وأجازه الحنابلة لتعارف الناس له، ولما ثبت في السنة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن العربان في البيع فأحله» (1) ويؤيده أثر عن عمر وهو: «أن نافع بن عبد الحارث العامل لعمر على مكة، اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم» وأقر عمر شرطه هذا (2) .
4 ً ـ تعليق التصرفات مطلقاً بشرط:
أجاز الحنابلة تعليق التصرف بشرط معلق في جميع أنواع العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات من بيع وإجارة وكفالة وإقالة وإبراء وزواج وغيرها، كأن يقول شخص: إن وصلت بضاعتي المستوردة اليوم فقد بعتكها بكذا. أو تقول امرأة: زوجتك نفسي على مهر كذا إن رضي أخي أوعمي مثلاً.
ودليلهم على الجواز إطلاق الحديث النبوي المتقدم: «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» ولأن تعليق العقود وغيرها على شرط قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة (3) .
ومنع جمهور الفقهاء التعليق في جميع العقود ولا سيما التمليكات والزواج، واعتبروها باطلة. وسوغوا فقط تعليق الإسقاطات كالطلاق. كما سوغ الحنفية تعليق عقود الالتزامات والإطلاقات كالكفالة والوكالة بالشرط الملائم فقط، مثل إذا سافر مدينك فأنا كفيله، إذا وصلت بضاعتي من الحديد مثلاً فقد وكلتك ببيعها.
الفرع الثالث ـ عيوب الإرادة أو عيوب الرضا:
عيوب الإرادة: هي الأمور التي تحدث خللاً في الإرادة أو تزيل الرضا الكامل في إجراء العقد. وتسمى قانوناً عيوب الرضا. وهي أربعة أنواع: الإكراه، الغلط، التدليس (أو التغرير) ، الغبن مع التغرير. ويختلف تأثيرها على العقد، فقد تجعل العقد باطلاً، كالغلط في محل العقد، وقد تجعله فاسداً أو موقوفاً كالإكراه، وقد تجعله غير لازم كالغلط في الوصف، والتدليس، والغبن مع التغرير.
1 - الإكراه:
الإكراه في اللغة: هو حمل الغير على أمر لا يرضاه، قهراً. وفي اصطلاح الفقهاء: حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته، لو ترك ونفسه.
والمقصود بالإرادة: مجرد اعتزام الفعل والاتجاه إليه، فهي أعم الأحوال.
__________
(1) حديث مرسل أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم، وفي إسناده إبراهيم بن يحيى، وهو ضعيف (نيل الأوطار: 153/5) وأبطله الجمهور بما رواه أحمد والنسائي وأبو داود ومالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع العُرْبان» وهو حديث منقطع، وفيه راو ضعيف لا يحتج به وهو حبيب كاتب الإمام مالك (المرجع السابق) .
(2) أعلام الموقعين: 401/3.
(3) أعلام الموقعين: 399/3.(4/568)
والمقصود بالاختيار: ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس وهو أخص من الإرادة.
والرضا: هو الارتياح إلى فعل الشيء والرغبة به، وهو أخص من الاختيار.
والإكراه نوعان: ملجئ أو كامل، وغير ملجئ أو ناقص (1) .
والإكراه الملجئ أو التام: هو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، بأن يهدده بالقتل، أو بإتلاف بعض الأعضاء، أو بالضرب الشديد الذي يخشى منه القتل أو تلف العضو، أو تلف جميع المال.
وحكمه: أنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
والإكراه الناقص أو غير الملجئ: هو التهديد بما لا يضر النفس أو العضو، كالتهديد بالضرب اليسير أو بالحبس، أو بإتلاف بعض المال، أو بإلحاق الظلم كمنع الترقية أو إنزال درجة الوظيفة.
وحكمه: أنه يعدم الرضا، ولا يفسد الاختيار.
وهناك نوع ثالث: وهو الإكراه الأدبي: وهو الذي يعدم تمام الرضا، ولا يعدم الاختيار، كالتهديد بحبس أحد الأصول أو الفروع، أو الأخ أو الأخت ونحوهم، وحكمه: أنه إكراه شرعي استحساناً لا قياساً، كما قرر الكمال بن الهمام من الحنفية، وهو رأي المالكية، ويترتب عليه عدم نفاذ التصرفات المكره عليها.
ويرى الشافعي أن الإكراه نوع واحد، وهو الإكراه الملجىء، وأما غير الملجئ فلا يسمى إكراهاً (2) .
والإكراه بأنواعه لا يزيل الأهلية، وإنما يزيل الرضا، وقد يزيل الاختيار وهو الملجئ عند الحنفية، ويزيل الرضا والاختيار معاً عند غير الحنفية.
__________
(1) البدائع: 175/7، تكملة فتح القدير: 292/7 ومابعدها، تبيين الحقائق: 181/5، درر الحكام: 269/2 ومابعدها، الدر المختار: 88/5 ومابعدها.
(2) تحفة الطلاب للأنصاري: ص 272. 1(4/569)
شروط الإكراه:
يشترط لتحقق الإكراه شروط وهي مايأتي:
1 - أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به، سواء أكان من الحكام أم من غيرهم، فإن لم يكن قادراً على تنفيذ ما هدد به لعجزه أو لتمكن المستكره من الهرب، فلا يتحقق الإكراه.
2 - أن يغلب على ظن المستكره إيقاع المكره ما هدد به في الحال إذا لم يمتثل، فإن لم يغلب على ظنه وقوع ما هدد به لا يتحقق الإكراه.
3 - أن يكون الشيء المهدد به مما يشق على النفس تحمله. وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، فيجب أن يبحث تأثيره في كل شخص على حدة.
4 - أن يكون المهدد به عاجلاً: فلو كان آجلاً في المستقبل لم يتحقق الإكراه؛ لأن بالتأجيل يتمكن المستكره من الاحتماء بالسلطات العامة.
وهذا شرط عند الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة. وقال المالكية: لا يشترط أن يكون المهدد عاجلاً، وإنما الشرط أن يكون الخوف حالاً.
5 - أن يكون الإكراه بغير حق، أي لا يكون مشروعاً: وهو ما يقصد منه الوصول إلى غرض غير مشروع. فإن كان الإكراه بحق: وهو الذي يقصد منه تحقيق غرض مشروع، فلا تأثير له على التصرفات أصلاً، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، واستملاك الأراضي جبراً عن أصحابها للصالح العام كتوسيع مسجد أو طريق ونحوه.
أثر الإكراه على التصرفات:
إذا وقع الإكراه على القيام بتصرف من التصرفات كالبيع والإيجار والزواج فما أثر الإكراه عليه؟ للفقهاء رأيان: قال جمهور الفقهاء غير الحنفية (1) : إن الإكراه يؤثر في التصرفات فيجعلها باطلة، سواء أكانت قابلة للفسخ كالبيع والإجارة والهبة ونحوها، أم غير قابلة للفسخ كالزواج والطلاق واليمين والرجعة، فلا يصح البيع أو الإيجار الصادر من المستكره، ولا يقع طلاق المكره، ولا يثبت عقد الزواج بالإكراه؛ لأن الإكراه يزيل الرضا، والرضا أساس التصرفات.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 367/2، مغني المحتاج: 289/3، المغني: 118/7، غاية المنتهى: 5/2، القوانين الفقهية: ص 246، المحلى: 380/8، 383 ومابعدها.(4/570)
وقال الحنفية (1) : يميز بين التصرفات المحتملة للفسخ، والتصرفات غير المحتملة للفسخ. فإن كان التصرف لا يقبل الفسخ كالزواج والطلاق، فيصح مع الإكراه ويلزم، لأنه تصرف يستوي فيه الجد والهزل، والإكراه في معنى الهزل لعدم القصد الصحيح للتصرف فيهما. بدليل الحديث النبوي: «كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون» (2) وروي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره.
وإن كان التصرف قابلاً للفسخ كالبيع والإجارة والهبة فلا يصح مع الإكراه. ويكون العقد فاسداً عند جمهور الحنفية (أبي حنيفة وصاحبيه) أي أنه إذا زال الإكراه وأصر المستكره على العقد مع الطرف الآخر ورضي به صار صحيحاً، فيكون للمستكره بعد زوال الإكراه الخيار بين إمضاء التصرف وفسخه.
وقال زفر من الحنفية والمالكية: يعتبر تصرف المستكره موقوفاً على إجازته عند زوال الإكراه عنه، كتصرف الفضولي. وبما أن هذا التصرف ينفذ ويلزم بالإجازة، فهذا دليل على كون التصرف موقوفاً لا فاسداً، لأن التصرف الفاسد يفسخ فسخاً ولا يجاز إجازة.
__________
(1) البدائع: 182/7 ومابعدها، 186، تكملة فتح القدير: 293/7، 303، تبيين الحقائق: 182/5، 188، الدر المختار: 89/5 ومابعدها، 96، الكتاب مع اللباب: 108/4، مجمع الضمانات: ص 206.
(2) ذكر البخاري من قول علي: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» وأما الحديث المذكور فهو غريب كما قال الزيلعي (نيل الأوطار: 235/6، نصب الراية: 221/3) .(4/571)
وهذا ينبئ أن رأي زفر أوجه وأقوى وأصح؛ لأن جمهور الحنفية: قالوا: إن تصرف المستكره يقبل الإجازة بعد زوال الإكراه، فلو كان فاسداً لماصحت إجازته، لأن الفاسد لا يجوز بالإجازة بل يجب فسخه شرعاً، ويملك الشيء المعقود عليه بالقبض، وهذا لاينطبق على عقد المستكره. هذا.. وقد نص القانون المدني السوري في المادتين (128، 129) على أن الإكراه يجعل العقد قابلاً للإبطال أي كما قال زفر من الحنفية.
2 - الغلط:
المراد به هنا هو الغلط الواقع في المعقود عليه، في جنسه أو في وصفه. والغلط في ذات أو جنس المعقود عليه: هو أن يظن العاقد أن المعقود عليه من جنس معين، فإذا به من جنس آخر، كأن يشتري شخص حلياً على أنها ذهب أو ماس، ثم يتبين أنها من النحاس، أو الزجاج. أو يشتري حنطة فإذا هو شعير، أو صوفاً فإذا هو قطن، أو يشتري داراً على أنها مبنية بالإسمنت المسلح، فإذا هي مبنية باللبن.
وحكم هذا العقد المشتمل على غلط في جنس المعقود عليه: أنه باطل من أساسه، لفوات محل العقد الذي يريده المشتري، فيكون عقداً على معدوم، والعقد على المعدوم باطل (1) .
ويلحق به حالة اتحاد الجنس مع الاختلاف الكبير أو الفاحش في القيمة كشراء سيارة من جنس معين ومصنوع في عام معين، فإذا هي صنع أعوام غابرة.
وأما الغلط في وصف مرغوب فيه: فهو أن يظهر المعقود عليه كالوصف الذي أراده العاقد، ثم يتبين أنه مخالف للوصف المشروط صراحة أو دلالة. كأن يشتري شيئاً بلون أسود، فإذا هو كحلي أو رمادي، أو شاة على أنها حلوب، فإذا هي غير حلوب، أو كتاباً لمؤلف معين فإذا هو لمؤلف آخر، أو حقيبة على أنها من جلد فإذا هي من الكرتون المضغوط أو غيره.
__________
(1) تبيين الحقائق: 52/4 ومابعدها.(4/572)
وحكم العقد المشتمل على غلط في الوصف: هو أنه غير لازم بالنسبة لمن وقع الغلط في جانبه، أي أن له الخيار بين إمضاء العقد وبين فسخه، لفوات الوصف المرغوب فيه المؤدي إلى اختلال الرضا. وهذا إذا كان العقد قابلاً للفسخ كعقود المعاوضات المالية ونحوها.
ويلحق به الغلط في شخص العاقد، كالتعاقد مع طبيب مشهور فإذا هو غيره، يجعل العقد غير لازم.
أما العقود التي لا تقبل الفسخ كالزواج، فإنه يقع العقد منها عند الحنفية لازماً، أي لا يجوز نقضه بسبب فوات الوصف المرغوب.
وقال الإمام أحمد (1) : يثبت خيار الفسخ بفوات الوصف المرغوب في عقد الزواج أيضاً، كمن يتزوج امرأة جميلة فيظهر أنها دميمة، أو على أنها متعلمة فإذا هي جاهلة، أو على أنها بكر فإذا هي ثيب فيثبت للزوج حق الفسخ، ولا مهر للمرأة إن حدث الفسخ قبل الدخول، أو بعد الدخول وكان التغرير من المرأة نفسها. فإن كان التغرير من غيرها رجع الزوج على ذلك الغير بما دفعه للمرأة.
أما القانون المدني السوري: فقد نص على حالة الغلط في المواد (121-125) وجعل العقد قابلاً للإبطال، سواء أكان الغلط في جنس المعقود عليه أم في الوصف المرغوب فيه، فالجزاء واحد في الحالتين، خلافاً لما قرره الفقهاء.
هذا ... ولا عبرة في الفقه للغلط الباطني، كأن يشتري سواراً على ظن أنه ذهب، فإن هو نحاس؛ لأن العبرة في العقود للإرادة الظاهرة، كما لا عبرة للغلط في الحكم الشرعي كأن يبيع حصته من الميراث على أنها الربع فإذا هي النصف، إذ لاعذر بالجهل بأحكام الشريعة.
3 - التدليس أو التغرير:
التدليس أو التغرير: هو إغراء العاقد وخديعته ليقدم على العقد ظاناً أنه في مصلحته، والواقع خلاف ذلك. وهو أنواع كثيرة منها: التدليس الفعلي، والتدليس القولي، والتدليس بكتمان الحقيقة.
__________
(1) المغني: 526/6 ومابعدها.(4/573)
أما التدليس الفعلي: فهو إحداث فعل في المعقود عليه ليظهر بصورة، غير ما هو عليه في الواقع، أي أنه تزوير الوصف في المعقود عليه أو تغييره بقصد الإيهام، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بوضع الجيد في الأعلى، وطلاء الأثاث والمفروشات القديمة، والسيارات، لتظهر أنها حديثة، والتلاعب بعداد السيارة، لتظهر بأنها قليلة الاستعمال.
ومن أشهر أمثلته الشاة المصراة: وهي التي يحبس اللبن في ضرعها بربط الثدي، مدة يومين أو ثلاثة ليجتمع لبنها ويمتلئ، إيهاماً للمشتري بكبر ضرعها وغزارة لبنها. وحكم التصرية عند جمهور غير الحنفية (1) : ثبوت الخيار للمدلس عليه بين أمرين: إمساك المبيع دون طلب تعويض عن النقص أو الغبن، أو رده لصاحبه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصروا (2) الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعاً من تمر» (3) . وهذا هو الرأي الراجح.
وقال الحنفية (4) : ليس للمشتري الحق في فسخ عقد البيع، بل له فقط أن يرجع بالنقصان الذي أصاب ما اشترى. ولم يأخذوا بالحديث السابق لمخالفته القياس: وهو أن ضمان العدوان يكون إما بالمثل أو القيمة، والتمر ليس منهما.
وأما التدليس القولي: فهو الكذب الصادر من أحد العاقدين أو ممن يعمل لحسابه حتى يحمل العاقد الآخر على التعاقد ولو بغبن، كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: هذا الشيء يساوي أكثر، ولا مثيل له في السوق، أو دفع لي فيه سعر كذا فلم أقبل. ونحو ذلك من المغريات الكاذبة.
وحكم هذا النوع: أنه منهي عنه شرعاً؛ لأنه غش وخداع، ولكن لا يؤثر في العقد إلا إذا صحبه غبن فاحش لأحد المتعاقدين، فيجوز حينئذ للمغبون إبطال
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 264، بداية المجتهد: 174/2، نهاية المحتاج: 136/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 63/2 ومابعدها، غاية المنتهى: 34/2.
(2) التصرية: حبس اللبن في الثدي مدة معينة لإيهام المشتري بأن الشاة ونحوها غزيرة اللبن.
(3) نيل الأوطار: 214/5، ط العثمانية. والصاع: 2751غم. والحكمة من رد الصاع من التمر: هو التعويض عن اللبن الذي أخذه المشتري لإنهاء النزاع بين العاقدين، وقدر بالصاع لعدم معرفة مقدار اللبن الذي يجب ضمانه للبائع بسبب اختلاط الموجود قبل القبض بالطارئ بعد القبض، وقدر بالتمر لأنه غالب قوت البلد في الماضي، فإن لم يكن هو الغالب كان الواجب صاعاً من غالب قوت البلد. والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 101/4، ط البابي الحلبي.(4/574)
العقد، دفعاً للضرر عنه، أي أنه يثبت له خيار الفسخ بسبب الغبن مع التغرير، كما سأبين في عيب الغبن.
وأما التدليس بكتمان الحقيقة، وهو الصورة المشهورة في الفقه باسم (التدليس) : فهو إخفاء عيب في أحد العوضين، كأن يكتم البائع عيباً في المبيع، كتصدع في جدران الدار وطلائها بالدهان أو الجص، وكسر في محرك السيارة، ومرض في الدابة المبيعة، أو يكتم المشتري عيباً في النقود ككون الورقة النقدية باطلة التعامل، أو زائلة الرقم النقدي المسجل عليها، أو ذهب أكثر من خمسها.
وحكم هذا النوع: أنه حرام شرعاً باتفاق الفقهاء (1) ، لقول النبي: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بينه له» وقوله عليه السلام: «من غشنا فليس منا» (2) . ويثبت فيه للمدلس عليه ما يعرف بخيار العيب: وهو إعطاؤه حق الخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه. كما سيتضح في بحث الخيارات.
ولا فرق في التدليس الموجب للخيار بين أن يصدر من أحد العاقدين، أو من شخص آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه إذا كان بتواطؤ مع أحد العاقدين (3) .
ونص القانون المدني السوري في المادتين (126، 127) على التدليس من أحد المتعاقدين أو من غير المتعاقدين، وجعل التدليس موجباً لخيار المدلس عليه وإعطائه الحق في إبطال العقد إذا كانت الحيل المستخدمة من الجسامة بحيث لولاها
__________
(1) قال في الدر المختار: 103/4: «لا يحل كتمان العيب في مبيع أو ثمن لأن الغش حرام» .
(2) الحديث الأول رواه ابن ماجه عن عتبة بن عامر، والحديث الثاني رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 212/5) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 167/4، ط البابي الحلبي.(4/575)
لما أبرم الطرف الثاني العقد. وكان العاقد صاحب المصلحة في حالة التدليس من غير العاقدين يعلم بالتدليس أو من المفروض أن يعلم. وهذا إجمالاً يتفق مع الفقه الإسلامي كما تقدم.
4 - الغبن مع التغرير:
الغبن لغة: النقص. والتغرير: الخداع. وعند الفقهاء: الغبن: أن يكون أحد العوضين غير متعادل مع الآخر، بأن يكون أقل من قيمته أو أكثر منها. والتغرير: إيهام خلاف الواقع بوسائل مغرية، وعرفته المجلة (م 164) بأنه وصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية.
والغبن نوعان: يسير وفاحش (1) .
أما الغبن اليسير: فهو ما يدخل تحت تقويم المقومين أي ما يتناوله تقدير الخبراء كشراء شيء بعشرة، ثم يقدره خبير بثمانية أو تسعة أو عشرة مثلاً، فهذا غبن يسير.
وأما الغبن الفاحش: فهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين أو تقدير الخبراء العارفين بأسعار الأشياء، كما لو وقع البيع بعشرة مثلاً، ثم إن بعض المقومين يقول: إنه يساوي خمسة، وبعضهم ستة وبعضهم سبعة، فهذا غبن فاحش، لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد. وقدرته المجلة (م 165) عملاً برأي نصر بن يحيى بأنه نصف العشر أي (5%) في العروض التجارية، والعشر أي (10%) في الحيوانات، والخمس أي (20%) في العقار، أو زيادة.
__________
(1) البدائع: 30/6، الدر المختار ورد المحتار: 166/4.(4/576)
أثر الغبن في العقد:
الغبن اليسير: لا أثر له على العقد فلا يجيز الفسخ؛ لأنه يصعب الاحتراز عنه، ويكثر وقوعه في الحياة العملية، ويتسامح الناس فيه عادة. واستثنى الحنفية حالات ثلاثاً يجوز فيها فسخ العقد بسبب الغبن اليسير للتهمة وهي:
1 - تصرف المدين المحجور عليه بسبب دين مستغرق: فإذا باع شيئاً من ماله، أو اشترى ولو بغبن يسير، كان للدائنين حق فسخ العقد إلا إذا رضي العاقد الآخر برفع الغبن؛ لأن تصرف المدين موقوف على إجازة الدائنين، فإن أجازوه نفذ، وإن لم يجيزوه بطل.
2 - تصرف المريض مرض الموت: إذا باع أو اشترى بغبن يسير جاز للدائنين أو للورثة بعد الموت طلب فسخ التصرف، إلا إذا رضي المتعاقد الآخر برفع الغبن.
3 - بيع الوصي شيئاً من أموال اليتيم بغبن يسير لمن لا تجوز شهادته له كابنه وزوجته، فينقض العقد.
وأما الغبن الفاحش: فيؤثر في رضا العاقد فيزيله، ولكن هل له الحق في فسخ العقد؟ للفقهاء في ذلك آراء ثلاثة:
الرأي الأول للحنفية (1) : ليس للغبن الفاحش وحده في ظاهر الرواية أثر على العقد، فلا يجيز رد المعقود عليه أو فسخ العقد إلا إذا انضم إليه تغرير (أي وصف المبيع بغير حقيقته) من أحد العاقدين أو من شخص آخر كالدلال ونحوه وهذا ما أخذت به المجلة (م 357) ؛ لأن الغبن المجرد عن كل خديعة يدل على تقصير المغبون وعدم ترويه وسؤاله أهل الخبرة ولا يدل على مكر العاقد الآخر، ولكل إنسان طلب المنفعة ما لم يضر الجماعة، كما في حالة الاحتكار. فإذا انضم إليه تغرير كان المغبون معذوراً؛ لأن الرضا بالعقد كان على أساس عدم الغبن، فإذا ظهر الغبن لم يتوافر الرضا.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 166/4 ومابعدها.(4/577)
واستثنى الحنفية ثلاث حالات يجوز فيها الفسخ بالغبن الفاحش المجرد عن التغرير، وهي:
أموال بيت المال، وأموال الوقف، وأموال المحجور عليهم بسبب الصغر أو الجنون أو السفه، فإذا بيع شيء من ذلك بغبن فاحش ولو من غير تغرير، نقض البيع (م/356 مجلة) .
الرأي الثاني ـ للحنابلة (1) : يؤثر الغبن الفاحش في العقد فيجعله غير لازم، سواء أكان بتغرير أم بغير تغرير، ويعطى للمغبون حق فسخ العقد في حالات ثلاث هي:
أـ تلقي الركبان: وهو أن يتلقى شخص طائفة من الناس يحملون متاعاً إلى بلد، فيشتريه منهم، قبل قدومهم البلد ومعرفتهم بالسعر. وهو حرام ومعصية، ويثبت لهم حق الفسخ إذا غبنوا غبناً فاحشاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تلقوا الركبان» (2) . وهذا رأي الشافعية أيضاً (3) ، لثبوت الخيار فيه بنص الحديث.
ب ـ النَّجْش: وهو زيادة ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا لرغبة في شرائها، بل ليخدع غيره. فيثبت الخيار للمشتري إذا لم يعلم بأن الذي يزيد لا يريد الشراء. وليس له الخيار في الأصح عند الشافعية (4) .
ج ـ المسترسل: وهو الشخص الجاهل بقيمة الأشياء، ولا يحسن المساومة والفصال ويشتري مطمئناً إلى أمانة البائع، ثم يتبين أنه غبن غبناً فاحشاً، فيثبت له الخيار بفسخ البيع.
__________
(1) غاية المنتهى: 33/2، المغني: 212/4، 218 ومابعدها.
(2) عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تلَقوا الركبان، ولا يبع حاضر لِباد» ، قلت لابن عباس: ما قوله، ولا يبع حاضر لباد؟ قال: «لا يكون له سمساراً» . متفق عليه واللفظ للبخاري (سبل السلام: 20/3 ومابعدها) .
(3) مغني المحتاج: 36/2، المهذب: 292/1.
(4) مغني المحتاج: 37/2، المهذب: 291/1.(4/578)
وقال المالكية: هذه البيوع الثلاثة صحيحة ولكنها حرام للنهي الثابت في السنة عنها شرعاً، ويعطى الخيار بالفسخ للمشتري في حالة بيع النجش دون غيره (1) .
الرأي الثالث ـ للشافعية (2) : لا أثر للغبن الفاحش في التصرفات سواء رافقه تغرير أم لا؛ لأن الغبن لا يقع إلا بتقصير من المغبون غالباً، فلو سأل أهل الخبرة، لما وقع في الغبن.
والقانون المدني السوري نص في المادة (130) على حالة خاصة من حالات الغبن وهي الغبن الاستغلالي: وهي حالة انعدام تعادل الأداءات المتقابلة الذي دفع إلى وجوده وجود طيش بيِّن (خفة ظاهرة) أو هوى جامح (الولع الشديد بشيء لا قبل له بدفعه) عند أحد المتعاقدين واستغلال المتعاقد لتلك الحالة النفسية. وقدر الغبن في بيع العقار في المادة (1/393) بما زاد على الخمس. وجعل جزاءه قابلية العقد للإبطال لطلب المغبون برفع الدعوى خلال سنة من تاريخ العقد. وكل قابل للإبطال (البطلان النسبي) يقبل الإجازة ممن تقرر الإبطال لمصلحته.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 264، الشرح الكبير للدردير: 67/3-70، الشرح الصغير:87/3. أما النهي عن تلقي الركبان فهو عند البخاري ومسلم كما تقدم، وأما النهي عن النجش فهو عند أحمد والشيخين عن ابن عمر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النَّجْش» .
(2) مغني المحتاج: 36/2.(4/579)
المبحث الثالث ـ شروط العقد:
عرفنا فيما مضى عناصر العقد الأساسية الأربعة: وهي صيغة التعاقد، والعاقدان، والمحل المعقود عليه، وموضوع العقد أو المقصد الأصلي للعقد.
ويتطلب العقد بالإضافة لعناصره توافر أربعة أنواع من الشروط: وهي شروط الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم.
والقصد من هذه الشروط في الجملةمنع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة.
والمراد بالشرط: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجاً عن حقيقته (1) ، كالطهارة للصلاة شرط فيها وهي أمر خارج عن الحقيقة، وحضور الشاهدين في الزواج شرط فيه، وتعيين العوضين في البيع أو قابلية المبيع للتمليك شرط فيه، والقدرة على تسليم المبيع أو أهلية العاقد شرط في البيع؛ لأن كلاً منها ليس من أجزاء العقد (2) .
ويقسم الفقهاء الشروط بحسب مصدرها إلى شرط شرعي وشرط جعلي.
الشرط الشرعي: هو الذي يفرضه الشرع، فيصبح لا بد منه لتحقق العقد، ولا يوجد إلا به. وهذا محل البحث هنا، كاشتراط أهلية العاقد لانعقاد العقد.
والشرط الجعلي (3) : هو الذي يشترطه العاقد بإرادته ليحقق له مقصداً خاصاً في العقد، فيجعل مقترناً بالعقد، أو معلقاً عليه كتعليق الكفالة والطلاق، مثل إن سافر مدينك اليوم فأنا كفيل بدينك، وإن فعلتِ (مخاطباً زوجته) كذا فأنت طالق، وكسائر القيود والالتزامات التي يشترطها المتعاقدان على أنفسهما.
وقد بحثت ذلك في بحث حرية العاقد في الشروط.
أولاً ـ شرائط الانعقاد: هي ما يشترط تحققه لجعل العقد في ذاته منعقداً شرعاً وإلا كان باطلاً. وهي نوعان: عامة وخاصة.
فالشرائط العامة: هي التي يجب توافرها في كل عقد.
والشرائط الخاصة: هي التي يطلب وجودها في بعض العقود دون سواها. كاشتراط الشهود في عقد الزواج، فلا ينعقد الزواج إلا بحضور الشاهدين، وإلا كان باطلاً.
__________
(1) أما الركن كما عرفنا: فهو عند الحنفية ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان جزءاً من حقيقته أو ماهيته. كالركوع ركن في الصلاة لأنه جزء منها، والقراءة في الصلاة ركن؛ لأنه جزء من حقيقة الصلاة. والإيجاب والقبول في العقد ركنان لأنهما جزآن من حقيقة العقد.
(2) مرآة الأصول لمنلا خسرو: 339/2.
(3) سمي جعلياً: لأن الشخص العاقد لا الشرع هو الذي جعله شرطاً قيد به العقد أو علقت عليه في أمر كان له الخيار في تنجيزه وتعليقه.(4/580)
وكاشتراط التسليم في العقود العينية (وهي الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن) فلا يتم انعقاده إلا بتسليم محل العقد وإلا كان باطلاً.
وكعدم تعليق العقد على شرط في المعاوضات والتمليكات كالبيع والهبة والإبراء، فإن التعليق يبطلها. والشرائط العامة للانعقاد: هي الشروط المطلوبة في صيغة التعاقد وفي العاقد، وفي المحل المعقود عليه، وألا يكون العقد ممنوعاً شرعاً، وأن يكون العقد مفيداً.
أما شروط الصيغة والعاقد ومحل العقد فقد ذكرت سابقاً فلا داعي لتكرارها هنا.
وأما كون العقد غير ممنوع شرعاً: فهو ألا يوجد نص شرعي يقتضي بطلانه، مثل التبرع من مال الصغير القاصر أو بيع شيء من ماله بغبن فاحش، فلا تنعقد الهبة من مال القاصر من أي واحد، سواء الولي أومن نفس الصغير، ويكون العقد باطلاً، حتى ولو أجازه الصغير بعد بلوغه؛ لأن الباطل لا يقبل الإجازة. ومثل الاستئجار على فعل المعاصي أو ارتكاب الجرائم أو بيع المخدرات والمسكرات. ومثل بيع الغرر (أي غرر الوجود) وهو بيع الشيء المحتمل للوجود والعدم، أي أن المعقود عليه هو المحتمل للوجود والعدم كبيع اللبن في الضرع والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما. ومنه بيع ضربة القانص (وهو أن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة بكذا) ، وضربة الغائص (وهو أن يقول البائع: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ فهو لك بكذا) .
ومنه بيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في بطون الإناث) وبيع الملامسة والمنابذة وإلقاء الحصاة أو الحجر: وهي أن المشتري أو البائع إذا لمس المبيع أو نبذه البائع للمشتري، أو ألقى المشتري عليه حصاة أو حجراً، فقد لزم العقد، فالمبيع في هذه الأحوال مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها كما تقدم، وكانت بيوعاً متعارفة في الجاهلية، فهي باطلة أي أن غرر الوجود مبطل للبيع.(4/581)
والخلاصة: أن المنع الشرعي (1) قد يكون بسبب طريقة العقد كبيع الغرر، أو بسبب محل العقد كبيع المخدرات والاستئجار على فعل المعاصي، أو بسبب موضوع العقد كهبة مال القاصر، والتعامل بالذهب في سوريا ومصر (2) .
وأما كون العقد مفيداً (3) : فهو أن يحقق مصلحة معقولة. فلا ينعقد الرهن مثلاً في مقابل الأمانة كالوديعة؛ لأن المرهون به يجب أن يكون مضموناً (4) ؛ لأن قبض الرهن مضمون، فلا بد أن يقابله مضمون، والوديعة ونحوها أمانة غير مضمونة. ولا يصح التعاقد بين اثنين على عدم الاشتغال في التجارة مثلاً؛ لأن ذلك مصادم لمبدأ حرية الإنسان الاقتصادية، وحماية هذه الحرية من النظام العام في الإسلام.
كما لا يصح التعاقد أيضاً على أمر واجب على الإنسان شرعاً، كالاتفاق على الامتناع من فعل جريمة، والاستئجار على فعل الواجبات الدينية كالصلاة ومجرد قراءة القرآن (5) ، واستئجار الزوجة على القيام بأعمال المنزل أو على إرضاع طفلها؛ لأن ذلك واجب عليها ديانة.
ثانياً ـ شرائط الصحة:
وهي ما يشترط شرعاً لترتيب آثار العقد، فإن فقدت كان العقد فاسداً، أي مختلاً اختلالاً في ناحية فرعية متممة غير أساسية، مع كونه منعقداً موجوداً في حد ذاته.
وأغلب شرائط الصحة خاص بكل عقد على حدة. ففي البيع مثلاً يشترط
__________
(1) يلاحظ أن النهي أو المنع الشرعي عند الحنفية قد يكون أثره البطلان أو عدم الانعقاد وقد يكون أثره الفساد أي الانعقاد مع الخلل الفرعي.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 167.
(3) المرجع السابق: ف 169.
(4) الأمانة: هي التي لا تضمن إذا تلفت (أي لا يدفع بدلها) إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ. والمضمون: هو الذي يضمن إذا تلف لأي سبب كان التلف.
(5) لكن أفتى متأخرو الفقهاء من الحنفية، والمالكية والشافعية بجواز أخذ الأجرة على ممارسة الشعائر الدينية مثل الأذان والإقامة والإمامة في صلاة الجمعة والجماعة، وعلى تعليم القرآن للضرورة خشية ألا يقوم بها أحد فتتعطل (تبيين الحقائق: 124/5، البدائع: 191/4 ومابعدها، بداية المجتهد: 221/1، مغني المحتاج: 344/2، المهذب: 398/1) .(4/582)
عند الحنفية خلوه من أحد العيوب الستة الآتية: وهي الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر (غرر الوصف) ، والضرر، والشرط الفاسد (1) .
أما الجهالة: فهي الجهالة الفاحشة التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله، وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة. وهي أربعة أنواع: جهالة المبيع أو الثمن جنساً أو نوعاً أو قدراً، وجهالة أجل وفاء الثمن، أو مدة خيار الشرط، وجهالة وسائل التوثيق كتقديم كفيل أو رهن مجهولين.
وأما الإكراه بنوعيه الملجئ والناقص فيفسد العقد عند جمهور الحنفية، ويجعل العقد موقوفاً عند زفر، على التفصيل الذي ذكرسابقاً.
وأما التوقيت: فهو تأقيت البيع بمدة شهر أوسنة، فيفسد؛ لأن ملكية العين لا تقبل التأقيت. كذلك يفسد الزواج في حال تأقيته بمدة معينة؛ لأنه مشروع بصفة التأبيد.
وأما غرر الوصف: فهو كبيع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، فهو بيع فاسد؛ لأن المقدار المذكور من الحليب موهوم التحقق، فقد ينقص. وأما غرر الوجود: وهو ماكان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم، فيجعل البيع باطلاً كما تقدم.
وأما الضرر: فهو كبيع جذع معين من سقف مبني لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما حول الجذع، وكبيع ذراع من ثوب يضره التبعيض.
وأما الشرط الفاسد عند الحنفية (2) فهو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين، ولم يتعارفه الناس كبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو دار على أن
__________
(1) رد المحتار: 6/4، فتح القدير: 219/5، البدائع: 188/7.
(2) الدر المختار: 127/4.(4/583)
يسكنها مدة معينة، أو كبيع بشرط إقراض مبلغ من المال. وحكمه: أنه يفسد البيع ونحوه من المعاوضات المالية، ولا يؤثر في غيرها كما بان سابقاً في بحث حرية الاشتراط.
كذلك يشترط في البيع المماثلة في الكمية بين البدلين والتقابض في العوضين في مبادلة الأموال الربوية كالنقدين (الذهب والفضة) والحبوب من حنطة وشعير ونحوهما.
ويشترط أيضاً قبض المبيع المنقول قبل التصرف به من المشتري لشخص آخر.
ثالثاً ـ شرائط النفاذ:
يشترط لنفاذ العقد شرطان (1) :
أولاً ـ الملك أو الولاية. أما الملك: فهو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادراً وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي، أي أن المالك له حرية التصرف والاستقلال بمنافع الشيء إلا إذا وجد مانع كالجنون أو السفه أو الطفولة أو عدم التمييز.
وأما الولاية: فهي سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، وهي إما أصلية: وهي أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه. أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل، أو بإنابة الشارع كالأولياء (الأب أو الجد) والأوصياء (وصي الأب أو الجد أو وصي القاضي) .
ويترتب على هذا الشرط أن محل العقد ينبغي أن يكون مملوكاً للعاقد، فإن لم يكن مملوكاً له بأن كان فضولياً، كان العقد غير نافذ أو موقوفاً على إجازة المالك إذا باعه عن مالكه نفسه، أما إن باعه عن نفسه هو، لا عن مالكه نفسه، كان البيع باطلاً.
وقد جعل الشافعي وأحمد الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات الفضولي باطلة. كما ذكر سابقاً.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 6/4،104، البدائع: 155/5.(4/584)
ثانياً ـ ألا يكون في محل العقد حق لغير العاقد: فإن تعلق به حق الغير كان العقد موقوفاً غير نافذ، وتعلق حق الغير له ثلاثة أوجه (1) .
1 - أن يكون حق الغير متعلقاً بعين المحل المعقود عليه، كبيع ملك الغير وتبرع المريض مرض الموت بما يزيد عن ثلث أمواله، يكون موقوفاً على إجازة الورثة.
2 - أن يكون متعلقاً بمالية المحل المعقود عليه دون عينه، كتصرف المدين غير المحجور عليه بما يضر حقوق الدائنين، تتعلق حقوقهم بمالية أموال المدين لاستيفاء ديونهم، وليست حقوقهم متعلقة بأعيان أمواله، فلو أتى المدين بمال آخر يفيهم به حقوقهم نفذت تصرفاته الموقوفة على إجازتهم.
3 - أن يكون متعلقاً بصلاحية التصرف نفسه، لا بمحله المعقود عليه، كتصرف ناقص الأهلية المحجور عليه إما حجراً شرعياً بسبب الصغر كالمميز، أو حجراً قضائياً بسبب السفه أو الدين المستغرق (المحيط بكل ماله) .
إن ناقص الأهلية لا يملك التصرف في أمواله، ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة وليه الشرعي من أب أو جد أو وصي. فإن أجازه نفذ، وإن رده بطل.
وكما أن حق الغير (أي غير العاقدين) ما نع من نفاذ التصرف، هناك مانع آخر من النفاذ وهو الإكراه.
__________
(1) الدر المختار: 146/4، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 4/194.(4/585)
رابعاً ـ شرائط اللزوم: الأصل في العقود اللزوم، ويشترط للزوم العقد كالبيع والإيجار خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد المعاقدين فسخ العقد، والتي تثبت إما باشتراط العاقد أو بإيجاب الشرع (1) . فإن وجد في العقد خيار كخيار الشرط أو خيار العيب أو الرؤية منع لزوم العقد في حق من له الخيار، فكان له أن يفسخ العقد أو أن يقبله، إلا إذا حدث مانع من ذلك، كما سيتبين في بحث الخيارات. ويسمى العقد المشتمل على الخيار غير لازم.
المبحث الرابع ـ آثار العقد:
لكل عقد أثر خاص وأثر عام (2) :
فالأثر الخاص: هو حكم العقد، وحكم العقد: هو الأثر الأصلي (أو النوعي) للعقد أو الغاية الجوهرية الأساسية المقصودة من العقد كانتقال الملكية في عقد البيع والهبة، وتملك المنفعة في عقد الإيجار والإعارة، وحل المتعة الزوجية في عقد الزواج، وحق احتباس المرهون في عقد الرهن، وتفويض التصرف في عقد الوكالة، ونحو ذلك.
ويقال للحكم الأصلي للعقد موضوع العقد كما بان سابقاً في بحث السبب.
ويفترق الحكم الأصلي للعقد عن الالتزام. فالالتزام هو كون الشخص مكلفاً بفعل، أو بامتناع عن فعل. مثال الأول: تسليم المبيع وأداء الثمن. ومثال الثاني: عدم التعدي على نفس أو مال الغير، وعدم استعمال الوديعة.
ومصدر الالتزام قد يكون هو الشرع كالإنفاق على الأقارب، وقد يكون مصدره العقد، كالالتزامات بدفع الأجرة أو الثمن، وقد يكون مصدره غير العقد وهو الفعل الضار كضمان المتلفات.
وحكم العقد الأصلي يتحقق آلياً بتقدير الشرع بمجرد انعقاد العقد صحيحاً، فلا يحتاج إلى تنفيذ، فبمجرد انعقاد البيع صحيحاً تنتقل الملكية للمشتري، وهكذا سائر أحكام العقود.
أما الالتزام: فيحتاج إلى تنفيذ؛ لأنه تكليف على شخص لمصلحة آخر، فملكية المبيع وإن انتقلت إلى المشتري بمجرد البيع، لكن ذلك الأثر يحتاج إلى تنفيذ التزام البائع: وهو القيام بتسليم المبيع إلى المشتري.
والالتزامات قد يستلزمها العقد ذاته: وهي التي نظمها الشرع آثاراً للعقد المنشئ لها كالالتزام بتسليم المبيع وضمان العيب، والالتزام بدفع الثمن أو الأجرة.
وقد يشترطها العاقد كاستعمال المبيع مدة بعد البيع، وإيصال المبيع لبيت المشتري، ودفع الأجرة سلفاً، ونحو ذلك.
وأما الأثر العام: فهو ما تشترك فيه كل العقود أو معظمها من أحكام ونتائج. وللعقود أثران عامان هما: النفاذ، والإلزام واللزوم.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 6/4.
(2) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 193 ومابعدها.(4/586)
والنفاذ: معناه ثبوت حكم العقد الأصلي منذ انعقاده، أي أن آثار العقد الخاصة ونتائجه المترتبة عليه تحدث فور انعقاد العقد، فنفاذ عقد البيع مثلاً معناه انتقال ملكية المبيع والثمن بمجرد انعقاده، وإيجاب تنفيذ الالتزامات على الطرفين، كتسليم المبيع وتسلم الثمن، وضمان العيب إن ظهر فيه عيب.
ونفاذ عقد الزواج معناه: إحلال المتعة الزوجية بمجرد انعقاده، وإيجاب الحقوق والالتزامات التي ينشئها العقد بينهما، كالتزام الرجل بالنفقة، ومسؤولية المرأة عن الطاعة المشروعة.
والنفاذ يقابله التوقف، فيقال: عقد نافذ وعكسه موقوف.
وأهم أنواع العقد الموقوف سبعة هي:
عقد المكره، وعقد المميز، وعقد السفيه المحجور عليه، وعقد المدين بدين مستغرق، وتبرع المريض مرض الموت، وعقد الفضولي، وتصرف المرتد عن الإسلام، فإن عقوده في حال ردته موقوفة عند أبي حنيفة، فإذا عاد إلى الإسلام نفذت، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بالتحاقه بطلت.
والإلزام: معناه العام لغة هو إيجاب تنفيذ التزامات التعاقد، عملاً بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] ومعناه الخاص فقهاً: هو إنشاء التزامات متقابلة معينة على العاقدين، كما في البيع، أو إنشاء التزام معين على أحد العاقدين، كما في الوعد بجائزة، وهذا من آثار العقد.
ويختلف الإلزام عن اللزوم. فاللزوم: هو عدم استطاعة فسخ العقد إلا بالتراضي، والتراضي على فسخ العقد يسمى إقالة.
ويكتسب العقد صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد تمام العقد. وهذا ما أخذ به القانون وجرى عليه القضاء.
وعند الشافعية والحنابلة: لا يكتسب العقد صفة اللزوم إلا بعد انقضاء مجلس العقد، بتفرق العاقدين بأبدانهما، عملاً بخيار المجلس الثابت في السنة النبوية، على ما سيذكر في بحث الخيارات.(4/587)
المبحث الخامس ـ تصنيف العقود:
للعقود أقسام متعددة باعتبارات مختلفة، أهمها النظر إلى العقد بحسب إقرار الشرع له وعدم إقراره، أو بالنظر إلى كون العقود مسماة أو غير مسماة، أو بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه، أو لكون العقد عينياً أوغير عيني، أو باعتبار اتصال الأثر به وعدم اتصاله.
التقسيم الأول ـ بحسب وصف العقد شرعاً:
ينقسم العقد بحسب الوصف الذي يعطيه الشرع له بناء على مقدار استيفائه لأركانه وشروطه إلى صحيح تترتب عليه آثاره، وغير صحيح لا تترتب عليه آثاره.
العقد الصحيح:
هو الذي استكمل عناصره الأساسية من (صيغة وعاقدين ومحل عقد وموضوع عقد) ، وشرائطه الشرعية. فيصبح صالحاً لترتب حكمه وآثاره عليه. ويعرفه الحنفية بقولهم: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (1) .
وحكم العقد الصحيح: ثبوت أثره في الحال، فالبيع الصادر من كامل الأهلية على مال متقوم شرعاً، ولغاية مشروعة، يترتب عليه ثبوت ملك المبيع والثمن للمشتري والبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار.
العقد غير الصحيح:
هو ما اختل فيه أحد عناصره الأساسية أو شرط من شروطه. وحكمه أنه لا يترتب عليه أثر كبيع الميتة والدم والخمر والخنزير، وكبيع فاقد الأهلية. ويشمل غير الصحيح عند جمهور الفقهاء غير الحنفية: الباطل والفاسد، وهما بمعنى واحد.
وأما الحنفية: فيقسمون غير الصحيح إلى باطل وفاسد. فلكل واحد معنى مختلف عن الآخر، وتلك القسمة محصورة في العقود الناقلة للملكية أو العقود التي توجب التزامات متقابلة من العاقدين، كالبيع والإجارة والهبة والقرض والحوالة والشركة والمزارعة والمساقاة والقسمة.
__________
(1) أصل العقد أي ركنه (الإيجاب والقبول) وعاقداه ومحله. ووصف العقد: هو ما كان خارجاً عن الركن والمحل كالشرط المخالف لمقتضى العقد، أو كون المبيع غير مقدور التسليم، وكالثمنية فإنها صفة تابعة للعقد.(4/588)
أما العقود غير المالية كالوكالة والوصاية والزواج على الأصح والعقود المالية التي ليس فيها التزامات متقابلة كالإعارة والإيداع، والعبادات، والتصرفات المنفردة كالطلاق والوقف والكفالة والإقرار ونحوها، فهذه لا فرق فيها بين الفاسد والباطل.
منشأ الخلاف بين الحنفيةوالجمهور:
أساس الخلاف بين الحنفية وغيرهم راجع لقضية أصولية: وهي فهم أثر النهي الصادر عن الشرع، كالنهي عن شراء السمك في الماء، فإنه غرر، وعن بيعتين في بيعة، وكتحريم بيع الخمر والميتة والخنزير ونحو ذلك. فهل النهي يقتضي فساد المنهي عنه، أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً أو أنه يقتصر على إيجاب الإثم وحده مع اعتباره أحياناً؟
ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد لازم له أو غير لازم؟
قال جمهور الفقهاء (1) : إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه. ولا فرق بين النهي عن ركن من أركان العقد (الصيغة وأهلية العاقدين ومحل العقد) أو النهي عن وصف عارض للعقد ملازم له أو مجاور، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
وعليه إذا حدث عقد منهي عنه فهو باطل أو فاسد لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن نهي الشرع عنه يجعله غير مشروع أو غير موجود، وإذا كان النهي لوصف فيسري إلى الموصوف.
وقال الحنفية (2) : قد يكون نهي الشارع عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله، ويفرق بين النهي الراجع لأصل العقد (أي لخلل في الصيغة أو في العاقد أو في المحل) فيقتضي بطلان العقد وعدم وجوده شرعاً وعدم ترتب أي أثر عليه، وبين النهي العائد لأمر آخر كوصف من أوصاف العقد ملازم له، فيقتضي بطلان هذا الوصف فقط، ولا يتعدى البطلان إلى أصل العقد، لأنه استكمل عناصره الأساسية، فيكون العقد فاسداً فقط.
__________
(1) بداية المجتهد: 166/2، المستصفى: 61/1، الإحكام للآمدي: 68/1، شرح جمع الجوامع للمحلي: 80/1، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، الإبهاج: 44/1.
(2) مرآة الأصول: 289/2، كشف الأسرار: ص 258، رد المحتار لابن عابدين: 104/4.(4/589)
فالبيع الصادر عن عديم الأهلية، وبيع غير المال كالميتة، وبيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير والسمك في الماء باطل؛ لأن الخلل فيه راجع لأصل العقد. والبيع المؤقت أو المشتمل على جهالة في الثمن أو المؤدي إلى النزاع في العقد كبيعتين في بيعة فاسد؛ لأن الخلل راجع لوصف في العقد خارج عن حقيقته وذاته وأركانه.
وإذا كان النهي بسبب أمر مجاور للعقد غير ملازم له وليس شرطاً فيه، كان مقتضاه الكراهة للإقدام عليه في هذه الحال كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة.
وعلى هذا فإن غير الصحيح عند الحنفية نوعان: باطل وفاسد.
أما العقد الباطل: فهو ما اختل ركنه أو محله، أو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية، كالمجنون وغير المميز، والمميز فيما يضره ضرراً محضاً، أو أن تكون الصيغة غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً، كبيع ما ليس بمال، أو ما ليس مالاً متقوماً كالخمر والخنزير والسمك في الماء، وكبيع شيء من الأموال العامة كجزء من الطريق أو من مشفى أو مسجد، وكالبيع الذي جعل الثمن فيه غير مال أصلاً كالميتة (1) ، أو الشيء المباح. وفي الزواج كالعقد على إحدى المحارم أو التي لم تنته عدتها من مطلقها، أو المتزوجة بزوج آخر، فكل هذه العقود باطلة.
وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً، وإن وجدت صورته في الظاهر، فلا يترتب عليه أي أثر شرعي، فلا يفيد نقل الملكية أصلاً، إذ لا يعد موجوداً بحال.
وأما العقد الفاسد (2) : فهو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، أي كان
__________
(1) إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل كبيع الخمر والخنزير والميتة والدم، وإن كان الفساد يرجع للثمن: فإن كان الثمن مالاً عند بعض الناس كالخمر والخنزير فالبيع فاسد، وإن كان الثمن ليس مالاً أصلاً كالميتة والدم فالبيع باطل.
(2) الفساد مرتبة متوسطة بين البطلان والصحة، وليس له نظير في القوانين. أما البطلان المطلق فيقابل البطلان عند الشرعيين، وأما البطلان النسبي فيقابل العقد الموقوف أحياناً وذلك في حال نقص الأهلية أو العقد غير اللازم أحياناً وذلك في حالات عيوب الرضا؛ لأن الباطل بطلاناً نسبياً صحيح إلى أن يقضي القاضي بإبطاله بناء على طلب صاحب المصلحة بإبطاله كالمدلس عليه. ويمكن لصاحب المصلحة إجازة الباطل نسبياً.
أما الفاسد في الفقه الحنفي فهو غير صحيح ولا يترتب عليه أثر، ويجب فسخه إما بطلب أحد العاقدين أو بواسطة القاضي بمجرد علمه، لأنه يحمي أحكام الشريعة. ولا يملك أحد إجازة الفاسد.(4/590)
صادراً ممن هو أهل له، والمحل قابل لحكم العقد شرعاً، والصيغة سليمة، ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً، كبيع المجهول جهالة فاحشة تؤدي للنزاع، مثل بيع دار من دور أو سيارة من سيارات دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة، كبيع دار على أن يبيعه سيارته، وكبيع مال متقوم جعل ثمنه مالاً غير متقوم كخمر مثلاً، وكبيع بقرة على أنها حامل.
وحكم الفاسد: ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة، أو دلالة كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع، دون أن يعترض عليه.
والعقد الفاسد واجب الفسخ شرعاً، إما من أحد العاقدين أو من القاضي إذا علم بذلك، لأنه منهي عنه شرعاً. وإمكان الفسخ مشروط بشرطين:
الأول ـ بقاء المعقود عليه على ما كان قبل القبض، فلو تغير شكله بأن هلك أو استهلك، أو كان غزلاً فنسجه، أو قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فخبزه، امتنع الفسخ.
والثاني ـ عدم تعلق حق الغير به، فلو تصرف به المشتري لآخر بالبيع أو بالهبة وتم قبضه من الموهوب له، امتنع الفسخ.(4/591)
العقد المكروه تحريماً:
العقد الباطل منهي عنه لأمر أساسي فيه، والفاسد منهي عنه لوصف ملازم له، فإن كان النهي لوصف غير لازم، أي مجاور للمنهي عنه، فهو مكروه كراهة تحريمية عند الحنفية، وحرام موجب للإثم والمعصية عند جمهور الفقهاء.
ومن أهم هذه العقود المكروهة (1) أو المحرمة لما فيها من الضررأو الغرر مع أنها صحيحة ما يأتي (2) :
1 - بيع النَّجْش: وهو أن يزيد الرجل في السلعة، وليس له حاجة بها، إلا ليغلي ثمنها وينفع صاحبها. وهو عند الحنفية مكروه تحريماً، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن النجْش وقال: لا تناجشوا (3) . لكنهم قالوا، أي الحنفية: لا يكره النجش إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقيقية، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس به لأنه عون على العدالة. ويقع البيع صحيحاً عند الجمهور مع الحرمة من غير خيار في رأي الشافعية، وللمشتري عند غيرهم رده إذا لم يوجد مانع، كتغير المبيع وتعيبه، وقال الحنابلة بفساده.
وأما المزايدة أو البيع بالمزاد العلني: وهو أن ينادي على السلعة، ويزيد الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها، فهو بيع صحيح جائز لا ضرر فيه.
2 - تلقي الركبان أو الجلب: وهو مبادرة بعض أهل المدينة أو البلد لتلقي الآتين إليها، فيشتري منهم ما معهم، ثم يبيع كما يرى لأهل البلد. وهذا حرام عند الشافعية، ومكروه تحريماً عند الحنفية إن أضر بالأهالي، وإلا فلا يكره إذا لم يلبّس السعر على الواردين لأنه إن فعل هذا كان فيه تغرير بهم. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن
__________
(1) المكروه تحريماً عند الحنفية: ما ثبت بدليل ظني فيه شبهة. وهو إلى الحرام أقرب.
(2) انظر أحكام هذه البيوع في المذاهب: عند الحنفية: فتح القدير: 239/5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 67/4 ومابعدها، الدر المختار: 139/4، وعند المالكية: بداية المجتهد: 164/2-166، 168، القوانين الفقهية: ص 259، 264، الشرح الكبير للدردير: 67/3-70، وعند الشافعية: نهاية المحتاج: 74/2، مغني المحتاج: 36/2 ومابعدها، تحفة الطلاب للأنصاري: ص 142، الباجوري على ابن قاسم: 353/1، وعند الحنابلة: غاية المنتهى: 17/2، 33، المغني: 212/4- 218.
(3) أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن النَّجْش» وأخرجا أيضاً عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا» (سبل السلام: 18/3، 22) .(4/592)
تلقي البيوع أو أن يتلقى الجلب (1) . وسبب النهي الإضرار بصاحب السلعة (البادي) لشراء الشيء بأقل من سعره الغالب، والإضرار بأهل البلد أيضاً. والبيع صحيح عند الأئمة، لأن النهي لأمر خارج عن البيع، لكن يثبت فيه عند الحنابلة والشافعية خيار الغبن، عملاً بحديث البخاري.
3 - بيع الحاضر للبادي: وهو ألا يبيع الواحد من أهل البلد (الحاضر) ما عنده من طعام ونحوه إلا لأهل البادية، طمعاً في زيادة الثمن، أو أن يتخصص شخص ببيع بضاعة الغريب على التدريج مع حاجة أهل البلد، بسعر أغلى، مع أن الغريب كان يريد البيع بسعر اليوم. وكراهة هذه البيوع إذا كانت تضر بأهل البلد، وإلا فلا ضرر، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد (2) . وقد أجاز المالكية فسخ هذا البيع، كالنجش. وهو حرام عند الشافعية. وسبب النهي عنه: الإضرار بأهل السوق لبيع السلعة بأكثر من ثمن المثل، أو من طريق السمسرة، ويفسخ عند المالكية إن لم يفت بتغير أو تعيب أو تصرف، وهو صحيح عند الأئمة الثلاثة؛ لأن النهي لأمر خارج عن البيع، وهو الرفق بأهل الحضر.
__________
(1) أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس حديث «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» (سبل السلام: 20/3) . وحديث البخاري: «لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق، فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار» .
(2) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر، وروى الجماعة إلا البخاري عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (نيل الأوطار:164/5) .(4/593)
4 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: عند الجمهور من حين صعود الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية: من الأذان الأول. وهذا البيع صحيح مكروه تحريماً عند الحنفية، وصحيح حرام عند الشافعية؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:9/36] ويلحق بالبيع سائر العقود والصناعات كلها لما فيها من شغل عن السعي إلى الجمعة. والنهي عنها لأمر خارج عن حقيقة العقد.
وعد المالكية (1) هذا البيع من البيوع الفاسدة، وقالوا: إنه يفسخ على المشهور وقال عنه الحنابلة: لا يصح هذا البيع (2) .
أنواع العقد الصحيح:
ينقسم العقد الصحيح عند الحنفية والمالكية إلى نافذ وموقوف:
النافذ: هو ما صدر ممن له أهلية وولاية على إصداره، كأغلب عقود الناس مثل العقد الصادر من الرشيد في ماله، أو الولي أو الوصي للقاصر، أو الوكيل لموكله. وحكمه: أنه تترتب عليه آثاره فور صدوره، من غير توقف على إجازة أحد.
والموقوف: هو ما صدر من شخص له أهلية التعاقد، من غير أن يكون له ولاية إصداره. كعقد الفضولي، وعقد الصغير المميز فيما يتردد بين الضرر والنفع، وحكمه: أنه لا تترتب عليه آثاره إلا إذا أجازه صاحب الشأن الذي يملك إصداره، فإن لم يجزه بطل العقد.
وهذا العقد عند الشافعية والحنابلة باطل.
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي: 378/2.
(2) كشاف القناع: 169/3 ومابعدها.(4/594)
أنواع العقد النافذ:
ينقسم العقد النافذ إلى لازم وغير لازم:
اللازم: هو ما ليس لأحد عاقديه فسخه دون رضا الآخر، كالبيع والإجارة.
والأصل في العقود اللزوم؛ لأن الوفاء بالعقود واجب شرعاً لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] .
وتثبت صفة اللزوم عند الحنفية والمالكية بمجرد صدور العقد من العاقدين. وعند الشافعية والحنابلة: لا يلزم العقد إلا بتفرق العاقدين بأبدانهما، أو إذا تخايرا، فاختارا لزومه، عملاً بحديث خيار المجلس: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» .
وغير اللازم أو الجائز كما يسميه بعض الفقهاء: هو ما يملك كل من طرفيه أو أحدهما فقط فسخه دون رضا الآخر، إما عملاً بطبيعة العقد نفسه كالوكالة والإعارة والإيداع، أو لمصلحة العاقد كالعقد المشتمل على الخيار.
والعقود بالنسبة إلى اللزوم وقابلية الفسخ وعدمه أربعة أنواع.
1 ً ـ عقود لازمة لا تقبل الفسخ: كالزواج لايقبل الفسخ ولو باتفاق العاقدين بطريق الإقالة أي لا يقبل الإلغاء الاتفاقي. وإنما يقبل الإنهاء بطرق شرعية كالطلاق والخلع (1) والتفريق القضائي لعدم الإنفاق أو للعيب أو للضرر وسوء العشرة أو للغيبة أو للحبس والاعتقال ونحو ذلك.
وكل ما لا يقبل الفسخ لا يثبت فيه خيار؛ لأن الخيار يعطي حق الفسخ لصاحبه.
__________
(1) الطلاق ليس فسخاً للزواج، بل إنهاء له بوضع حد لحكمه وآثاره. والخلع: هو إنهاء الزواج لقاء مال تدفعه الزوجة لزوجها. والطلاق أو الخلع أو التفريق ليست إلغاء للعقد، وإنما هي إنهاء بدليل بقاء حرمة المصاهرة وثبوت النسب بعد الإنهاء، فأم الزوجة مثلاً تبقى محرَّمة على زوج ابنتها أبداً ولو طلق البنت.(4/595)
2 ً ـ عقود لازمة تقبل الفسخ: أي تقبل الإلغاء بطريق الإقالة أي باتفاق العاقدين. وهي عقود المعاوضات المالية كالبيع والإيجار والصلح والمزارعة والمساقاة ونحوها. وهذه العقود تقبل الفسخ بالخيار أيضاً.
3 ً ـ عقود لازمة لأحد الطرفين: كالرهن والكفالة: فإنهما لازمان بالنسبة إلى الراهن والكفيل، وغير لازمين بالنسبة للدائن المرتهن، والمكفول له؛ لأن العقد لمصلحتهما الشخصية توثيقاً للحق، فلهما التنازل عنه.
4 ً ـ عقود غير لازمة للطرفين: وهي التي يملك كل من العاقدين فيها حق الفسخ والرجوع، كالإيداع والإعارة والوكالة والشركة والمضاربة والوصية والهبة، فالعقود الخمسة الأولى يجوز لكل من العاقدين فسخ العقد متى شاء. والوصية والهبة يصح للموصي والواهب الرجوع عنها، كما يصح للموصى له والموهوب له ردها وإبطالها بعد وفاة الموصي، وفي حال حياة الواهب.
التقسيم الثاني ـ بالنظر إلى التسمية وعدمها:
تقسم العقود إلى مسماة وغير مسماة:
أما العقود المسماة: فهي ما وضع الشرع لها اسماً خاصاً بها، وبيَّن أحكامها المترتبه عليها، كالبيع والإجارة والشركة والهبة، والكفالة والحوالة والوكالة والرهن، والقرض والصلح، والزواج والوصية ونحوها.(4/596)
وأما العقود غير المسماة: فهي التي لم يوضع لها اسم خاص في الشرع، ولم يرتب التشريع أحكاماً خاصة بها، وإنما استحدثها الناس تبعاً لحاجة. وهي كثيرة لا تنحصر، لأنها تنشأ بحسب تجدد حاجات الناس وتطور المجتمعات وتشابك المصالح، مثل عقد الاستصناع، وبيع الوفاء، وبيع الاستجرار، والتحكير، وأنواع المقاولات، أي التعهدات والالتزامات الحديثة، وأنواع الشركات التي تمنح امتيازات للتنقيب عن النفط والمعادن، وعقود النشر والإعلان في الصحف والمجلات ونحوها.
أما الاستصناع: فهو التعاقد على صنع شيء معين (1) كالأحذية والآنية والسيارات والبواخر، والمفروشات ونحوها. وقد تردد بين اعتبار كونه بيعاً أو إجارة أو وعداً، ثم استقر على تسمية خاصة به.
وأما بيع الوفاء: فهو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً على أنه متى وفى الثمن استرد العقار (2) . تردد بين كونه بيعاً أو رهناً، ثم استقر على هذا الاسم الخاص به.
وبيع الاستجرار: هو ما يستجره الإنسان من البياع، ثم يحاسبه على أثمانها بعد استهلاكها (3) . تردد بين كونه بيعاً أو ضمان متلفات بإذن مالكها عرفاً، واستقر على هذا الاسم تسهيلاً لأمر الناس ودفعاً للحرج.
والتحكير: هو الاتفاق على الانتفاع بأرض الوقف بالبناء والغرس لقاء أجرة معجلة تقارب قيمة الأرض، وأجرة سنوية ضئيلة، حددت في قانون الملكية العقاري السوري (باثنين ونصف في الألف) من قيمة الأرض المقدرة رسمياً لجباية الضرائب العقارية (4) .
وقد عرفنا في بحث حرية التعاقد: أن الرأي الغالب أو الراجح فقهاً هو جواز
__________
(1) البدائع: 2/5، فتح القدير: 354/5، الفتاوى الهندية: 504/4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 257/4، وانظر المجلة في المواد (396-403) .
(3) الدر المختار: 13/4.
(4) رد المحتار: 428/3، المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ص40، المدخل الفقهي للزرقاء. حاشية ف 295.(4/597)
إحداث عقود جديدة لا تخالف نصوص الشريعة ومبادئها وقواعدها العامة، كما يقول الحنابلة وبخاصة ابن تيمية وابن القيم. أو من طريق القياس والاستحسان والعرف والمصالح المرسلة وغيرها من أدلة التشريع كما يقول الحنفية والمالكية والشافعية.
التقسيم الثالث ـ بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه:
تنقسم العقود بحسب أغراضها وغاياتها إلى مجموعات سبع، فقد تكون غاية العقد هي تمليك شيء، أو الاستيثاق، أو الحفظ، أو التفويض ونحو ذلك.
1 - التمليكات: وهي ما يقصد بها تمليك شيء، عين أو منفعة، فإن كان التمليك بعوض فهي عقود المعاوضات كالبيع والإجارة، والصرف والصلح، والقسمة، والاستصناع، والمزارعة والمساقاة، والزواج، ونحوها مما فيه معاوضة ومبادلة بين طرفين.
وإن كان التمليك مجاناً بغير عوض فهي عقود التبرعات، كالهبة والصدقة والوقف والإعارة وحوالة الدين.
وقد يكون التبرع في ابتداء العقد كالقرض والكفالة بأمر المدين، والهبة بشرط العوض، ثم يلزم الطرف الآخر بدفع البدل، فهي تبرع ابتداءً، معاوضةٌ انتهاءً.
2 - الإسقاطات: وهي ما يقصد بها إسقاط حق من الحقوق، سواء ببدل، أم بدون بدل.
فإن كان الإسقاط بدون بدل من الطرف الآخر فهو الإسقاط المحض، كالطلاق المجرد عن المال، والعفو عن القصاص، والإبراء عن الدين، والتنازل عن حق الشفعة. وإن كان الإسقاط ببدل أو عوض من الطرف الآخر، فهو إسقاط المعاوضة، كالطلاق على مال، والعفو عن القصاص بالدية.
3 - الإطلاقات: وهي إطلاق الشخص يد غيره في العمل، كالوكالة وتولية الولاة والقضاء، والإذن للمحجور عليه بالتصرف أو للصغير المميز بالتجارة، والإيصاء: وهو أن يعهد شخص لآخر في أن يتولى شؤون أولاده القصر بعد وفاته.(4/598)
4 - التقييدات: وهي منع الشخص من التصرف، كعزل الولاة والقضاة، ونظار الوقف، والأوصياء، والقوام على المحجور عليهم، والوكلاء، وحجر الشخص عن التصرف بسبب الجنون أو العته أو السفه أو الصغر.
5 - التوثيقات: (أو التأمينات أوعقود الضمان) : وهي التي يقصد بها ضمان الديون لأصحابها وتأمين الدائن على دينه، وهي الكفالة والحوالة والرهن.
6 - الاشتراك: وهي التي يقصد بها المشاركة في العمل والربح، كعقود الشركات بأنواعها، ومنها المضاربة: وهي أن يدفع شخص لآخر مبلغاً من المال ليتجر فيه على أن يشتركا في الربح، والخسارة على رب العمل. ومنها المزارعة (تعهد الأرض بالعناية) والمساقاة (تعهد الأشجار بالسقي ونحوه) .
7 - الحفظ: وهي التي يراد منها حفظ المال لصاحبه، كعقد الإيداع، وبعض خصائص الوكالة.
التقسيم الرابع ـ بالنظر إلى العينية وعدمها:
تنقسم العقود إلى عينية وغير عينية.
فالعقد العيني: هو الذي لا بد فيه لتمام انعقاده وترتيب أثره من تسليم الشيء المعقود عليه عيناً. وهو يشمل عقوداً خمسة: هي الهبة والإعارة والإيداع والرهن والقرض (1) . فهذه العقود لا بد لتمامها وترتب أثرها عليها من قبض المعقود عليه؛ لأن هذه العقود ما عدا الرهن من التبرعات، والتبرع إحسان، فلا بد له من شيء يؤكده، وهو القبض. وأما الرهن أي الرهن الحيازي فإنه شرع موصوفاً بالقبض في قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة:283/2] والقبض عند الحنفية: يتم بالتخلية أي بأن يخلي المالك بين المعقود عليه والطرف الآخر، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن الآخر من الحيازة والتصرف في الشيء (2) .
والعقد غير العيني: هو الذي يتم بمجرد الصيغة السليمة من العيوب ويترتب عليه أثره بدون حاجة إلى القبض. وهذا يشمل جميع العقود ماعدا العقود الخمسة السابقة.
__________
(1) يشترط منعاً من الوقوع في الربا والاستغلال قبض كل من العوضين في مجلس العقد في مبادلة الأموال الربوية ببعضها (وهي عند الحنفية كل ما يباع كيلاً أو وزناً) كبيع النقود ببعضها وهو عقد الصرف، وكبيع الحنطة بالحنطة أو الحنطة بالشعير. ويشترط أيضاً قبض الثمن (رأس مال السلم) في عقد السلم: وهو بيع آجل بعاجل كبيع المنتجات الزراعية قبل حصادها في الموسم، وذلك في مجلس العقد ذاته.
(2) البدائع: 244/5. وقال المالكية والشافعية: قبض العقار كالأرض والدور يتم بالتخلية، وقبض المنقول كالأمتعة والدواب يتم بحسب العرف الجاري بين الناس (الشرح الكبير للدردير: 145/3، المجموع:301/9-309، المهذب: 263/1) وقال الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، ويرجع فيه إلى العرف (المغني: 111/4 ومابعدها) .(4/599)
التقسيم الخامس ـ باعتبار اتصال الأثر بالعقد وعدم اتصاله:
ينقسم العقد بحسب ترتب أثره عليه بمجرد انعقاده وعدم ترتب أثره في الحال إلى أنواع ثلاثة: هي منجز، ومضاف، ومعلق.
1 - العقد المنجز: وهو ما صدر بصيغة غير معلقة على شرط ولا مضافة إلى المستقبل. وحكمه: ترتب الآثار عليه في الحال ما دام مستوفياً لأركانه وشروطه المطلوبة فيه. مثل: بعتك هذه الأرض بكذا، وقبل الآخر. يترتب على هذا البيع تحقق أثره عليه في الحال: وهو انتقال الملكية في العوضين.
والأصل في العقود التنجيز في الحال أي أن آثارها تترتب عليها فور إنشائها ما عدا الوصية والإيصاء، فلا يمكن بطبيعتهما أن يكون ناجزين، لإضافتهما حتماً لما بعد وفاة الموصي. أما الوصية: فهي تمليك مضاف لما بعد الموت بالتبرع بشيء لجهة أو شخص ما. وأما الإيصاء: فهو إقامة وصي على أبنائه القاصرين بعد وفاة الولي.
2 - العقد المضاف للمستقبل: ما صدر بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل. مثل: آجرتك داري لسنة من مطلع الشهر القادم. أنتِ طالق غداً أو بعد أسبوع.(4/600)
وحكمه: أنه ينعقد في الحال، ولكن أثره لا يوجد إلا في الوقت المحدد الذي أضيف إليه.
العقود بالنسبة للإضافة:
العقود عند الحنفية بالنسبة لقبولها الإضافة أو عدم قبولها ثلاثة أنواع:
الأول ـ عقود لا تكون إلا مضافة بطبيعتها: وهي الوصية والإيصاء كما تقدم، سواء أكانت منجزة مثل: أوصيت بكذا للفقراء أو لمسجد البلدة، أم معلقة مثل: إن نجحت في المشروع الفلاني فقد أوصيت بمبلغ كذا للمشفى الفلاني. فإذا تحقق النجاح، لم يثبت حكم الوصية إلا بعد الوفاة.
الثاني ـ عقود لا تقبل الإضافة، وإنما تكون دائماً ناجزة: وهي عقود تمليكات الأعيان، كالبيع والهبة والصلح على مال والإبراء عن الدين. ويلحق بها الزواج والشركة والقسمة والرجعة؛ لأنها تتطلب شرعاً ثبوت آثارها في الحال، فإذا أضيفت للمستقبل تأخرت آثارها عنها، وذلك ينافي أصل وضعها الشرعي. فالبيع يوجب نقل الملكية في الحال، والزواج يفيد حل الاستمتاع حالاً، فلا يصح تأخير الأثر عنهما.
الثالث ـ عقود تصح منجزة ومضافة للمستقبل: فإذا كانت منجزة ترتب عليها أثرها في الحال،، وإن كانت مضافة تأخر أثرها إلى زمن الإضافة، وهي (1) :
أولاً ـ العقود الواردة على المنافع: كالإجارة والإعارة والمزارعة والمساقاة.
ثانياً ـ الالتزامات أو التوثيقات: كالكفالة والحوالة.
ثالثاً ـ الإطلاقات: كالوكالة والقضاء والوظائف والإدارات والإذن بالتجارة.
رابعاً ـ الإسقاطات: كالطلاق والخلع من جانب الزوج، والوقف.
3 - العقد المعلق على شرط: هو ما صدر معلقاً وجوده على أمر آخر بأحد أدوات الشرط. مثل: إن سافرت فأنت وكيلي. إذا قدم فلان من الحجاز فقد بعتك الشيء الفلاني.
ويختلف المعلق على شرط عن المضاف للمستقبل في أن العقد المعلق لا ينعقد إلا حين وجود الشرط المعلق عليه. أما المضاف للمستقبل فهو منعقد في الحال، ولكن آثاره لا يسري مفعولها إلا في المستقبل المضاف إليه.
__________
(1) تبيين الحقائق: 134/4.(4/601)
العقود بالنسبة للتعليق عند الحنفية:
تنقسم العقود من هذه الناحية إلى ثلاثة أنواع هي (1) :
النوع الأول ـ عقود لا تقبل التعليق وهي:
أولاً ـ التمليكات المالية ما عدا الوصية، سواء أكانت واردة على الأعيان كالبيع والإبراء، أم على المنافع كالإجارة والإعارة، بطريق المعاوضة أم بطريق التبرع كالهبة؛ لا يصح تعليقها على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن الملكية لا بد أن تكون مستقرة جازمة لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار.
ثانياً ـ المبادلات غير المالية: كالزواج والخلع لا يصح تعليقهما على شرط، مثل: تزوجتك إن نجحت في شهادة كذا، وخالعتك إن رضي أخي؛ لأنه لا بد من تحقق أثرها في الحال.
ثالثاً ـ التقييدات كالرجعة وعزل الوكيل والحجر على الصبي المأذون له في التجارة.
رابعاً ـ الرهن والإقالة (فسخ العقد بالتراضي) : لا يصح تعليقهما، مثل: رهنتك هذه الدار إن رضي والدي. أقلتك من البيع إن وجدت مشترياً بثمن أعلى.
وقد عرفنا سابقاً في بحث حرية الاشتراط أن ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة قالا: يصح تعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات بالشروط ولا يمنع منها إلا ما ورد بالنهي عنه نص من الشارع.
النوع الثاني ـ عقود يصح فيها التعليق بأي شرط ملائم أم غير ملائم وهي:
أولاً ـ الإسقاطات المحضة: كالطلاق والتنازل عن حق الشفعة.
ثانياً ـ الوكالة والوصية والإيصاء.
ثالثاً ـ الالتزامات التي يراد منها تقوية إرادة الملتزم، كالنذر واليمين، مثل: إن نجحت في الامتحان فلله علي صوم أسبوع ولأتصدقن بمبلغ كذا. ووالله لأفعلن كذا إن انتصرنا على العدو.
النوع الثالث ـ عقود يصح تعليقها بالشرط الملائم دون سواه. وهي الكفالة والحوالة والإذن للصبي بالتجارة.
__________
(1) المرجع السابق، الدر المختار: 277/4، فتح القدير: 404/5.(4/602)
والشرط الملائم: هو ماكان مناسباً لمقتضى العقد، عرفاً أو شرعاً، بأن يكون أساساً لوجوده، أو سبباً لثبوت الحق، مثل: إن أقرضت فلاناً فأنا كفيله، إن لم أدفع دينك بعد شهر فقد أحلتك به على فلان، إن أحسنت التجارة فقد أذنت لك بها.
أما غير الملائم فمثل: إن نزل المطر فقد كفلت فلاناً، أو أحلتك بدينك على فلان، أو أذنت لك بالتجارة، وإن نجح ابني في شهادة كذا فقد كفلتك. فمثل هذه الشروط غير المفيدة أو التي لا يظهر فيها غرض صحيح تعد نوعاً من العبث أو الهزل واللهو، ولا تصح العقود مع الهزل.
المبحث السادس ـ الخيارات
عرفنا في المبحث السابق أن العقد اللازم: هو الخالي من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله.
ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الحق في إمضاء العقد أو فسخه، إن كان الخيار خيار شرط أو رؤية أو عيب. أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الخيار خيار تعيين.
والخيارات سبعة عشر، سأجمل هنا الكلام عن ستة منها فقط، هي خيار المجلس، وخيار التعيين، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. وقد شرعت الخيارات إما ضماناً لرضا العاقدين أو حفظاً لمصلحتهما، أو دفعاً للضرر الذي قد يلحق أحد العاقدين، فهي مشروعة للضرورة أو للحاجة إليها.
ومصدر الخيارات: إما اتفاق العاقدين كخيار الشرط وخيار التعيين. وإما حكم الشرع، كخيار العيب وخيار الرؤثة. وقد يعتبر خيار العيب ثابتاً باشتراط المتعاقد ضمناً لا صراحة.
خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة:
خيار المجلس: هو أن يكون لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في مجلس العقد، لم يتفرقا بأبدانهما، أو يخير أحدهما الآخر فيختار لزوم العقد.(4/603)
ومعنى هذا أن العقد لا يلزم إلا بإنهاء مجلس العقد بالتفرق أو بالتخيير. وليس ذلك في كل العقود وإنما في العقود اللازمة من الجانبين فقط القابلة للفسخ وهي عقود المعاوضات المالية كالبيع بأنواعه وصلح المعاوضة والإجارة؛ لأن الدليل المثبت له وهو الحديث ورد في البيع، فيقاس عليه ما في معناه من عقود المعاوضات (1) .
وقد انقسم الفقهاء في شأنه فريقين:
1 - فقال الحنفية والمالكية (2) : يلزم العقد بالإيجاب والقبول، ولا يثبت فيه خيار المجلس؛ لأن الله أمر بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] والخيار مناف لذلك، فإن الراجع عن العقد لم يف به، ولأن العقد يتم بمجرد التراضي، بدليل قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] والتراضي يحصل بمجرد صدور الإيجاب والقبول، فيتحقق الالتزام من غير انتظار لآخر المجلس.
ولم يأخذوا بالأحاديث الواردة في إثبات خيار المجلس لمنافاتها لعموم الآيات القرآنية المذكورة. وتأول الحنفية حديث خيار المجلس «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» بأنه وارد في مرحلة ما قبل تمام العقد. فالبيعان: معناه المتساومان قبل العقد، إن شاءا عقدا البيع، وإن شاءا لم يعقداه، والمراد بالتفرق: هو التفرق بالأقوال لا بالأبدان، أي أن للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، وللآخر الخيار، إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول أو الرجوع.
ولكن يلاحظ أن هذا التأويل لا معنى له؛ لأن كل عاقد قبل إبرام العقد حر في القبول وعدمه، ويجعل (أي هذا التأويل) الحديث عديم الفائدة، فلا حاجة للمشرع لإثبات مبدأ حرية الإنسان فيما يلتزم، فهو أصل عام، والأصل في كل إنسان عدم الالتزام. فإذا لم يقبل الذي وجه له الإيجاب لا يسمى ذلك تفرقاً وإنما اختلافاً.
__________
(1) المجموع للنووي: 186/9 ومابعدها، ط العاصمة.
(2) البدائع: 134/5، فتح القدير: 78/5، بداية المجتهد: 169/2 ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 81/3، القوانين الفقهية: ص274، المنتقى على الموطأ: 55/5.(4/604)
وحديث خيار المجلس لا يعارض آية الأمر بالوفاء بالعقود؛ لأن المراد
بالعقود هي الكاملة اللازمة التي لا خيار فيها، ولا يعارض أيضاً آية {تجارة عن تراض} [النساء:29/4] ؛ لأن هذا الخيار مشروع للتأكد من تمام التراضي.
2 - وقال الشافعية والحنابلة المثبتون لخيار المجلس (1) : إذا انعقد العقد بتلاقي الإيجاب والقبول يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في مجلس العقد. ويكون لكل من العاقدين الخيار في فسخ العقد أو إمضائه، ما داما مجتمعين في المجلس لم يتفرقا بأبدانهما، أو يتخايرا. ويحد طبيعة التفرق: العرف الشائع بين الناس في التعامل (2) ، وهذا هو خيار المجلس.
واستدلوا على مشروعيته بالحديث الصحيح الثابت برواية البخاري ومسلم وهو أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» (3) أي اختر اللزوم. وأما التفرق فهو أن يتفرقا بأبدانهما، فلو أقاما في ذلك المجلس مدة متطاولة كسنة أو أكثر، أو قاما وتماشيا مسافة، فهما على خيارهما، كما قال النووي. والرجوع في التفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقا فهو تفرق ملزم للعقد، وما لا فلا (4) .
__________
(1) مغني المحتاج: 43/2، 45، المهذب: 257/1، المغني: 563/3، المجموع: 196/9، ط العاصمة.
(2) قال الحنابلة والشافعية: يكون التفرق إما بالمشي أو بالصعود أو بالنزول، أو بالخروج من المكان (غاية المنتهى: 30/2، المجموع للنووي: 192/9) .
(3) سبل السلام: 3/33 ومابعدها. قال ابن رشد المالكي: وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها. وأثبت ابن حزم في المحلى تواتره أي رواية جمع غفير له.
(4) أخذ على هذا الرأي كونه يزعزع من قوة العقد الملزمة، وهو مبدأ خطير من أهم المبادئ القانونية (مصادر الحق للسنهوري: 37/2) .(4/605)
خيار التعيين:
خيار التعيين (1) : هو أن يكون للعاقد حق تعيين أحد الأشياء الثلاثة المختلفة في الثمن والصفة التي ذكرت في العقد. فإذا عين الواحد صار محل العقد معلوماً بعد أن كان مجهولاً بعض الجهالة.
وهو لا يثبت إلا في عقود المعاوضات المالية التي تفيد نقل ملكية الأعيان كالبيع، والهبة بعوض، والقسمة ونحوها.
ولا يثبت هذا الخيار إلا للمشتري فقط، على الرأي الراجح عند الحنفية.
وقد اختلف الفقهاء في مشروعيته، فمنعه الشافعي وأحمد وزفر من الحنفية لجهالة المبيع، والمبيع يشترط أن يكون معلوماً.
وأجازه أبو حنيفة وصاحباه استحساناً لحاجة الناس إليه، إذ قد يكون الشخص غير خبير بأحوال المشتريات، فيحتاج إلى استشارة غيره ليأخذ الأرفق والأوفق له. وقد يحتاج الشخص إلى توكيل غيره بالشراء ويرغب في رؤية الشيء المشترى، ولا يوافق التاجر على إخراج البضاعة من محله إلا بشراء واحد من اثنين أو ثلاثة (2) . وهذا معنى معقول وواقعي، محقق لمصلحة التاجر لكي تصبح البضاعة المقبوضة مضمونة لا مجرد أمانة، ونافع للمشتري لتحقيق رغبته وميوله، وليس في جهالة المبيع خطورة، لأنها لا تفضي إلى النزاع، لتعيين ثمن كل صنف على حدة.
__________
(1) راجع أحكام خيار التعيين في المواد (316 - 329) من المجلة.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي: 21/4، البدائع: 261/5.(4/606)
شروطه:
اشترط الحنفية القائلون بخيار التعيين شروطاً ثلاثة لصحته وهي (1) :
1 - أن يكون الخيار بين ثلاثة أشياء على الأكثر؛ لأن أصناف الأشياء تتراوح عادة بين الجيد والوسط والرديء، فما زاد عن الثلاثة لا يصح فيه الخيار، لعدم الحاجة إليه.
2 - أن تكون الأشياء متفاوتة القيمة أو الوصف، وثمن كل منها محدد معين، فإن كانت الأشياء متحدة القيمة أو الوصف فلا معنى للخيار بينها. وإذا كان الثمن غير محدد لكل منها، كان مجهولاً، وجهالة الثمن تفسد البيع.
3 - أن تكون مدة الخيار معلومة، لا تزيد عن ثلاثة أيام عند أبي حنيفة كخيار الشرط، فإن زادت على ذلك فسد العقد.
وقال الصاحبان: يكفي أن تكون المدة معلومة، وإن زادت عن ثلاثة أيام.
أثر خيار التعيين:
إذا اقتصر المشتري على ذكر خيار التعيين بدون خيار الشرط، كان العقد لازماً تثبت به ملكية أحد الأشياء، وينحصر دور المشتري في اختيار أحد الأشياء التي اشتراها. وإن مات المشتري ورثه ورثته في ممارسة حق الاختيار.
فإن انضم إلى خيار التعيين خيار الشرط كان العقد غير لازم، ولا يورث حق الخيار حينئذ، ويحق للمشتري رد العقد بكامله (2) .
__________
(1) الزيلعي: 21/4، البدائع: 261/5، فتح القدير: 130/5 ومابعدها.
(2) البدائع: 261/5، 268، فتح القدير: المكان السابق، و133.(4/607)
انتهاء خيار التعيين:
ينتهي خيار التعيين إما صراحة أو دلالة أو حكماً، كأن يقول: قبلت هذا الشيء دون غيره، أو تصرف في أحد الأشياء تصرفاً يدل على أنه اختاره. أو هلك أحد الأشياء في يد المشتري بعد القبض، فيتعين الهالك مبيعاً، وعليه ثمنه، والآخر يكون أمانة في يده يجب رده إلى صاحبه (1) .
خيار الشرط
خيار الشرط (2) : هو أن يكون لأحد العاقدين أو لكليها أو لغيرهما الحق في فسخ العقد أو إمضائه خلال مدة معلومة، كأن يقول المشتري للبائع: اشتريت منك هذا الشيء على أني بالخيار مدة يوم أو ثلاثة أيام.
وشرع للحاجة إليه لدفع الغبن عن العاقد في العقود.
ويثبت فقط في العقود اللازمة القابلة للفسخ بتراضي الطرفين، ولو كان لزومها من جانب واحد، وذلك كالبيع والإجارة، والمزارعة والمساقاة، والشركة ومنها المضاربة، والقسمة، والكفالة والحوالة، والرهن إذا اشترطه الراهن للزوم العقد من جانبه، ولا حاجة للمرتهن لاشتراطه؛ لأن العقد بالنسبة إليه غير لازم.
أما العقود غير اللازمة كالوكالة والإعارة والإيداع والهبة والوصية فلا حاجة فيها لاشتراط الخيار، لأنها بطبيعتها غير لازمة.
وأما العقود اللازمة التي لا تقبل الفسخ كالزواج والخلع والطلاق فلا يصح اشتراط الخيار فيها، لأنه يتعذر فسخها.
كذلك لا يصح اشتراط الخيار في عقد ي السلم والصرف؛ لأن السلم يشترط لصحته قبض رأس مال السلم في مجلس العقد، والصرف يشترط فيه قبض البدلين في المجلس. وخيار الشرط يقتضي تأخير القبض عن المجلس وإذا تأخر القبض عن المجلس فسد العقد، فلا يصح اشتراط
__________
(1) البدائع: 261/5 ومابعدها، فتح القدير: 132/5.
(2) راجع أحكام خيار الشرط في المواد (300-309) من مجلة الأحكام العدلية.(4/608)
خيار فيهما (1) .
مدة الخيار: اتفق جمهور الفقهاء غير المالكية على أن مدة الخيار المشروط ينبغي أن تكون معلومة، فإن لم تكن له مدة، أو كانت المدة مجهولة، أو كان الخيار مؤبداً لم يصح العقد، وكان فاسداً عند الحنفية (2) ، وباطلاً عند الشافعية والحنابلة (3) .
وقال الإمام مالك: يجوز الخيار المطلق بدون تحديد مدة، ويحدد الحاكم له مدة كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في مثله مقدر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد. ويفسد العقد باشتراط مدة زائدة على المعتاد بكثير أي بعد يوم، أو بشرط مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء (4) .
ثم اختلف الفقهاء في مقدار مدة الخيار على ثلاثة أقوال:
1 - فقال أبو حنيفة وزفر والشافعي (5) : إنها لا تزيد على ثلاثة أيام، عملاً بمقتضى الحديث الذي ثبتت به مشروعية هذا الخيار، وهو حديث حَبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 50/4 ومابعدها.
(2) البدائع: 174/5، رد المحتار: 49/4.
(3) المهذب: 259/1، المغني: 589/3.
(4) بداية المجتهد: 108/2، الشرح الكبير: 95/3.
(5) المبسوط: 40/13 ومابعدها، البدائع: 174/5، فتح القدير: 110/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 47/2، المجموع:201/9.(4/609)
بايعت فقل: لا خلابة (1) ، ولي الخيار ثلاثة أيام» فهذا الخيار شرع استثناء لدفع الغبن عن الناس، فيقتصر فيه على مورد النص، والنص جعل المدة ثلاثة أيام، فلا يزاد عليها، ولأن الحاجة تتحقق بالثلاث غالباً.
فلو زاد عليها فسد العقد عند أبي حنيفة وزفر، ويعود صحيحاً عند أبي حنيفة إذا ارتفع سبب الفساد بإجازة العقد في مدة الأيام الثلاثة، وعند زفر: الفاسد من العقود لا يعود صحيحاً بحال. ويبطل العقد عند الشافعي.
2 - وقال الصاحبان والحنابلة (2) : تكون مدة الخيار بحسب اتفاق العاقدين، ولو كانت أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن الخيار شرع للتروي والمشورة، وقد لا تكفي الأيام الثلاثة. والتحديد المذكور في حديث حبان كان كافياً بالنسبة له بتقدير الرسول صلّى الله عليه وسلم. وما يكون كافياً لشخص قد لا يكفي لغيره، فلا يكون هذا التحديد ما نعاً من الزيادة على المدة المذكورة.
3 - وقال المالكية (3) : يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، فالفاكهة لا يجوز الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب والدواب: ثلاثة أيام، والأرض البعيدة: أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها: شهر؛ لأن المفهوم من الخيار هواختبار المبيع، وإمكان الاختبار يختلف بحسب المبيعات، تحقيقاً لحاجة العقد.
وتبدأ مدة الخيار بعد العقد مباشرة.
أثر خيار الشرط:
لخيار الشرط أثران: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه.
أما الأثر المتفق عليه: فهوجعل العقد غير لازم بالنسبة لمن له الخيار. فيجوز له الفسخ في مدة الخيار، وإمضاء العقد، وإذا مضت المدة بدون فسخ أو إمضاء سقط خياره ولزمه العقد.
ويصح الفسخ والإمضاء بالقول الدال عليه مثل: أجزت العقد أو أمضيته، أو رضيت به، أو فسخته، كما يصح بالفعل الدال علىه أو المتضمن له، كالتصرف في المبيع بالبيع أو الإجارة أو الرهن أو الإعارة، سواء من البائع إذا كان له الخيار، أو من المشتري صاحب الخيار.
__________
(1) أي لا خديعة ولا غبن أي لا يحل لك خديعتي ولا تلزمني خديعتك، والحديث رواه الحاكم والبيهقي والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك في الموطأ عن ابن عمر (سبل السلام: 35/3، نيل الأوطار: 182/5) .
(2) المبسوط: 41/13، فتح القدير: 111/5، البدائع: 174/5، المغني:585/3، غاية المنتهى: 30/2.
(3) بداية المجتهد: 207/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 91/3، 95، القوانين الفقهية: ص273.(4/610)
ويشترط لصحة الفسخ شرطان (1) :
1 - أن يكون في مدة الخيار، لأن العقد يلزم بمضي مدة الخيار بلا فسخ من صاحب الخيار.
2 - علم الطرف الآخر بالفسخ إذا كان الفسخ قولياً عند أبي حنيفة ومحمد منعاً من إلحاق الضرر به، فإنه إذا كان بائعاً قد يسكت عن البحث عن مشتر آخر، اعتماداً على أن المشتري لم يفسخ العقد، وفي هذا ضرر به، وإذا كان مشترياً فقد يتصرف في المبيع ظناً منه أن البائع لم يفسخ العقد، فيلحقه الضمان، وفي هذا ضرر به، وبالعلم بالفسخ يمتنع لحوق هذا الضرر.
أما الفسخ الفعلي فلا يشترط فيه علم الطرف الآخر به لأنه أمر حكمي، ولا يشترط العلم في الفسخ الحكمي كعزل الوكيل والشريك والمضارب بارتداده ولحاقه بدار الحرب، أو جنونه جنوناً مطبقاً.
ولايشترط علم الطرف الآخر بإجازة العقد.
وقال أبو يوسف والحنابلة (2) : لا يشترط علم الطرف الآخر بالفسخ أيضاً؛ لأن القبول بالخيار يدل على تسليط صاحب الخيار على الفسخ، سواء علم الآخر أم لم يعلم.
وأما الأثر المختلف فيه: فهو عدم ترتب أثر العقد عليه.
وهذا عند الحنفية (3) والمالكية (4) فالخيار عند هؤلاء مانع من ترتب آثار العقد، فلا تنتقل الملكية عند أبي حنيفة في كلا البدلين إذا كان الخيار للعاقدين أثناء مدة الخيار، أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في ملك البائع؛ لأن الخيار موجود في جانبي البائع والمشتري.
وإذا كان الخيار للبائع وحده لا تنتقل ملكية المبيع عنه، ويخرج الثمن عن ملك المشتري؛ لأن العقد لازم في حقه، ولكن لا يدخل في ملك البائع، حتى لا يجتمع البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، لمنافاته لمبدأ التعادل بين العاقدين.
وقال الصاحبان: يدخل الثمن في ملك البائع؛ لأن الشيء لا يصح أن يكون بلا مالك.
__________
(1) البدائع: 273/5، تبيين الحقائق: 18/4.
(2) المرجعان السابقان، غاية المنتهى: 31/2.
(3) البدائع: 264/5 ومابعدها، فتح القدير: 115/5 ومابعدها، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 51/4.
(4) الشرح الكبير مع الدسوقي: 103/3، القوانين الفقهية: ص 273.(4/611)
وإذا كان الخيار للمشتري وحده فلا يخرج الثمن عن ملكه، وأما المبيع فيخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه عند الصاحبين.
وقرر المالكية: أن ملك المبيع للبائع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار.
ووجهة هذا الفريق: أن من شرط الخيار لنفسه لم يتم رضاه بالعقد، والآثار لا توجد إلا مع الرضا التام.
وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الرأيين عندهم (1) : تترتب آثار العقد عليه في فترة الخيار، وتنتقل ملكية البدلين للطرفين المتعاقدين، سواء أكان الخيار للعاقدين أم لأحدهما؛ لأن العقد نافذ، فتترتب أحكامه (آثاره) عليه. وأثر الخيار محصور في منع اللزوم فقط.
وتظهر ثمرة الخلاف بين الفريقين في مؤونة (نفقة) المعقود عليه والزيادة فيه، فعلى رأي الحنفية والمالكية: تكون المؤونة في مدة الخيار على البائع والزيادة له. وعلى رأي الآخرين: تكون المؤونة على المشتري والزيادة له.
انتهاء خيار الشرط:
العقد المشتمل على الخيار غير لازم، وبانتهاء الخيار إما أن يزول العقد، أو يصبح لازماً. وينتهي الخيار بأحد الأمور التالية (2) :
1 - إمضاء العقد أو فسخه في مدة الخيار، سواء أكان ذلك بالقول أم بالفعل كما تقدم.
2 - مضي مدة الخيار دون إجازة (إمضاء) أو فسخ.
__________
(1) مغني المحتاج: 48/2، المهذب: 259/1، المغني: 571/3، غاية المنتهى: 32/2، القواعد لابن رجب: ص 377.
(2) البدائع: 267/5-272، المبسوط: 42/13-44، فتح القدير: 117- 125، الدر المختار: 52/4، 57.(4/612)
3 - هلاك المعقود عليه أو تعيبه في يد صاحب الخيار، فإن كان الخيار للبائع مثلاً بطل البيع وسقط الخيار، وإن كان الخيار للمشتري لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويجب على المشتري دفع الثمن، سواء أكان الهلاك أو التعيب بفعل المشتري أو بفعل البائع، أو بآفة سماوية.
4 - زيادة المعقود عليه في يد المشتري إذا كان الخيار له: زيادة متصلة متولدة منه كسمن الحيوان، أم غير متولدة منه كالبناء على الأرض وصباغة الثوب. أو زيادة منفصلة متولدة منه كولد الحيوان وثمرة البستان. أما الزيادة المنفصلة غير المتولدة منه كالأجرة فلا تبطل الخيار ولا تمنع الرد.
5 - موت المشروط له الخيار عند الحنفية والحنابلة (1) : لأن خيار الشرط كخيار الرؤية لا يورث عندهم لأنه حق شخصي خاص بصاحبه، ولا يتصور انتقال ذلك من شخص إلى آخر.
وقال المالكية والشافعية (2) : لا يسقط الخيار بالموت، بل ينتقل إلى الورثة؛ لأنه حق متعلق بالمال وهو المعقود عليه، وليس من الحقوق الشخصية، والحقوق المالية يجري فيها الإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» (3) .
__________
(1) المغني: 579/3، غاية المنتهى: 33/2.
(2) بداية المجتهد: 209/2، القوانين الفقهية: ص 273، المهذب: 259/1، مغني المحتاج: 45/2.
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب بلفظ: «من ترك مالاً فلورثته..» (نيل الأوطار: 62/6) .(4/613)
خيار العيب
خيار العيب (1) : هو أن يكون لأحد العاقدين الحق في فسخ العقد أو إمضائه إذا وجد عيب في أحد البدلين، ولم يكن صاحبه عالماً به وقت العقد.
فسبب هذا الخيار: هو ظهور عيب في المعقود عليه أو في بدله ينقص قيمته أو يخل بالغرض المقصود منه، ولم يكن صاحبه مطلعاً على العيب عند التعاقد، فسمي خيار العيب.
وثبوت هذا الخيار مشروط دلالة أو ضمناً؛ لأن سلامة المعقود عليه أو بدله مطلوبة للعاقد، وإن لم يشترطها صراحة. فإذا لم تتوافر السلامة اختل رضا العاقد بالعقد، والرضا أساس العقود، فشرع له الخيار لتدارك الخلل الحادث.
وإذا لم تتوافر السلامة لم يتحقق أيضاً مبدأ التعادل في التبادل الذي تقوم عليه عقود المعاوضات، فشرع هذا الخيار حفاظاً على مبدأ المساواة هذا.
وقد أثبت الشرع هذا الخيار لمن فوجئ بالعيب بأحاديث نبوية متعددة منها: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب، إلا بيَّنه له» (2) ، ومر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال: «من غشنا فليس منا» .
ويثبت خيار العيب وخيار الرؤية في العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ، كعقد البيع، والإيجار، وقسمة الأعيان والصلح على عوض عيني.
العيب الموجب للخيار: هو عند الحنفية والحنابلة (3) : كل ما يخلو عنه أصل
__________
(1) راجع أحكام العيب في المواد (336- 355) من المجلة.
(2) رواه ابن ماجه عن عقبة بن عامر (نيل الأوطار: 211/5) .
(3) فتح القدير مع العناية: 151/5، 153، البدائع: 274/5، الدر المختار وحاشيته: 74/4، المغني: 152/4، غاية المنتهى: 35/2.(4/614)
الفطرة السليمة ويوجب نقصان القيمة في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور، وهذا التعريف ذو معيار مادي. وعند الشافعية (1) ذو معيار شخصي، وهو: كل ما ينقص القيمة أو يفوت به غرض صحيح، كجماح الدابة، أو قطع شيء من أذن الشاة المشتراة للأضحية، أو ضيق الحذاء المشترى.
شروط ثبوت خيار العيب: يشترط لثبوت خيار العيب بعد الاطلاع على العيب شروط وهي (2) :
1 - وجود العيب قبل العقد، أو بعده قبل التسليم أي أن يكون قديماً. فلو حدث العيب بعد التسليم، أو عند المشتري لا يثبت الخيار.
2 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض. فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة.
3 - عدم اشتراط المالك البراءة عن العيوب في محل العقد، فلو شرط ذلك فلا خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه.
4 - ألا يزول العيب قبل الفسخ.
هذا ويلاحظ أن الحنفية صححوا البيع بشرط البراءة من كل عيب، وإن لم تعين العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان المشترط جاهلاً وجود العيب في المبيع أم عالماً بعيب المبيع. وسواء أكان العيب موجوداً قبل البيع أم حادثاً بعده قبل القبض. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد ومالك والشافعي وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل شرط
__________
(1) مغني المحتاج: 51/2.
(2) البدائع: 275/5 ومابعدها، فتح القدير: 153/5.(4/615)
البراءة: العيب الموجود عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود.
كذلك لا تصح البراءة عند المالكية والشافعية وفي رواية عند الحنابلة (1) إلا عن عيب لا يعلم به البائع، أما ما يعلم به فلا تصح البراءة عنه.
وقت خيار العيب: يثبت خيار العيب متى ظهر العيب ولو بعد العقد بزمن طويل. أما فسخ العقد بعد العلم بالعيب فوراً أو على التراخي ففيه رأيان للفقهاء:
قال الحنفية والحنابلة (2) : خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور. فمتى علم العيب فأخر الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا؛ لأن هذا الخيار شرع لدفع الضرر، فلا يبطل بالتأخير؛ ولأن الحقوق إذا ثبتت لا تسقط إلا بإسقاطها أوبانتهاء الوقت المحدد لها، وليس لهذا الحق وقت محدد.
وقال المالكية والشافعية (3) : يجب الفسخ على الفور بعد العلم بالعيب. والمراد بالفور: ما لا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة أو أكل ونحوه لا يعد متراخياً. والسبب في اشتراط الفور: هو ألا يلحق العاقد الآخر ضررمن التأخير، فإذا تأخر في رد المعقود عليه بدون عذر سقط حقه ولزم العقد.
حكم العقد المشتمل على خيار عيب:
حكم العقد أو أثره حال وجود شيء معيب: هو ثبوت الملك للمتملك في
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي: 123/3، القوانين الفقهية: ص 265، مغني المحتاج: 53/2، المغني:178/4، غاية المنتهى: 27/2.
(2) الدر المختار: 93/4، المغني: 144/4، غاية المنتهى: 41/2.
(3) مغني المحتاج: 56/2، المهذب: 274/1، الشرح الكبير مع الدسوقي: 120/3.(4/616)
محل العقد للحال؛ لأنه إذا لم تتوافر سلامة المعقود عليه تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛ لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم أو الأثر في مدةالخيار (1) .
وأثر خيار العيب هو جعل العقد غير لازم بالنسبة لمن ثبت له الخيار (2) ، فله إما الرضا بالمعقود عليه كما هو، وحينئذ يسقط الخيار ويلزم العقد، وإما رده إلى مالكه الأول، وحينئذ يبطل العقد.
وهل له الاحتفاظ بالمعقود عليه والمطالبة بفرق النقصان بسبب العيب؟
قرر الحنفية (3) : أنه ليس للمتملك الرجوع بنقصان العيب أو الحط من ثمن المبيع ما دام الرد ممكناً؛ لأن المالك لا يلزم بدفع قيمة النقصان إلا برضاه دفعاً للضرر عنه.
فإن تعذر الرد كان لصاحب الخيار الرجوع بالنقصان بشرط أن يكون امتناع الرد بسبب ليس لصاحب الخيار دخل فيه، كهلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب جديد، أو تغير صورته بحيث أصبح له اسم جديد، أو زيادته زيادة منفصلة متولدة منه، كالولد والثمرة، وذلك دفعاً للضرر بقدر الإمكان.
ويجوز الحط من قيمة المبيع لقاء العيب بتراضي الطرفين.
وطريقة معرفة النقصان: أن يقوَّم المعقود عليه سليماً من العيب، ثم يقوَّم على أنه معيب، ويكون الفرق بين القيمتين هو النقصان، فيرجع به. فإذا كانت قيمته سليماً ألفين، وقيمته معيباً ألفاً، رجع بنصف الثمن الذي تم به الشراء.
أما إذا كان امتناع الرد بسبب من جهة المشتري كأن باع الشيء أو وهبه أو وقفه لم يكن له الرجوع بالنقصان.
وكذلك إن رضي بالعيب صراحة أو دلالة ليس له الرجوع بالنقصان؛ لأن الرضا بالعيب كما يمنع الفسخ يمنع الرجوع بنقصان العيب، إذ به يتبين أن السلامة من العيب لم تكن مطلوبة.
كيفية فسخ العقد ورد المعقود عليه:
إذا كان المعقود عليه ما يزال في يد صاحبه أي قبل قبضه من الآخر، فينفسخ العقد بقول العاقد الآخر: (رددت) ، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي، باتفاق الحنفية والشافعية.
وأما إن قبضه المتملك فلا ينفسخ إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي عند الحنفية (4) لرفع النزاع الذي قد يقع بين العاقدين بسبب احتمال كون العيب جديداً عند القابض، فلا يوجب الرد، أو كونه قديماً عند المالك الأصلي، فيوجب الرد.
وقال الشافعية والحنابلة (5) : ينفسخ العقد بقول المتملك: (رددت) بغير حاجة إلى التراضي أو قضاء القاضي، كالفسخ بخيار الشرط أو خيار الرؤية؛ لأن خيار العيب يجعل العقد غير لازم بالنسبة لصاحب الخيار، وغير اللازم يجوز فسخه بغير حاجة إلى رضا العاقد الآخر، ولا إلى قضاء القاضي.
__________
(1) البدائع: 273/5.
(2) البدائع: 274/5.
(3) فتح القدير: 159/5، 164 ومابعدها، الدر المختار: 94/4، اللباب شرح الكتاب: 21/2، تبيين الحقائق: 34/4 ومابعدها، البدائع: 289/3.
(4) البدائع: 281/5.
(5) مغني المحتاج: 57/2، المهذب: 284/1، غاية المنتهى: 41/2.(4/617)
موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار:
يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم العقد بأسباب وهي ما يأتي (1) :
1 - الرضا بالعيب بعد العلم به: إما صراحة كقوله: رضيت بالعيب، أو أجزت العقد، أو دلالة كالتصرف في المعقود عليه تصرفاً يدل على الرضا بالعيب، كبيعه أو هبته أو رهنه أو إيجاره، أو استعماله بأي وجه كلبس وركوب، أو مداواته، أو صباغته وتفصيله شيئاً آخر، أو البناء على الأرض، أو طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو وصول عوض العيب إليه، ونحو ذلك؛ لأن الرضا بالعيب بعد العلم به دليل على أن سلامة المعقود عليه ليست مقصودة له، فلا يكون هناك معنى لإثبات الخيار له.
2 - إسقاط الخيار: صراحة كقوله: أسقطت خياري، أو دلالة كأن أبرأه من العيب الذي ظهر في المعقود عليه؛ لأن خيار العيب حقه فله أن يتنازل عنه.
3 - هلاك المعقود عليه، أو تعيبه بعيب جديد في يد صاحب الخيار، أو تغيره تغيراً تاماً، كطحن الحنطة، وخبز الدقيق، ونحوه.
4 - زيادة المعقود عليه في يد صاحب الخيار زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كالبناء أو الغرس على الأرض، وصبغ الثوب، أو زيادة منفصلة متولدة من الأصل كالولد والثمرة.
أما الزيادة المتصلة المتولدة من الأصل كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة غير المتولدة كالغلة والكسب، فلا تمنع الرد بالعيب.
وامتناع الرد في الصورة الأولى سببه تعذر فصل الزيادة، ولا يرد معها لأنها حق صانعها.
وامتناع الرد في الصورة الثانية، سببه أن المتملك لو ردَّ الأصل دونها، تبقى له دون مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا.
__________
(1) البدائع: 282/5-284، 291، الدر المختار وحاشيته: 82/4، 85-89، 94، 99، 101، 103، مجمع الضمانات: ص 219 ومابعدها، فتح القدير: 164/5.(4/618)
إرث خيار العيب:
اتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب وخيار التعيين، لتعلق الحق بذات المعقود عليه، فلو مات صاحب الخيار لم يسقط الخيار، وينتقل الحق لورثته؛ لأن المورث استحق المعقود عليه سليماً من العيب، ولزمه أحد الأشياء في خيار التعيين، فلا يجبر الوارث على أخذه معيباً، وإنما يثبت له ما ثبت لمورثه. وفي خيار التعيين يلزم الوارث بما لزم المورث.
وأما خيار الشرط وخيار الرؤية فلا يورثان عند الحنفية (1) خلافاً للمالكية والشافعية؛ لأن الخيار متعلق بإرادة العاقد ومشيئته، فهو من الحقوق الشخصية التي لاتقبل الانتقال من شخص لآخر بالوراثة (2) .
ومنشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور في إرث الخيار راجع إلى اختلافهم في إرث الحقوق.
قال الحنفية: الأصل أن يورث المال دون الحقوق، إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال.
وقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق والأموال، إلا إذا قام دليل على وجود اختلاف بين الحق والمال بالنسبة للإرث، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ترك حقاً أو مالاً فلورثته» .
__________
(1) ويوافقهم الحنابلة في عدم إرث خيار الشرط كما تقدم.
(2) البدائع: 268/5، بداية المجتهد: 209/2، المجموع للنووي: 196/9، حاشية الباجوري: 160/1، غاية المنتهى: 30/2، 33، المغني: 579/3.(4/619)
خيار الرؤية
خيار الرؤية (1) : هو أن يكون للمشتري الحق في إمضاء العقد أوفسخه عند رؤية المعقود عليه، إذا لم يكن رآه عند إنشاء العقد أو قبله بوقت لا يتغير فيه عادة.
فسبب هذا الخيار: عدم رؤية محل العقد حين التعاقد أو قبله، فإذا كان قد رآه سقط خياره.
وثبت هذا الخيار عند القائلين به بحكم الشرع من غير حاجة لاشتراطه في العقد، بخلاف خيار الشرط والتعيين، فإنهما مشروطان في العقد.
ويثبت كخيار العيب في العقود اللازمة التي تحتمل الفسخ كبيع الشيء المعين بالذات، والإجارة، وقسمة الأموال القيمية كالأراضي والدواب، والصلح على عين بعوض معين. أما بيع الشيء المعين بالوصف كما في عقد السلم (بيع آجل بعاجل) فلا يثبت فيه خيار الرؤية.
مشروعيته:
أجاز جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية) (2) خيار الرؤية في بيع العين الغائبة أو غير المرئية، بدليل ما يروى حديثاً: «من اشترى شيئاً لم
__________
(1) راجع أحكام خيار الرؤية في المجلة في المواد (320-334) .
(2) المبسوط: 69/13 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 137/5-140، البدائع: 292/5، رد المحتار: 68/4، بداية المجتهد: 154/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 25/3 ومابعدها. المغني: 580/3 ومابعدها. المحلى: 394/8.(4/620)
يره، فهو بالخيار إذا رآه» (1) ويؤيده أن عثمان بن عفان باع أرضاً له بالبصرة لطلحة ابن عبد الله رضي الله عنهما، ولم يكونا رأياها، فقيل لعثمان: غبنت، فقال: «لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره» . وقيل لطلحة إنك قد غبنت، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره» (2) فحكما في ذلك جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة.
وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد، فكان إقراراً منهم على شرعية هذا الخيار.
واحتجوا أيضاً بأن الشخص قد يحتاج إلى شراء شيء غائب عنه، يجعل له الخيار عند رؤيته دفعاً للضرر عنه حينما يجد المعقود عليه غير موافق لغرضه أو لمقصوده، وتحقيقاً لرضاه المطلوب في العقود.
وأما ما قد يكون من جهالة في المعقود عليه فلا تؤثر في صحة العقد، لأنها لا تفضي إلى النزاع بسبب إعطاء الخيار لمن لم ير محل العقد.
وقال الشافعي في المذهب الجديد (3) : لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان بالصفة، أم بغير الصفة، ولا يثبت خيار الرؤية؛ لأن في العقد غرراً وجهالة قد تفضي إلى النزاع بين العاقدين، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (4) . وأما حديث «من اشترى ما لم يره» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي أو باطل كما قال الدارقطني.
من يثبت له خيار الرؤية:
يثبت خيار الرؤية عند الحنفية والمالكية للمتملك، كالمشتري في البيع، والمستأجر في الإيجار، أما المملك فلا يثبت له هذا الخيار، وهو البائع والمؤجر، عملاً بما قضى به جبير بن مطعم بين عثمان وطلحة، ولأن المملك يعرف ما يملكه عادة، فلا ضرورة لثبوت الخيار له. فإذا باع ما لم يره، وهو أمر نادر، كان مقصراً في حق نفسه، فلا يستحق المطالبة بفسخ العقد. أما المتملك فلم يتمكن من رؤية محل العقد، ولا سبيل إليه، فكان من المصلحة منحه الخيار.
وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للمملك كالبائع إذا باع ما لم ير.
وقت ثبوت الخيار:
يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه، لا قبلها، فلو أجاز العقد قبل الرؤية، لا يلزم العقد، ولا يسقط الخيار، وله أن يرد المعقود عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية.
__________
(1) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند رواه الدارقطني عن أبي هريرة، والمرسل رواه ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن مكحول، وهو ضعيف (نصب الراية: 9/4) .
(2) أخرجه الطحاوي والبيهقي عن علقمة بن أبي وقاص (نصب الراية: 9/4) .
(3) مغني المحتاج: 18/2 ومابعدها، المهذب: 263/1.
(4) روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» (نيل الأوطار: 147/5) .(4/621)
أما لو فسخ العقد قبل الرؤية صح الفسخ، لا من أجل الخيار، وإنما لأن العقد غير لازم، وغير اللازم يجوز فسخه كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (1) .
شروط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار شروط، وإلا كان العقد لازماً وهي (2) :
1 - عدم رؤية محل العقد عند إنشاء العقد أو قبله بزمن لا يتغير فيه، فإن كان قد رآه قبل العقد لا يثبت له الخيار.
2 - أن يكون محل العقد عيناً معينة أو مشخصة من الأعيان كالأرض والدار والدابة والسيارة، إذا وصفت بما ينفي عنها الجهالة المفضية إلى النزاع؛ لأن للناس أغراضاً خاصة في الأعيان، فيثبت الخيار لينظر المتملك هل يصلح له أو لا؟ ويظل له الخيار ولو وافق الوصف عند الحنفية.
أما المعين بالوصف لا بالذات بأن كان ديناً موصوفاً في الذمة كالمسلم فيه (المبيع المؤجل لموسم الحصاد) فلا يثبت فيه خيار الرؤية؛ لأن المعقود عليه الموصوف إن وجد بأوصافه المتفق عليها لزم العقد، وإن تخلف وصف منها لم يتحقق لعدم وجود محله.
3 - أن يكون العقد مما يقبل الفسخ كما تقدم، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت فيهاخيار الرؤية.
أما ما لا يقبل الفسخ كالزواج والخلع والصلح عن دم العمد ونحوها، فلا يثبت فيها خيار الرؤية بسبب عدم رؤية المهر أو بدل الخلع أو عوض الصلح إذا كان شيئاً معيناً كدار وأرض معينة.
كيفية الرؤية:
الرؤية قد تكون لجميع المعقود عليه، أو لبعضه (رؤية الأنموذج) ، والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (3) . وذلك بأي حاسة
__________
(1) البدائع: 295/5.
(2) البدائع: 292/5 ومابعدها، 298، المبسوط: 72/13،77، فتح القدير: 298/5، الدر المختار: 70/4.
(3) البدائع: 293/5، الدر المختار وحاشيته: 68/4.(4/622)
من الحواس بحسب طبيعة محل العقد، فإن كان من المطعومات يكون العلم به بالذوق، وإن كان من المشمومات كالروائح كانت معرفته بالشم، وإن كان من الملموسات كالأقمشة كان العلم به باللمس. وإن كان من المرئيات كالدور والأراضي والحبوب كان العلم به بواسطة النظر بالنسبة للبصير.
أما الأعمى فهو كالبصير في غير المرئيات، وأما في المرئيات فيكتفى منه بوصف الشيء وصفاً كافياً. ويجوز عند الحنفية للبصير والأعمى التوكيل بالنظر والرؤية (1) .
وبناء عليه لا يكفي رؤية بعض حجُرات الدار، بل لا بد من رؤية بيوتها كلها، ورؤية كل الأرض والبستان ونحوهما. ولا يكفي رؤية شاة من قطيع، بل لا بد من رؤية القطيع كله.
وإذا كان الشيء يباع عددياً كالجوز والفجل والثياب فلا تكفي رؤية البعض، بل لابد من رؤية الكل.
وإذا كان الشيء من المثليات التي تباع كيلاً أو وزناً كالحبوب والأقطان أو كان مغيباً في الأرض كالثوم والبصل، فيكتفى برؤية بعض الأجزاء أو الوحدات، وهو المسمى بالبيع بالنموذج.
أثر خيار الرؤية:
يكون العقد الوارد على العين الغائبة أو غير المرئية غير لازم لمن ثبت له الخيار، فيخير بين الفسخ والإجازة عند رؤية المعقود عليه؛ لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف المعقود عليه تؤثر في رضا المتملك فيثبت له الخيار، سواء أكان المعقود عليه موافقاً للوصف المتفق عليه
__________
(1) البدائع: 295/5، فتح القدير: 145/5.(4/623)
أم مخالفاً له، وهذا مذهب الحنفية (1) .
وقال الحنابلة والمالكية والشيعة الإمامية (2) : العقد لازم للمتملك إذا وجد المعقود عليه مطابقاً للوصف المتفق عليه، فإن كان مخالفاً لما وصف، ثبت له الخيار.
وأما حكم العقد أو أثر الخيار: فلا يمنع نقل الملكية في البدلين، أي لا أثر لخيار الرؤية على العقد، فتنتقل ملكية المعقود عليه للمتملك، وملكية العوض للمالك فور تمام العقد بالإيجاب والقبول. وبهذا يختلف خيار الرؤية عن خيار الشرط عند الحنفية والمالكية، كما تقدم. وسبب التفرقة بينهما أن العقد في خيار الرؤية صدر مطلقاً غير مقيد بشرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، لكنه ثبت من جهة الشرع. أما خيار الشرط فقد ثبت باشتراط العاقدين، فكان له أثره في العقد يمنع استقرار حكمه في الحال.
كيفية فسخ العقد:
لا يتوقف الفسخ بخيار الرؤية على التراضي أو قضاء القاضي، ويكون بالقول وبالفعل صراحة أو دلالة، مثل فسخت العقد أو رددته، أو أن يتصرف بالمعقود عليه بالبيع أو الهبة ونحوهما، أو أن يهلك المعقود عليه قبل القبض (3) .
ويشترط للفسخ شروط هي (4) :
1 - أن يكون الخيار موجوداً، فإن سقط لزم العقد.
2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على المالك، برد بعض المعقود عليه وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في التفريق ضرراً به.
3 - أن يعلم المالك بالفسخ ليكون على بينة من أمره وأمر سلعته ليتصرف فيها كما يريد. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وأما أبو يوسف فلا يشترط ذلك، كما تقدم في خيار الشرط.
__________
(1) البدائع: 292/5، فتح القدير: 137/5.
(2) المغني: 582/3، القوانين الفقهية: ص 256، المختصر النافع: ص 146.
(3) البدائع: 298/5.
(4) البدائع: 298/5.(4/624)
مدة خيار الرؤية:
الأصح عند الحنفية (1) : أن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر إلى أن يوجد ما يسقطه، أي أنه لا يتوقت بوقت، بل متى ثبت فإنه يستمر إلى أن يحدث ما يسقطه؛ لأنه حق من الحقوق، والحقوق لا تسقط إلا بإسقاطها، أو بانتهاء الأمد المحدد لها، ولأن سببه اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه.
وقال الحنابلة (2) : يكون خيار الرؤية على الفور.
مايسقط به خيار الرؤية:
يسقط خيار الرؤية في الأصل بما يسقط به خيار الشرط وخيار العيب وهو ما يأتي (3) :
1 - ما يدل على الرضا بالعقد صراحة أو دلالة: فالصريح أن يقول: أجزت العقد أو أمضيته أو رضيت به ونحو ذلك. والدلالة على الرضا: أن يتصرف في المعقود عليه بعد الرؤية لا قبلها تصرفاً يدل على الإجازة والرضا بالعقد كقبض الشيء، والانتفاع به، وبيعه أو إجارته، أو رهنه أوهبته.
والسبب في اشتراط كون التصرف بعد الرؤية: هو أن الخيار حق أثبته الشارع بعد الرؤية، والحقوق لا تسقط قبل ثبوتها.
واستثناء من هذا المبدأ قالوا بسقوط الخيار ولو قبل الرؤية في البيع والإجارة والوقف، والرهن والهبة مع التسليم، ونحوها من التصرفات الباتة التي يترتب عليها حق للغير.
2 - هلاك محل العقد، أو تعيبه بعيب يمنع الرد، سواء أكان بفعل العاقد أم بفعل شخصي أجنبي عن العقد، أم بآفة سماوية.
3 - زيادة المعقود عليه بعد القبض زيادة تمنع الرد، وهي الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل كالبناء وصبغ الشيء، والزيادة المنفصلة المتولدة منه كالولد واللبن والصوف.
أما الزيادة المتصلة المتولدة منه كالسمن والكبر، والزيادة المنفصلة غير المتولدة منه كالغلة، فإنها لا تمنع الرد.
4 - موت صاحب الخيار، سواء قبل الرؤية أم بعدها. فلا يورث خيار الرؤية عند الحنفية والحنابلة (4) كخيار الشرط؛ لأن الخيار مجرد رغبة ومشيئة أو حق شخصي.
__________
(1) فتح القدير: 141/5، البدائع: 295/5، الدر المختار ورد المحتار: 67/4.
(2) المغني: 581/3.
(3) البدائع: 295/5- 297، فتح القدير: 141/5، 149.
(4) تبيين الحقائق: 30/4، غاية المنتهى: 33/2.(4/625)
وقال مالك (1) : يورث خيار الرؤية كما يورث خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث يثبت في الحقوق والأموال المملوكة على السواء.
وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ما ترك من مال وحقوق ومنها حق الخيار (2) .
خيار النقد
خيار النقد (3) : هو أن يتبايع اثنان على أنه إذا لم ينقد المشتري الثمن في مدة معينة، فلا بيع بينهما، فإذا نقد المشتري الثمن في المدة المحددة تم البيع، وإذا لم ينقده فيها كان البيع فاسداً.
ويصح أن يكون خيار النقد للبائع أيضاً، كما لو تبايع اثنان وقبض البائع الثمن، وقال: إذا رددت الثمن في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا، فإن رده فسد البيع، وإن لم يرده تم العقد.
وقد أجاز أبو حنيفة وصاحباه خلافاً لزفر هذا الخيار استحساناً لحاجة الناس إليه، ولأنه في الحقيقة نوع من خيار الشرط. ويؤيده أن ابن عمر أجازه (4) .
مدته: قال أبو حنيفة: أقصى مدة هذا الخيار ثلاثة أيام. وقال الصاحبان: يجوز إلى أربعة أيام فأكثر.
ولا يورث هذا الخيار عند الحنفية؛ لأنه حق شخصي. لكن إذا كان الاختيار للبائع في رد الثمن، فمات في أثناء المدة يلزم البيع بموته، لأنه تحقق عدم الرد بموته.
وإن كان الخيار للمشتري في نقد الثمن فمات في مدة الخيار، بطل البيع بموته، لأنه تحقق عدم نقد الثمن بموته، فيبطل العقد.
__________
(1) الشرح الصغير: 145/3.
(2) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا المرحوم محمد يوسف موسى: ص 477، 487.
(3) راجع أحكامه في المواد (313-315) من مجلة الأحكام العدلية.
(4) فتح القدير: 132/5، الدر المختار ورد المحتار: 51/4.(4/626)
المبحث السابع ـ انتهاء العقد:
ينتهي العقد إما بالفسخ، أو بالموت، أو بعدم الإجازة في العقد الموقوف، وانتهاء العقد بالفسخ له حالات. وأما الموت فقد تنتهي به بعض العقود.
انتهاء العقد بالفسخ:
فسخ العقد: قد يكون برفعه من أصله كما في حالة الخيارات وهو الإلغاء، وقد يكون بوضع نهاية له بالنسبة للمستقبل كما في الإعارة والإجارة، وهو الفسخ بالمعنى الشائع.
والفسخ في العقود غير اللازمة واضح، تقرره طبيعة العقد ذاته، سواء في العقود غير اللازمة من الجانبين كالإيداع والإعارة والشركة والوكالة، فلكل من الطرفين الفسخ متى أراد، ما لم يتعلق بالوكالة حق الغير، كما بان في بحث الوكالة، أم في العقود اللازمة من جانب، وغير اللازمة من الجانب الآخر، كالرهن والكفالة، فللمرتهن فسخ الرهن دون رضا الراهن. وللمكفول له وهو الدائن فسخ الكفالة دون رضا المدين.
وأما الفسخ في العقود اللازمة فله حالات وهي:
1 ً ـ الفسخ بسبب فساد العقد: إذا وقع العقد فاسداً كبيع المجهول أو البيع المؤقت بمدة، وجب فسخه إما من طريق العاقدين، أو من طريق القاضي، إلا إذا وجد مانع من الفسخ كأن يبيع المشتري ما اشتراه أو يهبه. وحينئذ يجب على المشتري دفع قيمة المبيع يوم قبضه، لا الثمن المتفق عليه.
ً2 ً ـ بسبب الخيار: يجوز لصاحب الخيار في خيار الشرط أو العيب أو الرؤية ونحوها فسخ العقد بمحض إرادته، إلا في خيار العيب بعد القبض عند الحنفية لا يجوز الفسخ فيه إلا بالتراضي أو بقضاء القاضي.
3 ً ـ بالإقالة: الإقالة هي فسخ العقد بتراضي الطرفين، إذا ندم أحدهما وأراد الرجوع عن العقد. وهي مندوبة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» (1) .
__________
(1) رواه البيهقي عن أبي هريرة، ورواه أيضاً ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 30/4) .(4/627)
4 ً ـ لعدم التنفيذ: يجوز الفسخ لعدم تنفيذ الطرف الآخر التزامه في حالة خيار النقد، كما تقدم. ويجوز الفسخ بسبب استحالة التنفيذ لآفة سماوية (قوة قاهرة أو ظروف طارئة بتعبير القانونيين) وذلك في عقد البيع في حالة هلاك المبيع قبل التسليم. أي في يد البائع قبل أن يتسلمه المشتري، وفي عقد الإجارة في حالة طروء أعذار من جانب المؤجر أو المستأجر أو العين المؤجرة عند الحنفية، كلحوق دين فادح بالمؤجر لا سبيل لوفائه إلا ببيع المأجور وأداء الدين من ثمنه، وإفلاس المستأجر، أو انتقاله من حرفة إلى حرفة، وهجرة أهل القرية بعد استئجار حمام في قرية ليستغله المنتفع المستأجر.
5 ً ـ لانتهاء مدة العقد أو تحقيق غرضه: ينفسخ العقد من نفسه وينتهي بانتهاء مدته أو بتحقيق الغرض المقصود من العقد، وذلك كانتهاء مدة عقد الإيجار المعينة، وسداد الدين في عقدي الرهن والكفالة، وتنفيذ الوكيل المهمة الموكل بها.
انتهاء العقد بالموت:
تنتهي طائفة من العقود بموت أحد العاقدين، منها نماذج مما يأتي:
1 - الإجارة: تنتهي الإجارة عند الحنفية (1) بموت أحد العاقدين، بالرغم من أنها عقد لازم من الطرفين، أي أن العقد ينفسخ من نفسه بالموت.
__________
(1) البدائع: 201/4، 222، تبيين الحقائق: 144/5، تكملة فتح القدير: 220/7.(4/628)
وقال غير الحنفية (2) : لا تنتهي الإجارة أو لا تنفسخ بموت أحد العاقدين. وسبب الخلاف راجع لتصور كيفية انعقاد الإجارة، فعند الحنفية: تنعقد الإجارة في المنافع بحسب حدوثها شيئاً فشيئاً، أي أن المستأجر يتملك المنفعة تدريجياً مع مضي المدة، فما يحدث من منفعة بعد موت المالك لا يكون مملوكاً له، فلا يصح بقاء العقد عليه. وعند غير الحنفية: تعتبر المنفعة كأنها موجودة حال العقد، ويتملك المستأجر المنافع بالعقد دفعة واحدة ملكاً لازماً، فيورث عنه، كما يورث الشيء المبيع، فتكون الإجارة كالبيع لا يبطل بموت أحد العاقدين. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (568) .
2 - الرهن والكفالة: هما من العقود اللازمة من جانب واحد هو الدائن المرتهن أو المكفول له. فإذا مات الراهن بيع الرهن بواسطة وصيه وقضي منه دينه إن كان ورثته صغاراً. فإن كانوا كباراً خلفوا الميت في المال، وكان عليهم تخليص الرهن بقضاء الدين (3) . وأما الكفالة: فإذا كانت كفالة بالدين فلا تنتهي بموت المدين الأصيل، وإنما تنتهي بأحد أمرين: أداء الدين إلى الدائن، أو الإبراء من
__________
(1) بداية المجتهد: 227/2، الشرح الكبير للدردير: 30/4، المهدب: 406/1، المغني: 456/5.
(2) الدر المختار: 369/5، ط الحلبي.(4/629)
الدين. وإذا مات الكفيل يؤخذ الدين من تركته. وإن كانت كفالة بالنفس فتنتهي بموت الأصيل المكفول بنفسه، وبموت الكفيل، للعجز عن إحضار المكفول عنه (1) .
3 - الشركة والوكالة: هما من العقود غير اللازمة من الجانبين. وينتهيان بالموت، فالشركة تنفسخ بموت أحد الشريكين، سواء علم الآخر بالموت أم لم يعلم (2) . وكذلك الوكالة تنفسخ بموت الوكيل أو الموكل، سواء علم الطرف الآخر بموت صاحبه أم لم يعلم (3) .
4 - المزارعة والمساقاة (4) : عقدان غير لازمين من الجانبين، لم يجزهما أبو حنيفة، وأجاز الشافعية المساقاة، والمزارعة تبعاً للمساقاة، وأجازهما المالكية بشروط منها المساواة بين المالك والعامل في الربح.
وأجازهما الحنابلة والصاحبان مطلقاً. وعلى هذا الرأي ينفسخ العقد بموت صاحب الأرض أو العامل (المزارع أوالمساقي) ، سواء قبل العمل والزراعة أم بعدهما، وسواء أكان الزرع أو الثمر قد آن حصاده وجنيه أم لا (5) . لكن إذا مات صاحب الأرض قبل نضج الزرع تترك الأرض بيد المزارع إلى الحصاد مراعاة لمصلحة الطرفين. وإذا مات العامل فلورثته المضي في العمل إلى الحصاد.
انتهاء العقد بعدم إجازة الموقوف:
ينتهي العقد الموقوف إذا لم يجزه صاحب الشأن، كما بان في بحث عقد الفضولي ولا تصح الإجازة كما عرفنا إذا مات الفضولي أو من تعاقد معه، فينتهي العقد حينئذ قبل الإجازة. وللفضولي نفسه فسخ العقد قبل الإجازة دفعاً للعهدة عن نفسه (6) .
__________
(1) البدائع: 11/6 ومابعدها، 13، الدر المختار: 261/4، 285.
(2) البدائع: 78/6، المبسوط: 212/11، فتح القدير: 34/5.
(3) البدائع: 38/6، تكملة فتح القدير والعناية: 126/6 ومابعدها، المبسوط: 13/19.
(4) المزارعة: عقد على زرع الأرض بنسبة معين شائعة من المحصول. والمساقاة: عقد على العناية بأشجار الفاكهة بنسبة معلومة شائعة من الناتج.
(5) البدائع: 185/6، الهداية: 45/4، 48، ط الخيرية، غاية المنتهى: 184/2.
(6) البدائع: 148/5، 151.(4/630)
الفَصْلُ الخامس: المؤيّدَات الشَّرعية
المؤيدات الشرعية: هي الأحكام أو التدابير التي شرعت لا لتنظيم علاقات الناس، وإنما لحمل الناس على طاعة أحكام الشريعةالأصلية (1) .
فالأحكام الأصلية: هي التي تنظم علاقات الناس بوضع الواجبات وبيان المحظورات. فهي غاية التشريع لإقامة مجتمع أخلاقي متضامن قوي سعيد. وضماناً لاحترام تلك الأحكام الأصلية شرعت المؤيدات: وهي الأحكام الموضوعة لحماية الأحكام الأصلية.
وهذه المؤيدات إما ترغيبية أو ترهيبية.
