن ويتحد بتعدد الدين ووحدته. والغالب أن يتعدد الدين بتعدد العاقدين، ولو اتحد وكيلهما، بخلاف البيع، العبرة فيه بتعدد العاقد المباشر للعقد، ولو وكيلاً؛ لأن المال المرهون وثيقة بالدين، فإذا تعدد الدين، تعددت الوثيقة، وتعدد الدائن أو المدين يستلزم تعدد الدين غالباً. أما البيع فهو عقد ضمان، فكان النظر فيه لمن باشره.
فالمناط عندهم هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين بتعدد المدين أو الدائن غالباً، ويتحد بعدم تعددهما، أو بكون الدين مشتركاً ولو كان الدائن اثنين، وبهذه الحالة الأخيرة يفترق مذهب الشافعية عن مذهبي المالكية والحنابلة.
وبناء عليه: لو رهن شخص داراً عند دائنين، ثم وفى دين أحدهما، انفك من الرهن ما يقابل هذا الدين من المرهون، لتعدد الدين بسبب تعدد الدائن، بشرط أن يختص أحد الدائنين بما يقبضه، فإن شاركه فيه الآخر، لم ينفك شيء من الرهن، لعدم وفاء الدين على التمام.
ولو استعار مالاً من اثنين ليرهنه، ثم أدى نصف الدين، انفك نصف المال المرهون.
والخلاصة: أن العبرة باتفاق الفقهاء في فكاك شيء من المرهون أو عدم فكاكه بتعدد عقد الرهن وعدم تعدده، إلا أن مناط تعدده عند الحنفية: هو تعدد الصيغة، دون نظر لتعدد العاقدين أو عدم تعددهما. ومناطه عند المالكية والحنابلة: هو تعدد العاقد. وعند الشافعية: هو تعدد الدين وعدم تعدده، ويتعدد الدين عندهم بتعدد المدين أو الدائن غالباً، فيصبح مذهبهم قريباً من مذهبي المالكية والحنابلة.
__________
(1) مغني المحتاج: 141/2 ومابعدها، المهذب: 307/1.(6/124)
المطلب الثاني ـ حق حبس الرهن:
حق الحبس: يترتب على تعلق الدين بالمرهون؛ لأن التعلق شرع وسيلة لوفاء الدين من المرهون أو من غيره، ولا يتم التعلق على وضع مأمون إلا بحبس مايتعلق به الدين لدى المرتهن، حتى يكون حبسه حاملاً للمدين على الوفاء، مخافة بيع المال المحبوس جبراً عنه عند إبائه. فكان تعلق الدين بالرهن، وحبس المرهون من عناصر التوثق.
وبناء عليه قال الحنفية (1) : يترتب على صحة الرهن ثبوت حق المرتهن في حبس العين المرهونة، على وجه الدوام، وعدم تمكين الراهن من استرداد المرهون قبل وفاء الدين؛ لأن الرهن شرع للتوثق، والتوثق لا يكون إلا بحبس ما يكون به الوفاء، وهو المال المرهون.
وإثبات حق الحبس يكون عند الحنفية بإثبات يد استيفاء الدين للمرتهن على المرهون؛ لأن معنى الاستيفاء: هو ملك عين المستوفى، وملك اليد عليه معاً، وبما أن ملك عين المرهون ممنوع شرعاً بالحديث الصحيح: «لا يغلق الرهن من صاحبه» بقي ملك اليد، ويصير موجب عقد الرهن الذي شرع وثيقة للاستيفاء: وهو ثبوت ملك اليد فقط دون ملك العين؛ لأنه مدلول لفظ الرهن لغة وهو الحبس، والمعاني الشرعية تثبت على وفق المعاني اللغوية.
وبما أن المرهون عين لها مالية، والوفاء إنما هو بماليتها، كانت يد المرتهن هي بالنظر إلى ماليتها، فتكون يد استيفاء بالنسبة لماليتها، فتقتصر على ما يقابل الدين من ماليتها، والزائد عنه أمانة في يد المرتهن.
__________
(1) المبسوط: 63/21، البدائع: 145/6، تبيين الحقائق: 64/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 194/8-196، الدر المختار: 345/5.(6/125)
وقال الجمهور (الشافعية والمالكية والحنابلة) : إن موجب الرهن هو موجب سائر الوثائق، وهو أن تزداد به طرائق المطالبة بالوفاء، فيثبت به للمرتهن حق تعلق الدين بالعين المرهونة عيناً، والمطالبة بإيفائه من ماليتها، عن طريق بيعها واختصاصه بثمنها.
أما حق الحبس، فليس بحكم لازم لعقد الرهن عند الشافعية، فللراهن أن يسترد الرهن لينتفع به بدون استهلاكه، فإذا انتهى انتفاعه، رده إليه. بدليل الحديث «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» أي لا يحبس، وأضافه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الراهن بلام التمليك، وسماه صاحباً، فاقتضى أن يكون هو المالك للرهن رقبة وانتفاعاً وحبساً.
والحبس على الدوام يتنافى مع كون الرهن توثيقاً، فقد يهلك الرهن، فيسقط الدين أي كما قال الحنفية، فيكون توهيناً لا توثيقاً. ثم إن في الحبس تعطيلاً للانتفاع بالرهن، فهو تسييب، والتسييب ممنوع شرعاً.
والخلاصة: إن عقد الرهن يثبت حق الحبس الدائم للمرتهن على المرهون عند الجمهور. أما عند الشافعية: فيقتضي الرهن عندهم فقط تعين المرهون للبيع لوفاء الدين.
وفي تقديري أن رأي الجمهور أسلم لاتفاقه مع واقع الرهن وهو الاحتفاظ به لحمل المدين على الوفاء بالدين. لذا قرر المالكية والحنابلة كما تبين في شروط القبض ضرورة استدامة قبض المرهون في يد الدائن، حتى يؤدي الراهن ماعليه (1) .
وانبنى على الخلاف بين الحنفية والشافعية في مقتضى عقد الرهن، أهو الحبس، أم تعينه للبيع مسائل هي:
__________
(1) بداية المجتهد: 272/2، المغني: 331، مغني المحتاج: 131/2، 133.(6/126)
1 - استرداد الرهن: لا يجيز الحنفية استرداد الرهن لينتفع به؛ لأنه يتنافى مع مقتضى عقد الرهن وهو حبس المرهون لدى المرتهن. ويجيز الشافعية استرداده للانتفاع به؛ لأن استرداده لا يتنافى مع مقتضى العقد: وهو تعين المرهون للبيع في سبيل وفاء الدين.
2 - الزوائد المنفصلة المتولدة: يسري الحبس عند الحنفية إلى الزوائد المنفصلة المتولدة، فتحبس مع أصلها، لأنها كالجزء منها. ولا يسري عليها حكم الرهن عند الشافعية، فلا تباع في الدين، لأنها عين أخرى.
3 - رهن المشاع: لا يصح رهن المشاع عند الحنفية؛ لأن الحبس الدائم لايتصور فيه. وعند الشافعية والمالكية والحنابلة: يجوز لجواز بيعه، وحكم الرهن هو تعينه للبيع واستيفاء الدين من ثمنه.
مطالبة المرتهن بوفاء دينه مع استمرار حبس الرهن:
قال الحنفية (1) : للمرتهن أن يطالب الراهن بدينه مع استمرار حبسه للمال المرهون إذا كان الدين حالاً.
فإذا أراد المدين أداء الدين، كان له أن يطالب المرتهن بإحضار الرهن، وعلى المرتهن إحضاره ليعلم أنه لا يزال موجوداً لم يهلك. وهذا إذا لم يكن للرهن حمل ومؤنة، كأن كان في بلد عقد الرهن. ولا يكلف المرتهن بإحضار الرهن إذا كان للرهن حمل ومؤنة، وكانت المطالبة في بلد غير عقد الرهن؛ لأن الواجب عليه حينئذ التخلية، لا نقله إلى مكان الإيفاء، لئلا يترتب عليه ضرر كبير. فإن كانت المطالبة في البلد الذي تم فيه عقد الرهن، فإنه يحضره، لعدم ترتب ضرر كبير على إحضاره. كذلك لا يكلف المرتهن إحضاره إذا كان في يد عدل (أمين) ، لأنه لا قدرة له على إحضاره؛ إذ العدل ممنوع من تسليم الرهن إلى أحد العاقدين، وإلا كان ضامناً وآخذه غاصباً.
__________
(1) البدائع: 148/6، 153 ومابعدها، الدر المختار: 343/5 ومابعدها، اللباب: 58/2.(6/127)
والخلاصة: أن المطالبة إن كانت في بلد الرهن، يؤمر المرتهن بإحضاره مطلقاً. وإلا فإن لم يكن له حمل ومؤنة فيؤمر كذلك، وإن كان له حمل، لا يؤمر. وقال ابن عابدين: فيه نظر، فالمعول عليه على وجود المؤنة، فإن احتاج إلى نفقة حمل بأن كان في موضع آخر، لم يكلف إحضاره، وإن لم يحتج كلف إحضاره. وفي تقديري أن هذا هو الأدق والأولى.
المطلب الثالث ـ حفظ المال المرهون:
بناء على ثبوت حق حبس المال المرهون عند المرتهن في مذهب الحنفية، فإن المرتهن يحفظ المرهون تحت يده بما يحفظ به مال نفسه عادة، فيحفظه بنفسه، وزوجته، وولده وخادمه إذا كانا يسكنان معه، وبأجيره الخاص؛ لأن عين المرهون أمانة في يد المرتهن، فصار من هذه الناحية كالوديعة، يحفظه كما تحفظ.
ولا يجوز له حفظه بغير هؤلاء، فإذا أودعه أو قصر في حفظه، ضمن قيمته بالغة ما بلغت. والضامن عند أبي حنيفة: هو المرتهن لا الوديع، وعند الصاحبين: كلاهما ضامن، المرتهن بالدفع، والوديع بتسلمه ما ليس مملوكاً للدافع، لكن يستقر الضمان في النهاية على المرتهن، كما في وديع الوديع. ويجوز للمرتهن السفر بالمرهون إذا كان الطريق آمناً، كما في الوديعة، وإن كان له حمل ومؤنة (1) .
المطلب الرابع ـ الإنفاق على الرهن أو مؤنة الرهن:
اتفق الفقهاء على أن نفقة أو مؤنة الرهن على المالك الراهن؛ لأن الشارع قد جعل الغنم والغرم للراهن: «لا يغلق ـ لا يُتملك ـ الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» (2) .
لكنهم اختلفوا على رأيين في نوع النفقة الواجبة على الراهن.
1 - فقال الحنفية (3) : توزع النفقة على الراهن، باعتباره مالك العين، وعلى المرتهن، باعتباره مكلفاً بحفظها، على النحو التالي:
كل ما يحتاج إليه من النفقات لمصلحة المرهون وتبقيته، فهو على الراهن؛ لأنه ملكه. وكل ما كان لحفظ المرهون، فهو على المرتهن؛ لأن حبسه له، فلزمه توابعه.
__________
(1) الدر المختار: 345/5، 347 ومابعدها، اللباب: 64/2 ومابعدها، تكملة الفتح: 202/8.
(2) سبق تخريجه، رواه الشافعي والدارقطني وغيرهما عن أبي هريرة، وقال عنه الدارقطني: هذا إسناد حسن متصل (نيل الأوطار: 235/5) فإن قيل: إن نهاية الحديث من كلام ابن المسيب، أجيب بأن مراسيله يعمل بها، بل إنه تأيد بمرفوع عند غيره.
(3) البدائع: 151/6، تبيين الحقائق: 68/6، اللباب: 61/2، الدر المختار وحاشيته: 346/5، تكملة الفتح: 202/8.(6/128)
وبناء عليه، على الراهن: طعام الحيوان وشرابه وأجرة الراعي. وعليه سقي الشجر ونفقة تلقيحه وجذاذه (قطفه) والقيام بمصالحه، وسقي الأرض وإصلاحها وكري أنهارها وإنشاء مصارفها، وضريبة خراجها وعشر حاصلاتها؛ لأن كل ما ذكر من مؤونة (ما به بقاؤه) المال المملوك، ومؤُونة المملوك على مالكه.
ولا يجوز للراهن أن يجعل النفقة على الرهن، أو من زوائده، إلا برضا المرتهن، لأن المرهون كله قد تعلق به حق المرتهن، وفي بيعه للإنفاق على الباقي اعتداء على حقه، فلا يجوز بغير إذنه.
وعلى المرتهن أجرة الحفظ، للحارس أو المحل الذي يحفظ فيه المرهون، مثل أجر حظيرة الحيوان، وأجرة المخزن المحفوظ فيه، لأن الأجرة مؤنة الحفظ، وهي عليه. وبناء عليه لا يجوز أن يشترط في عقد الرهن أجر للمرتهن على قيامه بحفظ الرهن، لأنه واجب عليه، ولا أجر على واجب.
وروي عن أبي يوسف: أن أجرة المأوى على الراهن، بمنزلة النفقة؛ لأنه سعي في تبقيته.
وأما نفقات رد المرهون عند ضياعه، ونفقات علاجه من القروح أو الأمراض (1) ، فعلى كل من الراهن والمرتهن، المرتهن بقدر ضمانه: وهو ما يقابل الدين، والباقي: وهو ما زاد على قدر الدين، وهو الأمانة التي لا تدخل في ضمان المرتهن، على الراهن، إذا كانت قيمته أكثر من الدين، وإلا فعلى المرتهن.(6/129)
2 - وقال المالكية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (2) : إن جميع نفقات أو مؤونات الرهن على الراهن، سواء منها ما كان لبقاء عينه، أو بقصد حفظه وعلاجه، للحديث السابق: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وكل إنفاق من غرمه، ولأن نفقة المملوك على مالكه.
فإن لم ينفق الراهن، ما الحكم؟
قال المالكية: إن لم ينفق الراهن، واحتاج الرهن إلى نفقة كعلف حيوان وإصلاح عقار، أنفق المرتهن، ويرجع بجميع ما أنفق على الراهن، وإن زاد على قيمة الرهن. وتكون النفقة ديناً في ذمة الراهن، لا بمالية الرهن أو عينه، سواء أنفق بإذن منه، أم بغير إذن، لأنه قام بواجب على الراهن.
وقال الشافعية: يجبر القاضي الراهن على النفقة على المرهون إذا كان حاضراً موسراً، فإن تعذر الجبر بسبب إعساره أو غيبته، ففي حال الغيبة يمونه القاضي من مال الراهن إن كان له مال. وفي حال الإعسار: يقترض القاضي، أو يبيع جزءاً من الرهن لإبقائه، أو يأمر المرتهن بالإنفاق عليه، على أن يكون ديناً في ذمة الراهن.
وإذا أنفق المرتهن، رجع على الراهن إن كان الإنفاق بإذن القاضي، أو أشهد عند الإنفاق. وعند غيبة الراهن: أشهد أنه إنما أنفق ليرجع.
وقال الحنابلة: إن أنفق المرتهن بدون إذن الراهن، مع قدرته على استئذانه، كان متبرعاً، لا حق له في الرجوع بما أنفق. فإن عجز عن استئذانه لغيبة أو نحوها، وأنفق، يرجع بأقل المبلغين: نفقة المثل، وما أنفقه فعلاً، بشرط أن ينوي الرجوع بالنفقة. ولا يشترط استئذان القاضي، ولا الإشهاد على النفقة.
__________
(1) وجاء في الفتاوى البزازية: أن ثمن الدواء وأجرة الطبيب على المرتهن.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 251/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 136/2، المغني: 392/4، كشاف القناع: 326/3 ومابعدها، المهذب: 314/1.(6/130)
المطلب الخامس ـ الانتفاع بالرهن:
لا يجوز تعطيل منفعة الرهن؛ لأنه تضييعٌ للمال وإهدارٌ له، وإنما يجب الإفادة منه أثناء الرهن، فمن الذي ينتفع به، الراهن أم المرتهن؟
تبحث كل حالة على حدة، انتفاع الراهن، ثم انتفاع المرتهن.
أولاً ـ انتفاع الراهن بالرهن:
هناك في انتفاع الراهن بالرهن رأيان: رأي الجمهور غير الشافعية بعدم جواز الانتفاع. ورأي الشافعية بجوازه ما لم يضر بالمرتهن (1) . وتفصيل الأقوال فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (2) : ليس للراهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً أو ركوباً أو لبساً أو سكنى وغيرها، إلا بإذن المرتهن، كما أنه ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن الراهن، ودليلهم على الحالة الأولى: أن حق الحبس ثابت للمرتهن على سبيل الدوام، وهذا يمنع الاسترداد. فإن انتفع الراهن من غير إذن المرتهن، فشرب لبن البقرة المرهونة، أو أكل ثمر الشجر المرهون، ونحوهما، ضمن قيمة ما انتفع به؛ لأنه تعدى بفعله على حق المرتهن، وتدخل القيمة التي هي بدل الاستهلاك في حبس المرتهن للرهن، ويتعلق بها الدين.
وإذا استعاد الراهن الرهن لاستعماله بدون إذن المرتهن، فركب الدابة المرهونة، أو لبس الثوب المرهون، أو سكن الدار المرهونة أو زرع الأرض، ارتفع ضمان المرتهن للرهن، وكان غاصباً للرهن، فيرد إلى المرتهن جبراً عنه. وإذا هلك في يده هلك عليه. فإن لم يترتب على انتفاع الراهن بالرهن رفع يد المرتهن، فله الانتفاع به، كإيجار آلة يشغلها المرتهن، مثل آلة طحن ونحوه، فأجر ما تطحنه حينئذ للراهن؛ لأن نماء الرهن وزوائده للراهن (3) ، وإذا أخذه المرتهن احتسب من دينه. وهذا المذهب مبني على أن الرهن يلحق الزيادة المتولدة من الرهن متصلة أو منفصلة عنه.
__________
(1) الإفصاح: 238/1.
(2) البدائع: 146/6، الدر المختار: 342/5 ومابعدها.
(3) الدر المختار: 370/5.(6/131)
2 - وقال الحنابلة (1) مثل الحنفية: لا يجوز للراهن الانتفاع بالرهن إلا بإذن أو رضا المرتهن. فليس له استخدامه ولا ركوبه ولا لبسه ولا سكناه. وتعطل منافعه أي على كره من الشرع، إذا لم يتفق الراهن والمرتهن على انتفاع الراهن، فتغلق الدار مثلاً حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن عين محبوسة، فلم يجز للمالك أن ينتفع بها، كالمبيع المحبوس لدى البائع حتى يوفى ثمنه.
وهذا المذهب مبني على مبدأ أن جميع منافع الرهن ونمائه تكون رهناً مع أصلها، كالحنفية تماماً.
إصلاح الرهن: ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها، وإنزاء الفحل على الأنثى المرهونة عند الحاجة.
3 - وتشدد المالكية (2) أكثر من المذهبين السابقين، فقرروا عدم جواز انتفاع الراهن بالرهن، وقرروا أن إذن المرتهن للراهن بالانتفاع مبطل للرهن، ولو لم ينتفع؛ لأن الإذن بالانتفاع يعد تنازلاً عن حقه في الرهن.
وبما أن منافع الرهن مملوكة للراهن، فله أن ينيب المرتهن في أن ينتفع بالرهن نيابة عنه ولحساب الراهن، حتى لا تتعطل منافع الرهن. فإن عطل المرتهن استغلال المرهون، كإغلاق الدار، ضمن عند بعض المالكية أجرة المثل في مدة التعطيل؛ لأنه ضيعها عليه. وقال بعضهم: لا يضمن، إذ ليس عليه أن يستغل للراهن ماله. وقال بعضهم: يضمن إلا إذا علم الراهن بالاستغلال ولم ينكر عليه التعطيل.
4 - وأما الشافعية (3) فقالوا خلافاً للجمهور السابق: للراهن كل انتفاع
__________
(1) المغني: 390/4 ومابعدها، كشاف القناع: 323/3.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 241/3 ومابعدها.
(3) مغني المحتاج: 131/2 ومابعدها.(6/132)
بالرهن لا يترتب عليه نقص المرهون، كالركوب، والاستخدام، والسكنى، واللبس، والحمل على الدابة أو السيارة؛ لأن منافع الرهن ونماءه ملك للراهن، ولا يتعلق بها الدين عندهم، ولخبر الدارقطني والحاكم: «الرهن مركوب ومحلوب» وخبر البخاري: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً» .
أما ما يترتب عليه نقص قيمة الرهن كالبناء والغرس في الأرض المرهونة، فلا يجوز للراهن إلا بإذن المرتهن مراعاة لحقه. وللمرتهن أن يرجع عن إذنه قبل تصرف الراهن.
وإذا أمكن الراهن الانتفاع بالمرهون بغير استرداد كإيجار آلة عند المرتهن، لم يسترد من المرتهن. وإن لم يمكن الانتفاع به بغير استرداد كأن يكون داراً يسكنها، أو دابة أو سيارة يركبها، فيسترد للحاجة إليه، حتى إذا انتهى انتفاعه به، رده على المرتهن.
ثانياً ـ انتفاع المرتهن بالرهن:
يرى الجمهور غير الحنابلة: أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن. وحملوا ما ورد من جواز الانتفاع بالمحلوب والمركوب بمقدار العلف على ما إذا امتنع الراهن من الإنفاق على الرهن، فأنفق عليه المرتهن، فله الانتفاع بمقدار علفه. والحنابلة يجيزون الانتفاع للمرتهن بالرهن إذا كان حيواناً، فله أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه (1) . وتفصيل المذاهب كما يأتي:
1 - قال الحنفية (2) : ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون استخداماً ولا ركوباً ولا سكنى ولا لبساً ولا قراءة في كتاب، إلا بإذن الراهن؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع. فإن انتفع به، فهلك في حال الاستعمال يضمن كل قيمته، لأنه صار غاصباً.
__________
(1) بداية المجتهد: 273/2.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 342/5، البدائع: 146/6، تبيين الحقائق: 67/6، الهداية مع تكملة الفتح: 201/8.(6/133)
وإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بالمرهون، جاز مطلقاً عند بعض الحنفية. ومنهم من منعه مطلقاً؛ لأنه ربا أو فيه شبهة الربا، والإذن أو الرضا لا يحل الربا ولا يبيح شبهته. ومنهم من فصل فقال: إن شرط الانتفاع على الراهن في العقد، فهو حرام؛ لأنه ربا، وإن لم يشرط في العقد، فجائز؛ لأنه تبرع من الراهن للمرتهن. والاشتراط كما يكون صريحاً، يكون متعارفاً، والمعروف كالمشروط.
وهذا التفصيل هو المتفق مع روح الشريعة، والغالب من أحوال الناس أنهم عند دفع القرض إنما يريدون الانتفاع، ولولاه لما أعطوا الدراهم، وهذا بمنزلة الشرط؛ لأن المعروف كالمشروط، وهو مما يُعيِّن المنع، كما قال ابن عابدين.
وأرى أن الاحتياط في الدين أمر واجب، وكل قرض جر نفعاً مشروطاً أو متعارفاً فهوعند الحنفية ربا، وقد صرح ابن نجيم في الأشباه أنه يكره (أي تحريماً) للمرتهن الانتفاع بالرهن (1) . وقال في التتارخانية ما نصه: «ولو استقرض دراهم، وسلم حماره إلى المقرض ليستعمله إلى شهرين، حتى يوفيه دينه، أو داره ليسكنها، فهو بمنزلة الإجارة الفاسدة، إن استعمله، فعليه أجر مثله، ولا يكون رهناًَ» . وعليه نرى أن مااعتاده الناس في زماننا من رهن الدور على أن يسكنها المرتهن، ريثما يرد إليه الراهن دينه، وهو قرض، غير جائز باتفاق المذاهب، وليس العقد من قبيل بيع الوفاء، لعدم انصراف مقاصد الناس إلى البيع.
__________
(1) المقرر في القانون المدني السوري والمصري يتفق مع الشريعة، فقد نص فيهما على أنه ليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن دون مقابل.(6/134)
2 - وفصل المالكية (1) فقالوا: إذا أذن الراهن للمرتهن بالانتفاع أو اشترط المرتهن المنفعة، جاز إن كان الدين من بيع أو شبهة (معاوضة) ، وعينت المدة بأن كانت معلومة، للخروج من الجهالة المفسدة للإجارة، لأنه بيع وإجارة، وهو جائز. والجواز كما قال الدردير بأن يأخذ المرتهن المنفعة لنفسه مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل دفع باقي الدين. ولايجوز إن كان الدين قرضاً (سلفاً) ؛ لأنه قرض جر نفعاً. ولا يجوز الانتفاع في حالة القرض إن تبرع الراهن للمرتهن بالمنفعة أي لم يشترطها المرتهن؛ لأنها هدية مديان، وقد نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلم (2) .
والخلاصة: إن هناك ثماني صور لاشتراط المرتهن منفعة الرهن لنفسه، سبعة منها ممنوعة، وواحدة منها فقط جائزة. أما الممنوعة فأربع صور منها في القرض: وهي ما إذا كانت مدة المنفعة معينة، أو مجهولة، مشترطة أو متطوعاً بها، وثلاث صور منها في البيع: وهي ما إذا كانت متطوعاً بها، سواء كانت مدتها معينة أم مجهولة، أو كانت مشترطة ولم تعين مدتها أي المدة مجهولة.
وأما الصورة الجائزة: فهي ما إذا كانت المنفعة مشترطة في عقد البيع، والمدة معينة. ومحل الجواز فيها إذا اشترطت ليأخذها المرتهن مجاناً، أو لتحسب من الدين على أن يعجل الباقي منه.
3 - وقال الشافعية (3) كالمالكية إجمالاً: ليس للمرتهن أن ينتفع بالعين المرهونة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه، الذي رهنه، له غنمه وعليه
__________
(1) الشرح الكبير للدردير والدسوقي: 246/3، بداية المجتهد: 273/2، القوانين الفقهية: ص 324.
(2) عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية» أي قبل الوفاء. رواه البخاري في تاريخه (نيل الأوطار: 231/5) .
(3) حاشية البجيرمي على الخطيب: 61/3، الإفصاح لابن هبيرة: 238/1، مغني المحتاج: 121/2.(6/135)
غرمه» قال الشافعي: غنمه: زياداته. وغرمه: هلاكه ونقصه. ولا شك أن من الغُنم سائر وجوه الانتفاع. وهذا رأي ابن مسعود.
فإن شرط المرتهن في عقد القرض ما يضر الراهن، كأن تكون زوائد المرهون أو منفعته له، أي للمرتهن، بطل الشرط، والرهن في الأظهر، لحديث «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل» . وأما بطلان الرهن فلمخالفة الشرط مقتضى العقد، كالشرط الذي يضر المرتهن نفسه.
أما إن كانت المنفعة مقدرة أو معلومة، وكان الرهن مشروطاً في بيع، فإنه يصح اشتراط جعل المنفعة للمرتهن؛ لأنه جمع بين بيع وإجارة في صفقة، وهو جائز. مثل أن يقول شخص لغيره: بعتك حصاني بمئة بشرط أن ترهنني بها دارك، وأن تكون منفعتها لي سنة، فبعض الحصان مبيع، وبعضه أجرة في مقابلة منفعة الدار.
فإن لم يكن الانتفاع مشروطاً في العقد، جاز للمرتهن الانتفاع بالرهن، بإذن صاحبه، لأن الراهن مالك، وله أن يأذن بالتصرف في ملكه لمن يشاء، وليس في الإذن تضييع لحقه في المرهون؛ لأنه لا يخرج عن يده، ويبقى محتبساً عنده لحقه.
4 - وأما الحنابلة (1) فقالوا في غير الحيوان: ما لا يحتاج إلى مؤنة (قوت) كالدار والمتاع ونحوه، لا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال؛ لأن الرهن ومنافعه ونماءه ملك الراهن، فليس لغيره أخذها بغير إذنه، فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض، وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه قرض جر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض، يعني إذا كانت الدار رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن.
__________
(1) المغني: 385/4 ومابعدها، كشاف القناع: 342/3 ومابعدها.(6/136)
وعبارتهم في الموضوع: «لا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً، فيركب ويحلب بقدر العلف» . وإن كان الرهن بثمن مبيع، أو أجر دار أو دين غير القرض، فأذن له الراهن في الانتفاع، جاز، أي ولو مع المحاباة في الأجرة.
وإن كان الانتفاع بعوض هو أجر المثل من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، لكونه لم ينتفع بالقرض، بل بالإجارة. وإن حاباه لا يجوز في القرض، ويجوز في غيره.
والخلاصة: أن الانتفاع إن كان بعوض جاز في القرض وغيره إن كان بأجر المثل، وإن كان بغير عوض لا يجوز في القرض، وإذا انتفع المرتهن من غير إذن الراهن، حسب من دينه.
وأما الحيوان: فيجوز للمرتهن أن ينتفع به إن كان مركوباً أو محلوباً، على أن يركب ويحلب، بقدر نفقته، متحرياً العدل في النفقة، وإن لم يأذنه الراهن.
ودليلهم الحديث السابق: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبَن الدَّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» وجملة «الظهر يركب، والدر يشرب» جملة خبرية في معنى الإنشاء مثل: {والوالدات يرضعن أولادهن} [البقرة:233/2] ، ولأن التصرف معاوضة، والمعاوضة تقتضي المساواة بين البدلين.
لكن قال ابن القيم في أعلام الموقعين: لا ضرورة إلى المساواة بين البدلين؛ لأن الشارع ساوى بينهما، ويعسر علينا أمر الموازنة بين الركوب واللبن وبين النفقة.
ولم يعمل الجمهور بهذا الحديث، وقالوا: إنه حديث ترده أصول وآثار صحيحة. ويدل على نسخه حديث: «لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه» (1) ، وحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» .
وأجاب الحنابلة: بأن السنة أصل، فكيف تردها الأصول؟! وأما الحديث الناسخ فهو عام، وحديث الرهن خاص، فيكون الخاص مقيداً له.
__________
(1) أخرجه البخاري في أبواب المظالم عن ابن عمر (سبل السلام: 51/3) .(6/137)
وأرى الأخذ بهذا الاستثناء الوارد عند الحنابلة؛ لأن الحديث صحيح. وفيما عداه القول الراجح هو ما عليه اتفاق المذاهب، بدليل أن الحنابلة قالوا:
إن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وأما الرهن في البيع فجائز لأنه بيع وإجارة كما قال الشافعية.
المطلب السادس ـ التصرف في الرهن:
إما أن يصدر التصرف في الرهن من الراهن أو من المرتهن.
أولاً ـ تصرف الراهن بالرهن:
أـ قبل التسليم: ينفذ عند الحنفية والشافعية والحنابلة تصرف الراهن بالرهن قبل القبض بدون إذن المرتهن؛ لأنه لم يتعلق به حق المرتهن حينئذ.
أما المالكية (1) القائلون بأن الرهن يلزم بالإيجاب والقبول، وبأن الراهن يجبر على تسليم الرهن للمرتهن، فيجيزون ـ بالرغم مما ذكر ـ للراهن أن يتصرف في الرهن قبل القبض، فلو باع الراهن الرهن المشترط في عقد البيع أو القرض نفذ بيعه، إن فرط مرتهنه في طلبه حتى باعه، وصار دينه بلا رهن لتفريطه. فإن لم يفرط في الطلب وجدَّ في المطالبة، ففيه ثلاثة آراء:
الأول لابن القصار: وهو أن للمرتهن رد البيع ولا ينفذ، إن كان المبيع باقياً. وإن فات (ذهب من يد البائع) كان ثمنه رهناً عنده مكانه، وينفذ البيع.
الثاني لابن أبي زيد: وهو نفاذ البيع، وجعل الثمن بدله رهناً.
الثالث لابن رشد: وهونفاذ البيع، ويصير الدين بلا رهن، ولا يكون الثمن رهناً بدله.
وأما إن كان الرهن متطوعاً به بعد العقد، وباعه الراهن قبل أن يقبضه المرتهن، فينفذ بيعه، وهل يكون ثمنه رهناً أو لا يكون؟ فيه خلاف، كالخلاف في بيع الهبة قبل قبضها.
ب ـ بعد التسليم: إذا سلم الراهن المرهون، بقي على ملكه، ولكن تعلق به دين المرتهن، فاستحق حبسه وثيقة بالدين إلى أن يوفى عند الحنفية، ويصبح متعيناً للبيع وثيقة بالدين عند الجمهور غير الحنفية.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 248/3.(6/138)
وعلى كلا الرأيين: لا يجوز للراهن أن يتصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن، لتعلق حقه به، فيتنازل عن حقه في حبس الرهن أو تعينه للبيع. وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (1) : إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن، فالبيع موقوف لتعلق حق الغير به، فإن أجازه المرتهن، أو قضاه الراهن دينه، أو أبرأه المرتهن عن الدين، جاز البيع ونفذ، وصار ثمنه في غير حال الوفاء بالدين رهناً مكانه في ظاهر الرواية؛ لأن البدل له حكم المُبْدَل. وإن لم يجزه، لم ينفسخ وبقي موقوفاً في أصح الروايتين، وكان المشتري ـ في حال عدم علمه بأنه مرهون ـ بالخيار: إن شاء صبر إلى فك الرهن، أو رفع الأمر إلى القاضي بفسخ البيع.
ووجه ظاهر الرواية: أن حق المرتهن متعلق بمالية المرهون، فإذا بيع وأصبح الثمن بدلاً عن المال المرهون، لم يتضرر المرتهن؛ لأن حقه لم يزل بالبيع.
وإذا تكرر بيع الراهن قبل أن يجيز المرتهن، كأن باعه مرة ثانية، كان البيع الثاني موقوفاً أيضاً على إجازة المرتهن، فأي البيعين أجازه لزم، وبطل الآخر.
وإذا كان التصرف الثاني (الوارد بعد بيع الراهن الرهن) هبة أو إجارة أو رهناً فأجاز المرتهن هذا التصرف، نفذ البيع الأول، دون هذه التصرفات؛ لأن إجازته هذه التصرفات إسقاط لحقه في الحبس، وبها يزول المانع من نفاذ البيع، فينفذ، وتتحقق مصلحة المرتهن بتحول حقه لثمن المبيع، أما تلك التصرفات فليس في نفاذها منفعة للمرتهن، لعدم تحول حقه فيها إلى بدل يقوم مقام المرهون.
وإذا تصرف الراهن أولاً بالإعارة أو الإجارة أو الهبة أو الرهن، كان تصرفه أيضاً موقوفاً على إجازة المرتهن.
__________
(1) البدائع: 146/6، تكملة الفتح: 224/8، تبيين الحقائق: 84/6 ومابعدها، الدر المختار: 361/5، اللباب: 59/2.(6/139)
أما في حال الإعارة: فإن ردها المرتهن بطلت، وإن أجازها نفذت، ولا يبطل بإجازتها عقد الرهن؛ لأن الإعارة عقد غير لازم، فلكل من الراهن والمرتهن بعد نفاذها استرداد العارية، وإعادتها رهناً كما كانت.
وأما في حال الإجارة: فإجارتها مبطلة لعقد الرهن؛ لأنها عقد لازم.
وإذا تصرف الراهن بعقد من هذه العقود مع المرتهن، فحكمها حكم إجازة المرتهن لهذه العقود إذا كانت لغيره. فإذا كان هو المشتري أو الموهوب له أو المتصدق عليه (أي المتملك) ، فإن الرهن يبطل بذلك.
وإذا كان هو المستعير لم يبطل الرهن، ولكن يرتفع ضمانه وقت انتفاعه بالعين المرهونة فقط، فإذا هلك أثناء انتفاعه، هلك هلاك الأمانات، وإذا هلك قبل انتفاعه، أو بعد انتهائه هلك هلاك الرهن. وإذا كان هو المستأجر، فإن جدد القبض للإجارة (وهو أمر شكلي) بطل الرهن، ونفذت الإجارة؛ لأن قبض الرهن دون قبض الإجارة، فلا ينوب منابه؛ لأن قبض الرهن قبض لا يؤدي إلى جواز الانتفاع، وقبض الإجارة يؤدي إليه، فهو أقوى، فلم ينب منابه. وإذا جدد القبض للإجارة، فهلك المقبوض، هلك هلاك الأمانات، لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير. ومن التعدي: أن يمنع المرتهن الرهن عن مالكه بعد انتهاء مدة الإجارة.
2 - وقال المالكية (1) : إذا تصرف الراهن بالرهن من غير إذن المرتهن، ببيع أو إجارة أو هبة، أو صدقة، أو إعارة ونحوها، كان التصرف موقوفاً على إجازة المرتهن، فيخير مثلاً بين أن يرد البيع ويرجع الرهن لما كان عليه من الرهنية، أو يجيزه. وبطل الرهن على المعتمد بمجرد الإذن (أي إذن المرتهن للراهن بالتصرف) وإن لم يتصرف الراهن، لاعتبار الإذن تنازلاً عن الرهن.
3 - وقال الشافعية (2) : ليس للراهن المُقْبِض تصرف يزيل الملك، كالهبة والبيع والوقف، مع
__________
(1) الشرح الكبير: 241/3 ومابعدها، 248، بداية المجتهد: 274/2، القوانين الفقهية: ص 324.
(2) مغني المحتاج: 130/2 وما بعدها، المهذب: 309/1، 311.(6/140)
غير المرتهن بغير إذنه؛ لأنه لو صح لفاتت الوثيقة. كما لا يصح له رهن المرهون لغير المرتهن الأول عنده، ولا إجارة المرهون إن كان الدين حالاً، أو يحل أجله قبل انقضاء مدة الإجارة، ويعد التصرف حينئذ باطلاً.
فإن كان هذا التصرف مع المرتهن أو بإذنه، فيصح ويبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن، ويصح للراهن كل تصرف لا يضر المرتهن كالسكنى والركوب كما بان سابقاً، ويصح له أيضاً الإجارة والإعارة إلى مدة لا تمتد إلى ما
بعد حلول الدين، لأنه تصرف لا يمس حق المرتهن في بيع الرهن عند حلول الدين، وعدم الوفاء.
4 - والحنابلة (1) كالشافعية قالوا: إذا تصرف الراهن بالرهن تصرفاً بغير إذن المرتهن، بطل التصرف؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المرتهن بالوثيقة، سواء أكان التصرف بيعاً أم إجارة أم هبة أم وقفاً، أم رهناً وغيره. وإذا أذن المرتهن بهذا التصرف، صح، وبطل الرهن، إلا في الإجارة فيستمر الرهن في الأصح. كما أن الرهن يبقى بحاله مستمراً إذا كان التصرف إعارة أذن بها المرتهن.
والخلاصة: إن تصرف الراهن بالرهن بغير إذن المرتهن موقوف عند الحنفية، باطل عند الأئمة الآخرين.
ثانياً ـ تصرف المرتهن بالرهن:
تبين مما سبق أن حق الراهن قائم في عين الرهن، فهو ملكه، وحق المرتهن ثابت في ماليته، فله حبسه لوفاء الدين.
وبناء عليه، لا يجوز للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن، كما في تصرف الراهن، لأنه تصرف فيما لا يملك، ويكون تصرفه موقوفاً عند الحنفية والمالكية كتصرف الفضولي، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة، وتفصيل المذاهب فيما يأتي:
1 - قال الحنفية (2) : ليس للمرتهن أن يتصرف بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك، إذ
__________
(1) المغني: 363/4، كشاف القناع: 321/3 ومابعدها.
(2) البدائع: 146/6، الدر المختار: 342/5 ومابعدها، ورد المحتار: 139/5.(6/141)
لا حق له إلا في حبس المرهون، فإن تصرف بغير إذنه بالبيع أو الهبة، أو الصدقة أو الإعارة ونحوها، كان تصرفه موقوفاً على إجازة الراهن، إن
أجازه نفذ، وإلا بطل. لكن إن أجره المرتهن بلا إذن، فالأجرة له، وإن كان بإذن فللمالك الراهن، وبطل الرهن (1) .
وإن هلك المرهون عند المتصرف إليه، ففيه تفصيل:
أـ إن باعه المرتهن أو وهبه أو تصدق به أو أعاره فهلك عند المتصرف إليه، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن لتعديه، ويستقر الضمان عليه، فلا يرجع على أحد، وبأدائه الضمان يتبين أنه تصرف في ملكه. وإما أن يضمن المتصرف إلىه ولا يرجع أحدهم على المرتهن؛ لأن كل واحد عامل لنفسه، فالمشتري أو الموهوب له أو المتصدق له قبض لنفسه، وفي ضمان نفسه، سواء أكان عالماً بأنه معتد، أم غير عالم، لأنه في الحالة الأخيرة أقدم على تصرف يتبعه ضمانه، كما لو كان ملكاً للمرتهن. وأما المستعير فقد قبض لنفسه لينتفع مجاناً.
ب ـ وإن أجره المرتهن أو أودعه، أو رهنه، ثم هلك، فللراهن الخيار: إما أن يضمن المرتهن، فلا يرجع على أحد، ويتبين أنه تصرف في ملك نفسه، أو يضمن المتصرف إليه، ولكن يرجع كل منهم على المرتهن؛ لأنه ليس عاملاً لنفسه، وإنما هو عامل للمؤجر أو المودع أو الراهن في حفظ العين لصالحه أي المؤجر ونحوه، وإذا كان كل منهم عاملاً للمرتهن فيرجعون بالضمان عليه.
وإذا كان الهلاك بتعدي المتصرف إليه، كان هو الضامن لتعديه، ويستقر الضمان عليه لو ضمن الراهن المرتهن.
ويلاحظ أنه إذا اختار الراهن تضمين المرتهن أو المتصرف إليه، لا يعود إلى
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 342/5، 372.(6/142)
تضمين الآخر؛ لأن اختياره تضمين أحدهما بمثابة تمليك له، وإذا ملك شخصاً لم يكن له أن يملِّك غيره، ولأن اختياره تضمين أحدهما يعتبر منه إقراراً بأنه هو المعتدي على حقه دون الآخر، فلا يقبل منه بعدئذ تضمينه.
2 - وقال المالكية (1) كالحنفية: لا يجوز تصرف المرتهن في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه تصرف فيما لا يملك. فإن تصرف فيه بغير إذنه بيعاً أو هبة أو إجارة أوإعارة، كان موقوفاً على إجازة الراهن، كتصرف الفضولي عندهم.
وإن تصرف بإذن الراهن نفذ، وبطل رهنه إذا كان التصرف بيعاً أو هبة، أو إجارة لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين. أما إذا كانت مدتها تنتهي قبل حلول أجل الدين، فلا يبطل الرهن، ويسترده المرتهن بعد انتهاء مدتها. كما يبطل الرهن بإعارته لمدة تمتد إلى ما بعد حلول أجل الدين، ولم يشترط رد المرهون إلى المرتهن عند حلول الدين، أو لم يكن هناك عرف يقضي برده. فإن انتهت مدة الإعارة قبل حلول الأجل، أو اشترط الرد عند الحلول، أو وجد عرف يقضي برده، فلا يبطل الرهن حينئذ.
3 - وقال الحنابلة والشافعية (2) : ليس للمرتهن أن يتصرف في الرهن بغير إذن الراهن؛ لأنه ليس ملكاً له، فإن أقدم على التصرف كان تصرفه باطلاً، ولا يبطل الرهن. أما إن تصرف بإذن الراهن فتصرفه ينفذ، ويبطل الرهن إن كان تمليكاً. ولا يبطل الرهن إن كان إجارة أو إعارة، سواء أكان التصرف للراهن أم لغيره، وإنما يزول عند الحنابلة لزوم الرهن بالتصرف بالمرهون، وكأنه لم يلحقه قبض. فإذا عاد المرهون للمرتهن عاد رهناً كما كان. وأما عند الشافعية الذين لايشترطون استدامة قبض الرهن، فيظل الرهن ولو كان بيد غير المرتهن.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 242/3.
(2) المغني: 331/4، مغني المحتاج: 131/2.(6/143)
المطلب السابع ـ ضمان الرهن:
البحث هنا في ثلاثة أمور:
أولها ـ صفة يد المرتهن.
وثانيها ـ كيفية ضمان المرتهن عند الحنفية وعند الجمهور.
وثالثها ـ استهلاك الرهن.
أولاً ـ صفة يد المرتهن: هل هي يد أمانة أو يد ضمان؟ فيه رأيان: الأول للحنفية، والثاني للجمهور.
1 - قال الحنفية (1) : يد المرتهن يد أمانة بالنظر لعين المال المرهون، ويد استيفاء أو ضمان بالنسبة لمالية المرهون فيما يقابل الدين من مالية الرهن. بمعنى أن ما يساوي الدين من مالية الرهن تعتبر يد المرتهن عليه يد ضمان أو استيفاء، فإذا امتنع رد المرهون لصاحبه بسبب هلاك أو غيره، كان المرتهن مستوفياً من دينه هذا المقدار، واحتسب من ضمانه، وأما ما زاد من قيمة الرهن على الدين فهو أمانة، يهلك هلاك الأمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير.
وأدلتهم: حديث «الرهن بما فيه» (2) أي يهلك بما رهن فيه، وما روي أن رجلاً
__________
(1) الدر المختار: 342/5، اللباب: 55/2، تكملة الفتح: 198/8، تبيين الحقائق: 63/6، البدائع: 154/6.
(2) رواه الدارقطني مسنداً عن أنس وأبو داود مرسلاً، والأول حديث ضعيف والثاني مرسل صحيح (نصب الراية: 321/4) .(6/144)
رُهن فرساً، فنَفَق (مات) في يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمرتهن: «ذهب حقك» (1) .
وقد عمل الحنفية بالحديث الأول: «إذا عُمِّي فهو بما فيه» فقالوا (2) : معناه: إذا اشتبهت قيمته بعد هلاكه، بأن قال كل: لا أدري كم كانت قيمته، ضمن بما فيه من الدين.
أـ وقال الجمهور غير الحنفية (3) : يد المرتهن على الرهن يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بهلاك الرهن. إلا أن المالكية بالرغم من قولهم بأن يد المرتهن يد أمانة استحسنوا تضمين المرتهن عند وجود التهمة: وهي عندما يكون الرهن مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب والكتب والسلاح والسفينة وقت جريها ونحوه مما يمكن إخفاؤه وكتمه، إذا كان المرهون بيد المرتهن، لا بيد أمين (عدل) ولم تقم بينة (شهادة اثنين) أوشاهد مع يمين على احتراقه أو سرقته أو تلفه، بلا تعدٍ ولا إهمال من المرتهن.
أما إذا كان المرهون مما لا يغاب عليه كالعقار والحيوان، أو كان الرهن بيد أمين، أو قامت بينة على تلفه بلا تعد ولا إهمال من المرتهن، فلا يضمنه المرتهن عند هلاكه.
ودليل الجمهور على كون يد المرتهن يد أمانة: حديث أبي هريرة السابق: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» فقد جعل النبي غرم الرهن ـ ومنه هلاكه ـ على الراهن، وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة؛ لأن عليه قضاء دين المرتهن. أما إذا هلك مضموناً، فإن غرمه على المرتهن، حيث سقط حقه، لا على الراهن.
ثم إن الرهن وثيقة بالدين، فلا يجوز أن يسقط الدين بهلاكه، إذ يتنافى السقوط مع كونه وثيقة.
كما أن وجود المرهون في يد المرتهن حدث برضا الراهن، فكان بسبب الرضا أميناً، كالوديع بالنسبة للمودع.
ويلاحظ أن رأي الجمهور أقوى لقوة أدلتهم، وضعف أحاديث الحنفية.
__________
(1) رواه أبو داود في مراسليه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وهو مرسل وضعيف (نصب الراية: 321/4) .
(2) الدر المختار: 348/5.
(3) الشرح الكبير والدسوقي: 253/3-255، بداية المجتهد: 273/2، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 136/2، المهذب: 316/1، أعلام الموقعين: 35/4، المغني: 396/4، كشاف القناع: 328/3.(6/145)
ثانياً ـ كيفية ضمان المرتهن:
1 - مذهب الحنفية: إن المرهون مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين (1) ، فإن كانت القيمة أقل من الدين، فهو مضمون بالقيمة وسقط من الدين بقدرها، ورجع المرتهن بالفضل الزائد على الراهن، وإن تساوى الدين وقيمة المرهون، صار المرتهن مستوفياً دينه حكماً، لتعلق قيمة الرهن بذمته، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين، فالفضل الزائد أمانة في يد المرتهن لا يضمن مالم يتعد عليه، أو يقصر في حفظه (2) .
شرائط الضمان: اشترط الحنفية لضمان الرهن على النحو المذكور شروطاً ثلاثة (3) :
الأول ـ شرط بقاء الدين أي وجود الدين عند هلاك المرهون، أو أن يكون موعوداً به عند قبض الرهن: فإذا سقط الدين قبل هلاك الرهن، بالإبراء أو بالوفاء ونحوهما، ثم هلك الرهن، فإنه يهلك على الراهن بغير شيء، ولا ضمان على المرتهن حينئذ.
الثاني ـ شرط بقاء القبض أي أن يكون هلاك الرهن في يد المرتهن أو في يد العدل، وفي حال قبضه على حكم الرهن: فإذا هلك المرهون، وهو في يد الراهن، أو في يد غاصبه، لم يهلك هلاك الرهن، وإنما يهلك على ضمان الراهن إذا كان في يده، أو على ضمان الغاصب إذا هلك في يده.
وإذا أذن الراهن المرتهن في الانتفاع بالرهن، فهلك حال انتفاعه به، بناء على الإذن، فإنه أيضاً يهلك هلاك الأمانة، ولا يسقط بهلاكه شيء من الدين، لأنه لم يهلك في قبض الرهن، وإنما هلك في قبض العارية.
أما إن هلك قبل أن يبدأ انتفاعه به، أو بعد انتهائه، فإنه يهلك هلاك الرهن، لأنه هلك في قبض الرهن.
__________
(1) أي ما هو أقل. و «مِنْ» لبيان الأقل الذي هو القيمة تارة، والدَّينُ أخرى.
(2) اللباب: 55/2، البدائع: 160/6، ومراجع الحنفية في صفة يد المرتهن.
(3) البدائع: 155/6-160، تكملة الفتح: 240/8.(6/146)
وكذلك لو أعاره أحدهما بإذن الآخر لأجنبي، فهلك عنده، هلك هلاك العارية. وإن أودعه المرتهن لدى الراهن، فهلك في يده، لم يسقط شيء من الدين بهلاكه، لانتقاض قبض الرهن برده إلى الراهن.
الثالث ـ شرط كون المرهون مقصوداً بالرهن أي ألا يكون الهالك من زيادة الرهن ونمائه، مما يدخل في الرهن تبعاً، كالولد واللبن والثمرة والصوف ونحوها، من كل زيادة متولدة منفصلة.
فإذا هلك النماء أو الزيادة، هلك هلاك الأمانة؛ لأن الزيادة لم تدخل في الرهن إلا تبعاً للأصل، فكانت يد المرتهن عليها يداً تابعة ليده على أصلها.
نقص سعر المرهون: لا يؤثر نقص سعر المرهون عند جمهور الحنفية خلافاً لزفر في ضمان الرهن؛ لأن ما يسقط من الدين بهلاك الرهن مراعى فيه قيمته وقت قبضه، لا وقت هلاكه؛ لأن قبضه قبض استيفاء، فتراعى قيمته في وقت القبض. فإذا نقصت قيمته بسبب تغير الأسعار، لا يسقط بسبب التغير شيء من الدين (1) .
نقص قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه: إذا كان الرهن متعدداً، فهلك بعضه، أو كان سليماً فتعيب عند المرتهن، سقط من الدين بمقدار ما نقص من قيمة الرهن بسبب هلاك بعضه أو تعيبه، وكان الباقي من الرهن رهناً بالباقي من الدين.
إلا أنه إذا كان المرهون من الأموال الربوية بأن كان مكيلاً أو موزوناً ورهن بجنسه كسوار ذهب بليرات ذهبية وكسبيكة فضية بحلي من فضة، ثم هلك، فيهلك عند أبي حنيفة بمثله وزناً من الدين (2) ، وإن اختلف الرهن والدين في الجودة والصناعة؛ لأنه لا عبرة بالجودة، أي لا ينظر إليها عند المقابلة بالجنس في الأموال الربوية (3) . وإن رهنت بخلاف جنسها كقمح بذهب هلكت بقيمتها كسائر الأموال.
2 - مذهب الجمهور غير الحنفية في كيفية ضمان الرهن:
لا يضمن الرهن عند جمهور الفقهاء (4) إذا هلك بلا تعد ولا تقصير، وهو في يد المرتهن، وإنما يضمن بالتعدي أو التقصير، ولا يسقط شيء من الدين بتلف
__________
(1) تبيين الحقائق: 91/6.
(2) تكملة الفتح: 212/8، تبيين الحقائق: 74/6، اللباب: 57/2.
(3) وقال الصاحبان: يضمن المرتهن قيمة المرهون من مال آخر خلاف جنسه، ويحل الضمان مكان أصله في الرهن عند المرتهن.
(4) المغني: 396/4، مغني المحتاج: 137/2، القوانين الفقهية: ص 324، الشرح الكبير: 344/3، المقدمات الممهدات: 367/2.(6/147)
المرهون إلا أن المالكية ـ كما تقدم ـ ضمنوا المرتهن إذا كان الرهن في يده وحيازته لا في يد أمين مما يغاب عليه، كالحلي والسلاح والثياب والكتب والسفينة وقت جريها وكان المرهون في يده وحيازته، لا في يد أمين، ولم تقم بينة على هلاكه من غير تعد ولا تقصير، وحينئذ يضمن قيمته بالغة ما بلغت، ويستمر الضمان إلى تسليم الرهن لصاحبه، فلا يرفعه وفاء الدين ولا سقوطه. ويسقط دين المرتهن إن كان مساوياً للرهن. ولديهم قولان في وقت تقدير قيمة المرهون: قول بتقديرها يوم الضياع (أي التغيب) وقول بتقديرها يوم الارتهان (1) ، وكيفية الضمان عندهم: أن العاقدين يترادان الفضل بينهما، فإن كانت قيمة الدين أكثر من قيمة الرهن، رجع المرتهن على الراهن بالفضل، وإن كانت قيمة الرهن أكثر، رجع الراهن على المرتهن بما فضل من قيمة الرهن على الدين.
ثالثاً ـ حكم استهلاك الرهن:
اتفقت المذاهب على وجوب ضمان الرهن باستهلاكه، وعلى أن قيمة الضمان تحل محل المرهون، واختلفوا في جزئيات مثل تحديد الخصم الذي يطالب بالضمان، وتعيين وقت تقدير القيمة.
فقال الحنفية (2) : إذا استهلك أو أتلف الراهن الرهن، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، يوم الاستهلاك أو الإتلاف (وقت التعدي) ويكون المرتهن هو الخصم الذي يطالب الراهن بالضمان؛ لأنه صاحب الحق بحبس المرهون، ويأخذ المرتهن المضمون (القيمة أو المثل) رهناً في يده؛ لأنه قائم مقام
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 253/3. قال الدسوقي: هل تعتبر القيمة يوم الضياع أي وقت تغيبه، أم يوم الارتهان؟ قولان. ووفق بعضهم بين القولين بأن الأول هو ضمان قيمته يوم الضياع إذا كان قد ظهر عنده يوم ادعى التلف، وأن الثاني ـ وهو ضمان قيمته يوم ارتهانه إذا لم يظهر عنده منذ ارتهنه إلى وقت ادعائه تلفه.
(2) البدائع: 163/6، تبيين الحقائق: 87/6، اللباب: 60/2.(6/148)
أصل المرهون، إلى حلول أجل الدين. فإن كان الدين حالاً، أخذ المرتهن دينه كله من القيمة.
وإذا استهلك المرتهن الرهن أو أتلفه بتعدٍ أو تقصير من جهته، ضمن قيمته إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً، والمعتبر قيمته يوم قبضه؛ لأن المرهون دخل في ضمانه من يوم قبضه.
فإن أتلفه أجنبي، ضمن قيمته يوم التعدي، كما هو المقرر في اعتداء الراهن؛ لأن نشوء الضمان كان بالتعدي.
وسواء أتلفه المرتهن أو الأجنبي أو الراهن يكون المضمون (مثلاً أو قيمة) رهناً مكان أصله؛ لأنه بدله، فيتعلق به حق المرتهن، كما كان متعلقاً بأصله. ويكون الخصم في مطالبة الأجنبي أو الراهن بالضمان هو المرتهن، ويعطى لمن كان أصل المرهون في يده، من مرتهن أو عدل.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : يضمن المتعدي على الرهن قيمته أو مثله، وقت التعدي، ويكون بدله رهناً مكانه، ولو لم يقبض هذا الضمان، حتى يظل المرتهن صاحب امتياز أو أفضلية على سائر الغرماء في مقدار بدل الرهن من تركة المتعدي.
والخصم في اقتضاء بدل الرهن: هو الراهن؛ لأنه المالك، ولكن يقبضه من كان الأصل في يده من مرتهن أو عدل.
وقال المالكية (2) : تكون قيمة الرهن عند ضمانه، بسبب التعدي عليه من الراهن أو من أجنبي إن لم يأت الراهن برهن مثل الأول وتقدر القيمة يوم التعدي.
فإن كان المرتهن هو المتعدي على الرهن، فيضمن قيمته يوم ضياعه (تغيبه) ، وقيل: يوم ارتهانه.
__________
(1) مغني المحتاج: 136/2، 138، المغني: 396/4، كشاف القناع: 328/3.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 244/3، 253.(6/149)
المطلب الثامن ـ بيع الرهن:
الكلام عن بيع المرهون يتطلب أموراً خمسة: ولاية البيع الاختياري والجبري، وبيع مايتسارع إليه الفساد، وحق امتياز المرتهن، واشتراط المرتهن تملك المرهون عند عدم الوفاء، واستحقاق الرهن بعد بيعه.
أولاً ـ ولاية بيع المرهون:
أـ البيع الاختياري: اتفق الفقهاء على أن المرهون يظل ملكاً للراهن بعد تسليمه للمرتهن، كما دلت السنة: «لا يغلق الرهن من صاحبه» فتكون ولاية بيع المرهون للراهن، لا لغيره، لكن لتعلق حق المرتهن به، وثبوت حق حبسه إياه عند الجمهور غير الشافعية، وكونه أولى بماليته من الراهن، يتوقف عند الحنفية والمالكية نفاذ بيعه على رضا المرتهن وإذنه، ما دام حقه قائماً، فإذا انتهى هذ الحق، نفذ البيع بانتهائه، كما بان في بحث التصرف بالرهن.
وعليه يكون للراهن باتفاق الفقهاء أن يبيع الرهن بإذن المرتهن. فإذا توفي الراهن، كانت ولاية البيع لوصيه أو لوارثه، كما يكون له في حال حياته، أن يوكل في البيع غيره، فيوكل المرتهن، أو العدل، أو أجنبياً آخر غيرهما.
وذكر الحنفية (1) فروقاً بين الوكالة المشروطة في عقد الرهن، والوكالة المفردة الحادثة بعد عقد الرهن، من هذه الفروق:
أن الوكالة المشروطة في عقد الرهن لا ينعزل الوكيل فيها بعزل الموكل ولابموت الراهن أو المرتهن، ولا تقبل التقييد بعد الإطلاق، ويجبر فيها الوكيل ببيع الرهن على بيعه إذا امتنع عنه؛ لأن الوكالة صارت شرطاً أو وصفاً من شروط الرهن، فتلزم بلزومه.
بخلاف الوكالة المفردة في كل هذه الأحكام، فإنها تنتهي بالعزل أو بموت الراهن والمرتهن، ... إلخ؛ لأنها لم تصر وصفاً من أوصاف الرهن، ولم يتعلق بها حق المرتهن.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 81/6 ومابعدها.(6/150)
وأوضح المالكية (1) بعض الأمور في حالة إذن الراهن بالبيع، فقالوا: ليس للعدل أو المرتهن بيع الرهن إلا بإذن الراهن؛ لأن ولاية البيع له، فإذا أذن الراهن لأحدهما بالبيع، فإما أن يكون الإذن مطلقاً أو مقيداً.
فإن قيده بعدم وفاء الدين في وقت معين، لم يجز لأحدهما بيعه قبل الوقت، بل يجب الرجوع إلى القاضي، ليبين أن الدين قد وفي أم لا.
وإن كان الإذن مطلقاً: فإن كان للعدل، استقل حينئذ ببيعه بدون رجوع إلى القاضي. وإن كان للمرتهن، فله البيع بدون الرجوع للقاضي إذا صدر الإذن بعد العقد، أما إذا صدر حال العقد، فلا يبيع إلا أن يرجع إلى القاضي، حتى ترتفع شبهة إكراه الراهن على إصدار الإذن.
وينفذ البيع، إذا لم يكن فيه غبن، أما إن بيع بأقل من قيمته، فللراهن أخذه من المشتري، وإن تداولته الأيدي بأي ثمن شاء مما بيع به.
وقالوا كالحنفية: لايملك الراهن ولا المرتهن عزل الوكيل في بيع الرهن، كما لا يجوز له أن يعزل نفسه، ولا ينعزل إلا باتفاقهما على عزله.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 250/3 وما بعدها.(6/151)
وكذلك قرر الشافعية والحنابلة (1) : أن ولاية البيع للراهن، بإذن المرتهن، فلا يبيعه هو أو وكيله من غير إذنه، إلا إذا تعنت، فرفض أن يأذن بالبيع، فيرفع الراهن الأمر للقاضي، فيأمره بأن يأذن بالبيع أو يبرئ الراهن، دفعاً للضرر عنه، وإلا أذن القاضي للراهن بالبيع لوفاء الدين.
ب ـ البيع الجبري:
الرهن وثيقة بالدين كما عرفنا، والهدف المقصود من الرهن هو الحصول على الدين من ثمن المرهون، إذا لم يوف الراهن المدين بالدين عند حلول أجل الدين، عن طريق بيع المرهون.
ويتم البيع في الأحوال العادية بواسطة الراهن أو وكيله؛ لأنه هو المالك للمرهون.
وبناء عليه، إذا حل أجل الدين، طالب المرتهن الراهن بوفاء الدين، فإن استجاب إلى طلبه، فوفى، فبها ونعمت، وإن لم يستجب لمطل أو إعسار، أو لغيبة، أجبره القاضي على البيع باتفاق الفقهاء.
ويجبر القاضي عند الحنفية والمالكية وكيل الراهن على البيع، كما تقدم، ولا يجبر عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الوكيل متفضل، له أن يتخلى عن وكالته، فلا يجبر على البيع، وإنما يتم البيع بواسطة القاضي إذا كان الرهن غائباً. أو كان حاضراً وأبى البيع.
ويطلب القاضي أولاً من الراهن الحاضر بيع المرهون، فإن امتثل، تم المقصود، وإن امتنع، باعه القاضي عند المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة بدون حاجة إلى إجباره بحبس أو ضرب أو تهديد (2) .
وقال أبو حنيفة: ليس للقاضي أن يبيع الرهن بدين المرتهن من غير رضا الراهن، لكنه يحبس الراهن حتى يبيعه بنفسه (3) .
وإذا وجد في مال المدين الراهن مال من جنس الدين، وُفِّيَ الدين منه، ولا حاجة حينئذ إلى البيع جبراً.
وإذا احتاج بيع المال المرهون إلى نفقات، كانت على الراهن؛ لأنه هوالمالك، وهو ملزم بقضاء الدين، والبيع نتيجة لعدم وفائه.
ثانياً ـ بيع ما يتسارع إليه الفساد:
عرفنا فيما مضى أنه يصح رهن ما يسرع إليه الفساد من أنواع الفواكه، فإن أمكن تجفيفه تجنباً لفساده، جفف، والمؤنة على الراهن، ولا يطلب رضاه؛ لأن الجفاف من مؤونته وحفظه وتبقيته، وهو على الراهن. وإن كان مما لا يجفف: فللمرتهن أن يبيعه في الحال؛ لأن بيعه ضروري لحفظه، ولكن بإذن القاضي؛ لأن له ولاية في مال غيره في الجملة، فإن باع بغير إذنه، ضمن لأنه لا ولاية له عليه.
فإن كان الدين حالاً، يقضى من ثمنه، وإن كان مؤجلاً، يكون الثمن رهناً إلى وقت الحلول.
__________
(1) مغني المحتاج: 130/2، المغني: 362/4 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 251/3، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 134/2، المهذب: 307/1، كشاف القناع: 330/3.
(3) البدائع: 148/6، الدر المختار: 359/5، رد المحتار: 357/5، تكملة الفتح: 222/8.(6/152)
وإن كان لا يحل الدين قبل أوان فساده، بل يحل بعد فساده أو معه، فإنه يباع أيضاً، ويجعل الثمن رهناً مكانه، سواء شرط في عقد الرهن بيعه، أو أطلق أي خلا العقد من الشرط (1) .
وخالف الشافعية في الصورة الأخيرة، وهي ما إذا كان يحل بعد فساده، أو معه، فقالوا: إن شرط في الرهن بيعه، وجعل ثمنه رهناً مكانه، صح الرهن، ونفذ الشرط. وإن أطلق فعلى قولين، وهما وجهان عند الحنابلة: أحدهما: لا يصح الرهن، وهو الصحيح عند الشافعية، وعكسه هو الأصح عند الحنابلة، ودليل الشافعية أن بيع الرهن قبل حلول أجل الدين، لا يقتضيه عقد الرهن، فلا يجوز. وحينئذ إذا بقي الرهن على حاله إلى أن يفسد، ذهبت الوثيقة (2) .
ثالثاً ـ حق امتياز المرتهن:
حق الامتياز: معناه أن يكون المرتهن أولى أو أحق بثمن المرهون من سائر الغرماء (الدائنين) حتى يستوفي حقه، حياً كان الراهن أو ميتاً. ويثبت هذا الحق للمرتهن باتفاق الفقهاء (3) ما عدا الظاهرية بناء على تعلق حقه أو دينه بالمال المرهون، وكون الرهن وثيقة بالدين، وثبوت حق المرتهن في حبسه عند غير الشافعية (الجمهور) ، ومنع الراهن من التصرف بالرهن إلا بإذن المرتهن باتفاق المذاهب.
__________
(1) البدائع: 148/6، الدر المختار: 157/5، المغني: 341/4، المهذب: 308/1، مغني المحتاج: 123/2 ومابعدها.
(2) والقول الثاني وهو الراجح عند الحنابلة: يصح الرهن، ويباع المرهون عند الإشراف على الفساد؛ لأن الظاهر والذي يقتضيه العرف أن المالك لا يقصد برهنه مع الإطلاق إتلاف ماله، فإذا تعين حفظه في بيعه، حمل عليه مطلق العقد. وعزاه الرافعي في الشرح الصغير إلى تصحيح الأكثرين، وقال الإسنوي: إن الفتوى عليه.
(3) البدائع: 153/6، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 134/2، المغني: 404/4 ومابعدها.(6/153)
وعليه إذا ضاق مال الراهن عن وفاء ديونه، وطالب الغرماء بديونهم، أو حجر على المدين لإفلاسه عند مجيزي الحجر خلافاً لأبي حنيفة، وأريد قسمة ماله بين غرمائه (دائنيه) ، فأول من يقدم هو المرتهن لاستيفاء حقه من ثمن المرهون، أو من قيمته عند ضمانه عوضاً عنه من قيمة أو مثل، أياً كان الضامن، بسبب الإتلاف.
ولا يحق الاعتراض لباقي الغرماء، ولهم أخذ ما فضل من الثمن؛ لأن حق المرتهن متعلق بعين الرهن، وذمة الراهن معاً، فهو صاحب حق عيني، وأما سائر الغرماء، فيتعلق حقهم بالذمة، دون العين، فكان حقه أقوى، وحقهم شخصي فقط.
هذا إن كان ثمن المرهون كافياً لحق المرتهن، ويفضل منه شيء، فيوزع الفاضل أو الباقي على الغرماء بالتساوي، فإن فضل من دين المرتهن شيء، أخذ ثمن المرهون، وساهم مع الغرماء ببقية دينه.
ويسدد دين المرتهن من ثمن المرهون، إذا كان الدين حالاً، فإن كان مؤجلاً، وبيع الرهن لسبب من الأسباب التي تستوجب بيعه قبل حلول أجل الدين كما في بيع ما يسرع إليه الفساد، فإن الثمن يبقى رهناً بدل أصله، إلى أن يحل الدين.
رابعاً ـ اشتراط المرتهن تملكه للرهن عند عدم الوفاء (غَلَق الرهن) :
اتفق جمهور الفقهاء (1) على أنه إذا شرط المرتهن في عقد الرهن أنه متى حل الدين، ولم يوف، فالمرهون له بالدين، أو فهو مبيع له بالدين الذي على الراهن،
__________
(1) المغني: 383/4، القوانين الفقهية: ص 324 ومابعدها، المنتقى على الموطأ: 239/5، نيل الأوطار: 235/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 137/2.(6/154)
فهو شرط فاسد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَغْلَق الرهن من صاحبه» ، أي لا يستحقه ولا يملكه المرتهن إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط. قال مالك: «لا يغلق الرهن» معناه ـ والله أعلم ـ لا يمنع من فكه، والنهي عن الشيء يقتضي فساد المنهي عنه. وقال الأزهري: الغَلَق في الرهن: ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن، فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. وروى عبد الرزاق عن معمر: أنه فسر غَلَق الرهن بما إذا قال الرجل: إن لم آتك بمالك، فالرهن لك.
والخلاصة: أن المراد بالحديث: لا يستحق المرتهن الرهن، إذا لم يُفْتَكَّ في الوقت المشروط، فلو هلك الرهن، لم يذهب حق المرتهن، وإنما يهلك من رب الرهن، إذ له غنمه وعليه غرمه.
قال النووي في المنهاج وشراحه: ولو شرط كون المرهون مبيعاً له عند الحلول، فسد، أي الرهن لتأقيته، والبيع لتعليقه. والمرهون قبل المَحِل، أي وقت الحلول أمانة؛ لأنه مقبوض بحكم الرهن الفاسد، وبعده مضمون بحكم الشراء الفاسد.