فالترغيبية: هي التي وضعت لترغيب الناس بتطبيق أحكام الشريعة كالمكافآت التشجيعية لمن يقدم للجماعة عوناً في أمر حربي يحقق النصر.
والترهيبية: هي التي وضعت لمنع الناس من مخالفة أوامر ونواهي الشريعة. وهذه نوعان: إما مؤيدات مدنية أو مؤيدات تأديبية. والمؤيد المدني أقوى تأثيراً من المؤيد التأديبي، وأشد منعاً للمخالفة بسلب التصرف نتائجه، واعتباره ملغى. أما المؤيد التأديبي فبالرغم من تأثيره الزاجر القامع للجريمة قد يتجرأ الناس على نظامه، فيقترفون الجريمة ويرضون بالعقوبة.
أولاً ـ المؤيدات المدنية:
يتمثل دور المؤيدات المدنية في إلغاء التصرف المخالف لنظام الشريعة، إما إلغاءً كلياً وهو البطلان، وإما إلغاءً فرعياً وهو الفساد، وإما وضعه في طريق الإلغاء: وهو التوقف حماية لمصلحة الغير، أو التخيير لسلب اللزوم عن العقد حماية لمبدأ التعادل أو التوازن، أو لتوفير الرضا السليم.
وقد سبق بحث هذه المؤيدات الأربعة (البطلان، الفساد، التوقف، التخيير) .
وأكتفي هنا ببيان أهم الفروق وأوجه التشابه بين البطلان والفساد:
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 309، 310.(4/631)
أهم الفروق بين البطلان والفساد:
تظهر الفوارق بين الباطل والفاسد فيما يأتي (1) :
1 - السبب: إن سبب البطلان هو وجود مخالفة لنظام الشريعة في ناحية جوهرية كالخلل الذي يصيب أحد مقومات العقد الأساسية (العاقد، والمعقود عليه، والصيغة) أو أحد شرائط الانعقاد، كصدور العقد من عديم الأهلية بسبب الصغر أو الجنون وعدم قابلية المحل المعقود عليه للتصرف كبيع الأموال العامة والأوقاف، والزواج بالمحارم، وعدم الإشهاد في عقد الزواج، وعدم تسليم المعقود عليه في العقود العينية كالهبة ونحوها.
أما سبب الفساد، فهو مخالفة العقد لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة.
وقد تبين أن أسباب الفساد ستة يمكن إيجازها في أربعة: وهي الجهالة الفاحشة، كبيع شاة من قطيع، وغرر الوصف كبيع بقرة على أنها حامل أو تحلب كذا رطلاً، والإكراه على رأي جمهور الحنفية (عدا زفر) الذين يعتبرونه مفسداً للعقد. وأما زفر فيعتبره موقفاً للعقد، ورأيه أوجه وأصح. والشرط المفسد في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار والشركة: وهو الشرط التقييدي الممنوع شرعاً كالتوقيت في البيع، وعدم التقابض في عقد الصرف، والضرر الذي يلحق البائع بتسليم محل العقد كبيع جذع من سقف وذراع من ثوب يضره التبعيض.
2 - الحكم أو الأثر: لا يترتب على الباطل أي أثر أصلاً، فهوكالمعدوم سواء، فلا تنتقل الملكية في العوضين في عقد البيع مثلاً، ولا يترتب على الزواج الباطل حل الاستمتاع والنفقة والتوارث.
لكن استثناء من ذلك: يعتبر المبيع المقبوض في البيع الباطل مضموناً بالمثل أو بالقيمة إذا تلف أياً كان سبب التلف، وليس مجرد أمانة لا تضمن حال التلف إلا بالتعدي أو بالتقصير في الحفظ.
__________
(1) راجع المبسوط: 23/13، البدائع: 299/5، 304، فتح القدير مع العناية: 185/5 ومابعدها، 277 وما بعدها، رد المحتار لابن عابدين: 104/4، 136، مجمع الضمانات: ص 215 ومابعدها.(4/632)
وكذلك يترتب على الزواج الباطل بعض الآثار الضرورية إذا أعقبه دخول: وهي ثبوت نسب الولد، وإيجاب العدة على المرأة، واستحقاق المرأة المهر. فيختلف بذلك عن الزنى.
أما الفاسد: فيترتب عليه بعض آثار العقد الصحيح إذا تم التنفيد أي القبض أو التسليم، فتنتقل الملكية في العوضين في البيع الفاسد بالقبض. ويتملك المستأجر المنفعة في الإجارة الفاسدة وتلزمه الأجرة باستيفاء المنفعة فعلاً. لكن البيع الفاسد لا يلزم المشتري بدفع الثمن المسمى المتفق عليه، وإنما ثمن المثل أي قيمة المبيع في السوق يوم القبض. وفي الإجارة الفاسدة يلزم المستأجر بدفع أجر المثل، لا الأجر المسمى في العقد (1) .
ويلاحظ أن هذا الأثر يرتبه الفقه على تنفيذ العقد، لا على العقد نفسه.
3 - استحقاق الفسخ: الباطل لا يحتاج إلى فسخ؛ لأنه معدوم لم يوجد، والفسخ يرد على عقد قائم كالعقد المشتمل على أحد الخيارات.
وأما الفاسد: فيستحق الفسخ رعاية لأحكام الشرع إما بإرادة أحد العاقدين، أو بإرادة القاضي؛ لأن إزالة الفساد واجب شرعاً، وبالفسخ يرتفع الفساد (2) .
ويبقى حق الفسخ قائماً ولو بعد التنفيذ حتى يزول سببه إلا إذا وجد أحد موانع الفسخ وهي (3) :
أـ هلاك المعقود عليه أو استهلاكه أو تغيير شكله واسمه كطحن القمح وخبز الدقيق.
ب ـ الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل والبناء على الأرض وصبغ الثوب. أما أنواع الزيادات الأخرى وهي الزيادة المتصلة المتولدة كالسمن والجمل، والزيادة المنفصلة المتولدة كالولد والثمرة أو غير المتولدة كالكسب والغلة فلا تمنع الفسخ والرد.
ج ـ التصرف بالشيء المقبوض بعقد فاسد من قبل القابض كالبيع والهبة والرهن والوقف.
__________
(1) يلزم دفع أجر المثل على ألا يتجاوز الأجر المسمى، إلا إذا كان فساد الإجارة ناشئاً عن جهالة الأجرة فيجب عندئذ أجر المثل بالغاً ما بلغ.
(2) البدائع: 200/5.
(3) البدائع: 300/5-302، فتح القدير: 231/5، 302، رد المحتار: 137/4، مجمع الضمانات: ص 216.(4/633)
ويلاحظ أن حق الفسخ بسبب الفساد يورث، فلو مات أحد العاقدين جاز لورثته أو للعاقد الآخر فسخ العقد بعد الموت.
4 - عموم الأثر وخصوصه: البطلان يمكن أن يصيب كل أنواع التصرفات القولية والفعلية، العقدية وغير العقدية، كالبيع والإيجار والهبة، والإقرار والدعوى، وإحراز المباح وقبض الثمن والموهوب.
وأما الفساد فلا يجري إلا في العقود المالية المنشئة التزامات متقابلة أو ناقلة للملكية (1) ، فلا يجري الفساد في العبادات والتصرفات الفعلية، والعقود غير المالية كالزواج والوصاية والتحكيم، والعقود المالية التي لا تنشئ التزامات متقابلة ولا تنقل الملكية كالإيداع والإعارة، وتصرفات الإرادة المنفردة كالطلاق والوقف والإبراء. فهذه التصرفات لا تكون إلا صحيحة أو باطلة.
وأما أوجه الشبه بين الباطل والفاسد فأهمها ما يأتي:
أـ الباطل لا يقبل الإجازة لأنه معدوم. وكذلك الفاسد لا يرتفع فساده بالإجازة؛ لأن العاقد لا يملك مخالفة نظام الشريعة، وليس له إقرار المخالفة، وإنما ينبغي إزالة الفساد احتراماً لحكم الشرع، إلا إذا زال سبب فساده كتعيين المجهول.
ب ـ الباطل لا يسري عليه التقادم (مرور الزمان) ويمكن التمسك ببطلان العقد مهما طالت المدة؛ لأن الباطل معدوم. وكذلك الفاسد لا يسري عليه التقادم، وإنما يظل مستحق الفسخ شرعاً مهما طال الأمد، إلا إذا وجد مانع من موانع الفسخ التي سبق بيانها.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 268.(4/634)
ثانياً ـ المؤيدات التأديبية (أو العقوبات)
إن مخالفة أحكام الشريعة وارتكاب المعاصي والمنكرات التي حرمتها الشريعة تستوجب عقاباً أخروياً ودنيوياً. والعقوبات الدنيوية نوعان:
1 - عقوبات مقدرة: وهي التي قدر لها الشرع نوعاً ومقداراً معيناً وهي القصاص، والحدود الخمسة (وهي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد شرب الخمر والمسكرات) (1) .
2 - عقوبات غير مقدرة وهي التعزيرات: وهي التي لم يحدد لها الشرع نوعاً ولا مقداراً معيناً، وإنما فوضها إلى تقدير الحكام لتطبيق ما يرونه محققاً للمصلحة بحسب ظروف الجاني والجناية.
والحكمة من تشريع الحدود أو العقوبات عامة: هو زجر الناس وردعهم عن اقتراف الجرائم الموجبة لها، وصيانة المجتمع عن الفساد، وتخليص الإنسان من آثار الخطيئة، وإصلاح الجاني.
قال ابن تيمية (2) وابن القيم (3) : كان من حكمة اِلله سبحانه وتعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجرح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وتعالى وجوه الزجر الرادعة عن الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل
__________
(1) القصاص: هو عقوبة الإعدام بتعبير العصر، وحد القذف وشرب الخمر: ثمانون جلدة بسوط لا عقدة له مفرقة على أجزاء الجسد ما عدا المقاتل، وحد الزنا: مئة جلدة لغير المتزوج، والرجم بالنسبة للمحصن المتزوج، وحد السرقة: قطع اليد من الرسغ، وحد الحرابة: هو القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفي، وتطبق العقوبة بحسب ما يناسب جريمة المحارب.
(2) رسالته في القياس: ص 85، السياسة الشرعية له: ص 98.
(3) أعلام الموقعين: 95/2، 107 ومابعدها.(4/635)
الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة. وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
والجرائم الموجبة للعقوبة البدنية هي ثلاث عشرة جريمة وهي:
القتل، والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والبغي (1) ، والحرابة، والردة، والزندقة، وسب الله وسب الأنبياء والملائكة، وعمل السحر، وترك الصلاة والصيام.
وليس في هذه العقوبات قسوة أو تنكيل وتعذيب للمجرم كما يزعم بعض الناس؛ لأن هذه الجرائم الموجبة لها خطيرة تهز كيان المجتمع، ولأنها أنسب عقوبة لزجر المجرم وأمثاله، وأقمع للجريمة ومطاردة المجرمين، وأدعى لتحقيق أمن المجتمع واستقراره.
وحققت العقوبات الشرعية أمناً في السعودية لا يماثله أمن بلد في العالم تطبق فيه العقوبات الوضعية من حبس أو سجن ونحوهما.
والتخلص من ضرر مجرم يتباكى عليه الزاعمون حب الإنسانية والإنسان أوجب من تهديد أمن المجتمع بكامله، عن طريق ترويع المجرمين أمن البيوت والنساء والأطفال، وما يعقبه من العديد من الجرائم والمنكرات.
ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود الشرعية، عاش آمناً مطمئناً على أمواله وأعراضه ونظامه، حتى إن المجرم نفسه كان يسعى لإقامة الحد عليه، رغبة في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه.
__________
(1) البغي: الخروج في حال الشوكة والمنعة على جماعة المسلمين بتأويل نص في حكم شرعي للتوصل إلى حق أو ولاية، والتحصن في بلد ما، وتنظيم ثورة مسلحة على غيرهم، وتطبيق أحكامهم فيما بينهم كالخوارج. وأما الحرابة: فهي قطع الطريق على المارة، بقصد أخذ أموالهم قهراً عنهم أو قتلهم علانية دون اعتماد على تأويل سائغ.(4/636)
هذا مع العلم بأن تطبيق القصاص والحدود يتطلب تشدداً كبيراً في شروط إثبات الجريمة (1) ، مما لا نكاد نجد له مثيلاً عند القانونيين، بل إن الحدود ومنها القصاص تسقط بالشبهات عملاً بالحديث النبوي: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» وقد توسع الفقهاء في بيان ما هو شبهة مسقطة للحد توسعاً كبيراً، حتى إن مجرد ادعاء الشبهة كادعاء الزوجية في حال الوطء من المتهم يسقط الحد، وكذا هرب المحدود أثناء إقامة الحد يسقط الحد (2) .
إن القسوة على المجرم رحمة عامة للمجتمع في مجموعه، حتى يتخلص من الجريمة وخطرها الوبيل، والتضحية بعدد محدود من المجرمين أهون كثيراً من ترك الجريمة تفتك بآلاف الأبرياء. والشريعة الإسلامية هي شريعة الرحمة الحقة بالناس، والله سبحانه أدرى بما يعالج به خطر بعض المجرمين وهو أرحم بهم.
وقد أدى كل هذا إلى أن يكون تطبيق الحد نادراً جداً في المجتمع الإسلامي، فقطع اليد مثلاً في السعودية لا يزيد عن حالة واحدة أو حالتين طوال العام.
وأما العقوبات غير المقدرة أو التعزيرات: فهي العقوبات المشروعة على كل معصية أو منكر أو إيذاء لا حد فيه، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة، وسواء أكانت الجريمة انتهاكاً للحرمات الدينية والاجتماعية كالأكل في نهار رمضان بغير عذر، وترك الصلاة، وطرح النجاسة في طريق الناس، والاستهزاء بالدين، والإخلال بالآداب العامة، أو كانت اعتداء على حق شخصي كأنواع السب والشتم والضرب والإيذاء بأي وجه، والغش والتزوير والاحتيال ونحوها.
__________
(1) ففي السرقة مثلاً يشترط ما يزيد على 12شرطاً. وفي الزنا: يشترط لإثباته بالشهادة شهادة أربعة رجال أحرار عدول يرون الجريمة رؤية بصرية كاملة لا شبهة فيها. وفي القتل يشترط عدة شرائط لتطبيق القصاص منها أن يكون القتل بسلاح ونحوه.
(2) الدر المختار: 158/3 ومابعدها.(4/637)
والتعزير يكون إما بالضرب أو بالحبس أو الجلد أو النفي أو التوبيخ أو التغريم المالي، ونحو ذلك مما يراه الحاكم رادعاً للشخص بحسب اختلاف حالات الناس، حتى القتل سياسة كما قرر فقهاء الحنفية والمالكية.
والتعزير مفوض للدولة في كل زمان ومكان، فإنها تضع للقضاة أنظمة يطبقونها بحسب المصلحة. وأغلب العقوبات الوضعية الحديثة تدخل في نطاق التعزير. ولا مانع شرعاً من تقنين العقوبات التعزيرية بجانب الحدود والقصاص على النحو المعروف الآن. ويعد التعزير قاعدة مرنة صالحة للتطبيق في كل عصر بما يحقق المصلحة أوالمقصود من العقوبة. وما وضْع حدين للعقوبة قانوناً أدنى وأقصى، أو الحكم مع وقف التنفيذ إلا لون من ألوان المرونة أو العفو عن العقوبة المقررين في التعزيرات.
والشريعة أساس الحكم على الجريمة والعقاب، وقد سبق الفقهاء المسلمون إلى معرفة قاعدة: (لا جريمة ولاعقوبة إلا بنص) لتقريرهم القاعدتين التاليتين:
1 - (لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص) .
2 - (الأصل في الأفعال والأقوال والأشياء الإباحة) .
ومصدر هاتين القاعدتين قول اِلله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء:15/17] وقوله سبحانه: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [القصص:59/28] وقوله جل شأنه: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء:165/4] .
فهذه النصوص قاطعة بأن لا جريمة إلا بعد بيان، ولا عقوبة إلا بعد إنذار. ومن هنا كانت فترة الجاهلية لا عقاب فيها على الجرائم التي حدثت أثناءها، سواء أكانت الجريمة إراقة دم حرام أم غيرها.
وقد تضافر القرآن الكريم والسنة النبوية وكتب الفقهاء على بيان المعاصي والمنكرات وتفصيل العقوبات المقررة في الدنيا على الأشخاص. ولا يقبل شرعاً من أي مسلم أومسلمة الاعتذار بالجهل بأحكام الشريعة، وعليه أن يتعلم القدر الضروري منها لقوله عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ويعد التقصير في التعليم والتعلم جريمة مستوجبة التعزير.
والعمل بأحكام الشريعة في النطاقين الجزائي والمدني وغيرهما واجب على الدولة والأفراد، ويعد التخلي عن الشريعة إثماً كبيراً وجرماً عظيماً. وليس تطبيق أحكام الشريعة أمراً صعباً أو غير متفق مع ظروف العصر الحديث، وإنما الإعراض عن ذلك نوع من الوهم وفقدان الثقة بالذات وافتتان بأنظمة العصر ويعد جائراً عن الشرع.
ولا شك بأن أحكام الشريعة تتطلب إقامة مجتمع إسلامي متكامل في العقيدة والعبادة والسلوك الأخلاقي، وينبغي أن تتجه أنظمة الدولة الدستورية والإدارية والتعليمية والإعلامية إلى العمل بروح الإسلام وأنظمته وآدابه، حتى يسهل تقبل الحكم الشرعي الإلهي عن عقيدة واقتناع وحب واحترام.(4/638)
الفَصْلُ السَّادس: نظريَّة الفَسخ
ـ تعريف الفسخ لغة واصطلاحاً.
ـ ألفاظ ذات صلة: انفساخ، خلع، طلاق، إبطال، فساد.
ـ حكمه الإجمالي ودليله.
ـ شروط فسخ العقد.
ـ أسباب الفسخ.
ـ أنواع الفسخ.
1 - الفسخ الاتفاقي (الإقالة) والفسخ بحكم القضاء، والفسخ بحكم الشرع.
2 - الفسخ باعتباره جزاء لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه.
3 - الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد) .
4 - الفسخ للأعذار الطارئة.
5 - الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك) .
6 - الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة.
7 - الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج.
8 - الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء.
9 - الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف.
10 - الفسخ بسبب الاستحقاق.
ـ ما يقبل الفسخ وما لا يقبل.
1 - العقود اللازمة للطرفين، كالبيع والإيجار والرهن والصلح والزواج.
2 - العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين، كالإعارة والقرض والإيداع، والوكالة، والشركة، والمقاولة، والهبة عند الحنفية.
3 - العقد اللازم لطرف دون آخر، كالكفالة والحوالة.
4 - تصرفات الإرادة المنفردة، كالوصية والجعالة.
ـ حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ.
ـ فروق بين الفسخ وغيره.
1 - الفرق بين الفسخ والانفساخ.
2 - الفرق بين الفسخ (انحلال العقد) وانقضاء الالتزام.
3 - الفرق بين الفسخ والإبطال والبطلان والفساد.
4 - الفسخ وشرط الإلغاء الصريح أو الضمني.
5 - الفرق بين الشرط الموقف (الواقف) والشرط الفاسخ.
6 - الفرق بين الفسخ والطلاق، وهل يتوقف فسخ الزواج على القضاء؟
ـ بعض أسباب الفسخ:
1 - الإخلال بالالتزام.
2 - عدم تنفيذ العقد، ومتى يجوز؟
ـ آثار الفسخ (أحكامه) :
1 - انتهاء العقد بالفسخ.
2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل.(4/639)
تعريف الفسخ لغة واصطلاحاً:
فقرة (1) ـ المراد بالفسخ هنا لغة: هو النقص أو التفريق، وجاء في تاج العروس شرح القاموس للزبيدي (1) : الفسخ: الضعف في العقل والبدن، والجهل، والطرح، وإفساد الرأي، والفسخ: النقض، فسخ الشيء يفسخه فسخاً فانفسخ: نقضه فانتقض، والفسخ: التفريق، وقد فسخ الشيء: إذا فرقه. ومن المجاز: انفسخ العزم والبيع والنكاح: انتقض، وقد فسخه: إذا نقضه، وفي الحديث: كان فسخ الحج رخصة لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم: وهو أن يكون نوى الحج أولاً، ثم يبطله وينقضه، ويجعله عمرة، ويحل، ثم يعود يحرم بحجة، وهو التمتع أو قريب منه.
فقرة (2) ـ والفسخ اصطلاحاً: حل ارتباط العقد (2) ، أو هو ارتفاع حكم العقد من الأصل كأن لم يكن (3) ، فتستعمل كلمة الفسخ أحياناً بمعنى رفع العقد
__________
(1) تاج العروس: 273/2.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 833، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 313.
(3) البدائع: 182/5.(4/640)
من أصله (1) ، كما في الفسخ بسبب أحد الخيارات، وتستعمل أيضاً بمعنى رفع العقد بالنسبة للمستقبل، كما في أحوال فسخ العقود الجائزة أو غير اللازمة. فإذا انعقد العقد لم يتطرق إليه الفسخ إلا في أحوال سأذكرها، مثل الخيارات، والإقالة، وهلاك المبيع قبل القبض، وكون العقد غير لازم، ويتم ذلك بإرادة العاقد أو غيره، ويعود العاقدان إلى الحالة الأصلية التي كانا عليها قبل التعاقد، ففي البيع مثلاً يعود المبيع إلى ملك البائع، والثمن إلى ملك المشتري، وإذا فسخ الزواج بحكم القاضي زالت رابطة العقد بين الزوجين وصار كل منهما أجنبياً بالنسبة للآخر.
قال السيوطي: يغتفر في الفسوخ ما لا يغتفر في العقود، ومن ثم لم يحتج إلى قبول، وقبلت الفسوخ التعليقات دون العقود (2) .
ألفاظ ذات صلة: انفساخ، خلع، طلاق، إبطال، فساد:
(3) ـ الانفساخ: إن انحلال العقد (وهو زوال الرابطة التي تربط المتعاقدين) يشمل كلاً من الفسخ والانفساخ، إلا أن الفسخ ينشأ تارة عن الإرادة، أو الرضا، وقد يحدث جبراً عن أحدهما بحكم القاضي، فهو يحدث بالتراضي أو بالتقاضي. أما الانفساخ: فيحدث بسبب حادث طبيعي وهو استحالة التنفيذ، كهلاك أحد العوضيين.
فينفسخ كل عقد من تلقاء نفسه إذا استحال تنفيذه، وينفسخ العقد المستمر أو عقد المدة (3) كعقد الإجارة إذا فقد ما يعتمد عليه بقاؤه، فعقد البيع ينفسخ بهلاك
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 197/4.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 318.
(3) العقود المستمرة: هي التي يستغرق تنفيذها مدة من الزمن، بحيث يكون الزمن عنصراً أساسياً في تنفيذها كالإجارة والإعارة وشركة العقد والوكالة (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 247) أو هي العقود التي يكون الزمن عنصراً جوهرياً فيها بحيث يكون المقياس الذي يقدر به محل العقد (الوسيط للسنهوري: 1/ف 65 ص 166) .(4/641)
المبيع هلاكاً كلياً قبل استلامه، لاستحالة تنفيذ العقد بالتسليم بعد هلاك محله. وفي الهلاك الجزئي يصبح العقد قابلاً للفسخ، وعقود الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة تنفسخ بموت أحد العاقدين، لأن هذه العقود تنشئ التزامات عملية ذات آثار متجددة، فيها استمرار يعتمد بقاؤه بقاء العقد؛ لأن للاعتبار الشخصي فيها أثراً ملحوظاً، كما يعتمد بقاء المحل (1) . والإجارة تنفسخ بموت أحد العاقدين في مذهب الحنفية، ولا تنفسخ بموت أحدهما في مذهب الجمهور الأئمة الآخرين، لأنها عقد لازم كالبيع.
(4) ـ وقد عبّر القرافي عن هذا الفرق المذكور من الفسخ والانفساخ بقوله: الفسخ: قلب كل واحد من العوضين لصاحبه، والانفساخ: انقلاب كل واحد من العوضين لصاحبه، فالأول: فعل المتعاقدين أو الحاكم إذا ظفروا بالعقود المحرّمة، والثاني: صفة العوضين، فالأول: سبب شرعي، والثاني حكم شرعي (2) . وبه يتضح أن الفسخ يشمل الفسخ الاتفاقي والقضائي، والانفساخ هو تحمل التبعة عن الهلاك، أي ضمان التلف.
(5) ـ الخلع: الخلع لغة: النزع والإزالة، وعرفا بضم الخاء: إزالة الزوجية، واصطلاحاً أو فقهاً: هو إزالة ملك النكاح المتوقفة على قبول المرأة، بلفظ الخلع أو ما في معناه (3) . ولا يحتاج الخلع إلى حاكم، ويكفي تلفظ الزوج به، كأن يقول للمرأة: خالعتك على كذا، فتقبل. والخلع طلاق بائن عند الجمهور، وله تفصيل في المعتمد عند الحنابلة: إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما، أو بكنايات
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 303.
(2) الفروق - في الفرق الخامس والتسعين والمئة بين قاعدة الفسخ وقاعدة الانفساخ: 269/3.
(3) هذا تعريف الحنفية (الدر المختار: 766/2، فتح القدير: 199/3) وهناك تعاريف أخرى للمذاهب: ر: خلع.(4/642)
الطلاق، ونوى به الطلاق، كان طلاقاً، فإن وقع بصيغته الصريحة وهي لفظ خلعت وفسخت وفاديت، أو الكناية: وهي لفظ بارأتك وأبرأتك وأبنتك، ولم ينو طلاقاً، فهو فسخ، لا ينقص به عدد الطلاق.
الخلع خاص بحل الرابطة الزوجية، وهو طلاق أو فسخ على التفصيل والخلاف السابق، أما الفسخ: فهو أعم، وهو حل ارتباط العقد، كما تقدم، أياً كان العقد بيعاً أو زواجاً أوغيرهما. والخلع يحدث بالتراضي، أما الفسخ فيمكن أن يتم بالتراضي أو بقضاء القاضي.
(6) الطلاق: الطلاق لغة: رفع القيد مطلقاً، يقال: أطلق الفرس: إذا خلاه، وفي الشريعة: رفع القيد الثابت بالنكاح (1) . وفرقة الزواج نوعان: فرقة فسخ وفرقة طلاق. والفسخ: إما أن يكون بتراضي الزوجين وهو المخالعة أو الخلع، أو بواسطة القاضي.
والتفريق القضائي قد يكون طلاقاً: وهو التفريق بسبب عدم الإنفاق أو الإيلاء أو للعدل أو للشقاق بين الزوجين أو للغيبة أو للحبس أو للتعسف، وقد يكون فسخاً للعقد من أصله، كما هو حال التفريق في العقد الفاسد، كالتفريق بسبب الردة وإسلام أحد الزوجين، والتفريق بسبب الإعسار عند الشافعية والحنابلة.
(7) - والفرق بين الطلاق والفسخ في رأي الحنفية: أن الطلاق: هو إنهاء الزواج وتقرير الحقوق السابقة من المهر ونحوه، ويحتسب من الطلقات الثلاث التي يملكها الرجل على امرأته، وهو لا يكون إلا في العقد الصحيح.
__________
(1) أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء للشيخ قاسم القونوي: ص155.(4/643)
وأما الفسخ: فهو نقض العقد من أصله، أو منع استمراره، ولا يحتسب من عدد الطلاق، ويكون غالباً في العقد الفاسد أو غير اللازم.
وبه يتبين أن الفسخ يفترق عن الطلاق من ثلاثة أوجه:
الأول: ـ حقيقة كل منهما: فالفسخ: نقض للعقد من أساسه، وإزالة للحل الذي يترتب عليه، أما الطلاق: فهو إنهاء للعقد، ولا يزول الحل إلا بعد البينونة الكبرى (الطلاق الثلاث) .
الثاني: ـ أسباب كل منهما: الفسخ يكون إما بسبب حالات طارئة على العقد تنافي الزواج، أو حالات مقارنة للعقد تقتضي عدم لزومه من الأصل. فمن أمثلة الحالات الطارئة: ردة الزوجة أو إباؤها الإسلام أو الاتصال الجنسي بين الزوج وأم زوجته أو بنتها. ومن أمثلة الحالات المقارنة: أحوال خيار البلوغ لأحد الزوجين، وخيار أولياء المرأة التي تزوجت من غير كفء أو بأقل من مهر المثل، ففيها كان العقد غير لازم.
أما الطلاق فلا يكون إلا بناء على عقد صحيح لازم، وهو من حقوق الزوج، فليس فيه مايتنافى مع عقد الزواج أو يكون بسبب عدم لزومه.
الثالث: ـ أثر كل منهما: الفسخ: لا ينقص عدد الطلقات التي يملكها الرجل، أما الطلاق فينقص به عدد الطلقات.(4/644)
وكذلك فرقة الفسخ لا يقع في عدتها طلاق، إلا إذا كانت بسبب الردة أو الإباء عن الإسلام، فيقع فيهما عند الحنفية طلاق زجراً وعقوبة. أما عدة الطلاق فيقع فيها طلاق آخر، ويستمر فيها كثير من أحكام الزواج. ثم إن الفسخ قبل الدخول لا يوجب للمرأة شيئاً من المهر، أما الطلاق قبل الدخول فيوجب نصف المهر المسمى، فإن لم يكن المهر مسمى استحقت المتعة (تعويض بمثابة هدية) .
(8) ـ إبطال: الباطل لغة ضد الحق، والإبطال اصطلاحاً: هو الحكم بكون العقد باطلاً، لاختلال ركنه أو محله، والعقد الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، أو ما لايكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه (1) . ولا يفيد الملك، كأن يكون أحد العاقدين فاقد الأهلية، كالمجنون وغير المميز، والمميز فيما يضره ضرراً محضاً، أو أن تكون الصيغة غير سليمة، أو يكون محل العقد غير قابل لحكم العقد شرعاً، كبيع ما ليس بمال، أو ما ليس مالاً متقوماً، كالخمر والخنزير والسمك في الماء، وكبيع شيء من الأموال العامة، كجزء من الطريق العام، أو من مشفى أو من مسجد، وكالبيع الذي جعل الثمن فيه غير مال أصلاً كالميتة، أو الشيء المباح للناس جميعاً، وفي الزواج كالعقد على إحدى المحارم أو لم تكتمل عدتها من مطلقها، أو المتزوجة بزوج آخر، فكل هذه العقود باطلة، لأن النهي في الشرع عنها عائد لأصل العقد أي لخلل في الصيغة أو في العاقد أو في المحل.
(9) ـ وحكم الباطل: أنه لا يعد منعقداً أصلاً، وإن وجدت صورته في الظاهر، فلا يترتب عليه أي أثر شرعي، فلا يفيد نقل الملكية أصلاً، إذ لا يعد موجوداً بحال، ولا ينقلب صحيحاً أبداً، لأن البطلان المطلق ينجم عن فقدان أحد أركان تكوين العقد.
أما الفسخ: فيرد على عقد صحيح منعقد حقيقة، وقد انتقلت فيه الملكية بين الطرفين المتعاقدين.
ويشترك الإبطال والفسخ في إعادة العاقدين إلى الحالة الأصلية التي كانا عليها قبل التعاقد، ويميز بين فسخ العقد وإبطاله من ناحيتين:
__________
(1) المراد بأصل العقد: ما يتعلق بالركن (وهو الصيغة) والأهلية أو المحل المعقود عليه، والمراد بالوصف: ما يتصل بالعقد اتصالاً غير جوهري كالعلم بالمعقود عليه أو بالثمن، أو هو الوصف العارض الطارئ للعقد الملازم له أو المجاور، ولكنه منهي عنه شرعاً، كجهالة المبيع أو الثمن، وعدم تقوم الثمن.(4/645)
1 - إن سبب الفسخ هو عدم قيام أحد العاقدين بتنفيذ التزامه، بينما سبب الإبطال بوجه عام: هو نقص الأهلية أو عيب الإرادة، لذا ينشأ العقد القابل للفسخ صحيحاً، أما العقد القابل للإبطال فلا ينشأ صحيحاً، فتقوم قابلية الإبطال عند تكوين العقد، بينما قابلية الفسخ تكون عند تنفيذه.
2 - فسخ العقد خاضع لتقدير القاضي، أما إذا توافر سبب الإبطال فليس للقاضي سلطة تقديرية، ولا يملك إلا الإبطال.
(10) ـ إفساد: لغة: ضد إصلاح، واصطلاحاً: هو الحكم بكون العقد فاسداً.
والفساد والبطلان عند الجمهور مترادفان بمعنى واحد (1) ، وعند الحنفية: الفساد: اختلال في العقد في صفة عارضة طارئة غير جوهرية فيه، لذا كان مرتبة متوسطة بين البطلان والصحة، والعقد الفاسد: هو ماكان مشروعاً بأصله (ركنه ومحله وأهلية عاقديه) دون صفته، أي كان صادراً ممن هو أهل له، والمحل قابل لحكم العقد شرعاً، والصيغة سليمة، ولكن صاحب ذلك وصف منهي عنه شرعاً، كبيع المجهول جهالة فاحشة تؤدي للنزاع، مثل بيع دار من دور، أو سيارة من سيارات دون تعيين ذات المبيع، وكإبرام صفقتين في صفقة، كبيع دار على أن يبيعه سيارته، وكبيع مال متقوم (يباح الانتفاع به شرعاً) جعل ثمنه مالاً غير متقوم (لا يباح الانتفاع به شرعاً) كخمر وخنزير وكلب، وكبيع بقرة على أنها حامل.
وأسباب الفساد عند الحنفية ستة: الجهالة، والإكراه، والتوقيت، وغرر الوصف، والضرر، والشرط الفاسد.
__________
(1) الباطل والفاسد عند الشافعية مترادفان إلا في الكتابة والخلع والعارية والوكالة والشركة والقرض، وفي العبادات في الحج (الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 312) .(4/646)
والباطل والفاسد عند الحنفيةفي العبادات وفي الزواج مترادفان، وفي المعاملات كالبيع والشركة والإيجار متباينان (1) .
(11) ـ وحكم الفاسد: ثبوت الملك فيه بالقبض بإذن المالك صراحة، أو دلالة كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع، دون أن يعترض عليه، لأن النهي الشرعي عنه بسبب أمر ملازم للعقد يقتضي بطلان الوصف دون أصل العقد، لأنه استكمل عناصره الأساسية، فيكون العقد فاسداً فقط. ويصبح الفاسد صحيحاً بزوال صفة الفساد.
والعقد الفاسد واجب الفسخ شرعاً، إما من أحد العاقدين أو من القاضي إذا علم بذلك، لأنه منهي عنه شرعاً. قال السيوطي: تعاطي العقود الفاسدة حرام إلا المضطر إذا لم يجد الطعام إلا بزيادة على ثمن المثل (2) . ويزال الفساد بطلب العاقدين معاً أو بطلب أحدهما.
وإمكان فسخ العقد الفاسد عند الحنفية مشروط بشرطين.
أحدهما ـ بقاء المعقود عليه على ما كان قبل القبض: فلو تغير شكله، بأن هلك أواستهلك، أو كان غزلاً فنسجه، أو قمحاً فطحنه، أو دقيقاً فخبزه، امتنع الفسخ.
الثاني ـ عدم تعلق حق الغير به: فلو تصرف به المشتري لآخر بالبيع أو بالهبة مثلاً، وتم قبضه من الموهوب له، امتنع الفسخ.
(12) ـ والفرق بين الفسخ والإفساد: أن الفسخ يرد على عقد صحيح منعقد مكتمل الأركان والشروط، أما الإفساد فيقع على عقد غير صحيح بسبب الخلل الذي صحبه أو قارنه في صفة طارئة غير جوهرية فيه.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 337، أنيس الفقهاء: ص 209.
(2) الأشباه والنظائر: ص 312.(4/647)
والعقد الصحيح قبل الفسخ يثبت به الملك الطيب الحلال، وأما الفاسد فيفيد الملك الخبيث شرعاً بالقبض، فإذا فسخ العقد الفاسد تساوى الفساد والفسخ في الأثر وهو زوال الرابطة العقدية التي كانت بين العاقدين.
(13) - ولا يشترط القضاء في فسخ العقد الفاسد أو العقد الباطل: لأن «الواجب شرعاً لا يحتاج إلى القضاء» (1) ، ولكن ذلك عند عدم النزاع بين المتعاقدين، فإذا حصل النزاع وجب اللجوء إلى القضاء. أما الفسخ فيتم إما بالتراضي أو بقضاء القاضي.
والخلاصة: أن البطلان أو الفساد يعاصر العقد، ولا يتراخى إلى ما بعد انعقاده صحيحاً، أما الفسخ فيكون بعد وجود العقد لا محالة (2) . هذه هي التفرقة الدقيقة بين المصطلحات الثلاثة، وإن كان الفقهاء في الغالب لا يلتزمون هذه التفرقة، فيعبرون عن الفسخ بالبطلان أو الفساد، فمثلاً حالة فساد العقد بفوات القبض المستحق بالعقد (3) ، المقصود: هو الفسخ وليس الفساد (4) .
الحكم الإجمالي للفسخ ودليله:
(14) ـ الفسخ: إما واجب أو جائز، فيجب رعاية لحق الشرع، كفسخ العقد الفاسد لإزالة سبب الفساد واحترام ضوابط الشرع أو شرائطه التي قررها في العقود، حماية للمصلحة العامة أو الخاصة، ودفعاً للضرر، ومنعاً للمنازعات التي تحدث بسب مخالفة الشروط الشرعية.
__________
(1) درر الحكام: 175/2.
(2) حاشية الشلبي على الزيلعي: 143/5.
(3) المبسوط: 26/13.
(4) سبب الالتزام وشرعيته في الفقه الإسلامي للدكتور جمال الدين محمود: ص 441 ومابعدها.(4/648)
ويجوز الفسخ إعمالاً لإرادة العاقد، كالفسخ بسبب الخيار في العقود غير اللازمة، والفسخ بالتراضي والاتفاق كالإقالة. وقد جاء الشرع بأدلة كثيرة في مشروعية الخيارات والإقالة (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك» (2) وهذا دليل على أن حق الفسخ في الشريعة مستمد من فكرة اللزوم الذي يقوم عليه العقد. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن ماجه عن أبي سعيد: «إنما البيع عن تراض» .
والفسخ القضائي جائز إما رعاية لحق الشرع، وإما إحقاقاً للحق ورفع الظلم الذي يقع على أحد المتعاقدين بسبب إضرار العاقد الآخر، وإصراره على منع غيره من ممارسة حقه في الفسخ، لوجود عيب في المبيع أو استحقاق المبيع أو الثمن مثلاً. وحق القاضي في الفسخ ناشئ من ولايته العامة على الناس، أو لأنه يجب عليه رقابة تنفيذ أحكام الشرع.
وحينئذ يكون الفسخ إما شرعاً أو قضاء أو بالرضا.
ملاحظات ثلاث:
(15) ـ الأولى ـ الأصل في العقود اللزوم: يصون الفقه الإسلامي العقود عن الفسخ قدر الإمكان؛ لأن الأصل توافر القوة الملزمة للعقد لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء:34/17]
__________
(1) ر: خيار، وإقالة، وسيأتي قريباً دليل الإقالة.
(2) أخرجه الحاكم عن أنس وعائشة، وهو صحيح.(4/649)
قال القرافي: واعلم أن الأصل في العقود اللزوم؛ لأن العقود أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان، والأصل ترتب المسببات على أسبابها (1) .
فإذا استأجر شخص عاملاً، فهرب العامل قبل تمام العمل، استأجر صاحب العمل من يعمل عليه، وله أن يفسخ العقد إذا عجز، ويسلم إلى العامل أجره قبل هربه (2) . وفوات المنفعة بالكلية موجب للفسخ، أما فوات المنفعة الجزئية فلايوجب الفسخ (3) .
(16) ـ ليست الخيارات موهنة للقوة الملزمة للتعاقد، سواء كانت تعاقدية، كخيار الشرط، والتعيين، والنقد، أو شرعية، كخيار العيب والتدليس، والتغرير، وفوات الوصف، وتفرّق الصفقة، لأن الأولى نشأت بإرادة المتعاقدين، ولأن الثانية تخل بإرادة العاقد ورضاه، كإعطاء حق الإبطال وحق الإجازة في القوانين الحديثة لمن كانت إرادته معيبة بعيب من عيوب الرضا من إكراه أوغلط، أو تدليس أو استغلال.
(17) ـ الثانية ـ ليس في الفقه الإسلامي نظرية عامة للفسخ تطبق على جميع العقود في أحوال معينة تقتضي الفسخ، ولا يعرف الفقه أيضاً نظام الفسخ القانوني أي باعتباره جزاء يترتب لمصلحة الدائن على إخلال المدين بالتزامه، ويقوم على فكرة الارتباط بين الالتزامات المتقابلة. ولكن يعرف الفسخ باعتباره نتيجة لإعمال شرط يتضمنه العقد عند الإخلال بالالتزام.
__________
(1) الفروق: 269/3.
(2) الوجيز للغزالي: 229/1.
(3) المرجع السابق: ص 238.(4/650)
(18) ـ الثالثة ـ يرى بعض الكاتبين الجدد أن أساس حق الفسخ في الشريعة هو ركن الرضا، والرضا مرتبط بالمحل المعقود عليه طوال حياة الالتزام، فإذا انعدمت الصلة بينهما حتى بعد نشوء العقد كان العقد قابلاً للفسخ (1) . والأدق أن يقال: إن أساس حق الفسخ في الفقه الإسلامي هو فكرة المعاوضة المعتبرة شرعاً التي يشترط فيها أن تؤدي إلى التوازن في مضمون العقد، ليس فقط عند لحظة انعقاد العقد، بل حتى عند تنفيذ العقد، فإذا اختلت المعاوضة أو التوازن العقدي، كان لمن اختلت المعاوضة في جانبه حق طلب الفسخ (2) .
شروط فسخ العقد:
يشترط لجواز فسخ العقد شروط ثلاثة:
(19) ـ الأول: أن يكون العقد ملزماً للجانبين أي عقد معاوضة: فلا يرد الفسخ إلا على العقود الملزمة للجانبين كالبيع والإيجار، لأن الفسخ يقوم شرعاً كما بينت على فكرة المعاوضة المعتبرة شرعاً. أما العقد الملزم لجانب واحد كالوديعة والكفالة وهبة التبرع، فلا يتصور الفسخ فيه، لأن الملتزم طرف واحد، وليس هناك معاوضة أو مبادلة، حتى يلجأ الطرف الآخر إلى الفسخ لحماية مصلحته، وتسويغ امتناعه من تنفيذ التزامه.
(20) ـ الثاني: أن يخالف العاقد شرطاً صريحاً أو ضمنياً أو حكماً في العقد: فإذا خالف أحد العاقدين ما اشترطه عليه العاقد الآخر صراحة، أو كان الشرط مفهوماً ضمناً، أو كان الالتزام مقرراً بمقتضى العقد، جاز للطرف الآخر طلب فسخ العقد، لاستحالة تنفيذ الالتزام المطلوب، كما في حالة هلاك العين المؤجرة، وإعسار المشتري بالثمن في البيع.
(21) ـ الثالث ـ انعدام الرضا الصحيح: فإذا لم يرض العاقد بالخلل الحاصل أو كان رضاه مشوباً بعيب من عيوب الإرادة أو الرضا وهي الغلط والإكراه والتدليس، كان له حق المطالبة بفسخ العقد بالتراضي أو بالتقاضي. أما إن رضي بما آل إليه أمر المعقود عليه من هلاك كلي أو جزئي، فيسقط حقه في الفسخ.
__________
(1) النظرية العامة للفسخ للدكتور علي حسن دنون: ص73.
(2) سبب الالتزام وشرعيته في الفقه الإسلامي للدكتو جمال الدين محمود: ص 452.(4/651)
وقد ذكرت سابقاً (1) شروط فسخ العقد الفاسد، أما فسخ العقد بسبب الخيار أو بسبب كون العقد غير لازم، أو حال الإقالة (الفسخ الاتفاقي) فمحله موضع بحث هذه الأمور.
أسباب الفسخ:
(22) ـ أسباب الفسخ خمسة: إما الاتفاق أو التراضي ومنه الإقالة، وإما الخيار، وإما عدم اللزوم، وإما استحالة تنفيذ أحد التزامات العقد المتقابلة، وإما الفساد.
(23) ـ 1 ـ الاتفاق: يفسخ العقد بالتراضي بين العاقدين بشرط صريح في العقد، والإقالة: نوع من الفسخ الاتفاقي، وهي الرفع والإزالة، أو هي «رجوع كل من العوضين لصاحبه، فيرجع الثمن للمشتري والمثمون للبائع، وأكثر استعمالها قبل قبض المبيع» (2) وقال ابن عرفة: الإقالة: ترك المبيع لبائعه بثمنه. وهي عند الحنفية بالاتفاق بيع جديد في حق غير العاقدين، سواء قبل القبض أو بعده، وفسخ في حق العاقدين بعد القبض في رأي أبي حنيفة، لأنها رفع لغة وشرعاً، ورفع الشيء: فسخه، ويرى أبو يوسف: أن الإقالة بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعاً، فتجعل فسخاً، كأن تقع الإقالة قبل القبض في مبيع منقول، لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، لأن معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدل وإعطاء بدل، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة للمعنى لا للصورة.
ويرى محمد: أن الإقالة فسخ إلا إذا تعذر جعلها فسخاً، فتجعل بيعاً للضرورة، لأن الأصل في الإقالة الفسخ، لأنها عبارة عن رفع الشيء لغة وشرعاً (3) .
(24) ـ وذهب زفر والشافعية والحنابلة إلى أن الإقالة فسخ في حق الناس كافة، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخاً (4) .
(25) . وذهب المالكية إلى أن الإقالة بيع ثان يشترط فيها ما يشترط فيه، ويمنعها ما يمنعه؛ لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليه منه، فهي تتم بتراضي الطرفين، يجوز فيها ما يجوز في البيوع، ويحرم فيها ما يحرم في البيوع، ولكنهم استثنوا ثلاثة أشياء:
__________
(1) راجع ف /11 وانظر ف/51 الآتية.
(2) زاد المعاد لابن القيم: 76/1.
(3) البدائع: 306/5، فتح القدير: 247/5، الدر المختار ورد المحتار: 154/4.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، القواعد لابن رجب: ص 379، المغني: 121/4 ومابعدها.(4/652)
أولاً ـ طعام المعاوضة قبل قبضه، أي الإقالة من بيع الطعام قبل قبضه، فالإقالة فيه حل أو فسخ للبيع، فلذلك جازت قبل قبض المشتري لها من البائع إن وقعت الإقالة بالثمن عينه، لا بأقل منه ولا بأكثر ولا بغيره، وإلا لزم بيع طعام المعاوضة قبل قبضه.
ثانياً ـ الشفعة: ليست الشفعة بيعاً، ولا حلّ بيع أي فسخه، بل هي لاغية للبيع، فمن باع نصيبه من عقار، ثم أقال المشتري منه، فالشفعة ثابتة للشريك بما وقعت به الإقالة، وعهدة الشفيع على المشتري.
ثالثاً: المرابحة: هي حل البيع، فمن باع بمرابحة، ثم تقايل مع المشتري، فلا يجوز له أن يبيعها مرابحة على الثمن الذي وقعت الإقالة به إذا وقعت بزيادة.
(26) ـ ودليل جواز الإقالة (1) : قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أقال نادماً أقاله الله يوم القيامة» (2) وفي رواية: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته» (3) .
ولا يجوز فسخ العقود اللازمة بحق الطرفين إلا بإرادتهما وذلك عن طريق الإقالة، ولا تجوز الإقالة في الزواج، بل يجوز الطلاق.
ويلاحظ أن الإقالة تحدث غالباً مع أنه لا خلل في المعاوضة بالنسبة للمتقايلين، وقد تحدث؛ لأن العاقد اكتشف في نفسه شيئاً من عدم الرضا بعد انعقاد العقد صحيحاً.
والخلاصة: أن الفسخ في الإقالة يختلف عن الفسوخ الأخرى، حيث لا يشترط في سائر الفسوخ رضا المتعاقدين، بل تصح من طرف واحد، أما الإقالة فلا تصح إلا برضا المتعاقدين، كما أن الإقالة لا تتأثر بالشروط الفاسدة عند الحنفية (4) .
__________
(1) الشرح الصغير: 209/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 272.
(2) أخرجه البيهقي عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أبو داود، وكذا ابن ماجه وزاد (يوم القيامة) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(4) البدائع: 3397/7، مطبعة الإمام بالقاهرة، مغني المحتاج: 65/2، المغني: 93/4.(4/653)
(27) ـ 2 ـ الخيار: هو الذي يتمثل فيه الفسخ بسبب شرط صريح أو ضمني، وهو أن يكون للمتعاقد الحق في الاختيار بين الإمضاء وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين (1) .
يفسخ العقد بسبب وجود خلل في تكوين العقد، وبخاصة فيما يتعلق بالمعقود عليه، كما في خيار الوصف أوخيار الرؤية، وخيار العيب، وخيار الغبن والتغرير، وحينئذ يختلط الفسخ بالإبطال، ويفسخ بسبب تضمن العقد شرطاً يمنح أحد العاقدين أو كليهما رخصة فسخ العقد، كما في خيار الشرط وخيار النقد. وقد اعتبر الفقهاء استحقاق المبيع عيباً في العقد. والعيب يشمل كل ما من شأنه الحط من قيمة الشيء أو تفويت غرض من أغراضه.
كما يفسخ بسب تجزؤ الشيء في خيار تفرق الصفقة، أو تغير شكله قبل التسليم، أو وجد المشتري نقصاً في المقادير والكميات. وقد يفسخ العقد أيضاً بسبب الخلل في الرضا، فإذا شاب الرضا بعض العيوب كالغبن التدليسي والغلط، والإكراه، جاز الفسخ.
(28) - 3 - عدم لزوم العقد بطبيعته: إنه يجعل للعاقد الحق في الفسخ من الأصل، فيجوز لأحد العاقدين أو لكليهما بحسب العقد المسمى أن يستقل بالفسخ، مثل العارية والقرض والوديعة والشركة والوكالة، كلها عقود غير لازمة يجوز فسخها متى شاء أحد الطرفين المتعاقدين، بشرط إعلام الطرف الآخر بالفسخ في رأي الحنفية، ليكون على بيّنة من أمره، فعلم الطرف الآخر بالفسخ مشروط دائماً. وقال ابن رجب: عقود المشاركات كالشركة والمضاربة، المشهور
__________
(1) الدر المختار: 47/4.(4/654)
أنها تنفسخ قبل العلم كالوكالة، وكذا الوديعة للوديع فسخها قبل علم المودع بالفسخ، وتبقى في يده أمانة، وكذا الطلاق والخلع يصح دون علم الآخر (1) .
(29) - 4 - استحالة تنفيذ أحد الالتزامين المتقابلين: سواء أكانت هذه الاستحالة ناشئة عن فعل الملتزم أم لا؛ إن هذه الاستحالة تجيز فسخ العقد أحياناً؛ لأن الالتزام المقابل يصبح بلا سبب. وعلى هذا إذا هلك الشيء المؤجر بعينه أو لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، سقط التزامه بدفع الأجرة، وفسخت الإجارة، لاستحالة استيفاء المنفعة المتعاقد عليها. أما إذا كانت الإجارة في الذمة كتعهد نقل الحمل إلى مكان معين على أية دابة أو سيارة ثم تعبت الدابة أو تعطلت السيارة، فلا يفسخ العقد، بل يطلب التنفيذ العيني، أي الاستبدال بها غيرها. والقاعدة في البيع: أنه إذا كان الثمن ديناً، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إن كان حاضراً، فإن كان الثمن غائباً أو بعيداً أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ (2) .
(30) - 5 - الفسخ للفساد عند الحنفية القائلين به في المعاملات: يفسخ العقد للفساد بحكم الشرع لإزالة سبب فساد العقد كما تقدم، كجهالة المبيع أو الثمن أو الأجل أو وسائل التوثيق من كفالة أو رهن جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، وتعليق المبيع على شرط، وإضافته للمستقبل، واشتمال البيع على الثمن المحرّم شرعاً كالخمر والخنزير، ووجود بيعتين في بيعة أو شرطين في بيع واحد، والإضرار بالمبيع كبيع جذع من سقف، وكون البيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، أي احتمال الهلاك، كبيع الشيء المنقول المملوك قبل قبضه،
__________
(1) القواعد: ص 115.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 239-240.(4/655)
ووجود شرط فاسد أو مفسد في العقد وهو ما لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين. ويمكن حصر أسباب الفساد كما تقدم في ستة: الإكراه، والغرر (غرر الوصف) ، والجهالة، والتوقيت، والضرر الذي يصحب التسليم، والشرط الفاسد، ومنه الربا، أما فساد بيع المنقول قبل قبضه فيرجع للضرر (1) .
وبه يتضح أن أسباب انحلال العقد في الفقه الإسلامي ثلاثة:
1 - كون العقد غير لازم.
2 - الفسخ.
3 - الإقالة (2) .
أنواع الفسخ:
1 - الفسخ الاتفاقي (أوالإقالة) والفسخ بحكم القضاء، والفسخ بحكم الشرع:
(31) - الفسخ الاتفاقي كما تقدم: هو إنهاء العقد باتفاق العاقدين، إذ إن فسخ العقد يكون بالوسيلة نفسها التي عقد بها العقد، فكما نشأ العقد بإيجاب وقبول متطابقين على إنشائه، كذلك يزول بإيجاب وقبول متوافقين على إلغائه، فالعقد: اتفاق ينشئ الالتزام، أما الإقالة فهي اتفاق يقضيه. ومحل الإقالة: إلغاء الالتزامات التي نشأت من العقد الذي أقيل، وسببها: هو الباعث الذي دفع المتقايلين إلى هذا الإلغاء.
وقد تتم الإقالة بإرادة منفردة إذا اتفق عليها بإرادتين سابقتين، وعلى أي حال فإن الإقالة التي هي فسخ اتفاقي لا تخل بالمعاوضة لأي من العاقدين، وإنما تدل على أن الرضا الكامل بالعقد غير متوافر.
__________
(1) راجع المبسوط: 9/13-10.
(2) مصادر الحق للسنهوري: 190/6.(4/656)
(32) ـ ويقرب من الإقالة: الرجوع في الهبة إذا تم بالتراضي، فهذه إقالة من الهبة، وقد يتم الرجوع في الهبة بغير الإقالة، وذلك بطريق القضاء إذا لم يقبل الموهوب له الإقالة، واستند الطلب إلى عذر مقبول، ولم يوجد مانع من الرجوع (1) . والعذ ر المقبول مثل إخلال الموهوب له بما يجب نحو الواهب، أو عجز الواهب عن توفير أسباب المعيشة لنفسه أو أن يرزق ولداً بعد الهبة، وموانع الرجوع في الهبة هي الزوجية والقرابة والتصرف في الموهوب، والزيادة المتصلة في الموهوب أو تغييره على وجه تبدل فيه اسمه، كخياطة القماش ثوباً، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب أو استهلاكه، والعوض في الهبة، وحال كون الهبة صدقة لفقير أو جهة بر، وهبة الدين للمدين. ويلاحظ أن الزواج يقبل الفسخ قبل التمام لا بعده، فلا تصح إقالته (2) .
(33) - وأما الفسخ بحكم القضاء أو الفسخ الجبري: فيكون إذا لم يحدث الفسخ بالتراضي، أو لرفع فساد العقد. ففي البيع المشتمل على خيار العيب، وفي حالة الهلاك غير الكلي حيث يكون العقد في حاجة إلى فسخ، يرى الحنفية أن المبيع إذا كان في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري: رددت، ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي باتفاق الحنفية والشافعية.
وأما إن كان المبيع في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي
__________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 244/6-246.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 177.(4/657)
عند الحنفية؛ لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد؛ لأنه يرفع العقد، وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين، فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ قبل القبض؛ لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة القبض (1) . أما في خيار الرؤية فيرد المشتري المبيع بمحض إرادته دون حاجة إلى التراضي أو التقاضي، سواء كان ذلك قبل قبض المبيع أو كان بعد القبض. فإذا رد من له الخيار، ولو بعد قبض المبيع، رد بمحض إرادته دون حاجة إلى التراضي أو التقاضي.
ويرى الجمهور أن العقد ينفسخ بقول المشتري: رددت، بغير حاجة إلى قضاء، ولا إلى رضا البائع؛ لأن الفسخ لا تفتقر صحته إلى القضاء، ولا إلى الرضا كالفسخ بخيار الشرط بالاتفاق، وبخيار الرؤية على أصل الحنفية (2) .
(34) - ويفسخ القاضي العقد عند الاطلاع على فساده ورفع الأمر إليه، كفسخ البيع الفاسد عند الحنفية إذا وجد فيه أحد أسباب الفساد الستة المتقدمة وهي الإكراه، والغرر، والجهالة، والتوقيت، والضرر الذي يصحب التسليم، والشرط الفاسد، والربا.
ولا يشترط أن يحكم القاضي بالفسخ، ما لم يكن الفسخ بسبب عيب في المبيع، وكان المشتري قد قبض المبيع.
وأسباب الفسخ القضائي أو حالاته: هي استحالة التنفيذ، وعدم التنفيذ، والإعذار في العقود المستمرة، والشرط الفاسخ الصريح أو الخيارات الاتفاقية.
(35) - وأما الفسخ بحكم الشرع: فيكون بسبب الخلل الحاصل في العقد في شرط من شروط الشرع، كفسخ الزواج عند تبين الرضاع بين الزوجين، وفسخ البيع حالة فساده كما تقدم.
__________
(1) البدائع: 281/5، 298.
(2) مغني المحتاج: 57/2، المهذب: 284/1، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 121/3، 138، المغني: 109/4.(4/658)
والفرق بين الفسخ الاتفاقي والفسخ أو الانفساخ بحكم الشرع والفسخ القضائي: أن الحكم في النوعين الأولين يكون كاشفاً عن الفسخ وليس منشئاً له، أما الفسخ بحكم القضاء فالحكم فيه منشئ للفسخ.
2 - الفسخ باعتباره جزاء لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه:
(36) -. لا يجيز الفقه الإسلامي للعاقد أن يطلب الفسخ إذا لم ينفذ العاقد الآخر التزامه، فإذا لم يسلم البائع المبيع أو لم يدفع المشتري الثمن عند حلول الأجل، أجبر العاقد على تنفيذ الالتزام ما دام تنفيذ هـ عيناً ممكناً؛ لأن مهمة القاضي هي إيصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم، فلا موجب للفسخ.
(37) -. وتكون القاعدة أن العقد لا يفسخ إذا أخل المدين بالتزامه، بل يبقى العقد قائماً في هذه الحالة، فإذا كان الثمن ديناً أجبر البائع في رأى الحنفية وغيرهم على تسليم المبيع، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إن كان حاضراً، وإن كان الثمن غائباً أو بعيداً أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ.
وإذا أخل المرتهن بالتزامه، لم يملك الراهن فسخ الرهن، بل يقتصر على مطالبة المرتهن بتنفيذ التزامه، أو مطالبته بالضمان إذا هلك المرهون.
وإذا لم يقم أحد العاقدين في الصلح بتنفيذ ما التزم به بموجب العقد، فليس للمتعاقد الآخرأن يفسخ الصلح، بل يطالب المدين بأن يقوم بتنفيذ التزامه (1) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 239 -240، مصادر الحق للسنهوري: 230/6.(4/659)
3 - الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد) :
(38) -. عرفنا سابقاً أن الأصل في العقود اللزوم، فيلزم العقد بالإيجاب والقبول، إلا إذا كان فيه خيار أو كان العقد بطبيعته غير لازم، وحينئذ يجوز فسخ العقد إما لكلا العاقدين برضاهما أو لأحدهما بدون تراض، ففي العقد غير اللازم يثبت خيار الفسخ للعاقدين، وفي العقد المشتمل على الخيار يثبت حق الفسخ لكلا العاقدين في خيار المجلس (1) عند القائلين به وهم الشافعية والحنابلة والإمامية، وكذا في خيار الشرط إن كان مشروطاً للعاقدين، فإن كان مشروطاً لأحدهما انحصر فيه حق الفسخ. ويكون حق الفسخ لأحد العاقدين أيضاً في الخيارات الناجمة عن وجود شائبة أو عيب في رضا أحد المتعاقدين كالغلط والغبن والتغرير والإكراه، وهذا يشمل خيار العيب، وخيار الغبن والتغرير، وخيار تلقي الركبان، وخيار تفرق الصفقة، وخيار الرؤية، وخيار فقد الوصف المشروط في العقد، وفي حال استحقاق (2) أحد العوضين. وهذا يعني أن صاحب الخيار يقدر على إمضاء العقد أو على حله كيفما شاء دون رضا الآخر، وإن خياره هذا يسقط بالإجازة الصريحة أو الضمنية، أي بكل مايدل على رضاه بإمضاء العقد بعد علمه بزوال سبب الخيار، وإذا أمضاه يصبح بعدئذ لازماً (3) .
(39) -. ووجود هذه الخيارات لا يضعف القوة الملزمة للتعاقد؛ لأن العقد نشأ غير لازم باتفاق إرادتي العاقدين، كما في خيار الشرط ونحوه، أو بحكم الشرع، كما في خيار المجلس، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول
__________
(1) خيار المجلس: هو أن يكون لكل من العاقدين حق فسخ العقد، ما داما في مجلس العقد، لم يتفرقا بأبدانهما، أو يخير أحدهما الآخر، فيختار لزوم العقد.
(2) الاستحقاق: أن يدعي شخص ملكية شيء، ويثبت ذلك بالبينة، ويقضي القاضي له بملكيته.
(3) النظرية العامة للموجبات والعقود للدكتور صبحي محمصاني: 289/1.(4/660)
أحدهما للآخر: اختر» (1) أي اختر اللزوم، فهذا الحديث لا يعارض آية الأمر بالوفاء بالعقود؛ لأن المراد بالعقود هي الكاملة اللازمة التي لا خيار فيها، ولا يعارض أيضاً آية {تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] لأن هذا الخيار مشروع للتأكد من تمام الرضا.
وللعقود غير اللازمة في الفقه الإسلامي نظائر في القوانين الوضعية الحديثة، مثل العقود الزمنية غير المعينة المدة التي يجوز لأحد العاقدين فيها أن يستقل بنقضها بإرادته المنفردة (2) .
والخلاصة: أن الفسخ حق ضعيف، وهو خروج على القاعدة العامة التي تقضي بلزوم العقد، ووجوب الوفاء به.
4 - الفسخ للأعذار الطارئة:
يفسخ العقد للعذر أو لحوادث طارئة إذا كان عقد إيجار ونحوه، أو عقد بيع للثمار بسبب الجوائح.
(40) - أجاز فقهاء الحنفية (3) دون غيرهم فسخ عقد الإجارة وعقد المزارعة بالأعذار الطارئة؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ومالك والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن حكيم بن حزام، وأثبت ابن حزم تواتره، وقال ابن رشد عنه: وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها. لكن أجاب القرافي في الفروق: (270/3-273) عن هذا الحديث بعشرة أجوبة، منها مخالفته عمل أهل المدينة، وهو مقدم على خبر الواحد - في رأيه ومنها حديث أبي داود والدارقطني: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار، ما لم يفترقا إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله» .
(2) التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ف 615، 618.
(3) المبسوط: 2/16 ومابعدها، البدائع: 197/4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 145/5 وما بعدها، مختصر الطحاوي: ص 130، الدر المختار ورد المحتار: 54/5 ومابعدها.(4/661)
العقد عند تحقق العذر، للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو ما يكون عارضاً يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. قال ابن عابدين: كل عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله، يثبت له حق الفسخ (1) .
(41) ـ والأعذار ثلاثة أنواع:
1 - عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو الذي بدل الحرفة لا ينتفع بالعقد إلا بضرر، وكذا سفره عن البلد؛ لأن في إبقاء العقد مع السفر ضرراً به.
2 - عذر من جانب المؤجر: كلحوق دين فادح به لا يجد طريقاً لقضائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، هذا إذا ثبت الدين قبل الإجارة بالبينة أو بالإقرار. ومثل إطلاع المؤجر على عيب في المأجور.
3 - عذر راجع للعين المؤجرة: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر.
وقد نص قانون المعاملات المدنية في دولة الإمارات (م 892) المستمد من الفقه الإسلامي على أنه إذا حدث عذر يحول دون تنفيذ عقد المقاولة (2) أو إتمام تنفيذه، جاز لأحد عاقديه أن يطلب فسخه أو إنهاءه حسب الأحوال، كما تفسخ الإجارة في مذهب الحنفية بالأعذار الطارئة. ونصت المادة (م 895) على أنه إذا
__________
(1) رد المحتار: 55/5.
(2) المقاولة: عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن يصنع شيئاً أو يؤدي عملاً لقاء بدل يتعهد به الطرف الآخر وهو عقد عرف حديثاً في القوانين الوضعية، وقد استقيت أحكامه في القانون المدني الأردني وفي قانون الإمارات من أحكام عقد الاستصناع وعقد الأجير المشترك العام.(4/662)
تضرر أحد العاقدين من الفسخ، فللمتضرر أن يطالب الطرف الآخر بتعويضه في الحدود التي يقرها العرف.
(42) -. وقال جمهور العلماء (غير الحنفية) (1) : الإجارة عقد لازم، فلا تفسخ كسائر العقود اللازمة من أي عاقد بلا موجب، كوجود عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة، فإذا فات المعقود عليه وهو المنفعة، كانهدام الدار، وموت الدابة والأجير المعينين، جاز الفسخ، ويكون بالنسبة للمستقبل لا في الماضي، وإذا وجد عيب في الشيء المؤجر، مثل جموح الدابة أو نفورها، أو كونها عضوضاً، أو تعثر الظهر في الشيء، أو طرأ عرج أو ضعف بصر أو جذام أو برص، جاز الفسخ أيضاً.
وتفصيل الحكم في هذه المذاهب: أن المالكية يجيزون فسخ الإيجار للعذر الذي يمنع استيفاء المنفعة شرعاً، كسكون ألم السن المستأجر على قلعها، أو العفو عن القصاص المستأجر على استيفائه، وتنفسخ الإجارة بحمل الظئر؛ لأنه يخاف على الولد من لبنها، وتنفسخ الإجارة أيضاً إن انقطع الماء عن الرحى المستأجرة.
ويجيز الشافعية فسخ الإجارة لعذر إذا أوجب خللاً في المعقود عليه أو كان عيباً فيه تنقص به المنفعة، أو تعذر استيفاء المنفعة تعذراً شرعياً، كتعثر ظهر الدابة في المشي، والعرج الذي تتأخر به عن القافلة، وضعف البصر في المستأجر للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والرحى وغير ذلك مما يوجب خللاً في المعقود عليه ترد به العين للعيب. وتنفسخ الإجارة لقلع السن إن زال الألم للتعذر الشرعي.
__________
(1) بداية المجتهد: 227/2، مواهب الجليل للحطاب: 432/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 355/2 ومابعدها، المهذب: 405/1 ومابعدها، المغني: 418/5، غاية المنتهى: 209/2.(4/663)
وكذلك قال الحنابلة: لا تنفسخ الإجارة بالعذر إلا إذا أوجب خللاً أو عيباً في المعقود عليه تنقص به المنفعة أو تعذر استيفاء المنفعة تعذراً شرعياً، فإن تعذر الزرع بسبب غرق الأرض أو انقطاع مائها فللمستأجر الفسخ.
وأجاز المالكية والحنابلة فسخ البيع في بيع الثمار بسبب الجوائح إذا تلفت الثمرة كلها، وإنقاص الثمن في تلف بعض الثمار، كما سيأتي في حالات فسخ العقود (عقد البيع) ف/75.
5 - الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك) :
(43) -. عرفنا سابقاً أنه ليس في الفقه الإسلامي نظرية عامة للفسخ، وهذا حسن؛ لأنه يضيق من نطاق الفسخ في العقود على غرار القانون الروماني، ويوفر لها القوة الملزمة في التعاقد؛ أي أن حله بعد عقده أمر خطير، فوجب الاحتراز منه، والتضييق فيه ما أمكن.
ولذا يجيز الفقه الإسلامي الفسخ في حالة استحالة التنفيذ لأحد التزامات العقد، سواء أكان ذلك بفعل الملتزم أم لا؛ لأن الالتزام المقابل يصبح بلا سبب، وبناء عليه، يمكن القول بأن هلاك الشيء في جميع الأحوال قبل القبض يؤدي إلى فسخ العقد باتفاق المذاهب. وتقع تبعة الهلاك على عاتق الملتزم، كهلاك المبيع قبل القبض، وكما إذا لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن التزامه بدفع الأجرة يسقط (1) . ويسقط حق الفسخ إذا هلك الشيء أو تغير شكله بعد قبض المشتري له.
__________
(1) النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية للدكتور شفيق شحاته: ص 167.(4/664)
هذا.. وقد نص فقهاء الحنابلة على أنه إذا تعذر على البائع تسليم المبيع، فللمشتري الفسخ (1) .
(44) - وإذا نص على التزام ما صراحة أو ضمناً في العقد، فإن عدم الوفاء به، يؤدي كذلك إلى الفسخ، مثال الصريح: ما لو تعهد المشتري بتقديم رهن أو كفيل بالثمن، ولم يفعل، فإن عقد البيع يفسخ. ومثال الشرط الضمني: ما إذا وجد المشتري في العين المبيعة عيباً، فله الفسخ، لأن سلامة المبيع من العيوب شرط ضمني في عقد البيع، وكذلك في عقد الإجارة. وقد اعتبروا استحقاق المبيع عيباً.
(45) - ويفسخ العقد أيضاً إذا تجزأ الشيء أو تغير شكله قبل التسليم، وكذلك إذا وجد المشتري نقصاً في المقادير؛ لتعيب رضا المشتري الذي لم يتوصل إلى وزن متفق عليه.
وقد يفسخ العقد أيضاً كما تقدم إذا شاب الرضا بعض العيوب، كالغبن التدليسي والخطأ (الغلط) والإكراه، ويفسخ أيضاً في حال بيع العين الغائبة، أو غير المرئية، فللمشتري الذي لم ير المبيع حق الفسخ أيضاً؛ لأن الغلط حينئذ كثير الاحتمال (2) ، وبه يتبين أن الفسخ بالمعنى الصحيح لا يكون إلا في الأحوال التي يصيب فيها رضا العاقد عيب، أو يختل هذا الرضا، لعد تحقق الشرط الذي توقعه العاقد عند التعاقد.
(46) - وأساس الفسخ في جميع الأحوال مخالفة شرط صريح أو ضمني في العقد، ويكون الفسخ نتيجة لإعمال شرط يتضمنه العقد عند الإخلال بالالتزام.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 187/2، الطبعة الجديدة، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد للقاضي أحمد القاري (م 472) .
(2) شفيق شحاته، المرجع السابق: ص168 ومابعدها.(4/665)
وأساس المسؤولية المدنية في الشريعة الإسلامية عن الهلاك الكلي أو الجزئي هو نظرية تحمل التبعة، أي أن كل شخص يتحمل مسؤولية الضرر الذي يحدثه بفعله مباشرة أو تسبباً، فأساس المسؤولية هو الضرر، وليس عنصر الخطأ (1) .
(47) - وأساس تحمل تبعة الهلاك في الفقه الإسلامي ليس كما يرى بعضهم هو طبيعة العقد الملزم للجانبين (2) ، وإنما هو المعاوضة أو المبادلة التي تقتضي إنشاء التزامات متقابلة، وتحقق فكر المساواة التي تقوم عليها العقود، وتحقيق المساواة بين المتعاقدين يقتضي ألا يجبر أحدهما على تنفيذ التزامه، بينما الآخر لم يقم بتنفيذ الالتزام المقابل، وإلا كان في ذلك إخلال بالمساواة المقصودة (3) . قال الكاساني: «ولأن المعاوضات مبناها على المساواة عادة وحقيقة» (4) وقال أيضاً: «ولأن المساواة في العقود المطلقة مطلوب العاقدين (5) » .
وتظهر سلامة هذا التأصيل في حالة الهلاك الجزئي بنحو أوضح، فالالتزام الذي انقضى جانب من محله بالهلاك، لم ينقض بسببه الالتزام تماماً، ومع ذلك فإنه يسقط من الالتزام المقابل ما يساوي قيمة الجزء الهالك من التزام العاقد الآخر، أي الجزء الذي أصبح فيه الالتزام مستحيلاً.
6 - الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة:
(48) - إذا كان المدين معسراً أمهل إلى وقت اليسار، عملاً بنظرة الميسرة {وإن كان ذو عسرة، فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] وإذا كان موسراً مماطلاً في الوفاء، وله مال يفي
__________
(1) مسؤولية الإنسان عن حوادث الحيوان والجماد للدكتور فاضل يوسف دبو: ص 156.
(2) نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي عبد البر: 141/1.
(3) مصادر الحق للسنهوري: 243/6، سبب الالتزام وشرعيته في الفقه الإسلامي للدكتور جمال الدين محمود: ص 449 ومابعدها.
(4) البدائع: 249/5.
(5) المرجع السابق: 201/4. القرآنية:(4/666)
بدينه للحال، جاز للقاضي حبسه باتفاق المذاهب (1) .
وأضاف الحنابلة أنه إذا ظهر المشتري مفلساً أو معسراً، ولو ببعض الثمن، فللبائع خيار الفسخ، والرجوع بعين ماله، ولا يلزمه أن ينظره.
وإذا كان المشتري موسراً مماطلاً، فللبائع الفسخ.
وإذا هرب المشتري قبل نقد الثمن، وهو معسر، فللبائع الفسخ، وإذا كان موسراً، قضاه الحاكم من ماله، وإلا باع المبيع، وقضى ثمنه منه.
وأما إذا كان الثمن حالاً غائباً عن المجلس دون مسافة القصر، فلا فسخ، ويحجر الحاكم المبيع وبقية ماله حتى يحضر الثمن (2) .
والفسخ في هذه الأحوال يدخل تحت ما يسمى بخيار تعذر تحصيل الثمن أو المبيع، ذلك الخيار الذي يثبت على التراضي.
(49) - ووافق المالكية والشافعية مذهب الحنابلة في جواز الفسخ حال الإفلاس، فيكون رأي جمهور الفقهاء إعطاء خيار الفسخ في عقود المعاوضة للعاقد الذي سلّم شيئاً معيناً إلى آخر، بأن يسترده منه بحالة إفلاسه، إذا كان هذا الشيء لا يزال موجوداً عنده بعينه، عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره» (3) وقوله عليه السلام أيضاً:
__________
(1) سيأتي بحث ذلك في باب الإفلاس.
(2) كشاف القناع: 240/3، طبع مكة، شرح منتهى الإرادات: 178/2، الطبعة الجديدة، مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحد للقاضي أحمد القاري (م467-471) .
(3) روي في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة.(4/667)
«من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيِّع - أي البائع - من باعه» (1) .
فلو أفلس المشتري بعد تسليم المبيع وقبل دفع الثمن، فللبائع خيار الفسخ واسترداد المبيع إذا كان هذا المبيع لا يزال بعينه في يد المشتري، عملاً بالحديث المتقدم، ولأن العجز عن إيفاء الثمن يوجب حق الفسخ قياساً على العجز عن إيفاء المبيع؛ لأن المبيع عقد معاوضة يتطلب المساواة.
وليس خيار الفسخ مختصاً بعقد البيع عند الجمهور، بل هو ثابت أيضاً في كل عقود المعاوضات كالإجارة والقرض، فللمؤجر فسخ الإجارة إذا أفلس المستأجر قبل دفع الأجرة، وللمقرض الرجوع على المقترض إذا أفلس وكان عين ماله قائماً.
وأضاف الإمام الشافعي لجواز الرجوع والاسترداد في حال إفلاس المدين الحي حال وفاة المدين إذا تبين أنه مفلس (2) .
(50) - أما الحنفية فلم يجيزوا الفسخ حال الإفلاس وغيره، جاء في المجلة (م 592) : «إذا قبض المشتري المبيع، ثم مات مفلساً قبل أداء الثمن، ليس للبائع استرداد المبيع، بل يكون مثل الغرماء» (وذلك لأن الثمن دين في الذمة) ، وهذا مانع من الفسخ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الخصاف: «أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده متاعه، فهو أسوة غرمائه فيه» وأوّلوا حديث أبي هريرة الذي استند إليه الجمهور بأنه خاص بحالة شرط خيار الفسخ للبائع، وقبضه المشتري بشرط الخيار
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سمرة بن جندب.
(2) شرح الخرشي: 191/4-193، بداية المجتهد: 237/2-240، المهذب: 323/1-327، فتح العزيز133/10-243، المغني: 456/4-460، 505، النظرية العامة للموجبات والعقود، محمصاني: 494/1-496.(4/668)
للبائع (1) ، ولكن هذا التأويل ضعيف واهن؛ لأن الحديث صحيح وعبارته عامة مطلقة، فلا ينقض بحديث ضعيف.
وأجاز الجمهورفسخ الزواج للإعسار أو العجز عن النفقة، والفرقة طلاق عند المالكية، فسخ عند الشافعية والحنابلة لا تجوز إلا بحكم القاضي، وجوازها لدفع الضرر عن الزوجة. ولم يجز الحنفية التفريق بسبب الإعسار؛ لأن الله تعالى أوجب أنظار المعسر بالدين في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة:280/2] (2) .
7 - الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج:
(51) - هناك فوارق بين البطلان والفساد منها: استحقاق الفسخ (3) :
فالباطل لا يحتاج إلى فسخ؛ لأنه معدوم لم يوجد، والفسخ يرد على عقد قائم كالعقد المشتمل على أحد الخيارات، وغير ذلك مما ذكر في أسباب الفسخ.
وأما الفاسد: فيستحق الفسخ رعاية لأحكام الشرع، إما بإرادة أحد العاقدين، أو بإرادة القاضي لأن إزالة الفساد واجب شرعاً، وبالفسخ يرتفع الفساد (4) .
ويبقى حق الفسخ قائماً، ولو بعد التنفيذ حتى يزول سببه إلا إذا وجد أحد موانع الفسخ وهي (5) :
1 - هلاك المعقود عليه أو استهلاكه أو تغيير شكله واسمه كطحن القمح، وخبز الدقيق.
2 - الزيادة المتصلة غير المتولدة من الأصل، كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، والبناء على الأرض، وصبغ الثوب. أما أنواع الزيادات الأخرى وهي الزيادة المتصلة المتولدة كالسمن والجمال، والزيادة المنفصلة المتولدة كالولد والثمرة، أو غير المتولدة كالكسب والغلة، فلا تمنع الفسخ والرد.
3 - التصرف بالشيء المقبوض بعقد فاسد من قبل القابض، كالبيع والهبة والرهن والوقف.
ويلاحظ أن حق الفسخ بسبب الفساد يورث، فلو مات أحد العاقدين، جاز لورثته أو للعاقد الآخر فسخ العقد بعد الموت.
(52) - ويفسخ الزواج باتفاق المذاهب بسبب ردة أحد الزوجين (6) ، لأن الردة تتضمن تبييت الغدر والحقد والعداوة للمسلمين، فلا يناسبها بقاء الحياة الزوجية التي ينبغي أن تقوم على الوفاء والصفاء والحبّ والوئام والسلام، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة، ولو أعجبتكم، ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 330/7-331، طبع التجارية، تكملة فتح القدير: 279/9، طبع دار الفكر- بيروت.
(2) الدر المختار: 903/2، الفروق: 145/3، الشرح الصغير: 745/2، مغني المحتاج: 442/3، المغني: 573/7.
(3) سيأتي بحث الموضوع في عقد البيع.
(4) البدائع: 300/5.
(5) البدائع: 300/5-302، فتح القدير: 231/5، 302، رد المحتار: 137/4، مجمع الضمانات: ص 216.
(6) فتح القدير: 21/3، بداية المجتهد: 70/2، تحفة الطلاب للأنصاري: ص 326، المغني: 56/7 ومابعدها.(4/669)
من مشرك، ولو أعجبكم..} [البقرة:221/2] وقال سبحانه: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر..} [الممتحنة:10/60] وتكون الفرقة بالردة فسخاً عند الجمهور، وطلاقاً في مشهور المذهب عند المالكية.
8 - الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء:
(53) - الفسخ الرضائي: هو الذي يتم بتراضي الطرفين المتعاقدين، أو بإرادة أحدهما وهو الأصل في الفسخ، فالإجارة مثلاً لا بد لصحة فسخها من الرضا أو القضاء، أما المزارعة فيجوز على الرواية الراجحة فسخها، ولو بلا قضاء وتراض.
والفسخ الجبري بطريق القضاء: هو الذي يكون بحكم القاضي، ويلجأ إليه استثناء من الأصل إذا تعذر التراضي، أو إذا لم يراع العاقدان أحكام الشرع في تجنب أسباب الفساد، أو مصادمة نصوص الشريعة.
وقد أشرت لهذا سابقاً في النوع الأول من أنواع الفسخ. وأخصص البحث هنا لبيان آراء المذاهب بإيجاز في أحوال كون الفرقة الزوجيةفسخاً، وما يتوقف من الفرق على القضاء وما لا يتوقف على القضاء.
(54) - يرى الحنفية (1) : أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي:
1 - تفريق القاضي بين الزوجين بسبب إباء الزوجة الإسلام، بعدما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي فإن كان الإباء من الزوج، فتكون الفرقة طلاقاً عند أبي حنيفة ومحمد، وفسخاً عند أبي يوسف.
2 - ردة أحد الزوجين.
3 - تباين الدارين حقيقة وحكماً: بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، وترك الآخر كافراً في دار الحرب، قياساً على الردة، لعدم التمكين من الانتفاع عادة. وقال الجمهور: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين.
4 - خيار بلوغ الصغير أو الصغيرة، ولا تقع الفرقة حينئذ إلا بتفريق القاضي.
__________
(1) فتح القدير: 21/3، البدائع: 336/2 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 571/2.(4/670)
5 - خيار العتق: بأن تعتق الأمة ويبقى زوجها عبداً، فلها الخيار بالبقاء أو إنهاء الزواج، وتثبت الفرقة بنفس الاختيار.
6 - التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر، ولا تكون إلا عند القاضي. وما عدا ذلك من أنواع الفُرَق يكون طلاقاً، ومنها الخلع. وضابط ما يتميز به الفسخ عن الطلاق في رأي أبي حنيفة ومحمد: هو أن كل فرقة بسبب من جانب المرأة تكون فسخاً، وكل فرقة من جانب الرجل أو بسبب منه مختص بالزوج فهي طلاق، إلا الردة فهي فسخ، وكذا الفرقة بالموت تكون فسخاً.
(55) - ويرى المالكية (1) : أن الفرقة تكون فسخاً فيما يأتي:
1 - إذا وقع العقد غير صحيح، كالزواج بإحدى المحارم، والزواج بزوجة الغير أو معتدته.
2 - إذا طرأ على الزواج مايوجب الحرمة المؤبدة، كالاتصال الجنسي بشبهة من أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه، مما يوجب المصاهرة (2)
3 - الفرقة بسبب اللعان: لترتب الحرمة المؤبدة عليه، لحديث: «المتلاعنان لايجتمعان أبداً» . 4 - الفرقة بسبب إباء الزوج الإسلام بعد أن أسلمت زوجته، أو إباء الزوجة غير الكتابية الإسلام بعد إسلام زوجها؛ لأن ذلك في معنى طروء مفسد على الزواج.
__________
(1) بداية المجتهد: 70/2، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 364/2.
(2) رواه الدارقطني عن ابن عباس.(4/671)
(56) - ومذهب الشافعية (1) : أن الفسخ أنواع سبعة عشر: فرقة إعسار مهر، وإعسار نفقة أو كسوة أو مسكن بعد إمهال الزوج ثلاثة أيام، وفرقة لعان، وفرقة خيار عتيقة، وفرقة عيوب بعد رفع الأمر إلى الحاكم وثبوت العيب. ووطء شبهة كوطء أم زوجته أو ابنتها، وسبي الزوجين أو أحدهما قبل الدخول أو بعده؛ لأن الرق أزال الملك عن النفس، فعن العصمة أولى، وفرقة إسلام أحد الزوجين، أو ردته، وإسلام الزوج على أختين أو أكثر من أربع، أو أمتين، وملك أحد الزوجين الآخر، وعدم الكفاءة، وانتقال من دين إلى آخر كالانتقال من اليهودية إلى النصرانية، وفرقة رضاع بشرط كونه خمس رضعات متفرقات قبل مضي حولين.
(57) - وقال الحنابلة (2) : يكون الفسخ في حالات، منها ما يأتي:
1 - الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق، أو بغير نية الطلاق.
2 - ردة أحد الزوجين.
3 - الفرقة لعيب مشترك، وهو الجنون والصرع، أو مختص بالمرأة كالرتق والقرن والبخر والقروح السيالة وانخراق ما بين السبيلين، أو مختص بالرجل كالجب والعُنَّة، ولا يفسخ الزواج إلا حاكم.
4 - إسلام أحد الزوجين.
5 - الفرقة بسبب الإيلاء بواسطة القاضي، إن انقضت المدة وهي أربعة أشهر، ولم يطأ الزوج زوجته، ولم يطلق بعد أن يأمره الحاكم بالطلاق.
6 - الفرقة بسبب اللعان؛ لأن اللعان يوجب التحريم المؤبد بين الزوجين، كما تقدم، ولو لم يحكم به القاضي.
ويلاحظ أن هذه الفرقة توجب حرمة مؤبدة عند الجمهور وأبي يوسف، وتوجب حرمة مؤقتة عند أبي حنيفة ومحمد إذا خرج أحد الزوجين عن أهلية اللعان، أو كذب الرجل نفسه فيما قذف به المرأة.
__________
(1) حاشية الشرقاوي: 294/2-296، تحفة الطلاب: ص 236.
(2) المغني: 56/7 ومابعدها، غاية المنتهى: 46/3، 56-57، 103.(4/672)
وفرقة الفسخ: منها ما يتوقف على القضاء، ومنها ما لا يتوقف عليه (1) :
(58) - أما فرق الفسخ المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفرقة بسبب عدم الكفاءة.
2 - الفرقة بسبب نقصان المهر عن مهر المثل.
3 - الفرقة بسبب إباء أحد الزوجين الإسلام إذا أسلم الآخر، لكن الفرقة بسبب إباء الزوجة متفق عليه، أما بسبب إباء الزوج فهو متفق عليه في رأي الجمهور، وأبي يوسف الذي يرى أن الفرقة فسخ. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومحمد، فلم يريا توقفها على القضاء؛ لأن الفرقة حينئذ طلاق في رأيهما.
4 - الفرقة بسبب خيار البلوغ لأحد الزوجين عند الحنفية إذا زوجهمافي الصغر غير الأب والجد.
5 - الفرقة بسبب خيار الإفاقة من الجنون عند الحنفية إذا زوج أحد الزوجين في الصغر غير الأب والجد والابن.
(59) - وأما فرق الفسخ غير المتوقفة على القضاء فهي:
1 - الفسخ بسبب فساد العقد في أصله، كالزواج بغير شهود، والزواج بالأخت.
2 - الفسخ بسبب اتصال أحد الزوجين بأصول الآخر أو فروعه اتصالاً يوجب حرمة المصاهرة.
3 - الفسخ بسبب ردة الزوج في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن ارتد الزوجان فلا يفرق بينهما بمجرد الردة في الراجح عند الحنفية.
4 - الفسخ بسبب خيار العتق للزوجة.
5 - الفسخ بسبب ملك أحد الزوجين للآخر.
9 - الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف:
(60) - العقد عند الحنفية والمالكية إما نافذ أو موقوف، والنافذ: هو ما صدر ممن له أهلية وولاية على إصداره، كالعقد الصادر من الرشيد في ماله، أو الولي أو الوصي عن القاصر، أو الوكيل عن موكله، وحكمه: أنه تترتب عليه آثاره فور صدوره من غير توقف على إجازة أحد.
__________
(1) المراجع السابقة.(4/673)
والموقوف: هو ما صدر من شخص له أهلية التعاقد، من غير أن يكون له ولاية إصداره، كعقد الفضولي، وعقد الصغير المميز في التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع ونحوه، والتصرف من الراهن أو المرتهن في الشيء المرهون، والوصية وتبرعات المريض مرض الموت فيما يزيد عن ثلث المال. وحكمه: أنه لا تترتب عليه آثاره إلا إذا أجازه صاحب الشأن أو الحق الذي يملك إصداره، فإن لم يجزه، بطل العقد. أما الشافعية والحنابلة فقالوا: إنه باطل من الأصل.
(61) - وعدم إجازة العقد الموقوف ممن له ولاية أو ملك والذي يتوقف نفاذ العقد على رضاه يعد من أسباب انحلال العقد أو فسخه عند القائلين بانعقاده (1) .
إن عقود الفضولي (2) تكون موقوفة على إجازة صاحب الحق، فإن أجازه نفذ، وإلا فسخ واعتبر كأن لم يكن، وعقد الصغير المميز غير المأذون له في التجارة، فيما يتردد بين الضرر والنفع موقوف على إجازة وليه، فإن أجازه نفذ وإلا بطل، وتصرف المدين المحجور عليه أو المدين المفلس موقوف على إجازة الدائنين، وتبرع المريض مرض الموت من هبة أو صدقة فيما زاد عن ثلث تركته موقوف على إجازة الورثة، والوصية من الصحيح فيما يزيد عن ثلث التركة
موقوفة على إجازة الورثة، وتصرفات السفيه والمغفل المترددة بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء والقرض موقوفة على إجازة الولي.
فإن لم يجز هؤلاء أصحاب الحق التصرف انحل وعدَّ كأن لم يكن.
__________
(1) الدر المختار رد المحتار: 5/4-6، 104، البدائع: 148/5-150، 155، بداية المجتهد: 171/2، فتح القدير مع العناية بهامشه: 309/5 ومابعدها، وسيأتي في عقد البيع بحث الموضوع.
(2) الفضولي في الأصل: من يشتغل بما لا يعنيه أو يعمل عملاً ليس من شأنه، واصطلاحاً: من يتصرف في شيء أو يعقد عقداً من العقود، دون أن يكون له ولاية ما على القيام به، كبيع ملك الغير أو إجارته.(4/674)
10 - الفسخ بسبب الاستحقاق:
(62) - الاستحقاق لغة: طلب الحق، وفقها: ظهور كون الشيء حقاً واجباً للغير، أوهو أن يدعي شخص ملكية شيء، ويثبت دعواه ويقضي له القاضي بملكيته، وانتزاعه من يد حائزه. وعرفه المالكية بقولهم: هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله. فهو يجيز للمستحق طلب فسخ التصرف أو إمضاءه كالخيار، وتصرف الفضولي.
(63) - والاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان (1) :
1 - مبطل للملك بالكلية: بحيث لا يبقى لأحد عليه غير المدعي حق التملك، كالعتق والحرية الأصلية، وحكمه: أنه يوجب فسخ العقد بلا حاجة لحكم القاضي، ولكل واحد من الباعة الرجوع على بائعه بالثمن، فلو أقام العبد بينة أنه حر الأصل، أو أنه كان عبداً لفلان، فأعتقه، فكل واحد، وإن لم يرجع عليه، أن يرجع على بائعه قبل القضاء عليه، ويرجع هو أيضاً على بائعه الأول.
2 - وناقل للملك من شخص إلى آخر: وهذا هو الغالب، كأن ادعى زيد على خالد أن مافي يده من المتاع ملك له، وبرهن على ادعائه. وحكمه: أنه لا يوجب فسخ العقد؛ لأنه لا يوجب بطلان ملك المشتري، وإنما يتوقف على إجازة المستحق أو فسخه. والصحيح عند الحنفية أن العقد لا ينفسخ ما لم يرجع المشتري على بائعه بالثمن، ويفسخ العقد - في الأصح من ظاهر الرواية - بالفسخ، أي بالتراضي، لا بمجرد القضاء بالاستحقاق.
وليس لأحد من المشترين أن يرجع على بائعه بالثمن، ما لم يرجع عليه، لئلا يجتمع الثمنان في ملك واحد، أي فليس للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الأخير.
والحكم بالاستحقاق يشمل الحائز ذا اليد، فيؤخذ المدعى به من يده، ويشمل أيضاً كل من تلقى ذو اليد الملك عنه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 199/4.(4/675)
(64) -. وتطبيقاً لذلك، إذا استحق بعض المبيع المعقود عليه قبل القبض، ولم يجز المستحق، بطل العقد في القدر المستحق؛ لأنه تبين أن ذلك القدر لم يكن ملك البائع، ولم توجد الإجازة من المالك، وللمشتري الخيار في الباقي، إن شاء رضي به بحصته من الثمن، وإن شاء رده، سواء أحدث عيباً في الباقي أم لا.
وإن أثبت المستحق ملكيته المبيع كله بالبينة، فقضي له به، لا ينفسخ البيع، بل يصبح متوقفاً على إجازة المستحق، فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة. وإن لم يجز المستحق البيع، بل اختار أخذ المبيع، ينفسخ البيع السابق بالفسخ، أي بالتراضي عليه - في ظاهر الرواية- ويكون البائع ملتزماً للمشتري برد الثمن.
ما يقبل الفسخ وما لا يقبل:
(65) - تنقسم العقود من حيث قابليتها للفسخ من كلا الطرفين المتعاقدين أو من طرف واحد إلى أربع فئات: عقود لازمة للطرفين، وغير لازمة لهما، ولازمة لطرف دون آخر، والتصرف بالإرادة المنفردة.
1 - العقود اللازمة للطرفين:
(66) - العقد النافذ إما لازم أو غير لازم، واللازم: هو ما ليس لأحد عاقديه فسخه دون رضا الآخر، كالبيع والإجارة. والأصل في العقود اللزوم كما تقدم؛ لأن الوفاء بالعقود واجب شرعاً، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] وغير اللازم أو الجائز: هو ما يملك كل من طرفيه أو أحدهما فقط فسخه دون رضا الآخر، إما عملاً بطبيعة العقد نفسه كالوكالة والإعارة والإيداع، أو لمصلحة العاقد كالعقد المشتمل على الخيار.
والعقد اللازم للطرفين: هو ما لا يمكن فسخه كعقده إلا باتفاق الطرفين، كالبيع، والإجارة، والصلح، والرهن والزواج، وهو نوعان:(4/676)
أ - عقد لازم لا يقبل الفسخ: كالزواج، ولو باتفاق الطرفين بطريق الإقالة، أي لا يقبل الإلغاء الاتفاقي، وإنما يقبل الإنهاء بطرق شرعية كالطلاق والخلع (1) والتفريق القضائي لعدم الإنفاق، أو للعيب، أو للضرر وسوء العشرة، أو للغيبة، أو للحبس والاعتقال ونحو ذلك. وكل ما لا يقبل الفسخ لا يثبت فيه خيار؛ لأن الخيار يعطي حق الفسخ لصاحبه.
ب - عقد لازم يقبل الفسخ: أي يقبل الإلغاء بطريق الإقالة، التي هي اتفاق العاقدين على إنهاء العقد، وهي عقود المعاوضات المالية، كالبيع والإيجار والصلح والمزارعة والمساقاة والمغارسة ونحوها، ويسمى الفسخ عندئذ إقالة. وهذه العقود تقبل الفسخ بالخيار أيضاً، إذا طرأ عليها عيب من عيوب الرضا الذي يسلخ عنها صفة اللزوم في حق أحد الطرفين، كخيار العيب وغيره.
2 - العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين:
(67) - وهي التي يملك كل من العاقدين فيها حق الفسخ والرجوع، فتفسخ بإرادة كل منهما، ما لم يتعلق ببقائها حق للغير، كالإيداع والإعارة والوكالة والشركة والمضاربة والهبة عند الحنفية، والوصية، والمقاولة، فالعقود الخمسة الأولى يجوز لكل من العاقدين فيها فسخ العقد متى شاء. والوصية والهبة يصح للموصى والواهب الرجوع عنها، كما يصح للموصى له والموهوب له ردها وإبطالها بعد وفاة الموصي، وفي حال حياة الواهب. والمقاولة يجوز لكل من صاحب العمل والمقاول الاتفاق على فسخها أو إنهائها بالتراضي، فإن لم يتفقا على ذلك جاز الفسخ قضاء بطلب أحد الطرفين.
فإن تعلق ببقاء العقد حق للغير، كالوكالة ببيع الرهن، لايجوز للراهن المدين عزل الدائن المرتهن الموكل بالبيع عن الوكالة، أي فسخ وكالته إلا بموافقة المرتهن منعاً من إلحاق الضرر به.
__________
(1) الطلاق ليس فسخاً، بل انهاء له بوضع حد لحكمه وآثاره. والخلع: هو إنهاء الزواج لقاء مال تدفعه الزوجة لزوجها.(4/677)
(68) - ويلاحظ أن الهبة عند الحنفية عقد غير لازم، فيصح الرجوع عنه والفسخ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها» (1) أي يعوض، فإنه عليه السلام جعل الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه العوض، فيصح الرجوع ما لم يحصل تعويض، وإن تم القبض، فالعوض مانع من الرجوع، وموانع الرجوع سبعة: هي العوض المالي، والعوض المعنوي وهو ثلاثة أنواع:
(الثواب من الله تعالى، وصلة الرحم، وصلة الزوجية) والزيادة المتصلة في نفس الموهوب، وخروج الموهوب عن ملك الموهوب له بالبيع أو الهبة ونحوهما، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب أو استهلاكه) (2) .
وقال الجمهور: الهبة عقد لازم بالقبض، لا يجوز الرجوع فيه إلا الوالد فيما أعطى ولده؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه» (3) وقوله عليه السلام: «ليس لأحد أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» (4) وسائر الأصول كالوالد عند الشافعية (5) .
3 - العقد اللازم لطرف دون آخر:
(69) -. وهو اللازم لأحد الطرفين، كالرهن والكفالة، فإنهما لازمان بالنسبة إلى الراهن والكفيل، غير لازمين بالنسبة للدائن المرتهن والمكفول؛ لأن العقد لمصلحتهما الشخصية توثيقاً للحق، فلهما التنازل عنه، أي أن العقد يفسخ بإرادة من ليس لازماً بحقه، وهو المرتهن والمكفول له.
4 - تصرفات الإرادة المنفردة:
(70) -. وهي التي تنعقد بإرادة واحدة، وتفسخ بإرادة منشئها، كالوصية
__________
(1) أخرجه ابن ماجه والدارقطني عن أبي هريرة، وفيه ضعيف، وأخرجه الطبراني والدارقطني عن ابن عباس وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عمر.
(2) البدائع: 127/6، تكملة فتح القدير: 129/7، مجمع الضمانات: ص338.
(3) أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(4) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر وابن عباس بلفظ: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل، فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه» .
(5) الشرح الكبير مع الدسوقي: 110/4، المنتقى على الموطأ: 133/6، مغني المحتاج: 401/2، المهذب: 447/1، المغني: 621/5.(4/678)
لجهة خيرية، فإنها تفسخ بإرادة الموصي نفسه، وكالجعالة (1) التي هي التزام بإرادة واحدة، وهي عقد جائز غير لازم، يجوز فسخه بإرادة الجاعل، فمن أعلن عن مكافأة لمن يعثر على شيء ضائع،، أو لمن يكتشف علاجاً لمرض معين، أو لمن يتفوق في مسابقة معينة أو امتحان ما، له أن يعدل عن إعلانه أو وعده قبل تحقق الشيء المعلن، فهنا انعقد العقد لمجرد الإيجاب، وقبل قبول الملتزم له، فيجوز نقض الإىجاب؛ لأن للموجب أن يرجع عن إيجابه دائماً قبل القبول. وإذا ما أبدى الملتزم له صراحة رفضه للعقد، سقط العقد في جميع الأحوال.
حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ:
(71) -. القاعدة المقررة في الفقه الإسلامي كما تقدم أنه لا يجوز في العقود الملزمة للجانبين أو عقود المعاوضة فسخ العقد إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه، وإنما يحق له مطالبة المدين بتنفيذ التزامه على أن ينفذ هو ما في ذمته من التزام. لكن يجوز فسخ العقد استثناء إذا تعذر على أحد المتعاقدين القيام بالتزامه، كأن هلك المعقود عليه، أو صار في حكم الهالك، أو فاتت منفعته المقصودة (2) .
وبناء عليه، أذكر هنا حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ.
__________
(1) الجعالة: التزام عوض معلوم على عمل معين أو مجهول عسر علمه (الشرح الصغير: 79/4، مغني المحتاج: 429/2، كشاف القناع: 225/4) .
(2) مصادر الحق للسنهوري:217/6،225، المحمصاني، المرجع السابق: 498/1، شفيق شحاته، المرجع السابق: ص 167.(4/679)
حالات فسخ العقود: يفسخ العقد استثناء في أحوال خاصة في عقد البيع والإيجار.
فسخ عقد البيع: يفسخ عقد البيع، ويكون الضمان على البائع في أحوال خمسة هي:
(72) - 1- ضمان هلاك المبيع: يضمن البائع المبيع وينفسخ عقد البيع إذا هلك المبيع كله قبل القبض بآفة سماوية، أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع ويرجع المشتري على البائع بالثمن إذا كان البائع قد قبضه.
أما إذا هلك المبيع بفعل المشتري فلا ينفسخ البيع، وعليه الثمن. وإذا هلك المبيع بفعل أجنبي لا ينفسخ البيع أيضاً، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان (1) .
وكذلك يضمن البائع للمشتري مقدار المبيع إذا ظهر أنه ناقص في الكيل أو الوزن، أو الذرع فيما ليس في تبعيضه ضرر، أو كان من العدديات المتقاربة مع شرائها بجملة ثمنها أو قدر الثمن على أساس ثمن الوحدة. ويكون المشتري بالخيار بين فسخ البيع أو أخذ المقدار الموجود بحصته من الثمن، كما يكون له الخيار في بيع الموزونات أو المذروعات التي في تبعيضها ضرر بين فسخ البيع أو أخذ المقدار الموجود بجميع الثمن المسمى.
أما إذا بيعت مجموعة من العدديات المتفاوتة بجملة من الثمن، وظهر المبيع ناقصاً أو زائداً، كان البيع فاسداً (2) .
هذا تفصيل الحنفية، ويوافقهم الشافعية في الجملة في فسخ البيع بهلاك المبيع بآفة سماوية، أما المالكية والحنابلة فقالوا: لا ينفسخ البيع، بل للمشتري أن يجبر
__________
(1) المبسوط: 9/13، البدائع: 238/5 ومابعدها، رد المحتار: 4/44، المجلة (م 293، 294) مرشد الحيران (م 460، 462، 465) .
(2) مرشد الحيران: (م 448-452) .(4/680)
البائع على تسليم ما يماثل المبيع إن كان من المثليات، وعلى دفع قيمته إن كان من القيميات، وله عند الحنابلة أن يفسخ البيع إذا شاء، وأن يسترد الثمن من البائع (1) .
(73) - 2 - ضمان استحقاق المبيع: يضمن البائع للمشتري أيضاً استحقاق المبيع، ويكون المشتري مخيراً بين أخذ المبيع وفسخ البيع السابق بالتراضي عليه في ظاهر الرواية، ويلزم البائع برد الثمن للمشتري، وبين إجازة البيع، وبقاء المبيع للمشتري، وأخذ المستحق الثمن من البائع، ويصبح البائع كوكيل عنه بالبيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة (2) .
(74) - 3 - ضمان العيب في المبيع: يضمن البائع عيب المبيع، ويكون المشتري بالخيار (خيار العيب) بين فسخ البيع ورد المبيع واسترداد الثمن، وبين إمساك المبيع إن رضيه، إذا ثبت كون العيب موجوداً عند البيع أو بعده قبل التسليم، وعند المشتري، وجهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، ولم يشترط البائع السلامة عن العيب في المبيع، وأن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب، وألا يزول العيب قبل الفسخ.
وهذا رأي جمهور الفقهاء ومنهم أبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بنقصان العيب فقط إن شاء (3) .
(75) - 4 - ضمان جوائح الثمار المبيعة: يرى المالكية والحنابلة أن الجوائح (4) التي تصيب الثمار من ضمان البائع، وأن للمشتري أن يرجع بما أحدثته من التلف. ويرى الحنفية والشافعية أن هلاك الثمار من ضمان المشتري، ولا رجوع له بشيء على البائع.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 482/4، شرح الخرشي: 72/4-73، المغني: 218/4.
(2) البدائع: 288/5 ومابعدها، فتح القدير: 175/5 ومابعدها.
(3) البدائع: 273/5-276، فتح القدير: 153/5، رد المحتار: 74/4.
(4) الجوائح: جمع جائحة: وهي الآفة التي تصيب الثمار، فتهلكها، كالبرد والقحط والعطش والعفن وأمراض النباتات والزروع ونحوها من الآفات السماوية. أو هي كل آفة لا صنع للآدمي فهيا كالريح والبرد والجراد والعطش.(4/681)
أما المالكية فقالوا في الأرجح عندهم: يضمن البائع ما تتلفه الجائحة في الثمار والبقول، سواء القليل والكثير، وفي رأي مالك: يكون مقدار نقص الثمن إذا أصابت الجائحة الثلث فأكثر في الثمار والبقول. ويحسب الثلث بالكيل عند ابن القاسم، وبالقيمة عند أشهب. وكذلك قال الحنابلة في ظاهر المذهب: لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله، كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه (1) .
ودليلهم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع الجوائح» (2) وفي لفظ لمسلم: «أمر بوضع الجوائح» وفي لفظ: «إن بعت من أخيك ثمراً، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذمنه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (3) .
5 - ضمان الخيانة أو فسخ عقود المرابحة بسبب الخيانة: يرى الحنفية أنه إذا ظهرت الخيانة في المرابحة بإقرار البائع، أوببرهان عليها أو بنكوله عن اليمين، كان للمشتري الخيار: إن شاء أخذ المبيع، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد مبني على الأمانة؛ لأن المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول، فكانت صيانة البيع الثاني عن الخيانة مشروطة دلالة أو ضمناً، فإذا لم يتحقق الشرط ثبت الخيار، كما في حالة عدم تحقق سلامة المبيع عن العيب (4) .
__________
(1) بداية المجتهد: 184/2، القوانين الفقهية لابن جزي: ص262، المنتقى على الموطأ: 231/4، الشرح الكبير للدردير: 182/3، المغني: 104/4، أعلام الموقعين: 337/2، مختصر الطحاوي: ص 78، نيل الأوطار: 178/5.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن جابر.
(3) رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
(4) المبسوط: 86/3،البدائع: 225/5، فتح القدير: 256/5.(4/682)
فسخ عقد الإيجار:
(76) -. عرفنا سابقاً في بحث الفسخ للأعذار الطارئة أن الحنفية (1) خلافاً لجمهور العلماء أجازوا فسخ الإجارة بالأعذار الطارئة، كمرض المستأجر أو سفره أو إفلاسه أو سرقة ماله، أو احتراق بضاعته، أو لحوق دين فادح بالمؤجر لا يجد طريقاً لقضائه إلا ببيع المأجور وأدائه من ثمنه، كما أجازوا فسخ الإجارة لموت أحد العاقدين، وذلك ليس تطبيقاً لقاعدة فسخ العقد لعدم تنفيذه.
كذلك قرروا فسخ الإجارة لسبب يرجع إلى العين المؤجرة أو إلى الأجرة. أما فسخها لسبب يرجع إلى العين المؤجرة: فيكون إذا هلكت العين أو استحقت أو حدث بها عيب أو طرأ عليها ما يمنع استيفاء المنفعة المقصودة منها.
(77) -. فللمستأجر فسخ العقد إذا حدث بالدابة المؤجرة مرض أو عرج. وللمستأجر فسخ الإجارة إذا تغيرت الدار المؤجرة بفعل المؤجر أو بفعل غيره تغيراً يخل بالسكنى، أو إذا لم يقم المؤجر بترميم ما اختل من بنائها، أو خربت الدار أو انهدم جزء منها، أو ترتب على العمارة الضرورية للدار ما يضر بالسكنى أو يخل بالمنفعة المقصودة. كما أن لمستأجر الأرض فسخ الإجارة إذا صارت سبخة أو غمرت بالماء ولم يمكن زراعتها أو انقطع الماء عنها، فلم يمكن ريها.
وللمستأجر الفسخ بحدوث تفرق الصفقة في المنافع، كأن يستأجر دارين، فتسقط إحداهما، أو يستأجر داراً فيمتنع المؤجر عن تسليم بيت منها.
وأما فسخ الإجارة بسبب الأجرة: فيكون إذا لم يستوف المؤجر الأجرة، وهذا بخلاف البيع، فلا يفسخ لعدم دفع الثمن إلا إذا اشترط البائع خيار النقد (1) كما سيأتي. وكذلك تفسخ الإجارة إذا استأجر رجل حماماً في قرية، ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، ولا يجب على المستأجر الأجرة للمؤجر.
__________
(1) المبسوط: 2/16 ومابعدها، البدائع: 194/4-198، تكملة فتح القدير: 220/7-223، تبيين الحقائق: 143/5-146، رد المحتار: 54/5-56، المجلة (م 514) مرشد الحيران (م 583-584) .(4/683)
وفي الإجارة على الأعمال قال الحنفية: إن كان لعمل الأجير المشترك كالخياط والصباغ والحداد أثر ظاهر في العين المؤجرة، ثم هلكت سقط الأجر، وأما إن لم يكن لعمل الأجير أثر ظاهر في العين المؤجرة كالحمال والملاح، فيجب الأجر بمجرد انتهاء العمل، ولا يسقط الأجر بهلاك العين بعدئذ (2) .
حالات عدم الفسخ:
(78) - لا يفسخ العقد في غير الأحوال المتقدمة، كما يبين من الأمثلة التالية في عقود البيع والإيجار ونحوه، والرهن والصلح.
عقد البيع: لا يفسخ إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن عند استحقاقه، فإن كان الثمن حال الأداء أي معجلاً، وجب أداؤه فوراً، وإن كان الثمن مؤجلاً إلى أجل معلوم، لزم أداؤه عند حلول أجله، وإن كان مقسطاً أدى كل قسط في ميعاده.
ولا يفسخ البيع عند عدم استيفاء الثمن إلا إذا اشترط البائع لنفسه صراحة في العقد ما يعرف بخيار النقد، فيفسخ العقد حينئذ بسبب الخيار الذي يجعل البيع غير لازم (3) .
__________
(1) خيار النقد: هو فرع عن خيار الشرط، وهو أن يشترط المتبايعان في عقد البيع لأجل أن المشتري إذا لم يدفع الثمن في الأجل المعين كثلاثة أيام، فلا بيع بينهما.
(2) البدائع: 204/4، تبيين الحقائق: 109/5، الدر المختار ورد المحتار: 12/5.
(3) المبسوط: 50/13، فتح القدير: مع العناية: 114/5، الدر المختار ورد المحتار: 51/4، المجلة (م313) مرشد الحيران (م 418-484) .(4/684)
وإذا مات المشتري مفلساً بعد قبض المبيع وقبل نقد الثمن، فالبائع ـ عند الحنفية خلافاً للشافعية كما تقدم في الفسخ للإفلاس - أسوة الغرماء، ولو وجد متاعه باقياً بعينه فلا يكون أحق به من غيره من أرباب الحقوق الذين لهم حق على المشتري (1) .
(79) - وعقد الإيجار: لا يفسخ إن استأجر شخص دابة بغير عينها أي إجارة ذمة، ويكون له الحق في أن يطالب بدابة أخرى؛ لأنه تعاقد على نقل الحمل إلى مكان معين على أية دابة، فإذا تلفت الدابة أو تعبت، يستبدل بها غيرها، أي يطلب التنفيذ العيني، وليس له فسخ العقد.
لكن إن كانت الدابة مستأجرة بعينها، فتلفت، فسخت الإجارة، وإن تعبت كان المستأجر بالخيار بين نقض الإجارة أو الانتظار حتى تقوى الدابة، وليس له أن يطالب بدابة أخرى (2) .
وقال في لسان الحكام: لو أظهر المستأجر في الدار شرا، كشرب الخمر وأكل الربا والزنا واللواطة يؤمر بالمعروف، وليس للمؤجر وجيرانه أن يخرجوه، فذلك لا يصير عذراً في الفسخ، ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة.
(80) - وعقد المزارعة الذي هو نوع من الإيجار: ليس لصاحب الأرض فسخه إن قصر المزارع في سقي الأرض حتى هلك الزرع أو يبس، أو أخر السقي تأخيراً غير معتاد، أو ترك حفظ الزرع حتى أكلته الدواب، أو لم يمنع الجراد حتى أكل الزرع كله. ولكن يجوز فسخها بالإقالة، ويكون المحصول لصاحب البذر، فإن كان صاحب البذر هو صاحب الأرض، استحق المزارع أجر مثل عمله، وإن كان صاحب البذر هو المزارع، استحق صاحب الأرض أجر مثل الأرض. كذلك يجوز للمستحق فسخ المزارعة إذا استحقت الأرض، وله قلع الزرع إن كان العاقدان سيّيّء النية، وله على من قدم الأرض أجر المثل إن كان العاقدان حسني النية، وعليه أجر المثل للمزارع
__________
(1) مرشد الحيران (م 463) .
(2) مرشد الحيران (م 598) المجلة (م538) .(4/685)
إن كان حسن النية، وكان من قدم الأرض سيّيّء النية (1) .
(81) - وعقد المساقاة: الذي هو أيضاً نوع من الإيجار: لا يجوز فسخه إلا بالتراضي (أي بالإقالة) وليس لأحد العاقدين طلب الفسخ، حتى ولو أخل المتعاقد الآخر بالتزاماته، وإنما له مطالبته بتنفيذ التزامه.
وهو يفسخ كالإيجار كما تقدم بالعذر، كما إذا عجز العامل عن العمل أو كان غير مأمون على الثمر، على صاحب الشجر أجر مثل عمل المساقي قبل الفسخ. ويفسخ أيضاً باتفاق المذاهب باستحقاق الشجر أو الثمر، أو الزرع في رأي المالكية الذين يجيزونه على زروع ذات أصول غير ثابتة، كالمقاثي، وبعض الزروع، كالقصب الحلو والبصل والباذنجان والحمص والفاصوليا.
وليس للمساقي عند الحنفية خلافاً للمالكية أن يساقي غيره دون إذن صاحب الشجر، فإن فعل، كان صاحب الشجر بالخيار بين أن يأخذ الغلة كلها، ويعطي من قام بالعمل أجر مثله، وبين أن يترك الغلة لهما، ويرجع على المساقي الأول بأجر مثل محل المساقاة، وضمنه ما لحق به من ضرر بسبب فعله (2) .
(82) - وعقد الرهن أي الرهن الحيازي وكذا الرسمي والتأميني:
لا ينفسخ لعدم تنفيذ أحد المتعاقدين التزاماته؛ لأنه عقد ملزم للجانبين، وإنما للعاقد الآخر المطالبة بالتنفيذ، فإذا أخل الراهن بالتزامه وباع المرهون بلا إذن المرتهن، لم يفسخ العقد، ولم ينفذ البيع إلا بإجازة المرتهن، لكن إن هلك المرهون في يد المشتري، كان للمرتهن الخيار: إن شاء ضمن المشتري قيمته يوم هلاكه، وإن شاء ضمنها الراهن.
__________
(1) المجلة (م 13، 19، 96، 1438) مرشد الحيران (721 - 724، 729-730) .
(2) مرشد الحيران (م 734، 736، 738) .(4/686)
وإذا أخل المرتهن بالتزاماته، بقي الرهن قائماً ولم يفسخ، فإن تعدى المرتهن وباع المرهون بلا إذن الراهن، لم ينفذ البيع، ويبقى الرهن قائماً لا يفسخ، فإن هلك المرهون في يد المشتري، كان للراهن الخيار في تضمين المشتري أو المرتهن. وإن رهن المرتهن المرهون بلا إذن الراهن، لم ينفذ الرهن الثاني، ويبقى الرهن الأول قائماً لا يفسخ. وإن باع المرتهن ثمار العين المرهونة بلا إذن الراهن أو القاضي، فلا يفسخ الرهن، بل يبقى قائماً، ويضمن المرتهن قيمة الثمار (1) . وإن هلك المرهون في يد الدائن المرتهن، ضمن الأقل من قيمته ومن الدين عند الحنفية، ولا يضمنه في مذهب الجمهور إلا بالتعدي أو التقصير (2) . وإذا شرط المرتهن تملك المرهون في مقابل دينه إن لم يؤده الراهن في الأجل، كان الشرط باطلاً لمنافاته الحديث: «لا يَغلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه» (3) .
والخلاصة: أن الرهن لا يفسخ لإخلال الراهن أو المرتهن بالتزامه، والعلاج إما عدم نفاذ التصرف، أو الإجبار على التنفيذ، أو الضمان عند الهلاك (4) . وعدم نفاذ التصرف كتصرف الفضولي هو رأي الحنفية والمالكية، وأما الشافعية والحنابلة فيرون أن التصرف باطل
__________
(1) تبيين الحقائق: 81/6 ومابعدها.
(2) البدائع: 160/6، الشرح الكبير للدردير: 344/3، مغني المحتاج: 137/2، المغني: 396/4.
(3) رواه الشافعي والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن متصل. وغلق الرهن: استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه، فمعنى (لا يغلق) لا ينفك ملك الرهن عن صاحبه ولا يستحقه المرتهن، إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط.
(4) مصادر الحق للسنهوري: 222/6 ومابعدها.(4/687)
(83) - وعقد الصلح أيضاً ملزم للطرفين بعد وقوعه، ولا يسوغ لأيهما أو لورثته من بعده الرجوع فيه، ويلتزم كل واحد من المتصالحين بما التزم به نحو الآخر، ولا يفسخ إذا كان في حكم المعاوضة، بأخذ شيء عن آخر إلا بالإقالة أي بتراضي الطرفين، ولاتجوز إقالة الصلح إذا تضمن إسقاطاً لبعض الحقوق. ولا يفسخ الصلح بمعنى المعاوضة (وهو الصلح عن إقرار على بدل معين يدفعه المقر) لعدم تنفيذ أحد المتعاقدين التزامه، حتى ولو ضاع بدل الصلح أو استحق، وكان مما لا يتعين بالتعيين كالنقود، ويلزم من التزم به بمثل ما ضاع أواستحق. أما إذا كان البدل مما يتعين بالتعيين، فلا بد من فسخ الصلح؛ لهلاك المحل. ويرجع المدعي في الصلح عن إقرار على المدعى عليه بالمدعى به كله أو بعضه، فإن كان الصلح عن إنكار يرجع المدعي إلى المخاصمة (1) .
وذهب المالكية إلى أنه إذاكان الصلح عن إنكار (وهو الصلح الواقع مع إنكار المدعى عليه) ، فللمظلوم من المتصالحين نقض الصلح في الأحوال الآتية؛ لأنه كالمغلوب على أمره في قبول الصلح:
1 - إذا أقر الظالم بعد الصلح بظلمه للآخر: بأن يقر المدعى عليه بأن دعوى المدعي حق، أو بأن يقر المدعي ببطلان دعواه.
2 - إذا شهدت للمظلوم بعد الصلح بينة لم يكن يعلمها وقت الصلح، وحلف على عدم علمه بها.
__________
(1) مرشد الحيران (م 1048، 1049) .(4/688)
3 - إذا كانت له بينة غائبة بعيدة يتعذر إحضارها وقت الخصومة، وأشهد عند الصلح أنه يقوم بها إذا حضرت.
4 - إذا وجدت وثيقة الحق عند المدعي بعد الصلح (1) .
(84) - وكذلك عقد الشركة: لا يفسخ لإخلال أحد الشركاء بالتزامه،
بل يجب على المخل بالتزامه الضمان (2) أي حتى ولو كانت الشركة عقداً غير لازم يجوز فسخه في رأي جمهور العلماء إذا أريد بقاء الشركة، وقرر المالكية أن الشركة عقد لازم، فتكون كالبيع والإيجار والرهن؛ لأن العقد شريعة المتعاقدين.
فروق بين الفسخ وغيره:
لقد سبق بيان الفروق بين الفسخ وغيره، وأوجزها هنا مقتصراً على بيان الفروق فقط فيما سبق ذكره، وأوضح ما لم يذكر سابقاً.
1 - الفرق بين الفسخ والانفساخ:
(85) - ينحصر الفرق بين الفسخ والانفساخ في طريق نشوئه، فالفسخ: إما أن ينشأ عن الرضا أو الإرادة، أو جبراً عن المتعاقدين أو عن أحدهما بحكم القاضي. أما الانفساخ فينشأ عن حادث طبيعي وهو استحالة تنفيذ مقتضى العقد، كهلاك أحد البدلين، وينفسخ العقد المستمر كعقد الإيجار إذا فقد ما يعتمد عليه بقاؤه.
فينفسخ البيع بهلاك المبيع قبل قبضه، لاستحالة تنفيذ العقد بالتسليم بعد هلاك محله ولا ينفسخ بموت البائع، بل يطالب الوارث بالتسليم، لثبوت آثار العقد الفوري عقب حدوثه دون توقف على بقاء العاقد. وتنفسخ الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة بموت أحد العاقدين في مذهب الحنفية خلافاً للجمهور؛ لأن هذه العقود تنشئ التزامات عملية ذات آثار متجددة، فيها انسحاب واستمرار يعتمد بقاؤه بقاء العاقد، علاوة على بقاء المحل (3) .
2 - الفرق بين الفسخ (انحلال العقد) وانقضاء الالتزام:
(86) -. هناك فرق واضح بين الفسخ أو انحلال العقد، وبين انقضاء الالتزام، فالفسخ: يؤدي إلى حل الرابطة التي كانت بين المتعاقدين، ويلغي الالتزامات القائمة بينهما. فهذا الفسخ يستلزم انقضاء الالتزامات التي كانت ناشئة بذلك العقد المنحل، ففسخ البيع مثلاً ينهي التزام المشتري بدفع الثمن، والتزام البائع بتسليم المبيع.
أما انقضاء الالتزام: فيحصل إما بتنفيذ الالتزام ووصول كل ذي حق إلى حقه، وإما بسقوط عهدة التنفيذ؛ لزوال ما أوجبها.
__________
(1) التقنين المالكي (م255) الذي صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الشرح الصغير: 414/3.
(2) المجلة (م 1387) .
(3) المدخل الفقهي، للأستاذ الزرقاء: ف /302، 303.(4/689)
فكل انحلال للعقد تنقضي به التزاماته السابقة، ولا عكس، أي لا يلزم من انقضاء الالتزام انحلال العقد الذي أنشأه؛ إذ قد يكون الانقضاء بتنفيذ الالتزام الذي أوجبه، لا بسقوط العقد الموجب. وعلى هذا فتقابض العاقدين في المبيع والثمن هو انقضاء للالتزام بتنفيذ العقد، وليس هو فسخاً أو انحلالاً للعقد (1) .
وإنجاز المقاول العمل المتفق عليه هو انقضاء للالتزام أو انقضاء للمقاولة، أما فسخ المقاولة بالتراضي أو بالقضاء لسبب ما، أو لعذر طارئ يحول دون تنفيذ العقد أو إتمام تنفيذه، فهو انحلال للعقد وانقضاء للالتزام معاً تبعاً للانحلال.
3 - الفرق بين الفسخ والإبطال والبطلان والفساد:
(87) - الفسخ: حل ارتباط العقد المنعقد لعدم التنفيذ، أو للإخلال بالالتزام، أولعدم توافر الرضا التام ويحدث بالتراضي أو بالقضاء (2) . أما الإبطال: فهو الحكم بكون الشيء باطلاً من أساسه لفقد ركنه أو محله أو لنقص في أهلية العاقد، ولا حاجة فيه لقضاء الحاكم، والبطلان أثر ذلك الحكم اللازم للشيء بعد نقضه بسبب الخلل الجوهري الذي صاحب العقد منذ نشوئه. وأما الفساد: فهو عند القائلين به في المعاملات وهم الحنفية اختلال في صفة عارضة طارئة على العقد، غير جوهرية فيه.
فإذا هلك المبيع قبل القبض تعذر تسليمه وفسخ البيع، وإذا صدر العقد من عديم الأهلية، كالمجنون والمعتوه، كان باطلاً، وإذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً، فسد العقد، ووجب إزالة الفساد شرعاً، فإن لم يزل الفساد، انتقل الملك بالقبض خبيثاً غير طيب في تقدير الشرع، ويأثم العاقد.
4 - الفسخ وشرط الإلغاء الصريح أو الضمني:
__________
(1) المرجع السابق: ف/305، 306.
(2) المحمصاني، المرجع السابق: ص 492-496.(4/690)
(88) - أثبت جمهور الحنفية وجمهور العلماء استحساناً حق الفسخ حال الشرط الصريح بإلغاء العقد، وهو ما يسمى بخيار النقد: وهو كما تقدم أن يشترط البائع على المشتري أداء الثمن في مدة معينة، وإلا لغا البيع بينهما، أو يشترط البائع
أنه إذا رد الثمن للمشتري في المدة المعينة، يفسخ البيع، وذلك منعاً لمماطلة المشتري بدفع الثمن.
لكن اختلف المجيزون له في المدة، فحددها أبو حنيفة بثلاثة أيام كخيار الشرط، وحددها غيره بحسب الحاجة، وتركها محمد بن الحسن بدون تحديد، وبرأيه أخذت المجلة، لكن الأصل في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ لزم العقد، والأصل في خيار النقد عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في المدة فسد البيع ولا ينفسخ.
ولم يجز الشافعي وزفر خيار النقد وقالوا بعدم صحته مطلقاً (1) .
(89) - وأما عند عدم الشرط الصريح فلم يقرّ الفقه الإسلامي كمبدأ عام حق إلغاء العقد بسبب عدم التنفيذ، بل إنما أقر الفسخ في بعض الحالات المذكورة سابقاً في بحث أسباب الفسخ لوجود شرط ضمني بجواز الفسخ أو الإلغاء، ومن تلك الحالات:
أولاً - أن حق الفسخ مقرر في بعض أحوال استحالة التنفيذ، كعجز البائع عن تسليم المبيع بسبب هلاكه، يكون للمشتري خيار الفسخ، وكبيع السّلم (بيع آجل بعاجل) إذا تعذر تسليم المبيع عند حلول الأجل، لعدم وجوده، يكون المشتري بالخيار بين فسخ السّلم واسترداد الثمن، أو انتظار وجوده إلى العام المقبل (2) . وكعقد الإجارة إذا لم يستطع المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، فإن التزامه بدفع الأجرة يسقط.
__________
(1) البحر الرائق: 6/6-7، المجلة (م 313-315) الشرح الكبير للدردير: 59/4، الميزان الكبرى للشعراني: 92/2، كشاف القناع: 184/3.
(2) الدر المختار: 269/4، القوانين الفقهية: ص 270.(4/691)
ثانياً - أجاز الحنفية باستحسان المصلحة ما يسمى بخيار الوصف أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه (وهو أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد) أي أنه يثبت حق الفسخ للعاقد الذي اشترطه إذا لم يوجد الوصف المطلوب، كأن يشتري جوهرة على أنها أصلية أو بقرة على أنها حلوب أوشيئاً يحتاج لتجربة، ثم يظهر العكس، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه، يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات، وجب التخيير، لعدم توافر الرضا بدونه (1) .
ومثل ذلك في عقد الاستصناع: إذا لم يكن المصنوع على الوصف المطلوب؛ كان المستصنع مخيراً (2) .
ثالثاً: يجوز عند جمهور الفقهاء غير الحنفية الفسخ في عقود المعاوضة بسبب الإفلاس حال وفاة المدين واسترداد المبيع الموجود، كما تقدم. كذلك أجاز الإمام الشافعي أيضاً خلافاً للجمهور حق الرجوع والاسترداد في حال وفاة المدين إذا تبين أنه مفلس.
رابعاً: أثبت الفقهاء بالاتفاق خيار العيب، فيجوز الفسخ بسببه، والشرط ليس صريحاً بل هو ضمني، كما إذا وجد المشتري بالمبيع عيباً، فإنهم قالوا: إن سلامة المبيع من العيوب شرط ضمني في عقد البيع، وكذلك في الإجارة، فإنها تنفسخ بخيار عيب حاصل قبل العقد أو بعده بعد القبض يفوت به النفع، كخراب الدار، وانقطاع ماء الرحى وانقطاع ماء الأرض (3) .
__________
(1) رد المحتار: 49/4، فتح القدير: 135/5، المجلة (م 310-312) .
(2) المجلة (م 392) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 77/6.(4/692)
5 - الفرق بين الشرط الموقف (الواقف) والشرط الفاسخ:
(90) - تبين لدينا أن الفسخ في الفقه الإسلامي منوط بشرط الإلغاء الصريح أو الضمني، وكلا الشرطين من قبيل تعليق الفسخ بشرط فهو شرط تعليقي في اصطلاح الفقه. وهناك في الفقه الغربي القانوني تقسيم لهذا الشرط إلى نوعين: شرط موقف (أو واقف) وشرط فاسخ.
أما الشرط الموقف: فهو الذي يعلق نشوء الالتزام، ويجعله متوقفاً على أمر مستقبل محتمل، مثل آجرتك داري هذه سنة بكذا إن نقلت وظيفتي إلى بلد آخر. ويلاحظ أن تعليق الإجارة على هذا الشرط يفسد العقد عند فقهاء الحنفية وغيرهم؛ لأن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق على شرط متردد بين الوجود والعدم؛ لأن ملكية العين أو المنفعة لا بد أن تكون مستقرة جازمة لا تردد فيها، وإلا شابهت القمار (1) .
وأما الشرط الفاسخ: فهو الذي يرتب على وقوعه الالتزام القائم، مثل: استأجرت دارك على شرط أنني إذا نقلت وظيفتي إلى بلد آخر، انفسخت الإجارة. وهذا لا مانع منه في فقهنا، وهو الذي يشمل شرط الإلغاء الصريح والضمني المتقدم.
والفارق الأساسي عند القانونيين. بين النوعين في الحكم: هو أن الالتزام في الشرط الموقف معدوم، محتمل الوجود، وفي الفاسخ موجود محتمل الزوال (2) .
6 - الفرق بين الفسخ والطلاق، وهل يتوقف فسخ الزواج على القضاء؟
(91) -. سبق بيان الفَرْق بين الفسخ والطلاق في ف/7، كما سبق بيان الفَُرَق التي تكون فسخاً للزواج في ف/54-57، وما يتوقف منها على القضاء في ف/58.
بعض أسباب الفسخ:
(92) - سبق الكلام عن أسباب الفسخ الجائزة في فقهنا، ويجدر بنا بيان بعض أسباب الفسخ الجائزة وغير الجائزة، وهي الإخلال بالالتزام، واستحالة التنفيذ، وعدم تنفيذ العقد:
1 - الإخلال بالالتزام:
__________
(1) سيأتي التفصيل في بحث عقد البيع.
(2) الأستاذ الزرقاء، المرجع السابق: ف /298.(4/693)
القاعدة المقررة في الفقه الإسلامي أنه لا ارتباط بين الالتزامات المتقابلة في العقد الملزم للجانبين، وإنما كل التزام مستقل عن الالتزام المقابل له، فالتزام المشتري بدفع الثمن في مقابل التزام البائع بتسليم المبيع وضمانه، لا يرتبط أحدهما بالآخر. وكذا التزام المستأجر بدفع الأجرة لا يتعلق بتسليم المؤجر العين المؤجرة.
(93) - وبناء عليه، ضاقت نظرية الفسخ في الفقه، إسهاماً في دعم القوة الملزمة للعقد، وأضحى الأصل أن العقد الملزم للجانبين أو عقد المعاوضة لا يفسخ لإخلال أحد العاقدين بتنفيذ التزامه، وليس للدائن إلا أن يطالب المدين بالتنفيذ أو بالضمان على حسب الأحوال. فإذا لم يدفع المشتري الثمن، لم يفسخ البائع البيع، بل له مطالبة المشتري بالثمن، وإذا لم يدفع المتصالح في الصلح بدل الصلح، فليس للآخر فسخ العقد، وإذا أساء الدائن المرتهن استعمال الشيء المرهون فأخل بالتزامه بالحفاظ عليه، فليس للراهن فسخ الرهن، وإنما له الحق في طلب وضع المرهون تحت يد عدل (1) ، دفعاً للضرر عن نفسه، وإذا هلك المرهون، ضمن المرتهن في مذهب الحنفية الأقل من قيمته ومن الدين.
(94) -. ولكن يجوز استثناء فسخ العقد للإخلال بالالتزام في أمرين (2) :
الأول - انعدام محل العقد أو فوات منفعته المقصودة، فإذا هلك المبيع أو المأجور أو تعيب أو نقص مقداره أو تعذر استيفاء المنفعة المقصودة منه، أصبح العقد قابلاً للفسخ.
الثاني - الإخلال بالالتزام في العقود المستمرة أو عقود المدة: كالإيجار وعقد التوريد، فإذا أخل العاقد بالمنفعة، أو بالعمل في عقد الإجارة، أو أخل المورِّد بالتزامه، فلم ينفذ المطلوب، توقف العاقد الآخر من تقديم المنفعة، وأمسك العامل عن العمل حتى يستوفي الأجر، وامتنع المورَّد له من دفع الثمن، وهذا كفسخ للعقد.
__________
(1) العدل: شخص آخر غير العاقدين يؤتمن على حيازة المرهون. وأجاز الحنابلة (القواعد لابن رجب: ص 65) للراهن فسخ عقد الرهن إذا لم يقم الدائن المرتهن بتنفيذالتزامه.
(2) مصادر الحق للسنهوري: 230/6 ومابعدها.(4/694)
2 - استحالة تنفيذ العقد:
(95) -. تبين مما تقدم أنه يفسخ العقد أحياناً لاستحالة تنفيذه، وهو ما يسمى في فقهنا بالآفة السماوية، ويسمى عند الإنكليز بالحادث الإلهي، وعند الفرنسيين بالقوة القاهرة أو الظروف أو الأحوال الطارئة، فيفسخ البيع كما تبين بهلاك المبيع قبل تسليمه، لاستحالة تنفيذ العقد بعد هلاك محله، كما ينفسخ عقد الإيجار بخراب الدار المؤجرة أو بالإخلال بالمنفعة كانهدام جزء منها يؤثر هدمه
على المنفعة المقصودة منها (1) ، كما ينفسخ بيع الثمار بهلاكها كلها بجائحة، وينقص من الثمن بمقدار ما تصيبه الجائحة إن بلغ المجاح الثلث فأكثر في رأي الإمام مالك، وسواء أكان قليلاً أم كثيراً في مذهب الحنابلة والراجح عند المالكية، كما تقدم.
3 - عدم تنفيذ العقد ومتى يجوز؟
(96) -. إذا كان الفقه الإسلامي قد ضيق من نطاق الفسخ؛ لأن فسخ العقد أمر خطير، فوجب الاحتراز عنه، فإنه وسع فيما يسمى بالدفع بعدم تنفيذ العقد، على أنه ليس فسخاً، وإنما هو وقف لتنفيذ العقد، ويظهر ذلك في أمثلة كثيرة، منها العقود التالية: عقد البيع والإيجار والوكالة والزواج (2) .
(97) -. أما في عقد البيع (بيع سلعة بنقد أو عين بدين) فإنه يجب في مذهبي الحنفية والمالكية (3) على المشتري أن يدفع الثمن أولاً ما لم يكن مؤجلاً أو مقسطاً عدا القسط الأول للحديث النبوي: «الدين مقضي» (4) فإن كان العقد مقايضة أو صرفاً وجب تسليم المبيع والثمن معاً في وقت واحد.
__________
(1) مرشد الحيران (م 646) .
(2) مصادر الحق للسنهوري: 215/6، 234-241.
(3) المبسوط: 192/12، 195، البدائع: 244/5، 250، فتح القدير: 109/5، رد المحتار: 43/4-44، القوانين الفقهية: ص 247.
(4) أخرجه ابن عدي وأصحاب السنن إلا النسائي عن ابن عباس، وفيه ضعيف.(4/695)
وعليه، فإن للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء جميع الثمن الحالّ، فإن كان الثمن مؤجلاً أو مقسطاً، لزمه تسليم المبيع في الحال. ويسقط حق الحبس بالحوالة بالثمن في رأي أبي يوسف، ولا يسقط حق الحبس إذا قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن؛ لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري.
وحق البائع في المبيع حق عيني يمنحه حق امتياز عليه، فإذا مات المشتري مفلساً قبل قبض المبيع ودفع الثمن، فالبائع أحق بحبسه إلى أن يستوفي الثمن من تركة المشتري أو يبيعه القاضي.
وليس للمشتري حق حبس الثمن إلا إذا استحق المبيع في يده بالبينة، وفسخ البيع قبل أداء الثمن. وله أيضاً أن يحبس الثمن إذا استحق المبيع قبل قبضه من المشتري، وله حق الفسخ واسترداد الثمن إذا كان قد دفعه للبائع.
(98) - وقال الشافعية والحنابلة (1) : يجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين. وعليه، ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد.
لكن قال الشافعية: للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.
(99) - وأما في عقد الإيجار: فيرى الحنفية والمالكية (2) أن المستأجر يدفع الأجرة أولاً إذا
__________
(1) مغني المحتاج:75/2، المغني: 198/4.
(2) البدائع: 201/4، 204، 211، تبيين الحقائق: 110/5 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 207/7، المجلة (م 482-483) بداية المجتهد: /226، 230، الشرح الكبير مع الدسوقي: 4/4، 28، القوانين الفقهية: ص 275 وما بعدها، المدونة الكبرى: 414/3.(4/696)
كانت معجلة، ثم يسلم المؤجر العين المؤجرة. وتجب الأجرة وتملك بأحد أمور ثلاثة: اشتراط تعجيلها في العقد، وتعجيلها من غير شرط استيفاء المعقود عليه وهو المنافع شيئاً فشيئاً، ولا تجب الأجرة ولا تملك بنفس العقد، وإنما تلزم جزءاً فجزءاً بحسب ما يقبض من المنافع، فلا يستحق المؤجر المطالبة بالأجرة
إلا تدريجياً يوماً فيوماً؛ لأنه إذا لم يثبت الملك في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر، عملاً بالمساواة التي تقوم عليها العقود.
وللمؤجر الحق في حبس العين المؤجرة في يده أو الامتناع عن تسليم الشيء المؤجر، حتى يستوفي الأجر المعجل، كما أن له الحق في فسخ الإجارة.
وأما في الإجارة على الأعمال: فيستحق الأجير الخاص أجره كما ذكر الحنفية بمجرد تسليم نفسه للخدمة، سواء خدم أو لم يخدم، ويجوز له اشتراط تعجيل الأجر قبل أن يسلم الأجير نفسه للعمل. وأما الأجير المشترك أو العام كالخياط والحمال، فله أن يحبس المستأجر فيه حتى يستوفي أجرته إن كان لعمله أثر ظاهر (أي مجرد ما يعاين ويرى) في العين المؤجرة كالخياط والصباغ، إن لم يشترط تأجيلها. وليس له أن يحبس المستأجر فيه، إن لم يكن لعمله أثر ظاهر فيه كالحمال والملاح. أما المالكية فقالوا: للأجير إذا عمل للناس، سواء أكان عاماً أم خاصاً حبس المستأجر فيه حتى يقبض حقه.(4/697)
(100) - وذهب الشافعية والحنابلة (1) إلى أن على المؤجر تسليم العين المؤجرة، ثم يسلم المستأجر الأجرة، وتجب الأجرة وتملك بمجرد العقد؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، والمعاوضة إذا كانت مطلقة عن الشرط تقتضي الملك في العوضين عقد العقد، كما يملك البائع الثمن بالبيع. وليس للمؤجر حبس العين المؤجرة حتى يستوفي الأجرة.
(101) - وأما في عقد الوكالة: فإن الحنفية ذكروا أن للوكيل بالشراء حق حبس المال المشترى في يده إلى أن يقبض الثمن من الموكل، وإن لم يكن قد أعطاه إلى البائع (2) .
(102) -. وأما في عقد الزواج: فاتفقت المذاهب (3) على أن للمرأة قبل دخول زوجها بها أن تمنع الزوج عن الدخول بها أو عن الانتقال إلى بيت الزوجية، حتى يعطيها جميع المهر المعجل. ويثبت لها أيضاً هذا الحق في حبس نفسها عن زوجها ومنع نفسها من الاستمتاع بها حتى بعد الدخول بها أو الخلوة بها أو الانتقال إلى بيت زوجها. وهذا رأي أبي حنيفة.
أما الصاحبان وبقية الفقهاء فقرروا أنه ليس لها أن تمنع نفسها بعد الدخول بها، حتى تقبض معجل مهرها؛ لأن رضاها بالدخول إسقاط لحقها في طلب المهر، فإذا امتنعت كانت ناشزة، فيسقط حقها في النفقة.
متى يجوز عدم تنفيذ العقد أو ما هي شروط الدفع بعدم التنفيذ؟
(103) - يشترط للدفع بعدم تنفيذ العقد شرطان (4) :
1 - أن يكون العقد ملزماً للجانبين، أي عقد معاوضة: ففي هذا النوع من العقود يمكن التمسك بعدم تنفيذ العقد، أو بالحق في الحبس الذي هو أوسع بكثير من نطاق الدفع بعدم التنفيذ، وأمثلة ذلك: أن للملتقط حق حبس اللقطة عنده بما أنفق عليها، وللغاصب حبس المغصوب حتى يستوفي ما زاده فيه من بناء أو
__________
(1) مغني المحتاج: 234/2، المهذب: 399/1، المغني: 406/5، غاية المنتهى: 116/2.
(2) المجلة (م 1491) مرشد الحيران (م 937) .
(3) البدائع: 288/2-289، الشرح الكبير للدردير: 297/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 434/2، القوانين الفقهية: ص 434، مغني المحتاج: 222/3 ومابعدها، كشاف القناع: 181/5-183.
(4) مصادر الحق للسنهوري: 241/6.(4/698)
غراس، ولصاحب الملك المشترك أو لصاحب حق العلو إذا انهدم البناء أن يمنع شريكه أو صاحب السفل الذي امتنع من إعادة البناء من الانتفاع ببنائه حتى يؤدي ما يخص حصته من المصروفات (1) .
2 - أن يكون الالتزام المحبوس أو الممنوع عن الآخر التزاماً يتأخر تنفيذه عن تنفيذ الالتزام المقابل: فللبائع حبس المبيع لديه حتى يستوفي الثمن، وليس العكس، كما تقدم، وللمؤجر حبس المأجور إلى استيفاء الأجرة إذا كانت الأجرة معجلة.
آثار الفسخ (أحكامه) :
(104) -. تظهر آثار الفسخ في شيئين: انتهاء العقد، وسريانه على الماضي والمستقبل.
1 - انتهاء العقد بالفسخ: ينتهي العقد بالفسخ، ويكون له آثار فيما بين الطرفين المتعاقدين وبالنسبة لغيرهما.
أولاً- أثر الفسخ فيما بين الطرفين المتعاقدين: يظل العقد قائماً إلى حين الفسخ، وينتج جميع آثاره، فتنتقل مثلاً ملكية المبيع إلى المشتري، وللطرفين إجازة العقد صراحة قبل الفسخ، أو ضمنياً، وحق الفسخ محصور فقط في المتضرر من المتعاقدين دون المتعاقد الآخر.
فإذا فسخ العقد انحل واعتبر كأن لم يكن بالنسبة للطرفين، وتجب إعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل العقد، ويعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل التعاقد، فإذا استحال ذلك جاز الحكم بالتعويض، سواء كان الفسخ بحكم القاضي أو بحكم الاتفاق أو بحكم الشرع.
__________
(1) تبيين الحقائق: 306/3،308 وما بعدها، 231/5، المجلة (م 1216) .(4/699)
(105) - ثانياً - أثر الفسخ بالنسبة للغير: يصبح العقد بالفسخ بالنسبة لغير المتعاقدين أيضاً كأن لم يكن، إلا أن التصرف في العين للغير من قبل المشتري كالبيع أو الهبة أو الصلح ما نع من حق الفسخ، أي يطهر العين المبيعة من حق الفسخ، فلا يتمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه وبين بائعه؛ لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأه المشتري نفسه (1) .
(106) -. وكذلك للإقالة التي هي عبارة عن فسخ العقد الذي يربط المتعاقدين آثار بالنسبة للعاقدين وبالنسبة إلى الغير، فهي كما تقدم في رأي أبي حنيفة وزفر تعد فسخاً في حق العاقدين، وليست اتفاقاً جديداً، فملكية المبيع لا تنتقل من جديد إلى البائع، بل يعتبر المبيع كأنه لم يخرج أبداً من ملك البائع (2) .
وكذلك قال الشافعية والحنابلة: الإقالة فسخ، كالرد بالعيب (3) . أما المالكية والظاهرية فذهبوا إلى أن الإقالة اتفاق أو بيع جديد؛ لإتمامها بتراض جديد بين العاقدين، فيجوز فيها ما يجوز في البيوع، ويحرم منها ما يحرم في البيوع (4) .
وأما أثر الإقالة بالنسبة للغير وهو الشخص الثالث غير العاقدين: فهو أنها ليست فسخاً، بل هي بيع جديد في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف والمالكية
__________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 111.
(2) البدائع: 306/5، فتح القدير: 247/5، الدر المختار ورد المحتار: 154/4.
(3) مغني المحتاج: 96/2، المغني: 121/4، غاية المنتهى: 52/2، القواعد لابن رجب: ص379-381.
(4) القوانين الفقهية: ص 272، المحلى: 7/9، الشرح الصغير: 210/2.(4/700)
والظاهرية؛ لأنها في الواقع مبادلة جديدة، فيأخذ كل واحد من المتعاقدين رأس ماله ببدل، وعلى ذلك تعتبر الملكية بالنسبة للغير أنها انتقلت من جديد إلى البائع بالإقالة، فمن اشترى داراً ولها شفيع، فلم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع، ثم أقال العاقدان البيع، فيثبت للشفيع حق طلب الشفعة ثانياً؛ لأن الإقالة عقد جديد في حقه.
وذهب زفر ومحمد والشافعية وأكثر الحنابلة إلى أن الإقالة بالنسبة للغير فسخ كما هو الشأن بالنسبة للعاقدين؛ لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان الاتفاق فسخاً كالرد بالعيب.
2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل:
(107) -. للفسخ أثر مستند، أي أثر رجعي منسحب على الماضي، في العقود الفورية كالبيع والمقايضة، فيوجب التراجع فيما نفذ من التزامات، ففسخ البيع يوجب التراد في المبيع والثمن، وكذا انفساخه بهلاك المبيع قبل التسليم يوجب رد الثمن المقبوض؛ لأن الالتزام فيه يصبح بلا سبب. وعلى ذلك لا يمكن طلب الشفعة عند الفسخ.
وينحصر الأثر الرجعي بالعاقدين وورثتهما عند الجمهور غير الحنفية القائلين بانتقال الخيار بالوراثة. أما غير المتعاقدين إذا اكتسب حقاً على العين المبيعة فلا يتأثر برجعية الفسخ، بل يمتنع الفسخ، وتلزم المتعاقدين الصفقة دفعاً للضرر عن الغير (1) .
وأما العقود المستمرة أو عقود المدة التي يستمر تنفيذها مع توالي الزمن كعقد
__________
(1) النظرية العامة للفسخ د: الذنون: ص 363.(4/701)
الإيجار أو الشركة، فإن الفسخ يكون مقتصراً، أي ليس له أثر رجعي، وإنما يسري على المستقبل فقط، وما مضى يكون على حكم العقد، فالفسخ أو الانفساخ يقطعان تأثير هذه العقود بالنسبة إلى المستقبل، ويظل ما مضى على حكم العقد. وكذلك انحلال الوكالة بالعزل لا ينقض تصرفات الوكيل السابقة (1) .
(108) -. وكذلك للإقالة أثر رجعي كالفسخ، بشرط وجود محل العقد عند الإقالة، ووحدة الزمان، وتطابق الإيجاب والقبول، أي رضا المتقايلين وتوافق الإرادتين؛ لأن الإقالة رفع العقد، والمبيع محله، فإن كان هالكاً كله وقت الإقالة، لم تصح، وإن هلك بعضه، لم تصح الإقالة بقدره، ولأن الإقالة عند الجمهور فسخ العقد، والعقد وقع بتراضي العاقدين، فكذا فسخه، أما قيام الثمن وقت الإقالة فليس بشرط (2) .
(109) -. هذا وقد بحث السيوطي أثر الفسخ بالنسبة للماضي بعنوان: هل يرفع الفسخ العقد من أصله أو من حينه؟ فقال:
1 - فسخ البيع بخيار المجلس أو الشرط: الأصح أنه من حينه.
2 - الفسخ بخيار العيب والتصرية (ربط ثدي الشاة لتجمع اللبن) : الأصح من حينه.
3 - تلف المبيع قبل القبض: الأصح الانفساخ من حين التلف.
4 - الفسخ بالتخالف بين البائع والمشتري: الأصح من حينه.
5 - السلم: يرجع الفسخ إلى عين رأس المال.
6 - الفسخ بالفلس: من حينه.
7 - الرجوع في الهبة: من حينه قطعا.
8 - فسخ النكاح بأحد العيوب: الأصح من حينه.
9 - الإقالة على القول بأنها فسخ: الأصح من حينه (3) .
ويلاحظ أن أغلب حالات الفسخ في رأي الشافعية ليس لها أثر رجعي.
وذكر ابن رجب الحنبلي خلافاً في الفسخ بالعيب المستند إلى مقارن للعقد، هل هو رفع للعقد من أصله أو من حينه (4) .
وذهب المالكية إلى أن فسخ البيع بسبب العيب إما بحكم الحاكم أو بتراضي المتبايعين رفع للعقد من حينه. وليس له أثر على الماضي، فتكون غلة المردود بعيب للمشتري من وقت عقد البيع وقبض المشتري له، وتثبت الشفعة للشريك بما وقعت به الإقالة (5) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 304.
(2) البدائع: 308/5 ومابعدها، فتح القدير: 250/5 ومابعدها، الدر المختار: 157/4.
(3) الأشباه والنظائر: ص 317.
(4) القواعد: ص 116.
(5) الشرح الصغير: 186/2، 210.(4/702)
مُلحَق: ما اقتبسه القانون المدنيّ المعاصِر من الفِقه الإسلاميّ
لا تتبوأ الأمة مكانتها وتنعم بعزتها بغير الاستقلال الكامل المادي والمعنوي الذي لا أثر فيه للتبعية الفكرية والثقافية والقانونية لأية دولة أخرى.
ولا يكمل الاستقلال الوطني ولا تتحقق أو تنمو ذاتية البلد المطلقة ولا تخطو خطوات بنائه نحو التقدم والمستقبل المشرق، محطمة قيود التخلف إلا بالتخلص من كل آثار الاستعمار ورواسبه البعيدة المدى. ومن أولى مهام الحكم المستقل الوطني في سبيل تحقيق تلك الغاية الاعتماد في التقنين في مختلف أنواعه على التراث القومي النابع من البيئة، والمتجاوب مع تطلعات أبناء البلاد وأهدافهم وعقيدتهم.(4/703)
لقد اعترف الفقيه الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري واضع القانون المدني المصري وغيره في البلاد العربية بأن الفقه والقضاء المصري ضيفان على القضاء الفرنسي، ولكن آن للضيف أن يعود إلى بيته، وطالب بتمصير الفقه، وجعله فقهاً مصرياً خالصاً نرى فيه طابع قوميتنا ونحس أثر عقليتنا، ففقهنا حتى اليوم لا يزال يحتله الأجنبي، الاحتلال هنا فرنسي، وهو احتلال ليس بأخف وطأة ولا أقل عنتاً من أي احتلال آخر. لذلك كانت أمنية من أغلى الأماني العراض وأعزها لدينا أن يصدر قانون مدني وغير مدني مستمد كله من أحكام الشريعة الإسلامية. قال الدكتور السنهوري (1) : أما جعل الشريعة الإسلامية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه تشريعنا المدني، فلا يزال أمنية من أعز الأماني التي تختلج بها الصدور، وتنطوي عليها الجوانح. ولكن قبل أن تصبح هذه الأمنية حقيقة واقعة، ينبغي أن تقوم نهضة علمية قوية لدراسة الشريعة الإسلامية في ضوء القانون المقارن.
ومن بدهي القول إعلان أن الشريعة الإسلامية ذات المصدر السماوي الإلهي المستقل لا تزال شريعة حية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، أكد ذلك فقهاء القانون في الغرب والشرق، وعمداء الحقوق في البلاد العربية والأجنبية، ومؤتمرات القانون المقارن والمحامين الدولية في العصر الحديث (2) .
قال الدكتور السنهوري (3) : «ولا أريد الاقتصار على شهادة الفقهاء المنصفين من علماء الغرب، كالفقيه الألماني كوهلر والأستاذ الإيطالي دلفيشيو والعميد الأمريكي ويجمور وكثيرين غيرهم، يشهدون بما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من مرونة وقابلية للتطور، ويضعونها إلى جانب القانون الروماني والقانون الإنكليزي إحدى الشرائع الأساسية الثلاث التي سادت ولا تزال تسود العالم. وقد أشار الأستاذ لا مبير الفقيه الفرنسي المعروف في المؤتمر الدولي للقانون
__________
(1) راجع كتابه الوسيط في شرح القانون المدني الجديد: حاشية ص48.
(2) انظر قرار مؤتمر القانون المقارن في لاهاي سنة 1938م، ومؤتمر المحامين الدولي في لاهاي سنة 1948، وتوصيات ندوة عمداء كليات الحقوق والقانون والشريعة بالجامعات العربية بجامعة بيروت العربية، عام 1973م، وبجامعة بغداد عام 1974م، وتوصيات ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء، ليبيا عام 1972م، وتوصيات مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض عام 1976م.
(3) بحث الدكتور السنهوري في مجلة نقابة المحامين بدمشق - السنة الأولى - العدد السابع: ص 506.(4/704)
المقارن، الذي انعقد في مدينة لا هاي في سنة (1932م) إلى هذا التقدير الكبير للشريعة الإسلامية، الذي بدأ يسود بين فقهاء أوروبا وأمريكا في العصر الحاضر.
ولكني أرجع للشريعة نفسها لأثبت صحة ما قررته. ففي هذه الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة، فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي وفي الشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث.
وآتي بأمثلة أربعة اضطررت إلى الاقتصار عليها لضيق المقام: يدرك كل مطلع على فقه الغرب أن من أحدث نظرياته في القرن العشرين: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعة، ومسؤولية عديم التمييز. ولكل نظرية من هذه النظريات الأربع أساس في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلا للصياغة والبناء ليقوم على أركان قوية، ويسامت نظريات الفقه الحديث» .
وقد أحدثت هذه الصيحة بالاعتراف بالحق دوياً في نفوس واضعي القوانين العربية، ولم يعد مقبولاً بحال ترك مصادرنا الفقهية الإسلامية، وأخذ قانون مترجم ترجمة حرفية عن القانون المدني الفرنسي.(4/705)
وأثمر هذا الدوي القوي في أفكار القانونيين، فصدر في دنيا العرب قانونان مدنيان مستمدان من الفقه الإسلامي، وهما القانون المدني العراقي عام (1951م) ، والقانون المدني الأردني عام (1976م) ، وصدر في ليبيا ـ الثورة إلغاء صريح فوري لكل مواد القانون المدني المعارضة للشريعة، وبدئ بوضع قانون جديد مستمد من الفقه الإسلامي، كما بدئ في مصر بوضع مشاريع قوانين مدنية وجزائية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، غير الملتزمة مذهباً فقهياً معيناً، وإنما تأخذ من مجموع أحكام المذاهب الإسلامية ـ السنية والشيعية ما يناسب ظروف العصر، وبدأت لجان منبثقة من قرارات وزراء العدل العرب بوضع قانون مدني وآخر جزائي مستمد من الشريعة الإسلامية منذ عام (1980م) وكذا قانون موحد للأحوال الشخصية، وتم إنجاز مشروعات هذه القوانين الثلاثة.
وقد جاء في الأسباب الموجبة للائحة القانون المدني العراقي المكون من 1383 مادة ما يلي: إن قواعد القانون المدني العراقي استمدت من مصادر متباينة، فبعضها أخذ من الفقه الإسلامي مباشرة، وبعضها نقل عن الفقه الإسلامي مقنناً في المجلة، والبعض الآخر هو بقية من القوانين العثمانية العتيقة، وهذه القوانين بدورها قد اشتقت أحكامها بوجه خاص من القانون الفرنسي والعرف المحلي.
والكثرة الغالبة من أحكام القانون العراقي قد خرِّجت على الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة دون تقيد بمذهب معين، واستطاع مشروع هذا القانون أن يجد في غير عناء مادة خصبة في الفقه الإسلامي يصوغ منها طائفة العقود المسماة، سواء وقع العقد على الملكية كالبيع والهبة والشركة والقرض، أم وقع على المنفعة كالإيجار والإعارة، أو وقع على العمل كالمقاولة وعقد العمل والوكالة والوديعة.
وجاء في نص البيان الصحفي الذي أعلن به مشروع القانون المدني الأردني سنة 1976م المكون من (1449) مادة ما يلي:
اعتمدت لجنة واضعيه على المراجع والمصادر التالية:(4/706)
1 - مجلة الأحكام العدلية والفقه الإسلامي بجميع مذاهبه.
2- التشريعات والقوانين الأردنية المعمول بها.
3 - مشروع القانون المدني الموجود حالياً في مجلس الأعيان.
4 - كافة التشريعات والقوانين المعاصرة والمستمدة من الفقه الإسلامي.
وتناول المشروع أحكام المعاملات مستمدة من الفقه الإسلامي بأحكامه الواسعة المتفتحة على الحياة وقواعده المتطورة دائماً مع متطلبات العصر والصالحة للغد ولتبدل الأزمان. وهو مشروع رائد ينتظره العرب والمسلمون بفارغ الصبر، وهو يحقق رغبة طالما تمناها كثير من رجال القضاء والقانون وعلى رأسهم المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري.
ويقع المشروع في نحو (140) مادة، وتستند كل مادة من مواده إلى مآخذها ونظائرها في القوانين المعاصرة ومرجعها الفقهي في مذكرات إيضاحية تقع في نحو (1500) صفحة، وهي شروح وافية لكل مادة وثروة قانونية لقضائنا ورجال القانون.
فمن المقطوع به أن كل نص تشريعي أو مادة قانونية ينبغي أن تعيش في البيئة التي تطبق فيها والبلد الذي تنفذ فيه، مهما كان مصدرها، لكن يلاحظ أن القانون الأردني وكذا الكويتي لم يجز الفوائد الربوية، على عكس القانون العراقي الذي أباح الاتفاق على الفائدة بنسبة 7%.(4/707)
مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري:
القانون المدني السوري الصادر عام (1949م) وأصله القانون المصري الصادر عام (1948م) ما يزالان قائمين على أساس من القانون المدني الفرنسي، إلا أنهما جعلا الفقه الإسلامي (م 2/1) مصدراً رسمياً للقانون يأتي في المرتبة الثانية بعد نصوص القانون في قانوننا السوري (ومثله القانون الجزائري الصادر عام 1975) وفي المرتبة الثالثة بعد نصوص القانون والعرف والعادة في القانون المصري. وفي تقديري أن اعتبار الفقه الإسلامي مصدراً رسمياً احتياطياً في كلا القانونين ليس له فائدة عملية كبيرة؛ لأن القاضي لا يلجأ إليه إلا إذا استحال عليه الوصول إلى الحكم القانوني من نصوص التشريع، وهذا احتمال نادر، لكنه لا شك يزيد كثيراً في أهمية الشريعة الإسلامية، ويجعل دراستها دراسة عملية في ضوء القانون المقارن أمراً ضرورياً لا من الناحية النظرية الفقهية فحسب، بل كذلك من الناحية العملية التطبيقية.
فكل من الفقيه والقاضي أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدني، فيما لم يرد فيه نص بالرجوع إلى أحكام الفقه الإسلامي (1) .
ولكن المفيد التعرف على الأحكام التي استمدها القانون المدني السوري (وأصله المصري) من الفقه الإسلامي. وبعض هذه الأحكام هي مبادئ عامة، وبعضها مسائل تفصيلية (2) :
بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي:
1 - النزعة الموضوعية
2 - الأهلية، ومسؤولية عديم التمييز
3 - نظرية التعسف في استعمال الحق
4 - نظرية الظروف الطارئة
5 - حوالة الدين
6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين
بعض الأحكام التفصيلية المستقاة من الفقه الإسلامي:
1 - في عقد البيع (أحكام مجلس العقد، البيع بالصفة، تبعة الهلاك في البيع ـ نظرية تحمل التبعة، حق الحبس، الغبن في بيع القاصر، ضمان العيوب الخفية وضمان التعرض والاستحقاق) .
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 48.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 46، 47.(4/708)
2 - في عقد الإيجار (إيجار الأراضي الزراعية، غرس الأشجار في العين المؤجرة، هلاك الزرع في العين المؤجرة، المزارعة، انقضاء الإيجار بموت المستأجر وفسخه للعذر، إيجار الوقف) .
3 - حقوق الارتفاق: (حق العلو والسفل، الحائط المشترك) .
4 - أحكام عقد الهبة ـ شكلاً وموضوعاً (تكوين العقد، محل العقد، الرجوع في الهبة) .
5 - تصرف المريض مرض الموت.
6 - أحكام متفرقة (مدة التقادم، الإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده) .
بيان أهم المبادئ والنظريات المقتبسة من الفقه الإسلامي:
1 - النزعة الموضوعية:
أخذ القانونان المصري والسوري بالنزعة الموضوعية التي تخللت كثيراً من النصوص (1) . وهذه هي نزعة الفقه الإسلامي والقوانين الجرمانية، آثرها التقنين على النزعة الذاتية التي هي طابع القوانين اللاتينية، وجعل الفقه الإسلامي عمدته في الترجيح. فأخذ بالإرادة الظاهرة وبالموضوعية معاً، ولكن بقدر متفاوت، إذ أقلَّ من الأخذ بالإرادة الظاهرة، وأكثر من الأخذ بالموضوعية، إلى حد أنه حينما كان في بعض المسائل يتخذ معايير ذاتية لم يتخذها ذاتية محضة، بل رسم لها ضوابط موضوعية ليضفي عليها شيئاً من الثبات والاستقرار.
ومن أمثلة المعايير الموضوعية (عناية الشخص المعتاد) أي أن الشخص مطالب بأن يبذل من العناية في حفظ مال الغير كالوديعة مثلاً ما يبذله عادة في حفظ ماله الخاص.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 47، 93، 96.(4/709)
انظر القانون المدني السوري (المواد 1/212 في الالتزام بعمل، 2/489 في آثار الشركة، 1/551 في استعمال العين المؤجرة، 1/607 التزام المستعير، 1/651 التزام العامل، 2/670 التزام الوكيل، 686 التزام الوديع، 1/700 التزام الحارس، 1/193 التزام الفضولي، 1/130 إبطال العقد بسبب الغبن، 147 انتقال الالتزام إلى الخلف الخاص، 179 مسؤولية حارس الأشياء، 222 تعويض الضرر، 1/415 التزام البائع بضمان العيوب الخفية، 1/580 استغلال المستأجر الأراضي الزراعية) .
وهذا المعيار الموضوعي مقرر في الفقه الإسلامي في الأحوال السابقة، فقد قرر فقهاؤنا أنه يجب على الأمين أن يحفظ الأمانة، كما يحفظ ماله على النحو الذي جرت به عادة الناس في كيفية حفظ أموالهم (1) .
أما الفقه الإسلامي فيقرر مسؤولية الصبي غير المميز والمجنون مطلقاً عن الإتلافات، قال الحنفية: «الصبي المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله، فيضمن ما أتلفه من المال» (2) «لو أن طفلاً ابن يوم انقلب على قارورة فكسرها، لزمه الضمان» (3) وقال المالكية: «إن تقويم المتلفات لا يختلف باختلاف الناس، إنما باختلاف البلاد والأزمان» (4) .
ونصت المجلة على ذلك فيما يأتي: «....يلزم الضمان على الصبي إذا أتلف مال الغير، وإن كان غير مميز» (م 960) : «إذا أتلف صبي مال غيره يلزم الضمان من ماله، وإن لم يكن له مال ينتظر إلى حال يساره، ولا يضمن وليه» (م916) (م 912) .
ولكن لا يكون غير المميز مسؤولاً مسؤولية جنائية عن حوادث القتل، فلا ينفَّذ في حقه القصاص، وإنما يقتصر على تعزيره بالحبس أو بالتوبيخ ونحوهما.
2 - أحكام الأهلية ومسؤولية عديم التمييز:
إن أحكام الأهلية (المواد 46-50، 109-129) مستمدة من الفقه الإسلامي (5) ، سواء فيما
__________
(1) بداية المجتهد: 307/2، وانظر كتابنا نظرية الضمان: ص 177-183.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 78/2، درر الحكام: 273/2.
(3) مجمع الضمانات: ص 146-154، 161، 165، جامع الفصولين: 113/2، 124، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 99/2.
(4) الفروق للقرافي: 31/4.
(5) نظرية العقد للسنهوري: 322/1 ومابعدها.(4/710)
يتعلق بأهلية التملك أو بمباشرة التصرفات والعقود، ووجود الحاجة أحياناً إلى النائب الشرعي عن الغير، والحكم ببطلان التصرف بسبب انعدام الأهلية، إلا أن القانون في حالة وجود عيب من عيوب الرضا كالإكراه والتدليس والغلط يجعل العقد قابلاً للإبطال، أي أن العقد قائم وموجود، لكنه عرضة للإبطال من طريق القاضي بناء على طلب صاحب المصلحة
في حماية حقه الخاص. وأما في الفقه فيسمى العقد حينئذ غير لازم أي يجوز فسخه من صاحب الحق بمحض إرادته من غير قضاء إلا في حالة وجود التدليس المتضمن إخفاء عيب (خيار العيب) فيحتاج إلى القضاء لتقدير وجود العيب. وقد يسمى العقد المعيب بعيب (كما في حالة الإكراه) غير نافذ أو موقوفاً على الإجازة كما في حالة تجاوز العاقد حدود النيابة المتعارف عليها، إلا أن العقد الموقوف لا ينتج أي أثر، أما العقد القابل للإبطال فهوعقد صحيح منتج لآثاره.(4/711)
وكذلك أخذ القانون المدني بمبدأ مسؤولية عديم التمييز عن أعماله غير المشروعة التي تسبب ضرراً للغير، مسايرة لمبادئ الشريعة الإسلامية التي توجب تعويض الضرر الواقع باعتباره واقعة مادية، ولو لم يتوفر عنصر الخطأ أحد أركان المسؤولية المدنية التقصيرية، وهو ما تقرره نظرية تحمل التبعة التي لا تقيم المسؤولية على أساس فكرة الخطأ، وإنما تكتفي بمراعاة مبدأ «الغرم بالغنم» . وقد نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (2/165) : «ومع ذلك إذا وقع الضرر من شخص غير مميز، ولم يكن هناك من هو مسؤول عنه، أو تعذر الحصول على تعويض من المسؤول، جاز للقاضي أن يلزم من وقع منه الضرر بتعويض عادل، مراعياً في ذلك مركز الخصوم» أي أن هذه المسؤولية لغير المميز تتميز بأنها مشروطة، ومسؤولية مخففة أي في حدود التعويض العادل (1) .
وبهذا يكون ولي القاصر بصفة عامة هو المسؤول عن عمل القاصر أو المجنون على أساس الخطأ المفترض أو التقصير في الرقابة (راجع المادة 174) .
وسألقي الضوء إجمالاً على هذه المبادئ والنظريات والأحكام التفصيلية المستمدة من الفقه الإسلامي، تاركاً الشرح لفقهاء القانون المدني الذين يبينون عادة منشأ هذه الأحكام، وموطن استمداد المشرع لها.
3 - نظرية التعسف في استعمال الحق:
ليس حق الملكية حقاً مطلقاً، وإنما هو مقيد بعدم إلحاق الضرر بالغير، فإذا ترتب على استعمال الحق إحداث ضرر بالغير نتيجة إساءة استعمال هذا الحق، كان محدث الضرر مسؤولاً.
ونص القانون المدني السوري على هذا المبدأ في المادتين (5، 6) «من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسؤولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر» (م5) .
يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
«أـ إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 63، النظرية العامة للالتزام للدكتور وحيد سوار: 70/2.(4/712)
ب ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية، بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر» .
ج ـ إذا كانت المصالح التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة (م6) وقد حرص واضعو القانون ـ لدى صياغة النص الذي أورد في هذه النظرية ـ على الاستفادة من القواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي (1) ومن أهمها: «تصرف الإنسان في خالص حقه إنما يصح إذا لم يتضرر به غيره» فهذه القاعدة أساس واضح لنظرية منع التعسف في استعمال الحق، وهي القاعدة المنظمة لحقوق الجوار (2) .
أما نص المادة (5) فمأخوذ من المبدأ المقرر في الشريعة المعبر عنه في القاعدة الفقهية الكلية القائلة: (الجواز الشرعي ينافي الضمان) أي أن الفعل المباح شرعاً لا يستوجب الضمان أو تعويض الضرر الذي قد يحدث.
وأما نص المادة (6) فمستمد من حيث المبدأ من الحديث النبوي المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» الذي يقضي بمنع الضرر في حالتين:
الأولى ـ استعمال الحق بقصد الإضرار.
الثانية ـ أن يترتب على استعمال الحق المشروع إضرار الآخرين، سواء أكان الاستعمال على وجه معتاد، أم على غير الوجه المعتاد.
وفي كلتا الحالتين توجب قواعد الإسلام إزالة الضرر عيناً، سواء أكان مادياً أم معنوياً؛ لأن الراجح أن المنافع أموال متقومة، فإن تعذر ذلك يجب الحكم بتعويض مالي عادل لرفع آثار الضرر ومنع بقائه أو تجدده في المستقبل.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: 836/1، النظرية العامة للالتزام للدكتور سوار: ص 96، الحقوق العينية الأصلية للدكتور سوار: ص 311.
(2) راجع تطبيقات القاعدة في نظرية الضمان للمؤلف: ص 207.(4/713)
ويلاحظ أن القانون قصر التعسف على حالات الاستعمال غيرالمشروع (1) .
أما الحالة الأولى قانوناً فتقابل الحالة الأولى المفهومة من الحديث، والحالة الثانية تقابل الحالة الثانية المأخوذة من الحديث، وتتفق مع ما أخذت به المجلة (المادة 19، 20) ويقتضيه الاستحسان الفقهي. وأما الحالة الثالثة في القانون فهي مستقاة من مجموع ما تقرره المذاهب الإسلامية وتقتضيه روح التشريع الإسلامي في محاربة الأعمال غير المشروعة، أو المعاصي والمنكرات الضارة بمصلحة المجتمع، وأنه يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام ونحو ذلك من كل ما يجعل للحق صلة اجتماعية في الإسلام.
وقد ذكرت المادة (1199) من المجلة مبدأ نظرية التعسف: لا يمنع أحد من التصرف في ملكه أبداً إلا إذا كان ضرره لغيره فاحشاً، كما يأتي تفصيله في الفصل الثان وفي هذا الفصل وضع معيار الضرر الفاحش (في المادة 1199) وفي المادة (1200) ذكرت أمثلة عديدة عن الأضرار.
__________
(1) راجع كتابنا نظرية الضمان: ص 53 ومابعدها.(4/714)
4 - نظرية الظروف الطارئة:
لقد نشأت هذه النظرية في نطاق القضاء الإداري، ثم تسللت إلى ميدان الحقوق الخاصة. وهي في أصلها تقوم على فكرة إسعاف المتعاقد المنكوب الذي اختل توازن عقده اقتصادياً مما قد يجره إلى الهلاك، فهي تهدف إلى تحقيق العدالة في العقود ورفع الغبن منها (1) . والمصدر الأساسي لهذه النظرية هو مبدأ العدالة الذي يقضي بإزالة الإرهاق عن المدين، بسبب ظرف طارئ، لم يكن يتوقعه عند إبرام العقد (2) .
وأخذ بهذه النظرية القانون المدني السوري، فنص في المادة (1/148) على ما يلي: «العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون» .
وأردفتها الفقرة الثانية من هذه المادة، فقررت «ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك» .
النص الثاني يدل على أنه، وإن كان الأصل العام في القواعد المدنية التقليدية شريعةالمتعاقدين (أو أن المتعاقد عبد عقده) ، وأنه ليس للقاضي أن يعدل في العقد، فإن وجود الظرف الطارئ يجيز للقاضي إجراء هذا التعديل.
وبهذا النص قيد القانون من سلطان الإرادة عند تنفيذ العقد، فجعل نظرية
__________
(1) راجع كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 310 ومابعدها.
(2) نظرية الظروف الطارئة للدكتور الترمانيني: ص 106.(4/715)
الحوادث الطارئة وقت هذا التنفيذ تقابل نظريتي الاستغلال والإذعان وقت تكوين العقد.
أخذ القانون المدني بهذه النظرية استناداً إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي ـ كما قال الدكتور السنهوري (1) ـ نظرية فسيحة المدى، خصبة النتائج، تتسع لنظرية الظروف الطارئة؛ لأن الضرورة توجب إزالة الضرر، ولها تطبيقات كثيرة منها نظرية العذر في فسخ الإيجار، وإنقاص الثمن بسبب الجوائح في بيع الثمار.
أما فسخ الإجارة بالأعذار، فقد أجازه فقهاء الحنفية كما تقدم، فقالوا: تفسخ الإجارة بالأعذار؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد. والعذر: هو كل ما يكون أمراً عارضاً، يتضرر به العاقد في نفسه أو ماله مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ. والأعذار ثلاثة أنواع (2) :
أـ عذر من جانب المستأجر: كإفلاسه أو انتقاله من حرفة إلى أخرى؛ لأن المفلس أو المنتقل من عمل لا ينتفع به إلا بضرر، فلا يجبر على البقاء في الحرفة الأولى مثلاً.
ب ـ عذر من جانب المؤجر: كأن يلحقه دين فادح لا يجد طريقاً لوفائه إلا ببيع الشيء المأجور وأدائه من ثمنه، بشرط أن يثبت الدين بالبينة أو الإقرار.
ج ـ عذر راجع للعين المؤجرة أو الشيء المأجور: كأن يستأجر شخص حماماً في قرية ليستغله مدة معلومة، ثم يهاجر أهل القرية، فلا يجب عليه الأجر للمؤجر. ومثل استئجار مرضع لإرضاع طفل، ثم يأبى الصبي لبنها، أو إمساك الثدي، أو تمرض هي، أو يريد أهل الصبي السفر، فامتنعت، كان هذا عذراً في فسخ الإجارة.
وأما إنقاص الثمن بسبب الجوائح (3) في بيع الثمار: فقد قرره فقهاء المالكية والحنابلة (4) ؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم وضع الجوائح» أو «أمر بوضع الجوائح» وفي رواية: «إن بعت من أخيك تمراً فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (5) .
ومجمل القول: إن فسخ الإجارة بالأعذار، وإنقاص الثمن بالجوائح في بيع الثمار ونحوهما من الحوادث الطارئة عند فقهاء الإسلام مثل كساد الأوراق النقدية، أو انقطاعها المستوجب لبطلان البيع، تعتبر أمثلة حية لنظرية الظروف الطارئة في الفقه الإسلامي، تطبيقاً لمبدأ العدالة، ومراعاة لما يجب من توفر التعادل والتوازن في الالتزامات وتنفيذها (6) .
__________
(1) الوسيط: ص 47، 81، نظرية العقد: 969/1، مصادر الحق: 96/6، مجلة القانون والاقتصاد عام 1936، السنة السادسة، للسنهوري.
(2) المبسوط للسرخسي:16/2، مختصر الطحاوي: ص 130، البدائع: 197/4، الفتاوى الهندية: 198/4، 458، 463، تبيين الحقائق: 145/5، رد المحتار: 55/5.
(3) الجوائح: ي الآفات التي تصيب الثمار، فتهلكها، مثل البرد والقحط والعطش والعفن وأمراض النباتات والزرع ونحوها من الآفات السماوية.
(4) بداية المجتهد: 184/2، القوانين الفقهية: ص 262، المنتقى على الموطأ: 231/4، الشرح الكبير للدردير:، المغني: 104/4، أعلام الموقعين: 337/2 ومابعدها.
(5) الحديث الأول رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن جابر، والأمر بوضع الجوائح رواية مسلم، والرواية الثالثة عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 178/5، موطأ مالك: 126/3، سنن أبي داود: 248/2) .
(6) كتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 324.(4/716)
5 - حوالة الدين:
أخذ القانون المدني (في المواد 315-321) بمبدأ حوالة الدين جرياً على سنن التقنينات الحديثةوالفقه الإسلامي الذي نظم حوالة الدين تنظيماً محكماً دقيقاً (1) .
وتتم حوالة الدين قانوناًإما باتفاق بين المدين وشخص آخر يتحمل عنه الدين، دون حاجة إلى قبول الدائن، وإما باتفاق بين الدائن وشخص آخر يتحمل قبله الدين من دون حاجة إلى قبول المدين. فإذا تمت الحوالة، جاز للمدين الجديد أن يتمسك قِبَل الدائن بالدفوع التي كان للمدين الأصلي أن يتمسك بها، ويضمن المدين الأصلي للدائن أن يكون المدين الجديد موسراً وقت إقرار الدائن للحوالة.
ولم يجز التشريع الروماني حوالة الدين وحوالة الحق، لتأثره بالنظرية الشخصية في طبيعة الالتزام، ومقتضاها أن لأحد الطرفين سلطة شخصية على الآخر، يحق للدائن بموجبها إجبار المدين على إيفاء دينه بالإكراه البدني كالحبس والمضايقة.
ثم اتجه التشريع الألماني إلى الأخذ بالنظرية المادية التي تعتبر الالتزام علاقة مادية بحتة، فلا تجيز الإجبار، وإنما يبحث الدائن عن مال المدين، فإن عثر عليه، أمكن استيفاء الحق منه بواسطة القضاء.
أما التشريع الإسلامي، فإنه جعل الالتزام في ذاته علاقة مادية إما بمال المكلف كما في المدين، وإما بعمله كما في الأجير، ولكن يرافق هذا الالتزام سلطة شخصية تأييداً لتنفيذه، منعاً من قيام المكلف بإخفاء ماله، أو امتناعه عن عمله. ويجوز للقاضي الحكم بحبس المدين أو الأجير تعزيراً بناءً على طلب الدائن،
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 61.(4/717)
ليحمله على الوفاء بالتزامه. ولا يجوز للدائن أن يمارس شيئاً من هذه الضغوط على المدين بسلطته الشخصية وإنما من طريق القضاء (1) .
والتقنين المدني المصري والسوري وقف موقف الاعتدال في النظرية الشخصية والنظرية المادية للالتزام، فلم يغرق في الأخذ بالمذهب المادي، ولكنه من جهة أخرى سجل ما تم فعلاً من تطور نحو هذا المذهب بحكم تأثر النظريات اللاتينية بالنظريات الجرمانية (2) . وهذا هو اتجاه الفقه الإسلامي.
وحوالة الدين عند فقهاء الحنفية: هي نقل المطالبة من ذمة المدين إلى ذمةالملتزم (3) . وعرفها غير فقهاء الحنفية بأنها عقد يقتضي نقل دين من ذمة إلى ذمة (4) . فالحوالة عند الحنفية يترتب عليها براءة مؤقتة من الدين، ويجوز للمحال العودة إلى مطالبة المحيل بالدين في حال إفلاس المحال عليه في رأي صاحبي أبي حنيفة، أوفي حال موت المحال عليه مفلساً، أوعند جحوده أو إنكاره الحوالة. وعند غير الحنفية يبرأ المحيل براءة نهائية بالحوالة، إلا إذا وجد تغرير كالإحالة على مفلس، فيجوز عند المالكية الرجوع على المحيل. كما يجوز الرجوع عندهم حال اشتراط يسار المحال عليه.
وتنعقد الحوالة عند الحنفية: بإيجاب وقبول، إيجاب من المحيل، وقبول من المحال والمحال عليه، أي أنه لا بد من رضا المحيل والمحال عليه. أما رضا المحيل فمطلوب؛ لأن ذوي المروءات قد يأنفون بتحمل غيرهم ما عليهم من الدين. وأما رضا المحال فلا بد منه، لأن الدين حقه، وهو في ذمة
__________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي للأستاذ الزرقاء: ص 55/ف28.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 28.
(3) فتح القدير مع العناية: 443/5، الدر المختار: 300/4، مجمع الضمانات: ص 282.
(4) الشرح الكبير للدردير: 325/3، مغني المحتاج: 193/2، المغني: 528/4.(4/718)
المحيل، والدين هو الذي ينتقل بالحوالة، والذمم متفاوتة في حسن القضاء والمطل، فلا بد من رضاه، وإلا لزم الضرر بإلزامه اتباع من لا يوفيه.
وأما رضا المحال عليه فضروري لأنه الذي يلزمه الدين، ولا لزوم إلا بالتزامه، وكونه مديناً لا يمنع من تغير صفة الالتزام؛ لأن الناس يتفاوتون في اقتضاء الدين سهولة ويسراً، أو صعوبة وعسراً.
وقال الحنابلة والظاهرية: يشترط رضا المحيل فقط، وأما المحال والمحال عليه فيلزمهما قبول الحوالة، عملاً بالأمر الوارد في الحديث النبوي المفيد للوجوب، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتْبَع» (1) وفي رواية: «ومن أحيل على مليء فليحتل» .
وقال المالكية في المشهور عندهم، والشافعية في الأصح عندهم: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل والمحال فقط؛ لأن للمحيل إيفاء الحق من حيث شاء، فلا يلزم بجهة معينة. وحق المحال في ذمة المحيل، فلا ينتقل إلا برضاه؛ لأن الذمم تتفاوت في الأداء والقضاء.
ولايشترط عند هؤلاء رضا المحال عليه، لأنه محل الحق والتصرف، ولأن الحق للمحيل فله أن يستوفيه بغيره، والأمر هو مجرد تفويض بالقبض فلا يعتبر رضا من عليه، كما لو وكل إنسان غيره بقبض دينه (2) .
والخلاصة: أن رضا المحيل مشروط في كل المذاهب، وأما رضا المحال والمحال عليه، ففيه اختلاف اجتهادي بين المذاهب.
__________
(1) المطل بالدين: المماطلة به، والمليء: الغني، وأصله الواسع الطويل، والحديث رواه الجماعة عن أبي هريرة. والرواية الثانية «فليحتل» عند أحمد (نيل الأوطار:236/5) .
(2) سيأتي تفصيل القول في بحث الحوالة.(4/719)
نوعا الحوالة: الحوالة نوعان متميزان بحسب صفة المحيل، فإن كان المحيل هو الدائن فهي حوالة حق، وإن كان المحيل هو المدين فهي حوالة دين.
حوالة الحق: هي نقل الحق من دائن إلى دائن، أو حلول دائن محل دائن بالنسبة للمدين. فإذا تبدل دائن بدائن في حق مالي متعلق بالذمة، لا بعين، كانت الحوالة حوالة حق. والدائن فيها هو المحيل، إذ هو يحيل غيره ليستوفي حقه.
وحوالة الدين: هي تبدل المدين بالنسبة للدائن أي تبدل مدين بمدين، والمحيل فيها هو المدين، إذ هو إنما يحيل على غيره لوفاء دينه، وهي مشروعة باتفاق العلماء، عملاً بالحديث النبوي المار ذكره.
وحوالة الحق جائزة أيضاً باتفاق المذاهب الأربعة، وليس فقط عند غير الحنفية، كما فهم بعض أساتذة القانون والشريعة (1) ؛ لأن حوالة الدين عند الحنفية والشيعة نوعان: مطلقة ومقيدة. وأما غير الحنفية فلم يتصوروا غير الحوالة المقيدة.
أما الحوالة المطلقة: فهي أن يحيل شخص غيره بالدين على فلان، ولا يقيده بالدين الذي عليه، ويقبل المحال عليه. نصت المادة (679) من المجلة على ذلك بقولها: «الحوالة المطلقة: هي التي لم تقيد بأن تعطى من مال المحيل الذي هو عند المحال عليه» .
وأما الحوالة المقيدة: فهي أن يحيل شخص غيره على آخر، ليستوفي منه دينه، ويقيده بالدين الذي له عليه. جاء في المادة (678) من المجلة: «الحوالة المقيدة: هي الحوالة التي قيدت بأن تعطى من مال المحيل الذي هو في ذمة المحال عليه، وفي يده» .
والحوالة المقيدة المشروعة باتفاق الفقهاء تتضمن حوالة حق، إذ يكون الإنسان فيها مديناً لشخص، ودائناً لآخر، فيحيل دائنه على مدينه ليقبض ذلك الدائن المحال دين المحيل من مدينه المحال عليه، فهي حوالة حق ودين في وقت واحد.
__________
(1) انظر الوسيط للسنهوري: ص 61، 64.(4/720)
أما الحوالة المطلقة فهي حوالة دين فقط، إذ يحيل بها المدين دائنه على آخر، فيتبدل فيها المدين، ويبقى الدائن هو نفسه.
ومن صور حوالة الحق ضمن الحوالة المقيدة: أن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر. ويحيل صاحب الحق في ريع الوقف دائنه على ناظر الوقف في حقه من الغلة بعد حصولها في يد الناظر. ويحيل الغانم حقه من الغنيمة المحرزة على الإمام. ففي كل هذه الأمثلة حل دائن جديد ـ وهو المحال ـ محل الدائن الأصلي، وهو البائع، أو المرتهن، أو الزوجة، أو مستحق غلة الوقف، أو الغانم.
هذا ويرجع في أحكام الحوالة الأخرى من أهلية وتنظيم علاقات أطراف الحوالة إلى كتب الفقه الإسلامي، فهي غنية بالمراد.
6 - لا تركة إلا بعد سداد الدين:
وضع التقنين المدني السوري وأصله المصري نظاماً لتصفية التركة مؤلفاً من (39) مادة (المواد 836-875) مستمداً من أحكام الفقه الإسلامي (1) ، حتى يتسلم الورثة تركة المتوفى خالية من الديون، ما دامت التركة لاتنتقل إليهم إلا بعد سدادها (2) .
وأصل هذه القاعدة الأول ما تضمنته آيات المواريث في أربعة مواطن في الآيتين (11-12) من سورة النساء: {مِنْ بَعْد وَصِيَةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْن} أي أن توزيع الإرث بين المستحقين على النحو الذي وضعه القرآن الكريم يكون عقب إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا المشروعة.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص62، مصادر الحق للسنهوري: 87/5.
(2) ونص قانون الأحوال الشخصية السوري الجديد على نظام المواريث في المواد 260-308.(4/721)
وقد رتب الفقهاء الحقوق المتعلقة بالتركة على النحو التالي (1) :
1 - نفقات التكفين والتجهيز للدفن بلا تبذير ولا تقتير.
2 - قضاء ديون المدين من جميع مال التركة.
3 - تنفيذ الوصايا الموصى بها قبل الموت من ثلث التركة.
4 - توزيع الباقي من المال بين الورثة الذين ثبت إرثهم بالقرآن والسنة وإجماع الأمة.
أما قانون الأحوال الشخصية السوري، فإنه عدل عن هذا الترتيب إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل والظاهرية وجماعة كما نصت المادة (262) :
1 - يؤدى من التركة بحسب الترتيب الآتي:
أـ ما يكفي لتجهيز الميت ومن تلزمه نفقته من الموت إلى الدفن بالقدر المشروع.
ب ـ ديون الميت.
جـ ـ الوصية الواجبة.
د ـ الوصية الاختيارية.
هـ ـ المواريث بحسب ترتيبها في هذا القانون.
2 - إذا لم توجد ورثة قضي من التركة بالترتيب الآتي:
أـ استحقاق من أقر له الميت بنسب على غيره.
ب ـ ما أوصي به فيما زاد على الحد الذي تنفذ فيه الوصية.
3 - إذا لم يوجد أحد من هؤلاء آلت التركة، أو ما بقي منها إلى الخزانة العامة، وبما أن قانون الأحوال الشخصية هو المعمول به في سورية، فتطبق على التركة أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بتعيين الورثة، وتقدير أنصبتهم، وبيان وقت انتقال التركة إلى الورثة. وقد أخذ التقنين المدني فيما نص عليه بالمبادئ الأساسية المعمول بها في الفقه الإسلامي في مذاهبه المختلفة وذلك في انتقال أموال التركة إلى الورثة، وفي حق الورثة في التصرف في هذه الأموال، وفي حقوق الدائنين المتعلقة بالتركة وكيفية سداد الديون، فنصت المادة (836) من القانون المدني على ذلك: «أـ تعيين الورثة وتحديد أنصبائهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم تسري في شأنها أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الصادرة في شأن الإرث والانتقال» .
لكن متى يتم انتقال التركة إلى الورثة؟ هل يكون وقت موت المورث، أو تبقى التركة على ملك الميت حتى تسدد الديون؟
__________
(1) شرح السراجية: ص 3-7، نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض: ص 38 ومابعدها، أحكام المواريث للشيخ عيسوي: ص 11 ومابعدها.(4/722)
أخذ التقنين المدني بالمبدأ الفقهي الإسلامي الذي يقرر أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث، مع تعلق حقوق الدائنين بها، فتنتقل هذه الأموال مثقلة بحق عيني هو أقرب إلى أن يكون حق رهن، ولكنه رهن مصدره القانون (1) . وهذا هو مذهب الشافعية.
وللفقهاء آراء ثلاثة في هذا الموضوع أي تحديد وقت انتقال التركة إلى الورثة أو بيان المراد من (لا تركة إلا بعد سداد الدين) .
الرأي الأول للمالكية: تبقى أموال التركة على ملك الميت بعد موته إلى أن يسدد الدين، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة، أم لم يكن مستغرقاً لها، عملاً بقوله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} [النساء:11/4] . وعليه يكون نماء أعيان التركة بزيادتها المتولدة منها ملكاً للميت، كما أن نفقات أعيان التركة من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام حيوان تكون على التركة.
الرأي الثاني للشافعية، والحنابلة (في أشهر الروايتين) : تنتقل أموال التركة إلى ملك الورثة فوراً بموت المورث، مع تعلق الدين بها، كما يتعلق الرهن، سواء أكان الدين مستغرقاً للتركة أم غير مستغرق لها. وعليه يكون نماء أعيان التركة للورثة، وعليهم ما تحتاجه من نفقات، عملاً بالحديث النبوي: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» .
الرأي الثالث للحنفية: يميز بين ما إذا كانت مستغرقة بالدين، أو كانت غير مستغرقة (أي محاطة) بالدين. فإذا استغرق الدين أموال التركة، تبقى أموال التركة على ملك الميت، ولا تنتقل إلى ملك الورثة. وأما إن كان الدين غير مستغرق، فالرأي الراجح أن أموال التركة تنتقل إلى الورثة بمجرد موت المورث مع تعلق الدين بهذه الأموال.
فالاحتمال الأول من مذهب الحنفية يوافق مذهب المالكية، والاحتمال الثاني يوافق مذهبي الشافعية والحنابلة.
__________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 88/5، ط ثالثة.(4/723)
وأما تصرف الورثة في أعيان التركة قبل سداد الدين: فإنه يجوز في القانون المدني، ولكن التصرف خاضع لحقوق الدائنين، فلهم تتبع العين المتصرف فيها في يد الغير، بعد تأشيرهم بالدين أمام اسم المورث في سجل عام تدون فيه أسماء المورثين، وإخضاع التركة لنظام التصفية المنصوص عليه في القانون، يقوم مقام التأشير بالدين.
وللفقهاء آراء في تصرف الورثة:
قال الحنفية والشافعية، والمالكية (في رأي عندهم) : يكون تصرف الوارث في أموال التركة المدينة باطلاً. والرأي الثاني عند المالكية يجيز تصرف الوارث في التركة المدينة قبل أداء الدين إذا لم يتضرر الدائن به.
وقال الحنابلة (في أشهر الروايتين) : يصح تصرف الورثة في التركة قبل سداد الدين، ولزمهم أداء الدين، فإن أدوه نفذ، وإن لم يؤدوه فسخ.
بيان بعض الأحكام المأخوذة من الفقه الإسلامي:
أخذ التقنين المدني السوري والمصري طائفة من الأحكام من الفقه الإسلامي، دون تقيد بمذهب معين، وهذا صنيع حسن، إذ الأخذ بأي مذهب إسلامي أفضل بكثير من أخذه من أي مصدر أجنبي. وسأذكر بعض هذه الأحكام:
أولاً ـ في عقد البيع:
وردت أحكام كثيرة في تنظيم عقد البيع في التقنين المدني مستمدة من الفقه الإسلامي، منها: 1 - أحكام مجلس العقد:
نصت المادة (95) على ما يلي: «1 - إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد، دون أن يعين ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق التلفون أو بأي طريق مماثل.
2 - ومع ذلك يتم العقد، ولو لم يصدر القبول فوراً، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول، وكان القبول قد صدرقبل أن ينفض مجلس العقد» .(4/724)
دلت هذه المادة على أحكام تتعلق بمجلس العقد: وهي جواز الرجوع عن الإيجاب الموجه قبل صدور القبول الفوري من القابل. ولا يشترط القبول الفوري، وإنما يكفي حدوثه ما دام مجلس العقد قائماً بأن لم يحدث إعراض عنه أو انشغال بغيره. وهذه الأحكام تتفق مع ما عرفناه من مذهب الحنفية في تكوين العقد.
قال الدكتور السنهوري: ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولاً، ولم تعد الفورية في القبول لازمة، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد، ويبقى فيها الموجب على إيجابه. وهذا هو في نظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد (1) .
2 - البيع بالصفة أو بالعينة (النموذج) :
أجاز القانون المدني البيع بالصفة، إذا ذكرت أوصاف المبيع الأساسية، فنصت المادة (387) على ما يلي: «1 - يجب أن يكون المشتري عالماً بالمبيع علماَ كافياً. ويعتبر العلم كافياً إذا اشتمل العقد على بيان المبيع وأوصافه الأساسية بياناً يمكن من تعرفه» . ونصت المادة (388) على جواز البيع بالنموذج: «إذا كان البيع (بالعينة) وجب أن يكون المبيع مطابقاً لها» .
وهذا مأخوذ من الفقه الإسلامي الذي يشترط أن يكون محل العقد معروفاً لطرفيه ومعيناً، بحيث لا يكون فيه جهالة تؤدي إلى الغرر والنزاع بين المتعاقدين. وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء (2) .
وتحصل المعرفة برؤية المبيع حال العقد، أو رؤية بعضه (رؤية النموذج) أو بيان أوصافه الأساسية. وقد أجاز البيع بالصفة فقهاء الحنفية والمالكية، والشافعية (في الأظهر) والظاهرية، والزيدية والإمامية وفي قول عند الإباضية (3) .
جاء في المادة (320) من المجلة: «من اشترى شيئاً ولم يره، كان له الخيار إلى أن يراه، فإذا رآه: إن شاء قبله، وإن شاء فسخ البيع، ويقال لهذا الخيار: خيار الرؤية» .
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 215.
(2) الأموال ونظرية العقد في الفقه لأستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى: ص311 ومابعدها.
(3) سيأتي مزيد بحث لذاك في عقد البيع.(4/725)
وفي المادة (324) : «الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها تكفي رؤية الأنموذج منها فقط» .
ويثبت للمشتري عند فقهائنا حق خيار الوصف بعد رؤية المبيع، فإن شاء أنفذ
البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا، وهذا لا يتفق مع القانون. وقال المالكية ورأيهم هو المتفق مع القانون (1) : إذا جاء المبيع على الصفة صار العقد لازماً. لكن القانون على الرغم من محاولته التوفيق بين خيار الرؤية المقرر في الشريعة وبين مبادئ القانون العامة، فقد خالف الفقه الحنفي في الاكتفاء بوصف المبيع وصفاً كافياً، وفي إسقاط حق المشتري إذا ذكر أنه عالم بالمبيع، وفي حصر حق المشتري بإبطال البيع عن طريق القاضي، لا فسخه بدون تقاض أو تراض.
3 - تبعة هلاك المبيع:
يتحمل البائع تبعة هلاك المبيع إذا كان الهلاك بسبب أجنبي لا يد للبائع فيه. وينفسخ البيع حالة الهلاك الكلي. ويجوز للمشتري طلب فسخ البيع حالة الهلاك الجزئي. وهذا هو المنصوص عليه في المادتين (405، 406) من القانون المدني.
نصت المادة (405) على ما يلي: «إذا هلك المبيع قبل التسليم لسبب لا يد للبائع فيه، انفسخ البيع، واسترد المشتري الثمن إلا إذا كان الهلاك بعد إعذار المشتري لتسلم المبيع» .
ونص المادة (406) هو: «إذا نقصت قيمة المبيع قبل التسلم لتلف أصابه، جاز للمشتري إما أن يطلب فسخ البيع إذا كان النقص جسيماً بحيث لو طرأ قبل العقد لما تم البيع، وإما أن يبقى البيع مع إنقاص الثمن» .
وهذه الأحكام في جملتها مستقاة من الفقه الإسلامي، فقد قرر فقهاء الحنفية أن المبيع إذا هلك كله أو بعضه قبل التسليم، فإن البائع (أي المدين) الذي استحال
__________
(1) قال فقهاء القانون: البيع بالعينة: هو بيع بات من الوقت الذي اتفق فيه المتعاقدان على النموذج الذي تم البيع على أساسه، راجع العقود المسماة للدكتور عبد المنعم البدراوي: ص 161، ط أولى.(4/726)
عليه الوفاء بالتزامه بالتسليم هو الذي يتحمل تبعة الهلاك، وينفسخ البيع في حالة الهلاك الكلي أو فيما يقابل الجزء التالف في حالة الهلاك الجزئي. وقد نصت على ذلك المادة (392) من مجلة الأحكام العدلية ونصها: «المبيع إذا هلك في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري يكون من مال البائع ولا شيء على المشتري» .
وإذا كان ذلك هو المقرر في عقد البيع، وهو أيضاً المقرر في عقد الإيجار بأن الهلاك على المدين (المؤجر في إجارة المنافع، والأجير في إجارة الأعمال) ، فإن الفقه الإسلامي يكون قد أخذ بنظرية تحمل التبعة المعروفة لدى القانونيين (1) .
4 - حق البائع في حبس المبيع:
أجاز القانون المدني للبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع إلى المشتري، على الرغم من حلول أجله، إذا لم يقم المشتري بدفع الثمن كله أو بعضه، وذلك هو الحق في حبس المبيع، نصت المادة (427) على ذلك فيما يأتي: «إذا كان الثمن كله أو بعضه مستحق الدفع في الحال، فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي ما هو مستحق له، ولو قدم المشتري رهناً أو كفالة، هذا ما لم يمنح البائع المشتري أجلاً بعد البيع» .
وإعطاء البائع حق الحبس مبدأ مقرر في الفقه الإسلامي، قال الحنفية: يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه. ولا يسقط حق الحبس حتى ولو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن (2) .
__________
(1) راجع رسالة (نظرية تحمل التبعة في الفقه الإسلامي) للدكتور زكي عبد البر: ص 144 ومابعدها، وكتابنا نظرية الضمان: ص 148، 165، 169، العقود المسماة للدكتور422/1 البدراوي: ومابعدها.
(2) المبسوط:192/13، البدائع: 249/5، رد المحتار: 44/4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 77، العقود المسماة للبدراوي: 420/1.(4/727)
وذكرت المجلة المواد المتعلقة بحبس المبيع (من 278-284) ، نصت المادة (278) على ما يلي: «في البيع بالثمن الحال أعني غير المؤجل، للبائع أن يحبس المبيع إلى أن يؤدي المشتري جميع الثمن» .
5 - الغبن في بيع عقار القاصر:
إذا اشتمل بيع عقار لغير كامل الأهلية بسبب الصغر أو الجنون مثلاً على غبن فاحش يزيد على الخمس، جاز للبائع طلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل، بأن صدر البيع من ناقص الأهلية نفسه (1) ، وهذا نص المادة (393 مدني) :
«1- إذا بيع عقار مملوك لشخص لا تتوافر فيه الأهلية وكان في البيع غبن يزيد على الخمس، فللبائع أن يطلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل.
2 - ويجب لتقدير ما إذا كان الغبن يزيد على الخمس أن يقوَّم العقار بحسب قيمته وقت البيع» .
أخذ هذا الحكم من الفقه الإسلامي (2) ، فقد أجاز فقهاء الحنفية فسخ البيع بسبب الغبن الفاحش وحده بدون أن ينضم إليه تغرير، وذلك في أحوال هي: «حقوق اليتيم والوقف، وبيت المال» .
وضابط التمييز بين الغبن اليسير أو القليل وبين الغبن الفاحش أو الكثير هو أن الغبن اليسير: ما يدخل تحت تقويم المقومين. والغبن الفاحش: هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين (3) .
لكن المادة (165) من المجلة قدرت الغبن بما يأتي، وهو رأي متأخري فقهاء الحنفية: «الغبن الفاحش غبن على قدر نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوانات، والخمس في العقار أو زيادة» . ولا مانع فقهاً من تقدير الغبن الفاحش بما أخذ به القانون أي بما يزيد عن الخمس وهو
__________
(1) راجع العقود المسماة للدكتور البدراوي: 218/1 ومابعدها.
(2) الوسيط للسنهوري: ص 46.
(3) البدائع: 30/6.(4/728)
رأي نصر بن يحيى من الحنفية (1) .
6 - ضمان العيوب الخفية، وضمان التعرض والاستحقاق:
يلتزم البائع بضمان العيب القديم الذي قد يوجد في المبيع، لأن عقد البيع يقتضي بذاته سلامة المبيع من العيوب، وسلامته من حقوق الغير (ضمان الدَّرَك (2) أو ضمان التعرض والاستحقاق) ، دون حاجة إلى شرط؛ لأن العيب ضرر لايقتضيه العقد، والضرر مرفوع، عملاً بالحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المفروض في البيع سلامة المبيع من كل علاقة للغير به.
فإذا وجد عيب في المبيع جاز فسخ العقد، فيتخير المشتري بين أمرين: إن شاء فسخ البيع ورد المبيع، وإن شاء أمسكه بكل الثمن، وليس له إسقاط شيء من الثمن دون رضا البائع.
وإذا ظهر كون المبيع مستحقاً لغير البائع أصبح البيع متوقفاً على إجازة المستحق، فإن أجاز البيع بقي المبيع للمشتري، ويأخذ المستحق الثمن من البائع. وإن لم يجز المستحق البيع انفسخ البيع السابق، ويلتزم البائع للمشتري رد الثمن (3) .
أخذ القانون المدني أحكام ضمان العيوب الخفية، من الفقه الإسلامي، كما أنه من حيث المبدأ أخذ أحكام ضمان التعرض والاستحقاق من هذا الفقه أيضاً (1) مع مراعاة المبادئ القانونية التي تجيز الفوائد عن قيمة المبيع وقت الاستحقاق، وتوجب تعويض المشتري عما لحقه من خسارة أو فاته من كسب بسبب استحقاق المبيع.
ونصت المواد (415-419) مدني على ضمان العيوب الخفية، كما نصت المواد (407-414) على ضمان التعرض والاستحقاق.
__________
(1) البدائع: المرجع السابق.
(2) ضمان الدَّر َك: هو التزام سلامة المبيع مما يمكن أن يلحقه ويدركه من حقوق لغير البائع في عينه، وتحمل تبعة الاستحقاق عند ظهور حق فيه لأحد.
(3) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص97-116.(4/729)
أما المادة (415) فهي: «1- يكون البائع ملزماً بالضمان إذا لم يتوافر في المبيع وقت التسليم الصفات التي كفل المشتري وجودها فيه، أو إذا كان بالمبيع عيب ينقص من قيمته أو من نفعه بحسب الغاية المقصودة مستفادة مما هو مبين في العقد، أو مما هو ظاهر من طبيعة الشيء أو الغرض الذي أعد له، ويضمن البائع هذا العيب، ولو لم يكن عالماً بوجوده.
2 - ومع ذلك لا يضمن البائع العيوب التي كان المشتري يعرفها وقت البيع، أو كان يستطيع أن يتبينها بنفسه لو أنه فحص المبيع بعناية الرجل العادي، إلا إذا أثبت المشتري أن البائع قد أكد له خلو المبيع من هذا العيب، أو أثبت أن البائع قد تعمد إخفاء العيب غشاً منه» .
وقد نصت المواد (336-355) من مجلة الأحكام العدلية على أحكام ضمان العيوب الخفية تحت عنوان (خيار العيب) . أما المادة (336) فهي: «البيع المطلق يقتضي سلامة المبيع من العيوب يعني أن بيع المال بدون البراءة من العيوب وبلا ذكر أنه معيب أو سالم، يقتضي أن يكون المبيع سالماً خالياً من العيب» .
ونص المادة (337) هو: «ما بيع بيعاً مطلقاً إذا ظهر به عيب قديم، يكون المشتري مخيراً: إن شاء رده، وإن شاء قبله بثمنه المسمى، وليس له أن يمسك المبيع، ويأخذ ما نقصه العيب، وهذا يقال له خيار العيب» .
وأما المادة (407) مدني التي تنص على مبدأ ضمان تعرض الغير في الانتفاع فهي: «يضمن البائع عدم التعرض للمشتري في الانتفاع بالمبيع كله أو بعضه، سواء كان التعرض من فعله هو، أو من فعل أجنبي يكون له وقت البيع حق على المبيع يحتج به على المشتري ويكون البائع ملزماً بالضمان ولو كان الأجنبي قد ثبت حقه بعد البيع، إذا كان هذا الحق قد آل إليه من البائع نفسه» .
ونصت المادة (408) على التزام البائع المزدوج أي المكون من التزامين في حال استحقاق المبيع:
__________
(1) راجع العقود المسماة للدكتور البدراوي: 433/1 ومابعدها(4/730)
الأول: التزام الدفاع عن المشتري في الدعوى القائمة بينه وبين الغير. والثاني: التزامه بتعويض المشتري إذا لم يمكن توقي الاستحقاق. والالتزام بالضمان: التزام بعمل، والأصل أنه يجب تنفيذه عيناً ما دام التنفيذ العيني ممكناً. فإذا لم يمكن التنفيذ العيني لم يكن أمام البائع سوى التنفيذ بطريق التعويض.
ثانياً ـ في عقد الإيجار:
اقتبس التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بعض أنواع الإيجار، وبعض أحكام إجارة المنافع، منها مايأتي:
1 - إيجار الأراضي الزراعية:
ورد النص على إيجار الأراضي الزراعية في المواد التالية (577-585) حدد فيها التزامات المؤجر بتسليم أدوات الزراعة لإقامة المباني والتزام المستأجر لاستغلال الأرض طبقاً لمقتضيات الاستغلال المألوف، وبالقيام بإجراءات الإصلاح التي يقتضيها الانتفاع المألوف بالأرض المؤجرة وتحديد مدة الإيجار بالدورة الزراعية السنوية وبقاء المستأجر في العين المؤجرة عند انتهاء الإيجار بسبب قاهر حتى تنضج الغلة بالأجر المناسب. وهذا النوع من العقود إجارة بالنقود في الذمة أو معينة.
وهي أحكام مقررة في الفقه الإسلامي، وجاء النص على بعضها في المجلة، نصت المادة (524) مجلة على ضرورة تعيين نوع الزرع: «من استأجر أرضاً ولم يعين ما يزرعه فيها ولم يعمم على أن يزرع ما شاء، فإجارته فاسدة، ولكن لو عين قبل الفسخ، ورضي الآخر تنقلب إلى الصحة» .
ونصت المادة (525) على الدورة الزراعية: «من استأجر أرضاً على أن يزرعها ما شاء فله أن يزرعها مكرراً في ظرف السنة صيفياً وشتائياً» .
ونصت المادة (526) على بقاء المستأجر في الأرض بعد انتهاء العقد: «لو انقضت مدة الإيجار قبل إدراك الزرع فللمستأجر أن يبقى الزرع في الأرض إلى إدراكه، ويعطي أجرة المثل» .
2 - هلاك الزرع في العين المؤجرة:
نصت المادة (583) مدني على أن هلاك الزرع يسوغ طلب إسقاط الأجرة:(4/731)
«1- إذا بذر المستأجر الأرض، ثم هلك الزرع كله قبل حصاده بسبب قوة قاهرة جاز للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة.
2 - أما إذا لم يهلك إلا بعض الزرع، ولكن ترتب على الهلاك نقص كبير في ريع الأرض كان للمستأجر أن يطلب إنقاص الأجرة.
3 - وليس للمستأجر أن يطلب إسقاط الأجرة أو إنقاصها إذا كان قد عوض عما أصابه من ضرر بما عاد عليه من أرباح في مدة الإجارة كلها أو بما حصل عليه من طريق التأمين أو من طريق آخر» .
وهذا النص تطبيق لأثر القوة القاهرة (الآفة السماوية) المبني على نظرية الضرورة الشرعية والذي يترتب عليه سقوط الالتزام بدفع المقابل (الأجرة أو الثمن) إذا تلف الشيء المعقود عليه. قال الحنفية: إذا انقطع الماء عن الطاحون مدة شهر مثلاً، يسقط عن المستأجر أجر المدة (1) ، وجاء في الحديث النبوي: «أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه» (2) .
3 - غرس الأشجار في العين المؤجرة:
ورد النص على هذه القضية في المادة (559) مستمداً من الفقه الإسلامي، حيث تضمنت الفقرة الأولى إلزام المؤجر نفقة ما ترتب على البناء أو الغرس من تحسينات إذأ0حدآ شلك بموافقته أي المؤجر، وتضمنت الفقرة الثانية ما يلي:
«2 - فإذا كانت تلك التحسينات قد استحدثت دون موافقة المؤجر، كان له أيضاً أن يطلب من المستأجر إزالتها، وله أن يطلب فوق ذلك تعويضاً عن الضرر الذي يصيب العقار من هذه الإزالة، إن كان للتعويض مقتض» .
وهذا الحكم مقتبس من الفقه الإسلامي، فقد ألزم فقهاء الحنفية المستأجر بعد انقضاء مدة الإيجار بقلع الغراس وتسليم الأرض فارغة (3) . وجاء في المادة
__________
(1) راجع كتابنا نظرية الظمان: ص 164، وكتابنا نظرية الضرورة الشرعية: ص 328 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس بلفظ: «إذا منع الله الثمرة، فبِمَ تستحل مال أخيك» (نيل الأوطار: 173/5) .(4/732)
(3) اللباب في شرح الكتاب للميداني: 90/2. (531) من المجلة ما يؤيده: «لو أحدث المستأجر بناء في العقار المأجور أو غرس شجرة، فالآجر مخير عند انقضاء مدة الإجارة إن شاء قلع البناء والشجرة، وإن شاء أبقاهما، وأعطى قيمتها كثيرة كانت أو قليلة» . ونصت المادة (532) بعدها على ضمان الضرر: «إزالة التراب والزبل الذي يتراكم في مدة الإجارة والتطهير عنهما على المستأجر» .
4 - المزارعة:
المزارعة عبارة عن عقد الزراعة، ببعض الناتج، وهو إجارة الأرض ببعض ماخرج منها. وهو عقد مقرر في الفقه الإسلامي، أخذت منه أحكامه المعمول بها في القانون المدني (في المواد 586-594) .
ونص المادة (586) هو ما يلي: «يجوز أن تعطى الأرض الزراعية والأرض المغروسة بالأشجار مزارعة للمستأجر في مقابل أخذ المؤجر جزءاً معيناً من المحصول» .
قال الحنفية (1) : يصح استئجار الأرضين للزراعة على أي مدة كانت طالت أو قصرت، لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوماً.
5 - انقضاء الإيجار بموت المستأجر:
ورد النص على انتهاء عقد الإيجار بالموت في المادة (568) مدني ومابعدها:
«1 - لا ينتهي الإيجار بموت المؤجر ولا بموت المستأجر.
2 - ومع ذلك إذا مات المستأجرجاز لورثته أن يطلبوا إنهاء العقد إذا أثبتوا أنه بسبب موت مورثهم أصبحت أعباء العقد أثقل من أن تتحملها مواردهم، أو أصبح الإيجار مجاوزاً حدود حاجتهم. وفي هذه الحالة يجب أن تراعى مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة في المادة (531) ، وأن يكون طلب إنهاء العقد في مدة ستة أشهر على الأكثر من وقت موت المستأجر» .
ونص المادة (569) هو: «إذا لم يعقد الإيجار إلا بسبب حرفة المستأجر أو لاعتبارات أخرى تتعلق بشخصه ثم مات، جاز لورثته أو للمؤجر أن يطلبوا إنهاء العقد» .
__________
(1) اللباب في شرح الكتاب: 88/2.(4/733)
دل النص على أنه لا ينتهي عقد الإيجار بموت المؤجر أو المستأجر عملاً بما قرره جمهور فقهاء الإسلام غير الحنفية، واستثنى النص حالتين ينقضي بهما الإيجار بموت المستأجر وهما:
1 - حالة صيرورة أعباء العقد أثقل من أن تتحملها موارد ورثة المستأجر، أو أن الإيجار أصبح يجاوز حدود حاجتهم.
2 - إذا كان الإيجار قد عقد بسبب حرفة المستأجر كعيادة طبيب أو صيدلية.
ويمكن تسويغهما بما قرره الحنفية من انتهاء الإجارة بموت أحد العاقدين.
6 - انتهاء الإيجار للعذر:
أخذ المشرع المدني عن الفقه الإسلامي فكرة فسخ الإيجار للعذر، فنص في المادة (575) على أنه:
«1- إذا كان الإيجار معين المدة، جاز لكل من المتعاقدين أن يطلب إنهاء العقد قبل انقضاء مدته إذا جدَّت ظروف خطيرة غير متوقعة من شأنها أن تجعل تنفيذ الإيجار من مبدأ الأمر، أو في أثناء سريانه مرهقاً، على أن يراعي من يطلب إنهاء العقد مواعيد التنبيه بالإخلاء المبينة بالمادة (531) ، وعلى أن يعوض الطرف الآخر تعويضاً عادلاً.
وهذا النص يشير إلى عذر خاص بالمستأجر، أو المؤجر، يجيز طلب فسخ الإيجار بسبب العذر بشرطين:
1 - أن تكون الإجارة معينة المدة، فإن لم تكن معينة جاز لأي طرف إنهاؤها قبل نهاية أي فترة دفعت أجرتها.
2 - أن يطرأ ظرف خطير من شأنه أن يجعل التنفيذ مرهقاً لأحد الطرفين، كأن يترك المحامي الذي استأجر مكتباً مهنته لمرض أو منع قانوني من ممارسة المهنة. أو تطرأ ظروف غير متوقعة تجعل القيام ببناء التزم المؤجر بإقامته مرهقاً له.
وقد عرفنا سابقاً أن الحنفية أجازوا فسخ الإجارة بالأعذار، وإن وقعت الإجارة صحيحة لازمة (1) .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 533/2.(4/734)
7 - إيجار الوقف:
نص القانون المدني في المواد (595-601) على أحكام إيجار الوقف مستمدة من الفقه الإسلامي، ومن أخصها ما نصت عليه المادة (598) : «لا تصح إجارة الوقف بالغبن الفاحش إلا إذا كان المؤجر هو المستحق الوحيد الذي له ولاية التصرف في الوقف، فتجوز إجارته بالغبن الفاحش في حق نفسه، لا في حق من يليه من المستحقين» .
وقد نصت المادة (256) من المجلة على مبدأ الفسخ بسبب الغبن: «إذا وجد غبن فاحش في البيع، ولم يوجد تغرير، فليس للمغبون أن يفسخ البيع، إلا أنه إذا وجد الغبن وحده في مال اليتيم لا يصح البيع، ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم مال اليتيم» .
ثالثاً - حقوق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو تكليف مفروض على عقار معين لمنفعة عقار معين جارٍ في ملكية شخص غير مالك العقار الأول (م 960) مدني. وهو أحد الحقوق العينية المتفرعة عن حق الملكية. والارتفاقات تختلف فيما بينها من حيث موضوعها. فهناك ارتفاق بالمجرى، وارتفاق بالمرور، وارتفاق بالصرف، وارتفاق بالمطل، ونحو ذلك. والارتفاق إما أن يكون طبيعياً، أو قانونياً أي يقرره القانون، كحق الشِّرب وحق المجرى وحق المسيل وحق المرور.
أخذ القانون المدني طائفة من أحكام الارتفاق من الفقه الإسلامي من أهمها حق العلو والسفل، وأحكام الحائط المشترك.
ففي حق العلو والسفل نصت المادة (963) مدني على حق إسالة الماء سيلاً طبيعياً من الأراضي العالية. وأوجب القانون بعض التزامات على صاحب السفل وصاحب العلو في ضمن القيود الواردة على حق الملكية - ملكية الطبقات، نصت على ذلك المادة (814) :
«1- على صاحب السفل أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو.(4/735)
2 - فإذا امتنع عن القيام بهذه الترميمات جاز للقاضي أن يأمر ببيع السفل. ويجوز في كل حال لقاضي الأمور المستعجلة أن يأمر بإجراء الترميمات العاجلة» . ونصت المادة (415) على التزام صاحب السفل بإعادة بناء سفله إذا انهدم فإن امتنع جاز لصاحب العلو إعادة البناء على نفقة صاحبه، ولصاحب العلو منع صاحب السفل من السكنى والانتفاع حتى يؤدي ما في ذمته. ومضمون هاتين المادتين مستمد من الفقه الإسلامي (1) .
والقانون المدني بالإضافة إلى المعايير الثلاثة السابقة لبيان حد المشروعية في استعمال الحقوق (التعسف في استعمال الحق م 5و6) أقر معياراً آخر لمضار الجوار غير المألوفة لبيان حد المشروعية في استعمال حق الملكية (2) ومنه حق العلو والسفل، في المادة (776) ونصها ما يأتي:
«1- على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضر بملك الجار.
2 - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف، على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له، ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق» . وهذا النص تطبيق لنظرية التعسف، وأقرب إلى تكييف الفقه الإسلامي الذي اعتمد عليه القانون المدني في صياغة نظرية عامة للتعسف.
ونصت المجلة على مضار الجوار غير المألوفة في المواد (1198-1212) ونص المادة (1198) هو ما يلي: «كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناء ما يريد، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشاً» . وحددت المادة (1199) الضرر الفاحش بقولها: «والضرر الفاحش: كل ما يمنع الحوائج الأصلية، يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يضر البناء أي يجلب عليه وهناً ويكون سبب انهدامه» .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 314/2 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد، يوسف موسى: ص 182.
(2) الحقوق العينية الأصلية للأستاذ الدكتور وحيد سوار: ص 314 ومابعدها.(4/736)
وأما الحائط المشترك: فإن القانون المدني نص على أحكامه أثناء بيان أحوال الارتفاق القانوني، فوضع قيوداً على المالك في استعمال أجزاء أرضه، ففي الحائط المشترك ليس لأحد الجارين أن يفتح فيه مطلات أو مناور؛ لأن هذا يتعارض مع الغرض الذي أعد له الحائط، وهو ستر كل من العقارين اللذين يفصل بينهما. ويستعمل الحائط المشترك بحسب الغرض الذي أعد له، وبالقدر الذي يحتمله كالاستناد المألوف عليه (انظر المادة 974، و 970 وما بعدها) .
وهذا كله من الفقه الإسلامي عملاً بقاعدة: «الضرر يزال» (1) نصت المادة (1202) من المجلة على ذلك فيما يأتي: «رؤية المحل الذي هو مقر النساء كصحن الدار أو المطبخ والبئر يعد ضرراً فاحشاً، فإذا أحدث رجل في داره شباكاً أو بناءً مجدداً وجعل له شباكاً مطلاً على المحل الذي هو مقر نساء جاره الملاصق أو الفاصل بينهما طريق، فإنه يؤمر برفع الضرر، ويصير ذلك الرجل مجبوراً لدفع هذا الضرر بصورة تمنع وقوع النظر إما ببناء حائط أو وضع طبلة (حاجز خشبي) ، لكن لايجبر على سد الشباك بالكلية، كما إذا عمل ساتراً من الأغصان التي يرى من بينها مقر نساء جاره، فإنه يؤمر بسد محلات النظر، ولا يجبر على هدمه، وبناء حائط محله، انظر المادة (22) وهي «الضرورات تقدر بقدرها» .
__________
(1) كتابنا نظرية الضمان: ص 205.(4/737)
رابعاً ـ عقد الهبة:
استمد التقنين المدني في المواد (454-472) الأحكام الموضوعية لعقد الهبة من الفقه الإسلامي، وعلى التخصيص من كتاب الأحوال الشخصية لقدري باشا حيث قننت هذه الأحكام. ولكن التقنين أدخل تعديلاً جوهرياً على أحكام الفقه الإسلامي فيما يتعلق بالرجوع في الهبة إذ قيد هذا الحق بقيام عذر مقبول (المادة 468) ، وضرب أمثلة على العذر المقبول من التقنينات الأجنبية (المادة 469) . وذلك مع نقل أحكام موانع الرجوع في الهبة عن الفقه الحنفي (1) (المادة 470) وبذلك أكسب عقد الهبة صلابة وقوة في الإلزام، على النحو الذي يقرره جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة) الذين يعدون عقد الهبة لازماً لا يجوز الرجوع فيه إلا في هبة الوالد لولده، بعكس الحنفية الذين يعتبرون الهبة عقداً غير لازم، يجوز فسخه والرجوع عنه (2) .
شكلية الهبة: في الناحية الشكلية اشترط القانون لصحة الهبة كونها بسند رسمي، نصت المادة (456) على ما يأتي:
«1ً - تكون الهبة بسند رسمي، وإلا وقعت باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر.
2 - ومع ذلك يجوز في المنقول أن تتم الهبة بالقبض، دون حاجة إلى سند رسمي» . والسبب في اشتراط الرسمية هو تنبيه الواهب إلى خطورة تصرفه، وتوفير أسباب الحرية له في عقد ينزل به عن ماله دون مقابل.
كذلك اشترطت المادة (458) الرسمية في الوعد بالهبة فقررت: «الوعد بالهبة لا ينعقد إلا إذا كان بسند رسمي» .
__________
(1) دروس في العقود المدنية لأستاذنا الدكتور أكثم الخولي: ص 9.
(2) سيأتي تفصيل القول في حكم الهبة.(4/738)
لكن على الرغم من أن رسمية الهبة تتعلق بالنظام العام، ويكون جزاؤها البطلان، فقد اعتبر القانون التنفيذ الاختياري بديلاً عاماً عن الرسمية. نصت المادة (457) على أنه: «إذا قام الواهب أو ورثته مختارين بتنفيذ هبة باطلة لعيب في الشكل، فلا يجوز لهم أن يستردوه ما سلموه» ويتضح من هذا النص أن التنفيذ الاختياري للهبة من جانب الواهب أو ورثته يحقق النتيجة نفسها التي تحققها الرسمية. وهذا يدل على أن القانون أوجد نوعاً جديداً ذا صبغة عامة من الشكلية هو التنفيذ الاختياري، وهو أكثر حماية للواهب من الرسمية. والتنفيذ الاختياري يشمل هبة العقار وهبة المنقول، غير أن المشرع القانوني قد نص على أهم تطبيقاته وأكثرها شيوعاً في الحياة العملية، وهو هبة المنقول المادي التي تتم بالقبض أو الهبة اليدوية.
كذلك أجاز القانون (في المادة 456) استثناء من اشتراط الرسمية أن تتم الهبة تحت ستار عقد من عقود المعاوضة على سبيل الصورية، فتصح الهبة المستترة دون حاجة لسند رسمي.
وأما موقف الفقهاء المسلمين من الجانب الشكلي للهبة ففيه اتجاهان:
الاتجاه الأول (1) ـ هو مذهب المالكية، والحنابلة في غير المكيل والموزون: وهو يرى الاكتفاء بمبدأ الرضائية في الهبات، فتصبح صحيحة ناقلة للملكية بمجرد قبول الموهوب له. أما القبض (أو الحيازة) فهو شرط عند المالكية لتمام ولزوم الهبة، فإن لم يحصل القبض لم تلزم الهبة، وإن كانت صحيحة.
__________
(1) سيأتي بحث الموضوع في عقد الهبة.(4/739)
والاتجاه الثاني - هو مذهب الحنفية والشافعية، والإمام أحمد في هبة المكيل والموزون: وهو يعنى بشكل الهبة، ولا يرتّب على مجرد التراضي أثراً شرعياً، والهبة وإن كانت تنعقد بالإيجاب والقبول، فإنها لا تلزم الواهب ولا تنقل الملكية إلا بالقبض. أي أنه يعتبر التنفيذ الاختياري من جانب الواهب هو روح الهبة في هذا الاتجاه، أما مجرد تلاقي إرادة الطرفين فلا ينشئ الهبة بمعناها الصحيح، بل مجرد وعد بالهبة، لا يلزم الواهب. وإذا تم تنفيذ هذا الوعد اختياراً من جانب الواهب تقوم الهبة وتنتج آثارها وأهمها انتقال الملكية إلى الموهوب له.
والدافع إلى هذا الاتجاه هو الحرص على احترام الطابع التبرعي للهبة الذي يجب أن يميزها عن سائر التمليكات.
وأما الأحكام الموضوعية للهبة التي تضمنها القانون المدني والتي استمدها من الفقه الإسلامي فهي مايأتي:
1 - تعريف الهبة: الهبة عقد تصرَّف بمقتضاه الواهب في مال له دون عوض (م 454) وعرف الفقهاء الهبة بقولهم: عقد يفيد التمليك بلا عوض حال الحياة تطوعاً.
لكن نصت الفقرة (2) من هذه المادة على أنه يجوز للواهب دون أن يتجرد عن نيةالتبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين، كإلزام الموهوب له أن يعوله حتى موته، أو بأن يدفع له إيراداً مرتباً مدى الحياة.
ونصت المادة (855) من المجلة على أنه «تصح الهبة بشرط عوض ... » لكن الإمام الشافعي يرى أن اشتراط العوض صراحة يبطل العقد، لأنه شرط مخالف لمقتضاه.
2 - ركن الهبة: نصت المادة (455) على أن الهبة تتم بالإيجاب والقبول. وعلى أنه ينوب ولي القاصر عنه بقبول الهبة وبقبض الشيء الموهوب إذا كان الواهب هو ولي الموهوب أو وصيه.(4/740)
وهذا هو المقرر ذاته في الفقه، نصت المادة (837) من المجلة على أنه «تنعقد الهبة بالإيجاب والقبول وتتم بالقبض» . وذكر الفقهاء أن الولي ينوب مناب القاصر في القبض، فلو وهب أحد الأولياء للصغير شيئاً، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون قابضين للصغير (1) .
3 - الشروط الموضوعية للهبة:
لم يورد القانون المدني شروطاً خاصة بالهبة من حيث تلاقي الإيجاب والقبول، فيجب تطبيق القواعد العامة، فيشترط الرضا لصحة العقد وتطبق القواعد العامة في أحكام عيوب الرضا، وتتميز الهبة بأن الغلط في الشخص يجعل الهبة قابلة للإبطال.
كذلك يشترط في الواهب أن يكون كامل الأهلية؛ لأن الهبة من التصرفات الضارة بالواهب ضرراً محضاً. أما الموهوب له فيكفي فيه أن يكون مميزاً، لأن الهبة من التصرفات النافعة للموهوب له نفعاً محضاً.
ويستطيع الولي أو الوصي أن يهبا للصغير وينوبا عنه في قبول الهبة وقبض الشيء الموهوب كما تقدم (المادة 2/455) . ولا يستطيع الولي أن يتبرع بمال القاصر إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كما نصت المادة (2/172) من قانون الأحوال الشخصية السوري. وكذلك يعدّ تبرع الوصي في مال القاصر باطلاً (المادة 180 من قانون الأحوال الشخصية السوري) . ويجوز للمتبرع استبعاد الولاية على مال التبرع، بدليل النص في القانون السوري (في المادة 171) على أنه «إذا اشترط بدليل وجود النص في هذا المتبرع بمال للقاصر عدم تصرف وليه به تعين المحكمة وصياً خاصاً على هذا المال» .
ويشترط في الموهوب أن يكون مملوكاً للواهب وموجوداً ومعيناً ومشروعاً، وعلى ذلك يكون حكم هبة ملك الغير كحكم بيع ملك الغير: وهو البطلان النسبي (القابلية للإبطال) لمصلحة الموهوب له، وعدم النفاذ في حق المالك الحقيقي (المواد 459، 434، 435) .
__________
(1) سيأتي تفصيل الكلام في ذلك في بحث عقد الهبة.(4/741)
ونصت المادة (460) على أنه «تقع هبة الأموال المستقبلة باطلة» وذلك استثناء من القواعد العامة في القانون التي تجيز أن يكون محل الالتزام شيئاً مستقبلاً، وهذا الحكم المستثنى مأخوذ من الشريعة الإسلامية التي تشترط وجود محل العقد وقت انعقاده في كل العقود.
ويلاحظ أن هذه الشروط المطلوبة لانعقاد الهبة قانوناً مستقاة من أحكام الفقه الإسلامي. ففي هذا الفقه يشترط اتحاد مجلس الإيجاب والقبول في كل عقود التمليكات، وتوفر الرضا والاختيار، وهذا ما نصت عليه المادة (860) من المجلة، وأن يكون للواهب أهلية التبرع أو كمال الأهلية؛ لأن الهبة تبرع، وهو ما نصت عليه المادة» (859) من المجلة، وألا تصدر الهبة منه في مرض موته، وإلا أخذت حكم الوصية فلا تنفذ إلا في حدود ثلث التركة، وألا يكون مديناً بديون مستغرقة، ولو لم يحجر عليه، وإلا توقفت على إجازة الدائنين. جاء النص على هذه الأحكام في المواد (879-880) من المجلة.
ويشترط في الموهوب له أن يكون حياً، فلا تجوز الهبة للجنين ولا للمعدوم، وأجازها المالكية، ويحسن الأخذ قانوناً بمبدأ إجازة الهبة للجنين.
كما يشترط أن يكون محل الهبة موجوداً وقت العقد، وهو شرط عام في كل عقود التمليكات في الحال، صوناً للعقد عن الإلغاء عند فوات المحل.
ونصت المادة (856) من المجلة على ذلك.
ويجب أن يكون الشيء مملوكاً للواهب، فإن كان الموهوب ليس مالاً للواهب، كانت هبة الفضولي، وهي موقوفة على إجازة المالك.
ونصت المادة (857) من المجلة على ذلك.
ويلزم أن يكون الموهوب معلوماً ومعيناً، وهو ما نصت عليه المادة (858) من المجلة.
أما هبة الحصة الشائعة فيما يقبل القسمة كالدار والبيت الكبير، فأجازها جمهور الفقهاء، كبيع المشاع. ولم يجزها الحنفية إلا بقسمتها وقبضها مفرزة عن غيرها (1) .
__________
(1) المراجع تأتي في بحث الهبة.(4/742)
4 - الرجوع في الهبة:
نصت المادة (468-472) على مبدأ جواز الرجوع في الهبة، وعلى الحالات التي يجوز فيها الرجوع، بشرط وجود عذر مقبول للرجوع. وهذه الأحكام ما عدا اشتراط وجود العذر مستمدة من الفقه الحنفي الذي يعتبر الرجوع مكروهاً لأنه من باب الدناءة، وللموهوب له أن يمتنع عن الرد، ولا يصح الرجوع إلا بالتراضي أو
بقضاء القاضي؛ لأن الرجوع فسخ للعقد. ولا يجوز الرجوع عند وجود أحد موانع الرجوع السبعة وهي (العوض، أو تقديم بدل عن الهبة، والزيادة المتصلة كالبناء والغرس، وتصرف الموهوب له في الموهوب، وموت أحد العاقدين، وهلاك الموهوب في يد الموهوب له أو استهلاكه، وكون الهبة من أجل الثواب من الله تعالى كالصدقة، أو من أجل صلة الرحم، أو صلة الزوجية) وهذه الحالات نص عليها القانون في المادة (470) ، ونصت عليها المجلة في المواد (866-874) .
خامساً ـ تصرف المريض مرض الموت:
استقى التقنين المدني من الفقه الإسلامي أحكام بيع المريض مرض الموت (1) ، فاعتبر بيعه في حكم الوصية، كما اعتبر البيع لأحد الورثة بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية. فلا يجوز بيع المريض مرض الموت محاباة إلا إذا أجازه الورثة إذا كان مقدار المحاباة يجاوز ثلث التركة، وإذا كان مديناً بدين مستغرق كان بيعه المشتمل على الغبن الفاحش موقوفاً على إجازة الدائنين. فإن لم يكن مديناً، وكان البيع بالمحاباة لغير الوارث أي بأقل من ثمن المثل نفذ بيعه من ثلث التركة. وإن لم يشتمل البيع على المحاباة بأن كان بثمن المثل صح البيع ونفذ.
أما البيع لوارث ولو بثمن المثل أي بدون غبن فهو موقوف عند أبي حنيفة وفي المجلة على إجازة الورثة لتعلق حقهم بعين التركة.
لكن هل للمريض مرض الموت التصرف لوارث في حدود ثلث التركة؟
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص46.(4/743)
يلاحظ أن المادة (445) من القانون المدني السوري المتعلقة ببيع المريض مرض الموت منقولة عن القانون المدني المصري الذي يجيز بدوره الوصية للوارث ولغيره في حدود الثلث (في المادة 73 من قانون الوصية المصري) وتنفذ من غير إجازة الورثة خلافاً لما يقرره فقهاء المذاهب الأربعة وجمهور فقهاء المسلمين،
ولكن عملاً برأي بعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض أئمة الشيعة الإمامية (الجعفرية) ، والإسماعيلية.
وتنص هذه المادة (445) التي تعتبر المحاباة بحكم الوصية على ما يلي:
«1 - إذا باع المريض مرض الموت لوارث أو لغير وارث بثمن يقل عن قيمة المبيع وقت الموت فإن البيع يسري في حق الورثة، إذا كانت زيادة قيمةالمبيع على الثمن لا تتجاوز ثلث التركة داخلاً فيها المبيع ذاته.
2 - إذا كانت هذه الزيادة تجاوز ثلث التركة، فإن البيع فيما يجاوز الثلث لا يسري في حق الورثة إلاإذا أقروه، أو رد المشتري للتركة ما بقي بتكملة الثلثين.
3 - ويسري على بيع المريض مرض الموت أحكام المادة (877) . وبناء على هذه المادة إذا كان البيع بالمحاباة خاضعاً لأحكام الوصية فإنه ينفذ من المريض مرض الموت إذا كانت زيادة قيمة المبيع على الثمن في حدود ثلث التركة» .
والدليل على أن تصرف المريض مرض الموت تطبق عليه أحكام الوصية هو ما نصت عليه المادة (877) التالي نصها:
1 - كل عمل قانوني يصدر من شخص في مرض الموت، ويكون مقصوداً به التبرع، يعتبر تصرفاً مضافاً إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرف.
2 - وعلى ورثة من تصرف أن يثبتوا أن العمل القانوني قد صدر من مورثهم وهو في مرض الموت، ولهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتاً.(4/744)
3 - وإذا أثبت الورثة أن التصرف صدر من مورثهم في مرض الموت، اعتبر التصرف صادراً على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه. وبما أن الوصية خاضعة لأحكام الشريعة الإسلامي بنص المادة (876) من القانون السوري، فإن أحكام الشريعة المعمول بها في سورية خلافاً لمصر هي المقررة في قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام (1953) والتي بموجبها لا تجوز الوصية لوارث. نصت المادة (238) من هذا القانون على ما يلي:
«1 - تنفذ الوصية لغير وارث بثلث ما يبقى من التركة بعد وفاء الدين من غير إجازة الورثة.
2 - لا تنفذ للوارث ولا بما زاد على الثلث إلا إذا أجازها الورثة بعد وفاة الموصي، وكان المجيز كامل الأهلية.
3 - لا تنفذ فيما يستغرقه دين إلا بإجازة الدائن الكامل الأهلية أو بسقوط الدين.
4 - تنفذ وصية من لا دين عليه ولا وارث له بكل ما له من غير توقف على إجازة أحد» .
يتبين مما ذكر أن النص الوارد في المادة (445) مدني سوري الذي يجيز للمريض البيع بالمحاباة للوارث في حدود ثلث التركة معطل المفعول، ويكون البيع موقوفاً على إجازة الورثة عملاً بمقتضى الأحوال الشخصية السوري الذي لا يجيز الوصية للوارث إلا بإجازة الورثة.
هذا وقد نصت المجلة على أحكام بيع المريض في المواد (393-395) كما نصت المادة (1595) على تعريف مرض الموت بقولها:
«مرض الموت: هو الذي يخاف فيه الموت في الأكثر، الذي يعجز المريض عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره إن كان من الذكور، ويعجزه عن رؤية المصالح الداخلة في داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة، صاحب فراش كان أو لم يكن. وإن امتد مرضه دائماً على حال، ومضى عليه سنة يكون في حكم الصحيح، وتكون تصرفاته كتصرفات الصحيح، ما لم يشتد مرضه ويتغير حاله، ولكن لو اشتد مرضه وتغير حاله ومات يعد حاله من وقت التغير إلى الوفاة مرض موت» .(4/745)
سادساً - أحكام متفرقة (الإبراء، مدة التقادم) :
استمد القانون المدني طائفة من الأحكام في مناسبات مختلفة من الفقه الإسلامي، كانقضاء الالتزام دون الوفاء به، إما بالإبراء من الدين بإرادة الدائن وحده، وإما بالتقادم المسقط لمضي مدة خمس عشرة سنة في الحقوق الخاصة.
هذا فضلاً عن أن كثيراً من الأحكام المقررة في القانون المدني يمكن تخريجها أو تسويغها بمبدأ من مبادئ الشريعة كالاستصلاح والاستحسان والعرف، أو حملها على مجموعة آراء فقهية من مذاهب مختلفة، كما أنه قد يكون لها شبه أو تطابق تام بينها وبين رأي فقهي معين. لكن مع كل ماسبق يظل القانون المدني السوري وأصله المصري غربي الطراز والتصور والأحكام، فلا يعفى المشرع من عودة حميدة لرياض الفقه الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان.
الإبراء: إسقاط الدائن ماله في ذمة المدين من دين كثمن مبيع أو دين قرض، ويترتب عليه انتهاء التزام الدين كله أوبعضه بحسب الإبراء، وتفرغ منه ذمته. وهو عند الحنفية لا يحتاج إلى قبول وإنما يصح بإرادة الدائن وحده، وإنما يرتد بالرد؛ لأنه من قبيل الإسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يتوقف على القبول. نصت المادة (8651) من المجلة على أنه: «لايتوقف الإبراء على القبول. ولكن يكون بالرد مردوداً، لأنه إذا أبرأ أحد آخر فلا يشترط قبوله، ولكن إذا رد الإبراء في ذلك المجلس بقوله: لا أقبل، يكون ذلك الإبراء مردوداً يعني لا يبقى له حكم، لكن لورده بعد قبول الإبراء لا يكون الإبراء مردوداً. وأيضاً إذا أبرأ المحال له المحال عليه أو صاحب الطلب الكفيل، ورد ذلك المحال عليه أو الكفيل لا يكون الإبراء مردوداً» . وأخذ القانون المدني بمبدأ صحة الإبراء بإرادة الدائن وحده وهو المقرر في الفقه الحنفي. نصت المادة (369) منه على ما يأتي: «ينقضي الالتزام إذا أبرأ الدائن مدنيه مختاراً، ويتم الإبراء متى وصل إلى علم المدين، ويرتد برده» .(4/746)
التقادم: لا يعتبر التقادم (أو مضي المدة ومرور الزمن أو وضع اليد) في الشريعة الإسلامية سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة إذ «لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي» ولأن الحق أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي مقبول. وإنما التقادم ما نع فقط للقاضي من سماع الدعوى بالحق القديم الذي أهمل صاحبه الادعاء به زمناً طويلاً معيناً بلا عذر. وذلك للشك في أصل الحق وفي إثباته بعد هذه المدة الطويلة، وحماية لمبدأ الاستقرار في الأوضاع الحقوقية، وتجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات ونحوه؛ لأن القضاء في الإسلام مظهر للحق لا مثبت له، والحقوق الثابتة لا يؤثر فيها ديانة مرور الزمان وتقادم العهد. إلا أن القضاء مع هذا يقبل التخصيص بالزمان والمكان والخصومة، ويقبل التعليق بالشرط. وبناء عليه يصح للدولة منع القاضي من سماع دعوى على شخص مضى على وضع يده خمس عشر سنة مثلاً، فيعتبر قضاؤه بعدئذ غير نافذ (1) .
ويمكن تسويغ ذلك بنظرية المصالح المرسلة التي تجيز للحاكم اتخاذ التدابير القضائية المناسبة لإقرار الحقوق والاهتمام بها، وإبعاد القضاء عن المشكلات المعقدة في إثبات حقوق قديمة. وهذا المعنى هو أساس الأخذ بفكرة التقادم قانوناً، فإن القانونيين قالوا: إن التقادم يقوم على أساس اعتبارات ذات طابع عام أي متصلة بالصالح العام للمجتمع كله، لا على أساس اعتبارات فردية، فالضرورات الاجتماعية هي التي أدت إلى إقرار هذا النظام.
أخذ القانون من الفقه الإسلامي تقدير مدة التقادم المسقط، حيث نصت المادة (372) مدني سوري على أنه «يتقادم الالتزام بانقضاء خمس عشرة سنة فيما عدا الحالات التي ورد عنها نص خاص في القانون، وفيما عدا الاستثناءات التالية» .
وكذلك في التقادم المكسب نصت المادة (919) على ما يلي:
__________
(1) راجع كتابنا نظرية الضمان: ص 101.(4/747)
«يُكتسب حق تسجيل التصرف في الأراضي الأميرية غير الخاضعة لإدارة أملاك الدولة، بمرور عشر سنوات من تاريخ الحيازة بسند أو بغير سند، بشرط أن يكون الحائز قائماً بزراعة الأرض» .
وتقدير المدة في الحالتين مأخوذ من الفقه الإسلامي، حيث ذكر الفقهاء أن التقادم يسري على الحقوق الخاصة، ومدته العادية خمس عشرة سنة، فإذا مرت مروراً معتبراً دون ادعاء بالمال من قبل صاحبه لا تسمع دعواه بعدها (1) .
وأما الأموال العامة فلا تسمع الدعوى فيها بعد مضي (33) سنة في الوقف والإرث، وبعد (36) سنة في أموال بيت المال، وبعد عشر سنوات في الأراضي الأميرية.
وأما المجلة فأخذت في المادة (1662) بمدة (15) سنة في جميع الحقوق غير الوقف فهي (36) سنة، والأراضي الأميرية فهي عشر سنين.
وتبتدئ المدة من وقت ظهور واضع اليد على الشيء بمظهر المالك لها، وعدم المانع الشرعي من إقامة دعواه كالصغر والجنون والعته. وهذا ما نصت عليه المادة (1663) من المجلة.
كما نصت المادة (379) على حالات وقف التقادم بقولها: «1 - لا يسري التقادم كلما وجد مانع يتعذر معه على الدائن أن يطالب بحقه، ولو كان المانع أدبياً، وكذلك لايسري التقادم فيما بين الأصيل والنائب.
2 - ولا يسري التقادم الذي تزيد مدته على خمس سنوات في حق من لا تتوافر فيه الأهلية أو في حق الغائب، أو في حق المحكوم عليه بعقوبة جنائية إذا لم يكن له نائب يمثله قانوناً» .
__________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 156 ص 230.(4/748)
خاتمة
في آخر هذا البحث أؤكد ضرورة العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية واستمداد القوانين منها، ما دمنا نعمنا ولله الحمد بالاستقلال، وقد أوضحت هذا القسم من الأحكام الذي استمده القانون المدني من الفقه ليكون عنواناً مشرقاً وبرهاناً ساطعاً على أن في شريعتنا الغراء كنوزاً خالدة لا تحتاج إلا إلى صياغة جديدة بروح العصر ومفاهيمه على منوال التقنينات الجديدة.
قال الدكتور السنهوري: على أننا لا نريد بتقليد التقنينات الحديثة أن نذهب في ذلك إلى مدى أبعد مما ينبغي. وإذا كنا نقول بالاستفادة دون تحفظ من التقنينات الغربية من ناحية الشكل والصياغة، ففي المادة والموضوع نتحفظ كثيراً في هذا القول.
ثم علق على قرار وزارة العدل العراقية باتخاذ الشريعة الإسلامية أساساً للتقنين قبل صدوره، فقال: ولما كان القرار خطيراً، وهو يؤذن بعهد جديد للفقه الإسلامي، يجاري فيه الزمن، ويساير التطور، كان من الواجب أن نقف عنده حتى نمعن في مراميه.
فأول أثر لهذا القرار أن يرد لهذه الشريعة السمحاء مكانتها بعد أن كادت تضيع، فقد رأينا أن البلاد الشرقية (أي العربية شرق المتوسط) التي راجعت تقنيناتها المدنية عدلت عن الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية، وبقيت القاعدة مطردة من النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، فمصر تلتها تونس ومراكش وتركيا ولبنان، وكل هذه بلاد كانت تطبق الشريعة الإسلامية. ثم أعادت النظر في تقنيناتها، فقلبتها رأساً على عقب، إما باختيارها أو تحت تأثير نفوذ سياسي، وهجرت الشريعة الإسلامية إلى القوانين الغربية. أما العراق فهو أول بلد عربي اعتز بتراث أجداده، وحرص عليه من الضياع. فالعراق يرفع صوته عالياً بأن الشريعة الإسلامية لا تزال نظاماً قانونياً حياً صالحاً للتطبيق، وليس لسائر الأقطار العربية إلا أن تقتفي أثر العراق.(4/749)
وهناك فرق جوهري بين أن نجعل مصدر الأحكام الصالحة التقنينات الغربية، وبين أن نجعل مصدرها الشريعة الإسلامية، ففي الحالة الأولى نكون قد قطعنا كل صلة بالقديم، وبدأنا حياة قانونية جديدة، نكون فيها عالة على فقه الغرب وجهوده، نأخذ منه ولا نعطيه. أما في الحالة الثانية فنكون قد احتفظنا بصلة الماضي، وجعلنا من هذه الصلة أساساً يقوم عليه المستقبل، واحتفظنا باستقلالنا القانوني، فلا نكون عالة على فقه الغرب، وفي الوقت ذاته نكون قد استفدنا من هذا الفقه إلى أبعد مدى، إذ تصبح الأحكام التي اخترناها وخرَّجناها على أحكام الشريعة الإسلامية متفقة مع أحدث الأحكام القانونية الغربية وأرقاها (1) .
انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس ـ العقود (التصرفات المدنية المالية)
__________
(1) راجع مقال الدكتور السنهوري في مجلة المحامين بدمشق، العددان السادس والسابع، من السنة الأولى: ص 505-508.(4/750)
.....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
..........................................الجزء الخامس....................................
القسْمُ الثَّالثُ: العقودُ أو التَّصرّفات المدنيَّة الماليَّة
وبحثها في ثمانية عشر فصلاً:
1 -البيع وأنواعه (السلم، والاستصناع، الصرف، الجزاف، الربا، بيوع الأمانة: المرابحة، والتولية والوضيعة، الإقالة) .
2 - القرض
3 - الإيجار
4 - الجعالة
5 - الشركة
6 - الهبة
7 - الإيداع
8 - الإعارة
9 - الوكالة
10 - الكفالة
11 - الحوالة
12 - الرهن
13 - الصلح
ويلحق بها فصول خمسة في الإبراء والاستحقاق والمقاصة والإكراه والحجر، وأما باقي العقود فالكلام عنها في بحث الملكية والأحوال الشخصية، فتكون العقود المشروعة في الشريعة الإسلامية واحداً وعشرين عقداً.
الفَصْلُ الأوَّل: عَقْدُ البَيعِ
خطة الموضوع:
نظراً لتعدد أنواع البيع وأهميتها بحيث يكون كل منها وضعاً قائماً بذاته نرى الفقهاء يترجمون لعقد البيع بعنوان (كتاب البيوع) بصيغة الجمع (1) . وقد آثرت العنوان بعقد البيع تمشياً مع صنيع شراح القانون المدني؛ لأن إضافة كلمة (عقد) إلى (البيع) تفيد العموم، لقول النحويين: إنه مفرد مضاف فيعم. والكلام عن عقد البيع يتناول المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول - في تكوين عقد البيع.
المبحث الثاني - شروط البيع.
المبحث الثالث - حكم البيع والكلام في المبيع والثمن.
المبحث الرابع - البيع الباطل والبيع الفاسد.
المبحث الخامس - الخيارات.
المبحث السادس- أنواع البيع:
1 - السلم أو السلف
2 - الاستصناع
3 - الصرف
4 - بيع الجزاف
5 -الربا
6 -بيوع الأمانة (المرابحة والتولية والوضيعة)
7 - الإقالة
__________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء: ص 5،21.(5/1)
المبحث الأول - تكوين عقد البيع
وفيه مطلبان:
المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته وآدابه
المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده
المطلب الأول - تعريف البيع ومشروعيته وآدابه:
تعريف البيع:
البيع لغة: مقابلة شيء بشيء، وهو من أسماء الأ ضداد أي التي تطلق على الشيء وعلى ضده، مثل الشراء (1) كما في قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف:20/12] أي باعوه، وقوله سبحانه: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} [البقرة:102/2] ويقال لكل من المتعاقدين: بائع وبيّع، ومشتر وشار.
__________
(1) ومثل القرء والجون: يطلق على الشيء وضده. قال المعلِّق على نيل الأوطار: 5 ص142: للبيع تفسير لغة وشرعاً وركن وشرط ومحل وحكم وحكمة. أما معناه لغة: فمطلق المبادلة، وهو والشراء ضدان، ويطلق البيع على الشراء أيضاً، فلفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على مايطلق عليه الآخر، فهما من الألفاظ المشتركة بين المعاني المتضادة. وشرعاً هو مبادلة مال بمال على سبيل التراضي. ثم قال: وأما ركنه فإيجاب وقبول. وأما شرطه: فأهلية العاقدين. وأما محله فهو المال. وأما حكمه: فهو ثبوت الملك للمشتري في المبيع، وللبائع في الثمن إذا كان تاماً، وعند الإجازة إذا كان موقوفاً، وأما حكمته على ماذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه غالباً، وصاحبه قد لايبذله، ففي شرعيةالبيع وسيلة إلى بلوغ الغرض من غير حرج. ثم ذكر صاحب التعليق حكماً أخرى.(5/2)
واصطلاحاً عند الحنفية: مبادلة مال بمال على وجه مخصوص أو هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله على وجه مفيد مخصوص أي بإيجاب أو تعاطٍ. وخرج بقيد: (مفيد) ما لا يفيد كبيع درهم بدرهم. وغير المرغوب: مثل الميتة والدم والتراب (1) .
وقال النووي في المجموع: البيع: مقابلة مال بمال تمليكاً (2) .
وعرفه ابن قدامة في المغني (3) : مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً.
وهو مشتق من الباع؛ لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه، أي يصافحه عند البيع، فسمي البيع صفقة (4) .
والمراد بالمال عند الحنفية: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم. وقد انتقد الأستاذ الزرقاء هذا التعريف، واستبدل به تعريفاً آخر، فقال: المال هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس (5) . وعليه لا تعتبر المنافع والحقوق المحضة ما لاً عند الحنفية. أما جمهور الفقهاء فقد اعتبروها مالاً متقوماً؛ لأن المقصود من الأعيان منافعها.
والمقصود من البيع هنا: هو العقد المركب من الإيجاب والقبول.
مشروعية البيع:
البيع جائز بأدلة من القرآن والسنة والإجماع (6) .
أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:2/275] وقوله سبحانه: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة:282/2] وقوله عز وجل: {إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/4] وقوله جل جلاله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/2] .
وأما السنة فأحاديث، منها: سئل النبي صلّى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ فقال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (7) أي لا غش فيه ولا خيانة، ومنها حديث: «إنما البيع عن تراض» (8) وقد بعث الرسول صلّى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم عليه،
__________
(1) البدائع: 5 ص133، فتح القدير: 5 ص73، حاشية ابن عابدين: 4 ص3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 2 ص2.
(3) انظر ج3 ص 559.
(4) المرجع السابق.
(5) راجع المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي له: ص 114-118.
(6) المراجع السابقة، المبسوط: 2 ص 108، المهذب: 1 ص257.
(7) رواه البزار وصححه الحاكم عن رفاعة بن رافع، وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير عن رافع بن خديج وعزاه لأحمد، وذكره السيوطي في الجامع الصغير عن رافع (سبل السلام: 3 ص4) .
(8) هذا حديث طويل رواه البيهقي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لألقين الله من قبل أن أعطي أحداً من مال أحد شيئاً بغير طيب نفسه، إنما البيع عن تراض» ورواه عبد الرزاق في الجامع عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: «البيع عن تراض والتخيير بعد صفقة» الجامع عن عبد الله بن أبي أوفى بلفظ: «البيع عن تراض والتخيير بعد صفقة» (الجامع الصغير: 1ص102، كنز الدقائق: 2ص212، شرح المجموع للنووي: 9 ص158) وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة حديثاً بمعناه بلفظ «لايفترق اثنان إلا عن تراض» (جامع الأصول: 2ص9، مجموع الزوائد: 4 ص100) .(5/3)
وقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء» قال الترمذي: «هذا حديث حسن» .
وأجمع المسلمون على جواز البيع، والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي تشريع البيع طريق إلى تحقيق كل واحد غرضه ودفع حاجته، والإنسان مدني بالطبع، لايستطيع العيش بدون التعاون مع الآخرين.
والأصل في البيوع الإباحة، قال الإمام الشافعي: «فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق ذلك أبحناه بماوصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى» أي في قوله سبحانه: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/2] وقوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] .(5/4)
آداب البيع: للبيع آداب كثيرة منها:
1 - عدم المغالاة في الربح: إن الغبن الفاحش في الدنيا ممنوع بإجماع الشرائع، إذ هو من باب الخداع المحرَّم شرعاً في كل ملة، لكن اليسير منه الذي لا يمكن الاحتراز عنه لأحد أمر جائز، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً، لأنه لا يخلو منه بيع عادة. فإن كان الغبن كثيراً أمكن الاحتراز منه، فوجب رد البيع به. وقدر علماء المالكية الغبن الكثير بالثلث فأكثر؛ لأنه المشروع في الوصية وغيرها (1) ، فيكون الربح الطيب المبارك فيه ما كان بقدر الثلث فأكثر.
2 - صدق المعاملة: بأن يصف البضاعة بوصفها الحقيقي، دون كذب في الإخبار عن نوعها وجنسها ومصدرها وتكاليفها، أخرج الترمذي عن رفاعة حديثاً: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجّاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصَدَق» والبر: الإحسان في المعاملة. وأخرج الترمذي الحديث السابق عن الخدري: «التاجر الصدوق..» .
3 - السماحة في المعاملة: بأن يتساهل البائع في الثمن فينقص منه، والمشتري في المبيع فلا يتشدد في شروط البيع ويزيد في الثمن، أخرج البخاري عن جابر حديثاً: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى بدينه» أي طالب به.
4 - اجتناب الحلف ولو كان التاجرصادقاً: يندب الامتناع عن الحلف بالله مطلقاً في البيع، لأنه امتحان لا سم الله تعالى، قال سبحانه: «ولا تجعلوا عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثاً: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحَقة للبركة» .
5 - كثرة الصدقات: يندب للتاجر كثرة التصدق تكفيراً لما يقع فيه من حلف أوغش أو كتمان عيب أو غبن في السعر أو سوء خلق ونحو ذلك، أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن قيس بن أبي غرزة حديثاً: «يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة» .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1804/4.(5/5)
6 - كتابة الدين والإشهاد عليه: تستحب كتابة العقد ومقدار الدين المؤجل، ويندب الإشهاد على البيع نسيئةً (لأجل) وعلى كتابة الدين، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} .. {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:2/282] .
المطلب الثاني - ركن البيع أو كيفية انعقاده
ركن (1) البيع عند الحنفية: هو الإيجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي. فركنه بعبارة أخرى: الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل (2) ، وهذا قولهم في العقود.
وللبيع عند الجمهور أركان أربعة: وهي البائع والمشتري والصيغة والمعقود عليه وهذا رأيهم في كل العقود.
والإيجاب عند الحنفية: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، سواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبتدئ المشتري فيقول: اشتريت بكذا.
والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين (3) . فالمعتبر إذن أولية الصدور وثانويته فقط سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري.
وعند الجمهور: الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً. والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك وإن صدر أولاً (4) .
وأركان البيع عند الجمهور غير الحنفية ثلاثة أو أربعة (5) : عاقد (بائع ومشتر) ومعقود عليه (ثمن ومثمن) وصيغة (إيجاب وقبول) .
__________
(1) الركن عند الحنفية: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وكان جزءاً منه، وعند الجمهور: هو مايتوقف عليه وجود الشيء وتصوره في العقل سواء أكان جزءاً منه، أم كان مختصاً به وليس جزءاً منه. وأما الشرط فهو مايتوقف عليه وجود الشيء وليس جزءاً منه.
(2) فتح القدير: 5 ص 74، البدائع: 5 ص 133، حاشية ابن عابدين: 4ص 5 ومابعدها.
(3) المراجع السابقة.
(4) شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري: 2 ص 180 ومابعدها، كشاف القناع: 2 ص 3.
(5) الشرح الكبير: 2/3، مغني المحتاج: 3/2، كشاف القناع: 135/3.(5/6)
والكلام في الإيجاب والقبول في موضعين:
أحدهما ـ في صيغة الإيجاب والقبول.
والثاني ـ في صفة الإيجاب والقبول.
1 - صيغة الإيجاب والقبول
صيغة العقد: هي صورته التي يقوم بها من إيجاب وقبول إن كان العقد التزاماً بين طرفين، أو إيجاب فقط إن كان التزاماً من جانب واحد.
اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي من كلا الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف عند العلماء (بصيغة العقد) وهو ما يسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة) ويشترط في صيغة العقد أن يكون صدورها من المتعاقدين بطريق يعتبره الشارع، وطريق اعتبار الشارع عند الحنفية: هو أن البيع ينعقد بكل لفظ يدل على التراضي بتبادل الملك في الأموال بحسب عرف الناس وعاداتهم (1) .
فقالوا (2) : ينعقد البيع بصيغة الماضي مثل: بعت، واشتريت. وبصيغة الحال مع النية مثل: أبيع وأشتري.
أما البيع بلفظ الاستدعاء الذي يعبر به عن المستقبل، فلا ينعقد به البيع عند الحنفية كأن يقول: (بعني أو اشتر مني) ما لم يقل المشتري مرة ثانية في المثال الأول: اشتريت، وفي المثال الثاني: يقول البائع ثانية: (بعت) لأن طالب البيع أو الشراء وهو المستدعي، ينسب إلى الغش والتدليس في العادة، فربما فهم الناس منه أنه لو لم يكن في البيع عيب، لما كان يسأل غيره في أخذه، وإنما غيره هو الذي يطلبه، كما هو المعروف في الأسواق، ثم إنه لو تأخر القبول عن الإيجاب لم يصح به البيع، فلم يصح إذا تقدم، ولأنه عقد خلا عن القبول، فلم ينعقد كما لو لم يطلب البيع أو الشراء.
__________
(1) أصول البيوع الممنوعة في الشريعة والقانون للأستاذ الشيخ عبد السميع إمام: ص (16، 18) .
(2) البدائع: 133/5.(5/7)
الفرق بين البيع والزواج: البيع بخلاف عقد النكاح، فإنه يصح بلفظ الاستدعاء، مثل أن يقول: (زوجني) لأنه في هذه الحالة يكون قوله: (زوجني) توكيلاً بالزواج، فإن زوجه امتثل أمره، ولبى طلبه فيكون المزّوج ولياً من طرف ووكيلاً من طرف، والشخص الواحد: يتولى طرفي عقد النكاح، بخلاف البيع، فإنه لا يجوز أن يتولى الواحد طرفي العقد في البيع إلا الأب يشتري مال ابنه لنفسه أو يبيع ماله منه، وكذلك الوصي عند أبي حنيفة إذا اشترى لليتيم من نفسه أو لنفسه منه.
وهناك فرق آخر بين البيع والنكاح: وهو أن لفظ الأمر للمساومة حقيقة، فلا تكون صيغته إيجاباً وقبولاً حقيقة، بل هي طلب الإيجاب والقبول، فلا بد للإيجاب والقبول من لفظ آخر يدل عليهما، ولا يمكن حمل هذه الصيغة على المساومة في النكاح؛ لأن المساومة لا توجد فيه عادة؛ لأنه مبني على مقدمة الخطبة، فتحمل هذه الصيغة على الإيجاب والقبول. أما البيع فلا يكون مسبوقاً بمثل ذلك، فكان الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر، ولا يعدل عن الحقيقة إلى شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد في البيع، بخلاف النكاح كما تقدم.
والخلاصة: أن صيغة البيع عند الحنفية إما أن تكون بلفظين من غير نية، وذلك بصيغة الماضي، مثل بعت واشتريت، وهذه الصيغة وإن كانت للماضي وضعاً، لكنها جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض على اللغة. أو بلفظين مع النية للحال، وذلك بصيغة المضارع؛ لأن المضارع يحتمل الحال أو الاستقبال، فتكون النية لدفع المحتمل: وهو أن يراد الوعد بالبيع في المستقبل، فتكون نية الإيجاب للحال مانعة من إرادة المستقبل.
__________
[التعليق]
الفرق بين البيع والنكاح انظر أيضاً:
5/14
* أبو أكرم الحلبي(5/8)
أو بثلاثة ألفاظ، وذلك بلفظ الاستفهام: بأن قال المشتري: (أتبيع مني هذا الشيء؟) أو بلفظ الأمر بأن قال البائع: (اشتر مني هذا الثوب) أو قال المشتري: (بع مني هذا الثوب) لا ينعقد في هذه الأمثلة ما لم ينضم إليها لفظ ثالث، فيقول المشتري في المثال الأول: (اشتريت) لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال حقيقة، ويقول البائع في المثال الثاني: (بعت) ويقول المشتري في المثال الثالث: (اشتريت) .
وعلى هذا، لا يصح أصلاً البيع بلفظ الأمر مجرداً سواء نوى، أو لم ينو إلا إذا دل على الحال مثل: (خذه بكذا) كما لا يصح أصلاً بالمضارع المقترن بالسين أو سوف، مثل: (سأبيعك) لأن ذكر السين يناقض إرادة الحال (1) .
وقال المالكية، والشافعية في الأظهر، والحنابلة: ينعقد العقد سواء أكان بيعاً أم نكاحاً بلفظ الاستدعاء مثل: «بعني» أو «اشتر مني» فيقول الآخر: «بعت» أو «اشتريت» لأن أساس العقد هو التراضي، ولفظ الإيجاب والقبول وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما به عرفاً، فصح كما لو تقدم الإيجاب، وبه يحصل الغرض بكون المستدعي بائعاً أو مشترياً (2) .
بيع المعاطاة:
بيع المعاطاة أو بيع المراوضة: هو أن يتفق المتعاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما.
مثل: أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفيساً. وقد اختلف الفقهاء في حكمه.
__________
(1) البدائع: 5 ص 133 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 5 ص 75 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 4ص9 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 168، حاشية الدسوقي: 3 ص 3، الميزان: 2 ص 63، مغني المحتاج: 2ص4، المغني: 3 ص 560، كشاف القناع: 136/3.(5/9)
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة في الأرجح عندهم: يصح بيع المعاطاة متى كان هذا معتاداً دالاً على الرضا ومعبراً تماماً عن إرادة كل من المتعاقدين، والبيع يصح بكل ما يدل على الرضا، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر، ولم ينقل إنكاره عن أحد، فكان ذلك إجماعاً، فالقرينة كافية هنا في الدلالة على الرضا (1) .
وقال الشافعية: يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، بالإيجاب والقبول، فلا يصح بيع المعاطاة، سواء أكان المبيع نفيساً أم حقيراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إنما البيع عن تراض» (2) والرضا أمر خفي، فاعتبر ما يدل عليه من اللفظ، لا سيما عند إثبات العقد حالة التنازع، فلا تقبل شهادة الشهود لدى الحاكم إلا بما سمعوه من اللفظ.
وقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بها بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة، قال النووي: وهذا هو المختار للفتوى. وبعض الشافعية كابن سريج والروياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقرات أي غير النفيسة: وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز وحزمة بقل
__________
(1) البدائع: 5 ص 134، فتح القدير: 5 ص 77، بداية المجتهد: 2 ص 161، المغني: 3 ص 561.
(2) صححه ابن حبان.(5/10)
ونحوها (1) .
ويلاحظ أن الفقهاء أجمعوا على أن الزواج لا ينعقد بالفعل، بل لا بد من القول للقادر عليه لخطره، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى الدلالات على الإرادة: وهو القول.