وهناك قول لأبي الخطاب من الحنابلة، ولبعض الحنفية: أن الرهن لا يفسد بهذا الشرط؛ لأن الحديث: «لا يغلق الرهن» نفى غَلَقه دون أصله، فيدل على صحته، ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط، فمع بطلانه أولى أن يرضى به.
ورد ابن قدامة الحنبلي: أنه رهن بشرط فاسد، فكان فاسداً، كما لو شرط توقيته. وليس في الخبر أنه شرط ذلك في ابتداء العقد، فلا يكون فيه حجة.
خامساً ـ استحقاق الرهن بعد بيعه:
قال الحنفية (1) : إذا ظهر كون الرهن بعد بيعه مستحقاً لغير الراهن، فإما أن يكون المرهون المبيع موجوداً حين ادعاء الاستحقاق، أو هالكاً.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 223/8، الدر المختار: 359/5 ومابعدها.(6/155)
فإن كان موجوداً، أخذه المستحق إن أراد؛ لأنه وجد عين ماله، فلا يمنع عنه إلا بحق لزمه، ولم يوجد. ويكون مشتريه حينئذ بالخيار: إن شاء رجع على من باعه إياه بما دفع إليه من ثمن؛ لأنه هو العاقد، وإن شاء رجع به على المرتهن إذا كان قد قبض الثمن؛ لأن البيع قد انتقض بالاستحقاق، وبطل أن يكون المدفوع ثمناً، وقد وصل إلى يد المرتهن على هذا الأساس، فيجب عليه رده، ونقض قبضه حكماً.
وإذا كان البائع هو العدل، رجع العدل بالثمن على الراهن، إن شاء؛ لأنه وكيل عنه في البيع، فتلحقه العهدة بسبب الوكالة، وبه يصح الوفاء بما دفع العدل للمرتهن.
وإن كان الرهن عند الاستحقاق هالكاً، فإن المستحق بالخيار: إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب حقه، بأخذه ورهنه. وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه بالبيع والتسليم. وإن شاء على ما يظهر ضمن المشتري لهلاك ملكه في يده.
فإن ضمن الراهنَ، نفذ البيع، وصح الوفاء؛ لأن الراهن بأدائه الضمان، ملك الشيء المضمون أي العين المرهونة، ملكاً مستنداً إلى وقت الاعتداء، فتبين أنه رهن ملك نفسه، وأمر ببيع ملك نفسه.
وإن ضمن العدلَ ـ البائعَ، نفذ البيع أيضاً؛ لأن العدل قد ملكه بأداء الضمان، فتبين أنه قد باع ملك نفسه. وبتضمينه يرجع العدل بالخيار: إن شاء على الراهن بما ضمن، لأنه وكيله، وينفذ البيع، ويصح الوفاء. وإن شاء على المرتهن بالثمن، لا بالقيمة؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛ لأن العين صارت ملكه بالضمان، ونفذ بيعه بسبب تملكه، وصار الثمن له، وقد أداه إليه على حساب أنه للراهن، لا له، يرجع به لهذا السبب، وإذا رجع بطل الوفاء، ويرجع المرتهن على الراهن بدينه.
وإن ضمن المشتري، رجع بالثمن على العدل؛ لأنه البائع له، ويرجع العدل به على الراهن؛ لأن العهدة عليه، وبه يصح الوفاء، إن وصل إلى المرتهن.(6/156)
المطلب التاسع ـ تسليم المرهون:
للمرتهن عند الجمهور غير الشافعية كما تبين حق الحبس الدائم للمرهون حتى يستوفي دينه، ليضطر المدين إلى تسديد دينه، لاسترداد المرهون، لحاجته إليه، والانتفاع به. وللمرتهن أيضاً عند حلول أجل الدين المطالبة بدينه، مع بقاء الرهن تحت يده (1) .
وعلى المرتهن تسليم المرهون لصاحبه إما بانتهاء الدين، أو بانتهاء عقد الرهن. وانتهاء الدين: يكون بأسباب كالإبراء من الدين أو هبته أو وفاء الدين، أو شراء سلعة من الراهن بالدين، أو إحالة الراهن المرتهن على غيره.
فإذا بقي المرهون في يد المرتهن بعدئذ، كان وديعة عند الشافعية والحنابلة (2) .
ويبقى وديعة عند أبي حنيفة إذا كان انتهاء الدين بالإبراء أو بالهبة؛ فإن كان بغيرهما كالوفاء بأدائه، وبشراء سلعة به من الراهن، أو بواسطة الإحالة، فيظل المرهون مضموناً استحساناً، كما كان قبل، فإذا هلك يهلك بالأقل من قيمته ومن الدين.
وسبب التفرقة بين الحالين أن الدين بالإبراء أو الهبة للمدين، يسقط نهائياً، فيزول ضمان الرهن. أما في الوفاء فلايسقط، وإنما يثبت في ذمة الدائن دين مثله، يمنع الدائن من المطالبة به، وتحدث المقاصة بين الدينين، وإذا ظل الدين قائماً في ذمة المدين، ظل الضمان به قائماً (3) .
وقال المالكية (4) : إذا كان الرهن مما يغاب عليه (يمكن إخفاؤه) كالحلي والكتب والثياب والسلاح، والسفن وقت جريها، لزم المرتهن أن يقوم برده عند انقضاء الدين، وإلا استمر ضامناً؛ لأن الرهن بعد الوفاء ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة عقد يتم لمنفعة المودع، وعقد الرهن يتم لمنفعة العاقدين جميعاً، فإذا طلب الراهن إبقاء المرهون بعد إيفاء الدين عند المرتهن، كان أمانة.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 198/8.
(2) المغني: /397، مغني المحتاج: 136/2.
(3) تكملة الفتح: 243/8، تبيين الحقائق: 96/6.
(4) الشرح الكبير: 253/3، القوانين الفقهية: ص 324.(6/157)
وانقضاء عقد الرهن أو انتهاؤه: يكون بأسباب كالإبراء والهبة والوفاء، أو بالفسخ قبل سقوط الدين وزواله. وقد ينتهي إذا تبين أن لا دين عند إنشاء الرهن، وسأبين تلك الأسباب.
فإذا رد المال المرهون إلى الراهن نتيجة لانتهاء عقد الرهن، فلا خلاف في أنه لا يبقى للرهن أثر في هذه الحال.
أما إن بقي المرهون عند المرتهن، سواء أكان هناك دين وانتهى، أم تبين أن لا دين، أم تصادق الراهن والمرتهن على أنه لم يكن دين عند الرهن، فهو أمانة عند الشافعية والحنابلة.
وكذلك هو أمانة عند المالكية إن تصادق الراهن والمرتهن على عدم وجود الدين عند الرهن.
أما الحنفية (1) فيرون في حالة التصادق هذه أن ضمان المرتهن يستمر إذا كان التصادق بعد هلاك الرهن. فإن كان التصادق والرهن قائم، ثم هلك، فاختلف الحنفية: فذهب بعضهم إلى أن الرهن يرتفع، ويصبح المال المرهون أمانة في يد المرتهن. وذهب آخرون إلى أن الضمان يستمر ما بقي المال المرهون في يد المرتهن، والرأي الأول أرجح.
وأما حالات غير التصادق، فكما بينت في حالة انتهاء الدين.
متى يتم تسليم المرهون؟ يسلم الراهن الدين أولاً، ثم يسلم المرتهن المرهون، كتسليم المبيع والثمن في البيع، يسلم الثمن أولاً، ثم يسلم المبيع؛ لأن حق المرتهن يتعين بتسلم الدين، وحق الراهن متعين في تسلم المرهون، فيتم التسليم على هذا الترتيب تحقيقاً للتسوية بين الراهن والمرتهن (2) .
وإذا سلم الراهن بعض الدين يظل المرهون كله رهناً بحاله على ما بقي من الدين باتفاق المذاهب الأربعة (3) ؛ لأن الرهن كله وثيقة بالدين كله، وهو محبوس بكل الحق، والحبس بالدين الذي هو موجب الرهن لا يتجزأ، فيكون محبوساً بكل جزء من الدين، لا ينفك منه شيء حتى يقضى جميع الدين، سواء أكان الرهن مما يمكن قسمته أم لا يمكن.
__________
(1) الدر المختار: 373/5 ومابعدها.
(2) تكملة الفتح: 198/8، 200.
(3) الدر المختار: 354/5، اللباب: 63/2 ومابعدها، البدائع: 153/6، تكملة الفتح: 200/8، بداية المجتهد: 272/2، القوانين الفقهية: ص 324، مغني المحتاج: 141/2، المغني: 361/4.(6/158)
مكان تسليم المرهون: قال الحنفية (1) : إما أن يكون للرهن حمل ومؤنة أو لا.
أـ فإن كان للرهن حمل ومؤنة، وطالب المرتهن بإيفاء دينه في غير البلد الذي تم فيه العقد، فإنه يؤدى دينه، ولا يكلف إحضار المرهون؛ لأنه يتطلب نفقة، وإنما يجب عليه فقط تسليم المرهون بمعنى التخلية بينه وبين الراهن، لا النقل من مكان إلى آخر؛ لأنه يتضرر به، ولم يلتزمه في العقد.
ب ـ وإن لم يكن للرهن حمل ومؤنة، يؤمر المرتهن بإحضار الرهن؛ لأن الأماكن كلها في حق تسليم ما لا حمل له ولا مؤنة، كمكان واحد، وعليه لا يشترط بيان مكان الإيفاء في الرهن وهذا مثل عقد السلم.
ويلاحظ من هذا التفصيل أن المرتهن يكلف بإحضار الرهن إذا كانت المطالبة بالدين في بلد العقد، سواء أكان الرهن محتاجاً لحمل ومؤنة أم لا.
لكن عقب ابن عابدين على هذا بأن فيه نظراً؛ لأن الواجب على المرتهن التخلية، لا النقل، وهذا المتبادر من كلام المؤلفين يخالف ما في البزازية حيث قال: إن لم يلحقه مؤنة في الإحضار يؤمر به، وإن كان مما يلحقه مؤنة، بأن كان في موضع آخر، لا يؤمر به.
__________
(1) تكملة الفتح: 198/8، الدر المختار ورد المحتار: 343/5 ومابعدها.(6/159)
أحكام الرهن الفاسد:
عرفنا مما سبق أن أهم أحكام الرهن الصحيح: هو اختصاص المرتهن بالرهن، دون سائر الغرماء، وحق حبسه وضمانه عند الحنفية.
واتفق أئمة المذاهب على أن الرهن غير الصحيح باطلاً أو فاسداً لا حكم له حال وجود المرهون، فلا يثبت للمرتهن حق الحبس، وللراهن أن يسترد المرهون منه، فإن منعه حتى هلك صار غاصباً، فيضمن مثله إن كان له مثل، وقيمته إن لم يكن له مثل، كضمان المغصوب.
وإن هلك المرهون المقبوض بيد المرتهن بناء على عقد غير صحيح، مثل: رهن المشاع عند الحنفية، فإنه يهلك عندهم (1) هلاك الرهن، أي بالأقل من قيمته ومن الدين، وهو الرأي الأصح. وقال الكرخي: إنه يهلك هلاك الأمانة؛ لأن الرهن إذا لم يصح، كان القبض قبض أمانة؛ لأنه قبض بإذن المالك، فأشبه قبض الوديعة.
ومن مات وله غرماء، فالمرتهن في الرهن الفاسد أحق به، كما في الرهن الصحيح.
والمالكية في الجملة كالحنفية، قالوا (2) : إذا قبض المرتهن المرهون بناء على عقد فاسد، فالمرتهن أحق بالرهن من سائر الغرماء، حتى يقبض حقه.
وإذا هلك المرهون في يد المرتهن بعقد فاسد، فحكم هلاكه مثل حكم هلاك المرهون فيما إذا كان العقد صحيحاً.
أما حق الاحتباس، فيظهر أنه ثابت للمرتهن بناء على ثبوت حق امتيازه، لكن ليس له بناء على عقد فاسد طلب المرهون وتسلمه من الراهن.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : حكم فاسد العقود حكم صحيحها في الضمان وعدمه؛ لأن العقد إن اقتضى صحيحه الضمان بعد التسليم، كالبيع والإعارة، ففاسده أولى، فالمبيع بعقد صحيح مضمون، فكذا المقبوض ببيع فاسد. وإن اقتضى العقد الصحيح عدم الضمان كالرهن، والهبة بلا ثواب، والعين المستأجرة، ففاسده كذلك؛ لأن واضع اليد أثبتها بيد مالكها، ولم يلتزم بالعقد ضماناً.
وعليه، إذا فسد الرهن كالمرهون المحرم، والمجهول، والمعدوم، وما لا يقدر على تسليمه، أوغير المعين، وقبضه المرتهن، فلا ضمان عليه إن تلف بيده؛ لأن الرهن الصحيح غير مضمون، ففاسده كذلك.
__________
(1) البدائع: 163/6، الدر المختار: 365/5، 374.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 237/3، 241، 247.
(3) مغني المحتاج: 137/2، كشاف القناع: 329/3، المغني: 381/4، 385.(6/160)
المبحث الرابع ـ نماء الرهن أو زوائده:
يشمل الرهن نماء المرهون ويتعلق الدين المرهون به بزوائد المرهون عند الفقهاء على تفصيل بينهم في التضييق والتوسع، ولكنهم متفقون على أن النماء ملك للراهن، لأنه مالك للأصل، وهذا نماء ملكه.
1 - قال الحنفية (1) : يدخل في الرهن كل زيادة متولدة من الأصل متصلة به كالثمر واللبن والصوف، أو منفصلة عنه كالولد، فيكون رهناً مع الأصل؛ لأنه تبع له، والرهن حق لازم، فيسري إليه.
ولا يدخل في الرهن الزيادة غير المتولدة، كالأجرة، وغلة الأرض، فلا تكون رهناً مع أصلها، وإنما هي للراهن خالصة، فلا يتعلق بها الدين، لأنها نتيجة تعاقد بين مالك الرهن وغيره، لا متولدة من المال، فكانت خالصة لمن استحقها بالعقد، وهو مذهب المالكية والشافعية أيضاً.
__________
(1) تكملة الفتح: 240/8، الدر المختار: 365/5، 370، تبيين الحقائق: 94/6، اللباب: 62/2، البدائع: 152/6.(6/161)
2 - وقال المالكية (1) : يدخل في الرهن كل زيادة متولدة متصلة لا تنفصل، كالسمن والجمال، أو منفصلة متناسلة كالولد والنتاج وفسيل النخيل أو الشجر؛ لأنه كولد الحيوان، ونحوه مما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، ويدخل أيضاً صوف الغنم إذا كان وقت الرهن قد تم على ظهرها تبعاً لها، وإلا لم يدخل.
أما ما لم يكن على خلقه المرهون وصورته، فلا يدخل في الرهن، سواء أكان متولداً عنه كثمر الشجر أو النخل واللبن، أم غير متولد ككراء الدار وسائر الغلات.
3 - وقال الشافعية (2) : يدخل في الرهن الزيادة المتصلة أي الزيادة الوصفية كالسمن والكبر والجمال ونمو الثمر، لأنها تتبع أصلها، لعدم تميزها عنه. ولا يدخل في الرهن، أي زيادة منفصلة أو نماء متميز، كثمرة وولد وصوف وشعر ولبن وبيض أو أجرة دار، لحديث أبي هريرة المتقدم: «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» والنماء من الغنم، فوجب أن يكون له. ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن رقبة المرهون، فلا يسري إلى النماء المتميز كالإجارة.
4 - وقال الحنابلة (3) : إن جميع نماء الرهن وغلاته، متصلاً أو منفصلاً، متولداً أو غير متولد، غلة أو غيرها، يكون رهناً في يد المرتهن، أو نائبه، وتباع مع الأصل، وفاء للدين إن دعت الحاجة إلى بيعه؛ لأن تعلق الدين بالمال المرهون يثبت فيه بعقد، فيدخل فيه النماء والمنافع، كما في البيع، ولأن النماء المنفصل متولد من عين مرهونة، فيكون حكمه حكم المتصل بها، فيسري إليه حكم الرهن.
والخلاصة: أن مذهب الحنابلة موسع، يلحق نماء الرهن وزياداته في الرهنية مطلقاً، ثم يليهم الحنفية الذين يلحقون بالرهن النماء المتولد المنفصل أو المتصل، دون غير المتولد، ثم يليهم المالكية الذين يلحقون بالرهن النماء المنفصل الذي ليس في معنى الغلة كالولد والفسيل والصوف التام وقت الرهن، دون المتولد المنفصل الذي فيه معنى الغلة. ثم يليهم الشافعية الذين يلحقون بالرهن الزيادة الوصفية فقط، ولا يدخل في الرهنية أي زيادة منفصلة.
__________
(1) الشرح الكبير: 244/3، القوانين الفقهية: ص 324، بداية المجتهد: 272/2.
(2) مغني المحتاج: 139/2، المهذب: 310/1 وما بعدها.
(3) المغني: /388 وما بعدها، كشاف القناع: 326/3.(6/162)
المبحث الخامس ـ الزيادة على الرهن أو على الدين المرهون به:
الزيادة في الرهن: بأن يضم الراهن إلى المرهون عيناً أخرى تصير معها رهناً بالدين المرهون به، كأن يستدين من شخص مئة، يرهن بها ثوباً، ثم يزيد الراهن عليه ثوباً آخر أو كتاباً، ليكون مع الأول رهناً بالمئة. وهي جائزة عند الجمهور؛ لأنها زيادة في التوثيق، وهو الغرض من الرهن.
وقال زفر: لا تجوز، لأنها تؤدي إلى الشيوع في الدين؛ لأنه لا بد للرهن الثاني من أن تكون له حصة من الدين، فيخرج من الرهن الأول بقدره من أن يكون رهناً، وهو شائع، والشيوع مفسد للرهن. ورد عليه بأن الشيوع في الدين غير مانع من صحة الرهن. ويقسم الدين على الأصل وعلى الزيادة بحسب قيمتها يوم القبض.
وأما الزيادة في الدين المرهون به: فهي أن يقترض الراهن من المرتهن قرضاً آخر على رهن واحد، كأن يقترض منه ألفاً ويرهنه سجادة، ثم يقترض منه ألفاً آخر على أن تكون السجادة رهناً بالألفين.
وللفقهاء رأيان فيها: أـ لا تجوز الزيادة في الدين عند أبي حنيفة ومحمد، والحنابلة، وفي قول للشافعي؛ لأنها تقتضي رهناً ثانياً، أو رهن مرهون، ولا يجوز رهن المرهون، لتعلق الدين الأول به كاملاً.
ب ـ وقال مالك وأبو يوسف، وأبو ثور والمزني وابن المنذر: تجوز الزيادة، لأنه لو زاده رهناً جاز، فكذلك إذا زاد في دين الرهن، ولأن الزيادة في الدين فسخ للرهن الأول، وإنشاء رهن جديد بالدينين جميعاً، وهو جائز اتفاقاً (1) .
المبحث السادس ـ انتهاء عقد الرهن:
ينتهي عقد الرهن بحالات كالإبراء والهبة ووفاء الدين ونحوها، وهي ما يأتي:
1ً - تسليم المرهون لصاحبه: ينتهي به الرهن عند الجمهور غير الشافعية؛ لأنه وثيقة بالدين، فإذا سلم المرهون، لم يعد الاستيثاق قائماً، فينتهي الرهن، كما ينتهي عند الجمهور بإعارة المرتهن المرهون بإذن المرتهن للراهن، أو لغيره بإذنه.
2ً - تسديد الدين كله: إذا وفى الراهن الدين المرهون به، انتهى الرهن.
__________
(1) تكملة الفتح: 241/8، الدر المختار: 372/5، تبيين الحقائق: 95/6، اللباب: 62/2، كشاف القناع: 309/3، المغني: 347/4 ومابعدها.(6/163)
3ً - البيع الجبري: الصادر من الراهن بأمر القاضي، أو من القاضي إذا أبى الراهن البيع، فإذا بيع المرهون وفِّي الدين من ثمنه، وزال الرهن.
أما البيع الاختياري الحاصل من الراهن بإذن المرتهن، فإن كان بعد حلول أجل الدين، تعلق الحق بثمنه. وإن كان قبل حلوله، تعلق الحق أيضاً عند
أبي حنيفة ومحمد بالثمن، فيصبح رهناً؛ لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن، فوجب أن يثبت حقه فيه، كما لو حل الدين.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يبطل الرهن ببيع المرهون بإذن المرتهن، ولم يكن على الراهن عوضه، ويبقى الدين بلا رهن (1) .
4ً - البراءة من الدين بأي وجه، ولو بحوالة المرتهن على مدين للراهن. ولو اعتاض المرتهن عن الدين عيناً أخرى غير الأولى، انفك الرهن (2) .
5ً - فسخ الرهن من قبل المرتهن، ولو بدون قبول الراهن؛ لأن الحق له، والرهن جائز غير لازم من جهته. ولا ينتهي الرهن بفسخه من الراهن، للزومه من جهته (3) .
ويشترط الحنفية لانفساخ الرهن بقول المرتهن رد المال المرهون إلى الراهن؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فكذا فسخه لا يتم إلا بالقبض، عن طريق رد المال المرهون إلى الراهن.
ويبطل الرهن عند المالكية بترك الرهن قبل القبض في يد الراهن حتى باعه؛ لأن تركه على هذا الوضع كتسليم المرتهن بالأمر، فصار في معنى الفسخ (4) . وكذلك ينتهي الرهن عندهم بإذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بعد أن سلمه له، وباعه فعلاً، ويبقى الدين بلا رهن.
6ً - يبطل الرهن عند المالكية (5) قبل قبضه بموت الراهن أو إفلاسه، أو قيام
__________
(1) المغني: 403/4، الشرح الكبير والدسوقي: 242/3.
(2) مغني المحتاج: 141/2.
(3) مغني المحتاج: 141/2.
(4) الشرح الكبير: 242/3 ومابعدها.
(5) الشرح الكبير: 241/3 ومابعدها.(6/164)
الغرماء بمطالبته بأداء الدين، أو برفع أمره إلى الحاكم يطلبون الحجر عليه، أو بمرضه أو بجنونه المتصلين بوفاته؛ لأن الرهن يلزم عندهم بمجرد الإيجاب والقبول.
ويبطل الرهن عند الحنفية بموت الراهن أو المرتهن قبل التسليم، ولا يبطل بإفلاس الراهن، ولا يبطل الرهن عند الشافعية والحنابلة بوفاة الراهن أو المرتهن، قبل التسليم، ولا بجنون أحدهما، ولا بإفلاس الراهن. أما بعد قبض المرهون فلا يبطل الرهن بالاتفاق بموت الراهن أو المرتهن، أو بإفلاس الراهن.
7ً - هلاك المرهون: ينتهي عقد الرهن باتفاق الفقهاء بهلاك المال المرهون، سواء عند الجمهور القائلين بأن المرهون أمانة غير مضمونة على المرتهن إلا بالتعدي أو التقصير، أو عند الحنفية القائلين بأن المرهون بالنسبة لماليته مضمون إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، لانعدام محل العقد.
8ً - التصرف بالمرهون بالإجارة أو بالهبة أو الصدقة: ينتهي الرهن إذا أقدم كل من الراهن أو المرتهن على إجارة الرهن أو هبته أو التصدق به أو بيعه لأجنبي بإذن صاحبه. كما ينقضي باستئجار المرتهن العين المرهونة من الراهن إذا جدد القبض بناء على الإجارة.
أما البيع من المرتهن للراهن فلا ينقضي به الرهن؛ لأن للمال المرهون خلفاً، هو الثمن، فيحل الثمن محل أصله في الرهنية (1) ، كما تبين في بحث التصرف بالرهن.
__________
(1) الدر المختار: 364/5.(6/165)
المبحث السابع ـ اختلاف الراهن والمرتهن:
هذا المبحث يتعلق بدور القاضي أو غيره في توزيع عبء الإثبات على الطريق المتنازعين في قضايا الرهن أو الدين المرهون به.
أـ إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق أو الدين المرهون به، فقال الراهن: رهنتك متاعي بألف، وقال المرتهن: بل بألفين، فالقول عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) : قول الراهن بيمينه؛ لأنه منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» (1) . والراهن هنا مدعى عليه، والمرتهن مدع فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة.
وقال المالكية: القول قول المرتهن، إلا فيما زاد على قيمة الرهن، فالقول قول الراهن؛ لأن المرتهن، وإن كان مدعياً، فله ههنا شبهة، بنقل اليمين إلى حيِّزه، وهو كون الرهن شاهداً له لأنه أكثر من قدر المرهون به. ومن أصول مالك: أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة.
وهذا لا يلزم عند الجمهور؛ لأنه قد يرهن الراهن الشيء، وقيمته ليست أكثر من المرهون فيه.
ولا خلاف في أنه إن اختلف المتراهنان في قدر الرهن، فقال الراهن: رهنتك هذا الشيء، فقال المرتهن: بل هو وشيء آخر، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر (2) .
__________
(1) رواه مسلم والبخاري عن ابن عباس. ورواه البيهقي بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (الأربعين النووية) .
(2) البدائع: 174/6، تكملة الفتح: 231/8، بداية المجتهد: 274/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 325، مغني المحتاج: 142/2، المهذب: 316/1 ومابعدها، المغني: 398/4 ومابعدها، كشاف القناع: 339/3.(6/166)
ب ـ إذا اختلف المتراهنان في تلف العين المرهونة، فقال المرتهن: هلكت، ولم يذكر سبباً، فالقول باتفاق أئمة المذاهب قول المرتهن بيمينه؛ لأنه أمين (1) .
والقول للمرتهن أيضاً إذا اختلفا في مقدار المرهون بعد هلاكه؛ لأنه غارم (2) .
فإن اختلفا في قدر قيمة المرهون يوم الرهن، أو في أصل الرهن، هل هو موجود أو لا، فالقول قول الراهن بيمينه (3) ، كالاختلاف في قدر الرهن.
ج ـ إن اختلف المتراهنان في قبض المرهون، هل حدث أو لا، فالقول عند الحنفية والشافعية للراهن بيمينه، سواء أكان في يد الراهن أم في يد المرتهن؛ لأن الأصل عدم لزوم الرهن، وعدم إذنه في القبض.
وقال الحنابلة: القول قول صاحب اليد في حالة الاختلاف في القبض، فإن كان بيد الراهن فالقول له؛ لأن الأصل عدم القبض، وإن كان بيد المرتهن فالقول له؛ لأن الظاهر قبضه بحق. فإن اختلفا في الإذن في القبض، فقال الراهن: أخذت المرهون بغير إذني، فلم يلزم، وقال المرتهن: بل أخذته بإذنك، وهو الآن في يد المرتهن، فالقول للراهن؛ لأنه منكر (4) .
د ـ إن اختلفا في وقت هلاك الرهن، فقال المرتهن: هلك في وقت العمل، وقال الراهن: هلك في غير وقت العمل، فالقول للمرتهن عند الحنفية؛ لأنه منكر، والبينة للراهن (5) .
هـ ـ قال الحنفية: إن اختلفا في نوع المرهون، فقال الراهن: الرهن غير هذا، وقال المرتهن: بل هذا هو الذي رهنته عندي، فالقول للمرتهن؛ لأنه القابض (6) . والقول للمرتهن أيضاً إن حدث اختلاف في مقدار ثمن بيع المرهون، أو في بيعه بثمن المثل أم لا؛ لأن المرهون خرج عن كونه رهناً بالمبيع، وتحول الضمان إلى الثمن، والراهن يدعي زيادة الضمان، والمرتهن ينكر، فكان القول قوله (7) .
وـ قال المالكية (8) : إذا تنازع الراهن والمرتهن في كيفية وضع الرهن، فقال الراهن مثلاً: يوضع على يد أمين، وقال المرتهن: يوضع عندي، أو بالعكس، فالقول قول من طلب وضعه عند الأمين، وهو الراهن.
__________
(1) البدائع: 154/6، بداية المجتهد: 275/2، الشرح الكبير: 260/3، مغني المحتاج: 138/2، المهذب: 319/1، كشاف القناع: 340/3.
(2) المراجع السابقة، المغني: 398/4، البدائع: 174/6.
(3) البدائع: 174/6، مغني المحتاج: 142/2.
(4) المراجع السابقة. كشاف القناع: 321/3.
(5) الدر المختار: 364/5.
(6) الدر المختار: 347/5.
(7) البدائع: 174/6.
(8) الشرح الكبير: 244/3.(6/167)
الفَصْلُ الثَّالث عَشَر: الصُّلح
خطة الموضوع:
الكلام عن عقد الصلح في المباحث الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته وأنواعه وركنه.
المبحث الثاني ـ شروط الصلح.
المبحث الثالث ـ حكم الصلح.
المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان. وأبدأ بأولها:
المبحث الأول ـ تعريف الصلح ومشروعيته وأنواعه وركنه:
تعريف الصلح: الصلح لغة: قطع النزاع. وشرعاً: عقد وضع لرفع المنازعة (1) . وبعبارة أخرى عند الحنابلة: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين. ولا يقع غالباً إلا بالأقل من المدعى به على سبيل المداراة لبلوغ الغرض (2) .
والمقصود من الكلام هنا هو الصلح في المعاملات بين الناس، لا الصلح بين المسلمين والكفار، ولا الصلح بين الإمام والبغاة، ولا الصلح بين الزوجين عند الشقاق.
مشروعيته: الصلح بين الناس مندوب، ولا بأس بأن يشير الحاكم بالصلح على الخصوم، ولا يجبرهم عليه، ولا يلح فيه إلحاحاً يشبه الإلزام، وإنما يندبهم إلى الصلح ما لم يتبين له أن الحق
__________
(1) نتائج الأفكار: تكملة فتح القدير: 23/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 29/5، الدر المختار: 493/4، مغني المحتاج: 177/2، حاشية البجيرمي على الخطيب: 70/2.
(2) المغني: 476/4، غاية المنتهى: 118/2.(6/168)
لأحدهما، فإن تبين له أنفذ الحكم لصاحب الحق. والصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع (1) :
أما الكتاب: فقوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] الوارد عقب ذكر مشروعية الصلح بين الزوجين. قال تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً، والصلح خير} [النساء:128/4] .
وأما السنة: فهو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرفوعاً، وموقوفاً على عمر، وهو: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» رواه ابن حبان وصححه (2) . مثال ما أحل حراماً: الصلح على حل الخمر ونحوه أو على أكثر من الدراهم المدعاة، ومثال ما حرم حلالاً: الصلح على ألا يطأ الزوج الضَّرة وهي امرأته الأخرى، أو يصالح زوجته على ألا يطلقها ونحو ذلك.
__________
(1) المبسوط: 123/20، مغني المحتاج: 177/2، المغني: 476/4، كشاف القناع: 378/3، القوانين الفقهية: ص 337.
(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد سبق تخريجه في بحث الوديعة عن أبي هريرة عند أبي داود، والحاكم وابن حبان، وعن عمرو بن عوف عند الترمذي وابن ماجه والحاكم (راجع نصب الراية: 112/4. التلخيص الحبير: ص 249، نيل الأوطار: 254/5) .(6/169)
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الصلح، لكونه من أكثر العقود فائدة، لما فيه من قطع النزاع والشقاق (1) . ولا يقع الصلح في الغالب إلا من رتبة لما هو دونها، على سبيل المداراة للوصول إلى بعض الحق.
وحكمته: الحفاظ على المودة والألفة بين المسلمين، ونبذ التفرقة واستئصال أسبابها المؤدية إليها. ثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولاتقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً» وقال أيضاً: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ويجوز الكذب في الصلح لإزالة النزاع وتحقيق الوفاق، أخرج البخاري ومسلم حديث «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيَنمي (2) خيراً ويقول خيرًا» .
أنواع الصلح: يكون الصلح بين مسلمين وأهل حرب بعقد الذمة أو الهدنة أو الأمان، وبين أهل بغي وأهل عدل، وبين زوجين إذا خيف الشقاق بينهما أو خافت المرأة إعراض زوجها عنها، وبين متخاصمين في غير مال، وبين متخاصمين في المال، وهذا هو محل البحث هنا، وقسمه المالكية قسمين: صلح إسقاط وإبراء وهو جائز مطلقاً، وصلح على عوض، وهذا يجوز إلا إن أدى إلى حرام، وحكمه حكم البيع. والصلح في الأموال قسمان: أحدهما ـ أن يجري بين المدعي والمدعى عليه. وثانيهما ـ أن يجري بين المدعي والأجنبي أي الشخص الآخر غير المدعى عليه.
وكل واحد من هذين القسمين أنواع ثلاثة:
1 - صلح مع إقرار المدعى عليه: وهو أن يدعي شخص على شخص شيئاً، فيقر به المدعى عليه، ثم يصالح المدعى عنه على عين غير المدعاة كدار، أو على منفعة لغير العين المدعاة، كخدمة في مكان مدة معينة أو سكنى دار أو على بعض العين المدعاة كربع الدار، وهو جائز باتفاق المسلمين (3) .
وهذا الصلح إن وقع عن مال بمال، أي إن وقع على عين غير المدعاة كثوب بدلاً عن بساط، فهو كالبيع لوجود معنى البيع فيه ـ وهو مبادلة المال بالمال ـ في حق المتعاقدين بتراضيهما. فتجري فيه الشفعة إذا كان عقاراً، ويرد بالعيب، ويثبت فيه خيار الشرط، ويفسده جهالة العوض أو البدل، لأنها هي المفضية إلى المنازعة دون جهالة المصالح عنه؛ لأنه يسقط بالصلح. ويشترط القدرة على تسليم البدل.
وإن وقع هذا الصلح عن مال بمنافع كسكنى دار، فله حكم الإجارة لوجود معنى الإجارة، وهو تمليك المنافع بمال. والاعتبار في العقود لمعانيها، فيشترط التوقيت فيها، ويبطل العقد بموت أحد العاقدين في أثناء مدة الإجارة لأنه إجارة.
__________
(1) لذلك أبيح فيه الكذب.
(2) ينمي خيراً: يبلّغ الحديث وينقله بين المتخاصمين.
(3) المبسوط: 139/20، البدائع: 40/6، تكملة فتح القدير: 24/7، تبيين الحقائق: 30/5، بداية المجتهد: 290/2، الشرح الكبير: 309/3، مغني المحتاج: 177/2، المهذب: 333/1، المغني: 482/4، غاية المنتهى: 118/2، الكتاب مع اللباب: 163/2، القوانين الفقهية: ص 238.(6/170)
2 - صلح مع إنكار المدعى عليه: وهو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه، كأن يدعي شخص على آخر شيئاً، فينكره المدعى عليه، ثم يصالح عنه ببعض الحق المدعى به، وهذا هو الغالب في منازعات الناس، وهو جائز عند المالكية والحنفية والحنابلة، وغير جائز عند الشافعية وابن أبي ليلى (1) . وجوازه عند القائلين به مشروط بأن يكون المدعي معتقداً أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، فيدفع إلى المدعي شيئاً قطعاً للخصومة (2) .
وصورة الصلح على الإنكار: صالح فلان فلاناً على جميع الدار الفلانية التي ادعى المصالح الأول على الثاني استحقاقها من وجه شرعي، وأنكر المدعى عليه الاستحقاق، وطلب من المدعى عليه يمينه على استحقاقها، فرأى أن يصالحه عن هذه الدعوى بمال، افتداء ليمينه، ودفعاً للخصومة، وقطعاً للمنازعة، فاصطلحا عن المدعى به، مع الإنكار لصحة الدعوى، واعتقاده بطلانها،
__________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: ص 179 ومابعدها، المغني: ص 476.
(2) المغني: 478/4، غاية المنتهى: 120/2.(6/171)
وإصراره على الإنكار إلى حين هذا الصلح وبعده، ودفع إليه مبلغ كذا وكذا، فقبضه منه قبضاً شرعياً ... إلخ (1) .
استدل الفريق الأول وهم الجمهور بعموم قوله تعالى: {والصلح خير} [النساء:128/4] وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» فدل هذا العموم على أن كل صلح مشروع إلا ما خص بدليل، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» وقال أبو حنيفة رحمه الله: «أجوز مايكون الصلح على الإنكار» أي لأنه يحقق الحاجة إلى قطع الخصومة والمنازعة.
ودليل الشافعية وابن أبي ليلى: هو القياس على ما لو أنكر الزوج الخلع، ثم تصالح مع زوجته على شيء، فلا يصح، ودليلهم أيضاً أن المدعي إن كان كاذباً في دعواه، فقد استحل من المدعى عليه ماله، وهو حرام عليه. وإن كان صادقاً في دعواه فقد عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة، كما لو باع مال غيره، ولأن الصلح عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل، كالصلح على حد القذف. وفي الملة: يكون ما يأخذه المدعي أكلاً للمال بالباطل من غير عوض فدخل هذا الصلح في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» ولو بذل المدعى عليه المال لقطع الخصومة يكون البذل رشوة.
وهذا مناقش، ولا يسلم الفريق الأول بدخول الصلح مع الإنكار في مفهوم هذا الحديث؛ لأن الممنوع أن يحل الصلح شيئاً محرماً مع بقائه على تحريمه، كما لو تم الصلح على استرقاق حر أو إحلال بُضْع (فرج) محرم، أو تم الصلح بخمر أو خنزير، ثم إن للمدعي أن يأخذ حقه الثابت له بأي طريق.
__________
(1) الإفصاح: 174/1.(6/172)
وأما المدعى عليه فإنه يدفع ادعاء المدعي لدفع المسؤولية عنه، ولإنهاء النزاع ولصيانة نفسه من التبذل وحضور مجلس الحاكم، فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم هذا، ويرون أن دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم، والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم، والمدعي يأخذ المبذول عوضاً عن حقه الثابت له، فلا يمنعه الشرع منه أيضاً، سواء أكان المأخوذ من جنس حقه، أم من غير جنسه بقدر حقه أو دونه.
3 - الصلح مع سكوت المدعى عليه: وهو ألا يقر المدعى عليه ولا ينكر، كأن يدعي شخص شيئاً على شخص آخر فيسكت من غير إقرار ولا إنكار، ثم يصالح عنه، وهو جائز عند الجمهور، ومنهم ابن أبي ليلى، وغير جائز عند الشافعية، ودليل كل فريق: هو ما ذكر في الصلح عن إنكار، وقد قرر الشافعية أن الساكت منكر حكماً، فيعامل معاملة المنكر (1) .
والخلاصة: إن الصلح بأنواعه الثلاثة السابقة جائز عند الحنفية بحيث يثبت الملك للمدعي في بدل الصلح، ويزول حق المدعى عليه في استرداد شيء؛ لأن الصلح سبب لرفع التنازع المحظور، قال تعالى: {ولا تنازعوا} [الأنفال:46/8] فكان مشروعاً. والصلح عن السكوت أو الإنكار عند الحنفية: هو في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة؛ لأنه في زعمه أنه مالك لما في يده، وفي حق
__________
(1) المراجع السابقة.(6/173)
المدعي بمعنى المعاوضة؛ لأنه في زعمه يأخذ عوضاً من حقه، فيعامل كل طرف على حسب معتقده (1) .
أقسام الصلح عند الشافعية: قسم الشافعية (2) الصلح إلى قسمين أذكرهما هنا لكثرة التفريعات:
أحدهما ـ الصلح الذي يجري بين المتداعيين: وهو الصلح الذي يجري بين المدعي والمدعى عليه، وهو نوعان:
1 ً - صلح على إقرار: وهو أن يدعي شخص على آخر حقاً من دين أوعين، فيقر المدعى عليه بهذا الحق، ثم يطلب المصالحة عن ذلك. وهذا جائز بالاتفاق كما تقدم.
أـ وهذا إما أن يكون صلحاً على عين: كأن يتصالحا على شيء معين بذاته من دار أو متاع أو سلعة أو دابة أو سيارة مثلاً. فإن جرى على عين غير المدعاة، كما إذا ادعى عليه داراً، فأقر له بها وصالحه عنه بمعين كثوب، فهو بيع للعين المدعاة من المدعي للمدعى عليه، بلفظ الصلح، ويسمى (صلح المعاوضة) وتثبت فيه أحكام البيع كالشفعة والرد بالعيب ومنع التصرف في المصالح عليه قبل قبضه. واشتراط التقابض في المصالح عنه والمصالح عليه إن اتفقا في علة الربا، وغير ذلك من أحكام البيع كالخيارات، وإفساده بالشروط المفسدة، وتحريم الغرر وإفساده به وبالجهل.
وإن جرى الصلح من العين المدعاة على منفعة عين أخرى لغير العين المدعاة، كأن صالحه عن الدار على استعمال سيارته مثلاً سنة معلومة، فالعقد إجارة، تثبت فيه أحكامها؛ لأن معنى الإجارة قائم فيه.
وإن جرى الصلح على منفعة العين المدعاة نفسها، كأن صالحه على أن يسكن الدار المدعاة مثلاً مدة خمس سنوات، ثم يردها إليه، فهو إعارة، تثبت فيه أحكامها؛ لأنه في معناها.
وإن جرى الصلح على بعض العين المدعاة، كأن يصالحه على ربع السيارة المدعاة، فهو هبة من المدعي لبعضها الباقي لصاحب اليد عليها وهو المدعى عليه، فتثبت أحكامها فيه، لأنه في معناها، كاشتراط قبول المدعى عليه ونحو ذلك، ويسمى هذا صلح الحطيطة؛ لأن صاحب الحق قد حط جزءاً من حقه للمدعى عليه.
ب ـ وإما أن يكون الصلح عن إقرار صلحاً عن الدين: كأن يدعي شخص على آخر مبلغاً من المال كألف دينار، فيقر المدعى عليه به، ثم يتصالحان عنه، ويصح هذا الصلح بلفظ الصلح أو البيع أو الإبراء أو الحط أو الإجارة.
ويشترط للصلح عن الدين: أن يجوز الاعتياض عنه على غيره من عين أو دين أو منفعة، فلا يصح الصلح عن دين لا يصح الاعتياض عنه كدين السلَم.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 164/2.
(2) مغني المحتاج: 177/2-182.(6/174)
والدليل على جواز الصلح عن بعض الدين وهو صلح الحطيطة: ما أخرجه البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه: «أنه تقاضى (1) عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه ديناً كان له عليه، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى كشف سَجْف حُجْرته (2) ، فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده: أن ضعِ الشطر، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قم فاقضه» .
2 ً - الصلح على الإنكار أو السكوت من المدعى عليه: كأن ادعى شخص على آخر شيئاً فأنكره المدعى عليه أو سكت، ثم صالح عنه. فإن جرى الصلح على نفس المدَّعى به، كأن يدعي عليه داراً، فيصالحه عليها، بأن تجعل للمدّعي أو للمدعى عليه، فهو صلح باطل في الصورتين عند الشافعية، خلافاً للأئمة الثلاثة، ويبطل الصلح أيضاً في الأصح إن جرى على بعض الشيء المدعى به. وإنما بطل هذا الصلح؛ لأن المدعي إن كان كاذباً، فقد استحل من المدعى عليه ماله، وهو حرام، وإن كان صادقاً، فقد حرم عليه ماله الحلال، فدخل في قوله صلّى الله عليه وسلم: «إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرم حلالاً» .
القسم الثاني ـ الصلح بين المدعي والأجنبي: كأن يدعي شخص حقاً على آخر، فيأتي شخص آخر غير المدعى عليه، ويصالح المدعي عما ادعاه.
وله صور أربع:
1 - أن يدعي الأجنبي الوكالة عن المدعى عليه: كأن يقول: وكلني المدعي عليه في الصلح عن المدعى به، وهو مقر لك به في الظاهر، أو فيما بيني وبينه، ولم يظهره خوفاً من أخذ المالك له، فيكون الصلح صحيحاً بينهما؛ لأن ادعاء الإنسان الوكالة في المعاملات مقبولة.
__________
(1) تقاضى: طالب بالوفاء.
(2) سجف حجرته: بفتح السين وكسرها ستر باب غرفته.(6/175)
2 - أن يصالح الأجنبي عن العين لنفسه بعين ماله أو بدين في ذمته: كأن يقول: إن المدعى عليه مقر لك بالمدّعى به ونحو ذلك، وأنا أصالحك عنه على كذا، يكون الصلح صحيحاً أيضاً، وكأن الأجنبي اشتراه بلفظ الشراء.
3 - أن يكون المدعى عليه منكراً ويقول الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لأنك صادق عندي، فصالحني لنفسي، فهو في حكم شراء المغصوب من الغاصب، فإن كان قادراً على انتزاعه من يد المدعى عليه، فيصح الصلح، وإن لم يكن قادراً على ذلك فلا يصح.
4 - أن يكون المدعى عليه منكراً ولم يقل الأجنبي: إن المدعى عليه مبطل في إنكاره، وصالح المدعي عن الحق المدعى به لنفسه أو للمدّعى عليه، لم يصح الصلح ولغا، لأنه اشترى منه ما لم يثبت ملكه له.
ما يتضمنه الصلح من العقود: يتضمن الصلح أحد معان ستة هي ما يأتي: (1)
1 - صلح بمعنى البيع: وهو أن يدعي شيئاً في يد رجل، فيصالح عنه على دراهم أو دنانير، أي أن الصلح تم على عين غير المدعاة، وكان عوض الصلح ذهباً أو فضة، فهو بيع بلفظ الصلح ويسمى صلح المعاوضة.
2 - صلح بمعنى الهبة: وهو أن يدعي الرجل عيناً في يد رجل، ثم يصالح عنها على بعضها، فيكون الباقي هبة.
3 - صلح بمعنى الإجارة: وهو أن يجري الصلح من العين المدعاة على منفعة لغير العين المدعاة، كخدمة مدة معلومة، وسكنى في دار معينة.
4 - صلح بمعنى الإعارة: وهو أن يصالح على منفعة العين المدعاة، فإن عين مدة فإعارة مؤقتة وإلا فمطلقة.
5 - صلح بمعنى الإبراء والحطيطة: وهو أن يدعي دراهم أو دنانير في ذمة رجل، فيصالح منها على بعضها، ويبرئ عن البعض الأخر، كأبرأتك من خمس مئة من الألف الذي لي عليك أو نحوها.
6 - صلح بمعنى السَّلَم: وهو أن يصالح عن شيء بعوض موصوف في الذمة كثوب موصوف بصفة السلم.
__________
(1) مغني المحتاج: 177/2-179، الإفصاح: 169/1 ومابعدها.(6/176)
ركن الصلح: ركن الصلح عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول، وهو أن يقول المدعى عليه: صالحتك من كذا على كذا، أو من دعواك كذا على كذا. ويقول الآخر: قبلت أو رضيت، أو ما يدل على قبوله ورضاه، فإذا وجد الإيجاب والقبول تم عقد الصلح (1) . وأركان الصلح عند الجمهور أربعة: عاقدان (متصالحان) وصيغة (إيجاب وقبول) ومصطلح عنه (محل النزاع) ومصطلح عليه (بدل الصلح) .
المبحث الثاني ـ شروط الصلح
يشترط في عقد الصلح شروط تتعلق إما بالصيغة أو بالمصالح أو بالمصالح عليه أو بالمصالح عنه.
الصيغة: يشترط في الصلح كونه بإيجاب وقبول من المتصالحين، بأن يقول أحدهما: صالحتك على كذا بكذا، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت أو صالحت. ويصح الصلح في بعض أنواعه بلفظ الإبراء والحط ونحوهما.
شروط المصالح: يشترط في المصالح شروط هي ما يأتي (2) :
1 - أن يكون عاقلاً: فلا يصح صلح المجنون والصبي الذي لا يعقل، لانعدام أهلية التصرف بانعدام العقل، ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح صلح الصبي المأذون في التصرف إذا كان له فيه نفع ظاهر، أو لا يكون له فيه ضرر ظاهر. ويشترط البلوغ عند الشافعية، فلا يصح الصلح من الصبي وإن كان مميزاً، لأن تصرفاته غير معتبرة شرعاً.
2 - ألا يكون المصالح بالصلح على الصغير مضراً به مضرة ظاهرة: سواء أكان الصغير مدعى عليه أم كان وليه مدعياً له.
فإذا ادعى إنسان على صبي ديناً فصالح أبوه مما ادعي به على مال الصغير: فإن كان للمدعي بينة وكان ما أعطاه الأب من المال مثل الحق المدعى به، أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها، فالصلح جائز؛ لأن الصلح في هذه الصورة فيه معنى المعاوضة، والأب يملك المعاوضة من مال الصغير بالغبن اليسير.
__________
(1) البدائع: 40/6، تكملة فتح القدير: 23/7، الدر المختار: 493/4.
(2) البدائع: 40/6 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 493/4 ومابعدها.(6/177)
وإن لم تكن للمدعي بينة لا يجوز الصلح؛ لأن الصلح حينئذ يقع تبرعاً بمال الصغير، والتبرع ضرر محض، فلا يملكه الأب، فإن صالح الأب من مال نفسه جاز، لأنه لم يضر الصغير، وإنما نفعه حيث أنهى أمر الخصومة أو الدعوى عنه.
وإذا ادعى أبو الصغير على إنسان ديناً للصغير، فصالح المدعى عليه على أن يحط بعضه عنه ويأخذ الباقي: فإن كان للأب بينة على المدعى به كسند مثلاً فلا يجوز الصلح؛ لأن الحط منه تبرع من مال الصغير، والأب لا يملك ذلك. وإن صالحه على مثل قيمة الشيء، أو نقص منه شيئاً يسيراً جاز الصلح؛ لأنه في هذه الصورة بمعنى البيع، وهو يملك البيع، فيملك الصلح.
3 - أن يكون المصالح عن الصغير ممن يملك التصرف في ماله، كالأب والجد والوصي؛ لأن الصلح تصرف في المال، فيختص بمن يملك التصرف فيه.
4 - ألا يكون المصالح مرتداً: وهذا شرط عند أبي حنيفة بناء على أن القاعدة عنده في تصرفات المرتد هي أنها موقوفة. وأما عند الصاحبين فلا يشترط هذا الشرط بناء على القاعدة المقررة عندهما: وهي أن تصرفات المرتد نافذة. وأما المرتدة فصلحها جائز بلا خلاف عندهم.
شروط المصالح عليه: يشترط في بدل الصلح الذي يتم عليه العقد شروط هي ما يلي:
1 - أن يكون المصالح عليه مالاً (1) : فلا يصح الصلح على الخمر والميتة والدم وصيد الحرم والإحرام ونحوها مما ليس بمال؛ لأن في الصلح معنى المعاوضة، فما لا يصلح عوضاً في البيوع لا يصلح بدل الصلح.
ولا فرق في المال المصالح عليه بين أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة؛ لأن العوض في المعاوضات قد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، وقد يكون منفعة، إلا أنه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعض. وهذا الموضوع يحتاج إلى البحث والتفصيل.
__________
(1) البدائع: 42/6، مجمع الضمانات: ص 390.(6/178)
قال الحنفية: إن المدعى به في الدعوى إما أن يكون عيناً: وهو ما يحتمل التعيين جنساً ونوعاً وقدراً وصفة واستحقاقاً كالعروض (الأمتعة) من الثياب، والعقار من الأرضين والدور، والحيوان من الدواب، والمكيل من الحنطة والشعير، والموزون من الحديد والنحاس ونحوها.
وإما أن يكون ديناً: وهو ما لا يحتمل التعيين كالنقود والمكيلات والموزونات الموصوفة في الذمة والثياب والحيوانات الموصوفة في الذمة.
وإما أن يكون منفعة كسكنى دار معينة.
وإما أن يكون حقاً ليس بعين ولا دين ولا منفعة، كالقصاص والتعزير.
وبدل الصلح: إما أن يكون عيناً أو ديناً أو منفعة، والصلح إما أن يكون عن إقرار المدعى عليه أو عن إنكاره، أو عن سكوته كما عرفنا، وهنا بيان حكم كل حالة.
فإن كان المدعى به عيناً والصلح عن إقرار: فإن هذا الصلح يجوز، سواء أكان بدل الصلح عيناً أو ديناً إذا كان معلوم القدر والصفة؛ لأن هذا الصلح في معنى البيع من الجانبين، فكان بدل الصلح في معنى الثمن، وهذه الأشياء تصلح ثمناً في البيوع عيناً كانت أم ديناً.
فإن كان بدل الصلح عيناً، قائماً، معيناً، مملوكاً، فيجوز الصلح سواء أكانت العين مكيلة أم موزونة، أم غيرهما من العروض والحيوان.
وإن كان بدل الصلح ديناً، فإن كان شيئاً من المكيل والموزون معلوم القدر والصفة يجوز الصلح، كما في البيع؛ لأن هذه الأشياء تصلح ثمناً.
وإن كان بدل الصلح ثياباً موصوفة في الذمة: فلا يجوز الصلح، ما لم تتوافر فيه جميع شرائط السلم التي عرفناها في عقد السلم، كبيان القدر والوصف والأجل؛ لأن الثياب لا تثبت ديناً إلا بشرائط السلم. وهذا بخلاف المكيل والموزون فإنهما يثبتان في الذمة مطلقاً في المعاوضات، فيصلح كل منهما ثمناً من غير ذكر أجل، ولا يشترط قبضهما في المجلس.(6/179)
وإن كان البدل حيواناً موصوفاً في الذمة: فلا يجوز الصلح؛ لأنه لا يصير أصلاً ديناً ثابتاً في الذمة في مقابلة مال بمال، فلا يصلح ثمناً.
وإن كان المدعى به ديناً والصلح عن إقرار:
أـ فإن كان دراهم أو دنانير فصالح منها، فلا يخلو الأمر من إحدى حالتين: إما أن يصالح منها على خلاف جنسها أو على جنسها.
ففي الحالة الأولى: إن كان بدل الصلح عين مال معلوم جاز الصلح، ويكون العقد بمنزلة بيع الدين بالعين، وإن كان بدل الصلح ديناً من الدراهم والدنانير، لايجوز الصلح، حتى لا يؤدي الاتفاق إلى بيع الدين بالدين.
وفي الحالة الثانية أي (الصلح على جنس الدين) كأن صالح من دراهم على دراهم: فإن صالح على مثل حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من ألف جياد على ألف جياد، فلا شك في جواز هذا الصلح؛ لأن المدعي استوفى عين حقه.
وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الجياد على خمس مئة رديئة يجوز الصلح أيضاً، ويصير المدعي مستوفياً بعض حقه، ومبرئاً المدعى عليه من الباقي.
وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة، مثل أن يصالح من الألف الرديئة على ألف وخمس مئة جيدة لا يجوز الصلح؛ لأنه ربا في هذه الحالة؛ لأن القاعدة المقررة في هذه الحالات كلها هي: أن الصلح متى وقع على جنس ما هو المستحق بعقد المداينة يعتبر استيفاء من المدعي لحقه، فإذا تعذر جعله استيفاء يعتبر معاوضة، فتطبق شروط المعاوضة (1) .
وفي الحالة الأخيرة يعتبر العقد معاوضة؛ لأنه بعكس الحالة التي سبقتها؛ فإنه يتعذر اعتبار المدعي مستوفياً بعض حقه ومسقطاً البعض الآخر.
__________
(1) تكملة فتج القدير: 41/7، المبسوط: 27/21، تبيين الحقائق: 41/5، الدر المختار: 500/4.(6/180)
وعلى هذا: إذا صالح على أكثر من حقه صفة لا قدراً بأن صالح من ألف رديئة على ألف جيدة، جاز الصلح، ويشترط تطبيق شروط عقد الصرف حينئذ، ومنها الحلول أو التقابض، فإذا وجد التقابض وهما في مجلس واحد جاز؛ لأن الجودة لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها. وإن افترقا ولم يتم القبض في المجلس بطل العقد، لأن هذا عقد صرف.
وإذا صالح على أكثر من حقه صفة وأقل منه قدراً بأن صالح من ألف درهم رديئة على خمس مئة جيدة، لا يجوز الصلح في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن الصلح من الرديء على الجيد اعتياض عن صفة الجودة، وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، للقاعدة الشرعية المروية حديثاً: «جيدها ورديئها سواء» (1) والعقد هنا عقد صرف، وليس استيفاء للحق؛ لأن مستحق الرديء لا يستحق الجيد، وإذا كان العقد صرفاً فإن من المقرر أن بيع ألف درهم رديئة بخمس مئة جيدة لا يجوز لأنه ربا.
والخلاصة: أن الصلح متى وقع على أقل من جنس حق المدعي من الدراهم والدنانير يعد استيفاء لبعض الحق، وإبراء عن الباقي. ومتى وقع على أكثر من جنس حقه منها، أو وقع على جنس آخر من دين أو عين يعتبر معاوضة (2) .
وبناء عليه: إذا صالح المدعي من الدين الحال على الدين المؤجل وهما في القدر سواء، كأن يصالح من ألف حالَّة على ألف مؤجلة، جاز الصلح، ويكون
__________
(1) قال الحافظ الزيلعي عن هذا الحديث: غريب. ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفض، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» أخرجه مسلم (راجع نصب الراية: 37/4) .
(2) البدائع: 44/6، تبيين الحقائق: 42/5، الدر المختار: 500/4.(6/181)
هذا تأجيلاً للدين، ولو كان الصلح على العكس من الحالة السابقة: يجوز أيضاً، ويكون استيفاء من المدعي لحقه، ويصير المدعى عليه تاركاً حقه في تأجيل الدين.
ولو كان الدين مؤجلاً، فصالح صاحب الدين على بعضه معجلاً، كأن يصالح من الألف المؤجلة على خمس مئة معجلة: لا يجوز الصلح؛ لأن صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل، فلا يمكن أن يجعل هذا استيفاء للحق، فصار التعاقد معاوضة عن الأجل، فلا يجوز؛ لأن الأجل ليس بمال، وبيع خمس مئة بألف لا يجوز (1) .
أما لو كان الدين معجل الوفاء، فعين الدائن وقت الأداء، كأن كان له على المدين ألف ليرة حل أداؤها بحكم عقد المداينة، فقال له: (صالحتك على خمس مئة على أن تعطيها اليوم أو على أن تعجلها اليوم) فإن أعطاه في نفس اليوم برئ عن خمس مئة باتفاق الحنفية. وإن لم يعطه حتى مضى اليوم بطل الصلح وعادت الألف عليه كما كانت عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: يمضي الصلح ويبرأ عن الخمس مئة ويبقى عليه خمس مئة فقط.
وجه قول أبي يوسف: أن هذا الصلح تضمن تعليق البراءة عن بعض الدين بشرط تعجيل البعض الآخر، والبراءة لا يصح تعليقها بالشروط، فإذا لم يوجد الوفاء بالتعجيل لم ينفسخ العقد بدون شرط الفسخ صراحة، ولم يوجد شرط الفسخ، فبقي الحط عن بعض الدين صحيحاً.
ووجه قول أبي حنيفة ومحمد: هو أن شرط تعجيل بعض الدين هو شرط لانفساخ العقد عند عدم التعجيل، وهو كأنه نص صريح على شرط الفسخ، كما قال شخص لغيره: (أبيعك هذا المتاع بألف ليرة على أن تعجلها اليوم، فإن لم
__________
(1) تكملة فتح القدير: 42/7.(6/182)
تعجلها فلا بيع بيننا) فالبيع في هذه الصورة جائز؛ لأن شرط التعجيل شرط في الفسخ، لا في العقد، فكذا هذا في الصورة المختلف فيها؛ لأن المفهوم ضمناً أو دلالة كالمفهوم صراحة، فصارت الصورة كأن المصالح قال: (فإن لم تعجل فلا صلح بيننا) .
يفهم منه أن الحنفية متفقون على أن الدائن إذا قال: (أصالحك عن الألف التي لي عليك على خمس مئة تعجلها اليوم، فإن لم تعجلها فالألف عليك) ولم يعجلها اليوم، فالصلح باطل، وعليه الألف باتفاق الحنفية، لوجود النص الصريح على الفسخ.
ولو صالح على أن (يعطيه خمس مئة إلى شهر على أن يحط عنه خمس مئة في الحال، فإن لم يعطه إلى شهر، فعليه الألف) فهو صلح صحيح؛ لأنه إبراء للحال، وتعليق لفسخ الإبراء بالشرط.
وكذلك لو أخذ الدائن من المدين كفيلاً بألف ليرة، وتصالح معه على أن يحط عنه خمس مئة، وشرط على الكفيل أنه إن لم يوفه خمس مئة إلى رأس الشهر، فعليه كل المال وهو الألف، فهو جائز، والألف لازمة للكفيل إن لم يوفه، لأنه جعل عدم إيفاء الخمس مئة إلى رأس الشهر شرطاً للكفالة بألف.
ولو ضمن الكفيل الألف ليرة بدون شرط شيء، ثم قال له الدائن: (حططت عنك خمس مئة على أن توفيني رأس الشهر خمس مئة، فإن لم توفني فالألف عليك) فهذا صحيح أيضاً، بل هو شرط أوثق من شرط الحالة الأولى؛ لأنه جعل هنا عدم التعجيل شرطاً لانفساخ الحط لا شرطاً للعقد.
ولو قال الدائن لمن عليه الألف ليرة? إن أديت إلي خمس مئة فأنت بريء من الباقي) أو قال? متى أديت خمس مئة فأنت بريء من خمس مئة) فإنه لا يصح، ويبقى عليه الألف؛ لأنه تعليق البراءة بالشرط، ولا يبرأ عن الباقي حتى يبرئه (1) .
ب ـ وإن كان المدعى به ديناً سوى الدراهم والدنانير: فإن كان مكيلاً بأن كان مد حنطة مثلاً، فصالح منه فله حالتان: إما أن يصالح على جنسه أو على خلاف جنسه (2) .
__________
(1) راجع البدائع: 44/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 42/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 43/5 ومابعدها.
(2) البدائع: 45/6 ومابعدها، المبسوط: 26/21 وما بعدها، تبيين الحقائق: 42/5.(6/183)
الحالة الأولى ـ إن صالح على جنسه فله أحوال: إن صالح على مثل حقه قدراً وصفة، جاز الصلح، ولايشترط القبض؛ لأنه استوفى عين حقه.
وإن صالح على أقل من حقه قدراً وصفة جاز، ويعتبر الصلح حطاً عن الباقي، لا معاوضة؛ لأنه يعتبر استيفاء لبعض حقه وإبراء عن الباقي، ولايشترط القبض.
وإن صالح على أقل من حقه صفة لا قدراً، جاز أيضاً، ويكون استيفاء لعين حقه وإبراء للمدعى عليه عن الصفة، ولايشترط القبض.
وإن صالح على أكثر من حقه قدراً وصفة أو قدراً لا صفة: لا يجوز الصلح؛ لأنه ربا.
وإن صالح على أكثر منه صفة لا قدراً: بأن صالح من مد حنطة رديء على مد جيد جاز، ويعتبر معاوضة.
الحالة الثانية ـ إن صالح على خلاف جنس حقه: فإن كان بدل الصلح من الدراهم والدنانير جاز الصلح، ويشترط القبض حتى لا يفترق المتعاقدان عن دين بدين.
وإن كان بدل الصلح من المكيلات، وهو شيء معين بذاته، جاز الصلح، ولا يشترط القبض. وإن كان موصوفاً في الذمة، جاز الصلح أيضاً، ولكن يشترط القبض في المجلس احترازاً من الافتراق عن دين بدين، وعليه فإن الصلح عن دين بدين لا يجوز، فلو كان لشخص على آخر مد حنطة، فصالحه عليه بدراهم إلى أجل لا يصح؛ لأنهما افترقا عن دين بدين (1) .
وإن كان المدعى به حيواناً موصوفاً في الذمة: بأن وجب في الذمة عن قتل الخطأ أو شبه العمد أو عن المهر أو بدل الخلع، فصالح على مكيل أو موزون سوى الدراهم والدنانير، جاز الصلح، ويكون معاوضة، ويشترط التقابض احترازاً عن افتراق العاقدين عن دين بدين.
__________
(1) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 146.(6/184)
ولو صالح على قيمة الحيوان أو أكثر مما يتغابن الناس فيه، جاز؛ لأن قيمة الحيوان دراهم ودنانير، وهي ليست من جنس الحيوان، فكان الصلح عليها معاوضة، فيجوز سواء قل أو كثر، ولا يشترط القبض.
وكذا إذا صالح من الحيوان على دراهم في الذمة، وافترق العاقدان من غير قبض، جاز الصلح، وإن كان افتراقاً عن دين بدين؛ لأن هذا المعنى ليس بمعاوضة، بل هو استيفاء عين حقه؛ لأن الحيوان الذي وجب في الذمة، وإن كان ديناً لكنه ليس بدين لازم، بدليل أن من عليه الحيوان إذا جاء بقيمته يجبر من له على القبول، بخلاف سائر الديون، فلا يكون افتراقاً عن دين بدين حقيقة (1) .
بدل الصلح منفعة: ذكرت أحكام الشرط الأول من شروط المصالح عليه إذا كان بدل الصلح عيناً أو ديناً. فأما إذا كان منفعة، بأن كان على رجل عشر ليرات
__________
(1) البدائع: 46/6 ومابعدها.(6/185)
مثلاً، فصالح منها على منفعة بيت بأن يسكنه شهراً أو على ركوب دابة أياماً معلومة أو على زراعة أرض مدة معينة ونحوها جاز الصلح (1) ، ويكون التصالح إجارة (أي في معنى الإجارة) سواء أكان الصلح عن إقرار المدعى عليه أم عن إنكاره أم سكوته؛ لأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض، وقد وجد العوض هنا، والمعاوضة ظاهرة المعنى في الصلح عن إقرار، وأما في الصلح عن إنكار، فالمعاوضة عن الخصومة واليمين.
وكذا في الصلح عن سكوت؛ لأن الساكت منكر حكماً.
وإذا اعتبر الصلح على المنافع إجارة، فيصح بما تصح به الإجارات ويفسد بما تفسد به، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة (2) .
2 - الشرط الثاني من شروط المصالح عليه (بدل الصلح) أن يكون متقوماً: فلا يصح على الخمر والخنزير من المسلم؛ لأنه ليس بمال متقوم في حقه (3) ، لكن في هذه الحالة إذا تم الصلح على ما لا يصلح أن يكون عوضاً أصلاً نفذ الصلح ولم يجب شيء، لأنه يدل على أن المتصالحين ما أرادا المعاوضة، ويكون الصلح عفواً من المصالح.
__________
(1) قال الحنفية (تحفة الفقهاء: 426/3) : كل ما يصلح مهراً في النكاح (وهو أن يكون مالاً متقوماً عند الناس، المرجع السابق: 201/2) وتصح تسميته، صح أن يكون بدلاً في الصلح. وكل ما لا يصلح مهراً ولا تصح تسميته ويجب فيه مهر المثل في النكاح، لا يصح أن يكون بدلاً في الصلح، والواجب حينئذ في الصلح دية النفس في القتل وأرش الجناية فيما دون النفس. وقد أجاز الحنفية (الهداية مع الفتح: 450/2) أن يكون المهر منفعة يمكن تسليمها شرعاً كسكنى الدار أو ركوب الدابة أو الحمل عليها، أو على أن تزرع أرضه، ولكن لا يصح أن تكون المنفعة خدمة الحر لزوجته، أو كانت مما لا يستحق عليها الأجر كتعليم القرآن؛ لأنه في الأولى ينقلب وضع الرجل فيصبح خادماً وفي الثانية ليس ذلك مالاً.
(2) البدائع: 47/6، تكملة فتح القدير: 31/7، الشرح الكبير: 310/3، مغني المحتاج: 178/2، المغني: 483/4.
(3) البدائع: 47/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 33/7، تبيين الحقائق: 36/5.(6/186)
3 - الشرط الثالث ـ أن يكون مملوكاً للمصالح: فلو صالح على مال، ثم استحق من يد المدعي، لم يصح الصلح؛ لأنه تبين أنه ليس مملوكاً للمصالح (1) .
4 - الشرط الرابع ـ أن يكون معلوماً: لأن جهالة البدل تؤدي إلى المنازعة، فتوجب فساد العقد (2) .
شروط المصالح عنه:
يشترط في محل عقد الصلح شروط هي ما يأتي:
أحدها ـ أن يكون حقاً للإنسان لا حقاً لله عز وجل، سواء أكان مالاً عيناً أم ديناً، أم حقاً ليس بمال كالقصاص والتعزير (3) . فلا يصح الصلح من حد الزنا والسرقة وشرب الخمر بأن يأخذ رجل زانياً أو سارقاً أو شارب خمر، وأراد أن يرفعه إلى الحاكم، فصالحه المأخوذ على مال ليتركه، فالصلح باطل؛ لأن الحد حق الله تعالى، والاعتياض عن حق الغير لا يجوز، وهو الصلح على تحريم الحلال أو تحليل الحرام.
وكذا لا يصح الصلح من حد القذف بأن قذف الإنسان رجلاً، فصالحه على مال على أن يعفو عنه؛ لأن هذا الحد، وإن كان للإنسان فيه حق، فالمغلَّب فيه عند الحنفية هو حق الله تعالى.
وكذا لا يصح الصلح مع شاهد يريد أن يشهد عليه على مال، على ألا يشهد عليه فهو باطل؛ لأن الشاهد في إقامة الشهادة محتسب حقاً لله تعالى، والصلح عن حقوق الله عز وجل باطل، ويجب على العاقد رد ما أخذ من المال؛ لأنه أخذ بغير حق. ولو علم القاضي به أبطل شهادته؛ لأنه فسق، إلا أن يتوب، فتقبل.
ويجوز الصلح باتفاق المذاهب الأربعة عن القصاص في النفس وما دون النفس من الأعضاء؛ لأن القصاص حق للإنسان، فالصلح يجوز حينئذ، سواء أكان بدل الصلح عيناً أم ديناً، لكن إذا كان
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 48.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 493/4.
(3) البدائع، المرجع نفسه، تبيين الحقائق: 37/5، تكملة فتح القدير، المرجع السابق: ص 34، الدرا لمختار: 493/4.(6/187)
البدل ديناً يشترط القبض في المجلس، حتى لا يكون افتراقاً دين بدين (1) .