2 - صفة الإيجاب والقبول ـ الكلام في خيار المجلس:
لا يكون كل من الإيجاب والقبول لازماً قبل وجود الآخر، فإذا وجد أحدهما لا يلزم قبل وجود الشطر الآخر، ويكون لكل من المتعاقدين حينئذ خيار القبول والرجوع، فإذا تم الإيجاب والقبول، فهل يكون لأحد العاقدين في مجلس العقد خيار الرجوع؟
اختلف العلماء فيه.
فقال الحنفية والمالكية والفقهاء السبعة بالمدينة (2) : يلزم العقد بالإيجاب والقبول؛ لأن البيع عقد معاوضة، يلزم بمجرد تمام لفظ البيع والشراء، ولا يحتاج إلى خيار مجلس، ولقول عمر رضي الله عنه: «البيع صفقة أو خيار» .
وقالوا عن حديث «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا» : المراد بالمتبايعين: هما المتساومان والمتشاغلان بأمر البيع، والمراد بالتفرق التفرق بالأقوال: وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب: لا أشتري، أو يرجع الموجب قبل القبول، فالخيار قبل القبول ثابت. ورد بعضهم هذا الحديث لمعارضته لآية {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] وآية {أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] وقال بعضهم: إنه منسوخ.
يظهر من هذا أن خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار: إن شاء قبل في المجلس، وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول (3) وخيار الرجوع.
وقال الشافعية والحنابلة وسفيان الثوري وإسحاق: إذا انعقد البيع بتلاقي الإيجاب والقبول، يقع العقد جائزاً أي غير لازم، ما دام المتعاقدان في المجلس، ويكون لكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع أو إمضائه ما دام مجتمعين لم يتفرقا أو يتخايرا، والمحكَّم في التفرق: العرف (4) : وهو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه.
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 3 ومابعدها، المهذب: 1 ص 257، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 89، ط التجارية.
(2) فقهاء المدينة السبعة هم: سعيد بن المسيب (توفي 94 هـ) ، عروة بن الزبير (94 هـ) ، القاسم بن محمد (106هـ) ، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (94هـ) ، عبيد الله بن عتبة بن مسعود (98هـ) ، سليمان بن يسار (107هـ) ، خارجة بن زيد بن ثابت (99هـ) .
(3) البدائع: 5 ص 134، فتح القدير: 5 ص 78، بداية المجتهد: 2 ص 169 ومابعدها، حاشية الدسوقي: 3 ص 81،المنتقى على الموطأ: 5 ص 55، القوانين الفقهية: ص 274، كشاف القناع: 187/3، ط مكة.
(4) مغني المحتاج: 2 ص 43، 45، المغني: 3 ص 563، المهذب: 1 ص 257. قال بعض الحنابلة: يختلف العرف في التفرق باختلاف مواضع البيع:: ففي فضاء واسع أو سوق: يكون التفرق بمشي أحد العاقدين مستدبراً لصاحبه خطوات بحيث لا يسمع كلامه المعتاد، وفي السفينة بصعود أحدهما لأعلاها، أونزوله لأسفلها، وفي قارب صغير بخروج أحدهما منه ويمشي، وفي دار كبيرة بخروجه من بيت أو مجلس لآخر، وفي دار صغيرة بصعود أحدهما السطح أو خروجه منها. ولا يحصل التفرق ببناء حائط بين العاقدين، ولا إن ناما أو مشيا جميعاً (راجع غاية المنتهى: 2 ص 30) .(5/11)
والمراد به التفرق بالأبدان، وهو التفرق حقيقة. وهو الذي يكون لذكره في الحديث فائدة، لأنه معلوم لكل واحد أن المتعاقدين بالخيار إذا لم يقع بينهما عقد بالقول.
وهذا هو خيار المجلس الثابت في أنواع البيع، لما روى الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «البيِّعان بالخيار، ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» (1) أي اختر اللزوم. قال ابن رشد: وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد، وأصحها. وقد أثبت ابن حزم في المحلى تواتره.
وردوا على المالكية والحنفية بأن اللفظ الوارد في هذا الحديث لا يحتمل ما قالوه (أي التفرق بالأقوال) إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد، إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع، بعد الاختلاف فيهما. وتأويلهم يبطل فائدة الحديث، لأنه من المعلوم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه، وإتمامه، أو تركه، ومعنى قول عمر السابق: «البيع صفقة أو خيار» هو أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار، وبيع لم يشترط فيه الخيار، وقد سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه.
إلا أنه أخذ على هذا الرأي كونه يهدر أو يزعزع القوة الملزمة للعقد، وهو مبدأ خطير من أهم المبادئ القانونية (2) . لكنني رددت على هذا الاتهام في بحث نظرية الفسخ السابقة.
__________
(1) سبل السلام: 3 ص 33 وما بعدها. وهذا هو بيع الخيار عند الشافعي: وهو أن يقول أحد المتعاقدين للآخر بعدما تم الإيجاب والقبول وقبل التفرق: اختر: إن شئت فدع، وإن شئت فخذ. فإذا أخذ لزم البيع وقام الخيار مقام التفرق بالأبدان.
(2) راجع مصادر الحق للسنهوري: 2 ص 37 وما بعدها.(5/12)
المبحث الثاني ـ شروط البيع
يجب أن يتوافر في عقد البيع أربعة أنواع من الشروط وهي: شروط انعقاد، وشروط صحة، وشروط نفاذ، وشروط لزوم (1) ، والقصد من هذه الشروط في الجملة منع وقوع المنازعات بين الناس، وحماية مصالح العاقدين، ونفي الغرر (أي الاحتمال) والبعد عن المخاطر بسبب الجهالة، فإذا اختل شرط الانعقاد كان العقد باطلاً، وإذا اختل شرط الصحة كان العقد عند الحنفية فاسداً، وإذا لم يتوافر شرط النفاذ كان العقد موقوفاً على الإجازة ولا تنتقل به الملكية إلا بالإجازة، وإذا انعدم شرط اللزوم كان العقد مخيراً فيه أي مشتملاً على خيار الإمضاء أو الإبطال.
أولاً - شرائط الانعقاد: وهي ما يشترط تحققه لاعتبار العقد منعقداً شرعاً، وإلا كان باطلاً. وقد اشترط الحنفية لانعقاد البيع أربعة أنواع من الشروط: في العاقد، وفي نفس العقد، وفي مكانه، وفي المعقود عليه (2) .
أما ما يشترط في العاقد فهو شرطان:
1 - أن يكون العاقد عاقلاً أي مميزاً، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير العاقل.
ولا يشترط البلوغ عند الحنفية، فيصح تصرف الصبي المميز البالغ من العمر سبع سنوات كما سيأتي تفصيله، وفي الجملة: إن تصرفات الصبي المميز العاقل تنقسم عند الحنفية إلى ثلاثة أقسام:
آـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد
__________
(1) راجع التفصيل في حاشية ابن عابدين: 4 ص 5 ومابعدها.
(2) انظر أيضاً البدائع: 5 ص135 ومابعدها، 2 ص 332، حاشية ابن عابدين: 2 ص 448.(5/13)
وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين، فهذه التصرفات تصح من الصبي العاقل دون إذن ولا إجازة من الولي، لأنها لنفعة التام.
ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته لغيره بالدين أو بالنفس، فهذه لا تصح من الصبي العاقل، ولا تنفذ، ولو أجازها وليه؛ لأن الولي لا يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر.
ج ـ التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع: كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها. فهذه التصرفات تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته ما دام صغيراً، أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير قليل (1) .
2 - أن يكون العاقد متعدداً: فلا ينعقد البيع بواسطة وكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، بخلاف الوكيل في عقد النكاح، فإنه يصح أن يعقد النكاحَ وكيل من الجانبين.
والفرق بين البيع والنكاح: هو أن للبيع حقوقاً متضادة مثل التسليم والتسلم والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب والخيارات. ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، وهذا محال. وبما أن حقوق العقد مقتصرة على العاقد فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين. وأما الوكيل في النكاح فإن حقوق العقد لا ترجع إليه، وإنما ترجع إلى الموكل فكان سفيراً محضاً بمنزلة الرسول.
__________
(1) انظر كتب الأصول عند الحنفية مثل التلويح على التوضيح: 2 ص 165 ومابعدها.
[التعليق]
الفرق بين البيع والنكاح انظر أيضاً:
5/8
* أبو أكرم الحلبي(5/14)
وقد استثني الأب فيما يبيع مال نفسه من ابنه الصغير، بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال الصغير لنفسه، لأنه حينئذ اقترب من مال اليتيم بالتي هي أحسن، لكمال شفقته ووفرة رعايته بحكم طبيعة الحال.
والوصي مثل الأب عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا تصرف بما فيه نفع ظاهر لليتيم أو بمثل القيمة، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير. وقال محمد: لا يجوز تصرف الوصي بمال الصبي لنفسه بمثل القيمة؛ لأن القياس يأبى جوازه أصلاً من الأب والوصي جميعاً. والتساهل في الأب لكمال شفقته بخلاف الوصي.
والقاضي لا ترجع إليه حقوق العقد، فكان بمنزلة الرسول، والرسول لا تلزمه حقوق العقد، لأنه معبر وسفير، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين.
وأجاز جمهور الحنفية بخلاف الشافعي وزفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد النكاح بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور:
إذا كان ولياً أو وكيلاً من الجانبين كأن يقول شخص: زوجت ابني ببنت أخي، أو زوجت موكلي فلاناً موكلتي فلانة، أو أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر كما لو وكلت امرأة شخصاً في أن يزوجها من نفسه، أو أصيلاً من جانب وولياً من جانب كأن يتزوج بنت عمه الصغيرة، أو ولياً من جانب ووكيلاً من جانب: مثل زوجت بنتي من موكلي. أما صورة الأصيل من الجانبين فهي مستحيلة عقلاً (1) .
__________
(1) البدائع: 5 ص 136، مجمع الضمانات: ص 410، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 139.(5/15)
وأما ما يشترط في نفس العقد فهو شرط واحد: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب (1) كما سيأتي تفصيله.
وأما ما يشترط في مكان العقد: فهو شرط واحد أيضاً وهو اتحاد مجلس الإيجاب والقبول كما سيذكر تفصيله. ومجلس البيع: هو الاجتماع الواقع لعقد البيع (م 181 مجلة) .
وأما ما يشترط في المعقود عليه أي المبيع فهو أربعة شروط (2) :
1 - أن يكون المبيع موجوداً: فلا ينعقد بيع المعدوم قبل وجوده وماله خطر العدم. من أمثلة الأول: بيع نتاج النتاج أي ولد ولد هذه الناقة مثلاً، وبيع الثمر قبل انعقاد شيء منه على الشجرة. ومن أمثلة الثاني: بيع الحمل، وبيع اللبن في الضرع، فكل من الحمل واللبن متردد بين الوجود وعدم الوجود فهما على خطر العدم.
ودليله في الجملة: أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (3) . ويلحق به بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، ففي هذا غلط في الجنس فلا ينعقد البيع، لأن المبيع معدوم.
ويستثنى بيع السلم والاستصناع وبيع الثمر على الشجر بعد ظهور بعضه في رأي بعض الحنفية.
2 - أن يكون المبيع مالاً متقوماً:
والمال عند الحنفية كما عرفنا سابقاً: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وبعبارة أخرى: هو كل ما يمكن أن يملكه الإنسان وينتفع به على وجه معتاد. والأصح أنه هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس. والمتقوم: ما يمكن ادخاره مع إباحته شرعاً. وبعبارة أخرى: هو ما
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 137.
(2) المرجع السابق: ص 138-148.
(3) نص الحديث رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» (انظر جامع الأصول: 1 / 389) .(5/16)
كان محرزاً فعلاً ويجوز الانتفاع به في حالة الاختيار (1) ، فلا ينعقد بيع ما ليس بمال كالإنسان الحر والميتة والدم، ولا بيع مال غير متقوم كالخمر والخنزير في حق مسلم، ويجوز بيع آلات الملاهي عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، وعند الصاحبين وبقية الأئمة: لا ينعقد بيع هذه الأشياء، لأنها معدة للفساد.
3 - أن يكون مملوكاً في نفسه: أي محرزاً وهو ما دخل تحت حيازة مالك خاص. فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس مثل بيع الكلأ ولو في أرض مملوكة، والماء (2) غير المحرز، والحطب، والحشيش، والصيود التي في البراري، وتراب الصحراء ومعادنها، وأشعة الشمس والهواء، ولقطات البحر وحيوانات البر في البراري.
أما كون المبيع مملوكاً للبائع، فليس شرط انعقاد، وإنما هو شرط نفاذ كما سيأتي.
4 - أن يكون مقدور التسليم عند العقد:
فلا ينعقد بيع معجوز التسليم، وإن كان مملوكاً للبائع، مثل الحيوان الشارد والطير في الهواء، والسمك في البحر بعد أن كان في يده.
شروط الإيجاب والقبول:
يفهم مما ذكر من شرائط الانعقاد أنه يشترط في الإيجاب والقبول ثلاثة شروط:
1 - الأهلية: هي عند الحنفية أن يكون كل من الموجب والقابل عاقلاً مميزاً يدرك ما يقول ويعينه حقاً (3) ، فهو في الحقيقة شرط في العاقد لا في الصيغة، إلا بالنظر لصدورها من العاقدين. والتمييز مقدر عند الحنفية بتمام السنوات السبع وعند غيرهم ببلوغ السبع سنوات، فلا ينعقد بيع المجنون والصبي غير المميز؛ لأن العقد ارتباط بين إرادتي طرفيه.
والكلام ونحوه كالكتابة والإشارة دليل على هاتين الإرادتين، فكان لا بد من أن يكون هذا الدليل صادراً من مميز عاقل.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4 ص 3، 150، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص162، 164.
(2) لا يجوز عند جمهور الفقهاء بيع الماء غير المحرز كمياه البحار والأنهار ونحوها، لأنها مباحة لجميع الناس، لا يختص بها أحد دون غيره، فلا يجوز بيعها ما دامت في مقرها، ويجوز بيع الماء المحرز كماء البئر أو العين ونحوهما المملوك لشخص ما. وقال فقهاء الظاهرية: لا يجوز بيع الماء ما لم يكن تابعاً للبئر أو العين المملوكة.
(3) البدائع: 5 ص 135، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 255.(5/17)
والبلوغ والاختيار ليسا من شروط الانعقاد عند الحنفية، لذا كان من الضروري الكلام في بيع الصبي والمكره عند فقهاء المذاهب.
بيع الصبي المميز:
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على إجازة وليه. ودليلهم أن المدار في التصرف
على إذن الولي، لا على الصبي، فصح البيع؛ لأن الصبي حينئذ كالدلال، والعاقد غيره، ولأن دفع المال إلى الصبي بعد رشده متوقف على اختباره بالبيع والشراء، وأنه يغبن أم لا، فكان لا بد من القول بصحة تصرفاته وعقوده، ولكن بإذن الولي لتحصيل المصلحة وحفظ أمواله (1) .
وقال الشافعية (2) : لا ينعقد بيع الصبي لعدم أهليته، وشرط العاقد بائعاً أو مشترياً: أن يكون راشداً: وهو أن يتصف بالبلوغ وصلاح الدين والمال، ودليلهم قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء:5/4] والتصرف بالبيع والشراء في معنى إعطاء السفهاء المال لاستلزام البيع والشراء لبذل المال، والجامع بينهما نقص العقل المؤدي بكل منهما لإضاعة المال في غير طريقه الشرعي (3) .
بيع المكره وبيع التلجئة:
بيع المكره:
قال جمهور الحنفية: إن عقود البيع والشراء والإيجار ونحوها من المكره إكراهاً ملجئاً أو غير ملجئ تكون فاسدة؛ لأن الإكراه يزيل الرضا الذي هو شرط في صحة هذه العقود، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/4] وحينئذ يحق
__________
(1) البدائع: 5 ص 135، بداية المجتهد: 2 ص 278، حاشية الدسوقي: 3 ص 5، المغني: 4 ص 246.
(2) مغني المحتاج: 2 ص 7.
(3) قال الشافعية (تحفة المحتاج وغيرها من شروح المنهاج) : لا ينعقد بيع أربعة وهم: الصبي مميزاً أو غير مميز، والمجنون، والعبد ولو كان مكلفاً، والأعمى، ويقع بيعهم باطلاً.(5/18)
للمستكره فسخ ما عقد أو إمضاؤه. ويثبت الملك للمشتري عند القبض كبقية العقود الفاسدة، ويلزم العقد بقبض المستكره الثمن، أو تسليم المبيع طوعاً، إلا أنه يخالف البيع الفاسد في صور منها: أنه يجوز بالإجازة القولية والفعلية، ويزول الفساد بخلاف غيره من البيوع الفاسدة لا تجوز، وإن أجيزت؛ لأن الفساد فيها لحق الشرع، والفساد هنا إنما كان صيانة لمصلحة خاصة لا لمصلحة شرعية عامة، وبه يشبه المكره البيع الموقوف، ومن هنا قالوا: إنه بيع فاسد موقوف.
لذا قال زفر: إن الإكراه يجعل العقد غير نافذ، فهو كعقد الفضولي صحيح موقوف بالنسبة إلى المستكره، فيتوقف على إجازته بعد زوال الإكراه؛ لأن الإكراه إنمايخل بحق المستكره ومصلحته، فيكفي لحمايته جعل العقد موقوف النفاذ على رضاه بعد زوال الإكراه، ورأي زفر أقوى دليلاً (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون العاقد مختاراً طائعاً في بيع متاع نفسه، فلا ينعقد بيع المكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:92/4] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (2) .
وأما الإكراه بحق فلا يمنع من انعقاد العقد، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه،
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4 ص 4، 5 ص 89-91، الأموال ونظرية العقد للدكتور يوسف موسى: ص398، مختصر الطحاوي: ص 408، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 185 في الحاشية، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 324.
(2) أخرجه الطبراني عن ثوبان بلفظ «إن الله تجاوز» قال النووي: حديث حسن، وتعقبه الهيثمي بأن فيه يزيد بن ربيعة الرحبي، وهو ضعيف، ورواه ابن ماجه وابن حبان، والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم في المستدرك من حديث الأوزاعي، واختلف عليه: فقيل: عن ابن عساكر بلفظ «إن الله وضع» وللحاكم والدارقطني والطبراني: «تجاوز» (انظر التلخيص الحبير: 109/1، مجمع الزوائد: 250/6) .(5/19)
مثل الإجبار على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة، أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين، أو لأجل وفاء ما عليه من الخراج الحق.
وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه. هذا ما وجدته في مختصر خليل وشراحه، لكن قال ابن جزي: يشترط في البائع والمشتري أن يكونا طائعين، فإن بيع المكره وشراءه باطلان (1) .
بيع المضطر: أن يضطر شخص إلى بيع شيء من ماله، ولم يرض المشتري إلا بشرائه بدون ثمن المثل بغبن فاحش. مثاله: أن يلزم القاضي شخصاً ببيع ماله لإيفاء دينه، أو ألزم الذمي بائعاً ببيع مصحف أو عبد مسلم ونحو ذلك. وحكمه عند الحنفية كما قالوا: بيع المضطر وشراؤه فاسد (2) . وأجازه فقهاء آخرون للضرورة.
بيع التلجئة: صورة بيع التلجئة أو بيع الأمانة: أن يخاف إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أركانه وشرائطه. واختلف العلماء في شأنه.
فقال الحنابلة: إنه عقد باطل غير صحيح، لأن العاقدين ماقصدا البيع، فلم يصح منهما كالهازلين (3) .
وقال الحنفية والشافعي: هو بيع صحيح، لأن البيع تم بأركانه وشروطه،
__________
(1) الميزان 62/2، حاشية الدسوقي: 6/3، مغني المحتاج: 7/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص246، غاية المنتهى: 5/2.
(2) حاشية ابن عابدين: 111/4، 255، المغني: 214/4.
(3) المغني: 214/4.(5/20)
وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقد البيع بغير شرط. وأما عدم رضاه بوقوعه فهو كظنه أنه لا يقع، لا أثر له لخطأ ظنه (1) .
بيع السمسرة: السمسرة: هي الوساطة بين البائع والمشتري لإجراء البيع. والسمسرة جائزة، والأجر الذي يأخذه السمسار حلال؛ لأنه أجر على عمل وجهد معقول، لكن قال الشافعية: لا يصح استئجار بيّاع على كلمة لا تتعب، وإن روّجت السلعة؛ إذ لا قيمة لها (2) . ولا بأس أن يقول شخص لآخر: بع هذا الشيء بكذا، وما زاد فهو لك، أو بيني وبينك، لما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «المسلمون على شروطهم» .
2 - الشرط الثاني ـ من شروط صيغة البيع: أن يكون القبول موافقاً للإيجاب: بأن يرد على كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه (3) فإذا قال إنسان لآخر: بعتك هذين الثوبين بألف ليرة، فقال المشتري: قبلت في هذا الثوب، وأشار إلى واحد منهما، لا ينعقد البيع. وإذا قال لآخر: بعتك هذه الدار بما فيها من مفروشات بألفي ليرة، فقال المشتري: قبلت شراءها دون ما فيها بألف ليرة مثلاً، لم ينعقد العقد أيضاً، لتفريق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد، ترويجاً للرديء بواسطة الجيد.
__________
(1) مغني المحتاج: 16/2.
(2) مغني المحتاج: 335/2 وفي الإحياء للغزالي: لا يجوز أخذ عوض على كلمة يقولها طبيب بدواء ينفرد به بمعرفته، إذ لا مشقة عليه في التلفظ به، بخلاف ما لو عرف الصيقل الماهر إزالة اعوجاج السيف والمرآة بضربة واحدة، فإن له أخذ العوض وإن كثر؛ لأن هذه صناعات يتعب في تعليمها ليكتسب بها، ويخفف عن نفسه التعب. وأفتى القفال بأنه لا يصح استئجار له، وهذا هو الظاهر، وإن قال الأذرعي: المختار ما قاله الغزالي.
(3) البدائع: 136/5-137، مغني المحتاج: 5/2 ومابعدها، كشاف القناع: 136/3، الأموال ونظرية العقد، يوسف موسى: 256.(5/21)
فلو قبل المشتري بأكثر مما طلب، انعقد البيع؛ لأن القابل بالأكثر قابل بالأقل طبعاً، غير أنه لا يكون ملزماً إلا بالثمن الذي طلبه البائع.
ولو قبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد.
وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع البيع بثمن حالّ، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين فقبل المشتري بأجل أبعد منه، فلا ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب.
3 - أن يتحد مجلس العقد: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، بأن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب (1) . ونتائج هذا الشرط ما يلي:
لو أوجب أحد الطرفين البيع فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد البيع. ولكن لا يشترط الفور في القبول؛ لأن القابل يحتاج إلى التأمل، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل، واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات للضرورة.
وكذلك قال المالكية (2) : لا يضر في البيع الفصل بين الإيجاب والقبول إلا أن يخرج عن البيع لغيره عرفاً.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : يشترط أن يكون القبول بعد الإيجاب بألا يفصل بينهما فاصل كثير: وهو ما أشعر بالإعراض عن القبول. ولا يضر الفصل اليسير لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول. ويضر تخلل كلام أجنبي عن العقد ولو يسيراً بين الإيجاب والقبول.
__________
(1) البدائع: 137/5 ومابعدها، فتح القدير: 80/5، الأموال للدكتور يوسف موسى: 257.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 17/3.
(3) مغني المحتاج: 5/2 - 6، كشاف القناع: 163/3.(5/22)
التعاقد حالة المشي أو الركوب: إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين: فإن اتصل الإيجاب والقبول من غير فصل بينهما، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة أو خطوتين جاز، فإن كان بين القبول والإيجاب فصل وسكوت، وإن قل، لا ينعقد العقد؛ لأن المجلس تبدل بالمشي والسير، وقاسوا ذلك على قراءة آية السجدة وخيار المخيرة (1) . فلو قرأ آية سجدة وهو يمشي على الأرض، أو يسير على دابة لا يصلى عليها، يلزمه لكل قراءة سجدة، وكذا لو خير امرأته في المجلس بأن تطلق نفسها منه وهي تمشي على الأرض أو تسير على دابة لا يصلى عليها، فمشت أو سارت: يبطل خيارها لتبدل المجلس، لأن «التفويض يقتصر على المجلس بخلاف الوكالة فإنها لا تقتصر عليها» وتوكيل الرجل زوجته بتطليق نفسها يقتصر على المجلس (2) .
ولو تبايعا وهما واقفان، انعقد البيع، لاتحاد المجلس.
ولو أوجب أحدهما البيع وهما واقفان، فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعاً أو سار البائع قبل القبول، ثم قبل المشتري بعدئذ لا ينعقد، لأنه لما سار أحدهما أو سارا، فقد تبدل المجلس قبل القبول، ويجعل السير دليلاً على الإعراض.
أما لو وقف الزوج، فخير امرأته، ثم سار وهي واقفة، فلها الخيار. ولو سارت هي والزوج واقف بطل خيارها، فالعبرة إذن لمجلسها لا لمجلس الزوج، فما دامت في مجلسها، لم يوجد منها دليل الإعراض، فيظل لها الخيار. وأما الزوج فلا يبطل كلامه بالإعراض؛ لأن التخيير من قبله لازم، أما في البيع فيعتبر مجلسهما جميعاً.
__________
(1) خيار المخيرة: هو أن يخير الرجل امرأته في المجلس بأن تطلق نفسها منه بأن يقول لها: طلقي نفسك إن شئت.
(2) القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: 24.(5/23)
التعاقد على ظهر سفينة أو طائرة: لو تبايع الطرفان على سفينة أو طائرة أوقطار، انعقد العقد، سواء كانت هذه الوسائل واقفة أم جارية، بخلاف المشي على الأرض والسير على الدابة؛ لأن الشخص لا يستطع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر المجلس فيها مجلساً واحداً، وإن طال، أما الدابة، فإنه يستطيع إيقافها.
التعاقد مع غائب: إذا أوجب أحد المتعاقدين البيع أو الشراء والآخر غائب، فبلغه الإيجاب، فقبل، لا ينعقد البيع، كأن يقول: «بعت هذه البضاعة من فلان الغائب» فبلغه الخبر، فقبل: لا يصح، لأن القاعدة الأصلية في هذا: أن أحد شطري العقد الصادر من أحد العاقدين في البيع يتوقف على الآخر في مجلس العقد (أي يظل قائماً ساري المفعول ضمن المجلس لا بعده) ولا يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما وراء المجلس بالاتفاق، إلا إذا كان عنه قابل (أي وكيل) أو كان بالرسالة أو الكتابة (1) .
التعاقد بواسطة رسول: أما الرسالة: فهي أن يرسل أحد المتعاقدين رسولاً إلى رجل فيقول المتعاقد الآخر: (إني بعت هذا الثوب من فلان الغائب بكذا) فاذهب إلىه، وقل له: (إن فلاناً باع ثوبه منك بكذا) فجاء الرسول، وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلس أداء الرسالة: (اشتريت) أو (قبلت) : تم البيع بينهما؛ لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإىجاب فقبل، فينعقد العقد.
التعاقد بالمراسلة: أما الكتابة: فهي أن يكتب رجل إلى آخر: (أما بعد، فقد بعت فرسي منك بكذا) فبلغه الكتاب، فقال في مجلسه (أي مجلس بلوغ الكتاب) : (اشتريت أو قبلت) . ينعقد البيع لأن خطاب الغائب كتابة يجعله كأنه حضر بنفسه، وخوطب بالإيجاب فقبل في المجلس، فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان لم ينعقد البيع.
__________
(1) البدائع: 137/5 ومابعدها، فتح القدير: 79/5.(5/24)
وللكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها.
واتحاد المجلس شرط للانعقاد أيضاً في الإجارة والهبة، على التفصيل السابق في البيع.
وأما الخلع فإن شطر العقد الصادر من الزوج يتوقف (أي يظل ساري المفعول) على قبول الآخر وراء المجلس بالاتفاق، كأن يقول: خالعت امرأتي الغائبة على كذا، فبلغها الخبر، فقبلت، جاز.
وأما النكاح فهو كالبيع عند أبي حنيفة ومحمد، لا يتوقف شطر العقد فيه (أي لا يسري مفعوله) إلا إذا كان عن الغائب قابل، فإذا قال رجل للشهود: (اشهدوا أني قد تزوجت فلانة بكذا) وبلغها الخبر فأجازت أو قالت امرأة: (اشهدوا أني زوجت نفسي من فلان بكذا) فبلغه، فأجازها، لا ينعقد العقد في الحالتين عند أبي حنيفة ومحمد إلا إذا كان عن الغائب قابل.
وعند أبي يوسف: يتوقف شطر العقد في النكاح على قبول الآخر فيما وراء المجلس، فينعقد العقد في هذين المثالين بقبول الغائب، وإن لم يقبل عنه أحد في مجلس العقد.
مبدأ وحدة الصفقة وتفرقها:
الصفقة: ضرب اليد على اليد في البيع، والبيعة للإمام، ثم جعلت عبارة عن العقد نفسه (1) . قال النووي: الصفقة: هي عقد البيع، لأنه كان من عادتهم أن يضرب كل واحد من المتعاقدين يده على يد صاحبه عند تمام العقد (2) .
والعقد يحتاج في تكوينه كما هو معلوم إلى مبيع، وثمن، وبائع، ومشتر، وبيع وشراء. وباتحاد بعض هذه الأشياء مع بعض وتفرقها، يحصل اتحاد الصفقة، وتفريقها (3) .
وقد اتفق العلماء على ضرورة اتحاد الصفقة من حيث المبدأ، لأن من شرائط انعقاد البيع الشرط المذكور قريباً: وهو أن يكون القبول موافقاً للإيجاب، إلا أن هناك اختلافات جزئية في تحقيق هذا المبدأ أو عدم تحقيقه أي تفريق الصفقة.
فقال الحنفية (4) : لا بد من معرفة ما يوجب اتحاد الصفقة وتفريقها، وذلك إما بسبب العاقدين أو بسبب المبيع.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير: 5 ص 80.
(2) المجموع للنووي: 9 ص 425.
(3) العناية، المكان السابق، المجموع: 9 ص 432 ومابعدها.
(4) فتح القدير: 80/5، البدائع: 136/5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 20/4.(5/25)
أـ أما بالنسبة للعاقدين: فإن اتحد شخص الموجب سواء أكان بائعاً، أم مشترياً، وتعدد القابل المخاطب، لم يجز للقابلين تفريق الصفقة بأن يقبل أحدهما البيع دون الآخر. وإن انعكس الأمر فتعدد الموجب واتحد القابل، لم يجز للقابل القبول في حصة أحد الموجبين دون الآخر. مثل الحالة الأولى: أن يقول البائع لمشتريين: بعتكما هذه السلعة بألف ليرة، فقال أحدهما: اشتريت، ولم يقبل
الآخر، كانت الصفقة متعددة، فلم ينعقد العقد إلا باتفاق جديد. ومثل الحالة الثانية: أن يقول شخص لمالكي سلعة: اشتريت منكما هذه السلعة بألف ليرة مثلاً، فباعه أحدهما دون الآخر، فإن الصفقة تتعدد في هذه الحالة، فلا ينعقد العقد.
ب ـ وأما بالنسبة للمبيع: فإن اتحد العاقدان، وقبل أحدهما في بعض المبيع دون بعض، لم يصح العقد، لتفرق الصفقة.
وإن اتحد العاقدان، وتعدد المبيع، فإما أن يكون المبيع مثليين أو مثليا وقيمياً وفي كلتا الحالتين لايجوز للمشتري أن يقبل في أحد المبيعين، ويرفض الآخر، فإن فعل، تعددت الصفقة، وحينئذ لا يتم البيع إلا برضا جديد من البائع بما قبل به المشتري، فيصبح القبول إيجاباً، والرضا قبولاً، ويبطل الإيجاب الأول.(5/26)
غير أن هناك فرقاً بين الحالتين: وذلك في قسمة الثمن على أجزاء المبيع وفي وحدة الصفقة وتعددها. فإذا كان المبيع مثليين كقفيزين من أرز أو كمدين من حنطة أو رطلين من حديد، وقبل المشتري في أحدهما، انقسم الثمن بنسبة أجزاء المبيع، فيكون ثمن الجزء الذي تم فيه المبيع في هذا المثال نصف الثمن الأصلي المذكور لجزئي المبيع؛ لأن الثمن في المثليات ينقسم على المبيع باعتبار الأجزاء، فكانت حصة كل جزء من الثمن معلوماً. وتكون الصفقة عندئذ واحدة. ويشبه المثليات (المكيل والموزون) في قسمة الثمن عليه بالأجزاء ما إذا كان المبيع شيئاً واحداً كحيوان واحد.
وإذا كان المبيع من غير المثليات أي القيميات كثوبين ودابتين، لا ينقسم الثمن على المبيع باعتبار الأجزاء، لعدم تماثل الأجزاء، وإذا لم ينقسم الثمن في هذه الحالة، بقيت حصة كل واحد من جزئي المبيع من الثمن مجهولة، وجهالة الثمن تمنع صحة البيع. فإن أريد تصحيح الصفقة فلا بد من أحد أمرين:
إما أن يكرر البائع لفظ البيع بأن يقول: بعتك هذين الثوبين، بعتك هذا بألف، وبعتك هذا بألف، أو اشتريت منك هذين المتاعين، اشتريت هذا بمئة، واشتريت هذا بمئة، فيصح العقد، ويصبح هنا صفقتان.
وإما أن يفرق الثمن على أجزاء المبيع، بأن يقول البائع: بعتك هذين الكتابين، هذا بمئة، وهذا بخمسين، فقبل المشتري في أحدهما، جاز البيع لانعدام تفريق الصفقة الواحدة من المشتري، بل البائع هو الذي فرق الصفقة، حيث سمى لكل واحد من المبيعين ثمناً على حدة، فكانت هذه الحالة صفقات معنى، وإلا لو كان غرض البائع ألا يبيع المبيعين للمشتري إلا جملة واحدة، لم تكن هناك فائدة لتعيين ثمن كل منهما على انفراد.(5/27)
وإذا تطابق الإيجاب والقبول، لزم البيع، ولا خيار لواحد من العاقدين إلا بسبب وجود عيب أو عدم رؤية للمبيع. نصت المادة (351) من المجلة على ما يأتي: «ما بيع صفقة واحدة إذا ظهر بعضه معيباً: فإن كان قبل القبض، كان المشتري مخيراً: إن شاء رد مجموعه، وإن شاء قبله بجميع الثمن، وليس له أن يرد المعيب وحده، ويمسك الباقي. وإ ن كان بعد القبض: فإذا لم يكن في التفريق ضرر، كان له أن يرد المعيب بحصته من الثمن سالماً، وليس له أن يرد الجميع حينئذ مالم يرضَ البائع. وأما إذا كان في تفريقه ضرر، رد الجميع، أو قبل الجميع بكل الثمن، مثلاً: لو اشترى قلنسوتين بأربعين قرشاً، فظهرت إحداهما معيبة قبل القبض، يردهما معاً، وإن كان بعد القبض يرد المعيبة وحدها بحصتها من الثمن سالمة، ويمسك الثانية بما بقي من الثمن. أما لو اشترى زوجي خف، فظهر أحدهما معيباً بعد القبض، كان له ردهما معاً للبائع، وأخذ ثمنهما منه» .
وقال أبو حنيفة والمالكية (1) : إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام، كالعقد على سلعة متقومة وخمر، أو خنزير، أو غيرهما، فالصفقة كلها باطلة. وقال الصاحبان: يصح العقد في الصحيح، ويفسد في الفاسد. ومنشأ الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه هو: أن الصفقة إذا اشتملت على الصحيح والفاسد يتعدى الفساد إلى الكل عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين فلا يتعدى الى الصحيح، وإنما يقتصر أثر الفساد على الفاسد.
ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ويلزم البيع فيما يملكه المالك، ويتوقف اللزوم في ملك الغير على إجازته، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية، لأنهم يصححون العقد الموقوف أو عقد الفضولي، كما سنعلم.
وقال الشافعية والحنابلة في الأرجح عندهم (2) : تفريق الصفقة معناه: أن يبيع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة بثمن واحد، وهو ثلاثة أقسام:
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 260، البدائع: 217/5.
(2) المجموع: 425/9-437، المهذب: 269/1، المغني: 236/4 وما بعدها، القواعد لابن رجب: ص 421، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 98، غاية المنتهى: 16/2.(5/28)
أحدها ـ أن يبيع معلوماً ومجهولاً بثمن واحد، لقوله: بعتك هذا الكتاب وكتاباً آخر، وهما ملك له بمئة ليرة مثلاً، لم يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط.
الثاني ـ أن يكون المبيعان مما ينقسم عليهما بالأجزاء، كشيء مشترك بين اثنين، فباعه كله أحدهما بغير إذن شريكه، وكشيئين من المثليات مثل قفيزين من صبرة واحدة باعهما من لا يملك إلا بعضهما، فالأصح أن يصح البيع فيما يملكه
بقسطه من الثمن، ويفسد فيما لا يملكه؛ لأن لكل واحد منهما حكماً مستقلاً حالة إفراده بالبيع، فإذا جمع مع غيره ثبت لكل واحد منهما حكمه الخاص به، كما لو باع رجل شقصاً (1) وسيفاً فإنه تثبت الشفعة في الشقص بلا خلاف، كما لو أفرده.
الثالث ـ أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، أي أن تشتمل الصفقة على حلال وحرام كخل وخمر وشاة وخنزير، وميتة وشاة مذكاة، ونحوهما من القيميات، فأصح القولين عند الشافعي وفي رواية عند الحنابلة عن أحمد أن البيع يصح في الحلال ويبطل في الحرام (2) . وفي كيفية توزيع الثمن على المبيعين باعتبار الأجزاء، فيقدر الخمر خلاً، والخنزير شاة، والميتة مذكاة. وهذا ما قاله أنصار هذه الرواية الأولى عن أحمد.
ورجح ابن قدامة الحنبلي الرواية الثانية عن أحمد: وهو أنه يفسد البيع في المبيعين جميعاً.
__________
(1) الشقص: الطائفة من الشيء، والمراد به هنا قطعة من أرض أو دار.
(2) وهكذا يعرف المقصود من عبارة يتردد ذكرها عند الشافعية وهي «قولا تفريق الصفقة» الأشهر عند الشافعية: أنها تفرق الصفقة، فيبطل البيع فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز، لأنه ليس إبطاله فيهما بأولى من تصحيحه فيهما. والقول الثاني: أن الصفقة لا تفرق فيبطل العقد فيهما.(5/29)
فإن كانت الصفقة مشتملة على مال للبائع ومال لغيره لا ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء، فالأصح عند الشافعية أيضاً أن البيع يصح فيما يملكه، ويبطل فيما لا يملكه، ويوزع الثمن بحسب القيمة لكل منهما، وعند الحنابلة: الأصح أنه يبطل البيع في المبيعين جميعاً.
وقال الحنابلة والشافعية فيما يتعلق بخيار تفرق الصفقة: متى صح البيع في بعض الصفقة: فإن كان المشتري عالماً بالحال كأن يعلم أن المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء كما ذكر، فلا خيار له، لأنه اشترى على بصيرة. وإن لم يعلم بالحال، مثل أن يشتري رجل متاعاً يظنه كله للبائع، فبان أنه لا يملك إلا نصفه، أو متاعين فتبين أنه لا يملك البائع إلا أحدهما، فله الخيار بين الفسخ والإمساك، لأن الصفقة تبعضت عليه. وأما البائع عند إمساك المشتري جزء المبيع، فلا خيار له في الأصح؛ لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه من الثمن.
فإن تلف أحد المبيعين صفقة واحدة قبل القبض، فينفسخ العقد في التالف بلا خلاف. وأما الباقي فللمشتري الخيار فيه بين إمساكه بحصته من الثمن، وبين الفسخ، لتبعض الصفقة عليه.
وقال الظاهرية (1) : كل صفقة جمعت حراماً وحلالاً، فهي باطل كلها، لا يصح منها شيء، مثل أن يكون بعض المبيع مغصوباً، أو غير مملوك للبائع، أو آل إليه بعقد فاسد.
والخلاصة: أن جمهور العلماء يبطلون الصفقة المشتملة على حلال وحرام أو مملوك وغير مملوك. وقال الشافعية كما رجح النووي: يصح العقد فيما يجوز، ويبطل فيما لا يجوز.
__________
(1) المحلى: 20/9.(5/30)
ثانياً - شروط النفاذ:
لنفاذ (1) العقد شرطان:
1 ً - الملك أو الولاية: الملك هو حيازة الشيء متى كان الحائز له قادراً وحده على التصرف فيه عند عدم المانع الشرعي، فالقيم على المجنون أو السفيه، والوصي على القاصر، لا يعتبر أحدهما مالكاً يتصرف في الشيء، على حين أن المجنون والسفيه والقاصر يعتبر كل منهم مالكاً؛ لأن له حق الاستقلال في التصرف والانتفاع لولا المانع الشرعي من ذلك وهو أنه تحت ولاية غيره (2) .
والولاية: سلطة شرعية بها ينعقد العقد وينفذ، هي إما أصلية: وهي أن يتولى الإنسان أمور نفسه بنفسه، أو نيابية: وهي أن يتولى الشخص أمور غيره من ناقصي الأهلية، إما بإنابة المالك كالوكيل أو بإنابة الشارع كالأولياء وهم: الأب والجد والقاضي ووصي الأب أو الجد أو القاضي وترتيبهم كالآتي: الأب ثم وصيه ثم الجد ثم وصيه ثم القاضي ثم وصيه (3) .
ومدلول هذا الشرط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فلا ينفذ بيع الفضولي، لانعدام الملك والولاية، لكنه ينعقد عند الحنفية موقوفاً على إجازة المالك.
واعتبر الشافعي الملك أو الولاية من شرائط الانعقاد، فتعتبر تصرفات الفضولي عنده باطلة. وسأبحث ذلك بالتفصيل قريباً (4) .
2 - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع:
إن كان في المبيع حق لغير البائع كان العقد موقوفاً غير نافذ، وعلى هذا فلا ينفذ بيع الراهن المرهون، ولا بيع المؤجر المأجور ولا بيع المالك الأرض التي عليها عقد مزارعة، وإنما يكون البيع موقوفاً على إجازة المرتهن، أو المستأجر، أو المزارع،
__________
(1) النفاذ في الأصل المضي والجواز، ثم أطلق عند الفقهاء على مضي العقد دون توقف على الإجازة أو الإذن.
(2) الأموال ونظرية العقد: ص 165.
(3) المرجع السابق: ص 348، حاشية ابن عابدين: 6/4، البدائع: 146/5، 155.
(4) البدائع: 148/5.(5/31)
وليس فاسداً، وهذا هو الصحيح عند الحنفية؛ لأن ركن البيع صدر من أهله مضافاً إلى مال متقوم مملوك له مقدرو على التسليم، من غير ضرر يلزمه (1) . ويثبت حينئذ للمشتري الخيار بين إمضاء البيع أو فسخه. أما المستأجر أو المرتهن أو المزارع، فإن أجاز العقد نفذ، فلو لم يجز المستأجر حتى انفسخت الإجارة، نفذ البيع السابق، وكذا المرتهن إذا قضى دينه، ولا حاجة لتجديد العقد، وهو الصحيح كما قال ابن عابدين. وعليه يكون حكم بيع الفضولي أحد البيوع الجائزة هو قبول الإجازة من المالك. والفسخ من المشتري لا الإجازة. كما أن للفضولي فسخ البيع دون النكاح.
وذكر الأستاذ مصطفى الزرقاء: أن الرأي الراجح فقهاً: أنه لا يكون البيع موقوفاً على إجازة المرتهن أو المستأجر وإن كانا أصحاب حق في المبيع، إذ الإجازة لاتكون شرعاً إلا لمالك أو ذي ولاية، بل البيع نافذ، ولكن لا يسلم المبيع إلى المشتري دون رضا المرتهن أو المستأجر صيانة لحقهما، بل يمنح المشتري الخيار في أن يفسخ البيع أو ينتظر إلى فكاك الرهن أو إلى انقضاء مدة الإجارة ليتسلم المبيع (2) .
تقسيم البيع من حيث النفاذ والوقف:
يترتب على ما ذكر من شروط النفاذ عند الحنفية أن البيع قسمان: نافذ وموقوف.
أما البيع النافذ: فهو أن يتوافر فيه ركن العقد مع وجود شرائط الانعقاد والنفاذ.
وأما البيع الموقوف: فهو أن يوجد فيه ركن العقد مع وجود شرائط الانعقاد، ولكن لم يوجد فيه شرط النفاذ: وهو الملك أو الولاية.
واختلال شرط النفاذ: يكون إما في المبيع كما في بيع الفضولي شيئاً لغيره، وإما في التصرف كما في بيع الصغير المميز أو المعتوه أو شرائهما.
__________
(1) البدائع: 155/5، حاشية ابن عابدين: 6/4، 145-148.
(2) عقد البيع: ص 31، رد المحتار لابن عابدين: 361/5.(5/32)
آراء العلماء في تصرف الفضولي:
الفضولي في الأصل: من يشتغل بما لا يعنيه أو يعمل عملاً ليس من شأنه، ومنه سمي فضولياً: من يتصرف في شيء أو يعقد عقداً من العقود، دون أن يكون له ولاية ما على القيام به، كمن يبيع أو يشتري للغير، أو يؤجر أو يستأجر لغيره، دون وكالة أو وصاية أو ولاية على العقد، وبدون إذن من الغير (1) . وبيع الإنسان ملك غيره دون إذن منه شائع في الحياة العملية كما في بيع الأزواج ملك زوجاتهم أو بيع الأفراد ملك الحكومة أو ملك من تغيب حتى طالت غيبته.
ويلاحظ أن الفضولي: هو من يتصرف فيما تظهر ملكية غيره له، وإلا كان تصرفه من بيع ما لا يملك، وهو منهي عنه.
ومحل البحث: أن يبيع الرجل مال غيره بشرط: إن رضي به صاحب المال أمضي البيع، وإن لم يرض فسخ، أو يشتري الرجل للرجل بغير إذنه على أنه إن رضي المشتري، صح الشراء وإلا لم يصح (2) ، فالفضولي: هو المتصرف للغير بغير إذنه.
وقد اختلف الفقهاء في حكم تصرف الفضولي.
فأما الحنفية: فقد فرقوا بين البيع والشراء، ففي حالة البيع ينعقد تصرف الفضولي صحيحاً موقوفاً، سواء أضاف الفضولي العقد إلى نفسه أم إلى المالك، لأنه لا يمكن نفاذ العقد على العاقد.
وفي حالة الشراء: إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه، مع أنه يريد في نيته الشراء لغيره، كان الشراء له هو نفسه إن صح أن ينفذ عليه؛ لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره.
وأما إن أضاف الشراء لغيره أو لم يجد عقد الشراء نفاذاً على الفضولي بأن كان صبياً أو محجوراً عن التصرف، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة الغير، أو من اشتري له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع إلىه حقوق العقد.
__________
(1) بداية المجتهد: 171/2، الأموال ونظرية العقد: ص 380، أصول البيع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص 134.
(2) بداية المجتهد: 171/2.
[التعليق]
انظر بحث الفضالة في هذا الكتاب:
4/520
* أبو أكرم الحلبي(5/33)
وفي الجملة: إن تصرفات الفضولي جائزة موقوفة على إجازة صاحب الشأن عند الحنفية (1) ، وتصرفات الفضولي مثل بيع المسلم فيه والمغصوب وبيع الوكيل (2) هي من الحالات المستثناة من بيع ما ليس مملوكاً للإنسان.
وقال المالكية: تعتبر تصرفات الفضولي وعقوده بصفة عامة في حالة البيع وحالة الشراء منعقدة موقوفة على إجازة صاحب الشأن. فإن أجازها جازت ونفذت وإلا بطلت؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن أو الوكالة السابقة (3) .
استدل الحنفية والمالكية بآيات البيع التي وردت عامة لم يستثن منها كون العاقد فضولياً، مثل قوله تعالى: {وأحلَّ الله ُ البَيْعَ} [البقرة:275/2] وقوله سبحانه: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلوا أمْوالكُمْ بَينَكُمْ بِالباطِلِ، إلا أنْ تكونَ تِجارَة عَن تَراضٍ مَنكُم} [النساء:29/4] وقوله: {فَإذا قُضيت الصلاة فانتَشِروا في الأرْضِ وابْتَغوا منْ فَضْلِ الله} [الجمعة:10/62] .
__________
(1) البدائع: 148/5-150، فتح القدير مع العناية بهامشه: 309/5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 5/4-6.
(2) يصح بيع المسلم فيه وإن لم يكن مملوكاً للبائع وقت العقد، وأما المغصوب فيصح بيعه من الغاصب ويضمن قيمته، وبيع الوكيل نافذ.
(3) بداية المجتهد، المرجع السابق، حاشية الدسوقي: 12/3، القوانين الفقهية: س 245.(5/34)
والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم يجد فيه فائدته. وقد ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري وغيره: أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري له به شاة فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فقال: «بارك الله لك في صفقة يمينك» . وروى الترمذي وأبو داود عن حكيم بن حزام: أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة يضحيها، فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار جاء به هو الشاة للرسول صلّى الله عليه وسلم، فأثنى عليه، ودعا له بالبركة قائلاً: «بارك الله لك في صفقتك» (1) فالنبي عليه السلام لم يأمر في الحالتين في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع.
وقال الحنابلة (2) : لا يصح تصرف فضولي مطلقاً أي ببيع أو شراء أو غيرهما، ولو أجيز تصرفه بعد وقوعه إلا إن اشترى الفضولي في ذمته، ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح، أو اشترى بنقد حاضر ونوى لشخص لم يسمه، فيصح، ثم إن أجاز الشراء من اشتري له، ملكه من حين الشراء، وإن لم يجزه وقع الشراء للمشتري ولزمه حكمه. وقال ابن رجب: تصرف الفضولي جائز موقوف على الإجازة إذا دعت الحاجة إلى التصرف في مال الغير أو حقه، وتعذر استئذانه إما للجهل بعينه أو لغيبته ومشقة انتظاره.
ونصت المادة (13) من مشروع تقنين الشريعة على مذهب أحمد: «تصرف الفضولي باطل، ولو أجيز بعد، إلا إذا اشترى في ذمته ونوى الشراء لشخص لم يسمه، فيصح البيع» .
__________
(1) انظر سبل السلام: 31/3.
(2) كشاف القناع: 11/2 ومابعدها، القواعد لابن رجب: ص 417، غاية المنتهى: 8/2، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: 18/3.(5/35)
وقال الشافعية والظاهرية: يشترط في المبيع أن يكون مملوكاً لمن له العقد، فبيع الفضولي باطل من أساسه لاينعقد أصلاً فلا تلحقه إجازة صاحب الشأن، ودليلهم مارواه أبو داود والترمذي ـ وقال: إنه حسن ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لابيع إلا فيما تملك» . وصح أيضاً النهي عن بيع ماليس عند الإنسان (1) أي ماليس مملوكاً للبائع، وذلك للغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، ومايترتب عليه من النزاع. وقالوا عن حديث عروة البارقي أو حكيم بن حزام: إنه محمول على أنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنه باع الشاة وسلمها (2) ، فهي وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير فينفذ تصرفه. وأما شراء الفضولي في رأي هؤلاء فيعتبر شراء لنفسه، ويلزمه هو وحده ولاينتقل الملك عنه إلى غيره إلا بعقد جديد كما هو رأي الحنفية.
شروط إجازة تصرف الفضولي:
اشترط الحنفية لإجازة عقد الفضولي شروطاً (3) :
1 - أن يكون للعقد مجيز حالة العقد: أي من كان يستطيع إصدار العقد بنفسه، لأن ما له مجيز متصور منه الإذن بإتمام العقد للحال، وبعد صدور التصرف.
__________
(1) نص الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن حكيم بن حزام، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «لاتبع ماليس عندك» حسنه الترمذي (انظر نصب الراية: 45/4، نيل الأوطار: 155/5) .
(2) مغني المحتاج: 15/2، المجموع للنووي: 281/9، 284 ومابعدها.
(3) البدائع: 149/5-151، فتح القدير: 311/5، الدر المختار ورد المحتار: 142/4.(5/36)
وأما ما لا مجيز له فلا يتصور منه الإذن للحال، والإذن في المستقبل قد يحدث وقد لا يحدث. وعلى هذا: إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ، أو وهب ماله، أو تصدق به، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛ لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن يصدر هذه العقود بنفسه، فيستطيع لهذا أن يجيزها بعد وقوعها، فكان للتصرف مجيز حال العقد. أما لو فعل فضولي شيئاً مما ذكر بالنسبة لصغير، فلا ينعقد العقد؛ لأن الصبي ليس من أهل هذه التصرفات بنفسه، فلم يكن لها مجيز حين العقد، وكذلك ولي الصبي لا قيمة لإجازته؛ لأنه لا يملك هذه التصرفات بنفسه.
2 - أن تكون الإجازة حين وجود البائع، والمشتري، والمالك، والمبيع، فلو حصلت الإجازة بعد هلاك أحد هؤلاء، بطل العقد ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تصرف في العقد، فلا بد من قيام العقد، وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه.
3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن، على ما تبين سابقاً.
فسخ عقد الفضولي وإجازته:
فسخ العقد الصادر من الفضولي كبيع مثلاً: قد يكون من صاحب الشأن المالك للمبيع كما هو واضح، وقد يكون من الفضولي البائع قبل إجازة المالك، حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك، وقد يكون من المشتري ليدفع عن نفسه ما قد يلحقه من ضرر بشرائه من غير صاحب الشأن. أما في عقد الزواج: فليس للفضولي فسخه، لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن (1) .
أما إجازة عقد الفضولي فمقصورة على المالك (مالك المال) أو الغير الذي تعلق له حق بالمبيع، وذلك إذا كان البائع والمشتري والمبيع قائماً، بأن لايتغير المبيع بحيث يعد شيئاً آخر؛ لأن إجازته كالبيع حكماً، وكذا يشترط قيام الثمن إذا كان عرضاً معيناً؛ لأنه مبيع من وجه، فيكون ملكاً للفضولي، فإذا هلك هلك عليه (2) .
__________
(1) البدائع: 151/5، فتح القدير: /309-312.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 146/4 وما بعدها.(5/37)
هل للفضولي الواحد أن يعقد العقد عن الطرفين:
إذا باع الفضولي دار إنسان مثلاً وهما غائبان، وقبل عن المشتري، أو زوج إنساناً من امرأة وقبل عنهما، فلا ينعقد العقد؛ لأن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، كما سبق بيانه، فلا يتوقف الإيجاب على قبول غائب عن المجلس في سائر العقود من نكاح وبيع وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة اتفاقاً.
وعلى هذا: إذا كان الشخص في عقد النكاح فضولياً من الجانبين أو من جانب واحد وكان من الجانب الآخر أصيلاً أو وكيلاً أو ولياً، فلا يتوقف إيجابه، بل يبطل عند أبي حنيفة ومحمد، سواء تكلم بكلام واحد أو بكلامين: أي إيجاب وقبول، كزوجت فلاناً وقبلت عنه. وقال أبو يوسف: يتوقف إيجاب الفضولي على قبول الغائب، كما يتوقف اتفاقاً لو قبل عنه فضولي آخر، فلو زوج فضوليان رجلاً من امرأة بغير علمهما جاز، وتوقف على قبولهما، فإن قبلا نفذ العقد، وإن رفضا لم ينفذ.
دليل الطرفين: أن قبول الفضولي غير معتبر شرعاً؛ لأن الإيجاب لما صدر من الفضولي، وليس له قابل في المجلس، ولو فضولياً آخر، صدر باطلاً، غير متوقف على قبول الغائب، فلا يفيد قبول العاقد بعده.
وبعبارة أخرى: إن الموجود حينئذ هو شطر العقد، ولا يمكن أن يعتبر الشطر الآخر متحققاً إلا بوكالة أو ولاية.
ودليل أبي يوسف: أن عبارة الفضولي تتضمن شطري العقد، فيجوز كما في الولي والوكيل (1) .
توقف تصرف الصبي المميز:
إذا كان الصبي عاقلاً مميزاً: تصح تصرفاته في رأي الحنفية والحنابلة موقوفة على إجازة وليه، ما دام صغيراً أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ إن لم توجد الإجازة من وليه حال صغره. فلو بلغ الصبي قبل إجازة الولي، فأجاز بنفسه جاز (2) ، وقد سبق ذكره، وتعرضت له هنا لصلته بالبيع الموقوف.
ثالثاً ـ شروط صحة البيع:
شروط الصحة قسمان: عامة وخاصة (3) .
فالشروط العامة: هي التي يجب أن تتحقق في كل أنواع البيع لتعتبر
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين: 448/2، الأحوال الشخصية للأستاذ المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: 95/1.
(2) البدائع: 149/5، المغني: /246.
(3) انظر التفصيل في حاشية ابن عابدين: 6/4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء ص 25 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 394 ومابعدها.(5/38)
صحيحة شرعاً. وهي إجمالاً أن يخلو عقد البيع من العيوب الستة، وهي: الجهالة، والإكراه، والتوقيت، والغرر، والضرر، والشروط المفسدة.
الأول ـ الجهالة: يراد بها الجهالة الفاحشة أو التي تفضي إلى نزاع يتعذر حله وهو النزاع الذي تتساوى فيه حجة الطرفين بالاستناد إلى الجهالة، كما لو باع إنسان شاة من قطيع. وهذه الجهالة أربعة أنواع:
1 - جهالة المبيع جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري.
2 - جهالة الثمن كذلك: فلا يصح بيع الشيء بثمن مثله، أو بما سيستقر عليه السعر.
3 - جهالة الآجال، كما في الثمن المؤجل، أو في خيار الشرط، فيجب أن تكون المدة معلومة وإلا فسد العقد. ويلاحظ أن الذي يجوز تأجيله لأجل معلوم في عقد البيع هو الثمن أو المبيع إذا كان كل منها ديناً ثابتاً في الذمة، فإن كان الثمن أو المبيع عيناً، فلا يجوز تأجيله باتفاق العلماء، فلو باع شخص سلعة معينة على أن يسلمها بعد شهر، أو اشترى شخص بثمن عين (أي ذات معينة غير دين) على أن يدفع الثمن بعد شهر، فالبيع فاسد، ولو كان الأجل معلوماً؛ لأن الأجل شرع ترفيها ليتمكن العاقد من الحصول على العوض أثناءه، وهذا أمر يليق بالديون لأنها ليست معينة في البيع، ولا يليق بالأعيان المعينة لأن العين معين حاضر، فيكون تأخير تسليمه ملحقاً ضرراً من غير فائدة أو تحصيلاً لحاصل (1) .
__________
(1) راجع فتح القدير: 219/5، المجموع: 373/9، بداية المجتهد: 155/2.(5/39)
4 - الجهالة في وسائل التوثيق، كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل، فيجب أن يكونا معينين وإلا فسد العقد.
الثاني ـ الإكراه: هو حمل المستكره على أمر يفعله وهو نوعان:
1 - إكراه ملجئ أو تام: وهو الذي يجد المستكره نفسه مضطراً به لفعل الأمر المكره عليه، وذلك كالتهديد بالقتل أو الضرب الذي يخشى منه ضياع عضو.
2 - إكراه غير ملجئ أو ناقص: كالتهديد بالحبس أو الضرب أو إيقاع الظلم به كمنع ترقيته في وظيفته أو إنزاله درجة.
والإكراه بنوعيه يؤثر في البيع، فيجعله فاسداً عند جمهور الحنفية وموقوفاً عند زفر. فيملك المشتري المبيع بالقبض إذا اعتبر فاسداً، ولا يملكه مطلقاً بالقبض إذا اعتبر موقوفاً، والأرجح اعتبار عقد المكره موقوفاً، لأنه باتفاق الحنفية إذا أجازه المستكره بعد زوال الإكراه يجوز ويلزم في حقه، وهذا هو حكم العقد الموقوف لا الفاسد (1) .
الثالث ـ التوقيت: هو أن يوقت البيع بمدة كما لو قال: بعتك هذا الثوب شهراً أو سنة، فيكون البيع فاسداً، لأن ملكية العين لاتقبل التأقيت.
الرابع ـ الغرر: المراد به غرر الوصف، كما لو باع بقرة على أنها تحلب كذا رطلاً، لأنه موهوم التحقق فقد ينقص.
أما لو باعها على أنها حلوب دون تحديد مقدار، فإنه شرط صحيح. وأما غرر الوجود فهو مبطل للبيع لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (2) : وهو ماكان المبيع فيه محتملا ً للوجود والعدم، كبيع نتاج النتاج، وبيع الحمل الموجود.
__________
(1) انظر البدائع: 188/7، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: 364/1 في الحاشية ف 185.
(2) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (انظر جامع الأصول: 441/1، مجمع الزوائد: 80/4) .(5/40)
الخامس ـ الضرر: يراد به ما إذا كان تسليم المبيع لا يمكن إلا بإدخال ضرر على البائع، فيما سوى المبيع من ماله، كما لو باع جذعاً معيناً في سقف مبني، أو ذراعاً من ثوب يضره التبعيض، فإن التنفيذ يقضي بهدم ما حول الجذع وتعطيل الثوب.
وبما أن الفساد هنا لصيانة حق شخصي، لا لحق الشرع، قرر الفقهاء أن البائع لو نفذ الضرر على نفسه، بأن قلع الجذع أو قطع الثوب وسلمه إلى المشتري، انقلب البيع صحيحاً.
السادس ـ الشرط المفسد: هو كل شرط فيه نفع لأحد المتبايعين، إذا لم يكن قد ورد به الشرع، أو جرى به العرف، أو يقتضيه العقد، أو يلائم مقتضاه، مثل أن يبيع سيارة على أن يستخدمها شهراً بعد البيع، أو داراً على أن يظل مقيماً بها مدة معينة، أو أن يشترط المشتري على البائع في صلب العقد أن يقرضه مبلغاً من المال.
والشرط الفاسد إذا وجد في عقد من عقود المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة مثلاً أفسده، ولكنه يكون لغواً في العقود الأخرى، مثل التبرعات والتوثيقات والزواج، وتكون هذه العقود حينئذ صحيحة (1) .
وقد علق الأستاذ مصطفى الزرقاء على ذلك، فقال: وبما أن عرف الناس مصحح للشروط في نظر الفقهاء، فكل شرط فاسد في الأصل ينقلب صحيحاً ملزماً إذا تعارفه الناس، وشاع بينهم اشتراطه. وعندئذ يمكن القول: بأن الشرط الفاسد قد زال فقهياً من معاملات الناس بمفعول الزمن، وأصبحت الشروط في هذا العصر كلها صحيحة بمقتضى قواعد الاجتهاد الحنفي نفسه (2) .
__________
(1) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا المرحوم محمد يوسف موسى: ص 423.
(2) عقد البيع: ص 28.(5/41)
وأما الشروط الخاصة: فهي التي تخص بعض أنواع البيع دون بعض وهي كما يأتي:
1 - القبض في بيع المنقولات: أي أنه إذا باع شخص شيئاً من المنقولات التي كان قد اشتراها، فيشترط لصحة بيعه: أن يكون قد قبضها من بائعها الأول، لأن المنقول يكثر هلاكه، فيكون في بيعه ثانية قبل قبضه غرر، أما إذا كان عقاراً فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف كما سيأتي.
2 - معرفة الثمن الأول في بيوع الأمانة، أي إذا كان البيع مرابحة أو تولية أو وضيعة أو إشراكاً. وسيأتي تفسيرها.
3 - التقابض في البدلين قبل الافتراق إذا كان البيع صرفاً.
4 - توافر شروط السلم التي سيأتي ذكرها إذا كان البيع سلماً.
5 - المماثلة في البدلين إذا كان المال ربوياً والخلو عن شبهة الربا.
6 - القبض في الديون الثابتة في الذمة، كالمسلم فيه، ورأس مال السلم، وبيع شيء بدين على غير البائع، فلا يصح بيعها من غير من عليه الدين إلا بعد قبضها. مثاله: لا يصح لرب السلَم أي (المشتري) أن يبيع المال المسلم فيه قبل قبضه من المسلم إلىه (البائع) ، ولا يصح للدائن أن يشتري بدينه شيئاً من غير المدين قبل قبضه.
رابعاً ـ شروط لزوم البيع:
شرائط اللزوم تأتي بعد شرائط الانعقاد والنفاذ، فيشترط للزوم البيع: خلوه من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخ العقد: مثل خيار الشرط والوصف والنقد والتعيين، والرؤية، والعيب، والغبن مع التغرير. فإذا وجد في البيع شيء من هذه الخيارات منع لزومه في حق من له الخيار، فكان له أن يفسخ البيع أو أن يقبله، إلا إذا حدث ما نع من ذلك، كما سيأتي في مباحث الخيارات (1) .
ويلاحظ أن الانعقاد يقابله البطلان، والصحة يقابلها الفساد، والنفاذ يقابله التوقف، واللزوم يقابله عدم اللزوم أي التخيير.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 6/4، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 32.(5/42)
خلاصة أنواع شروط البيع في المذاهب وبيان الاتفاق والاختلاف فيها:
اختلف الفقهاء في أنواع شروط البيع، فهي عند الحنفية ثلاثة وعشرون شرطاً، وفي مذهب المالكية أحد عشر شرطاً، ولدى الشافعية اثنان وعشرون شرطاً، وفي رأي الحنابلة أحد عشر شرطاً.
الشروط في مذهب الحنفية:
شروط البيع عند الحنفية أربعة أقسام: شروط الانعقاد، وشروط الصحة، وشروط النفاذ، وشروط اللزوم، وجملتها ثلاثة وعشرون شرطاً (1) .
أما شروط الانعقاد، فهي أربعة أنواع:
النوع الأول ـ شروط العاقد: يشترط في العاقد، سواء أكان بائعاً أم مشترياً شرطان هما:
1ً - أن يكون عاقلاً أو مميزاً: فلا ينعقد بيع المجنون ولا شراؤه، ومثله الصغير غير المميز.
2ً - أن يكون متعدداً: فلا ينعقد البيع بشخص واحد، بل يلزم أن يكون الإيجاب من شخص، والقبول من شخص آخر، إلا الأب ووصيه والقاضي والرسول من الجانبين، يكون كل منهم بائعاً ومشترياً بنفسه.
النوع الثاني ـ شروط الصيغة: يشترط في صيغة العقد من الإيجاب والقبول ثلاثة شروط هي:
1ً - سماع الصيغة: فلا ينعقد البيع إلا إذا سمع كل واحد من العاقدين كلام صاحبه.
2ً - توافق الإيجاب والقبول: بأن يقبل المشتري كل ما أوجبه البائع وبما أوجبه من الثمن، فإذا اختلف القبول مع الإيجاب، لا ينعقد البيع، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير، بأن يقبل المشتري زيادة عن الثمن الموجب به.
3ً - اتحاد مجلس العقد: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، دون فاصل، فإن اختلف المجلس لا ينعقد البيع، وإن تخلل انقطاع أجنبي عن العقد بأن يقوم أحدهما عن المجلس قبل القبول، أو يشتغل بعمل آخر، لم ينعقد البيع. واعتبر المجلس الواحد جمعاً للمتفرقات بحسب التعاقد وعادة الناس. ولا يشترط الفور في القبول؛ لأن القابل يحتاج إلى التأمل.
__________
(1) البدائع: 135/5-148، 155.(5/43)
وفي التعاقد بين غائبين بطريق المراسلة يعتبر مجلس بلوغ الرسالة من العاقد الأول إلى الثاني هو مجلس التعاقد.
النوع الثالث ـ شروط المعقود عليه: يشترط في المعقود عليه خمسة شروط هي:
1ً - أن يكون المبيع مالاً: وهو ما يمكن الانتفاع به في العادة، فلا ينعقد بيع الميتة وبيع اليسير من المال كحبة حنطة؛ لأنه ليس بمال.
2ً - أن يكون متقوماً: وهو ما يباح الانتفاع به شرعاً، فلا ينعقد بيع الخمر والخنزير؛ إذ لا يباح الانتفاع بهما شرعاً. وقد جمعت هذين الشرطين سابقاً في شرط واحد.
3ً - أن يكون محرزاً، أي مملوكاً في نفسه: وهو ما دخل تحت حيازة ملك خاص، فلا ينعقد بيع ما ليس بمملوك لأحد من الناس، كالعشب المباح ولو في أرض مملوكة.
4ً - أن يكون المعقود عليه موجوداً حين التعاقد: فلا ينعقد بيع المعدوم كنتاج النتاج (ولد الولد) ، ولا ماله خطر العدم واحتمال الوجود كالحمل في البطن، واللبن في الضرع.
5ً - أن يكون مقدور التسليم حين العقد: فلا ينعقد بيع السمك في الماء والطير في الهواء.
النوع الرابع ـ شرط البدل:
وهو شرط واحد وهو أن يكون مالاً متقوماً قائماً، فلا ينعقد البيع بثمن لا يعد مالاً متقوماً كالخمر والخنزير.
وأما شروط الصحة: فهي قسمان: عامة وخاصة.
أما العامة: فهي المتعلقة بكل أنواع البيع، وهي جميع شروط الانعقاد المذكورة آنفاً؛ لأن كل عقد لا ينعقد، فلا يصح أيضاً، ويزاد عليها شروط أربعة هي:
1ً - أن يكون المبيع معلوماً والثمن معلوماً علماً يمنع من المنازعة: فلا يصح بيع المجهول كشاة من قطيع غنم، ولا أن يبيع شيئاً بثمن مجهول غير معين، كأن يبيع شيئاً بقيمته، أو بما في يده أو جيبه.
2ً - ألا يكون البيع مؤقتاً: فإن أقته بوقت لا يصح؛ لأن مقتضى البيع هو إفادة نقل الملكية في البدلين (المبيع والثمن) أبدياً على الدوام.
3ً - أن يكون للبيع فائدة: فلا يصح بيع درهم بدرهم مساوٍ له.(5/44)
4ً - أن يخلو عن الشرط المفسد: وهو كل شرط فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين، إذ لم يرد به الشرع، ولم يجز به العرف، ولا يلائم مقتضى العقد، كاشتراط أن تكون الدابة حاملاً، أو أن ينتفع بالمبيع مدة بعد البيع، أو أن يقرض المشتري البائع مبلغاً من المال.
وأما الشروط الخاصة ببعض أنواع البيوع فهي خمسة:
1ً - القبض في بيع المنقول والعقار الذي يخشى هلاكه: فإن اشترى شخص شيئاً، لم يصح بيعه لآخر قبل قبضه للنهي عن بيع مالم يقبض. أما العقار الذي لا يخشى هلاكه، فيجوز بيعه قبل القبض في رأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف.
2ً - أن يكون الثمن الأول معلوماً في بيوع الأمانة: وهي بيع المرابحة والتولية والوضيعة.
3ً - التقابض والتساوي في البدلين المتحدي الجنس وكانا مما يكال أو يوزن، وهذا شرط في بيع الأموال الربوية.
4ً - توافر شروط السلم الخاصة به مثل قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد.
5ً - ألا يكون أحد البدلين دَيْناً في بيع الدين إلى غير المدين.
وأما شروط النفاذ: فهي اثنان:
1ً - أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، أو له عليه ولاية: فلا ينفذ بيع غير المملوك للبائع وهو بيع ملك الغير أو بيع الفضولي، إلا في عقد السلم، فإنه يصح بيع ما سيملكه بعد العقد.
2ً - ألا يكون في المبيع حق لغير البائع: فلا ينفذ بيع المرهون والمأجور؛ لأنه وإن كان مملوكاً له، ولكن للغير حق فيه.
وأما ما يشترط في لزوم العقد؛ فهو شرط واحد:
وهو خلو البيع من الخيار، فلا يلزم البيع المشتمل على الخيار، ويجوز فسخه.
شروط البيع في مذهب المالكية:
اشترط المالكية شروطاً في العاقد وفي الصيغة وفي المعقود عليه، وجملتها أحد عشر شرطاً (1) .
أما شروط العاقد بائعاً أو مشترياً فهي ثلاثة، يزاد عليها رابع في البائع:
1ً - أن يكون كل من البائع والمشتري مميزاً: فلا ينعقد بيع الصبي غير
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 245 وما بعدها، بداية المجتهد: 125/2-127، 168-171.(5/45)
المميز، والمجنون والمغمى عليه والسكران. أما بيع المميز فلا يلزم وإن كان صحيحاً إلا إذا كان وكيلاً عن مكلف، فإن بيعه يلزم.
2ً - أن يكون كلاهما مالكين، أو وكيلين لمالكين، أو ناظرين عليهما: فينعقد بيع الفضولي: وهوالشراء لأحد بغير إذنه أو البيع عليه بغير إذنه، ويتوقف على إذن المالك.
3ً - أن يكونا طائعين: فبيع المكره وشراؤه باطلان. والمعتمد لدى المالكية أن بيع المكره غير لازم.
4ً - أن يكون البائع رشيداً: فلا ينفذ بيع السفيه والمحجور، وشراؤه موقوف على إجازة وليه.
ولا يشترط الإسلام في العاقد إلا في شراء العبد المسلم، وفي شراء المصحف، لكن يكون البيع صحيحاً نافذاً، ويجبر المشتري الكافر على إخراج المبيع من ملكه؛ لأن في تملكه العبد المسلم أو المصحف إهانة، ويصح بيع الأعمى وشراؤه.
وأما شروط الصيغة فهي اثنان:
1ً - أن يتحد المجلس: بأن يكون القبول مع الإيجاب في مجلس واحد: فلو قال البائع للمشتري: بعتك الكتاب بكذا، فلم يجبه، ثم تفرقا عن المجلس، لم ينعقد البيع.
2ً - ألا يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً: فإن وجد فاصل يدل على الإعراض عرفاً، لم ينعقد البيع.
وأما شروط الثمن والمثمن فهي خمسة:
1ً - أن يكون غير منهي عنه شرعاً: فلا ينعقد بيع الميتة والدم وما لم يقبض.
2ً - أن يكون طاهراً: فلا يجوز بيع النجس كالخمر والخنزير، والمشهور منع بيع العاج والزبل والزيت النجس مطلقاً. وأجاز ابن وهب ذلك البيع، فمن رأى أن عاج الفيل ناب جعله كالميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن.
3ً - أن يكون منتفعاً به شرعاً: فلا يجوز بيع ما لا منفعة فيه كالكلاب والخشاش (الحشرات) وآلات اللهو، واختلف المالكية في بيع الكلاب للصيد وحراسة الغنم على رأيين.
4ً - أن يكون معلوماً للعاقدين: فلا يجوز بيع المجهول.(5/46)
5ً - أن يكون مقدوراً على تسليمه: فلا ينعقد بيع معجوز التسليم كالسمك في الماء.
شروط البيع في مذهب الشافعية:
اشترط الشافعية اثنين وعشرين شرطاً وهي إما في العاقد، وإما في الصيغة، وإما في المعقود عليه (1) .
أما شروط العاقد فهي أربعة:
1ً - الرشد: وهو أن يكون بالغاً عاقلاً، مصلحاً لدينه وماله: فلا ينعقد بيع صبي وإن قصد اختباره، ولا من مجنون، ولا من محجور عليه بسفه. لكن لو تعاقد الصبي وأتلف عنده ما ابتاع أو ما اقترض من رشيد، وأقبضه له، لم يضمن؛ لأن المُقبض أو المُسلِّم هو المضيع لماله، هذا في الظاهر، أما في الباطن، فيغرم بعد البلوغ، كما نص عليه الشافعي في الأم في باب الإقرار. أما إن تسلم المبيع من صبي مثله، ولم يأذن الوليان لهما، ضمن كل منهما ما قبض من الآخر. فإن كان التسليم بإذن الوليين، فالضمان عليهما فقط، لوجود التسليط منهما.
وعلى البائع للصبي رد الثمن إلى وليه، فلو رده إلى الصبي، ولو بإذن الولي، وهو ملك الصبي، لم يبرأ منه. وإن رده للولي برئ منه. هذا أي عدم البراءة ما إذا لم يكن المبيع في مصلحة تتعلق ببدن الصبي من مأكل أو مشرب ونحوهما، وإلا برئ.
2ً - عدم الإكراه بغير حق: فلا يصح عقد مكره في ماله بغير حق، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] .
ولا أثر لقول المكره بغير حق إلا في الصلاة، فتبطل به في الأصح، ولا لفعله إلا في الرضاع والحدث والتحول عن القبلة وترك القيام في الفريضة مع القدرة، وكذا القتل ونحوه في الأصح.
أما الإكراه بحق: فيصح، إقامة لرضا الشرع مقام رضاه، كمن توجه عليه دين، وامتنع من الوفاء والبيع، فإن شاء القاضي، باع ماله بغير إذنه، لوفاء دينه، وإن شاء عزره وحبسه إلى أن يبيعه.
__________
(1) مغني المحتاج: 5/2-16، تحفة الطلاب: ص 141-145.(5/47)
3ً - إسلام من يشترى له مصحف ونحوه من كتب حديث وآثار سلف وكتب فقه فيها شيء من القرآن والحديث وآثار السلف، لما في ذلك من الإهانة لها: فلايصح شراء الكافر المصحف ونحوه مما ذكر، ولا شراء الكافر العبد المسلم في الأظهر، لما فيه من إذلال المسلم، ولقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء:141/4] .
4ً - ألا يكون المشتري حربياً محارباً في بيع آلات الحرب كسيف ورمح ونحوهما، لتقوي الحربيين بهما على المسلمين، واستعانتهم بذلك على قتالنا. أما غير عُدَّة الحرب، ولو مما يصنع منه كالحديد، فيجوز بيعه للحربي؛ إذ لا يتعين جعله عدة حرب. والذمي في دار الحرب كالحربي.
وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة عشر:
1ً - الخطاب: بأن يخاطب كل من العاقدين صاحبه، كأن يقول له: بعتك كذا، فلو قال: بعت لزيد، فلا يصح.
2ً - أن يقع الخطاب على جملة المخاطب: كأن يقول له: بعتك، أما لو قال له: بعت يدك أو رأسك مثلاً، فلا يصح.
3ً - أن يكون القبول ممن صدر معه الخطاب: فلو وجه الإيجاب، فقبل عنه آخر ليس وكيلاً عنه، فلا يصح البيع. ولو مات المخاطب به قبل قبوله، فقبل وارثه، لم ينعقد البيع، وكذا لو قبل وكيله أو موكله.
4ً - أن يذكر البادئ بالكلام الثمن والمثمن: كأن يقول: بعتك هذا الشيء بكذا، أو اشتريت منك هذا الشيء بكذا.
5ً - أن يقصد كلا العاقدين معنى اللفظ الذي ينطق به: فإذا جرى على لسانه لفظ الإيجاب أو القبول، أو كان هازلاً، دون أن يقصد التمليك والتملك، لا يصح البيع.
6ً - أن يصر البادئ على ما أتى به من الإيجاب إلى القبول، وأن تستمر أهلية العاقدين إلى تمام القبول: فلو قال: بعتك، ثم جن أو أغمي عليه قبل قبول الآخر، بطل العقد. ولو أوجب بمؤجل أو شرط الخيار، ثم أسقط الأجل أو الخيار، لم يصح العقد، لضعف الإيجاب وحده، في الحالتين.(5/48)
7ً - ألا يطول الفصل بين لفظي الإيجاب والقبول، ولو بكتابة أو إشارة أخرس بسكوت طويل. والفاصل الطويل: هو ما أشعر بإعراضه عن القبول. أما الفصل اليسير بالسكوت فلا يضر، لعدم إشعاره بالإعراض عن القبول.
8ً - ألا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي عن العقد، ولو يسيراً، فيضر الفصل اليسير بالكلام الأجنبي؛ وإن لم يتفرقا عن المجلس؛ لأن فيه إعراضاً عن القبول، بخلاف السكوت اليسير، وبخلاف يسير الكلام الأجنبي في الخلع؛ لأن فيه من جانب الزوج شائبة التعليق، ومن جانب الزوجة شائبة جعالة، وكل منهما موسع فيه محتمل للجهالة، بخلاف البيع.
9ً - ألا يغير الموجب كلامه قبل قبول الآخر: فإذا قال: بعتك بخمسة، ثم قال: بعشرة، قبل أن يقبل الآخر، لم يصح العقد.
10ً - سماع الصيغة: بأن يسمع كل عاقد ومن بقربه من الحاضرين كلام الآخر، فإن لم يسمعه من كان قريباً لم ينعقد العقد.
11ً - أن يتوافق الإيجاب والقبول تماماً: فلو اختلفا، لم يصح العقد.
12ً - ألا يعلق الصيغة بشيء لا يقتضيه العقد: مثل إن جاء فلان فقد بعتك كذا، أو بعتك هذه الدار إن شاء فلان أو إن شاء الله؛ لأن البيع يقتضي التنجيز. أما إن علق بما يقتضيه العقد، كقوله: بعتك هذا بكذا إن شئت، فقال: اشتريت، صح العقد؛ لأن هذا التعليق لا ينافي العقد، وهو تصريح بمقتضى العقد.
13ً - ألا يكون العقد مؤقتاً: فلو قال: بعتك الدار بألف شهراً مثلاً، لم يصح؛ لأن البيع يقتضي التأبيد.
وأما شروط المعقود عليه فهي خمسة:
1ً - أن يكون المعقود عليه طاهراً: فلا يصح بيع الكلب والخمر، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل واللبن والدبس وكذا الدهن في الأصح.(5/49)
2ً - أن يكون منتفعاً به شرعاً: فلا يصح بيع الحشرات التي لا نفع فيها، ولا يصح بيع كل سبع أو طير لا ينفع كالأسد والذئب والحدأة والغراب غير المأكول. ولا يصح بيع آلة اللهو كالطنبور والصنج والمزمار والعود والأصنام والصور وإن اتخذت من نقد، للحرمة، ولأنه لا نفع بها شرعاً. ولا يصح بيع حبتي حنطة ونحوها، لعدم المالية. ويمكن أن يشمل هذين الشرطين كون المعقود عليه غير منهي عنه شرعاً. ويصح بيع الماء المحرز على الشط، والحجر عند الجبل والتراب بالصحراء ممن حازها، في الأصح، لظهور المنفعة فيها.
3ً - أن يكون مقدور التسليم: فلا يصح بيع الطير في الهواء ولا السمك في الماء، ولا بيع الضالّ والآبق والمغصوب، لكن إن باعه لقادر على انتزاعه من الغاصب، أو باع الآبق لقادر على رده، صح على الصحيح، نظراً إلى وصوله إليهما، إلا إن احتاج إلى مؤنة، فالظاهر البطلان.
4ً - أن يكون مملوكاً للعاقد أو له عليه ولاية: فبيع الفضولي (وهو البائع مال غيره بغير إذنه ولا ولاية له) باطل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا بيع إلا فيما تملك» (1) .
5ً - أن يكون معلوماً للعاقدين عيناً وقدراً وصفة: فبيع أحد الثوبين ونحوهما باطل للغرر أو الجهالة. ويصح بيع صاع من صُبرة (وهي الكومة من الطعام) لتساوي أجزائهما، وتغتفر جهالة المبيع هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم، لتعذر الإشاعة. أما بيع شيء من أشياء متفاوتة الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه، فلا يصح، لتفاوت الأجزاء.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، وقال: إنه حسن.(5/50)
شروط البيع في مذهب الحنابلة:
اشترط الحنابلة أحد عشر شرطاً في البيع: إما في العاقد، وإما في الصيغة، وإما في المعقود عليه (1) .
أما شروط العاقد؛ فهي اثنان:
1ً - الرشد إلا في يسير: فلا يصح بيع الصبي والمجنون والسكران والسفيه، لكن إذا أذن الولي لمميز وسفيه لمصلحة، صح العقد، ويحرم الإذن لهما بلا مصلحة، لما فيه من الإضاعة.
ولا يصح من المميز والسفيه قبول هبة ووصية وبيع ونحوها بلا إذن ولي لهما.
ويصح تصرف صغير ولو دون سن التمييز في الأمر اليسير، لما روي «أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله» (2) . ويصح تصرف سفيه في شيء يسير كباقة بقل وكبريت ونحوها؛ لأن الحكمة في الحجر خوف ضياع المال، وهو مفقود في اليسير.
ويصح توكيل مميز في إرسال هدية ودخول دار، عملاً بالعرف.
2ً - التراضي من المتبايعين والاختيار أو عدم الإكراه إلا بحق: وهو أن يأتي العاقد بالبيع اختياراً، لقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] ولحديث «إنما البيع عن تراض» (3) . فبيع التلجئة أو الأمانة: بأن يظهر العاقدان بيعاً لم يريداه باطناً، بل أظهراه خوفاً من ظالم ونحوه: باطل. وكذا بيع الهازل باطل؛ لأنه لم ترد حقيقته.
ويصح البيع في حالة الإكراه بحق كالذي يكره الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، أو على شراء ما يوفي ما عليه من دين؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح. فأمثلة المكره بحق: راهن ومحتكر ومدين وممتنع.
ويكره الشراء من المضطر: وهو الذي يبيع ماله بأقل من ثمن مثله.
وأما شروط الصيغة فهي ثلاثة:
1ً - اتحاد المجلس: بأن يكون القبول في مجلس الإيجاب، فإذا قال البائع: بعتك، ثم تفرقا قبل القبول من المجلس، لم ينعقد البيع.
2ً - ألا يكون بين القبول والإيجاب فاصل يدل على الإعراض عن البيع عرفاً.
3ً - ألا يكون العقد مؤقتاً ولا معلقاً بغير مشيئة الله: مثل بعتك سنة أو بعت أو اشتريت إن رضي فلان.
وأما شروط المعقود عليه مبيعاً أو ثمناً فهي ستة شروط وهي:
__________
(1) غاية المنتهى: 5/2-14، كشاف القناع: 139/3-166.
(2) ذكره ابن أبي موسى.
(3) رواه ابن حبان، وقد سبق تخريجه مفصلاً.(5/51)
1ً - أن يكون مالاً: وهو ما يباح الانتفاع به شرعاً مطلقاً في غير حاجة ولا ضرورة؛ لأن البيع مبادلة مال بمال، فلا يصح بيع ما لا نفع فيه أصلاً
كالحشرات، وما فيه منفعة محرَّمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة حال الاضطرار أو المخمصة، والخمر لدفع لقمة غص بها.
ويصح بيع جلد ميتة دبغ وكان اقتناؤه بلا حاجة، ويجوز بيع بغل وحمار ودود قز ونحل منفرداً بشرط كونه مقدوراً عليه، أو مع كوَّارته إذا شوهد داخلاً فيها؛ لأن فيه منافع للناس، ويصح بيع ما يصاد عليه من الطيور، وديدان لصيد سمك، وسباع بهائم وجوارح طير للاصطياد، لا لغيره، ويصح بيع علق لمص دم.
ويصح بيع طير لقصد صوته كبلبل وهزار؛ لأن فيه نفعاً مباحاً، وكذا يصح بيع ببغاء وهي الدُّرة ونحوها كقُمري.
ويجوز إهداء الكلب المباح والإثابة عليه، لا على وجه البيع.
ولا يجوز بيع سموم قاتلة كسم الأفاعي، لخلوها من نفع مباح، وكذا لايجوز بيع سم الحشائش والنبات، إلا ما ينتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا ونحوها.
ويحرم بيع المصحف لمسلم أو لكافر، لأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له وترك لتعظيمه، ولأن الكافر يمنع من استدامة ملك المصحف، فيمنع من ابتدائه.(5/52)
ولا يصح بيع آلة لهو كمزمار وطنبور ونرد وشطرنج، ولا بيع حشرات كخنافس وفأر وحيات وعقارب وصراصر ونحوها، ولا بيع ميتة ولو لمضطر ولا بيع دم وخنزير وصنم. ولا يصح بيع سرجين نجس (زبل) ، ولا بيع أدهان نجسة العين من شحوم الميتة وغيرها، لحديث البخاري ومسلم: «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ولا يحل الانتفاع بالأدهان النجسة باستصباح ولا غيره، فقد حرمه النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر المتفق عليه. ولا يصح بيع أدهان متنجسة كزيت لاقى نجاسة، ولو لكافر للحديث السابق: «إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» ويجوز الاستصباح في الأدهان المتنجسة في غير مسجد؛ لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر.
ولا يصح بيع الحر، لحديث البخاري ومسلم: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومنهم: ورجل باع حراً وأكل ثمنه» . ولا يصح بيع ما ليس بمملوك من المباحات من نحو كلأ وماء ومعدن قبل حيازتها وتملكها، لفقد الشرط الآتي:
2ً - أن يكون المبيع مملوكاً لبائعه ملكاً تاماً، لقوله صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» (1) ، فلا يصح تصرف فضولي مطلقاً ولو أجيز بعد.
ولا يصح بيع ما لا يملكه الإنسان كحر ومباح قبل حيازته، ولا بيع أرض موقوفة مما فتح عنوة ولم تقسم كمصر والشام، ويصح بيع إمام لها لمصلحة كوقفه وإقطاعه تمليكاً، أو غير إمام وحكم به من يرى صحته. ولا يصح بيع ولا إجارة رباع مكة والحرم: وهي المنازل، وكذا بقاع المناسك كالمسعى والمرمى والموقف ونحوها، لأنها كالمساجد لعموم نفعها، ولأن مكة فتحت عنوة. ولا يصح بيع ما ليس مملوكاً ملكاً تاماً كالمبيع وقت الخيار.
3ً - أن يكون المبيع مقدوراً على تسليمه حال العقد: لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، والمعدوم لا يصح بيعه، فكذا ما أشبهه.
__________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه(5/53)
فلا يصح بيع نصف معين من نحو إناء وسيف وحيوان، ودين لغير مدين، ولا آبق وشارد ولو لقادر على تحصيلهما. لحديث «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن شراء العبد وهو آبق» (1) ولا يصح بيع سمك بماء إلا مرئياً بمحجوز يسهل أخذه منه، ولا يصح بيع طائر يصعب أخذه، أو في الهواء وألف الرجوع إلا في مكان مغلق؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه أو قادر على أخذه، وله الفسخ إن عجز.
4ً - أن يكون المبيع معلوماً للبائع والمشتري برؤية تحصل بها معرفته، عند العقد أو قبله بزمن لا يتغير فيه المبيع يقيناً أو ظاهراً.
ويصح بيع الأعمى وشراؤه بما يمكنه معرفة ما يبيعه أو يشتريه بغير حاسة البصر كشم ولمس وذوق، لحصول العلم بحقيقة المبيع. ويصح بيع قفيز من صُبرة (كومة طعام وغيره) .
ولا يصح بيع الأُنموذج: وهو ما يدل على صفة الشيء، كأن يريه صاعاً مثلاً من صبرة، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه، لعدم رؤية المبيع وقت العقد.
ولا يصح بيع حَمْل ببطن وهو بيع المضامين، ولا بيع لبن بضرع، ونوى بتمر، وصوف على ظهر إلا تبعاً، كبعتك هذه البهيمة وحملها، أو بعتك الأرض وما فيها من بذر.
ولا يصح بيع عَسْب فحل، أو نتاج نتاج، أو ما تحمل هذه الشجرة أو الدابة، ولا مسك في فأرته (صوانه) ، ولفت وبصل ونحوه قبل قلعه، ولا ثوب مطوي، أو نسج بعضه على أن ينسج بقيته.
ولا يصح بيع الملامسة، مثل بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته أو إن لمسته أو أي ثوب لمسته، فعليك بكذا.
ولا يصح بيع المنابذة، مثل متى أو إن نبذت هذا أو أي ثوب نبذته فلك بكذا.
ولا يصح بيع الحصاة مثل: ارمها فعلى أي ثوب تقع، فلك بكذا.
ولا يصح بيع ما لم يعين أي بيع المجهول، كشاة من قطيع، وشجرة من بستان، ولو تساوت قيمتها.
__________
(1) رواه أحمد عن أبي سعيد.(5/54)
5ً - أن يكون الثمن معروفاً للعاقدين حال العقد أو قبله: فلا يصح بيع برقم مجهول، ولا بما باع زيد إلا إن علم به العاقدان، ولا بما ينقطع به السعر، خلافاً للمتأخرين من الحنابلة، ولا كما يبيع الناس.
6ً - خلو الثمن والمثمن والمتعاقدين عن موانع الصحة كالربا، أو الاشتراط أو غيرهما: فلا يصح بيع أضحية وهدي واجبين إلا بخير منهما، ولا يصح بيع موقوف بلا مسوغ، ولا بيع مرهون بلا إذن مرتهن، ولا يصح بيع ماء وسترة لمصل عادم غيرهما، ولا بيع مصحف، ولا بعد نداء جمعة.
أوجه الاتفاق والاختلاف في شروط البيع:
يظهر مما تقدم بيانه ما يلي:
1ً - في العاقد: التمييز شرط متفق عليه، وأما البلوغ فهو شرط مختلف فيه، فهو شرط نفاذ عند المالكية والحنفية، وشرط انعقاد عند الشافعية والحنابلة.
وأما الاختيار أو الطواعية فهو شرط انعقاد عند الجمهور، وشرط نفاذ عند الحنفية، فبيع المكره باطل عند الجمهور، فاسد أو موقوف غير نافذ عند الحنفية، غير لازم في المعتمد عند المالكية. 2ً - في الصيغة: اتحاد المجلس دون فاصل بين القبول والإيجاب، وتطابق الإيجاب والقبول، وسماع الصيغة والتنجير أو عدم التعليق، وعدم التأقيت، كلها شروط متفق عليها، وإن ذكر بعضها بعض الفقهاء دون غيرهم.
3ً - في المعقود عليه: كون المعقود عليه مالاً متقوماً يباح الانتفاع به شرعاً أو طاهراً غير نجس، موجوداً، مقدور التسليم، معلوماً غير مجهول، كلها شروط متفق عليها؛ إلاأن الجهالة تفسد البيع عند الحنفية، وتبطله عند الجمهور. أما كون المبيع مملوكاً للبائع فهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية، وشرط انعقاد عند الشافعية والحنابلة، فبيع الفضولي وشراؤه موقوف عند الأولين، باطل عند الآخرين.
وأما شرط ألا يتعلق بالمبيع حق لغير البائع كبيع المرهون والمأجور، فهو شرط نفاذ عند الحنفية والمالكية. وشرط انعقاد عند الحنابلة والشافعية، فبيع المرهون والمأجور موقوف على الرأي الأول، باطل على الرأي الثاني.(5/55)
المبحث الثالث - حكم البيع والكلام عن المبيع والثمن:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول - حكم العقد:
حكم العقد: هو الغرض والغاية منه، ففي عقد البيع: يكون الحكم هو ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم هو ملك منفعة العين المستأجرة للمستأجر، وملك المؤجر للأجرة (1) .
وللحكم إطلاقات ثلاثة:
1 - إما أن يراد به الحكم التكليفي: وهو إما الوجوب أو الندب أو الإباحة أو التحريم أو الكراهية، فيقال: حكم الصوم الوجوب، وحكم السرقة التحريم وهكذا.
2 - أو يراد به الوصف الشرعي للفعل من حيث الصحة واللزوم وعدم اللزوم مثلاً، فيقال: حكم العقد المستوفي لأركانه وشرائطه أنه صحيح لازم.
3 - أو يراد به الأثر المترتب على التصرف الشرعي، وذلك كالوصية إذا استوفت شرائطها وأركانها، ترتبت عليها آثار تتعلق بالموصى له، وآثار تتعلق بالموصى به (2) .
والمقصود هنا المعنى الثالث، أي الحكم الشرعي الثابت للبيع، وأثره المترتب عليه. فأثر البيع: هو ثبوت الملك في المبيع للمشتري، وثبوت الملك في الثمن للبائع، إذ اكان البيع لازماً لا خيار فيه (3) .
والمقصود بحقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للحصول على حكمه: مثل تسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب، أو خيار الرؤية أو الشرط، وضمان رد الثمن إذا استحق المبيع مثلاً (4) .
__________
(1) الأموال ونظرية العقد لأستاذنا محمد يوسف موسى: ص 372.
(2) التلويح شرح التوضيح للتفتازاني: 2 ص 122، الأحوال الشخصية للأستاذ مصطفى السباعي: 2 ص 114.
(3) البدائع: 5 ص 233.
(4) الأموال ونظرية العقد، المرجع السابق.(5/56)
حقوق البيع التابعة للحكم: هي كل تابع للمبيع من الحقوق التي لا بد له منه ولا يقصد إلا لأجله كالطريق والشرب للأرض، وهي التي تسمى بالمرافق، والقاعدة فيها أو الأصل: أن كل ما كان من الدار متصلاً بها يدخل في بيعها تبعاً بلا
ذكر، وما لا فلا يدخل بلا ذكر إلا ما جرى العرف أن البائع لا يمنعه عن المشتري، فيدخل المفتاح استحساناً للعرف بعدم منعه بخلاف القفل ومفتاحه والسُّلَّم غير المتصل بالبناء، وأما الدرج (السلم) في بنايات الطبقات فتدخل عرفاً، وتفصيل ذلك ما يأتي (1) :
أـ من اشترى بيتاً فوقه آخر لا يدخل فيه العلو؛ لأن الشيء لا يستتبع مثله.
ب ـ يدخل في المبيع ما هو من حقوقه أو مرافقه الخاصة التابعة له كطريق ومطبخ ومتوضأ ونحوها، لأنها توابع له. فيدخل في بيع الدار الطريق الداخلي فيها أو النافذ إلى سكة أو طريق عام، والكنيف (وهو المستراح أو بيت الماء) وبئر الماء، والأشجار التي في صحنها، والحديقة التابعة لها والبستان الذي هو أصغر منها، وإن لم يصرح بذلك. أما الحديقة أو البستان الخارج عن الدار وكان مثل الدار أو أكبر، فلا يدخل في البيع. ويدخل الباب الأصلي للدار، والباب الخارجي المجاور للشارع وهو المسمى بالباب الأعظم؛ لأنه من مرافقها.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 197/4-199.(5/57)
ولا تدخل الظلة في بيع الدار لبنائها على الطريق، فتأخذ حكمه ولا يدخل الطريق والمسيل والشِّرب غير الخاص بالدار إلا بالتصريح بها؛ لأنها خارج الحدود، كأن يشتريها بكل حق هو لها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير. وذلك بخلاف الإجارة والرهن والوقف، تدخل فيها كل هذه المرافق بلا حاجة لذكرها لأنها تعقد للانتفاع بها لا غير. هذا رأي الحنفية القديم، والمعول عليه في ذلك هو العرف السائد في كل إقليم وعصر.
والإقرار بالدار والصلح عليها والوصية بها والهبة والنكاح والخلع على مال كالبيع في دخول الطريق ونحوه.
المطلب الثاني ـ الثمن والمبيع:
الكلام عن الثمن والمبيع في موضعين:
أولاً ـ في تعريف المبيع والثمن.
ثانياً ـ في الأحكام المتعلقة بهما.
تعريف المبيع والثمن:
المبيع والثمن عند جمهور الحنفية من الأسماء المتباينة الواقعة على معانٍ مختلفة. فالمبيع في الغالب: ما يتعين بالتعيين (1) ، والثمن في الغالب: ما لا يتعين بالتعيين.
وهذا الأصل العام الغالب يحتمل تغيره في الحالتين بعارض من العوارض، فيصير ما لا يحتمل التعيين مبيعاً كالمسلم فيه، وما يحتمل التعيين ثمناً كرأس مال السلم، إذا كان عيناً من الأعيان. وعلى هذا فاعتبار الثمن ديناً في الذمة هو الأغلب، وذلك عندما يكون الثمن نقوداً أو أموالاً أخرى مثلية ملتزمة بلا تعيين بالذات كالقمح والزيت ونحوهما من كل مكيل أو موزون أو ذَرْعي أو عددي متقارب.
ويمكن أيضاً أن يكون الثمن أعياناً قيمية كالحيوان والثياب ونحوهما، كما لو بيعت كمية من السكر إلى أجل بشيء من القيميات، فالسكر مبيع والعين القيمية ثمن، ويكون البيع سلماً، لأنه بيع مؤجل بمعجل.
__________
(1) قال القرافي: أجمع الناس على أن العروض (أي السلع التجارية) تتعين بالتعيين، وكذلك الحيوان والطعام لأن لهذه الأشياء من الخصوصيات والأوصاف ما تتعلق به الأغراض الصحيحة، وتميل إليه العقول السليمة والنفوس الخاصة، لما في تلك المعينات من الأهداف الخاصة بكل إنسان (الفروق: 4 ص 7) .(5/58)
قال ابن الهمام وغيره: إن الثياب كما تثبت مبيعاً في الذمة بطريق السلم تثبت ديناً مؤجلاً في الذمة، على أنها ثمن، وحينئذ يشترط الأجل لا لأنها ثمن، بل لتصير ملحقة بالسلم في كونها ديناً في الذمة، فإذا قلنا: إذا باع كتاباً بثوب موصوف في الذمة إلى أجل جاز، ويكون بيعاً بالنسبة للكتاب، حتى لا يشترط قبضه في المجلس، بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب، وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب، حتى شرط فيه الأجل، وامتنع بيعه قبل قبضه لإلحاقه بالمسلم فيه (1) .
وقال الشافعي وزفر: المبيع والثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد، وإنما يتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء.
ولكل من الفريقين دليله (2) والقضية اصطلاحية.
تعيين المبيع:
التعيين: هو التمييز عما سوى الشيء في الوجود الخارجي، ويتعين المبيع إذا كان معيناً في العقد، سواء أكان حاضراً في مجلس البيع، أم غائباً عنه. فإذا كان المبيع غير معين في العقد، فإنه لا يتعين إلا بالتسليم (3) .
الفرق بين الثمن والقيمة والدين:
الثمن: لا يتحقق إلا في عقد، فهو ما يتراضى عليه المتبايعان، سواء أكان أكثر من القيمة أم أقل أم مساوياً.
وقيمة الشيء: هي ما يساويه بين الناس.
والثمن: هو ما تراضى عليه المتبايعان مقابلاً للمبيع.
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 26.
(2) انظر البدائع: 5 ص 233.
(3) انظر عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 34.(5/59)
أما الدين: فهو كل ما ثبت في الذمة من الأموال القابلة للثبوت فيها بأي سبب من أسباب الالتزام، كالإتلاف والغصب والكفالة والقرض والبيع، ونحوها (1) .
التمييز بين الثمن والمبيع:
القاعدة المقررة في الأصل: أن كل ما أمكن أن يكون مبيعاً أمكن أن يكون ثمناً ولا عكس، وأن الثمن كما تقدم في تعريفه ربما لا يكون متعلقاً بالذمة، بل قد يتعين أحياناً، فيكون من الأعيان القيمية كالحيوان والثياب ونحوها، كما يتعين المبيع.
لهذا كان واجباً أن نميز بين الثمن والمبيع لما يترتب على التفرقة من أحكام، والتمييز يكون في أموال المعاوضات: وهي النقود والأعيان القيمية والمثليات (2) .
1 - فالنقود عامة من ذهب أو فضة أو فلوس رائجة (3) إذا كانت عوضاً في المبيع، تعتبر هي الثمن. ومقابلها أي السلعة هو المبيع مطلقاً سواء دخل عليها حرف الباء. أو دخل على مقابلها، مثل: بعتك هذا بدينار، أو بعتك ديناراً بهذا.
__________
(1) عقد البيع، المرجع السابق: ص 56 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 53، 173.
(2) انظر البدائع: 5 ص 233 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 4 ص 23، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 59 ومابعدها.
(3) وهي القطع المعدنية المسكوكة المصطلح على ثمنيتها، ويلحق بها الأوراق النقدية المتعامل بها في العصر الحاضر.(5/60)
قرر جمهور الحنفية أن النقود المسكوكة من ذهب أو فضة أو فلوس معدنية لا تتعين في عقود المعاوضات بالتعيين في حق الاستحقاق لذات العملة النقدية، فلو قال: بعتك هذا الثوب بهذه الدراهم أو بهذه الدنانير، فللمشتري أن يمسك المشار إليه ويبدله بمثله، ولا يحق للبائع أن يطلب ذات المشار إليه؛ لأن الثمن النقدي محله في الذمة، وما يثبت في الذمة لا ينحصر ببعض أفراده الخارجية، فلا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات؛ لأن المثل يقوم مقامها في كل عوض، وإنما يتعين فقط بالنسبة لضمان الجنس والنوع والصفة والقدر، حتى إنه يجب على المشتري رد مثل المشار إليه في الأوصاف المذكورة، فلو كان الواجب عليه ألف درهم جيدة، فيجب عليه رد ألف درهم بتلك الصفة؛ لأن في تعيين الجنس والقدر والصفة فائدة، وعلى هذا فلو هلك المشار إليه لا يبطل العقد.
وقال الشافعية وزفر: تتعين النقود بالتعيين، ويستحق البائع على المشتري ذات الدراهم المشار إليها، كما في سائر الأعيان، لأنه قد يكون للشخص غرض فيها، والثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين.
فلو هلك المشار إليه قبل القبض يبطل العقد، كما لو هلك سائر الأعيان.
فإن لم يكن الثمن من المسكوكات، فإنه بالاتفاق كسائر السلع يقبل التعيين.
2 - إن الأعيان القيمية أي (التي ليست من ذوات الأمثال) إذا قوبلت بالمثليات المعينة تعتبر هي المبيع، والمثلي هو الثمن مطلقاً، دون نظر إلى اقتران حرف الباء، لأن المثلي أليق بالثمنية من حيث قابليته للثبوت في الذمم كالنقود.(5/61)
من أمثلة القيميات: الثياب والدور والعقارات والعدديات المتفاوتة (أي التي تفاوتت آحادها) كالغنم وسائر الدواب والبطيخ إذا بيع بالعدد لا بالوزن. وأما إذا قوبلت الأعيان القيمية بالأموال غير المعينة أي (الملتزمة في الذمم) فالعبرة في الثمنية لمقارنة حرف الباء، فما دخل عليه حرف الباء كان ثمناً، والآخر مبيعاً. فلو قال: بعتك هذا المتاع بقنطار من السكر، فالسكر: هو الثمن. ولو قال بعتك قنطاراً من السكر بهذا المتاع. كان السكر مبيعاً، والمتاع ثمناً، ويكون العقد بيع سلم.
3 - المثليات إذا كان في مقابلتها النقود فهي مبيعة، كما ذكرت أولاً، وإن كان في مقابلتها أمثالها مثل بيع قمح بزيت، فما كان منها معيناً يكون مبيعاً، وكل ما كان موصوفاً في الذمة يكون ثمناً.
وإن كان كل واحد منهما موصوفاً في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمناً، والآخر يكون مبيعاً.
ـ والمثليات: إما مكيلات وهي التي تباع بالكيل كالقمح والشعير، وكبعض السوائل التي تباع اليوم باللتر كالبترول والبنزين.
ـ أو موزونات: وهي التي تباع بالوزن كالسمن والزيت والسكر.
ـ أو ذَرْعيات: وهي التي تباع بالذراع كالقطع الكبرى من المنسوجات الصوفية أو القطنية أو الحريرية، وكالأراضي.
ـ أو عدديات متقاربة: وهي التي لا تتفاوت آحادها إلا تفاوتاً بسيطاً كالبيض والجوز، وكالمصنوعات المتماثلة من صنع المعامل كالكؤوس وصحون الخزف والبلّور ونحوها (1) .
4 - إذا بيعت القيميات ببعضها يعتبر كل من العوضين مبيعاً من وجه، وثمناً من وجه آخر.
أحكام المبيع والثمن أو نتائج التمييز بينهما
يترتب على التمييز بين المبيع والثمن أحكام أذكر ستة منها بإيجاز، وأفصل الكلام في ثلاثة أخرى.
1 - يشترط لانعقاد البيع أن يكون المبيع مالاً متقوماً ولا يشترط ذلك في الثمن.
__________
(1) انظر عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 50، رد المحتار: 173/4، مغني المحتاج: 281/2.(5/62)
2 - يشترط لنفاذ البيع أن يكون المبيع موجوداً في ملك البائع ولايشترط ذلك في الثمن.
3 - لا يجوز تأجيل الثمن في بيع السلم، ويجب تأجيل المبيع.
4 - مؤونة تسليم الثمن أي (كلفته) على المشتري، ومؤونة تسليم المبيع على البائع.
5 - البيع مع عدم تسمية الثمن فاسد، أما مع عدم تسمية المبيع نحو: بعتك بعشرة دنانير، فباطل غير منعقد.
6 - هلاك المبيع بعد التقابض يمنع إقالة البيع، ولا يمنع ذلك هلاك الثمن.
7 - هلاك المبيع قبل التسليم مبطل للبيع، ولا يبطله هلاك الثمن.
8 - لا يجوز تصرف المشتري في المبيع المنقول قبل قبضه، ويصح تصرف البائع في الثمن قبل قبضه. 9 - على المشتري تسليم الثمن أولاً ليحق له استلام المبيع، ما لم يرض البائع (1) وأفصل الكلام في الثلاثة الأخيرة.
حكم هلاك المبيع، وهلاك الثمن وكساده
هلاك المبيع:
المبيع إما أن يهلك كله أو بعضه قبل القبض أو بعده (2) .
آ - إذا هلك المبيع كله قبل القبض:
1 - فإذا هلك بآفة سماوية أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، ينفسخ عقد البيع.
2 - إذا هلك بفعل المشتري، فلا ينفسخ البيع وعليه الثمن.
3 - إذا هلك بفعل أجنبي، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وطالب الأجنبي بالضمان.
ب ـ إذا هلك المبيع كله بعد القبض:
1 - إن كان بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو بفعل المبيع أو بفعل أجنبي فلا ينفسخ البيع، ويكون هلاكه على ضمان المشتري؛ لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبي حال كون الاعتداء منه.
2 - إذا هلك بفعل البائع فينظر في حالتين:
__________
(1) انظرعقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 61.
(2) انظر التفصيل في البدائع: 238/5 ومابعدها، المبسوط: 9/13، حاشية ابن عابدين: 44/4، عقد البيع، المرجع السابق: ص 92.(5/63)
أولاً ـ إذا كان المشتري قد قبضه بإذن البائع أو بدون إذنه، لكنه قد نقد الثمن، أو كان الثمن مؤجلاً، فيكون هلاكه من قبل البائع، كهلاكه من قبل الأجنبي، فعليه ضمانه.
ثانياً ـ أما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بدون إذن البائع، والثمن حالّ غير منقود (أي غير معطى إلى البائع) فيتوجب فسخ البيع، ويكون البائع باعتدائه مسترداً للمبيع، وعليه ضمانه.
وقال المالكية (1) : الضمان ينتقل إلى المشتري بنفس العقد في كل بيع إلا في خمسة مواضع:
الأول ـ بيع الغائب على الصفة، وكان المبيع غير عقار، فإن كان المبيع عقاراً، فضمانه على المشتري.
الثاني ـ ما بيع على الخيار.
الثالث ـ ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها.
الرابع ـ ما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدّ.
الخامس ـ البيع الفاسد، فالضمان في هذه الخمسة من البائع حتى يقبضه المشتري.
وقال الشافعية (2) : كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 247، الشرح الصغير: 45/3.
(2) مغني المحتاج: 65/2.(5/64)
وقال الحنابلة (1) : إذا كان المبيع مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري.
ج ـ إذا هلك بعض المبيع قبل القبض ينظر عند الحنفية:
1 - فإن كان بآفة سماوية ففيه تفصيل: إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً، فهلك بعضه: ينفسخ العقد بقدر الهالك، وتسقط حصته من الثمن، ثم يكون المشتري بالخيار في الباقي لتفرق الصفقة عليه: إن شاء أخذه بحصته، وإن شاء فسخ البيع.
وإن كان النقصان نقصان وصف (وهو كل ما يدخل في البيع من غير تسمية كالشجر والبناء في الأرض والجودة في المكيل والموزون) فلا ينفسخ البيع أصلاً، ولا يسقط عن المشتري شيء من الثمن؛ لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن؛ ويكون المشتري بالخيار: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه لتعيب المبيع.
2 - وإن كان الهلاك بفعل المبيع نفسه كحيوان جرح نفسه، فلا ينفسخ البيع، ولا يسقط شيء من الثمن، والمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء فسخ العقد.
3 - وإن كان الهلاك بفعل البائع فيبطل البيع بقدره، ويسقط عن المشتري حصة الهالك من الثمن، سواء أكان النقصان نقصان قدر، أم نقصان وصف؛ لأن الأوصاف لها حصة من الثمن عند ورود الجناية عليها، والمشتري بالخيار في الباقي بحصته من الثمن.
4 - وإن كان الهلاك بفعل المشتري فلا يبطل البيع، ولا يسقط عنه شيء من الثمن، لأنه صار قابضاً لكل المبيع بإتلاف بعضه.
د ـ إذا هلك بعض المبيع بعد القبض:
1 - فإن كان الهلاك بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو المبيع نفسه أو بفعل أجنبي، فالهلاك على المشتري.
2 - وإن كان بفعل البائع ينظر:
إذا كان القبض بإذنه، أو كان الثمن منقوداً أو مؤجلاً، فحكمه كالأجنبي. وإن كان القبض بغير إذنه، والثمن حالّ غير منقود، ينفسخ البيع في قدر الشيء التالف، ويسقط عن المشتري حصته.
هلاك الثمن عند الحنفية:
إذا هلك الثمن في مجلس العقد قبل القبض:
1 - فإن كان عيناً مثلياً: لا ينفسخ العقد، لأنه يمكن تسليم مثله بخلاف المبيع لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان.
2 - وأما إذا هلك وليس له مثل في الحال: بأن كان شيئاً مما ينقطع عن أيدي الناس، وقد كان موجوداً وقت العقد، ثم انقطع قبل القبض، فقال أبو حنيفة: ينفسخ العقد.
__________
(1) المغني: 110/4.(5/65)
وقال الصاحبان: لا ينفسخ (1) . وسيأتي في بحث كساد الثمن الآتي بيان الأدلة.
كساد الثمن عند الحنفية: إذا اشترى شخص بفلوس رائجة، ثم كسدت قبل القبض بضرب فلوس جديدة، انفسخ العقد عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً؛ لأن الفلوس بالكساد خرجت عن كونها ثمناً، ولا بيع بلا ثمن، فينفسخ البيع ضرورة، فهو قد اعتبر الكساد كالهلاك.
وقال الصاحبان: لا ينفسخ البيع، ولكن يخير البائع: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس؛ لأن الفلوس ثابتة في الذمة، وما يثبت في الذمة لايحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكاً، بل يكون عيباً فيها، فيوجب الخيار للبائع، كما إذا كان الثمن رطباً، فانقطع قبل القبض، فهما اعتبرا الكساد كالعيب.
واتفقوا على أنه لو لم تكسد الفلوس، ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت، لاينفسخ البيع؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية.
ثم اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما في وقت اعتبار قيمة الفلوس: فقال أبو يوسف: تعتبر قيمتها وقت العقد؛ لأن الثمن يجب عند العقد، فيضمن قيمته حينئذ.
وقال محمد: تعتبر قيمتها وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها؛ لأنه وقت العجز عن التسليم (2) .
__________
(1) تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 54/2.
(2) انظر البدائع: 242/5، حاشية ابن عابدين: 25/4.(5/66)
التصرف في المبيع وفي الثمن قبل القبض
التصرف في المبيع قبل القبض:
قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (1) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر لتعرضه إلى الانفساخ بهلاك المعقود عليه، فيبطل البيع الأول، وينفسخ الثاني، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر.
وأما العقار: فيجوز التصرف فيه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً استدلالاً بعمومات آيات البيع من غير تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد. ولا غرر في العقار، إذ لا يتوهم هلاك العقار، ويندر هلاكه في الغالب، فلا يكون في بيعه غرر.
وقال محمد وزفر والشافعي: لا يجوز بيع العقار قبل القبض لعموم النهي عن البيع قبل القبض، ولعدم وجود القدرة على التسليم، ولتحقق الغرر (2) . وسيأتي تفصيل آراء الفقهاء في هذا الموضوع في البيع الفاسد.
التصرف في الثمن قبل القبض:
يجوز التصرف في الأثمان (3) قبل القبض، لأنها ديون، وكذلك يجوز التصرف في سائر الديون كالمهر والأجرة وضمان المتلفات وغيرها قبل القبض،
__________
(1) فيه أحاديث منها ما هو متفق عليه عند الشيخين والترمذي من حديث ابن عباس من النهي عن بيع ما لم يقبض، ومنها ما أخرجه النسائي عن حكيم بن حزام، قال: «قلت يا رسول الله، إني رجل أبتاع هذه البيوع، وأبيعها، فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: لا تبيعن شيئاً حتى تقبضه» رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، ولفظه: «إذا ابتعت بيعاً، فلا تبعه حتى تقبضه» (انظر نصب الراية: 32/4، جامع الأصول: 380/1، تخريج أحاديث الإحياء: 61/2) .
(2) فتح القدير: 5 ص 264، البدائع: 5 ص 180 ومابعدها، ص 234، رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 169 ومابعدها.
(3) الثمن: ما يثبت في الذمة ديناً عند المقابلة وهو النقدان، والمثليات، كالمكيل والموزون إذا كانت معينة وقوبلت بالأعيان، أو غير معينة وصحبها حرف الباء (رد المحتار: 4 ص 173) .(5/67)
بدليل ما روي عن سيدنا عمر أنه قال: «يا رسول الله: إنا نبيع الإبل بالبقيع، ونأخذ مكان الدراهم الدنانير، ومكان الدنانير الدراهم، فقال عليه السلام: لابأس إذا كان بسعر يومهما، وافترقتما وليس بينكما شيء» (1) فهذا يدل على جواز استبدال ثمن المبيع. وأما المراد من حديث (النهي عما لا يقبض) فهو بالنسبة للعين، لا بالنسبة للدين؛ لأن المبيع شيء يحتمل القبض، والدين لا يحتمل القبض حقيقة، لأنه مال حكمي في الذمة، فيكون قبضه بقبض بدله.
وقد استثنوا من جواز التصرف في الثمن قبل القبض عقدي الصرف والسلم. أما الصرف: فلأن كلاً من بدلي الصرف مبيع من وجه وثمن من وجه، فباعتبار كونه مبيعاً لا يجوز التصرف فيه، وقد رجحت جانب الحرمة احتياطاً.
وأما السلم: فالمسلم فيه لا يجوز التصرف فيه لأنه مبيع، ورأس المال (أي الثمن) ألحق بالمبيع العين في حرمة الاستبدال شرعاً (2) .
هذا.. ويلاحظ أن التصرف في الأثمان والديون جائز بالبيع والهبة والإجارة والوصية أي بعوض أو بغير عوض، سواء مما لا يتعين كالنقود، أو مما يتعين كالمكيل والموزون، وذلك ممن عليه الدين كأن يشتري البائع من المشتري شيئاً بالثمن الذي له عليه، أو يستأجر بالثمن داراً للمشتري، أو أن يهبه الثمن.
ولا يجوز تمليك الدين من غير من عليه الدين كأن يشتري إنسان فرس زيد مثلاً بمئة ليرة على عمرو، لأنه لا يقدر على تسليمه إلا في ثلاث صور (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر (انظر جامع الأصول: 1 ص 469، نصب الراية: 4 ص 33) .
(2) البدائع: 5 ص 234، فتح القدير: 5 ص 269 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 173 ومابعدها.
(3) رد المحتار: 4 ص 173، مغني المحتاج: 2 ص 71.(5/68)
الأولى ـ إذا سلطه على قبضه، فيكون وكيلاً قابضاً للموكل ثم لنفسه.
الثانية ـ الحوالة.
الثالثة ـ الوصية.
تسليم (1) المبيع والثمن:
إن تسليم المبيع إلى المشتري هو من التزامات البائع الناشئة من عقد البيع، كما أن تسليم الثمن إلى البائع هو من التزامات المشتري الناشئة من البيع أيضاً؛ لأن تسليم البدلين واجب على العاقدين، لتحقق الملك لكل منهما في البدلين.
فمن الذي يجب عليه التسليم أولاً، وهل للبائع حق حبس المبيع حتى يستوفي جميع الثمن، وكيف يتم التسليم أو القبض؟
أما من يجب عليه التسليم أولاً: فيختلف بحسب نوع البدلين:
فإذا كان بيع عين بعين، فإنه يجب على العاقدين التسليم معاً، تحقيقاً للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة المطلوبة بين العاقدين، إذ ليس أحدهما بالتقديم أولى من الآخر.
وكذلك إن تبايعا ديناً بدين، كما في عقد الصرف، لما ذكرت.
وأما إن كان بيع عين بدين (2) فيراعى فيه الترتيب عند الحنفية: فيجب على
__________
(1) التسليم: هو التخلية أي أن يخلي البائع بين المشتري والمبيع بحيث يستطيع المشتري أخذه والتصرف فيه.
(2) الدين: ما يصح أن ثبت في الذمة، سواء أكان نقداً أو غيره. والعين: ما لا يصح أن يثبت ديناً في الذمة (رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 26) .(5/69)
المشتري تسليم الثمن (أي الدين) أولاً إذا طالبه البائع حتى يتعين، ولقوله عليه السلام: «الدين مقضي» (1) فلو تأخر تسليم الثمن عن تسليم المبيع لم يكن هذا الدين مقضياً. ثم يجب على البائع تسليم المبيع، إذا طالبه المشتري، حتى يتحقق التساوي بينهما. واستثنوا من ذلك أمرين أولهما ـ المسلم فيه، لأنه دين مؤجل، والثاني ـ الثمن المؤجل فلو كان الثمن مؤجلاً، يجب تسليم المبيع للحال، لأن البائع أسقط حق نفسه في التأجيل (2) .
وقال المالكية (3) كالحنفية: يجب على المشتري تسليم الثمن، وعلى البائع تسليم المبيع (المثمون) ، فإن قال أحدهما: لا أسلم ما بيدي حتى أقبض ما عاوضت عليه، أجبر المشتري على تسليم الثمن، ثم أخذ المبيع من البائع. وقال مالك: للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ودليل المالكية والحنفية: أن للبائع حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.
وقال الشافعية والحنابلة (4) : إن اختلف في التسليم، وكان الثمن في الذمة، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري في الثمن مثله، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن؛ لأن حق المشتري في عين المبيع، وحق البائع في الذمة، فيقدم ما يتعلق بالعين، فمن سلم أجبر صاحبه على التسليم؛ لأن كلاً منهما ثبت له إيفاء واستيفاء، ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء. لكن قيد الشافعية هذا الحكم بما إذا لم يخف البائع فوت الثمن، وتنازع البائع والمشتري في مجرد الابتداء، فإن خاف البائع فوت الثمن فله حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن. وكذا للمشتري حق حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.
__________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل عن ابن عباس ونصه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الزعيم غارم والدين مقضي، والعارية مؤادة، والمنحة مردودة» وأعله بإسماعيل بن زياد السكوني، وقال: إنه منكر الحديث، لا يتابع على عامة ما يرويه (انظر نصب الراية: 4 ص 58) وأخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وفيه إسماعيل بن عياش (انظر التلخيص الحبير: ص 250) .
(2) المبسوط للسرخسي: 13 ص 192، البدائع: 5 ص 244، فتح القدير: 5 ص 109، رد المحتار: 4 ص 43 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 247.
(4) مغني المحتاج: 74/2، المغني: 198/4.(5/70)
حق حبس المبيع أو احتباسه:
يترتب على ما سبق من التزام المشتري بدفع الثمن أولاً: أنه يثبت للبائع حق حبس المبيع عن المشتري إلى أن يستوفي ما وجب تعجيله، سواء أكان كل الثمن أم بعضه (1) .
وشرط ثبوت حق الحبس شيئان:
1 - أن يكون أحد البدلين عيناً والآخر ديناً، مثل بيع سلعة بدراهم، أو دنانير، فإن كانا عينين أو دينين فلا يثبت حق الحبس، بل يسلمان معاً.
2 - أن يكون الثمن حالاًّ، فإن كان مؤجلاً، فلا يثبت حق الحبس، لأنه سقط بالتأجيل.
وعلى هذا، فلو أجل الثمن إلا درهماً، كان للبائع حبس كل المبيع، لأن حق الحبس مما لا يتجزأ، وكذا لو استوفى جميع الثمن إلا درهماً، أو أبرأ المشتري عن جميع الثمن إلا درهماً.
وقال الإمام مالك (2) : للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن.
__________
(1) انظر المبسوط، المرجع السابق، البدائع: 5 ص 249، رد المحتار: 4 ص44، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 77.
(2) القوانين الفقهية: ص 247.(5/71)
وقال الحنابلة (1) : ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن؛ لأن التسليم من مقتضيات العقد، فإن اختلف العاقدان في التسليم، فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن.
وقال الشافعية (2) : للبائع حبس المبيع حتى يقبض الثمن إن خاف فوته، وكذا للمشتري حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.
ما يسقط حق الحبس وما لا يسقطه:
لو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً بالثمن لا يسقط حق الحبس، لأن الرهن والكفالة لا يسقطان الثمن عن ذمة المشتري، ولا حق المطالبة به، فيبقى حق الحبس لاستيفاء الثمن، وكل ما في الأمر أن الرهن والكفالة وثيقة بالثمن.
وأما الحوالة بالثمن فتسقط حق الحبس عند أبي يوسف سواء أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن وقبل، أم أحال المشتري البائع على رجل؛ لأن البائع حينئذ في حكم المستوفي، لأن حق الحبس مرتبط ببقاء الدين في ذمة المشتري، وذمته برئت من دين المحيل بالحوالة فيبطل حق الحبس، ولذا ينقطع حقه في مطالبة المشتري بالثمن، وينحصر حق المطالبة بالشخص المحال عليه.
وقال محمد: إن كانت الحوالة من المشتري لا تبطل حق الحبس، وللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفي من المحال عليه. وإن كانت من البائع: فإن كانت الحوالة مطلقة لا تبطل حق الحبس أيضاً، وإن كانت مقيدة بأن أحال غريماً له على المشتري
__________
(1) المغني: 198/4.
(2) مغني المحتاج: 75/2.(5/72)
ليقبض الدين الذي له عليه، تبطل الحوالة حق الحبس، دليله: أن حق البائع بمطالبة المشتري بأداء الثمن لم يبطل بحوالة المشتري، أو بحوالته المطلقة، فلم يبطل حق الحبس، وأما في الحوالة المقيدة فيبطل حق المطالبة من البائع للمشتري بهذه الحوالة، فيسقط حق الحبس (1) .
قال الكاساني: «والصحيح اعتبار قول محمد، لأن حق الحبس في الشرع يدور مع حق المطالبة بالثمن، لا مع قيام الثمن في ذاته» (2) .
والخلاصة: إن حق الحبس يسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقاً، وكذا بحوالة المشتري البائع به على رجل عند أبي يوسف. وعند محمد: فيه روايتان، أرجحهما ما ذكر.
ولو أعار البائع المبيع للمشتري أو أودعه عنده، سقط حق الحبس، حتى لا يملك استرداده في ظاهر الرواية؛ لأن الإعارة والإيداع أمانة في يد المشتري، وهو لا يصلح نائباً عن البائع في وضع يده لأنه أصل في ملك الشيء، فكان أصلاً في وضع اليد، فإذا ثبتت يد المشتري على المبيع، كانت يده يد ملك، ويد الملك لازمة، فلا يملك أحد إبطالها بالاسترداد (3) .
ولو أودع المشتري المبيع عند البائع أو أعاره منه أو آجره، لم يسقط حق الحبس؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يصح أن يصير نائباً عن غيره (4) .
ولو جنى رجل أجنبي على المبيع، فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان سقط حق الحبس عند أبي يوسف (5) . وسيأتي التفصيل في بحث القبض الآتي مباشرة.
ولو قبض المشتري المبيع بإذن البائع، سقط حق الحبس، حتى لا يملك البائع الاسترداد، لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض.
ولو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع بعد وفاء الثمن، سقط حق الحبس، فليس له استرداده، لأنه استوفى حقه بإيفاء الثمن، فيكون قبضاً بحق.
أما لو قبض المشتري المبيع بغير إذن البائع قبل وفاء الثمن، فلا يسقط حق الحبس، وللبائع استرداده؛ لأن له حق الحبس، حتى يستوفي الثمن، وحق الإنسان لا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه.
فإن كان المشتري تصرف في المبيع في الحالة الأخيرة نظر في ذلك (6) :
إن كان تصرفاً يحتمل الفسخ كالبيع والهبة والإجارة والرهن ونحوها، فسخه البائع، واسترده، لأنه تعلق به حقه.
وإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير (أي التحرر بعد موت السيد) والاستيلاد (أي جعل الأمَةَ مستولدة أي حاملاً، فتصبح حرة بعد موت سيدها) فإنه لا يسترده، لأنه لا فائدة في بقاء حق الحبس، لأن حبس الحر، أو الذي سيؤول إلى الحرية لا يجوز.
معنى التسليم أو القبض وكيفية تحققه:
التسليم أو القبض معناه عند الحنفية: هو التخلية أو التخلي، وهو أن يخلي
__________
(1) المبسوط: 13 ص 195، البدائع: 5 ص 250 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 44.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 251.
(3) البدائع: 5 ص 250، حاشية ابن عابدين: 4 ص 44.
(4) البدائع، المرجع السابق نفسه: 5 ص 246.
(5) البدائع: 5 ص 246.
(6) البدائع: 251/5.(5/73)
البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما، على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مسلِّماً للمبيع، والمشتري قابضاً له (1) .
وكذلك تسليم الثمن من المشتري إلى البائع:
والقبض يتم بطرق:
1 - التخلية: وهي أن يتمكن المشتري من المبيع بلا مانع (أي أن يكون مفرزا) ولا حائل (أي في حضرة البائع) مع الإذن له بالقبض، فلو اشترى إنسان حنطة في بيت، ودفع البائع المفتاح إليه، وقال: خليت بينك وبينها (أي أذنت) فهو قبض (2) . وإن دفع المفتاح إلىه، ولم يقل شيئاً لا يكون قبضاً، وتسليم الدار أو الأرض يتم بأن يقف المشتري في داخلها أو قريباً منها بحيث يرى جانب الأرض أو يقدر على إغلاق باب الدار فوراً، فإن كان بعيداً عنها بغير هذه الحالة، لم يكن قبضاً (3) . وعلى هذا فإن القبض عند الحنفية يكون بالتخلية، سواء أكان المبيع عقاراً أم منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره أي بكيله أو وزنه.
وقال المالكية والشافعية: قبض العقار كالأرض والبناء ونحوهما يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت. وقبض المنقول كالأمتعة والأنعام والدواب بحسب العرف الجاري بين الناس (4) . والعرف يقضي إما بتناول الشيء باليد كالثوب والكتاب، وإما بالنقل من مكان لآخر كالسيارة والدابة.
__________
(1) البدائع: 5 ص 244.
(2) من قواعد الحنفية: «التخلية بين المشتري وبين المبيع قبض» فيعد ذلك قبضاً، وإن لم يتم القبض حقيقة، فإذا هلك المبيع يهلك على المشتري (راجع الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 63) .
(3) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار: 4 ص 44، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 86.
(4) الشرح الكبير للدردير: 3 ص 145، المجموع: 9 ص 301-309، المهذب: 1ص263.(5/74)
وقال الحنابلة: قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه، أي أنه يجب الرجوع في القبض إلى العرف (1) .
2 - الإتلاف: لو أتلف المشتري المبيع في يد البائع صار قابضاً للمبيع، وتقرر عليه الثمن؛ لأن التخلية تمكين من التصرف في المبيع والإتلاف تصرف فيه حقيقة.
والتعييب مثل الإتلاف: وهو أن يحدث المشتري في المبيع عيباً، كأن يقطع يده أو يشج رأسه، أو أن ينقص منه شيئاً.
وكذا لو أمر المشتري البائع بالإتلاف ففعل، أو أمره بطحن الحنطة فطحن (2) ، لأن فعل البائع بأمر المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه.
3 - إيداع المبيع عند المشتري أو إعارته منه: لو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه، يصير المشتري بذلك قابضاً؛ لأن الإيداع والإعارة للمالك لايصح، كما ذكر قريباً.
وكذا لو أودع المشتري المبيع عند أجنبي أو أعاره، وطلب من البائع تسليمه إليه، يصير قابضاً؛ لأن الإعارة والإيداع عند آخر عمل صحيح، فقد أثبت يد النيابة لغيره، ويد أمينه كيده، فصار قابضاً.
أما لو أودع المشتري من البائع أو أعاره له أو آجره، لم يكن ذلك قبضاً؛ لأن هذه التصرفات لم تصح من المشتري؛ لأن يد الحبس بطريق الأصالة ثابتة للبائع، فلا يتصور إثبات يد النيابة له (3) .
4 - اتباع المشتري الجانيَ بالجناية على المبيع:
لو جنى أجنبي على المبيع فاختار المشتري اتباع الجاني بالضمان، كان اختياره بمنزلة القبض عند أبي يوسف، حتى لو هلك المبيع يكون الهلاك على المشتري، ويتقرر عليه الثمن، ولا يبطل البيع.
__________
(1) المغني: 4 ص 111 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار، المرجع السابق.
(3) البدائع: 5 ص 246.(5/75)
وقال محمد: لا يصير قابضاً ويبقى البيع في ضمان البائع، ويؤمر بالتسليم إليه، ويكون الهلاك على البائع، ويبطل البيع ويسقط الثمن عن المشتري.
دليل أبي يوسف: أن جناية الأجنبي حصلت بإذن المشتري وأمره ضمناً، فيصير قابضاً، كما لو ارتكب الجناية بنفسه. وبيانه: أن اختيار المشتري اتباع الجاني بالضمان تمليك من الشيء المضمون المجني عليه؛ لأن المضمونات تملك باختيار الضمان بأثر رجعي يستند إلى وقت حدوث سبب الضمان، فيصير كأن الجناية حصلت بأمر المشتري.
ودليل محمد: أن الضمان متعلق بالعين لأن قيمة العين قائمة مقامها، والعين لو كانت قائمة فهلكت قبل القبض، كان الهلاك على البائع، فكذا القيمة (1) .
5 - القبض السابق: كل ماسبق فيما إذا كان المبيع في يد البائع، فإن كان في يد المشتري بقبض سابق، ثم باعه المالك له، فهل يعتبر قابضاً بمجرد الشراء أو لا بد من تجديد القبض ليتم التسليم؟ فيه تفصيل:
قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه إلى قسمين: قبض الضمان وقبض الأمانة.
قبض الضمان: هو ما كان فيه القابض مسؤولاً عن المقبوض تجاه الغير، فيضمنه، إذا هلك عنده، ولو بآفة سماوية، كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري.
وقبض الأمانة: هو ماكان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في الحفظ كالوديعة أو العارية أو المأجور أو مال الشركة في يد الوديع، أو المستعير، أو المستأجر، أو الشريك.
وجعلوا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب.
والمبدأ العام: أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه، أو كان السابق أقوى بخلاف ما إذا كان أضعف. فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة وعن قبض الضمان، وأما قبض الأمانة فلا ينوب إلا عن قبض الأمانة فقط، ولا ينوب عن قبض
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.(5/76)
الضمان؛ لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى (1) .
وعلى هذا الأساس إذا كان الشيء المبيع موجوداً في يد المشتري قبل البيع: إما أن تكون يده يد ضمان أو يد أمانة.
أـ فإن كانت يد المشتري يد ضمان:
1 - فإما أن تكون يد ضمان بنفسه: كيد الغاصب ويد القابض على سوم الشراء، فيصير المشتري قابضاً للمبيع بالعقد نفسه، ولا يحتاج إلى تجديد القبض، ويبرأ البائع من التزام التسليم، سواء أكان المبيع حاضراً في مجلس العقد، أم غائباً؛ لأن المغصوب مضمون بنفسه، والمبيع بعد القبض مضمون بنفسه، فتجانس القبضان، فناب أحدهما عن الآخر.
أو تكون يد ضمان لغيره، كيد الرهن، بأن باع الراهن المرهون من المرتهن، فإنه لا يصير قابضاً، إلا أن يكون الرهن حاضراً في مجلس العقد، أو يذهب إلى حيث يوجد الرهن، ويتمكن من قبضه؛ لأن المرهون ليس بمضمون بنفسه، بل بغيره، وهو الدين، والمبيع مضمون بنفسه، فلم يتجانس القبضان ولم يتشابها، ولأن الرهن أمانة في الحقيقة، فكان قبضه قبض أمانة في عينه، وليس مضموناً بنفسه، وإنما يسقط الدين بهلاكه، لا لكونه مضموناً، وإنما لمعنى آخر، وهو الاستيثاق بالدين، فيهلك الرهن من مال المرتهن ويسقط الدين بقدر الرهن؛ لأن الرهن وثيقة بالدين.
وإذا كان قبض الرهن قبض أمانة، فقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان، كقبض العارية والوديعة.
ب ـ وإن كانت يد المشتري يد أمانة، كيد المستعير أو الوديع، فلا يصير قابضاً، إلا أن يكون المبيع بحضرته، أو يذهب إليه، فيتمكن من قبضه بالتخلي؛ لأن يد الأمانة ليست من جنس يد الضمان، فلا يتناوبان؛ لأن قبض الأمانة أضعف من قبض الضمان (2) .
__________
(1) البدائع: 248/5، فتح القدير: 5 ص 200، حاشية ابن عابدين: 4 ص 535، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 217، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 87 ومابعدها.
(2) البدائع: 5 ص 248، فتح القدير: 5 ص 200.(5/77)
المبحث الرابع ـ البيع الباطل والبيع الفاسد
تمهيد:
العقد من حيث حكمه أو وصفه الذي يعطيه الشارع له، بناء على مقدار استيفائه لأركانه وشروطه، ينقسم عند جمهور الفقهاء إلى صحيح وغير صحيح.
الصحيح: هو ما استوفى شروطه وأركانه. وغير الصحيح: هو ما اختل فيه ركن من أركانه أوشرط من شروطه، ولا يترتب عليه أي أثر، ويشمل الباطل والفاسد، وهما بمعنى واحد.
وأما الحنفية: فيقسمون العقد إلى صحيح وفاسد وباطل، فغير الصحيح عندهم، إما فاسد أو باطل.
ومنشأ الخلاف: هو في مفهوم نهي الشرع عن عقد ما.. هل النهي يقتضي الفساد أي عدم الاعتبار والوقوع في الإثم معاً، أو يقتصر على إيجاب الإثم وحده مع اعتباره أحياناً، ثم هل يستوي النهي عن ركن من أركان العقد مع النهي عن وصف عارض للعقد؟
قال جمهور الفقهاء: إن نهي الشارع عن عقد ما: يعني عدم اعتباره أصلاً، وإثم من يقدم عليه، ولا فرق بين النهي عن أركان العقد أو النهي لوصف عارض للعقد، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، ومن أدخل في ديننا ما ليس فيه فهو رد» (1) .
ومتى خالف العمل أمر الشارع وطلبه، وصف بالفساد أو البطلان، سواء أكانت المخالفة راجعة إلى حقيقة العمل أم وصفه، وسواء في ذلك العبادة والمعاملة.
وقال الحنفية: قد يكون نهي الشارع عن عقد: معناه إثم من يرتكبه فقط، لا إبطاله. ويفرق بين النهي عن أصل العقد أو أركانه، فيوجب بطلان العقد، وبين
__________
(1) رواه مسلم عن عائشة، وفي رواية للبخاري ومسلم وأبي داود «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (راجع جامع الأصول: 1 ص 197) .(5/78)
النهي عن أمر آخر كوصف من أوصاف العقد، فيوجب فساد العقد فقط (1) ، لأن المعاملات ينظر فيها إلى جانب مصالح العباد، فإذا كانت مخالفة العمل راجعة إلى حقيقته كبيع المعدوم، لم تتحقق به مصلحة أصلاً، فكان باطلاً.
وأما إذا تحققت بالعمل مصلحة على وجه ما، ترتب أثر العمل عليه، ويتدارك النقص بإزالة سببه، وهذا يتحقق فيما لو كانت مخالفة العمل راجعة إلى وصفه مع سلامة حقيقته، بوجود ركنه وطرفيه ومحله، فيسمى فاسداً.
أما العبادات فإن البطلان والفساد فيها مترادفان، فمخالفة أمر الشارع فيها يجعلها موصوفة بالفساد والبطلان، سواء أكان الخلل في ناحية جوهرية أم في ناحية فرعية متممة؛ لأن العبادة ينظر فيها إلى تحقيق الامتثال والطاعة التامة، ولا يحصل ذلك إلا بزوال كل مخالفة فيها.
وعلى هذا الأساس نعرف أن أنواع البيوع عند الحنفية بحسب وصف الشارع لها ثلاثة: صحيح، وباطل، وفاسد.
البيع الصحيح: هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه (2) ولم يتعلق به حق الغير، ولا خيار فيه، وحكمه: أنه يثبت أثره في الحال. وأثر البيع الصحيح هو تبادل الملكية في العوضين، فيثبت ملك المبيع للمشتري، وملك الثمن للبائع فور انتهاء الإيجاب والقبول إذا لم يكن في البيع خيار.
__________
(1) انظر الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 436 ومابعدها. والذي يترجح أن أثر النهي المتوجه إلى الوصف كأثر النهي المتوجه إلى ما تتوقف عليه حقيقة الشيء، سواء في اعتبار الشرع، وأن البيع الفاسد والباطل سيان لا يترتب عليه حكم من الأحكام (راجع أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع إمام، وهي رسالة دكتوراه من الأزهر: ص 147) .
(2) أصل العقد أي ركنه ومحله، والركن: الإيجاب والقبول، والمحل: محل العقد: ومعنى كون الركن مشروعاً: ألا يعرض له خلل كأن يصدر الإيجاب والقبول من مجنون أو صبي لا يعقل. ومعنى كون المحل مشروعاً: أن يكون مالاً متقوماً. وأما وصف العقد: فهو ما كان خارجاً عن الركن والمحل كالشرط المخالف لمقتضى العقد، أو كون المبيع غير مقدور التسليم، وكالثمنية فإنها صفة تابعة للعقد.(5/79)
والبيع الباطل: هو ما اختل ركنه أو محله، أو هو ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه، أي أن يكون العاقد ليس أهلاً للعقد، أو أن يكون محل العقد ليس قابلاً له. وحكمه: أنه لا يعتبر منعقداً فعلاً، وإن وجدت صورته في الخارج فلا يفيد الملك أصلاً. مثل عقد الطفل أو المجنون أو بيع ما ليس بمال كالميتة، أو ما ليس بمتقوم كالخمر والخنزير.
وإذا كان البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض، فلو هلك المبيع في يد المشتري فيطبق عليه حكم هلاك الأمانات؛ لأن العقد غير معتبر فبقي القبض بإذن المالك. قيل: وهو قول أبي حنيفة. وعند البعض: يكون مضموناً لأنه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشراء. قيل: وهو قول الصاحبين. وأما الثمن المقبوض ببيع باطل فالصحيح أنه مضمون كالمقبوض ببيع فاسد.
والبيع الفاسد: هو ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه، أي أن يصدر من أهل له في محل قابل للبيع، ولكن عرض له أمر أو وصف غير مشروع. مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع كبيع دار من الدور أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص، دون تعيين، وكإبرام صفقتين في صفقة كبيع دار على أن يبيعه سيارته مثلاً: وسأذكر أمثلة أخرى بالتفصيل. وحكمه: أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإذن المالك صراحة أو دلالة، كأن يقبضه في مجلس العقد أمام البائع دون أن يعترض عليه، خلافاً لجمهور الفقهاء الذين يقررون أنه لا يفيد الملك أصلاً كالبيع الباطل (1) .
__________
(1) انظر فتح القدير مع العناية: 5 ص 185 وما بعدها، البدائع: 5 ص 299، رد المحتار لابن عابدين: 4 ص 104، مجمع الضمانات: ص 215 وما بعدها، الأموال ونظرية العقد للدكتور يوسف موسى: ص 440 وما بعدها.(5/80)
الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل
إذا كان الفساد يرجع للمبيع فالبيع باطل، كما إذا باع خمراً أو خنزيراً أو ميتة أو دماً أو صيد الحرم أو الإحرام، فلا يفيد الملك أصلاً وإن قبض؛ لأن الخلل واقع على المبيع ذاته، وهو أن الخمر والخنزير لا يثبت الملك فيهما للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع، والميتة والدم ليسا بمال متقوم، وقد أبطل الشارع تملك صيد الحرم والإحرام.
وإن كان الفساد يرجع للثمن: فإن كان الثمن مالاً في الجملة أي في بعض الأديان أو مرغوباً عند بعض الناس، كالخمر والخنزير وصيد الحرم والإحرام فإن البيع يكون فاسداً أي أنه ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب دليل على أن غرضهما البيع فينعقد بيعاً بقيمة المبيع (1) .
وأما إن كان الثمن ميتة أو دماً، فاختلف الحنفية: فقال عامتهم: يبطل، وقال بعضهم: يفسد، والصحيح أنه يبطل؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً (2) .
وبعد هذا التمهيد:
أذكر أمثلة من أنواع البيع الباطل ولو في رأي بعض الفقهاء، ثم أردفها بأمثلة أخرى من أنواع البيع الفاسد، ثم أعقبها بتفصيل حكم البيع الفاسد وما يترتب عليه.
__________
(1) الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن ما تراضى عليه المتعاقدان، سواء زاد على القيمة أو نقص عنها. والقيمة: ما قوم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقص (انظر رد المحتار: 4 ص 53) .
(2) المبسوط: 13 ص 22 ومابعدها، فتح القدير والعناية: 5 ص 186، 227، البدائع: 5 ص 299، 305.(5/81)
وقد ميزت بين أمثلة نوعي البيع المذكورين منعاً للإبهام أو الإشكال، على عكس ما يوجد في أغلب كتب الحنفية التي تذكر باب البيع الفاسد. وتريد به الأعم من كونه فاسداً أو باطلاً وهو المنهي عنه الممنوع شرعاً (1) بل إنهم قد يطلقون لفظ الفاسد ويريدون به الباطل، ويفهم المقصود إما بالقرائن أحياناً أو بما يشعر بأن البيع باطل كقولهم: لا ينقلب العقد صحيحاً، وفي البيع الفاسد بالعكس: يعود العقد صحيحاً.
المطلب الأول ـ أنواع البيع الباطل
أهم أنواع البيع الباطل ما يأتي:
1 - بيع المعدوم:
اتفق أئمة المذاهب على أنه لا ينعقد بيع المعدوم وما له خطر العدم، كبيع نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة، وبيع الحمل الموجود لأنه على خطر الوجود، وبيع الثمر والزرع قبل ظهوره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» (2) أي نتاج النتاج. ونهى أيضاً عن بيع المضامين والملاقيح (3) (والمضامين: ما
__________
(1) انظر فتح القدير: 5 ص 185، رد المحتار: 4 ص 104.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وأبو داود والنسائي والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» (انظر جامع الأصول: 1 ص 441، نيل الأوطار: 5 ص 147) .
(3) فيه عدة روايات: منها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة: قال: والمضامين: ما في أصلا ب الإبل، والملاقيح، ما في بطونها، وحبل الحبلة: ولد ولد هذه الناقة، وقيل: إن المبيع هو ولد الناقة (انظر نصب الراية: 4 ص 10) والخلاصة أن المضامين: ما في ظهر الفحل بمعنى أن يحمل البائع الفحل على ناقته، فما أنتجته كان للمشتري، أو بيع ما يضربه الفحل مدة عام أو عامين. والملاقيح: بيع الجنين في بطن أمه، أو ما في البطن من المني قبل أن يطلق عليه اسم الحمل، وهذه البيوع كانت متعارفة في الجاهلية.(5/82)
في أصلاب الذكور، والملاقيح: ما في بطون الإناث) ونهى كذلك عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، كما سيأتي.
ومن الملحق بالمعدوم: بيع لؤلؤ في صدف، وبيع اللبن في الضرع وبيع الصوف على ظهر الغنم، ومثله بيع الكتاب قبل طبعه، فإن بيع ذلك باطل عند الشافعية والحنابلة؛ لأن محل العقد غير موجود بالتأكيد، ولما روي عن ابن عباس رضي الله صلّى الله عليه وسلم عنهما أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم (1) ، ولا يباع صوف على ظهر ولا لبن في ضرع» (2) ولأن بيع اللبن في الضرع مجهول الصفة والمقدار. وجهالة مقداره، لأنه قد يرى امتلاء الضرع من السمن، فيظن أنه من اللبن. وجهالة الصفة: لأنه قد يكون اللبن صافياً، وقد يكون كدراً فأشبه الحمل، لأنه بيع عين لم تخلق، فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة، والعادة في ذلك تختلف. وفيه علة أخرى وهي: أنه معجوز التسليم، لأن اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً، فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر التمييزبينهما.
وأما لبن الظئر (أي المرضع) فيجوز بيعه للحضانة، للحاجة.(5/83)
وقال الحنفية ما عدا أبا يوسف: بيع اللبن في الضرع واللؤلؤ في الصدف والصوف على ظهر الغنم فاسد؛ للجهالة وللنهي عنه، ولأن الصوف ينمو من أسفل، فيختلط المبيع بغيره، ويصعب التمييز بينهما، فيفسد لذلك (3) .
وقال أبو يوسف: يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم والصلح عليه؛ لأنه يجوز جزه قبل الذبح، فيجوز بيعه كبيع القصيل في الأرض.
وأما سبب بطلان بيع الصوف على ظهر الغنم عند القائلين بالبطلان، فلأنه يقع الاختلاف في موضع القطع من الحيوان، فيقع الإضرار به فكان مشتملاً على الغرر، وفيه علة أخرى: وهي أنه معجوز التسليم، لأن الصوف ينمو ساعة فساعة، فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على وجه لا يمكن التمييز بينهما.
وخالف الإمام مالك في الحالتين، فقال: يجوز بيع اللبن في الضرع في الغنم السائمة التي لا يختلف لبنها، لا في الشاة الواحدة، أياماً معلومة، إذا عرف قدر حلابها، لسقي الصبي، كلبن الظئر، لتسامح غالب الناس به أياماً معلومة غالباً، بل رأينا من يسامح بلبن بقرته الشهر وأكثر بطريق الإباحة أو الهبة. وقال أيضاً: يصح بيع الصوف على ظهر الغنم، لأنه مشاهد يمكن تسليمه.
وهناك رواية عند الحنابلة تقرر مثل هذا الحكم وهو أنه يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، بشرط جزّه في الحال، لأنه معلوم يمكن تسليمه. وكذلك الظاهرية أجازوا بيع الصوف على
__________
(1) تطعم ـ بكسر العين أي يبدو صلاحها.
(2) حديث مرفوع مسند رواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في سننيهما (انظر نصب الراية: 4 ص 11، نيل الأوطار: 5 ص 149) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 113/4، البدائع: 148/5، وعبر الكاساني بأن البيع لا ينعقد في ظاهر الرواية، ومراده أنه فاسد.(5/84)
ظهور الغنم (1) .
رأي بعض الحنابلة في بيع المعدوم: أجاز ابن القيم وأستاذه ابن تيمية بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لاالعدم ولا الوجود.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فنره أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد. وعلى هذا فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر لا للعدم، فالأصل إذن هو الغرر (2) .
2 - بيع معجوز التسليم
يرى جمهور الحنفية كما في ظاهر الرواية: أنه لا ينعقد بيع معجوز التسليم عند العقد، ولو كان مملوكاً، كالطير الذي طار من يد صاحبه، أو العبد الآبق (الفارّ) واللقطة، ويكون البيع باطلاً، حتى لو ظهر الآبق ونحوه يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول، إلا إذا تراضيا حينئذ، فيكون بيعاً مبتدءاً بالتعاطي.
ولو قدر على التسليم في المجلس لا يعود جائزاً، لأنه وقع باطلاً، وعن الكرخي والطحاوي: أنه يعود جائزاً.
__________
(1) انظر المبسوط: 12 ص 194 وما بعدها، 13 ص 23، البدائع: 5 ص 139، 148، فتح القدير: 5 ص 192، رد المحتار: 4 ص 106، 112، 113، بداية المجتهد: 2 ص 147، 157، الميزان: 2 ص 67، مغني المحتاج: 2 ص 30، المهذب: 1 ص 262، المغني: 4 ص 208 ومابعدها، سبل السلام: 3 ص 32 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 256، المحلى: 8 ص 458.
(2) راجع أعلام الموقعين: 2 ص 8 وما بعدها، مصادر الحق: 3 ص 40 ومابعدها، الغرر وأثره في العقود: ص 356 ومابعدها، الأموال ونظرية العقد: ص 308.(5/85)
فإن كان الطائريذهب ويعود كالحمام الأهلي، ففي ظاهر الرواية: لا يجوز أيضاً بيعه لعدم القدرة على التسليم في الحال، وقال بعض الحنفية: إن كان الطائر داجناً يعود إلى بيته ويقدر على أخذه بلا تكلف جاز بيعه، وإلا فلا.
وكذا يبطل العقد إذا جعل معجوز التسليم ثمناً؛ لأن الثمن إذا كان عيناً، فهو مبيع في حق صاحبه (1) .
__________
(1) وذكر الكرخي رحمه الله أنه ينعقد بيع الآبق، حتى لو ظهر وسلم يجوز ولايحتاج إلى تجديد البيع، ودليله: أن الإباق لايوجب زوال الملك، ألا ترى أنه لم ينفذ للحال للعجز عن التسليم، فإن سلم زال المانع، فينفذ، كبيع المغصوب الذي في يد الغاصب إذا باعه المالك لغيره، فإنه ينعقد موقوفاً على التسليم.
ووجه ظاهر الرواية: هو أن القدرة على التسليم شرط انعقاد العقد، لأنه لاينعقد إلا لفائدة، ولايفيد إذا لم يكن قادراً على التسليم، والعجز عن التسليم ثابت حالة العقد، وفي حصول القدرة بعد ذلك شك، واحتمال قد يحصل وقد لايحصل. ومالم يكن منعقداً بيقين لاينعقد لفائدة محتملة، بخلاف بيع المغصوب من غير الغاصب، فإنه ينعقد موقوفاً على التسليم، حتى لو سلم ينفذ، لأن المالك هنا قادر على التسليم بقدرة السلطان والقاضي وجماعة المسلمين إلا أنه لم ينفذ للحال، لوجود يد الغاصب صورة، فإذا سلم زال المانع، فينفذ، بخلاف الآبق، لأنه معجوز التسليم على الإطلاق، فأشبه بيع الآبق بيع الطير في الهواء، والسمك في الماء (البدائع: 5 ص 147 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 199، رد المحتار: 4ص112، مختصر الطحاوي: ص82، الأموال ونظرية العقد لأستاذنا محمد يوسف موسى: ص 314) .
وقال المالكية: لايجوز (أي لاينعقد) بيع الآبق حال إباقه، إذا لم يعلم موضعه أو علم أنه عند من لايسهل خلاصه منه أو عند من يسهل خلاصه منه، ولم تعلم صفته فإذا كان معلوم الصفة، معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز، قال ابن رشد: وأظنه (أي الإمام مالك) اشترط أن يكون معلوم الإباق، ويتواضعان الثمن أي لايقبضه البائع حتى يقبض المشتري المبيع (بداية المجتهد: 2 ص 156، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 11) وقد ذكرت حكم العبد الآبق لمجرد الاطلاع من الناحية التاريخية.(5/86)
وقال المالكية: لا ينعقد بيع البعير الشارد والبقرة المتوحشة والمغصوب إلا أن يبيعه من غاصبه.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز (أي لا ينعقد) بيع ما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء أو السمك في الماء والجمل الشارد، والفرس العائر (أي الهائم على وجهه) والمال المغصوب في يد الغاصب والعبد الآبق، سواء علم مكانه أو جهل، ومثله بيع الدار أو الأرض تحت يد العدو (1) ؛لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع
__________
(2) المهذب: 1 ص 263، المغني: 4 ص 200 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 10.(5/87)
الحصاة، وعن بيع الغرر (1) ، وهذا غرر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم (2) . وعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر» (3) علل النهي عن بيع السمك بأنه غرر، فدل على أن الغرر: ما لا يقدر على تسليمه. والمراد بالماء الذي لايجوز بيع السمك فيه هو الماء غير المحصور كماء البحر والنهر، فإن كان الماء محصوراً كماء البركة، فقال الحنفية والشافعية والحنابلة في الجملة: يجوز بيع السمك فيه إذا كان يمكن أخذه بدون اصطياد وحيلة. ولكن للمشتري خيار الرؤية عند الحنفية. ومنع المالكية بيع السمك في الغدير أو البركة (4) .
والخلاصة: أن المذاهب الأربعة متفقة على بطلان بيع ما لا يقدر على تسليمه، مع الخلاف في بعض القيود أحياناً أو مع أقوال ضعيفة في المذهب.
وذهب الظاهرية إلى أنه لا يشترط في صحة البيع أن يكون المعقود عليه مقدور التسليم، وإنما الواجب ألا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشتراه (5) .
__________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» وقد سبق تخريجه. وبيع الحصاة مثل أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ماوقعت عليه هذه الحصاة ثم يرمي الحصاة (انظر جامع الأصول: 1ص441، نيل الأوطار: 5 ص 147) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري ونصه: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن شراء مافي بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع مافي ضروعها إلا بكيل، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 149) .
(3) رواه أحمد موقوفاً ومرفوعاً والطبراني في الكبير كذلك، ورجال الموقوف رجال الصحيح (انظر مجمع الزوائد: 4 ص 80) .
(4) البدائع: 5 ص 295، بداية المجتهد: 2 ص 156، المهذب: 1 ص 263، المغني: 4 ص 202.
(5) المحلى: 8 ص 449 وما بعدها، أصول البيوع الممنوعة: ص 130.(5/88)
بيع الدين:
الدين (1) : كثمن مبيع، وبدل قرض، ومهر بعد دخول بالمرأة أو قبل الدخول بها، وأجرة مقابل منفعة، وأرش (2) جناية، وغرامة متلف، وعوض خلع، ومسلم فيه. وبيع الدين: إما أن يكون لمن في ذمته الدين، أو لغير من عليه الدين. وفي كل من الحالتين إما أن يباع الدين نقداً في الحال، أو نسيئة مؤجلاً.
وبيع الدين نسيئة: هو ما يعرف ببيع الكالئ بالكالئ أي الدين بالدين وهو بيع ممنوع شرعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (3) ، وقد قيل: أجمع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، سواء أكان البيع للمدين، أم لغير المدين.
مثال الأول وهو بيع الدين للمدين: أن يقول شخص لآخر اشتريت منك مداً من الحنطة بدينار على أن يتم تسليم العوضين بعد شهر مثلاً. أو أن يشتري شخص شيئاً إلى أجل، فإذا حل الأجل، لم يجد البائع ما يقضي به دينه، فيقول للمشتري: بعني هذا الشيء إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض. فيكون هذا رباً حراماً تطبيقاً لقاعدة: (زدني في الأجل، وأزيدك في القدر) . أما لو باع الدين بنحو آخر كأن يبيعه الألف الذي له في ذمته بمتاع كسجادة مثلاً، أو بقدر من المال يدفعه من عليه الدين، فيصح البيع؛ لأنه في معنى الصلح.
__________
(1) يلاحظ أن (الدين) في القوانين الوضعية المعاصرة: هو العمل الذي يجب على الشخص أن يقوم به. فيشمل ما إذا كان محل هذا العمل ديناً موصوفاً في الذمة الذي يقول به فقهاؤنا، أو عيناً: وهي الشيء المعين المشخص بذاته.
(2) الأرش: هو العوض المالي المقدر شرعاً بدلاً عن الجناية التي ألحقت بعضو من الأعضاء.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عمر وصححه الحاكم على شرط مسلم، ورواه الطبراني عن رافع بن خديج، ولكن تفرد به موسى بن عبيدة الربذي، وفيه كلام (نيل الأوطار: 156/5) .(5/89)
ومثال بيع الدين لغير المدين: أن يقول رجل لغيره: بعتك العشرين مداً من القمح التي لي عند فلان بكذا تدفعها لي بعد شهر (1) ، أو بسلعة حاضرة (عين) لم يصح البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع.
وبيع الدين نقداً في الحال: اختلف الفقهاء في شأنه على التفصيل الآتي:
أولاً ـ بيع الدين للمدين: أجاز جمهور الفقهاء أئمة المذاهب الأربعة بيع الدين لمن عليه الدين أو هبته له؛ لأن المانع من صحة بيع الدين بالدين هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم ههنا، فما في ذمة المدين مسلم له (2) . ومثاله: أن يبيع الدائن للمدين ديناً له في ذمته بدين آخر من غير جنسه، فيسقط الدين المبيع، ويجب عوضه، لأنه في معنى الصلح، وهو جائز،، ويدل ما أخرجه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع الدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وأخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء» فهذا البيع بين الدنانير والدراهم بيع للدين بعين ممن عليه الدين، لأنه قوله: «أبيع بالدنانير» أي ديناً؛ لأنه لم يقبضهما، ثم يستبدل بها دراهم يقبضها.
وقال الظاهرية: لا يجوز بيع الدين إلى المدين لوجود الغرر فيه، قال ابن حزم: لأنه بيع مجهول، وما لا يدرى عينه، وهذا هو أكل مال بالباطل (3) .
__________
(1) راجع سبل السلام: 3 ص 45، نيل الأوطار: 5 ص 156، الشرح الكبير والدسوقي: 3 ص 61 ومابعدها، الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق: ص 311 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 58، المهذب: 1 ص 262.
(2) البدائع: 5 ص 148، تكملة ابن عابدين: 326/2، الفتاوى الهندية: 365/4، أصول البيوع الممنوعة: ص 111، المغني: 4 ص 120.
(3) المحلى: 9 ص 7 ومابعدها، أصول البيوع، المكان السابق.(5/90)
ثانياً ـ بيع الدين لغير المدين: قال الحنفية والظاهرية: بما أنه لا يجوز بيع معجوز التسليم، فلا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، لأن الدين غير مقدور التسليم إلا للمدين نفسه في حق البائع؛ لأن الدين عبارة عن مال حكمي في الذمة، أو عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل ذلك غير مقدور التسليم من البائع. ولو شرط التسليم على المدين لا يصح البيع أيضاً؛ لأن البائع شرط التسليم على غيره، فيكون شرطاً فاسداً، فيفسد البيع (1) ، لعدم القدرة على تسليم المبيع.
وقال بعض الشافعية (2) : يجوز بيع الدين المستقر (3) للمدين ولغير المدين قبل القبض، لأن الظاهر القدرة على التسليم من غير منع ولا جحود، ومثال الدين المستقر: قيمة المتلفات، والمال الموجود عند المقترض.
وأما إن كان الدين غير مستقر: فإن كان مسلَماً فيه في عقد السلم، فلا يجوز التصرف فيه قبل قبضه، لعموم النهي عن بيع مالم يقبض، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر، لأنه ربما تعذر تسليمه لفقدانه، فانفسخ البيع فيه.
__________
(1) البدائع، في المكانين السابقين.
(2) المهذب: 1 ص 262 وما بعدها.
(3) الدين المستقر: هو الثابت استيفاؤه والذي يكون الملك عليه لازماً مستحقاً لصاحبه دون أن يكون هناك أي احتمال آخر لسقوطه.(5/91)
وإن كان الدين ثمناً في بيع، ففي قول للشافعي: يجوز التصرف فيه قبل قبضه لخبر ابن عمر في هذا الشأن عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لابأس مالم تتفرقا، وبينكما شيء» (1) ولأنه لايخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك، فصار ذلك مثل المبيع بعد القبض. هذا ولايصح اتفاقاً بيع الدين بالدين إلى أجل كما تقدم في النقود والمطعومات وغيرها من أموال الربا، ولايصح لأحد أن يعتمد على هذا القول وغيره فيما يخالف الأحكام المقررة قطعاً. قال النووي في المنهاج: وبيع الدين لغير من هو عليه الدين باطل في الأظهر.
وقال الحنابلة: يصح في الصحيح من المذهب بيع الدين المستقر للمدين كبدل قرض ومهر بعد الدخول. ولايصح بيع الدين لغير المدين، كما لاتصح هبة الدين لغير من هو في ذمته؛ لأن الهبة تقتضي وجود معين، وهو منتفٍ هنا. كما لايصح بيع الدين غير المستقر كأجرة عقار قبل مضي مدة الإيجار، ومهر قبل دخول بالمرأة، ومسلم فيه قبل القبض، إلا أن ابن القيم أجاز بيع الدين
__________
(1) رواه الترمذي وغيره، وصححه الحاكم على شرط مسلم، والقصة معروفة وهي أن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم، فآخذ الدنانير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لابأس مالم تتفرقا وبينكما شيء» .(5/92)
للمدين ولغير المدين (1) .
وقال المالكية: يجوز بيع الدين لغير المدين بشروط ثمانية تبعده عن الغرر والربا وأي محظور آخر كبيع الطعام قبل قبضه، وتتلخص هذه الشروط هنا في شرطين هما:
1ً - ألا يؤدي البيع إلى محظور شرعي كالربا والغرر ونحوهما: فلابد من أن يكون الدين ممايجوز بيعه قبل قبضه، كأن يكون من قرض ونحوه، ويكون الدين المبيع غير طعام، وأن يباع بثمن مقبوض أي معجل لئلا يكون ديناً بدين، وأن يكون الثمن من غير جنس الدين المبيع أو من جنسه مع التساوي بينهما حذراً من الوقوع في الربا، وألا يكون الثمن ذهباً إذا كان الدين فضة، حتى لايؤدي ذلك إلى بيع النقد بالنقد نسيئة من غير مناجزة، فهذه أربعة شروط في شرط.
2 - أن يغلب على الظن الحصول على الدين بأن يكون المدين حاضراً في بلد العقد، ليعلم حاله من عسر أو يسر، وأن يكون المدين مقراً بالدين، حتى لاينكره بعدئذ، فلا يجوز بيع حق متنازع فيه، وأن يكون أهلاً للالتزام بالدين بألا يكون قاصراً ولا محجوراً عليه مثلاً ليكون الدين مقدور التسليم، وألا يكون بين المشتري وبين المدين عداوة حتى لايتضرر المشتري أو حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين خصمه منه (2) .
فهذه أربعة شروط أخرى في شرط. ويظهر لنا أن مذهب المالكية هو الراجح بين المذاهب. وفي الواقع لايجوز بيع الدين بالدين، مثل أن يبيع ديناً له على رجل من آخر بالتأخير، ولايجوز أيضاً فسخ الدين في الدين، مثل أن يدفع الغريم لصاحب الدين ثمرة يجنيها، أو داراً يسكنها، لتأخر القبض في ذلك (3) .
خصم (حسم) الكمبيالة: ذكر الحنفية (4) أن بيع أوراق الكمبيالة المتعارف في زماننا إلى غير الغريم (المدين) أو لمن عليه أموال أميرية بأنقص من الحق غير صحيح.
3 - بيع الغرر:
الغرر في اللغة: الخطر، والتغرير: التعريض للهلاك، وأصل الغرر لغة: هو ماله ظاهر محبوب، وباطن مكروه. ولذلك سميت الدنيا متاع الغرور. فالغرر:
__________
(1) المغني: 4 ص 120، 301، غاية المنتهى: 2 ص 80 ومابعدها، أعلام الموقعين: 1ص388 ومابعدها. كشاف القناع: 337/4.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3ص63، بداية المجتهد: 2 ص 146، القوانين الفقهية: ص210، 289، أصول البيوع الممنوعة: 109، الغرر وأثره في العقود: ص 315.
(3) القوانين الفقهية: ص 289.
(4) أصول البيوع الممنوعة في الشريعة الإسلامية وموقف القوانين منها للأستاذ عبد السميع إمام: ص 120.(5/93)
تعريض المرء نفسه أو ماله للهلاك من غير أن يعرف.
وبيع الغرر: هو بمعنى مغرور اسم مفعول، فهو من إضافة المصدر إلى اسم المفعول. ورجح بعضهم (1) أن الإضافة هنا من إضافة الموصوف إلى صفته، أو من إضافة المصدر إلى نوعه، ولايصح جعل الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، كما يقول ابن تيمية، لأنه يترتب على هذا كون الغرر خاصاً بمحل العقد، وليس كذلك، فإن من الغرر المنهي عنه باتفاق الفقهاء مايرجع إلى الصفة التي وقع عليها العقد، كبيع الحصاة. أما إذا جعلنا الإضافة إلى الصفة أو نوع المصدر، فإن النهي يعم كل بيوع الغرر، سواء أكان الغرر في محل العقد كبيع الطير في الهواء، وشاة من قطيع، أم في صيغته كالبيعتين في بيعة، والشرطين في بيع وبيع العربان، وبيع الحصاة ونحوها. والغرر لغة: معناه الخداع الذي هو مظنة ألا رضا به عند تحققه، فيكون من أكل المال بالباطل (2) . والغرر فقهاً يتناول الغش والخداع والجهالة بالمعقود عليه، وعدم القدرة على التسليم. قال الصنعاني: يتحقق بيع الغرر في صور: إما بعدم القدر ة على التسليم كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، أو بكونه معدوماً أو مجهولاً، أو لا يتم ملك البائع له، كالسمك في الماء الكثير، وغيرها من الصور (3) .
الغرر في اصطلاح الفقهاء: ذكر فقهاء المذاهب تعريفات للغرر متقاربة نسبياً، منها:
قال السرخسي الحنفية: الغرر: ما يكون مستور العاقبة (4) .
__________
(1) انظر رسالة الزميل الدكتور الصدّيق الأمين «الغرر وأثره في العقود» ص 62.
(2) سبل السلام: 3 ص 15.
(3) المرجع السابق، القوانين الفقهية: ص 256.
(4) المبسوط: 12 ص 194.(5/94)
وقال القرافي من المالكية: أصل الغرر: هو الذي لا يدرى هل يحصل أم لا كالطير في الهواء والسمك في الماء (1) .
وقال الشيرازي الشافعي: الغرر: ما انطوى عنه أمره وخفي عليه عاقبته (2) .
وقال الإسنوي الشافعي: الغرر: هو ما تردد بين شيئين أغلبهما أخوفهما (3) .
وقال ابن تيمية: الغرر هو المجهول العاقبة. وقال ابن القيم: هو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أو معدوماً كبيع العبد الآبق، والبعير الشارد، وإن كان موجوداً (4) .
وقال ابن حزم: ما لا يدري المشتري ما اشترى، أو البائع ما باع (5) .
والخلاصة: أن بيع الغرر: هو البيع الذي يتضمن خطراً يلحق أحد المتعاقدين، فيؤدي إلى ضياع ماله (6) . وعرفه الأستاذ الزرقاء فقال: هو بيع الأشياء الاحتمالية غير المحققة الوجود أو الحدود، لما فيه من مغامرة وتغريريجعله أشبه بالقمار. والغرر الذي يبطل البيع: هو غرر الوجود: وهوكل ما كان المبيع فيه محتملاً للوجود والعدم. أما غرر الوصف فمفسد للبيع (7) ، كما عرفنا في شرائط الصحة.
الغرر إذن: هو الخطر بمعنى أن وجوده غير متحقق، فقد يوجد وقد لا يوجد. وبيع الغرر: بيع ما لا يعلم وجوده وعدمه، أو لا تعلم قلته وكثرته، أو لا يقدر على تسليمه.
__________
(1) الفروق: 3 ص 265.
(2) المهذب: 1 ص 262.
(3) نهاية السول شرح منهاج الأصول: 2 ص 89.
(4) أعلام الموقعين: 2 ص 9، الفتاوى لابن تيمية: 3 ص 275.
(5) المحلى: 396/8.
(6) أصول البيوع الممنوعة: ص 130.
(7) المدخل الفقهي العام له: 1 ص 97، عقد البيع له أيضاً، حاشية ص 20.(5/95)
ملاحظات على التعاريف: قصر الظاهرية الغرر على المجهول، وقصره بعض الحنفية على ما لا يدرى حصوله، وأخرجوا عنه المجهول، والراجح عند أكثر الفقهاء أن الغرر يشمل ما لا يدرى حصوله، والمجهول (1) ، فيكون تعريف السرخسي للغرر هو أرجح التعاريف: وهو ماكان مستور العاقبة.
حكم بيع الغرر: قال الإمام النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جداً. ويستثنى من بيع الغرر أمران:
أحدهما ـ ما يدخل في المبيع تبعاً، بحيث لو أفرد، لم يصح بيعه كبيع أساس البناء تبعاً للبناء، واللبن في الضرع تبعاً للدابة.
والثاني ـ ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه أو تعيينه، كدخول الحمام بالأجر، مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطناً (2) .
اتفق الفقهاء على عدم صحة بيع الغرر، مثل بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر، واللؤلؤ في الصدف، والحمل في البطن، والسمك في الماء، والطير في الهواء قبل صيدهما، وبيع مال الغير على أن يشتريه فيسلمه، أي بيع ما سيملكه قبل ملكه له، لأن البائع باع ما ليس بمملوك له في الحال، سواء أكان السمك في البحر، أم في النهر، أم في حظيرة لا يؤخذ منها إلا باصطياد، وسواء أكان الغرر في المبيع أم في الثمن.
__________
(1) راجع رسالة الغرر وأثره في العقود: ص 33 ومابعدها.
(2) المجموع: 9 ص 280 ومابعدها، نيل الأوطار: 5 ص 148، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 76/2.(5/96)
ومن البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر: بيع المضامين والملاقيح، وبيع الملامسة والمنابذة والحصاة (1) ، وبيع ضربة القانص (بأن يقول البائع: بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشبكة مرة
__________
(1) سبق شرح المضامين والملاقيح، وأما بيع الملامسة: فهو مثل بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، أو إن لمسته، أو أي ثوب من هذه الأثواب لمسته، فهو لك. وبيع المنابذة مثل: إن أو متى نبذت هذا، أو أي ثوب نبذته لك (أي طرحته) فهو لك بكذا. وبيع الحصاة الذي يشبه بيع اليانصيب اليوم، كأن يقول: ارم بهذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك، أو بعتك من هذه الأرض ما انتهت إليه الحصاة في الرمي. ولفظ الغرر يشملها، إلا أنها أفردت في الحديث بالنهي كما سنلاحظ، لكونها كانت مما يبتاعها أهل الجاهلية. (سبل السلام: 3 ص 15، غاية المنتهى: 2 ص 11) وفسر الحنفية هذه البيوع الثلاثة تفسيراً يشعر بأن اللمس أمارة على لزوم البيع، سواء أكان المشتري عالماً بالمبيع أم جاهلاً به، في حين أن مفهوم بيع الملامسة عند المحدثين هو أن اللمس يقوم مقام نظر السلعة إذا احتاج الأمر إلى ذلك كالثوب، قال المرغيناني: هي أن يتراوض الرجلان على سلعة (أي يتساومان) فإذا لمسها المشتري، أو نبذها إليه البائع، أو وضع المشتري عليها حصاة، لزم المبيع، فالأول بيع الملامسة، والثاني: المنابذة، والثالث: إلقاء الحجر أي بيع الحصاة (راجع فتح القدير: 5 ص 196) .(5/97)
بكذا) وضربة الغائص (بأن يقول: أغوص غوصة، فما أخرجته من اللآلئ، فهو لك بكذا) (2) فالمبيع في الأنواع الخمسة الأخيرة مجهول الذات أو المقدار، وقد ثبت النهي عنها، وهي من بيوع الجاهلية.
ومنها بيع المزابنة: وهو بيع الرطب أو العنب على النخل أو الكرمة بتمر مقطوع، أوزبيب مثل كيله خرصاً أي بتقديره حَزْراً أو تخميناً. وبيع المحاقلة: أي بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن المزابنة والمحاقلة» (3) لما في ذلك من الربا لجهالة مقدار المبيع، إذ أنه كما هو معلوم يشترط
__________
(2) الصائد بالآلة هو القانص سواء في البر أو البحر. وأما من يغوص في البحر لاستخراج اللآلئ مثلاً فهو الغائص، وقد ورد النهي عن ضربة الغائص في حديث أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار: 148/5) .
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن عباس، وأنس. وأخرجه مسلم أيضاً من حديث أنس (راجع نصب الراية: 4 ص 12 ومابعدها، نيل الأوطار: 5 ص 198 ومابعدها) .(5/98)
التماثل حقيقة في بيع الأموال الربوية. لكن للحاجة رخص الشافعية والحنابلة والظاهرية، وفي الراجح عند المالكية بيع العرايا (1) : وهو عند الشافعية بيع الرطب على النخل خرصاً بتمر في الأرض كيلاً، أو بيع العنب على الشجر خرصاً بزبيب في الأرض كيلاً، فيما دون خمس أوسق (2) بشرط التقابض في المجلس عند الفقهاء ما عدا المالكية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا (3) . وأما الحنفية فقد أجازوا بيع العرايا للضرورة فقط، وذكر الشوكاني أن أبا حنيفة منع صور بيع العرايا كلها، وقصر العرية على الهبة: وهي أن يهب صاحب البستان لرجل ثمر نخلات معلومة من بستانه، ثم يتضرر بدخوله عليه، فيخرصها، ويشتري رطبها منه بقدر خرصه بتمر معجل أي بقدر ما وهبه له من الرطب بما يساويه تخميناً من التمر (4) .
ويلاحظ أن هذه البيوع غير الصحيحة بسبب الغرر، منها الباطل، ومنها الفاسد في اصطلاح الحنفية، والفاسد منها فقط: هو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة والمحاقلة والملامسة والمنابذة وبيع الحصاة، وبيع ثوب من أثواب ونحوها
__________
(1) العرايا: جمع عَرِيّة، والعرية: النخلة المعراة والتي أكل ما عليها، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة، وقال الجوهري: هي النخلة التي يعريها (أي يعطيها) صاحبها رجلاً محتاجاً بأن يجعل له ثمرها عاماً، من عراه: إذا قصده. وتكون العرية في اللغة: هي الشجرة التي يفردها مالكها للأكل، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم جميع أشجار البستان.
(2) الوسق: ستون صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلم والخمسة أوسق تساوي 257 رطلاً شامياً أي قنطارين ونصف تقريباً أو 653 كغ. وقد قصر الحنابلة والظاهرية بيع العرايا على ثمر النخل دون العنب، وأجازه مالك في كل ماييبس ويدخر كالجوز واللوز والتين.
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن أبي حثمة، وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق (شك من الراوي) والمقصود من بيع الثمر بالتمر أي بيع ثمر النخلة الجديد بالتمر القديم (راجع نصب الراية: 4 ص 13، نيل الأوطار: 5 ص 200) .
(4) نيل الأوطار: 5ص201، مختصر الطحاوي: ص78.(5/99)
مما فيه جهالة. وأما ما عداها فهو باطل (1) . فبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة باطل، لنهيه صلّى الله عليه وسلم عنه، ولما فيه من الغرر، كما تقدم في بحث بيع المعدوم.
والدليل على عدم صحة بيع الغرر في الجملة: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لاتشتروا السمك في الماء، فإنه غرر» (2) ، ولأنه غير مقدور على تسليمه، وفيه جهالة فاحشة بمحل العقد أو بمقدار المبيع، ولأنه غير مملوك للبائع محل العقد.
الغرر اليسير: الغرر والجهالة ثلاثة أقسام (3) : كثير ممتنع إجماعاً كالطير في الهواء. وقليل جائز إجماعاً كأساس الدار وقطن الجبة. ومتوسط اختلف فيه: هل يلحق بالأول أو بالثاني، فلارتفاعه عن القليل ألحق بالكثير، ولانحطاطه عن الكثير، ألحق بالقليل. أجاز الحنفية بيع مايشتمل على غرر يسير، كالأشياء التي تختفي في قشرها كالجوز واللوز والفستق والباقلاء (4) الأخضر، والأرز والسمسم في قشرها الأعلى، والحنطة في سنبلها، والبطيخ والرمان على أن يكون للمشتري خيار الرؤية كما سيأتي بيانه في بحث هذا الخيار.
__________
(1) التبس على بعض المؤلفين أن بيع الطير في الهواء والسمك في الماء قبل الاصطياد بيع فاسد عند الحنفية، والتحقيق أنه باطل، لأنه بيع شيء غير مملوك في الحال (راجع رد المحتار: 4ص111 ومابعدها، وقارن اللباب شرح الكتاب: 2ص25، الغرر وأثره في العقود: ص 347) .
(2) سبق قريباً تخريج هذين الحديثين.
(3) الفروق: 265/3.
(4) هو الفول الأخضر أي ونحوه.(5/100)
أما المالكية والحنابلة: فأجازوا مطلقاً كل مافيه غرر يسير، أو التي تدعو إليه الضرورة، كهذه الأشياء التي ذكرت.
وأما الشافعية: فإنهم أجازوا بيع هذه الأشياء في قشرها الأسفل. أما بيعها بقشرها الأعلى فاختلفوا فيه على رأيين مشهورين في المذهب، رجح النووي والبغوي والشيرازي عدم الصحة. وقال إمام الحرمين والغزالي: الأصح صحته؛ لأن الشافعي رضي الله عنه أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب، ولتعارف ذلك في جميع البلدان من غير إنكار (1) .
وإني أرجح جواز بيع هذه الأشياء مطلقاً كما رأى المالكية والحنابلة لتعارف الناس هذه البيوع، فإذا وجد فيها عيب أمكن فسخ العقد بمقتضى خيار العيب.
حكم التأمين مع شركات التأمين في الإسلام
التأمين حديث النشأة، فقد ظهر بمعناه الحقيقي في القرن الرابع عشر الميلادي في إيطاليا في صورة التأمين البحري. والتأمين (أو السوكرة) نوعان: تأمين تعاوني وتأمين بقسط ثابت (2) .
أما التأمين التعاوني: فهو أن يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم اشتراكاً معيناً، لتعويض الأضرار التي قد تصيب أحدهم إذا تحقق خطر معين. وهو قليل التطبيق في الحياة العملية.
__________
(1) راجع مذاهب الفقهاء في الغرر: المبسوط: 12 ص 194 ومابعدها، تبيين الحقائق: 4ص45 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 106، 191 ومابعدها، البدائع: 5 ص 147 ومابعدها، 294، رد المحتار والدر المختار: 4 ص 111-114، المنتقى على الموطأ: 5ص41، بداية المجتهد: 2 ص 151، 156، 158، الشرح الكبير للدردير: 3ص55-60، القوانين الفقهية: ص256 ومابعدها، الفروق للقرافي: 1ص150 ومابعدها، مغني المحتاج: 2ص31، 90، 93، المهذب: 1 ص 263 ومابعدها، المجموع: 9ص281، 374، 335، المغني: 4ص56، 92، 201، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 2ص125 ومابعدها، نيل الأوطار: 5ص147، 200 ومابعدها، سبل السلام: 3ص15.
(2) التأمين في القانون المصري والمقارن للدكتور عبد المنعم البدراوي: ص 36 ومابعدها.(5/101)
وأما التأمين بقسط ثابت: فهو أن يلتزم المؤمَّن له بدفع قسط محدد إلى المؤمِّن: وهو شركة التأمين المكونة من أفراد المساهمين، يتعهد (أي المؤمن) بمقتضاه دفع أداء معين عند تحقق خطر معين. وهو النوع السائد الآن. ويدفع العوض إما إلى مستفيد معين أو إلى شخص المؤمن أو إلى ورثته، فهو عقد معاوضة ملزم للطرفين.
والفرق بين النوعين: أن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمن لهم، ولايسعى أعضاؤه إلى تحقيق ربح، وإنما يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء. أما التأمين بقسط ثابت فيتولاه المؤمن (أي الشركة المساهمة) الذي يهدف إلى تحقيق ربح، على حساب المشتركين المؤمن لهم. وكون المؤمن له قد لايأخذ شيئاً في بعض الأحيان لايخرج التأمين من عقود المعاوضات، لأن من طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد العاقدين على العوض أحياناً.(5/102)
حكم التأمين التعاوني: لاشك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام، لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون على البر؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أيا كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسمانية، أو على الأشياء (بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان) أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل (1) ، ويجوز أيضاً للمؤمن له التأمين الإلزامي كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير، وتجوز التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والمرض والتقاعد.
التأمين بقسط ثابت ـ فتوى ابن عابدين: أفتى ابن عابدين بحرمة التأمين البحري (2) ، لضمان ما قد يهلك من البضائع المستوردة بطريق النقل البحري، بالمراكب، فلا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من مال المؤمِّن لأسباب ثلاثة:
1 - إن هذا العقد التزام ما لا يلزم، لعدم وجود سبب شرعي من أسباب الضمان الأربعة وهي العدوان من قتل وهدم وإحراق ونحوها، وتسبب الإتلاف كحفر بئر بدون ترخيص في الطريق العام، ووضع اليد غير المؤتمنة كالغصب والسرقة وبقاء المبيع في يد البائع، والكفالة. وليس المؤمِّن متعدياً، ولا متسبباً في الإتلاف، ولا واضع يد على المؤمن عليه، وليس في التأمين مكفول معين.
2 - ليس التأمين من قبيل تضمين الوديع إذا أخذ أجراً على الوديعة إذا هلكت: لأن المال ليس في يد المؤمن، بل في يد صاحب المركب، ولو كان صاحب المركب هو المؤمن، فإنه يكون أجيراً مشتركاً، لا وديعاً، وكل من الوديع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه، كالموت والغرق والحرق الغالب.
__________
(1) انظر الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق محمد الأمين الضرير: ص 521 وما بعدها.
(2) رد المحتار: 273/3 ومابعدها ـ فصل في استئمان الكافر الحربي.(5/103)
3 - ليس التأمين من قبيل تضمين التغرير: لأن الغارّ لا بد من أن يكون عالماً بالخطر، وأن يكون المغرور جاهلاً به غير عالم. والمؤمن (شركة التأمين أو الضمان) لا يقصد تغرير التجار (المؤمن لهم) ، ولا يعلم بحصول الخطر ـ الغرق مثلاً ـ هل يكون أو لا، أي لا يعلم: هل تغرق المركب أو لا؟
أما في حال العلم بالخطر من المؤمن والتاجر كالخطر من اللصوص قطاع الطرق، فيجوز الضمان، ولكن ليس التأمين منطبقاً عليها. فلو قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق، فإن كان مخوفاً وأخذ مالك، فأنا ضامن: ضمن.
وأضاف ابن عابدين: أنه إن جرى عقد التأمين الفاسد في بلاد الحرب بين المؤمَّن وشريك حربي غير مسلم للمؤمن له، أو بين التاجر المؤمن له الموجود في دار الحرب وبين المؤمِّن، وأخذ بدل الهالك، وأرسله في الحالة الأولى إلى التاجر المسلم، أو قبض التاجر البدل في بلادنا في الحالة الثانية، فالظاهر أنه يحل للتاجر أخذه؛ لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب، وقد وصل إلى التاجر مالهم برضاهم، فلا مانع من أخذه. أما إن كان العقد في بلادنا، والقبض في بلاد الحرب، فلا يحل أخذ البدل، ولو برضا الحربي، لانبنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام.
ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل شركة المضاربة التي هي مال من طرف وعمل من طرف آخر، لسببين: أولهما ـ أن الأقساط التي يدفعها المؤمَّن له تدخل في ملك شركة التأمين (المؤمِّن) ، وهي مطلقة اليد في أن تتصرف بها كيفما تشاء. ويخسرها المؤمن له إن لم يقع الحادث.(5/104)
ثانيهما ـ أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعاً بالنسبة كالربع أو الثلث، وفي التأمين يشترط للمشترك المؤمن له قدر معين في الربح 3% أو 4% فتكون هذه المضاربة غير صحيحة. ولو تجاوز العاقد هذا السبب، يظل السبب الأول، كما أنه في حال موت المؤمن له قد لا يذهب المبلغ المؤمن عليه للورثة مطلقاً وإنما للمستفيد، بخلاف حال موت رب المال في المضاربة.
ولا يصح اعتبار التأمين من قبيل الضمان أو الكفالة، لأنه ليس واحداً من أسباب الضمان الأربعة المشروعة المتقدمة، كما أنه في كثير من صور عقد التأمين لا يوجد فيه ما يمكن أن يعتبر مكفولاً، وإن وجد المكفول كما في التأمين من حوادث السيارات، فهو مجهول.
والحقيقة أن عقد التأمين من عقود الغرر ـ العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ويقاس عليه عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها كما يؤثر في عقد البيع. وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية. وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان «عقود الغرر» ؛ لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
والغرر في التأمين كثير، لا يسير، ولا متوسط، لأن من أركان التأمين: «الخطر» والخطر هو حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين (1) .
والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لا يهلك) (2) يشترط فيها أن تكون عامة، أو خاصة بفئة، وأن تكون متعينة.
والحاجة العامة: هي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. والحاجة الخاصة: هي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد، أو حرفة.
__________
(1) انظر الغرر وأثره في العقود للدكتور الصدّيق محمد الأمين الضرير: ص 656، 661.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 77، القاعدة الرابعة.(5/105)
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.
ولو سلمنا بوجود حاجة عامة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان. فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة، فيمنع في الإسلام.
وبناء عليه لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال السوكرة؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل.
التأمين وإعادة التأمين
تعريف عقد التأمين: عرَّف القانون المصري (م 747) والقانون السوري (م 713) وغيرهما التأمين بأنه «عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له ـ المستأمن ـ أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال، أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث، أو تحقق خطر مبين في العقد، وذلك في مقابل قسط، أو أية دفعة أخرى يؤديها المؤمَّن له إلى المؤمِّن» .
يظهر من هذا التعريف اتجاهه إلى بيان عقد التأمين التجاري التبادلي الذي يقوم بين عاقدين: المؤمِّن وهو شركة التأمين، والمستأمن وهو المتعامل مع الشركة، مقابل قسط ثابت هو قسط التأمين وأخذ عوض هو عوض التأمين عند حصول الخطر أو الحادث المؤمن عليه، وهو من العقود الاحتمالية وعقود المعاوضات المالية. لكن لايلزم في العقد الاحتمالي الحصول على العوض أحياناً، وليس العوض تبرعاً من المؤمن.(5/106)
ويتبين من التعريف أيضاً أن التأمين من عقود الغرر، إذ لا يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي كل من العاقدين أو يأخذ، فقد يدفع المستأمن قسطاً واحداً من الأقساط، ثم يقع الحادث، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الحادث.
وهو كذلك عقد من عقود التراضي، وملزم للطرفين، ومن عقود المدة، فلا بد من زمن لتنفيذ التزامات الطرفين، وعقد من عقود الإذعان؛ لأن المستأمن يخضع لشروط وقيود محددة سلفاً من قبل شركات التأمين.
أنواع التأمين:
التأمين من حيث الشكل نوعان:
1ً - تأمين تعاوني: وهوأن يشترك مجموعة من الأشخاص بدفع مبلغ معين، ثم يؤدى من الاشتراكات تعويض لمن يصيبه ضرر.
2ً - تأمين تجاري أو التأمين ذو القسط الثابت، وهو المراد عادة عند إطلاق كلمة التأمين، وفيه يلتزم المستأمن بدفع قسط معين إلى شركة التأمين القائمة على المساهمة، على أن يتحمل المؤمِّن (الشركة) تعويض الضرر الذي يصيب المؤمَّن له أو المستأمن. فإن لم يقع الحادث فَقَد المستأمن حقه في الأقساط، وصارت حقاً للمؤمِّن.
وهذا النوع ينقسم من حيث موضوعه إلى:
1ً - تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في ذمة المؤمَّن له، لتعويضه عن الخسارة التي تلحقه. وهذا يشمل:
التأمين من المسؤولية: وهو ضمان المؤمَّن له ضد مسؤوليته عن الغير الذي أصيب بضرر، مثل حوادث السير، والعمل.
والتأمين على الأشياء: وهو تعويض المؤمَّن له عن الخسارة التي تلحقه في ماله، بسبب السرقة أو الحريق أو الفيضان، أو الآفات الزراعية ونحو ذلك.
2ً - وتأمين الأشخاص: وهو يشمل:
التأمين على الحياة: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ لشخص المستأمن أو للورثة عند الوفاة، أو الشيخوخة، أو المرض أو العاهة، بحسب مقدار الإصابة. والتأمين من الحوادث الجسمانية: وهو أن يلتزم المؤمّن بدفع مبلغ معين إلى المؤمن له في حالة إصابته أثناء المدة المؤمن فيها بحادث جسماني، أو إلى مستفيد آخر إذا مات المستأمن.(5/107)
والتأمين من حيث العموم والخصوص ينقسم إلى قسمين:
1ً - تأمين خاص أو فردي: خاص بشخص المستأمن من خطر معين.
2ً - تأمين اجتماعي أو عام: يشمل مجموعة من الأفراد يعتمدون على كسب عملهم، من أخطار معينة، كالمرض والشيخوخة والبطالة والعجز، وهذا في الغالب يكون إجبارياً، ومنه التأمينات الاجتماعية، والصحية والتقاعدية.
موقف الفقه الإسلامي من التأمين:
لا شك كما تبين سابقاً في جواز التأمين التعاوني في منظار الفقهاء المسلمين المعاصرين؛ لأنه يدخل في عقود التبرعات، ومن قبيل التعاون المطلوب شرعاً على البر والخير؛ لأن كل مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، لتخفيف آثار المخاطر وترميم الأضرار التي تصيب أحد المشتركين، أياً كان نوع الضرر، سواء في التأمين على الحياة، أو الحوادث الجسدية، أو على الأشياء بسبب الحريق أو السرقة أو موت الحيوان، أو ضد المسؤولية من حوادث السير، أو حوادث العمل، ولأنه لا يستهدف تحقيق الأرباح.
وعلى هذا الأساس نشأت شركات التأمين التعاوني في السودان وغيره، ونجحت في مهامها وأعمالها، بالرغم من وصف القانونيين لها بأنها بدائية.
كذلك يجوز التأمين الإجباري أو الإلزامي الذي تفرضه الدولة؛ لأنه بمثابة دفع ضريبة للدولة، كالتأمين المفروض على السيارات ضد الغير. ولا مانع من جواز التأمين الاجتماعي ضد طوارئ العجز والشيخوخة والمرض والبطالة والتقاعد عن العمل الوظيفي، لأن الدولة مطالبة برعاية رعاياها في مثل هذه الأحوال، ولخلوه من الربا، والغرر، والمقامرة.
وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385هـ/1965م) ، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978م) .(5/108)
أما التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت: فهو غير جائز شرعاً، وهو رأي أكثر فقهاء العصر، وهو ما قرره المؤتمر العالمي الأولي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396هـ/1976م) ، وسبب عدم الجواز يكاد ينحصر في أمرين: هما الغرر والربا.
أما الربا: فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لأن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه قطعاً؛ لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمَّن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً في الإسلام.
والقائلون بجواز عقد التأمين يرفضون صراحة استثمار شركات التأمين في معاملات ربوية، ولا يقرون للمستأمن أن يقبض شيئاً من الفوائد التي تدفعها شركة التأمين.
والربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن، لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر. والدفع متأخر في المستقبل. فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام.
فإن قيل: إن التأمين التعاقدي قائم على أساس التعاون لجبر الضرر وترميم الأضرار والمصائب، فلا يكون فيه ربا أو شبهة ربا، أجيب بأن المستأمن يقصد أحياناً المراباة، ويبقى الربا قائماً في عوض التأمين؛ لأنه حصيلة الفوائد والمعاملات الربوية.
أما الغرر: فواضح في التأمين؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت في السنة حديث صحيح، رواه الثقات عن جمع من الصحابة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (1) . ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع.
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/109)
وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية، وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
والغرر في التأمين في الواقع كثير، لا يسير، ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً.
وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ، أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق وبحث الأحوال الاجتماعية لشخص المستأمن وظروفه وأوضاعه.
وما قد يقال من اعتماد شركة التأمين على حسابات دقيقة تنتفي معها صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية، لا يبيح التأمين؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً. والفقه الإسلامي لا ينظر إلى مجموع العقود التي تبرمها شركات التأمين، وإنما ينظر في الحكم على العقد صحة وفساداً إلى كل عقد على حدة.(5/110)
والقول بأنه لا غرر ولا احتمال بالنسبة للمستأمن؛ لأن محل العقد في التأمين هو الأمان دون توقف على الخطر، وقد حصل عليه عند دفع القسط الأول، هو قول باطل؛ لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين. وليس هو محل العقد، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من العاقدين: المؤمن والمستأمن، أو ما يدفعه أحدهما. ولو قلنا: إن الأمان هو المحل، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به.
ومحل عقد المعاوضة، كما تدل الأحاديث الناهية عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة، يجب أن يكون موجوداً وقت التعاقد، وأن يكون في حال يمكن معها الانتفاع منه على الوجه المقصود في العقد أو المعتاد، فإن لم يكن كذلك أو كان معدوماً، ولو محتمل الوجود في المستقبل، فلا يجوز شرعاً، ومحل التأمين احتمالي الوجود؛ إذ هو ما يدفعه كلا العاقدين، أو ما يدفعه أحدهما كالتعويض الذي يدفعه المؤمن (شركات التأمين) حين وقوع الضرر أو الموت بحسب شروط العقد.
والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر، ولو كان كثيراً: (وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لولم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لايهلك) يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصةبفئة معينة، وأن تكون متعينة.
أما الحاجة العامة: فهي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. وأما الحاجة الخاصة: فهي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة كما تقدم.
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.(5/111)
ولو سلمنا بوجود الحاجة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إلىه غير متعينة؛ إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان، فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة متعينة في الإسلام، فيمنع.
وإذا سلَّمنا بكون الحاجة متعينة، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل الحاجة فقط، عملاً بالقاعدة الشرعية: (الحاجة تقدر بقدرها) .
ومما يدل على فساد التأمين: أن الغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة، وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري. ويفهم من اشتمال التأمين على الغرر اشتماله أيضاً على الجهالة، والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كل من طرفي العقد (المؤمِّن والمستأمن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل إن ما يدفعه المؤمن بدلاً أو عوضاً عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكل هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدي إلى إبطال العقد.
ويكون عقد التأمين ممنوعاً شرعاً لاشتماله على فاحش الغرر والجهالة. ولايؤبه بالعلم بمبلغ كل قسط عند حلول ميعاده، فهو صحيح أنه مبلغ معلوم، لكن كمية الأقساط هي التي فيها الجهالة، ورضا المؤمن بدفع التعويض عند وفاة المستأمن أو حدوث حادث له، ضمن مدة محددة بالعقد، مهما بلغ عدد الأقساط قلة وكثرة، لا قيمة له؛ لأنه رضا مخالف لقواعد الشرع ونصوصه المانعة من الغرر، كالرضا في القمار أو الزنى لا يحل واحداً منهما.(5/112)
وكون الجهالة فاحشة فإنها توثر في العقد وتبطله، ولو لم تفض إلى المنازعة، أما الجهالة اليسيرة غير المفضية إلى النزاع فهي المغتفرة. والجهالة في التأمين أفحش مما صوره الفقهاء للجهالة الفاحشة المفضية إلى النزاع وإفساد عقد البيع مثلاً، كبيع الفجل والجزر في الأرض، فهذان موجودان في الأرض، ولكنهما مجهولان على طريق الظهور والعلم، أما في التأمين فبدل الهلاك أو عوض التأمين مرجوح الوجود، قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا احتمال يضعف مشروعية العقد.
لكل ما سبق وغيره من الموانع لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال (السوكرة) أو التأمين؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، كما قال ابن عابدين: ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل كما قرر فقهاء الحنفية.
والخلاصة: يشتمل التأمين ذي القسط الثابت على خمسة أسباب تجعله حراماً (1) :
1 ً - الربا: ففي عوض التأمين زيادة على الأقساط المدفوعة بلا عوض، وهو ربا، وتستثمر شركات التأمين أموالها في أنشطة ربوية، وتحتسب فائدة على المستأمن إذا تأخر في سداد الأقساط المستحقة.
2 ً - الغرر: إن مقابل التأمين يكون على أمر احتمالي غير ثابت ولا محقق الوجود وهذا غرر. وقد تغرم شركات التأمين مبلغاً كبيراً دون مقابل، بناء على الغرر.
3 ً - الغبن: يشتمل التأمين على غبن لعدم وضوح محل العقد، والعلم بالمحل شرط لصحة العقد.
4 ً - القمار: في التأمين مخاطرة لتعريض النفس والمال لفرصة مجهولة، وهذا هو القمار بعينه، والمستأمن يبذل اليسير من المال في انتظار أخذ مبلغ كبير، وهذا قمار.
5 ً - الجهالة: ما يدفعه المستأمن مجهول القدر لكل من العاقدين كما هو واضح في التأمين على الحياة، ويتعامل العاقدان بموجب عقد لا يعرف ما يحققه من الربح أو الخسارة.(5/113)
إعادة التأمين أو التأمين المركَّب:
إن مبدأ التعاون في التأمين يتحقق بتجزئة المصائب وتوزيع نتائجها على أكبر عدد ممكن، فبقدر ما يزداد عدد المستأمنين تزداد تجزئة الأضرار وتوزيعها، فهي عملية تفتيت وتشتيت للأضرار المؤمن منها، ولهذا التشتيت وسائل كثيرة، منها ما يسمى بإعادة التأمين أو التأمين المركب، حيث تلجأ شركة التأمين نفسها إلى التأمين مما يلحقها من تعويضات لدى شركات عالمية كبرى.
وإعادة التأمين له حكم أصل التأمين، فيجوز لشركات التأمين التعاوني التأمين لدى شركات تعاونية أخرى. أما إعادة التأمين التجاري فتطبق عليه أحكام التأمين التجاري ذاته، فهو عقد تأمين تجاري يكون المستأمن فيه شركات التأمين بدلاً من الأفراد.
وضوابط الغرر المؤثر والمفسد للعقد (وهي كون الغرر في عقد معاوضة، وكونه كثيراً، وكونه المعقود عليه أصالة، وألا تدعو إلى العقد حاجة) تقضي بمنع إعادة التأمين، إلا إذا دعت إليه الحاجة المتعينة، كما ذكرت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي في السودان في الفتوى رقم (16 و 17) ، أي هل تكون شركات التأمين في مشقة وحرج إذا لم تتعامل مع شركات إعادة التأمين؟.
ترى هذه الهيئة وأؤيدها في فتواها جواز إعادة التأمين، لوجود الحاجة المتعينة كما قدر خبراء البنك بالشروط التالية التي سموها بالملحوظات والتحفظات:
1 - أن يقلل ما يدفع لشركة إعادة التأمين إلى أدنى حد ممكن (وهو القدر الذي يزيل الحاجة) عملاً بقاعدة (الحاجة تقدر بقدرها) . وتقدير ما يزيل الحاجة متروك لخبراء البنك.
2 - ألا تتقاضى شركة التأمين التعاوني عمولة أرباح، ولا أية عمولة أخرى من شركة إعادة التأمين.
3 - ألا تحتفظ شركة التأمين التعاوني بأي احتياطات عن الأخطار السماوية؛ لأن حفظها يترتب عليه دفع فائدة ربوية لشركة إعادة التأمين.
__________
(1) المعاملات المالية المعاصرة للدكتور علي السالوس: ص 380 وما بعدها.(5/114)
4 - ألا تدخل شركة التأمين التعاوني في طريقة استثمار شركة إعادة التأمين لأقساط إعادة التأمين المدفوعة لها، وألا تطالب بنصيب في عائد استثماراتها، وألا تسأل عن الخسارة التي تتعرض لها.
5 - أن يكون الاتفاق مع شركة إعادة التأمين لأقصر مدة ممكنة.
6 - أن تعمل شركة التأمين التعاوني على إنشاء شركة إعادة تأمين تعاوني، تغنيه عن التعامل مع شركات إعادة التأمين التجاري.
هذا ما أدين الله عليه، وما أزال أستغرب وأستهجن كلام القائلين بمشروعية التأمين التجاري، ولم أجد حاجة لتفنيد أدلتهم، فقد كثر الرد عليها في المجلات والمؤلفات والبحوث والمؤتمرات، بدءاً من أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق من 1-6 نيسان (1961م) ، وانتهاء بقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان (1398هـ) بمكة المكرمة، بمقر رابطة العالم الإسلامي. ومن أراد الطمأنينة القلبية لحرمة التأمين وإبطال حجج القائلين بالجواز، فليرجع إلى بحوث الأسبوع المذكور في دمشق وإلى قرار هذا المجمع، والله يهدينا إلى سواء السبيل.(5/115)
التأمينات الاجتماعية: إن التأمينات الاجتماعية التي تدفعها الدولة أو صندوق المعاشات والتأمين أو مصلحة التأمينات للعمال والعاملين والموظفين في الدولة كلها في تقديري جائزة؛ لأن الدولة ملزمة برعاية مواطنيها في حال العجز والشيخوخة والمرض ونحو ذلك من إعاقة العمل أو الكسب، ولا ينظر إلى الضريبة التي تقتطعها الدولة من الراتب الشهري، أو التي يدفعها شهرياً أرباب العمل لمصلحة التأمينات الاجتماعية، أو المبلغ الذي يدفعه العامل أو الموظف باختياره في حدود نسبة مئوية كل سنة، ليحصل على تعويض إجمالي عند الإحالة على التقاعد أو المعاش، فكل هذه المدفوعات لا ينظر إليها نظرة ربوية، وإن أخذ الموظف أو العامل أكثر مما دفع؛ لأن المدفوع في الحقيقة يعد تبرعاً أو هبة مبتدأة وتعاوناً من قبل المشتركين في الصندوق التقاعدي أو التأمينات الاجتماعية، والتي هي إحدى مؤسسات الدولة.
4 - بيع النجس والمتنجس:
قال الحنفية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة والدم؛ لأنها ليست بمال أصلاً. ويكره بيع العَذِرة، ولا بأس ببيع السرقين أو السرجين: وهو (الزبل) وبيع البعر، لأنه منتفع به، لأنه يلقى في الأرض لاستكثار الريع، فكان مالاً، والمال محل للبيع بخلاف العذرة، لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطة، ويجوز بيع المخلوط كالزيت الذي خالطته النجاسة.
ويصح عندهم بيع كل ذي ناب من السباع، كالكلب والفهد والأسد والنمر والذئب والهر ونحوهما؛ لأن الكلب ونحوه مال، بدليل أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق كالحراسة والاصطياد، فكان مالاً. ويصح بيع الحشرات والهوام كالحيات والعقارب إذا كان ينتفع به.
ويصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة به في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به.(5/116)
والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز (1) ، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان، بدليل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] .
وقال المالكية: لا ينعقد بيع الخمر والخنزير والميتة لحديث جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه ـ أذابوه ـ ثم باعوه فأكلوا ثمنه» (2) وقال في الخمر: «إن الذي حرم شربها حرم بيعها» (3) .
ولا ينعقد بيع الكلب مع كونه طاهراً، سواء أكان كلب صيد أم حراسة، لأنه نهي عن بيعه، ففي الحديث: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن» (4) . وقال سحنون: أبيعه وأحج بثمنه.
ولا ينعقد بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره، كزيت وعسل وسمن وقعت فيه نجاسة. أما المتنجس الذي يمكن تطهيره، كثوب، فإنه يجوز بيعه.
ولا ينعقد أيضاً بيع ما نجاسته أصلية كزبل ما لا يؤكل لحمه، وكعذرة وعظم ميتة، وجلدها، ويصح بيع روث البقر وبعر الغنم والإبل ونحوها للحاجة إليها لتسميد الأرض وغيره من ضروب الانتفاع (5) .
__________
(1) البدائع: 5 ص 142 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 188، 8 ص 122، الفقه على المذاهب الأربعة: 2 ص 231 ومابعدها.
(2) رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد والموطأ عن جابر بن عبد الله (انظر جامع الأصول: 1 ص 375، سبل السلام: 3 ص 5) .
(3) رواه مسلم والموطأ النسائي عن عبد الرحمن بن وعلة رحمه الله أن ابن عباس روى له هذا الحديث (انظر جامع الأصول: 1 ص 377) .
(4) رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد عن أبي مسعود الأنصاري ـ عقبة بن عمرو (انظر نيل الأوطار: 5 ص 143، نصب الراية: 4 ص 52) .
(5) حاشية الدسوقي: 3 ص 10 ومابعدها، الحطاب على متن خليل: 4 ص 258 ومابعدها، بداية المجتهد: 2 ص 125 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 246.(5/117)
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع الخنزير والميتة والدم والخمر، وما أشبه ذلك من النجاسات، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ورسوله حرم (1) بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» ولأنه يجب اجتناب النجس وعدم الاقتراب، والبيع وسيلة إلى الاقتراب (2) .
ولا يجوز بيع الكلب ولو كان معلَّماً للنهي الوارد فيه في الحديث السابق: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب..» .
ولا يصح بيع ما لا منفعة فيه كالحشرات وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد، كالأسد والذئب، والطيور التي لا تؤكل، ولا تصطاد، كالرخمة والحدأة والغراب؛ لأن ما لا منفعة فيه لا قيمة له، فأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، وبذل العوض فيه من السفه.
ولا يجوز بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره من النجاسة كالخل والدبس، ولكن يصح بيع المتنجس الذي يمكن تطهيره كالثوب ونحوه.
ولا يجوز بيع السرجين ونحوه من النجاسات (3) ، إلا أن الحنابلة أجازوا بيع السرجين الطاهر كروث الحمام وكل ما يؤكل لحمه.
والخلاصة: أن فقهاء الحنفية والظاهرية يجيزون بيع النجاسات للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها؛ لأن جواز البيع يتبع الانتفاع، فكل ما كان منتفعاً به
__________
(1) رواية الصحيحين هكذا بإفراد الضمير، وفي بعض الطرق «إن الله حرم» وفي رواية سبق ذكرها «إن الله ورسوله حرما» .
(2) وهناك طريقة عند الشافعية لمبادلة النجاسات المنتفع بها وهي طريقة (رفع اليد) بأن يقول البائع: رفعت يدي عن هذا الشيء بكذا.
(3) المهذب: 1 ص 261، مغني المحتاج: 2 ص 11، المغني: 4 ص 251، 255 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 6 ومابعدها، أصول البيوع الممنوعة: ص 41.(5/118)
جاز بيعه عندهم. وأما فقهاء المالكية والشافعية والمشهور عند الحنابلة: فلا يجيزون بيع النجاسات؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً، أي مالاً يباح الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم.
5 - بيع العربون:
في العربون ست لغات أفصحها فتح العين والراء، وضم العين وإسكان الراء. وعربان بالضم والإسكان، وهو أعجمي معرب، وأصله في اللغة: التسليف والتقديم.
وبيع العربون: هو أن يشتري الرجل شيئاً، فيدفع إلى البائع من ثمن المبيع درهماً، أو غيره مثلاً، على أنه إن نفذ البيع بينهما احتسب المدفوع من الثمن، وإن لم ينفذ، يجعل هبة من المشتري للبائع (1) . فهو بيع يثبت فيه الخيار للمشتري: إن أمضى البيع كان العربون جزءاً من الثمن، وإن رد البيع فقد العربون، ومدة الخيار غير محددة بزمن، وأما البائع فإن البيع لازم له.
قال بعض الحنابلة (2) : لابد أن تقيَّد فترة الانتظار بزمن محدد وإلا فإلى متى ينتظر البائع؟
واختلف فيه العلماء، فقال الجمهور: إنه بيع ممنوع غير صحيح، فاسد عند الحنفية، باطل عند غيرهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان (3) ولأنه من باب
__________
(1) يلاحظ أن هذا البيع وإن كان فاسداً بحسب قواعد الحنفية، لأن الفساد يرجع للثمن، إلا أني ذكرته في أنواع البيع الباطل، لأن الغالب بقاؤه على الفساد فيصبح باطلاً، ولأن فيه غرراً.
(2) غاية المنتهى: 2 ص 26.
(3) هذا حديث منقطع رواه أحمد والنسائي وأبو داود وهو لمالك في الموطأ، وفيه راو لم يسم، وسمي في رواية، فإذا هو ضعيف، وفيه طرق لاتخلو عن مقال، وهو مروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفسر الإمام مالك بيع العربان، فقال: «هو أن يشتري الرجل العبد أو الأمة أو يكتري، ثم يقول للذي اشترى منه أو اكترى منه: أعطيتك ديناراً أو درهماً على أني إن أخذت السلعة فهو من ثمنها وإلا فهو لك» (انظر سبل السلام: 3 ص 17، نيل الأوطار: 5 ص 153، الموطأ: 2 ص 151) .(5/119)
الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، ولأن فيه شرطين فاسدين:
أحدهما ـ شرط الهبة، والثاني ـ شرط الرد على تقدير ألا يرضى، ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن يكون له رد المبيع من غير ذكر مدة، فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً. وهذا هو مقتضى القياس (1) .
وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به ودليله ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث زيد بن أسلم أنه «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله» (2) وما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث: «أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، كان البيع نافذاً، وإن لم يرض فلصفوان أربع مئة درهم» . وضعف أحمد الحديث المروي في بيع العربان، وقد أصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار (3) .
وفي تقديري أنه يصح ويحل بيع العربون وأخذه عملاً بالعرف؛ لأن الأحاديث الواردة في شأنه عند الفريقين لم تصح. وهذا هو قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثامنة في بروني في غرة المحرم 1414هـ.
__________
(1) بداية المجتهد: 2ص161، الشرح الكبير للدردير: 3ص63، القوانين الفقهية: ص258، مغني المحتاج: 2ص39، نيل الأوطار: 5ص153، المنتقى على الموطأ: 4ص157، شرح المجموع للإمام النووي: 9ص368.
(2) حديث مرسل وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وهو ضعيف (نيل الأوطار: 153/5) .
(3) المغني: 4 ص 232، انظر مصادر الحق للسنهوري: 2ص96 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 234. وكذلك صحح الحنابلة الإجارة بالعربون (راجع غاية المنتهى: 2ص26) .(5/120)
6 - بيع الماء:
عرفنا سابقاً أنه يشترط في المعقود عليه كونه مالاً محرزاً، أي مملوكاً لواحد من الناس، فلا ينعقد بيع شيء غير محرز كالماء والهواء والتراب، فما المقصود بالماء، وما مذاهب العلماء في تملكه وبيعه؟
قال الحنفية: المياه أربعة أنواع (1) :
الأول - ماء البحار: وهو مشاع لجميع الناس، ولكل إنسان حق الانتفاع به على أي وجه شاء كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء، فله أن ينتفع به لحوائجه الخاصة ولسقاية أراضيه، أي أن له ما يسمى بحق الشَفة وحق الشِّرب (2) أو سقي الأراضي الزراعية والأشجار.
الثاني ـ ماء الأودية العظام، مثل أنهار دجلة والفرات والنيل وبردى والعاصي وسيحون وجيحون ونحوها من الأنهار العامة. وللناس فيها حق الشفة مطلقاً، وحق سقي الأراضي إن لم يضر السقي بمصلحة الجماعة، فإن أضر بهم فلا يجوز السقي؛ لأن دفع الضرر العام واجب، ويجوز أيضاً تركيب المطاحن المائية على هذه الأنهار إن لم يكن هناك ضرر عام.
الثالث ـ الماء المملوك لجماعة مخصوصة كأهل قرية تختص بنهر صغير أو عين ماء أو بئر. ومنه الماء المأخوذ من الأنهار العامة الذي يجري في المقاسم، أي المجاري المملوكة بشق الجداول ونحوها. ويثبت فيه لكل إنسان حق الشفة فقط
__________
(1) راجع تكملة فتح القدير والهداية: 8 ص 144، رد المحتار على الدر المختار: 5ص311.
(2) الشفة - بفتحتين: وحق الشفة: هو الشرب بالشفاه بأن يتناول الإنسان بفمه ماشاء منه، ويسقي بهائمه لدفع العطش، ويغسل به حوائجه ونحو ذلك. والشرب بكسر الشين: هو لغة النصيب من الماء، وشرعاً: نوبة الانتفاع بالماء (أي وقته وزمنه) لسقي الزراعة والدواب.(5/121)
للضرورة المقتضية إباحته لاحتياج الناس إلىه، ولعدم إمكان استصحاب الماء إلى كل مكان.
الرابع ـ الماء المحرز في الأواني، وهو مملوك لمن أحرزه، ولا حق فيه لأحد غير صاحبه، ولا يجوز الانتفاع به إلا بإذن مالكه.
يظهر من هذا أن الماء بالنسبة للتملك والبيع إما مباح، أو غير مباح، والمباح حق للجميع لقوله صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (1) والمقصود بالمباح: ما يشمل النوعين الأولين، وهو ما لا يختص به أحد من الناس. وغير المباح أو المملوك: هو ما يدخل تحت الملكية سواء أكانت لفرد أم لجماعة، ويشمل النوعين الآخرين.
وهذا هو المعنى المقصود أيضاً عند المالكية والشافعية والحنابلة (2) وقد يسمى هذان النوعان: الماء الخاص والماء العام. فالأول: هو الماء المتملك في الأرض المملوكة كالبئر والعين. والثاني: هو غير المتملك في أرض غير مملوكة كالأنهار والعيون.
حكم بيع الماء: اتفق العلماء على أنه يستحب بذل الماء بغير ثمن حتى ولو كان مملوكاً ولا يجبر المالك على بذل الماء، إلا في حال الضرورة بأن يكون قوم اشتد بهم العطش، فخافوا الموت، فيجب عليه سقيهم، فإن منعهم، فلهم أن يقاتلوه عليه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه من حديث رجل من الصحابة. وأخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، ورواه الطبراني عن ابن عمر (نصب الراية: 4 ص 294) .
(2) راجع القوانين الفقهية: ص 339، المهذب: 1ص427 ومابعدها، المغني: 4ص78 ومابعدها.(5/122)
ولكن الحنفية فصلوا فيما يباح به القتال فقالوا: يجوز للمضطر أن يقاتل بالسلاح مالك الماء في الحوض أو البئر أو النهر الذي في ملكه لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك. أما إن كان الماء محرزاً في الأواني، فيقاتل المضطر بغير السلاح، ويضمن له ما أخذ كما في حال أخذ الطعام عند المخمصة، لأن حل الأخذ للاضطرار لا ينافي الضمان. هذا إذا كان الماء فاضلاً عن حاجة مالكه بأن كان يكفي لدفع الرمق لكل منهما، وإلا وجب تركه لمالكه (1) .
أما بيع الماء فللعلماء فيه رأيان مشهوران: رأي الجمهور، ورأي الظاهرية.
أولاً ـ قال جمهور العلماء (2) : يجوز بيع غير المباح للناس جميعاً كماء البئر والعين والمحرز في الأواني ونحوها، ولصاحبه أن ينتفع به لنفسه، ويمنع غيره من الانتفاع. فله أن يمنع صاحب الحق في الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء بقربه، فإن لم يجد، يقال لصاحب البئر ونحوه: إما أن تخرج الماء إليه، أو تتركه ليأخذ الماء.
واستدلوا على الجواز بدليلين:
1 - ثبت في الحديث الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى بئر رُومة من اليهودي في المدينة، وسبّلها أو حبسها على المسلمين، وذلك بعد أن سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري بئر رومة، فيوسع بها على المسلمين وله الجنة» وكان اليهودي يبيع ماءها للناس. فهذا الحديث كما يدل على جواز بيع البئر
__________
(1) رد المحتار والدر المختار: 5 ص 313، تكملة فتح القدير: 8 ص 145.
(2) البدائع: 5 ص 146، رد المحتار: 5ص311-312، 4ص6، القوانين الفقهية: ص339، المهذب، المكان السابق، المجموع: 9ص278، المغني: 4ص79، غاية المنتهى: 2ص9، 277.(5/123)
نفسها، وكذلك العين بالقياس عليها، يدل على جواز بيع الماء، لتقريره صلّى الله عليه وسلم اليهودي على البيع. ونوقش هذا بأنه كان في صدر الإسلام وكانت شوكة اليهود في ذلك الوقت قوية، والنبي صلّى الله عليه وسلم صالحهم في مبدأ الأمر على ما كانوا عليه، ثم استقرت أحكام الشريعة، التي شرع فيها للأمة تحريم بيع الماء. ثم إن الماء هنا داخل في البيع تبعاً لبيع البئر، وهذا لا خلاف فيه (1) .
2 - يقاس بيع الماء المباح على بيع الحطب بعد إحرازه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم أقر بيعه بقوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس» (2) ونوقش ذلك بأن تخصيص النص بالقياس مختلف فيه بين علماء الأصول، وبأن هذا القياس يقتضي جواز بيع الماء المحرز فقط، دون ماء البئر ونحوه.
ثانياً ـ قال الظاهرية (3) : لا يحل بيع الماء مطلقاً، لا في ساقية ولا في نهر، ولا في عين، ولا في بئر، ولا في صهريج، ولا مجموعاً في قربة ولا في إناء، إلا أن تباع البئر كلها أو جزء مسمى منها، فيجوز البيع حينئذ، ويدخل الماء تبعاً للمبيع الأصلي.
وقال أحمد في رواية عنه: لا يعجبني بيع الماء البتة.
واحتج هؤلاء على المنع بما يأتي:
__________
(1) نيل الأوطار: 5 ص 146.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 4 ص 162، الجامع الصغير: 2 ص 122) .
(3) المحلى: 9 ص 8.(5/124)
1 - ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ» (1) فهذا النفي يدل على النهي عن بيع الماء الزائد عن الحاجة. ونوقش ذلك بأن النهي قد ورد على حالة خاصة: وهي أن يقصد ببيع الماء حماية الكلأ الذي حوله ويحتاج إلىه الرعاء لرعي مواشيهم له.
2 - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع فضل الماء» (2) هذا الحديث صريح بتحريم بيع فضل الماء وهو الفاضل عن كفاية صاحبه، سواء أكان في أرض مباحة، أم في أرض مملوكة، وسواء أكان للشرب أم لغيره. ونوقش ذلك بأنه معارض بحديث بئر رومة السابق ذكره، أو بأنه محمول على حالة خاصة كما ذكر.
وإني أرى أن النهي عن بيع فضل الماء يقصد به الماء الكثير كماء الآبار والعيون والأمطار التي تجتمع في أرض مملوكة، ويكون منعها عبثاً لا معنى له (3) .
المطلب الثاني ـ أنواع البيع الفاسد
البيع الفاسد في اصطلاح الحنفية كما تقدم: ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ويفيد الملك بالقبض. وعند غير الحنفية: البيع إما صحيح أو باطل، وغير الصحيح لا يفيد الملك أصلاً.
وسأذكر هنا أمثلة من أنواع البيوع الفاسدة عند الحنفية، مع الإشارة إلى حكمها عند غيرهم.
1 - بيع المجهول:
قال الحنفية: إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً جهالة فاحشة وهي التي تفضي إلى المنازعة، فسد البيع؛ لأن هذه الجهالة مانعة من التسليم والتسلم، فلا يحصل مقصود البيع.
فإن كان مجهولاً جهالة يسيرة وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة، لا يفسد البيع؛ لأن هذه الجهالة لا تمنع من التسليم والتسلم، فيحصل مقصود البيع.
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري وأحمد وأحمد أيضاً بلفظ آخر (نيل الأوطار: 5 ص 303) .
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن اياس بن عبد (نيل الأوطار: 5 ص 145) .
(3) راجع أصول البيوع الممنوعة: ص 46 ومابعدها.(5/125)
والعرف هو المحكم في بيان نوع الجهالة: يسيرة أو فاحشة. فإذا لم يبين مثلا ً جنس الحيوان أو لم يبين «ماركة» المذياع أو آلة التصوير، يعد المبيع مجهولاً جهالة فاحشة تمنع من صحة العقد على بيعه، إذ تؤدي حتماً إلى نزاع شديد بين المتعاقدين (1) .
ومن الجهالة اليسيرة:
أن يبيع شخص قفيزاً (2) من صُبرة معينة بدراهم، أو عِدلاً من الثياب بكذا، ولا يعرف عددها، أو هذه الصبرة بكذا، ولا يعلم عدد القفزان: جاز البيع (3) لزوال الغرر، ولأن الجهالة مغتفرة لا تفضي إلى المنازعة عادة. ومثله أن يبيع أحد الشيئين أو الثلاثة دون ما زاد عليها، مع اشتراط المشتري الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحداً ويرد الباقي، وهو المعروف بخيار التعيين، يصح البيع استحساناً، والقياس أن يفسد البيع وهو قول زفر.
وجه القياس: هو أن المبيع مجهول، لأنه باع أحد الشيئين، وهو غير معلوم، فكان المبيع مجهولاً، فيمنع صحة المبيع، كما لو باع أحد الأثواب الأربعة، وذكر الخيار، وعليه فلا يجيز زفر خيار التعيين.
وأما وجه الاستحسان فهو:
__________
(1) الأموال ونظرية العقد: ص 312.
(2) القفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك: صاع ونصف، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي تقريباً، والرطل مئة وثلاثون درهماً، والدرهم (975،2 غم) .
(3) البدائع: 5 ص 157 ومابعدها، المهذب: 1 ص 263.(5/126)
أولاً ـ القياس على مشروعية خيار الشرط، والجامع بينهما مساس الحاجة إلى دفع الغبن، وكل واحد من الخيارين طريق إلى دفع الغبن، فورود الشرع في خيار الشرط يكون وروداً ههنا، والحاجة تتحقق بالتحري في ثلاثة أشياء، لاقتصار الأشياء في العادة على الجيد والوسط والرديء، فيبقى الحكم في الزيادة مردوداً إلى أصل القياس وهو أن يكون المبيع معلوماً، وعليه يكون بيع واحد من أربعة مثلاً مع الخيار فاسداً، لعدم حاجة الناس إلى تشريعه باعتبار أن أصناف الأشياء إجمالاً تتراوح بين جيد ووسط ورديء.
وثانياً ـ لأن الناس تعاملوا هذا البيع لحاجتهم إليه، فإن كل أحد لا يمكن أن يدخل السوق، فيشتري ما يحتاج إليه، وعلى التخصيص الأكابر (أي كبار السن) والنساء، فيحتاج الواحد من هؤلاء إلى أن يكلف غيره بشراء شيء، ولا تتحقق حاجته بشراء شيء واحد من جنس ما؛ لأنه قد لا يوافق حاجته أو رغبته، فيحتاج إلى أن يشتري أحد اثنين من الجنس، فيحملهما الشخص إلى من كلفه بالشراء، فيختار أيهما شاء، بالثمن المذكور، ويرد الباقي، فجاز الشراء لتعامل الناس، ولاتعامل فيما زاد على الأشياء الثلاثة، فيبقى الحكم فيه على أصل القياس (1) .
ويلاحظ أن الأصح عند الحنفية في هذه الحالة عدم اشتراط تعيين مدة للخيار، كما في المدة المشترطة في خيار الشرط وهي: (ثلاثة أيام فما دونها عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: ثلاثة أيام وما زاد عليها بعد أن يكون الوقت معلوماً) فيصح البيع من غير ذكر المدة.
وقال بعض الحنفية: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة خيار الشرط؛ لأن المبيع لو كان شيئاً واحداً معيناً، وفيه خيار شرط، فإن بيان المدة شرط لصحة البيع، فكذا إذا كان واحداً غير معين. والجامع بينهما: أن ترك التوقيت تجهيل لمدة الخيار، وأنه مفسد للبيع.
__________
(1) البدائع: 157/5، فتح القدير: 130/5، 197.(5/127)
واستدل الأولون: بأن هناك فرقاً بين خيار الشرط وخيار التعيين: وهو أن خيار الشرط يمنع ثبوت حكم البيع، وهو نقل الملكية في مدة الخيار، فكان توقيت المدة أمراً ضرورياً في حدود الحاجة إلى دفع الغبن بالتأمل في صلاحية المبيع. أما خيار التعيين فلا يمنع ثبوت حكم البيع بل يثبت الحكم في أحد الشيئين غير معين، وإنما يمنع تعين المبيع فقط، فلا يشترط له بيان المدة.
ومن الجهالة الفاحشة
أن يبيع إنسان أحد الأشياء الأربعة، أو شاة من قطيع على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحداً منها ويرد الباقي، وكذا إذا اشترى أحد الأشياء الثلاثة أو أحد الشيئين، ولم يذكر فيه الخيار، فلا يجوز بيع ثوب من ثوبين، أو من أثواب ثلاثة مثلاً، ويكون البيع فاسداً لجهالة المبيع، وهي جهالة تفضي إلى المنازعة؛ لأن البائع يريد إعطاء الرديء، والمشتري يريد أخذ الجيد بحجة عدم التعيين (1) .
وفي الجملة: إن الجهالة الفاحشة ترجع غالباً إلى أربع جهات (2) ذكرتها سابقاً:
الأولى ـ جهالة المبيع: جنساً أو نوعاً أو قدراً بالنسبة إلى المشتري، وقد أوردت بعض الأمثلة عليها.
الثانية ـ جهالة الثمن: كما إذا باع الفرس بمئة شاة من هذا القطيع ونحوه فيكون العقد فاسداً لجهالة الثمن.
وكذا إذا باع هذا الثوب بقيمته، يكون البيع فاسداً، لأنه جعل ثمنه قيمته، والقيمة تختلف باختلاف تقويم المقومين، فكان الثمن مجهولاً.
وكذا لو اشترى شخص بحكم البائع أو المشتري أو بحكم فلان، يكون البيع فاسداً، لأنه لا يدري بماذا يحكم فلان، فكان الثمن مجهولاً.
__________
(1) المرجعان السابقان، الدر المختار بهامش رد المحتار لابن عابدين: 115/4.
(2) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 26.(5/128)
وإذا قال: (بعتك هذا بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير) يكون البيع فاسداً؛ لأن الثمن مجهول. وقيل: إنه البيعان في بيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن البيعتين في بيعة (1) . وإذا قال: (إن أخذته حالاً بخمسة وإن أخذته مؤجلاً بسبعة) فالبيع فاسد، لأنه لم يستقر الثمن على شيء، هل حالاً أو مؤجلاً؟ فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح.
وكذا البيع برأس المال المجهول أو بالرقم (2) (بسكون القاف) دون أن يعلم
__________
(1) رواه الموطأ والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة (انظر جامع الأصول: 446/1) .
(2) وهو أن يعلم البائع على الثوب بعلامة كالكتابة يعلم بها الدلال أو غيره ثمن الثوب ولايعلم المشتري ذلك المقدار (العناية: 113/5) ففي هذا البيع جهالة بذات المبيع ووصفه. وصورته: أن يكون هناك سلع متعددة تتفاوت أجناسها وقيمها، وكل سلعة منها ذات رقم خاص يختلف عن أرقام سواها، فيدفع المشتري قدراً من المال، ويأخذ ورقة تحمل رقماً خاصاً، فما وافق رقمه من السلع كان هو المبيع الذي يستحقه في نظير مبلغه، قل أو كثر، فيؤدي ذلك إلى فقد عنصر الاختيار والإرادة، وهذا يشبه بيع الحصاة الذي كان سائداً في الجاهلية (انظر أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص72، 75) والخلاصة: أن الرقم: هو الكتاب، ورقم الثوب كتابه، ومعنى بيع السلعة برقمها: هو أن يبيعها بما هو مكتوب فيها من الثمن، ولا يعلم به المشتري حتى ينظره بعد العقد، ومنه قوله تعالى: {كتاب مرقوم} [المطففين:9/83] (هامش المهذب: 266/1) ، واتفقت المذاهب الأربعة والظاهرية على عدم جواز بيع شيء بما رقم أي كتب عليه من الثمن المجهول القدر.(5/129)
المشتري رقمه ولا رأس ماله فالبيع فاسد، فإن علم المشتري رأس ماله أو رقمه في مجلس البيع، فإنه يعود جائزاً استحساناً؛ لأن المانع من الجواز هو الجهالة عند العقد وقد زالت في المجلس، ولما كان للمجلس حكم حالة العقد، فقد صار كأنه كان معلوماً عند العقد، فإذا لم يعلم حتى تفرقا تقرر الفساد (1) .
وقال زفر: إذا وقع العقد فاسداً من حين وجوده لايحتمل الجواز بحال، لاستحالة انقلاب الفاسد جائزاً عنده (2) .
وهذا متفق عليه بين المذاهب لجهالة الثمن، فإن علم الثمن فلابأس اتفاقاً أن يبيع بالرقم، بمعنى أن يقول: بعتك هذا الثوب برقمه، وهو الثمن المكتوب عليه، إذا كان معلوماً لهما حال العقد؛ لأنه بيع بثمن معلوم (3) .
ولايجوز البيع عند الفقهاء بما ينقطع عليه السعر في السوق، أو بما يبيع الناس أو بما يقول فلان لجهالة الثمن، وقد نقل عن الإمام أحمد جواز البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان، وقد رجح جوازه ابن تيمية وابن القيم. والمراد به سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل (4) .
__________
(1) البدائع: 158/5، رد المحتار: 30/4، فتح القدير مع العناية: 113/5، المبسوط: 49/13.
(2) البدائع: 124/6.
(3) مغني المحتاج: 17/2، المغني: 187/4.
(4) راجع مغني المحتاج: 17/2، المهذب: 266/1، القوانين الفقهية: ص 257، الشرح الكبير للدردير: 15/3، غاية المنتهى: 14/2، أعلام الموقعين: 5/4 ومابعدها، المحلى: 19/9، نظرية الضروة الشرعية للمؤلف: ص 178 ومابعدها.(5/130)
الثالثة ـ جهالة الأجل: كما إذا باع إلى أجل كذا أو كذا، فيفسد البيع لأن الأجهل مجهول. وكذا الجهالة في مدة خيار الشرط تفسد البيع، ودليل الفساد: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع حبل الحبلة» بحسب المعنى الذي فسره به ابن عمر راوي الحديث: وهوالبيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة مافي بطنها، ثم تلد التي ولدتها. فالنهي ورد على التأجيل إلى أجل مجهول.
ولو باع إلى قدوم الحاج والحصاد والدياس أو الدراس (دوس الحب بالقدم ونحوها) والقطاف (قطاف العنب) والجزاز (جز صوف الغنم) فالبيع فاسد؛ لأن هذه الجهالة مفضية إلى النزاع بسبب تقدم هذه الأوقات وتأخرها.
ولو باع شخص إلى هذه الآجال، ثم تراضى الطرفان على إسقاط الأجل قبل أن يأخذ الناس في الحصاد والدياس وقبل قدوم الحاج، جاز البيع؛ لأن الفساد للمنازعة، وقد ارتفع قبل تقرره، وهذه الجهالة ليست في صلب العقد، وإنما هي في أمر خارج: وهو الأجل (1) .
الرابعة ـ الجهالة في وسائل التوثيق: كما لو اشترط البائع تقديم كفيل أو رهن بالثمن المؤجل فيجب أن يكونا معينين، وإلا فسد البيع.
هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في بيع المجهول.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية: لا يجوز بيع عين مجهولة كسيارة من سيارات أو ثوب من ثوبين أو أثواب، ولا بيع بثمن مجهول ولا بثمن مؤجل إلى أجل مجهول ونحو ذلك، ويكون البيع حينئذ باطلاً، لوجود الغرر بسبب جهالة المبيع، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. ومن هنا قرروا في
__________
(1) فتح القدير: 322/5 ومابعدها، المبسوط: 26/13، رد المحتار: 125/4.(5/131)
ويلاحظ أن البيع إلى هذه الآجال فاسد، وأما تأجيل ثمن البيع إلى هذه الآجال فهو صحيح. شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلوماً للمتعاقدين، لا من كل وجه، بل عيناً في المعين وقدراً وصفة فيما في الذمة، وأن يكون الثمن معلوم الصفة والقدر والأجل، فلا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج، لأنه بيع غرر (1) . إلا أن المالكية أجازوا البيع إلى الحصاد أو الجداد أو العصير أو خروج الحاج أوالنيروز والمهرجان والميلاد لأنها آجال معروفة، وأجازوا أيضاً البيع مع خيار التعيين، وسموه بيع الاختيار، لكنهم اشترطوا اتحاد جنس المبيعين وصنفهما واتحاد الثمن، فلو وجد اختلاف لم يصح البيع (2) .
الفرق بين الغرر والجهالة: الغرر أعم من الجهالة، فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الآبق المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (3) .
2 - البيع المعلق على شرط والبيع المضاف:
البيع المعلق على شرط أو العقد المعلق عموماً: هو ما علق وجوده على وجود أمر آخر ممكن الحصول بإحدى أدوات التعليق نحو إن وإذا ومتى ونحوها. مثاله: أن يقول شخص لآخر: بعتك داري هذه بكذا إن باع لي فلان داره، أو إن جاء والدي من السفر مثلاً.
والبيع المضاف أو العقد المضاف عموماً: هو ما أضيف فيه الإيجاب إلى زمن مستقبل، كأن يقول شخص لغيره: بعتك هذه السيارة بكذا من أول الشهر القادم.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 15/3، المهذب: 263/1، 266، مغني المحتاج: 16/2، المغني: 209/4، 234، غاية المنتهى: 11/2، المحلى: 497/8 ومابعدها.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير: 106/3، القوانين الفقهية: ص 269، المنتقى على الموطأ: 298/4، وأجاز الظاهرية تأجيل الثمن إلى الميسرة (المحلى: 477/8 وما بعدها) .
(3) الغرر وأثره في العقود: ص 39، الفروق للقرافي المالكي: 265/3، تهذيب الفروق بهامشه: 270/3 ومابعدها.(5/132)
والفرق بين هذين النوعين عند الحنفية: أن العقد المعلق لا يعد موجوداً ولاينعقد سبباً في الحال، وإنما هو معلق على وجود الشرط، والشرط قد يوجد وقد لايوجد.
وأما العقد المضاف فهو عقد تام يترتب عليه حكمه وآثاره إلا أن هذه الآثار يتأخر سريانها إلى الوقت الذي عينه العاقدان لها.
حكمهما: اتفق الفقهاء على عدم صحة البيع المعلق أو المضاف، لكن يسمى ذلك فاسداً في اصطلاح الحنفية، وعند غيرهم هو باطل.
وعلى هذا، فلا يصح تعليق البيع ولا إضافته إلى زمن في المستقبل؛ لأنه من عقود التمليكات للحال، وهي لا تقبل الإضافة للمستقبل، كما لا تعلق بالشرط لما فيه من المقامرة، أي التعليق بالخطر.
يظهر مما ذكر أن علة فساد هذين النوعين من البيوع: هو ما تشتمل عليه من الغرر، إذ لا يدري العاقدان في البيع المعلق هل يحصل الأمر المعلق عليه، أو لا يحصل، كما لا يدريان متى يحصل. وفي البيع المضاف لا يدري العاقدان كيف يكون المبيع في المستقبل، وكيف يكون رضاهما بالعقد ومصلحتهما فيه عند ترتب أثر البيع عليه (1) .
__________
(1) انظر رد المحتار والدر المختار: 244/4، الفروق للقرافي: 229/1، المجموع للنووي: 374/9، المهذب: 266/1، المغني: 599/5، الأموال ونظرية العقد للمرحوم محمد يوسف موسى: ص451 وما بعدها، الغرر وأثره في العقود للزميل صديق الأمين: ص 137-149.(5/133)
3 - بيع العين الغائبة أو غير المرئية:
العين الغائبة: هي العين المملوكة للبائع الموجودة في الواقع، ولكنها غير مرئية.
قال الحنفية: يجوز بيع العين الغائبة من غير رؤية ولا وصف، فإذا رآها المشتري كان له الخيار: فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة يثبت فيه خيار الرؤية، وإن جاء على الصفة التي عينها البائع كأن يشتري فرساً مجللاً «مغطى» أو متاعاً في صندوق أو مقداراً من الحنطة في هذا البيت.
ودليلهم على صحة البيع في الحالتين: أنه إذا كان للمشتري خيار الرؤية، فلا غرر عليه، فلا تؤدي الجهالة إلى النزاع مطلقاً، ما دام للمشتري الخيار (1) .
واستدلوا أيضاً بحديث «من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه» (2) .
وقال المالكية: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض. فإذا جاء على الصفة المذكورة كان البيع لازماً، إذ أن هذا من الغرر اليسير، والصفة تنوب عن المعاينة بسبب غيبة المبيع، أو المشقة التي تحصل في إظهاره، وما قد يلحقه من الفساد بتكرار الظهور والنشر مثلاً، بل وإن لم يكن في فتحه فساد. فإن خالف الصفة المتفق عليها فللمشتري الخيار. وكذلك أجاز المالكية في المشهور عندهم بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه في حالة معينة (3) ،
__________
(1) البدائع: 163/5، فتح القدير: 137/5.
(2) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي هريرة. والمرسل رواه ابن أبي شيبة والدارقطني في سننيهما عن مكحول، نقل النووي اتفاق الحفاظ على تضعيفه (انظر نصب الراية: 9/4، المقاصد الحسنة: ص 403) .
(3) مواهب الجليل 294/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 25/3 ومابعدها، الشرح الصغير: 41/3-44، القوانين الفقهية: ص 257. هذا وقد ذكر المالكية خمسة شروط للزوم البيع على الصفة: وهي ألا يكون المبيع بعيداً جداً كالأندلس وإفريقية أي بحيث يظن تغيره قبل قبضه، وألا يكون قريباً جداً كالحاضرفي البلد، (والراجح أن الحاضر في مجلس العقد يجوز بيعه على الصفة) وأن يصفه غير البائع عند بعضهم (والأصح أنه يصح بوصف البائع) ، وأن يحصر بالأوصاف المقصودة كلها، وألا ينقد ثمنه بشرط إلا فيما يؤمن تغيره كالعقار، ويجوز النقد من غير شرط أي ألا يشترط البائع على المشتري
دفع الثمن عند العقد، ويدفعه المشتري له بناء على ذلك الشرط، أما إذا دفع له الثمن تطوعاً من غير شرط فيجوز. وهذا الشرط الأخير خاص بالعين غير المأمونة التغير، أما المأمونة التي لا يسرع إليها التغير كالعقار فيجوز اشتراط النقد فيها. والسبب في هذا الشرط هو ألا يكون العقد مشتملاً على الغرر بأن يتردد بين اعتباره سلماً أو بيعاً.(5/134)
ويسمى هذا البيع عند المالكية: البيع على البَرْنامِج أو البرامج (1) : وهو الدفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثياب المبيعة، دون اطلاع البائع على الجنس والنوع. والجواز للضرورة، أي لما في حَلّ العِدْل من الحرج والمشقة على البائع، فأقيمت الصفة مقام الرؤية.
وقال الشافعية في الأظهر عندهم وفي قول عند الإباضية: لا يصح مطلقاً بيع الغائب وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، وإن كان المبيع حاضراً، لما فيه من الغرر، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وفي بيع ما لا يعرف جنسه أو نوعه غرر كبير، وكذا ما عرف جنسه أو نوعه، مثل بعتك فرسي العربي، لا يصح بيعه في المذهب الجديد لوجود الغرر فيه بسبب الجهل بصفة المبيع، كما لا يصح السلم مع جهالة صفة المسلم فيه، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
وأما حديث خيار الرؤية: «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذ رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي. وقال الدارقطني عنه: إنه باطل لا يصح، لم يروه غيره (2) .
__________
(1) البرنامج: الورقة المكتوبة فيها ما في الوعاء: العدل أو الظرف (راجع الموطأ: 160/2) .
(2) المهذب: 263/1، المجموع: 315/9، مغني المحتاج: 18/2، شرح النيل: 143/4.(5/135)
وقال الحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: إن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه، فإن صححناه بحسب الرواية الأخرى، فيثبت الخيار للبائع والمشتري عند الرؤية. ودليل الرواية الأولى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
أما إذا وصف المبيع للمشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، فيصح بيعه في ظاهر المذهب، وعن أحمد: لا يصح حتى يراه؛ لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه.
استدلوا على ظاهر المذهب: بأنه بيع بالصفة فصح كالسلم، ولا يقال بأنه لا تحصل به معرفة المبيع، فإن تلك المعرفة تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم (1) .
والخلاصة: أن الحنفية والمالكية، والحنابلة في الأظهر، والظاهرية، والزيدية والإمامية، وفي قول عند الإباضية: يجيزون بيع العين الغائبة على الصفة (2) . أما بيعها بغير رؤية ولا وصف فقد أجازه الحنفية.
__________
(1) المغني: 580/3-582، غاية المنتهى: 10/2.
(2) المحلى: 389/8، الروض النضير: 259/3، المختصر النافع: ص 145، شرح النيل: 137/4.(5/136)
بيع ما يكمن في الأرض أو بيع ما في رؤيته مشقة أوضرر: قد تكون مع رؤية المبيع مشقة أو ضرر مثل بيع الأطعمة المحفوظة ونحوها من الأدوية والسوائل والغازات التي لا تفتح إلا عند الاستعمال، ومثل بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت والبطاطا، فإن الحنفية أجازوه كإجازة بيع العين الغائبة، كما أجازه المالكية؛ لأن المبيع معلوم بالعادة، والغرر فيه يسير، وأبطله الشافعية والحنابلة والظاهرية (1) إذ لا يمكن وصفه، فيتحقق فيه الغرر والجهالة المنهي عنهما.
4 - بيع الأعمى وشراؤه:
هذا النوع مفرع على شرط رؤية المبيع على الخلاف السابق في بيع الغائب.
قال الحنفية والمالكية والحنابلة: يصح بيع الأعمى وشراؤه وإجارته ورهنه وهبته، ويثبت له الخيار بما يفيد معرفته بالمبيع كالجس والشم والذوق فيما يعرف بذلك، أو بالاعتماد على أوصاف المبيع، كالوصف في الثمار على رؤوس الأشجار والدور والعقارات. ودليلهم حديث: «إنما البيع عن تراض» (2) وقد رضي الأعمى بالبيع، ويمكنه التعرف على المبيع بوسائل مختلفة، فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه، فكذلك شم الأعمى وذوقه (3) .
إلا أن الحنفية والمالكية كما هو معلوم لا يثبتون خيار الرؤية للبائع سواء أكان بصيراً أم أعمى.
وقال الشافعية: لا يصح بيع الأعمى وشراؤه إلا إذا كان قد رأى شيئاً قبل العمى مما لا يتغير كالحديد ونحوه، ودليلهم قصور الأعمى عن إدراك الجيد والرديء، فيكون محل العقد بالنسبة له مجهولاً (4) .
__________
(1) الدر المختار: 106/4، بداية المجتهد: 156/2، المجموع: 338/9، المغني: 91/4، المحلى: 456/8، البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: ص 67.
(2) رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه ابن حبان عن أبي سعيد الخدري، وقد سبق تخريجه.
(3) مختصر الطحاوي: ص 83، البدائع: 164/5، 298، حاشية الدسوقي: 24/3، المغني: 4 ص 210، غاية المنتهى: 10/2.
(4) المهذب: 264/1.(5/137)
5 - البيع بالثمن المحرّم:
إذا كان البيع بثمن محرم كالخمر والخنزير: يكون فاسداً عند الحنفية لوجود حقيقة البيع: وهي مبادلة المال بالمال، فإن الخمر والخنزير مال متقوم عند بعض الكفار، وهما وإن كانا مالين عند الحنفية، إلا أنهما ليسا بمتقومين شرعاً، والقاعدة المقررة في هذا الشأن: أن أحد العوضين إذا لم يكن مالاً في دين سماوي، فالبيع باطل سواء أكان مبيعاً أم ثمناً، فبيع الميتة والدم والإنسان الحر باطل، وكذا البيع به وهو الصحيح عند الحنفية؛ لأن المسمى ثمناً ليس بمال أصلاً، وكون الثمن مالاً في الجملة شرط من شروط الانعقاد.
وإن كان العوض في بعض الأديان مالاً دون بعض: فإن أمكن اعتباره ثمناً، فالمبيع فاسد، فبيع الثوب بالخمر أو الخمر بالثوب فاسد، وإن تعين كونه مبيعاً، فالبيع باطل، فبيع الخمر بالدراهم أو الدراهم بالخمر باطل.
وعلى هذا: إذا كان الثمن محرَّماً: ينعقد البيع بالقيمة (1) ومن الواضح أن هذا البيع عند غير الحنفية يقع باطلاً.
6 - البيع نسيئة ثم الشراء نقداً ـ بيوع الآجال:
النسيئة: تأخير الثمن إلى أجل معين، والنقد: دفع الثمن في الحال.
إذا اتخذ العقد وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، فهل ينعقد العقد لوجود أركانه من الإيجاب والقبول أو يعتبر غير صحيح لسببه غير المشروع؟ ، مثل (2) أن يبيع الشخص مالاً إلى
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 186/5، البدائع: /141، 305، رد المحتار: 105/4، 108.
(2) انظر مواهب الجليل للحطاب: 390/4 ومابعدها، 404 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 76/3، 88، الشرح الصغير: /116، 132.(5/138)
آخر بثمن مؤجل، ثم يشتريه منه بثمن عاجل، كأن يبيع قنطاراً من القطن بخمسة آلاف ليرة لا تقبض إلا بعد سنة، ثم يشتريه البائع من المشتري بأربعة آلاف يدفعها إليه فوراً، فقد حصل ههنا عقدا بيع: كلاهما ظاهره الصحة لاشتماله على أركان العقد وشروطه. هذه البيوع تسمى عند المالكية (بيوع العينة) وهي في الحقيقة نوع من بيوع الأجل التي يقصد منها التحيل على الربا، والوصول إلى ما هو ممنوع شرعاً، ومع ذلك اختلف العلماء في حكم بيع الأجل، علماً بأن المالكية فرقوا بين النوعين، فقالوا: بيوع الآجال: هي بيع المشتري ما اشتراه لبائعه أو لوكيله، لأجل. وبيع العينة: أن يقول شخص لآخر: اشتر سلعة بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر لأجل.
فقال الشافعية والظاهرية: يصح هذا العقد لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول، ويترك أمر النية لله وحده يعاقب صاحبها عليها.
وقال المالكية والحنابلة: العقد باطل متى قام الدليل على وجود قصد آثم سداً للذريعة. وتطبيقات هذا الخلاف تظهر في زواج المحلل وبيع العينة وبيع العنب لعاصر الخمر (1) .
وأما أبو حنيفة فيحكم في الظاهر بصحة زواج المحلّل، وبيع العنب لعاصره خمراً، ما لم يصرح في العقد بشرط يخل به، ويجعل بيع العينة فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث.
__________
(1) الأموال ونظرية العقد: ص297 ومابعدها، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع: ص102.(5/139)
بيع العينة:
هو بيع يراد منه أن يكون حيلة للقرض بالربا، بأن يبيع رجل شيئاً بثمن نسيئة أو لم يقبض، ثم يشتريه في الحال، وسمي بالعينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً أي نقداً حاضراً، وعكسها مثلها. مثاله: أن يبيعه الرجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقداً بثمن أقل، وفي نهاية الأجل الذي حدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب المتاع الذي يبيع بيعاً صورياً، مثل أن يبيع شخص لآخر ثوباً باثنتي عشرة ليرة مؤجلاً دفعها إلى شهر مثلاً، ثم يبيع المشتري هذا الثوب نفسه ـ قبل أو بعد تسلمه ـ إلى بائعه الأول بعشر ليرات تدفع حالاً إلى المشتري، وفي نهاية الأجل المحدد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن وهو (12) ل. س، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب الثوب الذي بيع بيعاً صورياً، والعملية كلها للتحايل على الإقراض بالربا عن طريق البيع والشراء.
وقد يوسط المتعاقدان بينهما شخصاً ثالثاً يشتري العين بثمن حال من مريد الاقتراض، بعد أن اشتراها هذا من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول بالثمن الذي اشترى به، فيكون الفرق رباً له.
اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني، مع أن قصد التعامل بالربا واضح من البائع والمشتري.(5/140)
قال أبو حنيفة: هو عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، كما في المثال، إلا أنه يلاحظ أن أبا حنيفة خالف أصله السابق الذكر الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد (1) وذلك استحساناً بنص الحديث الذي سيأتي في قصة زيد بن أرقم، ولأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنياً عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري شيئاً ممن لم يتملكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسداً.
وقال أبو يوسف: هذا البيع صحيح بلا كراهة. وقال محمد: إنه صحيح مع الكراهة، حتى إنه قال: «هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا» (2) .
__________
(1) وهو أن المعتبر في العقود: هو الألفاظ دون النيات، لأن نية الغرض غير المباح شرعاً مستترة، فيترك أمرها إلى الله وحده يعاقب عليها صاحبها، مادام أثم بنيته، وهذا بخلاف مذهب الإمام أحمد الذي يتشدد بحق في رعاية النية والقصد دون اللفظ (انظر أعلام الموقعين 106/1 ومابعدها، ونظرية العقد لأستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: ص215) .
(2) فتح القدير: 207/5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 255/4، 291، الأموال ونظرية العقد: ص 301.(5/141)
وقال الشافعية وداود الظاهري: هذا العقد صحيح مع الكراهة لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها لعدم وجود ما يدل عليها (1) ، أي أن القصد الآثم مرجعه إلى الله، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
وقال المالكية والحنابلة: إن هذا العقد يقع باطلاً (2) سداً للذرائع كما سأبين، ولما روي من قصة زيد بن أرقم مع السيدة عائشة رضي الله عنها: وهي أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت وأنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: «إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بست مئة درهم (أي حالّة) فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن لم يتب» (3) وقال صلّى الله عليه وسلم: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب
__________
(1) الميزان: 70/2، إرشاد الفحول للشوكاني: ص 217، القوانين الفقهية: ص 271.
(2) بداية المجتهد: 140/2 وما بعدها، حاشية الدسوقي: 91/3، الحطاب: 404/4، القوانين الفقهية: ص 258، 271 وما بعدها، الشرح الصغير: 130/3. المغني: 175/4 ومابعدها، نيل الأوطار: 206/5، الموافقات للشاطبي: 361/2، الفروق للقرافي: 266/3 وما بعدها، أصول الفقه لنا: 895/2 ومابعدها. هذا وقد أبطل الحنابلة العقد الأول حيث كان وسيلة للثاني. وقالوا: إن تغيرت صفة الشيء المشترى بما ينقصها أو يزيدها، واشتراها من غير مشتريها أو بمثل الثمن أو بنقد آخر، صح البيع، وكذا لو اشتراها أبوه أوابنه أو غلامه ونحوها ما لم يكن حيلة، فلا يصح (غاية المنتهى: 20/2) .
(3) هذا الحديث رواه الدارقطني عن يونس بن إسحاق عن أمه العالية عن أم مُحبة عن عائشة. روي عن الشافعي أنه لا يصح، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، قال في التنقيح: إسناده جيد، وإن كان الشافعي لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطني قال في العالية: هي مجهولة لا يحتج بها (انظر جامع الأصول: 478/1) .(5/142)
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (1) .
واستدلوا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها.
والخلاصة: إن جمهور الفقهاء غير الشافعية: قالوا بفساد هذا البيع وعدم صحته؛ لأنه ذريعة إلى الربا، وبه يتوصل إلى إباحة ما نهى الله عنه، فلا يصح.
غير أن الشافعي قال عن الحديث الأول: «لا يثبت، وأيضاً فإن زيداً قد خالفها، وإذا اختلف الصحابة فمذهبنا القياس» .
ويلاحظ أن الشافعية والظاهرية اعتمدوا على ظاهر عقد المتبايعين، فحكموا بصحته عملاً بمقتضى آية: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/2] وهذا مردود، لأن الظاهر إنما يعمل به إذا لم تقم قرينة تفيد غيره، وههنا قرينة العرف المعهود، وغلبة قصد الناس إلى المحرم، والشيء المتعارف ينزل منزلة الشرط المنصوص، فكان ذلك من أقوى القرائن التي يجب العمل بها؛ لأنها تجعل الظاهر من أمر البائعين هو التذرع إلى المحرم، فإبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر (2) .
بيع التورّق: هو أن يشتري الشخص السلعة إلى أجل، ثم يبيعها لغير بائعها الأول نقداً في الحال، ويأخذ ثمنها، بقصد الحصول على الدراهم، وهو بيع مكروه عند مالك وعند أحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يكره في رواية أخرى.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر وأخرجه أيضاً الطبراني وابن القطان وصححه، قال الذهبي: إن هذا الحديث من مناكير عطاء الخراساني (نيل الأوطار: 206/5) .
(2) أصول البيوع الممنوعة: ص 105.(5/143)
7 - بيع العنب لعاصر الخمر:
يتفرع أيضاً على القاعدة السابقة في أوائل بحث البيع السابق: الخلاف في بيع العنب لمن يعرف أنه يعصره خمراً. وأذكر هنا خلاف العلماء فيه.
قال أبو حنيفة والشافعي: يصح في الظاهر مع الكراهة بيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح لمن يقاتل به المسلمين، لعدم تحققنا أنه يتمكن من اتخاذه خمراً أو يقاتل بالسلاح المسلمين، ويؤاخذ الإنسان على مقاصده. أما الوسائل فقد يحال بين الإنسان وبينها، والمحرم في البيع هو الاعتقاد الفاسد، دون العقد نفسه، فلم يمنع صحة العقد، كما لو دلس العيب (1) أي أن الحكم على العقد بظاهره شيء، والدافع إليه شيء آخر.
وقال المالكية والحنابلة: بيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل، وكذا بيع السلاح لأهل الحرب أو لأهل الفتنة، أو لقطاع الطرق، سداً للذرائع؛ لأن ما يتوصل به إلى الحرام فهو حرام، ولو بالقصد، ولقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] وهذا نهي يقتضي التحريم، وإذا ثبت التحريم فالبيع باطل (2) .
8 - البيعتان في بيعة أو الشرطان في بيع واحد:
لقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم النهي عن بيعتين وعن شرطين في بيع، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة» وعن عمرو بن
__________
(1) المهذب: 267/1، تكملة فتح القدير: 127/8، مختصر الطحاوي: ص 280.
(2) المغني: 222/4 ومابعدها، الموافقات للشاطبي: 361/2.(5/144)
شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك» (1) .
واختلف في تفسير البيعتين في بيعة: فقال الشافعي: «له تأويلان: أحدهما ـ أن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقداً، فأيهما شئت أخذت به، على أن البيع قد لزم في أحدهما وهذا بيع فاسد (أي باطل) لأنه إبهام وتعليق. والثاني ـ أن يقول: (بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك) .
وحكمة منع صورة الصفقة الأولى هو اشتمالها على غرر بسبب الجهل بمقدار الثمن، فإن المشتري لا يدري وقت تمام العقد هل الثمن عشرة مثلاً أو خمسة عشر.
ومن الحكمة في تحريم العقد الثاني منع استغلال حاجات الآخرين، وذلك في حالة كون المشتري مضطراً إلى شراء شيء، فيكون اشتراط البائع عليه في شراء شيء منه من قبيل الاستغلال مما يؤدي إلى فوات حقيقة الرضا في هذا العقد، ثم إن فيه غرراً أيضاً لا يدري البائع هل يتم البيع الثاني أو لا.
واختلف في تفسير الشرطين في بيع: فقيل: هو أن يقول: بعت هذا نقداً بكذا، وبكذا نسيئة. وقيل: هو أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع السلعة ولايهبها. وقيل: هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بكذا على أن تبيعني السلعة الفلانية بكذا» (2) وقيل في تفسير ذلك: هو أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأن البيع الثاني قد دخل على الأول، فيرد إليه أو كسهما (أنقصهما) وهو الأول.
وبهذا يظهر أن البيعتين في بيعة والشرطين في بيع واحد بمعنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكمه.
__________
(1) أخرجه أصحاب السنن، ورواه أحمد أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عبد الله بن عمرو ابن العاص) قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» واختصره ابن ماجه، فذكر منه: «ربح مالم يضمن، وبيع ماليس عندك» فقط. والمراد بربح مالم يضمن: أنه لايجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها، مثل: أن يشتري سلعة ويبيعها إلى آخر قبل قبضها من البائع الأول، فهذا البيع باطل، وربحه لايجوز، لأن المبيع في ضمان البائع الأول، وليس في ضمان المشتري (انظر نصب الراية: 18/4، نيل الأوطار: 179/5) .
(2) المنتقى على الموطأ: 36/5، نيل الأوطار: 151/5 - 153، سبل السلام: 16/3 ومابعدها.(5/145)
قال الحنفية: البيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، لما فيه من تعليق وإبهام دون أن يستقر الثمن على شيء: هل حالاً أو مؤجلاً. فلو رفع الإبهام وقبل على إحدى الصورتين، صح العقد (1) . والعلة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك، ولزوم الربا في صورة بيع قفيز الحنطة.
وقال الشافعية والحنابلة: إن هذا العقد باطل؛ لأنه من بيوع الغرر بسبب الجهالة، لأنه لم يجزم البائع ببيع واحد، فأشبه مالو قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول، فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولامعلوم، فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد منازلي (2) .
وقال مالك: يصح هذا البيع، ويكون من باب الخيار، فيذهب العقد على إحدى الحالتين، وهومحمول على أنه جرى بينهما بعدئذ مايجري في العقد، فكأن المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قد رضيت، ونحو ذلك
__________
(1) البدائع: 158/5، رد المحتار: 30/4.
(2) المهذب: 267/1، مغني المحتاج: 31/2، المغني: 234/4.(5/146)
فيكون عقداً كافياً (1) . هذا مع العلم بأن حديث النهي عن بيعتين في بيعة أو عن صفقتين ضعيف بسبب اشتمال إسناده على راو فيه مقال، وهو محمد بن عمرو بن علقمة، الذي تكلم فيه غير واحد، وهو إن صح محمول على المنع من صورة البيع التالية: وهي أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فإن قال من أول الأمر: نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يوم صح البيع (2) .
9 - البيع لأجل أو بالتقسيط:
أجاز الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور (3) : بيع الشيء في الحال لأجل أو بالتقسيط بأكثر من ثمنه النقدي إذا كان العقد مستقلاً بهذا النحو، ولم يكن فيه جهالة بصفقة أو بيعة من صفقتين أو بيعتين، حتى لايكون بيعتان في بيعة. قال ابن قدامة في المغني: البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً ولايكره. فإذا تم الاتفاق في الحال على شراء هذه الآلة أو السلعة بألف ومئة لأجل أو بالتقسيط، مع أن سعرها النقدي ألف، جاز البيع وإن ذكر في المساومة سعران: سعر للنقد وسعر للتقسيط، ثم تم البيع في نهاية المساومة تقسيطاً. أما لو قال في عقد واحد: بعتك السلعة بألف نقداً، وبألف ومئة تقسيطاً، فقال المشتري: قبلت، ولم يحدد نوع القبول الصادر مبهماً دون تحديد مراده أو عدم تعيين أي صفقة يريد، كان العقد باطلاً عند الجمهور، فاسداً عند الحنفية بسبب الجهالة. وقال بعض الزيدية: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه، لأجل النَّساء.
__________
(1) بداية المجتهد: 153/2، المنتقى على الموطأ: 37/5. قال ابن جزي في القوانين: ص257: «البيعتان في بيعة: هو أن يبيع مثموناً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو يبيع أحد مثمونين بثمن واحد، فالأول أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً أو بعشرين إلى أجل على أن البيع قد لزم في أحدهما. والثاني: أن يقول: بعتك أحد هذين الثوبين بكذا على أن البيع قد لزم في أحدهما» وقد عدَّ ابن جزي هذا النوع من أنواع بيوع الغرر العشرة الممنوعة.
(2) نيل الأوطار: 152/5 ومابعدها.
(3) نيل الأوطار: 152/5 ومابعدها، المغني: 176/4.(5/147)
والواقع يختلف البيع لأجل أو بالتقسيط عن الربا، وإن وجد تشابه بينهما في كون سعر الأجل أو التقسيط في مقابل الأجل، ووجه الفرق أن الله أحل البيع لحاجة، وحرَّم الربا بسبب كون الزيادة متمحضة للأجل. ولأن الربا أي الزيادة من جنس ماأعطاه أحد المتعاملين مقابل الأجل، كبيع صاع حنطة مثلاً في الحال بصاع ونصف يدفعان بعد أجل، أو إقراض ألف درهم مثلاً على أن يسدد القرض ألفاً ومئة درهم. أما في البيع لأجل أو بالتقسيط فالمبيع سلعة قيمتها الآن ألف، وألف ومئة بعد أشهر مثلاً، وهذا ليس من الربا، بل هو نوع من التسامح في البيع؛ لأن المشتري أخذ سلعة لا دراهم، ولم يعط زيادة من جنس ماأعطى، ومن المعلوم أن الشيء الحالّ أفضل وأكثر قيمة من المؤجل الذي يدفع في المستقبل، والشرع لايصادم طبائع الأشياء إذا لم يتحد المبيع والثمن في الجنس. كما أن بائع التقسيط يضحي في سبيل توفير السلعة لمن يشتريها بأجل، لتعطيل السعر أو الثمن، وعدم استعماله في أثمان مشتريات أخرى.