وسواء أكان البدل معلوماً أم مجهولاً غير فاحشة، فإذا صالح مثلاً على ثوب أو دابة أو دار لا يجوز؛ لأن الثياب والدواب والدور أجناس ذات أنواع مختلفة، وجهالة النوع تعتبر فاحشة، فتمنع الجواز.
والضابط في هذا: أن كل جهالة تمنع صحة تسمية المهر في النكاح تمنع صحة الصلح من القصاص، وما لا يمنع التسمية فلا يمنع الصحة؛ لأن كلاً من بدل الصلح والمهر يجب بدلاً عما ليس بمال. وعليه إن كان البدل مما يصلح مهراً في النكاح فيصلح بدلاً في الصلح، وإذا لم يصلح تسمية المهر بسبب الجهالة يجب مهر المثل، وإذا لم يصلح تسمية بدل الصلح يسقط القصاص وتجب دية النفس في القتل، وأرش الجناية فيما دون النفس، إلا أن بين النكاح والصلح فرقاً من وجه وهو أنه إذا صالح عن القصاص على خمر أو خنزير، يسقط القصاص، ولا يجب شيء آخر، ويكون الصلح عفواً من صاحب الدم؛ أما في النكاح فإنه يجب مهر المثل. وجه الفرق: هو أن لفظ (الصلح) كناية عن العفو، فإذا لم يذكر مال متقوم في الصلح عن القصاص كان بمثابة السكوت عن ذكر عوض، وإذا لم يذكر العوض كان معناه هو العفو، وبعد العفو لا يجب شيء. أما في النكاح فلا يحتمل العفو عن المهر؛ لأنه إذا سكت عنه يجب حكماً لأنه من ضرورات عقد النكاح، فإنه ما شرع إلا بالمال، فإذا لم يكن المسمى صالحاً للمهر، صار كما لو لم يسم العاقد مهراً، وإذا لم يسم مهراً وجب مهر المثل.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 9/21، تبيين الحقائق: 35/5، تكملة فتح القدير: 32/7، الشرح الكبير: 317/3، المغني: 494/4 ومابعدها.(6/188)
وأما الصلح: فليس من ضروراته وجوب المال، فإنه لو عفا بلا تسمية شيء لم يجب شيء (1) .
والصلح عن القصاص جائز سواء أكان بدل الصلح قدر الدية أم أقل أم أكثر لقوله تعالى: {فمن عفي له (2) من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة:178/2] قال ابن عباس: «إنها نزلت في الصلح عن دم العمد» واسم الشيء يتناول القليل والكثير، فدلت الآية على جواز الصلح من القصاص على القليل والكثير.
وهذا بخلاف الصلح عن القتل الخطأ وشبه العمد: فإنه إذا صالح على أكثر من الدية والأرش لا يجوز الصلح؛ لأن الأرش والدية مقدران شرعاً بمقدار معلوم لا زيادة عليه، فالزيادة على المقدر تكون ربا، فلا يجوز، أما بدل الصلح عن القصاص فعوض عن القصاص، والقصاص ليس بمال، حتى يكون البدل عنه زيادة على المال المقدر، وليس فيه تقدير شرعي، فلا يتحقق الربا (3) .
__________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 33/7، تبيين الحقائق: 35/5.
(2) أي أعطي له. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر الولي بالاتباع بالمعروف إذا أعطي له شيء.
(3) البدائع: 49/6، العناية مع تكملة الفتح: 34/7، تبيين الحقائق: 36/5، الدر المختار: 497/4.(6/189)
الصلح عن المجهول: لا يشترط عند الحنفية والحنابلة: أن يكون المصالح عنه معلوماً، فيصح الصلح عن المجهول، سواء أكان عيناً أم ديناً، فمن ادعى على آخر حقاً في عين، فأقر به المدعى عليه، أو أنكر، فصالح على مال معلوم، جاز (1) ؛ لأن الصلح كما يصح بطريق المعاوضة يصح بطريق الإسقاط، وهذا إسقاط حق، فصح في المجهول كالعتاق والطلاق، ولأنه إذا صح الصلح مع العلم، وإمكان أداء الحق بعينه، فلأن يصح مع الجهل أولى، إذ لو لم يجز الصلح حينئذ أدى إلى ضياع المال، والصلح هنا ليس بيعاً وإنما هو إبراء، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست: «استهما، وتوخيا، وليحلل أحدكما صاحبه» (2) ، وهذا صلح على المجهول كما قال ابن قدامة.
وقال المالكية: ينبغي أن يعرف المدعي قدر ما يصالح عنه من الدين، فإن كان مجهولاً لم يجز.
وقال الشافعي: لا يصح الصلح على المجهول؛ لأن الصلح بيع، ولايصح على المجهول (3) .
__________
(1) يعني أن يكون بين رجلين معاملة وحساب من زمن طويل، ولا علم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه، فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق، لا علم له بقدره، جاز أن يصالح عليه.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وأصله في الصحيحين عن أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرِست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطاماً (أي المسعار وهو الحديدة التي يسعر بها النار) في عنقه يوم القيامة، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إذ قلتما فاذهبا، فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحلل كل واحد منكما صاحبه» ليحلل: أي ليسأل كل واحد منكما صاحبه أن يجعله في حل من قبله بإبراء ذمته، وفيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول (راجع نيل الأوطار: 253/5) .
(3) راجع البدائع: 49/6، مجمع الضمانات: ص 388، تبيين الحقائق: 32/5، الدر المختار: 493/4، المغني: 490/4 ومابعدها، الميزان: 79/2، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 310/3.(6/190)
الشرط الثاني ـ أن يكون المصالح عنه حقاً للمصالح، فإذا لم يكن حقاً له، بطل الصلح (1) .
الشرط الثالث ـ أن يكون حقاً ثابتاً للمصالح في محل الصلح، فإذا لم يكن حقاً ثابتاً له، لا يجوز الصلح عنه، كما يظهر من الحالات الآتية (2) .
ـ لو أن امرأة طلقها زوجها ادعت عليه صبياً في يده أنه ابنه منها، فصالحت عن النسب على شيء، فالصلح باطل؛ لأن النسب حق الصبي، لاحقها فلا تملك المعاوضة عن حق غيرها.
ـ ولو صالح الشفيع المشتري عن حق الشفعة الذي وجب له، على مال معلوم على أن يسلم الدار المبيعة مثلاً للمشتري، فالصلح باطل؛ لأنه لا حق للشفيع في محل الصلح، إنما الثابت له حق التملك، وهذا عبارة عن ولاية له، وهي صفة له، فليس هذا الحق لمعنى في المحل، فلا يحتمل الصلح عنه (3) وهو بخلاف الصلح عن القصاص؛ لأن المحل هنا يصير مملوكاً في حق الاستيفاء.
ـ وإذا صالح الكفيل بالنفس المكفول له على مال معلوم على أن يبرئه من الكفالة، فالصلح باطل، والكفالة لازمة؛ لأن الثابت للدائن المكفول له: هو حق مطالبة الكفيل بتسليم المكفول بنفسه، وهو عبارة عن ولاية المطالبة، وهي صفة للدائن، فلا يجوز الصلح عنها فأشبه الشفعة.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع، المرجع السابق، المبسوط: 35/21، مجمع الضمانات: ص 385.
(3) أي أن حق الشفعة: حق أن يتملك، وذلك ليس بحق ثابت في المحل قبل التملك، فأخذ بدل عنه أخذ مال في مقابلة ما ليس بشيء ثابت في المحل، وهو رشوة حرام (العناية مع تكملة فتح القدير: 33/7) .(6/191)
ـ ولو كان لرجل ظلَّة (1) على طريق نافذ أو كنيف (2) ممتد إلى الشارع أو ميزاب، فخاصمه رجل فيه، وأراد طرحه وإزالته، فصالحه على مال فالصلح باطل؛ لأن الطريق حق لجماعة المسلمين، وليس لأحد منهم حق معتبر ثابت في الطريق، وإنما له فقط حق المرور، وولاية المرور، وهما صفة للمار، فلا يجوز الصلح عنه. هذا فضلاً عن أنه لا فائدة من هذا الصلح، لأنه إن سقط حق واحد بالصلح، فللباقين حق القلع (3) .
أما إذا كان الطريق غير نافذ، فخاصمه رجل من أهل الطريق على مال لترك الظلة ونحوها، فالصلح جائز؛ لأن الطريق هنا مملوكة ملكاً مشتركاً بين جماعة محصورة، فكان لكل واحد منهم جزء مملوك له، فجاز الصلح عنه، وفي هذا الصلح فائدة لاحتمال أن يصالح الباقون بخلاف حالة ما إذا كان الطريق نافذاً، فإنه لا يتصور الصلح من جميع الناس.
ـ ولو ادعى رجل على رجل مالاً، فأنكره المدعى عليه، ولا بينة للمدعي، فطلب من المدعى عليه اليمين، فصالح عن اليمين على ألا يستحلفه، جاز الصلح، وبرئ من اليمين.
ـ ولو ادعى رجل على آخر مئة ليرة مثلاً، فأنكرها المدعى عليه، فتصالحا على أنه (إن حلف المدعى عليه، فهو بريء) فحلف المدعى عليه: (ما لهذا المدعي قليل ولا كثير عندي) فإن الصلح باطل، والمدعي على دعواه، فإن أقام بينة أخذ حقه بها؛ لأن قوله: (على أنه إن حلف المدعى عليه فهو بريء) تعليق البراءة
__________
(1) الظلة: المظلة الضيقة وهي ما يستظل بها من الحر أو البرد كالخيمة المعروفة الآن.
(2) هو الكنة التي تشرع فوق باب الدار، أي السقيفة الممتدة خارج البيت إلى الشارع كالروشن الآن.
(3) البدائع: 49/6، مغني المحتاج: 183/2، المهذب: 333/1.(6/192)
بالشرط، وهو باطل؛ لأن في الإبراء معنى التمليك، والأصل في التمليك ألا يحتمل التعليق بالشرط.
وإن لم تكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه، فهناك وجهان:
أـ إن كان ذلك الحلف الذي صدر من المدعى عليه عند غير القاضي: فله أن يستحلفه عند القاضي مرة أخرى؛ لأن تلك اليمين غير معتبرة.
ب ـ وإن كان حلف عند القاضي: فلا يستحلفه مرة ثانية؛ لأن حق المدعي في الاستحلاف صار مستوفى مرة، فلا يجب عليه الإيفاء مرة ثانية.
ـ ولو تصالحا على أن (يحلف المدعي، فمتى حلف، فالدعوى لازمة للمدعى عليه) (1) فحلف المدعي على دعواه، فإن الصلح باطل، ولا يلزم المدعى عليه بشيء؛ لأن هذا تعليق وجوب المال بشرط وهو باطل لكونه قماراً (2) .
ـ ولو ادعى رجل على امرأة نكاحاً، فجحدته، فصالحته على مال بذلته، حتى يترك الدعوى، جاز الصلح؛ لأن النكاح حق ثابت من حقوق المدعي، فكان الصلح على حق ثابت، فكان في معنى الخلع، إذ هو أخذ المال بدلاً عن الحقوق الزوجية، ومن حقها بذل مال لإسقاط الخصومة (3) .
ـ ولو قال رجل لامرأة: (أعطيتك مئة ليرة على أن تكوني امرأتي) فهو جائز إذا قبلت الزواج بمحضر من الشهود، ويكون هذا كناية عن إنشاء النكاح ابتداء.
ـ وكذا لو قال: (تزوجتك أمس على ألف ليرة) فجحدت، وقالت: (لا)
__________
(1) أي فالمال واجب على المدعى عليه.
(2) البدائع: 50/6.
(3) البدائع، المرجع السابق، تبيين الحقائق: 37/5، الدر المختار: 496/4، مجمع الضمانات: ص 385.(6/193)
فقال: (أزيدك مئة على أن تقري لي بالنكاح) فأقرت، جاز الصلح، ولها ألف ومئة، والنكاح جائز، ويحمل إقرارها على الصحة (1) .
ـ ولو ادعت امرأة على رجل نكاحاً، فجحد الرجل، فصالحها على مال بذله لها، لا يجوز الصلح، لأنه لا يخلو إما أن يكون النكاح ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، فإن لم يكن ثابتاً كان دفع المال إليها من الرجل في معنى الرشوة، إذ ليس هناك شيء يقابله العوض وقد بذل لها المال لتترك الدعوى. وإن كان ثابتاً لا تثبت الفرقة بهذا الصلح؛ لأن العوض في مثل هذه الفرقة تعطيه المرأة لا الزوج فهو لا يعطي العوض في الفرقة، فلا يكون المال الذي تأخذه المرأة عوضاً عن شيء، فلا يجوز. لكن لو ادعى الدعوى، جاز الصلح، وكان الصلح في معنى الخلع في جانبه، لزعمه أن النكاح قائم، ولدفع الخصومة في جانبها (2) .
ـ ولو ادعى إنسان على آخر ألف ليرة، فأنكر المدعى عليه، فصالحه المدعي على مئة ليرة على أن يقر له بالألف، فالصلح باطل؛ لأن المدعي لا يخلو إما أن يكون صادقاً في ادعائه الألف، وإما أن يكون كاذباً فيها، فإن كان صادقاً فيها، فالألف واجبة على المدعى عليه، ويكون أخذ العوض عليه في معنى الرشوة، وهو حرام.
وإن كان كاذباً في ادعائه فإقرار المدعى عليه بالألف التزام المال من بادئ الأمر، وهذا لا يجوز (3) .
__________
(1) البدائع: 51/6.
(2) البدائع: المرجع نفسه: ص 50، تكملة فتح القدير مع العناية: 35/7، تبيين الحقائق: 37/5، الكتاب مع اللباب: 165/2.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 51.(6/194)
ـ ولو ادعى إنسان على رجل وديعة، أو عارية، أو مال مضاربة أو إجارة، فقال الأمين: (قد رددتها عليك) أو (هلكت) وكذبه المدعي، وقال: (استهلكتها) ثم تصالحا على مال، فالصلح باطل عند أبي يوسف. وعند محمد: صحيح.
وجه قول محمد: أن هذا صلح وقع عن دعوى صحيحة، ويمين موجهة، فيصح.
ووجه قول أبي يوسف: أن المدعي مناقض نفسه في هذه الدعوى؛ لأن الوديع أمين المالك، وقول الأمين قول المؤتمن، فكان إخباره بالرد أو الهلاك إقراراً من المودِع، فكان مناقضاً نفسه في ادعاء الاستهلاك، والتناقض يمنع صحة الدعوى، إلا أنه يستحلف لكن لا لدفع الدعوى، لأنها مندفعة لبطلانها، بل للتهمة، وإذا لم تصح الدعوى لا يصح الصلح (1) .
الصلح على العيب: لو اشترى رجل شيئاً فوجده معيباً، فصالحه البائع من العيب على شيء دفعه إليه، أو حط عنه من ثمنه شيئاً: فإن كان المبيع مما يجوز رده على البائع، أو كان له حق المطالبة بأرش العيب دون رده، فالصلح جائز؛ لأن الصلح عن العيب صلح عن حق ثابت في المحل وهو (صفة سلامة المبيع عن العيب) (2) .
وإن لم يكن للمشتري حق رد المبيع ولا أخذ الأرش (التعويض عن العيب) بأن باع الشيء أو حدثت زيادة منفصلة متولدة من الأصل أو حدث عيب جديد
عند المشتري عدا العيب القديم المجيزللرد: فلا يجوز الصلح؛ لأن هذا أخذ مال لا بمقابلة شيء، فلا يجوز.
وإذا جاز الصلح عن العيب، فزال العيب، كأن كان العيب بياضاً في عين الدابة فانجلى البياض، يبطل الصلح، ويأخذ البائع ما أداه، لأن صفة سلامة المبيع قد عادت إليه، فيعوض العوض، ويزول حق المشتري فيه.
ولو طعن المشتري بعيب في المبيع، فصالحه البائع على أن يبرئه من العيب المذكور ومن كل عيب، فالصلح جائز؛ لأن الإبراء عن العيب إبراء عن صفة السلامة في المبيع وإسقاط لها.
وكذلك لو لم يطعن المشتري بعيب، فصالحه البائع من كل عيب على مال، فالصلح جائز؛ لأنه وإن لم يطعن بعيب فله حق الخصومة، فيجوز الصلح لإبطال هذا الحق.
ولو طعن المشتري بنوع من العيوب كالعمى والقروح، فصالحه البائع عليه، جاز الصلح؛ لأنه لما جاز عن كل عيب، جاز عن العيب الواحد. فإذا ظهر عيب آخر، كان للمشتري حق الخصومة فيه؛ لأن الصلح وقع عن نوع خاص، فكان له حق الخصومة في غيره (3) .
الصلح بين المدعي والأجنبي:
كان الكلام السابق عن الصلح بين المدعي والمدعى عليه. أما إذا كان الصلح بين المدعي والأجنبي المتوسط أو المتبرع بالصلح فلا يخلو الحال بين أن يكون الصلح بإذن أو أمر من المدعى عليه أو بغير إذنه أو أمره.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 50
(2) يلاحظ أن هذا الصلح جائز في البيع العادي الذي يجوز فيه التفاضل، أما إذا كان البيع فيما يجري فيه الربا، فلا يجوز الصلح على شيء، لأنه يؤدي إلى الزيادة، وهو ربا، وهو لا يجوز.
(3) البدائع: 51/6، المبسوط: 6/21. .(6/195)
فإن كان الصلح بإذن من المدعى عليه: فإنه يصح الصلح، ويكون المصالح وكيلاً عن المدعى عليه، والصلح مما يحتمل التوكيل به، ويجب المال على المدعى عليه دون الوكيل، سواء أكان الصلح عن إقرار أم عن إنكار؛ لأن الوكيل في الصلح لا ترجع إليه حقوق العقد. والمال لازم للموكل دون الوكيل إلا إذا ضمن الوكيل بدل الصلح عن المدعى عليه، فإنه يجب عليه حينئذ بموجب عقد الكفالة والضمان، لا بموجب عقد الصلح (1)
وقال الشافعية كما تقدم بيانه: إن قال الأجنبي للمدعي: وكلني المدعى عليه في الصلح وهو مقر لك بما تدعي، صح الصلح بينهما؛ لأن ادعاء الوكالة في المعاملات مقبول، ولو صالح الأجنبي عن العين (المدعاة) لنفسه بماله، وقال الأجنبي للمدعي: إن المدعى عليه مقر لك بالمدعى، صح الصلح إيضاً، وكأن اشترى المدعى به. وإن كان المدعى عليه منكراً، وقال الأجنبي: هو مبطل في إنكاره؛ لأنك صادق عندي، فصالحني: فإن كان المدعى به عيناً، فيطبق عليه حكم شراء المغصوب، أي فإن كان قادراً على انتزاعه من المدعى عليه صح الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعه فلا يصح. وإن لم يقل الأجنبي: هو مبطل في إنكاره، لغا الصلح (2) .
وإن كان الصلح بغير إذن من المدعى عليه: فهو صلح الفضولي، وهو على خمسة أوجه:
في أربعة منها يصح الصلح، ويجب المال على المصالح الفضولي، ولا يجب على المدعى عليه شيء. وهذه الأوجه هي:
أولاً ـ أن يضيف الضمان إلى نفسه: بأن يقول الفضولي للمدعي: (صالحتك من دعواك هذه على فلان بألف ليرة على أني ضامن لك هذه الألف) ، أو (على أن علي الألف) .
ثانياً ـ أن يضيف المال إلى نفسه: بأن يقول: (على ألفي هذا، أو على متاعي هذا) .
ثالثاً ـ أن يعين البدل وإن كان لا ينسبه إلى نفسه بأن يقول: (على هذا الألف أو على هذا المتاع) .
رابعاً ـ أن يسلم البدل، وإن لم يعين ولم ينسب إلى نفسه: بأن قال: (صالحتك على ألف) وسلمها إليه.
__________
(1) البدائع: 52/6، تكملة فتح القدير: 38/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 39/5 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 167/2.
(2) مغني المحتاج: 181/2، المهذب: /333.(6/196)
والدليل على صحة الصلح في هذه الأوجه الأربعة هو قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات:10/49] ، وقوله عز وجل: {والصلح خير} [النساء:128/4] ولأن الفضولي بالصلح عن غيره في هذه الوجوه متصرف على نفسه بالتبرع بإسقاط الدين عن الغير، بأن يقضي دينه من مال نفسه إذا كان الصلح عن إقرار. وإن كان الصلح عن إنكار فهو متبرع بإسقاط الخصومة عن غيره، فيجوز التبرع في الحالتين.
وفي وجه واحد: لا يصح الصلح، وإنما يكون موقوفاً على إجازة المدعى عليه، وهو بأن يقول الفضولي: (صالحتك من دعواك هذه مع فلان على ألف ليرة أو على متاع كذا: الوسط) ، ففي هذه الحالة إن أجاز المدعى عليه صلح الفضولي نفذ، ويجب البدل عليه دون المصالح؛ لأن الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، وحكم الوكالة كذلك. وإن لم يجز بطل الصلح؛ لأن التصرف على الإنسان لا يصح من غير إذنه وإجازته، والأصل في العقد إنما هو المدعى عليه (1) .
وهذه الأحكام تطبق على الخلع من الأجنبي:
فإن كان خلع الزوجة بإذن الزوج أو المرأة: يصير المخالع وكيلاً، ويجب المال على المرأة للزوج دون الوكيل؛ لأنه سفير ومعبر عن الأصيل، فلا يرجع إليه بشيء من حقوق العقد.
وإن كان الخلع بغير إذن: فإن وجد من الفضولي ضمان بدل الخلع، أو قال: (خالع امرأتك على كذا ليرة علي) أو (على متاعي هذا) أو (على هذا الألف) أو (على هذا المتاع) فإن الخلع صحيح، ويجب المال على الفضولي، وليس له أن يرجع على الأصيل، لأنه متبرع.
وإن قال الفضولي للزوج: (اخلع امرأتك على كذا) فقال: (خلعت) فإن الخلع يكون موقوفاً على إجازة المرأة: فإن أجازت صح الخلع، ويجب البدل عليها دون الفضولي، وإن لم تجز بطل الخلع، ولا يقع الطلاق.
وتطبق هذه الأحكام أيضاً على الصلح عن دم العمد من الأجنبي، كما تطبق كذلك على الزيادة في الثمن من الأجنبي: إن كانت بإذن المشتري يكون الشخص الفضولي وكيلاً، وتجب الزيادة على المشتري. وإن كانت بغير إذن المشتري، فعلى التفصيل السابق الذي ذكر في الصلح (2) .
__________
(1) البدائع: 52/6، تكملة فتح القدير: 40/7، تبيين الحقائق: 40/5.
(2) البدائع: 52/6.(6/197)
المبحث الثالث ـ أحكام الصلح:
للصلح أحكام هي (1) :
أولاً ـ انقطاع الخصومة والمنازعة بين المتداعيين شرعاً: فلا تسمع دعواهما بعدئذ، وهذا حكم ملازم جنس الصلح.
ثانياً ـ حق الشفعة للشفيع: إذا كان المدعى به داراً وبدل الصلح ليس داراً، وإنما هو نقد أو غيره، فإن حق الشفعة يثبت للشفيع إذا كان الصلح عن إقرار من المدعى عليه؛ لأن الصلح حينئذ يكون في معنى البيع بالنسبة لطرفي العقد. أما إذا كان الصلح عن إنكار من المدعى عليه، فلا يثبت حق الشفعة، لأنه ليس في معنى البيع بالنسبة للمدعى عليه، بل هو بذل المال لدفع الخصومة واليمين.
وإن كان بدل الصلح داراً، والصلح عن إقرار المدعى عليه يثبت حق الشفعة للشفيع في الدارين، لما عرفنا أن الصلح هنا في معنى البيع من الطرفين.
وإن كان الصلح عن إنكار يثبت للشفيع حق الشفعة في الدار التي هي بدل الصلح، ولا يثبت في الدار المدعاة؛ لأنها لم تعتبر مبيعة، إذ أن الصلح عن إنكار يعتبر معاوضة بالنسبة للمدعي، وأما بالنسبة للمدعى عليه فليس بمعاوضة، بل هو إسقاط للخصومة ودفع اليمين عن نفسه، فلم يكن للدار المدعاة حكم المبيع في حقه، فلا يثبت للشفيع حق أخذها بالشفعة.
ثالثاً ـ حق الرد بالعيب، وحكم الاستحقاق: فحق الرد بالعيب يثبت لطرفي عقد الصلح إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه بمنزلة البيع.
وإن كان عن إنكار يثبت حق الرد بالنسبة للمدعي، ولا يثبت بالنسبة
__________
(1) البدائع: 53/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 29/7، المبسوط: 163/20، تبيين الحقائق: 33/5، الدر المختار مع رد المحتار: 494/4.(6/198)
للمدعى عليه؛ لأن هذا الصلح بمنزلة البيع بالنسبة للمدعي، لا بالنسبة للمدعى عليه.
وتطبق هذه الأحكام إذا كان الصلح عن إقرار، واستحق بعض المصالح عنه، فيرجع المدعى عليه على المدعي بحصة المستحق من العوض المصالح به؛ لأن الصلح مع الإقرار كالبيع، وهذا هو حكم الاستحقاق في البيع. وإذا كان الصلح عن إنكار أو سكوت فاستحق المتنازع فيه كله، رجع المدعي بالخصومة على المستحق، لقيامه مقام المدعى عليه، ورد العوض المصالح به على من أخذه منه (1) ؛ لأن المدعى عليه ما بذل العوض للمدعي إلا ليدفع خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أنه لا خصومة له، فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه، فيسترده. وإن استحق بعض المتنازع فيه، رد حصته، ورجع بالخصومة فيه على المستحق.
رابعاً ـ الرد بخيار الرؤية في نوعي الصلح: لأن الخيار ثبت للمدعي فيستدعي كون الصلح معاوضة عن حقه.
خامساً ـ إنه لا يجوز التصرف في بدل الصلح قبل القبض إذا كان منقولاً في نوعي الصلح؛ فلا يجوز للمدعي بيعه وهبته ونحوهما. وإن كان عقاراً يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز، كما هو معروف في بحث عقد البيع.
ويجوز للمصالح في الصلح عن القصاص أن يبيع بدل الصلح أو يبرئ عنه قبل القبض، كما يجوز البيع ونحوه في المهر والخلع؛ لأن المانع من جواز التصرف في الشيء قبل القبض: هو المحافظة على العقد من الانفساخ نتيجة هلاك الشيء، واحتمال الفسخ لا يتأتى في الصلح عن القصاص، لأنه مما لا يحتمل الفسخ، فلا حاجة إلى القول بعدم جواز التصرف في بدل الصلح قبل القبض.
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية، المرجع السابق: ص 29، المبسوط: 149/20 ومابعدها، تبيين الحقائق: 32/5، 34، الكتاب مع اللباب: 164/2.(6/199)
سادساً ـ إن الوكيل بالصلح يلتزم ببدل الصلح دون المدعى عليه إذا كان الصلح في معنى المعاوضة، كما إذا تم الصلح على جنس آخر خلاف جنس حق المدعي، لأنه يكون حينئذ جارياً مجرى البيع، وحقوق البيع ترجع إلى الوكيل.
وإن كان الصلح في معنى استيفاء عين الحق، كمن له على آخر ألف ليرة، فصالحه على خمس مئة، فيلتزم الوكيل ببدل الصلح إن ضمنه، وإن لم يضمنه لم يلزمه؛ لأنه يكون حينئذ سفيراً بمنزلة الرسول، فلا ترجع إليه حقوق العقد. أما إن ضمنه لزمه بحكم الكفالة لا بحكم العقد. وقد سبق أن أشرت إليه.
والخلاصة: أن الصلح كما قال الشافعية إذا كان عن إقرار وجرى على عين غير المدعاة، فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه، كالشفعة، والرد بالعيب، ومنع التصرف قبل القبض، واشتراط التقابض إن اتفق المصالح عنه والمصالح عليه في علة الربا (1) .
المبحث الرابع ـ مبطلات عقد الصلح وحكمه بعد البطلان:
مبطلات الصلح: يبطل الصلح بأشياء هي ما يأتي (2) :
1 - الإقالة في غير حالة الصلح على القصاص: فلو أقال أحد المتصالحين الآخر انفسخ الصلح؛ لأن فيه معنى معاوضة المال بالمال، فكان محتملاً للفسخ كالبيع ونحوه. أما القصاص: فالصلح فيه إسقاط محض لحق ولي الدم في استيفاء القصاص من القاتل؛ لأنه عفو عن القاتل، فلايحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه.
2 - لحاق المرتد بدار الحرب أو موته على الردة عند أبي حنيفة: وهذا مبني على القاعدة المقررة عنده: وهي أن تصرفات المرتد موقوفة على العودة إلى الإسلام أو اللحاق بدار الحرب أو الموت، فإن أسلم نفذت تصرفاته، وإن لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه، أو قتل أو مات على الردة بطلت تصرفاته.
وعند الصاحبين: تعتبر تصرفات المرتد نافذة.
__________
(1) مغني المحتاج: 177/2، المهذب: 333/1.
(2) البدائع: 54/6 ومابعدها، تبيين الحقائق للزيلعي: 32/5، 34، الدر المختار مع رد المحتار: 494/4.(6/200)
3 - الرد بخيار العيب أو الرؤية: لأن الرد يفسخ العقد.
4 - هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة: لأن في الصلح على المنفعة معنى الإجارة، والإجارة تبطل بموت أحد العاقدين. وكذا يبطل الصلح إذا هلك ما وقع الصلح على منفعته.
حكم الصلح بعد بطلانه: إذا بطل الصلح يرجع المدعي إلى أصل دعواه إن كان الصلح عن إنكار. ويرجع المدعي على المدعى عليه بالمدعى به لا غيره إن كان الصلح عن إقرار؛ لأنه إذا بطل الصلح، جعل كأن لم يكن، فعاد الأمر على ما كان من قبل.
لكن في الصلح عن القصاص: يرجع المدعي على القاتل بالدية دون القصاص، وفي الصلح عن المنفعة، إذا بطل بموت أحد العاقدين ونحوه من المبطلات في أثناء المدة، يرجع المدعي بالمدعى به، بقدر ما لم يُستوف من المنفعة إن كان الصلح عن إقرار. وإن كان عن إنكار المدعي إلى أصل الدعوى في قدر ما لم يستوف من المنفعة (1) .
الصلح عن التركة (التخارج) : يصح الصلح عن حصة الوارث في التركة، وتطبق أحكام البيع، ويسمى هذا الصلح مخارجة. والمخارجة: هي عقد يتصالح فيه أحد الورثة على أن يخرج من التركة، فلا يأخذ نصيبه، نظير مال يأخذه من التركة، أو من غيرها. ويختلف الحكم فيما إذا كانت التركة أشياء عينية، أو أشياء نقدية. فإن كانت التركة أشياء عينية كعقار أو عروض تجارية، صح الصلح مهما كان مقدار العوض قليلاً كان أو كثيراً؛ لأنه بيع، وقد صالح عثمان امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم على ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار.
__________
(1) البدائع: 55/6 ومابعدها، المبسوط: 34/21، تبيين الحقائق:33/5، الدر المختار ورد المحتار: 495/4.(6/201)
أما إن كانت التركة نقداً ذهباً أو فضة، فيصح الصلح مهما كان العوض إذا كان من جنس غير جنس مال التركة، كإعطاء ذهب بفضة أو بالعكس؛ لأنه بيع الجنس بخلاف الجنس، فلا يعتبر التساوي، ولكن بشرط قبض العوضين في مجلس العقد، لأنه عقد صرف.
وإن كانت التركة خليطاً من أشياء عينية ونقدية وهو الغالب فلا بد من أن يكون العوض أكثر من نصيبه في التركة، حتى يتساوى نصيبه بمثله، وتغطي الزيادة الأشياء العينية الأخرى مثل العروض التجارية والعقارات ونحوها، منعاً من الوقوع في الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب أو الفضة؛ لأن هذا عقد صرف في هذا القدر (1) .
والخلاصة: أنه يشترط عند الحنفية كون التركة معلومة، ولا يشترط أن يكون التخارج بمقدار الحصة تماماً؛ لأن هذا العقد بيع، والعلم بالمبيع شرط لإمكان التسليم، ولا يلزم كون الثمن مساوياً لقيمة المبيع، لكن يشترط أن يكون المتخارج عالماً بنصيبه من التركة خشية الغرر، ويشترط أيضاً التقابض فيما هو عقد صرف، لعدم الوقوع في الربا.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 170/2، تكملة رد المحتار: 205/7 ومابعدها.(6/202)
الفَصْلُ الرّابع عَشَر: الإِبراء
فيه ستة مباحث تشمل تعريف الإبراء ومشروعيته، وأركانه، وشروطه ومحله، وأنواعه، وحكمه.
المبحث الأول ـ تعريف الإبراء ومشروعيته: الإبراء لغة: التنزيه والتخليص والمباعدة عن الشيء. وفقهاً: هو إسقاط شخص حقاً له في ذمة آخر أو قِبَله، كإسقاط الدائن دينه الذي له في ذمة المدين. فإذا لم يكن الحق في ذمة شخص، كحق الشفعة، وحق السكنى الموصى به، فلا يعتبر التنازل عنه أو تركه إبراء، بل هو إسقاط محض، وعليه يكون كل إبراء إسقاطاً، وليس كل إسقاط إبراء.
والإبراء وإن تضمن معنى الإسقاط، ففيه معنى آخر وهو التمليك فهو إسقاط من الدين، وتمليك للمدين. وقد رجح كل مذهب أحد المعنيين.
الحنفية رجحوا معنى الإسقاط مع بقاء معنى التمليك، ورتبوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان؛ لأنه إسقاط، وملكية الأعيان لا تقبل الإسقاط، فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له، لا تسقط ويبقى ملكاً له، ولا يصح الإبراء عن المبيع؛ لأنه إسقاط، وإسقاط العين لا يصح، والإبراء عن العين المغصوبة لا يكون سبباً لملكها، وإنما يكون إبراء عن ضمانها، وتصير أمانة في يد الغاصب. ولكن يصح إبراء الدين الثابت في الذمة كضمان قيمة المغصوب المتلف، ويصح الإبراء عن الدعوى المتعلقة بالأعيان. ولا يصح إقالة الإبراء عن الدين ولا إقالة السلم؛ لأن الإبراء يسقط الدين من الذمة، والساقط لا يعود؛ لأنه معدوم، والمسلم فيه دين سقط. ويعد الإبراء من الدين تبرعاً؛ لأن فيه معنى التمليك، وإن كان في صورة إسقاط.
والراجح عند المالكية: كما أبان الدسوقي (1) أن الإبراء نقل للملك فيكون من قبيل الهبة، فيحتاج لقبول.
والجديد عند الشافعية (2) : أن الإبراء تمليك المدين ما في ذمته، فيشترط علم الطرفين به إن كان في ضمن معاوضة كخلع، وإلا فيكفي علم المبرئ فقط، والإبراء من المجهول باطل. وقال بعض الشافعية: الأصح أن الإبراء إسقاط.
والراجح عند الحنابلة (3) : أن الإبراء إسقاط، ولا مانع يمنع الإنسان من إسقاط بعض حقه أو هبته، فقد كلم النبي صلّى الله عليه وسلم غرماء جابر ليضعوا عنه.
مشروعية الإبراء: الإبراء في الحكم الغالب له مندوب، قال الخطيب الشربيني: الإبراء مطلوب، فوُسِّع فيه بخلاف الضمان (أي الكفالة) ؛ لأنه نوع الإحسان والبر والصلة، لتضمنه إسقاط الحق عن المدين، ولو لم يكن معسراً، قال تعالى: {وإن كان ذو عُسْرَة، فَنَظِرة إلى مَيْسرة، وأن تَصدَّقُوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/2] .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 99/4، الفروق: 111/2.
(2) المحلي على المنهاج مع حاشية القليوبي وعميرة: 326/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 202/2، أشباه السيوطي: ص 152.
(3) كشاف القناع: 379/3، 385، 336/4، المغني: 483/4.(6/203)
المبحث الثاني ـ ركن الإبراء:
ركن الإبراء عند الحنفية: هو الإيجاب فقط الصادر من صاحب الحق المبرئ، الدال دلالة واضحة على ترك حقه والتنازل عنه. باعتبار أن الركن هو جزء الشيء الذي لا يتحقق بدونه. أما بقية عناصر الإبراء من متعاقدين ومحل فهي أطراف العقد، وليست ركناً.
أما الجمهور فقالوا: للإبراء أركان أربعة: صاحب الحق المبرئ، والمدين (المبرأ) ، والصيغة، والمبرأ منه (محل الإبراء من دين أو عين أو حق) باعتبار أن الركن: هو كل ما يتوقف عليه وجود الشيء، سواء أكان جزءاً داخلاً فيه وهو الإيجاب وحده، أو الإيجاب والقبول معاً، أم خارجاً عنه كالأطراف والمحل.
هل يحتاج الإبراء إلى قبول؟
يرى الجمهور غير المالكية (1) : أن الإبراء لا يحتاج إلى قبول، فينعقد بمجرد الإيجاب؛ لأنه عند الحنفية والحنابلة إسقاط، والإسقاطات كالطلاق والعتق لا تحتاج إلى قبول، سواء أكان التعبير بلفظ الإبراء أم بلفظ هبة الدين للمدين، وطالب بعض الحنفية بالقبول في هبة الدين للمدين، والمشهور هو الأول.
وبالرغم من أن الراجح لدى الشافعية أن الإبراء تمليك المدين ما في ذمته كما بينت، فلا يحتاج إلى القبول؛ لأن المقصود منه الإسقاط.
ومثال الإيجاب: أن يقول: أبرأتك من ديني، أو أحللتك منه، أو أسقطته عنك، أو ملكتك إياه، أو تركته لك، ونحو ذلك. نصت المادة 1561 مجلة: «إذا قال أحد: ليس لي مع فلان نزاع ولا دعوى، أو ليس لي عند فلان حق، أو فرغت من دعواي التي هي مع فلان، أو تركتها، أو ما بقي لي عنده، أو استوفيت حقي من فلان بالتمام، يكون قد أبرأه» .
__________
(1) المراجع السابقة.(6/204)
ويرى المالكية على الراجح: أن الإبراء يحتاج إلى قبول؛ لأنه نقل للملك، كالهبة فلا بد من القبول في هبة الدين، لمن هو عليه؛ لأنه إبراء.
ويكون القبول في مجلس العقد بالاتفاق، إلا أن الشافعية (1) اشترطوا القبول لفظاً فوراً فيما لو وكله في إبراء نفسه، ولو من الحاكم. وظاهر المذهب المالكي جواز تأخير القبول عن الإيجاب، وعبارتهم: من سكت عن قبول صدقته زماناً، فله قبولها بعدئذ.
واستثنى الحنفية من عدم توقف الإبراء على القبول: الإبراء عن بدلي الصرف، وعن رأس مال السلم، فيتوقف فيهما الإبراء على القبول؛ لأن الإبراء يؤدي إلى تفويت القبض المستحق، وفواته يوجب بطلان العقد، ونقض العقد لا ينفرد به أحد العاقدين، بل لا بد من قبول الطرف الآخر، فإن قبله برئ، وإن لم يقبله لم يبرأ، وإذا تم الإبراء مع القبول انفسخ عقد الصرف والسلم، لعدم تحقق القبض المشروط لصحة كل منهما.
أما الإبراء عن المسلم فيه أو عن ثمن المبيع، فيجوز من غير قبول؛ لأن قبض المسلم فيه أو الثمن ليس بشرط، والإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء من نفسه فقط (2) .
رد الإبراء:
ذهب الشافعية في الراجح والحنابلة: إلى أن الإبراء يتم بالإيجاب دون حاجة إلى قبول، ولا يرتد بالرد من المدين؛ لأنه إسقاط عند الحنابلة، كإسقاط القصاص والشفعة، والمقصود منه الإسقاط عند الشافعية، فيصح الإبراء من الدين ولو رده المدين.
وذهب الحنفية والمالكية: إلى أن الإبراء يرتد بالرد، في المجلس أو بعده، مادام لم يحدث منه قبول صريح قبل رده؛ لأن الإبراء عند المالكية يفتقر إلى القبول، ولأن فيه معنى التمليك. ولمراعاة
__________
(1) حاشية القليوبي: 340/2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152.
(2) البدائع: 203/5.(6/205)
معنى التمليك عند الحنفية وإن كان إسقاطاً (1) ، فنظراً لما فيه من معنى التمليك فإنه يرتد بالرد.
والرد المعتبر: هو ما يصدر من المبرأ، أو من وارثه بعد موته. واستثنى الحنفية مسائل أربعاً لا يرتد فيها الإبراء بالرد وهي (2) :
1 و 2 - الإبراء في الحوالة، والكفالة على الراجح؛ لأن الإبراء فيهما إسقاط محض، ليس فيه تمليك مال، والإسقاط المحض لا يحتمل الرد، لانعدام الساقط وتلاشيه، فلو أبرأ المحال المحال عليه فرده لا يرتد، ولو أبرأ الدائن الكفيل فرده لايرتد.
3 - إذا تقدم من المبرأ على الإبراء طلب بأن قال للمبرئ: أبرئني، فأبرأه، فردّ، لا يرتد.
4 - إذا سبق للمبرأ أن قبل الإبراء، فإذا رده بعدئذ لا يرتد. أما المجلة العدلية فقد نصت في المادة 1568 على ما يلي بالنسبة للقبول والرد أخذاً برأي الحنفية: «لايتوقف الإبراء على القبول، ولكن يكون بالرد مردوداً؛ لأنه إذا أبرأ أحد آخر، فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً، يعني لا يبقى له حكم، لكن لو رده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً، وأيضاً إذا أبرأ المحال له المحال عليه، أو صاحبُ الطلبِ الكفيل، ورد ذلك المحال عليه أو الكفيل، لا يكون الإبراء مردوداً» .
__________
(1) العناية بهامش تكملة فتح القدير: 44/7، الفتاوى الهندية: 365/4، 384، الدر المختار ورد المحتار: 544/4، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152، كشاف القناع: 336/4، حاشية الدسوقي: 99/4.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 544/4.(6/206)
المبحث الثالث ـ شروط الإبراء:
هناك شروط في المبرئ، وشروط في المبرأ، وشروط في صيغة الإبراء، وشروط في المبرأ منه (محل الإبراء) .
أولاً ـ شروط المبرئ: يشترط في المبرئ ما يلي (1) :
1ً - أن يكون من أهل التبرع، أي عاقلاً بالغاً راشداً غير محجور لسفه أو لدين؛ لأن الإبراء تبرع من الدائن؛ إذ لا يقابله عوض من المدين. وشرْط عدم الحجر لدين عند الحنفية على المفتى به من رأي الصاحبين بجواز الحجر على المدين هو شرط نفاذ، فإبراء المحجور عليه بسبب الدين صحيح موقوف على إجازة الدائنين، حفاظاً على حقوقهم.
2ً - أن يكون ذا ولاية على الحق المبرأ منه: بأن يكون مالكاً له، أو موكلاً بالإبراء منه، أو وصياً على الدائن. والإجازة اللاحقة عند من يجيز تصرف الفضولي لها حكم الوكالة السابقة.
والعبرة عند الحنفية والحنابلة في ولاية المبرئ بالواقع لا في الظن، فلو أبرأ عن شيء من مال أبيه ظاناً أنه حي، فتبين حين الإبراء أنه ميت، صح الإبراء؛ لأنه إسقاط، ولأن الشيء المبرأ منه كان مملوكاً له في الواقع، كبيع مال مورثه الميت مع ظن الحياة. وإذا اعتبر الإبراء تمليكاً كما يرى الشافعية في الأصح، لم يصح هذا الإبراء.
3ً - الرضا: يشترط الرضا والاختيار من المبرئ، فلا يصح إبراء المكرَه.
التوكيل بالإبراء: يصح التوكيل بالإبراء، بشرط وجود إذن خاص به، ولا يكفي له الإذن بعقد ما. ولا يجوز عند الحنفية للوكيل المأذون بالإبراء توكيل غيره.
__________
(1) الدر المختار: 531/4، تكملة ابن عابدين: 328/2، الفتاوي الهندية: 355/4، مرشد الحيران: م184، 185، 197، 198، الشرح الكبير: 98/4، القليوبي وعميرة: 326/2، و 159/3، 162، كشاف القناع: 329/4، 336، مغني المحتاج: 202/2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152.(6/207)
ويكفي عند الشافعية (1) في صحة الوكالة بالإبراء: علم الموكل بقدر الدين، وإن جهله الوكيل والمديون. ولا يصح عندهم بناء على أن الإبراء تمليك توكيل المدين ليبرئ نفسه، كما لو وكله ليبيع من نفسه، وأما بناء على القول الثاني وهو أن الإبراء إسقاط فيصح توكيل المدين ليبرئ نفسه.
الإبراء في مرض الموت: يتفرع عن الشرط الأول ألا يكون المبرئ مريضاً مرض الموت: فإن أبرأ المريض وارثاً، توقف الإبراء على إجازة الورثة، ولو كان الدين أقل من الثلث. وإن أبرأ أجنبياً، والدين يجاوز ثلث التركة، توقف الإبراء في الزائد عن الثلث على إجازة الورثة؛ لأن الإبراء تبرع له حكم الوصية. وإن أبرأ المريض أحد المدينين، وكانت التركة مستغرقة بالديون، لم ينفذ إبراؤه، لتعلق حق الغرماء (2) .
ثانياً ـ شروط المبرأ:
يشترط باتفاق الفقهاء على المذهب لدى الحنابلة (3) في الطرف المبرأ أن يكون معلوماً معيناً، غير مجهول، ولا مبهم، فلو أبرأ أحد غريميه (مدينيه) ، فقال لهما: أبرأت أحدكما، فلا يصح. وكذا لو قال: أبرأت كل مدين لي، أو كل مدين لمورثي، لا يصح كما أن الإقرار ببراءة كل مدين له، لا يصح، إلا إذا قصد مديناً معيناً أو أناساً محصورين. فإذا قال: أبرأت هؤلاء المدينين لي، صح.
وعلل الشافعية عدم صحة الإبراء مع جهالة المدين المبرأ بأن الإبراء فيه معنى التمليك، ولا يصح تمليك المجهول، والإبراء تمليك من المبرئ، إسقاط عن المبرأ عنه، فيشترط علم الأول دون الثاني.
وقد نصت المجلة (م 1567) على هذا الشرط: يلزم أن يكون المبرأون معلومين ومعينين، بناء عليه، لو قال أحد: أبرأت كافة مديونيّ، أو ليس لي عند أحد حق، لا يصح إبراؤه. وأما لو قال: أبرأت أهالي المحلة الفلانية، وكان أهل تلك المحلة معينين، وعبارة عن أشخاص معدودين، فيصح الإبراء.
__________
(1) مغني المحتاج: 222/2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152.
(2) الفتاوى الهندية: 382/4، العناية بهامش فتح القدير: 281/6، فتح القدير: 23/7، القليوبي وعميرة: 159/3، 162، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، المجلة العدلية: م 1570، 1571، الشرح الكبير: 98/4.
(3) جامع الفصولين: 125/1، ط الأزهرية سنة 1300 هـ، الخرشي: 99/6، ط صادر، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، كشاف القناع: 337/4.(6/208)
ويصح إبراء المبرأ، سواء أكان مقراً بالحق أم منكراً له، بل ولو حلف المنكر؛ لأن الإبراء عند الجمهور غير المالكية ينعقد بمجرد الإيجاب، ولا يفتقر إلى القبول، ولا حاجة فيه إلى تصديق الغريم.
ثالثاً ـ شروط المبرأ منه (محل الإبراء) :
يشترط في المحل المبرأ منه مايلي (1) :
1ً - أن يكون عند الشافعية في الجديد معلوماً: فلا يصح الإبراء من المجهول: وهو ما لا تسهل معرفته، ويكون الإبراء من المجهول جنساً أو قدراً أو صفة باطلاً؛ لأن الإبراء تمليك وهو يتوقف على الرضا، ولا يعقل الرضا مع الجهالة. ولو أبرأه من الدراهم التي عليه، ولا يعلم قدرها، برئ من ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع على المعتمد.
لكنهم قالوا: طريق الإبراء من المجهول: أنه يذكر عدداً يتحقق أنه يزيد على قدر الدين، كمن لا يعلم، هل له عليه خمسة أو عشرة، فيبرئه من خمسة عشر مثلاً.
واستثنوا من بطلان الإبراء من المجهول: الإبراء من إبل الدية فيصح الإبراء منها، وإن كانت مجهولة الصفة؛ لأنها معلومة السن والعدد، فيرجع في صفتها إلى غالب إبل البلد.
واستثنوا أيضاً: ما لو أبرأه بعد موته، فيصح مع الجهل؛ لأنه وصية.
ولم يشترط الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) هذا الشرط، وأجازوا الإبراء من المجهول قدراً ووصفاً، ولو لم يتعذر علمه؛ لأنه إسقاط حق أو إسقاط محض كالإعتاق والطلاق، فينفذ مع العلم والجهل، فلو أبرأه من أحد الدينين صح الإبراء، لكن قال الحنابلة: لو كتم المدين الدين عن الدائن خوفاً من أن الدائن
__________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/2-183، الشرح الكبير مع الدسوقي: 411/3، مغني المحتاج: 202/2 وما بعدها، القليوبي: 326/2 ومابعدها، كشاف القناع: 336/4.(6/209)
لو علم الدين، لم يبرئه، وجهله رب الدين، لم تصح البراءة عنه؛ لأن فيه تغريراً للمبرئ، وقد أمكن التحرز عنه.
2ً - ألا يكون المبرأ منه عيناً من الأعيان: لأن العين لا تثبت في الذمة، والإبراء إسقاط، والذي يقبل الإسقاط: ما يشغل الذمم من الحقوق، فيكون الإبراء من الأعيان باطلاً، فلو غصب إنسان كتاباً، لم يصح الإبراء منه.
ويصح الإبراء من الديون، ولو كان الدين من الأعيان كالدية من الإبل مثلاً.
ويصح الإبراء من الحقوق، كالإبراء عن حق الدعوى، وإبراء الدائن الكفيل من الكفالة، والمحال عليه من الحوالة، إذ البراءة فيهما عن حق الكفالة أو الحوالة.
3ً - أن يكون المبرأ منه موجوداً عند الإبراء: فيبطل الإبراء من الحق قبل وجوده، كأن تبرئ شخصاً مما سيقرضه لك، أو مما سيجب له. وبناء عليه، لم يجز الحنفية إبراء الزوجة زوجها من نفقة مستقبلة، ولا من نفقة العدة قبل أن يطلقها؛ لأن الإبراء إسقاط، وما سيوجد ساقط فعلاً، فلا يقبل إسقاطاً.
واستدل الفقهاء لعدم صحة الإبراء من الدين قبل وجوبه، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاطلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك» (1) والإبراء في معناهما.
رابعاً ـ شروط صيغة الإبراء: يشترط في صيغة الإبراء وذاته أربعة شروط هي ما يلي (2) :
__________
(1) حديث حسن رواه أبو داود والحاكم بلفظ «لا طلاق إلا فيما يملك، ولا عتق إلا فيما يملك» ورواه ابن ماجه عن المسور بلفظ «لا طلاق قبل النكاح، ولا عتاق قبل ملك» .
(2) تكملة فتح القدير: 41/7، 44 ومابعدها، الدر المختار: 176/4، تكملة ابن عابدين: 330/2، الفتاوى الهندية: 378/4، 384، البدائع: 45/6، 50، 118، الدسوقي: 307/2، و89/4، 99، 100، فتح العلي المالك: 229/1، 322، 335، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، المجموع: 100/10، القليوبي: 292/2، 45/3، 83، 310، 368/4، كشاف القناع: 305/3، 337/4، المغني: 483/4 ومابعدها، و564/5، مغني المحتاج: 66/2.(6/210)
1ً - أن يكون منجزاً غير معلق بشرط ولا مضاف للمستقبل (1) : وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية. فالتنجيز شرط كأن يقول الدائن لمدينه: أبرأتك من ديني؛ لأن في الإبراء معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق.
والتعليق على شرط: إن كان على شرط موجود بالفعل، فهو في حكم المنجز. وإن كان على شرط ملائم، مثل: إن كان لي عليك دين، أو إن مت، فأنت بريء، فهو جائز اتفاقاً، بدليل قول أبي اليسر الصحابي لغريمه: «إن وجدتَ قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ» ولم ينكر ذلك عليه. ومنه قول الحنفية في الإبراء من الكفالة أو الحوالة: إذا قال الدائن للكفيل: إن وافيتني بالدين غداً، فأنت بريء من الكفالة، فإن وافاه في الغد برأ منها.
وإن علق على الموت، صح في رأي الحنفية والحنابلة؛ لأنه يكون حينئذ في معنى الوصية، والوصية بالبراءة من الدين جائزة.
وإن علق الإبراء على الشرط المتعارف، لم يجز في مذهب الحنفية، وجاز عند بعض الحنفية.
أما إن كان التعليق على غير ما ذكر فلا يجوز عند الجمهور، لما في الإبراء من معنى التمليك، والتمليكات لا تقبل التعليق، والتعليق مشروع في الإسقاطات المحضة.
وأجاز المالكية تعليق الإبراء مطلقاً، لما فيه من معنى الإسقاط.
__________
(1) التعليق: ربط وجود الشيء بوجود غيره، فهو مانع لانعقاد العقد. والتقييد: لا يمنع الانعقاد، بل هو لتعديل آثار العقد الأصلية. والإضافة: لتأخير بدء الحكم في زمن مستقبل.(6/211)
وأما التقييد بالشرط: فيجوز تقييد الإبراء بشرط صحيح باتفاق المذاهب الأربعة، ولا يصح التقييد بشرط غير صحيح، فإذا أبرأه على أنه بالخيار، صح الإبراء وبطل الشرط، وإذا أبرأه عن كل حق له عليه، شمل حق الخيار، لكن بالنسبة لسقوط الخيار، يصح الإبراء ويبطل الشرط؛ لأن الإبراء دون الهبة في كونه تمليكاً.
وأما إضافة الإبراء إلى المستقبل ولو إلى وقت معلوم غير الموت، فلا يصح؛ لأن الأصل في الإبراء هو التنجيز، ولأن الإبراء فيه معنى التمليك، والتمليك لا يحتمل الإضافة للوقت.
وأما الإبراء بشرط أداء البعض:
آـ فإن صدر مطلقاً عن الشرط: كأن يعترف له بدين في ذمته، فيقول الدائن: قد أبرأتك من نصفه أو ثلثه، فأعطني الباقي، فالإبراء صحيح اتفاقاً؛ لأنه منجز غير معلق ولا مقيد بشرط، والمبرئ متطوع بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لكعب: «ضع الشطر من دَيْنك» (1) .
ب ـ وإن كان الإبراء فيه معلقاً على أداء الباقي، لم يجز عند الجمهور، وجاز عند المالكية، كما تبين في حكم التعليق.
جـ ـ وإن كان الإبراء فيه مقيداً بشرط أداء الباقي، مثل أن يقول: من له على آخر ألف: أبرأتك عن خمس مئة، بشرط أن تعطيني ما بقي، جاز عند الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأنه استيفاء البعض، وإبراء عن الباقي.
واشترط الشافعية الجمع بين لفظي الإبراء والصلح، ليكون من أنواع الصلح، لكن لا يحتاج لقبول، نظراً للفظ الإبراء.
ولا يصح الإبراء المقيد بشرط أداء البعض عند الحنابلة؛ لأنه إبراء عن بعض الحق في مقابل بقيته، فكأنه عاوض بعض حقه ببعض.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن زياد بن أبي حَدْرد.(6/212)
هذا إذا كان الشرط أداء الباقي، أما إن أبرأه عن البعض بشرط تعجيل الباقي، لم يجز كما أبان الشافعية؛ لأنه يشبه ربا الجاهلية. فإن عجل المدين وفاء بعض الدين بغير شرط، فأخذه منه الدائن، وأبرأه مما بقي، فإنه يصح.
2ً - ألا يتنافى مع الشرع: كالإبراء من شرط التقابض في الصرف، والإبراء من حق السكنى في بيت العدة، والإبراء من حق الولاية على الصغير، فلا يصح؛ لأن كل ما يؤدي إلى تغيير المشروع باطل، ولا يستطيع أحد تغيير حكم الله تعالى.
ويشترط أيضاً ألا يؤدي الإبراء إلى ضياع حق الغير، كالإبراء الصادر من الأم المطلَّقة عن حق الحضانة، لأنه حق للصغير وللحاضنة.
3ً - أن يكون للمبرئ ملك سابق في الحق المبرأ منه: لأنه لا يصح تصرف الإنسان في ملك غيره دون إنابة منه، أو فضالة عنه عند من يصحح تصرف الفضولي. وهذا شرط متفق عليه؛ لأن تصرف الفضولي جائز عند القائلين به في حالة الظهور بمظهر المالك، وإلا كان من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه.
أما الإبراء بعد سقوط الحق أو وفائه، أي بعد قضاء الدين، فهو صحيح عند الحنفية؛ لأن الساقط بقضائه هو المطالبة، لا أصل الدين، فتسقط مطالبة كل من طرفي الدين للآخر، لانشغال ذمة كل منهما بدين الآخر، وأما الدينان فيتساقطان بطريق المقاصة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها. فإذا أبرأ الدائن المدين بعد وفاء الدين، كان للمدين الرجوع بما أداه، إذا أبرأه براءة إسقاط، أما إذا أبرأه براءة استيفاء فلا رجوع. ويعرف نوع البراءة عند الإطلاق بالعرف. وعليه، لو تبرع إنسان بقضاء دين لآخر، ثم أبرأ الدائن المدين على وجه الإسقاط، فللمتبرع أن يرجع على المبرئ(6/213)
بما تبرع به. هذا رأي الحنفية، ووافقهم الحنابلة فيه (1) .
4ً - أن يقع الإبراء بعد وجوب الحق المبرأ منه أو وجود سببه: لأن الإبراء إسقاط ما في الذمة، ويكون بعد انشغالها. وقد اتفق الفقهاء على عدم صحة الإبراء قبل وجود السبب، إذ لا معنى لإسقاط ما هو ساقط فعلاً، ويكون الإبراء مجرد وعد، وهو غير ملزم.
أما بعد وجود السبب ففيه خلاف: أما الجمهور غير المالكية فاشترطوا كون الإبراء من الدين بعد وجود السبب، فلا يصح الإبراء قبله، للحديث المتقدم: «لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك» والإبراء في معناهما.
والأمثلة عند الحنفية: الإبراء عن نفقة الزوجية قبل القضاء بتقديرها، والإبراء عن ثمن ما تشتريه مني غداً، فلا يصح الإبراء في الحالتين، لأنه قبل وجود السبب.
ومثل الشافعية بإبراء المفوّضة (2) عن مهرها قبل التقدير والدخول، والإبراء عن المتعة قبل الطلاق، لعدم الوجوب. واستثنوا صورة يصح فيها الإبراء قبل الوجوب: وهي ما لو حفر بئراً في ملك غيره بلا إذن، وأبرأه المالك من ذلك التصرف أو رضي ببقاء البئر، فإن حافرها يبرأ مما يقع فيها. ولو أبرأ المشتري البائع عن ضمان المبيع إذا تلف قبل القبض، لم يبرأ في الأظهر؛ لأنه أبرأ عما لم يجب.
أما المالكية فاختلفوا على قولين في صحة الإبراء قبل وجود السبب، وهو التصرف الذي ينشأ به الحق المبرأ منه، مثل إسقاط المرأة عن زوجها نفقة المستقبل، والقول الراجح أنه يلزمها ذلك أي يصح إبراؤها. ومثل: إسقاط الشفيع شفعته قبل الشراء، في لزومه قولان.
ومثل: عفو المجروح عما يؤول إليه الجرح، وكإجازة الوارث الوصية للوارث أو بأكثر من الثلث للأجنبي في مرض الموصي، ونحوهما، فيه قولان.
__________
(1) القواعد لابن رجب: ص 120.
(2) المرأة المفوضة: هي التي مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها ولم يكن لها صداق مفروض.(6/214)
المبحث الرابع ـ محل الإبراء:
محل الإبراء: إما الأعيان، وإما الديون، وإما الحقوق (1) :
أما الإبراء عن الأعيان: فقد يكون عن دعوى العين أو عن العين نفسها.
أما الإبراء عن دعوى العين فيشمله الكلام الآتي عن الإبراء عن الحقوق. وهو صحيح بالاتفاق؛ لأنه إسقاط لحق.
وأما الإبراء عن العين نفسها بمعنى إسقاط ملكية الأعيان فهو غير صحيح اتفاقاً؛ لأن الأعيان ـ كما تبين في شروط محل الإبراء ـ لا تقبل الإسقاط، فلا يترتب على الإبراء عنها بذاتها أي أثر، فلا يتملكها المبرأ، بل تظل في يد واضع اليد عليها مملوكة له، فالإبراء عن الأعيان بمعنى تمليكها لمن هي في يده لا يصح، ويحق لمن ظفر بها أن يأخذها.
وإذا أطلق هذا التعبير أي البراءة عن العين كان المراد منه عند الحنفية والشافعية والحنابلة سقوط حق الادعاء بها بعد الإبراء. وفي بعض كتب الحنفية: يبقى له حق الادعاء بها.
وعند المالكية: يراد بها سقوط الطلب بقيمة العين إذا فوتها المبرأ، وسقوط الطلب برفع اليد عنها إن كانت قائمة.
وهناك أثر آخر عند الحنفية للإبراء عن العين نفسها إذا كانت مضمونة كالدار المغصوبة: وهو سقوط ضمانها، سواء أكانت قائمة أم هالكة، فتصير العين بعد الإبراء عنها أمانة كالوديعة في يد الغاصب. فإذا كانت العين قائمة كان الإبراء عنها إبراء عن ضمانها لو هلكت، فتصبح كالأمانة لا تضمن إلا بالتعدي عليها. وإذا كانت العين هالكة، كان الإبراء عنها إبراء عن قيمتها.
وأما الإبراء عن أعيان هي أمانة فلا محل له، ولا وجه للإبراء عنها، إذ لم تلحقه عهدتها، فلا يجوز للقاضي أن يسمع دعواه بها بعد البراءة، فتصح البراءة قضاء، لكن لا تعتبر ديانة بمعنى أنه إذا ظفر بها صاحبها أخذها.
__________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/2 ومابعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 495/4، الدسوقي: 411/3، القليوبي وعميرة: 327/2، القواعد لابن رجب: ص 119 ومابعدها.(6/215)
وأما الإبراء عن الديون الثابتة في الذمم: فهو صحيح بالاتفاق؛ لأن مدار الإبراء هو إسقاط ما في الذمم.
وأما الإبراء عن الحقوق:
آـ فإن كان عن الحقوق الخالصة للعبد كالكفالة والحوالة فهو صحيح اتفاقاً.
ب ـ وإن كان عن الحقوق الخالصة لله عز وجل كحد الزنا، وحد القذف وحد السرقة بعد الرفع للحاكم عند الحنفية والمالكية، فلايصح الإبراء عنها.
جـ ـ وإن كان عن الحقوق التي يغلب فيها حق العبد كالتعزير والقصاص والدية وحق القسم بين الزوجات وحق الانتفاع وحق الفسخ بخيار العيب وغرامة تلف المال، ونحوها من الحقوق الشخصية التي تثبت في الذمم، فيصح الإبراء عنه. ويجوز الإبراء عن دين المدين بعد وفاته بالاتفاق، وهل يرتد بالرد من الوارث؟ فيه خلاف عند الحنفية. ولا يصح عند الحنفية الإبراء عن الحقوق التي لا تقبل الإسقاط، كحق الرجوع في الهبة، والرجوع في الوصية؛ لأن في جوازه تغييراً للمشروع، وهو غير جائز خلافاً للجمهور في رجوع الهبة.
ولا يصح أيضاً الإبراء من خيار رؤية المبيع، ولا من حق الاستحقاق في الوقف، وحق الإرث.
وأبحث على التخصيص بعض أحكام الإبراء عن بعض الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة:
1 ً - الإبراء من نفقة الزوجة:
لا يصح بالاتفاق الإبراء من نفقة الزوجة حتى تصبح ديناً قائماً في ذمة زوجها، أما قبل شغل ذمة الزوج بها، فلا يصح إبراء الزوج عنها؛ لأن الإبراء لا يكون إلا من دين قائم موجود.
لكن لا تصبح النفقة المستحقة ديناً واجباً عند الحنفية إلا إذا كانت مفروضة بالقضاء أو التراضي عليها. ويصح الإبراء عن النفقة المتجمدة التي سبق فرضها، ويصح الإبراء عن نفقة الشهر بدخول الشهر إذا كانت مفروضة مشاهرة، وعن السنة في بداية السنة إذا فرضت مسانهة، وعن اليوم الأول إن فرضت مياومة.(6/216)
2 ً - المبارأة بين الزوجين:
تكون المبارأة بين الزوجين لفسخ الزواج، وإسقاط الحقوق المترتبة عليه، ويترتب عليها عند الحنفية بينونة الزوجة بطلقة بائنة، كالخلع، مثل أن يقول الزوج لزوجته: بارأتك على ألف دينار، فتقول له: قبلت، أو نحوه، والمعنى: خالعتك من الزواج على ألف، وعليها دفع عوض المبارأة.
3 ً - الإبراء عن حق الدعوى:
الإبراء عن الدعوى إما عام أو خاص:
الإبراء عن الدعوى إبراء عاماً بإسقاط الحق في المخاصمة لا يجوز اتفاقاً؛ لأنه يتناول الموجود وما لم يوجد، والإبراء عما لم يوجد سبب وجوبه باطل. لكن الإبراء العام عن جميع الدعاوى السابقة بين شخصين صحيح، كأن يقول شخص: أبرأت فلاناً من جميع الدعاوى، أو ليس لي عنده حق أبداً (1) .
والإبراء الخاص عن دعوى معينة صحيح اتفاقاً، ولا تسمع دعواه بعدئذ عن موضوع تلك الدعوى (2) .
وقد يحصل الإبراء ضمناً أو تبعاً، وهو الإبراء عن العين، يكون عند الحنفية إبراء عن ضمانها أو دعواها، كما بينا.
المبحث الخامس ـ أنواع الإبراء:
لإبراء الإسقاط تقسيمات باعتبارات متعددة، فقد ينقسم بحسب الشمول وعدمه إلى خاص وعام، وقد ينقسم بحسب الزمن إلى ماض ومستقبل، وقد ينقسم بحسب صيغته إلى إبراء إسقاط وإبراء استيفاء.
التقسيم الأول ـ الإبراء من حيث الشمول وعدمه:
الإبراء نوعان: عام وخاص (3) .
أما العام: فهو الإبراء عن كل عين ودين وحق لشخص عند آخر. ويشمل كما أبان الحنفية البراءة عن كل حق، ولو غير مالي كالكفالة بالنفس والقصاص وحد القذف، والبراءة عما هو بدل مالي كالثمن والأجرة، وبدل غير مالي كالمهر وأرش الجناية، وما هو مضمون كالمغصوب، أو أمانة كالوديعة والعارية.
__________
(1) المجلة: م 1565.
(2) المجلة: م 1564.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 495/4.(6/217)
وأما الإبراء الخاص: فهو ما يتناول حقاً معيناً، وحكمه: أنه يختص بمحله، فإذا أبرأ عن دين خاص برئ عنه، أو عن دين عام كالإبراء عمَّا لشخص عند آخر، برئ أيضاً. وإذا أبرأ عن دار أو عين أو أمانة برئ.
التقسيم الثاني ـ الإبراء من حيث الزمن والأشخاص:
يقتصر أثر الإبراء على ما سبق تاريخه، فلا يشمل ما بعده من ديون أو حقوق، للاتفاق على اشتراط وجود سبب سابق لصحة الإبراء، جاء في فتاوى قاضيخان: «البراءة السابقة لا تعمل في الدين اللاحق» .
وأما أثر الإبراء على غير المبرأ، كإبراء البائع المشتري من بعض الثمن، فرأى أبو حنيفة ومالك أن الشفيع يستفيد من الإبراء، فيسقط عنه مقدار ما حطه البائع عن المشتري، ويلتحق حط البعض بأصل العقد.
ورأى الحنابلة والشافعية أن الإبراء يصح، ولا يستفيد منه سوى المشتري، وأما الشفيع فيدفع الثمن كله أويترك (1) .
التقسيم الثالث ـ الإبراء بحسب صيغته:
ينقسم الإبراء عند الحنفية (2) بحسب صيغته إلى إبراء إسقاط وإبراء استيفاء.
أما براءة الإسقاط: فتسقط الدين عن الذمة، مثل: أسقطت، وحططت، وأبرأت براءة إسقاط، وهي قد تكون بالنسبة للدين كله أو بعضه.
وأما براءة الاستيفاء: فهي عبارة عن الإقرار بأنه استوفى حقه وقبضه، مثل: أبرأتك براءة استيفاء، أو قبض، أو أبرأتك عن الاستيفاء. وتفيد عدم جواز المطالبة بالدين بعدئذ.
والفرق بينهما بالنسبة للرجوع على الدائن المبرئ: أن المدين المبرأ يرجع بما دفع في براءة الإسقاط، لا في براءة الاستيفاء اتفاقاً، ويتفرع عنه أنه لو علق رجل طلاق امرأته بإبرائها عن المهر، ثم دفعه لها، لا يبطل التعليق، وإذا أبرأته براءة إسقاط وقع الطلاق ورجع عليها بالمهر.
__________
(1) فتح القدير والعناية: 271/5، الدسوقي: 495/3، المغني: 323/5.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 176/4.(6/218)
وبالنسبة لأثرهما يختص إبراء الإسقاط بالديون؛ لأن العبارة فيه صريحة في إسقاطها، ولا يصح في الأعيان، لعدم صحة إسقاط الأعيان. أما إبراء الاستيفاء: فإنه يكون في الدين والعين جميعاً؛ إذ الإقرار بالوفاء كما يكون في الدين يكون في العين، عن طريق دفعها إلى مالكها.
المبحث السادس ـ حكم الإبراء وحكم الرجوع عنه:
حكم الإبراء، أي أثره المترتب عليه إذا صدر مستوفياً شروطه: هو سقوط الحق المبرأ منه بحسب كون الإبراء خاصاً أو عاماً، فإذا كان خاصاً، لم تجز المطالبة بالحق، ولا تسمع دعواه فيما تناوله الإبراء. وإذا كان عاماً شمل جميع الحقوق الموجودة عند صدوره، ولا يشمل ما يحدث بعده من الحقوق.
ولا يقبل من المبرئ الرجوع عن الإبراء ولا العدول عنه في رأي الحنفي والحنابلة، وفي الراجح عند الشافعية (1) ، كما لا يقبل الرجوع بالاتفاق إذا زال الملك عن الموهوب.
وكذلك لا يجوز الرجوع عن الإبراء في مذهب المالكية بعد القبول؛ إذ ظاهر المذهب كما عرفنا اشتراط القبول (2) ، كما لا يجوز في الهبة.
واستثنى الحنفية (3) من أثر الإبراء بعدم سماع الدعوى بعده المسائل الآتية:
1 - ادعاء ضمان الدَّرَك في البيع السابق للإبراء: لأنه وإن كان البيع متقدماً على الإبراء ومشمولاً بأثره، فإن ضمان الدرك متأخر عنه. وضمان الدرك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل التبعة عند ظهور حق فيه.
2 - ظهور شيء من الحقوق للقاصر، لم يكن يعلم به، بعد أن بلغ وأبرأ وصيه إبراءً عاماً، بأن أقر بأنه قبض كامل تركة والده.
3 - ادعاء الوصي ديناً للميت، بعد أن أقر باستيفاء جميع ماله على الناس.
4 - ادعاء الوارث ديناً للمورث، بعد إقراره على النحو السابق.
وسبب استثناء هذه الصور طروء خفاء يعذر به المبرئ في دعواه مع صدور الإبراء العام منه.
ويلاحظ أن سقوط حق الادعاء بسبب الإبراء إنما هو عند الحنفية بالنسبة لأحكام القضاء لا الديانة، فلو ظفر المبرئ بحقه أخذه (4) .
__________
(1) تكملة ابن عابدين: 182/2، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص152، كشاف القناع: 346/4.
(2) الفروق: 111/2.
(3) تنبيه ذوي الأفهام لابن عابدين: 91/2.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 495/4، تكملة ابن عابدين: 182/2.(6/219)
وقال الشافعية (1) : الإبراء في الدنيا إبراء في الآخرة.
وللمالكية قولان (2) ، الظاهر منهما أن الإبراء مطلقاً يشمل أحكام الدنيا والآخرة، فلا يؤاخذ المولى أحداً بحق جحده، وأبرأه صاحبه منه. والقول الآخر: لا تسقط عنه مطالبة الله في الآخرة بحق خصمه.
سماع الدعوى بعد الإبراء العام:
لا تسمع الدعوى بعد الإبراء، كما تقدم، ولكن فصَّل الحنفية (3) في الموضوع، فقالوا: إن كان الإبراء العام عن الدين، فلا تسمع الدعوى بعده إلا عن دين حادث بعد الإبراء.
وإن كان الإبراء عن عين: فلا تسمع الدعوى بعده إن كان المدعى عليه منكراً كون العين للمدعي؛ لأن الإبراء من المدعى موافقة على الإنكار.
أما إن كان المدعى عليه مقراً بأن العين للمدعي، لكنه تمسك بإبراء المدعي، فإن كانت العين قائمة تسمع الدعوى بعد الإبراء عنها، وإن كانت هالكة، كان الإبراء عن ضمانها، فلا تسمع الدعوى بها بعد الإبراء كالدين.
أثر الإقرار بعد الإبراء:
لا يعتبر ـ كما أبان الحنفية والمالكية (4) ـ الإقرار بالدين بعد صدور الإبراء العام من الدين إبراء عاماً؛ لأن الدين قد سقط بالإبراء، والساقط لا يعود.
الإبراء بعوض:
الإبراء بعوض عند الحنفية (5) : هو صلح بمال.
وأجاز الشافعية (6) بذل العوض في الإبراء، كأن يعطيه متاعاً مثلاً مقابل الإبراء عما عليه من الدين، فيملك الدائن العوض المبذول له، ويبرأ المدين. لكن لو أعطاه بعض الدين على أن يبرئه من الباقي، فليس العطاء تعويضاً، وإنما هو من الدائن قبض بعض حقه، ويظل الباقي في ذمة المدين، ويبطل الإبراء عند الجمهور غير المالكية، كما تقدم في شروط الصيغة.
__________
(1) حاشية قليوبي وعميرة: 327/2.
(2) الدسوقي: 411/3.
(3) إعلام الأعلام لابن عابدين: 100/2.
(4) إعلام الأعلام: 101/2، الدسوقي: 411/3.
(5) الدر المختار: 495/4.
(6) حاشية الجمل على شرح المنهج: 381/3، طبعة إحياء التراث.(6/220)
الفَصْلُ الخامِس عَشر: الاستِحقاق
الكلام فيه يتناول تعريفه، وحكمه المترتب عليه من فسخ ورجوع، وحكم الاستحقاق في عقود البيع والمقايضة والرهن والقسمة والصلح، والإجارة، والمساقاة والمزارعة، والزواج بالنسبة للصداق وبدل الخلع، والوصية، والوقف، وحكم استحقاق الأضحية والهدي، وفيه ثلاثة مباحث: الأول ـ التعريف والحكم، والثاني ـ أثر الاستحقاق في طائفة من العقود، والثالث ـ حكم استحقاق الأضحية والهدي.
المبحث الأول ـ تعريف الاستحقاق وحكمه المترتب عليه:
الاستحقاق لغة: طلب الحق، فالسين والتاء للطلب، لكن في المصباح: استحق فلان الأمر: استوجبه، فالأمر مستَحق (اسم مفعول) ومنه خرج المبيع مستحقاً، فصار المعنى الشرعي موافقاً للمعنى اللغوي.
وفقهاً: ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير. وبعبارة أخرى:
الاستحقاق: هو أن يدعي شخص ملكية شيء، ويثبت دعواه، ويقضي له القاضي بملكيته، وانتزاعه من يد حائزة.
وعرفه المالكية بقولهم: هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله.
والاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان (1) :
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 199/4 ومابعدها.(6/221)
1 - مبطل للملك بالكلية: بحيث لا يبقى لأحد عليه غير المدعي حق التملك، كالعتق والحرية الأصلية. وحكمه: أنه يوجب فسخ العقد بلا حاجة لحكم القاضي، ولكل واحد من الباعة الرجوع على بائعه بالثمن، فلو أقام العبد بيِّنة أنه حر الأصل، أو أنه كان عبداً لفلان فأعتقه، فلكل واحد وإن لم يرجع عليه أن يرجع على بائعه قبل القضاء عليه، ويرجع هو أيضاً على بائعه.
2 - وناقل للملك من شخص إلى آخر، وهذا هو الغالب: كأن ادعى زيد على خالد أن ما في يده من المتاع ملك له، وبرهن على ادعائه.
وحكمه: أنه لا يوجب فسخ العقد؛ لأنه لا يوجب بطلان ملك المشتري، وإنما يتوقف على إجازة المستحق أو فسخه، والصحيح عند الحنفية أن العقد لا ينفسخ ما لم يرجع المشتري على بائعه بالثمن، ويفسخ العقد في الأصح من ظاهر الرواية بالفسخ أي بالتراضي، لا بمجرد القضاء بالاستحقاق.
وليس لأحد من المشترين أن يرجع على بائعه بالثمن، ما لم يُرجع عليه، لئلا يجتمع الثمنان في ملك واحد، أي فليس للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الأخير.
والحكم بالاستحقاق يشمل ذا اليد فيؤخذ المدعى به من يده، ويشمل أيضاً كل من تلقى ذو اليد الملك منه. قال صاحب الدر: الحكم بالاستحقاق حكم على ذي اليد، وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه، ولو كان مورثه، ويتعدى الأمر إلى بقية الورثة.
إثبات المستحق حقه: يرجع المشتري على البائع بالثمن إذا ثبت الاستحقاق ببينة المستحق؛ لأنها حجة متعدية تظهر في حق كافة الناس، ولا تصير حجة معتبرة إلا بقضاء القاضي، حتى ينفذ قضاؤه في حق الكافة بماله من ولا ية عامة.(6/222)
أما إذا ثبت الاستحقاق بإقرار المشتري أو وكيله بالخصومة، أو بنكُولهما، فلا رجوع؛ لأن الإقرار حجة قاصرة على المقر لا يتعداه إلى غيره، لعدم ولايته عليه (1) .
تناقض الادعاءات: التناقض في الدعوى (2) : أي التدافع في الكلام، يمنع دعوى الملك لعين أو منفعة، إذا كان الكلام الأول قد أثبت حقاً لشخص معين، كأن ادعى شخص على آخر أنه أخوه، وطالبه بالنفقة، فقال المدعى عليه: ليس هو بأخي، ثم مات المدعي عن تركة، فجاء المدعى عليه يطلب ميراثه، فإن قال: هو أخي، لم يقبل، للتناقض.
أما إذا لم يثبت الكلام الأول لآخر حقاً، لم يمنع دعوى الملك، لقول المدعي: لا حق لي على أحد من أهل بلدة كذا، ثم ادعى شيئاً على أحد منهم، تصح دعواه.
ولا يمنع التناقض أيضاً دعوى ما خفي سببه كالنسب والطلاق، والحرية، كما إذا اشترى ثوباً في شيء مغلَّف، ثم زعم أنه له، ولم يعرّفه، تقبل دعواه.
ومثال النسب: لو باع عبداً مثلاً، ثم باعه المشتري لآخر، ثم ادعى البائع الأول أنه ابنه، تقبل دعواه، ويبطل الشراء الأول والثاني؛ لأن النسب يبتنى على العلوق، فيخفى عليه، فيعذر في التناقض.
ومثال الطلاق: إذا قاسمت المرأة ورثة زوجها، وقد أقروا بالزوجية كباراً، ثم برهنوا على أن زوجها كان طلقها في حال صحته ثلاثاً، رجعوا عليها بما أخذت.
ومثال الحرية: أن يبرهن البائع أو المشتري أن البائع حرر العبد المبيع قبل بيعه، يقبل قوله؛ إذ التناقض متحمل في العتق.
__________
(1) الدر المختار: 203/4.
(2) المرجع السابق: 205/4 ومابعدها.(6/223)
المبحث الثاني ـ حكم الاستحقاق في طائفة من العقود:
أولاً ـ الاستحقاق في عقد البيع والمقايضة:
أما أثر الاستحقاق في المقايضة: فلو استحق بدل المبيع، كأن اشترى داراً بسيارة ثم استحقت السيارة، وأخذت الدار بالشفعة، بطلت الشفعة، ويأخذ البائع الدار من الشفيع، لبطلان البيع؛ لأن الاستحقاق في بيع المقايضة، يبطل البيع (1) .
وأما أثر الاستحقاق في البيع، ففيه تفصيل وآراء:
رأي الحنفية (2) :
1ً - استحقاق بعض المبيع:
أـ إن استحق بعض المعقود عليه قبل القبض، ولم يجز المستحق، بطل العقد في القدر المستحق؛ لأنه تبين أن ذلك القدر لم يكن ملك البائع، ولم توجد الإجازة من المالك، فبطل، وللمشتري الخيار في الباقي: إن شاء رضي به بحصته من الثمن، وإن شاء رده سواء أحدث عيباً في الباقي أم لا، وسواء استحق الجزء المقبوض أو غيره؛ لأنه إذا لم يرض المستحق، فقد تفرقت الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، والتفرق يوجب الخيار، فكذا هذا.
ب ـ وإن كان الاستحقاق بعد قبض البعض دون البعض أو بعد قبض الكل، بطل البيع في القدر المستحق.
ثم ينظر في حالة قبض الكل: إن كان استحقاق ما استحق يوجب العيب في الباقي، بأن كان المعقود عليه شيئاً واحداً كالدار والسيارة والدابة ونحوها، فالمشتري بالخيار في الباقي: إن شاء رضي بحصته من الثمن، وإن شاء رد؛ لأن الشركة في الأعيان عيب.
وإن كان استحقاق ما استحق لا يوجب عيباً في الباقي، بأن كان المعقود عليه شيئين كالدابتين أو كمية من المثليات من مكيل كالقمح أو موزون كالزيت، فاستحقت إحداهما، فإنه يلزم المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأنه لا ضرر في تبعيضه، فلم يكن له خيار الرد.
والخلاصة: أنه في حال استحقاق بعض المبيع تتفرق الصفقة على المشتري الأخير، فيثبت للمشتري خيار تفرق الصفقة، فإن شاء احتفظ بباقي المبيع، وإن شاء فسخ العقد فيه ورده للبائع، إلا إذا كان استحقاق البعض قد وقع بعد قبض المشتري جميع المبيع، ولم تضر المبيع التجزئة، فلا يثبت للمشتري حينئذ خيار تفرق الصفقة باستحقاق البعض، بل يلتزم بالباقي بحصته من الثمن.
__________
(1) الدر المختار: 211/4.
(2) البدائع: 288/5 ومابعدها، فتح القدير: 175/5 ومابعدها.(6/224)
2 ً - استحقاق المبيع كله:
إن أثبت المستحق ملكية المبيع كله بالبينة، فقضي له به، لا ينفسخ البيع، بل يصبح متوقفاً على إجازة المستحق: فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. وإن لم يجز المستحق البيع، بل اختارأخذ المبيع، ينفسخ البيع السابق بالفسخ أي بالتراضي عليه في ظاهر الرواية، ويكون البائع ملتزماً للمشتري برد الثمن.
لكن إن كان الاستحقاق لموقوف أثبت المتولي وقفيته، فإن البيع ينفسخ حتماً، إذ ليس لأحد أن يجيز بيع الوقف.
شروط الرجوع بالثمن:
يشترط لرجوع المشتري على البائع بالثمن بعد استحقاق المبيع شروط ثلاثة (1) :
1ً - أن يكون الاستحقاق ناقلاً لملك البائع: بأن يدعي المستحق ملكاً مطلقاً أو من تاريخ أقدم من تاريخ الشراء، فإن ادعى المستحق الملك منذ شهر، وكان شراء المشتري من سنة مثلاً، فلا رجوع له على بائعه؛ لأن الاستحقاق حدث على ملك المشتري لا على ملك البائع.
2ً - ألا يتصالح المشتري والمستحق على أن يدفع المستحق إلى المشتري بعض الثمن ويأخذ المبيع؛ لأن المشتري عندئذ يكون قد أبطل حق رجوعه على البائع بهذا الصلح
أما إن تم الصلح على ترك المبيع للمشتري مقابل شيء يدفعه المشتري للمستحق، فلا يسقط حق الرجوع.
3ً - ألا يكون البائع قد أبرأ المشتري عن الثمن قبل الاستحقاق: فلو كان قد أبرأه عنه، فلا رجوع للمشتري عليه بشيء؛ لأنه لم يدفع شيئاً.
شرط سماع دعوى الاستحقاق قبل قبض المبيع: لا تسمع دعوى الاستحقاق على المبيع قبل قبضه، حتى يحضر البائع والمشتري عند القاضي للحكم عليهما؛ لأن الملك للمشتري، واليد للبائع، والمدعي يدعيهما، فشرط حضورهما للقضاء عليهما.
__________
(1) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 100 ومابعدها.(6/225)
أما إذا رفعت دعوى استحقاق المبيع بعد قبض المشتري، فيطلب حضور المشتري فقط، ولا يشترط حضور البائع، لكن يحق للمشتري طلب إدخاله في المحاكمة بصفة شخص ثالث، لما له من علاقة بحق الرجوع (1) . وأما زوائد المبيع كالولد: فإن أثبت المستحق حقه بالبينة أخذها؛ لأن البينة حجة مطلقة في حق جميع الناس، ولكن بشرط القضاء بها، وإن كان الإثبات بمجرد إقرار المشتري له بها أو بالنكول لأنه في حكم الإقرار، فلا يستحق أخذها؛ لأن الإقرار حجة على المقر فقط (2) .
3 ً - استحقاق احتباس المبيع:
إذا ظهر أن المبيع مستحق الاحتباس لغير البائع بسبب كونه مرهوناً (إشارة رهن) أو مأجوراً، وثبت الاستحقاق بالبينة، ففيه تفصيل:
أـ إن أجاز المرتهن أو المستأجر البيع، انفسخ الرهن والإجارة، ويصبح ثمن المبيع رهناً مكان البيع، وللمرتهن حبس المبيع حتى يقبض الثمن، وللمستأجر حبس المبيع حتى تعاد إليه الأجرة عن المدة الباقية من الإجارة لو كانت مدفوعة (3) .
ب ـ وإن لم يجز المرتهن أو المستأجر البيع، ليس له فسخه، بل يبقى المبيع في يده، ويخير المشتري بين أن ينتظر فكاك الرهن وانتهاء مدة الإجارة، أو يفسخ البيع، ويسترد الثمن المدفوع.
رأي المالكية (4) :
إذا استحق إنسان شيئاً من يد آخر وأثبت حقه بما تثبت به الأشياء في الشرع، فلا يخلو من أن يستحق من الشيء أقله، أو كله أو جله.
فإن كان المستحق أقل الشيء: فيرجع على المشتري بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجميع.
وإ ن كان المستحق كل الشيء أو جله: فإن كان لم يتغير أخذه المستحق، ورجع المشتري على البائع بالثمن. وإن تغير تغيراً يوجب اختلاف قيمته، رجع بقيمته يوم الشراء.
__________
(1) الدر المختار: 207/4.
(2) الدر المختار: 204/4 ومابعدها.
(3) انظر المادة 590 و 747 من المجلة.
(4) بداية المجتهد: 320/2 ومابعدها، الدسوقي: 470/3.(6/226)
وإن تغير الشيء بزيادة: فإن كانت الزيادة من ذات الشيء، أخذها المستحق، مثل أن تسمن الدابة أو يكبر نتاجها. وإن كانت الزيادة من قبل المشتري المستحق منه، كأن يبني في الدار بناء، فتستحق من يده، فيخير المستحق بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه، وبين أن يدفع إليه المشتري قيمة ما استحق، أو يكونا شريكين: هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو ما غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب.
وإن تغير الشيء بنقصان: فإن كان من غير سبب المستحق من يده، فلا شيء على المستحق منه. وإن كان بسبب من المستحق منه كأن يهدم الدار، ويبيع أنقاضها، ثم تستحق منه، فيرجع المستحق على المستحق منه بثمن ما باع من الأنقاض.
رأي الشافعية (1) :
إذا استحق بعض المبيع دون البعض الآخر ففيه خيار تفرق الصفقة، والأظهر من القولين عندهم في تفريق الصفقة تجزئة البيع، وإعطاء كل جزء من المبيع حكمه، فيصح البيع فيما يأخذه المشتري، ويبطل في المستحق، ويرجع المشتري على البائع بحصة المستحق من الثمن.
وأما إذا استحق المبيع كله، فيرجع المشتري بالثمن كله على البائع، سواء علم بالاستحقاق حال العقد، أم لم يعلم؛ لأنه أزيلت يده عن المبيع بسبب كان في يد البائع، وينفسخ البيع.
ولو خرج المبيع مستحقا قبل القبض، فلم يقبضه المشتري، لم يكن للمستحق مطالبة المشتري به، لعدم قبضه له حقيقة، وكذا لو باعه قبل نقله، فنقله المشتري الثاني، فليس للمستحق مطالبة المشتري الأول، لعدم قبضه له حقيقة. وإن وضع البائع المبيع بين يدي المشتري، فخرج مستحقاً، لم يضمنه المشتري، أي لم يطالب ببدله؛ لأن الوضع بين يدي المشتري يكون قبضاً في البيع الصحيح دون الفاسد، وكذا تخلية الدار ونحوها إنما تكون قبضاً في الصحيح دون الفاسد.
__________
(1) المهذب: 269/1، 288، مغني المحتاج: 40/2-42، 65-66، أسنى المطالب: 349/2 ومابعدها.(6/227)
ولو اعترف المشتري للبائع بالملك، ثم استحق المبيع، فإنه يرجع على البائع بالثمن؛ لأنه اعتراف بظاهر اليد.
ولو استحق المبيع باعتراف المشتري أو بنكوله عن يمين نفي العلم باستحقاق المبيع مع يمين المدعي المردودة، لم يرجع بالثمن على البائع، لتقصيره باعترافه مع شرائه أو بنكوله، وهذا موافق للحنفية.
أما إن استحق المبيع ببينة، أو بتصديق البائع والمشتري للمدعي، رجع المشتري على البائع بالثمن إن كان باقياً، وببدله إن كان تالفاً.
رأي الحنابلة (1) :
إذا استحق المبيع رجع المشتري على البائع بالثمن وبما غرمه من أجل بناء أو غرس في أرض؛ لأن البائع غرَّ المشتري ببيعه الأرض مثلاً وأوهمه أنها ملكه، لكن لا يرجع بما أنفق على الحيوان ولا بخراج الأرض؛ لأن المشتري التزم ضمان النفقة باعتبار أن عقد البيع يقتضي النفقة على المبيع ودفع خراجه. ولمستحق الأرض قلع الغراس والبناء، بلا ضمان نقص لموضعه.
وعبارتهم: إذا بنى المشتري على الأرض ثم أخذها المستحق، وهدم البناء، فالأنقاض للمشتري؛ لأنها أعيان ماله، ويرجع بقيمة التالف على البائع؛ لأنه غره، وقيده الشيخ التقي في موضع بما إذا كان عالماً، وإلا فلا تغرير. وهذا الرأي يصلح في الجملة أساساً للتعويض عن الخسارة.
__________
(1) كشاف القناع: 216/3، 47/4، 112-113، 357، ط مكة.(6/228)
ثانياً ـ الاستحقاق في عقد الرهن (استحقاق المرهون) :
رأي الحنفية (1) :
لو استحق بعض المرهون بعد الرهن، ينظر إلى الباقي:
أـ إن كان الباقي بعد الاستحقاق مما يجوز رهنه ابتداء، لا يفسد الرهن فيه.
ب ـ وإن كان مما لا يجوز رهنه ابتداء، فسد الرهن في الكل، كاستحقاق بعض الرهن شائعاً؛ لأنه لما استحق بعضه تبين أن العقد لم يصح في القدر المستحق، وأنه لم يقع إلا على الباقي، وبما أن الباقي شائع، فيفسد الرهن؛ لأن الشيوع عندهم يمنع صحة الرهن.
رأي المالكية (2) :
إذا استحق بعض الرهن المعين، فإن الباقي يكون رهناً عن جميع الدين.
وأما غير المعين: فيأتي الراهن للمرتهن ببدل البعض المستحق. وإذا استحق كل المرهون: فإن كان قبل قبض الرهن، فيخير المرتهن بين إمضاء العقد بلا رهن، وبين الفسخ. وإن استحق بعد القبض يبقى دينه بلا رهن، إلا أن يغره، فيخير بين الفسخ وعدمه. ومن رهن عقاراً أو حيواناً فاستحق شخص حصته منه، وتركها تحت يد المرتهن، فتلفت، فلا يضمنها المرتهن؛ لأنها باستحقاقها خرجت من الرهينة، وصار المرتهن أميناً فلا يضمن إلا ما بقي.
__________
(1) البدائع: 141/6، 151.
(2) الخرشي: 288/5، 298 ومابعدها، الشرح الكبير: 238/3.(6/229)
رأي الشافعية (1) :
إن استحق المرهون المبيع، رجع المشتري على الراهن؛ لأن المبيع له، فكانت العهدة عليه، ويستقر الضمان عليه، لو رجع المشتري على العدل الذي وضع عنده الرهن، إذ يجوز الرجوع عليه لوضع يده عليه.
رأي الحنابلة (2) :
إذا قبض المرتهن الرهن، فوجده مستحقاً، لزمه رده على مالكه، والرهن باطل من أصله. وإن استحق الرهن المبيع، رجع المشتري على الراهن؛ لأن المبيع له، فالعهدة عليه، كما لو باع بنفسه، وحينئذ لا رجوع له على العدل إن أعلمه العدل أنه وكيل.
ثالثاً ـ الاستحقاق في القسمة (استحقاق المقسوم كله أو بعضه) :
رأي الحنفية (3) :
إذا استحق العين المقسومة بطلت القسمة في الظاهر، ولكن تبين أنها في الحقيقة لم تصح. ولو استحق شيء منها، فإنها تبطل في القدر المستحق.
رأي المالكية (4) :
أـ إن استحق جل ما بيد أحد المتقاسمين، فإن القسمة تنفسخ، وترجع الشركة كما كانت قبل القسمة.
ب ـ وإن استحق نصف أو ثلث من نصيب أحد المتقاسمين، خير المستحق بين التمسك بالباقي ولا يرجع بشيء، وبين رجوعه شريكاً فيما بيد شريكه بنصف قدر ما استحق.
جـ ـ وإن كان المستحق ربع ما بيد أحد المتقاسمين، فلا خيار له، والقسمة باقية لا تنقض، وليس له إلا الرجوع بنصف قيمة ما استحق من يده، ولا يرجع شريكاً بنصف ما يقابله.
رأي الشافعية (5) :
أـ إن استحق بعد القسمة بعض مشاع من المقسوم كثلث أو ربع بطلت القسمة في البعض المستحق، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة والأظهر منهما صحة القسمة وثبوت الخيار، لعدم حصول مقصود القسمة: وهو التمييز، ولظهور انفراد بعض الشركاء بالقسمة.
ب ـ وإن استحق من النصيبين قدر معين على السواء، بقيت القسمة في الباقي؛ لأن كلاً من الشريكين وصل إلى حقه.
جـ ـ وإن كان المستحق من النصيبين لم يستو مع الآخر، بأن اختص المستحق بأحد النصيبين أو شملهما، لكنه في أحدهما أكثر من المستحق من نصيب الآخر، بطلت القسمة في الجميع؛ لأن ما بقي لكل واحد ليس قدر حقه، بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر، وتعود الإشاعة.
رأي الحنابلة (6) :
أـ إذا تقاسم الشركاء، ثم استحق من حصة أحدهما شيء معين، بطلت القسمة، لفوات التعديل، أي لم تعدل فيها السهام، فكانت باطلة.
__________
(1) مغني المحتاج: 135/2.
(2) المغني: 397/5، كشاف القناع: 334/3.
(3) البدائع: 24/7.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي: 514/3.
(5) مغني المحتاج: 425/4.
(6) كشاف القناع: 376/6، ط مكة.(6/230)
ب ـ وإن كان المستحق من الحصتين على السواء، بأن اقتسما أرضاً، فاستحق من حصتهما معاً قطعة معينة على السواء في الحصتين، لم تبطل القسمة فيما بقي من الأرض، كما قرر الشافعية؛ لأن القسمة إفراز حق كل واحد منهما، وقد أفرز، كما لو كان المقسوم عينين، فاستحق إحداهما.
جـ ـ وإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من نصيب الآخر، أو كان ضرره في نصيب أحدهما أكثر من ضرره في نصيب الآخر، كسد طريقه، أو سد مجرى مائه، أو سد محل طريقه ونحوه مما فيه ضرر، بطلت القسمة، لفوات التعديل، كالحالة الأولى.
وكذلك تبطل القسمة إن كان المستحق مشاعاً في نصيبهما؛ لأن الشريك الثالث لم يرض، ولم يحكم عليه بالقسمة.
وتبطل القسمة أيضاً إن كان المستحق مشاعاً في أحد النصيبين، لفوات التعديل.
رابعاً ـ الاستحقاق في الصلح (استحقاق محل الصلح أو عوض الصلح) :
رأي الحنفية (1) :
أـ إذا صالح على مال (عوض الصلح) ثم استحق من يد المدعي، لم يصح الصلح؛ لأنه تبين أن المصالح عليه (العوض) ليس مملوكاً للمصالح، وهذا شرط لصحة الصلح.
ب ـ إذا كان الصلح عن إقرار، واستحق بعض المصالح عنه (محل الصلح) رجع المدعى عليه بحصة المستحق من العوض؛ لأن هذا الصلح معاوضة مطلقة كالبيع. وإن استحق كل المصالح عنه، رجع بكل المصالح عليه.
__________
(1) البدائع: 48/6، 54، تكملة فتح القدير مع العناية: 29/7.(6/231)
جـ ـ وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار، فاستحق المتنازع فيه، رجع المدعي بالخصومة على المستحق لقيامه مقام المدعى عليه، ورد العوض؛ لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا لدفع الخصومة عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق ظهر ألا خصومة له، فيبقى في يده غير مشتمل على غرض المدعى عليه، فيسترده، كالمكفول عنه إذا دفع المال إلى الكفيل بغرض دفعه إلى رب الدين (الدائن) ثم أدى الدين بنفسه قبل أداء الكفيل، فإنه يسترده، لعدم اشتماله على تحقيق غرضه.
رأي المالكية (1) :
أ - استحقاق ما بيد المدعي: من ادعى على شخص بشيء كحصان، فأقر له به، ثم صالحه عنه بشيء معلوم قيمي كثوب، أو مثلي كطن قمح، ثم استحق ذلك المصالح به، فإن المدعي يرجع في عين شيئه الذي أقر به المدعى عليه إن لم يفت، فإن فات ذلك الشيء المقر به، فإن المدعي يرجع في عوضه، أي يرجع بقيمته إن كان قيمياً، أو بمثله إن كان مثلياً.
ب ـ استحقاق ما بيد المدعى عليه: من ادعى على شخص بحصان مثلاً، وأنه ملكه، فأنكره، ثم صالحه بقيمي، أو مثلي، ودفعه له، ثم استحق الحصان فإن المدعى عليه المنكر يرجع على المدعي بما دفعه له إن لم يفت، أما إن فات، رجع بقيمته إن كان قيمياً، أو بمثله إن كان مثلياً.
وإن استحق ما بيد المدعى عليه في الصلح بإقرار، لا يرجع المقر على المدعي بشيء، لاعترافه أنه ملكه، وأن المستحق أخذه منه ظلماً.
فمن اشترى سلعة وهو عالم بصحة ملك بائعها، فاستحقت من المشتري، فلا رجوع له على البائع، لعلمه أن المستحق ظالم في أخذها منه.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 470/3، الشرح الصغير: 626/3.(6/232)
رأي الشافعية (1) :
لو صالح شخص غيره على دار مثلاً على شيء معين، فاستحق الشيء، انفسخ العقد. فإن تعذر الرد بتلف في يده ونحوه، رجع في جزء من الدار بقدر ما نقص من قيمة الشيء، كما لو باع الدار.
رأي الحنابلة (2) :
لو صالح المدعى عليه عن دار بعوض، فبان العوض مستحقاً، رجع المدعي في الدار المصالح عنها؛ لأن الصلح عن إقرار ههنا بيع في الحقيقة، فإذا بان كون العوض مستحقاً، كان البيع فاسداً، فرجع فيما كان له.
وذلك بخلاف الصلح عن القصاص، فإنه ليس بيعاً، فلو صالح عن القصاص بمتاع نفيس، فخرج مستحقاً، رجع بقيمته.
وإن كان الصلح عن إنكار، وظهر العوض مستحقاً، رجع المدعي إلى دعواه قبل الصلح، لتبين بطلانه.
خامساً ـ الاستحقاق في الإجارة (استحقاق الأجرة أو المأجور) :
رأي الحنفية (3) :
لو آجر شخص داراً له، ثم استحقت، وأجاز المستحق الإجارة: فإن كانت الإجازة قبل استيفاء المنفعة، جازت إجارته، وكانت الأجرة للمالك؛ لأن المعقود عليه قائم. وإن أجاز العقد بعد استيفاء المنفعة، لم تجز إجارته، وكانت الأجرة للعاقد؛ لأن المنافع عند الإجازة كانت معدومة، فلا يبقى العقد بعدئذ.
وإن كانت الإجازة بعد مضي بعض المدة فيما لو آجرها غاصب، فالأجر كله للمالك في قول أبي يوسف. وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر ما بقي للمالك:
__________
(1) أسنى المطالب: 218/2.
(2) المغني: 493/5.
(3) البدائع: 177/4.(6/233)
رأي المالكية (1) :
إذا أجر الأرض من هي في يده، وهو ذو شبهة، مدة سنين أو شهور مثلاً، وقد مضى بعضها، ثم استحقت الأرض بعد الزرع، فيخير المستحق بين أن يفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وبين أن يجيز ما بقي منها، ولا شيء له فيما مضى من الأجرة؛ لأن ذا الشبهة يفوز بالغلة.
رأي الشافعية (2) :
الظاهر أن استحقاق المأجور مثل تلفه، والإجارة عندهم تنفسخ بانهدام الدار، لفوات المنفعة المعقود عليها قبل قبضها أو استيفائها، كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل قبضه. وتنفسخ أيضاً باستحقاق مأجور معين، لفوات المعقود عليه.
رأي الحنابلة (3) :
إذا وقعت الإجارة على عين، مثل أن يستأجر جملاً للحمل أو للركوب، فخرج مستحقاً، تبينا أن العقد باطل، ولا يلزم المؤجر بالبدل.
وإذا وقعت الإجارة على عين موصوفة في الذمة، فخرجت مستحقة لم يبطل العقد، ولزمه بدلها؛ لأن المعقود عليه موصوف غير متعين.
سادساً ـ الاستحقاق في المساقاة والمزارعة:
رأي الحنفية (4) :
إذا استحق النخيل، يرجع العامل بأجر مثله، إذا كان فيه ثمر وإلا فلا أجر له، فإذا لم تخرج النخيل شيئاً حتى استحقت، لا شيء للعامل؛ لأن في المزارعة لو استحقت الأرض بعد العمل قبل الزراعة لا شيء للمزارع، فكذا هنا.
أما في المزروعة فيرجع العامل بقيمة الزرع، على التفصيل السابق.
رأي المالكية (5) :
ينفسخ عقد المساقاة إذا استحق البستان المساقى عليه إن شاء المستحق، إذ له الخيار بين إبقاء العامل وبين فسخ عقده، لأنه تبين أن العاقد له غير مالك. وإذا فسخ كانت الغلة للمستحق، وعليه دفع أجر المثل للعامل بحساب ما عمل، حتى لايتضرر.
رأي الشافعية (6) :
لو خرج الثمر بعد العمل أو قبله مستحقاً لغير المساقي، كأن أوصى المالك بثمر الشجر المساقى عليه، أو خرج الشجر مستحقاً، فللعامل على المساقي أجرة المثل لعمله؛ لأنه فوت منافعه بعوض فاسد، فيرجع ببدلها، وذلك إذا عمل جاهلاً بالحال، فإن علم الحال فلا شيء له.
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 463/3.
(2) مغني المحتاج: 355/2-357.
(3) المغني: 432/5.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 201/5.
(5) الدسوقي: 547/3 وما بعدها، الخرشي: 261/6، بداية المجتهد: 321/2.
(6) مغني المحتاج: 331/2.(6/234)
رأي الحنابلة (1) :
إن ساقاه على شجر، فبان مستحقاً بعد العمل، أخذه المستحق وثمرته؛ لأنه عين ماله، ولا حق للعامل في ثمرته؛ لأنه عمل فيها بغير إذن مالكها، ولا أجر له عليه، وله أجر مثله على الغاصب؛ لأنه غرّه واستعمله، فلزمه الأجر.
سابعاً ـ الاستحقاق في عقد الزواج:
1 ً - استحقاق الصداق:
رأي الحنفية (2) :
إذا استحق المهر المعين قبل التسليم كدار مثلاً، صحت التسمية، ووجب على الزوج قيمة الدار، لتعذر تسليمها بالاستحقاق، ولم يجب مهر المثل.
ولو استحق نصف الدار، خيرت المرأة في النصف الباقي في يدها: إن شاءت ردته بالعيب الفاحش: وهو التشقيص في الأملاك المجتمعة، ورجعت بقيمة الدار، وإن شاءت أمسكته، ورجعت بقيمة نصفها.
ولو طلقها قبل الدخول، كان لها النصف الذي في يدها خاصة.
رأي المالكية (3) :
إذا استحق الصداق من يد المرأة أو وجد به عيب، رجعت بقيمته لا بمهر المثل، كما قال الحنفية؛ لأن طريق الزواج المكارمة، فقد ترجع بأضعاف مهر المثل وبعشره.
وقيل في المذهب: ترجع بالمثل، وقيل: ترجع بالأقل من القيمة أو صداق المثل.
رأي الشافعية (4) :
إن تزوجها بمغصوب أو بخمر، وجب مهر المثل في الأظهر، لصحة النكاح وفساد التسمية، لعدم كون المغصوب ملكاً للزوج؛ لأنه مستحق لغير الزوج، وعدم كون الخمر مالاً.
رأي الحنابلة (5) :
إن تزوجها على شيء معين كدار، فظهر مغصوباً أي مستحقاً للغير، فلها قيمته؛ لأن العقد وقع على التسمية المذكورة، فكان لها قيمته، ولأنه رضيت بقيمته، وذلك بخلاف ما لو قال: أصدقتك هذه الدار المغصوبة، فلها مهر المثل؛ لأنها رضيت الزواج بلا شيء، لرضاها بما تعلم أنه لا يقدر على تمليكه إياها، فكان وجود التسمية كعدمها.
وتخير الزوجة فيما إذا بان جزء من الصداق مستحقاً بين أخذ قيمة الشيء كله، أو أخذ الجزء المستحق وقيمة المستحق؛ لأن الشركة عيب، فكان لها الفسخ كغيرها من العيوب.
والخلاصة: إن الجمهور يوجبون في حالة استحقاق المهر المعين القيمة، والشافعية يوجبون مهر المثل.
__________
(1) المغني: 381/5.
(2) البدائع: 278/2، فتح القدير: 455/2، 462.
(3) بداية المجتهد: 28/2، الخرشي: 296/3، 1/6.
(4) مغني المحتاج: 225/3.
(5) المغني: 689/6-690، غاية المنتهى: 60/3، 62.(6/235)
2 ً - استحقاق بدل الخلع:
رأي الحنفية (1) :
لو اختلعت المرأة على شيء معين، فاستحق، لزمها قيمته؛ لأنه تعذر تسليمه مع بقاء السبب الموجب لتسليمه.
رأي المالكية (2) :
إذا خالع الرجل زوجته على شيء قيمي معين كثوب، ثم استحق بملك، فترد له قيمته يوم الخلع، أما إن خالعها على شيء مثلي غير معين كقمح، فترد له مثله، وذلك إذا لم يعلم كلاهما بأنه ملك الغير، فإن علما معاً أو علم دونها فلا شيء له، وإن جهلا معاً رجع بالقيمة في القيمي المعين، وبالمثل في الموصوف في الذمة، وإن علمت دونه، فإن كان بدل الخلع معيناً فلا خلع، وإن كان موصوفاً في الذمة، رجع بمثل المستحق.
والمغصوب والمسروق كالمستحق، فيرجع الزوج على امرأته بقيمته إن كان معيناً، وبمثله إن كان موصوفاً.
رأي الشافعية (3) :
لو خالعها على عين معينة كدار، فتلفت قبل القبض، أو خرجت مستحقة، فردها، أو فاتت منها صفة مشروطة، فردها، رجع عليها بمهر المثل. والعوض في يدها كالمهر في يده في أنه مضمون ضمان عقد، وقيل: ضمان يد.
__________
(1) فتح القدير: 209/3.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 349/2 ومابعدها.
(3) مغني المحتاج: 265/3.(6/236)
رأي الحنابلة (1) :
إذا خالع الرجل امرأته على عوض معين، فاستحق وبان غير مملوك لها، فالخلع صحيح؛ لأن الخلع معاوضة بالبضع، فلا يفسد بفساد العوض كالنكاح، ولكن يرجع عليها بقيمته.
ثامناً ـ الاستحقاق في الوصية والوقف (استحقاق الموصى به والموقوف) :
رأي الحنفية (2) :
أما حكم استحقاق الموصى به فقالوا: من أوصى بأن يباع بيته، ويتصدق بثمنه على المساكين، فباعه الوصي، وقبض الثمن، فاستحق البيت، ضمن الوصي؛ لأنه هو العاقد، فتكون العهدة عليه، وهذه عهدة؛ لأن المشتري منه ما رضي ببذل الثمن إلا ليسلم له المبيع، ولم يسلم، فقد أخذ البائع مال غيره بغير رضاه، فيجب عليه رده لصاحبه، ويرجع الوصي على تركة الميت؛ لأنه عامل له، فيرجع عليه كالوكيل، ويرجع في جميع التركة، بسبب التغرير من الميت، فكان الضمان ديناً على الميت، والدين يقضى من جميع التركة. أما إذا كان البائع هو القاضي أو أمينه فلا ضمان عليه، منعاً من تعطيل القضاء، بسبب الخوف من الغرامة، فتتعطل مصلحة الأمة.
فإن كانت التركة قد هلكت أو لم يكن بها وفاء، لم يرجع الوصي على التركة بشيء، لا على الورثة ولا على المساكين إن كان قد تصدق عليهم؛ لأن البيع لم يقع إلا للميت، فصار كما إذا كان على الميت دين آخر.
وأما حكم استحقاق الموقوف: فقالوا: لو وقف شيئاً بكامله ثم استحق جزء منه شائعاً، بطل الوقف عند محمد رحمه الله؛ لأن بالاستحقاق ظهر أن الشيوع كان مقارناً للوقف، كما في الهبة إذا وهب الكل، ثم استحق بعضه، بطلت لمقارنة الشيوع للهبة.
وإذا بطل الوقف في غير المستحق رجع الموقوف إلى الواقف، لو كان حياً، وإلى ورثته إن ظهر الاستحقاق بعد موته.
أما لو كان المستحق جزءاً معيناً، فلم يبطل الوقف في الباقي، لعدم الشيوع، فلهذا جاز في الابتداء أن يقف الباقي فقط.
__________
(1) المغني: 73/7.
(2) فتح القدير بالنسبة للوقف: 46/5 ومابعدها، تكملة الفتح مع العناية بالنسبة للوصية: 498/8 ومابعدها.(6/237)
رأي الشافعية (1) :
إن أوصى شخص لآخر بثلث بيت معين مثلاً، فاستحق ثلثاه، فللموصى له الثلث الباقي؛ لأن المقصود نفع الموصى له. وقيل: له ثلث الباقي، وصححه الإسنوي. هذا إن احتمله الثلث، وإلا فله ما يحتمله الثلث.
رأي الحنابلة (2) :
من أوصى لآخر بثلث شيء معين كبيت، فاستحق ثلثاه، فللموصى له ثلث الباقي إن خرج من ثلث التركة، وإلا فله ثلث الثلث إن لم تجز الورثة. وهذا متفق مع تصحيح الإسنوي كما تقدم.
المبحث الثالث ـ حكم استحقاق الأضحية والهدي:
ورأي الحنفية (3) :
إن اشترى رجل شاة ليضحي بها، فضحى بها، ثم استحقها رجل آخر بالبينة، فإن أخذها المستحق مذبوحة، لا تجزئ أضحية عن واحد منهما، وعلى كل واحد منهما أن يضحي بشاة أخرى ما دام في أيام النحر، وإن مضت أيام النحر، فعلى الذابح أن يتصدق بقيمة شاة وسط، ولا يلزمه التصدق بقيمة الشاة المشتراة؛ لأنه بالاستحقاق تبين أن شراءه إياها للأضحية وعدم شرائه سواء. بخلاف ما إذا اشترى شاة للأضحية، ثم باعها، فإنه يلزمه التصدق بقيمتها؛ لأن شراءه إياها للأضحية قد صح، لوجود الملك، فيجب عليه التصدق بقيمتها.
وإن ترك المستحق الشاة للذابح، وضمنه قيمتها، جاز الذبح، كما إذا اغتصب شاة إنسان كان قد اشتراها للأضحية، فضحاها عن نفسه بغير أمر صاحبها، تجزئ عن الذابح إن ضمنه صاحبها قيمتها حية؛ لأنه ملكها بالضمان من وقت الغصب بأثر رجعي (أي بالاستناد إلى الماضي) فصار ذابحاً شاة هي ملكه، فتجزيه، لكنه يأثم؛ لأن ابتداء فعله وقع محظوراً فتلزمه التوبة والاستغفار. وهذا قول أئمة الحنفية ماعدا زفر.
رأي المالكية (4) :
من اشترى شاة ثم ذبحها، ثم استحقت، فأجاز المستحق البيع، أجزأت لفعله ذلك في شيء ضمنه بالعوض الذي وجب للمستحق.
__________
(1) أسنى المطالب: 62/3.
(2) غاية المنتهى: 368/2.
(3) البدائع: 76/5 ومابعدها.
(4) الخرشي: 50/3.(6/238)
رأي الشافعية (1) :
إذا صارت الأضحية معينة بأن قال: هذه أضحية، أو نذر أضحية معينة، فقال: (لله علي أن أضحي بهذه البقرة مثلاً) أو (علي أن أضحي بها) ولو لم يقل: لله تعالى، لزمه ذبحها في وقت الأضحية، فإن أتلفت هذه الأضحية المعينة أو المنذورة، لا إن تلفت، وجب عليه بدلها بأن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها في الوقت المطلوب شرعاً، والظاهر لدي أن الاستحقاق مثل الإتلاف. وإن نذر أضحية في ذمته، ثم عين المنذور كهذا البعير، فإن تلفت المعينة عن النذر بقي الأصل في ذمته عليه في الأصح؛ لأن ما التزمه ثبت في الذمة، والمعين وإن زال ملكه عنه، فهو مضمون عليه.
رأي الحنابلة (2) :
إن اشترى أضحية أو هدياً وعينها، ثم بانت مستحقة بعد التعيين، لزمه بدلها، ولو بانت مستحقة قبل التعيين، لم يلزمه بدلها، لعدم صحة التعيين.
__________
(1) مغني المحتاج: 289/4.
(2) كشاف القناع: 9/3.(6/239)
الفَصْلُ السَّادس عَشَر: المقاصّة
وفيه مباحث أربعة تشمل: معنى المقاصة ومشروعيتها، ومحلها، وأنواعها وأحكامها (1) .
المبحث الأول ـ معنى المقاصة ومشروعيتها:
المقاصة لغة: المساواة، وفقهاً عرفها ابن جزي (2) بأنها اقتطاع دين من دين، وفيها متاركة ومعاوضة وحوالة. وعرفها الدردير (3) بقوله: هي إسقاط مالَكَ من دين على غريمك في نظير ما لَه ُ عليك بشروط. وهذا تعريف يشمل المقاصة الاتفاقية والمقاصة التي يطلبها أحد الطرفين وإن أبى الآخر. وعرفها الحنابلة بأن يستوي الدينان جنساً وصفة وحلولاً وأجلاً وقدراً.
وعرفها ابن القيم بقوله: المقاصة: سقوط أحد الدَّيْنين بمثله جنساً وصفة (4) . فإذا كان لخالد دينار عند محمد، ولمحمد دينار عند خالد، تلاقى الدينان قصاصاً، وسقط حق أحدهما في مطالبة الآخر.
والمقاصة مشروعة بالاتفاق بين المذاهب لحديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا، وبينكما شيء» (5) فقوله: لا بأس فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره. وقال البابرتي في العناية (6) : إن هذا الحديث يدل على المقاصة استحساناً، وهي المقاصة بين الدين والعين؛ لأن قبض نفس الدين لا يتصور؛ لأنه عبارة عن مال حكمي في الذمة، والدين لا يتعين بالتعيين، فكان قبضه بقبض بدله، وهو قبض العين. أما القياس فيقتضي ألا تقع المقاصة بين الدين والعين، لعدم المجانسة.
والعقل يقضي بجواز المقاصة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن قضاء الديون بها، ولا يمكن أن تقضى بسواها. وذكر الشافعية والحنابلة أن التقاص يحصل بنفس ثبوت الدينين، ولا حاجة إلى الرضا؛ لأن مطالبة أحدهما الآخر بمثل ما عليه عبث ولا فائدة (7) .
المبحث الثاني ـ محل المقاصة:
الأصل في المقاصة أن تقع بين دينين، بأن يكون للمدين دين آخر على دائنه، فيتقاص الدينان، فلا تقع المقاصة بين عين وعين ولا بين دين وعين.
ولكن صرح الحنفية بحصول المقاصة بين الدين والعين. كما تبين، فمن
__________
(1) انظر بحث المقاصة لأستاذ محمد سلام مدكور في مجلة القانون والاقتصاد، العددان الأول والثاني، السنة السابعة والعشرون، والعدد الرابع من السنة التاسعة والعشرين.
(2) القوانين الفقهية: ص 292.
(3) الشرح الكبير: 227/3.
(4) أعلام الموقعين: 321/1.
(5) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن ابن عمر (نيل الأوطار: 156/5) .
(6) العناية بهامش فتح القدير: 380/5 ومابعدها.
(7) تحفة المحتاج: 396/2، كشاف القناع: 253/3، 257.(6/240)
اشترى ديناراً بعشرة دراهم هي دين له على بائع الدينار، وقبض الدينار، وقعت المقاصة بنفس العقد.
والحقيقة أن هذه المقاصة وقعت بين دينين من جنس واحد، لا بين دين وعين من جنسين؛ لأن مشتري الدينار لما قبضه، كان قبضه قبض ضمان بالثمن الذي اتفقا عليه وهو العشرة، فثبت بالقبض في ذمته مثلها للبائع، فالتقى الدينان قصاصا، وإن كان الظاهر يوهم أن المقاصة وقعت بين دين وعين من جنسين مختلفين. فهذه الصورة وأمثالها من باب مقاصة الدينين. ويمكن القول بأن المقاصة الجبرية لا تكون إلا في دينين (1) .
أما المقاصة الرضائية أو الاتفاقية بين صاحبي الحقين فإنها جائزة بين دين وعين.
المبحث الثالث ـ أنواع المقاصة:
المقاصة إما جائزة أو غير جائزة. والجائزة إما جبرية أو اختيارية (اتفاقية) .
أولاً ـ المقاصة الجبرية وشروطها:
المقاصة الجبرية: هي التي تحدث بنفسها بين دينين متماثلين جنساً وصفة وقدراً وحلولاً وتأجيلاً، ولا تتوقف على تراضي الطرفين ولا على طلب أحدهما. مثل أن يقترض شخص من آخر نقوداً أو شيئاً يثبت ديناً في الذمة كالمثليات، ثم يبيع المقترض لدائنه متاعاً بثمن معجل من جنس الدين الذي عليه، فتقع المقاصة بين هذين الدينين، بمجرد ثبوت الدين الثاني، جبراً على الطرفين، ولا تتوقف على تراضيهما ولا على طلب من أحدهما.
__________
(1) بحث المقاصة للأستاذ مدكور: ص/9-13، العدد الأول من مجلة القانون، السنة 27.(6/241)
وهي جائزة عند الحنفية والشافعية والحنابلة (الجمهور) (1) إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع. ولم يجز المالكية (2) المقاصة الجبرية إلا بناء على طلب أو اتفاق، وأكثر التعريفات عندهم كانت للمقاصة الاتفاقية.
شروط المقاصة الجبرية:
يشترط في المقاصة الجبرية أربعة شروط (3) :
1 ً - تلاقي الحقين أو الدينين: وهو اجتماعهما في حيِّز واحد أي اجتماعهما لشخص باعتبارين، بأن يكون الشخص دائناً لأحدهما ومديناً بالنسبة للآخر، فلا تتحقق المقاصة إلا إذا كان كل من المتقاصين دائناً ومديناً معاً.
مثاله: لو كان للمشتري على الموكل دين تقع المقاصة لتلاقي الدينين، ولا تقع المقاصة في دين على ولي أو وصي نظير دين المولى عليه لعدم تلاقي الحقين، وتقع المقاصة بين دين لحاضنة الصغير ودين عليها، ولا تقع المقاصة بين الدائن ومدين غريمه، لعدم التلاقي بين هذين الدينين. ولا تجتمع المقاصة الجبرية مع الحوالة؛ لأن الحوالة عند الجمهور تنقل الدين من ذمة المدين إلى ذمة المحال عليه، فإذا ثبت للمدين على دائنه مثل دينه وقعت المقاصة جبراً، ولا يبقى عليه دين يحيل به دائنه على آخر، وإذا ثبت للمدين هذا الدين بعد الحوالة، لا تقع المقاصة لعدم التلاقي، فإن دائنه لم يبق دائناً له، وصار دائناً للمحال عليه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 250/4، الأم للشافعي: 388/7 ومابعدها، المادة 154 من مشروع تقنين الشريعة على مذهب أحمد، غاية المنتهى: 114/2، كشاف القناع: 296/3 ومابعدها.
(2) الحطاب: 549/4.
(3) ابن عابدين: 250/4، كشاف القناع: 296/3، 373، غاية المنتهى: 114/2، القوانين الفقهية: ص 292، الدسوقي: 227/3 ومابعدها، فتح العزيز شرح الوجيز: 241/18، الأنوار: 528/2، بحث المقاصة السابق.(6/242)
2 ً - تماثل الدينين (1) : باتحادهما جنساً ونوعاً وصفة وحلولاً وأجلاً. فإذا كان الدينان من جنسين، أو متفاوتين في الوصف، أو مؤجلين، أو أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، لم تقع المقاصة عند الحنفية، وقال المالكية: تصح المقاصة عند اختلاف الجنسين، كأن يكون أحد الدينين عيناً (ذهباً أو فضة) والآخر طعاماً أو عرضاً، أو يكون أحدهما عرضاً والآخر طعاماً، والعرض: ما ليس عيناً (نقداً) ولا طعاماً.
ومن المعلوم أن صنف كل من الدراهم والدنانير جنسان مختلفان عند الحنفية في ظاهر الرواية وعند الشافعية والحنابلة، لكن في المقاصة تعتبر جنساً واحداً استحساناً في رأي بعض مشايخ الحنفية، جاء في الفتاوى الظهيرية: إذا اختلف الجنس وتقاصا، كما لو كان له عليه مئة درهم، وللمديون مئة دينار عليه، فإذا تقاصا تصير الدراهم قصاصاً بمئة من قيمة الدنانير، ويبقى لصاحب الدنانير على صاحب الدراهم ما بقي منها.
وبما أن الأوراق النقدية حلت محل الفلوس الرائجة، فالنقود في زماننا بناء على رأي بعض مشايخ الحنفية تعد جنساً واحداً في المقاصة، عملاً بالعرف في التعامل، والمراعى فيها القيمة لا ذات النقد بخصوصه.
أما عند الشافعية والحنابلة فتعتبر النقود الورقية أجناساً مستقلة بناء على أن صنف الدنانير والدراهم عندهم جنسان، فلا تقع المقاصة بين دينين أحدهما دنانير والآخر دراهم لاختلاف الجنس.
أما تماثل الدينين في الصفات فهو شرط عند الحنفية والحنابلة،. ويعنون بذلك الصفات التي يكون لاختلافها اختلاف في القيمة والانتفاع.
واشترط الحنفية أن يكون الدينان حالّين، فإذا كانا مؤجلين أو كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، حتى وإن كان أجلهما واحداً، لم تقع المقاصة الجبرية.
واشترط الشافعية والحنابلة اتفاق الدينين في الحلول وفي قدر الأجل، فإذا كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، أو كانا مؤجلين واختلف أجلهما، لم تقع المقاصة. أما لو كانا مؤجلين لأجل واحد، فتقع المقاصة في رأي الحنابلة وفي الأصح عند الشافعية.
__________
(1) الدين: وصف في الذمة، وليس مالاً في الحقيقة عند الحنفية، ولا يطلق عليه اسم المال إلا تجوزاً؛ لأنه يصير مالاً بعد قبضه، ولا يصير الشيء ديناً في الذمة إلا إذا أمكن ضبطه بالوصف، بأن يكون من المثليات.(6/243)
أما المالكية فقالوا: تجوز المقاصة إن حل الدينان معاً، ولم تجز إن لم يحلا أو حل أحدهما دون الآخر إن اختلف الجنس بأن كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، فإن كانا ذهبين أو فضتين، جازت المقاصة إذا كان أجل الدينين قد حل، فإن لم يحل أجلهما أو حل أجل الواحد منهما دون الآخر ففيه قولان، والمشهور الجواز بناء على أن المقاصة متاركة تبرأ بها الذمم، ونظراً إلى بُعْد التهمة. هذا إذا كان الدينان من النقد. فإن كان الدينان طعاماً: فإن كانا من قرض، جازت المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل. وإن كانا من بيع، لم تجز المقاصة، سواء حل الأجل أم لم يحل؛ لأنه من بيع الطعام قبل قبضه. وإن كان الدينان عرضين فتجوز المقاصة إذا اتفقا في الجنس والصفة سواء حل الأجل أم لم يحل.
واشترط الفقهاء أيضاً اتفاق الدينين في الجودة والرداءة، فإن كان هناك تفاوت فيهما لم تقع المقاصة.
واشترط الحنفية تماثل الدينين في القوة والضعف، فدين النفقة للزوجة لا يقع قصاصاً بدين للزوج عليها إلا بالتراضي، بخلاف سائر الديون؛ لأن دين النفقة أدنى.
أما المالكية والشافعية والحنابلة فلم يشترطوا التماثل في القوة.
واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة أيضاً التماثل في الرواج والكساد والرخص والغلاء، فلا تقع المقاصة بنفسها إذا كان أحد الدينين من الدراهم الصحيحة، والآخر من الدراهم الغلة: وهي التي يقبلها التجار، ويردها بيت المال، لا لأنها زائفة، بل لأنها مكونة من قطع، وهي التي تسمى مكسرة أو مقطعة (1) .
اختلاف السببين: ليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سببا الدينين من نوع واحد، كأن يكون سبب أحدهما القرض والآخر ثمن مبيع أو أجرة، فإن كان أحدهما من قرض والآخر ثمن مبيع، وقعت المقاصة، وإن اختلف السبب.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 381/5.(6/244)
وليس من شرط المقاصة في الدينين أن يكون سبب كل منهما جائزاً غير محظور، فلو كان سبب أحدهما جائزاً كالبيع، والآخر محظوراً كالغصب أو كان السببان محظورين كالاستهلاك، وقعت المقاصة، ولا أثر لعدم مشروعية السبب في منع المقاصة، بعد توفر السبب: وهو ثبوت الدين في الذمة بحيث صار كغيره من الديون التي يجب الوفاء بها.
3 ً - انتفاء الضرر:
يشترط في المقاصة الجبرية ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد، فإذا ترتب عليها ضرر لأحد الطرفين أو لغيرهما، لم تقع المقاصة. قال الحنابلة (1) : من عليها دين من جنس واجب نفقتها، لم يحتسب به عليها من نفقتها مع عسرتها؛ لأن قضاء الدين إنما يكون بما فضل عن النفقة ونحوها، أي أن المقاصة الجبرية بين دين نفقة المرأة ودين عليها لا تقع في حالة الإعسار؛ لأن النفقة مقدمة على وفاء الدين. وهذا ضرر للمدين.
وتجهيز الميت مقدم على الدين كالنفقة، فمن باع شيئاً من التركة لدائن الميت من جنس دينه، لم تقع المقاصة، مراعاة لحق الميت ودفعاً للضرر، وهذا ضرر للمدين.
والدين الموثق بالرهن مقدم على غيره من الديون العادية في استيفاء الدين من الرهن، فلو باع الراهن المرهون لدائن غير مرتهن، ليوفي دين المرتهن، وكان الثمن مثل الدين الذي للمشتري عليه، لم تقع المقاصة. وهذا ضرر لمن تعلق حقه بالعين.
وكما أن ضرر المدين نفسه، وضرر من تعلق حقه بالعين يمنع من المقاصة، كذلك يمنع منها تعلق حق باقي الغرماء، فللقاضي عند الجمهور غير أبي حنيفة أن يحجر على المدين المفلس بطلب غرمائه، وله أن يمنعه من البيع بأقل من ثمن المثل، ومن التصرف والإقرار، حتى لا يضر بالغرماء.
__________
(1) كشاف القناع: 297/3.(6/245)
والخلاصة: إذا تعلق بأحد الدينين حق الغير لا تجوز المقاصة. مثال تعلق حق أحد الدينين: أن يبيع الرهن لإيفاء دين الدائن غير المرتهن، ومثال تعلق حق الغرماء: أن يبيع المفلس بعض غرمائه بثمن في الذمة من جنس دينه.
فلا مقاصة في الحالتين، لتعلق حق المرتهن بالمال في الأولى، ولتعلق حق باقي الغرماء في المبيع في الثانية.
حق الدائن طالب البيع:
إن باع المدين (المحجور عليه) شيئاً لإيفاء دين دائن، وكان المشتري دائناً للمدين البائع بدين من نوع الثمن، وقعت المقاصة جبراً بين دين البائع ودين المشتري؛ لأن هذا المدين غير محجور عليه وتصرف المدين غير المحجور عليه نافذ، ولا حرج على المدين في أن يوفي بعض دائنيه دون البعض الآخر، ولا مانع يمنع المدين المحجور عليه من بيع المال المحجوز، ولا من وقوع المقاصة بثمنه مع المشتري إذا كان غير الدائن طالب البيع الذي حجز له بدينه.
4 ً - ألا يترتب على المقاصة محظور ديني:
يشترط في المقاصة الجبرية أخيراً ألا يترتب عليها محظور ديني، كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في مجلس الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد، والتصرف على قاعدة «ضع وتعجل» عند الجمهور ونحو ذلك من المحظورات الشرعية.
ثانياً ـ المقاصة الاتفاقية:
هي التي تتم بتراضي الطرفين ما لم يترتب على ذلك محظور شرعي، سواء اتحد جنس الدينين أم لم يتحد، اتفقت الأوصاف أم اختلفت، وسواء أكان أحد الحقين ديناً والآخر عيناً.
ثالثاً ـ المقاصة غير الجائزة:
لا تجوز المقاصة إذا تخلف شرط من شروطها، ومنها أن يترتب على وقوعها مخالفة حكم شرعي، ويظهر هذا في بعض مسائل الصرف، وفي رأس مال السلم، وفي المسلم فيه، وفيما إذا وجدت شبهة الربا، ولو تراضيا.(6/246)
1 ً - الصرف (1) :
إذا وقعت المقاصة بين ديني المتصارفين بعد انتهاء مجلس عقد الصرف، كانت المقاصة باطلة؛ لأن عقد الصرف يقع باطلاً ولا يثبت به دين، فتبطل المقاصة لعدم قيام الدين في ذمة أحد المتقاصين.
وفيما عدا ذلك تكون المقاصة صحيحة، سواء أكانت بدين سابق، أم بدين لاحق، أم بدين ثبت للمدين على دائنه في المجلس من طريق قبض مضمون.
أـ إذا تصارف شخصان بدين سابق أضافا العقد إليه، جاز، كما إذا كان لرجل على آخر عشرة دراهم، فباعه هذا المدين ديناراً بالدراهم العشرة التي هي عليه دين؛ لأنه بإضافة العقد إلى هذا الدين، تقع المقاصة بالعقد نفسه بلا توقف على إرادة العاقدين لها، ووجه الجواز: أنه جعل ثمن الدينار دراهم لا يجب قبضها ولا تعيينها بالقبض، وهو جائز إجماعاً؛ لأن التعيين بالقبض للاحتراز عن ربا النسيئة، ولا ربا في دين سقط، إنما الربا في دين يقع الخطر في عاقبته (أي احتمال القبض وعدمه) ولذا لو تصارفا دراهم ديناً بدنانير ديناً، صح لفوات الخطر.
ب ـ إذا باع المدين بالعشرة التي لدائنه ديناراً بعشرة مطلقة عن التقييد بدين عليه، ودفع له الدينار، وتقاصا العشرة الثمن بالعشرة الدين، جاز استحساناً (2) ؛ لأنه بالتقابض انفسخ العقد الأول، وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدين؛ لأنهما لما غيّرا موجب العقد، فقد فسخاه إلى آخر اقتضاه، كما لو جدد البيع بأكثر من الثمن الأول، أي أن المقاصة تتضمن فسخ العقد الأول، ويكون الفسخ ثابتاً اقتضاء. وهاتان الحالتان مقاصة في دين سابق.
__________
(1) المبسوط: 19/14 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 379/5 ومابعدها، البدائع: 206/5، 218، الدر المختار ورد المحتار: 249/4 ومابعدها.
(2) والقياس الذي أخذ به زفر: ألا يجوز، لكونه استبدالاً ببدل الصرف قبل قبضه(6/247)
جـ ـ إذا كان الدين لاحقاً للصرف، كما لو باع ديناراً لآخر بعشرة دراهم، وباع مشتري الدينار لبائعه ثوباً بعشرة دراهم في مجلس الصرف، وسلم الثوب، ثم تقاصا العشرة بالعشرة في المجلس، جازت المقاصة في أصح الروايتين؛ لأن العقد الأول ينفسخ اقتضاء، لما قصدا إلى المقاصة.
د ـ إذا حصل الصرف ببيع عين بدين مطلق، ثم ثبت للمدين على دائنه دين في المجلس من طريق قبض مضمون، وقعت المقاصة جبراً من غير حاجة إلى تراض، كما لو استقرض الدائن من المدين مثل الثمن أو غصبه منه؛ لأن القبض قد تحقق.
ويلاحظ أنه في جميع هذه الحالات ما عدا الصورة الأولى لا بد من وقوع المقاصة قبل انتهاء مجلس عقد الصرف، فإذا انتهى المجلس بطلت المقاصة لبطلان الصرف كما تبين.
2 ً - المقاصة برأس مال السلم:
اتفق الحنفية ـ على ما عليه عامة الكتب عدا البدائع ـ والشافعية والحنابلة (1) على أنه لا تجوز المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم، ولو تراضيا عليها؛ لأن المقاصة تصرف في دين السلم قبل قبضه، وهو غير صحيح، إذ يشترط قبض جميع رأس مال السلم في مجلس العقد.
__________
(1) تبيين الحقائق: 140/4، الأنوار: 265/1، كشاف القناع: 296/3 ومابعدها.(6/248)
3 ً - المقاصة بالمسلم فيه:
لا تجوز المقاصة أيضاً بالمسلم فيه كما أبان محمد في كتابه «الأصل» (1) فمن أسلم إلى رجل في مد حنطة، ثم أسلم الآخر إليه في مد حنطة، وأجلهما واحد، وصفتهما واحدة أو مختلفة، فلا تصح المقاصة بينهما؛ لأنه بيع ما لم يقبض، فكل منهما لم يقبض شيئاً من مد الحنطة، وإنما أخذ به ديناً عليه، ولايجوز أن يأخذ إلا رأس ماله أو سلمه الذي أسلم فيه.
فإن كان أولهما سلماً والآخر قرضاً، لا يصير أحدهما قصاصاً في الحال؛ لأن المقاصة عبارة عن المساواة، ولا مساواة بينهما؛ لأن أحدهما معجل، والآخر مؤجل، والمعجل خير من المؤجل، فإن حل أجل السلم، كان أحدهما قصاصاً بالآخر.
وإن كان الأول منهما قرضاً والآخر سلماً، فلا مقاصة بينهما، وإن تراضيا على المقاصة.
4 ً - رأس مال السلم بعد الإقالة:
حكم رأس مال السلم إذا حصلت فيه إقالة كحكم المسلم فيه، وبما أنه لا تجوز المقاصة في المسلم فيه؛ لأنه مبيع منقول لا يجوز التصرف فيه قبل القبض، لا تجوز المقاصة في رأس مال السلم بعد الإقالة، فإن تقايلا السلم، لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئاً حتى يقبضه كله (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) المبسوط: 168/12.
(2) الهداية مع فتح القدير: 345/5....(6/249)
«لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» (1) أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبهاً بالمبيع، فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه.
5 ً - شبهة الربا:
اتفق الأئمة على تحريم ما فيه شبهة الربا، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا حرام، وعملاً بمبدأ سد الذرائع المتفق عليه بين الأئمة، وإن اختلفوا في مداه وتطبيقاته. فإذا أدت المقاصة إلى شيء من الربا، كانت غير جائزة.
ومن أمثلتها في بيوع الآجال كما ذكر المالكية (2) : باع له عشرة أرادب من الطعام بعشرة دراهم أي إلى أجل، وبعد أن غاب على الطعام وانتفع به، باع لبائعه عشرين أردباً من نوع ما اشتراه بعشرة دراهم، وتقاصا العشرة بالعشرة، لم يجز؛ لأنه أسلفه عشرة أرادب انتفع بها، ثم رد إليه عشرين أردباً، والثمن بالثمن ملغى؛ لأنه مقاصة، فهو قرض جر نفعاً.
المبحث الرابع ـ أحكام المقاصة:
يراد بالحكم هنا الأثر المترتب على الشيء أو مقتضاه.
مقتضى المقاصة (3) : هو الإسقاط، لكنه ليس إسقاطاً محضاً، وإنما هو إسقاط فيه معنى الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط فيه معنى.
الوفاء، أي إسقاط بعوض، والعوض هو إسقاط الآخر حقه، كما هو الحال في الطلاق على الإبراء، فكل من الطلاق والإبراء إسقاط، وكل منهما في مقابلة الآخر، فتكون المقاصة إسقاطاً فيها معنى المعاوضة، قال المالكية: إن المقصود من المقاصة: المعاوضة والإبراء. وقال الحنفية: إن في المقاصة وفاء، بل الوفاء في نظرهم لا يكون إلا من طريق المقاصة.
وهو إسقاط يقع جبراً، حتى في المقاصة التي لا تكون إلا عن تراض في رأي الحنفية.
ولكن ما الذي يسقط بالمقاصة؟ أهو نفس الدين أو المطالبة به؟
قال الجمهور غير الحنفية: إن المقاصة تسقط الدينين إن كانا متساويين، وتسقط مقدار الأقل منهما إن كانا متفاضلين، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل إن تفاوتا قدراً، وتبرأ الذمم بها براءة إسقاط، لا براءة مطالبة فحسب.