10 - بيع الأتباع والأوصاف مقصوداً:
إذا كان الشيء تبعاً لغيره، فبيع مستقلاً عنه كبيع الألية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوهما، وكبيع ذراع من ثوب، فقال الحنفية: إن بيع اللحم في الشاة الحية، أو الشحم الذي فيها، أو أليتها، أو أكارعها، أو رأسها: كل هذا باطل لا ينعقد؛ لأنه بيع لمعدوم؛ لأن اللحم لا يصير لحماً إلا بالذبح والسلخ.
ومثله بيع ياقوتة فإذا هي زجاج، أو بيع قطعة جوخ، فإذا هي قطن، لا ينعقد البيع لأن المبيع معدوم.
وأما بيع ذراع من ثوب: فإن كان يضره التبعيض، كالثوب المهيأ للبس، نحو القميص: كان العقد فاسداً، لأن المبيع تبع لغيره، ولا يمكن تسليمه إلا بضرر لم يوجبه العقد يلحق بالبائع، وهو قطع الثوب.(5/148)
وكذا بيع جذع من سقف أو آجر من حائط يكون العقد فاسداً. فإن قطع البائع الذراع من الثوب أو قلع الجذع قبل أن يفسخ المشتري العقد، وسلمه إلى المشتري: يعود العقد صحيحاً، لزوال المفسد قبل نقض البيع، فلو فعل ذلك بعد الفسخ: لايجوز.
وإن كان المبيع لا يضره التبعيض مثل بيع قفيز من صبرة أو بيع عشرة دراهم من نُقرة (1) ونحوها، جاز البيع، لأنه ليس في التبعيض ضرر، وليس المبيع تبعاً لغيره أيضاً (2) .
11 - بيع الشيء المملوك قبل قبضه من مالك آخر:
قال الحنفية: لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض (3) والنهي يوجب فساد المنهي عنه، ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، أي أنه يحتمل الهلاك فلا يدري المشتري هل يبقى المبيع أو يهلك قبل القبض، فيبطل البيع الأول وينفسخ الثاني، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر (4) .
وأما العقار، كالأراضي والدور، فيجوز بيعه قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً، استدلالاً بعمومات البيع من غير تخصيص ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر واحد، ولا غرر في العقار إذ يتوهم هلاك العقار، ولا يخاف تغيره غالباً بعد وقوع البيع، وقبل القبض، أي أن
__________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الذهب أو الفضة.
(2) فتح القدير: 193/4، البدائع: 139/5 وما بعدها، رد المحتار: 114/4.
(3) فيه أحاديث منها ما أخرجه أبو داود عن ابن عمر أن زيد بن ثابت قال له: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (وقد سبق ذكر بعض رواياته) .
(4) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقد سبق تخريجه.(5/149)
تلف العقار غير محتمل فلا يتقرر الغرر (1) . والخلاصة: أن العلة عند الحنفية في عدم جواز بيع الشيء قل قبضه هي الغرر.
وقال المالكية: لا يجوز بيع الطعام (2) قبل القبض ربوياً كان أو غير ربوي، لحديث ابن عباس وابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» (3) وأما ما سوى ذلك أو بيع الطعام جزافاً فيجوز بيعه قبل قبضه لغلبة تغير الطعام، بخلاف ما سواه، وأخذاً بمفهوم الحديث السابق (4) .
والعلة في منع بيع الطعام قبل قبضه عند المالكية: هي أنه قد يتخذ البيع ذريعة للتوصل إلى ربا النسيئة، فهو شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء، فيحرم سداً للذرائع.
وقال الحنابلة: لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه إذا كان مكيلاً أو موزوناً أومعدوداً (أي المقدرات) ، لسهولة قبض المكيل والموزون والمعدود عادة، فلا يتعذر عليه القبض، واستدلالاً بمفهوم حديث الطعام السابق، فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة البيع فيما سواه، ولم يصح غيره من الأحاديث. واشتراط الكيل أو الوزن أو العدد، لأن المكيل والموزون والمعدود لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أوالعدد، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع ما لم يضمن، فالعلة في منع هذا البيع عند الحنابلة هي الغرر كالحنفية.
__________
(1) المبسوط: 8/13 وما بعدها، البدائع: 234/5، فتح القدير: 264/5، مختصر الطحاوي: ص 84.
(2) الطعام عندهم يشمل كل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والأدم بجميع أنواعها كالزيت والعسل ونحوها.
(3) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وحديث ابن عمر رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي (انظر جامع الأصول: 383/1، مجمع الزوائد: 98/4، نيل الأوطار: 158/5) .
(4) بداية المجتهد: 142/2 ومابعدها، المنتقى على الموطأ: 279/4، القوانين الفقهية: ص 258، ط فاس.(5/150)
وأما ما عدا المكيل والموزون والمعدود أي غير المقدرات، فيصح بيعه قبل قبضه (1) .
وقال الشافعي ومحمد بن الحسن وزفر: لا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه مطلقاً قبل قبضه، عقاراً كان أو منقولاً، لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، روى أحمد عن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قلت: «يا رسول الله، إني أشتري بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا ربح ما لم يضمن (2) ولا بيع ما ليس عندك» وهذا من باب بيع ما لم يضمن.
واستدلوا من طريق المعقول: وهو أنه بيع باطل لعدم القدرة على تسليم المبيع، ولأن ملكه عليه غير مستقر، لأنه ربما هلك، فانفسخ العقد، وفيه غرر من غير حاجة، فلم يجز (3) . فالعلة في منع البيع عند الشافعية هي الغرر كالحنفية.
وأرجح أن الحكمة في النهي أصلاً عن بيع ما لم يقبض: هي أن هذا البيع يشبه الربا إذ أن المشتري إذا دفع دراهمه إلى البائع في سلعة، ثم عمد إليها، فباعها قبل أن يقبضها، فكأنما دفع دراهمه واستفاد بها ربحاً بمجرد دفعها إلى البائع دون القيام بعمل ما، وهذا شبيه بالربا (4) ، ثم إن في هذا البيع غرراً ناشئاً عن عدم القدرة على التسليم. وبه تكون علة النهي عن بيع الشيء قبل قبضه هو مجموع ما ذكره فقهاء المذاهب.
12 - اشتراط الأجل في المبيع المعين والثمن المعين: إذا اشترط الأجل لتسليم المبيع المعين أو الثمن المعين، كان البيع فاسداً عند الحنفية؛ لأن الأصل وجوب التسليم حال العقد، بسبب أن البيع عقد معاوضة: تمليك بتمليك وتسليم بتسليم، والتأجيل ينفي وجوب التسليم للحال، فكان مغيراً مقتضى العقد، فيوجب فساد العقد.
__________
(1) المغني: 110/4، 113 ومابعدها.
(2) قيل: معناه ما لم يقبض، لأن السلعة قبل تلفها ليست في ضمان المشتري، وإنما إذا تلفت، فتلفها من مال البائع، وقد سبق تخريج هذا الحديث وشرح «ما لم يضمن» .
(3) المهذب: 264/1، الميزان: 66/2، مغني المحتاج: 68/2.
(4) أصول البيوع الممنوعة: ص 64.(5/151)
ولكن يجوز التأجيل في المبيع المؤجل وهو السلم، بل لا يجوز بدون الأجل عند الحنفية، وكذا يجوز التأجيل في الثمن الثابت ديناً في الذمة إن كان الأجل معلوماً، لأن التأجيل يلائم الديون، ولا يلائم الأعيان لمساس حاجة الناس إليه في الديون، لا في الأعيان، وذلك لتمكين صاحب الأجل من اكتساب الثمن في المدة المعينة، ولا حاجة لهذا في الأعيان (1) .
13 - البيع بشرط فاسد:
لإيضاحه أبيّن أنواع الشروط في البيوع:
الشروط في البيوع عند الحنفية ثلاثة أقسام:
شرط صحيح، وشرط فاسد، وشرط لغو باطل (2) .
أولاً - الشرط الصحيح: أي المقبول شرعاً، الملزم للمتعاقدين، وهو أربعة أنواع:
1 - ما يقتضيه العقد: كأن يشتري شخص شيئاً بشرط أن يسلم البائع المبيع، أو يسلم المشتري الثمن، أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن، أو بشرط أن يحبس البائع المبيع حتى أداء جميع الثمن، فهذه شروط تبين مقتضى العقد، لأن ثبوت الملك، والتسليم والتسلم، وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات (3) .
2 - ما ورد الشرع بجوازه: كشرط الأجل والخيار لأحد المتعاقدين، فقد أثبت الشرع في وقائع عن النبي عليه الصلاة والسلام جواز التأجيل لمدة معلومة لحاجة الناس إلىه، لما فيه من المصلحة، كما ثبت في الشرع جواز خيار الشرط في إمضاء البيع أو رده خلال مدة معلومة، وهو قوله عليه السلام لحبَّان بن مُنْقِذ: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، وليَ الخيار ثلاثة أيام» (4) على ما سيأتي في الخيارات، وهذا مقتضى الاستحسان. وأما مقتضى القياس فالشرط فاسد، لكونه مخالفاً لمقتضى العقد: وهو ثبوت الملك في العوضين معاً في الحال.
3 - ما يلائم مقتضى العقد، كالبيع بثمن مؤجل على شرط أن يقدم المشتري
__________
(1) البدائع: 174/5، رد المحتار: 23/5.
(2) انظر البدائع: 168/5-172، المبسوط: 13/13-18، فتح القدير: 214/5 ومابعدها، رد المحتار: 126/4 وما بعدها، عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 27.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 171.
(4) هذا الحديث رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عمر بلفظ «بع، وقل: لا خلابة» وفي لفظ عند البيهقي «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد» ورواه أيضاً البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والموطأ بلفظ «من بايعت فقل: لا خلابة» أي لا خديعة أي لا يحل لك خديعتي أو لا تلزمني خديعتك (انظر نصب الراية: 6/4، جامع الأصول: 414/1، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 82/2) .(5/152)
كفيلاً أو رهناً معينين بالثمن، فإن الكفالة والرهن: استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم.
وهذا الشرط يحتاج إلى تفصيل (1) لأن الكفيل أو الرهن إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً، ثم هل الحوالة مثل الكفالة والرهن؟
إذا كان الرهن والكفيل مجهولين فسد البيع، كأن يقول البائع: (أبيعك بشرط أن تعطيني رهناً بالثمن) ولم يسم شيئاً ولا أشار إليه أو يقول: (بشرط أن تعطيني كفيلاً بالثمن) ولم يسم إنساناً ولا أشار إلى إنسان؛ لأن هذه جهالة تفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم؛ إذ أن معنى التوثق والتأكد بالحصول على الثمن بالرهن أو الكفالة لا يحصل إلا بالتسليم، وذلك لا يتحقق في المجهول.
فإن اتفق المتعاقدان على تعيين رهن في مجلس البيع، جاز البيع، لأن المانع هو جهالة الرهن، وقد زال، فكأنه كان معلوماً معيناً من ابتداء الأمر؛ لأن المجلس له حكم حالة واحدة.
وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن، ولكن المشتري نقد الثمن، جاز البيع أيضاً، لأن المقصود من الرهن، هو الوصول إلى الثمن، وقد حصل، فسقط اعتبار الوثيقة.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 171 ومابعدها، المبسوط: 18/13.(5/153)
وإن افترق المتعاقدان عن المجلس تقرر الفساد؛ لأن تمام القبول توقف على الرهن المشروط في العقد، فإذا لم يوجد الرهن لم يوجد القبول معنى.
وأما إذا كان الرهن والكفالة معلومين بالإشارة أو بالتسمية، فالقياس: ألا يجوز البيع، وبه أخذ زفر؛ لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً.
وفي الاستحسان: يجوز وهو الصحيح عند جمهور الحنفية؛ لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة، فهو موافق له معنى، لأن الرهن والكفالة شرعاً توثيق للثمن، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن.
ويلاحظ أن جواز البيع استحساناً حالة اشتراط الكفالة مقيد بما إذا كان الكفيل حاضراً في المجلس وقبل، أو كان غائباً ثم حضر في المجلس وقبل، فكان كما لو قبل عند العقد، لأن لمجلس العقد حكم العقد.
فأما إذا كان الكفيل غائباً، أو حاضراً ولم يقبل، أو قبل وهو غائب، لم تصح الكفالة؛ لأنه لم يحصل معنى التوثيق، فبقي الحكم على أصل القياس؛ لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل كان بسبب البيع، فيصير الكفيل بمنزلة المشتري إذا اشترطت الكفالة في البيع، ووجود المشتري في مجلس البيع شرط لصحة الإيجاب من البائع، فكذلك وجود الكفيل.
هذا بخلاف الرهن، فلا يشترط وجود المرهون في مجلس البيع؛ لأن تقديم الرهن يكون من المشتري، والمشتري حاضر وقد التزم الرهن، فالرهن صحيح.
وحينئذ إذا لم يسلِّم المشتري الرهن إلى البائع لا يثبت حكم الرهن؛ لأن ثبوت حكم الرهن متوقف على القبض؛ كما هو معروف في باب الرهن، فإن سلّم الرهن تم العقد.(5/154)
وإن امتنع المشتري عن تسليم الرهن يجبر عند زفر؛ لأن الرهن إذا شرط في البيع، صار حقاً من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق عقد البيع، فيجبر عليه. ولا يجبر عند جمهور الحنفية على التسليم؛ لأن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعاً، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، وحينئذ يقال للمشتري: (إما أن تدفع الرهن أو قيمته، أو تدفع الثمن أو تفسخ البيع) لأن البائع ما رضي بوجوب الثمن في ذمة المشتري، إلا بوثيقة الرهن، فإن لم يفعل المشتري شيئاًَ من المذكور، فللبائع أن يفسخ البيع، لأنه فات غرضه.
الحوالة: شرط الحوالة إما من البائع أو من المشتري:
فإن شرط البائع في البيع أن يحيله المشتري بالثمن على غريم من غرمائه «أي مدين له» فهذا على حالتين:
أـ إن أحال بجميع الثمن: فالبيع فاسد، لأنه يصير بائعاً بشرط أن يكون الثمن على غير المشتري، وهو باطل، لمخالفته لمقتضى العقد.
ب ـ وإن شرط عليه أن يحيل نصف الثمن على فلان، فالبيع جائز إذا كان المحال عليه حاضراً وقبل الحوالة، كما إذا باع شيئاً بألف ليرة على أن يكون نصفه على فلان وهو حاضر فقبل، جاز، أو كان المحال عليه غائباً، ثم حضر في المجلس وقبل، لأن لمجلس العقد حكم العقد.
وإن شرط المشتري في البيع شرطاً وهو «أن يحيل البائع على غريم من غرمائه بالثمن ليدفع له» أو باع البائع شيئاً بشرط «أن يضمن المشتري لغريم ـ دائن ـ من غرماء البائع الثمن» فالبيع فاسد (1) لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، بل هو شرط فيه منفعة العاقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل، إلا إذا كان فيه تقرير موجَب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن، وإسقاط له، فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرهن، والضمان ليس بصفة للثمن، بل هو شرط فيه منفعة العاقد.
__________
(1) البدائع: 172/5.(5/155)
4 - من الشروط الصحيحة: ما جرى به العرف: كشراء القفل على أن يسمّره البائع في الباب أو الحذاء على أن يخرزه البائع أو يضع له نعلاً، وكشراء الساعة أو الغسالة أو الثلاجة أو المذياع بشرط أن يصلحها البائع لمدة سنة مثلاً إذا أصابها خلل، فيجوز البيع استحساناً، والقياس ألا يجوز وهو قول زفر.
وجه القياس: أن هذا شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين، وأنه مفسد، كما إذا اشترى قماشاً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً، ونحوه.
ووجه الاستحسان: أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع، كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع.
ثانياً ـ الشرط الفاسد: أو بتعبير أوضح: المفسد: وهو ما خرج عن الأقسام الأربعة السابقة أي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا ورد به الشرع ولا يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين، كأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً، أو يبيع شخص داراً على أن يسكنها البائع شهراً، ثم يسلمها إليه، أوأرضاً على أن يزرعها سنة أو دابة على أن يركبها شهراً، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً، أو على أن يهب له هبة ونحوها.
البيع في هذا كله فاسد؛ لأن كل زيادة منفعة مشروطة في العقد تكون ربا؛ لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع، وهو تفسير الربا. والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا، وأنها(5/156)
مفسدة للبيع كحقيقة الربا (1) .
ثالثاً ـ الشرط اللغو أو الباطل:
وهو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع بشرط ألا يبيعه المشتري أو لايهبه، البيع جائز والشرط باطل على الصحيح عند الحنفية؛ لأن هذا شرط لامنفعة فيه لأحد، فلا يوجب الفساد؛ لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا، بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، ولم توجد المنفعة في هذا الشرط، لأنه لا منفعة فيه لأحد إلا أنه شرط فاسد في نفسه، لكنه لا يؤثر في العقد، فيكون العقد جائزاً، والشرط باطلاً (2) . ويلاحظ أن الحنفية اتفقوا على أنه لو ألحق المتعاقدان بالعقد الصحيح شرطاً صحيحاً كالخيار الصحيح في البيع البات ونحوه يلتحق به.
أما الشرط الفاسد: فقرانه بالعقد وإلحاقه به سواء عند أبي حنيفة، حتى لو باع شخص بيعاً صحيحاً، ثم ألحق به شيئاً من الشروط الفاسدة التي ذكرت يلتحق به، ويفسد العقد؛ لأن اعتبار التصرف على الوجه الذي أوقعه المتصرف واجب إذا كان هو أهلاً، والمحل قابلاً للعقد.
وقال الصاحبان: لايلتحق به ولا يفسد العقد ويلغو الشرط؛ لأن إلحاق الشرط الفاسد بالعقد يغير العقد من الصحة إلى الفساد، فلا يصح فبقي العقد صحيحاً، كما كان؛ لأن العقد كلام لا بقاء له، والالتحاق بالمعدوم لا يجوز، فكان ينبغي ألا يصح الإلحاق أصلاً، إلا أن إلحاق الشرط
__________
(1) البدائع: 169/5، المبسوط: 15/13، 18، رد المحتار: 126/4، فتح القدير: 214/5.
(2) المبسوط، 15/13، البدائع: 170/5، فتح القدير:111/5.(5/157)
الصحيح بأصل العقد ثبت شرعاً للحاجة إليه، حتى صح قرانه بالعقد، فيصح إلحاقه به (1) .
والأصح هو قول الصاحبين، كما ذكر ابن عابدين نقلاً عن جامع الفصولين (2) .
حكم البيع وشرط عند غير الحنفية:
من المعلوم أن البيع غير الصحيح عند غير الحنفية لا فرق فيه بأن يسمى فاسداً أم باطلاً، فإذا لم يصح اقتران الشرط بالبيع أبطله أو أفسده، والنتيجة فيهما سواء. والبيع بشرط هو الذي يسميه الفقهاء بيع الثُّنيا، وقد اختلفوا في حكمه، فقال الحنفية على التفصيل المذكور والشافعية عملاً بالحديث: البيع فاسد، وقال الحنابلة: البيع صحيح والشرط صحيح، ولم يأخذوا بالحديث، وفي مذهب المالكية تفصيل.
أما تفصيل مذهب الشافعية فهو ما يأتي (3) : إذا شرط في البيع شرط فإن كان شرطاً يقتضيه العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب ونحوهما، صح العقد، لأن الشرط المذكور مبين لما يقتضيه العقد. وكذلك يكون العقد صحيحاً إن شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والضمان أو الكفالة؛ لأن الشرع ورد بجوازه؛ ولأن الحاجة تدعو إليه.
فإن شرط ما سواه من الشروط التي تنافي مقتضى البيع كأن اشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع، أو لا يهبه، أو أن يبيعه شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال أو اشترط أن يسكن الدار مدة، أو اشترط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب الذي اشتراه منه، أو يحصد له الزرع الذي اشتراه منه، أو يحذو له قطعة الجلد التي اشتراها، ففي كل هذه الحالات يكون البيع باطلاً، لما روي عن
__________
(1) البدائع: 176/5، فتح القدير: 227/5.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 127/4.
(3) مغني المحتاج: 31/2، المهذب: 265/1، 268.(5/158)
النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط (1) .
وقال الحنابلة (2) : يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (3) والمراد بالشرطين: ما ليسا من مصلحة العقد، كأن اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فإن اشترط أحد هذه الأشياء، فالبيع جائز.
والشروط عندهم أربعة أقسام:
أحدها ـ ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكماً معيناً، ولا يؤثر في العقد.
الثاني ـ ما تتعلق به مصلحة لأحد العاقدين أو لكليهما، كالأجل والخيار والرهن والضمين أي الكفيل، والشهادة على البيع، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع، فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به. قال ابن قدامة: ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً.
الثالث ـ ما ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان:
1ً - اشتراط منفعة للبائع في المبيع، فإن كان شرطاً واحداً فلا بأس به كاشتراط المشتري على البائع أن يخيط له الثوب المشترى، أو اشتراط حمل حزمة الحطب إلى موضع معلوم، أو سكنى الدار مدة شهر مثلاً، أو حملانه على الدابة إلى محل معين. والدليل على الجواز حديث جابر، وهو
__________
(1) رواه عبد الحق في أحكامه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه أبو حنيفة أيضاً.
(2) المغني: 224/4-226، 235، غاية المنتهى: 23/2 وما بعدها.
(3) رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(5/159)
أن النبي صلّى الله عليه وسلم اشترى من جابر بعيراً، واشترط حُملانه عليه إلى أهله في المدينة (1) .
2ً - أن يشترط عقد في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، ويصرف له الثمن أوغيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، للنهي عن بيعتين في بيعة.
الرابع ـ اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، مثل أن يشترط ألا يبيع المبيع أو ألا يهبه، أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه، ففي هذا روايتان عن أحمد، أصحهما أن البيع صحيح، والشرط باطل.
وقال المالكية: في المذهب تفصيل (2) :
فإن كان الشرط يقتضي منع المشتري من تصرف خاص أو عام، فيبطل الشرط والبيع، مثل أن يشترط عليه ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، فلا يجوز لأنه من الثنيا (3) وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم (4) ، فإن أسقط هذا الشرط عن المشتري، جاز البيع.
وإن اشترط البائع منفعة لنفسه كركوب الدابة، أو سكنى الدار مدة معلومة يسيرة كشهر وقيل: سنة، جاز البيع والشرط، عملاً بحديث جابر الآنف الذكر.
وإن اشترط البائع شرطاً يعود بخلل في الثمن، فيجوز البيع ويبطل الشرط مثل أن يشترط «إن لم يأته بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما» . فإن قال البائع للمشتري: «متى جئتك بالثمن رددت إلي المبيع، وهو المعروف ببيع الوفاء عند الحنفية، لم يجز البيع.
__________
(1) هذا معنى الحديث، وقد أخرج لفظه أحمد والشيخان عن جابر (راجع نيل الأوطار: 178/5) .
(2) راجع بداية المجتهد: 159/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 259، الشرح الكبير للدردير: 65/3.
(3) الثنيا ـ بضم الثاء وسكون النون: الاستثناء في البيع نحو أن يبيع الرجل شيئاً ويستثني بعضه، فإن كان الذي استثناه معلوماً نحو أن يستثني واحدة من الأشجار، أو منزلاً من المنازل أوموضعاً معلوماً من الأرض، صح الاتفاق على البيع، وإن كان مجهولاً نحو أن يستثني شيئاً غير معلوم لم يصح البيع.
(4) رواه النسائي والترمذي وصححه عن جابر (نيل الأوطار: 151/5) .(5/160)
14 - بيع الثمار أو الزروع:
هذه الحالة تعرض كثيراً في الحياة العملية التجارية، لهذا تحتاج لتفصيل الكلام فيها:
أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد؛ لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة (3) .
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه «نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة» وهو بيع الشجر أعواماً، لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر كما عرفنا: هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر: هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لايظهر، ومجهول المقدار إن وجد.
وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه.
وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء: فقال الحنفية: إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك.
أولاً ـ فإن كان البيع قبل بدو صلاح الزرع أو الثمر، فهناك حالات:
1ً - إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع.
__________
(3) النهي عن بيع مالم يخلق داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، وعن بيع حبل الحبلة، وبيع الغرر ونحوها، وقد سبق تخريج أحاديثها. وأما النهي عن بيع السنين والمعاومة فهو مروي بعدة ألفاظ عن جابر بن عبد الله عند البخاري ومسلم وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، ففي رواية للبخاري «نهى عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة» وفي رواية أخرى: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين» . معنى المحاقلة كما قال صاحب القاموس: هو بيع الزرع قبل بدو صلاحه، أو بيعه في سنبله، أو المزارعة بالثلث أو الربع أو أقل أو أكثر، أو اكتراء الأرض بالحنطة. والمزابنة كما في الصحيحين: بيع رطب النخل بكيل من التمر، أو بيع العنب بالزبيب، والمعاومة: هي بيع الشجر أعواماً كثيرة، وقيل: هي اكتراء الأرض سنين، وكذلك بيع السنين: هو أن يبيع ثمر النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد؛ لأنه بيع غرر، لكونه بيع ما لم يوجد، والمخابرة: كراء الأرض أي إجارتها بالثلث والربع (انظر جامع الأصول: 403/1 ومابعدها، نيل الأوطار: 175/5، مجمع الزوائد: 104/4) .(5/161)
2ً - وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط: جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعية ومالك وأحمد؛ لأن الترك ليس بمشروط نصاً؛ إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييدفساد العقد. وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان.
3ً - وإن كان بشرط الترك فالعقد فاسد باتفاق علماء الحنفية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين: وهو المشتري ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهراً، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجر والأرض، وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة، وهذا منهي عنه كما عرفنا. ثم إنه مشتمل على الغرر إذ لا يدري المشتري هل يبقى الثمر أم تصيبه آفة فيهلك، فتكون علة فساد البيع إذن ثلاثة أمور: فيه غرر، وشرط فاسد، وصفقة في صفقة.
ثانياً ـ وأما إن كان البيع بعد بدو الصلاح:
1 - فإن باع بشرط القطع جاز.
2 - وكذا إن باع مطلقاً عن الشرط يجوز أيضاً كما قدمنا.
3 - وإن باع بشرط الترك، فإن لم يتناه عِظمه، فالبيع فاسد بلا خلاف، كما تقدم في الحالة الثالثة السابقة.(5/162)
وإن تناهى عظمه فالبيع فاسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، ولا يلائمه، كما إذا اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهراً. وقال محمد: يجوز استحساناً لتعارف الناس وتعاطيهم بذلك (1) . والجواز عنده ليس لتعامل الناس شرط الترك في المبيع، وإنما التعامل بالمسامحة بالترك من غير شرط في عقد البيع. قال في الدر المختار: وبه يفتى أي بقول محمد.
حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقاً:
لو اشترى الشخص مطلقاً عن شرط، فترك الثمار حتى نضجت، ففيه تفصيل:
آـ إن كان قد تناهى عظمه، ولم يبق إلا النضج: لم يتصدق المشتري بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه، لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حال النضج. وأما الزرع فالنماء فيه يكون للمشتري طيباً، حتى وإن تركه بغير إذن البائع لأنه نماء ملك المشتري؛ لأن الساق ملكه، حتى يكون التبن له بخلاف الشجرة.
ب ـ وإن لم يتناه عظمه ينظر: إن كان الترك بإذن البائع، جاز وطاب له الفضل. وإن كان بغير إذنه تصدق بما زاد على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بسبب محظور، فأوجب خبثاً فيها، فكان سبيلها التصدُّق (2) .
حكم الثمرة المتجددة في مدة الترك غير المشروطة: إذا أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى، فهي للبائع سواء أكان الترك بإذنه أم بغير إذنه، لأنه نماء ملك البائع، فيكون له، ولو حللها له البائع جاز.
وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجود عنده، بحيث لا يمكن التمييز بينهما ينظر:
إن كان ذلك قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، بطل البيع، كما قرر الكاساني في البدائع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز.
__________
(1) المبسوط: 195/12، البدائع: 173/5، فتح القدير: 102/5 وما بعدها، رد المحتار: 40/4، الأموال ونظرية العقد: ص 307 ومابعدها.
(2) البدائع، المرجع السابق.(5/163)
وإن كان بعد التخلية لم يبطل البيع؛ لأن التخلية قبض، ويتم البيع، والثمرة
تكون بينهما، لاختلاط ملك أحدهما بالآخر اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما، فكان الكل مشتركاً بينهما، والقول في مقدار الزيادة قول المشتري، لأنه صاحب يد لوجود التخلية (1) . هذا هو مذهب الحنفية في بيع الثمار أو الزروع.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن بدا صلاح الثمر جاز بيعه مطلقاً أو بشرط القطع أو بشرط الترك على الشجر.
أما قبل بدو الصلاح فإن كان البيع بشرط الترك أو البقاء فلا يصح إجماعاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع» (2) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث، وذلك لأن له خطر المعدوم (3) .
وإن كان البيع بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة فيها، قبل أخذها، بدليل ما روى أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقلنا لأنس ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» (4) وهذا مأمون فيما يقطع في الحال، فصح بيعه، كما لو بدا صلاحه. قال ابن رشد: بما أن العلة في النهي هو خوف ما يصيب الثمار من الجائحة غالباً قبل أن تزهى، لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الإزهاء، بل
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي والموطأ عن ابن عمر (انظر جامع الأصول: 389/1) .
(3) يلاحظ أن هذا الإجماع المدعى محل نظر، فقد أجاز البيع بشرط الترك يزيد بن أبي حبيب واللخمي من المالكية (بداية المجتهد: 148/2، المنتقى على الموطأ: 218/4) .
(4) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي (انظر جامع الأصول: 390/1) .(5/164)
رأوا أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع.
واستدلوا على عدم جواز بيع الزرع الأخضر في الأرض إلا بشرط القطع في الحال بحديث ابن عمر وهو: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو (1) ، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» (2) قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به.
وأما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً دون اشتراط تبقية ولا قطع، فالبيع باطل، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح (الزهو) ، فيدخل فيه محل النزاع. وإطلاق العقد يقتضي التبقية، لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، والمتعارف هو الترك، بدليل سياق الحديث، فيصير العقد المطلق كالذي شرطت فيه التبقية، يتناولهما النهي جميعاً، ويصح التعليل بالعلة التي علل بها النبي صلّى الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها. ويدل الحديث أيضاً على أن مابعد الغاية: (حتى يبدو صلاحها) بخلاف ماقبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق عن شرط التبقية (3) .
والخلاصة كما قال صاحب فتح القدير (4) : لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بدو الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، والخلاف إنما هو في بيعها قبل بدو الصلاح.
__________
(1) زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وروي «حتى يزهى» يقال: أزهى البسر: إذا احمر أو اصفر.
(2) أخرجه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن ابن عمر (نصب الراية: 5/4) .
(3) المنتقى على الموطأ: 218/4، بداية المجتهد: 148/2، القوانين الفقهية: ص 261، مغني المحتاج: 86/3، 89، المغني: 80/4 ومابعدها، غاية المنتهى: 69/2.
(4) فتح القدير: 102/5.(5/165)
ورجح ابن عابدين في رسالته نشر العرف جوازه بيع الثمار مطلقاً قبل بدو الصلاح أو بعده إذا جرى العرف بترك ذلك؛ لأن الشرط الفاسد إذا جرى به العرف صار صحيحاً ويصح العقد معه استحساناً (1) .
وبدو الصلاح أو الإزهاء في المشهور عند الجمهور: هو ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمر النخل، وظهور الماء الحلو، واللين، والاصفرار في ثمرة الكرم. وفيما عدا ذلك أن يبدو النضج، أي أن العبرة فيما يتلون: هو أن يأخذ في الحمرة أو السواد أو الصفرة، كالبلح والعناب والمشمش والإجاص. وفيما لايتلون: العبرة بظهور مبادئ النضج والحلاوة بأن يتموه «أي يبدو فيه الماء الحلو» ويلين ويصفر لونه، وفي الحبوب والزروع يعتبر اشتدادها (2) . والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر، حتى يطيب» (3) ونهى أيضاً عن بيع الثمار حتى تزهو، قيل: ومازهوها؟ قال: تحمروتصفر (4) ، ونهى عن بيع العنب حتى يسود (5) ، وقال الحنفية: بدو الصلاح: أن تؤمن العاهة والفساد (6) أي أن الحنفية اعتبروا مجرد ظهور الثمرة، والجمهور اعتبروا ظهور النضج وبدو الحلاوة في الثمار، وفي الحب والزرع اشتدادهما.
وينظر في بدو الصلاح إلى كل نوع أو صنف على حدة من أنواع الثمار عند
__________
(1) نشر العرف: ص 38، رسالة العرف والعادة للأستاذ الشيخ فهمي أبي سنة: ص 140.
(2) المنتقى على الموطأ: 217/4، بداية المجتهد: 150/2، القوانين الفقهية: ص 261، تكملة المجموع: 351/11، 360، مغني المحتاج: 91/2، المغني: 87/4، 89، غاية المنتهى: 70/2.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله.
(4) رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن أنس.
(5) رواه أصحاب السنن ماعدا النسائي عن أنس (انظر تخريج هذه الأحاديث في جامع الأصول: 390/1 ومابعدها، نيل الأوطار: 173/5) .
(6) رد المحتار: 40/4.(5/166)
الحنفية. وقال الشافعية والحنابلة في أظهر الروايتين عندهم: ينظر إلى كل صنف على حدة وفي بستان واحد، فلا يصح بيع الرمان مثلاً إن بدا صلاح العنب، ولابيع عنب في بستان إن بدا الصلاح في بستان آخر، إذ أن الجنس الواحد لايتبع جنساً آخر، والبساتين تختلف في إبان نضوجها بحسب موقعها الجغرافي.
وقال المالكية: إن بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار، جا ز بيع جميع مافي البساتين المجاورة. ولايجوز بيع صنف لم يبد صلاحه ببدو صلاح صنف آخر.
وقال الظاهرية: إذا بدا الصلاح في صنف من أصناف الثمار في بستان واحد جاز بيع جميع أصناف الثمار الأخرى بشرط كون البيع صفقة واحدة ماعدا النخل والعنب، فلا يجوز بيع شيء من ثمارهما إلا بعد الإزهاء أو ظهور الطيب بالسواد أو بغيره، لورود نص خاص بهما (1) .
بيع الثمار المتلاحقة الظهور أو المقاثي والمباطخ (2) :
إذا بيع ثمر أو زرع بعد بدو الصلاح ولو بعضه، وكان يغلب تلاحقه واختلاط حادثه بالموجود كتين، وقثاء، وموز، وورد، وبطيخ،،وباذنجان، وخيار، وقرع، فقال الحنفية في ظاهر الرواية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإباضية: يجوز بيع ماظهر منها من الخارج الأول. وأما بيع ماظهر وما لم يظهر، فلايجوز، لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول، قد لايخرجه الله تعالى من الشجرة. ولايصح أيضاً البيع، لعدم القدرة على تسليم المبيع، والحاجة تندفع ببيع أصوله، ولأن مالم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف مالم يخلق.
__________
(1) المراجع السابقة، المحلى: 530/8 ومابعدها.
(2) المقاثي جمع مقثاة: وهو موضع زراعة القثاء. والمطابخ ـ جمع مبطخة: وهو موضع زراعة البطيخ.(5/167)
إلا أن الحنفية يقولون فيما لايجوز: إن البيع فاسد (1) . وغيرهم يقولون: إنه باطل. وهناك قول ثان عند الحنفية بجواز هذا البيع؛ لأن الناس اعتادوا بيع الثمار على هذه الصفة، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج وضيق. وقد رجح ابن عابدين هذ القول وأخذت به مجلة الأحكام الشرعية.
وقال المالكية وابن تيمية وابن القيم والشيعة الامامية وهو الراجح عند متأخري الحنفية: يصح البيع عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه بجزء من الثمن المقابل للذي يخرجه الله تعالى من الثمرة، ولجريان العرف وعادة الناس به، ولأن ذلك يشق تمييزه، فجعل مالم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن مالم يبد صلاحه تبع لما بدا (2) . وإني أرجح هذا الرأي لمسايرته متطلبات الحياة الواقعية، واعتياد الناس لهذا البيع وحاجتهم إليه، وإلا أدى منعه إلى منازعات لاتنتهي.
__________
(1) البدائع: 173/5 ومابعدها، تكملة المجموع: 359/11، مغني المحتاج: 92/2، المغني: 90/4، غاية المنتهى: 68/2، البحر الزخار: 317/3، شرح النيل: 72/4 ومابعدها، حاشية الشلبي على الزيلعي: 12/4، المحلى: 471/8، رد المحتار: 40/4، رسائل ابن عابدين: 139/2، قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار (المكان المذكور) : لايخفى تحقق الضرورة لهذا البيع في زماننا، ولاسيما في مثل دمشق الشام كثيرة الأشجار والثمار، وفي نزع الناس عن عادتهم حرج، ويلزم تحريم أكل الثمار في هذه البلدان، إذ لاتباع إلا كذلك، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما رخص في السلم للضرورة مع أنه بيع المعدوم، فحيث تحققت الضرورة هنا أيضاً أمكن الحاقه بالسلم بطريق الدلالة، فلم يكن مصادماً للنص، فلذا جعلوه من الاستحسان، لأن القياس عدم الجواز، وظاهر كلام الفتح الميل إلى الجواز، ولذا أورد له الرواية عن محمد، بل تقدم أن الحلواني رواه عن أصحابنا، وماضاق الأمر إلا اتسع، ولايخفى أن هذا مسوغ للعدول عن ظاهر الرواية.
(2) بداية المجتهد: 2ص156، بلغة السالك: 2ص79، المنتقى على الموطأ: 4ص219، القوانين الفقهية: ص 261، المختصر النافع: ص 154، أعلام الموقعين: 2ص12.(5/168)
بيع الحنطة في سنبلها:
قال الحنفية: يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاّ في قشره، وكذا الأرز والسمسم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» ولأنه حب منتفع به فيجوز بيعه في سنبله كالشعير (1) .
__________
(1) فتح القدير: 5ص106.(5/169)
وكذلك قال المالكية والحنابلة والظاهرية: يجوز بيع الحب في سنبله، ولكن لايجوز بالاتفاق بيع الحب من دون السنبل، لأنه بيع مالم تعلم صفته ولاكثرته. ودليلهم الحديث السابق، والمعقول: وهوأنه إذا اشتد الحب بدا صلاحه، فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها، وإذا اشتد شيء من الحب جاز بيع جميع مافي البستان من نوعه، كالشجرة إذا بدا الصلاح في شيء منها (1) .
وقال الشافعية في الأصح عندهم: مالايرى حبه كالحنطة والعدس والسمسم في السنبل لايصح بيعه وإن اشتد دون سنبله لاستتاره، ولابيعه مع السنبل؛ لأن المقصود منه مستتر بما ليس من صلاحه، فلا يصح قياساً على بيع الحنطة في تبنها بعد الدياس، فإنه لايصح قطعاً، ولأنه من باب الغرر، وأما حديث: «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع السنبل حتى يبيض» أي يشتد، فهو محمول على الشعير ونحوه جمعاً بين الدليلين. والأرز كالشعير، والذرة بارزة الحبات كالشعير، وأما المستورة بكمام فكالحنطة (2) .
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 4ص220، بداية المجتهد: 2ص151، حاشية الدسوقي: 3ص16، المغني: 4ص83، المحلى: 8ص395.
(2) مغني المحتاج: 2ص90، المجموع للنووي: 9ص338 ومابعدها.(5/170)
حكم البيع الفاسد:
سأذكر حكم البيع الفاسد ومايلحق به من الكلام في التصرف بالمبيع، وفسخ المشترى شراء فاسداً، والزيادة في المبيع بيعاً فاسداً.
للبيع الفاسد عند الحنفية أحكام (1) ، منها: أن البيع ينعقد بقيمة المبيع أو بالمثل، لا بالثمن المسمى، ويفيد الملك في المبيع بالقبض؛ لأن ذكر الثمن المرغوب كالخمر مثلاً، أو إدخال شرط فاسد، أو وجود الجهالة في الثمن ونحوها، دليل على أن غرض المتعاقدين البيع، فينعقد بيعاً بقيمة المبيع باعتبار أن القيمة هي الواجب الأصلي في المبايعات؛ لأنها مثل المبيع في المالية. ويكون المبيع ببيع فاسد مضموناً في يد المشتري يلزمه مثله إن كان مثلياً، والقيمة إن كان قيمياً.
والدليل على أن البيع الفاسد منعقد يفيد الملك: هو أن ركن البيع «وهو مبادلة مال بمال» صدر من أهله مضافاً إلى محله، فوجب القول بانعقاده، وإنما المحظور ليس لمعنى في ذات المنهي عنه، وإنما لما يجاور البيع، كما في البيع وقت النداء إلى صلاة الجمعة، فكان ذكر هذه الشروط لايصح، فالتحق ذكرها بالعدم أي فكأنها لم تذكر.
وإنما لايثبت الملك قبل القبض كيلا يتقرر الفساد، لأنه إذا ثبت المالك قبل القبض وجب تسليم الثمن، وتسليم المبيع، فيتقرر الفساد، وهو لايجوز؛ لأن الفساد واجب الإزالة والرفع شرعاً.
وعند جمهور الفقهاء: لاينعقد البيع الفاسد، ولايفيد الملك أصلاً، وإن قبض المشتري المبيع؛ لأن المحظور لايكون طريقاً إلى الملك،،ولأن النهي عن المبيع الفاسد يقتضي عدم المشروعية، وغير المشروع لايفيد حكماً شرعياً.
ويشترط في البيع الفاسد لإفادة الملك عند الحنفية شرطان:
1ً - القبض: فلا يثبت الملك قبل القبض، لأنه واجب الفسخ رفعاً للفساد، وفي التسليم تقرير الفساد، كما تقدم.
2ً - أن يكون القبض بإذن البائع: فإن قبض بغير إذنه أصلاً لايثبت الملك، وذلك بأن نهاه عن القبض أو قبض بغير محضر منه من غير إذنه.
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 13ص23، البدائع: 5ص304، فتح القدير والعناية: 5ص227 ومابعدها، رد المحتار: 4ص136، مجمع الضمانات: ص216.(5/171)
فإن لم ينهه عن القبض ولا أذن له في القبض صريحاً، فقبضه في مجلس العقد بحضرة البائع: ففي المشهور من الروايات عن الحنفية أن الملك لايثبت. وذكر محمد في الزيادات أنه يثبت الملك، وهو الصحيح كما قال المرغيناني، لأن ذلك إذن منه بالقبض دلالة، كما في باب الهبة إذا قبض الموهوب له بحضرة الواهب، فلم ينهه، صح قبضه، ولأن البيع تسليط من البائع على القبض، فإذا قبضه المشتري بحضرة البائع، كان بحكم التسليط السابق.
ووجه الرواية التي سماها صاحب الإيضاح مشهورة: هو أن العقد الفاسد ليس فيه تسليط على القبض، لوجود المانع من القبض، لأن في قبض المبيع تقرير الفساد، فكان الإذن بالقبض إذناً بما فيه تقرير الفساد، بخلاف الهبة لامانع فيها من القبض، وحينئذ فلا سبيل إلى إثبات الإذن بطريق الدلالة (1) .
التصرف في المشترى شراء فاسداً:
من أحكام البيع الفاسد: أن المشتري بعد قبض المبيع يملك التصرفات الناقلة للملكية التي تتعلق بعين الشيء، وتكون نافذة مثل البيع والهبة والصدقة والرهن والإجارة؛ لأن هذه التصرفات تزيل حق الانتفاع بالحرام، ولكن الصحيح عند الحنفية أن هذه التصرفات تكون مكروهة لأنه يجب فسخ العقد الفاسد لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال أو تأخير لحق الفسخ، فتكره.
وأما التصرفات التي تتعلق بعين الشيء، أي في الانتفاع بالعين كأكل الطعام ولبس الثوب وركوب الدابة وسكنى الدار، فلا تباح للمشتري شراء فاسداً؛ لأن الثابت بالبيع الفاسد ملك خبيث، والملك الخبيث لايفيد إطلاق الانتفاع، لأنه واجب الرفع والبطلان، وهذا هو الصحيح
__________
(1) البدائع: 5ص304، فتح القدير: 5ص230.(5/172)
عن الحنفية (1) .
مايبطل حق الفسخ:
1 - التصرف الواقع على المشترى شراءً فاسداً:
من المعروف أن الملك الثابت في البيع الفاسد ملك غير لازم، بل هو مستحق الفسخ، ويحق لكل من العاقدين قبل القبض فسخ العقد من غير رضا الآخر، كيفما كان الفساد، كما يحق لهما الفسخ بعد القبض إذا كان الفساد راجعاً إلى العوض، كأن يكون الثمن خمراً أو خنزيراً.
وإن لم يكن الفساد راجعاً إلى العوض بعد القبض كالبيع بشرط منفعة زائدة لأحد العاقدين أو إلى أجل مجهول، فلكل واحد من العاقدين الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العقد في نفسه غير لازم. وفي قول محمد: حق الفسخ لمن شرط له المنفعة لا غير؛ لأن من له شرط المنفعة قادر على تصحيح العقد بإزالة المفسد وإسقاطه (2) .
هذا بالنسبة لأصل التصرف الفاسد، فهل يبطل حق الفسخ بسبب التصرف الواقع بعد القبض على المشترى شراء فاسداً؟ فيه تفصيل (3) .
1 - إن كان التصرف مزيلاً للملك من كل وجه كالبيع والهبة والإعتاق، فلا يفسخ (أي أن حق الفسخ في البيع الفاسد يبطل) وعلى المشتري القيمة أو المثل، لأنه تصرف في محل مملوك له، فنفذ تصرفه.
2 - وإن كان تصرفاً مزيلاً للملك من وجه، أو ليس مزيلاً للملك:
آـ فإن كان تصرفاً لا يحتمل الفسخ ومثلوا له بالتدبير والاستيلاد والكتابة (4) فإنه يبطل الفسخ.
ب ـ وإن كان التصرف يحتمل الفسخ، كالإجارة فإنه يفسخ، فلو آجر رجل الشيء، حقَّ للمالك الأول فسخ الإجارة، ثم يفسخ البيع بسب الفساد؛ لأن الإجارة وإن كانت عقداً لازماً، إلا أنها تفسخ بالعذر، ولا عذر أقوى من رفع الفساد.
ولو أوصى شخص بالمبيع بيعاً فاسداً، صحت الوصية، ويجوز فسخها ما دام الموصي حياً؛ لأن الوصية تصرف غير لازم حال حياة الموصي.
فلو مات الموصي قبل الفسخ، سقط حق الفسخ؛ لأن الملك انتقل إلى الموصى له، كما ينتقل بالبيع.
__________
(1) فتح القدير: 5ص232، البدائع: 5ص304.
(2) البدائع: 5 ص 300، فتح القدير: ص 231.
(3) البدائع: 5 ص 301 ومابعدها.
(4) هذه التصرفات تزيل الملك من وجه إذ أنها تؤول بالعبد إلى الحرية بعد الموت في التدبير والاستيلاد، أو بعد تنفيذ مقتضى الكتابة بوفاء الالتزام المالي.(5/173)
ويلاحظ أن حق الفسخ يورث، فلو مات المشتري شراء فاسداً فورثه الورثة،
فيحق للبائع الفسخ، وكذا الورثة؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ، وكذا يحق لورثة البائع إن مات أن يطالب ورثته باسترداد المبيع.
2 - الزيادة في المبيع بيعاً فاسداً:
إذا حدثت زيادة في المبيع بيعاً فاسداً، فإما أن تكون زيادة منفصلة أو متصلة:
1 - الزيادة المتصلة: الزيادة المتصلة إما أن تكون متولدة من الأصل أو غير متولدة.
آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالسمن والجمال، فلا تمنع الفسخ؛ لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة، والأصل مضمون الرد، فكذلك التبع، كما في الغصب.
ب ـ وإن كانت غير متولدة من الأصل كخلط الدقيق بالسمن أو العسل، فإنها تمنع الفسخ؛ لأنه لو فسخ إما أن يفسخ على الأصل وحده أو على الأصل والزيادة معاً، ولا سبيل إلى الأول لتعذر الفصل، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت البيع، لا أصلاً ولا تبعاً، فلا تدخل تحت الفسخ.
2 - الزيادة المنفصلة: هذه الزيادة أيضاً إما متولدة من الأصل أوغير متولدة منه.
آـ فإن كانت متولدة من الأصل كالولد واللبن والثمرة، فلا تمنع حق الفسخ، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة تابعة للأصل، لكونها متولدة منه، والأصل مضمون الرد، فكذلك الزيادة، كما هو المقرر في حالة الغصب. ويلاحظ أن الأرش (1) يعد من هذا القسم؛ لأنه بدل جزء فائت من الأصل حقيقة كالمتولد من الأصل.
ب ـ وإن كانت غير متولدة، كالهبة والصدقة والكسب، فإنها لا تمنع الرد، وللبائع أن يسترد الأصل مع الزيادة، لأنها حصلت على ملكه، إلا أنها لا تطيب له، لأنها لم تحدث في ضمانه، بل في ضمان المشتري.
__________
(1) الأرش: هو العوض المالي الذي يقدَّر شرعاً، ويجب على الجاني في غير النفس والأعضاء، فإذا كان العوض عن النفس أو العضو فيسمى دية.(5/174)
والخلاصة: أن الزيادة المتصلة غير المتولدة: هي التي تبطل حق الفسخ فقط دون غيرها من أنواع الزيادة. ولا تضمن الزيادة بالهلاك، وتضمن بالاستهلاك.
وكذلك الزيادة بالصنع تبطل حق الفسخ: وهي أن يحدث المشتري في المبيع بيعاً فاسداً صنعاً، لو فعله الغاصب في المغصوب يصير ملكاً له، كما إذا كان المبيع قطناً، فغزله، أو غزلاً فنسجه، أو حنطة فطحنها، أو سمسماً أوعنباً فعصره، أو ساحة فبنى عليها، أو شاة فذبحها وشواها أو طبخها ونحوها؛ إذ القبض في البيع الفاسد كقبض الغصب؛ لأن كل واحد منهما مضمون الرد حال قيامه، ومضمون القيمة أو المثل حال هلاكه، فكل ما يبطل حق المالك في الغصب يبطله في البيع. وحينئذ يلزم المشتري بدفع قيمة الشيء المبيع يوم القبض، كما في الغصب (2) .
وعلى هذا فليس للبائع المطالبة بنقض البناء الذي بناه المشتري في الأرض المبيعة بيعاً فاسداً، وإنما على المشتري قيمتها، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
وقال الصاحبان: لا يبطل حق الفسخ حينئذ، وللبائع أن ينقض البناء ويقلع الغرس كما في الغصب، إذا بنى على الأرض المغصوبة لا يبطل حق المالك في الأرض.
ودليل أبي حنيفة: أن البناء والغرس مما يقصد به الدوام، وقد حصل البناء أو الغرس بتسليط من البائع؛ لأن المبيع صار ملكاً للمشتري وفي النقض ضرر كبير، فلا ينقض البناء، ولا يقلع
__________
(1) البدائع: 5 ص 302 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 137، مجمع الضمانات: ص216.(5/175)
الغرس، كما في تصرف البيع والهبة، بخلاف الغاصب، لأنه لم يوجد التسليط على البناء (1) .
وأما نقصان المبيع بيعاً فاسداً فلا يمنع البائع من الاسترداد، سواء حصل النقص بآفة سماوية أو بفعل المبيع أو بفعل المشتري، فإن حصل بفعل أجنبي، فالبائع بالخيار: إن شاء أخذ قيمة النقص من المشتري، والمشتري يرجع به على الجاني، وإن شاء طالب الجاني وهو لا يرجع على المشتري (2) .
خلاصة البيوع الممنوعة في الإسلام
البيوع الممنوعة أو المنهي عنها في الإسلام كثيرة، لا فرق فيها عند الجمهور بين باطل وفاسد، وفرق الحنفية بينهما، كما تقدم، وقد عرفنا طائفة من هذه البيوع، أذكر هنا أهمها بالنظر إلى سبب الخلل الذي صاحبها، وهو أنواع أربعة:
بسبب أهلية العاقد: وبسبب الصيغة، وبسبب المعقود عليه أو محل التعاقد، وبسبب اقتران العقد بوصف أو شرط أو نهي شرعي.
أولاً ـ البيوع الممنوعة بسبب أهلية العاقد:
اتفق الفقهاء على أنه يصح البيع من كل بالغ عاقل مختار مطلق التصرف غير محجور عليه لحق نفسه كالسفيه أو لحق غيره كالمدين. وأما من لا يصح بيعه فهو ما يأتي:
1 - بيع المجنون: لا يصح بالاتفاق، لانعدام الأهلية، ومثله المغمى عليه والسكران والمخدَّر.
2 - بيع الصبي: لا يصح بيع غير المميز اتفاقاً إلا في الشيء اليسير، وأما المميز فلا يصح بيعه عند الشافعية والحنابلة؛ لعدم الأهلية، ويصح بيعه موقوفاً على إذن وليه أو إجازته عند الحنفية والمالكية، فإذا أجيز صار نافذاً، إذ لا يمكن اختباره إلا بتفويض التصرف إليه بالبيع والشراء، عملاً بالآية: {وابتلوا اليتامى ... } [النساء:6/4] ويصح تصرف المميز والسفيه بإذن وليهما عند الحنابلة.
3 - بيع الأعمى إذا وصف له المبيع صحيح عند الجمهور، لوجود الرضا، باطل غير صحيح عند الشافعية لقصوره في إدراك الجيد والرديء، فيكون المعقود عليه في حقه مجهولاً.
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 302 ومابعدها، رد المحتار: 4 ص 137، البدائع: 5 ص 304.
(2) البدائع: 5 ص 303.(5/176)
4 - بيع المكره: موقوف غير نافذ كالفضولي على التحقيق عند الحنفية، فإذا أجازه المكره بعد زوال الإكراه نفذ. وغير لازم في رأي المالكية، فيكون له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه، وغير صحيح في مذهبي الشافعية والحنابلة لعدم توافر الرضا عند إبرام العقد.
5 - بيع الفضولي: صحيح موقوف على إجازة المالك الحقيقي في رأي الحنفية والمالكية؛ لأن الإجازة اللاحقة كالإذن السابق. ولا يصح أصلاً عند الشافعية والحنابلة، للنهي عن بيع ما لم يملكه الإنسان، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
6 - بيع المحجور عليه بسبب السفه أو الإفلاس أو المرض: أما السفيه المبذر فبيعه موقوف عند الحنفية والمالكية وفي الراجح لدى الحنابلة، ولا يصح في رأي الشافعية لعدم أهليته، وعدم اعتبار كلامه. وأما المفلس بسبب الحكم عليه بالإفلاس لحق الدائنين الغرماء فتصرفه بالبيع موقوف عند الحنفية والمالكية، غير صحيح لدى الشافعية والحنابلة.
وأما المريض مرض الموت فتبرعاته عند الجمهور غير المالكية نافذة في حدود ثلث التركة، موقوفة في الزائد عن الثلث على إجازة الورثة. ولا ينفذ تبرعه من الثلث في مذهب المالكية في المنقول، وينفذ من العقار كدار وأرض وشجر ونحوها مما لا يخشى تغييره.
7 - بيع المُلْجَأ: وهو المضطر إلى البيع لتهريب أمواله من وجه ظالم. وبيعه فاسد عند الحنفية، باطل عند الحنابلة.
ثانياً ـ البيوع الممنوعة بسبب الصيغة:
يصح البيع بالاتفاق بتراضي العاقدين، وتوافق الإيجاب والقبول فيما يجب التراضي عليه من مبيع وثمن وغيرهما، وكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد دون أن يحدث بينهما فاصل. ولا يصح البيع في حالات، منها ما يأتي:(5/177)
1 - بيع المعاطاة: المعاطاة: أن يتفق العاقدان على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما. وهو بيع صحيح عند الجمهور؛ لأن البيع ينعقد بكل ما يدل على الرضا بتبادل الملك في الأموال، سواء بالصيغة المعبرة عن الإرادة صراحة من إيجاب وقبول، أم بما يدل على الرضا عرفاً، اعتباراً بعرف الناس واحتراماً لعاداتهم السائدة فيما بينهم، ما لم تصادم نصاً من نصوص الشرع. فيصح البيع باللفظ أو الإشارة أو بغيرهما، ما دام يدل على المقصود من العلم بتراضي العاقدين، ولم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة. ولا ينعقد البيع بالمعاطاة عند الشافعية (1) ، بل لا بد من الإيجاب والقبول في كل عقد بيعاً وإجارة ورهناً وهبة ونحوها؛ لأن اسم البيع لا يقع عليه، ولعدم توافر الدليل الظاهر المطلوب شرعاً الدال على الرضا؛ لأن البيع منوط بالرضا، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض» (1) والرضا أمر خفي لا يطلع عليه، فأنيط الحكم بسبب ظاهر، وهو الصيغة، فلا ينعقد بالمعاطاة، إذ الفعل لا يدل بوضعه، فيكون المقبوض بالمعاطاة كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل عاقد صاحبه بما دفع إليه إن بقي، وببدله إن تلف.
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 302 وما بعدها، رد المحتار: 4 ص 137، البدائع: 5 ص 304.(5/178)
وأجاز بعض الشافعية كابن سريج والرُوياني المعاطاة في المحقَّرات: وهي ماجرت العادة فيها بالمعاطاة، كرطل خبز، وحزمة بقل. وقال بعضهم: كل من وسم بالبيع، اكتفي منه بالمعاطاة، كالعامي والتاجر، وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ. وقال النووي في المجموع: وأما إذا كان يأخذ من البياع ويحاسبه بعد مدة ويعطيه، كما يفعل كثير من الناس، فإنه باطل بلا خلاف؛ لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة. وصحح النووي المعاطاة، فقال: المختار والراجح دليلاً الصحة؛ لأنه لم يصح في الشرع اعتبار لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف، كغيره من الألفاظ (2) .
2 - البيع بالمراسلة أو بواسطة رسول: يصح اتفاقاً، ويكون مجلس التعاقد هومجلس بلوغ الرسالة من العاقد الأول إلى العاقد الثاني، فإن تم القبول بعد هذا المجلس لم ينعقد العقد.
3 - بيع الأخرس بالإشارة المفهومة أو الكتابة: صحيح اتفاقاً، كالنطق من الناطق، للضرورة؛ لأن ذلك يدل على ما في فؤاده، كما يدل عليه النطق من الناطق، فإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا يحسن الكتابة لم يصح عقده.
4 - البيع مع غائب عن مجلس العقد: لا يصح اتفاقاً؛ لأن اتحاد المجلس شرط لانعقاد البيع.
5 - البيع مع عدم تطابق القبول والإيجاب: لا يصح اتفاقاً، إلا إذا كانت المخالفة إلى خير، كزيادة المشتري على الثمن المتفق عليه، يصح بها العقد عند الحنفية، ولا يصح عند الشافعية.
6 - البيع غير المنجز: وهو المعلق على شرط أو المضاف لوقت في المستقبل: فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور.
ثالثاً ـ البيوع الممنوعة بسبب المعقود عليه (محل التعاقد) :
المعقود عليه بالمعنى الأعم: هو المال المبذول من كلا المتعاقدين، ويسمى أحد البدلين مبيعاً، ويسمى الآخر ثمناً.
__________
(1) صححه ابن حبان.
(2) الأشباه للسيوطي: ص 89.(5/179)
وقد اتفق الفقهاء على صحة البيع إذا كان المعقود عليه مالاً متقوماً محرزاً موجوداً، مقدوراً على تسليمه، معلوماً للعاقدين، لم يتعلق به حق الغير، ولم ينه عنه الشرع. واختلفوا في صفة بعض البيوع المنهي عنها على النحو التالي:
1 - بيع المعدوم أو ماله خطر العدم، كبيع المضامين (ما في أصلاب الذكور) والملاقيح (ما في أصلاب الإناث) وحبل الحبلة (نتاج النتاج) : باطل لا ينعقد باتفاق أئمة المذاهب الأربعة، للنهي عنه في الأحاديث الصحيحة.
2 - بيع معجوز التسليم، كالطير في الهواء والسمك في الماء، باطل لا ينعقد باتفاق المذاهب، للنهي الثابت عنه في السنة.
3 - بيع الدين نسيئة وهو بيع الكالئ بالكالئ: باطل اتفاقاً، للنهي عنه شرعاً. وبيع الدين للمدين في الحال جائز اتفاقاً، وبيع الدين لغير المدين في الحال باطل عند الحنفية والحنابلة والظاهرية، جائز في المذاهب الأخرى.
4 - بيع الغرر الفاحش أو غير اليسير: وهو غير المتحقق الموجود، لا يصح اتفاقاً للنهي عنه، لكن منه ما هو باطل اتفاقاً كبيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة، ومنه ما هو فاسد في اصطلاح الحنفية باطل عند غيرهم: وهو بيع ضربة القانص والغائص والمزابنة (بيع الرطب على النخل، والعنب على الكرمة بثمر مقطوع، بالحزر والتخمين) والمحاقلة (بيع الحنطة في سنبلها بمثلها بالحرز والتخمين) والملامسة (تنجيز البيع بمجرد اللمس) والمنابذة (إبرام البيع بمجرد نبذ المبيع إلى المشتري أو بنبذ أحد المبيعات) وبيع الحصاة (ما تقع عليه الحصاة) ، وبيع المجهول من أصناف متعددة أكثر من ثلاثة. قال ابن جزي المالكي (1) : الغرر الممنوع عشرة أنواع:
النوع الأول ـ تعذر التسليم كالبعير الشارد، ومنه بيع الجنين في البطن دون بيع أمه، وكذلك استثناؤه في بطن أمه، وكذلك بيع ما لم يخلق كبيع حبل الحبلة: وهو نتاج ما تنتج الناقة، وبيع المضامين: وهي ما في ظهور الفحول.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 256 وما بعدها.(5/180)
النوع الثاني ـ الجهل بجنس الثمن أو المثمون: كقوله: بعتك ما في كمي.
النوع الثالث ـ الجهل بصفة أحدهما، كقوله: بعتك ثوباً من منزلي، أو بيع الشيء من غير تقليب ولا وصف.
النوع الرابع ـ الجهل بمقدار المبيع أو الثمن، مثل الثاني: بعت منك بسعر اليوم، أو بما يبيع الناس، أو بما يقول فلان إلا بيع الجزاف يجوز.
ومثال الأول: لايجوز بيع القمح في سنبله للجهل به، ويجوز بيعه مع سنبله، خلافاً للشافعي، وكذلك لايجوز بيعه في تبنه، ويجوز بيعه مع تبنه، ولا يجوز بيع تراب الصاغة، ويجوز بيع الفول الأخضر والجوز واللوز في القشر الأعلى، خلافاً للشافعي.
النوع الخامس ـ الجهل بالأجل: مثل بعتك إلى قدوم زيد أو إلى موت عمرو، ويجوز أن يقول: إلى الحصاد، أو إلى معظم الدراس أو إلى شهر كذا، ويحمل على وسطه.
النوع السادس ـ بيعتان في بيعة: وهو أن يبيع مبيعاً واحداً بأحد ثمنين مختلفين، أو يبيع أحد مبيعين بثمن واحد، فالأول: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقداً، أو بعشرين، إلى أجل، على أن البيع قد لزم في أحدهما. والثاني ـ أن يقول: بعتك أحد هذين الثوبين بكذا، على أن البيع قد لزم في أحدهما.
النوع السابع ـ بيع ما لا ترجى سلامته، كالمريض في السباق.
النوع الثامن ـ بيع الحصى: هو أن يكون بيده حصى، فإذا سقطت وجب البيع.
النوع التاسع ـ بيع المنابذة: وهو أن ينبذ أحدهما ثوبه إلى الآخر، وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع بذلك.(5/181)
النوع العاشر ـ بيع الملامسة: وهو أن يلمس الثوب، فيلزمه البيع بلمسه، وإن لم يتبينه. وحاصل هذه الأنواع يرجع إلى بيع معجوز التسليم، وبيع المجهول، وبيع الأشياء المحتملة، وبيع الحصى وبيع المنابذة وبيع الملامسة.
5 - بيع النجس والمتنجس: لا يصح اتفاقاً بيع النجس كالخمر والخنزير والميتة والدم، ولا يصح عند الجمهور أيضاً بيع المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالسمن والزيت والعسل الذي وقعت فيه نجاسة كفأرة مثلاً. وأجاز المالكية الاستصباح وعمل الصابون بالزيت النجس، وأباح الحنفية بيع المتنجس لغير الأكل كالدبغ والدهان والاستضاءة في غير المسجد، ما عدا دهن الميتة، فإنه لا يحل الانتفاع به، تنزهاً عن فعل اليهود، حينما حرمت عليهم الميتة أذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها. وكذلك بيع المعازف (آلات الطرب) لا يصح في رأي الجمهور للنهي عن الانتفاع بها، وأجاز الظاهرية وبعض المالكية بيعها، للأحاديث الثابتة الدالة على جواز ضرب الدف ونحوه.
6 - بيع الماء: يجوز عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة بيع الماء المملوك، أو المحرز في الأواني، أو ماء العين أو البئر. وقال الظاهرية: لا يحل بيع الماء مطلقاً. واتفق العلماء على أنه لا يصح بيع الماء المباح أي الماء العام المشترك بين الناس؛ لأن الناس شركاء فيه وفي النار والكلأ والملح.
7 - بيع المجهول: البيع المشتمل على جهالة فاحشة في المبيع أو الثمن أو الأجل أو نوع المرهون أو الكفيل فاسد عند الحنفية، باطل في رأي الجمهور؛ لأنه يفضي إلى النزاع والخلاف.
8 - بيع الشيء الغائب عن المجلس أو غير المرئي: يصح في رأي الحنفية من غير رؤية ولا وصف، وللمشتري الخيار عند الرؤية، ويصح في رأي المالكية على الصفة، ويثبت فيه خيار الرؤية. ولا يصح مطلقاً عند الشافعية، والحنابلة في الأظهر.
لكن اشترط المالكية (1) في البيع على الصفة خمسة شروط:
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 256.(5/182)
الأول ـ ألا يكون بعيداً جداً كالأندلس وإفريقية.
الثاني ـ ألا يكون قريباً جداً كالحاضر في البلد.
الثالث ـ أن يصفه غير البائع.
الرابع ـ أن يحصر الأوصاف المقصودة كلها.
الخامس ـ ألا ينقد ثمنه بشرط من البائع إلا في المأمون التغير كالعقار. ويجوز النقد من غير شرط.
ثم إن خرج المبيع على حسب الصفة والرؤية لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك، فللمشتري الخيار.
ويجوز بيع ما في الأعدال من الثياب على وصف البرنامج (1) ، بخلاف الثوب المطوي دون تقليب ونشر.
9 - بيع الشيء قبل القبض: لا يجوز في رأي الحنفية بيع المنقول قبل القبض، للنهي عنه، ويجوز بيع العقار قبل القبض؛ لأنه مأمون التغير غالباً. ولا يجوز إطلاقاً في رأي الشافعية، لعموم النهي: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (2) . وخصص المالكية المنع في الطعام، سواء أكان ربوياً أم غير ربوي. وقصر الحنابلة المنع على الطعام المكيل أو الموزون أو المعدود، لحديث: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه» (3) .
10 - بيع الثمار أو الزروع: باطل لا ينعقد اتفاقاً إذا كان قبل أن تخلق؛ لأنه معدوم. أما بعد أن تخلق: فإن كان قبل بدو الصلاح بشرط الترك أو الإبقاء، فلا يصح إجماعاً، والبيع فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور. وإن كان بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع، وهو صحيح عند الحنفية إذا كان البيع مطلقاً عن الشرط، غير صحيح عند الجمهور.
__________
(1) وهو بيع الغائب بلا وصف لنوعه وجنسه، ويجوز بشرطين: إثبات خيار الرؤية للمشتري، وعدم دفع الثمن للبائع. والبرنامج: الورقة المكتوب فيها ما في الوعاء.
(2) رواه أبو داود والدارقطني عن زيد بن ثابت (نيل الأوطار: 157/5) .
(3) رواه أحمد ومسلم عن جابر (المرجع السابق) .(5/183)
وإن كان بعد بدو الصلاح، جاز بيعه على المفتى به عند الحنفية من رأي محمد بن الحسن ولو بشرط الترك إن تناهى عظمه، ويفسد إن لم يتناه عظمه. ويجوز بيعه مطلقاً ولو بشرط الترك في رأي الجمهور.
رابعاً ـ البيوع الممنوعة بسبب وصف أو شرط أو نهي شرعي:
يصح البيع اتفاقاً إذا اكتملت أركانه وشروطه، ولم يكن مشتملاً على صفة ضارة بالمجتمع، أو شرط مخالف لمقتضى العقد، أو لاعتبارات أخرى خارجة عن العقد، كما في الحالات التالية:
1 - بيع العَرَبون: لا يجوز عند الجمهور للنهي عنه في السنة، ويعد فاسداً عند الحنفية، باطلاً عند المالكية والشافعية إن كان على ألا يرد البائع العربون إلى المشتري، إذا لم يتم البيع بينهما. فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع، فهو جائز.
وهو جائز لا بأس به عند الحنابلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أحله، لكن لم يثبت حديث كل من الفريقين.
2 - بيع العينة: وهو أن يظهر العاقدان فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فيمنع ويقع باطلاً في رأي المالكية والحنابلة، للتهمة سداً للذرائع. وهو فاسد في رأي أبي حنيفة إن خلا من توسط شخص ثالث، وصحيح مع الكراهة في رأي الشافعية والظاهرية.
وبيع العينة ثلاثة أنواع (1) :
الأول ـ أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بكذا، وأربحك فيها كذا، مثل أن يقول: اشترها بعشرة، وأعطيك فيها خمسة عشر، إلى أجل، فإن هذا يؤول في رأي الإمام مالك إلى الربا؛ لأن مذهب مالك النظر إلى ما خرج عن اليد، ودخل فيه، ويلغي الوسائط، فكأن هذا الرجل أعطى لأحد عشرة دنانير، وأخذ منه خمسة عشر ديناراً إلى أجل، والسلعة واسطة ملغاة.
الثاني ـ لو قال: اشتر لي سلعة، وأنا أربحك فيها، ولم يسمّ الثمن، فهذا مكروه، وليس بحرام في مذهب مالك.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 258.(5/184)
الثالث ـ أن يطلب السلعة عنده فلا يجدها، ثم يشتريها الآخر من غير أمره، ويقول: قد اشتريت السلعة التي طلبت مني، فاشترها مني إن شئت، فيجوز أن يبيعها نقداً أو نسيئة بمثل ما اشتراها به أو أقل أو أكثر.
3 - بيع الربا: ربا النسيئة وربا الفضل فاسد عند الحنفية، باطل عند الجمهور للنهي الثابت عنه في القرآن والسنة النبوية معاً.
4 - البيع بثمن محرَّم كالخمر والخنزير: فاسد عند الحنفية فينعقد بالقيمة، باطل عند الجمهور؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ في حديث البخاري ومسلم ـ حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.
5 - بيع حاضر لباد (1) من الذين لا يعرفون الأسعار، وقيل: لكل وارد على مكان وإن كان من مدينة، وهذا هو المقصود الحقيقي من نهي الشرع. وهو بيع حرام لا يجوز للنهي عنه، وعلة النهي نبه عليها صلّى الله عليه وسلم بقوله: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (2) وذلك رفقاً بأهل البلد، فالشارع لاحظ مصلحة الجماعة وقدمها على مصلحة الواحد، ومنع أيضاً الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقي عنهم في الرخص وقطع الموارد عنهم، وصورته: أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. وللفقهاء تخصيصات لعموم هذا النهي (3) ، فقالت الحنفية: إنه يختص المنع (أي كراهة التحريم) من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر.
وقال الشافعية والحنابلة: إن الممنوع إنما هو أن يجيء البلد بسلعة من يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه الحاضر، فيقول: ضعه عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. قال ابن حجر في الفتح: فجعلوا الحكم منوطاً بالبادي ومن شاركه في معناه، وإنما ذكر البادي في الحديث لكونه الغالب، فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين.
__________
(1) الحاضر: ساكن الحضر أو المدن، والبادي: ساكن البادية. والحاضر: خلاف البادي.
(2) روى الجماعة إلا البخاري عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (نيل الأوطار: 164/5) .
(3) نيل الأوطار: 164/5.(5/185)
وجعلت المالكية البداوة قيداً. وعن مالك: لا يلتحق بالبدوي في ذلك إلا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق، فليسوا داخلين في ذلك. وحكم هذا البيع فاسد ويجوز فسخه عند المالكية كالنجش، وصحيح عند الحنفية، وفيه الخيار عند الشافعية والحنابلة.
6 - تلقي الركبان: أي الذين يجلبون إلى البلد أرزاق العباد للبيع، سواء أكانوا ركباناً أم مشاة، جماعة أم واحداً. والتلقي محرم، وقال الحنفية: مكروه تحريماً، للنهي الوارد فيه: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» (1) وقد خرج الحديث مخرج الغالب في أن الجالب يكون عدداً، ويكون الجالب في الغالب راكباً.
اختلف العلماء في هذا النهي: هل يقتضي الفساد أو لا، فقيل: يقتضي الفساد، وقيل: لا يقتضي ذلك، وهو الظاهر؛ لأن النهي ههنا لأمر خارج وهو لايقتضيه، كما تقرر في الأصول، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق» (2) قال ابن تيمية في منتقى الأخبار: وفيه دليل على صحة البيع. فالراجح أن هذا البيع وبيع الحاضر للبادي صحيح غير فاسد، وهو رأي الحنفية، ويثبت فيه خيار الغبن عند الحنابلة والشافعية، ولا يجوز لحق أهل الأسواق ويكون فاسداً عند المالكية.
7 - بيع النجش: قال الشافعي: النجش: أن تحضر السلعة تباع، فيعطي بها الشيء، وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوّام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون، لو لم يسمعوا سومه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة.(5/186)
فالنجش في الشرع: الزيادة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم. وبعبارة أخرى: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع لا ليشتريها، بل ليغر بذلك غيره. وسمي الناجش في السلعة ناجشاً؛ لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع ثمنها. وقد أجمع العلماء على أن الناجش عاص بذلك.
وأما حكم البيع فمختلف فيه: فقال الظاهرية: إنه فاسد. وقال المالكية والحنابلة في المشهور عندهم: البيع صحيح ويثبت فيه الخيار للمشتري، إذا غبن فيه غبناً غير معتاد.
وقال الحنفية، والشافعية في الأصح: البيع صحيح مع الإثم، فهو مكروه تحريماً عند الحنفية، حرام عند الشافعية، لكن لا يكره النجش عند الحنفية إلا إذا زاد المبيع عن قيمته الحقة، فإن لم يكن بلغ القيمة فزاد لا يريد الشراء فجائز، ولا بأس؛ لأنه عون على العدالة.
وأما بيع المزايدة أو المزاد العلني وهو البيع ممن يزيد فجائز ليس من المنهي عنه، كما سأبين هنا وكما تقدمت الإشارة إليه.
بيع المزايدة: هو البيع على الصفة التي فعلها النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد والترمذي عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم باع قَدَحاً وحِلْساً (1) فيمن يزيد» وحكى البخاري عن عطاء: أنه قال: أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد (2) . وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الأخماس، أي أخماس الغنائم. وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، لم يروا بأساً ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث. قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك.
والظاهر الجواز مطلقاً؛ لأن القدح والحلس في حديث أنس المذكور لم يكونا من ميراث أو غنيمة، ويكون ذكرهما خارجاً مخرج الغالب؛ لأنهما الغالب على ماكانوا يعتادون البيع فيه مزايدة (3) .
__________
(1) القدح الوعاء الذي يشرب فبه، والحِلْس: البساط أو الكساء الرقيق الذي يكون تحت برذعة البعير.
(2) ووصله ابن أبي شيبة عن عطاء ومجاهد.
(3) نيل الأوطار: 169/5.(5/187)
وبيع المزاد: أن يعرض البائع السلعة على جمهور الناس، فيزيد في السعر من يشاء، ثم يستقر البيع على الشخص الذي يعرض آخر سعر.
وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم قال في مدبّر: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمان مئة درهم. قال الإسماعيلي: ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة: أن يعطي به واحد ثمناً، ثم يعطي به غيره زيادة عليه.
ولفظ حديث أنس عند أبي داود وأحمد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل: هما علي بدرهم، ثم قال آخر: هما علي بدرهمين» .
8 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، وعند الحنفية: من الأذان الأول.
وهو مكروه تحريماً عند الحنفية، صحيح حرام عند الشافعية، ويفسخ في المشهور عند المالكية، ولا يصح أصلاً عند الحنابلة.
9 - بيع العنب لعاصر الخمر: صحيح في الظاهر مكروه تحريماً عند الحنفية وحرام عند الشافعية، لاستيفاء العقد شروطه وأركانه الشرعية، والإثم بسبب النية الفاسدة أو الباعث غير المشروع. ومثله بيع السيف لمن يقتل به غيره ظلماً، وبيع الشبكة لمن يصطاد في الحرم، وبيع الخشب لمن يتخذ منه الملاهي.(5/188)
وهو باطل في رأي المالكية والحنابلة سداً للذرائع، مثل بيع السلاح في الفتنة أو لقطاع الطريق، وبيع العينة المتخذ وسيلة للربا؛ لأن مايتوصل به إلى الحرام حرام، ولو بالقصد أو النية.
10 - بيع الأم دون ولدها الصغير أو بيعه دونها: لايجوز حتى يستغني الولد، بسبب التفريق بينهما، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن التفريق بين المحارم، فقال: «من فرّق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (1) وأجاز المالكية التفريق بين الولد وبين والده، لكن ورد النهي عن ذلك أيضاً: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه» (2) فهذا إن صح أولى بالعمل.
وحكم البيع الأول أنه فاسد لاينعقد في رأي الجمهور. وقال أبو حنيفة: إنه ينعقد البيع.
11 - بيع الإنسان على بيع أخيه: وصورته: أن يكون قد وقع البيع بالخيار، فيأتي في مدة الخيار رجل، فيقول للمشتري: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أحسن منه. والشراء على الشراء: هو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع، وأنا أشتريه منك بأكثر من هذا الثمن. والسوم على السوم: أن يكون قد اتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، فيقول آخر للبائع: أنا أشتريه منك بأكثر، بعد أن كانا قد اتفقا على الثمن.
وقد أجمع العلماء على تحريم هذه الصور كلها، وأن فاعلها عاص (3) ؛ للحديث: «لايبع أحدكم على بيع أخيه» (4) أي في الدين، وهذا في رأي أكثر العلماء خرج مخرج الغالب، فلا اعتبار لمفهومه، وأنه يحرم أيضاً على بيع الكافر. وأما حكم البيع المذكور فمختلف فيه: فذهب الحنفية والشافعية إلى صحته مع الإثم. وذهبت الحنابلة وابن حزم الظاهري والمالكية في إحدى الروايتين عنهم إلى
__________
(1) رواه أحمد والترمذي عن أبي أيوب لكن في إسناده مختلف فيه (نيل الأوطار: 161/5) .
(2) رواه ابن ماجه والدارقطني عن أبي موسى (المرجع السابق) وإسناده لابأس به.
(3) سبل السلام: 23/3.
(4) رواه أحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 167/5) ومابعدها.(5/189)
فساده، ولكن المعتمد في رأي المالكية وغيرهم ماعدا ابن حزم: بعد الركون والتقارب (1) ؛ لأن السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد لايحرم اتفاقاً، كما حكى ابن حجر عن ابن عبد البر، فتعين أن السوم المحرَّم: ماوقع فيه قدر زائد على ذلك.
12 - بيع وشرط: وهو الذي يسميه الفقهاء بيع الثنيا، وللفقهاء تفصيل في حكمه.
فقال الحنفية، يفسد البيع بالشرط الفاسد: وهو الذي لايقتضيه العقد ولايلائمه ولا ورد به الشرع، ولايتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة لأحد المتعاقدين كأن يشتري شخص قماشاً على أن يخيطه البائع قميصاً. ويصح العقد ويلغو الشرط الباطل: وهو ماكان فيه ضرر لأحد العاقدين، كأن يبيع إنسان شيئاً بشرط ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه.
وقال المالكية: يبطل البيع والشرط، إن اقتضى الشرط منع المشتري من تصرف عام أو خاص، خلافاً للحنفية في الشرط الباطل. ويجوز البيع والشرط إن اشترط البائع منفعةنفسه، خلافاً للحنفية أيضاً في الشرط الفاسد. ويجوز البيع ويبطل الشرط إن عاد الشرط بخلل في الثمن، مثل: «إن لم تأت بالثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بيننا» فإن قال البائع: (متى جئتك بالثمن، رددت إلي المبيع) لم يجز، وهو المعروف عند الحنفية ببيع الوفاء.
ورأى الشافعية: أنه يصح العقد والشرط إن كان فيه مصلحة لأحد العاقدين كالخيار والأجل والرهن والكفالة. ويبطل البيع إن كان الشرط منافياً مقتضى العقد، مثل ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، وهذا موافق للمالكية.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص259، نيل الأوطار 169/5.(5/190)
وذهب الحنابلة إلى أنه لا يبطل البيع بشرط واحد فيه منفعة لأحد العاقدين، ويبطل بالشرطين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (1) .
وبناء عليه، أجمع العلماء إلى أنه لا يجوز اشتراط السلف من أحد المتبايعين، إذا عزم مشترطه عليه، فإن أسقطه جاز البيع عند المالكية، ولم يجز عند الجمهور.
13 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود: وهي الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض (المضاربة) : هو فاسد ممنوع في المشهور عند المالكية.
وأجازه أشهب، ونقل ابن جزي (2) أن ذلك وفاق للشافعي وأبي حنيفة.
وأجاز المالكية الجمع بين البيع والإجارة، وبين البيعتين في البيعة ويكون هذا من باب الخيار. ومنع الجمهور ذلك، واعتبر الحنفية البيع فاسداً، والشافعية والحنابلة اعتبروه باطلاً.
البيوع الفاسدة أو الباطلة عند المالكية (3) :
الباطل أو الفاسد في البيع يكون من خمسة أوجه وهي: ما يرجع إلى المتعاقدين، وما يرجع إلى الثمن وإلى المثمون، ويعرف ذلك في بيان الأركان، وما يرجع إلى الغرر، وما يرجع إلى الربا، والخامس ـ سائر البيوع المنهي عنها وهي عشرة:
1 - بيع الطعام قبل قبضه.
2 - بيع العينة.
3 - بيع العربون.
4 - بيع حاضر لباد.
5 - تلقي السلعة على بعد ميل وهو (1848 م) .
6 - بيع الإنسان على بيع أخيه بعد اطمئنان البائع لمن يسومه، وهو صحيح مع الإثم عند الجمهور، فاسد عند الحنابلة، والنهي عنه للتحريم، لما فيه من الإيذاء وإيقاع العداوة والشحناء بين المشترين.
7 - البيع يوم الجمعة.
8 - بيع الأم ولدها الصغير أو بيعه دونها.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو.
(2) القوانين الفقهية: ص 360.
(3) القوانين الفقهية: ص 257-260، بداية المجتهد: 125/2، 146 ومابعدها، 158-168.(5/191)
9 - بيع وشرط (بيع الثنيا) .
10 - الجمع في صفقة واحدة بين البيع وبين أحد ستة عقود وهي (الجعالة، والصرف، والمساقاة، والشركة، والنكاح، والقراض) .
البيوع الباطلة لدى الشافعية (1) :
هي كثيرة، أهمها واحد وثلاثون وهي:
1 - بيع ما لم يقبض إلا في ميراث وموصى به ورزق سلطان عيِّن لمستحق في بيت المال قدر حصته أو أقل، وغنيمة، ووقف، وموهوب استرجع، وصيد في شبكة ونحوها، ومُسْلَم فيه، ومكترى ومشترك ومال قراض، ومرهون بعد انفكاكه.
2 - بيع ما عَجَز عن تسليمه حالاً، كالطير في الهواء، إلا في ستة أشياء وهي: إجارة، وسَلَم، وغلة كثيرة لا يمكن كيلها إلا في زمن طويل، ومغصوب أو آبق لقادر عليه، وعَيْن من منقول أو عقار ببلد آخر ونحوه، فيصح البيع في كل منها وإن عجز عن تسليمه في الحال؛ لأن المشتري يصل إلى غرضه فيها.
3 - بيع حَبَل الحَبَلة: كأن يقول: إذا نُتجت هذه الناقة، ثم نتجت التي في بطنها فقد بعتك ولدها، أو بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل بنتاج ناقة معيَّنة، ثم نتاج ما في بطنها.
4 - بيع المضامين: وهي ما في أصلاب الفحول.
5 - وبيع الملاقيح: وهي ما في بطون الإناث.
6 - بيع بشرط إلا بشرط رَهْن أو كفيل أو إشهاد أو خيار، أو أجل، أو إعتاق، أو براءة من العيوب، فيبرأ عن عيب باطن بالحيوان لم يعلمه، أو نقل المبيع من مكان البائع أو قطع الثمار، أو تبقيتها بعد الصلاح، أو بشرط وصف يُقصد ككون الآلة الكاتبة تكتب بلغات معينة، أو بشرط ألا يُسَلِّم البائع المبيع حتى يستوفي ثمنه في الحال، أو بشرط الرد بعيب.
7 - بيع الملامسة: كأن يلمس ثوباً مطوياً أو في ظلمة، ثم يشتريه على ألا خيار له إذا رآه، اكتفاءً بلمسه عن رؤيته.
__________
(1) تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 152-158، حاشية الشرقاوي: 50/2-64.(5/192)
8 - بيع المنابذة: بإن ينبُذ كل منهما ثوبه على أن أحدهما بالآخر، ولا خيار إذا عَرَفا الطول والعرض، أو بأن ينبذه إليه بثمن معلوم.
9 - بيع المحاقلة: وهو بيع البر في سنبله.
10 - بيع ما لم يُمْلَك إلا في سَلَم، وإجارة وربا واقعين على ما في الذمة، فيصح كل منهما، وإن كانت المنفعة والمسلم فيه والمبيع غير مملوكة حالة العقد، فيصح بيع المسلم فيه، كقدر من البر صفته كذا، وثوب صفته كذا، وإن لم يكن عند المسلم إلىه شيء من البر أو الثياب حال العقد. ويصح إجارة شيء في الذمة، كأن أجره دابة في ذمته ليركب عليها إلى مكة مثلاً أول شهر كذا، ولم يكن في ملكه وقت العقد شيء من نوع الدابة ولاجنسها، وبحصلها بعد ذلك. ويصح مبايعة مال ربوي في الذمة بمال آخر في الذمة، كأن يبيع شخص لآخر صاع بُرّ مثلاً بصاع آخر في ذمته، ولم يكن واحد منهما مالكاً له حال العقد، ثم قبل تفرقهما من المجلس يحصلان ذلك بقرض أو اتهاب أو نحوهما، ويتقابضان قبل التفرق.
والدليل على بطلان بيع غير المملوك خبر: «لا طلاق إلا فيما تملك، ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما تملك» (1) وبناء عليه قالوا: بيع الفضولي باطل.
11 - بيع لحم بحيوان ولو غير مأكول، كبيع لحم بقر ببقر أو بشاة، أو بحمار للنهي في خبر الترمذي.
12 - بيع شاة لبون (2) بمثلها. وكذا بيع كل حيوان مأكول أو فيه بيض بمثله، لجهالة ما يقابل اللبن ونحوه من الثمن، فهو كبيع درهم وثوب بدرهم وثوب.
13 - بيع الحصاة: كأن يبيعه من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة.
14 - بيع الماء الجاري أو النابع وحده ولو مدة معلومة؛ لأنه غير مملوك وللجهل بقدره؛ لأنه يزيد شيئاً فشيئاً ويختلط المبيع بغيره، فيتعذر التسليم. فإن باعه بشرط أخذه الآن صح. فإن كان راكداً، جاز بيعه، بشرط تقديره بكيل أو وزن أو مسح بالأذرع.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.
(2) أي ذات لبن يقصد حلب مثله.(5/193)
15 - بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بغير شرط القطع، أي بشرط الإبقاء أو مطلقاً للنهي عن بيعها قبل الصلاح، أما بيعها بشرط القطع قبل الصلاح أو بغيره بعده فجائز. فإن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة، فهي للبائع، أو غير مؤبرة فللمشتري.
16، 17 - بيع رُطب بمثله أو بتمر، أو بيع عنب بمثله أو بزبيب، للجهل الآن بالمماثلة وقت الجفاف، لأنه «صلّى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا إذن» (1) . لكن يجوز البيع للحاجة فيما دون خمسة أوسق (2) .
18، 19 - بيع بُرّ بمثله أو بجاف، متفاضلين إن اتحد الجنس، للجهل بالمماثلة ولتحقق الربا.
20، 21، 22 - بيع لحم طري بمثله، أو بقديد، وبيع يابس بمثله متفاضلين إن اتحد الجنس، لتحقق الربا، مثل بيع لحم بقر بمثله متفاضلين.
ويلاحظ أن أنواع اللحوم والألبان والأدهان والسمك والخلول وأنواع الخبز أجناس مختلفة كأصولها، فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلين، فيجوز بيع لحم بقر بلحم ضأن متفاضلين.
23 - بيع نجس ككلب للنهي عن ثمنه، وكخنزير.
24، 25، 26 - بيع حر وأم ولد ومكاتب.
27 - بيع حشرات كعقارب وفئران، إذ لا نفع فيها يقابل بالمال.
28 - بيع عَسْب الفحل: وهو أجر ضرابه، للنهي عنه في خبر البخاري.
29 - بيع عبد مسلم من كافر، لما في ملكه له من الإهانة.
30 - بيع الغرر كمسك في صوانه، وصوف على ضهر غنم، للجهل بقدر المبيع.
31 - بيع العرايا: وهو بيع الرطب على الشجر بتمر، أو العنب على الشجر بزبيب على الأرض في خمسة أوسق فأكثر، ويجوز فيما دونها بعد بدو الصلاح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص في ذلك في الرطب، وقيس به العنب؛ لأن كلاً منهما ربوي، وذلك إن خرص ماعلى الشجر وكيل الآخر، لا إن وزن أحدهما وخرص الآخر.
__________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) تساوي 653 كغ أي قنطارين ونصف.(5/194)
هذا.. وتعرف أنواع البيوع الباطلة عند الحنابلة مما ذكرته في شروط البيع.
والبيوع المحرمة غير الباطلة عند الشافعية ثمانية (1) وهي:
1 - بيع المصرَّاة: وهي الدابة التي يترك حلبها عمداً أياماً ليجتمع اللبن في ضرعها، فيتوهم المشتري كثرة اللبن فيها، فيقبل على شرائها. وهو بيع حرام صحيح، للنهي عنه في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: «لاتصروا الإبل والغنم..» .
2 - بيع الحاضر للبادي: وهو أن يتصدى شخص من أهل البلد لمن يريد بيع متاعه من أهل البادية أو غيرها، قائلاً له: لا تبع هذه البضاعة وانتظر حتى أبيعها لك تدريجياً، علماً بأن أهل البلد بحاجة إليها. وهو حرام لحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم: «لا يبع حاضر لباد» .
3 - تلقي الركبان: وهو استقبال القادمين بالبضائع خارج البلد لشرائها منهم بسعر أقل من ثمن السوق العام. وهو حرام لحديث أبي هريرة عند مسلم: «لاتلقوا الركبان للبيع» .
4 - الاحتكار: وهو تخزين البضائع التي هي أقوات الناس وانتظار غلاء أسعارها مع حاجة الناس إلىها. وهو حرام لحديث معمر بن عبد الله العدوي عن مسلم: «لايحتكر إلا خاطئ» أي آثم عاصٍ، للتضييق على الناس.
5 - بيع النّجْش: وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة دون قصد شرائها، لإيهام غيره بزيادة الثمن، وهو حرام لحديث عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن النجْش» .
6 - السوم على السوم والبيع على بيع غيره والشراء على الشراء:
__________
(1) مغني المحتاج: 35/2-38.(5/195)
يحرم السوم على سوم غيره بعد استقرار الثمن، ويحرم البيع على بيع غيره قبل لزوم البيع في زمن خيار المجلس أو الشرط لتمكنه من الفسخ، بأن يأمر المشتري بالفسخ ليبيعه مثل المبيع بأقل من هذا الثمن أو خيراً منه بمثل ثمنه أو أقل. ويحرم الشراء على الشراء في زمن الخيار بأن يأمر المشتري البائع بفسخ البيع ليشتريه بأكثر من ثمنه الذي اشتراه به غيره. والأدلة أحاديث وهي حديث البخاري ومسلم: «لا يسُم المسلم على سوم أخيه» وحديث الصحيحين: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» أو «لا يبع الرجل على بيع أخيه» زاد النسائي: «حتى يبتاع أو يذر» وفي معناه الشراء على الشراء. وحكمة التحريم الإيذاء وإثارة العداوة والبغضاء. 7 - البيع لمن يعلم أن جميع ماله حرام: كأن يعلم أن مال المشتري ثمن خمر أو خنزير أو ميتة أو كلب، وأن كسبه غير مشروع كالرشوة أو اليانصيب أو القمار أو أجرة عمل حرام كالنواح والرقص ومهر البغي.
فإن لم يكن جميع ماله حراماً، بل كان خليطاً من حرام وحلال، كان التعامل معه مكروهاً، لحديث النعمان بن بشير: «الحلال بيِّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» .
8 - بيع الرُّطب والعنب لعاصر الخمر: يحرم بيع الرطب والعنب ونحوها كتمر وزبيب لعاصر الخمر والنبيذ، أي لمتخذها لذلك بأن يعلم منه ذلك أو يظنه ظناً غالباً.
ومثل ذلك بيع الغلمان المرد ممن عرف بالفجور بالغلمان، وبيع السلاح من باغ وقاطع طريق ونحوهما، وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية. أما إذا شك فيما ذكر أو توهمه فالبيع مكروه.(5/196)
المبحث الخامس ـ الخيارات
عرفنا سابقاً أن العقد اللازم هو الخالي من أحد الخيارات التي تسوغ لأحد العاقدين فسخه وإبطاله.
ومعنى الخيار: أن يكون للمتعاقد الخيار بين إمضاء العقد وعدم إمضائه بفسخه إن كان الأمر أمر خيار شرط أو رؤية أو عيب، أو أن يختار أحد المبيعين إن كان الأمر أمر خيار التعيين (1) ، علماً بأن الأصل في البيع اللزوم؛ لأن القصد منه نقل الملك، إلا أن الشارع أثبت فيه الخيار رفقاً بالمتعاقدين.
عدد الخيارات:
ذكر الحنفية (2) سبعة عشر خياراً وهي خيار الشرط، والرؤية، والعيب، والوصف، والنقد، والتعيين، والغبن مع التغرير، وهذه السبعة هي التي ذكرتها المجلة (م 300-360) ، وخيار الكمية، والاستحقاق، والتغرير الفعلي، وكشف الحال، وخيانة المرابحة والتولية، وتفريق الصفقة بهلاك بعض المبيع، وإجازة عقد الفضولي، وتعلق حق الغير بالمبيع بسبب كونه مستأجراً أو مرهوناً.
وقال المالكية (3) : الخيار نوعان: خيار التروي أي التأمل والنظر للبائعين أو لغيرهما، وهو خيار الشرط الذي ينصرف إليه لفظ الخيار عند الإطلاق. وخيار نقيصة: وهو ماكان موجبه نقصاً في المبيع من عيب أو استحقاق، ويسمى الحكمي؛ لأنه جرَّ إليه الحكم.
وأما خيار المجلس: فهو باطل عندهم، وهو رأي الفقهاء السبعة بالمدينة وأبي حنيفة، ويتم البيع بالقول (الإيجاب والقبول) وإن لم يفترقا من المجلس. وأجازه الشافعي وابن حنبل وسفيان الثوري وإسحاق، فإذا تم العقد، فالعاقدان بالخيار مالم يفترقا من المجلس، للحديث الصحيح المتقدم في بحث هذا الخيار في ركن البيع.
وقال الشافعية (4) : الخيار نوعان: خيار التشهي، وخيار النقيصة. وخيار التشهي: مايتعاطاه المتعاقدان باختيارهما وشهوتهما من غير توقف على فوات أمر في المبيع، وسببه المجلس أو الشرط. وخيار النقيصة: سببه خُلْف لفظي أو تغرير
__________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 466.
(2) الدر المختار: 47/4.
(3) الشرح الكبير: 91/3، القوانين الفقهية: ص 272-274، بداية المجتهد: 169/2.
(4) مغني المحتاج: 43/2، تحفة الطلاب: ص150-152، حاشية الشرقاوي: 40/2-50.(5/197)
فعلي أو قضاء عرفي، ومنه خيار العيب، والتصرية (1) ، والخلف، وتلقي الركبان، ونحو ذلك.
وبناء عليه، الخيار المشروع عند الشافعية ستة عشر، وهي مايأتي:
1 - خيار المجلس، لثبوت مشروعيته في الصحيحين.
2 - خيار الشرط: وأكثر مدته ثلاثة أيام، لثبوت ذلك في خبر البيهقي وغيره، فإن زاد عليها، لم يصح العقد؛ لأنه صار شرطاً فاسداً.
3 - خيار العيب عند الاطلاع عليه، سواء أكان موجوداً قبل البيع، أم بعده وقبل القبض، لثبوت ذلك في خبر الترمذي وغيره.
4 - خيار تلقي الركبان إذا وجدوا السعر أغلى مما ذكره المتلقي، لثبوته في خبر الصحيحين.
5 - خيار تفرق الصفقة بعد العقد كتلف أحد المبيعين قبل القبض، أو قبل العقد كبيع حلال وحرام إن جهل المشتري الحال.
6 - خيار فقد الوصف المشروط في العقد: أي وصف يقصد، ليخرج غيره كالزنا والسرقة، فإنه لا خيار بفقده.
7، 8 - الخيار لجهل الغصب مع القدرة على انتزاع المعقود عليه من الغاصب، دفعاً للضرر، ولطريان العجز عن انتزاعه من الغاصب، مع العلم بالغصب.
9 - الخيار لجهل كون المبيع مكترى أو مزروعاً.
10 - الخيار للامتناع من الوفاء بالشرط الصحيح، كشرط رهن أو كفيل في البيع.
11 - الخيار للتحالف فيما إذا اتفقا على صحة العقد، واختلفا في كيفيته، فيفسخانه أو أحدهما أو الحاكم إن لم يتراضيا. ويكون الفسخ بعد حلف كل منهما يميناً على دعوى الآخر.
__________
(1) التصرية: ربط أخلاف (حلمات ثدي) الناقة أو ضرع الشاة ونحوها لتجميع أو حبس اللبن في الضرع، فيظن المشتري أنها غزيرة اللبن، وهو أحد أمثلة التغرير الفعلي أو التغرير في الوصف.(5/198)
12 - الخيار للبائع لظهور زيادة الثمن في المرابحة: فلو قال البائع: اشتريت هذا بمئة، وباعه بمئة، وربح درهم لكل عشرة، ثم زعم أنه كان اشتراه بمئة وعشرة، وصدقه المشتري، ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لاتثبت له العشرة المذكورة.
13 - الخيار للمشتري لاختلاط الثمرة المبيعة بالمتجددة قبل التخلية، إن لم يهبه البائع ماتجدد.
14 - الخيار للعجز عن الثمن: بأن عجز عنه المشتري، والمبيع باق عنده، لثبوت ذلك في الصحيحين.
15 - الخيار لتغير صفة مارآه قبل العقد، وإن لم يكن عيباً.
16 - الخيار لتعيب الثمرة بترك البائع السقي بعد التخلية.
وقال الحنابلة (1) : الخيار ثمانية أنواع:
خيار المجلس، والشرط، والغبن، والتدليس، والعيب، والخيانة، وخيار اختلاف المتبايعين في الثمن، والمؤجر والمستأجر في الأجرة، وخيار تفرق الصفقة.
وأبحث بعون الله تعالى بالتفصيل الخيارات الثلاثة المشهورة: وهي خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية. أما بقية الخيارات فأكتفي ببيانها الإجمالي، علماً بأن خيار المجلس سبق الكلام عليه تفصيلاً.
__________
(1) كشاف القناع: 166/3، 186-187، 190، 199، 201، 203، 217، 224، ط مكة.(5/199)
1 - خيار الوصف (1) ، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه:
هو في مذهب الحنفية: أن يكون المشتري مخيراً بين أن يقبل بكل الثمن المسمى أو أن يفسخ البيع حيث فات وصف مرغوب فيه، في بيع شيء غائب عن مجلس العقد. مثاله أن يشتري شيئاً يشترط فيه صفة معينة غير ظاهرة، وإنما تعرف بالتجربة، ثم يتبين عدم وجودها، أو يشتري بقرة على أنها حلوب، فظهرت غير حلوب، أو يشتري جوهرة على أنها أصلية، فظهرت أنها تقليد صناعي للأصلية، فيكون المشتري مخيراً إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن المسمى؛ لأن هذا وصف مرغوب فيه، يستحق في العقد بالشرط، فإذا فات أوجب التخيير؛ لأن المشتري مارضي به دونه، فصار كفوات وصف السلامة.
وأما سبب أخذه بجميع الثمن في رأي الحنفية: فهو لأن الأوصاف لايقابلها شيء من الثمن، لكونها تابعة في العقد.
ودليل مشروعيته: الأخذ باستحسان المصلحة على خلاف القياس. ويعده الشافعية والحنابلة داخلاً في خيار العيب.
وشروطه ثلاثة:
1ً - أن يكون الوصف المشروط مباحاً شرعاً: فإذا كان حراماً لم يصح.
2ً - أن يكون الوصف مرغوباً فيه عادة: فإذا لم يكن مرغوباً فيه في العرف، لغا الشرط، وصح البيع، ولا خيار، مثل وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات، فمن اشترى شيئاً على أنه ذكر فإذا هو أنثى، صح البيع ولم يثبت الخيار.
3ً - ألا يكون تحديد الوصف المرغوب فيه مؤدياً إلى جهالة مفضية للمنازعة؛ فإن فعل فسد البيع والشرط، كأن يشترط في البقرة الحلوب أن تحلب كذا رطلاً يومياً، فهذا شرط فاسد؛ لأنه لايمكن ضبطه.
أحكام هذا الخيار:
أ - يورث خيار الوصف، فلو مات المشتري الذي له خيار الوصف، فظهر المبيع خالياً من ذلك الوصف، كان للوارث حق الفسخ.
ب - إذا تصرف المشتري الذي له خيار الوصف بالمبيع تصرف الملاك، بطل خياره.
جـ - يثبت للمشتري الحق في فسخ البيع أو استبقاء المبيع بجميع الثمن، فإن هلك المبيع أو تعيب في يده، فله الرجوع على البائع بمقدار نقص المبيع بسبب فوات الوصف المرغوب فيه، ويعرف ذلك بتقويم المبيع مع الوصف، وبدون الوصف، ويضمن المشتري الفرق بينهما.
__________
(1) رد المحتار: 49/4، المجلة: م/310-312، فتح القدير: 135/5 ومابعدها.(5/200)
2 - خيار النقد (1) :
هو فرع عن خيار الشرط، وهو أن يشترط المتبايعان في عقد البيع بالنسيئة أن المشتري إذا لم يدفع الثمن في الأجل المعين، وهو ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما. فإن اشترى على هذا النحو على أنه إن لم ينقد (يدفع) الثمن إلى أربعة أيام، لم يصح خلافاً لمحمد؛ لأن هذه هي المدة المشروعة في خيار الشرط. وراعى محمد مصلحة العاقدين في اشتراطه إلى أي مدة كانت.
فإن نقد في مدة الثلاثة أيام، جاز باتفاق الحنفية؛ لأن خيار النقد ملحق بخيار الشرط. وهو جائز أيضاً عند الحنابلة كشرط الخيار، لكن ينفسخ البيع عندهم إن لم ينقد المشتري الثمن في المدة. أو هو أن يشترط البائع على المشتري أنه إذا رد الثمن إلى المشتري في مدة ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، فله وجهان إذن.
والفرق بينه وبين خيار الشرط: أن الأصل في خيار الشرط اللزوم، فإذا انتهت المدة المشروطة دون فسخ، لزم. أما خيار النقد فالأصل فيه عدم اللزوم، فإذا لم ينقد الثمن في الثلاث فسد البيع إذا بقي المبيع على حاله، ولاينفسخ، بدليل أن المشتري يتملك المبيع بالقبض. وعند الحنابلة: ينفسخ البيع، وقد أجازه الحنفية عدا زفر؛ لأنه داخل في خيار الشرط، ولم يجزه زفر؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، وفيه مصلحة لمن شرط له.
حكم سقوطه:
1 - إذا مات المشتري المخير بخيار النقد في أثناء مدة الخيار، بطل البيع.
2 - إذا تصرف المشتري بالمبيع بالبيع ونحوه في مدة الخيار، قبل أن ينقد الثمن، سقط خياره، وصح بيعه ولزم، ولزم المشتري نقد الثمن.
3 - إذا أتلف المشتري أو الأجنبي المبيع في مدة الخيار بعد القبض، سقط به الخيار، للعجز عن الرد.
4 - إذا أحدث المشتري في المبيع عيباً يمنع رده للبائع، ولم ينقد الثمن، سقط الخيار، ويخير البائع حينئذ بين أخذ المبيع ناقصاً، ولا شيء له من الثمن، وبين تركه وأخذ الثمن.
__________
(1) المبسوط: 50/13، فتح القدير مع العناية: 114/5 ومابعدها، رد المحتار والدر المختار: 51/4، المجلة: م/313-315، كشاف القناع: 184/3.(5/201)
3 - خيار التعيين (1) :
هو أن يتفق العاقدان على تأخير تعيين المبيع الواجب التعيين إلى أجل، على أن يكون حق تعيينه لأحدهما، مثل أن يشتري أحد ثوبين أو ثلاثة غير معين على أن يأخذ أيهما شاء، على أنه بالخيار ثلاثة أيام.
وله وجهان كخيار النقد: إما أن يأخذ المشتري أحد الأشياء المبيعة بالثمن الذي بينه له البائع لكل واحد، أو يعطي البائع أي واحد أراد من الأشياء المعينة، وله أن يلزم المشتري به إلا إذا تغيب فلا يلزمه إلا بالرضا. ولو هلك أحدهما كان له أن يلزمه بالباقي.
أجازه الحنفية استحساناً لحاجة الناس إليه، بالرغم من الجهالة، عملاً بالمصلحة والعرف للحاجة إلى اختيار ما هو الأوفق والأرفق، وأبطله الشافعية والحنابلة للجهالة.
والأصح عند الحنفية أنه لا يشترط اقترانه بخيار الشرط، وإنما يجوز للعاقدين ذلك.
شروطه: اشترط الحنفية لهذا الخيار شروطاً هي ما يأتي:
1 - أن يكون التخيير على شيء من اثنين أو ثلاثة فقط: فإذا كان على شيء من أربعة لم يجز؛ لأن الحاجة في الثلاثة، لانقسام الأشياء إلى جيد ووسط ورديء.
2 - أن يوافق البائع صراحة على خيار التعيين: بأن يقول للمشتري: بعتك أحد الشيئين أو الثلاثة على أنك بالخيار في واحد منها، فإن لم يوافق على ذلك، فسد البيع للجهالة.
3 - أن يكون البيع في القيميات كأنواع الألبسة والمفروشات، لا في المثليات كالكتب المطبوعة الجديدة، لعدم الفائدة في التخيير بينها لعدم تفاوتها.
4 - أن تكون مدته كمدة خيار الشرط: وهي ثلاثة أيام عند أبي حنيفة، وأي مدة معلومة كانت عند الصاحبين.
أحكامه:
أـ يلزم البيع في واحد غير معين من أفراد المبيع المتفق عليها، ويلزم صاحب الحق في الخيار أن يعين الشيء الذي يأخذه في انقضاء المدة التي عينت ودفع ثمنه.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 125/5، 130، رد المحتار: 60/4 وما بعدها، المجلة: م 316-319.(5/202)
ب ـ يورث هذا الخيار عند الحنفية، بخلاف خيار الشرط، فلو مات من له الخيار قبل التعيين، يكون الوارث مجبراً أيضاً على تعيين أحد المبيعات ودفع ثمنه.
جـ ـ هلاك أو تعيب أحد الأشياء أو كلها:
إذا هلك أحد المبيعين تعين الآخر مبيعاً، وكان الباقي أمانة في يد المشتري. وإذا هلك المبيعان معاً، ضمن المشتري نصف ثمن كل منهما لعدم التعيين، وإن هلك المبيعان على التعاقب، تعين الأول مبيعاً. فلو اختلف العاقدان في الهالك أولاً، فالقول للمشتري بيمينه، وبينة البائع أولى. والتعيب كالهلاك في الأحوال المذكورة. ولو باع المشتري المبيعين ثم اختار أحدهما، صح بيعه فيه. والمبيع مضمون بالثمن، وغيره أمانة.
4 - خيار الغبن (1) :
هذا الخيار مشروع عند الحنفية إذا اشتمل الغبن على تغرير، فيسمى خيار الغبن مع التغرير: وهو أن يغرر البائع المشتري أو بالعكس تغريراً قولياً وهو التغرير في السعر، أو تغريراً فعلياً وهو التغرير في الوصف، ويكون الغبن فاحشاً: وهو مالا يدخل تحت تقويم المقومين. أما الغبن اليسير: وهو ما يدخل تحت تقويم المقومين، فلا يؤثر، إذ لا يتحقق كونه زيادة، أما الفاحش فزيادته متحققة (2) . فيثبت حينئذ حق إبطال العقد دفعاً للضرر عنه.
والتغرير القولي في السعر: كأن يقول البائع أو المؤجر للمشتري أو للمستأجر: يساوي هذا الشيء أكثر ولا تجد مثله، أو دفع لي فلان فيه كذا، وكل ذلك كذب.
والتغرير الفعلي في الوصف: يكون بتزوير وصف في محل العقد يوهم المتعاقد في المعقود عليه مزية ما غير حقيقية، كتوجيه البضاعة المعروضة للبيع، بجعل الجيد منها في الأعلى، وجعل الرديء منها في الأسفل. ومنه التصرية: جمع اللبن في الضرع، وهي حرام، توجب الخيار للعاقد المغرور كفوات الصفة المشروطة. أما تدليس العيب: وهو كتمان أحد المتعاقدين عيباً خفياً يعلمه في محل العقد عن المتعاقد الآخر في عقود المعاوضة، فهو المسمى عندهم خيار العيب.
__________
(1) رد المحتار: 47/4، المجلة: م/256-360.
(2) البدائع: 30/6.(5/203)
وحكمه: إعطاء المغبون المغرور حق خيار فسخ العقد دفعاً للضرر عنه، نظراً لعدم تحقق رضاه، بسبب التغرير والغبن الفاحش. وإذا مات المغرور بغبن فاحش لاتنتقل دعوى التغرير لوارثه.
ويسقط حق المغرور في الفسخ للمشتري إذا تصرف في المبيع بعد أن اطلع على الغبن الفاحش، أو بنى بناء في الأرض المشتراة، أو إذا هلك المبيع أو استهلك أو حدث فيه عيب.
وقال الحنابلة (1) : هناك خيار غبن، وخيار تدليس، وخيار عيب.
أما خيار الغبن عند الحنابلة فيثبت في ثلاث صور:
إحداها ـ تلقي الركبان: وهم القادمون من السفر بجلوبة: (وهي ما يجلب للبيع) وإن كانوا مشاة، وهو عند الجمهور: يحرم، وقال الحنيفة: يكره، ولو كان تلقيهم بغير قصد التلقي لهم. فإذا اشترى المتلقي منهم أو باعهم شيئاً، ثبت لهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة، لقوله عليه السلام: «لا تلقوا الجَلَب فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى السوق، فهو بالخيار» (2) .
والثانية ـ النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها. وهو حرام، لما فيه من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش، ويثبت للمشتري بالنجش الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد.
ولا يتم النجش إلا بحذق من زاد في السلعة، وأن يكون المشترى جاهلاً، فلو كان عارفاً واغتر بذلك، فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله.
فإن زاد من لا يريد الشراء بغير مواطأة مع البائع، أو زاد البائع في الثمن بنفسه، والمشتري لا يعلم ذلك، فيخير المشتري لوجود التغرير بين رد المبيع وإمساكه.
__________
(1) المغني: 134/4-142، كشاف القناع: 199/3، 201، 203، ط مكة.
(2) رواه مسلم من حديث أبي هريرة.(5/204)
الثالثة ـ بيع المسترسل أو إجارته: وهو الجاهل بالقيمة، من بائع ومشتر، ولا يحسن المماكسة. فله الخيار إذا غبن غبناً غير معتاد. ويقبل قوله بيمينه أنه جاهل بالقيمة، ما لم تكن قرينة تكذبه في دعوى الجهل، فلا تقبل منه.
وخيار الغبن كخيار العيب على التراخي عندهم.
وأما خيار التدليس: فهو بسبب التغرير، والعقد معه صحيح، والتدليس حرام وهو نوعان:
أحدهما ـ كتمان العيب، ويسمى هذا عند الحنفية خيار العيب.
والثاني ـ فعل يزيد به الثمن، وإن لم يكن عيباً، كجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها للبيع، ليزيد دورانها بإرسال الماء بعد حبسه، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في الثمن. ومنه تحسين وجه الصبرة (الكومة) ، وصقل السكاف وجه الحذاء، وتصنع النساج وجه الثوب، والتصرية أي جمع اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، ونحو ذلك. وهذا النوع هو المسمى عند الحنفية بالتغرير الفعلي في الوصف.
والتدليس بنوعيه يثبت للمشتري خيار الرد إن لم يعلم به، أو الإمساك، لقوله عليه السلام: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعاً من تمر» (1) . وغير التصرية من التدليس ملحق بها.
وقد أخذ الجمهور وأبو يوسف بمضمون هذا الحديث: وهو التخيير بعد الحلب بين إمساك المبيع إن رضيه، وبين رده مع صاع من تمر إن سخطه.
وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء.
وأما خيار العيب عند الحنابلة: فهو بسبب نقص عين المبيع، كخصاء، ولو لم تنقص به القيمة، بل زادت، أو نقص قيمته عادة في عرف التجار، وإن لم تنقص عينه.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة مرفوعاً.(5/205)
5 - خيار كشف الحال (1) :
وهو أن يشتري شيئاً بوزن غير معلوم القدر، أو بكيل غير معلوم المقدار، كأن يشتري بوزن هذا الحجر ذهباً، أو هذه الصبرة (الكومة) كل صاع بكذا، يصح البيع في الحالتين، ويكون للمشتري الخيار: إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه.
6 - خيار الخيانة (2) :
هو الذي يثبت في بيوع الأمانة من تولية أو شركة أو مرابحة أو وضيعة إذا أخبر البائع المشتري بزيادة في الثمن أو نحو ذلك، كإخفاء تأجيله، ثم يظهر كذبه أو خيانته بإقرار أو برهان على ذلك، أو بما عند الحنفية أيضاً بنكول عن اليمين. ويخير المشتري بسبب ذلك عند الحنفية والمالكية بين أخذ المبيع بكل ثمنه، أو رده لفوات الرضا، وله الحط من الثمن قدر الخيانة في التولية.
وقال الشافعية في الأظهر والحنابلة: لا خيار للمشتري بسبب الخيانة، وإنما له الحط من الثمن مقدار الخيانة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 47/4.
(2) ابن عابدين: 47/4، الشرح الكبير مع الدسوقي: 168/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 79/2، كشاف القناع: 217/3 ومابعدها.(5/206)
7 - خيار تفرق الصفقة (1) :
هو الذي يثبت للمشتري بسبب تجزئة المبيع، فيكون له الخيار بين فسخ البيع واسترداد الثمن كله إن دفعه، أو أخذ باقي المبيع مع حسم ما يقابل العيب أو الهلاك من الثمن. وله صور متعددة.
فيثبت عند الحنفية بهلاك أو تعيب بعض المبيع بيد البائع قبل قبض المشتري، ومجمل حكم الهلاك: أنه إن كان بآفة سماوية أو بفعل البائع يبطل البيع، وإن كان بفعل أجنبي يتخير المشتري إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أجاز، وضمَّن المستهلك.
وقال المالكية: يثبت هذا الخيار في حالة كون المبيع معيباً، أو استحقاق بعض مبيع متعدد اشتري صفقة واحدة، فإن كان وجه الصفقة نقضت، ولا يجوز له التمسك بالباقي، وإن كان غير وجهها، جاز التمسك به، وأخذ الباقي بالتقويم، لابنسبته من الثمن المسمى، فيقال: ما قيمة هذا الباقي؟ فإذا قيل: ثمانية، قيل: وماقيمة المستحق أو المتعيب؟ فإذا قيل: اثنان، رجع المشتري على بائعه بخمس الثمن الذي دفعه له.
وقال المالكية أيضاً: إذا اشتملت الصفقة على حلال وحرام كالعقد على سلعة، وخمر أو خنزير أو غير ذلك، فالصفقة كلها باطلة، ولو باع الرجل ملكه وملك غيره في صفقة واحدة، صح البيع فيهما، ولزمه في ملكه، وتوقف اللزوم في ملك غيره على إجازته.
وذكر الشافعية لتفريق الصفقة وتعددها ثلاثة أقسام:
الأول ـ إذا باع شخص في صفقة واحدة حلالاً وحراماً كشاة مذكاة وميتة، أو خل وخمر، أو شاة وخنزير، أو شيئاً له وشيئاً لغيره، أو شيئاً مشتركاً بغير إذن الشريك الآخر، صح البيع في الحلال المملوك له، وبطل في غيره في الأظهر، إعطاءً لكل منهما حكمه. ويكون الخيار للمشتري إن جهل الحال لضرر التبعيض بين أخذ حصة الحلال من الثمن المسمى باعتبار قيمة كل منهما أي من الحلال والحرام، أو أن يفسخ البيع. ولا خيار للبائع؛ لأنه المفرط في البيع ببيع ما لا يملكه، وبالطبع في ثمن ما لا يستحقه.
الثاني ـ إذا باع شخص متاعين مثلاً، فتلف أحدهما قبل قبضه، انفسخ البيع في التالف، ولم ينفسخ في الآخر على المذهب، بل يتخير المشتري بين الفسخ والإجازة، فإن أجاز أخذ الباقي بالحصة من المسمى باعتبار قيمته وقيمة التالف؛ لأن الثمن قد توزع عليهما في مبدأ البيع، فلا يتغير بهلاك أحدهما.
__________
(1) ابن عابدين: 47/4، الشرح الكبير مع الدسوقي: 469/3، القوانين الفقهية: ص 260، مغني المحتاج: 40/2، المهذب: 269/1، المغني: 238/4، كشاف القناع: 166/3 ومابعدها، 291.(5/207)
الثالث ـ لو جمع في صفقة عقدين مختلفي الحكم كإجارة وبيع، مثل: آجرتك داري شهراً، وبعتك ثوبي هذا بدينار، وكإجارة وسلم مثل: آجرتك داري شهراً وبعتك صاع قمح في ذمتي سلماً بكذا، صح العقدان في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمة المعقود عليهما، أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه.
وتتعدد الصفقة بتفصيل الثمن من البائع: كبعتك ذا بكذا، وذا بكذا. وبتعدد البائع: كبعناك هذا بكذا، والمبيع مشترك بينهما.
وكذا بتعدد المشتري: كبعتكما هذا بكذا، في الأظهر.
والخلاصة: إن في تفريق الصفقة قولين عند الشافعية، أظهرهما ـ أن البيع يبطل فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز؛ لأنه ليس بطلانه فيهما لبطلانه في أحدهما بأولى من تصحيحه فيهما، لصحته في أحدهما؛ فبطل حمل أحدهما على الآخر، وبقيا على حكمهما، فصح فيما يجوز، وبطل فيما لا يجوز. والقول الثاني أن الصفقة لا تفرق، فيبطل العقد فيهما.
وقال الحنابلة: معنى تفريق الصفقة: أي تفريق ما اشتراه في عقد واحد: وهو أن يجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، صفقة واحدة بثمن واحد. ولهذا الجمع ثلاث صور:
إحداها ـ أن يبيع شخص معلوماً ومجهولاً تجهل قيمته أي يتعذر علمه، فلا مطمع في معرفته، مثل: بعتك هذه الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى بكذا، فلا يصح البيع فيهما؛ لأن المجهول لا يصح بيعه لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته؛ لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، وحمل الفرس لا يمكن تقويمه، فيتعذر التقسيط.
الثانية ـ أن يبيع شخص مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، فيصح البيع في نصيبه بقسطه، كما قال الشافعية في القسم الأول، وللمشتري الخيار بين الرد والإمساك إذا لم يكن عالماً بأن المبيع مشترك بينه وبين غيره؛ لأن الشركة عيب. فإن كان عالماً فلا خيار له ولا للبائع أيضاً. وللمشتري الأرش إن أمسك فيما ينقصه التفريق، كزوج خف.(5/208)
الثالثة ـ أن يبيع رجل متاعه ومتاع غيره بغير إذنه صفقة واحدة، أو يبيع خلاً وخمراً صفقة واحدة، فيصح البيع في متاعه بقسطه دون متاع غيره، ويصح في الخل بقسطه من الثمن، فيوزع على قدر قيمة المبيعين ليعلم ما يخص كلاً منهما. ويقدر الخمر إذا بيع مع الخلّ خلاً، ليقسط الثمن عليهما، ولا خيار للبائع. وهذه الصور وما قبلها هي النوع الأول عند الشافعية. وقال الحنابلة أيضاً: إذا وقع العقد على مكيل أو موزون، فتلف بعضه قبل قبضه، لم ينفسخ العقد في الباقي، رواية أخرى، أي هي رواية واحدة، ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن؛ لأن العقد وقع صحيحاً. فذهاب بعضه لايفسخه كما بعد القبض، وكما لو وجد أحد المبيعين معيباً فردّه، أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع.
8 - خيار إجازة عقد الفضول (1) :
هو الخيار الثابت للمالك إذا باع غيره له سلعة بغير أمره، ويعد البيع موقوفاً عند الحنفية والمالكية، ويخير المالك بين إجازة العقد فيصبح نافذاً، وبين رده فيبطل.
9 - خيار تعلق حق الغير بالمبيع (2) :
هو الخيار الثابت لمن له حق في المبيع من دائن مرتهن أو مستأجر، فإذا اشترى رجل داراً ثم ظهر أنها مرهونة أو مؤجرة، خير بين الفسخ وعدمه، دفعاً للضرر عن نفسه، حتى ولو كان عالماً بذلك في ظاهر الرواية، وهو الصحيح وعليه الفتوى.
فإن أجاز المستأجر أو المرتهن فلا خيار للمشتري، وإن لم يجز ثبت الخيار له بين الانتظار حتى نهاية مدة الإجارة وفكاك الرهن، أو الفسخ.
10 - خيار الكمية للبائع (3) :
هو أن يشتري إنسان بما في هذه الخابية أو الوعاء أو اليد ونحوها، ولا يعرف البائع شيئاً عن الموجود كمية ونوعاً، فيكون البائع بعد فتح الخابية أو الوعاء أو اليد
__________
(1) ابن عابدين: 47/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 260.
(2) ابن عابدين: 48/4.
(3) ابن عابدين: 47/4.(5/209)
مخيراً بين إمضاء البيع وفسخه بعد رؤية الثمن. وهذا يسمى عند الحنفية خيار كمية، لا خيار رؤية؛ لأن خيار الرؤية لا يثبت في النقود.
11 - خيار الاستحقاق (1) :
هو الخيار الثابت للمشتري بسبب استحقاق المبيع كله أو بعضه، وتفصيله عند الحنفية: إن كان استحقاق المبيع قبل قبض الكل خير في الكل، وإن كان استحقاقه بعد القبض خيِّر في الشيء القيمي، لا في المثلي كالمكيل والموزون. وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع قبل القبض، يبطل العقد في الجزء المستحق، ويخير المشتري في أخذ الجزء الباقي بحصته من الثمن أو رده.
وإن كان الاستحقاق لبعض المبيع بعد القبض، يبطل البيع في الجزء المستحق أيضاً، وأما الجزء الباقي فيخير المشتري في قبول الباقي بحصته من الثمن إن أضره التبعيض كالثوب والدار، ويلتزم بالباقي إن لم يضره التبعيض كالمكيل والموزون.
وذلك كله إن لم يجز المستحق البيع، فإن أجازه، لزم البيع، إذ لا ضرر بالتبعيض.
12 ـ خيار الشرط:
خطة الموضوع:
الكلام في خيار الشرط في المواضع الآتية:
المطلب الأول - الخيار المفسد والخيار المشروع.
المطلب الثاني ـ مدة الخيار المشروع.
المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار.
المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار.
المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة.
المطلب الأول ـ الخيار المفسد والخيار المشروع:
الخيار المفسد: اتفق الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم على أن العاقدين إذا ذكرا الخيار مؤبداً، كأن يقول أحدهما: (بعت، أو اشتريت على أني بالخيار أبدًا) أو ذكرا الخيار مطلقاً، كأن يقول أحدهما: (على أني بالخيار أو متى شئت) أو ذكرا وقتاً مجهولاً كقدوم زيد، أوهبوب ريح، أونزول مطر، أو أياماً، فإن العقد غير صحيح لوجود الجهالة الفاحشة.
__________
(1) المرجع والمكان السابق.(5/210)
إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: العقد باطل (1) . وقال الحنفية: العقد فاسد فقط، فإذا أسقط الشرط قبل مضي مدة ثلاثة أيام، أو حذف الزائد، أو بينت مدة الخيار، صح البيع، لزوال المفسد (2) .
استدل الشافعية والحنابلة: بأن مدة الخيار حينئذ ملحقة بالعقد، فلا تجوز مع الجهالة، كما لا تجوز جهالة الأجل، ولأن اشتراط الخيار أبداً ونحوه يقتضي المنع من التصرف على الأبد، وهو ينافي مقتضى العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك بشرط ألا تتصرف.
واستدل الحنفية بنحوه فقالوا: إن شرط الخيار مغير لمقتضى العقد بحسب الأصل، إلا أنا أجزناه بنص حديث حبان بن منقذ الذي حدد فيه الخيار بثلاثة أيام، فبقي ما عدا المنصوص عليه موافقاً لمقتضى الأصل.
وقال مالك وأحمد في رواية عنه: يجوز الخيار المطلق، إلا أن الإمام أحمد قال فيه: «وهما على خيارهما أبداً، أو يقطعاه، أو تنتهي مدته» . وقال الإمام مالك: السلطان يحدد له مدة كمدة خيار مثله في العادة؛ لأن اختيار المبيع في مثله مقدَّر في العادة، فإذا أطلق الخيار حمل على المعتاد، ويفسد البيع عند المالكية إذا وقع بشرط مدة زائدة على مدته بكثير (أي بعد يوم) أو بشرط
__________
(1) المهذب: 1 ص 259، المغني: 3 ص 589.
(2) البدائع: 5 ص 174، رد المحتار: 4 ص 49.(5/211)
مدة مجهولة كإلى أن تمطر السماء أو يقدم زيد (1) .
الخيار المشروع: وهو أن يذكر وقت معلوم، وسيأتي الخلاف فيه بين الفقهاء، وقد ثبتت مشروعية خيار الشرط بحديث حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع والشراء، فشكا أهله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة (2) وليَ الخيار ثلاثة أيام» ولمساس الحاجة إليه لدفع الغبن (3) . وخيار الشرط مشروع عند جمهور الحنفية والشافعية وغيرهم، سواء أكان الشرط للعاقد أم لغيره لتحقيق حاجة الناس. وقال زفر: لا يجوز لغير العاقد. ولا يجوز الخيار والأجل في البيوع التي فيها الربا: وهي عقد الصرف، وبيع المكيل والموزون عند الحنفية، والطعام بالطعام عند الشافعية، لأنه يشترط فيها القبض قبل التفرق بالأبدان، وذكر الخيار أو الأجل ينافي القبض (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3 ص 95، بداية المجتهد: 2 ص 208.
(2) أي لا خديعة ولا غبن، أي لا يحل لك خديعتي، أو لا تلزمني خديعتك، وقد سبق تخريجه وروايته عند الحاكم والبيهقي والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والموطأ عن ابن عمر (انظر تحفة الفقهاء بتخريج وتحقيق أحاديثها للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 2 ص 82) .
(3) سبل السلام: 3 ص 35، البدائع: 5 ص 174، المنتقى على الموطأ: 5 ص 108.
(4) فتح القدير: 5 ص 372، المهذب: 1 ص 258.(5/212)
المطلب الثاني ـ آراء الفقهاء في مدة الخيار المشروع
للفقهاء اتجاهات ثلاثة في مدة الخيار: قال أبو حنيفة وزفر والشافعي: يجوز شرط الخيار في مدة معلومة لا تزيد على ثلاثة أيام؛ لأن الأصل امتناع الخيار، لكونه مخالفاً لوضع البيع، فإنه يمنع نقل الملك أو لزومه، إلا أنه ثبت على خلاف هذا الأصل بحديث حبان بن منقذ السابق ذكره، والذي رواه ابن عمر، وبحديث أنس: «أن رجلاً اشترى من رجل بعيراً، واشترط عليه الخيار أربعة أيام، فأبطل رسول الله صلّى الله عليه وسلم البيع، وقال: الخيار ثلاثة أيام» (1) ولأن الحاجة تندفع بالثلاث غالباً، فلو زاد عليها فسد البيع عند أبي حنيفة وزفر، ولكنه يعود صحيحاً عند أبي حنيفة إذا أجاز له الخيار في الثلاثة، لزوال المفسد قبل أن يتقرر الفساد، وعند زفر: الفاسد من العقود لا يعود صحيحاً بحال.
ويبطل العقد عند الشافعي (بخلاف ما ذكر في تحفة الفقهاء) . وكونه لا يجوز أكثر من ثلاثة، لأنه غرر، وفيما دون الثلاث رخصة، فلا يجوز الزيادة عليها، وفي الجملة: إن الخيار ينافي مقتضى البيع لولا ثبوته بالشرع (2) .
وقال الصاحبان والحنابلة: يجوز اشتراط مدة الخيار بحسب ما يتفق عليه البائع والمشتري من المدة المعلومة، قلَّت مدته أو كثرت. ودليلهم ما روي أن ابن عمر «أجاز الخيار إلى شهرىن» (3) ولأن الخيار حق يعتمد الشرط، فرجع في تقديره
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه وذكره عبد الحق في «أحكامه» من جهة عبد الرزاق، وأعله بأبان ابن أبي عياش، وقال: إنه لا يحتج بحديثه مع أنه كان رجلاً صالحاً (انظر نصب الراية: 4ص 8) .
(2) المبسوط للسرخسي: 13 ص 40 ومابعدها، البدائع: 5 ص 174، فتح القدير: 5 ص 110 ومابعدها، مغني المحتاج: 2 ص 47.
(3) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب جداً (انظر نصب الراية: 4 ص 8) .(5/213)
إلى مشترطه، كالأجل. وبعبارة أخرى: إن مدة الخيار ملحقة بالعقد، فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل (1) .
وقال المالكية: يجوز الخيار بقدر ما تدعو إليه الحاجة، ويختلف ذلك باختلاف المبيعات، فالفاكهة التي لا تبقى أكثر من يوم لا يجوز شرط الخيار فيها أكثر من يوم، والثياب أو الدابة: ثلاثة أيام، والأرض التي لا يمكن الوصول إليها في ثلاثة أيام يجوز شرط الخيار فيها أكثر من ثلاثة أيام، والدار ونحوها تحتاج مدة شهر.
ودليلهم أن المفهوم من الخيار هو اختبار المبيع، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن يكون الخيار محدوداً بزمان إمكان اختبار المبيع، وهو يختلف بحسب المبيعات، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيهاً على هذا المعنى، وهو أن الخيار لحاجة العاقد، فيقدر بها، فيكون النص عندهم من باب الخاص أريد به العام (2) .
وعند الشافعية وأبي حنيفة وزفر من باب الخاص أريد به الخاص. وتبدأ مدة الخيار من تاريخ العقد.
حكم الغاية في مدة الخيار:
قال أبو حنيفة: إذا شرط الخيار إلى الليل أو إلى الغد، فيدخل الليل والغد في مدة الخيار؛ لأن المقصود من الغاية هنا هو إخراج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} [المائدة:6/5] بدليل أنه لو لم يذكر الوقت أصلاً لاقتضى ثبوت الخيار في الأوقات كلها (3) .