ويرى الحنفية أن المقاصة لا تسقط أصل الدين، وإنما تسقط المطالبة به فقط، أما الدين فيبقى شاغلاً للذمة، وإن لم تصح المطالبة به، فهو أشبه بالحق الذي لا تسمع الدعوى به للتقادم، ويترتب عليه أنه يصح الإبراء من الدين بعد المقاصة براءة إسقاط، وتصح هبته، ويصح الحط منه، ويرجع من تبرع بقضاء دين عن إنسان على من أداه له إذا أبرأه غريمه منه، بعد هذا، براءة إسقاط. وهذا في الواقع رأي غريب تأباه العدالة، فمن أدى دينه إلى غريمه أو قاصه فيه، لا يفهم منه إلا أنه قام بما يلغي تبعته، ويطهر ذمته، لا أنه يسعى إلى دفع المطالبة فقط.
__________
(1) هذا أثر رواه عبد الرزاق عن ابن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو، وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (نصب الراية: 51/4) .
(2) شرح الرسالة: 140/2.
(3) بحث المقاصة السابق.(6/250)
وإن كانت العين خيراً من الدين وتفضله؛ لأن الدين على خطر التوى والضياع، فهذا يظهر في دين يبقى دائماً، لا في دين ثابت يوفيه صاحبه بالعين، فينقضي بحصول هذا الوفاء. وإذا قلنا بأن الوفاء يثبت به دين في ذمة المستوفي، ووجد إذ ذاك دينان متماثلان متلاقيان، فلم لا يسقط أصل الدين، وتسقط المطالبة به وحدها (1) ؟
نقض المقاصة: إذا تمت المقاصة على وجه صحيح، لا يمكن نقضها لا بالفسخ ولا بغيره، إذ أن الساقط لا يعود، فمتى سقط الدين وتلاشى لا يمكن النقض.
لكن قد يطرأ بعد وقوع المقاصة الصحيحة ما يجعل أحد الدائنين لا حق له في استيفاء كل الدين الذي وقعت فيه المقاصة، فتنقض بالقدر الذي لا حق له في استيفائه، كما أنه يطرأ بعد وقوعها ما يقتضي زوال أحد الدينين، فتنقض من أجل ذلك.
مثال الحالة الأولى: إذا كان على رجل ألف دينار قرضاً، ثم باع المقترض لمقرضه في حال الصحة عيناً كسجادة مثلاً بألف دينار مؤجلة، ثم مرض المقترض، وحل الأجل، وعليه ديون، وقعت المقاصة.
فإن مات وعليه ديون، كان الغرماء أسوة المشتري فيما عليه من الثمن. ومعنى هذا أن المقاصة وقعت في حياته بكل الثمن، إذ لا يمكن للغرماء الاعتراض عليه في حياته، لعدم تبين أنه في حالة مرض موت، فإذا مات في مرضه هذا، تبين أن حق الغرماء متعلق بماله من وقت ثبوت سببه وهو مرض الموت، فلا يكون للمشتري أن يستوفي من دينه إلا بقدر ما يصيبه مع الغرماء، وتبطل المقاصة التي وقعت صحيحة في حياة المريض، بالقدر الذي زاد على حصة المشتري.
ومثال الحالة الثانية: إذا كان على الوكيل دين للمشتري، يصير الثمن قصاصاً. فإذا لم يسلم الوكيل ما باع حتى هلك المبيع في يده، بطلت المقاصة؛ لأن المبيع لما هلك قبل التسليم، انفسخ البيع من الأصل، وصار كأن لم يكن.
__________
(1) بحث المقاصة للأستاذ سلام مدكور في مجلة القانون ـ العدد الرابع للسنة 29: ص 34.(6/251)
الفَصْلُ السّابع عشر: الإكْرَاه
خطة الموضوع:
الكلام عن الإكراه (1) في المباحث الأربعة التالية:
المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه.
المبحث الثاني ـ شروط الإكراه.
المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية.
المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية.
وبحثها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ حقيقة الإكراه ونوعاه:
حقيقة الإكراه: الإكراه لغة: حمل الغير على أمر لا يرضاه قهراً. وهذا ينافي المحبة والرضا، ولذا اقترن الحب والإكراه في قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} [البقرة:216/2] .
وهو في اصطلاح الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو ترك ونفسه. وقد عرفه السرخسي في المبسوط بأنه: «فعل يفعله الإنسان بغيره، فينتفي به رضاه، أو يزول به اختياره» .
والمقصود بالرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به.
والمقصود بالاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس.
نوعا الإكراه: الإكراه عند الحنفية نوعان: إكراه ملجئ أو كامل، وإكراه غير ملجئ أو قاصر.
والإكراه الملجئ: هو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، وهو بأن يهدده بما يلحق به ضرراً في نفسه، أو في عضو من أعضائه. وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار، مثاله التهديد بالقتل أو التخويف بقطع عضو أو بضربٍ مبرِّح (أي شديد) متوال يخاف منه إتلاف النفس أو العضو، سواء قل الضرب أم كثر.
__________
(1) هناك تشابه بين الإكراه والحجر، لأن في كل منهما سلب ولاية المختار عن ممارسة تصرفاته (تكملة الفتح: 309/7) .(6/252)
والإكراه غير الملجئ أو الناقص: هو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتخويف بالحبس أو القيد، أو الضرب اليسير الذي لا يخاف منه التلف، أو بإتلاف بعض المال. وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار (1) .
وهناك نوع ثالث عند الحنفية وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا، ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت، أو نحوهم. وحكمه أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن الهمام من الحنفية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها (2) .
__________
(1) البدائع: 175/7، تكملة فتح القدير: 292/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 181/5، درر الحكام: 269/2 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 88/5 ومابعدها، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: ص 185 ومابعدها، الشرح الصغير: 546/2 ومابعدها، ط دار المعارف.
(2) بحث الإكراه بين الشريعة والقانون للشيخ زكريا البرديسي: ص 372.(6/253)
ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد وهو الإكراه الملجئ، وأما غير الملجئ فلا يسمى إكراهاً. قال الشافعية: يحصل الإكراه بتخويف بمحذور كضرب شديد وحبس طويل وإتلاف مال. ويختلف أثره باختلاف أحوال الناس، فلا يحصل الإكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة كقوله: لأضربنك غداً، ولا بالتخويف بالمستحق كقوله لمن عليه قصاص: افعل كذا وإلا اقتصصت منك. وشرط الإكراه: قدرة المُكْرِه على تحقيق ما هدد به بولاية أو تغلب عاجلاً ظلماً، وعجز المستكره عن دفعه بهرب أو غيره وظن أنه إن امتنع من فعل ما أكره عليه حقق المهدد به. ولا ينفذ تصرف المستكره بغير حق، لكن يقتص منه بمباشرته جناية القتل ونحوه (1) .
المبحث الثاني ـ شروط الإكراه:
يشترط لتحقق الإكراه أحد عشر شرطاً، وهي ما يأتي:
الأول ـ أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به، وإلا كان هذياناً، وبناء عليه كان أبو حنيفة يقول: لا إكراه إلا من السلطان؛ لأن غير السلطان لا يتمكن من تحقيق ما هدد به.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: يتحقق الإكراه من السلطان وغيره؛ لأن إلحاق الضرر بالغير يمكن أن يتحقق من كل متسلط.
وهذا الاختلاف بين الإمام وصاحبيه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان، فقد أفتى الإمام بحسب زمانه، ثم تغير الحال في زمان الصاحبين، فتغيرت الفتوى على حسب الحال. قال البغدادي: الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطاناً كان أو غيره (2) .
الثاني ـ أن يغلب على ظن المستكره أن المكره سينفذ تهديده لو لم يحقق ما أكره عليه، وأنه عاجز عن التخلص من التهديد بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة.
الثالث ـ أن يكون الأمر المكَره به متضمناً إتلاف نفس أو عضو أو مال أو متضمناً أذى بعض الناس الذين يهمه أمرهم، كالتهديد بحبس الزوجة، أو الوالدين، أو يلحق به غماً يعدم الرضا بحسب حاله، فمن الناس من يغتم بكلام خشن، ومنهم من لا يغتم إلا بالضرب المبرح.
الرابع ـ أن يكون المستكره ممتنعاً عن الفعل الذي أكره عليه قبل الإكراه: إما لحقه كبيع ماله، أو لحق شخص آخر كإتلاف مال الغير، أو لحق الشرع كشرب الخمر والزنا.
الخامس ـ أن يكون المهدد به أشد خطراً على المستكره مما أكره عليه، فلو هدد إنسان بصفع وجهه إن لم يتلف ماله أو مال الغير، وكان صفع الوجه بالنسبة إليه أقل خطراً من إتلاف المال، فلا يعد هذا إكراهاً.
السادس ـ أن يترتب على فعل المكره به الخلاص من المهدد به: فلو قال إنسان لآخر: (اقتل نفسك، وإلا قتلتك) لا يعد هذا إكراهاً عند الجمهور، والراجح عند الحنابلة؛ لأنه لا يترتب على قتل النفس الخلاص مما هدد به، فلا يصح حينئذ للمستكره أن يقدم على ما أكره عليه.
السابع ـ أن يكون المهدد به عاجلاً: فلو كان آجلاً لم يتحقق الإكراه؛ لأن
__________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 272 ويظهر أن هذا هو رأي المالكية والحنابلة.
(2) مجمع الضمانات: ص 204.(6/254)
التأجيل مظنة التخلص مما هدد به بالاستغاثة والاحتماء بالسلطات العامة. وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة. وقال المالكية: لا يشترط أن يكون المهدد به عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون الخوف حاَّلاً. وهذا هو الأرجح في تقديري.
الثامن ـ ألا يخالف المستكره المكره بفعل غير ما أكره عليه أو بالزيادة عليه، أو بالنقصان عنه، فإن خالفه في هذه الأحوال الثلاثة، كان طائعاً فيما أتى به، فلا يكون مستكرهاً. وهذا رأي الشافعية والمالكية.
فلو أكره إنسان شخصاً على طلاق امرأته، فباع داره، أو أكره على طلقة واحدة رجعية، فطلقها ثلاثاً، أو أكرهه على طلاق امرأته ثلاثاً، فطلقها واحدة، فهذه الصور الثلاث نافذة عندهم؛ لأنها ليست من الإكراه في شيء.
وقال الحنفية والحنابلة: المخالفة بالنقصان، بأن أتى الشخص أنقص مما أكره عليه، تجعل الشخص مكرهاً غير مختار، أما في حالة الزيادة أو فعل غير المكره عليه فلا تجعله مكرهاً، وإنما يكون مختاراً، كما قال الشافعية والمالكية.
التاسع ـ اشترط الشافعية أن يكون المكره عليه معيناً بأن يكون شيئاً واحداً، فلو أكره إنسان على طلاق زوجته (فلانة) عد هذا إكراهاً، أما لو أكره على طلاق إحدى امرأتيه، أو على قتل زيد أو عمرو، فلا يعد هذا إكراهاً.
ولم يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة هذا الشرط، فلو أكره رجل على أن يطلق إحدى امرأتيه، فطلق واحدة كان مكرَهاً، وهو الرأي الأرجح لدي.
العاشر ـ ألا يكون المهدد به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً: فإذا كان المكره به حقاً للمكره يتوصل به إلى ما ليس حقاً له ولا واجباً كتهديد الزوج زوجته بطلاقها إن لم تبرئه من دينها، فلا يكون إكراهاً، وقال بعضهم: يعتبر إكراهاً لأن الزوج سلطان زوجته، فيتحقق منه الإكراه.(6/255)
وهذا الشرط عند المتأخرين من الشافعية، ويوافقهم الحنفية فيه. أما الإمام أحمد فلم يشترط هذا الشرط، فالإكراه يتحقق عنده، ولو كان المهدد به حقاً للمكره (1) . وهذا هو المعقول.
الحادي عشر ـ ألا يكون المكره عليه مستحقاً على المستكره: كتهديد المفلس المحجور عليه ببيع ماله، وتهديد القاتل عمداً بالقصاص، وتهديد المولي (حالف يمين الإيلاء) بالتطليق عليه، فكل هذا ليس بإكراه، لأن الأمر المهدَّد به مستَحَق على المستكره.
والخلاصة: اتفق الشافعية والحنابلة على شروط ثلاثة للإكراه هي:
أولاً ـ قدرة المكره على تحقيق ما هدد به بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
وثانياً ـ عجز المستكره عن دفع الإكراه بهرب أو غيره، وأن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ماطلبه.
وثالثاً ـ أن يكون مما يستضر به ضرراً كثيراً كالقتل والضرب الشديد، والقيد والحبس الطويلين، وإتلاف مال ونحوه. أما الشتم أو السب فليس بإكراه.
واشترط الشافعية أيضاً أن يكون الإكراه بغير حق.
__________
(1) راجع البدائع: 176/7، تكملة فتح القدير: 293/7، الكتاب مع اللباب: 107/4، تبيين الحقائق: 182/5، الدرالمختار مع حاشية ابن عابدين عليه: 89/5 ومابعدها، بحث الإكراه بين الشريعة والقانون للأستاذ زكريا البرديسي: ص 7 ومابعدها، مغني المحتاج: 289/3 ومابعدها، المغني: 120/7، القوانين الفقهية: ص 227 ومابعدها.(6/256)
المبحث الثالث ـ أثر الإكراه في التصرفات الحسية (أي الفعلية أو الوقائع المادية) :
الذي يقع عليه الإكراه من الفعل أو الترك: إما أن يكون من الأمور الحسية أو من الأمور الشرعية، والمكره به في كل منهما: إما معين أو مخير فيه.
أما التصرفات الحسية المعينة فيتعلق بها حكمان: أحدهما بالنسبة للآخرة، والثاني بالنسبة للدنيا.
أما أحكام الآخرة في التصرفات الحسية المكره عليها، فتختلف بحسب نوع التصرف، وأنواع التصرف الحسي ثلاثة: مباح، ومرخص فيه، وحرام.
1 - التصرف الحسي المباح بالإكراه: هو أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، وحكمه أنه يختلف بحسب نوع الإكراه: فإن كان الإكراه ملجئاً أو تاماً كالتخويف بالقتل أو قطع العضو ونحوه، فتباح هذه الأفعال؛ لأن الله تعالى أباحها عند الضرورة، فقال سبحانه {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/6] فلو امتنع المستكره عن تناولها حتى قتل يؤاخذ به؛ لأن امتناعه إلقاء بالنفس إلى التهلكة، والله تعالى يقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] .
وإن كان الإكراه ناقصاً كالتهديد بالحبس والضرب اليسير، فلا يباح الإقدام عليها، ولا يرخص فيها أيضاً، حتى إنه يأثم بالإقدام عليها؛ لأنه يجب عليه تقديم حق الله تعالى على حق نفسه (1) .
والخلاصة: أن هذه التصرفات لاتباح إلا بالإكراه الملجئ.
2 - التصرف الحسي المرخص بالإكراه: هو كإجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان، أو سب النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أو الصلاة إلى الصليب، أو إتلاف مال المسلم، فهذه الأمور لا تباح، ولكن يرخص فعلها عند الإكراه التام، وإن امتنع المستكره عن فعلها حتى قتل، كان مثاباً ثواب الجهاد؛ لأن تحريمها لم يسقط عن فاعلها. وأما وإن كان الإكراه ناقصاً، فلا يرخص فيها أصلاً، ويحكم بكفر فاعلها، وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، وهذا مذهب الحنفية والمالكية. وعليه، لا يرخص بهذا التصرف إلا في حالة الإكراه الملجئ.
ورخص الشافعية والحنابلة والظاهرية التلفظ بالكفر عند الإكراه الناقص؛ لأن الكثير من حوادث الإكراه على الكفر في بدء الإسلام كانت إكراهاً ناقصاً، فهذا هو الراجح إذن من الرأيين.
__________
(1) البدائع: 176/7، تبيين الحقائق: 185/5، الدر المختار: 92/5، تكملة فتح القدير: 198/7، الكتاب مع اللباب: 110/4.(6/257)
والترخيص بإجراء كلمة الكفر عند الإكراه التام ثابت بقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل:16/106] . وهذا هو مذهب الجمهور والظاهرية.
أما المالكية: فلا يبيحون إجراء كلمة الكفر على اللسان إلا في الإكراه على القتل فقط، أما الإكراه بقطع عضو، فلا يعتبرونه مبيحاً لإجراء كلمة الكفر على اللسان.
ويلاحظ أن الامتناع عن الكفر أفضل، بدليل ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ اثنين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول في؟ قال: وأنت أيضاً، فخلى سبيله. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: كما تقول في؟ قال: أنا أصم، لا أسمع، فأعاد عليه ثلاث مرات، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له» (1) .
وأما الترخيص بسبِّ النبي صلّى الله عليه وسلم عند الإكراه، فهو جائز لما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، لما أكرهه الكفار على سبِّ محمد صلّى الله عليه وسلم، رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: ما وراءك يا عمار؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركوني حتى نلت منك، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد» (2) .
__________
(1) تفسير القرطبي: 189/10، التلخيص الحبير: ص371.
(2) رواه الحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو نعيم وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (راجع نصب الراية: 158/4) .(6/258)
ولو امتنع المستكره عن سب النبي حتى مات كان مأجوراً، بدليل ما روي من قصة خبيب، فقد أخذه المشركون وباعوه من أهل مكة، فأخذوا يعذبونه على أن يذكر آلهتهم بخير، ويسب محمداً، فلم يسب إلا آلهتهم، ولم يذكر محمداً إلا بخير، ولما يئسوا من كفره، أجمعوا على قتله، فسألهم أن يصلي ركعتين، فأوجز في صلاته حتى لا يظنوا أنه يخشى الموت، ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليموت وهو ساجد، فأبوا عليه ذلك، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، فاقرأ رسول الله مني السلام، ثم قال: اللهم أحص هؤلاء عدداً، واجعلهم بدَد َا َ، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
فلما قتلوه وصلبوه، تحول وجهه نحو القبلة، فقال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم: «هو سيد الشهداء، وهو رفيقي في الجنة» (1) .
__________
(1) روى قصة القتل أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة (راجع نصب الراية، المرجع السابق: ص159، نيل الأوطار: 253/7 ومابعدها) ، وقول الرسول «هو سيد الشهداء.. إلخ» حديث غريب كما قال الزيلعي، لأن المعروف أن حمزة سيد الشهداء كما روى الحاكم.(6/259)
فهذا دليل على أن الامتناع عن شتم النبي أفضل (1) .
وأما إتلاف مال المسلم: فيرخص فيه عند الإكراه التام؛ لأن مال الغير يستباح للضرورة، كما في حال المخصمة، والضرورة متحققة هنا؛ لأن الإكراه نوع منها. غير أن أثر الرخصة يظهر في سقوط المؤاخذة الأخروية، لا في سقوط أصل الحرمة؛ إذ الحرمة قائمة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (2) والمراد بالإكراه التام في إتلاف المال: هو الإحراق أو ما في معناه عند الشافعية والحنفية والحنابلة في المعتمد عندهم.
ويرى المالكية والظاهرية أنه لا يرخص في الإحراق لتعلق حق العبد به (3) : لأن الشارع حرم إضرار الغير، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (4) .
وأما الإكراه على الإسلام: وإن كان ممنوعاً شرعاً، فإن وقع اعتبر إسلام المستكره صحيحاً، وعومل معاملة المسلمين؛ لأنه إكراه في صالح المستكره، وإعلاء للدين الحق.
3 - التصرف الحسي الحرام الذي لا يباح ولا يرخص بالإكراه:
هو قتل المسلم بغير حق أو قطع عضو من أعضائه ولو أنملة؛ لأن القتل حرام
__________
(1) المراجع السابقة: البدائع: ص176 ومابعدها، تكملة فتح القدير: ص299، تبيين الحقائق: ص186، الدر المختار: ص93، الكتاب مع اللباب: 110/4، الموافقات: 325/1، أصول الفقه للمؤلف: 113/1، ط دار الفكر، الشفاء للقاضي عياض: 222/2، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي: ص 59 ومابعدها.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة (الأربعين النووية: ص 76 ومابعدها) .
(3) تكملة فتح القدير: 302/7، الدر المختار: 93/5، بحث الإكراه: ص53 ومابعدها، والمراجع السابقة.
(4) رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً، وله طرق يقوي بعضها بعضاً عن جماعة آخرين من الصحابة (مجمع الزوائد: 110/4، سبل السلام: 84/3، الإلمام: ص 363، المقاصد الحسنة: ص 468) .(6/260)
محض، قال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الإسراء:33/17] ، ولأن الاعتداء حرام أيضاً، قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} [الأحزاب:58/33] ، والتحريم سواء أكان الإكراه ناقصاً أم كاملاً.
ومثله أيضاً: ضرب الوالدين قل أو كثر، فإنه لا يباح بالإكراه؛ لأنه حرام، قال تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} [الإسراء:23/17] والنهي عن التأفيف نهي عن الضرب من باب أولى، فلو فعل شيئاً مما ذكر أثم.
وكذلك أيضاً: الزنا، فإنه لا يباح ولا يرخص للرجل بالإكراه مطلقاً، ولو فعل أثم؛ لأن حرمة الزنا ثابتة عقلاً، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32/17] . وكذا المرأة لا يرخص لها أيضاً عند الإكراه ولو كان تاماً، كما رجح الكاساني صاحب البدائع (1) .
والخلاصة: إن الكفروالقتل والزنا لا يباح بحال فيظل الإثم قائماً، وإن رخص بالنطق بالكفر، وهناك فرق بين الرخصة والإباحة، ففي الرخصة لا يباح الفعل أحياناً في حد ذاته، وإنما ترتفع المسؤولية فقط، أما في حال الإباحة فيصبح الشيء مباحاً في ذاته، فيرتفع الإثم والمسؤولية الدنيوية أيضاً.
وأما الأحكام الدنيوية في هذه الأنواع الثلاثة فهي مايأتي (2) :
النوع الأول، والكلام فيه عن:
1 ً ـ الإكراه على شرب الخمر: إذا كان الإكراه تاماً فلا يجب الحد على
__________
(1) راجع البدائع: 177/7، تكملة فتح القدير: 302/7، 306، تبيين الحقائق: 186/5 ومابعدها، 189، الدر المختار: 93/5 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 112/4 ومابعدها.
(2) المراجع السابقة المذكورة عند تفصيل كل نوع من أنواع التصرفات الحسية.(6/261)
المستكره على شرب الخمر اتفاقاً؛ لأن الحد شرع زاجراً عن الجناية في المستقبل، والشرب المكره عليه ليس جناية، بل هو مباح.
ولا تنفذ تصرفات السكران المكره على الشرب عند جمهور الفقهاء؛ لأن نفاذ تصرفات السكران حالة الاختيار عند القائلين به (1) كان تغليظاً عليه وزجراً له، ولامعنى للتغليظ في حالة الإكراه؛ لأنه ليس قائم العقل، فهو كالمجنون.
وأما إذا كان الإكراه ناقصاً فيجب الحد عند الحنفية؛ لأن شرب الخمر حينئذ يعتبر حراماً، فيطبق عليه حكم الشُّرب.
وقال جمهور الفقهاء: لا يجب الحد على المستكره على شرب الخمر إكراهاً ناقصاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) .
2 ً ـ الإكراه على السرقة: إذا كان الإكراه تاماً فلا إثم على السارق المستكره، ولا حد عليه للحديث السابق: «إن الله تجاوز عن أمتي ... » ولأن الحدود تدرأ بالشبهات. وإن كان الإكراه ناقصاً، فلا يرتفع الإثم ولا الحد عند بعض الفقهاء
__________
(1) الراجح من مذهب الشافعية رواية أحمد: هو نفاذ تصرفات السكران باختياره مطلقاً. والحنفية: يرون نفاذ تصرفات السكران مختاراً ماعدا الردة، والإقرار بما يحتمل الرجوع كحد الزنا، والمالكية: يرون نفاذ التصرفات ماعدا الإقرارات والعقود في المشهور من المذهب. والظاهرية ورواية عن أحمد: يرون عدم نفاذ التصرفات مطلقاً.
(2) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان وأبي الدرداء، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي ذر، ورواه أبو نعيم عن ابن عمر، بلفظ «إن الله وضع» إلا حديث أبي الدرداء وثوبان فهو بلفظ «إن الله تجاوز عن أمتي ... » وذكره ابن عدي عن أبي بكرة بلفظ «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً» ورواه الطبراني في الأوسط عن عقبة بلفظ «وضع عن أمتي ... » وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. فلفظ «رفع عن أمتي..» ليس موجوداً (نصب الراية: 64-65، التلخيص الحبير: ص109، مجمع الزوائد: 250/6) .(6/262)
(الحنفية) ، إذ لا ضرورة لفعل السرقة، ويرى جمهور الفقهاء أنه لا إثم ولا حد، عملاً بمقتضى إطلاق الحديث السابق: «إن الله تجاوز عن أمتي» فهذا الحديث ناطق بالعفو عن موجب الإكراه مطلقاً؛ تاماً أو ناقصاً.
النوع الثاني وفيه بحثان:
1 ً ـ الإكراه على الكفر: إذا كان الإكراه تاماً، فلا يحكم بالردة، ولا تبين امرأة المستكره اتفاقاً بين الفقهاء، ما عدا المالكية فيما إذا كان التهديد بغير القتل، وأقدم المهدد على الكفر، فإنه يرتد عندهم؛ لأن غير القتل أقل خطورة من الكفر.
وإن كان الإكراه ناقصاً، وتلفظ المستكره بالكفر لا يصبح مرتداً عند الشافعية والحنابلة والظاهرية، عملاً بقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..} [النحل:16/106] .
وقال المالكية والحنفية: يحكم بكفر المستكره إكراهاً ناقصاً، ويصبح مرتداً تلحقه أحكام المرتدين؛ لأنه ليس بمكره حقيقة بل أقدم على ما أقدم عليه لدفع الغم عن نفسه لا للضرورة. ويظهر أن الرأي الأول أرجح عملاً بالنص.
ويجري هذا الخلاف في الإكراه على الصلاة للصليب أو على السجود للصنم.(6/263)
وإذا كان الإكراه على الكفر لا يجعل المستكره كافراً، فإن الإكراه على الإسلام يجعل المستكره مسلماً كما تقدم، والفرق بين الحالتين: أن الإيمان في الحقيقة تصديق، والكفر تكذيب، وذلك يحصل في القلب، والإكراه لا شأن له بالقلب، ففي حالة الاختيار جعل اللسان دليلاً على ما في القلب ظاهراً، وفي حالة الإكراه على الكفر لا يجعل اللسان دليلاً على ما في القلب؛ لأن الإيمان أمر قلبي، أما في حال الإكراه على الإسلام، فيحكم بالإسلام مع احتمال أنه كافر في قلبه؛ لأن ترجيح جانب الإسلام إعلاء الدين الحق، وإعلاء الدين الحق واجب (1) ، قال عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» (2) .
ويلاحظ أن الذي يجوز إكراهه على الإسلام هو الحربي عند جمهور العلماء، وكذا يجوز إكراه الذمي والمستأمن عند الحنفية، ولا يجوز إكراههما عند جمهور العلماء، والأدلة تعرف في كتب الفقه المطولة، والراجح مذهب الجمهور في الذمي، كما أن الراجح في تقديري هو أن الحربي أيضاً لا يكره على الإسلام كما يقرر جماعة من العلماء لقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة:256/2] (3) .
2 ً ـ الإكراه على إتلاف المال: إذا أكره شخص غيره على إحراق أثاث منزل لآخر مثلاً، فإن كان الإكراه تاماً، فالضمان على المكره عند الحنفية والحنابلة في الأرجح عندهم وبعض الشافعية؛ لأن المستكره مسلوب الإرادة، وما هو إلا آلة للمكره، ولا ضمان على الآلة اتفاقاً.
وقال المالكية والظاهرية وبعض الشافعية: الضمان على المستكره؛ لأنه يكون في هذه الحالة كالمضطر إلى أكل طعام الغير، بجامع الإباحة في كل منهما، وكما يجب ضمان المضطر يجب ضمان المستكره.
__________
(1) البدائع: 178/6، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي: 61-67، تكملة فتح القدير: 307/7، المغني: 145/8، الكتاب مع اللباب: 114/4.
(2) أخرجه الدارقطني عن عائذ عن عمرو بن المزني، وفيه مجهولان، ورواه الطبراني والبيهقي عن عمر، ورواه نهشل عن معاذ، وروي موقوفاً على ابن عباس (راجع نصب الراية: 213/3، سبل السلام: 67/4) .
(3) راجع آثار الحرب في الفقه الإسلامي - الطبعة الثانية، للمؤلف: ص 78.(6/264)
وقال الشافعية في الأرجح عندهم وفي وجه عند الحنابلة: الضمان على المكره والمستكره؛ لأن الإتلاف صدر من المستكره حقيقة، ومن المكره بالتسبب، والتسبب في الفعل والمباشرة سواء، لكن يستقر الضمان في النهاية على المكره في الأصح.
وإن كان الإكراه ناقصاً: فالضمان على المستكره عند الحنفية والمالكية والظاهرية والشافعية والحنابلة؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار أصلاً، فلم يكن المستكره مجرد آلة للمكره، فكان الإتلاف من المستكره، فوجب الضمان عليه (1) .
النوع الثالث، وفيه بحثان:
1 ً ـ الإكراه على القتل: اتفق الفقهاء على تأثيم من أكره على القتل، فقتل، واختلفوا في القصاص منه إذا كان الإكراه تاماً.
فقال أبو حنيفة ومحمد، وداود، وأحمد في رواية، والشافعي في أحد قوليه: لا قصاص على المستكره، وإنما يقتص من المكره، ويعزر المستكره فقط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» والعفو عن الشيء عفو عن مقتضاه، فكان مقتضى ما أكره عليه عفواً، ولأن المستكره مجرد آلة للمكره، إذ القاتل في المعنى هو المكره، وإنما الموجود من المستكره صورة القتل، فأشبه المستكره الآلة، ولا قصاص على الآلة.
__________
(1) المراجع السابقة، البدائع: ص 179، مجمع الضمانات: ص205، اللباب شرح الكتاب: 112/4، تكملة فتح القدير: 302/7، تبيين الحقائق: ص186، المحلى لابن حزم: 281/8، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص179، قواعد الأحكام: 132/2، تهذيب الفروق: 203/2، الفروق: 208/2، كشاف القناع: 98/4، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 444/3، القواعد لابن رجب: ص 286.(6/265)
وقال زفر وابن حزم الظاهري: يقتص من المستكره؛ لأن القتل وجد منه حقيقة حساً ومشاهدة، ولأنه أتى محرماً عليه إتيانه. وأما المكره فهو متسبب، ولا قصاص بالتسبب عندهم، ورجح الطحاوي هذا الرأي.
وقال أبو يوسف: لا يقتص من المستكره ولا من المكره، للشبهة لأن المكره ليس بقاتل حقيقة وإنما هو مسبب للقتل، وإنما القاتل هو المستكره، ولما لم يجب القصاص على المستكره، فلأن لا يجب على المكره أولى. وإنما يجب على المكره الدية ولا يرجع على المستكره بشيء.
وقال المالكية والشافعية في الأرجح، والحنابلة في المذهب عندهم: يقتص من المكره والمستكره؛ لأن المستكره وجد منه القتل حقيقة، والمكره متسبب في القتل، والمتسبب كالمباشر كما ثبت شرعاً.
ويظهر أن الرأي الأول أرجح الآراء، وهو مذهب أبي حنيفة.
وأما إذا كان الإكراه ناقصاً فيجب القصاص على المستكره بلا خلاف؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار، فلا يمنع وجوب القصاص (1) .
وأما الدية حال الإكراه: ففي وجوبها روايتان عند الحنفية أرجحها أنها تجب على المكره.
وأما الإرث: فلا يمنع منه المستكره الذي أكره على قتل مورثه عند أئمة الحنفية ما عدا زفر.
والمستكره على قطع يد إنسان إذا قطعهما يجري فيه الخلاف المذكور في الإكراه على القتل.
__________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 7/2، 289/3، قواعد الأحكام: 132/2، القواعد لابن رجب: ص 287، المغني: 645/7.(6/266)
فإذا أذن المجني عليه للمستكره بقطع يده أو قتله، فلا يباح له الفعل؛ لأن هذه الجنايات لا تباح بالإذن. فإن تم القطع في هذه الحالة، فلا ضمان على أحد، لوجود الإذن من جهة المجني عليه، وأما في القتل فلا عبرة بالإذن، وتجب حينئذ الدية على المكره، كما في ظاهر الرواية. وفي رواية: لا تجب (1) .
2 ً ـ الإكراه على الزنا: الإكراه على الزنا إما أن يقع على المرأة أو على الرجل.
فإذا أكرهت المرأة على الزنا: فلا يقام عليها الحد عند جمهور الفقهاء، سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً، لقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} [النور:33/24] فدلت الآية على انتفاء الإثم عن المرأة المكرهة على الزنا، وإذا انتفى الإثم عنها ارتفع الحد.
وإذا أكره الرجل على الزنا إكراهاً تاماً أو ناقصاً، فالمختار عند الحنابلة وجوب الحد عليه؛ لأن الزنا لا يتحقق إلا بانتشار العضو، والانتشار لا يكون مع الخوف، فحيث يوجد الانتشار، توجد الطواعية في الفعل، فيكون المستكره على الزنا إذا حدث منه طائعاً، فيجب عليه الحد.
والواقع أن الانتشار طبيعي ليس دليلاً على الاختيار؛ لأن الانتشار الطبيعي عند مقابلة المرأة، ولذا يحدث للنائم ولا اختيار له.
وقال الشافعية في المعتمد عندهم: لا يجب الحد على المستكره على الزنا سواء أكان الإكراه تاماً أم ناقصاً؛ لأن الإكراه أياً كان نوعه يورث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
__________
(1) البدائع: 180/7، مجمع الضمانات: ص 204-205، اللباب شرح الكتاب: 112/4، مختصر الطحاوي: ص 409 ومابعدها.(6/267)
وأما الحنفية: فكان أبو حنيفة يرى وجوب الحد على المستكره على الزنا، ثم قال: إذا كان الإكراه تاماً ـ وهو الذي يتحقق فقط من السلطان بحسب عرف زمانه ـ فلا يجب الحد. وأما إكراه غير السلطان فيوجب الحد. وقال الصاحبان: لا يجب الحد حالة الإكراه التام، سواء أكان الإكراه من السلطان أم من غيره، ورأيهما هو الأرجح عند الحنفية. وهو رأي أبي حنيفة أخيراً.
وإن كان الإكراه ناقصاً: فيجب الحد عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن الإكراه الناقص لا يسلب الاختيار، فيكون الزاني في هذه الحالة مختاراً، فيحد.
والخلاصة: إن الحنفية لا يوجبون الحد في حالة الإكراه التام، ويوجبونه في حالة الإكراه الناقص.
وقال المالكية: إن كان الرجل والمرأة مكرهين على الزنا فيجب الحد. وإن كانت المرأة طائعة ولم تكن ذات زوج، فقد أسقطت حقها برضاها، فلم يبق سوى حق الله تعالى، وحق الله يسقط بالإكراه، فلا يجب الحد عند بعض المالكية إذا كان التهديد بالقتل. أما بغير القتل فيجب الحد، وهذا هو المفتى به. والمشهور في المذهب: وجوب الحد على الرجل والمرأة.
وكذلك يحد المكره على الزنا في مذهب الحنابلة.
والذي يظهر هو رجحان مذهب الشافعية؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات (1) .
الإكراه على أحد أمرين: كل ما ذكر إذا كان التصرف الحسي المكره عليه معيناً، فإن كان المكره عليه مخيراً فيه: فبالنسبة للحكم الأخروي يظل المباح
__________
(1) البدائع: 180/7، تكملة فتح القدير: 306/7، مختصر الطحاوي: ص 410، الدر المختار: 95/5، تبيين الحقائق: 189/5، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي: ص 56 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 318/4، المغني: 251/5.(6/268)
والمرخص فيه والحرام كما هو في حالة التعيين، ولكن عليه اختيار الأخف، فإذا أكره إنسان على أكل ميتة أو قتل مسلم، يباح له الأكل، ولا يرخص له القتل، ولو امتنع من الأكل حتى قتل يأثم. ولو أكره على إتلاف مال إنسان أو قتله رخص له الإتلاف.
ولو أكره على القتل أو الزنا، لا يرخص له أن يفعل أحدهما، ولا يأثم إذا قتل.
ولو أكره على القتل أو الكفر، يرخص له إجراء كلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان.
وأما بالنسبة للحكم الدنيوي: فقد يختلف الحكم بالتخيير عن حالة التعيين، فلو أكره على أكل الميتة أو قتل المسلم، فلم يأكل وقتل، يجب القصاص على المستكره عند الحنفية؛ لأنه أمكنه دفع الضرورة بتناول المباح، فكان القتل حاصلاً باختياره.
ولو أكره على الكفر أو القتل، فقتل ولم يكفر بلسانه، فالقياس: أنه يجب عليه القصاص؛ لأنه اختار القتل الذي هو حرام على المرخص فيه، ومقتضى الاستحسان. أنه لا قصاص عليه، ولكن تجب عليه الدية، إن لم يكن عالماً أنه مرخص له بلفظ الكفر (1) .
المبحث الرابع ـ أثر الإكراه في التصرفات الشرعية: (أي في التصرفات القولية أو التصرفات القانونية) .
أبدأ الكلام على التصرفات الشرعية المعينة وأقول:
التصرفات الشرعية المعينة إما أن تكون إنشاء أو اقراراً. والتصرفات الإنشائية نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع يحتمل الفسخ.
__________
(1) راجع البدائع: 181/7(6/269)
أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ: فهي كالطلاق والنكاح والظهار واليمين والعفو عن القصاص. وقد أوصلها بعض الحنفية إلى عشرين، والتحقيق أنها خمسة عشر (1) .
وأما التصرفات التي تحتمل الفسخ: فهي كالبيع والإجارة ونحوهما من كل تصرف يعتبر سبباً للملك.
أولاً ـ التصرفات التي لا تحتمل الفسخ (أي الرد، وهي التصرفات اللازمة) :
يرى الحنفية أنه لا تأثير للإكراه على التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ أي الرد، ولا يشترط فيها الرضا، فتعتبر هذه التصرفات نافذة مع الإكراه؛ لأنها لا تقبل الفسخ، فتصبح لازمة. فلو أكره الرجل على الطلاق أو النذر أو اليمين أو الظهار أو النكاح أو الرجعة، أو الإيلاء أو الفيء فيه باللسان، أو العفو عن القصاص، وقع المكره عليه؛ لأنها تصرفات يستوي فيها الجدل والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما، والأصل فيه حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه، وهو «أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة، فحلف مكرهاً، ثم أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم» وقد أخرج عبد الرزاق في
__________
(1) راجع الدر المختار ورد المحتار عليه: 96/5.(6/270)
مصنفه عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره (1) . ويؤيده عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/2] الآية.
والخلاصة: أن هذه التصرفات تصح وتلزم من المستكره.
ويرى جمهور الأئمة غير الحنفية أن الإكراه يؤثر في هذه التصرفات، فيفسدها، فلا يقع طلاق المكره مثلاً، لا يثبت عقد النكاح بالإكراه ونحوهما. وهذا هو الأرجح.
واستدلوا بأن الله تعالى لما لم يرتب على التلفظ بالكفر حالة الإكراه أثراً في قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106/16] فلا يترتب على أي تصرف قولي مع الإكراه أي أثر.
وقد ثبت في السنة أن خنساء بنت خزام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرد نكاحها (2) ، ويؤيدها حادثة أخرى وهي أن فتاة زوجها أبوها من ابن أخيه وهي كارهة، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأمر إليها (3) .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (نصب الراية: 222/3) .
(2) رواه البخاري عن خنساء بنت خزام (نصب الراية: 191/3) .
(3) أخرجه النسائي وأحمد عن عائشة بلفظ: «إن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته (أي دنا ءته) وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء، أن ليس للآباء من الأمر شيء» قال البيهقي: هذا مرسل. ويؤيده خبر آخر في موضوعه، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه مرسلاً عن ابن عباس (راجع سبل السلام: 122/3، نصب الراية، المرجع السابق: ص 192) .(6/271)
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق في إغلاق» (1) وفسر الشافعي الإغلاق بالإكراه، وقال عليه السلام أيضاً: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) أي رفع حكم الإكراه وغيره. ثم إن هذه التصرفات لا تصح مع الإكراه حتى لا يترتب عليها زوال حقوق الناس وأملاكهم بدون رضاهم.
وبناء عليه قال الشافعية: إن طلاق المستكره وعتاقه وبيعه وإجارته ونكاحه ورجعته وغيرها من التصرفات لا تصح؛ لأن رفع حكم الإكراه إنما يكون بانعدام الحكم المتعلق به، كوقوع الطلاق، وصحة البيع والنكاح.
وأما وجوب القصاص عندهم على القاتل المستكره، فيستثنى من عموم الصيغة، تعظيماً لأمر الدم، فإنه لا سبيل إلى استباحته، وتجب رعاية حرمته (3) .
وأما حديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» (4) الذي تمسك به الحنفية فهو ضعيف على الأرجح، وأما حديث حذيفة فهو حديث مكذوب كما قال ابن حزم.
وأما ما روي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، فيقدح فيه ما رواه ابن حجر في فتح الباري أن عبد الرزاق أخرج عن ابن عمر عدم جواز طلاق المكره في قصة ثابت الأعرج، ويؤيده أن عدم جواز طلاق المكره روي عن ابن عمر في سنن البيهقي، وفي صحيح البخاري، وفي موطأ مالك.
وأما ما استدل به الحنفية من عموم قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} [البقرة:230/2] فهو معارض لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة:225/2] والمستكره لم يطلق قط، بل إن حديث «لا طلاق في إغلاق» يقيد إطلاق آية الطلاق، حتى على مذهب الحنفية القائلين بأن هذا الحديث ظني، والظني لا يقيد القطعي؛ لأن هذه الآية قيدت بحديث مشهور وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يكبر (أو
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وقال: على شرط مسلم، ولفظه: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» قال أبو داود: أظنه الغضب ـ يعني الإغلاق ـ وقال ابن قتيبة: الإغلاق. وقال بعضهم: الصحيح أنه يعم الإكراه والغضب والجنون، وكل أمر انغلق على صاحبه علمه وقصده (راجع نصب الراية: 223/3) .
(2) رواه الطبراني عن ثوبان، ورمز السيوطي لصحته. (راجع الفتح الكبير: 35/4) .
(3) تخريج الفروع على الأصول: ص 149.
(4) رواه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة، وفي رواية لابن عدي من وجه آخر ضعيف: «الطلاق والعتاق والنكاح» (راجع سبل السلام: 175/3، الإلمام لابن دقيق العيد: ص 423 وما بعدها، نصب الراية: 293/3 ومابعدها) .(6/272)
يعقل أو يحتلم) ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» (1) فصارت ظنية، فأصبحت بعدئذ صالحة لتقييدها بخبر ظني (2) .
ثانياً ـ التصرفات التي تحتمل الفسخ:
إذا أكره الإنسان إكراهاً تاماً أو ناقصاً على تصرف يحتمل الفسخ أي يقبل الرد، ويشترط فيه الرضا كالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوها، فإن الإكراه عند جمهور الحنفية يفسده أي أن التصرف نافذ، ولكنه فاسد، وحينئذ يملك المشتري المبيع بالقبض. وسبب الفساد: هو أن الرضا شرط نفاذ هذه التصرفات، والإكراه يعدم الرضا، وانتفاء الشرط يترتب عليه انتفاء المشروط، وهو النفاذ، فيفسد التصرف. وعليه يكون بيع المستكره وإجارته وهبته فاسدة، ولكن للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه؛ لأن الرضا كما ذكرت شرط لصحة هذه التصرفات.
وقال المالكية وزفر من الحنفية: تعتبر هذه التصرفات بالإكراه موقوفة؛ لأن الرضا شرط في صحة العقد، لا في انعقاده، حتى لو أجاز المستكره ما أكره عليه بعد زوال الإكراه أصبح العقد صحيحاً، ولو كان العقد فاسداً لما جاز؛ لأن الفاسد لا يجوز بالإجازة، ولا يرتفع الفساد بالإجازة كسائر البيوع الفاسدة، فأشبه بيع الفضولي، وبما أنه بيع موقوف، لا يثبت به الملك بالقبض.
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة إلا الترمذي وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان عن عائشة، ورواه بعضهم عن علي وعمر ابن عباس وأبي هريرة وغيرهم (مجمع الزوائد: 251/6، سبل السلام: 180/3، الإلمام: ص 66، 421.
(2) راجع البدائع: 182/7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 303/7، تبيين الحقائق: 5-188، الدر المختار: 96/5، مجمع الضمانات: ص 206، المحلى: 383/8 ومابعدها، مغني المحتاج: 289/3، الشرح الكبير للدردير: 367/2، المغني: 118/7، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي ـ القسم الثاني: ص 2 ومابعدها.(6/273)
والخلاصة: إن أبا حنيفة وصاحبيه ذهبوا إلى أن الإكراه يفسد العقد إفساداً فقط، لا إبطالاً، وتترتب عليه الأحكام المقررة لفساد العقود إلا من ناحية واحدة، وهي أنه بعد زوال الإكراه، لو أجاز المستكره العقد، صح هذا العقد، ويصبح ملزماً؛ لأن الفساد إنما كان صيانة لمصلحته الخاصة لا لمصلحة عامة. وأما زفر فيجعل العقد غير نافذ كعقد الفضولي، فهو صحيح موقوف بالنسبة للمستكره، ويتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه، وبما أن هذا العقد يجوز ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون العقد موقوفاً لا فاسداً؛ لأن العقد الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة. ويلاحظ أن دليل زفر أقوى وأوجه، ولكن المعتمد عند الحنفية هو رأي الإمام وصاحبيه (1) .
وقال باقي الفقهاء: تعتبر هذه التصرفات مع الإكراه باطلة غير صحيحة (2) .
مثاله: حالة الإكراه على البيع سواء أكان تاماً أم ناقصاً.
__________
(1) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ص 364.
(2) البدائع: 186/7، تكملة فتح القدير: 293/7 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 108/4، تبيين الحقائق: 182/5، الدر المختار ورد المحتار: 89/5 ومابعدها، المحلى: 380/8، غاية المنتهى: 5/2، بحث الإكراه للأستاذ البرديسي ـ القسم الثاني: ص 25.(6/274)
وبه يلاحظ أن للعلماء في حكم بيع المستكره أربعة مذاهب:
1 - ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى فساد بيع المكره عملاً بعمومات نصوص البيع، ولا فرق بين فساد البيع بسبب الجهالة أو الربا أو غيرهما وبين فسا ده بالإكراه، لعدم توافر الرضا إلا في أن المستكره له حق إجازة العقد بعد زوال الإكراه، كما له حق الفسخ مطلقاً، فيسترد المبيع الذي أكره على بيعه، ولو تداولته الأيدي كأن تصرف المشتري به، صيانة لمصلحته ومحافظة على إرادته ورضاه. أما بقية البيوع الفاسدة فلا تلحقها الإجازة؛ لأن فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحوه، كما أنه إذا تصرف المشتري الجديد بالمبيع نفذ تصرفه، وليس للبائع الأصلي حق الفسخ نظراً لتعلق حق المشتري الجديد بالمبيع، وحق العبد مقدم على حق الله، لاستغناء الله واحتياج العبد.
2 - وذهب زفر من الحنفية إلى أن بيع المستكره موقوف.
3 - وقرر المالكية أن بيع المستكره غير لازم أي أن للعاقد المكره الخيار في إمضاء العقد أو فسخه، وهذا يتفق مع ما ذكره القدوري الحنفي في بيان حكم بيع المستكره وشرائه وإقراره.
4 - وذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى بطلان بيع المستكره.
أثر الإكراه على الإقرارات:
تحدثت عن أثر الإكراه في التصرفات الإنشائية، وأذكر هنا أثر الإكراه في الإقرارات. إذا أكره رجل بغير حق على أن يقر بشيء، ففي هذا الإقرار للفقهاء مذهبان:
1 - مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية: يقرر إلغاء الإقرار وعدم ترتب أي أثر عليه، سواء أكان المقر به مما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة، أم مما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والرجعة.
استدل الحنفية بأن الإقرار خبر يحتمل الصدق والكذب، إلا أنه يصح الإقرار حالة الاختيار؛ لأن الإنسان غير متهم على نفسه، ولم يصح حالة الإكراه، لترجح جانب الكذب بسبب وجود التهديد.(6/275)
واستدل غير الحنفية بحديث «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلفظ «ما» في الحديث يفيد العموم، فيكون حكم كل تصرف أكره عليه الإنسان مرفوعاً، والإقرار تصرف من التصرفات، فيكون حكمه مرفوعاً عند الإكراه، فلا يترتب عليه أي أثر من آثاره.
2 - مذهب المالكية يقرر عدم لزوم إقرار المستكره بغير حق، أي أن المستكره بعد زوال الإكراه مخير بين أن يجيز الإقرار وبين ألا يجيز.
واستدلوا بأن إقرار المستكره كطلاقه بجامع عدم الرضا في كل، فكما لا يلزم طلاق المستكره لا يلزم إقرار المستكره.
وأما الإقرار مكرهاً بالزنا أو شرب الخمر أو السرقة أو القذف أو القتل، فإنه يعتبر ملغياً، ولا يقام عليه حد ولا قصاص عند أغلب الفقهاء، ومنهم المالكية؛ لأن الإكراه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات (1) .
أثر الإكراه في التصرفات الشرعية المخير فيها:
عرفنا أن التصرفات الشرعية إما أن تكون قابلة للفسخ أو غير قابلة للفسخ.
أما التصرفات الشرعية التي لا تحتمل الفسخ والمخير فيها بالإكراه، فللفقهاء في حكمها رأيان:
الأول ـ رأي الشافعية: وهو أنهم يشترطون تعيين الشيء المكره عليه، فلا إكراه مع التخيير، وتكون التصرفات المخير فيها التي لا تقبل الفسخ نافذة.
الثاني ـ رأي جمهور الأئمة: وهو أنهم يقولون: لا يشترط التعيين في المكره عليه، فالإكراه باق مع التخيير، ويترتب على الإكراه أثره في التصرفات الشرعية المخير فيها التي لا تحتمل الفسخ بحسب المقرر في كل مذهب، كما تقدم.
__________
(1) البدائع: 189/7 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 265/7، تبيين الحقائق: 182/5، الدر المختار: 89/5، مجمع الضمانات: ص 206، الشرح الكبير للدردير: 397/3، المغني: 196/8، حاشية الباجوري: 4/2، بحث الإكراه للبرديسي ـ القسم الثاني: ص 44 ومابعدها.(6/276)
فإذا أكره إنسان على أن يطلق امرأته المدخول بها أو امرأته غير المدخول بها وطلق إحدى المرأتين: لم يعتبر الإكراه عند الشافعية، ويقع الطلاق؛ لأنه وجدت قرينة على الاختيار فيما أتى به.
وعند بقية الأئمة: يعتبر الإكراه، ولكنهم فصلوا في وقوع الطلاق أي ترتيب أثر الإكراه، فعند الحنفية: يقع الطلاق إذ لا أثر للإكراه عندهم في التصرفات القولية التي لا تحتمل الفسخ. وفي المعتمد عند المالكية: لا يلزم الطلاق، وللمستكره بعد زوال الإكراه حق إجازة الطلاق. وعند الحنابلة: يقع الطلاق؛ لأن التخيير كالتعيين عندهم.
وأما التصرفات الشرعية المخير فيها التي تحتمل الفسخ، فكذلك للفقهاء في أثر الإكراه فيها رأيان:
الأول ـ رأي الشافعية القائلين بأنه لا إكراه مع التخيير. الثاني ـ رأي باقي الأئمة الذين يقولون بأنه لا مانع من وجود الإكراه مع التخيير.
مثلاً: إذا أكره الرجل على بيع إحدى العمارتين المملوكتين له، فباع إحداهما، كان البيع نافذاً عند الشافعية لانعدام الإكراه هنا.
وعند باقي الأئمة: يترتب على الإكراه أثره كما في حالة التعيين. وبناء عليه يكون بيع إحدى العمارتين باطلاً عند الحنابلة والظاهرية، وفاسداً عند جمهور الحنفية، وموقوفاً عند المالكية وزفر. وأدلة كل منهم تعرف في مثال الإكراه على البيع السابق ذكره (1) .
__________
(1) المراجع السابقة في بحث الإكراه في التصرفات القابلة للفسخ، مغني المحتاج: 289/3، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 367/2، بحث الإكراه للبرديسي ـ القسم الثاني: ص 60 ومابعدها.(6/277)
الفَصْلُ الثَّامن عَشَر: الحَجْر
الكلام عن الحجرفي مباحث أربعة:
أولها ـ في تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه.
وثانيها ـ في أسباب الحجر.
وثالثها ـ في رفع الحجر.
ورابعها ـ تعلق الدين بالتركة.
المبحث الأول ـ تعريف الحجر ومشروعيته وحكمة تشريعه ونوعاه:
أولاً ـ تعريف الحجر: الحَجْر في اللغة: المنع والتضييق، يقال: حجر عليه حجراً أي منعه من التصرف، ومنه سمي الحرام: حِجْراً، قال تعالى: {ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان:22/25] أي حراماً محرماً، وسمي العقل حجراً، قال تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حِجْر} [الفجر:5/89] أي عقل؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح من المفاسد وتضر عاقبته، وسمي الحطيم حِجْراً لأنه منع من الكعبة، وقطع منها، كما منع من أن يدخل في الحرم. والحَجْر في الشريعة: هو منع الإنسان عن التصرف في ماله. ويقابله الإذن وهو فك الحجر وإسقاط حق المنع (1) وللحجر تعاريف متقاربة عند الفقهاء هي مايأتي:
قال الحنفية (2) : الحجر: هو المنع من لزوم العقود والتصرفات القولية. فإذا باشر المحجور عقداً أو تصرفاً قولياً كالبيع أو الهبة لا ينفذ أي لا يلزم، ولا يترتب عليه حكمه، فلا يملك بالقبض. وكون الحجر من التصرفات القولية؛ لأنها هي التي يتصور الحجر فيها بالمنع من نفاذها، أما الأفعال فلا يتصور الحجر فيها؛ لأن الفعل بعد وقوعه لا يمكن رفعه، بخلاف القول، فإنه يمكن رفعه بمنع انعقاده شرعاً أو منع نفاذه. وللحنفية تعريف آخر أدق: وهو عبارة عن منع مخصوص متعلق بشخص مخصوص، عن تصرف مخصوص أو عن نفاذه، أي لزومه؛ لأن عقد المحجور ينعقد موقوفاً (3) .
فالحجر على الصغير أو المجنون قد يجعل تصرفه غير منعقد أصلاً، كما إذا كان ضرراً محضاً، كطلاق زوجته، وقد يجعله موقوفاً على إجازة الولي كالبيع والشراء من المميز، أما إذا كان لا يعقل أصلاً فتصرفه باطل.
__________
(1) تبيين الحقائق: 203/5، الدر المختار ورد المحتار: 108/5.
(2) الدر المختار: 99/5، تبيين الحقائق: 190/5، اللباب: 66/2.
(3) رد المحتار: 99/5.(6/278)
وأما الحجر على الأفعال، فلا يفيد، ويكون كل من الصبي والمجنون ضامناً لما يتلفه من مال غيره، ويؤخذ ثمنه من ماله إن كان له مال، ويطالب بالأداء وليه أو وصيه؛ لأن الضمان من خطاب الوضع، وهو لا يشترط فيه التكليف أو التمييز، لكن لا يطبق عليهما العقاب البدني كالحدود والقصاص، لعدم توافر القصد الصحيح، وإنما تجب عليهما الدية في حال القتل، لأنه يعتبر منهما خطأ.
وعرفه الما لكية (1) بأنه صفة حكمية ـ أي يحكم بها الشرع ـ توجب منع موصوفها من نفوذ تصرفه فيما زاد على قوته، أو تبرعه بما زاد على ثلث ماله. فشمل الأول: الحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس ونحوهم، فإنهم يمنعون من التصرف بالبيع أو التبرع فيما زاد على قوتهم ويكون تصرفهم موقوفاً على إجازة الولي. وشمل الثاني: الحجر على مريض الموت والزوجة، فإنهما لا يمنعان من البيع والشراء، وإنما يمنعان من التبرع فيما يزيد عن ثلث مالهما.
وعرفه الشافعية والحنابلة (2) : بأنه المنع من التصرفات المالية. سواء أكان المنع من الشرع كمنع الصغير والمجنون والسفيه، أم من الحاكم كمنع المشتري من التصرف في ماله حتى يؤدي الثمن الحال الذي عليه. ولا يمنع المحجور (السفيه والمفلس والمريض) من التصرفات غير المالية، كالتصرف بالطلاق والإقرار بما يوجب العقوبة، وكالعبادة البدنية واجبة أو مندوبة، وتنفذ منه العبادة المالية الواجبة كالحج، دون المندوبة. لكن الصبي والمجنون لا يصح تصرفهما في شيء مطلقاً من الأموال والذمم والأحوال الشخصية من زواج وطلاق.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 381/3.
(2) مغني المحتاج: 165/2، المغني: 456/4، كشاف القناع: 404/3.(6/279)
ثانياً ـ دليل مشروعية الحجر:
ورد في القرآن الكريم آيات ثلاث تدل على مشروعية الحجر من حيث المبدأ، أولها قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} [النساء:5/4] نهى الله تعالى فيها الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم؛ لأن في إعطائهم تعريضاً لضياعها، فدل النص على منعهم من التصرف في أموالهم، وهو معنى الحجر عليهم.
والآية الثانية قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] أمر الله تعالى باختبار اليتامى في حفظ أموالهم، بأن يدفع لهم شيء من أموالهم، لمعرفة خبرتهم في التصرفات، فإن آنس منهم الرشد قبل البلوغ، سلموا أموالهم، فدل النص على منع دفع أموالهم إليهم، قبل الرشد، وحجرهم عنها، حتى لا يتصرفوا فيها.
والآية الثالثة قوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/2] فسَّر الشافعي رضي الله عنه السفيه بالمبذر، والضعيف بالصبي، والكبير بالمختل، والذي لا يستطيع أن يمل بالمغلوب على عقله، فأخبر الله تعالى أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم. وثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه (1) .وحجر عثمان بسبب التبذير على عبد الله بن جعفر (2) .
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه عن كعب بن مالك (نيل الأوطار: 244/5 ومابعدها) .
(2) رواه الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير: (نيل الأوطار: 245/5) .(6/280)
ثالثاً ـ حكمة تشريع الحجر:
ليس في الحجر إهدار حقيقي لكرامة الإنسان، وإنما هو رحمة ومصلحة وصون وتعاون، فهو رحمة بالمحجور عليه حتى يوفر له ماله في وقت تكثر فيه مسؤولياته، وتتعدد واجباته، فلا يواجه الحياة بوجه عبوس مقطب، ولا تتراكم عليه الهموم والمشكلات، ولا تصادمه الصعاب والمشاق، وإنما يجد في ماله سبيلاً للنجاة، والعيش الكريم، وشق طريق الحياة، وهو صون لماله من عبث العابثين، وحد لهوى النفس بالإنفاق في وجوه غير صحيحة.
وهو مصلحة للفرد والمجتمع ودفع للضرر عنهما، بتدريب المحجور وتوفير الخدمة اللازمة له بالتصرفات وممارسة شؤون التجارات، حتى لا يصبح عالة على المجتمع، وكيلا تبدد الأموال. وهو عون ضروري من الكبير الراشد ليتيم قاصر مثلاً للأخذ بيده في سفينة الحياة، ولتثمير ماله، والإنفاق منه على الأمور الضرورية له، والبعد عن الأوجه المتنوعة للصرف فيما لا يحق النفع والخير له. فالمحجور عليه إن كان صغيراً أو مجنوناً أو معتوهاً، هو ناقص العقل ليس أهلاً لتقدير المصلحة، ولا يتصور منه الرضا الصحيح، ولا القصد والاختيار. فالحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لماله عليه. وإن كان سفيهاً مبذراً لأمواله هو متلف له ومضيعة في غير الوجوه النافعة.
وإن كان مغفلاً فلا يهتدي إلى التصرفات الرابحة، وإنما يغبن في البيوع ويتضرر بها.
وإن كان مديناً فلا بد من رعاية حق الدائنين في أموالهم وحفظ مصالحهم وعدم إضاعتها دفعاً للضرر عنهم، وحتى لا ينضب معين الخير في الناس، ولا ينفر أو يتبرم امرؤ من إقراض غيره قرضاً حسناً ينقذه من ورطات السوء.(6/281)
لذا كان الحجر محققاً لمصلحة المحجور عليه نفسه بحفظ ماله وحقوقه، ولمصلحة المجتمع أيضاً بإيصاد منافذ العوز والفاقة والفقر؛ لأن المال عصب الحياة، فيجب إنفاقه في غير إسراف ولا تبذير لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27/17] .
وقد أوصى الله الأولياء والأوصياء عن اليتامى والمساكين بضرورة الإشراف على شؤونهم بالحق والعدل والمعروف، إذ أنه ربما ترك الإنسان ذرية ضعافاً يحتاجون لمعاونة غيرهم لهم، فقال سبحانه: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} [النساء:9/4-10] وروى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/17] عَزَلوا أموال اليتامى، حتى جَعَل الطعامُ يفسدُ، واللحم ينتُن، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/2] وأوجب الحق تبارك وتعالى اختبار الأيتام قبل دفع أموالهم إليهم، فقال: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] .
ومنع القرآن الكريم من إيتاء السفيه ماله حرصاً على مصلحته ولمصلحة الناس، فقال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/4] .
وثبت في السنة كما ذكرت الحجر على المدين، دفعاً للضرر عن الدائنين، كما ثبت عن عثمان الحجر على المبذر، حفظاً لماله من الضياع. وروى الدارقطني عن كعب بن مالك: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله، وباعه في دين عليه» وروى الشافعي في مسنده عن عروة بن الزبير أن عثمان حجر على عبد الله بن جعفر بسبب تبذيره.(6/282)
رابعاً ـ تقسيم الحجر بحسب نوع المصلحة:
الحجر بحسب نوع المصلحة المقصودة منه نوعان (1) :
الأول ـ حجر لمصلحة المحجور عليه: وهو كحجر المجنون والصغير والسفيه والمبذر، إذ فائدة الحجر لا تتعداهم، فقد شرع لمصلحتهم أنفسهم.
الثاني ـ حجر لمصلحة الغير: وهو كحجر المدين المفلس لحق الغرماء (الدائنين) ، ومريض الموت لحق الورثة فيما زاد عن ثلث التركة حيث لا دين، وحجر الراهن بعدم لزوم الرهن لحق المرتهن في العين المرهونة، فقد شرع الحجر لصالح غير المحجور عليه.
المبحث الثاني ـ أسباب الحجر:
للحجر أسباب كثيرة، منها ما هو متفق عليه كالحجر بسبب الصغر والجنون والعته، لفقد الأهلية أو نقصها. ومنها ما هو مختلف فيه كالحجر بسبب السفه والغفلة والدين، وسبب الخلاف راجع لا لقصور الأهلية، وإنما لدفع الضرر عنهم وعن الناس.
والحجر بسبب الرق متفق عليه، فالرقيق محجور عن التصرف في ملك غيره إلا بإذنه، لكونه ليس أهلاً للملك.
ويختلف أثر الحجر في تصرفات المحجور عليه باختلاف سببه، ويظهر الاختلاف في المطالب الآتية:
المطلب الأول ـ أثر الحجر في تصرفات الصغير:
الصغر طور يمر به كل إنسان، يبدأ من حين الولادة إلى البلوغ، وقد أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحُلُم (2) ، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء:6/4] ولعدم توافر أهلية التصرف لعدم اكتمال الإدراك اللازم لتقدير مايترتب على التصرفات.
وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرفات الصغير وفي أمور أخرى متعلقة به.
أولاً ـ آراء الفقهاء في حكم تصرفات الصغير أو أثر الحجر عليه:
للفقهاء مذاهب في أثر الحجر على الصغير، فيرى الحنفية والمالكية ضرورة التفرقة بين المميز وغير المميز، ولم يفرق الشافعية والحنابلة بينهما.
__________
(1) مغني المحتاج: 165/2، كشاف القناع: 404/3 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 275/2.(6/283)
1- قال الحنفية والمالكية (1) : الصغير إما مميز أو غير مميز، وغير المميز: هو الذي لم يتم سن السابعة من العمر. والمميز هو الذي أكمل سن السابعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» (2) .
والتصرفات إما قولية أو فعلية:
أما التصرفات الفعلية: وهي الغصوب والإتلافات، فلا أثر لحجر الصبي والمجنون عليها، فيجب على كل منهما ضمان ماأتلف من مال أو نفس، إذ لا حجر على الأفعال، وإنما على الأقوال (3) .
وأما التصرفات القولية: فإن صدرت من غير مميز فجميع تصرفاته باطلة لفقده أهلية الأداء أو التصرف، إذ لا عقل له ولا تمييز، فلا يعتبر رضاه ولا قصده، سواء أكان التصرف نافعاً له، أو ضاراً به، أو متردداً بين الضرر والنفع، فلا يصح عقده ولا إقراره ولا طلاقه كالمجنون لعدم اعتبار أقوالهما.
وإن صدرت من مميز فهي ثلاثة أنواع:
أـ التصرف النافع له نفعاً محضاً، كقبوله الهبة أو الوصية، واعتناق الإسلام، يصح منه وينفذ بدون توقف على إجازة وليه أو وصيه، رعاية لجانب نفعه.
__________
(1) الدرا لمختار: 101/5، تبيين الحقائق: 191/5، تكملة الفتح: 310/7 ومابعدها، البدائع: 171/7، اللباب: 67/2، الشرح الكبير: 294/3، 296، الشرح الصغير: 384/3، القوانين الفقهية: ص 320، بداية المجتهد: 278/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمرو.
(3) الحجر على الأقوال دون الأفعال، لأنها لا مَردَّ لها لوجودها حساً ومشاهدة، بخلاف الأقوال لأن اعتبارها موجودة بالشرع، لا بالواقع، والقصد شرط لاعتبارها (الهداية مع تكملة الفتح: 311/7) .(6/284)
ب ـ التصرف الضار به ضرراً محضاً، كتبرعه بشيء من ماله، أو إقراضه، أو إعارته، أو طلاق زوجته، يبطل منه، ولا ينفذ ولا تصححه إجازة الولي؛ لأن الإجازة لا تلحق الباطل، ومن قواعد الحنفية: «كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه» وقد رووه حديثاً، لكنه لم يصح أصلاً (1) .
جـ ـ التصرف المتردد بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء، والإيجار والاستئجار، والزواج، ينعقد منه موقوفاً على إجازة الولي، إذا كان المميز يعقل البيع بأن يعلم أن البيع سالب، والشراء جالب، ويقصده بأن يكون غير هازل؛ لأن تصرفه يحتمل الضرر فإن أجازه نفذ، وإن لم يجزه بطل، وليس له إجازة ما فيه غبن فاحش، والولي بالخيار: إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (2) : تعتبر التصرفات المالية من الصبي مميزاً أو غير مميز باطلة. لكن الشافعية قالوا: لا تصح تصرفات المميز وإن أذن له الولي، ويعتبر إذن الصبي المميز في إذن الدخول وإيصاله الهدية، ويصح إحرامه بإذن وليه، وتصح عبادته، وله إزالة المنكر ويثاب عليه كالبالغ، كما يعتبر إسلامه، كإسلام سيدنا علي رضي الله عنه صغيراً.
أما الحنابلة فقالوا: يصح تصرف المميز بإذن الولي، وينفك عنه الحجر فيما أذن له فيه من تجارة وغيرها، ويصح إقراره فيما أذن له فيه.
واتفق المذهبان على تضمين إتلافات الصغير من مال أو نفس، كالحنفية والمالكية. والخلاصة: أنه لا تنفذ عند الحنفية والمالكية عقود الصبي والمجنون ولا إقرارهما، ولا تصح عند الشافعية والحنابلة.
__________
(1) راجع نصب الراية: 161/4.
(2) مغني المحتاج: 166/2، 170، كشاف القناع: 431/3.(6/285)
ثانياً ـ عدم تسليم الصغير أمواله:
اتفق العلماء على أنه لا تسلم للصغير أمواله، حتى يبلغ راشداً (1) ؛ لأن الله تعالى علق دفع المال إليه على شرطين: وهما البلوغ والرشد في قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما.
فإذا بلغ الصغير، فإما أن يبلغ رشيداً أو غير رشيد.
أـ فإن بلغ رشيداً ـ مصلحاً للمال: دفع ماله إليه، وفك عنه الحجر (2) ، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] وفي سنن أبي داود: «لا يُتم بعد الاحتلام» . وإذا دفع إليه ماله أشهد عليه عند الدفع لقوله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} [النساء:6/4] . وهل يحتاج رفع الحجر عن الصغير لحكم القاضي؟
__________
(1) المغني: 457/4 ومابعدها، 471، المهذب: 330/1، البدائع: 170/7، بداية المجتهد: 277/2.
(2) المهذب: 331/1، مغني المحتاج: 166/2، 170، المغني: 457/4، البدائع: 154/5 و170/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 195/5، بداية المجتهد: 277/2.(6/286)
قال الجمهور (الحنفية والشافعية في الأرجح، والحنابلة) (1) : يرتفع حجر الصغير ببلوغه رشيداً بدون حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه ثبت بغير حكم حاكم، فيزول من غير حكم، كالحجر على المجنون. والوجه الآخر عند الشافعية: أنه يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه يحتاج إلى نظر واختبار كفك الحجر عن السفيه. ورأي الجمهور هو الأرجح لاتفاقه مع الواقع، والتيسير.
وقال المالكية (2) : إما أن يكون الصغير ذكراً أو أنثى:
فإن كان ذكراً فهناك ثلاث حالات:
أحدها ـ أن يكون أبوه حياً: فإنه ينطلق من الحجر ببلوغه بدون حكم، ما لم يظهر منه سفه أو يحجره أبوه.
الثاني ـ أن يكون أبوه قد مات وعليه وصي: فلا ينطلق من الحجر إلا بالترشيد، فإن كان وصيه مقدَّم الأب أي باختياره (وهو الوصي المختار) : فله أن يرشده من غير إذن القاضي؛ لأنه ثبت عليه الحجر بالأصالة من غير فرض من أحد، فلا يحتاج رفعه لحكم القاضي. وإن كان وصي القاضي ليس له ترشيده إلا بإذن القاضي كما ذكر ابن جزي، وأما ما قرره الدردير وهو الراجح فهو أن الوصي سواء كان وصي الأب أم وصي القاضي لا يحتاج في ترشيده لإذن القاضي. والترشيد بأن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما ثبت عندي من رشده وحسن تصرفه. وللقاضي ترشيد المحجور مطلقاً إذا ثبت عنده رشده.
الثالث ـ أن يبلغ الصغير، وليس له أب ولا وصي، وهو المُهْمل: فهو محمول على الرشد إلا أن يتبين سفهه.
والخلاصة: أن الصبي ذا الأب أو الوصي المختار لا يحتاج رفع الحجر عنه إلى حاكم، ولكن ذو الأب لا يحتاج إلى ترشيد، وذو الوصي يحتاج إلى ترشيد. وأما ذو الوصي المعين من القاضي، فيحتاج لحكم القاضي في رأي ابن جزي، ولايحتاج لإذن القاضي فيما قرره الدردير، وهو الراجح.
وأما الأنثى: فذات الأب لا ينفك الحجر عنها إذا لم يرشدها أبوها إلا بأمور أربعة: بلوغها، وحسن تصرفها، وشهادة العدول بذلك، ودخول الزوج بها. وللأب ترشيدها قبل دخول الزوج بها بأن يقول لها: رشدتك ورفعت الحجر عنك. فيرتفع الحجر عنها وتنفذ تصرفاتها، ولو لم يشهد العدول بصلاح حالها.
__________
(1) المرجع السابقة.
(2) الشرح الكبير والدسوقي: 296/3-298، الشرح الصغير: 383/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 277/2، القوانين الفقهية: ص 321.(6/287)
وأما ذات الوصي (المختار أو المعين من القاضي) : فلا ينفك الحجر عنها إلا بأمور خمسة: البلوغ، وحسن تصرفها، وشهادة البينة بذلك، ودخول الزوج بها، وفك الوصي حجرها بترشيدها، ولا يحتاج في الفك لإذن الحاكم؛ أي أن الأنثى لا تحتاج في رفع الحجر عنها إلى قضاء القاضي.
وعليه يكون مذهب المالكية قريباً من مذهب الجمهور، إذ لا يحتاج رفع الحجر عن الصغير لقضاء القاضي إلا إذا كان الصغير تحت ولاية القاضي، فيحتاج لترشيد القاضي، كما يحتاج ذو الوصي لترشيد الوصي.
والخلاصة: أن ما يرفع الحجر عن الصبي شيئان عند الجمهور غير الشافعية: هما إذن الولي إياه بالتجارة، وبلوغه رشيداً. وعند الشافعية شيء واحد هو البلوغ.
ب ـ وإن بلغ الصغير غير رشيد، لا تسلم إليه أمواله، بل يحجر عليه بسبب السفه، باتفاق المذاهب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] .
إلا أن أبا حنيفة (1) قال: يستمر الحجر على البالغ غير الرشيد إلى بلوغه خمساً وعشرين سنة، ثم يسلم إليه ماله، ولو لم يرشد؛ لأن في الحجر عليه بعد هذه السن إهداراً لكرامته الإنسانية، ولقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} [الإسراء:34/17] وهذا قد بلغ أشده، ويصلح أن يكون جَدَّاً في هذه السن، ولأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعدئذ غالباً، فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع إليه.
وقال الصاحبان وباقي الأئمة (2) : إذا بلغ الولد غير رشيد، لا يسلم إليه ماله، ويستمر الحجر عليه، حتى يؤنس رشده، ولو بلغ الستين من عمره، للآية السابقة {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] حيث شرط الله تعالى لدفع أموال اليتامى إليهم شرطين: البلوغ وإيناس الرشد، والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما، ولقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/4] أي أموالهم.
ثالثاً ـ البلوغ: يحدث البلوغ إما بالأمارات الطبيعية أو بالسن. أما الأمارات أو العلامات الطبيعية، فاختلفت المذاهب في تعدادها:
فقال الحنفية (3) : يعرف البلوغ في الغلام بالاحتلام، وإنزال المني، وإحبال المرأة. والمراد من الاحتلام هو خروج المني في نوم أو يقظة، بجماع أو غيره.
__________
(1) البدائع: 171/7، تكملة الفتح: 316/7، تبيين الحقائق: 195/5، اللباب: 69/2.
(2) بداية المجتهد: 277/2، القوانين الفقهية: ص 321، الشرح الكبير: 298/2، المهذب: 331/1، مغني المحتاج: 166/2، 170، المغني: 457/4 ومابعدها، كشاف القناع: 440/3.
(3) البدائع: 171/7، الدر المختار: 107/5، تبيين الحقائق: 203/5، تكملة الفتح: 323/7.(6/288)
والدليل على كونه علامة البلوغ قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} [النور:59/24] وخبر «رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الصبي حتى يحتلم (1) » وروى أبو داود عن علي بن أبي طالب قال: حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يُتم بعد الاحتلام» .
وإذا تحقق البلوغ بالاحتلام تحقق بالإنزال؛ لأن الاحتلام سبب لنزول الماء عادة، فعلق الحكم به. وكذا الإحبال؛ لأنه لا يتحقق بدون الإنزال عادة.
ويعرف البلوغ في الأنثى بالحيض لخبر رواه الخمسة إلا النسائي: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (2) أو بالحبل لأن الحمل دليل على إنزال المرأة فيحكم ببلوغها منذ حملت. وأدنى مدة البلوغ للغلام اثنتا عشرة سنة، وللأنثى تسع سنين، وهو المختار عند الحنفية.
فإذا لم يحصل بلوغ طبيعي، ثبت البلوغ بالسن، فمتى بلغ الولد (ذكراً أو أنثى) سن الخامسة عشرة فقد بلغ الحلم على المفتى به، وهو سن المراهقة.
وقال أبو حنيفة: يبلغ الغلام إذا أتم ثماني عشرة سنة، والأنثى سبع عشرة سنة؛ لأنه إنما يقع اليأس عن الاحتلام الذي علق الشرع الحكم به بهذه السن.
ومذهب المالكية (3) : علامات البلوغ الطبيعية سبعة، خمسة منها مشتركة بين
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة بلفظ: «وعن الصبي حتى يكبر» ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر بلفظ: «وعن الصبي حتى يحتلم» (نصب الراية: 161/4 ومابعدها) .
(2) وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار» والحائض: من بلغت سن المحيض. والخمار: ما يغطى به رأس المرأة. فدل ذلك على بدء تكليفها (نيل الأوطار: 67/2) .
(3) الشرح الكبير: 293/3.(6/289)
الجنسين، واثنان مختصان بالأنثى. فالحيض والحبل خاص بالمرأة. وإنزال المني مطلقاً في نوم أو يقظة، وإنبات شعر العانة الخشن، لا الزغب، ونتن الإبط، وفرق أرنبة الأنف، وغلظ الصوت: مشترك بين الذكر والأنثى. ودليل حصول البلوغ بالإنبات: حديث الترمذي عن سمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شَرْخهم، والشرخ: الغلمان الذين لم يُنْبتوا» .
فإن لم يظهر شيء مما ذكر، كان بلوغ الصغير بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل: بالدخول فيها.
ومذهب الشافعية (1) : يحصل البلوغ إما باستكمال خمس عشرة سنة قمرية، أو بالاحتلام أو بخروج المني وقت إمكانه من ذكر أو أنثى، ووقت إمكانه: استكمال تسع سنين، أو بنبات شعر العانة الخشن الذي يحتاج في إزالته لنحو حلق. وأما نبات شعر الإبط واللحية، فليس دليلاً للبلوغ لندورهما دون خمس عشرة سنة.
ويزيد على المذكور بالنسبة للمرأة: الحيض والحبل.
والخلاصة: أن البلوغ عندهم يحصل بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهي الإنزال (الاحتلام) والإنبات والسن. واثنان تختص بهما المرأة وهما الحيض والحبل.
ودليلهم على تحديد السن بـ 15 سنة: خبر ابن عمر: «عُرضت على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، ولم يرني بلغت، وعرضت عليه
__________
(1) مغني المحتاج: 166/2 ومابعدها، المهذب: 330/1.(6/290)
يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فأجازني، ورآني بلغت (1) » .
ومذهب الحنابلة (2) كالشافعية تماماً.
رابعاً ـ الرشد:
الرشد عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (3) : هو صلاح المال ولو كان فاسقاً، أي توفر الخبرة في إدارة المال واستثماره وحفظه وإصلاحه، وحسن التصرف به، وتمييز النافع من الضار، فلا ينفق ماله في غير مصلحة، ولا يضيعه بالتبذير والإسراف، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] قال ابن عباس: يعني صلاحاً في أموالهم. فمن كان مصلحاً لماله، فقد وجد منه الرشد، ولم يكن الحجر عليه إلا لحفظ ماله، فكان المؤثر فيه ما أثر في تضييع المال، أو حفظه.
وقال الشافعية (4) : الرشد صلاح الدين والمال، فإصلاح الدين؛ ألا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة، وإصلاح المال: أن يكون حافظاً لماله غير مبذر، فلا يفعل محرماً يبطل العدالة: من كبيرة أو إصرار على صغيرة، ولم تغلب طاعاته على معاصيه، ولا يبذر بأن يضيع المال بغبن فاحش (5) في المعاملة ونحوها، أو
__________
(1) رواه ابن حبان، وأصله في الصحيحين وقد رواه الجماعة. وقال الشافعي: رد النبي صلّى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصحابة، وهم أبناء أربع عشرة، لأنه لم يرهم بلغوا، ثم عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم، منهم زيد بن ثابت ورافع بن خديج وابن عمر.
(2) المغني: 359/4-461، كشاف القناع: 432/3.
(3) البدائع: 170/7، الدر المختار: 105/5، بداية المجتهد: 278/2، المغني: 467/4، كشاف القناع: 433/3.
(4) مغني المحتاج: 168/2، 170، المهذب: 331/1.
(5) وهو ما لا يحتمل غالباً. أما الغبن اليسير فمثل بيع ما يساوي عشرة بتسعة، وهذا إذا كان جاهلاً بالمعاملة.(6/291)
رميه في بحر، أو إنفاقه في محرم. فإذا بلغ الصغير غير رشيد لاختلال صلاح الدين أو المال، دام الحجر عليه، فيتصرف في ماله من كان يتصرف فيه قبل بلوغه.
والأصح عندهم أن صرفه في الصدقة ووجوه الخير والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله ليس بتبذير.
ويختبر الولي رشد الصبي في الدين والمال، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:4/6] أي اختبروهم. أما في الدين فمشاهدة حاله في العبادات، وتجنب المحظورات، وتوقي الشبهات، ومخالطة أهل الخير.
وأما اختباره في المال فبحسب أمثاله، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماكسة فيهما، أي طلب النقصان عما طلبه البائع، وطلب الزيادة على ما يبذله المشتري. ويختبر ولد الزارع بالزراعة، والنفقة على العمال فيها، ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه وأقاربه. وتختبر المرأة بما يتعلق بالغزل والقطن حفظاً وحياكة وغيرها.
ويشترط تكرر الاختبار مرتين أو أكثر، قبل البلوغ. وقيل: بعده.
خامساً ـ ولي المحجور عليه:
الولي: هو صاحب السلطة الشرعية التي يتمكن بها صاحبها من التصرف في مال غيره من غير توقف على إجازة أحد. وقد اتفق أئمة المذاهب على أن ولي المحجور عليه صبياً أو غيره في الأموال هو الأب إن كان موجوداً، ولم يكن مجنوناً أو محجوراً عليه، واختلفوا في غير الأب.
قال الحنفية (1) : الولي الذي له حق التصرف في مال المحجور عليه: هو
__________
(1) الدر المختار: 122/5، تبيين الحقائق: 220/5، البدائع: 155/5.(6/292)
أبو الصبي، ثم وصيه بعد موته، ثم وصي وصيه، ثم جده (أبو أبيه) ، ثم وصي جده، ثم وصي وصيه، ثم الوالي، ثم القاضي أو وصي القاضي. وهذا الترتيب مبني على درجة الشفقة، فشفقة الأب فوق شفقة الكل، وشفقة وصيه فوق شفقة الجد؛ لأنه مرضي الأب ومختاره، وشفقة الجد فوق شفقة القاضي، لوجود القرابة.
وما عدا المذكورمن العَصَبة كالأخ أو العم، أو غيرهما كالأم ووصيها فليس لهم الإشراف على أموال المحجور عليه، ولا يملكون الإذن للقاصر بالتجارة. وهذا الترتيب للأولياء هو في شأن المال، أما في قضايا الزواج فللأولىاء ترتيب آخر.
وقال المالكية (1) : الولي على المحجور عليه من صغير أو سفيه لم يطرأ عليه السفه بعد بلوغه (2) : هو الأب الرشيد، ثم لوصيه، ثم للحاكم، فإن لم يكن حاكم فالولاية لجماعة المسلمين. فلا تثبت الولاية المالية للجد والأخ والعم إلا بإيصاء الأب.
وقال الشافعية (3) : ولي الصبي: أبوه، ثم جده، ثم وصي من تأخر موته من الأب أو الجد، ثم القاضي أو نائبه، لخبر «السلطان ولي من لا ولي له» (4) . ولا ولاية لسائر العصبات كالأخ والعم، كما لا ولاية للأم في الأصح: ولا ية مال أو ولاية نكاح. وإني مع هذا الرأي إذ لا أكاد أصدق أن عاطفة وصي الأب غير القريب أولى من الجد، فرابطة الدم والقرابة أشد باعثاً على الرعاية والحفظ والاهتمام بشؤون القصر.
__________
(1) الشرح الكبير: 299/3، الشرح الصغير: 389/3 ومابعدها.
(2) أما لو طرأ عليه السفه بعد البلوغ فالحجر عليه للحاكم، لا للأب.
(3) مغني المحتاج: 173/2 ومابعدها، المهذب: 328/1.
(4) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه.(6/293)
وقال الحنابلة (1) كالمالكية تماماً: تثبت الولاية على الصبي والمجنون للأب، ثم لوصيه بعده، ثم للحاكم. لكن إن جدد الحجر على الشخص بعد بلوغه، فالولاية عليه للحاكم؛ لأن الحجريفتقر إلى حكم حاكم، وزواله يفتقر إليه، فكذلك النظر في ماله.
سادساً ـ تصرفات ولي القاصر:
اتفق الفقهاء على أن الولي يتصرف وجوباً في مال الصبي القاصر بالمصلحة وعدم الضرر لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/17] وقوله سبحانه: {وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة:220/2] كما أنهم اتفقوا على أن الغني لا يأكل من مال اليتيم، وللفقير أن يأكل بالمعروف من غير إسراف؛ لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/4] وروى الشيخان عن عائشة أنها نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيراً أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف. وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال، ولي يتيم، فقال عليه الصلاة والسلام: «كل من مال يتيمك غير مُسْرف، ولا مُبذِّر، ولا مُتأثِّل مالاً، ولا تقِ مالك بماله» (2) .
وتفصيل المذاهب في تحقيق المصلحة كما يأتي:
قال الحنفية (3) : لا يملك الولي شيئاً من التبرعات من مال الصغير؛ لأن ذلك
__________
(1) المغني: 471/4، كشاف القناع: 434/3.
(2) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو. ومعنى «غير متأثل مالاً» أي غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل: أي مجموع ذو أصل (نيل الأوطار: 251/5) .
(3) البدائع: 153/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 499/8 وما بعدها، مجمع الضمانات: ص408.(6/294)
ضرر محض، فلا يقرض ماله ولا يوصي به، ولا يتصدق بماله، ولا يطلق امرأته، ولا يهب شيئاً من ماله من غير عوض، كما ليس له أن يهب بعوض عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الهبة بعوض هبة ابتداء، وإنما تصير معاوضة انتهاء، وهو لا يملك الهبة. وتجوز الهبة بعوض عند محمد لأنها في معنى البيع.
لكن للقاضي إقراض مال اليتيم، لأنه من باب حفظ الدين. وللولي أن يقبل الهبة والصدقة والوصية للصغير، لأن التصرف نفع محض، فيملكه الولي، وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الناس أنفعهم للناس» (1) .
وللولي إعارة مال القاصر استحساناً، وإيداعه، ورهنه بدين القاصر؛ لأن التصرف من توابع التجارة، وهو يملكها، كما له أن يرهن مال القاصر بدين للولي نفسه؛ لأن عين المرهون تحت يد المرتهن، إلا أنه إذا هلك يضمن مقدار ما صار مؤدياً منه دين نفسه.
وللولي أن يبيع مال القاصر بأكثر من قيمته، ويشتري له شيئاً بأقل من قيمته لأنه نفع محض له. كما له أن يبيعه بمثل قيمته، وبأقل من قيمته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يشتري له شيئاً بمثل قيمته وبأكثر من قميته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة.
وله أن يؤاجر نفس القاصر وماله بأكثر من أجر مثله، أو بأجر مثله، أو بأقل منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وله أن يستأجر للقاصر شيئاً بأقل من أجر المثل أو بأجر المثل، أو بأكثر منه قدر ما يتغابن الناس فيه عادة. وفي حالة إجارة نفس القاصر إذا بلغ، له الخيار: إن شاء أمضاها، وإن شاء أبطلها، دفعاً للإضرار، ولا خيار له في إجارة المال؛ لأن الأب يملك ذلك بحسب المصلحة، وينفذ تصرفه.
__________
(1) رواه القضاعي عن جابر بن عبد الله، وهو حديث حسن.(6/295)
وللولي أن يسافر بمال الصغير، وأن يضارب به، وأن يوكل بالبيع والشراء، والإجارة والاستئجار؛ لأن هذه التصرفات من توابع التجارة، وكل من ملك التجارة، ملك ما هو من توابعها.
وأما بيع عقار القاصر: فيجوز للولي العدل (محمود السيرة بين الناس أو مستور الحال) أن يبيعه بمثل القيمة فأكثر، ولا يجوز بيعه للوصي إلا للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع. وهذا هو المفتى به. وينفذ بيع الوصي بإجازة القاضي، وله رده إذا كان خيراً.
ويجوز للأب أو الجد أن يشتري مال الصغير لنفسه، أو يبيع مال نفسه من الصغير، بمثل قيمته أو بأقل مما يتغابن فيه عادة. ولا يجوز بغبن فاحش. وينفذ البيع إذا أجازه القاضي، وللقاضي نقض البيع إذا رأى ذلك خيراً للصبي.
ولا يجوز الشراء أو البيع للوصي عند محمد. ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف إن كان البيع للوصي أو الشراء منه خيراً لليتيم، وإلا فلا يجوز. وفسرت الخيرية: بأن تزيد السلعة التي يشتريها الوصي بعشرة من أجنبي (غير الصغير) فإنه يلزم أن يشتريها من الصغير بخمسة عشر.
وقال المالكية (1) : يتصرف الولي في مال الصغير بالمصلحة، فللأب بيع مال ولده المحجور عليه مطلقاً، عقاراً أو منقولاً، ولا يتعقب بحال، ولا يطلب منه بيان سبب البيع؛ لأن تصرفه محمول على المصلحة. وله أيضاً هبة الثواب (أي بعوض) .
أما الوصي فلا يبيع عقار محجوره إلا لسبب يقتضي بيعه، كما ليس له هبة الثواب من مال محجوره إلا لضرورة، لأنه إذا هلك الموهوب، لم يلزم إلا قيمته يوم الهلاك، ومن الجائز أن تنقص قيمته يوم الهلاك عن قيمته يوم الهبة، وهذا ضرر باليتيم.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 299/3، 302 ومابعدها، الشرح الصغير: 390/3، 393-395، القوانين الفقهية: ص 322.(6/296)
كذلك يبيع الحاكم كالوصي مال المحجور عند الضرورة كالنفقة ووفاء الدين ونحوهما. فيكون هذا المذهب كالحنفية من حيث المبدأ.
وذكر المالكية أحد عشر سبباً لجواز بيع عقار القاصر من وصي أو حاكم للضرورة وهي:
1 - الحاجة البينة للبيع كنفقة أو وفاء دين لا قضاء له إلا من ثمنه.
2 - الخوف عليه من ظالم يأخذه منه غصباً، أو يعتدي على ريعه ولم يستطع رده.
3 - المصلحة الظاهرة (الغبطة) : بأن يبيعه بزيادة الثلث على ثمن المثل فأكثر.
4 - أن يكون موظفاً عليه ضريبة ظالمة، فيباع ليشترى له ما لا توظيف عليه إلا أن يكون الأول أكثر ريعاً.
5 - أن يكون حصته مع شريك، فيباع ليشترى له عقار مستقل لا شركة فيه تخلصاً من ضرر الشركة.
6 - أن يكون ريعه قليلاً أو لا ريع له أصلاً، فيباع ليستبدل له ما فيه ريع أكثر.
7 - أن يكون العقار بين جيران سوء في الدين أو الدنيا، أو لكونه بين جيران ذميين، فيباع ليستبدل به عقار بين جيران صالحين.
8 - أن يكون مشتركاً غير قابل القسمة، فيبيع شريكه حصته، فيباع مع بيع شريكه.
9 - أن يخاف خرابه، ولا مال للمحجور عليه يعمر به إذا خرب، فيباع.
10 - أن يخاف خرابه، وله مال يعمر به، ولكن بيعه أولى من تعميره.
11 - أن يصبح المنزل منفرداً في مكان لانتقال العمارة عنه.(6/297)
وقال الشافعية (1) : يتصرف الولي للقاصر بالمصلحة وجوباً، فيحفظ ماله عن أسباب التلف، ويستثمره ويتجر له في ماله، حتى لا تأكله المؤن من نفقة وغيرها، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها..} [النساء:5/4] وقوله «فيها» لا «منها» تنبيه على أن الولي ينفق على موليه من ريع ماله بعد تشغيله، لا من عينه. ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ولي يتيماً، وله مال فليتجر له بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» (2) ، ويبني له داره بأمتن مواد البناء عند الإمكان. ويشتري له العقار إذا حصل من ريعه الكفاية لأنه يبقى وينتفع بغلته، هذا إذا لم يخف جوراً من سلطان أو غيره، أو خراباً للعقار. وله أن يسافر بمال الصبي والمجنون وقت الأمن إذا اقتضت المصلحة السفر به، ولا يشتري له ما يسرع فساده، وإن كان مربحاً.
ولا يبيع عقاره إلا في موضعين: أحدهما لحاجة كنفقة وكسوة بأن لم تف غلة العقار بهما، ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في الاقتراض، أو خاف خرابه، والثاني ـ لمصلحة (غبطة) ظاهرة، كأن يرغب فيه شريك أو جار بأكثر من ثمن مثله، وهو يجد مثله ببعضه، أو خيراً منه بكله، أو يكون ثقيل الخراج، أي المغارم والضرائب مع قلة ريعه.
__________
(1) مغني المحتاج: 174/2-176، المهذب: 328/1-330.
(2) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.(6/298)
وله بيع مال القاصر مبادلة بعرض آخر، ونسيئة (مؤجلة) للمصلحة التي يراها فيهما، كأن يكون في الأول ربح، وفي الثاني زيادة لائقة، أو خاف عليه من نهب أو إغارة. وإذا باع نسيئة أشهد على البيع وجوباً وارتهن بالثمن رهناً وافياً به. ويشترط أن يكون المشتري موسراً ثقة، والأجل قصيراً عرفاً، احتياطاً للمحجور عليه، فإن لم يفعل ذلك، ضمن، وبطل البيع على الأصح. ولا يودع ماله، ولا يقرضه من غير حاجة؛ لأنه يخرجه من يده. ويزكي ماله وجوباً، لأن الولي قائم مقام القاصر، وينفق عليه بالمعروف في طعام وكسوة مما لا بد منه، بما يليق به في إعساره ويساره، فإن قتَّر أثم، وإن أسرف أثم وضمن.
فإن ادعى الصغير بعد بلوغه على الأب والجد بيعاً لماله، ولو عقاراً، بلا مصلحة، صدق الأب والجد باليمين؛ لأنهما لا يتهمان لوفور شفقتهما. وإن ادعاه على الوصي أو أمين القاضي، صدق الولد للتهمة في حقهما. وإن أراد الولي أن يبيع مال القاصر بماله: فإن كان أباً أو جداً جاز البيع؛ لأنهما لا يتهمان فيه، لكمال شفقتهما، وإن كان غيرهما لم يجز، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يشتري الوصي من مال اليتيم» (1) ولأنه متهم بمراعاة مصلحته في بيع مال القاصر من نفسه.
وقال الحنابلة (2) كالشافعية تقريباً: لا يجوز لولي الصغير والمجنون أن يتصرف في مالهما إلا على وجه الحظ (المصلحة) لهما، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/17] .
فإن تبرع بهبة أو صدقة، أو حابى بأن اشترى بزيادة، أو باع بنقصان، أو زاد على النفقة عليهما بالمعروف، ضمن؛ لأنه مفرط، كتصرفه في مال غيرهما. وللولي الإنفاق عليهما من مالهما بغير إذن الحاكم.
__________
(1) رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح عن صلة بن زفر عن ابن مسعود من قوله (مجمع الزوائد: 214/4) .
(2) كشاف القناع: 435/3-439.(6/299)
ولايصح للولي أو الوصي أو الحاكم أن يشتري من مال الصغير والمجنون شيئاً لنفسه، أو يبيعهما شيئاً من نفسه، أو يرتهن من مالهما لنفسه؛ لأنها مظنة التهمة، إلا الأب لوفور شفقته، وسعيه في مصلحة ابنه، فلا يفعل إلا ما فيه حظه، بخلاف غيره.
ويجب على الولي إخراج زكاة مالهما من مالهما.
ولايصح إقرار الولي عليهما بمال ولا إتلاف ونحوه؛ لأنه إقرار على الغير.
وللولي السفر بمالهما لتجارة وغيرها في مواضع الأمن وغلبة السلامة؛ لأنه أحظ لهما.
وللولي التجارة بالمال بنفسه ولا أجرة له، والربح كله للمولى عليه؛ لأنه نماء ماله، والتجارة بما لهما أولى من تركها، لقول عمر وغيره: «اتجروا في أموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة» . وللولي دفع المال مضاربة إلى أمين يتجر فيه بجزء من الربح، وله إبضاعه أي دفع مالهما إلى من يتجر به، والربح كله للمولى عليه.
وله بيعه نسيئاً لمليِّ، وله قرضه لمصلحة فيهما، بأن يكون الثمن المؤجل أكثر مما يباع به حالاً، وذلك لحاجة سفر أو خوف على المال من نهب أو غرق أو غيرهما، ولو بلا رهن ولا كفيل به. فإن ضاع المال أو تلف بسبب ترك الرهن والكفيل لم يضمن الولي؛ لأن الظاهر السلامة.
وله إيداع مال المولى عليه لثقة، أو قرضه لمليء أمين، لمصلحة فيه؛ لأنه أحفظ له، ولا ضمان على الولي إن تلف لعدم تفريطه. ولا يقرض وصي ولا حاكم منه شيئاً لنفسه، كما لا يشتري من نفسه، ولا يبيع لنفسه للتهمة، أما الأب فيجوز له لعدم التهمة، كما تقدم.
وله هبة المال بعوض قدر قيمته فأكثر، أما بدونها فمحاباة لاتصح. وله رهنه عند ثقة لحاجة.
وللولي شراء العقار للمولى عليه ليستغل، وله أيضاً بناؤه بما جرت به عادة أهل بلده.
وله تعليمه الخط والرماية والأدب وما ينفعه، وأداء الأجرة عنه من مال المولى عليه؛ لأنه لمصلحته، وله تسليمه للعمل في صناعة، ومداواته لمصلحة بلا إذن حاكم.(6/300)
وللولي بيع عقار المولى عليه لمصلحة، ولو لم يحصل زيادة على ثمن مثله. وأنواع المصلحة كثيرة منها:
ـ الحاجة إلى نفقة أو كسوة أو قضاء دين ونحوها مما لا بد منه للصغير أو المجنون إذا لم يكن لهما ما تندفع به الحاجة سوى المبيع.
ـ أن يخاف على العقار الهلاك بغرق أو حرق أو خراب، ونحوها.
ـ أن يكون في بيع العقار صفقة رابحة للقاصر، كأن يباع بزيادة كثيرة على ثمن مثله، ولا يتقيد بالثلث.
ـ أن يكون العقار في مكان لا ينتفع به، كأن يكون في حي غير عامر، أو قليل النفع، فيبيعه ليشتري له عقاراً في مكان آهل بالسكان، أو أكثر نفعاً.
ـ أن يرى الولي شيئاً يباع بسعر رخيص، لا يمكن شراؤه إلا ببيع العقار. ـ أن يكون العقار في مكان يتضرر الغلام بالمقام فيه، كسوء الجوار أو غيره. ونحوه مما لا ينحصر مما يكون فيه مصلحة. ولا يباع إلا بثمن المثل.
سابعاً ـ الإذن للقاصر في التصرفات:
الإذن في اللغة: الإعلام، ومنه الأذان؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، قال تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} [التوبة:3/9] أي إعلام. وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج:27/22] أي أعلمهم به.
وفي الشرع: الإذن: فك الحجر في التجارة، وإطلاق التصرف، وإسقاط الولي حق المنع من التصرف للقاصر.
واتفق الفقهاء على اختبار المميز في التصرفات، لمعرفة رشده، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/4] أي اختبروهم. واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله. فإن كان من أولاد التجار، اختبر بالمماكسة في البيع والشراء، وإن كان من أولاد الزراع اختبر بالزراعة، وإن كان من أولاد أصحاب الحرف اختبر بالحرفة. والمرأة تختبر في شؤون البيت من غزل وطهي طعام وصيانته وشراء لوازم البيت، ونحوها (1) .
واختلفوا في إذن الولي للقاصر بالتجارة وفي أثر الإذن على التصرفات:(6/301)
1 - فقال الشافعية (2) : لا يجوز الإذن له في التجارة، وإنما يسلم إليه المال، ويمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد عقد الولي؛ لأن تصرفاته وعقوده باطلة لعدم توافر العقل الكافي لتقدير المصلحة في مباشرة التصرف، فلا يثبت له أحكام العقلاء قبل وجود مظنةكمال العقل. لكن يختبر السفيه، فإذا ظهر رشده عقد؛ لأنه مكلف.
2 - وقال الحنفية، والمالكية في المعتمد عندهم، والحنابلة في الرواية الراجحة (3) : يجوز للولي المالي الإذن للقاصر في التجارة إذا أنس منه الخبرة، لتدريبه على طرق المكاسب، لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى} [النساء:6/4] أي اختبروهم لتعلموا رشدهم. وإنما يتحقق الاختبار بتفويض التصرف إليهم في البيع والشراء، ولأن المميز عاقل محجور عليه، فيرتفع حجره بإذن وليه، ويصح تصرفه بهذا الإذن، فلو تصرف بلا إذن لم يصح عند الحنابلة، ولم ينفذ عند المالكية والحنفية. وهذا الرأي هو الأرجح والمعقول، لاتفاقه مع طبيعة التدريب على التصرفات.
والإذن عند الحنفية والمالكية قد يكون صريحاً، مثل أذنت لك في التجارة، أو دلالة، كما لو رآه يبيع ويشتري، فسكت؛ لأن سكوته دليل الرضا، ولو لم يعتبر سكوته، لأدى إلى الإضرار بمن يعاملونه.
وقال الحنابلة وزفر من الحنفية: لا يثبت الإذن بالدلالة، لأن سكوته محتمل للرضا، ولعدم الرضا.
وأما أثر الإذن: فقال الحنفية: الإذن فك الحجر لا توكيل، فيكون عاماً، وإن قيده بنوع خاص، فلا يتوقت ولا يتخصص بنوع ولا بمكان؛ لأنه إسقاط، والإسقاطات لا تقبل التقييد. فإذا أذن الولي في التجارة، نفذت جميع تصرفات
__________
(1) المغني: 478/4.
(2) مغني المحتاج: 170/2.
(3) الدر المختار: 108/5-111، تبيين الحقائق: 203/5 ومابعدها، البدائع: 194/7 ومابعدها، الشرح الكبير: 294/3، 303 ومابعدها، الشرح الصغير: 384/3، 396، المغني: 468/4، كشاف القناع: 445/3.(6/302)
المأذون التي تحتمل النفع والضرر، فله أن يبيع ويشتري ويضارب ويرهن ويسترهن، ويؤجر ويستأجر. وليس له أن يهب أو يتصدق أو يقرض أو يتكفل، لأن التصرف تبرع، وليس تجارة ولا من مستلزمات التجارة.
ويجوز للمأذون عند أبي حنيفة أن يتصرف بغبن فاحش؛ لأنه أصبح بالإذن كامل الأهلية، ولكامل الأهلية التصرف بشؤون التجارة ولو بغبن فاحش.
وقال الصاحبان: لا يجوز تصرفه بغبن فاحش؛ لأن الزيادة الناجمة عن الغبن بمنزلة التبرع، وهو لا يملكه. وهذا في تقديري أولى لأن هذا التصرف مشتمل على ضرر له، وهو لا يملك التصرف الضار.
ومذهب المالكية في نفاذ تصرفات المأذون في المعاوضات المالية دون التبرعات هو كالحنفية، إلا أنهم قالوا كالصاحبين: لا ينفذ التصرف المشتمل على غبن فاحش.
ومذهب الحنابلة: أن الإذن بمثابة التوكيل، فلا ينفك الحجر بالإذن إلا فيما أذن له فيه وليه فقط، فإذا أذن الولي في التجارة في مئة، لم يصح تصرف المأذون فيما زاد عليها، وإذا أذن في نوع من التجارة، يتقيد فيه فقط؛ لأن تصرفه جاز بالإذن، فيزول الحجر عنه ويتقيد فيما أذن له فيه. لكن المأذون في التجارة من مميز ونحوه كمضارب في البيع، له البيع نسيئة أو بعرض (متاع) ، لا كوكيل؛ لأن الغرض هنا الربح كالمضاربة.
ويصح إقرار المميز المأذون بقدر ما أذن له فيه؛ لأن الحجر انفك عنه فيه، وليس له التوكيل فيما أذن له فيه.(6/303)
أجر الولي على ولايته: إن كان الولي غنياً لم يجز له الأجر على رعايته أموال المحجور وتنميتها وتشغيلها، وإن كان فقيراً، وانشغل بهذه الرعاية عن كسبه والتفرغ لشأن نفسه، جاز له أن يأخذ أجراً معتدلاً على رعايته، ويعين الأجر بحسب العرف الشائع، ودليل هذا التفصيل قوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف..} [النساء:6/4] .
المطلب الثاني ـ أثر الحجر في تصرفات المجنون:
المجنون: هو من زال عقله. فإن استمر جنونه في جميع الأوقات، كان جنوناً مُطْبِقاً، وإذا ذهب عقله في وقت، وأفاق في وقت، كان جنونه متقطعاً.
ففي وقت الجنون يكون المجنون كالصبي غير المميز، تنسلب عنه الولايات الثابتة بالشرع كولاية الزواج، أو الثابتة بالتفويض كالإيصاء والقضاء، وتبطل أقواله في الدين والدنيا كالإسلام والمعاملات، لعدم قصده.
فلا تعتبر تبرعاته كالصدقة والهبة، وتبطل جميع عقوده وتصرفاته كالبيع والشراء وإقراراته وطلاقه؛ لأنه فاقد الأهلية. وتعتبر أفعاله كالإحبال وإتلاف مال غيره، فينسب الولد له، ويضمن جنايته على نفس أو طرف أو جرح، فيلتزم بأرش (تعويض) الجناية.
وأما في وقت الإفاقة التامة بحيث يكون المصاب كامل العقل والتمييز فتعتبر تصرفاته صحيحة نافذة. فإن كانت إفاقته غير تامة، بأن كان يعقل بعض الأشياء دون بعض، فتعد تصرفاته كالمميز موقوفة على إجازة وليه إذا كانت محتملة الضرر والنفع، وتبطل إذا كانت ضارة، وتنفذ إذا كانت نافعة. وهذا عند الحنفية والمالكية.
المطلب الثالث ـ أثر الحجر في تصرفات المعتوه:
المعتوه: هو من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير لاضطراب عقله، سواء من أصل الخلقة، أو لمرض طارئ.(6/304)
فإن كان العته شديداً، والمعتوه غير مميز، فهو كالمجنون والصغير غير المميز، تكون تصرفاته كلها باطلة. وقد ألحقت كتب الفقهاء العته بالجنون (1) .
وإن كان العته خفيفاً، والمعتوه مميزاً، فتصرفه الضار عند الحنفية والمالكية يكون باطلاً، والنافع يكون صحيحاً، والدائر بين النفع والضرر يكون موقوفاً على إجازة وليه، فهو كالصبي المميز (2) .
المطلب الرابع ـ أثر الحجر على السفيه:
يحجر على السفيه باتفاق المذاهب، كما يحجر على الصبي والمجنون، والحجر على السفيه هو المفتى به والمختار في المذهب الحنفي.
والسفيه: هو من يبذر ماله، ويصرفه في غير موضعه الصحيح، بما لا يتفق مع الحكمة والشرع. وفسر المالكية (3) السفه: بصرف المال في معصية كخمر وقمار (اللعب بالدراهم على أن من غلب صاحبه فله من المعلوم كذا، وهو محرم إجماعاً) أو بصرفه في معاملة من بيع أو شراء بغبن فاحش خارج عن العادة بلا مصلحة (من غير مبالاة) أو صرفه في شهوات نفسانية على خلاف عادة مثله في مأكله ومشربه وملبوسه ومركوبه ونحوها، أو بإتلافه هَدَراً، كأن يطرحه على الأرض أو يرميه في بحر ونحوه.
وقد اختلفت المذاهب في تعريفه وفي أحكامه.
__________
(1) البدائع: 170/7، تبيين الحقائق: 191/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 310/7-313، الدر المختار: 100/5 ومابعدها، اللباب: 66/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 292/3، الشرح الصغير: 382/3، 388، مغني المحتاج: 165/2 وما بعدها، المهذب: 328/1، كشاف القناع: 430/3 ومابعدها.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 100/5، تكملة الفتح: 311/7.
(3) الشرح الصغير: 393/3.(6/305)
1 - مذهب الحنفية (1) : السفه: هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع أو العقل، ولو في الخير، كأن يصرفه في بناء المساجد ونحوها. والتبذير كالإسراف في النفقة، وأن يتصرف تصرفات لا لغرض، أو لغرض لا يعده العقلاء المتدينون غرضاً كدفع المال إلى المغنين، والغبن في التجارات من غير محمدة (2) .
والسفيه: الخفيف العقل، المتلف لماله فيما لا غرض له فيه، ولا مصلحة. وحكمه مختلف فيه، فقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحر العاقل البالغ بسبب السفه والدَّيْن والفسق والغفلة. فلا يحجر على السفيه ويظل تصرفه في ماله جائزاً، وإن كان مبذراً مفسداً يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة؛ لأن في سلب ولايته على ماله إهدار آدميته، وإلحاقه بالبهائم، وهو أشد ضرراً من التبذير، فلا يتحمل الضرر الأعلى لدفع الأدنى. قال تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب} [النساء:2/4] والمراد به بعد البلوغ (3) .
لكن إذا بلغ الغلام غير رشيد لإصلاح ماله، لم يسلم إليه ماله في أوائل بلوغه، حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة. وإن تصرف في ماله بعد البلوغ قبل أن يبلغ تلك السن، نفذ تصرفه، لوجود الأهلية، وإذا بلغ خمساً وعشرين سنة، سلِّم إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأن المنع عنه للتأديب، ولا يتأدب بعد هذه السن غالباً، فقد يصير جَدَّاً في هذه السن، فلا فائدة في المنع. وهذا كله غير المفتى به.
__________
(1) البدائع: 169/7، 171، الدر المختار ورد المحتار: 102/5 وما بعدها، تبيين الحقائق: 195/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 310/7 ومابعدها، اللباب: 68/2 ومابعدها.
(2) التسامح في التصرفات من حيث الأصل، والبر والإحسان مشروع، إلا أن الإسراف حرام كالإسراف في الطعام والشراب، قال تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} [الفرقان:67/25] .
(3) لكن يلاحظ أن هذه الآية مقيدة بآية: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/4] .(6/306)
وقال الصاحبان: يحجر على السفيه والمديون والمغفل، ولا يحجر على الفاسق. وبقولهما يفتى صيانة لمال السفيه والمغفل، ورعاية لمصلحة الدائنين الغرماء. ودليل الصاحبين وأئمة المذاهب الأخرى على جواز الحجر على السفيه: قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/4] فقد نهى الله الأولياء عن إعطاء السفهاء أموالهم، مما يدل على منعهم من التصرف، إذ لو أبيح لهم التصرف، لأمكنهم إتلاف أموالهم، وهي في يد أوليائهم، فلا يكون لمنع المال عنهم فائدة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه الطبراني بإسناد صحيح: «خذوا على يد سفهائكم» .
ثم إن في الحجر على السفيه رعاية لمصلحته، ودفع الضرر عنه بحفظ ماله وعدم وقوعه في الحاجة والفقر، كما أن فيه رعاية المصلحة العامة بدفع الضرر عن الناس الذين يعاملونه، حتى لا يصبح الشخص عالة على المجتمع، ومنعاً من إلحاق الضرر بالأموال، ودفع الضرر واجب شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
وبناء على قول الصاحبين المفتى به: حكم السفيه المحجور عليه كحكم الصبي المميز، في التصرفات التي تحتمل الفسخ كالبيع والشراء، تصح موقوفة على إجازة القيم عليه. فإن باع بعد الحجر لم ينفذ بيعه، وإن كان في بيعه مصلحة، أجازه الحاكم.
أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ كالزواج والطلاق، فتصح منه، فإن تزوج امرأة أو أربع نسوة، جاز نكاحه؛ لأنه من حوائجه الأصلية، ولأنه لا يبطله الهزل. ثم إن سمى لها مقدار مهر مثلها، وإن زاد على مهر المثل، بطل الزائد؛ لأنه لا ضرورة فيه. ولو طلقها قبل الدخول، وجب نصف المهر المسمى.
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وله طرق يقوي بعضها بعضاً.(6/307)
وتصح وصيته بمقدار الثلث من ماله، بشرط أن تكون الوصية لجهة خيرية كالإنفاق على الفقراء، أو بناء المساجد أو المشافي أو المدارس؛ لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد وفاته.
ويجوز إقراره على نفسه بالحدود والقصاص، ولا يصح إقراره بالمال بعد الحجر عليه.
وتجب عليه نفقة أولاده وزوجته ومن تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه، وتخرج زكاة ماله؛ لأن السفه لا يبطل حقوق الناس.
وتصح منه عباداته، ومنها الحج المفروض عليه، لكن لا يسلم القاضي النفقة إليه، وإنما يسلمها إلى ثقة من الحجاج، ينفقها عليه في طريق الحج، كيلا يتلفها في غير الحج.
ويلاحظ أنه لا يثبت الحجر على السفيه أو المدين إلا بقضاء القاضي، بخلاف الصغر والجنون والعته.
2 - مذهب المالكية (1) : السفيه هو المبذر لماله إما لإنفاقه باتباعه لشهوته، وإما لقلة معرفة بمصالحه وإن كان صالحاً في دينه. والسفه: صرف المال في غير ما يراد له شرعاً. والحجر على السفيه من حقوق الأب إذا كان السفه قريباً من البلوغ كالصبي، فإن كان طروء السفه بعد البلوغ بأكثر من عام، فلا بد من حكم الحاكم بالحجر عليه.
وحكم تصرفاته ما يأتي: ينفذ على الراجح قبل الحجر تصرف السفيه الذكر البالغ الذي لا ولي له ولا قيِّم عليه (ويسمى المُهْمَل) المحقق السفه، بدون إجازة من أحد، ولو تصرف بغير عوض، سواء أكان سفهه أصلياً (أي حدث قبل البلوغ) غير طارئ، أم طرأ بعد أن بلغ رشيداً.
أما غير محقق السفه أي مجهوله فتصرفه نافذ اتفاقاً. وأما الصبي السفيه والأنثى البالغة السفيهة المُهْمَلان (أي لا ولي لهما) فترد تصرفاتهما، إلى أن يبلغ الصبي، وإلى أن تعنس الأنثى وتقعد عن المحيض وهو سن الأربعين أو من خمسين إلى ستين، أو تمضي سنة بعد دخول الزوج بها.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 296/3 ومابعدها، الشرح الصغير: 387/3 ومابعدها، و 393، بداية المجتهد: 279/2، القوانين الفقهية: ص 321.(6/308)
وتصح وصية السفيه المحجور، وتنفذ، كما ينفذ طلاق زوجته وخلعه لها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية، ولا شيء من المعروف. ويصح إقراره بموجب عقوبة من حد أو قصاص.
وأما تصرف السفيه المحجور بعوض، فهو موقوف على نظر وليه، أي أن حكم تصرفه كحكم تصرف الصبي المميز، المتقدم. ويتصرف الولي على المحجور وجوباً بالمصلحة العائدة على محجوره حالاً أو مآلاً، فله ترك شفعة وقصاص، ولا يعفو عن عمد أو خطأ مجَّاناً بلا أخذ مال، لما فيه من عدم المصلحة.
3 - مذهب الشافعية (1) : السفه: تبذير (2) المال، وسوء التصرف، بأن يُضيِّع المال باحتمال غبن فاحش في المعاملة ونحوها، أو يرمي المال وإن قل في بحر أو نار، أو نحوه، أو ينفقه في محرَّم ولو معصية صغيرة، لما فيه من قلة الدين. والأصح أن صرف المال، وإن كثر، في الصدقة وباقي وجوه الخير، والمطاعم والملابس التي لا تليق بحاله، ليس بتبذير؛ لأن له في الصرف في الخير غرضاً وهو الثواب، فإنه لا سرف في الخير، كما لا خير في السرف، ولأن المال يتخذ لينتفع به ويلتذ.
ولا بد في الحجر على السفيه من حكم القاضي عليه، لا غيره من أب أو جد لأنه محل اجتهاد، ويسن أن يشهد القاضي على حجر السفيه، ليتجنب في المعاملة. ولو عاد رشيداً لا يرتفع الحجر عنه إلا برفع القاضي له، كما لا يثبت إلا به.
وولي السفيه: هو القاضي، إذ ولاية الأب ونحوه قد زالت، فيشرف عليه من له النظر العام.
وأما تصرفاته: فيصح بإذن الولي نكاحه. ويصح طلاقه ورجعته وخلعه زوجته بمثل المهر وبدونه، وظهاره وإيلاؤه، ونفيه النسب لما ولدته زوجته بلعان، واستلحاقه نسب ولد منه.
ولا يصح تصرفه المالي في الأصح ولو بإذن الولي؛ لأن عبارته مسلوبة، كما لو أذن لصبي فلا يصح من المحجور عليه لسفه بيع ولا شراء ولا هبة، فلو اشترى
__________
(1) مغني المحتاج: 168/2، 170-173، المهذب: 332/1.
(2) التبذير: الجهل بواقع الحقوق. والسرف: الجهل بمقادير الحقوق، وحقيقة السرف: ما لا يكسب حمداً في العاجل، ولا أجراً في الآجل.(6/309)
أو اقترض وقبض وتلف المأخوذ في يده أو أتلفه فلا ضمان عليه، ولا يصح إقراره بدين قبل الحجر عليه أو بعده، كالصبي. كما لا يصح إقراره بإتلاف المال أو جناية توجب المال في الأظهر، كدين المعاملة. ويصح إقراره بالحد والقصاص، لعدم تعلقهما بالمال، ولبعد التهمة. وتقطع يده لو كان الحد سرقة. ولا يلزمه المال لو عفا مستحق القصاص؛ لأن المال ثبت باختيار غيره، لا بإقراره.
وحكمه في العبادة الواجبة مطلقاً، والمندوبة البدنية كالرشيد، لاجتماع الشرائط فيه. أما المندوبة المالية كصدقة التطوع، فليس هو فيها كالرشيد. لكن لا يفرق الزكاة بنفسه؛ لأنه ولاية وتصرف مالي، لكن لو أذن له الولي، وعين له المدفوع إليه، صح صرفه، كالصبي المميز، بشرط أن يكون تصرفه بحضرة الولي أو نائبه، لأنه قد يتلف المال إذا خلا به، أو يدّعي صرفه كاذباً.
ويصح نذره في الذمة بالمال، لا بعين ماله. وإذا أحرم بحج مفروض (أصلي أو قضاء أو منذور قبل الحجر) ، أعطى الولي كفايته لثقة ينفق عليه في طريقه، كما قال الحنفية. وإن أحرم حال الحجر بتطوع من حج أو عمرة، أو بنذر بعد الحجر، وزادت مؤنة سفره عن نفقته المعتادة في أثناء الإقامة (أو الحضر) ، فللولي منعه من الإتمام، أو الإتيان به، صيانة لماله، والمذهب أنه يكون كمُحْصَر (ممنوع من إكمال الحج) ، فيتحلل؛ لأنه ممنوع من المضي، ويتحلل بالصوم؛ لأنه ممنوع من المال. لكن لو كان له في طريقه كسب، قدرَ زيادة المُؤنة، لم يجز منعه؛ لأن الإتمام بدون التعرض للمال ممكن.(6/310)
4 - مذهب الحنابلة (1) : السفيه: هو الذي لا يحسن التصرف.
ولا بد للحجر عليه ـ كما قال سائر الأئمة ـ من حكم الحاكم، كما أن رفع الحجر عنه لا بد له من الحكم؛ لأنه حجر ثبت بحكمه، فلم يزل إلا به، كالمدين المفلس.
ومن حجر عليه الحاكم استحب له إظهاره والإشهاد على الحجر عليه، لتجتنب معاملته، كما قال الشافعية، ومن عامله بعدئذ فهو المتلف لماله.
وولي السفيه: هو الأب، أو وصيه بعده، أو الحاكم عند عدمهما، إن كان محجوراً عليه صغيراً، واستديم الحجر عليه لسفهه. وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه، لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأن الحجر وإزالته يفتقر إلى حكم الحاكم، فكذلك النظر في ماله.
وأما تصرفاته: فيصح نكاحه بإذن وليه وبغير إذنه، كما قال الحنفية، إن احتاج إليه؛ لأنه في هذه الحالة مصلحة محضة، ويتقيد بمهر المثل فلا يزيد عليه؛ لأن الزيادة تبرع، وليس السفيه من أهله. فإن لم يكن السفيه محتاجاً إلى التزوج، لا يصح تزوجه إلا بإذن وليه؛ لأنه تصرف يجب به مال، فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء.
ويصح طلاقه؛ لأن الطلاق ليس بتصرف في المال، كما يصح خلعه زوجته؛ لأنه إذا صح الطلاق من دون دفع مال منه، فالخلع الذي يجلب له المال أولى، لكن لا يدفع العوض إليه. وهو متفق عليه فقهاً، كما لا حظنا.
ويصح ظهاره وإيلاؤه ولعانه ونفي النسب باللعان عن السفيه، وإقراره بنسب ولد منه.
وتصح وصيته، كما قال سائر الفقهاء، لأنها محض مصلحته، لأنها تقرب إلى الله تعالى بماله، بعد استغنائه عنه. ويصح إقراره بما يوجب حداً أو قصاصاً، كما قال سائر الفقهاء، كالزنا والسرقة والشرب والقذف والقتل العمد أو قطع اليد وما أشبهها. وإذا أقر بما يوجب القصاص، فعفا المقر له على مال، فالصواب: أنه لا يجب المال الذي عفا عليه في الحال، كما قال الشافعية؛ لأن السفيه والمقر له قد يتواطآن على العفو، بل يجب إذا انفك الحجر عنه.
__________
(1) المغني: 469/4-475، كشاف القناع: 440/3-443.(6/311)
ولا يصح إقراره بدين، أو بما يوجب الدين كجناية الخطأ، وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته، ولا يلزمه ما أقر به في حال حجره؛ لأنه محجور عليه لمصلحته، لكن الظاهر من قول الحنابلة: أنه يلزمه ما أقرَّ به بعد فك الحجر عنه.
والحكم في السفيه كالحكم في الصبي والمجنون في وجوب الضمان بإتلاف مال الغير بغير إذنه، كما قال سائر الفقهاء.
ولا تصح تبرعاته، كالهبة والوقف، كما قال بقية الفقهاء؛ لأن التبرع ضرر محض، وليس السفيه من أهله، حفظاً لماله. ولا تصح شركة السفيه ولا حوالته ولا الحوالة عليه، ولا كفالته لغيره، لأن المذكور تصرف مالي، فلم يصح منه كالبيع والشراء.
ولا تصح تصرفاته من بيع وشراء بغير إذن وليه، فتكون باطلة؛ لأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه. فإن أذن ولي السفيه له بالبيع والشراء، فهل يصح منه؟. على وجهين:
أحدهما ـ يصح لأنه عقد معاوضة، فملكه بالإذن كالنكاح، ويظهر أن هذا هو الأرجح عندهم. والثاني ـ لا يصح؛ لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه، فإذا أذن له، فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، فلم يصح. وقد عرفنا أن هذا الوجه هو الأصح عند الشافعية.
ويلتزم السفيه بواجباته الشرعية كنفقة زوجته وخادمه ومن تلزمه نفقته، وتجب عليه الفرائض الدينية المتعلقة بالأموال، كالزكاة، لكن لا يباشر توزيعها بنفسه، بل يفرقها وليه، كسائر تصرفاته المالية. ويصح منه نذر كل عبادة بدنية كالحج والصيام والصلاة؛ لأنه غير محجور عليه في بدنه. ولا يصح منه نذر عبادة مالية كصدقة وأضحية لأنه تصرف في مال.(6/312)
وإن أحرم السفيه بحج فرض، صح إحرامه به، كسائر عباداته، وتدفع النفقة من ماله إلى ثقة، ينفق عليه في الطريق، حتى يعود، كما قال باقي الفقهاء. وإن كان الحج الذي أحرم به تطوعاً، وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر، أو كانت نفقته في السفر أزيد، لكن يكتسب السفيه الزائد في سفره، لم يمنعه وليه من إتمام الحج؛ لأنه وجب بالشروع. فإن كانت نفقة السفر أزيد، ولم يكتسبها فلوليه تحليله من الإحرام بحج النفل، لما عليه من الضرر فيه، ويتحلل بالصيام أي صيام عشرة أيام، كالمعسر إذا أحصر، كما قال الشافعية.
وحكم تصرف ولي السفيه، كحكم تصرف ولي الصغير والمجنون مقيد بتحقيق المصلحة للمولى عليه.
والخلاصة: أن تصرفات السفيه بالبيع والشراء ونحوهما موقوفة على إجازة وليه عند الحنفية والمالكية، وباطلة ولو بإذن الولي عند الشافعية، وباطلة بغير إذن الولي، وتصح وتنفذ بإذنه عند الحنابلة على الراجح.
المطلب الخامس - أثر الحجر على المغفل:
المغفل أو ذو الغفلة: هو من يغبن في البيوع، ولا يهتدي إلى التصرفات الرابحة في بيعه وشرائه، لقلة خبرته وسلامة قلبه. ويختلف عن السفيه بأنه ليس بمفسد لماله، ولا بمتابع هواه، ولا يقصد الإفساد. والسفيه عكسه، مفسد قصداً لماله، متابع لهواه. والمغفل ليس هو المعتوه؛ يخلط في كلامه.
ولا يحجر على المغفل عند أبي حنيفة، ويحجر عليه عند الصاحبين، ويفتى بقولهما، وهو رأي باقي الفقهاء، رعاية لمصلحته وحكم تصرفاته كالسفيه (1) .
بدء الحجر على السفيه والمغفل ونهايته:
قال محمد بن الحسن، وابن القاسم المالكي (2) : يثبت الحجر على السفيه والمغفل من وقت ظهور أمارات السفه أو الغفلة، ويزول بزوالهما، دون توقف على قرار القاضي بالحجر؛ لأن المسبب يدور مع سببه وجوداً وعدماً.
وبناء عليه، لا تصح ولا تنفذ تصرفاتهما بمجرد ظهور الأمارات المذكورة، ويكون محجوراً عليهما ولو قبل صدور قرار القاضي.
وقال أبو يوسف (ورأيه هو الراجح عند الحنفية) وجمهور الفقهاء (3) : لايثبت الحجر على
__________
(1) الدر المختار: 102/5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 198/5 ومابعدها، البدائع: 169/7.
(2) رد المحتار: 103/5، 106، الشرح الكبير: 297/3 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 321، رد المحتار: 103/5، الشرح الصغير: 388/3، مغني المحتاج: 170/2، المغني: 469/4.(6/313)
السفيه وذي الغفلة، ولا يرفع إلا بقرار القاضي بثبوته أو رفعه؛ لأن كلاً من السفه والغفلة ليس أمراً محسوساً كالجنون والعته، وإنما يستدل عليه
بالتصرفات الحاصلة من السفيه والمغفل، وهذه أمور تقديرية اجتهادية، تختلف باختلاف وجهات النظر، فلا بد من حكم القاضي للتثبت من الأمر ورفع الخلاف، ومنعاً من تغرير المتعاملين معهما، وعدم إضرارهم بهما؛ لأنهم لا يعلمون أمرهما إلا بقرار الحجر عليهما.
ويترتب على هذا الرأي الراجح لدي لضبطه وعدم إضرار أحد أو تغريره نفاذ تصرفات السفيه والمغفل قبل الحجر القضائي عليهما، فينفذ مثلاً ما باعه أحدهما قبل حجر القاضي.
المطلب السادس ـ الحجر على الفاسق:
اتفقت المذاهب الأربعة في الأصح عند الشافعية (1) : على أنه لا يحجر على الفاسق بسبب الفسق وحده دون تبذير ماله، فلو فسق السفيه مثلاً ولم يبذر: أي مع صلاح تصرفه في ماله بعد بلوغه رشيداً، لم يحجر عليه؛ لأن الفاسق أهل للولاية على نفسه وأولاده، ولأن الحجر شُرع لدفع الإسراف والتبذير، وهو مصلح لماله، ولأن السلف لم يحجروا على الفسقة.
والفسق الأصلي بأن بلغ فاسقاً، والطارئ بعد البلوغ: سواء في عدم جواز الحجر على صاحبه.
ملاحظة حول الحجر على الغائب:
قال الحنفية خلافاً لمبدئهم في عدم جواز القضاء على الغائب (2) : يصح الحجر على الغائب، لكن لا ينحجر مالم يعلم بالحجر.
__________
(1) الدر المختار: 102/5، اللباب مع الكتاب: 75/2، القوانين الفقهية: ص320، الشرح الكبير: 292/3، مغني المحتاج: 170/2، كشاف القناع: 440/3.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 106/5.(6/314)
المطلب السابع ـ الحجر للمصلحة العامة:
صرح الحنفية (1) بأنه يجوز الحجر للمصلحة العامة؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام أو يدفع الضرر الأعلى بالأدنى، فيحجر (أي يمنع) على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمُكاري المفلس. وذلك بأن يسقي المتطبب الناس دواء مهلكاً، أو لا يقدر على إزالة ضرر دواء اشتد تأثيره على المرضى.
والمفتي الماجن: بأن يعلم العوام الحيل الباطلة، كتعليم الارتداد لتبين المرأة من زوجها، أو لتسقط عنها الزكاة، ولا يبالي بما يفعل من تحليل الحرام، وتحريم الحلال؛ أو أن يفتي عن جهل.
والمُكَارِي المفلس: وهو الذي يتقبل الكراء، ويؤجر وسائل النقل من إبل أو سيارات مثلاً، وليست عنده تلك الوسائل، كما أنه لا مال له، ليشتري بها الوسائل، ويعتمد الناس عليه، ويدفعون الكراء إليه، ويصرف هو ما أخذه منهم في حاجته، فإذا جاء موعد النقل، يختفي عن الأنظار، فتذهب أموال الناس، وتتعطل مصالحهم. وبكلمة موجزة: المكاري المفلس: هو متعهد النقل بدون إمكانات، فهو محتال نصاب.
فيحجر على هؤلاء وأمثالهم؛ لأن دفع الضرر العام واجب، وإن كان فيه إلحاق الضرر الخاص ومصادمة الحريات. والحجر في هذه الحالات عقوبة مناسبة لزجرهم ودرء المفاسد عن الناس، لهذا روي عن أبي حنيفة أنه كان لا يجري الحجر إلا على هؤلاء الثلاثة؛ لأن الطبيب يضر الأبدان، والمفتي يضر الأديان، والمكاري يضرّ الأموال.
__________
(1) تبيين الحقائق: 193/5، الدر المختار: 102/5 ومابعدها، البدائع: 169/7، الهداية مع تكملة الفتح: 316/7، الكتاب مع اللباب: 68/2.(6/315)
لكن ليس المراد بالحجر عليهم هو حقيقة الحجر: وهوالمنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف؛ لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر، وأصاب، جاز، وكذا الطبيب لو باع الأدوية، نفذ بيعه، فدل على أن المراد هو المنع الحسي أي يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حساً؛ لأن المنع من العمل من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بسبب أن الطبيب الجاهل يفسد أبدان الناس، والمفتي الماجن يفسد دين المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس، ويلحق ضرراً بهم.
المطلب الثامن ـ الحجر على المريض مرض الموت:
مرض الموت: هو الذي يغلب بسببه الموت بحسب رأي الأطباء، أو يحدث منه الموت، ولو لم يحصل الموت به غالباً، أي أن المدار على كثرة الموت من المرض، ولو لم يكن غالباً (1) .
وعرفته مجلة الأحكام العدلية (م 1595) بأنه المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالهما المعتادة، ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه، إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد، اعتبر مرض موت من تاريخ اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة. ويقال لصاحبه: المريض، ويقابله: الصحيح وهو من ليس في حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر. ويعد المرض الذي صح منه المريض كالصحة، والمقعد والمفلوج والمسلول إذا تطاول زمن المرض ولم يقعده في الفراش كالصحيح.
وبناء عليه قال المالكية (2) : المريض نوعان: مريض لايخاف عليه الموت غالباً كالأبرص والمجذوم والأرمد، وغيرهم، فلا حجر عليه أصلاً.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 306/3.
(2) القوانين الفقهية: ص 322.(6/316)
ومريض يخاف عليه في العادة كالُحمَّى القوية والسُّل وذات الجنب وشبهها. وفي رأيي أن تقدير خطر الموت عائد لظروف تقدم الطب في كل عصر. فإذا كان السل مثلاً مرضاً خطيراً في الماضي، فقد أصبح في عصرنا غير خطير بعد اكتشاف عصيات السل؛ وعلاجه المناسب له.
واتفق أئمة المذاهب (1) على جواز الحجر على مريض الموت لحق الورثة. وصرح المالكية أنه يلحق به: من يخاف عليه الموت كالمقاتل في صف القتال، والمحبوس للقتل، أو المحكوم بالإعدام، والحامل إذا بلغت ستة أشهر، ودخلت في السابع ولو بيوم. واختلف في راكب البحر وقت الهول بشدة ريح أو غيرها، والأصح أنه لايعتبر كمريض الموت.
والذي يحجر به على مريض الموت: هو تبرعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته، حيث لا دين، فيحجر على المريض في تبرع كهبة وصدقة ووصية ووقف وبيع محاباة، وبيع مشتمل على غبن، فيما يزيد عن ثلث ماله، أي أن حكم تبرعاته كحكم وصيته، تنفذ من الثلث، وتكون موقوفة على إجازة الورثة في الزائد عن الثلث. فإن برئ من مرضه، صح تبرعه. وهذا رأي الحنفية والشافعية والحنابلة. فإن استغرقت الديون جميع تركته حجر عليه جميع تصرفاته دون نظر إلى الثلث رعاية لحقوق الدائنين الغرماء.
وقال المالكية: لاينفذ من الثلث تبرع المريض في الحال أو لا ينجز للمتبرع له إلا إذا كان المال المتبرع منه مأموناً أي لايخشى تغيره وهو العقار كدار وأرض وشجر، فإن كان المال غير مأمون فلا ينفذ وإنما يوقف ولو بدون الثلث حتى يظهر حاله من موت أو حياة.
__________
(1) الدر المختار: 480/5 ومابعدها، شرح السراجية: ص5، الشرح الكبير: 306/3 ومابعدها، الشرح الصغير: 399/3-402، مغني المحتاج: 165/2، القوانين الفقهية: ص 322 ومابعدها، المغني: 465/4، كشاف القناع: 404/3.(6/317)
ويمنع عند المالكية تصرف المريض فيما زاد على قدر الحاجة من الأكل والشرب والكسوة والتداوي، كما يمنع من الزواج بما زاد على الثلث.
ولايمنع من تصرفات المعاوضات المالية كبيع وشراء وقرض وقراض (مضاربة) ومساقاة وإجارة، إلا إن كان فيها محاباة.
فإن مات المريض، نفذ تصرفه من التبرعات في ثلث ماله. وإن عاش، نفذ تصرفه من رأس ماله كله.
وقال الحنفية: تنفذ تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته دون إجازة أحد، وهي النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له، ولمن تلزمه نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور العملية الجراحية. وله الزواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه، بشرط كون المهر في حدود مهر المثل، والزائد عنه تبرع في حكم الوصية.
وللمريض أن يقر بدين لأجنبي أو لوار ث، فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة لإجازة الورثة، لكن يقدم عليه دين الصحة.
المطلب التاسع ـ الحجر على الزوجة:
قال المالكية وفي رواية عن أحمد (1) : يحجر على المرأة المتزوجة الحرة الرشيدة لصالح زوجها في التصرف بغير عوض كالهبة والكفالة فيما زاد على ثلث مالها قياساً على المريض، ويكون تبرعها بزائد عن الثلث نافذاً، حتى يرد الزوج جميعه أو ما شاء منه، على المشهور عند المالكية.
وبناء على هذا المشهور، ينفذ جميع ما تبرعت به، إن لم يعلم الزوج بتبرعها حتى بانت منه بطلاق، أو علم وسكت، أو مات أحدهما.
وللزوج رد جميع ما تبرعت به الزوجة إن تبرعت بزائد على ثلثها، وله إمضاؤه وإنفاذه، وله رد الزائد فقط. ورد الزوج رد إيقاف على المعتمد، ورد إبطال عند أشهب.
وليس للزوجة بعد الثلث تبرع إلا أن يبعد ما بين التبرعين بنصف عام على المعتمد عندهم.
__________
(1) الشرح الكبير: 307/3 ومابعدها، الشرح الصغير: 402/3، القوانين الفقهية: ص 323، المغني: 464/4، كشاف القناع: 405/3.(6/318)
أما واجبات الزوجة من نفقة أبويها، فلا يحجر عليها فيه، ولو قصدت بالإنفاق ضرر الزوج عند ابن القاسم، خلافاً لما روي عن مالك من رد الثلث إذا قصدت به ضرر الزوج، ولها أن تهب جميع مالها لزوجها، ولا اعتراض عليها في الهبة لأحد. ولها التصرف بعوض في جميع مالها.
ودليل هذا المذهب أخبار منها: «لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها، إذ هو مالك عصمتها» (1) .
وقال الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة في الراجح عندهم) (2) :للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة، لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً، فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] وهو ظاهر في فك الحجر عنهم، وإطلاقهم في التصرف. وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر النساء! تصدقن، ولو من حُليِّكن ... » (3) ، وأنهن تصدقن، فقبل صدقتهن، ولم يسأل، ولم يستفصل. وهذا الرأي هو الأوجه؛ لأن ذمة المرأة المالية مستقلة عن ذمة الزوج في الإسلام، وهذا من مفاخر الشريعة التي أعطت المرأة أهلية كاملة في التملك والتصرف.
__________
(1) رواه الخمسة إلا الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في خطبة خطبها: «لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها» ، وهناك روايات أخرى عن ابن ماجه (المغني، المكان السابق، نيل الأوطار: 18/6) .
(2) المغني: 464/4.
(3) رواه الترمذي عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود (سنن الترمذي رقم الحديث: 635) .(6/319)
ملحق ـ هل للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه؟
هناك روايتان عن الإمام أحمد تمثلان أهم آراء السلف إجمالاً (1) :
إحداهما ـ الجواز وهو الأصح، وهي الرواية الراجحة المشهورة في المذهب؛ لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مُُفْسِدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً» (2) ، ولم تذكر إذناً، إذ العادة السماح، وطيب النفس به، فجرى صريح الإذن، كتقديم الطعام بين يدي الضيفان قام مقام صريح الإذن في أكله.
لكن إن منعها الزوج من التصدق، أو كان الزوج بخيلاً، وتشكُّ في رضاه، فيحرم عليها الصدقة بشيء من ماله حينئذ، كما يحرم على الرجل الصدقة بطعام امرأته بغير إذنها؛ لأن العادة لم تجر به. ومن يقوم مقام المرأة كالأخت والخادمة والغلام المتصرف في مال سيده، هو كالزوجة، يجوز له الصدقة بنحو رغيف من مال رب البيت، ما لم يمنع أو يكن بخيلاً، أو يضطرب العرف ويشك في رضاه.
والرواية الثانية ـ لا يجوز، لما روى أبو أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟
__________
(1) المغني: 465/4 ومابعدها، كشاف القناع: 448/3 ومابعدها، نيل الأوطار: 16/6.
(2) رواه الجماعة، وهناك أحاديث أخرى في معناها متفق عليها (نيل الأوطار: 15/6 وما بعدها) .(6/320)
قال: ذاك أفضل أموالنا» (1) ، ولأنه تبرع بمال غيره، بغير إذنه، فلم يجز للغير وللزوجة.