وقال الصاحبان والمالكية والشافعية والحنابلة: لا يدخل الليل أو الغد في مدة الخيار لأن لفظ (إلى) موضوع لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، كما في قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187/2] والأصل هو حمل اللفظ على موضوعه، فكأن واضع اللغة قال:
__________
(1) المغني: 3 ص 585، غاية المنتهى: 2 ص 30، المبسوط: 13 ص 41، فتح القدير: 5ص111، البدائع: 5 ص 174.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 207، حاشية الدسوقي: 3 ص 91، 95، القوانين الفقهية: ص273.
(3) البدائع: 5 ص 267.(5/214)
متى سمعتم هذه اللفظة، فافهموا منها انتهاء الغاية (1) .
المطلب الثالث ـ طرق إسقاط الخيار:
العقد الذي فيه الخيار عقد غير لازم، ويصبح لازماً إذا سقط الخيار بعد ثبوته، وطرق الإسقاط ثلاثة:
1 - الإسقاط الصريح: هو أن يقول صاحب الخيار: أسقطت الخيار أو أبطلته أو أجزأت البيع أو رضيت به، ونحوها، فيبطل الخيار، سواء علم المشتري بالإجازة أو لم يعلم؛ لأن الخيار شرع للفسخ، فإذا سقط يبطل الخياررجوعاً إلى الأصل في العقد: وهو لزومه ونفاذه.
وكذلك يسقط الخيار إذا قال من له الحق فيه: (فسخت العقد، أو نقضته، أو أبطلته) لأن الخيار هو التخيير بين الفسخ والإجازة، فأيهما وجد سقط الخيار (2) .
2 - الإسقاط دلالة: وهو أن يوجد ممن له الخيار تصرف يدل على إجازة البيع وإثبات الملك، فالإقدام عليه يكون إجازة للبيع دلالة (3) .
وبناء على هذا:
إذا كان الخيار للمشتري، والمبيع في يده، فعَرَضه على البيع، يبطل خياره، لأن عرض المشتري المبيع على البيع معناه اختيار التملك وهو يكون بإبطال الخيار.
وإذا كان الخيار للبائع فعَرَضه على البيع، فالأصح من الروايتين عن أبي حنيفة: أن يكون إسقاطاً للخيار، لأنه دليل على اختيار إبقاء الملك في المبيع.
وكذلك يسقط خيار المشتري إذا باع الشيء الذي اشتراه أو رهنه أو وهبه ـ سلم أو لم يسلم ـ أو آجره؛ لأن نفاذ هذه التصرفات مختص بقيام الملك، فيكون الإقدام عليها دليلاً على قصد إبقاء الملك، وهو يتم بإجازة البيع.
ويسقط الخيار أيضاً بهذه التصرفات في الثمن إذا صدرت من البائع الذي له الخيار؛ إذ أنه لا تصح هذه التصرفات إلا بعد نقض التصرف الأول.
إلا أن هناك فرقاً بين البائع والمشتري بالنسبة لتسليم الهبة والرهن، فإنه إذا كان الخيار للبائع لا
__________
(1) المغني لابن قدامة: 3 ص 588، غاية المنتهى: 2 ص 31، الميزان للشعراني: 2 ص 64، البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع: 267/5، 271.
(3) البدائع: 272/5.(5/215)
يسقط في الهبة والرهن إلا بعد التسليم بخلاف المشتري كما عرفنا (1) .
وأما الإجازة فلا فرق فيها بين البائع والمشتري، فإنها تسقط الخيار من غير شرط القبض، لأنها عقد لازم، بخلاف الرهن والهبة قبل القبض، فإنهما عقدان غير لازمين.
ومن مسقطات الخيار دلالة: أن يُسكن المشتري الدار المبيعة رجلاً بأجر أو بغير أجر، أو يرمم شيئاً منها بالتطيين أو التجصيص، أو يحدث فيها بناء أو يهدم شيئاً منها؛ لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك.
ومن مسقطات الخيار دلالة أيضاً: أن يسقي المشتري الزروع والثمار أو يحصدها أو يقطع منها شيئاً لدوابه، لأنه يعد إجازة للبيع واختياراً للتملك كما ذكر (2) .
أما ركوب الدابة لسقيها أو لردها على البائع، فلا يسقط الخيار استحساناً؛ لأن الدابة قد لا يمكن تسييرها إلا بالركوب، ويسقط قياساً، لأن الركوب دليل اختيار الملك.
وكذا ركوب الدابة لينظر إلى سيرها وقوتها، لا يسقط الخيار.
وكذا أيضاً لبس الثوب لينظر إلى طوله وعرضه لا يسقط الخيار، لاحتياجه إلى التجربة والاختبار، أما لبسه ثانية للغرض الأول نفسه، فيسقط الخيار.
وركوب الدابة مرة ثانية لمعرفة العَدْو أو لمعرفة سير آخر كمشي الهملاج (أي السير السهل) لا يسقط الخيار أيضاً، أما ركوبها لمعرفة الغرض الأول، فيسقط الخيار.
ويرى بعض مشايخ الحنفية أن ركوب الدابة للمرة الثانية للغرض الأول نفسه: لا يسقط الخيار؛ لأن الاختبار لا يحصل بالفعل مرة، لاحتمال وقوع ذلك صدفة، فيحتاج إلى معرفة العادة الثابتة، بخلاف الثوب، فإن الغرض يحصل بالمرة الواحدة (3) .
__________
(1) البدائع: 267/5، تحفة الفقهاء: ج 95/2.
(2) تحفة: الفقهاء: 100/2 ومابعدها، البدائع: 270/5.
(3) تحفة الفقهاء: 101/2 ومابعدها، البدائع: 270/5.(5/216)
3 - إسقاط الخيار بطريق الضرورة:
يسقط الخيار ضرورة بأمور:
أولاً - مضي مدة الخيار: يسقط الخيار بمضي مدته دون اختيار فسخ العقد، لأن الخيار مؤقت بها، فيبقى العقد بلا خيار، فيصبح لازماً (1) .
وكذلك قال الشافعية والحنابلة: يسقط الخيار إذا انقضت مدته، ولم يفسخ أحدهما العقد ويصبح لازماً؛ لأن مدة الخيار ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل، ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة المشروطة، والشرط سبب الخيار، فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله، ولأنه حكم مؤقت، فصار بفوات وقته كسائر المؤقتات، ولأن البيع يقتضي اللزوم، وإنما تخلَّف موجبه بالشرط، ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لعدم وجود ما ينافي مقتضى العقد كما لو أمضوا العقد (2) .
وقال الإمام مالك: لا يلزم البيع بمضي المدة بل لا بد من اختيار أو إجازة، لأن مدة الخيار جعلت حقاً لصاحب الخيار لا واجباً عليه، فلم يلزم الحكم بمرور الزمان نفسه، كمضي الأجل في حق المولى بالنسبة للمكاتب، لايلزم المولى بالعتق بمجرد مضي المدة (3) .
ثانياً - موت المشروط له الخيار:
إذا مات المشروط له الخيار، يسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أو لهما، ويصير العقد لازماً، لأنه وقع العجز عن الفسخ، فيلزم ضرورة، واتفق الفقهاء على أنه يورث خيار العيب وخيار التعيين، ولا يورث خيار الإجازة في بيع الفضولي، ولا خيار الرؤية على الصحيح، كما لا يورث
__________
(1) البدائع: 267/5.
(2) الميزان: 64/2، المغني: 591/3.
(3) حاشية الدسوقي: 95/3، 98.(5/217)
الأجل (1) ،وكذلك لا يورث خيار القبول عند الحنفية والمالكية، ويورث خيار المجلس عند الشافعية (2) ، فلو مات من له الخيار أو أغمي عليه في المجلس لم يبطل خياره، بل ينتقل إلى وارثه والناظر في أمره. وقال الحنابلة: ينقطع هذا الخيار بالموت لا بالجنون والإغماء (3) .
أما خيار الشرط فاختلفوا في إرثه:
فقال الحنفية: لا يورث خيار الشرط، وإنما يسقط بموت المشروط له، كما تقدم؛ لأن الوارث يستحق الباقي بعد موت المورِّث، وخيار المورِّث لا يبقى بعد موته؛ لأن خياره يخيره بين الفسخ والإجازة، ولا يتصور ذلك منه بعد موته، فلا يورث، بخلاف خيار العيب والتعيين؛ لأن الموروث هناك محتمل للإرث وهو العين المملوكة، أما الخيار فهو عرض لا يبقى (4) .
والخلاصة: أن خيار القبول والإجازة في بيع الفضولي والأجل وخيار الشرط لا يورث. أما خيار العيب والتعيين والقصاص وخيار الرؤية وخيار الوصف وخيار التغرير، فإنه يورث (5) .
وقال الحنابلة: المذهب أن خيار الشرط يبطل بموت صاحبه، ويبقى خيار الآخر بحاله، إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته في مدة الخيار، فيكون حينئذ لورثته (6) .
__________
(1) البدائع: 268/5، بداية المجتهد: 209/2.
(2) المجموع للنووي: 196/9، حاشية الباجوري: 160/1.
(3) غاية المنتهى: 30/2.
(4) المبسوط: 42/13، فتح القدير: 125/5، البدائع: 268/5، رد المحتار: 57/4.
(5) رد المحتار: 538/5.
(6) المغني: 579/3، غاية المنتهى: 33/2.(5/218)
وقال المالكية والشافعية: إذا مات صاحب الخيار: فلورثته من الخيار مثل ما كان له؛ لأن الخيار حق ثابت لضمان صلاحية المال المشترى، فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن ونحوها من الحقوق المالية، فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب، ولأنه حق فسخٍ للبيع، فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب، والفسخ بالتحالف (1) .
ويلاحظ أن مرجع الخلاف في إرث الخيار هو: هل الأصل أن تورث الحقوق كالأموال أو لا؟
فقال الجمهور: الأصل أن تورث الحقوق والأموال إلا إذا قام دليل على وجود اختلاف بين الحق والمال بالنسبة للإرث.
وقال الحنفية: الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال.
ثالثاً - ما هو في معنى الموت: كالجنون والإغماء والنوم والسُكْر والردة واللحاق بدار الحرب (2) . فإذا ذهب عقل صاحب الخيار بالجنون أو الإغماء، في مدة الخيار، ومضت المدة على تلك الحال صار العقد لازماً لأنه عجز عن الفسخ فتزول فائدة الخيار، فإن أفاق في مدة الخيار، بقي الخيار، لإمكان ممارسة حق الفسخ والإجازة.
وكذا يسقط الخيار لو بقي صاحبه نائماً لآخر مدة الخيار، كما يسقط على الصحيح لو سكر وظل سكراناً حتى مضت مدة الخيار.
ولو ارتد من له الخيار في مدة الخيار، فقتل على الردة أو مات: لزم البيع. وكذا لو لحق بدار الحرب، وقضى القاضي بلحاقه؛ لأن الردة بمنزلة الموت بعد الالتحاق بدار الحرب.
فإن عاد المرتد إلى الإسلام في مدة الخيار، فهو على خياره.
كل ذلك إذا لم يتصرف المرتد بالخيار فسخاً أو إجازة، فإذا تصرف في مدة الخيار ينظر:
إن أجاز البيع جاز بالاتفاق، ولو فسخ يصبح حكم العقد موقوفاً عند أبي حنيفة: فإن عاد مسلماً نفذ، وإن مات أو قتل على الردة، بطل الفسخ.
وقال الصاحبان: تنفذ تصرفات المرتد حال ردته. ومنشأ الخلاف: هل تصرفات المرتد موقوفة أو نافذة؟
__________
(1) بداية المجتهد: 209/2، القوانين الفقهية: ص 273، المهذب: 259/1، مغني المحتاج: 45/2، والفسخ بالتحالف: يحصل عند اختلاف البائع والمشتري في قدر الثمن أو قدر المبيع، ولم يكن لكل واحد منهما بينة، ولم يتراضيا، فيحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر، فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما (انظر نتائج الأفكار: 183/6 ومابعدها) .
(2) المبسوط: 44/13، فتح القدير: 121/5.(5/219)
قال أبو حنيفة: هي موقوفة. وقال الصاحبان: هي نافذة، سواء أسلم أو مات أو قتل (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: لو جن صاحب الخيار أو أغمي عليه أو أصابه خرس فلم تفهم إشارته، ينتقل الخيار إلى وليه من حاكم أو غيره (2) .
رابعاً - هلاك المبيع في مدة الخيار: فيه تفصيل؛ لأن الهلاك إما أن يكون قبل القبض أو بعد القبض، والخيار إما للبائع، أو للمشتري (3) .
آ - فإن هلك المبيع قبل القبض أي (في يد البائع) بطل البيع وسقط الخيار، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، أم لهما معاً، لأنه لو كان العقد باتاً لبطل البيع بسبب العجز عن التسليم، فيبطل إذا كان فيه خيار شرط من باب أولى.
ب ـ وإن هلك المبيع بعد القبض أي (في يد المشتري) : فإن كان الخيار للبائع، فيبطل البيع أيضاً، ويسقط الخيار، ولكن يلزم المشتري القيمة إن لم يكن له مثل، والمثل إن كان له مثل.
وقال ابن أبي ليلى: إنه يهلك هلاك الأمانات؛ لأن الخيار منع انعقاد العقد بالنسبة لحكم العقد، فكان المبيع على حكم ملك البائع أمانة في يد المشتري، فيهلك هلاك الأمانات.
والصحيح قول عامة العلماء، لأن البيع وإن لم ينعقد بالنسبة لحكم العقد، لكن المبيع في قبض المشتري على حكم البيع، فلا يكون دون المقبوض على سوم الشراء (4) وهو مضمون بالقيمة أو بالمثل، سواء تعدى في القبض أو قصر في الحفظ، أو لم يحصل منه شيء من ذلك، فهذا أولى، لأن العقد موجود هنا، بخلاف المقبوض على سوم الشراء لم يوجد العقد بالنسبة إليه أصلاً.
وإن كان الخيار للمشتري فهلك المبيع بفعل المشتري أو البائع أو بآفة سماوية: لا يبطل البيع، ولكن يسقط الخيار، ويلزم البيع، ويهلك على المشتري بالثمن، لأن المشتري وإن لم يملك المبيع عند أبي حنيفة إلا أنه اعترض عليه في يده ما يمنع الرد وهو التعيب بعيب لم يكن عند البائع؛ لأن الهلاك في يده لا يخلو عادة عن
__________
(1) انظر التفصيل في فتح القدير: 395/4 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 45/2، غاية المنتهى: 33/2.
(3) انظر المبسوط: 44/13، البدائع: 272/5، فتح القدير: 117/5.
(4) وهو أن يسمي البائع أو المشتري ثمن شيء، ثم يقبضه المساوم على وجه الشراء، لينظر فيه أو ليريه غيره ويقول: إن رضيته أخذته بالثمن الذي اتفق عليه. فإذا ضاع أو هلك يضمن قيمته (رد المحتار: 52/4) .(5/220)
سبب له، وهذا السبب يكون عيباً، وتعيب المبيع في يد المشتري يمنع الرد، ويلزم البيع إذ لافائدة من بقاء الخيار، فيهلك بالثمن؛ لأن العقد قد انبرم.
وقال الشافعية كالحنفية فيما إذا حدث الهلاك بآفة سماوية قبل القبض: ينفسخ البيع ويسقط الخيار، كما ينفسخ العقد ويسقط الخيار إذا كان الهلاك بعد القبض ويضمن المشتري القيمة إذا كان الخيار للبائع.
فإن كان الخيار للمشتري فيقرر الشافعية أنه يضمن المبيع في هذه الحالة بقيمته، لأنه إن فسخ البيع تعذر رد العين، فوجب رد القيمة، وإن أمضى العقد فقد هلك من ملكه فيجب عليه قيمته (1) .
وقال المالكية: إن هلك المبيع بيد البائع، فلا خلاف في ضمانه إياه وينفسخ البيع. وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية:
إن كان المبيع مما يغاب عليه (أي يمكن إخفاؤه) كالحلي والثياب، فيضمن المشتري للبائع الأكثر من ثمنه الذي بيع به، أو القيمة؛ لأن من حق البائع إمضاء البيع إن كان الثمن أكثر، ورد البيع إن كانت القيمة أكثر، إلا إذا ثبت الهلاك ببينة فلا يضمن المشتري.
وإن كان المبيع مما لا يغاب عليه (أي لا يمكن إخفاؤه) كالدور والعقارات فالبائع يضمنه، بعد أن يحلف المشتري حيث اتهمه البائع: لقد ضاع وما فرَّط، إذا لم يظهر كذب المشتري (2) .
__________
(1) المهذب: 260/1.
(2) بداية المجتهد: 208/2، حاشية الدسوقي: 104/3 ومابعدها.(5/221)
ويلاحظ أن ابن رشد في بداية المجتهد جعل الضمان مطلقاً على البائع من غير تفصيل، والمشتري أمين، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما. وقال الحنابلة: إن تلفت السلعة في مدة الخيار قبل القبض، وكان المبيع مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وضمنه البائع، ويبطل خيار المشتري.
وإن كان المبيع غير مكيل ولا موزون ولم يمنع البائع المشتري من قبضه، فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري، ويكون كتلفه بعد القبض.
وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار، فهو من ضمان المشتري، ويبطل خياره. وأما خيار البائع ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل كخيار الرد بالعيب إذا تلف المبيع، وهو اختيار الخرقي وأبي بكر.
والثانية: لا يبطل، وللبائع فسخ البيع، ومطالبة المشتري بالقيمة (1) .
خامساً - تعيب المبيع: فيه تفصيل أيضاً؛ لأن الخيار إما أن يكون للبائع أو للمشتري.
آـ فإن كان الخيار للبائع: فيسقط خياره إذا تعيب المبيع بآفة سماوية أو بفعل البائع، سواء أكان المبيع في يد البائع أم في يد المشتري، لأنه هلك بعض المبيع بلا بدل عنه، إذ لا يجب الضمان على البائع، لأن المبيع ملكه، فينفسخ البيع في هذا البعض،،ولا يمكن بقاء العقد في الجزء الباقي، لما يترتب عليه من تفريق الصفقة على المشتري قبل تمام العقد، وهو لا يجوز.
فإذا تعيب المبيع بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي لم يبطل البيع، ويبقى البائع على خياره لأنه يمكنه إجازة البيع فيما بقي وفيما نقص؛ لأن قدر النقصان انتقل إلى بدل عنه: وهو الضمان بالقيمة على المشتري أو الأجنبي لإتلافهما ملك الغير بغير إذن، فكان قدر النقصان قائماً معنى.
__________
(1) المغني: 569/3.(5/222)
وإذا بقي البائع على خياره والمبيع في يد المشتري: فإما أن يجيز العقد أو يفسخ: فإن أجاز البيع، وجب على المشتري جميع الثمن؛ لأن البيع جاز في الكل، ولا يكون للمشتري خيار الرد بحدوث التغير في المبيع، لأنه حدث في يده وفي ضمانه.
غير أنه إذا كان التعييب بفعل المشتري، فلا سبيل له على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن كان بفعل الأجنبي فللمشتري خيارأن يتبع الجاني بالأرش (أي الغرامة) لأنه بإجازة البيع ملك المبيع، من وقت البيع فحصلت الجناية على ملكه.
وإن فسخ البائع العقد ينظر:
إن كان التعييب بفعل المشتري: فإن البائع يأخذ الباقي، ويأخذ أرش الجناية من المشتري؛ لأن المبيع كان مضموناً على المشتري بالقيمة، وقد عجز عن رد ما أتلفه بالجناية، فعليه رد قيمته.
وإن كان التعييب بفعل أجنبي: فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الجاني بالأرش، لأن الجناية حصلت على ملكه، وإن شاء اتبع المشتري؛ لأن الجناية حدثت في ضمان المشتري.
فإن اختار اتباع الأجنبي: فالأجنبي لا يرجع على أحد، لأنه ضمن القيمة بفعل نفسه، وإن اختار اتباع المشتري، فالمشتري يرجع بما ضمن من الأرش على الجاني؛ لأن المشتري بأداء الضمان قام مقام البائع في حق تملك بدل الشيء المجني عليه، وإن لم يقم مقامه في حق ملك نفس الشيء المجني عليه.
ب ـ وإن كان الخيار للمشتري: فيسقط خياره بالتعييب ولا ينفسخ البيع سواء حصل بآفة سماوية أو بفعل البائع، أو بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي؛ لأن في حالة الآفة السماوية واعتداء البائع حدث التعيب في المبيع في يد المشتري وفي ضمانه، فيلزمه رد قيمته. وأما في حالة اعتداء المشتري أو الأجنبي فلأنه تعذر رد المبيع؛ لأنه لا يمكن المشتري أن يرد جميع ما قبض كما قبض(5/223)
سليماً، وفي رد البعض تفريق للصفقة على البائع قبل تمام العقد (1) .
وعلى هذا، إذا حدث نقص في المبيع في يد المشتري، كأن سقط حائط من دار بغير صنع أحد، يسقط الخيار بهذا النقصان لتعذر رد الشيء على صاحبه كما قبضه سليماً من أي نقص، ويتقرر على المشتري جميع الثمن؛ لأن النقصان حصل في ضمانه.
المطلب الرابع ـ حكم العقد في مدة الخيار:
يقول الحنفية: لا ينعقد البيع بشرط الخيار في الحال في حق الحكم (أي نقل الملكية) بالنسبة لمن له الخيار من المتعاقدين، بل يكون موقوفاً إلى وقت سقوط الخيار: إما بإجازة البيع أو فسخه، فإن أجازه ظهر أن العقد كان قد انعقد حال وجوده، أي قبل الإجازة متى كان موضوع العقد قابلاً له، وإن فسخه استمر على عدم انعقاده استصحاباً للحالة الأولى.
وتفصيله يظهر فيما يأتي (2) :
إن كان الخيار للعاقدين: كان العقد غير منعقد من ناحية حكمه في حقهما معاً أي أنه لا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، كما لا يزول الثمن عن ملك المشتري ولا يدخل في ملك البائع؛ لأن الخيار المانع من الانعقاد من ناحية الحكم موجود في جانبي البائع والمشتري.
وإن كان الخيار للبائع وحده: كان العقد غير منعقد في حقه من ناحية ثبوت الحكم، فلا يزول المبيع عن ملكه ويخرج الثمن عن ملك المشتري؛ لأن العقد لازم في حقه، ولكنه لا يدخل في ملك البائع عند أبي حنيفة حتى لا يجتمع البدلان (المبيع والثمن) في يد واحدة، وهذا لا يجوز في عقود المبادلة التي تتطلب المساواة بين البائع والمشتري.
__________
(1) انظر تحفة الفقهاء: 106/2-109، فتح القدير: 117/5 ومابعدها، وانظر البدائع: 269/5، 272، مع ملاحظة الفارق بين ما هنا وبين ما اختاره الكاساني من اعتبار التعيب بالآفة السماوية في يد البائع غير مسقط للخيار.
(2) البدائع: 264/5 ومابعدها، فتح القدير: 115/5 ومابعدها، رد المحتار: 51/4 ومابعدها.(5/224)
وقال الصاحبان: إن الثمن يدخل في ملك البائع ويجب له ما دام البيع وقع باتاً، أي لازماً بالنسبة للمشتري، لأنه لم يشترط الخيار لنفسه، ودليلهما: أن الشيء لايصح أن يكون بلا مالك.
يظهر مما تقدم أن العقد من ناحية حكمه: لا ينعقد عند أبي حنيفة في كلا البدلين (المبيع والثمن) . وعند الصاحبين: لا ينعقد في بدل من له الخيار فقط.
وإن كان الخيار للمشتري وحده: كان البيع غير منعقد بالنسبة له من ناحية حكمه، فلا يخرج الثمن عن ملكه، أما المبيع فيخرج عن ملك البائع فليس له التصرف فيه، ولكنه لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، ويدخل في ملكه عند الصاحبين على النحو السابق.
ويترتب على هذا الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه نتائج، منها ما يأتي:
1 - إذا اشترى ذمي من ذمي خمراً أو خنزيراً على أنه بالخيار وقبض المشتري المبيع، ثم أسلم بطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن المبيع لم يدخل في مدة الخيار في ملك المشتري، والمسلم ممنوع من تملك الخمر أو الخنزير. وعند الصاحبين: لا يبطل البيع، بل يسقط الخيار ويلزم العقد؛ لأن المشتري ملك المبيع في مدة الخيار وهو ذمي، له أن يتملك الخمروالخنزير، وبعد الإسلام: ليس له أن يرد البيع، لأنه ممنوع من تمليك شيء مما ذكر.
أما إذا أسلم البائع وكان الخيار للمشتري: فلا يبطل البيع ويبقى المشتري على خياره بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه، وكونه لا يبطل لأن البيع باتٌّ في جانب البائع. وأما المشتري فيبقى خياره: فإن أجاز البيع صار لازماً، وعليه الثمن ويملك المبيع، لأنه ذمي له أن يملك الخمر والخنزير. وإن رد البيع انفسخ العقد وصار المبيع على ملك البائع، والمسلم قد يملك الخمر أو الخنزير حكماً، كما إذا أسلم الذمي وعنده خمر أو خنزير.(5/225)
فإن كان الخيار للبائع وأسلم في مدة الخيار بطل الخيار والعقد؛ لأن خيار البائع يمنع إجماعاً خروج المبيع عن ملكه، وإسلامه يمنع إخراج الخمر ونحوها عن ملكه. ولو كان الذي أسلم هو المشتري، لم يبطل العقد، وبقي البائع على خياره، لأن العقد لازم من جهة المشتري إذ لا خيار له، وحينئذ له إجازة البيع، فيتملك المشتري المبيع وهو أهل له أي لتملك الخمر ونحوها حكماً، كما عرفنا، وإن رد البيع انفسخ العقد واستمر المبيع ملكاً للبائع.
2 - إذا كان المبيع داراً: فإن كان للبائع خيار، لم يكن للشفيع الشفعة بالاتفاق بين الإمام وصاحبيه؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه.
وإن كان الخيار للمشتري، تثبت الشفعة بالاتفاق أيضاً؛ لأن خيار المشتري على قول أبي حنيفة، وإن منع دخول السلعة في ملك المشتري، لم يمنع زوال ملكيتها عن ملك البائع، وحق الشفيع يثبت بزوال ملك البائع لا ملك المشتري.
وأما على قول الصاحبين: فإن خيار المشتري لا يمنعه تملك السلعة، فتثبت الشفعة للشفيع (1) .
هذا هو تفصيل مذهب الحنفية في حكم عقد البيع خلال مدة الخيار.
وأما غير الحنفية فمذاهبهم ما يأتي: قال المالكية وفي رواية عن أحمد: للبائع ملك المبيع زمن الخيار، حتى ينقضي الخيار.
وإمضاء البيع: معناه نقل المبيع من ملك البائع لملك المشتري، وليس تقريراً للملك. ودليلهم أن المبيع على ملك البائع، وأما المشتري فملكه غير تام لاحتمال رده. وعلى هذا: تكون غلة المبيع الحاصلة في زمن الخيار للبائع (2) .
وقال الشافعية في الأظهر عندهم: إن كان الخيار المشروط للبائع فملك المبيع وتوابعه كلبن ومهر وثمر وكسب له. وإن كان الخيار للمشتري فيكون الملك له، لأنه إذا كان الخيار لأحدهما كان هو وحده متصرفاً في المبيع، ونفوذ التصرف دليل على الملك.
وإن كان الخيار للبائع والمشتري معاً، فالملك موقوف لأنه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر، فيحصل التوقف، فإن تم البيع تبين أن الملك للمشتري من حين العقد، وإلا فللبائع، وكأنه لم يخرج عن ملكه (3) .
وقال الحنابلة في ظاهر المذهب: ينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد، ولا فرق بين كون الخيار لهما، أو لأحدهما أيهما كان. ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر، فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» (4) جعل
__________
(1) فتح القدير: 133/5، تحفة الفقهاء: 113/2.
(2) حاشية الدسوقي: 103/3، القوانين الفقهية: ص 273.
(3) مغني المحتاج: 48/2، المهذب: 259/1.
(4) هذا الحديث رواه الموطأ وأصحاب الكتب عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع، ومن باع نخلاً مؤبراً فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع» ، وهناك ألفاظ أخرى للحديث (انظر نصب الراية: 5/4، جامع الأصول: 34/2 ومابعدها) .(5/226)
الرسول عليه الصلاة والسلام المبيع للمبتاع (أي المشتري) بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح، فنقل الملكية عقبه كالذي لا خيار له، ولأن البيع تمليك بدليل قوله: (ملكتك) فثبت به الملك كسائر البيوع (1) .
ويترتب على هذا الخلاف بين الفقهاء: الخلاف في حكم تسليم الثمن أو استحقاقه للبائع، كما ذكر عند الحنفية، فعند الحنابلة: يلزم تسليم الثمن إذا كان الخيار للمشتري ولا يلزم إذا كان الخيار للبائع أو لهما.
المطلب الخامس ـ كيفية الفسخ والإجازة:
الفسخ والإجازة إما بطريق الضرورة أو بطريق القصد والاختيار (2) :
__________
(1) المغني: 571/3، غاية المنتهى: 32/2، القواعد لابن رجب: ص 377.
(2) فتح القدير: 120/5.(5/227)
أما الفسخ والإجازة بطريق الضرورة: فيصح من غير وجود الخصم وعلمه، كمضي مدة الخيار وهلاك المبيع ونقصانه، كما ذكر في طرق إسقاط الخيار.
وأما الفسخ والإجازة بطريق القصد: فاتفق الحنفية على أن صاحب الخيار يملك إجازة العقد بغير علم صاحبه، لأنه كان قد رضي بالبيع، وتوقف نفاذ البيع على رضا صاحب الخيار، فإذا رضي نفذ البيع، علم الآخر أو لم يعلم.
ولكن يشترط الرضا باللسان بأن يقول: أجزت هذا العقد أو رضيت به، فإذا رضي بقلبه فقط، فإنه لا يسقط خياره؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالأقوال والأفعال الظاهرة الدالة على القلوب.
وأما الفسخ: فإنه ينبغي أن يكون باللسان (1) دون القلب، فإن فسخ بلسانه بعلم صاحبه، فيصح بالاتفاق بين علماء الحنفية، سواء رضي به الطرف الآخر أو أبى. وإن فسخ بغيرعلم صاحبه فلا يصح عند أبي حنيفة ومحمد، سواء أكان الخيار للمشتري أم للبائع، ويكون الفسخ حينئذ موقوفاً: إن علم به صاحبه في مدة الخيار نفذ، وإن لم يعلم حتى مضت المدة لزم العقد؛ لأن الفسخ تصرف في حق الغير؛ لأن العقد تعلق به حق كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك أحدهما فسخه بغير علم صاحبه، لما في ذلك من المضرة. فإن كان الخيار للبائع: فربما يتصرف المشتري بالمشترى اعتماداً منه على نفاذ البيع بسبب مضي المدة دون فسخ، فتلزمه غرامة القيمة بهلاك المبيع، وقد تكون القيمة أكثر من الثمن، وفي هذا ضرر.
وإذا كان الخيار للمشتري: فربما لا يطلب البائع لسلعته مشترياً آخر اعتماداً على تمام البيع، وهذا ضرر أيضاً.
وقال أبو يوسف: إن كان الخيار للبائع فلا يشترط علم المشتري بالفسخ، وإن كان الخيار للمشتري اشترط علم البائع بالفسخ. وفي رواية عنه: إنه لا يشترط علم الطرف الآخر بالفسخ مطلقاً؛ لأن الفاسخ منهما مسلط على الفسخ من صاحبه الذي لا خيار له، فلا يتوقف الفسخ على علمه، كبيع الوكيل يجوز مع عدم علم الموكل (2) .
ويجري هذا الخلاف في خيار الرؤية، أما خيار العيب فاتفق الحنفية على أن الفسخ فيه يشترط أن يكون بعلم البائع (3) .
__________
(1) يلاحظ أن الإجازة والفسخ كما يكونان قوليين بكل لفظ يفيد ذلك كأجزت البيع ونحوه، يكونان فعليين أيضاً كما لو تصرف المشتري المخير في المبيع تصرفاً يعتمد الملكية كرهن المبيع أو إجارته أو عرضه للبيع فيكون إجازة. ولو فعل البائع ذلك كان فسخاً.
(2) البدائع: 273/5، فتح القدير والعناية: 122/5، رد المحتار: 57/4.
(3) البدائع، المرجع السابق.(5/228)
وإذا كان الخيار لرجلين ـ خيار شرط أو رؤية أو عيب ـ فلا يملك أحدهما دون الآخر أن ينفرد بالفسخ عند أبي حنيفة؛ لأن المبيع خرج عن ملك البائع غير معيب بعيب الشركة، فلو رده أحدهما رده معيباً به، وفي رده ضرر.
وقال الصاحبان: يصح لأحد الرجلين اللذين ثبت الخيار لهما أن ينفرد بالفسخ؛ لأن إثبات الخيار لهما إثباته لكل واحد منهما، فلا يسقط بإسقاط صاحبه، لما فيه من إبطال حقه (1) .
وعلى هذا، يصح عند أبي حنيفة أن يتفق الرجلان على الإجازة أو الفسخ، فإذا رد أحدهما، وأجاز الآخر، فهو على الخلاف المذكور.
وكذا يجري الخلاف إذا اختارا رد البيع في النصف، وإجازة البيع في النصف الآخر. هذا هو تفصيل كيفية الفسخ والإجازة عند الحنفية، وخالفهم جمهور العلماء في كيفية الفسخ:
فقال المالكية والشافعية والحنابلة: يصح لصاحب الخيار فسخ البيع في حضور صاحبه وفي غيبته، إذ أن صاحبه لما رضي لأخيه بالخيار، فكأنه أذن له في الفسخ متى شاء، فلا يحتاج إلى حضوره (أي علمه) عند الفسخ، ولأن الفسخ رفع للعقد، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق (2) .
__________
(1) المبسوط: 50/13، البدائع: 268/5.
(2) المغني: 591/3، مغني المحتاج: 49/2، الميزان: 64/2.(5/229)
13 - خيار العيب
هو خيار ثابت بالشرط دلالة، لذا ذكرته عقب خيار الشرط. والكلام عن خيار العيب في المطالب الآتية:
المطلب الأول ـ في مشروعية خيار العيب وحكمه.
المطلب الثاني ـ في العيوب الموجبة للخيار.
المطلب الثالث ـ في طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار.
المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية الرد بالعيب.
المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار.
المطلب السادس ـ اختلاف الفقهاء في شرط البراءة عن العيب.
المطلب الأول ـ في مشروعية خيار العيب وحكم العقد
مشروعية خيار العيب: الأصل في مشروعية هذا الخيار أحاديث منها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب إلا بينه له» (1) .
ومنها ـ قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه» (2) .
ومنها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاماً، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول،
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني عن عقبة بن عامر، قال في الفتح: وإسناده جيد (انظر مجمع الزوائد: 80/4، نيل الأوطار: 211/5) ورواه البخاري بلفظ آخر (انظر جامع الأصول: 420/1) .
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم في المستدرك، قال في (نيل الأوطار: 212/5) «وفي إسناده أحمد أبو جعفر الرازي وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني قيل: إنه مجهول» .(5/230)
فقال: «من غشنا فليس منا» (1) .
وقال الكاساني: الأصل في مشروعية هذا الخيار ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشترى شاة محفَّلة (2) ، فوجدها مصراة (3) ، فهو بخير النظرين ثلاثة أيام» وفي رواية «فهو بأحد النظرين إلى ثلاثة: إن شاء أمسك، وإن شاء رد، ورد معها صاعاً من تمر» (4) ، والنظران المذكوران: هما نظر الإمساك والرد، وذكر الثلاث في الحديث ليس للتوقيت، بل هو بناء الأمر على الغالب المعتاد، والصاع من التمر كأنه قيمة اللبن الذي حلبه المشتري.
ويلاحظ أن جمهور الفقهاء يعتبرون تصرية الإبل والغنم تغريراً فعلياً في الوصف، يوجب للمغرور خياراً في إبطال العقد، ولو لم يصحبه غبن فهو من خيار الوصف (5) .
ويثبتون للمشتري الخيار بين إمساك المبيع إن رضيه، أو رد المبيع مع صاع من
__________
(1) نيل الأوطار: 211/5 وما بعدها، وقد روى الحديث مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة، وفي رواية أبي داود «ليس منا من غش» (انظر جامع الأصول: 419/1 وما بعدها، مجمع الزوائد: 78/4، نيل الأوطار: 212/5) .
(2) أي مجمع اللبن في ضرعها.
(3) قال الشافعي: التصرية: هي ربط أخلاف (حلمات) الشاة أو الناقة، وترك حلبها حتى يجمع لبنها، فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها.
(4) انظر للمقارنة نيل الأوطار: 214/5، جامع الأصول: 420/1 وما بعدها، مجمع الزوائد: 108/4، الموطأ: 170/2 ففي هذا الحديث عدة روايات رواها البخاري ومسلم وأحمد والموطأ وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهذه الرواية المذكورة كما يظهر لي هي ملفقة من أكثر من رواية.
(5) انظر ابن عابدين: /4 47، والمدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: جـ1 ص 374، الطبعة السابعة.(5/231)
تمر إن سخطه، ويوافق أبو يوسف الجمهور على هذا الرأي أخذاً بالحديث السابق. وقال أبو حنيفة ومحمد: يرجع المشتري بالنقصان فقط إن شاء.
حكم البيع:
حكم البيع لشيء معيب: هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع للحال لأن ركن البيع مطلق عن الشرط، وإنما يثبت فيه دلالة شرط سلامة المبيع عن العيوب، فإذا لم تتوافر السلامة تأثر العقد في لزومه، لا في أصل حكمه، بخلاف خيار الشرط؛ لأن الشرط المنصوص عليه ورد على أصل الحكم، فمنع انعقاده بالنسبة للحكم في مدة الخيار (1) .
وصفة حكم البيع لشيء معيب: هو أنه يفيد الملك غير لازم؛ لأن سلامة البدلين في عقد المعاوضة مطلوبة عادة، فكانت السلامة مشروطة في العقد دلالة أي ضمناً، فكانت كالمشروطة نصاً، فإذا لم تتحقق صفة السلامة في البدلين، كان للعاقد الخيار، فيكون العقد غير لازم (2) .
المطلب الثاني ـ العيوب الموجبة للخيار
العيب: هو كل ما يخلو عنه أصل الفطرة السليمة ويوجب نقصان الثمن في عرف التجار نقصاناً فاحشاً أو يسيراً كالعمى والعور والحول (3) .
__________
(1) البدائع: 273/5.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 274.
(3) فتح القدير والعناية: 151/5، 153، البدائع: 274/5، رد المحتار: 74/4، الشرح الصغير: 152/3 وما بعدها، والحَوَل: أن تميل إحدى الحدقتين إلى الأنف، والأخرى إلى الصدغ.(5/232)
وتعريف العيب عند الشافعية: هو كل ما ينقص العين أو القيمة أو ما يفوت به غرض صحيح إذا غلب في جنس المبيع عدمه. واحترزوا بالقيد الأخير عن قطع أصبع زائدة أو جزء يسير من الفخذ أو الساق لا يورث شيناً، ولا يفوت غرضاً، فلا يرد المبيع به (1) . مثال إنقاص القيمة: جماح الدابة عند ركوبها، ومثال ما يفوت به غرض صحيح: قطع بعض أذن الشاة المشتراة للأضحية، فللمشتري ردها.
والفرق بين التعريفين: أن تعريف الحنفية ذو معيار مادي، وتعريف الشافعية ذو معيار شخصي.
والعيوب نوعان:
أحدها ـ ما يوجب نقصان جزء من المبيع أو تغيره من حيث الظاهر دون الباطن. ثانيهما ـ ما يوجب النقصان من حيث المعنى، دون الصورة.
أما الأول ـ فكثير نحو العمى، والعور، والحَوَل، والشلل، والقرع، والزمانة (أي الأمراض المزمنة) والأصبع الناقصة والسن السوداء والسن الساقطة والسن الشاغية (الزائدة) والظفر الأسود، والصمم والخرس، والبكم، والقروح، والشجاج، وأثر الجراح، والحميات وسائر الأمراض التي تعم البدن (2) .
وأما الثاني ـ فنحو جماح الدابة، وبطء غير معتاد في سيارة ونحوها (3) .
المطلب الثالث ـ طرق إثبات العيب وشروط ثبوت الخيار
شرائط ثبوت الخيار: يشترط لثبوت الخيار شرائط هي (4) :
1 - ثبوت العيب عند البيع أو بعده قبل التسليم، فلو حدث بعدئذ لا يثبت الخيار.
2 - ثبوت العيب عند المشتري بعد قبضه المبيع، ولا يكتفى بالثبوت عند البائع لثبوت حق الرد في جميع العيوب عند عامة المشايخ.
3 - جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له، لأنه يكون راضياً به دلالة.
4 - عدم اشتراط البراءة عن العيب في البيع، فلو شرط فلا خيار للمشتري، لأنه إذا أبرأه فقد أسقط حق نفسه.
5 - أن تكون السلامة من العيب غالبة في مثل المبيع المعيب.
6 - ألا يزول العيب قبل الفسخ.
7 - ألا يكون العيب طفيفاً مما يمكن إزالته دون مشقة، كالنجاسة في الثوب الذي لا يضره الغسل.
__________
(1) مغني المحتاج: 51/2، وقال الحنابلة: العيب: هو نقص عين مبيع كقطع أصبع ولو زادت قيمته، أو نقص قيمته عرفاً كمرض ونحوه (غاية المنتهى: 35/2) .
(2) البدائع: 274/5.
(3) انظر البدائع: 274/5-276، فتح القدير: 154/5-155 ومابعدها، رد المحتار: 78/4.
(4) البدائع: 275/5 وما بعدها، فتح القدير: 153/5.(5/233)
8 - عدم اشتراط البراءة من العيب في البيع، على التفصيل الآتي في آخر البحث.
طرق إثبات العيب:
يختلف طريق إثبات العيب باختلاف العيب، والعيب أربعة أنواع:
إما عيب ظاهر مشاهد، كالأصبع الزائدة والناقصة والسن الساقطة والعمى والعور ونحوها.
أو عيب باطن خفي لا يعرفه إلا الأطباء.
أو عيب لا يطلع عليه إلا النساء.
أو عيب لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يحتاج إلى التجربة والامتحان عند الخصومة.
1 - فإن كان عيباً مشاهداً: فلا حاجة لتكليف القاضي للمشتري بإقامة البينة على وجود العيب عنده، لكونه ثابتاً بالعيان والمشاهدة، وللمشتري حق خصومة البائع، بسبب هذا التعريف، وللقاضي حينئذ النظر في الأمر.
فإن كان العيب لا يحدث مثله عادة في يد المشتري كالأصبع الزائدة ونحوها، فإنه يرد على البائع، ولا يكلف المشتري بإقامة البينة على ثبوت العيب عند البائع لتيقن ثبوته عنده إلا أن يدعي البائع الرضا به، والإبراء عنه، فتطلب البينة منه.
فإن أقام البينة عليه قضي بموجبها، وإلا فيستحلف المشتري على دعواه، فإن نكل لم يرد المبيع المعيب على البائع وإن حلف رد على البائع.(5/234)
وأما إن كان العيب ممايجوز أن يحدث مثله في يد المشتري: فيقول القاضي للبائع: (هل حدث هذا عندك؟) فإن قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا والإبراء. وإن أنكر فقال? لا) كان القول قوله إلا أن يقيم المشتري البينة، فإن أقامها، قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي البائع الرضا والإبراء، وإن لم يكن له بينة على إثبات العيب عند البائع، وطلب المشتري يمينه، فإنه يستحلف بالله بنحوٍ باتٍّ قاطع جازم لا على مجرد نفي العلم: (لقد بعته وسلمته، وما به هذا العيب) لأن هذا أمر لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يحلف، وإنما يحلف على هذا الوجه بالجمع بين البيع والتسليم؛ لأنه قد يحدث العيب بعد البيع قبل التسليم فيثبت للمشتري حق الرد، فكان الاحتياط هو الجمع بينهما. وهذا ما ذكره محمد في الأصل.
وقال بعض المشايخ: لا احتياط في هذا، لأنه لو استحلف على هذا الوجه، فمن الجائز حدوث العيب بعد البيع قبل التسليم، فيكون البائع صادقاً في يمينه؛ لأن شرط حنثه: وجود العيب عند البيع والتسليم معاً فلا يحنث بوجوده في أحدهما، فيبطل حق المشتري. والاحتياط للمشتري يتحقق فيما إذا حلف البائع بالله: (ما للمشتري رد السلعة بهذا العيب الذي يدعي) وقال بعضهم: يحلف بالله (لقد سلمته وما به هذا العيب الذي يدعي) قال الكاساني: «وهو صحيح، لأنه يدخل فيه الموجود عند البيع، والحادث قبل التسليم» .
فإذا حلف برئ، ولا يرد عليه المبيع، وإن نكل يرد عليه ويفسخ العقد، إلا إذا ادعى البائع على المشتري الرضا بالعيب أو الإبراء عنه.
وقد صحح بعضهم صيغة اليمين الأولى التي ذكرها محمد بإضمار زيادة في الكلام، فتصير الصيغة: «لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، لا عند البيع ولا عند التسليم» (1) .
2 ًـ وأما إذا كان العيب باطناً خفياً لا يعرفه إلا المختصون:
كالأطباء والبياطرة مثل وجع الكبد والطحال ونحوه، فإنه يثبت لممارسة حق
__________
(1) البدائع: 279/5 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 139/2 ومابعدها، رد المحتار: 92/4، مختصر الطحاوي: ص 80 ومابعدها.(5/235)
الخصومة بشهادة رجلين مسلمين أو رجل مسلم عدل، وبعده يقول القاضي للبائع: «هل حدث عندك العيب المدعى به» فإن قال: «نعم» قضى عليه بالرد، وإن أنكر أقام المشتري البينة، فإن لم يكن له بينة استحلف البائع على الوجه السابق ذكره في العيب المشاهد. فإن حلف، لم يرد عليه، وإن نكل قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء (1) .
3 - وإن كان العيب مما لا يطلع عليه إلا النساء: فيرجع القاضي إلى قول النساء، فيريهن العيب لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء:7/21] ولا يشترط العدد منهن، بل يكتفى بقول امرأة واحدة عدل، والثنتان أحوط؛ لأن قول المرأة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة في الشرع، كشهادة القابلة في النسب.
فإذا شهدت المرأة على العيب، فهناك روايتان عن كل واحد من الصاحبين:
في رواية عن أبي يوسف أنه يفرق بين ما إذا كان المبيع في يد البائع أو في يد المشتري.
فإن كان في يد البائع فيثبت العيب بشهادتها، ويرد المبيع، ويفسخ البيع، لأن ما لا يطلع عليه الرجال، فقول المرأة الواحدة بمنزلة البينة.
وإن كان في يد المشتري فيثبت حق الخصومة أي (حق الادعاء) بقولها، ولايثبت بالنسبة لحق الرد على البائع؛ لأن المبيع وجد معيباً في ضمان المشتري، فلا ينقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ثم يسأل القاضي البائع: (هل كان هذا العيب عندك) كما تبين في صورة العيب الباطن.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف قال: إن كان العيب مما لا يحدث مثله: يفسخ البيع بقول النساء؛ لأن العيب قد ثبت بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع بيقين.
وإن كان عيباً يحدث مثله، لم يثبت حق الفسخ بقولهن؛ لأن هذا مما يعلم من جهة غيرهن.
والروايتان عن محمد ما يأتي:
__________
(1) البدائع: 278/5، رد المحتار: 92/4.(5/236)
قال في رواية: لا يُفسخ البيع بقولهن بحال. وفي رواية: يفسخ قبل القبض وبعده بقولهن؛ لأن قولهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالبينة كما في النسب.
والحاصل أن شهادة المرأة الواحدة أو الثنتين يثبت بها العيب الذي لا يطلع عليه الرجال بالنسبة لحق إقامة الخصومة لا بالنسبة لحق الرد، سواء أكان العيب قبل القبض أم بعده في ظاهر الرواية عن علماء الحنفية الثلاث، فكان هو المذهب المعتمد (1) .
4 - وأما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولايعرف إلا بالتجربة:
كالإباق والجنون والسرقة والبول على الفراش، فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
إذا أثبت المشتري حدوث العيب عنده، يقول القاضي للبائع: (هل أبق عندك) فإن قال: (نعم) قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الإبراء، وإن أنكر الإباق أصلاً، وادعى اختلاف الحالة في هذا العيب بين الصغر والكبر، كما سلف بيانه، يقول القاضي للمشتري: (ألك بينة؟) فإن قال: (نعم) وأقام البينة على مايدعي، قضى عليه بالرد، وإن قال: (لا) يستحلف البائع بالله: (ماأبق عندك قط) فإن حلف انقطعت الخصومة بينهما، وإن نكل عن اليمين قضى عليه بالرد.
وإذا لم يستطع المشتري إثبات العيب عنده، هل يستحلف القاضي البائع على ذلك أو لا؟.
قال الصاحبان: يستحلف، وقال أبو حنيفة: لايستحلف.
__________
(1) البدائع: 279/5 ومابعدها، رد المحتار: 92/4 ومابعدها.(5/237)
دليلهما: أن المشتري يدعي حق الرد ولايمكنه الرد إلا بإثبات العيب عند نفسه، وطريق الإثبات: إما البينة أو نكول البائع، فإذا لم تقم له بينة يستحلف لينكل أي (البائع) فيثبت العيب عند نفسه، ولهذا يستحلف أي المشتري عند عدم البينة على إثبات العيب عند البائع فكذا هذا. ودليل أبي حنيفة: أن الاستحلاف يكون عقب الدعوى على البائع، ولا دعوى له على البائع إلا بعد ثبوت العيب عند نفسه، ولم يثبت، فلم تثبت دعواه على البائع، فلا يستحلف، والنكول لايكون إلا بعد الاستحلاف (1) .
وكيفية استحلاف البائع:
هي أن يحلف على العلم: لا على سبيل البت والقطع، فيقول: (بالله مايعلم أن هذا العيب موجود في هذا الشيء الآن) والسبب فيه: هو أنه يحلف على غير فعله، ومن حلف على غير فعله، يحلف على العلم لأنه لا علم له بما ليس بفعله، أما من حلف على فعل نفسه، فيحلف على البتات (أي بصيغة البت والجزم) فإن نكل أي البائع عن اليمين، ثبت العيب عند المشتري، فيثبت له حق الخصومة، وإن حلف برئ (2) .
المطلب الرابع ـ مقتضى الخيار وكيفية الفسخ والرد بالعيب
مقتضى الخيار: يترتب على ظهور العيب في المبيع أن يكون المشتري مخيراً بين أمرين:
إما أن يمضي العقد، وفي هذه الحالة يلتزم بأداء الثمن كاملاً؛ أو يفسخ العقد، فيسترد الثمن إن كان قد دفعه، ويعفى من أدائه إن لم يكن قد أداه، وعليه أن يرد العين المعيبة إذا كان قد تسلّمها (3) .
وقال الشافعية والحنابلة: إذا تعيب المبيع في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي، فيكون المشتري مخيراً بين قبوله ناقصاً بجميع الثمن، ولا شيء له، وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن (4) .
كيفية الفسخ والرد: المبيع لا يخلو من أحد حالين:
__________
(1) البدائع: 279/5، رد المحتار: 92/4.
(2) البدائع، المرجع السابق.
(3) فتح القدير: 151/5.
(4) الروضة للنووي: 504/3، المغني: 109/4 ومابعدها.(5/238)
1 - إما أن يكون في يد البائع، فينفسخ البيع بقول المشتري: «رددت» ولا يحتاج إلى قضاء القاضي، ولا إلى التراضي بالاتفاق بين الحنفية والشافعية.
2 - وإما أن يكون في يد المشتري، فلا ينفسخ إلا بقضاء القاضي أو بالتراضي عند الحنفية؛ لأن الفسخ بعد القبض يكون على حسب العقد؛ لأنه يرفع العقد، وبما أن العقد لا ينعقد بأحد العاقدين فلا ينفسخ بأحدهما من غير رضا
الآخر، ومن غير قضاء القاضي، بخلاف الفسخ قبل القبض؛ لأن الصفقة ليست تامة حينئذ، بل تمامها بالقبض، فكان بمنزلة القبض.
وعند الشافعي: ينفسخ العقد بقوله: «رددت» بغير حاجة إلى قضاء، ولا إلى رضا البائع؛ لأن الفسخ لا تفتقر صحته إلى القضاء، ولا إلى الرضا كالفسخ بخيار الشرط بالاتفاق، وبخيار الرؤية على أصل الحنفية (1) .
هل الفسخ بعد العلم بالعيب على الفور أو على التراخي؟
قال الحنفية والحنابلة: خيار الرد بالعيب على التراخي، ولا يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فمتى علم العيب فأخر الرد، لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا، وإذا أعلن المشتري البائع بالعيب وخاصمه في رد المبيع، ثم ترك مخاصمته بعدئذ، ورجع إليها وطلب الرد، فإن له أن يرد ما لم يمتنع الرد لمانع، لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي كالقصاص، ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به (2) .
__________
(1) البدائع: 281/5، مغني المحتاج: 57/2، المهذب: 284/1.
(2) رد المحتار: 93/4، المغني: 144/4، غاية المنتهى: 41/2.(5/239)
وقال الشافعية: يشترط أن يكون رد المبيع بعد العلم بالعيب على الفور، فلو علم ثم أخر رده بلا عذر؛ سقط حقه في الرد، والمراد بالفور: ما لا يعد تراخياً في العادة، فلو اشتغل بصلاة دخل وقتها، أو بأكل أو نحوه، فلا يكون تراخياً في العادة، فلا يمنع الرد، وكذا لو علم بالعيب، ثم تراخى لعذر كمرض أو خوف لص أو حيوان مفترس أو نحوه، فإن حقه لا يسقط، وإنما يكون له حق الرد بعد العلم بالعيب إذا لم يفعل ما يدل على الرضا، كاستعمال الحيوان ولبس الثوب أو نحوه.
ودليلهم: أن الأصل في البيع اللزوم، وعدم اللزوم عارض، ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال، فكان فورياً كالشفعة، فيبطل بالتأخير بغير عذر (1) .
المطلب الخامس ـ موانع الرد بالعيب وسقوط الخيار
يمتنع الرد بالعيب ويسقط الخيار بعد ثبوته ويلزم البيع بأسباب، منها: ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب. ومنها: ما لا يكون البائع ملتزماً فيها بضمان العيوب من أول الأمر.
أما ما يكون بعد ثبوت التزام البائع بضمان العيب فهي (2) :
1 - الرضا بالعيب بعد العلم به، إما صراحة كأن يقول: رضيت بالعيب أو أجزت البيع، أو دلالة كالتصرف في المبيع تصرفاً يدل على الرضا بالعيب كصبغ الثوب أو قطعه، أو البناء على الأرض أو طحن الحنطة أو شيّ اللحم، أو بيع الشيء أو هبته أو رهنه ولو بلا تسليم أو استعماله بأي وجه كلبس الثوب وركوب الدابة أو مداواة المبيع ونحوها كما ذكر في مبحث خيار الشرط، أو وصول عوض العيب إلىه حقيقة، أو اعتباراً كأن يقتله أجنبي وهو في يده خطأ، فيأخذ قيمته منه.
__________
(1) مغني المحتاج: 56/2، المهذب: 274/1.
(2) البدائع: 282/5، 291، رد المحتار: 94/4، 103.(5/240)
وذلك لأن حق الرد لفوات السلامة المشروطة في العقد ضمناً، ولَّما رضي المشتري بالعيب بعد العلم به، دل على أنه ما شرط السلامة، ولأنه إذا رضي بالعيب فقد رضي بالضرر: وهو إسقاط ضمان العيب الذي يعوض به عن الجزء المعيب، وفي حالة العوض: إذا حصل التعويض، فكأن الجزء المعيب عاد سليماً
معنىً، بقيام بدله، وهذا في ظاهر الرواية، لأنه لما وصلت إليه قيمته، قامت القيمة مقام العين، فصار كأنه باعه.
2 - إسقاط الخيار صراحة أو في معنى الصريح: مثل أن يقول المشتري: أسقطت الخيار أو أبطلته، أو ألزمت البيع أو أوجبته، وما يجري مجراه.
وأما ما يمنع الرد دون أن يكون البائع ملتزماً بالضمان من أول الأمر فهو مايأتي:
1 - المانع الطبيعي: وهو هلاك المبيع بآفة سماوية، أو بفعل المبيع، أو باستعمال المشتري كأكل الطعام، فيمتنع الرد في هذه الحالات لهلاك المبيع، ويثبت للمشتري حق الرجوع على البائع بنقصان العيب (1) .
2 - المانع الشرعي: وهو أن يحدث في المبيع قبل القبض زيادة متصلة غير متولدة من الأصل كصبغ الثوب والبناء على الأرض، أو يحدث بعد القبض زيادة متصلة غير متولدة أو زيادة منفصلة متولدة كالولد والثمرة. وأما بقية أنواع الزيادات فلا تمنع الرد.
وتفصيله ما يأتي (2) :
الزيادة في المبيع: إما أن تحدث قبل القبض أو بعده، وكل منها إما متصلة أو منفصلة.
فالزيادة الحادثة قبل القبض:
__________
(1) البدائع: 282/5، رد المحتار: 86/4، 99، مجمع الضمانات: ص 219، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 110، مغني المحتاج: 54/2.
(2) البدائع: 284/5 ومابعدها، التقريرات على رد المحتار: 85/4، 98، عقد البيع، المرجع المذكور: ص 111.(5/241)
1 - إذا كانت متصلة: فإما أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال والكبر والسمن ونحوها، فلا تمنع الرد، لأنها تابعة للأصل حقيقة.
أو تكون غير متولدة كصبغ الثوب أو خياطته، وكالبناء أو الغرس على الأرض، فتمنع الرد؛ لأنها أصل قام بذاته، وليست تابعة، فلا يرد المبيع بدونها، لتعذر الرد، ولا يرد معها، لأنها ليست تابعة في البيع فلا تتبع في الفسخ.
2 - وإن كانت منفصلة:
فإما أن تكون أيضاً متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فلا تمنع الرد، فإن شاء المشتري ردهما جميعاً، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن.
أو أن تكون غير متولدة، كالكسب والصدقة والغلة، فلا تمنع الرد؛ لأنها ليست بمبيعة، وإنما هي مملوكة بملك الأصل.
وأما الزيادة الحادثة في المبيع بعد القبض (أي عند المشتري) :
1 - إن كانت زيادة متصلة.
فإن كانت متولدة من الأصل كسمن الدابة، فلا تمنع الرد عند الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية (1) ، ويبقى حكم العيب معها على موجبه الأصلي: فإن رضي المشتري أن يردها مع الأصل ردها، وإن أبى وأراد أن يأخذ نقصان العيب، وأبى البائع إلا الرد ودفع جميع الثمن، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ليس للبائع أن يأبى وللمشتري أخذ نقصان العيب منه؛ لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع الفسخ عندهما إذا لم يوجد الرضا من صاحب الزيادة.
وقال محمد: له أن يأبى الرد، وليس للمشتري أن يرجع بالنقصان عليه (أي على البائع) لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ، وأصل الخلاف راجع إلى حكم الزيادة المتصلة بالمهر بعد القبض إذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول.
__________
(1) مغني المحتاج: 61/2، المغني: 144/4، حاشية الدسوقي: 121/3.(5/242)
وإن كانت غير متولدة: فإنها تمنع الرد بالاتفاق؛ لأن هذه الزيادة ملك للمشتري، فلا يحق للبائع عندئذ أخذها بلا مقابل، ويتعين الرجوع بنقصان العيب.
2 - وإن كانت زيادة منفصلة: فإن كانت متولدة من الأصل كالولد والثمرة واللبن، فإنها تمنع الرد عند الحنفية؛ لأنها لو رد الأصل دونها تبقى للمشتري بلا مقابل، وهو ممنوع شرعاً، لأنه ربا.
وقال الشافعية والحنابلة: لا تمنع هذه الزيادة الرد، وهي للمشتري بعد القبض، لأنها حدثت في ملك المشتري، فلا تمنع الرد، كالزيادة غير المتولدة، ولما روي «أن رجلاً ابتاع من آخر غلاماً، فأقام عنده ما شاء الله، ثم وجد به عيباً، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فرده عليه، فقال: يا رسول الله، قد استغل غلامي، فقال: الخراج بالضمان» (1) ومعناه أن فوائد المبيع للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان من ضمانه، وقيس الثمن على المبيع.
وإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والصدقة، لم يمتنع الرد، ويرد الأصل على البائع، والزيادة للمشتري طيبة له؛ لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلاً، فأمكن فسخ العقد بدون الزيادة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، وهذه رواية أبي داود. ومعنى الخراج بالضمان أي الغنم بالغرم إذ أن الخراج هو الدخل والمنفعة، أي يملك المشتري الخراج الحاصل من المبيع بضمان الأصل الذي عليه أي بسببه، فالباء للسببية (انظر جامع الأصول: 28/2، نيل الأوطار: 213/5) .(5/243)
3 - المانع بسبب حق البائع: وهو حدوث عيب جديد عند المشتري بعد قبضه، إذا كان المبيع معيباً بعيب قديم عند البائع، كأن انكسرت يد الدابة المبيعة عند المشتري، وظهر فيها مرض قديم كان عند البائع؛ لأن المبيع خرج عن ملك البائع معيباً بعيب واحد، فلو رد يرد بعيبين، فيتضرر البائع. وشرط الرد أن يرد على الوجه الذي أخذ، وإنما يكون للمشتري أن يرجع على بائعه بالنقصان. ولو زال العيب الحادث، كما لو شفيت الدابة المريضة، عاد الموجب الأصلي: وهو حق الرد (1) .
4 - المانع بسبب حق الغير: كما لو أخرج المشتري المبيع عن ملكه بعقد من عقود التمليك كبيع أو هبة أوصلح، ثم اطلع على أنه كان معيباً بعيب قديم، فلا يمكن المشتري الأول أن يفسخ البيع بينه وبين بائعه، لأنه قد تعلق بالمبيع حق مالك جديد، أنشأه المشتري نفسه (2) .
5 - إتلاف المشتري المبيع:
كما لو كان المبيع دابة فقتلها، أو ثوباً فمزقه ونحوه، ثم علم بوجود العيب القديم فيه، فيستقر عليه الثمن المسمى نهائياً دون رجوع بنقصان. والفرق بين هذا العيب وبين المانع بسبب حق الغير: أنه في الحالة الثانية يحتمل زوال المانع، فيعود حق الرد، وفي الحالة الأولى لا يحتمل زواله (3) .
__________
(1) البدائع: 283/5، رد المحتار: 82/4، 101، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 111.
(2) عقد البيع، المرجع السابق.
(3) عقد البيع: ص 112 ومابعدها.(5/244)
وإذا حصل في المبيع عيب عند المشتري، ثم اطلع على عيب كان عند البائع فله أن يرجع بالنقصان على البائع ولا يرد المبيع إلا أن يرى البائع أخذ المبيع بعينه فله أخذه. وتعتبر قيمة النقصان يوم البيع (1) .
والخلاصة: أنه يجوز الرجوع على البائع للمطالبة بفرق نقصان العيب في حالات ثلاث: هي هلاك المبيع، وتعيبه بعيب جديد، وتغيير صورته بحيث أصبح له اسم جديد.
ويلاحظ أن الكلام في هذه الموانع المذكورة فيما إذا كان المشتري عاقداً لنفسه، فإن كان عاقداً لغيره ففيه تفصيل:
إذا كان العاقد لغيره ممن يجوز أن تلزمه الخصومة (أي الادعاء) في الرجوع بنقصان العيب كالوكيل، والشريك، والمضارب، فتلزمه الخصومة، ويقوم برد المبيع المعيب على البائع؛ لأن الرد بالعيب من حقوق العقد، وحقوق العقد ترجع إلى العاقد إذا كان ممن تلزمه الخصومة كالعاقد لنفسه، فما قضي به على العاقد ـ إن كان وكيلاً بالبيع ـ رجع به على من وقع له العقد، لكونه قائماً مقامه (2) .
وإذا كان العاقد ممن لا تلزمه الخصومة كالقاضي والإمام إذا عقدا عقداً بحكم الولاية، فإنه ينصب خصماً يخاصم في العيب، فما قضي به عليه، رجع في مال من وقع التصرف له، وإن كان التصرف للمسلمين رجع في بيت مالهم.
وأما العاقد: إذا كان صبياً محجوراً، فباع أو اشترى بإذن إنسان، فلا تلزمه الخصومة، ولا ضمان عليه، وإنما الخصومة على من وكله في التصرف؛ لأن حكم العقد وقع للموكل، والعاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي حقوق العقد) فيقتصر دوره على مباشرة التصرف لا غير، كالرسول والوكيل في عقد النكاح.
__________
(1) مجمع الضمانات: ص 220، فتح القدير: 164/5.
(2) رد المحتار: 89/4.(5/245)
المطلب السادس ـ آراء الفقهاء في شرط البراءة عن العيوب
اختلف الفقهاء فيما إذا شرط البائع براءته من ضمان العيب (أي عدم مسؤوليته عما يمكن أن يظهر من عيوب في المبيع) فرضي المشتري بهذا الشرط، اعتماداً على السلامة الظاهرة ثم ظهر في المبيع عيب قديم (1) .
قال الحنفية: يصح البيع بشرط البراءة من كل عيب (2) وإن لم تعين العيوب بتعداد أسمائها، سواء أكان جاهلاً وجود العيب في مبيعه فاشترط هذا الشرط احتياطاً، أم كان عالماً بعيب المبيع، فكتمه عن المشتري، واشترط البراءة من ضمان العيب ليحمي بهذا الشرط سوء نيته، فيصح البيع، لأن الإبراء إسقاط، لا تمليك، والإسقاط لا تفضي الجهالة فيه إلى المنازعة، لعدم الحاجة إلى التسليم. ويشمل هذا الشرط كل عيب موجود قبل البيع أو حادث بعده قبل القبض، فلا يرد المبيع بالعيب حينئذ. وهذا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن غرض البائع إلزام العقد بإسقاط المشتري حقه في وصف سلامة المبيع، ليلزم البيع على كل حال، ولا يتحقق هذا الغرض إلا بشمول العيب الحادث قبل التسليم، فكان داخلاً ضمناً.
وقال محمد وزفر والحسن بن زياد ومالك والشافعي، وهو المعمول به في قانوننا المدني: يشمل البراءة العيب الموجود عند العقد فقط، لا الحادث بعد العقد وقبل القبض؛ لأن البراءة تتناول الشيء الثابت الموجود، بسبب أن الإبراء عن المعدوم لا يتصور، والحادث لم يكن موجوداً عند
__________
(1) المدخل الفقهي العام: ص 377، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 107.
(2) للناس عبارات مختلفة في شرط البراءة عن العيوب مثل بيع الشيء على أنه حاضر حلال، أو على أنه مكسر محطم، أو كوم تراب أو عظام، أو حراق على الزناد، أو لا يصلح لشيء أو لأجل الطرح. وفي بيع الدابة يقولون: على أنها لحم: أي لا ينتفع من حياتها بعمل (رد المحتار: 100/4، عقد البيع: ص 117) .(5/246)
البيع، فلا يدخل تحت الإبراء (1) .
وهذا الخلاف فيما إذا قال: (أبرأتك عن كل عيب مطلقاً) فأما إذا قال: (أبيعك على أني بريء من كل عيب به) لم يدخل فيه العيب الحادث بالاتفاق، لأنه لم يعمم البراءة، وإنما خصها بالموجود عند العقد.
وبناء على قول محمد وزفر والحسن: إذا كانت البراءة من العيوب عامة فاختلف البائع والمشتري في وجود عيب، فقال البائع: كان موجوداً عند العقد، فدخل تحت البراءة، وقال المشتري: بل هو حادث لم يدخل تحت البراءة، وبناء عليه، قال محمد: القول قول البائع، مع يمينه؛ لأن البراءة عامة والمشتري يدعي حق الرد بعد عموم البراءة عن حق الرد بالعيب، والبائع ينكر ذلك، فكان القول قوله.
وقال زفر والحسن: القول قول المشتري لأن الأصل هو ثبوت الحق، والمشتري هو المبرئ، فيكون القول قوله في مقدار البراءة (2) .
ويشمل هذا الشرط أيضاً كل عيب من العيوب الظاهرة والباطنة؛ لأن اسم العيب يقع على الكل.
__________
(1) البدائع: 227/5، فتح القدير: 182/5، رد المحتار: 100/4.
(2) البدائع: 277/5.(5/247)
فإذا قال: (أبرأتك عن كل داء) فيقع على كل عيب ظاهر، دون الباطن من طحال ونحوه عند أبي يوسف. وروي عن أبي حنيفة أنه يقع على كل عيب باطن، من طحال أو فساد حيض وأما العيب الظاهر فيسمى مرضاً.
وقد رجح بعضهم وهو صاحب الدر المختار الرأي الثاني اعتماداً على ما هو المعروف في العادة، إلا أن المشهور في المذهب هو الأول أي يقع على كل مرض؛ لأن الداء في اللغة هو المرض، سواء أكان بالجوف أم بغيره، والعرف الآن موافق للغة (1) أي أن الداء هو المرض.
ولو أبرأ البائع عن كل غائلة (2) فيقع على السرقة والإباق والفجور، وكل ما يعد عيباً عند التجار (3) .
وإذا خصص الإبراء عن بعض العيوب لم يشمل غيرها، كأن يبرئ من القروح أو الكي أو نحوها، لأنه أسقط حقه من نوع خاص (4) .
فإذا كانت البراءة خاصة بعيب موجود عند العقد سماه المشتري، ثم اختلف المتعاقدان، فقال البائع: (كان بها) وقال المشتري: (حدث قبل القبض) فقال محمد: القول قول المشتري لأن هذه البراءة خاصة بحال العقد، لا تتناول إلا الموجود حالة العقد، والمشتري يدعي العيب لأقرب الوقتين، والبائع يدعيه لأبعدهما، فكان الظاهر شاهداً للمشتري (5) .
__________
(1) رد المحتار: 100/4، البدائع: 278/5.
(2) الغائلة: الفجور أي (الزنا) ، والإباق، والسرقة، ونحو ذلك.
(3) البدائع: 278/5، رد المحتار، المرجع السابق.
(4) البدائع: 277/5.
(5) البدائع: 278/5.(5/248)
هذا هو مذهب الحنفية في شرط البراءة عن العيوب عموماً.
وأما مذاهب غيرهم من حيث العلم بالعيب والجهل به فهي ما يلي:
قال المالكية: إن شرط البراءة عن العيوب لا يصح إلا في عيب في الرقيق لايعلم به البائع، وطالت إقامة الرقيق عند بائعه. أما ما يعلم به، أو كان في غير الرقيق، أو في رقيق لم تطل إقامته عند بائعه (مالكه) فلا تصح البراءة عنه (1) .
وقال الشافعية: لو باع بشرط براءته من العيوب، فالأظهر أنه يبرأ عن كل عيب باطن بالحيوان خاصة، إذا لم يعلمه البائع، ولا يبرأ عن عيب بغير الحيوان، كالثياب والعقار مطلقاً، ولا عن عيب ظاهر بالحيوان، علمه، أم لا، ولا عن عيب باطن بالحيوان كان قد علمه. والمراد بالباطن: ما لا يطلع عليه غالباً.
وينصرف الإبراء إلى العيب الموجود عند العقد، لا الذي حدث قبل القبض. ولو اختلف المتعاقدان في قدم العيب فيصدق البائع.
ولو شرط البائع البراءة عما يحدث من العيوب قبل القبض ولو مع الموجود منها، لم يصح الشرط في الأصح؛ لأنه إسقاط للشيء قبل ثبوته، كما لو أبرأ عن ثمن ما يبيعه له (2) .
وأما الحنابلة فعندهم روايتان عن أحمد: رواية تقرر أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب، وهو قول الشافعي، ورواية: تقرر أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيب علمه.
واختار ابن قدامة وغيره أن من باع حيواناً أو غيره بالبراءة من كل عيب أو من عيب معين موجود: لم يبرأ، سواء علم به البائع أو لم يعلم (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي: 119/3، القوانين الفقهية: ص 265، الشرح الصغير: 164/3.
(2) مغني المحتاج: 53/2.
(3) المغني: 178/4، غاية المنتهى: 27/2.(5/249)
14 - خيار الرؤية
يذكر بعض المؤلفين هذا الخيار قبل خيار العيب، لكونه أقوى منه، لأنه يمنع تمام البيع، أما خيار العيب فيمنع لزوم الحكم، واللزوم بعد التمام. وإني خالفت ذلك لتشابه خيار الشرط وخيار العيب، كما أشرت سابقاً، ثم إن خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار التعيين ثبتت باشتراط المتعاقدين، أما خيار الرؤية فقد ثبت من ناحية الشرع.
خطة الموضوع:
الكلام في هذا الخيار على وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: مشروعية خيار الرؤية.
المطلب الثاني: وقت ثبوت الخيار.
المطلب الثالث: كيفية ثبوت الخيار.
المطلب الرابع: صفة البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه.
المطلب الخامس: شرائط ثبوت الخيار، وتوابعها.
المطلب السادس: مسقطات الخيار.
المطلب السابع: ما ينفسخ به العقد وشروط الفسخ.
المطلب الأول ـ مشروعية خيار الرؤية
أجاز الحنفية خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري وله الخيار إذا رآه: إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذا إذا قال: رضيت، ثم رآه: له أن يرده، لأن الخيار معلق بالرؤية، كما في الحديث الآتي، ولأن الرضا بالشيء قبل العلم بأوصافه لا يتحقق فلا يعتبر قوله: (رضيت) قبل الرؤية بخلاف قوله: (رددت) .
استدلوا على خيار الرؤية بقوله عليه السلام فيما يرويه أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما: «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه» (1) .
واستدلوا أيضاً بما روي أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه باع أرضاً له من طلحة بن عبد الله رضي الله عنهما، ولم يكونا رأياها، فقيل لطلحة: (غبنت) ، فقال: «لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره» فحكّما في ذلك جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة رضي الله عنه (2) ، أي للمشتري دون البائع وإن باع مالم يره.
وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكر عليه أحد منهم، فكان إجماعاً منهم على شرعية هذا الخيار.
واستدلوا أيضاً بالمعقول: وهو أن جهالة الوصف تؤثر في الرضا، فتوجب خللاً فيه، واختلال الرضا في البيع يوجب الخيار.
وبناء على هذا، أجازوا بيع العين الغائبة من غير صفة، ويثبت للمشتري حينئذ خيار الرؤية، أو بصفة مرغوبة، ويثبت له خيار الوصف، كما سبقت الإشارة إليه، فإذا رأى المشتري المبيع، كان له الخيار فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده، سواء أكان موافقاً للصفة أم لا، فيثبت الخيار بكل حال.
ولم يجز الحنفية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم يره كما إذا ورث عيناً من الأعيان في بلد غير الذي هو فيه، فباعها قبل الرؤية، صح البيع، ولاخيار له عندهم. وقد رجع أبو حنيفة عما كان
__________
(1) روي مسنداً ومرسلاً، فالمسند عن أبي هريرة، والمرسل عن مكحول رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، نقل النووي اتفاق الحفاظ على تضعيفه. وقد سبق تخريجه في بيع العين الغائبة.
(2) أخرجه الطحاوي والبيهقي عن علقمة بن أبي وقاص أن طلحة اشترى من عثمان مالاً.. الحديث (انظر نصب الراية: 9/4) .(5/250)
يقول أولاً بأن له الخيار، كما للمشتري، وكما هو الأمر في خيار الشرط وخيار العيب (1) .
والتفرقة بين البائع والمشتري في هذا أمر معقول؛ لأن البائع يعرف ما يبيعه أكثر من المشتري، فلا ضرورة لثبوت الخيار له، وعليه أن يتثبت قبل البيع، حتى لا يقع عليه غبن يطلب من أجله فسخ العقد (2) .
وأجاز المالكية خيار الوصف للمشتري فقط، فقالوا: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه صفته قبل القبض، فإذا جاء على الصفة، صار العقد لازماً (3) .
والحنابلة أجازوا أيضاً كالمالكية خيار الوصف فقط فقالوا: يجوز بيع الغائب إذا وصف للمشتري، فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، لأنه بيع بالصفة، فصح كالسلم. وتحصل بالصفة معرفة المبيع؛ لأن معرفته تحصل بالصفات الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، وهذا يكفي كما يكفي في السلم، ولا يعتبر في الرؤية الاطلاع على الصفات الخفية، ومتى وجده المشتري على الصفة المذكورة صار العقد لازماً، ولم يكن له الفسخ.
ولم يجيزوا في أظهر الروايتين بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته في غير حالة بيع البرنامج المذكورة سابقاً عند المالكية في بيع العين الغائبة من البيوع الفاسدة؛ لأن النبي صلّى الله عليه
__________
(1) المبسوط: 69/13 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 137/5-140، البدائع: 292/5، رد المحتار: 68/4.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 481.
(3) بداية المجتهد: 154/2، حاشية الدسوقي: 25/3 ومابعدها.(5/251)
وسلم «نهى عن بيع الغرر» (1) ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له، فلم يصح، كبيع النوى في التمر.
وأثبت الحنابلة والظاهرية خيار الرؤية للبائع إذا باع ما لم ير، ووصفه للمشتري.
وأما حديث خيار الرؤية فهو مروي عن عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متروك الحديث، ويحتمل أن يراد بالحديث: أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه (2) .
وقال الشافعي في المذهب الجديد: لا ينعقد بيع الغائب أصلاً، سواء أكان بالصفة، أم بغير الصفة، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الغرر» وفي هذا البيع غرر، وبما أنه من أنواع البيوع، فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم، ثم إنه داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أي ما ليس بحاضر أو مرئي للمشتري. وأما حديث «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» فهو حديث ضعيف كما قال البيهقي، وقال الدارقطني عنه: «إنه باطل» .
وبناء على الأظهر من اشتراط رؤية المبيع قالوا: تكفي رؤية المبيع قبل العقد
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة ورواه أيضاً الطبراني في الكبير عن ابن عباس، وفي الأوسط عن ابن عمر وسهل بن سعد (وقد سبق تخريجه) .
(2) المغني: 580/3 ومابعدها، المحلى: 394/8 وما بعدها.(5/252)
فيما لا يتغير غالباً إلى وقت العقد كالأرض والحديد، دون ما يتغير غالباً كالأطعمة، وتكفي رؤية بعض المبيع إن دل على باقيه، كظاهر الصبرة من حنطة ونحوها، وجوز ونحوه، وأدقة (جمع دقيق) وكأعالي المائعات في أوعيتها كالدهن، وأعلى التمر في قوصرته (وعاء من قصب يجعل فيه التمر ونحوه) والطعام في آنيته، وكأنموذج المتماثل أي (المتساوي الأجزاء) كالحبوب، فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع (1) .
ورد الحنفية على حجج غيرهم بأن جهالة المبيع غير المرئي لا تؤدي للنزاع مطلقاً ما دام للمشتري أن يرد المبيع إذا لم يره محققاً لرغبته ويفسخ العقد.
وحديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان (2) : معناه النهي عن بيع ما لا يملك. والنهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين (3) .
المطلب الثاني ـ وقت ثبوت الخيار
يثبت الخيار للمشتري عند رؤية المبيع، لا قبلها فلو أجاز البيع قبل الرؤية: لايلزم البيع، ولايسقط الخيار، وله أن يرد المبيع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبت الخيار للمشتري بعد الرؤية، فلو ثبت له خيار الإجازة قبل الرؤية، وأجاز، لم يثبت له الخيار بعد الرؤية، وهذا خلاف نص الحديث.
وأما الفسخ قبل الرؤية فقد اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: لا يملك المشتري الفسخ، لأنه خيار قبل الرؤية، ولهذا لم يملك الإجازة قبل الرؤية، فلا يملك الفسخ.
وقال بعضهم: يملك الفسخ وهو الصحيح، لا لسبب الخيار، لأنه غير ثابت، ولكن لأن شراء ما لم يره المشتري عقد غير لازم، فكان محل الفسخ، كالعقد الذي فيه خيار العيب، وعقد الإعارة والإيداع (4) .
المطلب الثالث ـ كيفية ثبوت الخيار
اختلف مشايخ الحنفية فيها:
فقال بعضهم: إن خيار الرؤية يثبت مطلقاً في جميع العمر، إلا إذا وجد ما يسقطه، كما سيأتي في بيان المسقطات، وهو اختيار الكرخي، والأصح عند الحنفية، لأنه خيار تعلق بالاطلاع على حال المبيع، فأشبه الرد بالعيب، ولأن سبب ثبوت هذا الخيار هو اختلال الرضا، والحكم يبقى ما بقي سببه.
وقال بعضهم: إنه يثبت مؤقتاً إلى غاية إمكان الفسخ بعد الرؤية، حتى لو رآه وتمكن من الفسخ بعد الرؤية، ولم يفسخ، يسقط خيار الرؤية، وإن لم توجد الأسباب المسقطة للخيار (5) الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال الحنابلة: يكون خيار الرؤية على الفور (6) .
__________
(1) مغني المحتاج: 18/2 ومابعدها، المهذب: 263/1.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي، وقد سبق تخريجه مختصراً.
(3) المبسوط: 69/13 ومابعدها.
(4) البدائع: 295/5.
(5) فتح القدير:141/5، البدائع: 295/5، رد المحتار: /67.
(6) المغني: 581/3.(5/253)
المطلب الرابع ـ صفة البيع الذي فيه خيار رؤية وحكمه
صفة البيع: إن شراء ما لم يره المشتري غير لازم، فيخير المشتري بين الفسخ والإجازة إذا رأى المبيع؛ لأن عدم الرؤية يمنع تمام الصفقة، ولأن جهالة وصف البيع تؤثر في رضا المشتري، فتوجب الخيار له، تداركاً لما عساه يندم من أجله، وذلك سواء أكان المبيع موافقاً للوصف المذكور أم مخالفاً له، هذا مذهب الحنفية (1) . وقال المالكية والحنابلة والشيعة الإمامية: البيع لازم للمشتري إذا وجد المبيع مطابقاً للصفة المذكورة، فإن كان مخالفاً لما وصف، فللمشتري الخيار (2) .
وقال الظاهرية: البيع لازم إن طابق الصفة، أما إن خالفها فالبيع باطل (3) .
حكم البيع: وأما حكم البيع فهو حكم العقد الذي لا خيار فيه، فلا يمنع ثبوت الملك في البدلين، أي أنه في البيع تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري، وملكية الثمن للبائع فور تمام العقد بالإيجاب والقبول، ولكن يمنع لزوم العقد، بخلاف خيار الشرط.
وسبب التفرقة بين الخيارين: هو أن البيع في خيار الرؤية صدر مطلقاً غير مقيد بأي شرط، وكان المفهوم أن يكون لازماً، إلا أن الرد بخيار الرؤية ثبت من جهة الشرع، أما خيار الشرط فقط ثبت باشتراط المتعاقدين، فكان له أثره في العقد يمنع استقرار حكمه في الحال، كما سبق بيانه (4) .
__________
(1) البدائع: 292/5، فتح القدير: 137/5.
(2) القوانين الفقهية: ص 256، المغني: 582/3، المختصر النافع: ص 146.
(3) المحلى: 8 ص 389، 394.
(4) البدائع، المكان السابق.(5/254)
المطلب الخامس ـ شرائط ثبوت الخيار
يشترط لثبوت الخيار شروط، وإلا كان العقد لازماً، منها:
1 - أن يكون محل العقد مما يتعين بالتعيين، أي أن يكون عيناً من الأعيان، فإذا لم يكن عيناً لا يثبت فيه الخيار، حتى لو كان البيع مقايضة عيناً بعين يثبت الخيار لكل من البائع والمشتري إذا لم ير كل منهما المبيع قبل العقد (1) .
وفي بيع الدين بالدين وهو عقد الصرف: لا يثبت الخيار لكل من البائع والمشتري، لأنه لا فائدة فيه، كما سيأتي بيانه.
وفي بيع العين بالدين: يثبت الخيار للمشتري ولا خيار للبائع.
والسبب فيه أن محل العقد إذا لم يكن معيناً لا يصير معيناً للفسخ بموجب الخيار، فلم يكن الرد مفيداً، ولأن مالا يتعين بالتعيين لا يملك بالعقد، بل بالقبض، والفسخ إنما يكون فيما يملك بالعقد، ولأن الحق إذا كان عيناً فللناس أغراض في الأعيان، فكان ثبوت الخيار فيه لينظر المشتري في المبيع: هل يصلح له أو لا؟
وبناء عليه، يكون خيار الرؤية في العقود التي تحتمل الفسخ، كالبيع والإجارة والصلح عن دعوى المال، والقسمة، ونحوها؛ لأن هذه العقود تنفسخ برد هذه الأشياء، فيثبت فيها خيار الرؤية، ولا يثبت فيما لا يحتمل الفسخ، كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، ونحوها؛ لأن هذه العقود لا تحتمل الانفساخ برد هذه الأموال، فصار الأصل أن: «كل ما ينفسخ العقد فيه برده، يثبت خيار الرؤية فيه، وما لا فلا» كما يقول الكاساني (2) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) البدائع، المرجع السابق.(5/255)
2 - عدم رؤية محل العقد: إن كان رآه قبل الشراء لا يثبت له الخيار، إذا كان لا يزال على حالته التي رآه فيها، وإلا كان له الخيار لتغيره، فكان مشترياً شيئاً لم يره (1) .
كيفية تحقيق الرؤية:
الرؤية قد تكون لجميع المبيع، وقد تكون لبعضه، والضابط فيه: أنه يكفي رؤية ما يدل على المقصود، ويفيد المعرفة به (2) .
وتفصيله: أنه إذا كان غير المرئي تبعاً للمرئي، فلا خيار له سواء أكان رؤية ما رآه تفيد له العلم بحال ما لم يره، أو لا تفيد، لأن حكم التبع حكم الأصل.
وإن لم يكن غير المرئي تبعاً للمرئي، فإن كان مقصوداً بنفسه كالمرئي، ينظر في ذلك:
إن كان رؤية مارأى تعرف حال غير المرئي، فإنه لا خيار له أصلاً في غير المرئي إذا كان غير المرئي مثل المرئي، أو فوقه؛ لأن المقصود العلم بحال الباقي، فكأنه رأى الكل.
وإن كان رؤية ما رأى لم تعرف حال غير المرئي، فله الخيار فيما لم يره؛ لأن المقصود لم يحصل برؤية ما رأى، فكأنه لم ير شيئاً أصلاً.
وبناء عليه: تكفي رؤية ظاهر الكومة من الحبوب، ووجه الدابة وكَفَلها (أي عجزها) في الأصح، وهو قول أبي يوسف. واكتفى محمد برؤية الوجه وظاهر الثوب وهو مطوي• وقال زفر: لابد من نشره كله، وهو المختار• كما في أكثر معتبرات كتب الحنفية• وعقب عليه ابن عابدين بقوله: لو لم يختلف باطن الثوب عن ظاهره سقط الخيار إلا إذا ظهر باطنه أردأ من ظاهره، فله الخيار (3) •
وفي شراء الشاة للحم لا بد من الجس حتى يعرف سمنها، حتى لو رآها من بعيد، فهو على خياره؛ لأن اللحم مقصود من شاة اللحم، والرؤية من بعيد لا تفيد العلم بهذا المقصود، وإن اشتراها للدر والنسل فلا بد من رؤية سائر جسدها، ومن النظر إلى ضرعها أيضاً؛ لأن الضرع مقصود من الشاة الحلوب، والشياه تختلف باختلاف الضرع، والرؤية من بعيد لا تفيد العلم بالمقصود، كما ذكر (4) •
وأما البسط والطنافس: فإن كان مما يختلف وجهه وظهره، فرأى وجهه دون ظهره لا خيار له، وإن رأى ظهره دون الوجه فله الخيار•
وأما الدور والعقارات والبساتين، فإن رأى ظاهر الدار وداخلها ورأى خارج البستان ورؤوس الأشجار فلا خيار له، ولا يكتفي برؤية صحن الدار، دون الدخول إلى بيوتها في الأصح، لتفاوت الدور•
وكان أئمة الحنفية ما عدا زفر يرون الاكتفاء برؤية ظاهر الدار وبرؤية صحنها، إلا أن ذلك لا يكفي الآن، فيكون الحكم متغيراً من باب اختلاف العصر والزمان، لا اختلاف الحجة والبرهان (5) •
__________
(1) المبسوط: 72/13، البدائع، المرجع السابق: ص 292-293.
(2) البدائع: 293/5، رد المحتار: 68/4.
(3) المبسوط: 72/13، البدائع: 293/5 ومابعدها، فتح القدير: 142/5 ومابعدها، رد المحتار: 69/4.
(4) البدائع، المرجع السابق، رد المحتار: 70/4، فتح القدير: 143/5.
(5) البدائع: 294/5، رد المحتار: 70/4، فتح القدير: 144/5.(5/256)
هذا إذا كان المعقود عليه شيئاً واحداً، فإذا كان أشياء: فإن كان من العدديات المتفاوتة كالدواب والثياب، كأن اشترى ثياباً في جراب أو قطيع غنم أو إبلاً أو بقراً، وكالبطيخ في الشريجة (1) والرمان والسفرجل في القفة، ونحوها، فرأى بعضها، فله الخيار في الباقي؛ لأن الكل مقصود، ورؤية ما رأى لا تعرّف حال الباقي، لأنها متفاوتة.
وإن كان من المكيلات أو الموزونات أو العدديات المتقاربة كالجوز والبيض، فإن رؤية البعض تسقط الخيار في الباقي إذا كان ما لم ير مثل الذي رأى، لأن رؤية البعض من هذه الأشياء تعرف حال الباقي.
هذا إذا كان المبيع كله في وعاء واحد، فإن كان في وعاءين: فإن كان من جنسين أو من جنس واحد على صفتين فله الخيار بلا خلاف؛ لأن رؤية البعض من جنس أوعلى وصف لا تفيد العلم بغيره.
وإن كان الكل من جنس واحد أو على صفة واحدة، اختلف المشايخ فيه:
قال مشايخ بلخ: له الخيار لأن اختلاف الوعاءين جعلهما كجنسين. وقال مشايخ العراق: لا خيار له، وهو الصحيح؛ لأن رؤية البعض من هذا الجنس تفيد العلم بالباقي، سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين (2) .
وإن كان المبيع مغيباً في الأرض: لا في الوعاء، كالجزر والبصل والثوم، والفجل، والبطاطا، ففيه تفصيل مروي عن أبي يوسف رحمه الله:
آـ إذا كان الشيء مما يكال أو يوزن بعد القلع، كالثوم والبصل والجزر: فإن قلع المشتري شيئاً بإذن البائع، أو قلع البائع برضا المشتري، سقط خياره في الباقي؛ لأن رؤية بعض المكيل كرؤية الكل.
__________
(1) الشريجة: جوالق كالخرج، ينسج من سعف النخل ونحوه.
(2) البدائع: 294/5، حاشية الشلبي على الزيلعي: 26/4.(5/257)
وإن حصل القلع من المشتري بغير إذن البائع، لم يكن له الخيارسواء رضي بالمقلوع، أو لم يرض إذا كان المقلوع شيئاً له قيمة عند الناس لأنه بالقلع صار معيباً، وإلا لاستمر في نموه وازدياده، وبعد القلع لا ينمو ولا يزيد، ويتسارع إليه الفساد. وحدوث العيب في المبيع في يد المشتري بغير صنعه، يمنع الرد، فمع صنعه أولى.
ب ـ وإن كان المغيب في الأرض مما يباع عدداً، كالفجل والجزر ونحوهما فرؤية البعض لا تكون كرؤية الكل؛ لأن هذا كالعدديات المتفاوتة، فلا تكفي رؤية البعض، كما في الثياب.
وإن قلع المشتري شيئاً بغير إذن البائع، سقط خياره لأجل العيب إذا كان المقلوع شيئاً له قيمة، فإن لم يكن له قيمة، فلا يسقط خياره لأنه لا يتحقق به العيب.
وقد ذكر الكرخي حكم المغيب في الأرض بغير هذا التفصيل، وأثبت الخيار للمشتري برؤية البعض بعد رؤية الكل.
وروي عن محمد أنه قال: قال أبو حنيفة: المشتري بالخيار إذا قلع الكل أو البعض.
وأما محمد: فهو مثل أبي يوسف، إذا قلع المشتري شيئاً يستدل به على الباقي، فرضي به، فهو لازم له (1) .
وإذا كان المبيع دهناً في قارورة، فرأى خارج القارورة، فعن محمد روايتان:
الرواية الأولى: أنه تكفي الرؤية، ويسقط الخيار؛ لأن الرؤية من الخارج تفيد العلم بالداخل، فكأنه رأى الدهن خارج القارورة.
والرواية الثانية: أن له الخيار لأن العلم بما في داخل القارورة لا يحصل بالرؤية من خارج
__________
(1) تحفة الفقهاء: 124/2 ومابعدها.(5/258)
القارورة؛ لأن ما في الداخل يتلون بلون القارورة، فلا يحصل المقصود من هذه الرؤية (1) .
والرؤية عند بعضهم لا تحصل بالمرآة أو بالماء، فإذا رأى المشتري المبيع بالمرآة، فلا يسقط خياره، لأنه لم ير عين المبيع، وإنما رأى مثاله. والأصح أنه رأى عين المبيع لا غير المبيع؛ لأن المقابلة ليست من شرط الرؤية، فإنا نرى الله عز وجل بلا مقابلة. ولكن بما أنه قد لا يحصل للمشتري العلم بهيئة المبيع لتفاوت المرآة في التكبيروالتصغير فيعلم بأصله، لا بهيئته، فيثبت له الخيار، لا لما قالوا (2) .
وبناء عليه لو اشترى سمكاً في بحرة صغيرة يمكن أخذه منها من غير اصطياد وحيلة، حتى جاز البيع، فرآه في الماء، ثم أخذه: قال بعضهم: يسقط خياره لأنه رأى عين المبيع.
وقال بعضهم: لا يسقط خياره، وهو الصحيح، لأن الشيء لا يرى في الماء كما هو، بل يرى أكثر مما هو، فلم يحصل المقصود بهذه الرؤية، وهو معرفته على حقيقته، فله الخيار (3) .
مذاهب غير الحنفية:
قال المالكية: يجوز بيع مغيب الأصل كالجزر والبصل واللفت والكرنب والقلقاس بشرط رؤية ظاهره، وقلع شيء منه ويرى، وأن يحزر إجمالاً، ولا يجوز بيع شيء منه من غير حزر بالقيراط أو الفدان أو القصبة (24م) . ويجوز البيع على رؤية بعض المثلي من مكيل وموزون كقطن
__________
(1) البدائع: 294/5 ومابعدها، الدر المختار: 70/4-106.
(2) البدائع: 295/5.
(3) البدائع، المرجع السابق.(5/259)
وكتان، بخلاف القيمي، فلا يكفي رؤية بعضه، كثوب من أثواب (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز بيع شيء مغيب في الأرض كالفجل والجزر والبصل والثوم؛ لأنه بيع مجهول مشتمل على الغرر (2) .
البيع بالنموذج (3) : قد يرى المشتري بعض المبيع دون سائره، فيصح البيع ويلزم عند جمهور الفقهاء إن كان المرئي يدل على غير المرئي دلالة كاملة، وأذكر هنا حكم البيع بالنموذج عند الفقهاء باعتباره صورة متعارفة من صور البيع برؤية بعض المبيع.
مثاله: أن يشتري شخص كمية كبيرة من القمح بعد أن يرى نموذجاً منه. وهذا لا يكون إلا في المثليات كالحبوب والأقطان والكتان ونحوها.
وحكمه: أنه يجوز عند الحنفية والمالكية والشافعية، ولا يجوز عند الحنابلة والظاهرية على التفصيل الآتي:
قال الحنفية (4) : يجوز بيع المكيل والموزون برؤية بعضه، لجريان العادة بالاكتفاء بالبعض في الجنس الواحد، ولوقوع العلم به بالباقي، إلا إذا كان الباقي أردأ، فيكون للمشتري الخيارفيه، وفيما رأى، لئلا يلزم تفريق الصفقة قبل تمام البيع. والأصح أن هذه الرؤية للبعض تكفي سواء أكان المبيع في وعاء واحد أم في وعاءين كما تقدم.
ويلاحظ أن الثياب أصبحت في وقتنا الحاضر من المثليات.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي: 186/3، بداية المجتهد: 156/2، الشرح الصغير: 40/3.
(2) المجموع: 338/9، المغني: 91/4.
(3) يعبر أكثر الفقهاء عن هذا البيع ببيع الأنموذج، والأصح النموذج، وهو لفظ معرب، أما التعبير الأول فهو لحن شائع.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 26/4.(5/260)
وقال المالكية (1) : يجوز البيع برؤية بعض المثلي من مكيل وموزون كقطن وكتان، بخلاف القيمي كعدل مملوء من القماش فلا يكفي رؤية بعضه على ظاهر المذهب.
وقال الشافعية (2) : في بيع النموذج ثلاثة أوجه: أحدها الصحة، والثاني البطلان، وأصحها: إن دخل النموذج في البيع، صح، وإلا فلا.
وقال الحنابلة (3) : لا يصح بيع النموذج، فلو أرى البائع المشتري صاعاً من صبرة قمح مثلاً، ثم باعه الصبرة على أنها من جنسه، فلا يصح البيع، لأنه يشترط عندهم رؤية المتعاقدين المبيع رؤية مقارنة للبيع، وذلك برؤية جميع المبيع أو بعض منه يدل على بقيته، كأحد وجهي ثوب غير منقوش، وظاهر صبرة متساوية الأجزاء من حب وتمر، وما في ظروف من جنس متساوٍ.
وقال الظاهرية (4) : لا يجوز بيع النموذج.
التوكيل بالنظر والرؤية أو بالقبض: لو وكل المشتري رجلاً بالنظر إلى ما اشتراه، ولم يره فيلزم العقد إن رضي، ويفسخ العقد إن شاء؛ لأن الوكيل يقوم مقام الموكل في النظر؛ لأنه جعل الرأي إليه.
وأما إذا وكله بقبض ما اشتراه قبل رؤيته، فتقوم رؤية الوكيل مقام رؤية الموكل، فيسقط خياره عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: لا يسقط خياره بقبض الوكيل مع رؤيته، لأنه وكله بالقبض لا بإسقاط الخيار، فلا يملك إسقاطه، كما لا يملك إسقاط خيار الشرط، ولا خيار العيب.
ويرى أبو حنيفة أنه لا فرق بين الوكيل بقبض الشيء المشترى وبين الوكيل بالشراء، ورؤية هذا كافية عن رؤية الموكل، وبها يسقط الخيار إجماعاً؛ لأن الوكيل بالشيء وكيل بإتمام الشيء، ومن تمام القبض إسقاط الخيار (5) .
واتفقوا على أنه إذا أرسل المشتري رسولاً بقبض المبيع، فرآه الرسول ورضي به، كان المرسل على خياره. والفرق بين الوكيل والرسول: هو أن الوكيل أصل في نفس القبض، وإنما الواقع للموكل حكم فعله، فكان إتمام القبض إلى الوكيل. أما الرسول فهو نائب في القبض عن المرسل، فكان قبضه قبض المرسل، فإتمام القبض إلى المرسل (6) .
واتفقوا في خيار العيب على أنه إذا وكل رجلاً بقبض المبيع، فقبض الوكيل وعلم بالعيب ورضي به: لا يسقط خيار الموكل.
واختلف مشايخ الحنفية في خيار الشرط، فقال بعضهم: إن الاختلاف السابق بين أبي حنيفة وصاحبيه يجري هنا. وقال بعضهم: لا يسقط بالاتفاق.
وقال الشافعية: الاعتبار في رؤية المبيع وعدمها بالعاقد (7) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 24/3.
(2) المجموع للنووي: 327/9، 333 وما بعدها.
(3) غاية المنتهى: 10/2، كشاف القناع: 152/3، ط مكة.
(4) المحلى: 457/8.
(5) البدائع: 295/5 ومابعدها، فتح القدير: 145/5.
(6) البدائع، المرجع السابق.
(7) المجموع: 329/9.(5/261)
والذي نخلص منه في تحقق رؤية المبيع: أن الرؤية المقصودة ليست هي النظر بالعين خاصة، وإنما تكون في كل شيء بحسبه، وبالحاسة التي يطلع بها على الناحية المقصودة منه، فشم المشمومات، وذوق المطعومات ولمس ما يعرف باللمس، وجس مواطن السمن في شاة الذبح وإن لم ينظر لونها، وجس الضرع في شاة اللبن: يعد رؤية كافية في هذه الأشياء، وإن لم تشترك العين فيها، ولا يكفي النظر بالعين فقط (1) كما أبنت تفصيله.
وهذا بالنسبة للبصير. وكذا الأعمى يعد اطلاعه على هذه الأشياء التي تعرف بغير حاسة النظر رؤية كافية كاطلاع البصير، فيكتفي بالجس فيما يجس، والذوق فيما يذاق، والشم فيما يشم، وأما ما يعرف بالنظر فوصفه للأعمى يقوم مقام نظره.
فإن اشترى الأعمى ثماراً على رؤوس الشجر، فيعتبر الوصف لا غير، في أشهر الروايات.
وإذا اشترى الأعمى داراً أو عقاراً، فالأصح من الروايات أنه يكتفى بالوصف.
وعند زوال العمى: لا يعود له الحق في الخيار؛ لأن الوصف في حقه كالبديل أو (الخلف) عن الرؤية، لعجزه عن الأصل، والقدرة على الأصل بعد حصول المقصود بالبديل، لا يبطل حكم البديل، كمن صلى بطهارة التيمم، ثم قدر على الماء ونحوه (2) .
أما البصير لو اشترى شيئاً لم يره فوصف له، فرضي به فلا يسقط خياره، لأنه لا عبرة للبديل مع القدرة على الأصل.
الاختلاف في الرؤية:
لو اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: (بعتك هذا الشيء، وقد رأيته) وقال المشتري: (لم أره) فالقول قول المشتري بيمينه؛ لأن البائع يدعي إلزام العقد، والمشتري منكر، فيكون القول قوله، ولكن بيمينه؛ لأن البائع يدعي عليه سقوط حق الفسخ ولزوم العقد، وهذا مما يصح الإقرار به،
__________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 46.
(2) المبسوط: 77/13، فتح القدير: 146/5 وما بعدها، البدائع: 298/5، رد المحتار: 70/4 وما بعدها.(5/262)
فيجري فيه الاستحلاف (1) .
الرؤية منذ زمن:
من رأى شيئاً ثم اشتراه بعد مدة كشهر، ونحوه: فإن كان على الصفة التي رآه عليها، فلا خيار له، لأن العلم بأوصافه حاصل له بالرؤية السابقة. وإن وجده متغيراً فله الخيار، لأن تلك الرؤية لم تقع مُعْلِمة بأوصافه، فكانت رؤيته وعدمها سواء.
فإن اختلف البائع والمشتري في التغير، فقال البائع: «لم يتغير» وقال المشتري: «تغير» فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن دعوى التغير دعوى أمر حادث، والأصل عدمه، فلا تقبل إلا ببينة، بخلاف ما إذا اختلف في الرؤية يكون القول للمشتري مع يمينه كما تقدم؛ لأن البائع يدعي أمراً عارضاً: هو العلم بصفة المبيع (2) .
المطلب السادس ـ مسقطات الخيار
لا يسقط خيار الرؤية بالإسقاط الصريح، كأن يقول المشتري: «أسقطت خياري» لا قبل الرؤية ولا بعدها، بخلاف خيار الشرط، وخيار العيب.
والفرق هو أن خيار الرؤية ثبت شرعاً، لحكمة فيه، فلا يملك الإنسان إسقاطه، كما في خيار الرجعة بالنسبة للمرأة المطلقة، فإن الإنسان لا يملك إسقاطه لثبوته شرعاً، ما دامت المرأة في العدة، بخلاف خيار الشرط، فإنه يثبت بشرط المتعاقدين، فجاز أن يسقط بإسقاطهما. وكذلك خيار العيب: فإن سلامة المبيع مشروطة عادة من المشتري، فكان ذلك كالمشروط صراحة (3) .
وإنما يسقط خيار الرؤية ويلزم البيع بأحد نوعين: فعل اختياري أوضروري، والاختياري نوعان: صريح الرضا ونحوه، ودلالة الرضا.
الصريح: كأن يقول: (أجزت البيع، أو رضيت أو اخترت) أو ما يجري مجرى الصريح، سواء علم البائع بالإجازة أم لم يعلم.
ودلالة الرضا: هو أن يوجد تصرف في المبيع بعد الرؤية لا قبلها يدل على الإجازة والرضا، كما إذا قبض المبيع بعد الرؤية، لأن القبض بعد الرؤية دليل الرضا بلزوم البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد (4) .
__________
(1) فتح القدير: 150/5، رد المحتار: 72/4.
(2) فتح القدير: 149/5، رد المحتار، المرجع السابق.
(3) البدائع: 297/5.
(4) البدائع: 295/5، فتح القدير: 141/5.(5/263)
وبناء عليه: إذا وهب المشتري المبيع من غيره ولم يسلمه أو عرضه على البيع ونحوهما قبل الرؤية: لا يسقط الخيار؛ لأنه لا يسقط بصريح الرضا في هذه الحالة، فكذا لا يسقط بدلالة الرضا.
ولو رهن المشتري المبيع وسلمه أو آجره من رجل، أو باعه، على أن المشتري بالخيار: سقط خياره، قبل الرؤية وبعدها، حتى إن المشتري لو أفتك الرهن بدفع الدين، أو مضت مدة الإجارة، أو رده على المشتري بخيار الشرط، ثم رآه لا يكون له الرد بخيار الرؤية، لأنه أثبت حقاً لازماً لغيره بهذه التصرفات، فيكون من ضرورته لزوم الملك له، وذلك بامتناع ثبوت الخيار، فيبطل ضرورة لأنه لا فائدة فيه (1) .
وأما الفعل الضروري المسقط لخيار الرؤية: فهو كل ما يسقط به الخيار، ويلزم البيع ضرورة من غير صنع المشتري، مثل موت المشتري عند الحنفية، خلافاً للشافعي كما تقدم في خيار الشرط.
ومثل: إجازة أحد الشريكين دون الآخر ما اشترياه ولم يرياه عند أبي حنيفة.
وكذا هلاك المبيع كله، أو بعضه، وزيادته زيادة منفصلة أو متصلة متولدة، أو غير متولدة على التفصيل السابق ذكره في خيار الشرط (2) .
قال الكاساني: «والأصل أن كل ما يبطل خيار الشرط والعيب، يبطل خيار الرؤية إلا أن خيار الشرط والعيب يسقط بصريح الإسقاط، وخيار الرؤية لا يسقط بصريح الإسقاط، لا قبل الرؤية ولا بعدها» (3) ؛ لأن خيار الرؤية ثبت شرعاً حقاً لله تعالى (4) ، فلا يسقط بإسقاط المتعاقد قصداً، وخيار الشرط والعيب ثابتان
__________
(1) البدائع: 296/5، تحفة الفقهاء: 130/2 ومابعدها، فتح القدير: 141/5.
(2) البدائع: 296/5 ومابعدها، فتح القدير: 141/5، 149.
(3) البدائع: 297/5.
(4) أي لرعاية مصالح الأفراد العامة أو إن هذا من قبيل النظام العام الذي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافه.(5/264)
باشتراط المتعاقدين، فكان لمن ثبت له خيار منهما إسقاطه قصداً متى أراد، لأنه حقه، كما تقدم تفصيله.
وقال المرغيناني: ما يبطل خيار الشرط من تعيب أو تصرف يبطل خيار الرؤية، ثم إن كان تصرفاً لا يمكن رفعه كالإعتاق والتدبير، أو تصرفاً يوجب حقاً للغير كالبيع المطلق والرهن والإجارة يبطله قبل الرؤية وبعدها؛ لأنه لما لزم، تعذر الفسخ، فبطل الخيار. وإن كان تصرفاً لا يوجب حقاً للغير كالبيع بشرط الخيار والمساومة والهبة من غير تسليم، لا يبطله قبل الرؤية لأنه لا يربو على صريح الرضا (أي وصريح الرضا لا يبطل خيار الرؤية قبل الرؤية) ويبطله بعد الرؤية لوجود دلالة الرضا (1) .
المطلب السابع ـ ما ينفسخ به العقد وشروط الفسخ
ما ينفسخ به العقد: ينفسخ العقد بسبب خيار الرؤية بالتصريح بالفسخ ونحوه، كأن يقول، فسخت العقد، أو نقضته، أو رددته، ونحوه مما يجري هذا المجرى، أو بهلاك المبيع قبل القبض، لذهاب ركن البيع (2) .
شروط الفسخ: يشترط لصحة الفسخ شروط:
1 - أن يكون الخيار موجوداً؛ لأن الخيار إذا سقط بشيء مما تقدم، لزم العقد، فلا يحتمل النقض بالفسخ.
2 - ألا يترتب على الفسخ تفريق الصفقة على البائع، برد بعض المبيع وإجازة العقد في البعض الآخر؛ لأن في التفريق ضرراً عليه، ولأن خيار الرؤية ـ قبل القبض وبعده ـ يمنع تمام الصفقة، وتجزئتها قبل تمامها باطل بلا ريب.
3 - أن يعلم البائع بالفسخ، ليكون على بينة من أمره، وأمر سلعته ليتصرف فيها كما يريد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. أما أبو يوسف: فلا يشترط علم البائع، على ما تقدم في خيار
__________
(1) الهداية مع فتح القدير: 141/5 وما بعدها.
(2) البدائع: 298/5.(5/265)
الشرط (1) .
ويلاحظ أخيراً أن خيار الرؤية لا يورث كما لا يورث خيار الشرط إذا مات المشتري مثلاً بعد ثبوت الخيار له، لأن الخيار ثبت بالنص للعاقد، والوارث ليس بعاقد، فلا يثبت له، كما قال الزيلعي والحنابلة (2) .
وقال مالك: يورث خيار الرؤية، كما يورث خيار التعيين والعيب؛ لأن الإرث كما يثبت في الأملاك، يثبت في الحقوق الثابتة بالبيع (3) .
وهذا أقرب إلى المنطق؛ لأن الوارث يخلف المورث في كل ماترك من مال وحقوق ومنها حق الخيار (4) .
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) تبيين الحقائق: 30/4، غاية المنتهى: 33/2.
(3) البدائع: 268/5، الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة: 211/1، الشرح الصغير: 145/3.
(4) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 477، 487.(5/266)
المبحث السادس - أنواع البيوع
تمهيد: ينقسم البيع بالنسبة للبدلين إلى أنواع أربعة (1) :
الأول ـ بيع المقايضة: وهو بيع العين بالعين، كبيع السلع بأمثالها، نحو بيع الثوب بالحنطة، وغيره.
الثاني ـ البيع المطلق: وهو بيع العين بالدين، نحو بيع السلع بالأثمان المطلقة: وهي الدراهم والدنانير، وبيعها بالفلوس الرائجة (وهي قطع معدنية اصطلح الناس على أنها نقود صالحة للتعامل) وبالمكيل والموزون الموصوفين في الذمة، والعددي المتقارب الموصوف في الذمة.
الثالث ـ الصرف: وهو بيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق: وهو الدراهم والدنانير، أو كل عملة نقدية رائجة في الأسواق.
الرابع ـ السلم: وهو بيع الدين بالعين، فإن المسلم فيه بمثابة المبيع وهو دين، ورأس المال بمثابة الثمن، وقد يكون عيناً، وقد يكون ديناً، ولكن يشترط قبضه قبل افتراق العاقدين عن المجلس، فيصير عيناً.
ولايشترط القبض في النوعين الأولين: وهما بيع المقايضة، والبيع المطلق أي العادي الغالب. ويشترط القبض في النوعين الأخيرين، ففي الصرف يشترط قبض البدلين، وفي السلم يشترط قبض أحد البدلين: وهو رأس المال، كما ذكر.
وينقسم البيع أيضاً بالنظر إلى الثمن إلى أربعة أنواع:
1 - بيع المرابحة: وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح معين.
2 - بيع التولية: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول (أي برأس المال) من غير زيادة ولانقصان.
3 - بيع الوضيعة: وهو المبادلة بمثل الثمن الأول مع نقصان شيء منه أي البيع بخسارة معينة.
4 - بيع المساومة: وهو مبادلة المبيع بما يتراضى عليه العاقدان؛ لأن البائع يرغب عادة بكتمان رأس المال، وهذا هو البيع الشائع الآن.
وهناك أنواع أخرى من البيوع مثل (الاستصناع) المعروف من قديم، وهو بيع ماسيصنع قبل صنعه، ومثل (الضمان) وهو بيع الثمار على أشجارها (2) .
والكلام فيما يلي عن السلم والصرف، والمرابحة والتولية والاستصناع، وقد سبق الكلام عن البيع المطلق، ولكن بقي شيئان يتعلقان به وهما الربا وإقالة البيع أذكرهما هنا أيضاً.
__________
(1) راجع المبسوط: 84/5 ومابعدها.
(2) البدائع: 134/5، فتح القدير: 323/5، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص11 ومابعدها.(5/267)
..........................................1............................................
......................................عقد السلم.........................................
خطة الموضوع:
الكلام عن هذا العقد في المطالب الآتية:
المطلب الأول ـ مشروعية السلم.
المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه.
المطلب الثالث ـ شروط السلم.
المطلب الرابع ـ حكم السلم.
المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم.
المطلب الأول ـ مشروعية السلم
السلم مشروع في الكتاب والسنة وإجماع الأمة:
أما الكتاب: فقد فسرت به آية الدين: وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه} [البقرة:282/2] ، قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية (1) .
وأما السنة: فما روى ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (2) .
وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، ولأن بالناس حاجة إليه؛ لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم أو على الزروع ونحوها حتى تنضج، فجوز لهم السلم دفعاً للحاجة.
وقد استثني عقد السلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم، لما فيه من تحقيق مصلحة اقتصادية، ترخيصاً للناس، وتيسيراً عليهم (3) .
المطلب الثاني ـ تعريف السلم وركنه
تعريف السلم: السلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة أي أنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المثمن لأجل، وبعبارة أخرى: هو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل (4) .
وعرفه الشافعية والحنابلة بقولهم: هو عقد على موصوف بذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس عقد (5) .
__________
(1) نصب الراية: 44/4، التلخيص الحبير: ص242، والحديث رواه الشافعي والطبراني والحاكم والبيهقي.
(2) أخرجه الأئمة الستة في كتبهم عن ابن عباس (انظر جامع الأصول: 17/2، نصب الراية: 46/4، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 4/2) .
(3) المبسوط: 124/12، فتح القدير: 323/5، البدائع: 201/5، رد المحتار: 212/4، بداية المجتهد: 199/2، مغني المحتاج: 102/2، المغني: 275/4.
(4) المراجع السابقة، ويلاحظ أن السلم والسلف بمعنى واحد في لغة العرب، والسلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق.
(5) غاية المنتهى: 71/2، مغني المحتاج: 102/2، كشاف القناع: 276/3.(5/268)
وعرفه المالكية بأنه بيع يتقدم فيه رأس المال ويتأخر المثمن لأجل (1) .
ويشترط فيه ما يشترط في البيع، ويزاد فيه شرائط خاصة سنعرفها.
ركنه: ركن السلم هو الإيجاب والقبول. والإيجاب عند الحنفية والمالكية والحنابلة: هو لفظ السلم والسلف والبيع، بأن يقول رب السلم: (أسلمت إليك في كذا) أو أسلفت، وقال الآخر: (قبلت) أو يقول المسلم إليه: (بعت منك كذا) وذكر شرائط السلم، فقال رب السلم: (قبلت) (2) .
وقال زفر والشافعية: لا ينعقد السلم إلا بلفظ السلم أو السلف؛ لأن القياس ألا ينعقد أصلاً، لأنه بيع المعدوم، إلا أن الشرع ورد بجوازه بهذين اللفظين. وفي لفظ البيع وجهان عند الشافعية: بعضهم قال: لا ينعقد السلم بلفظ البيع، وإلا كان بيعاً؛ لأن السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه، وبعضهم الآخر قال: ينعقد، لأنه نوع بيع، يقتضي القبض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع كالصرف (3) .
ويسمى المشتري: (رب السلم) أو (المسلم) ، والبائع: يسمى (المسلم إلىه) ، والمبيع: (المسلَم فيه) ، والثمن: (رأس مال السلَم) .
وأركان السلم عند غير الحنفية ثلاثة كالبيع: عاقد (مسلم ومسلم إليه) ومعقود عليه (رأس مال السلم والمسلم فيه) وصيغة (إيجاب وقبول) .
المطلب الثالث ـ شروط السلم
يشترط في السلم شروط، منها في رأس المال، ومنها في المسلم فيه، واتفق أئمة المذاهب على أن السلم يصح بستة شروط: وهي أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة ونفقة.
__________
(1) الشرح الكبير: 195/3.
(2) البدائع: 201/5، غاية المنتهى، المكان السابق.
(3) مغني المحتاج: 102/2، المهذب: 297/1.(5/269)
واتفقوا أيضاً على جواز السلم في المكيلات والموزونات والمذرعات والمعدودات المتقاربة كالجوز واللوز والبيض، ونحوها، كما سيأتي بيانه.
واختلفوا في شروط تتعلق برأس المال وبالمسلم فيه، وفي إقالة بعض السلم، وسأذكر هذه الشروط والخلاف في أهمها.
شروط رأس مال السلم، أي (الثمن)
اشترط الحنفية في رأس المال ستة شروط:
1 - بيان الجنس: أي أنه دراهم أو دنانير، أو من المكيل: حنطة أو شعير، أو من الموزون: قطن أو حديد، ونحوها.
2 - بيان النوع: إذا كان في البلد نقود، مثل دنانير نيسابورية أو دراهم غطرفية (1) أو حنطة سقية أو بعلية. فإذا كان في البلد نقد واحد، فيكتفى بذكر الجنس، وينصرف إليه لتعينه عرفاً.
3 - بيان الصفة: أي أنه جيد أو وسط أو رديء.
واشتراط هذه الشروط الثلاثة لإزالة الجهالة في العقد؛ لأن جهالة الجنس والنوع والصفة مفضية إلى المنازعة، ومثل هذه الجهالة تفسد البيع (2) .
4 - إعلام قدر رأس المال فيما يتعلق العقد فيه بالقدر من المكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، ولا يكتفى بالإشارة إليه. وهذا الشرط عند أبي حنيفة وسفيان الثوري، فإذا قال رب السلم: (أسلمت إليك هذه الدراهم أو الدنانير) وأشار إليها ولم يعرف وزنها، أو قال: (هذه الحنطة) ولم يعرف مقدار كيلها، فلا يصح السلم؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة قدر المسلم فيه، وجهالة قدر المسلم فيه تفسد العقد (3) .
فإن أسلم فيما لا يتعلق العقد فيه بالقدر كالذرعيات أي (المقيسة بالذراع كالثياب والبسط والحصر) والعدديات المتفاوتة (كالبطيخ والرمان) فإنه لا يشترط بيان الذرع في الذرعيات ولا بيان القيمة فيها، ويكتفى بالإشارة والتعيين باتفاق علماء الحنفية (4) .
__________
(1) نسبة إلى غطريف بن عطاء الكندي، أمير خراسان في عهد الرشيد.
(2) البدائع: 201/5، فتح القدير: 337/5، رد المحتار: 215/4.
(3) المراجع السابقة.
(4) فتح القدير: 338/5، البدائع: 202/5.(5/270)
واتفقوا أيضاً على أن إعلام قدر الثمن في بيع العين المعتاد ليس بشرط إذا كان مشاراً إليه.
وقال الصاحبان والشافعية والحنابلة في الأصح عندهم: لا يشترط معرفة قدر رأس المال، فإن رؤية رأس المال تكفي عن معرفة قدره؛ لأنه عوض مشاهد، كالثمن والمبيع المعين (1) .
وأما الإمام مالك: فلم يحفظ عنه في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه، بأن كان كثيراً مثلاً (2) .
5 - أن تكون الدراهم والدنانير منتقدة (3) عند أبي حنيفة؛ لأن كل جهالة تفضي إلى المنازعة، فهي مفسدة للعقد.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط.
6 - تعجيل رأس المال وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين بنفسيهما، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً، فإن تفرق المتعاقدان قبل القبض بطل العقد وانفسخ، لأنه يختل عندئذ الغرض المقصود من السلم، وهو الاستعانة على الإنتاج والتحصيل. فلو كان الثمن عيناً وافترق العاقدان دون قبض، اختل معنى السلم؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم يقول: «أسلفوا في كيل معلوم» (4) والإسلاف: هو التقديم، ولأنه إنما سمي سلماً لتسليم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً، فلم يصح، فلابد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى اسم السلم.
وإن كان الثمن ديناً في الذمة أي (من النقود مثلاً) فلابد من تسليمه أيضاً، حتى لايكون السلم بيعاً للدين بالدين؛ لأن المسلم فيه دين في الذمة، فلو أخر تسليم رأس مال السلم عن مجلس العقد، لكان التأخير في معنى مبادلة الدين بالدين. وقد «نهى الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» (5) أي الدين بالدين،
__________
(1) مغني المحتاج: 104/2، المهذب: 300/1، المغني: 298/4.
(2) بداية المجتهد: 203/2، حاشية الدسوقي: 197/3، 218.
(3) انتقد الدراهم: نظرها ليعرف جيدها وزيفها.
(4) هذا مأخوذ من الحديث السابق تخريجه وهو «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم.. الحديث» قال الشافعي: «معناه إذا أسلف أحدكم في كيل فليسلف في كيل معلوم..» (نصب الراية: 46/4) .
(5) رواه الدارقطني في سننه وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم عن ابن عمر، ولفظ البزار «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع عاجل بآجل. فالغرر: أن تبيع ماليس عندك، والكالئ: دين بدين، والعاجل بالآجل: أن يكون له عليك ألف درهم مؤجل فتعجل عنها بخمس مئة» رواه ابن عدي في الكامل، وأعله بموسى بن عبيدة، وقد صحح الحاكم رواية الدارقطني المذكورة في صلب الكلام عندنا، وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة، وقد ضعفه أحمد إلا أنه قال: ولكن إجماع الناس على أنه لايجوز بيع دين بدين. وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث (انظر نصب الراية: 39/4، مجمع الزوائد: 80/4، الموطأ: 153/2، نيل الأوطار: 156/5) .(5/271)
ولأن في السلم غرراً «أي تعريضاً للهلاك أو على خطر الوجود» ، فلا يضم إليه غرر تأخير تسليم رأس المال.
وهذا الشرط متفق عليه بين الحنفية والشافعية والحنابلة (1) .
وقال الإمام مالك: يجوز تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل، ولو بشرط في العقد، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً؛ لأن السلم معاوضة لايخرج بتأخير قبض رأس المال عن أن يكون سلماً، فأشبه مالو تأخر إلى آخر المجلس، وكل ماقارب الشيء يعطى حكمه، ولايكون له بذلك حكم الكالئ.
فإن أخر رأس المال عن ثلاثة أيام، فإن كان التأخير بشرط، فسد السلم اتفاقاً، سواء أكان التأخير كثيراً جداً بأن حل أجل المسلم فيه، أم لم يكثر جداً بأن لم يحل أجله.
وإن كان التأخير بلا شرط: فقولان في المدونة الكبرى لمالك بفساد السلم وعدم فساده، سواء كثر التأخير جداً، أم لا، والمعتمد الفساد بالزيادة عن الثلاثة الأيام، ولو قلت مدة الزيادة بغير شرط (2) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 342/5، البدائع: 202/5، رد المحتار: 218/4، مغني المحتاج: 102/2، المهذب: 300/1، المغني: 295/4، غاية المنتهى: 79/2.
(2) حاشية الدسوقي: 195/3، المنتقى على الموطأ: 300/4، القوانين الفقهية: ص 269.(5/272)
شروط المسلم فيه:
اشترط الحنفية في المسلم فيه أحد عشر شرطاً:
أحدها: أن يكون معلوم الجنس: كأن يبين أنه حنطة أو شعير أو نحوهما.
الثاني: أن يكون معلوم النوع: كأن يقال حنطة سقية أو سهلية أو جبلية.
الثالث: أن يكون معلوم الصفة: كأن يقال: حنطة جيدة أو رديئة أو وسط. ويلاحظ أنه يكتفى ببيان الجنس والنوع والصفة، فلا يصح أن يذكر في العقد أنه من الناتج الذي سيظهر جديداً، وهو لم يتكون بعد، لأنه يكون بيع المعدوم صراحة، وهو لايجوز.
الرابع: أن يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع، والسبب في اشتراط هذه الشروط الأربعة: هو ماذكر في شرط رأس المال: وهو إزالة الجهالة؛ لأن جهالة النوع والجنس والصفة والقدر جهالة مفضية إلى المنازعة، وأنها مفسدة للعقد، وقال عليه السلام: «من أسلف منكم فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1) .
الخامس: ألا يكون في البدلين إحدى علتي ربا الفضل: وهي إما القدر المتفق أو الجنس المتحد؛ لأن العقد حينئذ يتضمن الربا؛ لأن حرمة ربا النسيئة تتحقق بأحد هذين الوصفين.
وبعبارة أخرى: إنه يشترط ألا يكون في السلم أحد وصفي علة ربا الفضل: وهو إما الكيل أو الوزن وإما الجنس؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل هو علة ربا النسيئة، فإذا اجتمع أحد هذين الوصفين في بدلي السلم يتحقق ربا النسيئة، والعقد الذي فيه ربا فاسد.
__________
(1) المبسوط: 124/12، فتح القدير: 337/5 ومابعدها، البدائع: 207/5، رد المحتار: 215/4.(5/273)
فإن لم يتحقق القدر المتفق، بأن اختلف المسلم فيه ورأس مال السلم كبيع حنطة بنقود، أو زعفران بدراهم أو دنانير، فيصح السلم، لانعدام علة ربا النسيئة: وهي القد ر المتفق أو الجنس. أما المجانسة فظاهرة الانتفاء، وأما القدر المتفق فلأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فالنقود توزن بالمثاقيل، والزعفران ونحوه يوزن بالرطل أو القبان، وأما الحنطة فهي مكيلة، والنقود موزونة (1) .
وعبر المالكية عن هذا الشرط بقولهم: أن يكون رأس مال السلم والمسلم فيه مختلفين جنساً تجوز النسيئة فيه بينهما، فلايجوز إسلاف الذهب والفضة أحدهما في الآخر؛ لأن ذلك ربا، وكذلك لايجوز تسليم الطعام بعضه في بعض على الإطلاق لأنه ربا، ويجوز إسلاف الذهب والفضة في الحيوان والعروض والطعام، ويجوز إسلاف العروض بعضها في بعض (2) .
السادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين: فإن كان ممالا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير لايجوز السلم فيه؛ لأن المسلم فيه مبيع، والمبيع مما يتعين بالتعيين، والدراهم والدنانير لاتتعين في عقود المعاوضات، فلم تكن مبيعة، فلا يجوز السلم فيها.
وهل يجوز السلم في التبر والسبائك؟ فيه روايتان: رواية: لايجوز؛ لأن التبر والسبيكة بمنزلة الدراهم المضروبة. ورواية أخرى: يجوز لأنها بمنزلة العروض.
ويخرَّج على هذا: السلم في الفلوس (3) عدداً: يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لأن الفلوس عندهما ليست بثمن مطلق (4) بل مما تتعين بالتعيين في الجملة كالسلع العددية.
__________
(1) البدائع: 186/5، 214، رد المحتار: 217/4.
(2) القوانين الفقهية: ص 269.
(3) الفلس: قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها.
(4) أي أن ثمنيتها ليست بلازمة بل تحتمل الزوال، لأنها ثبتت بالاصطلاح، فتزول بالاصطلاح، والعقد عليها: معناه الاتفاق على إبطال ثمنيتها في حق العاقدين.(5/274)
ولايجوز السلم فيها عند محمد؛ لأنها أثمان عنده (1) .
السابع: أن يكون المسلم فيه مؤجلا، واختلف العلماء في هذا الشرط. وفيه يعرف حكم السلم الحال.
فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: يشترط لصحة السلم أن يكون مؤجلاً، ولايصح السلم الحال، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» فهذا الحديث أمر بالأجل، والأمر يقتضي الوجوب، كما أوجب كون المسلم فيه مقدراً بالكيل أو الوزن، ولأن السلم أجيز رخصة للرفق بالناس، ولايحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى الرفق، فلا يصح، وباعتباره رخصة فيقتصر على حال ورودها (2) .
وقال الشافعي: يصح السلم حالاً ومؤجلاً، فإن أطلق عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجوداً انعقد حالاً، لأنه إذا جاز السلم مؤجلاً، فلأن يجوز حالاً بالأولى، لبعده عن الغرر. والمراد من الحديث «إلى أجل معلوم» هو العلم بالأجل، لا الأجل نفسه. وفائدة العدول من البيع إلى السلم الحال حينئذ: هو جواز العقد مع غيبة المبيع، فإن المبيع إذا لم يكن حاضراً مرئياً لايصح بيعه عند الشافعية. وإن أخر العقد لإحضاره، فربما تلف، أو لايتمكن المشتري من الحصول عليه، كما لايتمكن حينئذ من فسخ العقد؛ لأن العقد متعلق بالذمة، وماثبت بالذمة يلزم العاقد به (3) .
__________
(1) المبسوط: 136/12، البدائع: 208/5، 212.
(2) المبسوط: 125/12، البدائع: 212/5، فتح القدير: 335/5، المنتقى على الموطأ: 297/4، بداية المجتهد: 201/2، حاشية الدسوقي: 205/3 ومابعدها، المغني: 289/4، القوانين الفقهية: ص269، غاية المنتهى: 78/2.
(3) المهذب: 1ص297، مغني المحتاج: 2ص105.(5/275)
واختلف العلماء أيضاً في مدة أجل السلم:
فقال الحنفية والحنابلة: إن أجل السلم مقدر بشهر أو ماقاربه؛ لأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل.
وقال المالكية: أقل الأجل نصف شهر؛ لأن هذه المدة مظنة اختلاف الأسواق غالباً، واختلافها مظنّة لحصول المسلم فيه. وذلك. إلا إذا اشترط قبض المسلم فيه بمجرد الوصول لبلد غير بلد العقد، وكانت المسافة يومين من بلد العقد، لأنها مظنة اختلاف الأسواق في البلدين، وإن لم تختلف بالفعل، واشترط في العقد أيضاً الخروج فوراً إلى البلد، كما اشترط أن يخرج رب السلم والمسلم إليه أو وكيلهما بالفعل، وأن يعجل قبض رأس المال في المجلس أو قربه، وأن يكون السفر في يومين ببر أو بغير ريح؛ لأنه ربما أدى إلى قطع مسافة اليومين في نصف يوم، فيؤدي إلى السلم الحالّ، فمتى اختل شرط من هذه الشروط الخمسة، فلابد من تعيين الأجل.
وإذا وجدت هذه الشروط الخمسة، لايشترط التأجيل بنصف شهر عندهم.
واتفق العلماء على أن الأجل لابد من أن يكون معلوماً، لقوله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجلٍ مسمى} [البقرة:282/2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إلى أجل معلوم» ولأنه بمعرفة الأجل يتحدد الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه، فإذا جهل الأجل لم يفد معرفة ذلك، ووقع رب السلم في الغرر. ولكنهم اختلفوا في كيفية العلم بالأجل.
فقال الحنفية والحنابلة والشافعية: لابد من تحديد زمان بعينه، لايختلف، فلا يصح التأجيل للحصاد والدراس والنيروز (اليوم الأول من السنة القبطية، وهوأول الربيع) والمهرجان (أول الخريف) وعيد النصارى وقدوم الحاج، والصيف والشتاء، ونحوها (1) ، ودليلهم: أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «إلى أجل معلوم» والتحديد بهذه الأوقات مثار النزاع، لأنه غير معلوم إذ أنه يتقدم ويتأخر، ويقرب ويبعد، ويؤيده ماروي عن ابن عباس أنه قال: «لاتتبايعوا إلى الحصاد والدياس (2) ولاتتبايعوا إلا إلى شهر معلوم» (3) .
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 222، 336.
(2) هو دوس الحب بالقدم ونحوها لينقشر.