قال ابن قدامة الحنبلي: والأول أصح؛ لأن الأحاديث فيها (أي في الرواية الأولى) خاصة صحيحة، والخاص يقدم على العام ويبينه، ويعرِّف أن المراد بالعام غير هذه الصورة المخصوصة. وحديث الباهلي ضعيف. ولا يصح قياس المرأة على غيرها؛ لأنه بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه، وتتصدق منه لحضوره وغيبته، والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي، فصار كأنه قال لها: افعلي هذا.
المطلب العاشر ـ الحجر على المدين وأثره (التفليس) :
أولاً ـ تعريف التفليس والمفلس: التفليس لغة: النداء على المفلس، وشهره بين الناس بصفة الإفلاس المأخوذ من الفلوس التي هي أخس الأموال. وشرعاً: جعل الحاكم المديون مفلساً بمنعه من التصرف في ماله أو خلع الرجل عن ماله للغرماء.
والفلس: عدم المال، والمفلس في العرف: من لا مال له. وهو المعدم، وفي الشرع: من لا يفي ماله بدينه، أو الذي أحاط الدين بماله، أو من لزمه من الدين أكثر من ماله الموجود. وسمي مفلساً، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه، فكأنه معدوم، أو باعتبار ما يؤول من عدم ماله بعد وفاء دينه، أو لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه الذي لا
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه، وفي معناه أحاديث: حرمة مال الإنسان بغير طيب منه، وتحريم الأموال والدماء بين المسلمين.(6/321)
يعيش إلا به، كالفلوس ونحوها (1) .
ثانياً ـ هل يحجر على المدين المفلس؟
قال أبو حنيفة (2) : لا أحجر على المفلس في الدَّين؛ لأن مال الله غاد ورائح، فهو لا يرى الحجر على المدين المفلس، كما لا يرى الحجر على السفيه؛ لأن في الحجر إهداراً لحريته وإنسانيته وأهليته، فذلك أخطر من ضرر خاص يلحق الدائن. فتنفذ تصرفاته، ولا يباع ماله جبراً عنه، وإنما يؤمر بسداد ديونه؛ فإن امتثل فلا يتعرض له بشيء، وإن امتنع عن الأداء، حبس حتى يسدد دينه، أو يبيع ماله بنفسه، وشرع حبسه دفعاً لظلمه؛ لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم. وليس للقاضي أن يبيع ماله جبراً عنه؛ لأنه نوع حجر عليه، وهو لا يجوز عنده. والخلاصة: أن أبا حنيفة قال: ليس للحاكم أن يحجر على المفلس، ولا يبيع ماله بل يحبسه، حتى يؤدي أو يموت في السجن.
والمفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين، وهو قول جمهور الفقهاء: وهو جواز الحجر على المدين المفلس في تصرفاته المالية، حفاظاً على حقوق الدائنين وأموالهم من الضياع. بدليل ماروى الدارقطني، والخلال، وصحح الحاكم إسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله في دين كان عليه، وقسمه بين غرمائه، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس لكم إلا ذلك.
واختلفت المذاهب في بعض التفصيلات، منها توقف الحجر على قضاء القاضي ومايتبعه من أمور.
__________
(1) بداية المجتهد: 280/2، القوانين الفقهية: ص 318، الشرح الكبير: 261/3، مغني المحتاج: 146/2، المغني: 408/4، كشاف القناع: 405/3.
(2) الهداية مع تكملة الفتح: 324/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 199/5، الكتاب مع اللباب: 72/2.(6/322)
ثالثاً ـ هل يتوقف الحجر على المدين على قضاء القاضي؟
1 - مذهب المالكية (1) : للمفلس الذي أحاط الدين بماله أحوال ثلاثة:
الحالة الأولى ـ قبل التفليس أي قبل نزع ماله منه وإعطائه للدائنين: يكون للدائنين الحق في منعه من التصرف في ماله بغير عوض، وإبطال تصرفه، سواء أكان دينهم حالاً أم مؤجلاً. فيمنعونه من التصرفات الضارة بمصلحتهم، كالتبرع والهبة والصدقة والوقف، والكفالة والقرض والإقرار بدين لشخص يتهم بأن إقراره له فراراً من الدين، كولده وزوجه. أما من لايتهم معه، فيعتبر إقراره له. وماعدا المذكور من تصرفات المعاوضة كالبيع والشراء، تنفذ منه.
الحالة الثانية (2) ـ ألا يرفع الأمر إلى الحاكم، وإنما يقوم الغرماء على المدين، فيستتر منهم ولايجدونه، فلهم أن يحولوا بينه وبين ماله، ويمنعوه من التبرعات
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 261/3-264، الشرح الصغير: 345/3-353، بداية المجتهد: 280/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص318 ومابعدها.
(2) وتسمى إفلاساً بالمعنى الأعم.(6/323)
والتصرفات المالية بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولو بغير محاباة، ومن التزوج، ولهم قسم ماله بالمحاصة، أي بنسبة حصص ديونهم.
الحالة الثالثة (1) ـ حكم الحاكم بتفليسه، أي بخلع ماله لغرمائه، وهو نزع ماله منه وإعطائه للدائنين، لعجزه عن قضاء مالزمه من الديون.
ولاتتحقق هذه الحالة إلا بطلب الدائنين (الغرماء) جميعهم أو بعضهم، وأن يكون الدين حالاً، فلا يصح تفليسه بدين مؤجل، وأن يكون الدين زائداً على ماله ومتى فلسه الحاكم اشترك الجميع في ماله، من طلب ومن لم يطلب.
ويترتب على تفليسه في هذه الحال أمور أربعة تحقق معنى الحجر عليه وهي: منعه من التبرعات؛ ومن المعاوضات المالية، والزواج بأكثر من زوجة واحدة؛ وقسمة ماله بين الدائنين، وحلول الدين المؤجل، أي يحجر عليه في جميع التصرفات بعوض أو بغير عوض، وللدائنين منعه من سفر التجارة أو غيرها إن حل دينه أو كان يحل بغيبته، كما لهم طلب سجنه، فيحبسه الحاكم استبراء لأمره.
2 ـ مذهب الجمهور (غير المالكية) (2) : لايحجر على المدين إلا بقضاء القاضي، فتكون تصرفاته قبل القضاء نافذة. وإذا حجر عليه، فإنه يمنع من جميع التصرفات التي تضر بالدائنين، وهي التبرعات والمعاوضات المالية، والإقرار بالدين في حال الحجر، ويبيع الحاكم ماله، ويقسم ثمنه على الغرماء.
وشرط الحنفية في المفتى به وهو قول الصاحبين شرطين للحجر على المدين: أن يكون دينه مستغرقاً أمواله أو يزيد عنها، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه.
وشرط الشافعية والحنابلة للحجرعلى المدين شرطين أيضاً كالشرطين السابقين: أن تكون عليه ديون حالّة تزيد على ماله، وأن يطلب الغرماء الحجر عليه.
ويصح تزوج المفلس بمهر المثل، وطلاقه وخلعه زوجته ورجعتها واستيفاؤه القصاص، وإسقاط القصاص ولو مجاناً. وله أن يرد المبيع الذي اشتراه قبل الحجر بالعيب أو الإقالة، إن كانت المصلحة في الرد. والأصح عند الشافعية سريان الحجر على مايتملكه المدين بعد الحجر بالاصطياد والهبة، والوصية، والشراء في الذمة، على القول الراجح بجواز هذا الشراء؛ لأن مقصود الحجر وصول الحقوق إلى أهلها، وهو لايختص بالمال الموجود وقت الحجر.
وينفق على المدين من ماله وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء.
__________
(1) وتسمى إفلاساً بالمعنى الأخص.
(2) تبيين الحقائق: 199/5، الدر المختار: 103/5، الكتاب مع اللباب: 73/2، تكملة الفتح: 327/7 ومابعدها، مغني المحتاج: 147/2 - 149، المهذب: 320/1، المغني: 409/4، 471، كشاف القناع: 407/3-411.(6/324)
الفرق بين حجر المدين وحجر السفيه: فرَق الحنفية (1) بين الحجر بالدين والحجر بالسفه من وجوه، منها:
1 ـ أن حجر السفيه لمعنى في نفسه، وهو سوء اختياره، لا لحق الغرماء، أما الحجر للدين فهو لمصلحة الدائنين، ويحتاج كلاهما لحكم القضاء.
2 ـ أن المحجور بالدين لو أقر حالة الحجر ينفذ إقراره بعد زوال الحجر ولو فيما سيحدث له من مال، والمحجور بالسفه لا يجوز إقراره بالدين، لا حال الحجر، ولا بعده، ولا في المال القائم، ولا الحادث. وهذان الوجهان مقرران أيضاً عند الشافعية والحنابلة والمالكية.
وحجر الفلس أقوى من حجر المرض بدليل أن المريض يتصرف في مرض الموت في ثلث ماله، ولا تتعلق حقوق الورثة بماله إلا بعد الموت. أما حجر الفلس فتتعلق حقوق الغرماء بعين مال المدين في الحال كالمرهون (2) .
رابعاً ـ سفر المدين المفلس: للفقهاء في منع المدين من السفر رأيان متقاربان:
فقال الحنفية والشافعية (3) : ليس للدائنين منع المدين من السفر قبل حلول الأجل، سواء أكان الأجل بعيداً أم قريباً؛ لأنه لا حق لهم في مطالبة حلول الأجل. فإذا حل الأجل لهم منعه من المضي في سفره حتى يوفي دينه.
وقال المالكية (4) : للدائن منع المدين من سفر لتجارة أو غيرها إن حل أجل الدين، أو كان يحل في أثناء غيبته، مطلقاً أي ولو لم يكن الدين محيطاً بمال المدين، إذا لم يوكل من يوفي عنه دينه، أو لم يضمنه موسر.
فإن كان الدين مؤجلاً، أو لا يحل أثناء الغيبة في السفر، ليس للدائن منعه من السفر.
ويتفق الحنابلة (5) مع المالكية بالقول: للدائن منع المدين الذي أراد سفراً طويلاً فوق مسافة القصر، إن حل الدين قبل عودته من السفر. وليس له منعه إن كان
__________
(1) رد المحتار: 103/5، تبيين الحقائق: 196/5.
(2) مغني المحتاج: 148/2، المهذب: 321/1.
(3) البدائع: 173/7، تكملة الفتح: 329/7، اللباب: 74/2، المهذب: 319/1، مغني المحتاج: 157/2.
(4) الشرح الكبير: 262/3، الشرح الصغير: 348/3.
(5) المغني: 455/4، كشاف القناع: 405/3 ومابعدها.(6/325)
الدين لا يحل إلا بعد عودته من سفره. لكنهم قالوا: إن كان سفره لجهاد، فله منعه إلا بضمين (كفيل) أو رهن؛ لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة، وذهاب النفس، فلا يأمن فوات الحق.
والخلاصة: أن الرأي الأول للحنفية والشافعية: ليس للدائن المنع من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلاً بحال، سواء أكان الدين يحل قبل العودة من السفر أم بعده، وسواء أكان السفر إلى الجهاد أم إلى غيره؛ لأنه لا يملك المطالبة بالدين، فلم يملك منعه من السفر، ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير. فإن كان الدين حالاً منع المدين من السفر.
والرأي الثاني للمالكية والحنابلة أكثر تشدداً في حفظ حق الدائن، فله المنع من السفر إذا كان الدين يحل قبل العودة من السفر؛ لأنه سفر يمنع استيفاء الدين في أجله، فملك منعه من السفر إن لم يوثق بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول الحق.
خامساً ـ أثر الحجر على المفلس أو أحكام الحجر:
يترتب على الحجر آثار أو أحكام:
1 ً - تعلق حق الغرماء بعين ماله، ومنعه من التصرف بماله (1) :
يستحب أن يشهد القاضي على حجر المفلس، ليعلم الناس حاله، ويحذروا معاملته، فلا يعاملوه، إلا على بصيرة (2) . فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء
__________
(1) رد المحتار: 105/5، تكملة الفتح: 328/7، الشرح الكبير: 265/3، الشرح الصغير: 352/3، 355، القوانين الفقهية: ص 318 ومابعدها، مغني المحتاج: 147/2، المهذب: 321/1، كشاف القناع: 411/3، المغني: 409/4، 471، كشاف القناع: 411/3.
(2) المهذب: 321/1، مغني المحتاج: 148/2، المغني: 440/4، كشاف القناع: 411/3.(6/326)
بماله كالرهن، فلا ينفذ تصرفه فيه بما يضرهم؛ لأنه لا ضرر على الغرماء، فتبطل تبرعاته كالهبة والصدقة، ولا يقبل إقراره أصلاً بعد التفليس على ماله باتفاق الفقهاء، لكن قال المالكية: يقبل إقرار المفلس لغير متهم عليه أي أجنبي، ولا يقبل لمتهم عليه كابن وأخ وزوجة، وقبول إقراره يكون في المجلس الذي فلس فيه، أو قام عليه الغرماء أو قريباً منه. ويبطل بيعه وشراؤه ونحوهما من المعاوضات المالية عند الحنابلة، والشافعية في الأظهر، لتعلق حق الغرماء بعين ماله كالمرهون، ولأنه محجور عليه بحكم الحاكم، فلا يصح تصرفه في ماله ببيع أو غيره مما يناقض مقصود الحجر.
وقال الحنفية: يصح بيعه بثمن المثل أو بمثل القيمة، وأما إن كان بغبن فيصح البيع موقوفاً على إجازة الدائنين، وبه يكون قصدهم من منعه من التصرف عندهم هو البيع بأقل من ثمن المثل.
وقال المالكية: إن وقع التصرف المالي لم يبطل، بل يوقف على نظر الحاكم والغرماء.
وتصح من المفلس المحجور عليه التصرفات المتعلقة بذمته كالبيع على أساس السلم أو بيع شيء موصوف في الذمة، إذ لا ضرر على الغرماء في ذلك. وتصح منه التصرفات التي لا تتعلق بأمواله كالنكاح والطلاق والخلع والقصاص وإسقاط حق القصاص بمقابل الدية أو العفو مجاناً.
ويصح إقراره بحق أو مال وجب عليه قبل الحجر عليه، ولا يصح إقراره بحقوق تعلقت بماله بعد الحجر عليه بمعاملة أو مطلقاً بأن لم يقيده بمعاملة ولا غيرها (1) .
__________
(1) مغني المحتاج: 148/2 ومابعدها.(6/327)
2 ً - حلول الديون المؤجلة، كما تحل الديون بالموت عند الحنفية وفي المشهور عند المالكية (1) ، لخراب الذمة في الحالتين، وهو عند المالكية ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما، وما لم يقتل الدائن المدين عمداً، فلا يحل.
وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة في أرجح الروايتين (2) : لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه؛ لأن الأجل حق مقصود للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، ويفترق الفلس عن الموت في أن الميت خربت ذمته وبطلت. وعليه: لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة، بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة، ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله. فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين، شارك الغرماء، كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته.
3 ً - الملازمة والحبس الاحتياطي للمدين:
اختلف الفقهاء في جواز ملازمة المدين، واتفقوا على جواز حبسه بحكم القاضي بشروط معينة.
الملازمة: قال أبو حنيفة وصاحباه (3) : للدائنين أن يلازموا المدين، فيذهبوا معه حيثما ذهب، فإذا رجع إلى بيته، فأذن لهم في الدخول، دخلوا معه، وإلا انتظروه على الباب ليلازموه بعد الخروج، ولكن لا يمنعونه من التصرف والكسب والسفر حال الملازمة، ولا يحبسونه في مكان خاص؛ لأنه حبس، بل يدورون
__________
(1) الشرح الصغير: 352/3، القوانين الفقهية: ص 318، بداية المجتهد: 282/2، الشرح الكبير: 265/3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 147/2، المغني: 435/4.
(3) تبيين الحقائق: 200/5، تكملة الفتح: 329/7 ومابعدها، البدائع: 173/7.(6/328)
معه، ويدور هو حيث شاء؛ لأنه بذلك يتمكن الدائن من حمل المدين على قضاء الدين، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لصاحب الحق: اليد، واللسان» (1) أراد باليد: الملازمة، وباللسان: التقاضي. ولا تلازم المرأة منعاً من الخلوة بالأجنبية.
وقال زفر والمالكية والشافعية والحنابلة (2) : إذا ثبت إعسار المدين عند الحاكم، لم يكن لأحد مطالبته وملازمته، بل يمهل إلى أن يوسر لأنه إذا ثبتت العسرة استحق النَّظِرة إلى الميسرة، كما لو كان الدين مؤجلاً، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنَظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] . وحديث «لصاحب الحق ... » فيه مقال، كما قال ابن المنذر، أو أنه يحمل على الموسر، فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها، فكثر دينه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» (3) . وهذا القول هو الأرجح.
حبس المدين: المقرر شرعاً أنه يجب على المدين إيفاء ديونه إذا كان موسراً، فإن كان معسراً فيمهل إلى وقت اليسار عملاً بنظرة الميسرة. وإن كان مماطلاً في الوفاء، وله مال يفي بدينه للحال، حبسه الحاكم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لَيُّ الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته» (4) . واللي: المطل، والواجد: الغني من الوُجد بمعنى القدرة. وعرضه: شِكايته، وعقوبته: حبسه. وبناء عليه يجوز الحبس، ولكن بشروط أوضحها الفقهاء.
__________
(1) رواه بهذا اللفظ ابن عدي في الكامل عن أبي عتبة الخولاني، ورواه الدارقطني عن مكحول بلفظ «إن لصاحب الحق اليد واللسان» وهو حديث مرسل. وأخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل يتقاضاه، فأغلظ له، فهمَّ به أصحابه، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً» (نصب الراية: 166/4) .
(2) مغني المحتاج: 156/2، المغني: 449/4 ومابعدها، كشاف القناع: 406/3، 430، الشرح الصغير: 370/3، القوانين الفقهية: ص 317، بداية المجتهد: 280/2 ومابعدها.
(3) رواه مسلم والترمذي.
(4) رواه الخمسة إلا الترمذي، وأخرجه أيضاً البيهقي وابن حبان وصححه عن عمرو بن الشَّريد عن أبيه (نيل الأوطار: 240/5) .(6/329)
قال الحنفية (1) : للقاضي أن يحبس المدين رجلاً أو امرأة بدينه في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة إذا كان غنياً، أو اشتبه على القاضي حال يساره وإعساره، ولم يقم عنده حجة على أحدهما، فإذا حبسه شهرين أو ثلاثة أشهر، ولم يظهر له مال في تلك المدة، فإنه يطلق سراحه، وإن أقام البينة على أن لا مال له أي أنه فقير، خلى سبيله، للآية السابقة {فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] ولا يضرب المحبوس بالدين ولا يخوَّف، ولا يغل بقيد، ولا يجرد، ولا يوقف أمام صاحب الدين إهانة له، ولا يؤجر.
ويشترط للحبس شروط ثلاثة: في الدين، والمدين، والدائن:
أولهما ـ أن يكون الدين حالاً، فلا يحبس في الدين المؤجل؛ لأن الحبس لدفع الظلم المتحقق بتأخير قضاء الدين، ولم يوجد ممن دينه مؤجل.
ثانيهما ـ يشترط في المدين شروط ثلاثة: هي القدرة على وفاء الدين: فلو كان معسراً لا يحبس، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة، فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] .
والمطل: وهو تأخير قضاء الدين، للحديث السابق «مطل الغني ظلم» (2) فيحبس دفعاً للظلم، وحديث «ليّ الواجد ... » والحبس عقوبة، وما لم يظهر منه المطل، لا يحبس لانعدام المطل واللي منه.
وأن يكون المدين غير الوالدين، فلا يحبس الوالدون وإن علوا، بدين المولودين، وإن سفلوا، لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان:15/31] {وبالوالدين إحساناً} [الإسراء:23/17] ، وليس من المصاحبة بالمعروف والإحسان: حبسهما بالدين، لكن يحبس الوالد تعزيراً
__________
(1) البدائع: 173/7، تكملة الفتح: 329/7-330، تبيين الحقائق: 199/5.
(2) رواه الجماعة: عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 236/5) .(6/330)
بالامتناع عن نفقة ولده الذي عليه نفقته (1) ، ويحبس ولي الصغير إذا كان هو المتسبب في تأخير قضاء الدين.
ثالثها ـ أن يطلب الدائن (صاحب الدين) من القاضي حبس المدين، فما لم يطلب لا يحبس؛ لأن الدين حقه، والحبس وسيلة إلى حقه، وممارسة الحق بطلبه.
والذي يمنع عنه المحبوس: هو الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والدنيوية، كحضور الجمع والجماعات والأعياد وتشييع الجنائز وعيادة المرضى والزيارة والضيافة، ليكون المنع باعثاً له على قضاء الدين. ولا يمنع من زيارة أقاربه له، ولا من التصرفات الشرعية كالبيع والشراء والهبة والصدقة والإقرار لغيرهم من الغرماء. ولا يمكن المحبوس من الاشتغال بعمله على الصحيح ليضجر قلبه، فينبعث على قضاء دينه.
وقال المالكية (2) : يسجن المدين استبراء لأمره إن جهل حاله، أو ظهرت ملاءته (غناه) بحسب ظاهر حاله، بلبسه فاخر الثياب، وركوبه جيد المواصلات، وكان له خدم من غير أن يعلم حقيقة حاله، حتى يثبت عسره، أو يأتي بكفيل يكفله، فيطلق سراحه.
فإن وعد غريمه بوفاء الدين، وطلب تأخيره نحو اليومين، أجيب لطلبه، ولا يحبس إن كفله كفيل.
كذلك يؤجل المدين المعلوم الملاءة (الغنى) أو ظاهر الملاءة، إن وعد بالوفاء، وطلب التأخير لبيع أمواله وعروضه التجارية، إن قدم كفيلاً بالمال، وإلا سجن، وليس للحاكم بيع تلك العروض، بخلاف المفلس؛ لأن المفلس منع من التصرف في ماله، وتحبس المرأة عند امرأة أمينة، ويحبس الجد لولد ابنه، ويحبس الولد لأبيه في دين أو غيره، ولا العكس: أي لا يحبس والد بولده.
__________
(1) أما الولد فيحبس بدين الوالد، وكذا سائر الأقارب يحبس المديون بدين قريبه.
(2) الشرح الصغير: 368/3-371، الشرح الكبير: 278/3-282، القوانين الفقهية: ص 318.(6/331)
فإن أثبت المدين المجهول الحال، أو ظاهر الملاءة عُسْره بشهادة بيِّنة تشهد أنه لا يعرف له مال ظاهر ولا باطن، وحلف كذلك أنه لا مال له، أُنظر لميسرة، فلا يسجن ولا يطالب قبلها، ولا يلزم بتكسب ولا اقتراض لوفاء ما بقي عليه من الدين، ولو كان قادراً عليه؛ لأن الدين إنما تعلق بذمته، فلا يطلب به إلا عند اليسار. ويخرج المجهول الحال من الحبس إن طال حبسه باجتهاد الحاكم بحيث يغلب على الظن أنه لو كان عنده مال، ما صبر على الحبس هذه المدة. وأما ظاهر الملاءة فلا يخرج من الحبس إلا ببينة بعدمه. وأما معلوم الملاءة فيخلد في السجن حتى يؤدي ما عليه أو يأتي بكفيل غارم.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : على الموسر إن طولب أداء دينه فوراً بحسب الإمكان، فإن امتنع وله مال ظاهر، وهو من جنس الدين، وُفي منه، فإن كان من غير جنس الدين، باع الحاكم جبراً عليه ماله، وإن كان المال في غير محل ولايته، أو أكرهه مع التعزير بحبس أو غيره على البيع، فإن أخفى المدين ماله، وهو معلوم، وطلب غريمه حبسه، حبس، وحجر عليه أولاً حتى يظهره. فإن لم ينزجر بالحبس، ورأى الحاكم ضربه أو غيره، فعل ذلك، وإن زاد مجموعه على الحد.
ومن ادعى الإعسار ولم يصدقه الدائن، حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته. فإن ثبت إعساره، وجب إنظاره ولم تجز ملازمته للآية السابقة: {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] .
__________
(1) مغني المحتاج: 154/2، 157، كشاف القناع: 406/3-409، المغني: 447/4 ومابعدها، و450 ومابعدها، المهذب: 320/1.(6/332)
وإن ثبتت قدرته على الوفاء، ولم يؤد ديونه، حبسه الحاكم (1) ، للحديث السابق: «ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» ، وليس للحاكم إخراج المدين من الحبس حتى يتبين له أمره أنه معسر، فيجب حينئذ إطلاقه، أويبرأ المدين من غريمه بوفاء أو إبراء، أو حوالة، فيطلق سراحه لسقوط الحق عنه، أو يرضى غريمه بإخراجه من الحبس. فإن أصر المدين المليء على الحبس، ولم يوف الدين، باع الحاكم ماله، وقضى دينه.
ولا يجبر كما قال المالكية على الكسب، للحديث السابق: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» كما لا يجبر على قبول الهدية أو الصدقة أو القرض.
4 ً - بيع مال المدين المحجور عليه وقسمة ثمنه بين الغرماء:
اتفق الفقهاء (2) على أنه يباع مال المدين المحجور عليه بسبب الفلس، ويقسم ثمنه بين الدائنين الغرماء بالمحاصة أي بنسبة ديونهم، ويندب أن يكون البيع فوراً بعد الحجر، لئلا يطول زمن الحجر عليه، ومبادرة لبراءة ذمته، وإيصال الحق إلى ذويه، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لما حجر على معاذ، باع ماله في دينه، وقسم ثمنه بين غرمائه.
فإن كانت الديون من جنس مال المدين، قضاها القاضي بغير أمر المدين، وإن كانت من غير جنس مال المدين، وجب على القاضي بيع المال، وقسمة الثمن بين الدائنين.
__________
(1) قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: لا يجب حبسه في مكان معين، بل المقصود: منعه من التصرف حتى يؤدي الحق، فيحبس ولو في دار نفسه بحيث لا يمكن من الخروج (كشاف القناع: 408/3) .
(2) تكملة الفتح: 328/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 199/5 ومابعدها، الشرح الصغير: 357/3 ومابعدها، 366، الشرح الكبير: 269/3-271، القوانين الفقهية: ص 319، مغني المحتاج: 150/2 وما بعدها، المهذب: 322/1، كشاف القناع: 420/3 ومابعدها، المغني: 441/4-446، بداية المجتهد: 287/2.(6/333)
ويستحب للحاكم وقت البيع أن يحضر أو وكيله، لفوائد، منها ضبط متاعه، والتعريف بالجيد منه، وتطييب نفسه وإسكان قلبه، وتكثير الرغبة في شرائه، كما يستحب إحضار الغرماء؛ لأن البيع لهم، وربما رغبوا في شيء، فزادوا في ثمنه، ولتطييب قلوبهم، والبعد عن التهمة، وربما وجد أحدهم عين ماله، فأخذه.
ويباع الشيء في عصرنا بالمزاد العلني، ويباع ندباً كل شيء في سوقه، بشرط كون البيع بثمن المثل، حالاً، من نقد البلد.
ويقدم في البيع مايخاف فساده كالفواكه والبقول، ثم ما يتعلق به حق كالمرهون، ثم الحيوان لحاجته إلى النفقة، ولأنه معرض للتلف، ثم المنقول؛ لأنه يخشى ضياعه بسرقة ونحوها، ويقدم الملبوس على النحاس ونحوه، ثم العقار، ويقدم البناء على الأرض. وإنما أخر العقار؛ لأنه يؤمن عليه من الهلاك والسرقة؛ ولأن العقار يعد للاقتناء، فيلحقه ضرر ببيعه، فلا يبيعه إلا عند الضرورة، ويستأنى عند المالكية في بيع العقار نحو شهرين.
ويلاحظ أن أبا حنيفة خلافاً لصاحبيه لم يجز للحاكم بيع عروض المدين وعقاره.
ويترك للمفلس مجموعة كاملة عادية (دَسْت) (1) من ثيابه المحتاج إليها عادة، كما يترك له قوت يوم القسمة عند الشافعية لمن تلزمه نفقته، من زوجة وخادم وقريب، وعند الحنفية: ينفق على هؤلاء من مال المدين قبل التفليس ولو بعد الحجر، وعند المالكية: يترك له ما يأكله أياماً، وعند الحنابلة: إلى أن يفرغ من قسمة المال بين الغرماء. فالحنابلة كالشافعية. وتترك له آلة صنعته التي لا بد منها، كما يترك للعالم كتبه التي يحتاج لمراجعتها ومطالعتها. وأجاز المالكية بيع الكتب وثياب الجمعة إن كثرت قيمتها؛ لأن شأن العلم ـ على حد تعبيرهم ـ أن يحفظ في القلب، لكن قال العلامة العدوي: إن الحفظ قد ذهب الآن، فلذا أجراها بعضهم على آلة الصانع.
__________
(1) الدَّسْت: ما قابل ثياب الزينة.(6/334)
ويترك له مسكنه الذي لا غنى له عن سكناه فيه، وخادمه الذي يحتاج إليه، مما يكون كلاهما صالحين لمثله؛ لأن ذلك مما لا غنى له عنه، فلم يبع في دينه كلباسه وقوته.
لكن الأصح عند الشافعية: أنه يباع مسكنه ومركوبه، ولا يترك له خادمه القابل للبيع في الماضي، لزمانته ومنصبه؛ لأنه يسهل تحصيل المقصود بالكراء.
وقال المالكية: أوجر على المفلس خادمه الذي لا يباع عليه، ويباع ما يباع عليه.
5 ً - استرداد الدائن عين ماله الذي وجده في مال المفلس:
هذا هو الحكم أو الأثر الخامس من أحكام أو آثار الحجر على المفلس عند الجمهور غير الحنفية.
قال الحنفية (1) : من أفلس (أي حكم الحاكم بتفليسه) وعنده متاع لرجل بعينه، ابتاعه منه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء، أي أنه لا يكون أحق به من سائر الغرماء، فإن أفلس قبل قبض المتاع، أو بعد القبض بغير إذن بائعه، كان له استرداده، وحبسه بالثمن في حالة ما قبل القبض.
ودليلهم على عدم استحقاق صاحب المتاع عين ماله: أن الإفلاس يوجب في عقد المعاوضة لا في غيره العجز عن تسليم العين، والعقد غير مستحق الفسخ، فلا يثبت حق الفسخ، وإنما المستحق هو الثمن أو الدين الذي هو وصف في الذمة، وبقبض المشتري عين المبيع، تتحقق المبادلة ما بين الدين والعين.
__________
(1) الدر المختار: 106/5، تكملة الفتح والعناية: 330/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 201/5 ومابعدها.(6/335)
وقال الجمهور غير الحنفية (1) : إذا فلس الحاكم رجلاً، فأصاب أحد الغرماء عين ماله (أو
سلعته التي باعها إياه بعينها) ، كان له حق فسخ البيع وأخذ سلعته؛ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن، فيوجب ذلك حق الفسخ، كعجز البائع عن تسليم المبيع، ولأنه يجوز فسخ العقد لتعذر العوض كالمسلم فيه إذا تعذر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما يرويه أبو هريرة: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس، أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره» (2) .
وقال الحنفية: إنه معارض بما روى الخصاف بإسناده: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه، فهو أسوة غرمائه» وتأويل حديث أبي هريرة: أن المشتري كان قبضه بشرط الخيار للبائع.
والحقيقة أن رأي الجمهور أقوى لصحة حديث أبي هريرة الذي لا يعارضه غيره، ولبعد تأويل الحنفية السابق، إ ذ لا حاجة للحديث في حالة وجود الخيار للبائع بفسخ البيع، فهذا أمر مقرر عام يشمل المفلس وغيره. وأبعد منه تأويلهم الحديث على ما إذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة؛ لأن نص الحديث مقيد بحالة الإفلاس.
وهناك أمور تتعلق برجوع صاحب المتاع أو المال على المفلس أهمها ما يأتي:
أولاً - هل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ للشافعية والحنابلة رأيان (3) : أصحهما أن خيار الرجوع على الفور، كخيار العيب بجامع دفع الضرر، فتأخير الخيار يفضي إلى الضرر بالغرماء، لإفضائه إلى تأخير حقوقهم.
ثانياً ـ حق الرجوع في كل المعاوضات: قال الشافعية (4) : لصاحب المال الرجوع في سائر المعاوضات المحضة كالبيع والإجارة والقرض والسلم، لعموم حديث أبي هريرة السابق، فإذا أجره داراً بأجرة حالَّة، لم يقبضها حتى حجر عليه، فله الرجوع في الدار بالفسخ، تنزيلاً للمنفعة منزلة العين في البيع، ولو سلمه دراهم قرضاً، أو رأس مال سلم حالَّ أو مؤجل، فحل أجل تسليم المسلم فيه، ثم حجر عليه، والدراهم باقية بالشروط الآتية، فله الرجوع فيها بالفسخ.
أما غير المعاوضات كالهبة، والمعاوضات غير المحضة كالنكاح والصلح عن دم العمد، فلا يجوز الرجوع فيها.
ثالثاً ـ شروط الرجوع: يشترط للرجوع في البيع عند الشافعية شروط (5) :
__________
(1) بداية المجتهد: 283/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 373/3، الشرح الكبير: 282/3، المهذب: 322/1، مغني المحتاج: 157/2 ومابعدها، المغني: 409/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 319.
(2) حديث صحيح رواه الجماعة عن أبي هريرة، وله مؤيدات أخرى عن سمرة، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (نيل الأوطار: 242/5) .
(3) مغني المحتاج: 158/2، المغني: 410/4.
(4) مغني المحتاج: 158/2.
(5) المرجع والمكان السابق.(6/336)
(1) ـ كون الثمن حالاً عند الرجوع، لا مؤجلاً؛ لأن المؤجل لايطالب به.
(2) ـ أن يتعذر حصول الثمن بالإفلاس. فلو انتفى الإفلاس، وامتنع المدين من دفع الثمن مع يساره، أو هرب، أو مات مليئاً وامتنع الوارث من التسليم، فلا فسخ في الأصح؛ لأن التوصل إلى أخذه بالحكم ممكن.
ولو عرض الغرماء فداء المال بدفع ثمنه له، لم يلزمه قبوله، وله الفسخ عند الشافعية والحنابلة لما في الفداء من المنة، ولتعلق حقه بعين ماله. وقال المالكية: ليس له حينئذ حق الرجوع؛ لأن الرجوع لتلافي النقص في الثمن، فإذا بذل له الثمن كاملاً، لم يكن له الرجوع، كما لو زال العيب من المعيب (1) .
(3) ـ كون المبيع باقياً في ملك المشتري: فلو زال (فات) ملكه حساً كالموت أو حكماً كالوقف والبيع والهبة، فلا رجوع، لخروجه عن ملكه بالفوات.
تبين من هذه الشروط وما ذكر قبلها أن شروط الرجوع عند الشافعية تسعة (2) :
الأول ـ كونه في المعاوضة المحضة كالبيع.
الثاني ـ أن يرجع عقب العلم بالحجر.
الثالث ـ أن يكون رجوعه بقوله: فسخت البيع ونحوه، بدون حاجة لحكم حاكم.
الرابع ـ أن يكون عوضه غير مقبوض، فإن قبض شيئاً منه ثبت الرجوع فيما يقابل الباقي.
الخامس ـ أن يكون عدم استيفاء العوض لأجل الإفلاس.
السادس ـ كون العوض ديناً، فإن كان عيناً قدم بها على الغرماء.
السابع ـ حلول الدين.
الثامن ـ كون المال المبيع باقياً في ملك المفلس.
__________
(1) الشرح الكبير: 283/3، الشرح الصغير: 373/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 159/2، المغني: 411/4.
(2) مغني المحتاج: 160/2.(6/337)
التاسع ـ ألا يتعلق بالمال حق لازم، كرهن صادر من المشتري للشيء.
وقال الحنابلة (1) : إنما يستحق البائع الرجوع في السلعة بخمس شرائط، وزاد في كشاف القناع شرطين آخرين:
أحدها ـ أن تكون السلعة باقية بعينها، لم يتلف بعضها، فإن تلف جزء منها كتلف ثمرة الشجر المثمر، لم يكن للبائع الرجوع، وكان أسوة الغرماء. وقال المالكية والشافعية: يجوز الرجوع في الباقي، ويساهم مع الغرماء بحصة التالف. وهذا هو الشرط الثامن عند الشافعية.
ثانيها ـ ألا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر. وقال المالكية والشافعية: إنها لا تمنع.
ثالثها ـ ألا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً، فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط الرجوع، وهذا هو الشرط الرابع عند الشافعية، فالمذهبان متفقان عليه. وقال المالكية: صاحب السلعة مخير: إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين، وإن شاء ساهم مع الغرماء ولم يرجع.
رابعها ـ ألا يكون تعلق بها حق الغير، فإن رهنها المشتري، أو وهبها، لم يملك البائع الرجوع، كما لو باعها. وهذا هو الشرط التاسع عند الشافعية، ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنابلة والمالكية.
خامسها ـ أن يكون المفلس حياً، فإن مات، فالبائع أسوة الغرماء، سواء علم بفلسه قبل الموت، فحجر عليه، ثم مات، أو مات، فتبين فلسه. وهذا رأي المالكية أيضاً، لحديث أبي بكر بن عبد
__________
(1) المغني:413/4، 419، 430، 431، 434، 453، كشاف القناع: 414/3-417.(6/338)
الرحمن: «فإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء» (1) وقال الشافعية: له الفسخ، واسترجاع العين، عملاً بحديث أبي هريرة السابق.
سادسها ـ كون السلعة لم يزل ملك المشتري عنها ببيع أو هبة أو وقف ونحوه.
سابعها ـ أن يكون البائع حياً إلى وقت الرجوع.
وأما شروط رجوع البائع على المفلس في عين ماله عند المالكية فهي ثلاثة (2) :
أولها ـ ألا يفديه غرماؤه بثمنه الذي على المفلس، فإن فدوه بمالهم أو بمال المفلس، أو ضمنوا له الثمن وهم ثقات، أو أعطوه كفيلاً ثقة، لم يأخذه.
ثانيها ـ أن يمكن أخذه واستيفاؤه، فإن لم يمكن أخذه كبضع الزوجة (الاستمتاع بها) فلا يرجع، فالزوجة إذا أفلس زوجها وطلبت صداقها، ساهمت مع الغرماء؛ إذ لا يمكن رجوعها في البضع، ولها الفسخ قبل الدخول إذا أفلس حينئذ (3) .
ثالثها ـ أن يبقى عين المال على حاله، دون أن يتغير أو ينتقل عما كان عليه حين البيع، فإن تغير، ساهم صاحب المال مع الغرماء، فلا يرجع إن طحنت الحنطة أو بذرت أو قليت أو عجنت أو خبزت، أو جعل الزُّبْد سمناً، أو فصل القماش ثوباً، أو قطع الجلد نعالاً أو ذبح الحيوان، أو تتمر الرطب (جعله تمراً) ، أو خلط الشيء بغير مثله، ولم يتيسر تمييزه، كخلط عسل بسمن أو زيت، أو قمح جيد بعفن أو مسوس، أو زيت بنوع آخر من الزيوت.
فإن خلط الشيء بمثله، أو دبغ الجلد، أو صبغ الثوب، أو نسج الغزل، أو تعيب الشيء بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل أجنبي وعاد لهيئته الأولى، فلصاحبه حق الرجوع وأخذ الشيء.
فإن استمر العيب، ولم يعد الشيء لهيئته الأولى، فله أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه ومشاركة الغرماء بجميع الثمن.
رابعاً ـ زيادة المبيع عند المشتري المفلس: إذا زاد المبيع في يد المفلس فهل لصاحبه حق الرجوع؟
للزيادة حالات:
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، وأبو داود، وهو مرسل، وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف (نيل الأوطار: 242/5) .
(2) الشرح الكبير: 283/3، الشرح الصغير: 374/3 ومابعدها.
(3) هذه مسألة استطرادية، لأن الكلام فيما قبض وحيز قبل الفلس. والزوج وهو المبتاع لم يحصل منه قبض للبضع قبل الفلس.(6/339)
الحالة الأولى ـ الزيادة المتصلة: كالسمن والكبر، وتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن ونحوها، لا تمنع الرجوع عند المالكية إلا أن يعطيه الغرماء ثمن المبيع، وعند الشافعية، وفي رواية عن أحمد. وتمنع الرجوع في رأي الخرقي الحنبلي، ويظهر أنه الرأي الراجح عند الحنابلة لاتفاق كتبهم عليه (1) .
الحالة الثانية ـ الزيادة المنفصلة: كالثمرة والولد الحادثين بعد البيع في يد المشتري، لا تمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة، ويرجع البائع في الأصل، دون الزيادة، فإنها تكون للمشتري؛ لأن الشارع إنما أثبت لصاحب المال الرجوع في المبيع ذاته، فيقتصر عليه (2) .
الحالة الثالثة ـ الزيادة بسبب الصبغ: إذا اشترى رجل من آخر قماشاً فصبغه بصباغ ما، ثم أفلس، لم يمنع الصبغ باتفاق المذاهب الثلاثة من رجوع البائع بأصل القماش؛ لأن له حق الرجوع بعين ماله. ويكون المفلس شريكاً لصاحب القماش بما زاد في قيمته، وتكون الزيادة له (3) .
وفي احتمال آخر عند الحنابلة: ألا يكون له الرجوع إذا زادت القيمة، لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس، فمنعت الرجوع كالسمن.
الحالة الرابعة ـ الزيادة بالبناء أو الغرس أو الزراعة:
قال المالكية (4) : من وجد ماله بعينه عند المفلس، وقد أحدث زيادة، مثل أن تكون أرضاً فبناها أو غرسها، امتنع عليه الرجوع، ويساهم مع الغرماء في ماله.
وقال الشافعية والحنابلة (5) : لو اختار البائع الرجوع في الأرض بعد بناء المشتري أو غرس أشجار فيها، فإن اتفق الغرماء والمفلس على تفريغها من البناء
__________
(1) الشرح الكبير: 283/3، مغني المحتاج: 161/2، المهذب: 324/1، المغني: 419/4، كشاف القناع: 416/3، القوانين الفقهية: ص 320.
(2) المراجع السابقة، كشاف القناع: 418/3.
(3) الشرح الكبير: 283/3، مغني المحتاج: 164/2، المهذب: 325/1، المغني: 417/4، كشاف القناع: 418/3.
(4) بداية المجتهد: 285/2.
(5) مغني المحتاج: 162/2 ومابعدها، المهذب: 325/1، المغني: 426/4 ومابعدها، كشاف القناع: 427/3.(6/340)
والغرس، فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم لا يعدوهم، فإذا تم التفريغ فللبائع الرجوع في أرضه؛ لأنه وجد متاعه بعينه، ويجب تسوية الحفر وغرامة أرش النقص من مال المفلس إن نقصت بالقلع، وإن امتنعوا عن التفريغ، لم يجبروا، قيل: وللبائع الرجوع في الأرض، ويتملك البناء والغراس بقيمته، وله أن يقلع ويضمن أرش النقص؛ لأن مال المفلس مبيع كله، والضرر يندفع بكل واحد من الأمرين، كالزيادة بالصبغ.
والأرجح عند الشافعية والحنابلة: أنه ليس للبائع الرجوع في الأرض، ويبقى البناء والغراس للمفلس، لما في الرجوع من ضرر بالمفلس المشتري والغرماء، والضرر لا يزال بالضرر، فالرجوع إنما شرع لدفع الضرر، فلا يزال ضرر البائع بضرر المفلس والغرماء. وحينئذ يساهم البائع مع الغرماء بالثمن. وبه اتفقت المذاهب الثلاثة على عدم الرجوع في هذه الحالة.
فإن زرع المشتري الأرض، ثم أفلس، فيجوز للبائع عند الشافعية (1) الرجوع في الأرض؛ لأنه وجد عين ماله مشغولاً بما ينقل، كما لو كان المبيع داراً، وفيها متاع للمشتري. وحينئذ إن استحصد الزرع، وجب نقله، وإن لم يستحصد، جاز تركه إلى أوان الحصاد، من غير أجرة؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فإذا زال الملك، جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد، من غير أجرة، كما لو زرع أرضه، ثم باع الأرض.
خامساً ـ تغيير المبيع بطحن الحنطة أو غزل الصوف ونحوهما:
إن اشترى شخص حنطة فطحنها، أو زرعها، أو دقيقاً فخبزه، أو زيتاً فعمله صابوناً، أو ثوباً قماشاً فقطعه قميصاً، أو غزلاً فنسجه ثوباً، أو خشباً فنجّره أبواباً،
__________
(1) المهذب: 326/1.(6/341)
أو شريطاً فعمله إبراً، أو شيئاً عمل به ما أزال اسمه، ثم أفلس، سقط حق الرجوع للبائع باتفاق المذاهب الثلاثة على الأظهر عند الشافعية إن زادت القيمة. فإن لم تزد القيمة رجع البائع، ولا شيء للمفلس (1) .
سادساً ـ خلط المبيع بغيره:
إذا اشترى شخص زيتاً فخلطه بزيت آخر، أو قمحاً فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه، سقط حق الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة. لكن قال المالكية: إن خلط الشيء بمثله، فله حق الرجوع، وقال الشافعية: إن خلط المبيع بمثله أو دونه، فللبائع أخذ قدر المبيع من المخلوط، وإن خلطه بأجود منه، فلا رجوع في المخلوط في الأظهر، بل يضارب مع الغرماء بالثمن (2) .
سابعاً ـ نقص المبيع: إذا نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه، أو لعيب، كهزال، أو مرض، أو بلى ثوب، لم يمنع الرجوع باتفاق المذاهب الثلاثة؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله، لكن البائع عند الشافعية والحنابلة يتخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه، وبين أن يساهم مع الغرماء بجميع الثمن؛ لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من هزال أو غيره، فيصير كنقصه بسبب تغير الأسعار.
ويتخير البائع عند المالكية بين أخذه ومشاركة الغرماء بنسبة النقص، أو تركه
__________
(1) الشرح الكبير: 283/3، الشرح الصغير: 374/3، مغني المحتاج: 163/2، المهذب: 325/1، المغني: 416/4.
(2) الشرح الكبير، والصغير، ومغني المحتاج: المكان السابق، المغني: 415/4، المهذب: 326/1.(6/342)
ومشاركة الغرماء بجميع الثمن. وهو مذهب الشافعية أيضاً فيما إذا كان إتلاف بعض الشيء من أجنبي (1) .
المبحث الثالث ـ رفع الحجر عن المحجورين:
من المقرر شرعاً أن الحكم يدور مع سببه أو علته وجوداً أو عدماً، وبما أن الحجر كان لسبب، فإذا زال سبب الحجر، زال مسببه الذي بني عليه، وهو الحجر، وقد بينت الحكم في بحث أثر الحجر في المحجورين وأوجزه هنا.
يرتفع الحجر عن السفيه إذا ظهر رشده وأمارات حرصه على ماله، ولكن لا بد في الراجح عند الفقهاء، خلافاً لمحمد بن الحسن وابن القاسم كما تبين في السفه، من قرار القاضي برفع الحجر؛ لأن ما ثبت بحكم القاضي لا يزول إلا بحكم آخر. كذلك يرفع الحجر عن المغفل إذا ظهرت خبرته، واهتدى إلى حسن التصرف، عن طريق حكم القاضي، على الخلاف السابق في السفيه.
ويرفع الحجر عن المجنون بدون حكم القاضي باتفاق إذا شفي وعاد إليه عقله. ومثله المعتوه إذا اكتملت قواه العقلية وزال تخبطه في الكلام.
وأما الصغير: فإن كان غير مميز فيرفع الحجر عن بعض تصرفاته عند الحنفية والمالكية بإتمام سن السابعة. وإن كان مميزاً فيرفع الحجر عنه شيئان (2) :
أحدهما ـ عند الجمهور غير الشافعية: وهو إذن الولي إياه بالتجارة، والإذن بالتجارة يزيل الحجر عن التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع. وعند الشافعية: لايزول الحجر عن المميز ولو بالإذن بالتجارة.
الثاني ـ بلوغه عاقلاً رشيداً من غير حاجة إلى ترشيد ولي أو حكم من القاضي عند الجمهور غير المالكية.
وقال المالكية: الصغير ذو الأب: يزول الحجر عنه ببلوغه رشيداً بغير حكم الحاكم. فإن كان عليه وصي من الأب، فيزول حجره بترشيد منه من غير إذن الحاكم، وإن كان وصيه من القاضي، فيزول حجره بترشيده، بإذن القاضي في رأي ابن جزي المالكي، وأما ما ذكره الدردير في الشرح الكبير والصغير فلا يحتاج الوصي مطلقاً في ترشيده إلى إذن القاضي، وما ذكره الدردير أرجح. والترشيد: أن يقول الوصي أمام العدول: اشهدوا أني فككت الحجر عن فلان، وأطلقت له التصرف، لما قام عندي من رشده وحسن تصرفه.
وللقاضي ترشيد المحجور إذا ثبت عنده رشده، سواء كان بوصي أو بغير وصي.
__________
(1) الشرح الكبير والصغير، المكان السابق، المهذب: 324/1، المغني: 414/4، القوانين الفقهية: ص320.
(2) البدائع: 171/7، المغني: 457/4.(6/343)
والأنثى تظل في ولاية أبيها في مشهور المذهب حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، ويؤنس رشدها، أو يشهد العدول بحفظ مالها، أو يرشدها أبوها قبل الدخول أو بعده، أو وصيها المختار بعد الدخول. وليس لوصي القاضي ترشيدها مطلقاً إلا بشهادة البينة برشدها، كما ذكر في بحث حجر الصغير.
وأما المفلس إذا قسم ماله بين الغرماء، فهل ينفك عنه الحجر بالقسمة، أو يحتاج إلى حكم القاضي بفك الحجر؟
ذكر الشافعية والحنابلة (1) فيه وجهين:
أحدهما ـ يزول الحجر، بقسمة مال المفلس؟ لأن المعنى الذي لأجله حجر عليه قد زال، فزال الحجر تبعاً له، كزوال حجر المجنون لزوال جنونه.
والثاني ـ لا يزول إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بالحاكم، كالحجر على المبذر. ويختلف حكمه عن المجنون؛ لأن حجره ثبت بنفسه فزال بزواله.
وفي تقديري: أنه ينبغي أن يتضمن حكم القاضي بحجر المفلس تحديد غاية معينة للحجر، وهي أن يتم تصفية أموال المفلس، فإذا تحقق الهدف، زال أثر الحجر تلقائياً بدون حاجة لحكم القاضي.
__________
(1) المهذب: /327، المغني: 449/4.(6/344)
المبحث الرابع ـ تعلق الدين بالتركة:
ههنا أمور ثلاثة:
1 ً - هل تحل الديون المؤجلة بالموت؟ يرى جمهور العلماء ومنهم أئمة المذاهب في رواية عن أحمد (1) أن الديون المؤجلة تحل بالموت، كما تحل عند الحنفية والمالكية خلافاً لغيرهم بالتفليس. قال الزهري: مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات (2) . وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين. وفي رواية أخرى عن أحمد: لايحل الدين المؤجل بالموت أو الجنون إن وثق الورثة الدين برهن يحرز أو كفيل مليء.
وإذا لم يحل الدين بالموت، فلا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت، أو الورثة، أو يتعلق بالمال: لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا في ذمة الورثة؛ لأنهم لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعلق بأعيان أموال التركة، أو تأجيله؛ لأنه ضرر بالميت، وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما إضرار الميت فلأن ذمته تظل
__________
(1) بداية المجتهد: 282/2، المغني: 435/4، المهذب: 327/1، منار السبيل: 354/1.
(2) يدل له ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل، فالذي عليه حالٌّ، والذي له إلى أجله» (المهذب: 327/1) .(6/345)
مشغولة بالدين حتى يوفى عنه لحديث: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (1) . وأما إضرار صاحب الدين (الدائن) فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه، وأما إضرار الوراثة فإنهم لا ينتفعون بأعيان التركة ولا يتصرفون فيها.
ولأن الموت ما جعل مبطلاً للحقوق، وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته» (2) .
2 ً - كيفية تعلق الدين بالتركة: يرى أغلب العلماء (3) أن الدين يبقى في ذمة الميت كما كان، ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، أو كتعلق الدين بالمرهون؛ لأنه أحوط للميت، إذ يمتنع على الورثة تصرفهم بأموال التركة قبل قضاء الديون. والأصح عند الشافعية أن يستوي الدين المستغرق وغيره في رهن التركة، فلا ينفذ تصرف الوارث في شيء منها.
وبناء عليه لو باع رجل سلعة ثم مات المشتري قبل أداء الثمن، يكون البائع أحق بسلعته عند الشافعية، كما في حال الإفلاس. ودليلهم رواية ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أيما رجل مات، أو أفلس، فصاحب المتاع أحق به» .
وقال الحنابلة والحنفية والمالكية (4) : صاحب المتاع أسوة الغرماء بدليل رواية
أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ومعناها «أيما رجل مات أو أفلس، فوجد بعض غرمائه ماله بعينه، فصاحب المتاع أسوة الغرماء» .
3 ً - هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة؟
هناك رأيان عند الشافعية والحنابلة (5) ، الصحيح منهما: أن تعلق الدين بالتركة لا يمنع الإرث؛ لأن تعلقه بها لا يزيد على تعلق حق المرتهن بالمرهون، وحق الدائن بمال المفلس، وحق المجني عليه بمال الجاني، وهو كله لا يزيل الملك في حق الراهن والمفلس والجاني، فلا يمنع تعلق الدين بالتركة من نقل الملك إلى الورثة.
فلو تصرف الورثة بالتركة ببيع أو غيره، صح تصرفهم، ولزمهم أداء الدين، فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم. وتكون زوائد التركة كالنتاج أو الولد أو الولد من حق الورثة؛ لأنها حدثت في ملكهم. ولو تصرف الوارث ولم يكن هناك دين، ثم طرأ دين برد مبيع معيب، فيظل التصرف في الأصح نافذاً، لكن إن لم يقض الدين، فسخ تصرفه، ليصل المستحق إلى حقه.
ولا خلاف في أن للوارث إمساك عين التركةوقضاء الدين من ماله؛ لأنه خليفة المورث، والمورث كان له ما ذكر.
وإذا قسم مال الميت أو مال المفلس بين الغرماء، ثم ظهر غريم آخر، رجع على الغرماء، وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه؛ لأن القسمة كانت بحكم الظاهر أنه لا غريم له غيرهم، فإذا بان خلاف الظاهر، وجب نقض القسمة.
والرأي الثاني المرجوح: أن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لقوله تعالى: {من بعد وصية يوصِي بها أو دين} [النساء:11/4] أي من بعد إعطاء وصية أو إيفاء دين إن وجد، فجعل التركة للوارث من بعد الدين والوصية، فلا يثبت لهم الملك قبلهما. فلو تصرف الورثة لم يصح تصرفهم؛ لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن الغرماء لهم.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي كريمة (الجامع الكبير: 178/3) .
(3) شرح السراجية: ص 4 ومابعدها، بداية المجتهد: 284/2، القوانين الفقهية: ص 319 ومابعدها، مغني المحتاج: 144/2 ومابعدها، المغني: 436/4، المهذب: 327/1.
(4) هذا ما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد: إذ فرق بين الإفلاس والموت، ففي الأول: صاحب المتاع أحق وفي الثاني: هو أسوة الغرماء. وأما صاحب القوانين فقد سوى بينهما في حالة كون السلعة باقية، فإن تلفت فصاحب المتاع أسوة الغرماء.
(5) مغني المحتاج: 145/2 ومابعدها، المهذب: 327/1، المغني: 437/4.(6/346)
القسْمُ الرَّابع: المِلْكيّة وَتوابعُها
يتضمن هذا القسم بحث الملكية في بابين: الباب الأول ـ الملكية، وفيها تمهيد وستة فصول هي:
الفصل الأول ـ تعريف الملكية والملك.
الفصل الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها.
الفصل الثالث ـ أنواع الملك.
الفصل الرابع ـ أنواع الملك الناقص.
الفصل الخامس ـ أسباب الملك التام.
الفصل السادس ـ طبيعة الملك أو هل الملكية الخاصة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيدة؟
وأما الباب الثاني: فهو توابع الملكية، وبحثها في اثني عشر فصلاً، أذكرها بعد التمهيد التالي:(6/347)
........................................تمهيد........................................
إن الملكية وخصائصها من أخطر ما يقوم عليه النظام الاقتصادي في الماضي والحاضر، وهي محور الخلاف بين النظامين العالميين المعاصرين: النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، لذا كان بحث الملكية وتوابعها من القضايا المهمة التي تشغل بال العالم.
وسيجد الباحث أن هناك كثيراً من أوجه الالتقاء والشبه بين الأنظمة الحالية في أهدافها السامية وبين النظام الإسلامي في تنظيم الملكية، على نحو يحقق مصلحة الفرد والجماعة، أو مصلحة الشعب والدولة، وبذلك انحلت عقدة الصراع على قضية الملكية بما كفله الإسلام من صون مبدأ التملك، ولكن مع تقييده بقيود شديدة ومتعددة لتحقيق مصلحة الجماعة، وتطويقه بوازع الدين الحارس الأمين لكل مصلحة عامة، والدافع القوي للمساهمة في دعم الصالح العام.
كما سيجد الباحث مع ملاحظة اختلاف وجهات النظر الفقهية: أن الأموال العامة كالنفط والمعادن هي حق للجماعة ممثلة بالدولة، كما أن كثيراً من الأحكام الفقهية القديمة مأخوذ به فعلاً في التقنينات الوضعية الحديثة، سواء في ميدان العقود أم في حال الاعتداء على الأموال، وضمان المتلفات على أساس من العدالة والمساواة بين الضرر والتعويض، ورعاية حق الملكية، والدفاع عن المقدسات من نفس ومال وعرض. وهو كله دليل على سمو المبادئ الإسلامية وعدالتها في التطبيق. والله الموفق إلى سواء السبيل. هذا وقد سبق في النظريات الفقهية بحث الملكية: تعريفها، أسبابها، أنواعها، ولا بأس من إعادة بحثها هنا بنحو أشمل، مع بحث طبيعة الملكية أو هل الملكية الفردية في الإسلام مطلقة أو مقيدة؟ ثم أذكر ما يتعلق بها، وهو ما يأتي في الفصول الاثنتي عشرة الآتية، وهي موضوع الباب الثاني.
الفصل الأول ـ أحكام الأراضي.
الفصل الثاني ـ إحياء الموات.
الفصل الثالث ـ أحكام المعادن والحمى والإقطاع.
الفصل الرابع ـ حقوق الارتفاق.
الفصل الخامس ـ عقود استثمار الأرض ـ المزارعة، المساقاة، المغارسة.
الفصل السادس ـ اتفاق القسمة.
الفصل السابع ـ الغصب والإتلاف.
الفصل الثامن ـ دفع الصائل.
الفصل التاسع ـ اللقطة واللقيط.
الفصل العاشر ـ المفقود.
الفصل الحادي عشر ـ المسابقة والمناضلة.
الفصل الثاني عشر ـ الشفعة.
ملحق ـ معالم النظام الاقتصادي في الإسلام.(6/348)
البَابُ الأوَّل: الملكيّة وخَصَائِصها
وفيه ستة فصول يأتي بحثها تباعاً وهي ما يأتي:
الفَصْلُ الأوَّل: تعريف الملكيَّة والمُلْك
الملكية أو الملك: علاقة بين الإنسان والمال أقرها الشرع (1) تجعله مختصاً به، ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف.
والملك كما يطلق على هذه العلاقة، يطلق أيضاً على الشيء المملوك، تقول: هذا الشيء ملكي أي مملوك لي. وهذا المعنى هو المقصود في تعريف المجلة (م125) للملك: بأنه ما ملكه الإنسان، سواء أكان أعياناً أم منافع. وبهذا المعنى يفهم قول الحنفية: إن المنافع والحقوق ملك وليست بمال.
وبناء عليه فالملك أعم من المال عندهم.
والملك في اللغة: هو حيازة الإنسان للمال والاستبداد به، أي الانفراد بالتصرف فيه. وقد عرف الفقهاء الملك بتعاريف متقاربة مضمونها واحد (2) ، ولعل أفضلها هو ما يأتي:
الملك: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه، ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي.
فإذا حاز الشخص مالاً بطريق مشروع أصبح مختصاً به، واختصاصه به يمكنه من الانتفاع به والتصرف فيه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كالجنون أو العته أو السفه أو الصغر ونحوها. كما أن اختصاصه به يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا إذا وجد مسوغ شرعي يبيح له ذلك كولاية أو وصاية أو وكالة.
__________
(1) حق الملكية وغيره لا يثبت إلا بإقرار الشرع واعترافه به، لأن الشرع هو مصدر الحقوق، وليس الحق في الشريعة حقاً طبيعياً، وإنما هو منحة إلهية منحها الخالق للأفراد وفقاً لمصلحة الجماعة.
(2) راجع فتح القدير: 74/5، الفروق للقرافي: 208/3 ومابعدها.(6/349)
وتصرف الولي والوصي أو الوكيل لم يثبت له ابتداء، وإنما بطريق النيابة الشرعية عن غيره، فيكون القاصر أو المجنون ونحوهما هو المالك، إلا أنه ممنوع من التصرف بسبب نقص أهليته أو فقدانها، ويعود له الحق بالتصرف عند زوال المانع أو العارض.
الفَصْلُ الثَّاني: قابليَّة المال للتّملك وعدمها
المال في الأصل قابل بطبيعته للتملك، لكن قد يعرض له عارض يجعله غير قابل في كل الأحوال أو في بعضها للتملك، فيتنوع المال بالنسبة لقابليته للتملك إلى ثلاثة أنواع:
1 - ما لا يقبل التمليك ولا التملك بحال: وهو ما خصص للنفع العام كالطرق العامة والجسور والحصون والسكك الحديدية والأنهار والمتاحف والمكتبات العامة والحدائق العامة ونحوها. فهذه الأشياء غير قابلة للتملك لتخصيصها للمنافع العامة. فإذا زالت عنها تلك الصفة عادت لحالتها الأصلية، وهي قابلية التملك، فالطريق إذا استغني عنه أو ألغي جاز تملكه.
2 - ما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي: كالأموال الموقوفة وأملاك بيت المال، أي الأموال الحرة في عرف القانونيين. فالمال الموقوف لا يباع ولا يوهب إلا إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من إيراده، فيجوز للمحكمة الإذن باستبداله (1) .
وأملاك بيت المال (أو وزارة المالية، أو الحكومة) لا يصح بيعها إلا برأي الحكومة لضرورة أو مصلحة راجحة، كالحاجة إلى ثمنها، أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحوها؛ لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة أو المصلحة، قال الخليفة عمر رضي الله عنه:
__________
(1) أجاز الحنفية الاستبدال بالموقوف أرضاً للحاجة والمصلحة، فقالوا: يجوز للقاضي النزيه العدل الإذن باستبدال الوقف، بشرط أن يخرج عن الانتفاع بالكلية، وأن لا يكون هناك ريع للوقف يعمر به، وأن لا يكون البيع بغبن فاحش، وأن يستبدل بعقار لا بدراهم ودنانير (الدر المختار ورد المحتار: 425/3) .(6/350)
«أنزلت نفسي من بيت مال المسلمين بمنزلة وصي اليتيم» .
3 - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد: وهو ما عدا النوعين السابقين.
الفَصْلُ الثَّالث: أنْواع المُلْك
الملك إما تام أو ناقص.
الملك التام: هو ملك ذات الشيء (رقبته) ومنفعته معاً، بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق الشرعية.
ومن أهم خصائصه: أنه ملك مطلق دائم لا يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل الملك قائماً، ولا يقبل الإسقاط (أي جعل الشيء بلا مالك) ، فلو غصب شخص عيناً مملوكة لآخر، فقال المالك المغصوب منه: أسقطت ملكي، فلا تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكاً له، وإنما يقبل النقل، إذ لا يجوز أن يكون الشيء بلا مالك. وطريق النقل إما العقد الناقل للملكية كالبيع، أو الميراث أو الوصية.
ويمنح صاحبه الصلاحيات التامة من حرية الاستعمال والاستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء، فله البيع أو الهبة أو الوقف أو الوصية، كما له الإعارة والإجارة؛ لأنه يملك ذات العين والمنفعة معاً، فله التصرف بهما معاً، أو بالمنفعة فقط.
وإذا أتلف المالك ما يملكه لا ضمان عليه، إذ لا يتصور مالك وضامن في شخص واحد، لكن يؤاخذ ديانة؛ لأن إتلاف المال حرام، وقد يؤاخذ قضاء، فيحجر عليه إذا ثبت سفهه.
والملك الناقص: هو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. ويسمى ملك المنفعة حق الانتفاع. وملك المنفعة قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه لا العين المملوكة، كالموصى له بمنفعة شيء مدة حياته، وقد يكون حقاً عينياً، أي تابعاً للعين دائماً، بقطع النظر عن الشخص المنتفع. وهذا يسمى حق الارتفاق، ولا يكون إلا في العقار.(6/351)
الفَصْلُ الرَّابع: أنْواع المُلك النَّاقص
وبناء عليه يكون الملك الناقص ثلاثة أنواع:
1 - ملك العين فقط:
وهو أن تكون العين (الرقبة) مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر، كأن يوصي شخص لآخر بسكنى داره أو بزراعة أرضه مدة حياته، أو مدة ثلاث سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي وقبل الموصى له، كانت عين الدار ملكاً لورثة الموصي بالإرث، وللموصى له ملك المنفعة مدة حياته أو المدة المحددة. فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكاً لورثة الموصي، فتعود ملكيتهم تامة.
وفي هذه الحالة: ليس لمالك العين الانتفاع بها ولا التصرف بمنفعتها، أو بالعين، ويجب عليه تسليم العين للمنتفع ليستوفي حقه من منافعها، فإذا امتنع أجبر على ذلك.
وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة، وتنتهي دائماً إلى ملكية تامة، وملكية المنافع قد تكون مؤقتة لا دائماً؛ لأن المنافع لا تورث عند الحنفية. أو دائمة كالوقف.
2 - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع (1) :
هناك أسباب خمسة لملك المنفعة: وهي الإعارة والإجارة، والوقف والوصية، والإباحة.
أما الإعارة: فهي عند جمهور الحنفية والمالكية: تمليك المنفعة بغير عوض. فللمستعيرأن ينتفع بنفسه، وله إعارة الشيء لغيره، لكن ليس له إجارته؛ لأن الإعارة عقد غير لازم (يجوز الرجوع عنه في أي وقت) ، والإجارة عقد لازم، والضعيف لا يتحمل الأقوى منه، وفي إجارة المستعار إضرار بالمالك الأصلي.
__________
(1) يرى الحنفية: أنه لافرق بين ملك المنفعة وحق الانتفاع، وهما شيء واحد. فللمنتفع أن ينتفع بنفسه، أو أن يملك غيره المنفعة، إلا إذا وجد مانع صريح من قبل مالك العين، أو وجد مانع يقتضيه العرف والعادة، فمن وقف داره لسكنى الغرباء كان للطالب حق السكنى فقط، وحق الانتفاع بالمرافق العامة كالمدارس والجامعات والمشافي مقيد بالمنتفع فقط، وليس له تمليك غيره. وهذا الرأي هو المعمول به قانوناً. وقال المالكية: هناك فرق بين ملك المنفعة وحق الانتفاع. فملك المنفعة اختصاص يكسب صاحبه أن ينتفع بنفسه، وأن يملكها لغيره بعوض أو بغير عوض. وأما حق الانتفاع: فهو مجرد رخصة بالانتفاع الشخصي بناء على إذن عام كحق الانتفاع بالمنافع العامة كالطرق والأنهار والمدارس والمصحات وغيرها، أو إذن خاص كحق الانتفاع بملك شخص أذن له به، كركوب سيارته، والمبيت في منزله، وقراءة كتبه، ونحو ذلك. فليس للمنتفع أن يملك المنفعة لغيره، فتمليك الانتفاع: هو أن يباشر المنتفع بنفسه، وتمليك المنفعة أعم وأشمل، فيباشر بنفسه ويملك غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالإعارة.
(راجع الفروق للقرافي: 18/1، الفرق 30، بدائع الفوائد لابن القيم) .(6/352)
وعند الشافعية والحنابلة: هي إباحة المنفعة بلا عوض. فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره.
وأما الإجارة: فهي تمليك المنفعة بعوض. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره مجاناً أو بعوض إذا لم تختلف المنفعة باختلاف المنتفعين، حتى ولو شرط
المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه. فإن اختلف نوع المنفعة كان لا بد من إذن المالك المؤجر.
وأما الوقف: فهو حبس العين عن تمليكها لأحد من الناس وصرف منفعتها إلى الموقوف عليه. فالوقف يفيد تمليك المنفعة للموقوف عليه، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره إن أجاز له الواقف الاستثمار، فإن نص على عدم الاستغلال، أو منعه العرف منه، فليس له الاستغلال.
وأما الوصية بالمنفعة: فهي تفيد ملك المنفعة فقط في الموصى به، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره بعوض أو بغير عوض إن أجاز له الموصي الاستغلال.(6/353)
وأما الإباحة: فهي الإذن باستهلاك الشيء أو باستعماله، كالإذن بتناول الطعام أو الثمار، والإذن العام بالانتفاع بالمنافع العامة كالمرور في الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي. والإذن الخاص باستعمال ملك شخص معين كركوب سيارته، أو السكن في داره.
وسواءأكانت الإباحة مفيدة ملك الانتفاع بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية، أم مجرد الانتفاع الشخصي كما يرى المالكية، فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في الانتفاع بالمباح له، لا بالإعارة ولا بالإباحة لغيره.
والفرق بين الإباحة والملك هو:
أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد مانع. أما الإباحة: فهي حق الإنسان بأن ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن. والإذن قد يكون من المالك كركوب سيارته، أو من الشرع كالانتفاع بالمرافق العامة، من طرقات وأنهار ومراعٍ ونحوها. فالمباح له الشيء لا يملكه ولا يملك منفعته، بعكس المملوك.
خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي:
يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها مايأتي:
1 - يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه، بعكس الملك التام، فيجوز لمن يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد المنتفع بمدة معينة كشهر مثلاً، وبمكان معين كالركوب في المدينة لا في الصحراء، وأن يركبها بنفسه لا بغيره.
2 - عدم قبول التوارث عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء: فلا تورث المنفعة عند الحنفية؛ لأن الإرث يكون للمال الموجود عند الموت، والمنافع لا تعتبر مالاً عندهم كما تقدم.
أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لأن المنافع عندهم أموال كما أوضحت، فتورث كغيرها من الأموال، فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة معلومة، ثم مات قبل انتهاء هذه المدة، فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية المدة. وهذا هو الراجح؛ لأن المنفعة مال.(6/354)
3 - لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبراً عن مالكها. ومتى تسلمها تكون أمانة في يده، فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص، وإذا هلكت أو تعيبت لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. وما عدا ذلك لاضمان عليه.
4 - على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات إذا كان انتفاعه بها مجاناً، كما في الإعارة. فإن كان الانتفاع بعوض كما في الإجارة فعلى مالك العين نفقاتها.
5 - على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إلا إذا تضرر المنتفع. كما إذا لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو مستعارة، فله إبقاء الأرض بيده حتى موسم الحصاد، ولكن بشرط دفع أجر المثل.
انتهاء حق المنفعة:
حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا، فينتهي بأحد الأمور التالية:
1 - انتهاء مدة الانتفاع المحددة.
2 - هلاك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب لا يمكن فيه معه استيفاء المنفعة. كانهدام دار السكنى، أو صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة. فإن حصل ذلك بتعدي مالك العين ضمن عيناً أخرى، كالموصى له بركوب سيارة ثم عطلها، فعليه تقديم سيارة أخرى.
3 - وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لأن المنافع لا تورث عندهم.
4 - وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق الإعارة أو الإجارة؛ لأن الإعارة عقد تبرع، وهو ينتهي بموت المتبرع، ولأن ملكية المأجور تنتقل إلى ورثة المؤجر، وهذا عند الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: الإعارة عقد غير لازم فيجوز للمعير أو لورثته الرجوع عنها، سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة. وقال المالكية: الإعارة المؤقتة عقد لازم، فمن أعار دابة إلى موضع كذا، لم يجز له أخذها قبل ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار الانتفاع المعتاد.(6/355)
وبه يتبين أن الجمهور يقولون: إن الإعارة لا تنتهي بموت المعير أو المستعير، وكذلك الإجارة لا تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لأنها عقد لازم كالبيع. أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف، فلا ينتهي حق المنفعة بموت الموصي؛ لأن الوصية تبدأ بعد موته، ولا بموت الواقف؛ لأن الوقف إما مؤبد، أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته. 4670
3 - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مملوك لغير مالك العقار الأول. وهو حق دائم يبقى ما بقي العقاران، دون نظر إلى المالك، مثل حق الشِّرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق الجوار، وحق العلو.
أما حق الشّرب: فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض.
ويلحق به حق الشَّفَة: وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي. وسمي بذلك؛ لأن الشرب يكون عادة بالشفة.
والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (1) :
آـ ماء الأنهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة: لكل واحد الانتفاع به، لنفسه ودوابه وأراضيه، بشرط عدم الإضرار بالغير لحديث: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وحديث: «لا ضرر ولا ضرار» .
ب ـ ماء الجداول والأنهار الخاصة، المملوكة لشخص: لكل إنسان حق الشفة منه، لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أراضيه إلا بإذن مالك المجرى.
جـ ـ ماء العيون والآبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص: يثبت فيها كالنوع الثاني حق الشفة دون حق الشرب. فإن أبى صاحب الماء، ومنع الناس من الاستقاء لأنفسهم ودوابهم، كان لهم قتاله حتى ينالوا حاجتهم، إذ لم يجدوا ماء قريباً آخر.
__________
(1) البدائع: 188/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 144/8، القوانين الفقهية: ص 339، نهاية المحتاج: 255/4، المغني: 531/5.(6/356)
د ـ الماء المحرز في أوان خاصة: كالجرار والصهاريج، لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه إلا برضا صاحب الماء؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. لكن المضطر إلى هذا الماء الذي يخاف على نفسه الهلاك من العطش، له أخذ ما يحتاجه منه، ولو بالقوة ليدفع عن نفسه الهلاك، ولكن مع دفع قيمته؛ لأن «الاضطرار لا يبطل حق الغير» .
وحق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره إلى أرضه لسقيها. وليس للجار أن يمنع مرور الماء لأرض جاره، وإلا كان له إجراؤه جبراً عنه، دفعاً للضرر عنه.
وحق المسيل: هو مجرى على سطح الأرض، أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة، أو غير الصالحة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع، كمصارف الأراضي الزراعية أو مياه الأمطار أو الماء المستعمل في المنازل. والفرق بين المسيل والمجرى: أن المجرى لجلب المياه الصالحة للأرض، والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الأرض أو عن الدار. وحكمه مثل حق المجرى، ليس لأحد منعه إلا إذا حدث ضرر بيِّن.
وحق المرور: وهو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه، سواء أكان الطريق عاماً غير مملوك لأحد، أم خاصاً مملوكاً للغير. فالطريق العام يحق لكل إنسان المرور فيه. والطريق الخاص: يحق لأصحابه المرور فيه وفتح الأبوب والنوافذ عليه، وليس لهم سده أمام العامة للالتجاء إليه.
وحق الجوار: الجوار نوعان: علوي وجانبي. وفيه حقان:
1ً - حق التعلي: وهو الثابت لصاحب العلو على صاحب السفل.
2ً ـ حق الجوار الجانبي: وهو الثابت لكل من الجارين على الآخر.(6/357)
ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى، وهو حق ثابت دائماً لصاحب العلو، لا يزول بهدم العقار كله أو انهدام السفل، وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد، وليس لصاحب العلو أو السفل أن يتصرف في بنائه تصرفاً يضر بالآخر. وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر على ذلك قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات، إذا بني بإذن القاضي أو إذن صاحب السفل. فإن بنى من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه، لا بما أنفق؛ لأنه لم يكن وكيلاً بالإنفاق.
وليس لصاحب الجوار الجانبي إلا حق واحد: وهو ألا يضر أحدهما بصاحبه ضرراً فاحشاً بيناً: وهو كل ما يمنع المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو يكون سبباً لهدم البناء أو وهن فيه.
فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع، أما التصرفات التي يشكل أمرها في الجوار العلوي فلا يعلم، أيحصل منها ضرر أم لا، كفتح باب ونافذة في الطابق الأسفل، أو وضع متاع ثقيل في الطابق الأعلى قد يؤثر في السقف، فهذه مختلف في منعها (1) : فقال أبو حنيفة: يمنع هذا التصرف إلا بإذن الجار؛ لأن الأصل في تصرفات المالك في ملكه، التي يتعلق بها حق الغير: هو المنع والحظر؛ لأن ملكه ليس خالصاً، فلا يباح له إلا ما يتعين فيه عدم الضرر، ويتوقف ماعداه على إذن صاحب الحق ورضاه. وهذا الرأي هو المفتى به عند الحنفية.
__________
(1) فتح القدير: 503/5، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 373/4، ط البابي الحلبي: البدائع: 264/6، البحر الرائق: 32/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 196/4.(6/358)
وقال الصاحبان: الأصل في تصرف الجار الإباحة؛ لأن صاحب العلو تصرف في ملكه، والمالك حر التصرف في ملكه ما لم يكن فيه ضرر لغيره بيقين، فيمنع منه حينئذ، ويبقى ما عداه على الإباحة، وهذا الرأي في تقديري هو المعقول الواجب الاتباع. فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحداً وهو إباحة التصرف في الملك ما لم يترتب على التصرف ضرر فاحش بالجار، فإن وقع الضرر، وجب على المتعدي ضمانه، سواء أكان الضرر مباشراً أم بالتسبب. وهو رأي المالكية وباقي المذاهب أيضاً (1) .
أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق:
الأول ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي:
يفترق حق الارتفاق عن حق الانتفاع من نواح تالية:
1 - حق الارتفاق يكون دائماً مقرراً على عقار، فتنقص به قيمة العقار المقرر عليه. أما حق الانتفاع الشخصي فقد يتعلق بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته. وقد يتعلق بمنقول كإعارة الكتاب وإجارة السيارة.
2 - حق الارتفاق مقرر لعقار إلا حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار. أما حق الانتفاع فإنه دائماً مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه.
3 - حق الارتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملاك. وحق الانتفاع الشخصي مؤقت ينتهي بأحوال معينة كما تقدم.
4 - حق الارتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين لا يعتبرونه مالاً؛ لأنه تابع للعقار. وأما حق الانتفاع فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه.
الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق:
لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة.
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 40/6 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 341، نيل الأوطار: 261/5، ط العثمانية.(6/359)
فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى مالم يترتب على بقائها ضرر بالغير، فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها، فيزال السيل القذر في الطريق العام، ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين، ويمنع سير السيارة في الشارع العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بسرعة فائقة، أو في الاتجاه المعاكس، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المرور في الطريق العام مقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه (1) ، ولأن «الضرر لا يكون قديماً» .
وأما الأحكام الخاصة فسوف أذكرها في بحث حقوق الارتفاق المخصص لكل نوع منها.
الثالث ـ أسباب حقوق الارتفاق:
تنشأ حقوق الارتفاق بأسباب متعددة منها:
1 - الاشتراك العام: كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة، يثبت الحق فيها لكل عقار قريب منها، بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن الحاجة؛ لأن هذه المنافع شركة بين الناس فيباح لهم الانتفاع بها، بشرط عدم الإضرار بالآخرين.
2 - الاشتراط في العقود: كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور بها، أو حق شرب لأرض أخرى مملوكة له. فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط.
3 - التقادم: أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم لا يعلم الناس وقت ثبوته، كإرث أرض زراعية لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لأن الظاهر أنه ثبت بسبب مشروع حملاً لأحوال الناس على الصلاح، حتى يثبت العكس.
الفَصْلُ الخامِس: أسباب المُلك التَّام
إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة وهي:
الاستيلاء على المباح، والعقود، والخلَفية، والتولد من الشيء المملوك. وفي القانون المدني هي ستة: الاستيلاء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار، والميراث وتصفية التركة، والوصية،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 427/5.(6/360)
والالتصاق بالعقار أو بالمنقول، والعقد، والحيازة والتقادم (1) .
وهذه الأسباب تتفق مع الأسباب الشرعية (2) ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك للغير مدة طويلة) ، فإن الإسلام لا يقر التقادم المكسب على أنه سبب للملكية، وإنما هو مجرد مانع من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين (3) ، توفيراً لوقت القضاء، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق. أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإيفاؤه له ديانة. فمن وضع يده على مال مملوك لغيره لا يملكه شرعاً بحال.
كذلك لا يقر الإسلام مبدأ التقادم المسقط على أنه مسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة. فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والخلق، ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق مالكاً. إلا أن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة. ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم: «من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه» (4)
.وأما الالتصاق بسبب سيل أو فيضان أو كثبان رمل بسبب ريح شديدة، فلا مانع منه شرعاً؛ لأنه زيادة سماوية، تدخل تحت مبدأ «التولد من المملوك» .
__________
(1) راجع الفصل الثاني من حق الملكية ـ أسباب كسب الملكية: م 828، 836، 876، 879، 894، 907 ومابعدها من القانون المدني السوري.
(2) يلاحظ أن المادة (1248) من المجلة اقتصرت على الأسباب الثلاثة الأولى للتملك. ولكن من الضروري إضافة سبب رابع وهو التولد من المملوك إذ هو سبب مستقل عن تلك الأسباب.
(3) حدده الفقهاء بـ 33 سنة، وحددته المجلة (م 1661، 1662) في الحقوق الخاصة بـ 15 سنة وفي الأراضي الأميرية بـ 10 سنوات، وفي الأوقاف وأموال المال بـ 36 سنة.
(4) انظر بحث الحيازة والتقادم في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عبد الجواد: ص 18، 50 ومابعدها، 60، 108، 150 ومابعدها، ومراجعه مثل المدونة: 23/13، وتبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك: 362/2 وما بعدها. وانظر: 314/2 ط دار الفكر بيروت.(6/361)
1 - الاستيلاء على المباح:
المباح: هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين، ولم يوجد مانع شرعي من تملكه كالماء في منبعه، والكلأ والحطب والشجر في البراري، وصيد البر والبحر. ويتميز الاستيلاء على المباح بما يأتي:
أـ إنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن مملوكاً لأحد. أما بقية أسباب الملكية الأخرى (العقد، الميراث ونحوهما) ، فإن الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى، فهي سبب ناقل.
ب ـ إنه سبب فعلي لا قولي: يتحقق بالفعل أو وضع اليد، فيصح من كل
شخص ولو كان ناقص الأهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه. أما العقد فقد لايصح من هؤلاء أو يكون موقوفاً على إرادة أخرى، وهو سبب قولي.
ويشترط لهذا الطريق أي إحراز المباح شرطان:
أولهما ـ ألا يسبق إلى إحرازه شخص آخر، لأن «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
ثانيهما ـ قصد التملك: فلو دخل الشيء في ملك إنسان دون قصد منه لايتملكه، كما إذا وقع طائر في حجر إنسان، لا يتملكه. ومن نشر شبكته، فإن كان للاصطياد تملك ما يقع فيها، وإن كان للتجفيف لم يمتلك ما يقع فيها؛ لأن «الأمور بمقاصدها» .
والاستيلاء على المباح له صور أربع:
أولاً ـ إحياء الموات: أي استصلاح الأراضي البور. والموات: ما ليس مملوكاً من الأرضين، ولا ينتفع بها بأي وجه انتفاع، وتكون خارجة عند البلد. فلا يكون مواتاً: ما كان ملكاً لأحد الناس أو ماكان داخل البلد، أو خارجاً عنها، ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم.(6/362)
والإحياء يفيد الملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أكان الإحياء بإذن الحاكم أم لا عند جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومالك: لا بد من إذن الحاكم. وإحياء الأرض الموات يكون بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء والغرس والزراعة والحرث وحفر البئر. وعمل مستصلح الأرض لإحيائها يسمى فقهاً «التحجير» وقد حدد بثلاث سنين، قال عمر: «ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق» .
ثانياً ـ الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد وهو الإمساك، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيوانات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلّمة (1) .
والصيد حلال للإنسان إلا إذا كان مُحْرماً بالحج أو العمرة، أو كان المصيد في حرم مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:69/5] .
والصيد من أسباب الملكية، لكن يشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي قصد التملك عملاً بقاعدة «الأمور بمقاصدها» . فمن نصب شبكة فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد ملكه صاحبها كما تبين، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار إنسان، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه. وإن أغلقه صدفة، لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعول في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده.
__________
(1) قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم، قل: أحل لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه، واتقوا الله، إن الله سريع الحساب} [المائدة:4/5] .(6/363)
ثالثاً ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام:
الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في الأرض بغير زرع، لرعي البهائم.
والآجام: الأشجار الكثيفة في الغابات أو الأرض غير المملوكة.
وحكم الكلأ: ألا يملك، وإن نبت في أرض مملوكة، بل هو مباح للناس جميعاً، لهم أخذه ورعيه، وليس لصاحب الأرض منعهم منه؛ لأنه باق على الإباحة الأصلية، وهو الراجح في المذاهب الأربعة، لعموم حديث: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار» (1) .
وأما الآجام: فهي من الأموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة، فلكل واحد حق الاستيلاء عليها، وأخذ ما يحتاجه منها، وليس لأحد منع الناس منها، وإذا استولى شخص على شيء منها وأحرزه صار ملكاً له. لكن للدولة تقييد المباح بمنع قطع الأشجار، رعاية للمصلحة العامة، وإبقاء على الثروة الشجرية المفيدة.
أما إن كانت في أرض مملوكة فلا تكون مالاً مباحاً، بل هي ملك لصاحب الأرض فليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً إلا بإذنه؛ لأن الأرض تقصد لآجامها، بخلاف الكلأ، لا تقصد الأرض لما فيها من الكلأ.
رابعاً ـ الاستيلاء على المعادن والكنوز:
المعادن: ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخِلقة والطبيعة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ونحوها.
والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الأرض من الأموال، سواء في الجاهلية أو في الإسلام.
__________
(1) البدائع: 193/6 ومابعدها، م 1257 من المجلة.(6/364)
والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة «الركاز» : وهو ما ركز في باطن الأرض، سواء أكان بخلق الله كفلزات الحديد والنحاس وغيرها، أم كان بصنع الناس كالأموال التي يدفنها الناس فيها. وحكمها واحد في الحديث النبوي: «وفي الركاز الخمس» (1) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: الركاز: دفين الجاهلية. والمعدن: دفين أهل الإسلام.
حكم المعادن:
اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالاستيلاء عليها، وفي إيجاب حق فيها للدولة إذا وجدت في أرض ليست مملوكة.
أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان:
قال المالكية في أشهر أقوالهم (2) : جميع أنواع المعادن لا تملك بالاستيلاء عليها، كما لا تملك تبعاً لملكية الأرض، بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم حسبما تقضي المصلحة؛ لأن الأرض مملوكة بالفتح الإسلامي للدولة، ولأن هذا الحكم مما تدعو إليه المصلحة.
وقال الحنفية (3) : المعادن تملك بملك الأرض؛ لأن الأرض إذا ملكت ملكت بجميع أجزائها، فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكاً له، وإن كانت في أرض للدولة فهي للدولة، وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لأنها مباحة تبعاً للأرض، وذلك على تفصيل سيأتي في بحث المعادن والإقطاع، فعند الشافعية يملك المحيي المعادن الباطنية، وعند الحنابلة يملك المحيي المعادن الجامدة.
وأما حق الدولة في المعادن ففيه رأيان أيضاً:
__________
(1) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 147/4) .
(2) القوانين الفقهية: ص 102، الشرح الكبير مع الدسوقي: 486/1 ومابعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 61/1 ومابعدها، المهذب: 162/1، المغني: 28/3، 520/5.(6/365)
قال الحنفية: في المعادن الخمس؛ لأن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز بمقتضى اللغة، والباقي للواجد نفسه. وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. أما المعادن الصلبة التي لا تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري، والمعادن السائلة كالزئبق والنفط فلا يجب فيها شيء للدولة؛ لأن الأولى تشبه الحجر والتراب، والثانية تشبه الماء، ولا يجب فيها شيء للدولة، إلا الزئبق فيجب فيه الخمس.
وقال الشافعية: لا يجب في المعادن شيء للدولة، لا الخمس وغيره، وإنما يجب فيها الزكاة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُبَار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (1) فأوجب الخمس في الركاز: وهو دفين أهل الجاهلية، ولم يوجب في المعدن شيئاً؛ لأن «الجبار» معناه: لا شيء فيه. وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة الزكاة، والمعدن: مركز كل شيء، والمعادن: المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغيرها. ويطلق المعدن أيضاً على الفِلّز في لغة العلم.
__________
(1) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: 380/2، شرح مسلم: 226/11) . وقوله: «والمعدن جبار» معناه أن الرجل يحفر معدناً في ملكه أو في موات، فيمر بها مار، فيسقط فيها فيموت، أو يستأجر أجراء يعملون فيها، فيقع عليهم، فيموتون، فلا ضمان في ذلك. وكذا البئر جبار معناه أنه يحفرها في ملكه أو في مواته فيقع فيها إنسان أو غيره ويتلف، فلا ضمان. وكذا لو استأجره لحفرها، فوقعت عليه، فمات، فلا ضمان. وأما إذا حفر البئر في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير إذنه، فتلف فيها إنسان، فيجب ضمانه، وكذا إن تلف بها غير الآدمي وجب ضمانه في مال الحافر.(6/366)
حكم الكنز:
وأما الكنز: فهو ما دفنه الناس، سواء في الجاهلية أم في الإسلام. فهو نوعان: إسلامي وجاهلي.
الإسلامي: ما وجد به علامة أو كتابة تدل على أنه دفن بعد ظهور الإسلام مثل كلمة الشهادة أو المصحف، أو آية قرآنية أو اسم خليفة مسلم.
والجاهلي: ما وجد عليه كتابة أو علامة تدل على أنه دفن قبل الإسلام كنقش صورة صنم أو وثن، أو اسم ملك جاهلي ونحوه.
والمشتبه فيه: وهو مالم يتبين بالدليل أنه إسلامي أو جاهلي، قال فيه متقدمو الحنفية: إنه جاهلي. وقال متأخروهم: إنه إسلامي لتقادم العهد. وإن وجد كنز مختلط فيه علامات الإسلام والجاهلية فهو إسلامي؛ لأن الظاهر أنه ملك مسلم، ولم يعلم زوال ملكه.
والكنز الإسلامي: يبقى على ملك صاحبه، فلا يملكه واجده، بل يعتبر كاللقطة، فيجب تعريفه والإعلان عنه. فإن وجد صاحبه سلم إليه وإلا تصدق به على الفقراء، ويحل للفقير الانتفاع به. هذا رأي الحنفية (1) .
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة (2) تملكه والانتفاع به، ولكن إن ظهر صاحبه بعدئذ وجب ضمانه.
وأما الكنز الجاهلي: فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة الدولة) وأما باقيه وهو الأربعة الأخماس، ففيه اختلاف: فقيل: إنها للواجد مطلقاً سواء وجدها في أرض مملوكة أم لا. وقيل: إنها للواجد في أرض غير مملوكة أو في أرض ملكها بالإحياء. فإن كان في أرض مملوكة فهي لأول مالك لها أو لورثته إن عرفوا، وإلا فهي لبيت المال.
وهذا وقد جعل القانون المدني السوري (م 830) ثلاثة أخماس الكنز لمالك العقار الذي وجد فيه الكنز، وخمسه لمكتشفه، والخمس الأخير لخزينة الدولة.
__________
(1) فتح القدير: 307/3، البدائع: 202/6، المبسوط: 4/11 ومابعدها، الدر المختار: 351/3.
(2) بداية المجتهد: 301/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 121/4، المهذب: 430/1، مغني المحتاج: 415/2، المغني: 636/5.(6/367)
2 - العقود الناقلة للملكية:
العقود كالبيع والهبة والوصية ونحوها من أهم مصادر الملكية وأعمها وأكثرها وقوعاً في الحياة المدنية؛ لأنها تمثل النشاط الاقتصادي الذي يحقق حاجات الناس من طريق التعامل. أما الأسباب الأخرى للملكية فهي قليلة الوقوع في الحياة.
ويدخل في العقود التي هي سبب مباشر للملكية حالتان (1) :
الأولى: العقود الجبرية التي تجريها السلطة القضائية مباشرة، بالنيابة عن المالك الحقيقي، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة. فالمتملك يتملك عن طريق عقد بيع صريح بإرادة القضاء.
الثانية: نزع الملكية الجبري. وله صورتان:
أ - الشفعة: وهي عند الحنفية حق الشريك أو الجار الملاصق بتملك العقار المبيع جبراً على مشتريه بما بذل من ثمن ونفقات. وقصرها الجمهور على الشريك.
ب ـ الاستملاك للصالح العام: وهو استملاك الأرض بسعرها العادل جبراً عن صاحبها للضرورة أو المصلحة العامة، كتوسيع مسجد، أو طريق ونحوهما.
والمتملك من هذا الطريق يتملك بناء على عقد شراء جبري مقدر بإرادة السلطة.
وعليه فالعقد المسبب للملكية إما أن يكون رضائياً أو جبرياً، والجبري: إما صريح كما في بيع المدين، أو مفترض كما في الشفعة ونزع الملكية.
3 - الخلَفية:
وهي أن يخلف شخص غيره فيما كان يملكه، أو يحل شيء محل شيء آخر، فهي نوعان: خلفية شخص عن شخص وهي الإرث. وخلفية شيء عن شيء وهي التضمين.
والإرث: سبب جبري للتملك يتلقى به الوارث بحكم الشرع ما يتركه المورث من أموال التركة.
والتضمين: هو إيجاب الضمان أو التعويض على من أتلف شيئاً لغيره، أو غصب منه شيئاً فهلك أو فقد، أو ألحق ضرراً بغيره بجناية أو تسبب. ويدخل فيه الديات وأروش الجنايات، أي الأعواض المالية المقدرة شرعاً الواجبة على الجاني في الجراحات.
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 105.(6/368)
4 - التولد من المملوك:
معناه أن ما يتولد من شيء مملوك يكون مملوكاً لصاحب الأصل؛ لأن مالك الأصل هو مالك الفرع، سواء أكان التولد بفعل مالك الأصل، أم بالطبيعة والخلقة. فغاصب الأرض الذي زرعها يملك الزرع عند الجمهور غير الحنابلة؛ لأنه نماء البذر وهو ملكه وعليه كراء الأرض، ويضمن لصاحب الأرض نقصانها بسبب الزرع. وثمرة الشجر وولد الحيوان وصوف الغنم ولبنها لمالك الأصل.
وقال الحنابلة: الزرع لمالك الأرض، لما رواه الخمسة إلا النسائي عن رافع بن خديج أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» قال البخاري: هو حديث حسن (1) .
__________
(1) نيل الأوطار: 318/5 ومابعدها.(6/369)
الفَصْلُ السّادس: طبيعة الملكيّة أو هل الملكيّة الخاصّة في تشريع الإسلام مطلقة أو مقيّدة؟
البيع كما هو معروف بمثابة قانون منظم لمعاملات الأفراد وحقوق التملك، وللشرع أهداف فيما فرضه من قيود على التعامل، ومن أهم أسباب تقييد البيع بقيود أو شروط هو الحفاظ على حقوق الناس الطبيعية فيما يمتلكونه من أموال، فلا تنتقل ملكية أحد إلى آخر إلا في دائرة الحق والعدل، دون أن يكون هناك غش أو غبن أو تغرير أو استغلال أو جهالة تؤدي إلى المنازعة واضطراب المعاملات، أو أكل أموال الناس بالباطل. وهذه هي أهم الأسباب التي تؤثر على العقد فتجعله فاسداً أو باطلاً، وهو مناط تحريم العقد في شرعة الإسلام.
لذا كان جديراً أن نتساءل: هل حرية الشخص في تصرفاته ونشاطه في العمل والإنتاج والتملك مطلقة، أو أن هناك قيوداً من الشرع على حق التملك؟
تمهيد:
يسود عالم اليوم نظامان متعارضان في الاقتصاد: وهما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي:
النظام الرأسمالي: يعترف بحق الفرد في تملك الأموال ملكية خاصة، سواء أكانت هذه الأموال من أموال الاستهلاك، أم من أموال الإنتاج، على أنه لا يشترط أن تكون جميع الأموال مملوكة للأفراد، بل يجوز للدولة أو أحد فروعها أن تمتلك جانباً من هذه الأموال، كما لا يشترط أن يكون حق الملكية الخاصة مطلقاً، بل يجوز أن ترد عليه بعض القيود للمنفعة العامة.
ويقوم النظام الرأسمالي على أساس الحرية الاقتصادية للأفراد، دون تدخل الدول لتقييد نشاطهم في الميدان الاقتصادي، ويكون السعي للحصول على أكبر كسب نقدي هو الدافع المحرك للنشاط الاقتصاد ي في ظل النظام الرأسمالي.
وقد انتقد هذا النظام لأنه يؤدي إلى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الأفراد، وانقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسمالية الإقطاعية، وطبقة ذوي الدخل المحدود من عمال وفلاحين ونحوهم، كما يؤدي إلى تركز الثروة في أيدي فئة قليلة وانتشار البطالة والاحتكارات الطبيعية والصناعية. وكان من نتيجة ذلك فشل النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وضمان الحياة الرغدة للبشرية.
وأدى هذا الفشل إلى رد فعل معاكس، فازداد تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي من ناحية، وانتشرت المبادئ الاشتراكية من ناحية أخرى (1) .
__________
(1) راجع أصول الاقتصاد لأستاذنا الدكتور محمد حلمي مراد: ص 151-183.(6/370)
والنظام الاشتراكي: يقوم على أساس امتلاك الدولة لمختلف وسائل الإنتاج (1) من صناعة وزراعة وثروة طبيعية وخدمات عامة، ويكون بالتالي لاوجود للملكية الفردية القائمة على أساس الاستغلال والاستعباد، ولا حرية اقتصادية مطلقة للفرد إلا بمقدار ما يمنحه المجتمع إياه وينظمه له.
فالملكية الخاصة لم تلغ إلغاء تاماً؛ لأن ملكية الأموال الاستهلاكية من أدوات منزلية ونقود وسلع معترف بها، ويجوز أن تنتقل هذه الملكية لأموال الاستهلاك إلى الغير بطريق الميراث (2) .
وأما ملكية أموال الإنتاج: فهي ملكية اشتراكية تظهر بشكل ملكية للدولة، أو بشكل ملكية تعاونية، ومع ذلك فلم تلغ الملكية الخاصة لأموال الإنتاج إلغاءً كاملاً في روسيا، فيسمح القانون الروسي بالمشاريع الاقتصادية الصغيرة الخاصة بالفلاحين القرويين وبالحرفيين على أن يقوموا بعملهم شخصياً، وبشرط ألا يستغلوا فيه جهد الآخرين (3) ، مما أوجد نوعاً ثالثاً من أنواع المشروعات الزراعية هو المشروعات الفردية بجانب المزارع الحكومية والمزارع المشتركة. وعلى هذا فليست الملكية الشخصية حقاً مطلقاً ثابتاً، وإنما هي متطورة في محورها نحو الملكية الجماعية؛ لأن الملكية في ذاتها وظيفة اجتماعية تخدم مصالح الجماعة.
وغاية النظام الاشتراكي تحقيق العدالة الاجتماعية، لذا فإنه يهتم بالدرجة
__________
(1) وهي الأرض ورأس المال والعمل.
(2) هذا هو صريح المادة العاشرة من الدستور السوفييتي.
(3) هذا هو نص المادة التاسعة من الدستور السوفييتي، وقريب منها نص المادة السابعة: «لكل عائلة من عوائل المزرعة التعاونية بالإضافة إلى دخلها الذي يأتيها من اقتصاد المزرعة التعاونية المشترك قطعة من الأرض خاصة بها، وملحقة بمحل السكن. ولها في الأرض اقتصاد إضافي ومنزل للسكنى وماشية منتجة وطيور وأدوات زراعية بسيطة كملكية خاصة» .(6/371)
الأولى في إشباع كل حاجات الأفراد، ولكن بحسب ضرورتها وأهميتها (1) من أجل تحقيق مستوى مادي ومعنوي لائق بكرامة الإنسان، ثم السعي لرفع ذلك المستوى بشكل مستمر، مما جعل الجماهير الكادحة تتجه أنظارها إلى النظام الاشتراكي باعتباره المنقذ من أدران الرأسمالية.
ويقول منتقدو هذا النظام بأنه يهدر الحق الطبيعي المقدس للفرد: وهو حق الملكية، كما أنه يعطي الجماعة ممثلة بالدولة سلطات واسعة على حساب الأفراد، ويقيد الحرية الاقتصادية. وقد انهار هذا النظام في عام 1989م في روسيا، والاتجاه الحالي نحو النظام الغربي والحرية.
وأما نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي: فهو العدل الوسط بين النظامين السابقين، أو بتعبير أدق: هو نظام قائم بذاته، له فكره الاجتماعي الخاص به، فهو يعترف بقيمة الإنسان، كما يعترف بحقوق المجتمع، فيقيم توازناً بينهما، بل إنه جعل الفرد للجماعة، والجماعة للفرد من طريق التضامن العام بين الأفراد، فهو إذن ليس فردياً فقط يؤدي إلى الرأسمالية، وليس جماعياً يؤدي إلى الماركسية، وإنما يمنح الفرد قدراً من الحرية بحيث لا يطغى على كيان الآخرين، ويمنح المجتمع أو الدولة التي تمثله سلطة واسعة في تنظيم الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أساس من الحب المتبادل بين الفرد والجماعة، لا على أساس الحقد وإيجاد العداوات بين الناس.
وبناء عليه فهو يعترف بحق الإنسان في التملك الفردي، ويمنحه حق الانتفاع والاستثمار لماله، والتصرف فيه طوال حياته وبعد مماته، في حدود معينة تعتبر أوسع بكثير من القدر الذي تسمح به الشيوعية، ولكنه لا يعطي المالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه كما تفعل الرأسمالية، فهو لا يسمح بالربا والاحتكار، ولا أن تكون الملكية سبيلاً للاستغلال الحرام والطغيان، وبذلك يجمع الإسلام بين مزايا كل من الاشتراكية والرأسمالية ويتجنب أوجه
__________
(1) هدف الرأسمالية إشباع حاجات الأفراد بحسب القدرة الشرائية مما يؤدي إلى عجز بعض الأفراد عن سد حاجاتهم الضرورية، بينما يشبع فريق آخر حاجاته الترفيهية المتعددة.(6/372)
الانحراف والمبالغة في كل منهما (1) .
ولا يمكن القول بأن نظام الإسلام الاقتصادي نظام رأسمالي أو اشتراكي؛ لأن للرأسمالية أو الاشتراكية في الوقت الحاضر معنى محدداً مفهوماً، له خصائص معينة في معالجة الحياة الاقتصادية.
وإنما الإسلام نظام قائم بنفسه لا ينسب إلى مذهب جديد أو قديم، مهمته الربط بين قوى الحياة ومواهب الفطرة في كيان المرء وبين ثمار الطبيعة الظاهرة والباطنة؛ فيحدث التفاعل بين الجانبين، وتتكون الحضارة الصالحة بما في الإنسان من مواهب العقل والروح وما في الكون من أسرار الحقائق وكنوز المال والثروة، وبما في الإسلام من حلول جذرية لمشكلات الحياة، وقواعد للفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات. وإذا كان في الاشتراكية بعض المعاني الإنسانية التي جاء بها الإسلام من ضرورة التكافل الاجتماعي، فلا يعني ذلك أن نظام الإسلام هو النظام الاشتراكي الماركسي.
المال والملكية في تقدير الإسلام:
المال عند الحنفية كما عرفنا: هو ما يميل إليه الإنسان طبعاً، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وعند الجمهور: هو كل ما له قيمة يباع بها ويلزم متلفه وإن قلّت،
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث للدكتور محمد البهي: ص 387، شبهات حول الإسلام للأستاذ محمد قطب: ص 27، نظرية الإسلام السياسية للمودودي: ص 57.(6/373)
وما لا يطرحه الناس مثل الفَلس وما أشبه ذلك. وهذا التعريف مأخوذ عن الإمام الشافعي رضي الله عنه (1) .
وبناء على التعريف الأول لا تكون المنافع والحقوق المجردة مالاً ما عدا منفعة العين المؤجرة، وعلى التعريف الثاني تكون المنافع أموالاً متقومة في ذاتها يمكن أن تورث.
والملك: هو اختصاص حاجز شرعاً يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع (2) .
والمال في الحقيقة لله سبحانه: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن} [المائدة:120/5] (3) .
وتملك الإنسان للمال مجاز، أي أنه مؤتمن على المال ومستخلف عليه: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد:7/57] .
قال عروة رضي الله عنه: «أشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضى: أن الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتاً فهوأحق به» . ويترتب عليه أن الإنسان ملزم بالتقيد بأوامر الله سبحانه في التملك بحسب ما يريد صاحب الملك. والناس على السواء، لهم حق في تملك خيرات الأرض. والملكية الفردية حق ممنوح من الله تعالى، والمال ليس غاية مقصودة لذاتها، وإنما هو وسيلة للانتفاع بالمنافع وتأمين الحاجيات (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 258.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء، المجلد الأول: جـ 1 ص 220، والمراد من كلمة «حاجز» أنه الذي يخول صاحبه منع غيره، وهو قريب المعنى من المفهوم اللغوي للملكية الذي يدل على معنى الاستئثار والاستبداد مما يتعلق به من الأشياء. والمراد من جملة «يسوغ صاحبه التصرف» أن الملك قدرة مبتدأة لا مستمدة من شخص آخر.
(3) المائدة: 120.
(4) انظر اشتراكية الإسلام للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي: ص77 ومابعدها، التكافل الاجتماعي في الإسلام لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة: ص14 ومابعدها.(6/374)
ومن الجدير بالذكر أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن أخذ مال غني بغير رضاه وأعطي لفقير، مهما اشتدت الحاجة وبلغت الفاقة، وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحض المسلمين على البذل، ويرغبهم في العطاء من غير أمر ولا عزيمة، فجاء أبو بكر مرة بماله كله، وجاء عمر بنصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة بجميع ما يلزمه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (1) .
تقييد الملكية:
يقول بعض الكاتبين: لما كان المال مال الله، والناس جميعاً عباد الله، وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله هي أيضاً لله، كان من الضروري أن يكون المال ـ وإن ربط باسم شخص معين ـ لجميع عباد الله، وينتفع به الجميع، قال الله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] وبهذا يكون للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه، وتكون الملكية الشخصية إذن في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية (2) .
ويرى أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة أنه لا مانع من وصف الملكية بكونها وظيفة اجتماعية، ولكن يجب أن يعرف أنها بتوظيف الله تعالى، لا بتوظيف الحكام؛ لأن الحكام ليسوا دائماً عادلين (3) .
وفي تقديري أن الإسلام منهج واضح لا غبار عليه، واستعمال هذا التعبير
__________
(1) انظر بحث الملكية الفردية في الإسلام للأستاذ محمد عبد الله كنون المنشور مع بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث في الأزهر: ص186، وانظر حديث عثمان في التلخيص الحبير: ص278.
(2) انظر مقال شيخ الأزهر السابق: أستاذنا الشيخ محمود شلتوت في جريدة الجمهورية 22 كانون الأول (ديسمبر) 1961م، اشتراكية الإسلام للسباعي: ص80.
(3) التكافل الاجتماعي في الإسلام، المصدر السابق: ص23.(6/375)
المأخوذ من تعاليم الشيوعية أو الاشتراكية الماركسية يزج الإسلام في حمأة المبادئ الماركسية، ويناقض حرية الإنسان الطبيعية الفطرية في التملك، ويضلل الأفكار في فهم حقيقة نظرة الإسلام للملكية، فالملكية الخاصة حق مصون في الإسلام، اللهم إلا في حدود حق الغير ومصلحة المجتمع. فحق الملكية ليس وظيفة اجتماعية تجعل المالك مجرد موظف لصالح الجماعة، وإنما هو ذو وظيفة اجتماعية، كما أنه ذو صفة فردية، إذ لو اعتبر الحق وظيفة اجتماعية، لكان صاحب الحق موظفاً أو مجرد وكيل يعمل لصالح الجماعة، دون نظر إلى مصلحته الخاصة، وهذا في الحقيقة إلغاء لفكرة الحق، ويعتبر إلغاء الملكية مناقضاً للفطرة الإنسانية ومصادماً لمشاعر الإنسان وحبه التملك، وسبباً واضحاً في كبت الطاقات البشرية ونزعة الإبداع والتقدم الذاتي.
وبعبارة أخرى: إن الإسلام لايمنع الملكية الخاصة مطلقاً، ولايطلقها بلا حدود. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] ، {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/51] ، {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] ، {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [المائدة:54/5] ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (1) «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» (2) ، «لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (3) .
__________
(1) رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه (راجع الترغيب والترهيب: 3ص609 ومابعدها) .
(2) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله (جمع الفوائد لابن سليمان الروداني:474/1) .
(3) أخرجه الدارقطني في سننه بلفظ: «لايحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا ماطابت به نفسه» وله ألفاظ وروايات كثيرة منها: مارواه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي بلفظ: «لايحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفس منه» (انظر مجمع الزوائد: 4ص171، نصب الراية: 4ص169، سبل السلام: 3ص60، نيل الأوطار: 152/8) .(6/376)
وبناء عليه يحرم التعدي على ملكيات الأفراد مادامت مشروعة، قال صلّى الله عليه وسلم: «من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» (1) .
وقرر الإسلام عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش، والجباية الظالمة ونحوها، وطالب بضمان الأموال المتلفة. وأما الملكية غير المشروعة فيجوز للدولة التدخل في شأنها لرد الأموال إلى صاحبها، بل إن لها الحق في مصادرتها، سواء أكانت منقولة أم غير منقولة، كما فعل سيدنا عمر في مشاطرة بعض ولاته الذين وردوا عليه من ولايتهم بأموال لم تكن لهم، استجابة لمصلحة عامة: وهو البعد بها عن الشبهات وعن اتخاذها وسيلة للثراء (2) ؛ لأن الملكية مقيدة بالطيبات والمباحات، أما المحرمات التي تجيء عن طريق الرشوة أو الغش أو الربا أو التطفيف في الكيل والميزان أو الاحتكار أو استغلال النفوذ والسلطة، فلا تصلح سبباً مشروعاً للتملك.
وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل حق الملكية، أو في منع المباح وتملك المباحات قبل الإسلام وبعده إذا أدى استعماله إلى ضرر عام، كما يتضح من مساوئ الملكية الإقطاعية، ومن هنا يحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيوداً على الملكية في بداية إنشائها في حال إحياء الموات، فيحددها بمقدار معين، أو ينتزعها من أصحابها مع دفع تعويض عادل عنها (3) إذا كان ذلك في سبيل المصلحة العامة للمسلمين (4) .
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن عائشة (نيل الأوطار: 317/5) .
(2) انظر التلخيص الحبير: ص254.
(3) ولا تعويض وإنما يصادر المال إذا كان مكتسباً بطريق غير مشروع كالاغتصاب والاختلاس أو كان سبب اكتسابه مشتبهاً فيه، ولقد صادر النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته وبخاصة سيدنا عمر أموال الولاة الذين ذكروا سبباً غير مشروع لملكياتهم كالإهداء أو لم يبينوا من أين ملكوا المال.
(4) انظر بحث الأستاذ الشيخ علي الخفيف «الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام» ص 113، 128 ومابعدها من كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية.(6/377)
ومن المقرر عند الفقهاء أن لولي الأمر أن ينهي إباحة الملكية بحظر يصدر منه لمصلحة تقتضيه، فيصبح ما تجاوزه أمراً محظوراً، فإن طاعة ولي الأمر واجبة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء:59/4] وأولو الأمر في السياسة والحكم: الأمراء والولاة كما روى ابن عباس وأبو هريرة، وقال الطبري: إنه أولى الأقوال بالصواب.
ومن أمثلة تدخل ولي الأمر في الملكية: ما روي محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين أنه قال: «كان لسمرة بن جندب نخل في حائط (أي بستان) رجل من الأنصار، وكان يدخل هو وأهله فيؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لصاحب النخل: بعه، فأبى، فقال الرسول: فاقطعه، فأبى، فقال: فهبه ولك مثله في الجنة، فأبى، فالتفت الرسول إليه وقال: أنت مضار، ثم التفت إلى الأنصاري، وقال: اذهب فاقلع نخله» (1) ففي هذه الحادثة ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يحترم الملكية المعتدية، وهو القائل في القضاء في حقوق الارتفاق: «لا ضرر ولا ضرار» (2) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» (3) . وشرع الإسلام حق الشفعة على الملكية، دفعاً للضرر وإقراراً لقاعدة المصلحة.
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، مطبعة البابي الحلبي: ص 285.
(2) رواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه، ورواه أحمد في مسنده وابن ماجه والدارقطني في سننيهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري. وله طرق يقوي بعضها بعضاً. والضرر: إلحاق مفسدة بالغير، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر.
(3) رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم: 47/11) بل رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/378)
ومن الأمثلة أيضاً: ما روى الإمام مالك في الموطأ: وهو أن رجلاً اسمه
الضحاك بن خليفة ساق خليجاً (1) من العريض (واد في المدينة) ، وأراد أن يمر به في أرض محمد بن مَسْلَمة، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: «لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخراً، وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك» (2) ففي هذا ما يدل على أنه لا يكفي الامتناع من الضرر، بل يجب على المسلم في ملكه أن يقوم بما ينفع غيره ما دام لا ضرر عليه فيه.
ويمكن أن يعتبر مسوغاً لتنظيم الملكية أو تقييدها ـ بناء على قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وعملاً بقانون المصلحة العامة وبمبدأ سد الذرائع ـ كون صاحبها مانعاً لحقوق الله تعالى أو اتخاذها طريقاً للتسلط والظلم والطغيان، أو التبذير والإسراف وتبديد الأموال والوقوع في حمأة الرذيلة والفساد، أو إشعال نار الفتنة والاضطرابات بين الناس، أو الاحتكارات والتلاعب بأسعار الأشياء، ومحاولة تهريب الأموال إلى خارج البلاد، أو دفع ضرر فقر ألم بفئة من الناس، أو لإهدار الأموال المجموعة من الربا (3) ، على شرط أن يكون إجراء استثنائياً مرهوناً بوقت الحاجة لا تشريعاً دائماً، وبشرط ألا يهتدم رأس المال من أصله.
__________
(1) الخليج: نهر يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه.
(2) الموطأ: 218/2 ومابعدها، وهناك حادثة أخرى في الموطأ تشابه هذه الحادثة قضى فيها عمر.
(3) الربا والاحتكار هما مصيبة الرأسمالية الطاغية، إذ مكناها رويداً رويداً من تجميع الثروات في أيديها وحرمان سائر الناس منها (جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب: ص 278) .(6/379)
قيود الملكية:
قيود الملكية ثلاثة: أولها ـ أن تكون في دائرة منع الضرر. ثانيها ـ ليس كل
شيء قابلاً للتملك الفردي. ثالثها ـ للجماعة أو للدولة حقوق مفروضة على الملكية الخاصة.
القيد الأول ـ منع الإضرار بالآخرين: إن الحقوق المقررة على الملكية أساسها أمران:
1 - منع ضرر الغير؛ لأن كل حق في الإسلام مقيد بمنع الضرر.
2 - نفع الغير إن لم يكن ثمة ضرر لا حق به (1) .
والضرر أربعة أقسام عند العلماء (2) :
1 - الضرر المؤكد الوقوع: وهو أن يترتب على تصرف المالك في ملكه ضرر مؤكد بغيره عند استعمال حقه المأذون فيه. وحكمه أنه إذا تمكن صاحب الحق من استعمال ملكه دون إضرار بغيره، فيمنع من الضرر؛ لأنه يتحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام. وإذا كان الضرر خاصاً بالآحاد، فيكون حق صاحب الحق أولى بالاعتبار.
2 - الضرر الغالب وقوعه: وهو أن يكون الضرر كثير الوقوع عند القيام بالفعل، وهذه الحال تلحق بسابقتها: وهي المقطوع فيها بوقوع الضرر؛ لأن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية.
3 - الضرر الكثير غير الغالب: وهو أن يكون ترتب المفسدة على الفعل كثيراً في ذاته إذا وقع، ولكن لا يغلب على الظن وقوعه.
__________
(1) التكافل الاجتماعي للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 24.
(2) المصدر السابق: ص 64-66.(6/380)
وفيه اختلف الفقهاء، فالمالكية والحنابلة يرون العمل بقاعدة «دفع المضار مقدم على جلب المصالح» واحتمال وقوع الضرر كاف لمنع الفعل. والحنفية والشافعية يرون أن الفعل مشروع في أصله، واحتمال الضرر لا يصلح دليلاً على الضرر المتوقع، فلا يمنع حق لمجرد احتمال الضرر.
4 - الضرر القليل: وهو أن يكون الضرر المترتب على استعمال الحق المأذون فيه نادر الوقوع، أو كان في ذاته قليلاً، وهو لا يلتفت إليه لقلته، إذ العبرة بأصل الحق الثابت، فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
القيد الثاني - منع الملكية الخاصة في بعض الحالات:
ليست كل الأموال قابلة للتملك الفردي، فهناك أنواع ثلاثة من المال لا تقبل الملكية الفردية وإنما هي مملوكة للجماعة (1) ، وما عداها من المرافق الخاصة كالمزروعات والمصنوعات، يجوز للأفراد تملكها والتصرف فيها. وتلك الأنواع هي ما يأتي:
النوع الأول: الأموال ذات النفع العام كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والأوقاف الخيرية ونحوها من المنافع العامة التي لا تؤدي غايتها إلا إذا كانت للجماعة.
النوع الثاني: الأموال الموجودة بخلق الله تعالى، كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار، فهذه الأشياء لم يوجدها البشر وإنما هي مخلوقة بخلق الله تعالى. وكون المعادن كلها مملوكة للدولة وتستخدم من أجل المرافق العامة هو الحق وهو الرأي الراجح عند المالكية، وهو رأي الحنابلة في المعادن الظاهرة أو السائلة: وهي التي يحصل عليها من غير مؤنة ينتابها الناس، كالملح والماء والكبريت والنفط والكحل والياقوت ونحوها. أما المعادن الجامدة فتملك بملك الأرض التي هي
__________
(1) انظر التكافل الاجتماعي للأستاذ أبي زهرة: ص 29 وما بعدها.(6/381)
فيها (1) .
وأما الحنفية فعندهم تفصيلات تعرف في كتبهم، ولكنهم يقرون أن للدولة فيها حظاً كبيراً. ويظهر رأي الحنابلة في قول ابن قدامة الحنبلي: «وجملة ذلك أن المعادن الظاهرة: وهي التي يوصل ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والقير والمومياء (2) والنفط والكحل والبرام (3) والياقوت ومقاطع الطين وأشباه ذلك لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها لأحد من الناس ولا احتجازها دون المسلمين؛ لأن فيها ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم» (4) .
النوع الثالث: الأموال التي تؤول ملكيتها للدولة من الأفراد أو يكون للدولة عليها الولاية.
فالأولى مثل ما يؤول إلى بيت المال كالأموال الضائعة، أو التي لا وارث لها؛ لأن «بيت المال وارث من لا وارث له» والثاني مثل الأراضي الخراجية الزراعية التي آلت إلى المسلمين بالفتح كأراضي الشام ومصر والعراق وفارس وما وراءها تعتبر كالمعادن مملوكة للدولة، وتعتبر اليد القائمة عليها يد اختصاص وانتفاع فقط، لا يد تملك تام أي (للرقبة والمنفعة معاً) . وإذا كانت أغلب أراضي المسلمين هي أراضي خراجية، ويد الزراع عليها ليست يد ملك مطلق، فإن لولي الأمر عند الضرورة أن
__________
(1) المغني: 28/3، 520/5.
(2) نوع من الدواء.
(3) البرام ـ بكسر الباء جمع برمة ـ بضم الباء: وهي القدر من الحجارة.
(4) المغني: 520/5.(6/382)
ينتزع الأراضي من أيدي واضعي اليد عليها، ويعوضهم عنها إذا اقتضت المصلحة العامة نزعها، وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حمى أرضاً بالمدينة وهو النقيع (موضع معروف بالمدينة) لترعى فيها خيل المسلمين (1) أي أنه جعلها مشاعة لجميع الناس، أي مؤممة للجماعة بتعبير العصر. وحمى عمر رضي الله عنه أرضاً بالرَبذة والشرَف (وهما موضعان بين مكة والمدينة) وجعل كلأهما للمسلمين كافة، فجاءه أهلها يشكون قائلين: «يا أمير المؤمنين، إنها أرضنا، قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها، علام تحميها؟» فأطرق عمر وقال: «المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل في سبيل الله ـ أي إعداد خيول الجهاد ـ ما حميت من الأرض شبراً في شبر» وظاهر هذا الأثر أن حمى عمر كان في أرض لأهلها فيها منافع ومرافق بسبب الجوار، ولم يمنعه من حمايتها على أهلها حين دعت إلى ذلك مصلحة عامة (2) ، مثل شركات المياه والكهرباء والنفط وخطوط النقل والبرية والبحرية ونحوها من المرافق الحيوية ذات النفع العام للبلاد.
__________
(1) روى أحمد وابن حبان عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل ـ خيل المسلمين. ورواه أحمد وأبو داود عن الصعب بن جثامة أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وقال «لا حمى إلا لله ولرسوله» للبخاري منه: «لا حمى إلا لله ولرسوله» وقال: «بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى الشرف والربذة» (انظر جامع الأصول: 331/3، مجمع الزوائد: 171/4، نيل الأوطار: 308/5) ويكون حمى الأرض بجعلها حرماً يمنع غير حاميها من الرعي والإقامة، والحمى كان الغرض منه مجرد انتفاع مقصور على الحامي مدة موقوتة تتحدد بصلاحية المكان للرعي، فإذا انتهت صلاحيته انتهت حمايته.
(2) الأموال لأبي عبيد: ص 294-302، بحث الأستاذ علي الخفيف «الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام» : ص 108 من كتاب المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية.(6/383)
القيد الثالث ـ حقوق الجماعة في ملكيات الأفراد:
للجماعة أو للدولة حقوق في أموال وملكيات الأفراد يترتب على أدائها تفتيت الثروات الضخمة؛ لأن الإسلام يكره تكديس الأموال واكتنازها وتضخيم الملكيات (1) ، فيجب إسهام ذوي الحاجات في أموال الأغنياء تحقيقاً للعدالة الاجتماعية في توزيع الثروات، كما يجب على الأغنياء الإسهام في دعم موارد الخزينة العامة للمحافظة على كيان الأمة. وهذه الحقوق العامة للجماعة في أموال الأغنياء أو الموارد المالية للدولة تتلخص فيما يأتي (2) :
1 - الزكاة: هي تشريع إلزامي في الإسلام يجب على الأغنياء القيام بتنفيذه، وتقوم الدولة بجباية الزكاة من أصحاب رؤوس الأموال، ولها أن تجبرهم على أدائها، فليست الزكاة صدقة ممتهنة، كما فهم بعض الكاتبين في الصحافة الحديثة، كما أنها ليست إذلالاً للفقير، وإنما هي حق مستقيم واجب ديانة وقانوناً، وهي تؤخذ من الأموال النامية المنتجة، وهي أربعة أقسام في عرف المسلمين في الماضي:
أـ النعَم: وهي الإبل والبقر والغنم التي ترعى أغلب العام في عشب مباح، ومقادير المأخوذ منها معروفة في كتب السنة والفقه.
__________
(1) هناك آيات قرآنية كثيرة في هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34/9] {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} [الشورى:27/42] {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى} [العلق:6/96-7] {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} [الحشر:7/59] {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} [القصص:77/28] .
(2) انظر اشتراكية الإسلام للسباعي: ص 121، 126 ومابعدها، التكافل الاجتماعي في الإسلام للأستاذ محمد أبو زهرة. ص 79 وما بعدها.(6/384)
ب ـ النقدان: الذهب والفضة بنسبة ربع العشر 5،2%، ويمثلها في عصرنا الأوراق النقدية.
جـ ـ أموال التجارة بنسبة ربع العشر.
د ـ الزروع والثمار بنسبة العشر فيما يسقى بغير آلة، ونصف العشر إن كانت تسقى بآلة.
2 - تأمين حاجيات الدفاع عن البلاد: إذا اقتضت حاجات الدفاع عن الأمة أوا لجهاد في سبيل الله بعض الأموال، ولم يكن في الخزينة العامة ما يكفي لسد تلك الحاجة، فعلى الدولة أن تفرض في أموال الناس من الضرائب بقدر ما يندفع به الخطر عملاً بالمصالح المرسلة، وقد نص على ذلك كثير من علماء الإسلام مثل الغزالي والقرافي والشاطبي وابن حزم والعز بن عبد السلام وابن عابدين (1) .
__________
(1) انظر أصول الفقه للمؤلف: 765/2 ط دار الفكر، الاعتصام: 121/2، ط التجارية، الفروق: 141/1، ط دار إحياء الكتب، المستصفى 313/1، حاشية ابن عابدين: 42/2، ط الميمنية، المحلى: 156/6-159 ط 1349 هـ.(6/385)
3 - كفاية الفقراء: للدولة أيضاً أن تطالب الأغنياء بإغناء الفقراء، فهي ممثلة لهم، قال عليه الصلاة والسلام ـ فيما يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليما» (1) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً «أيما أهل عَرْصة (أي بقعة) أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى» (2) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط والصغير وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، قال الحافظ ابن حجر: وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيرهم، وبقية رواته لا بأس بهم، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه (انظر الترغيب والترهيب: 538/1، مجمع الزوائد: 62/3) .
(2) رواه الحاكم وأحمد بلفظ «من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله» وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير من مرة، والأول مختلف فيه، والثاني قال ابن حزم: إنه مجهول، وقال غيره: معروف، ووثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة واحتج به النسائي (انظر نيل الأوطار: 221/5) .وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والبزار.(6/386)
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: «إن في المال حقاً سوى الزكاة» (1) ، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فرددتها إلى الفقراء» . قال ابن حزم (2) في كتاب المحلى: «فرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس في الشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنُّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة» (3) .
__________
(1) رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس بلفظ «إن في المال حقاً سوى الزكاة» وتلا قوله تعالى {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة:177/2] . وقال: «إسناده ليس بذاك» (انظر التلخيص الحبير: ص 177، أحكام القرآن للجصاص: 153/1) وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه قال: «في مالك حق سوى الزكاة» ثم قال: وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة، ثم ذكر أنه لا خلاف في هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم، وهو ليس بحجة.
(2) يعتبر ابن حزم بعد أبي ذر الغفاري مفكر الاشتراكية الإسلامية، فهو أول من نظر في استنباط الأحكام إلى الحياة الإنسانية التي جاءت الأحكام لتنظيمها، فأحس بمشكلة الفقر في المجتمع، وأهم مظاهر الفقر: الجوع والعري وفقد المأوى، وهذه في الواقع هي الحاجات الأساسية للبشرية، ثم قرر أن الزكاة ليست كل الواجب، وأن الواجب الإسلامي لا يتم إلا بتحقيق وسائل الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة، وبذلك يكون للفقراء حق في أموال الأغنياء غير مقيد بالزكاة، وأن للدولة أن تأخذ من الأغنياء ما يمكن أن يسد حاجات الفقراء (انظر بحث الدكتور إبراهيم اللبان وموضوعه «حق الفقراء في أموال الأغنياء» المنشور مع بحوث المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية: ص 249 ومابعدها.
(3) المحلى: 452/6 م 725.(6/387)
4 - الإنفاق على الأقارب: يجب على الإنسان أن يكفي أقاربه إذ اكانوا محتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم. وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فقد اختلفت المذاهب في أمر الإنفاق عليهم، فأوجب الحنفية الإنفاق على كل ذي رحم محرم كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال، وألزم الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة.
5 - صدقات الفطر: تجب صدقة الفطر على الرجل بالنسبة لمن تلزمه نفقتهم من زوجة وولد وخادم.
6 - الأضاحي: تجب الأضحية مرة في كل عام عند أبي حنيفة، وهي سنة مؤكدة عند جمهور الأئمة.
7 - النذور والكفارات: يجب على المسلم أن يفي بنذره إذا نذر أن يتبرع لله بمال، كما يجب عليه الكفارة بإطعام الفقراء والمساكين جزاء لبعض الآثام كالحنث في اليمين والظهار، أو بسبب الإخلال ببعض الواجبات الدينية كالإفطار في رمضان بالنسبة للعاجز أو الذي ينتهك حرمة الصيام بالجماع نهاراً، ونحوه كالواجبات التي تجب أثناء الإحرام بالحج.
وهناك أوجه كثيرة للإنفاق في سبيل الله حث عليها الإسلام، كما أن هناك موارد أخرى لبيت المال كالأوقاف والغنائم، وهو ما يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام.
وهناك أيضاً قيود أخلاقية دينية على الأموال، فينبغي على الدولة ملاحظة المكاسب لمنع الاستغلال واختلال توازن الثروات، مثل تحريم الربا والاحتكار والميسر والغش والتغرير والغبن والتدليس وإنقاص المكيال والميزان ونحوه.
والخلاصة: إن هناك قيوداً كثيرة في الإسلام على حق الملكية الشخصية، منها ما هو قانوني إلزامي، ومنها ما هو أخلاقي ديني يتطلب فهما صحيحاً وتطبيقاً شاملاً لدين الإسلام؛ لأن الإسلام منهج عام شامل للحياة، وكل لا يتجزأ، وتشريعاته حتى العبادات منها يكمل بعضها بعضاً، لمعالجة كل متطلبات الحياة الحديثة وضرورات الاقتصاد المعاصر.(6/388)
البَابُ الثَّاني: توابِعُ الملكيَّة
ويشمل اثني عشر فصلاً:
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الأراضِي
الأراضي الخاضعة للسلطة الإسلامية إما جديدة آلت إلى المسلمين بالاستيلاء أو الفتح، وإما قديمة استقر بها المسلمون. وأبحث هذين النوعين على النحو التالي:
أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح.
ثانياً ـ أحكام الأراضي المستقرة في داخل الدولة.
وأبدأ بالنوع الأول.
أولاً ـ أحكام الأراضي المستولى عليها بالفتح:
الأراضي التي استولى عليها المسلمون تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أرض ملكت عَنْوة وقهراً، وأرض ملكت عفواً لجلاء أهلها عنها، وأرض استولي عليها صلحاً.
1 - الأراضي التي فتحت عنوة:(6/389)
تنتقل ملكية الأراضي إلى الفاتحين بمجرد الاستيلاء عليها عند المالكية على المشهور، والحنابلة والشيعة الإمامية والزيدية؛ لأنها مال زال عنه ملك المحاربين بالاستيلاء عليه، فصار كالمباح تسبق إليه اليد، فيتم تملكه بإحرازه. وعند الشافعية: تملك الأراضي والمنقولات بالاستيلاء والقسمة بالتراضي أو اختيار تملكها.
وعند الحنفية: لاتنتقل ملكية الأراضي إلا بالضم إلى دار الإسلام أو حيازتها فعلاً، وجعلها جزءاً من دار الإسلام.
وموات الأرض التي فتحت عنوة أو صلحاً لايملك إلا بالإحياء بالاتفاق (1) .
واختلف الفقهاء في حكم مالك هذه الأرض بعد الاستيلاء عليها:
فذهب جمهور الصحابة والشافعية والظاهرية (2) : إلى أنه تنتقل ملكية هذه الأراضي من أصحابها إلى المسلمين، كالغنائم، الخمس لمن ذكرتهم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول..} [الأنفال:41/8] والغنائم: ماأخذ من أموال أهل الحرب عنوة بطريق القهر والغلبة.
والأربعة الأخماس الباقية للغانمين. فإن طابت بتركها نفوس الغانمين بعوض أو غيره، وقفها ولي الأمر على مصالح المسلمين.
وقال المالكية في المشهور عندهم، والإمامية (3) : تصبح هذه الأراضي وقفاً على المسلمين، بمجرد الحيازة، دون أن تحتاج إلى وقف الإمام، ولا تكون ملكاً
__________
(1) الخرشي، الطبعة الثانية: 128/3، تأسيس النظر للدبوسي: ص 57، مغني المحتاج: 234/4، المهذب: 241/2، القواعد لابن رجب: ص 189، 411 ومابعدها، المغني: 422/8، مفتاح الكرامة: 7/7، البحر الزخار: 215/2.
(2) الأم: 103/4، 192، مخطوط الروضة للنووي: 2 ق /24ب، المحلى: 241/7.
(3) الخرشي: 128/3، ط ثانية، المدونة: 27/3، الحطاب: 366/3، القوانين الفقهية: ص 148، ط. تونس، الكافي للكليني: 626/1، مفتاح الكرامة: 239/4 ومابعدها، الشرح الرضوي: ص310، الروضة البهية: 222/1، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 138.(6/390)
لأحد، ويصرف خراجها (1) في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة، وبناء القناطر والمساجد، وغيرها من سبل الخير، إلا أن يرى ولي الأمر في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة.
وقال الحنابلة في أظهر الروايات عن أحمد (2) : إن الإمام يفعل ما يراه الأصلح من قسمتها ووقفها، نظير خراج دائم يقرر عليها كالأجرة، وتكون أرضاً عشرية خراجية، العشر على المستغل، والخراج على رقبة الأرض.
وقال الحنفية والزيدية (3) : الإمام بالخيار، إن شاء قسمها بين المسلمين، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخيبر، وإن شاء أقر أهلها عليها، ووضع على رؤوسهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، فتكون أرض خراج، وأهلها أهل ذمة. قال ابن عابدين: القسمة بين الغانمين أولى عند حاجتهم، وتركها بيد أهلها أولى عند عدم الحاجة لتكون عدة للمسلمين في المستقبل.
الأدلة:
يتضح مما سبق أن الفقهاء متفقون على جواز قسمة الغنائم بين الغانمين، لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء، فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..} [الأنفال:41/8] أي أن خمس الغنيمة لمن ذكرتهم الآية، أو للدولة، والأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين من
__________
(1) الخراج لغة: هو ما حصل عليه من ريع أرض أو كرائها أو أجرة غلام ونحوه، ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجاً، فيقع على الضريبة والجزية ومال الفيء، ويختص في الغالب بضريبة الأرض.
(2) زاد المعاد: 173/2، الشرح الكبير للمقدسي: 538/1، المحرر: 178/2، أحكام أهل الذمة لابن القيم: ص 102.
(3) المبسوط: 15/10، 37، درر الحكام: 285/1، فتح القدير: 303/4، حاشية ابن عابدين: 316/3، 353، البحر الزخار: 912/2.(6/391)
غير خلاف بين الأئمة، بدليل إسناد الحق في الغنيمة للغانمين في قوله تعالى: {غنمتم} [الأنفال:41/8] أسنده إليهم إسناد الملك إلى مالكه.
وبدليل ما بينته السنة بقوله صلّى الله عليه وسلم وفعله، أما قوله فمثل: «أيما قرية أتيتموها وأقمتم بها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله، ثم هي لكم» (1) ، فالمراد بالقرية الأولى: الفيء، ويصرف مصارفه، والمراد بالقرية الثانية: ما أخذ عنوة، فيكون غنيمة يخرج منه الخمس، وباقيه للغانمين، وهو معنى قوله: «ثم هي لكم» أي باقيها.
وأما ما فعله عليه الصلاة والسلام: فالثابت عنه أنه قسم خيبر بين الغانمين بعد أن فتحت عنوة أي قهراً لا صلحاً، وقسم أيضاً أموال بني قريظة وبني النضير (2) كما ذكر ابن القيم في زاد المعاد.
وأما المدينة ففتحت بالقرآن وأسلم عليها أهلها فأقرت بحالها. وأما مكة ففتحها الرسول صلّى الله عليه وسلم عنوة، ولم يقسمها.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببّاناً (3) ، ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم، يقتسمونها» (4) ، فكان رأي عمر أن يترك الأرض ولا يقسمها.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (شرح مسلم للنووي: 69/1، الأموال لأبي عبيد: ص 57) .
(2) انظر شرح مسلم: 91/12، 164، عيني بخاري: 46/15، سنن أبي داود: 217/3، زاد المعاد: 68/2، نيل الأوطار: 12/8.
(3) الببَّان: المعدم الذي لا شيء له. والمعنى: لولا أني أتركهم فقراء معدمين لا شيء لهم، أي متساوين في الفقر، لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقي من لم يحضر الغنيمة، ومن يجيء بعد من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعاً (فتح الباري: 395/7، النهاية لابن الأثير: 69/1) .
(4) صحيح البخاري: 86/4.(6/392)
هل القسمة ملزمة للإمام أو له الخيار في أمور أخرى؟
أـ قال الشافعية والظاهرية: يجب قسمة الأراضي بين الغانمين، كسائر الأموال، عملاً بمقتضى القرآن والسنة، إذ لا فرق بين العقار والمنقول، وعموم آية الغنائم: {واعلموا أنما غنمتم ... } [الأنفال:41/8] بوجوب القسمة يتفق مع فعله صلّى الله عليه وسلم الذي يجري مجرى البيان للمجمل، فضلاً عن العام (1) .
وأما آية الحشر: {وما أفاء الله على رسوله منهم..} [الحشر:6/59] فهي في الفيء (أي الأموال الآيلة للمسلمين بدون قتال) على ما هو الظاهر منها.
وإذا لم يقسم الإمام الأرض، فعليه أن يستطيب الغانمين، كما استطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنفس الغانمين يوم حنين ممن صار في يديه سبي هوازن، وكما فعل في خيبر وبني قريظة (2) ، وكما استطاب عمر بن الخطاب الغانمين بعد فتح سواد العراق بعوض أو بغيره، فصارت الأرض وقفاً أي فيئاً للمصالح العامة بعد أن كانت غنيمة، فقد أعطى عمر جريراً البَجَلي عوضاً من سهمه، وأعطى امرأة بجلية عوضاً من سهم أبيها؛ لأن حق الغانمين قد ثبت في الغنيمة بعد الفتح بالاستيلاء، فلا يملك الإمام إبطال هذا الحق بترك الأرض في أيدي أهلها كالمنقول، ومن لم يطب نفساً منهم فهو أحق بحقه (3) .
ب ـ وقال المالكية في المشهور عندهم والإمامية (4) : تصبح الأرض وقفاً بمجرد الاستيلاء عليها، أي كأثر طبيعي لازم دون حاجة لصيغة الإمام، ولا لتطيب
__________
(1) بداية المجتهد: 388/1، مجمع الزوائد: 340/5.
(2) رواه البخاري والبيهقي وغيرهما (سنن البيهقي: 64/9، 136، البداية والنهاية: 352/4) .
(3) مغني المحتاج: 234/4، شرح المجموع: 274/1.
(4) الحطاب: 366/3، منح الجليل: 735/1، بداية المجتهد: 387/1، القوانين الفقهية: ص 148، مفتاح الكرامة: 6/7.(6/393)