(3) قال الحافظ الزيلعي: روى البيهقي في كتاب المعرفة من طريق الشافعي عن ابن عباس أنه قال: «لاتبيعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر (أي البيدر أو المكدس من القمح خاصة) ولا إلى الدياس» (راجع نصب الراية: 4 ص 21) .(5/276)
وقال المالكية: يجوز السلم إلى هذه الأوقات، ويعتبر ميقاتها: هو الوقت الذي يحصل فيه غالب ماذكر: وهو وسط الوقت المعد لها الذي يغلب فيه الوقوع. ودليلهم: أن هذا أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لايتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه ما إذا قال إلى رأس السنة (1) .
الثامن: أن يكون جنس المسلم فيه أي (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم، ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب. فإن لم يكن موجوداً عند العقد أو وقت حلول الأجل، أو انقطع من أيدي الناس فيما بين ذلك كالثمار والفواكه واللبن ونحوها، لايجوز السلم؛ لأن القدرة على التسليم ثابتة للحال، وفي وجودها عند حلول الأجل شك، لاحتمال الهلاك، فإن بقي الشيء المسلم فيه في الأسواق إلى الوقت المؤجل، ثبتت القدرة على التسليم، وإن هلك قبله لاتثبت. وبعبارة أخرى: إن اشتراط هذا الشرط لضمان تنفيذ تسليم المسلم فيه.
وعلى هذا: إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى موضع معلوم: فإن كان ممايحتمل انقطاعه بالآفة كحنطة قرية كذا بعينها أو أرض كذا بعينها: لايجوز السلم، لعدم تحقق القدرة على التسليم، وهو غرر من غير حاجة، فمنع صحة العقد.
وإن كان مما لايحتمل الانقطاع، كأن يسلم في حنطة إقليم كالعراق أو خراسان، أو في حنطة بلدة كبيرة كسمرقند وبخارى ومحافظة حوران، فيجوز السلم، إذ لايتوهم الانقطاع؛ لأن الغالب في أحكام الشرع ملحق بالمتيقن.
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 4 ص 298، القوانين الفقهية: ص 269.(5/277)
وقال بعض مشايخ الحنفية: لايجوز السلم إذا كان المسلم فيه منسوباً إلى بلدة كبيرة. وعبارتهم: لايجوز إلا في طعام ولاية؛ لأن وهم الانقطاع فيما وراء ذلك ثابت. والصحيح هو ماذكر أولاً (1) . هذا هو مذهب الحنفية.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون المسلم فيه عام الوجود مأمون الانقطاع، وقت حلول الأجل فقط، سواء وجد عند العقد أم لم يوجد؛ لأن المهم هو القدرة على التسليم، فيعتبر وقت وجوب التسليم، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنين، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم» ولم يشترط وجود المسلم فيه حال عقد السلم، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلم سنتين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة (2) .
إلا أن المالكية شرطوا أن يكون التزام المسلم فيه مطلقاً في الذمة، فلا يجوز
__________
(1) المبسوط: 12 ص 134، فتح القدير: 5 ص 331، البدائع: 5 ص 211.
(2) المنتقى على الموطأ: 4 ص 300، حاشية الدسوقي: 3 ص 211، مغني المحتاج: 2ص106، المهذب 1 ص 298، المغني: 4ص293ومابعدها، غاية المنتهى: 2ص79.(5/278)
السلم في شيء معين كزرع قرية بعينها، وعليه لم يجز السلم في العقار اتفاقاً لتعينه (1) .
واجتهاد غير الحنفية أوجه وأوسع (2) .
وفي اجتهاد الحنفية: إذا حل أجل تسليم المسلم فيه، وانقطع وجود المبيع بحيث يتعذر تسليمه، كان المشتري بالخيار بين أن ينتظر وجوده، أو يفسخ البيع، ويسترد الثمن (3) .
التاسع: أن يكون العقد باتاً: ليس فيه خيار الشرط للعاقدين أو لأحدهما. فلو أسلم شخص ديناراً في مد حنطة، على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وقبض المسلم إليه الثمن (رأس المال) ، وتفرقا ببدنيهما، يفسد عقد السلم؛ لأن جواز البيع بشرط الخيار ثبت على خلاف القياس لحاجة الناس إليه، فلا يقاس عليه غيره، إذ لاحاجة في السلم إلى الخيار؛ ولأن شرعية الخيار لدفع الغبن، والسلم مبني على الغبن ونقص الثمن، لأنه بيع المفاليس كما يسمى، فلم يكن داخلاً تحت مورد النص الذي يجيز الخيار.
فلو اتفق المسلم إليه ورب السلم على إبطال الخيار قبل التفرق من المجلس، وكان رأس المال (الثمن) قائماً في يد المسلم إليه، انقلب العقد جائزاً عند جمهور الحنفية، خلافاً لزفر. أما لو كان رأس المال هالكاً فلا ينقلب العقد جائزاً؛ لأن رأس المال يصير حينئذ ديناً على المسلم إليه، والسلم لاينعقد برأس مال دين.
ويمكن تفريع هذا الشرط على اشتراط قبض رأس المال في مجلس عقد السلم؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى عدم دفع الثمن في مجلس العقد.
ويلاحظ أن خيار الرؤية وخيار العيب في رأس المال (الثمن) إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، لايفسد عقد السلم؛ لأن الخيارين المذكورين لايمنعان ثبوت الملك في البدل.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص269.
(2) عقد البيع للأستاذ الزرقاء: حاشية ص 120.
(3) رد المحتار والدر المختار: 4 ص 214، عقد البيع، المرجع السابق.(5/279)
وأما بالنسبة للمسلم فيه (المبيع) فلا يثبت خيار الرؤية فيه بالاتفاق؛ لأن هذا الخيار لايجري فيما يملكه الإنسان ديناً في الذمة، إذ لافائدة في الخيار حينئذ؛ لأن ثمرته في الأصل رد المبيع الغائب عند رؤيته إذا لم يعجب المشتري، والمبيع المسلم فيه ليس عيناً معينة، بل دين في الذمة يقضى بأمثاله، فعند رؤيته إذا ساغ رده بخيار الرؤية يعود ديناً كما كان، ويجب أداء مثل آخر، فيمكن رده أيضاً بالخيار، وهكذا فيتسلسل، فلذا يكتفى بوصف المبيع لصحة السلم، فيقوم بيان الوصف مقام المعاينة.
وأما خيار العيب في المسلم فيه: فإنه يصح ثبوته؛ لأنه لايمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة (1) .
العاشر: بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة، كالحنطة والشعير، وهذا الشرط في جواز السلم عند أبي حنيفة، وأما عند الصاحبين، فلا يشترط ذلك.
ومنشأ الخلاف هو: هل يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء فيما يحتاج لحمل ومؤونة؟ مع اتفاقهم على أن مكان الإيفاء إذا كان مجهولاً لايجوز السلم؛ لأنها جهالة مفضية إلى المنازعة (2) .
قال أبو حنيفة: لايتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء؛ لأن العقد إذا وجد مطلقاً عن تعيين مكان، فلايتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، بقي مكان الإيفاء مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة بسبب الخلاف على نفقات النقل.
وقال الصاحبان: يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء، فلا يكون هناك جهالة فيصح السلم؛ لأن سبب وجوب الإيفاء هو العقد، والعقد وجد في هذا المكان، فيتعين مكان العقد لوجوب الإيفاء فيه كما في بيع العين.
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 343، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 119.
(2) البدائع: 5 ص 213، المبسوط: 12 ص 128، فتح القدير: 5 ص 341، رد المحتار: 4ص 216.(5/280)
ويرد عليهما: بأن العقد قائم بالعاقدين، لا بالمكان، وهذا مكان المتعاقدين وليس مكاناً للعقد، فلم يوجد العقد في هذا المكان.
ويجري هذا الخلاف في بيان مكان أداء الأجرة في عقد الإجارة إذا احتاج الأمر إلى نفقة نقل، فعند أبي حنيفة: لايصح العقد إذا لم يعين مكان أداء الأجرة. وعند الصاحبين: تصح الإجارة، ويتعين مكان إيفاء الأجرة بتعيين مكان إيفاء المعقود عليه. فإن كان المأجور داراً أو أرضاً، فتسلم الأجرة عند الدار والأرض، وإن كان المأجور دابة فعند بدء انطلاق السير. وإن كان ثوباً دفع إلى مصبغة مثلاً، ففي الموضع الذي يسلم فيه الثوب. ويلاحظ أن مكان العقد يتعين مكاناً للتسليم عند الصاحبين إذا أمكن التسليم في مكان العقد. فإذا لم يمكن: بأن كان في البحر أو على رأس الجبل، فإنه لايتعين مكان العقد للتسليم، ولكن يسلم في أقرب الأماكن الذي يمكن التسليم فيه من مكان العقد.
وأما إذا لم يكن لتسليم المسلم فيه كلفة ومؤونة كالجواهر واللآلئ ونحوها من المنقولات الخفيفة الحمل، فهناك روايتان عن الحنفية:
في رواية: يتعين مكان العقد، وهذا قول الصاحبين. وفي رواية، وهي الأصح عندهم: يسلم الشيء حيثما لقي أحد العاقدين صاحبه، ولايتعين مكان العقد؛ لأن الأماكن كلها سواء، إذ المالية لاتختلف باختلاف الأماكن فيما لاحمل له ولا مؤونة (1) . ولو عينا مكاناً آخر للإيفاء سوى مكان العقد: فإن كان فيما له حمل ومؤونة يتعين، وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان:
في رواية: لايتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء.
وفي رواية: يتعين وهو الأصح، لأنه يفيد رب السلم بعدم تحمل خطر الطريق (2) .
وقال المالكية: الأحسن اشتراط مكان الدفع (3) .
وقال الشافعية: المذهب أن المسلم فيه إذا سلم بموضع لايصلح للتسليم، أو يصلح ولحمله مؤونة، اشترط بيان محل تسليم المسلم فيه، لتفاوتت الأغراض فيما يراد من الأمكنة في ذلك. فإن صلح المكان للتسليم ولم يكن لحمله مؤنة، فلا يشترط ذكر مكان التسليم، ويتعين مكان العقد للتسليم للعرف (4) .
وقال الحنابلة: لايشترط ذكر مكان الوفاء إن لم يعقد بنحو برية وسفينة. ويتعين مكان العقد للتسليم عند الاختلاف (5) .
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 342، البدائع: 5 ص 213.
(2) فتح القدير مع العناية: 5 ص 342، رد المحتار: 4 ص 216 ومابعدها.
(3) القوانين الفقهية: ص 270.
(4) مغني المحتاج: 2 ص 104.
(5) غاية المنتهى: 2 ص 80.(5/281)
الحادي عشر: أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً، أي أن يكون المبيع من الأموال التي تقبل الثبوت في الذمة: وهي المثليات، بأن يكون من المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو الأعداد المتقاربة، مثل الحبوب والثمار والدقيق والثياب، والقطن والكتان والحديد والرصاص والأدوية، والجوز والبيض؛ لأن المكيلات والموزونات ممكنة الضبط قدراً وصفة على وجه لايبقى فيها إلا تفاوت يسير، لأنها من ذوات الأمثال. وأما المتقارب من الذرعيات والعدديات، فلأن الجهالة فيها يسيرة لاتفضي إلى المنازعة.(5/282)
فإن كان مما لايضبط بالوصف، كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها: لايجوز السلم فيها، لأنه لايمكن ضبطها بالوصف، إذ يبقى بعد بيان جنسها ونوعها وصفتها وقدرها جهالة فاحشة مفضية إلى المنازعة بسبب التفاوت في المالية بين آحاد هذه الأشياء، فهناك تفاوت فاحش بين جوهر وجوهر، ولؤلؤ ولؤلؤ، وحيوان وحيوان، وجلد وجلد، وهكذا لأن أثمانها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة الضوء والصفاء، فيقع البيع فيها على مجهول، وبيع المجهول لايجوز.
هذا هو مذهب الحنفية. ويلاحظ أنهم أجازوا السلم في العدديات المتقاربة مطلقاً كيلاً، ووزناً وعددا ً. أما العدديات المتفاوتة: فلم يجيزوا السلم فيها لا وزناً ولا عدداً (1) .
وقال المالكية: يصح السلم فيما ينضبط، وفيما لاينضبط بالوصف، إذا اشترط رب السلم منها شيئاً معلوماً جنسه وصفته ومقداره إما بالوزن فيما يوزن وإما بالكيل فيما يكال أو بالذرع فيما يذرع، أو بالعدد فيما يعد أو بالوصف فيما لايوزن ولايكال ولايعد؛ لأن شرط صحة السلم: أن يضبط المسلم فيه، وأن يكون ضبطه بما جرت العادة بضبطه به بالوزن أو الكيل أو العدد أو الذرع.
__________
(1) المبسوط: 12 ص131، 136، البدائع: 5ص208 ومابعدها، فتح القدير: 5ص324 ومابعدها، 354، رد المحتار: 4ص213، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص39.(5/283)
أما بالنسبة للعدديات المتقاربة، فيجوز السلم فيها عدداً، لأنها لاتتباين كثيراً (1) .
وقال الشافعية: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف دون مالا ينضبط، أما بالنسبة للعدديات المتقاربة كالجوز واللوز فيصح السلم كيلاً أو وزناً، أو ذرعاً ولايجوز عدداً؛ لأن ذلك يتباين ويختلف، فلم يجز عدداً كالبطيخ. وأما العدديات المتفاوتة، فيصح السلم فيها وزناً في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، وما أشبه ذلك مما لايضبطه الكيل لتفاوت وحداته وتنافرها في المكيال، ولايكفي فيها العدّ لكثرة التفاوت فيها، فلم يمكن تقديرها بغير الوزن (2) .
وقال الحنابلة: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف كمكيل وموزون دون مالا ينضبط. أما العدديات المتفاوتة ففيها وجهان: وجه يصح السلم فيها عدداً وتضبط وحداتها بالصغر والكبر. ووجه: لايصح السلم فيها إلا وزناً، كما قال الشافعية (3) .
وهكذا يكون مذهب الشافعية والحنابلة قريباً من مذهب الحنفية، والخلاف بينهم محصور في السلم في العدديات المتقاربة عدداً، وفي العدديات المتفاوتة. وأجاز المالكية السلم فيما لاينضبط بالوصف.
__________
(1) بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص207، 215، المنتقى على الموطأ: 4ص292، 294، 296.
(2) المهذب: 1ص297، 299، مغني المحتاج: 2ص107.
(3) المغني: 4ص276، 288 ومابعدها.(5/284)
وسأذكر حكم بعض المبيعات التي لها صلة بشرط انضباط الوصف.. ومنها:
السلم في الحيوان:
يجوز السلم في الأليات والشحوم وزناً بلا خلاف، وأما السلم في الحيوان ذاته، فقد اختلف فيه الفقهاء:
فقال الحنفية: لايجوز السلم في الحيوان كيفما كان، لما روي عن ابن عباس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان» (1) ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً في تقدير ماليته، فلا يمكن ضبطه، وإن استقصى الواصف صفاته التي يختلف بها الثمن، والاختلاف فيه يفضي إلى المنازعة مثل سائر العدديات المتفاوتة (2) . وعليه فلا يصح السلم في الخرفان كما يفعل بعض الناس، لأنها لاتنضبط.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز السلم في الحيوان قياساً على جواز القرض فيه، روى مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم اقترض بَكْراً ـ وهو الفتيّ من الإبل» (3) وروى أبو داود «أنه صلّى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن يشتري بعيراً ببعيرين إلى أجل» (4) وهذا سلم لا قرض لما فيه من الفضل والأجل. وأما
__________
(1) أخرجه الحاكم والدارقطني عن ابن عباس، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والصحيح أن في إسناده إسحاق بن إبراهيم بن جوتى، وهو واهي الحديث. وقال عنه ابن حبان: «منكر الحديث جداً، يأتي عن الثقات بالموضوعات، لايحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب» (انظر نصب الراية: 4ص46، التلخيص الحبير: ص245) .
(2) المبسوط: 12ص131، فتح القدير: 5ص327 ومابعدها، البدائع: 5ص209.
(3) سيأتي تخريجه في باب القرض.
(4) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي من طريقه، وفي إسناده ابن إسحاق، وقد اختلف عليه فيه، ولكن أورده البيهقي في الخلافيات من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه (انظر التلخيص الحبير لابن حجر: ص235) .(5/285)
حديث النهي عن السلف في الحيوان فقال ابن السمعاني عنه في الاصطلام: «غير ثابت وإن أخرجه الحاكم» ولكن صحة السلم في الحيوان عند هؤلاء مشروطة بذكر نوعه وسنه وذكورته وأنوثته ولونه وقدِّه طولاً وقصراً على التقريب (1) .
السلم في اللحم مع العظم:
قال أبو حنيفة: لايجوز السلم في اللحم مع العظم، لوجود الجهالة المفضية إلى المنازعة من جهتين: جهة السمن والهزال، وجهة قلة العظم وكثرته. وكذلك لايجوز في الأصح عنده السلم في اللحم المنزوع العظم، لوجود الجهالة فيه أيضاً من جهة السمن والهزال، وهذا كاف لأن الحكم المعلل بعلتين مستقلتين يثبت مع إحداهما، كما يثبت معهما (2) .
وقال الصاحبان والمالكية والشافعية والحنابلة: يصح السلم في اللحم بشرط ضبط صفاته بذكر جنس اللحم: لحم شاة أو بقر، ونوعه: لحم شاة ذكر أو أنثى، خصي أو فحل، معلوفة أو سائمة، وسنه: لحم شاة ثني أو جذعة، وصفته: سمين أو مهزول أو وسط، وموضعه: من الفخذ أو الكتف أو الجنب، ومقداره: عشرة أرطال مثلاً. ودليلهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم» وظاهره: إباحة السلم في كل موزون، ولأنه إذا جاز السلم في الحيوان، فاللحم أولى (3) .
السلم في السمك:
السلم في السمك عند الجمهور كالسلم في اللحم. وأما عند أبي حنيفة فاختلفت عبارات الروايات، والصحيح من المذهب: أن السلم يجوز في السمك الصغار، كيلاً أو وزناً، ويستوي فيه المملح والطري؛ لأن الصغار منه لايتحقق فيه اختلاف السمن والهزال، ولا اختلاف العظم، بخلاف اللحم.
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 4ص293، بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص207، 209، مغني المحتاج: 2ص110، المغني: 4ص278، 282، غاية المنتهى: 2ص72.
(2) المبسوط: 12ص133، البدائع: 5ص210، فتح القدير: 5ص333، رد المحتار: 4ص214.
(3) بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص270، 209، مغني المحتاج: 2ص111 ومابعدها، المهذب: 1ص298، المغني: 3ص280، غاية المنتهى: 2ص71.(5/286)
وأما الكبار ففي ظاهر الرواية: يجوز كيفما كان وزناً (1) .
السلم في الثياب:
الثياب من العدديات المتفاوتة، فلا يجوز فيها السلم قياساً عند الحنفية، لأنها ليست من ذوات الأمثال لتفاوت فاحش بين ثوب وثوب، ويجوز السلم فيها استحساناً إذا بين الجنس والنوع، والصفة والرقعة (أي القدر من الثخانة والغلط) والذرع طولاً وعرضاً، فيلحق بالمثليات لحاجة الناس إليه وتعاملهم به.
وإن كان ثوب حرير فاختلف المشايخ في بيان وزنه، والأصح قول بعضهم: لابد من بيان وزنه أيضاً؛ لأنه مقصود فيه، وقيمة الحرير تختلف باختلاف الوزن (2) .
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة أيضاً السلم في الثياب كما لاحظنا (3) ، قال ابن المنذر: وأجمعوا على جواز السلم في الثياب (4) .
السلم في التبن:
لايجوز عند الحنفية السلم في التبن أوقاراً (أي أحمالاً) لتفاوت فاحش بين الوقرين. ولكن يجوز فيه بقبان معلوم من قبابين التجار، فلا يكون هناك اختلاف. والحكم يجري في الحطب: لايجوز حِزَماً، ويجوز وزناً (5) .
السلم في الخبز:
لايجوز السلم في الخبز عدداً بالاتفاق لتفاوت فاحش بين خبز وخبز في الصغر والكبر. وأما وزناً فقد ذكر الكرخي أن السلم في الخبز لايجوز، للتفاوت الفاحش بين الخبز في النضوج، فتبقى جهالة مفضية إلى المنازعة.
وفي نوادر ابن رستم: لايجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وهذا قول الشافعية لأن عمل النار فيه يختلف فلا يضبط. ويجوز عند أبي يوسف: إذا شرط نوعاً معلوماً ووزناً معلوماً وأجلاً معلوماً (6) .
وقال المالكية والحنابلة: يصح السلم في الخبز ونحوه مما أمكن ضبطه ومسته النار؛ لأن ظاهر الحديث: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم» إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود، ولأن عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة، فصح السلم فيه (7) .
__________
(1) المبسوط: 12ص138، البدائع: 5ص211، فتح القدير: 5 ص333، رد المحتار: 4ص213.
(2) المبسوط: 12 ص 133، فتح القدير: 5 ص 353، البدائع: 5 ص 209.
(3) القوانين الفقهية: ص 269، مغني المحتاج: 2 ص 107، غاية المنتهى: 2 ص 72.
(4) المغني: 4 ص 276.
(5) المبسوط: 12 ص 141، البدائع: 5 ص 209.
(6) البدائع: 5 ص 211، المهذب: 1 ص 297.
(7) المغني: 4 ص 277، الميزان للشعراني: 2 ص 74.(5/287)
قرض الخبز:
قال أبو حنيفة: لايجوز استقراض الخبز، كالسلم لاوزناً ولاعدداً. وجوز
أبو يوسف القرض فيه وزناً لاعدداً كالسلم. وجوز محمد استقراض الخبز عدداً ووزناً لحاجة الناس وتعارفهم إياه، وإن لم يكن من ذوات الأمثال، وهذا هو المفتى به عند الحنفية لتعامل الناس وحاجاتهم إليه (1) .
وقال المالكية: يجوز قرض الخبز وزناً وعدداً لحاجة الناس إليه، والمماثلة في العدد مما يتسامح فيه (2) .
وقال الشافعية والحنابلة في أصح الوجهين: يجوز قرض الخبز عدداً ويجوز وزناً لإجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار (3) . وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يارسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز، والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً؟ فقال: لابأس إن ذلك من مرافق الناس، ولايراد به الفضل» (4) .
خلاصة شروط السلم عند الشافعية:
أذكر شروط السلم بإيجاز عند الشافعية في مقابل مذهب الحنفية، وهي مايأتي:
1 - يشترط في العاقدين مايشترط في البائع والمشتري في عقد البيع من البلوغ والعقل والاختيار، لكن يصح السلم من الأعمى، لأن المسلم فيه (المبيع) موصوف في الذمة، بينما لايصح عندهم البيع من الأعمى لاشتراط رؤية المبيع.
__________
(1) تحفة الفقهاء: 2ص19، الدر المختار ورد المحتار: 4ص195، فتح القدير: 5ص299.
(2) حاشية الدسوقي: 3ص222.
(3) المهذب: 1 ص 304، مغني المحتاج: 2 ص 119، المغني: 4 ص 319.
(4) ذكره أبو بكر الشافي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أيضاً بإسناده عن معاذ بن جبل «أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير؟ فقال: سبحان الله، إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير، وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ذلك» (انظر المغني: 4 ص319) .(5/288)
2 - ويشترط في الصيغة مايشترط في صيغة البيع من اتحاد المجلس وتوافق القبول مع الإيجاب، ولكن يضاف في السلم أن تكون الصيغة بلفظ السلم أو السلف، ولايصح بغيرهما. وأن يخلو العقد من خيار الشرط بأن يكون العقد باتاً؛ لأن اشتراط الخيار يؤدي إلى تأجيل تسليم رأس المال في مجلس العقد، وهو ممنوع في السلم.
3 - ويشترط في رأس المال (الثمن) أن يكون معلوماً للعاقدين قدراً وصفة، وأن يتم تسليمه في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما، حتى لايصير في معنى بيع الدَّيْن بالدَّيْن.
4 - ويشترط في المسلم فيه (المبيع) :
أولاً - أن يمكن ضبطه بالوصف بحيث تنتقى الجهالة عنه، ولايتفاوت بين أفراد جنسه إلا تفاوتاً يسيراً.
ثانياً - وأن يكون معلوم الجنس والنوع والقد ر والصفة للعاقدين.
ثالثاً - وألا يكون مختلطاً من أجناس مختلفة كحنطة بشعير، ومسك وعنبر بغيرهما.
رابعاً - وأن يكون المسلم فيه دَيْناً، أي شيئاً موصوفاً في الذمة غير معين، فإن عين المسلم فيه، لم يصح السلم.
خامساً - وأن يكون مقدوراً على تسليمه في النوع والأجل، فلا يجوز أن يستبدل المسلم فيه بغيره، كبر بدلاً من سمن، وثياب بحديد، ونحو ذلك، ولايصح السلم فيما ينقطع وجوده غالباً وقت حلول الأجل كعنب في الشتاء. سادساً - وأن يعين الأجل الذي يجب التسليم عنده، وأن يكون الأجل معلوماً محدداً، فلا يصح السلم مع جهالة الأجل أو من غير ذكر الأجل، مثل إلى قدوم فلان من سفره أو إلى الحصاد مثلاً.
سابعاً - وأن يعين موضع تسليم المسلم فيه إذا لم يصلح محل العقد للتسليم، أو كان يصلح ولكن يحتاج نقله إلى كلفة ونفقة.
المطلب الرابع ـ حكم السلم
مقتضى السلم: أنه يثبت الملك فيه لرب السلم، مؤجلاً، بمقابلة ثبوت الملك في رأس المال المعين أو الموصوف في الذمة للمسلم إليه.
وقد أجيز حكمه بطريق الرخصة دفعاً لحاجة الناس، ولكن بالشرائط المخصوصة التي ذكرت والتي هي غير مشروطة في عقد البيع.(5/289)
المطلب الخامس ـ أوجه الاختلاف بين البيع والسلم
يترتب على الشروط الخاصة بعقد السلم أن يختلف السلم عن البيع من وجوه:
1 - استبدال رأس مال السلم والمسلم فيه في مجلس العقد:
وهو أن يأخذ برأس مال السلم شيئاً من غير جنسه. وفيه قال الحنفية: لايجوز الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض. أما الثمن فيجوز استبداله إذا كان ديناً؛ لأن قبض رأس المال شرط في السلم، وبالاستبدال لايحصل القبض حقيقة؛ لأن المسلم إليه يقبض بدل رأس المال حينئذ، وبدل الشيء غيره. أما الثمن في البيع فلا يشترط قبضه، والبدل يقوم مقامه معنى. وكذلك لايجوز الاستبدال ببدلي الصرف؛ لأن قبضهما شرط حقيقة.
وأما استبدال المسلم فيه: فلايجوز أيضاً قبل القبض كاستبدال المبيع المعين، لأن المسلم فيه مبيع منقول، وإن كان ديناً، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لايجوز (1) .
وإذا انفسخ عقد السلم أو تقايل العاقدان السلم: فلايجوز الاستبدال برأس مال السلم الموجود مع المسلم إليه، أي أنه لايجوز لرب السلم أن يشتري من المسلم إليه شيئاً برأس المال حتى يقبضه كله، وهذا قول علماء الحنفيةالثلاثة أخذاً بالاستحسان (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لاتأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك» (3) أي عند الفسخ، ولأن الإقالة بيع جديد في حق شخص ثالث غير العاقدين، والثالث هنا هو الشرع. ويعتبر رأس المال: هو المبيع، وإذا ثبت تشابه رأس المال والمبيع، فالمبيع لايجوز التصرف فيه قبل القبض، فكذا ماأشبهه.
والقياس أن يجوز الاستبدال برأس المال بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم، سواء أكان رأس المال عيناً أم ديناً أي من النقود، وهو قول زفر لأن رأس المال بعد
__________
(1) البدائع: 5 ص 203.
(2) وذهب مالك إلى أنه لايجوز ذلك إذا كان المسلم فيه طعاماً، لنهي الرسول صلّى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل أن يستوفى (بداية المجتهد: 205/2) وأجاز الشافعي وفي قول عن أحمد هذا البيع، لأن صاحب المال قد ملك رأس ماله بالإقالة، وصار ديناً في ذمة المسلم إليه الذي برئ من تسليم المسلم فيه، فيجوز له أن يشتري به ماأحب ممن أحب (الأم: 117/3، المغني: 304/4) .
(3) نص الحديث كما رواه الدارقطني عن ابن عمر هو «من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ماأسلف أو رأس ماله» قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: «فلا يأخذ إلا ماأسلم فيه أو رأس ماله» (انظر نيل الأوطار: 5ص227 ومابعدها، نصب الراية: 4ص51) . وروى أبو داود في سننه «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» .(5/290)
الإقالة صار ديناً في ذمة المسلم إليه، فكما جاز الاستبدال بسائر الديون جاز بهذا الدين، ويرد عليه بالحديث والمعقول السابقين (1) .
واتفقوا على أن الاستبدال ببدلي الصرف بعد الإقالة قبل القبض جائز؛ لأن بدل الصرف لا يتعين بالتعيين، فلو تبايعا دراهم بدنانير، جاز استبدالها قبل القبض بأن يمسكا ما أشارا إليه في العقد، ويؤديا بدله قبيل الافتراق من مجلس الإقالة.
واتفقوا على أن قبض رأس المال بعد الإقالة في السلم في مجلس الإقالة: ليس بشرط لصحة الإقالة؛ لأن عقد الإقالة ليس في حكم إنشاء عقد السلم من كل وجه؛ لأن اشتراط القبض في عقد السلم في مجلس العقد كان للاحتراز عن بيع الكالئ بالكالئ (أي الدين بالدين) والمسلم فيه سقط بالإقالة، فلم يصبح لازماً على المسلم إليه، فلا يتحقق فيه بيع الدين بالدين، فلا يشترط القبض (2) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 5 ص 346، رد المحتار: 4 ص 218 ومابعدها.
(2) فتح القدير، المرجع السابق، رد المحتار: 4 ص 219.(5/291)
أما في الصرف فيشترط القبض لصحة الإقالة، لأنه إذا اعتبرنا الإقالة بيعاً جديداً، كما يقول أبو يوسف، فالتعليل ظاهر، وإذا اعتبرنا الإقالة فسخاً في حق العاقدين، كما يقول أبو حنيفة فهي في تقدير الشرع بيع، لأن أبا حنيفة يقول: هي بيع جديد في حق غير العاقدين، وإذا كانت الإقالة بيعاً فيجب قبض البدلين منعاً من الوقوع في محظور بيع الدين بالدين (1) .
واتفقوا على أن السلم إذا كان فاسداً منذ نشأته، فلا بأس بالاستبدال فيه قبل القبض، إذ ليس له حكم السلم، فيجوز الاستبدال، كما في سائر الديون.
وعدم جواز استبدال المسلم فيه ورأس مال السلم متفق عليه أيضاً لدى المذاهب الأخرى (2) .
2 - إقالة بعض السلم:
إذا أخذ رب السلم بعض رأس ماله وبعض المسلم فيه بعد حلول الأجل أو قبله برضا صاحبه، فإنه يجوز، ويكون إقالة للسلم فيما أخذ من رأس المال ويبقى السلم في الباقي، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن أخذ رأس المال إقالة، ولو أقاله في الكل جاز اتفاقاً، فكذلك إذا أقال في البعض يجوز أيضاً، كما في بيع العين. والإقالة كما هو معروف: فسخ للعقد ورفع له من أصله، وليست بيعاً على الراجح.
وقال الإمام مالك والقاضي ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك ويفسد العقد (3) ويسترد رب السلم ما بقي من رأس المال لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» فإذا أخذ بعض كل واحد منهما فلم يأخذ لا هذا ولا ذاك، ولأنه حين أخذ بعض رأس المال، فقد اختار فسخ العقد، فينفسخ في الكل (4) . فإما أن يقيله من الكل، أو يأخذ الكل.
ورد الجمهور على الحديث بأن المراد به النهي عن أخذ شيء آخر سوى رأس المال والمسلم فيه.
__________
(1) البدائع: 5 ص 308، رد المحتار: 4 ص 219، 245.
(2) القوانين الفقهية: ص 269، مغني المحتاج: 2 ص 115، غاية المنتهى: 2 ص 80.
(3) سداً للذريعة، لأنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف.
(4) المبسوط: 12 ص 130، المنتقى على الموطأ: 4 ص 302، حاشية الدسوقي: 3 ص 215، المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 303، غاية المنتهى: 2 ص 81، مغني المحتاج: 2 ص 103.(5/292)
وأما البيع فإنه إذا أقاله العاقدان في البعض دون البعض فيجوز بالاتفاق.
واتفقوا على أنه لو أخذ رب السلم جميع رأس المال، برضا صاحبه أو أقاله جميع السلم أو تصالحا على رأس المال، فإنه يكون إقالة صحيحة، وينفسخ السلم.
ولو أخذ رب السلم بعض رأس المال قبل حلول الأجل ليعجل باقي السلم، فإنه لا يجوز هذا الشرط، وتصح الإقالة عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا الشرط يصبح في معنى المعاوضة عن الأجل فهو شرط فاسد، والإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، لأنه فسخ عندهما، فتصح ويبطل الشرط، بخلاف البيع، فإنه يتأثر بالشروط الفاسدة؛ لأن الشرط الفاسد فيه يؤدي إلى الربا، أما الإقالة فلأنها رفع البيع فلا يتصور فيها ربا.
وعند أبي يوسف: تبطل الإقالة بهذا الشرط الفاسد، ويظل السلم كله باقياً إلى أجله؛ لأن الإقالة عنده بيع جديد، والبيع يبطل بالشرط الفاسد لتمكن الربا فيه (1) . وسيأتي في بحث الإقالة أدلة كل منهم على تكييف الإقالة: هل هي فسخ أو بيع؟
3 - الإبراء عن رأس المال:
لا يجوز للمسلم إليه إبراء رب السلم عن رأس المال بدون قبوله ورضاه، فإذا قبل صح الإبراء، ولكن يبطل السلم، لأنه يترتب عليه عدم قبض رأس المال، بسب الإبراء. وإذا رفض رب السلم الإبراء بقي عقد السلم صحيحاً.
أما البيع: فلو أبرأ البائع المشتري عن ثمن المبيع فيصح من غير قبول إلا أنه يرتد بالرد؛ لأن في الإبراء معنى التمليك على سبيل التبرع، وهو لا يلزم دفعاً لضرر المنة.
__________
(1) البدائع: 5 ص 307، تحفة الفقهاء: 2 ص 21، الطبعة القديمة، القوانين الفقهية: ص270.(5/293)
والفرق بين السلم والبيع: أن قبض الثمن ليس بشرط لصحة البيع. وقبض رأس المال في المجلس شرط لصحة عقد السلم، فلو صح الإبراء من غير قبول الطرف الآخر، لانفسخ عقد السلم من غير رضا صاحبه، وهذا لا يجوز؛ لأن أحد العاقدين لاينفرد بفسخ العقد، فلا يصح الإبراء، بخلاف الثمن: لا يترتب على الإبراء منه فسخ البيع لأن قبضه ليس بشرط.
أما لو أبرأ رب السلم عن المسلم فيه، فيجوز من غير قبول المسلم إليه، لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط، فيصح من غير قبول؛ لأن الإبراء عن دين لا يجب قبضه شرعاً إسقاط لحق المبرئ لا غير، فيملك الإبراء.
وأما الإبراء عن المبيع فلا يصح، لأنه عين، والإبراء إسقاط، وإسقاط الأعيان لا يعقل (1) .
4 - الحوالة والكفالة والرهن برأس المال وبالمسلم فيه:
تجوز الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر، والكفالة به، والرهن به، وكذا بالمسلم فيه أيضاً عند جمهور الحنفية لوجود ركن هذه العقود مع شرائطه.
وعند زفر: يجوز بالمسلم فيه ولا يجوز برأس المال؛ لأن عقود الكفالة والحوالة والرهن شرعت لتوثيق حق يحتمل التأخر عن المجلس، ورأس المال لا يتأخر، فلا يتحقق ما شرع له العقد، فلا يصح. ورد عليه بأن معنى التوثيق يحصل في الحقين جميعاً، فجاز العقد فيهما.
__________
(1) البدائع: 5 ص 203.(5/294)
توضيح ذلك أن الفقهاء وضعوا قاعدة وهي: «أن ملكية الأعيان لا تقبل الإسقاط، وإنما تقبل النقل» فلو أسقط أحد ملكيته عن شيء مملوك له لا تسقط وتبقى ملكاً له. وقد بنوا عليه عدم صحة الإبراء عن الأعيان لما في الإبراء من معنى الإسقاط مشوباً بمعنى التمليك، فلو كان لأحد عند آخر شيء مغصوب أو مودع فأبرأه عنه لا يصح الإبراء ويبقى الشيء لصاحبه (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 123) . وكذلك في البيع: تجوز الحوالة والكفالة والرهن بالثمن والمبيع إلا أن الفرق بين السلم والبيع هو في حالة افتراق العاقدين في السلم بدون قبض كما سأبيِّن.
ففي عقد السلم: يجب أن يقبض المسلم إليه رأس المال من المحال عليه، أو من الكفيل أو من رب السلم أو يهلك الرهن قبل أن يتفرق العاقدان عن المجلس، بشرط أن تكون قيمة الرهن مثل رأس المال أو أكثر؛ لأن حق المسلم إليه ينتقل حينئذ إلى قيمة الرهن، فإذا كانت هذه القيمة تساوي رأس المال أو تزيد عنه، فيحصل افتراق العاقدين بعد أن يتم قبض رأس المال؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء؛ لأنه قبض مضمون على المرتهن سواء تعدى أو قصر أو لم يتعد ولم يقصر، وبالهلاك تقرر الضمان عليه، فتحدث مقاصة بين المرتهن والراهن، أي بين المسلم إليه ورب السلم هنا. ويترتب عليه أنه يحدث الافتراق بينهما بعد قبض رأس المال.
فإن كانت قيمة الرهن أقل من رأس المال، تم العقد بقدر الرهن ويبطل في الباقي.
وإذا افترق رب السلم والمسلم إليه قبل القبض بطل السلم حتى ولو بقي المحال عليه والكفيل مع المسلم إليه، أما لو بقي المسلم إليه مع رب السلم، وذهب المحال عليه والكفيل فلا يبطل السلم؛ لأن العبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما؛ لأن القبض من حقوق العقد، والعقد أساسه العاقدان.
والحكم كذلك في الرهن: إذا لم يهلك حتى تفرق المتعاقدان، يبطل السلم لعدم قبض رأس المال، وعلى المسلم إليه رد الرهن على صاحبه.(5/295)
وكل ما ذكر في السلم هنا يجري في عقد الصرف.
هذا بالنسبة لرأس المال. أما بالنسبة للمسلم فيه فإن المحيل يبرأ بنفس عقد الحوالة ويكون التسليم فيه واجباً على المحال عليه إذا حل الأجل، وحينئذ يطالب رب السلم المحال عليه بالتسليم دون المحيل.
وفي الكفالة يكون رب السلم بالخيار: إن شاء طالب الأصيل، وإن شاء طالب الكفيل. وفي الرهن: لرب السلم أن يحبس المرهون حتى يأخذ المسلم فيه (1) .
وكذلك لا تجوز الحوالة والكفالة والإبراء والرهن برأس المال على غير حاضر في المجلس عند غير الحنفية (2) ؛ لأن قبضه حقيقة شرط أساسي لصحة السلم، إلا أن المالكية كما عرفنا أجازوا تأخير القبض مدة ثلاثة أيام. وقد غالى الشافعية فلم يجيزوا قبض رأس المال في المجلس من المحال عليه إلا أن يقبضه رب السلم نفسه، ثم يسلمه للمسلم إليه، لأن الحق بالحوالة يتحول إلى ذمة المحال عليه فهو يؤديه عن نفسه لا عن المسلم.
الخلاصة: تجوز الحوالة عند الحنفية على المسلم فيه، ولاتجوز عند الجمهور، وقصر المالكية المنع على ما إذا كان المسلم فيه طعاماً. ويجوز أخذ الرهن والكفيل بالمسلم فيه عند الجمهور لما لهما من الفائدة، ولايجوز ذلك في المعتمد عند الحنابلة لحديث أبي داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» .
__________
(1) المبسوط: 151/12 ومابعدها، البدائع: 203/5 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 195/3، مغني المحتاج: 103/2، غاية المنتهى: 80/2، المغني: 302/4.(5/296)
5 - قبض رأس المال مشوباً:
إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده مشوباً، كأن يجده زيوفاً أو نبهرجة، أو مستحقاً أو ستوقة (1) أو معيباً: فإما أن يصدقه رب السلم أو يكذبه:
الافتراض الأول ـ إن صدقه رب السلم: فله حق الرد، ثم لا يخلو إما أن يكون رأس المال عيناً وهو ما يتعين بالتعيين، أو ديناً: وهو ما لا يتعين بالتعيين.
1 - فإن كان عيناً: فوجده المسلم إليه مستحقاً (2) أو معيباً: فإن أجاز المستحق جاز العقد، وإلا بطل، وإن رضي المسلم إليه بالعيب جاز العقد، وإلا بطل أي (السلم) ، سواء أكان اكتشاف العيب قبل افتراق العاقدين أم بعده. وسبب بطلانه: أنه انتقض (3) القبض فيه بالاستحقاق أو الرد بالعيب، ولا يمكن إقامة شيء عن غير رأس المال مقامه، لأنه معين فيحصل الافتراق لا عن قبض رأس المال في المجلس، فيبطل السلم.
وأما في حال إجازة العقد فلأنه تبين أن قبضه وقع صحيحاً، فحصل الافتراق عن قبض رأس المال (4) .
2 - وأما إذا كان رأس المال ديناً: فقبضه المسلم إليه فوجده مشوباً، فإما أن يجده مشوباً في مجلس السلم أو بعد الافتراق:
أولاً: إن وجده مشوباً في مجلس السلم:
1 - إن وجد ذلك مستحقاً: فإن صحة القبض موقوفة على إجازة المستحق: إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل.
__________
(1) الدراهم أربعة أنواع: جياد، ونبهرجة، وزيوف، وستوقة. واختلفوا في تفسير النبهرجة فقيل: هي التي تضرب في غير دار السلطان. والزيوف: هي المغشوشة. والستوقة: نحاسمموه بالفضة. وقال عامة المشايخ: الجياد فضة خالصة تروج في التجارات، وتوضع في بيت المال. والزيوف: ما زيفه بيت المال أي رده، ولكن تأخذه التجار في التجارات، ولا بأس بالشراء بها، ولكن يبين للبائع أنها زيوف، والنبهرجة: ما يرده التجار، والستوقة: أن يكون الطاق الأعلى فضة والأسفل كذلك وبينهما نحاس، وليس لها حكم الدراهم. وهكذا: فالزيوف أجود، ثم النبهرجة، ثم الستوقة (رد المحتار: 228/4) .
(2) استحقاق المبيع: هو أن يظهر أن المبيع مملوك كله أو بعضه لغير البائع، كما لو ظهر أن المبيع وقف ومثل ذلك استحقاق رأس المال (عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 97) .
(3) أي لم يتحقق القبض المشروط في عقد السلم بسبب ظهور استحقاق رأس المال لغير رب المال.
(4) البدائع: 204/5.(5/297)
2 - وإن وجده ستوقة أو رصاصاً: فلا يجوز العقد وإن قبل به، لأنه ليس من جنس حقه، إذ هو ليس من جنس الدراهم، فيكون استبدالاً برأس المال قبل القبض كما لو استبدل ثوباً من رب السلم مكان الدراهم، وهو لا يجوز كما عرفنا. وإن لم يقبل به، ورده وقبض شيئاً آخر مكانه جاز العقد لأنه لما رده، وانتقض قبضه، جعل كأن لم يكن، وكأنه أخر القبض إلى آخر المجلس.
3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإن قبل به جاز العقد؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة، وفوات صفة الجودة، فإن رضي بها فقد أبرأ رب السلم عن العيب ورضي بقبض حقه مع النقصان.
وإن ردها واستبدل شيئاً مكانها في مجلس العقد جاز، لأنه وجد مثل حقه في المجلس، فكان القبض متأخراً (1) .
ثانياً: إن وجده مشوباً بعد الافتراق عن المجلس:
1 - إن وجده مستحقاً: فالقبض موقوف على إجازة المستحق إن أجاز جاز، وإن رد بطل السلم.
2 - وإن وجد رأس المال ستوقة أو رصاصاً: بطل السلم؛ لأن الستوقة ليست من جنس الدراهم، لأنها لا تروج في معاملات الناس، فلم تكن من جنس حقه أصلا ووصفاً، ويحصل الافتراق عن المجلس بدون قبض رأس المال، فيبطل السلم، ولا يعود جائزاً بالقبض بعد المجلس.
3 - وإذا وجده زيوفاً أو نبهرجة: فإنها تجوز أي قبل المسلم إليه، فالسلم ماض على الصحة؛ لأن الزيوف من جنس حقه؛ لأنها دراهم، لكنها معيبة بالزيافة وفوات صفة الجودة، فإذا رضي بها، فقد رضي بقبض حقه مع النقصان.
وإن لم يتجوز به أي لم يقبلها وردها، فاتفق علماء الحنفية على أنه إن لم يستبدلها في مجلس الرد، بطل السلم بقدر ما رد.
__________
(1) البدائع: 204/5 ومابعدها.(5/298)
وأما إذا استبدل مكانها جياداً في مجلس الرد: فالقياس أن يبطل السلم بقدره قل المردود أو كثر، وبه أخذ أبو حنيفة وزفر؛ لأن الزيوف من جنس حق المسلم إليه أصلاً لا وصفاً، ولهذا ثبت له حق الرد بفوات حقه في الوصف، فكان حقه في الأصل والوصف جميعاً، فإذا لم يتوافرا ولم يرض بما قبض، تبين أنه لم يقبض حقه، فيبطل السلم.
والاستحسان: ألا يبطل السلم وهو قول الصاحبين، لأن قبض الزيوف وقع صحيحاً، لأنه قبض جنس الحق، بدليل أنه لو تجوز بها جاز إلا أنه فاتته صفة الجودة بالزيافة، والمعيب لا يمنع صحة القبض، وقد أجيز استبداله في مجلس الرد، لأن للرد شبهاً بالعقد، فألحق مجلس الرد بمجلس العقد (1) .
هذا إذا وجد المسلم إليه كل رأس المال زيوفاً أو نبهرجة: فإن وجد بعضه دون بعض، استحسن أبو حنيفة في حالة استبدال جياد مكانه في مجلس الرد: أنه إذا كان قليلاً فرده واستبدل في المجلس، فالعقد ماض في الكل، وإن كان كثيراً بطل العقد بقدر المردود؛ لأن الزيافة في القليل مما لا يمكن التحرز عنه (2) .
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في الحد الفاصل بين القليل والكثير والأصح منها: أن الثلث فصاعداً في حكم الكثير، وما دونه في حكم القليل (3) .
هذا ما يتعلق بحكم رأس المال.
وأما حكم المسلم فيه فهو: إذا وجد رب السلم بالمسلم فيه عيباً، بعدما قبضه، فإن له خيار العيب إن شاء تجوز به، وإن شاء رده وأخذ المسلم فيه غير معيب؛ لأن حقه في السليم دون المعيب (4) ولكن خيار الرؤية وخيار الشرط لا يثبتان في السلم، كما سبق بيانه.
الافتراض الثاني ـ إذا كذب رب السلم المسلم إليه، وأنكر أن تكون الدراهم التي جاء بها من دراهمه التي أعطاها، وادعى المسلم إليه أنها من دراهمه، فهذا لا يخلو من ستة أوجه:
__________
(1) البدائع: 205/5.
(2) البدائع: 206/5.
(3) تحفة الفقهاء: 27/2.
(4) المرجع السابق.(5/299)
إن كان المسلم إليه أقر بالقبض قبل النزاع، فقال: قبضت الجياد أو قبضت حقي أو قبضت رأس المال أو استوفيت الدراهم، أو قبضت الدراهم، أو قال: «قبضت» ولم يقل شيئاً آخر.
1 - ففي الحالات الأربع الأولى: لا تسمع دعواه بعدئذ أنه وجده زيوفاً، ولم يكن له حق استحلاف رب السلم بالله (أنها ليست من الدراهم التي قبضها منه) لأنه بإقراره بقبض الجياد يصير متناقضاً في دعواه، والمناقضة تمنع صحة الدعوى، والحلف يكون في الدعوى الصحيحة.
2 - وأما إذا قال المسلم إليه: (قبضت الدراهم) ثم قال: (هي زيوف) فالقياس أن يكون القول قول رب السلم: (أنها ليست من دراهمه) مع يمينه على قوله، وعلى المسلم إليه البينة أنها من الدراهم التي قبضها منه؛ لأن المسلم إليه يدعي أنها مقبوضة مع العيب، ورب السلم ينكر أنها مقبوضة، أو أنها التي قبضها منه، فيعتبر قول المنكر بيمينه.
وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه مع يمينه، وعلى رب السلم البينة أنه أعطاه الجياد؛ لأن رب السلم بإنكاره أنها ليست من دراهمه يدعي إيفاء حقه، وهو الجياد، والمسلم إليه بدعواه أن هذه الدراهم زيوف ينكر قبض حقه، فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يقبض حقه وعلى المدعي البينة أنه أوفاه حقه.
وهذا هو مقتضى القياس في الحالات الأربع الأولى، إلا أنه هناك سبق منه ما يناقض دعواه: وهو الإقرار بالجياد، وههنا لم يسبق منه شيء مناقض؛ لأن ذكر قبض الدراهم يقع على الزيوف، والجياد بخلاف الحالات الأولى.
3 - وإذا قال المسلم إليه: (قبضت) لا غير، ثم قال: (وجدته زيافاً) يكون القول قوله، كما تقرر في الحالة السابقة.
إلا أن ههنا إذا قال: (وجده ستوقة أو رصاصا ً) فإنه يصدق، بخلاف ما إذا قال: (قبضت الدراهم) ثم قال: (وجدتها ستوقة أو رصاصاً) فإنه لا يقبل قوله، لأن في قوله: (قبضت) إقراراً بمطلق القبض والستوقة تقبض، فإذا قال: (ما قبضته ستوقة) لا يكون مناقضاً دعواه، وفي قوله: (قبضت الدراهم) يصير مناقضاً لقوله: (قبضت الستوقة والرصاص) لأنه خلاف جنس الدراهم (1) .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 28/2 وما بعدها، وقد نقلنا ذلك منها دون تعديل لإيفائه بالغرض مع بساطة العبارة.(5/300)
..........................................2.............................................
.....................................عقد الاستصناع.......................................
تمهيد:
لم يكن الإسلام في ماضيه وحاضره ومستقبله قيداً ثقيلاً على الناس في ممارسة حرياتهم الاقتصادية ومعاملاتهم وعقودهم، وإنما كان دائماً متجاوباً مع مصالح الناس في تشريعه وتجويزه كل ماكان محققاً لحاجاتهم، ومصالحهم المشروعة القائمة على الحق والعدل والتعادل في الأداءات المتقابلة في المبادلات أو المعاوضات، ومظهر هذا التجاوب واضح في أصول الاستنباط ومصادر الاجتهاد، وفي التطبيق الفعلي وواقع الاجتهاد الذي يمارسه المجتهدون في نطاق مايسمى بالفقه: وهو استنباط أحكام الحوادث والقضايا العملية من الأدلة التفصيلية، كلاً على حدة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه الواقعي: مشروعية بعض العقود المتكررة في الحياة العملية على سبيل الاستثناء من النصوص أو القواعد العامة، كعقد السلم أو السلف، وعقد الاستصناع، تيسيراً على الناس في تحقيق حوائجهم، وتلبية لمطالبهم المشروعة دون حرج ولا إعنات ولا إرهاق، لأن (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و (المشقة تجلب التيسير) والإسلام دين اليسر لا العسر.(5/301)
وإذا كان الاستصناع في الماضي وليد الحاجة الخاصة والصناعة اليدوية في مجال الجلود والأحذية والنجارة والأثاث المنزلي، فإنه في عصرنا الحاضر أصبح من العقود المحققة للحاجات العامة والمصالح الكبرى، كبناء السفن في أحواض واسعة، والطائرات والآلات المختلفة في مصانع ضخمة ومعقدة ودقيقة دقة تامة بالغة الأهمية، مما أدى إلى وجود قفزة رائعة لهذا العقد بين العقود التجارية.
خطة البحث
يتناول البحث محاور ثلاثة وهي ما يأتي:
ـ المحور الأول:
1 - تعريف الاستصناع
2 - معناه، هل هو مواعدة أو بيع؟
3 - دليل مشروعيته
4- الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه
5 - حكمه وصفته
ـ المحور الثاني:
1 - الاستصناع والسلم
2 - العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين
3 - شروط كل من الاستصناع والسلم
ـ المحور الثالث:
1 - أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصناعية
المحور الأوّل
تعريف الاستصناع:
الاستصناع في اللغة: طلب الصنعة، والصنعة: عمل الصانع في صنعته أي حرفته، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح والقاموس المحيط.
وهو في اصطلاح الفقهاء: طلب العمل من الصانع في شيء مخصوص على وجه مخصوص (1) . أو هو عقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة (2) ، أي العقد على شراء ما سيصنعه الصانع، وتكون العين أو مادة الصنعة والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعاً. وبعض الفقهاء يقول: إن المعقود عليه هو العمل فقط، لأن الاستصناع طلب الصنع وهو العمل.
مثاله: أن يطلب المستصنع (وهو المشتري أو المستأجر) أحد أفراد الناس من الصانع (وهو البائع أو العامل) كنجار وحداد وحذّاء ونحوهم من أصحاب الحرف أو المهن أن يصنع له شيئاً معيناً بأوصاف محددة، كأثاث منزل أو مكتبة أو كراسي أو حلي وغيرها، على ثمن معلوم، إذا جرى فيه التعامل كالقلنسوة والخف والآنية ونحوها عملاً بالعرف (3) .
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 221/4.
(2) المجلة: م 124.
(3) البدائع: 209/5 ومابعدها.(5/302)
وينعقد الاستصناع بالإيجاب والقبول من المستصنع والصانع. ويقال للمشتري: مستصنع، وللبائع: صانع، وللشيء: مصنوع، كاتفاق شخصين على صنع أحذية أو آنية أو ثياب أو أثاث منزلي ونحو ذلك (1) .
وهو عقد يشبه السلم (بيع آجل بعاجل) لأنه بيع لمعدوم، وأن الشيء المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع، ولكنه يفترق عنه من حيث إنه لا يجب فيه تعجيل الثمن (رأس المال) ولا بيان مدة الصنع والتسليم، ولا كون المصنوع مما يوجد في الأسواق.
ويشبه الإجارة أيضاً، لكنه يفترق عنها من حيث إن الصانع يضع مادة الشيء المصنوع من ماله.
معنى الاستصناع: هل هو مواعدة أو بيع؟
اختلف مشايخ أو فقهاء الحنفية في تخريج الاستصناع، أهو بيع أم وعد بالبيع، أم إجارة، وإذا كان بيعاً، هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع؟.
فقال الحاكم الشهيد المروزي والصفَّار ومحمد بن سَلَمة وصاحب المنثور: الاستصناع مواعدة، وإنما ينعقد بيعاً بالتعاطي عند الفراغ من العمل، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولايجبر عليه، بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل مايؤتى به، ويرجع عنه، ولاتلزم المعاملة.
والصحيح الراجح في المذهب الحنفي: أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا
__________
(1) البدائع: 2/5، فتح القدير: 355/5، الفتاوى الهندية: 504/4، الدر المختار ورد المحتار: 222/4. عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 122.(5/303)
لعمل الصانع، فهو ليس وعداً ببيع ولا إجارة على العمل، فلو أتى الصانع بمالم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة، جاز ذلك. والدليل أن محمد بن الحسن رحمه الله ذكر في الاستصناع القياس والاستحسان، وهما لا يجريان في المواعدة، ولأنه جوزه فيما فيه تعامل دون ما ليس فيه تعامل، ولوكان مواعدة جاز في الكل، وسماه شراء فقال: إذا رآه المستصنع فهو بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره، ولأن الصانع يملك الدراهم بقبضها، ولو كان العقد مواعدة لم يملكها. وإثبات الخيار لكل من العاقدين لا يدل على أنه غير بيع، بدليل أنه في بيع المقايضة لو لم ير كل من العاقدين عين الآخر أي مبيعه، كان لكل منهما الخيار. وثبوت خيار الرؤية للمستصنع من خصائص البيوع، فدل على أن جوازه جواز البياعات، لاجواز العدات. ويترتب على كونه بيعاً أنه يجبر الصانع على عمله، ولا يرجع الآمر المستصنع عنه، ولو كان عدة لما لزم.(5/304)
وقال أبو سعيد البرادعي: المعقود عليه هو العمل أو الصنع، لأن الاستصناع: طلب الصنع، وهو العمل. والراجح في الاجتهاد الحنفي أن المعقود عليه هو العين المستصنعة دون العمل، فلو جاء الصانع بالمطلوب بما يوافق الأوصاف المشروطة ورضي به المستصنع، جاز العقد، سواء أكان من صنعة غيره أم من صنعته قبل العقد، ولو كان المبيع العمل نفسه لما صح ذلك. قال الكاساني: ولو كان شرط العمل من العقد نفسه، لما جاز؛ لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي، والصحيح القول بأن المعقود عليه هو المبيع الذي شرط فيه العمل؛ لأن الاستصناع طلب الصنع، فما لم يشترط فيه العمل، لا يكون استصناعاً، فكان مأخذ الاسم دليلاً عليه، ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سَلَماً، وهذا العقد يسمى استصناعاً، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل. وأما إذا أتى الصانع بعين صنعها قبل العقد، ورضي به المستصنع، فإنما جاز لا بالعقد الأول، بل بعقد آخر وهو التعاطي بتراضيهما (1) .
ـ دليل مشروعية الاستصناع:
يرى فقهاء الحنفية (2) أن مقتضى القياس أو القواعد العامة ألا يجوز الاستصناع، لأنه بيع
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 355/5، البدائع: 2/5، 209، الدر المختار ورد المحتار، 222/4 ومابعدها.
(2) المبسوط 138/12 ومابعدها، البدائع2/5، 209، فتح القدير: 255/5.(5/305)
المعدوم كالسَّلَم، وبيع المعدوم لا يجوز، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ماليس عند الإنسان، فلا يصح بيعاً؛ لأنه بيع معدوم، ولا يمكن جعله إجارة، لأنه استئجار على العمل في ملك الأجير، وذلك لايجوز، كما لو قال رجل لآخر: احمل طعامك من هذا المكان إلى مكان كذا، بكذا، أو اصبغ ثوبك أحمر بكذا، لا يصح. وهذا قول زفر ومالك والشافعي وأحمد، لكن يصح الاستصناع عندهم على أساس عقد السلم، ويشترط فيه ما يشترط في السلم، ومن أهم شروطه: تسليم جميع الثمن في مجلس العقد، ولا مانع عند المالكية من تأجيله إلى يوم أو يومين، وذكروا أيضاً أنه يجب تحديد أجل لتسليم الشيء المصنوع كالسلم، وإلا فسد العقد، ويشترط أيضاً عندهم ألا يعين العامل الصانع، ولا الشيء المعمول المصنوع، كما تشترط بقية شروط السلم، وبناء عليه يفسد عقد الاستصناع ويفسخ في صور ثلاث: هي ألا يحدد وقت لتسليم الشيء المصنوع، وأن يعين العامل، أو يعين المعمول؛ لأنه يصبح حينئذ معيناً، لا في الذمة، وشرط صحة السلم ومثله الاستصناع: كون المسلم فيه ديناً في الذمة (1) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 539/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 217/3، الشرح الصغير: 287/3 ومابعدها.(5/306)
ويصح عند الشافعية حينئذ، سواء حدد فيه الأجل لتسليم الشيء المصنوع أم لا، بأن كان سلماً حالاًّ، والسلم الحالّ جائز عندهم (1) .
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الاستصناع استحساناً، لتعامل الناس وتعارفهم عليه في سائر الأعصار من غير نكير، فكان إجماعاً من غير إنكار من أحد، والتعامل بهذه الصفة أصل مندرج في قوله صلّى الله عليه وسلم، «لا تجتمع أمتي على ضلالة» (2) . وقال ابن مسعود: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» (3) .
وقد استصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاتماً، واحتجم صلّى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، مع أن مقدار عمل الحجامة وعدد مرات وضع المحاجم ومصها غير لازم عند أحد، ومثله شرب الماء من السقاء، وسمع صلّى الله عليه وسلم بوجود الحمام فأباحه بمئزر، ولم يبين له شرطاً، وتعامل الناس بدخوله من لدن الصحابة والتابعين على هذا الوجه المعمول به الآن، وهو ألا يذكر مقدار الماء المستهلك ولا مدة المكث في الحمام، والمعدوم قد يعتبر موجوداً حكماً (4) .
الشروط التي تلحقه أو تفارقه ومدى تأثيرها في حكمه:
اشترط الحنفية لجواز الاستصناع شروطاً ثلاثة إذا فاتت أو فات واحد منها
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 89، العرف والعادة للأستاذ الشيخ أحمد فهمي أبي سنة: ص 131 ومابعدها.
(2) رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة عن أبي بصرة الغفاري مرفوعاً بلفظ «سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» ورواه ابن ماجه عن أنس مرفوعاً بلفظ «إن أمتي لاتجتمع على ضلالة» وله روايات كثيرة (مجمع الزوائد: 177/1، 218/5، المقاصد الحسنة للسخاوي: ص460) .
(3) حديث موقوف على ابن مسعود، وله طرق، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، ورواه أيضاً أبو داود والبيهقي، ورواه كذلك ابن عباس (نصب الراية: 133/4، مجمع الزوائد 177/4، المقاصد الحسنة: ص 367) .
(4) المبسوط للسرخسي: 138/12 ومابعدها، البدائع: 2/5، 209، فتح القدير: 355/5.(5/307)
فسد العقد، وكان له حكم البيع الفاسد الذي ينقل الملكية بالقبض ملكاً خبيثاً لايجيز الانتفاع به ولا الاستعمال، ويجب إزالة سبب الفساد احتراماً لنظام الشرع، وهذه الشروط هي مايلي (1) :
1 - بيان جنس المصنوع ونوعه وقدره وصفته: لأنه مبيع، فلابد من أن يكون معلوماً، والعلم يحصل بذلك، فإذا كان أحد هذه العناصر مجهولاً، فسد العقد؛ لأن الجهالة المفضية للمنازعة تفسد العقد، وبناء عليه، إذا استصنع شخص إناء أو سيارة، بيّن في الإناء نوع المعدن وجنسه ومقاسه وحجمه وأوصافه وعدد الآنية المطلوبةإذا كانت متعددة، فإذا أخفى ذلك كله أو شيئاً منه، فسد العقد للجهالة. وكذلك في صنع السيارة تبين جميع المواصفات المطلوبة، منعاً من الجهالة والنزاع المنتظر عند تعارض المصنوع مع ما قد يترقبه المستصنع.
2 - أن يكون المصنوع مما يجري فيه تعامل الناس كالمصوغات والأحذية والأواني وأمتعة الدواب ووسائل النقل الأخرى، فلا يجوز الاستصناع في الثياب أو في سلعة لم يجر العرف باستصناعها كالدبس (مايخرج من العنب) لعدم تعامل الناس به، ويجوز ذلك على أساس عقد السَّلَم إذا استوفى شروط السَّلَم، فإذا توافرت فيه فسد استصناعاً وصح سلماً؛ لأن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. ويصح السلم في غير المثلي كالثياب والبسط والحصر ونحوها، ويصح في عصرنا الحاضر الاستصناع في الثياب لجريان التعامل فيه، والتعامل يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة.
3 - ألا يذكر فيه أجل محدد: فإذا ذكر المتعاقدان أجلاً معيناً لتسليم
__________
(1) المبسوط: 139/12، البدائع: 3/5، 209ومابعدها، فتح القدير: 355/5، الدر المختار ورد المحتار 222/4 ومابعدها.(5/308)
المصنوع، فسد العقد وانقلب سَلَماً عند أبي حنيفة، فتشترط فيه حينئذ شروط السلم، مثل قبض جميع الثمن في مجلس العقد، وأنه لا خيار لأحد العاقدين إذا سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في العقد. ودليله أن العاقد إذا حدد أجلاً فقد أتى بمعنى السلم، والعبرة في العقود لمعانيها، لا لصور الألفاظ. ولهذا إذا حدد أجل فيما لا يجوز الاستصناع فيه، كأن يستصنع حائكاً للنسج بغزل نفسه أو خيَّاطاً للخياطة بقماش من عنده، انقلب العقد سلماً.
والمراد بالأجل: شهر فما فوقه، فإن كان أقل من شهر، كان استصناعاً إن جرى فيه تعامل، أو كان القصد من الأجل الاستعجال بلا إمهال، كأن قال: على أن تفرغ منه غداً أو بعد غد، فإن قصد من الأجل الاستمهال والتأجيل، لم يصح استصناعاً، ولا يصح سلماً إذا كان الأجل دون شهر.
والخلاصة: أن المؤجل بشهر فأكثر سلم، والمؤجل بدونه إن لم يجر فيه تعامل فهو استصناع إلا إذا ذكر الأجل للاستعجال فصحيح.
وقال الصاحبان: ليس هذا بشرط، والعقد استصناع على كل حال، حدد فيه أجل أو لم يحدد؛ لأن العادة جارية بتحديد الأجل في الاستصناع، فيكون شرطاً صحيحاً لذلك. وهذا القول هو المتفق مع ظروف الحياة العملية، وحاجات الناس، فيكون هو الأولى بالأخذ به.
نصت المادة (389) من المجلة على ما يلي: «كل شيء تعومل استصناعه، يصح فيه الاستصناع على الإطلاق، وأما ما لم يتعامل باستصناعه إذا بين فيه المدة، صار سَلَماً، وتعتبر فيه حينئذ شروط السَّلَم، وإذا لم يبين فيه المدة، كان من قبيل الاستصناع أيضاً» . وإذا حدد ت مدة لتقديم المصنوع، فانقضت دون أن يفرغ الصانع منه ويسلّمه، فالظاهر أن يتخير المستصنع بين الانتظار والفسخ، كما هو المقرر في عقد السلم (1) .
__________
(1) عقد البيع للأستاذ مصطفى الزرقاء: ص 123 ف 145.(5/309)
الشروط اللاحقة:
اتفق الحنفية على أن الشرط اللاحق للعقد مثل الشرط الداخل في العقد عند تكوينه في الحكم، إن كان شرطاً صحيحاً، فإن كان شرطاً فاسداً التحق بالعقد وأفسده كالشرط الداخل في العقد تماماً في رأي أبي حنيفة. وقال الصاحبان: لايلتحق الشرط الفاسد بالعقد، بل يبقى العقد صحيحاً، ويلغو الشرط، حرصاً على سلامة العقد الذي وجد.
حكم الاستصناع وصفته:
حكم الاستصناع هنا: هو الأثر المترتب عليه، وللاستصناع الأحكام التالية (1) :
1 - حكم الاستصناع بمعنى الأثر النوعي أو الجوهري المترتب عليه: هو ثبوت الملك للمستصنع في العين المصنوعة في الذمة، وثبوت الملك للصانع في البدل المتفق عليه.
2 - صفة هذا الحكم أو صفة عقد الاستصناع: أنه عقد غير لازم قبل الصنع، وبعد الفراغ من الصنع، في حق الصانع والمستصنع معاً، فيكون لكل من العاقدين الخيار في إمضاء العقد أو فسخه والعدول عنه قبل رؤية المستصنع الشيء المصنوع، فلو باع الصانع الشيء المصنوع قبل أن يراه المستصنع، جاز؛ لأن العقد غير لازم، والمعقود عليه ليس هو عين المصنوع وإنما مثله في الذمة.
3 - إذا جاء الصانع بالشيء المصنوع إلى المستصنع سقط خياره؛ لأنه رضي بكونه للمستصنع، حيث جاء به إليه، فيكون حكم الاستصناع في حق الصانع ثبوت الملك اللازم إذا رآه المستصنع، ورضي به، ولا خيار له، وهذا في ظاهر الرواية.
وأما المستصنع فحكم العقد بالنسبة إليه إذا أتى الصانع بالمصنوع على الصفة المشروطة: هو ثبوت الملك غير لازم في حقه، فإذا رآه فله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، وفسخ العقد عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه اشترى شيئاً لم يره، فكان له خيار الرؤية، بخلاف الصانع فهو بائع ما لم يره، فلا خيار له.
__________
(1) المبسوط: 139/12، فتح القدير: 356/5، البدائع: 3/5، 210، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 223/4.(5/310)
وقال أبو يوسف: العقد لازم إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع ولا خيار له، إذا جاء موافقاً للصفة أو الطلب والشروط، لأنه مبيع بمنزلة المسلم فيه، فليس له خيار الرؤية، لدفع الضرر عن الصانع في إفساد المواد المصنوعة التي صنعها وفقاً لطلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في شرائه على تلك الصفة. ونوقش هذا الرأي بأن ضرر المستصنع بإبطال الخيار له أكثر من ضرر الصانع، إذ لا يتعذر على الصانع بيع المصنوع على أية حال، لأنه إذا لم يرض به المستصنع، يبيعه من غيره بمثل قيمته، وذلك ميسر عليه لكثرة ممارسته. ويجاب عنه بأن احتمال البيع الجديد مجرد أمل، ويغلب الضرر بالصانع، فيجب القول بلزوم البيع دفعاً للضرر عنه.
لذا أخذت المجلة برأي أبي يوسف، فقررت في المادة (392) : أن عقد الاستصناع ينعقد لازماً، فليس لأحد الطرفين الرجوع، ولو قبل الصنع، إلا أنه إذا جاء المصنوع مغايراً للأوصاف المشروطة، يتخير المستصنع بفوات الوصف (1) .
وفي تقديري أن هذا الرأي الذي أخذت به المجلة سديد جداً، منعاً من وقوع المنازعات بين المتعاقدين، ودفعاً للضرر عن الصانع، إذ إن أغراض الناس تختلف باختلاف الشيء المصنوع حجماً ونوعاً وكيفية، ولأن هذا الرأي يتفق مع مبدأ القوة الملزمة للعقود بصفة عامة في الشريعة، ويتناسب مع الظروف الحديثة التي يتفق فيها على صناعة أشياء خطيرة وغالية الثمن كالسفن والطائرات، فلا يعقل والحالة هذه أن يكون عقد الاستصناع فيها غير لازم.
4 - لا يتعلق حق المستصنع في الشيء المصنوع إلا بعرضه عليه من قِبَل الصانع، وعلى هذا فإن للصانع أن يبيع المصنوع من غير المستصنع قبل عرضه عليه، كما تقدم بيانه.
__________
(1) نص المادة المذكورة هو: «إذا انعقد الاستصناع فليس لأحد العاقدين الرجوع، وإذا لم يكن المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة، كان المستصنع مخيّراً.(5/311)
المحور الثّاني
الاستصناع والسّلم:
الاستصناع كما عرفناه: عقد مع ذي صنعة على عمل شيء معين وتكون مادة الصنع من الصانع، كاستصناع أحذية أو آنية بشرط وصف المصنوع في العقد بما يزيل الجهالة.
والسلم أو السلف: بيع آجل بعاجل، أو بيع شيء موصوف في الذمة، أي إنه يتقدم فيه رأس المال، ويتأخر المبيع (المثمن) لأجل، أوهو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، كأن يشتري تاجر من فلاح أو مزارع عشرة أطنان حنطة من ولاية كذا أو محافظة كذا تسلّم عند الحصاد بمبلغ معين من المال يدفع كله نقداً في مجلس العقد، ويتأجل تسليم المبيع غير الموجود عند العقد إلى وقت معين في المستقبل.
العلاقة بين العقدين ـ وجه التطابق فيما بين العقدين:
يشترك الاستصناع والسلم في أن كلاً منهما بيع لشيء معدوم، أجيز للحاجة إليه، وتعامل الناس به، إلا أن الباعث على عقد السَّلَم شدة حاجة البائع إلى نقود ينفقها على نفسه وأهله أوعلى إنتاجه الزراعي، وهو لا يملك ذلك آنياً، لذا سمي (بيع المفاليس) وأما الاستصناع فهو عقد تجاري يحقق الربح للبائع الصانع، ويلبي حاجة المستصنع، فيكون الباعث الدافع عليه حاجة المستصنع. وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي:
أولاً ـ أن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين المشخّص بذاته أو هي المال الحاضر) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء.
ثانياً ـ يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلماً، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما تقدم. وأجاز الشافعية السلم الحال، خلافاً لغيرهم.(5/312)
ثالثاً ـ عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معاً على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
رابعاً ـ يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلاً، عملاً بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق.
شروط كل من الاستصناع والسلم:
لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنساً ونوعاً وقدراً وصفة، وإلا كان العقد فاسداً بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه. ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع.
أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلا بد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته؛ لأن كلاً منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلوماً غير مجهول.
ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبُر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنَّع (مجروش مثلاً) مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلاً من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها) (1) .
__________
(1) وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.(5/313)
ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لا بد من أن يكون العقد باتاً لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم.
أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى لا يعود ديناً كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه؛ لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة.
ولا بد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء في رأي الصاحبين.
ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع. ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم، ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم.
ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بيَّن طولاً وعرضاً وغلظاً، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتاً فاحشاً في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به. وصحح المالكية السلم فيما ينضبط ومالا ينضبط بالوصف. وأجاز الحنفية استحساناً السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضاً كالثياب والبسط والحصر ونحوهما كما تقدم.(5/314)
ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) مَلْبناً معلوماً، لأنه إذا سمي المَلْبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيراً، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب. ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكاً أن يحوك له ثوباً بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكاً إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزاً؛ لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.
المحور الثّالث
أثر الاستصناع في تنشيط الحركة الصّناعية:
لقد أدى الاستصناع في الماضي دوراً مهماً في الحياة العملية، فأفاد الصانع الذي قدَّم في صنعته خبرة معينة ومهارة فائقة، وأضفى على مادة الصنعة التي يقدمها من نفسه فنا خاصاً وإبداعاً جديداً، واستطاع بذلك إدخال تطوير وتعديل على صنعته، وأفاد المستصنع الذي استطاع من خلال الاستصناع الحصول على ما يرغب فيه وإرضاء ذوقه وتحقيق مصلحته على وفق المقاييس المناسبة له والفنون التي يتصورها ويتأمل توافرها لديه.
ثم انتشر الاستصناع انتشاراً واسعاً في العصر الحديث، فلم يعد مقصوراً على صناعة الأحذية والجلود والنجارة والمعادن والأثاث المنزلي من مفروشات وغيرها من الخزائن والمقاعد والمساند والصناديق، وإنما شمل صناعات متطورة ومهمة جداً في الحياة المعاصرة كالطائرات والسفن والسيارات والقطارات وغيرها، مما أدى إلى تنشيط الحركة الصناعية ونمو حركة المصانع والمعامل اليدوية والآلية، وقد أسهم كل ذلك بنحو واضح في رفاه الأفراد والمجتمعات وتوفير حاجات الدول ومصالحها.(5/315)
ولم يقتصر الأمر على الصناعات المختلفة ما دام يمكن ضبطها بالمقاييس والمواصفات المتنوعة، وإنما يشمل أيضاً إقامة المباني وتوفير المساكن المرغوبة، وقد ساعد كل ذلك في التغلب على أزمة المساكن. ومن أبرز الأمثلة والتطبيقات لعقد الاستصناع بيع الدور والمنازل والبيوت السكنية على الخريطة ضمن أوصاف محددة، فإن بيع هذه الأشياء في الواقع القائم لا يمكن تسويغه إلا على أساس الوعد الملزم بالبيع أو على عقد الاستصناع، ويعد العقد صحيحاً إذا صدرت رخصة البناء، ووضعت الخريطة، وذكرت في شروط العقد مواصفات البناء، بحيث لا تبقى جهالة مفضية إلى النزاع والخلاف، وقد أصبح من السهل ضبط الأوصاف، ومعرفة المقادير، وبيان نوع البناء، سواء بيع البناء على الهيكل، أم مكسياً كامل الكسوة، مع الاتفاق على شروط الكسوة، وأوصافها، من النوع الجيد أو الوسط أو العادي. ويتم تسديد الثمن عادة على أقساط ذات مواعيد محددة، وتحتسب الأقساط جزءاً من الثمن، فلا زكاة فيها إلا إذا فسخ العقد. أما مدة التسليم فيكون ذكرها عادة على سبيل الاستعجال والتقريب الزمني والحث على الإنجاز في وقت معقول، لأن المتعاقدين يقدران تماماً مدى المشكلات والعوائق التي تعترض التنفيذ في وقت محدد. ويصعب تصحيح هذا العقد على أساس عقد السلم؛ لأن الثمن يشترط دفعه كله عند العقد. ثم إن الدولة تعترف عادة بأن البيع على الخريطة بيع صحيح لازم.
وأما في مجال المقاولات التي يتم فيها عادة الاتفاق على مدة التسليم والإلزام بغرامات معينة عند التأخير، فهوأي التغريم جائز أيضاً وداخل تحت مفهوم ما يسمى قانوناً بالشرط الجزائي، وقد أقره القاضي شريح، وأيده قرار هيئة كبار العلماء في السعودية سنة 1394 هـ، قال شريح: «من شرط على نفسه طائعاً غير مكره، فهو عليه» (1) .
__________
(1) أعلام الموقعين 400/3، ط محي الدين عبد الحميد.(5/316)
...........................................3........................................
.......................................عقد الصرف....................................
تعريف الصرف:
الصرف لغة: الزيادة، ومنه سميت العبادة النافلة صرفاً، قال صلّى الله عليه وسلم: «من انتمى إلى غير أبيه لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (1) أي لا نفلاً ولا فرضاً.
وشرعاً: هو بيع النقد بالنقد جنساً بجنس أو بغير جنس: أي بيع الذهب بالذهب، أو الفضة
بالفضة أو الذهب بالفضة، مصوغاً أو نقداً (2) .
__________
(1) وقال صاحب القاموس: الصرف في الحديث: التوبة، والعدل: الفدية. وهذا الحديث رواه الطبراني عن عمرو بن عوف، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من تولى غير مواليه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، لاقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» قال الهيثمي: وفيه كثير بن عبد الله، والجمهور على تضعيفه، وقد حسن له الترمذي حديثاً (انظر مجمع الزوائد: 285/6) ورواه الطبراني أيضاً عن خارجة بن عمرو الجمحي بلفظ «من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً يوم القيامة» وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي وثقة ابن معين، وضعفه الناس (مجمع الزوائد: 214/4) وراجع خطبة حجة الوداع. وقد ورد في معناه أحاديث كثيرة منها: مارواه أبو داود عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (راجع فيض القدير شرح الجامع الصغير: 46/6، مجمع الزوائد: 97/1) وروى البخاري في صحيحه (50/3) عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال: «من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل» والعدل: الفداء.
(2) فتح القدير مع العناية: 284/5، 368، البدائع: 215/5، رد المحتار: 244/4. وعرفه الحنابلة والشافعية بقولهم: هو بيع النقد بالنقد من جنسه وغيره (مغني المحتاج: 25/3، غاية المنتهى: 59/2) وفرق المالكية بين الصرف والمراطلة، فقالوا: الصرف: هو بيع النقد بنقد مغاير لنوعه، وأما المراطلة: فهي بيع النقد بنقد من نوعه (حاشية الدسوقي: 2/3) . وهو جائز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أجاز بيع الأموال الربوية ببعضها عند اتحاد الجنس مع المماثلة، أو عند اختلاف الجنس، ولو مع التفاضل، بأن كان يداً بيد.(5/317)
وشرائطه إجمالاً أربعة: التقابض قبل افتراق المتعاقدين، والتماثل، وألا يكون فيه خيار ولا تأجيل.
1 - التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين المتعاقدين: يشترط في عقد الصرف قبض البدلين جميعاً قبل مفارقة أحد المتصارفين للآخر افتراقاً بالأبدان، منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد» (1) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا منهما غائباً بناجز» (2) فإن افترق المتعاقدان قبل قبض العوضين أو أحدهما، فسد العقد عند الحنفية وبطل عند غيرهم لفوات شرط القبض، ولئلا يصير العقد بيعاً للكالئ بالكالئ أي الدين بالدين فيحصل الربا: وهو الفضل في أحد العوضين (3) ، والتقابض شرط سواء اتحد الجنس أو اختلف.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (راجع نصب الراية: 4/4) .
(2) لهذا اللفظ رواية عند مالك في الموطأ عن عمر رضي الله قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الورِق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز» وورد نص الحديث عند أحمد والشيخين عن أبي سعيد الخدري بلفظ «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تُشفّوا (أي لاتفضلوا) بعضها على بعض، ولاتبيعوا الوَرِق بالورِق إلا مثلاً بمثل، ولا تُشِفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائباً بناجز» (راجع نصب الراية: 56/4، نيل الأوطار: 190/5) .
(3) المراجع السابقة، فتح القدير: 5 ص 369 -371.(5/318)
تفسير الافتراق بالأبدان: هو أن يفترق العاقدان بأبدانهما عن مجلس العقد، فيتجه هذا في جهة، وهذا في جهة، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر. فإن بقيا في مجلسهما لم يبرحا عنه، لم يحصل الافتراق وإن طال مجلسهما لانعدام التفرق بالأبدان، كذلك لا يحصل التفرق إن ناما في المجلس أو أغمي عليهما أو قاما عن المجلس فذهبا معاً في جهة واحدة وطريق واحدة ومشيا ميلاً أو أكثر ولم يفارق أحدهما صاحبه، فلا يعتبران مفترقين؛ لأن العبرة لتفرق الأبدان ولم يوجد ذلك (1) .
2 - التماثل عند اتحاد الجنس: إذا بيع الجنس بالجنس كفضة بفضة، أو ذهب بذهب، فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً، وإن اختلفا في الجودة والصياغة بأن يكون أحدهما أجود من الآخر أو أحسن صياغة (2) لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل» أي يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل في القدر، لا في الصفة، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (3) .
__________
(1) البدائع: 215/5.
(2) المراجع السابقة، فتح القدير: ص 369، البدائع: ص 216، رد المحتار: ص 245.
(3) قال الزيلعي عن هذا الحديث: غريب ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» (راجع نصب الراية: 36/4) .(5/319)
3 - أن يكون العقد باتاً أو ألا يكون فيه خيار شرط: لا يجوز في عقد الصرف اشتراط الخيار لكل من المتعاقدين أو لأحدهما؛ لأن القبض في هذا العقد شرط. وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الخلاف الذي ذكر في مبحثه، والخيار يخل بالقبض المشروط: وهو القبض الذي يحصل به التعيين، فلو شرط هذا الخيار فسد العقد. ولو أسقط صاحب الخيار خياره في المجلس، ثم افترق المتعاقدان عن تقابض، ينقلب العقد إلى الجواز، خلافاً لزفر، فإذا بقي حتى افترقا تقرر الفساد.
هذا بخلاف خيار الرؤية والعيب، فإن كلاً منهما لا يمنع ثبوت الملك في المبيع، فلا يمنع تمام القبض، فلو افترق العاقدان، وفي الصرف خيار عيب أو رؤية جاز، إلا أنه لا يتصور في بيع النقد وسائر الديون خيار رؤية؛ لأن العقد ينعقد على مثلها، لاعينها (1) .
4 - التنجيز في العقد أو ألا يكون فيه أجل: يشترط أن يكون عقد الصرف خالياً عن الأجل لكل من المتعاقدين أو لأحدهما، وإلا فسد الصرف؛ لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، كما عرفنا، والأجل يؤخر القبض، فيفسد العقد، فإن أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، ونفذ ما عليه، ثم افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر (2) .
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 75، فتح القدير: 367/5، البدائع: 219/5، الدر المختار: 246/4.
(2) المراجع السابقة.(5/320)
ويلاحظ أن الشرطين الأخيرين متفرعان عن شرط القبض الواجب في بدلي الصرف بناء على ما يشترط في مبادلة الأموال الربوية. ولم يجز المالكية وغيرهم الوكالة في قبض بدل الصرف ولا الإحالة على المشهور لأجل التأخير، إذا كان قبض الوكيل أو المحال في غيبة الموكل والمحيل على الراجح (1) . والدليل على اشتراط عدم التأجيل: أحاديث الربا المتقدمة التي توجب التقابض يداً بيد في بدلي الأموال الربوية. وحديث أبي المنهال عند الشيخين: «ما كان يداً بيد فلابأس به، وما كان نسيئه فهو ربا» .
ما يترتب على اشتراط قبض البدلين في مجلس عقد الصرف قبل الافتراق:
إذا كان لا بد من قبض عوضي الصرف قبل افتراق العاقدين عن المجلس، فإنه يترتب عليه عدم جواز الإبراء أو الهبة أو الاستبدال أو المقاصة بثمن الصرف على التفصيل الآتي (2) :
1 - الإبراء أو الهبة: إذا تصارف اثنان ديناراً بدينار، وسلم أحدهما الدينار لمستحقه، ثم أبرأ صاحبه عن ديناره أو وهبه له أو تصدق عليه به:
فإن قبل المبرأ أو الموهوب له ما أبرئ منه أو وهب له، سقط التزامه بالدين، وبطل الصرف؛ لأن الإبراء عن الدين يترتب عليه عدم تحقق القبض، وبما أن القبض في عقد الصرف لازم شرعاً، ولم يحصل هنا بسبب الإبراء، فإنه يؤدي إلى بطلان العقد لعدم حصوله.
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 49/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 250.
(2) راجع البدائع: 218/5.(5/321)
وإن لم يقبل المبرأ البراءة، لم يصح الإبراء ويبقى عقد الصرف على حاله؛ لأن قبض البدل مستحق، والإبراء عن الدين إسقاطه، وإذا سقط الدين لا يتصور قبضه، وبما أن الإبراء يؤدي إلى هذه النتيجة، فهو في معنى فسخ العقد، والفسخ لا يصح إلا بتراضي العاقدين، فلا يثبت بإرادة منفردة من أحد العاقدين بعد انعقاد العقد صحيحاً، وإذا لم يصح الإبراء بقي عقد الصرف على حاله، فيتم بتقابض البدلين في المجلس قبل الافتراق.
ولو امتنع المبرئ أو الواهب أو المتصدق أن يأخذ ما أبرأ أو وهب أو تصدق به، فإنه يجبر على القبض، لأنه بامتناعه عن القبض يفسد العقد أو يفسخ، وأحد المتعاقدين لا ينفرد بالفسخ أو إفساد عقد الغير.
2 - الاستبدال ببدل الصرف: لو استبدل أحد المتصارفين شيئاً ببدل الصرف، كأن أعطى عن الدينار شيئاً بخلاف جنسه، أو باع أو وهب ما استحقه من بدل الصرف قبل قبضه، فلا يجوز، ويبقى الصرف على حاله؛ لأن قبض بدل الصرف شرط شرعي لبقاء العقد صحيحاً، وبما أن بدل الشيء غير الشيء، فإنه يترتب على الاستبدال تفويت القبض حقيقة أي عدم تحقق القبض المطلوب شرعاً.
وإذا لم يصح الاستبدال بقي عقد الصرف على حاله، فإن كان قد تم قبض أحد البدلين فيجب قبض البدل الآخر بعينه. وإن أدى أحد العاقدين الآخر أجود من حقه، أو أردأ منه لكن من جنس حقه ورضي به المدفوع له، فإنه يجوز، ولا يعتبر الأداء استبدالاً؛ لأن المقبوض من جنس حقه أصلاً، إلا أنه أنقص منه في الوصف، والجيد والرديء في الأموال الربوية سواء، وبما أن المدفوع له رضي به أسقط حقه في الجيد، فكان ذلك استيفاء لا استبدالاً.(5/322)
وعلى هذا إن أخذ صاحب الحق عن الدينار الذي يحق له ديناراً أردأ منه، أو زائفاً، ونحوها من كل مقبوض يتفق في الأصل مع الشيء الواجب في المعاوضات بين الناس، فإنه يصح. ويبطل تبايع النقد من مشتر إلى آخر أو بالهاتف قبل القبض.
3 - الحوالة ببدل الصرف والكفالة والرهن به: يجوز لأحد المتصارفين أن يحيل صاحبه على رجل آخر لقبض حقه بشرط أن يكون المحال عليه حاضراً في مجلس العقد، وكذلك يجوز له أن يقدم رهناً لصاحبه ببدل الصرف، ويصح له أيضاً تقديم كفيل عنه يكفله بوفاء الحق. ولكن يشترط في هذه الحالات أن يتم فعلاً استيفاء الحق في مجلس عقد الصرف إما بالتسليم الفعلي في الحوالة والكفالة، أو من طريق تحمل تبعة هلاك المرهون إذا هلك في يد المرتهن. وهذا متفق عليه فقهاً (1) .
وهذا المعنى هو ما قرره فقهاء الحنفية فإنهم قالوا: إن قبض صاحب الحق حقه من المحال عليه، أو من الكفيل، أو هلك الرهن في يد المرتهن في مجلس عقد الصرف، يكن الصرف صحيحاً على حاله. وإن افترق المتصارفان قبل تمام القبض أو لم يهلك الرهن بطل الصرف. والعبرة في بقاء مجلس العقد لبقاء نفس العاقدين فيه وافتراقهما عنه، ولا عبرة ببقاء المحال عليه أو الكفيل مع صاحب الحق ما لم يقبض حقه قبل مفارقة صاحبه المجلس؛ لأن قبض الحق من حقوق العقد، فيتعلق بنفس العاقدين، فيعتبر مجلسهما إذن.
ولو وكل كل واحد من العاقدين رجلاً أن ينقد عنه، يعتبر مجلس الموكلين بقاءً وافتراقاً لا مجلس الوكيل؛ لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالعاقدين كما تبين.
وهذه الأحكام المقررة هنا هي نفسها التي ذكرت في الحوالة برأس مال السلم على رجل حاضر في المجلس، والكفالة به، والرهن به، وبالمسلم فيه أيضاً، وذلك أثناء بيان الفروق بين عقدي السلم والبيع.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 250.(5/323)
4 - المقاصة في ثمن الصرف ورأس مال السلم:
المقاصة لغة: هي المساواة والمماثلة، ومنه القصاص وهو معاقبة الجاني بمثل جنايته. وعند الفقهاء هي بمعناها اللغوي مع قيود معينة، وقد عرفها بعض المالكية بقوله: هي إسقاط مالك من دين على غريمك في نظير ماله عليك. وعرفها ابن
جزي بقوله: هي اقتطاع دين من دين (1) ، وهي نوعان: مقاصة جبرية، ومقاصة اختيارية أو اتفاقية.
مثال المقاصة الجبرية التي تقع بنفسها: أن يكون لمدين عند دائنه مثل ما له عليه من الدين جنساً وصفة وحلولاً، فتقع المقاصة بينهما ويتساقط الدينان إن كانا متساويين في المقدار، أو يسقط من الدينين مقدار متماثل إن تفاوتا في القدر، فيسقط من الأكثر بقدر الأقل وبقيت الزيادة.
وللمقاصة الجبرية شروط أربعة هي:
1 - تلاقي الحقين، أي أن يكون الشخص دائناً بالنسبة لآخر ومديناً له.
2 - تماثل الدينين، أي اتحادهما جنساً ونوعاً وصفة في الحلول والتأجيل والجودة والرداءة ونحوها.
3 - انتفاء الضرر، أي ألا يترتب على وقوعها ضرر لأحد كالمدين أو المرتهن الذي تعلق حقه بالعين، أو باقي الغرماء.
4 - ألا يترتب عليها محظور شرعي كالافتراق قبل قبض رأس مال السلم، والتصرف في المسلم فيه قبل قبضه، وعدم التقابض في الصرف وفي الربويات التي يجب أن تكون يداً بيد..
وقد قال جمهور الفقهاء بوقوع المقاصة الجبرية بنفسها إذا توافرت شروطها، ولم يقرها فقهاء المالكية.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 292.(5/324)
ومثال المقاصة الاتفاقية وهي التي تتم بتراضي صاحبي الحق: أن يكون لواحد دين وللآخر عين، فيتفق الطرفان على عدم مطالبة أحدهما غيره بحقه. والمالكية يقولون بالمقاصة الاتفاقية إذا اختلف الجنس أو اختلفت الأوصاف ما لم يترتب على ذلك محظور ديني. ومن المعلوم أن أئمة المذاهب الأربعة يعتبرون النقدين (الذهب والفضة وما يماثلهما من الدنانير والدراهم) جنسين مختلفين، فتجوز المقاصة الاتفاقية بينهما عند المالكية لأنهم يقولون بالمقاصة عند اختلاف الجنس (1) . وأما وحدات النقد المتعامل بها في عصرنا الحاضر سواء أكانت أوراقاً أم مسكوكة من الذهب أم الفضة الخالصين أم المخلوطين أم المسكوكة من غيرهما كالنحاس وهي المسماة فلوساً، فإنها تعد جنساً واحداً في باب المقاصة، عملاً بالعرف وبرأي ابن أبي ليلى وهو اختيار بعض مشايخ الحنفية (2) .
وبعد هذه المقدمة نبحث حكم المقاصة في عقدي الصرف والسلم.
أما في عقد الصرف: فلو تصارف اثنان بأن باع أحدهما للآخر ديناراً بعشرة دراهم، وسلمه الدينار، ولم يقبض العشرة الدراهم، وكان لمشتري الدينار على
__________
(1) انظر بحث المقاصة في الفقه الإسلامي للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 4، 13، 23، 51، 55، 77، 85، 97 وما بعدها، القوانين الفقهية، المكان السابق، غاية المنتهى للشيخ مرعي الحنبلي: 82/2.
(2) ذكر ابن عابدين طائفة من مسائل المقاصة الاتفاقية فقال: لو كان للوديع على صاحب الوديعة دين من جنسها لم تصر قصاصاً به إلا إذا اتفقا عليه، وكانت الوديعة في يده، والمغصوب كالوديعة. وكذلك لا تقع المقاصة ما لم يتقاصا لو كان الدينان من جنسين مختلفين أو متفاوتين في الوصف أو مؤجلين أو أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً.. وإذا اختلف الجنس وتقاصا كما لو كان له عليه مئة درهم وللمديون مئة دينارعليه، فإذا تقاصا تصير الدراهم قصاصاً بمئة من قيمة الدنانير، ويبقى لصاحب الدنانير على صاحب الدراهم ما بقي منها. ودين النفقة للزوجة لا يقع قصاصاً بدين للزوج عليها إلا بالتراضي بخلاف سائر الديون، لأن دين النفقة أدنى (رد المحتار: 250/4) .(5/325)
بائعه عشرة دراهم، فأراد المقاصة، فهل تقع؟ هنا ثلاث حالات (1) :
إحداها: أن يثبت الدين بسبب قبل حدوث عقد الصرف: كأن كانت هذه الدراهم العشرة واجبة ديناً على البائع قبل إجراء عقد الصرف بسبب من الأسباب التي تعتبر مصادر للالتزام كالقرض أو الغصب، أو الشراء، أي ثمناً لمبيع. فإذا أراد المتصارفان إجراء المقاصة بأن يجعل مقابل الدينار وهو العشرة الدراهم قصاصاً بالدين الثابت في ذمة البائع المتصارف، جاز الفعل استحساناً إن تراضيا على المقاصة أي لا بد من المقاصة الاتفاقية. وأما قياساً فلا يجوز وهو قول زفر. فإن لم يتفقا على إجراء المقاصة بأن أباها أحدهما، لم تقع المقاصة باتفاق الحنفية.
أما وجه القياس: فهو أن المطلوب في عقد الصرف قبض بدل الصرف بعينه، وبالمقاصة يحصل استبدال ببدل الصرف؛ لأن الذي وجب على المتصارف بالصرف غير الذي كان عليه، وبالتقاص يأخذ المتصارف ما في ذمته بدل ما وجب عليه من ثمن الدينار، وهو لا يجوز، كما لا يجوز أن يأخذ ببدل الصرف عوضاً آخر كما عرفنا سابقاً، وكما لا يجوز الإبراء عن بدل الصرف.
__________
(1) راجع تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 140/4، البدائع: 206/5، 218، الدر المختار ورد المحتار: 250/4، تحفة الفقهاء: 37/3، فتح القدير والعناية بهامشه: 379/5 ومابعدها، المبسوط: 19/14.(5/326)
وأما وجه الاستحسان: فهو أن المتصارفين لما تقاصا فقد تضمنت المقاصة انفساخ عقد الصرف الأول، وانعقاد صرف آخر غير الأول، وثمنه هو العشرة الدراهم التي هي دين سابق، إذ لولا ذلك التقدير لكانت المقاصة استبدالاً ببدل الصرف، فصار هذا كما لو تبايع اثنان بألف، ثم جددا العقد بألف وخمس مئة، فإن البيع الأول ينفسخ ضرورة ثبوت العقد الثاني اقتضاء أو ضمناً.
الحالة الثانية: أن يثبت الدين بقبض مضمون بعد وجود عقد الصرف: كأن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، أو يغصب منه عشرة دراهم، ففي هذه الحالة تقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتقاصا، أي لا يحتاجان إلى التراضي؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً.
الحالة الثالثة: أن يثبت الدين بعقد متأخر عن عقد الصرف: كأن يشتري مشتري الدينار من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ففي هذه الحالة إن لم يتقاصا لا تقع المقاصة باتفاق الروايات. وإن اتفقا على مقاصة العشرة بالعشرة في مجلس العقد فهناك روايتان: في رواية اختارها السرخسي: لا يجوز لأن النبي صلّى الله عليه وسلم جوز المقاصة في حديث ابن عمر (1) في دين سابق لا لاحق.
وفي رواية أخرى وهي الصحيحة (2) : تقع المقاصة لما ذكر في وجه الاستحسان: وهو أن العاقدين لما قصدا إيقاع المقاصة، تضمن ذلك انفساخ العقد الأول، أي إقالته، وإنشاء عقد جديد مضاف إلى دين قائم وقت تحويل العقد، فلما أبطلا عقد الصرف، صار كأنهما عقدا عقداً جديداً، فتصح المقاصة به؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود والفسوخ ديناً كانت أو عيناً.
__________
(1) نص الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير، فقال: لابأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» وفي لفظ «أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق، وأبيع الورق وآخذ مكانها الدنانير» (نيل الأوطار: 156/5) .
(2) انظر الهداية والعناية بهامش فتح القدير: 381/5.(5/327)
والخلاصة: إن الحالتين الأولى والثالثة تقع المقاصة فيهما اختيارية، وأما الحالة الثانية فتقع المقاصة فيها جبرية.
وأما المقاصة برأس مال السلم بدين آخر على المسلم إليه: كأن وجب على المسلم إليه لرب السلم دين مثل رأس مال السلم، فهل تقع المقاصة بين رأس المال هذا وبين ذلك الدين؟ هنا ثلاث حالات أيضاً:
1ً - أن يجب الدين بعقد متقدم على السلم: بأن كان رب السلم قد باع إلى المسلم إليه (1) ثوباً بعشرة دراهم مثلاً، ولم يقبضها، ثم عقدا عقد سلم بينهما، كأن أسلم رب السلم إلى المسلم إليه عشرة دراهم في مد حنطة، فإن تراضيا على المقاصة بالدينين (الدين السابق وهو ثمن المبيع، والدين اللاحق وهو رأس مال السلم) صحت المقاصة استحساناً، وإن أبى أحدهما لم تقع المقاصة. والقياس يقضي بعدم وقوع المقاصة وهو قول زفر.
وجه القياس: أن قبض رأس مال السلم شرط شرعي لصحة السلم كما هو معروف، ولكن بالمقاصة لم يحصل القبض فعلاً، فيبطل السلم إذا افترق العاقدان بدون تحقيق شرط القبض.
ووجه الاستحسان: أن القبض وإن كان مطلوباً في عقد السلم، إلا أنه إذا تمت المقاصة تبين أن عقد السلم لا يتطلب تحقيق قبض رأس المال فعلاً، وإنما يكفي أن يتم القبض بطريق المقاصة، كما لو اتفق البائع والمشتري على الزيادة في الثمن والمثمن، فإن ذلك يلتحق بأصل العقد، ويقع البيع فعلاً على الزيادة.
__________
(1) أطلق على العاقدين وصف (رب السلم والمسلم إليه) باعتبار ماسيكون.(5/328)
2ً - أن يجب الدين بقبض مضمون متأخر عن عقد السلم كالغصب والقرض، فإنه تقع المقاصة جبراً عن رب السلم والمسلم إليه، كما في الصرف؛ لأن قبض الغصب والقرض قبض حقيقة، فيجعل نائباً عن قبض رأس مال السلم إذا تساوى الدينان.
3ً - أن يجب الدين بعقد متأخر عن السلم، كأن يحدث شراء شيء من المسلم إليه لرب السلم، فلا تصح المقاصة وإن اتفقا عليها إلا في رواية شاذة عن أبي يوسف؛ لأن المقاصة تتطلب وجود دينين، ولم يكن عند انعقاد السلم إلا دين واحد، فتبين أن عقد السلم يتطلب قبضاً في الحقيقة، وما يتم بالمقاصة ليس كذلك.
هذا هو المذكور في البدائع (1) ، فإن صاحبها الكاساني سوى بين رأس مال السلم وبدل الصرف في المقاصة.
لكن المعول عليه ما في كتاب الجامع الصغير للإمام محمد وغيره من كتب الحنفية (2) ، فإنهم فرقوا بين بدل الصرف ورأس مال السلم، فلم يجيزوا المقاصة برأس مال السلم مع دين آخر مطلقاً، سواء وجب الدين بعقد متقدم أو متأخر عن عقد السلم؛ لأن المسلم فيه دين في ذمة المسلم إليه، فلو صحت المقاصة بين رأس مال السلم، ودين على المسلم إليه بحيث يصبح هذا الدين ر أس مال السلم، وقع العاقدان في محظور شرعي وهو مبادلة الدين بالدين، أو الافتراق عن دين بدين لأن رأس المال لا يتعين بالمقاصة.
وهذا بخلاف المقاصة ببدل الصرف مع دين متقدم أو متأخر عنه ثابت بعقد بيع مثلاً؛ لأن المبيع الذي يقابل الدين (أي الثمن) مثلاً هو عين لا دين أي غير مشترط قبضه في مجلس العقد، فتؤدي المقاصة ببدل الصرف مع مقابل هذا المبيع إلى مبادلة عين بدين أو الافتراق عن عين بدين، وهو جائز كما هو معلوم شرعاً،
__________
(1) البدائع: 206/5 وما بعدها.
(2) الجامع الصغير: ص 92، تبيين الحقائق: 140/4، المبسوط: 20/14، بحث المقاصة للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 107 وما بعدها.(5/329)
بخلاف ما تؤدي إليه المقاصة برأس مال السلم من مبادلة دين بدين وهو ممنوع شرعاً.
الصرف والتحويل القائم على القرض:
هناك حاجة ملحة لتحويل النقود من بلد إلى آخر بعد إجراء عقد صرف بين شخص وصرَّاف، كالحوالات التي يجريها العاملون في الخليج إلى حساباتهم الجارية في مصرف (بنك) في بلدانهم، أو إلى ذويهم أو أقاربهم. وكالحوالات التي يقوم بها أولياء الطلاب إلى أولادهم في البلدان الأجنبية، ونحو ذلك مما تجريه البنوك أو الصيارفة من الحوالات الداخلية والخارجية. والحوالات الخارجية يتم فيها عادة مبادلة نقد بنقد آخر يتم قبضه في البلد التي يحول إلىها المبلغ.
فهل هذا عمل مشروع أو لا؟
يلاحظ أن بيع النقود الورقية يأخذ حكم النقدين ـ الذهب والفضة، كما قررت المجامع الفقهية المعاصرة وهيئات كبار العلماء، طبقاً لأحكام الشريعة. ويحرم تحويل عملة إلى عملة أخرى بالمؤجل دون تقابض في مجلس العقد، سواء أكانت هناك زيادة أم لا، لأن ذلك ربا نسيئة، فلا يحل بيع النقود مع التأجيل، بسعر مماثل أو بسعر أكثر.
وبناء على هذا يجب أن يتم عقد الصرف منجزاً مع البنك أو الصراف دون تأجيل الدفع، وهذا يحدث فعلاً؛ لأن الصراف مستعد لتسليم العوض في مجلس العقد، ولكن لا يتم القبض الفعلي لعوض أو بدل الصرف، ويقوم مقامه قبض حكمي، لا ينقصه سوى القبض الصوري والإعادة فوراً، ثم يعقبه إبرام عقد آخر منفصل وهو تحويل المبلغ إلى بلد آخر، ويكون ذلك على أساس عقد القرض، ويجوز عند الإمام مالك خلافاً لجمهور الفقهاء ـ كما سيأتي في بحث القرض ــ اشتراط الأجل في القرض، أي تعيين مدة سداد بدل القرض.(5/330)
وقد بينت في الحالة الثانية من حالات المقاصة في عقد الصرف: أنه يجوز أن يستقرض بائع الدينار عشرة دراهم من المشتري ويتسلمها بالفعل، فتقع المقاصة بثمن الصرف جبراً على المتصارفين، وإن لم يتراضيا على المقاصة؛ لأنه وجد القبض من المتصارف فعلاً.
ويتم التعبير عن هذا القرض بتسليم المقرض وَصْلاً (وثيقة) يثبت حقه في بدل القرض، ويكون المقترض وهو الصراف أو البنك ضامناً لبدل القرض، ولكنه يأخذ أجراً أو عمولة على تسليم المبلغ في بلد آخر مقابل مصاريف الشيك أوأجرة البريد أو البرقية أو التلكس فقط، لتكليف وكيل الصراف بالوفاء أو السداد.
وهذان العقدان: الصرف والتحويل القائم على القرض هما الطريقان لتصحيح هذا التعامل، فيما يبدو لي، والله أعلم.
وأما الحوالة البريدية في داخل الدولة بدون صرافة فجائزة بلا خلاف:
أـ فإن سُلّم المبلغ للموظف أمانة جاز بلا كراهة، ولا يضمنه إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، لكن إذا خلطت المبالغ والحوالات ببعضها وهو مايتم بالفعل كانت مضمونة على المؤسسة.
ب ـ وإن أعطي المبلغ قرضاً دون شرط دفعه إلى فلان، ثم طلب من الموظف ذلك بعد القرض؛ جاز.
جـ ـ وإن أعطي المبلغ قرضاَ بشرط دفعه إلى فلان في بلد كذا، فإن لم يقصد المقرض ضمان المقترض خطر الطريق، جازت الحوالة بالاتفاق، وإن قصد بذلك ضمان خطر الطريق لم يصح العقد عند الجمهور كالسفتجة كما بينت في بحث القرض، وجازت المعاملة عند الحنابلة.(5/331)
وفاء القرض بنقد آخر: صرح الحنابلة (1) بأنه يصح تعويض أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه، قال في المنتهى: ويصح اقتضاء نقد من آخر، إن أحضر أحدُهما، أو كان أمانة والآخر مستقراً في الذمة، بسعر يومه، ومنع منه ابن عباس وغيره. قال في شرح المنتهى: ولنا حديث ابن عمر قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال: لابأس أن تأخذ بسعر يومها مالم تفرّقا، وبينكما شيء» وفي لفظ: «أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورِق ـ أي الفضة ـ وأبيع بالورِق، وآخذ مكانها الدنانير» (2) .
وقال أيضاً: ومن عليه دينار، فقضاه دراهم متفرقة، كلَّ نَقْدةٍ بحسابها منه، صح وإلا فلا.
__________
(1) المعتمد في فقه الإمام أحمد، ط دار الخير بدمشق 431/1.
(2) حديث ضعيف أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم.(5/332)
........................................4..........................................
.....................................بيع الجِزاف......................................
يحدث التعامل بهذا النوع من البيوع كثيراً في الحياة العملية اليومية، لذا فإني سأذكر معناه ودليل مشروعيته، وحكم أهم حالاته كبيع صبرة الطعام ونحوه، وبيع النقود والحلي والمحلى جزافاً، وشروطه.
معنى الجزاف: الجزاف ـ مثلث الجيم والكسر أفصح وأشهر من غيره، فارسي معرب، وهو بيع الشيء بلا كيل ولا وزن ولا عدد، وإنما بالحزر والتخمين بعد المشاهدة أو الرؤية له. والجزف في الأصل: الأخذ بكثرة، مأخوذ من قولهم: جزف له في الكيل: إذا أكثر، ومرجعه إلى المساهلة. وعرف الشوكاني هذا البيع بقوله: هو ما لم يعلم قدره على التفصيل (1) .
دليل مشروعيته: ورد في السنة النبوية ما يدل على مشروعية بيع المجازفة، منها حديثان:
1ً - عن جابر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة (2) من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» رواه مسلم والنسائي (3) . في هذا الحديث دلالة
على أنه يجوز بيع التمر مجازفة إذا كان الثمن جنساً آخر غير التمر، فإن كان الثمن تمراً حرم البيع؛ لاشتماله على ربا الفضل؛ لأن بيع الشيء بجنسه وأحدهما مجهول المقدار حرام، ولا شك أن الجهل بأحد العوضين أو بكليهما مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، ومن المعلوم أن التمر من الأصناف الربوية.
2ً - عن ابن عمر قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه (4) . هذا الحديث يدل على إقرار النبي صلّى الله عليه وسلم فعل الصحابة بالبيع جزافاً، إلا أنه نهاهم عن بيع اشتروه قبل قبضه واستيفائه.
حكم بيع الجزاف عند الفقهاء:
يتبين حكم الجزاف من الحالتين الآتيتين: بيع الصبرة، وبيع النقود والحلي والمحلى.
بيع الصبرة من الطعام ونحوه: اتفق أئمة المذاهب الأربعة على جواز بيع الصبرة جزافاً، مع اختلافهم في تفصيلات سأذكرها، والصبرة: هي الطعام المجموع. سميت بذلك لإفراغ بعضها على بعض. قال ابن قدامة الحنبلي: يجوز بيع الصبرة جزافاً لا نعلم فيه خلافاً إذا جهل البائع والمشتري قدرها (5) . ومستنده واضح وهو ما ثبت في السنة النبوية مما أشرت إليه في مشروعية هذا البيع.
أما تفصيلات المذاهب فهي ما يأتي:
__________
(1) نيل الأوطار: 160/5.
(2) الصبرة ـ بضم الصاد: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن. وقوله «لا يعلم كيلها» صفة كاشفة للصبرة لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل.
(3) نيل الأوطار: 196/5.
(4) المرجع السابق: 158/5.
(5) المغني: 123/4.(5/333)
أولاً ـ مذهب الحنفية: قال فقهاء الحنفية (1) : إذا باع رجل غيره قفيزاً (2) من صبرة طعام معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعلم عدد القفزان، جاز البيع؛ لأن الجهالة فيه يسيرة لا تفضي إلى المنازعة، إلا أن أبا حنيفة قال: من باع صبرة طعام (وهي الحنطة ودقيقها خالصة في العرف الماضي) (3) كل قفيز بدرهم مثلاً، وهو البيع بسعر الوحدة جاز البيع في قفيز واحد فقط، وتوقف البيع في الباقي إلى أن تزول الجهالة في مجلس العقد بأحد أمرين: إما بتسمية جملة القفزان، أو بكيلها في المجلس، إذ أن ساعات المجلس بمنزلة ساعة واحدة. فإن علم مقدار الصبرة بعد انتهاء المجلس، تقرر فساد البيع، فلا ينقلب صحيحاً بعدئذ.
ومثل الطعام جميع الحبوب كالشعير والذرة ونحوهما.
ودليله: أن الثمن والمبيع في هذه الحالة مجهولان، والجهالة تفسد العقد، وبما أنه لا جهالة في القفيز الواحد، فيلزم العقد فيه للتيقن به، وإذا زالت الجهالة في كل المبيع بتعيين عدد القفزان أو بالكيل في مجلس العقد، ثبت الخيار للمشتري، لتفرق الصفقة عليه دون البائع؛ لأن تجزئة المعقود عليه كان بسبب منه، لعدم تحديده سابقاً مقدار الأقفزة، فكان راضياً بالبيع على النحو الذي تم.
__________
(1) راجع البدائع 158/5، فتح القدير: 88/5 وما بعدها، الدر المختار: 29/4، تبيين الحقائق للزيلعي: 5/4، اللباب شرح الكتاب للميداني: 7/2، تحفة الفقهاء: 63/2 الطبعة الأولى، مختصر الطحاوي: ص 79.
(2) القفيز: مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والجمع أقفزة وقفزان، والمكوك: مكيال هو صاع ونصف أو هو ثلاث كيلجات، والكيلجة: منا وسبعة أثمان منا، والمنا: الذي يكال به السمن وغيره، وقيل: الذي يوزن به: رطلان، والتثنية منوان. والجمع أمناء، مثل سبب وأسباب (راجع المصباح المنير) وقال النووي في المجموع (313/9) : القفيز مكيال معروف يسع اثني عشر صاعا. وأما الكرّ فهو ستون قفيزاً.
(3) راجع فتح القدير: 85/5.(5/334)
وثبوت الخيار للمشتري في هذه الحالة يشبه حالة ما لو اشترى رجل شيئاً لم يره ثم رآه، فتزول الجهالة بالرؤية.
وقال الصاحبان: يصح البيع في كل الصبرة؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة إليه في الجملة، ومن المقرر أنه لا يشترط لصحة البيع معرفة مقدار المشار إليه. وأما جهالة الثمن فإنها لا تضر إذ أن العلم به ممكن بالعدّ، بأن تكال الصبرة في مجلس العقد.
وقول الصاحبين هو المفتى به تيسيراً على الناس، وهو الذي رجحه صاحب الهداية لتأخيره دليلهما عن دليل أبي حنيفة كما هي عادته، وبه قال أئمة المذاهب الآخرين، ولكن صاحب فتح القدير رجح قول الإمام ودليله.
هذا حكم بيع صبرة الطعام أي وما يشبه ذلك من المثليات، أما القيميات (1) كالحيوان والثوب فحكمها ما يأتي:
من باع قطيع عنم كل شاة بدرهم مثلاً، فالبيع فاسد في الجميع عند أبي حنيفة، حتى وإن علم عددها في مجلس العقد على الأصح، للجهالة وقت العقد. ولا يصح حينئذ بيع الشاة الواحدة بما سمي من ثمن لكل واحدة من القطيع؛ لأن بيع شاة من قطيع لا يصح للتفاوت بين أفراد الشياه، بخلاف بيع قفيز من صبرة، فإنه يصح بيع قفيز واحد عنده، كما تقدم،، لعدم التفاوت بين أجزاء الطعام، ومثله كل مكيل من الحبوب، فلا تفضي الجهالة في المثليات إلى المنازعة، ولكنها تؤدي إليها في القيميات التي لا تتماثل آحادها.
__________
(1) المثليات: هي المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة وبعض أنواع الذرعيات، والقيميات: هي التي تتفاوت أفرادها بحيث يكون لكل فرد منها اعتبار خاص وقيمة معينة كالحيوانات والأراضي والدور والأشجار والطنافس والثياب ونحوها من العدديات المتفاوتة كالبطيخ وأنواع الفاكهة.(5/335)
وكذلك من باع ثوباً يضره التبعيض مذارعة، كل ذراع بدرهم، ولم يسم جملة الذرعان، وكذلك كل معدود متفاوت كإبل وعبيد ونحوهما: لا يصح البيع في الجميع عند أبي حنيفة، لوجود الجهالة.
وقال الصاحبان: يجوز البيع في كل ما ذكر؛ لأن الجهالة يمكن إزالتها ورفعها في النهاية بعد تعداد المبيع (1) .
والخلاصة: أن أبا حنيفة أجاز بيع الصبرة المجهولة في كيل واحد في المثليات، ولم يجزه في القيميات. وخالفه الصاحبان في كل ما ذكر، فأجازا البيع في الكل مثلياً كان المبيع أو قيمياً؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد عند انعقاده تزول في النهاية.
البيع بإناء أو بوزن مجهول القدر: أجاز الحنفية حالة من المجازفة لها صورة الكيل والوزن دون حقيقته على أن يكون البيع غير لازم للمشتري وله خيار كشف الحال: وهي بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره بشرط أن يكون مما لا يحتمل الزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل وينكبس بالكبس كالزنبيل والقفة فلا يجوز إلا في قِرب الماء استحساناً للتعامل فيه، فيصح عند أبي يوسف بيع ملء قربة بعينها بحسب عرف البلدان. كما أنهم أجازوا بيع شيء بوزن حجر بعينه لا يعرف مقداره بشرط ألا يتفتت الحجر، وأما إذا باعه بوزن شيء يخف إذا جف كالخيار والبطيخ، فلا يجوز البيع حينئذ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 90، الزيلعي: ص 6، اللباب: ص 7 وما بعدها.
(2) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 86، الزيلعي: ص 5، اللباب: ص 7، رد المحتار والدر المختار: 29/4.(5/336)
حالة النقص والزيادة في الصبرة التي حدد مقدارها:
من اشترى صبرة طعام على أنها مئة قفيز بمئة درهم مثلاً، فوجدها المشتري أقل مما حدد له، كان المشتري بالخيار: إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على أجزاء المبيع المثلي. وإن شاء فسخ البيع لتفرق الصفقة الواحدة عليه قبل تمام العقد فلم يتم رضاه بالموجود. وسبب تفرق الصفقة عليه: هو أن العقد ورد على جملة معلومة، فإذا نقصت يلزم تفرق الصفقة لا محالة.
ومثله في الحكم: كل مكيل أو موزون ليس في تبعيضه ضرر.
وإن وجد المشتري أن الصبرة أكثر من القدر المتفق عليه، فالزيادة للبائع؛ لأن البيع وقع على مقدار معين، فما زاد عليه، لم يدخل في العقد، فيكون للبائع.
ومن اشترى ثوباً على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم مثلاً، أو أرضاً على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً ولم يسم لكل ذراع ثمناً (1) ثم وجده أقل مما حدد له: فللمشتري الخيار: إن شاء أخذ المبيع بكل الثمن المحدد، وإن شاء ترك البيع، لتفرق الصفقة عليه. والفرق بين صورة الطعام، وصورة الثوب والأرض: هو أن القدر في الطعام جزء أساسي من المبيع وليس بوصف، فإن كل جزء من مقدار الطعام يقابله جزء من الثمن. أما الذرع في الثوب والأرض فإنه وصف لأنه عبارة عن الطول، والوصف غير المقصود بالتناول لا يقابله شيء من الثمن، إلا أن المشتري يخير لفوات وصف مرغوب فيه مشروط في العقد.
فإن وجد المشتري زيادة في أذرع الثوب أو الأرض، فالزائد له، ولا خيار للبائع؛ لأن الذرع وصف غير مقصود في هذه الحالة في الثوب أو الأرض كما أبنت، لأنه تابع محض، والتوابع لا يقابلها شيء من الثمن، فكان ذلك بمنزلة ما إذا باع رجل غيره شيئاً معيباً فإذا هو سليم.
__________
(1) أي أن غرض المشتري موجه أصالة إلى الشيء المبيع جملة دون أن يكون له هدف أصلي في الطول أو في العرض مثلاً، فيكون كل الثمن مقابلاً بالعين كلها.(5/337)
هذا.. حيث لم يكن الذرع مقصوداً، فإن كان مقصوداً بأن قال: (بعتك الأرض [المذكورة] على أنها مئة ذراع بمئة درهم مثلاً، كل ذراع بدرهم) فوجدها ناقصة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذها بحصتها من الثمن، لأن الوصف وإن كان تابعاً، لكنه صار أصلاً بانفراده بذكر الثمن، وإن شاء تركها لتفرق الصفقة.
فإن وجدها زائدة، فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الجميع كل ذراع بدرهم، وإن شاء فسخ البيع لدفع ضرر التزام أخذ الزائد (1) .
ثانياً ـ مذهب المالكية: يجوز عند الإمام مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل أي كل كيل منها بكذا، فما بلغته الصبرة من الأكيال بعد الكيل تحسب قيمته الإجمالية بحسب قيمة كل كيلة منها. ولا مانع في هذا البيع عند المالكية من أن يكون المبيع مثلياً أو قيمياً أو عددياً، فهو يجوز في الطعام والثياب والعبيد والحيوان (2) بخلاف ما سبق ذكره عن أبي حنيفة، فإنه لا يجيزه في القيميات.
وسيأتي مزيد بيان لذاك عند المالكية في شروط بيع الجزاف.
ثالثاً ـ مذهب الشافعية: قال الشافعية: يصح بيع صاع من صبرة (3) تعلم صيعانها للمتعاقدين كعشرة مثلاً لعدم الغرر، كما أنه يصح البيع في الأصح إن جهلت صيعانها للمتعاقدين أو لأحدهما، لتساوي أجزائها، وتغتفر جهالة المبيع هنا، فإنه ينزل على صاع مبهم. ولا يصح بيع ذراع من مجهول الذرعان من أرض أو ثوب لتفاوت الأجزاء كبيع شاة من هذه الشياه.
__________
(1) المراجع السابقة: الفتح: ص 92، الزيلعي: ص 6، اللباب: ص 8.
(2) بداية المجتهد: 158/2، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 18/3-20.
(3) وفسروا الصبرة بالكومة من الطعام وهو تفسير واضح.(5/338)
ويصح أيضاً بيع الصبرة المجهولة الصيعان بأن يقول: كل صاع بدرهم أو أن يقول: بعتك هذه الصبرة، وإن لم يعرف قفزانها، أو يقول: بعتك هذه الدار أو هذا الثوب وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن المبيع مشاهد، فيزول غرر الجهالة بالمشاهدة ولايضر الجهل بجملة الثمن، لأنه معلوم بالتفصيل، والغرر مرتفع به، كما إذا باع بثمن معين جزافاً. ومثل الصبرة ما لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كل ذراع بدرهم، أو هذه الأغنام أو العبيد كل واحد بدرهم. ومن قال لغيره: (بعتك هذه الصبرة) جاز البيع، وإن لم يعرف قفزانها. وإن قال: (بعتك هذه الدار أو هذه الأرض أو هذا الثوب) جاز البيع، وإن لم يعرف ذرعانها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بالمشاهدة. قال الشافعي: وأكره بيع الصبرة جزافاً لأنه يجهل قدرها على الحقية.
ولو باع الصبرة أو الأرض أو الثوب بمئة درهم كل صاع أو ذراع بدرهم، صح البيع إن خرجت مئة لتوافق الجملة والتفصيل، وإن لم تخرج مئة بأن خرجت أقل أو أكثر، فلا يصح البيع على الصحيح لتعذر الجمع بين جملة الثمن وتفصيله.
ويصح كون الصبرة ثمناً، فلو قال: بعتك بهذه الصبرة وهي مجهولة القدر، صح البيع اعتماداً على المشاهدة مع الكراهة، لأنه قد يوقع في الندم (1) .
والخلاصة: إن الشافعية كالمالكية يجيزون بيع الصبرة في المثليات والقيميات، ويخالفون الحنفية في حالة تحديد قدر الصبرة إجمالاً، فيبطلون البيع إن لم يتطابق جملة المبيع مع تفصيله بأن نقص أو زاد، أما الحنفية فإنهم يرون البيع صحيحاً ولكن يعطى المشتري الخيار كما أوضحت.
__________
(1) راجع مغني المحتاج: 16/2 ومابعدها، المهذب: 264/1 ومابعدها، المجموع: 340/9 ومابعدها.(5/339)
وفي الجملة: يكره بيع الصبرة جزافاً في أصح القولين عند الشافعي، وبه قطع النووي وآخرون لما فيه من الغرر (1) .
رابعاً ـ مذهب الحنابلة: أجاز الحنابلة بيع الصبرة جزافاً مع جهل البائع والمشتري بقدرها، سواء أكان المبيع طعاماً أم ثياباً أم حيواناً. ويصح عندهم بيع الصبرة أو الثوب أو القطيع كل قفيز أو ذراع أو شاة بدرهم؛ لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين: وهو أن تكال الصبرة ويقسط الثمن على قدر القفزان ونحوها، فيعلم مبلغه.
ويصح بيع ما بوعاء مع وعائه أو دونه، أو كل رطل بكذا على أن يسقط منه وزن الوعاء (2) .
نخلص مما ذكرفي بيع الصبرة جزافاً أن الفقهاء صححوا العقد فيما إذا قال البائع: (بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم) وإن لم يعلما مقدارها حال العقد. ومثل الصبرة كل مكيل أو موزون أو معدود مثلياً أو قيمياً. وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يصح البيع في قفيز واحد فقط، ويبطل فيما سواه؛ لأن جملة الثمن مجهولة، فلم يصح كبيع الشيء برقمه. ولا يصح عنده بيع الجزاف في القيميات.
بيع النقود والحلي والمحلى جزافاً:
يصح بيع الجزاف إذا كان البدلان من جنسين مختلفين، فإن اتحد جنس البدلين لم يجز البيع جزافاً لاشتمال العقد على الربا؛ لأن عدم التقدير بالكيل أو بالوزن مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وذلك بكيل المكيل ووزن الموزون في كلا البدلين.
وهذا يعني أن البيع مجازفة مقيد بغير الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها، فأما الأموال الربوية إذا
__________
(1) المجموع: 343/9.
(2) انظر المغني: 123/4 ومابعدها، غاية المنتهى: 12/2، 15.(5/340)
بيعت بجنسها فلا يجوز مجازفة لاحتمال الربا وهو مانع من صحة العقد كحقيقة الربا (1) .ومن هنا قال الحنفية: الأصل العام في بيع النقود ونحوها جزافاً:
أن ما يجوز البيع فيه متفاضلاً، يجوز فيه البيع مجازفة، وما لا يجوز فيه البيع متفاضلاً، لا يجوز فيه البيع مجازفة (2) . ويظهر أن هذا الأصل متفق عليه بين المذاهب الأربعة بحسب ما يجوز فيه التفاضل وما لايجوز، على وفق ما هو مقرر من علة معينة للربا في كل مذهب، فلا يجوز مثلاً عند الشافعية بيع الطعام بجنسه أو النقد بجنسه جزافاً تخميناً وإن خرجا سواء؛ للنهي عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر (3) .
وعلى هذا:
1ً - إذا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مجازفة: لا يجوز البيع، لعدم جواز التفاضل بين هذين المعدنين باعتبارهما من الأموال الربوية، فلا تجوز المجازفة، لاحتمال وجود زيادة في أحد العوضين لا يقابلها مثلها في العوض الآخر، وذلك سواء جهل المتعاقدان أو أحدهما وزن كل عوض منهما، أو عرفا وزن أحدهما دون الآخر.
فإن وزن العوضان في مجلس العقد، فكانا متساويين في الوزن، جاز البيع استحساناً؛ لأن لمجلس العقد حكم حالة انعقاد العقد، فكان العلم بالتساوي بين البدلين حينئذ كالعلم به عند العقد. أما إذا تفرق العاقدان عن المجلس قبل الوزن، ثم حصل الوزن، فكان العوضان متساويين وزناً، فالبيع فاسد. وقال زفر: البيع صحيح في الحالين إذا كانت هناك مساواة في الوزن؛ لأن المانع من صحة العقد هو احتمال وجود الزيادة، وقد تبين أنه لا زيادة.
2ً - إذا بيع الشيء بغير جنسه كبيع ذهب بفضة مجازفة: صح البيع؛ لأنه جاز التفاضل فيهما، ولكن يجب التقابض في العوضين في مجلس العقد كما يجب حالة اتحاد الجنس.
ويتفرع عن هذه القاعدة في حالتي بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه ما يأتي:
__________
(1) فتح القدير: 86/5.
(2) تحفة الفقهاء: 39/3.
(3) راجع مغني المحتاج: 25/2، المغني: 15/4، القوانين الفقهية: ص 246، 257.(5/341)
ـ إذا تمت القسمة بين الشريكين فيما يجري فيه الربا: لا تجوز مجازفة في الجنس الواحد، وتجوز في مختلفي الجنس؛ لأن القسمة في معنى البيع أو المبادلة؛ لأن ما يأخذه كل شريك يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه.
ـ لو بيع سيف بسيف، أو إناء نحاس بإناء آخر من جنسه مجازفة؛ صح البيع إذا كان ذلك مما يباع عدداً؛ لأن العدّ في العدديات ليس من أوصاف علة الربا (التي هي الكيل أو الوزن) فجاز فيهما التفاضل ولا يتحقق الربا عندئذ.
وإن كان ذلك مما يباع وزناً: فلا يجوز، لأنه بيع مال ربوي بجنسه مجازفة (1) .
ـ إذا بيعت الفضة مغشوشة بمعدن آخر، أو بيع الذهب مغشوشاً، فالعبرة للغالب في الشرع، فغالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب. فإن بيعت فضة مغشوشة يغلب فيها الفضة، فحكمها حكم الفضة الخالصة: لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء، يداً بيد، أي يصح بيع المغشوشة بما يساويها وزناً من الفضة الخالصة؛ لأن كلاً منهما لا يخلوان عن قليل غش، إذ هما لا يطبعان عادة بدونه، وقد يكون الغش فيهما طبيعياً فيعسر التمييز بين المخلوط والطبيعي، فيلحق القليل من الغش بالرداءة، والجيد والرديء سواء في مبادلة الأموال الربوية، فيعتبر الغش فيهما كأن لم يكن.
فإن كان الغش هو الغالب: فحكمها حكم النحاس الخالص، فلا يباع المغشوش بالنحاس إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن استوت الفضة والغش، أو الذهب والغش: فحكمه حكم ما غلب فيه الفضة أوالذهب في التبايع والاستقراض، فلا يجوز البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن، ولا يجوز بيعها مجازفة وعدداً.
__________
(1) البدائع: 185/5.(5/342)
وأما في الصرف فالحكم فيه كغالب الغش أي كحكم فضة غلب عليها الغش، فإن بيعت بفضة خالصة يجزأ المبيع في اعتبارنا وتقديرنا: إن كانت الفضة الخالصة أكثر وزناً من الفضة المغشوشة، جاز البيع، حتى يكون قدر الفضة في كلا العوضين مقابلاً بمثله، وأما الزائد عن ذلك القدر في الفضة الخالصة فهي مقابل الغش كما لو كانت الفضة الخالصة ثمناً لمبيع مشتمل على فضة وقطعة نحاس مثلاً. وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة الموجودة في المغشوش أو مثلها، أو جهل الأمر: فلا يجوز البيع لما فيه من الربا في أحد العوضين (1) .
ـ إذا بيع سيف محلىً أي مفضض أو مذهب، والثمن ذهب أو فضة (1) : فإن تماثل جنس الحلية والثمن، وكان مقدار الثمن أكثر من الحلية، جاز البيع، وتكون الحلية مبيعة بمثل وزنها، والزائد من الثمن في مقابل الجفن والحمائل (2) التي تتبع السيف عادة في البيع؛ لأن الأصل المقرر عند الحنفية في تقسيم الثمن على المبيع: أنه إذا كان المبيع أشياء بعضها من جنس الثمن، وبعضها ليس من جنسه، صرف الثمن إلى جنسه بمثل وزنه على وجه يصحح فيه العقد ما أمكن؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والسداد ما أمكن. وتصحيح العقد هنا يتم بصرف بعض الثمن إلى جنسه بمثل وزنه، والبعض الآخر يصرف إلى الجنس الآخر في اعتبارنا وتقديرنا.
فإن كان الثمن مثل الحلية أو أقل، فلا يجوز البيع، لاشتماله على ربا الفضل، إذ أن الجفن والحمائل تصبح مبيعة بدون عوض عنها وهذا هو معنى الربا.
وإن جهل مقدار الثمن أو اختلف التجار في تقديره: فإن تبين أن الثمن أكثر من الحلية، والحلية أقل وزناً من الثمن في مجلس العقد، يكون البيع جائزاً عند الحنفية. وإن علم ذلك بعد الافتراق عن المجلس: لا يجوز البيع عند جمهور الحنفية. وقال زفر: ينقلب العقد صحيحاً كما في بيع الجزاف، كما مر سابقاً.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 140/4 ومابعدها.(5/343)
وعلى هذا فإن القاعدة: «متى بيع نقد مع غيره كمفضض ومزركش (3) بنقد من جنسه، شرط زيادة الثمن ليكون قدر الحلية من الثمن ثمناً لها والزائد ثمناً للسيف، إذ لو لم تتحقق الزيادة بطل البيع، فلو كان الثمن مثل الحلية أو أقل أو جهل بطل البيع، ولو كان الثمن بغير جنس الحلية، شرط التقابض فقط وجاز التفاضل» كما سيأتي (4) .
ومن المعلوم أن صحة البيع فيما إذا كان الثمن أكثر من الحلية تتطلب قبض مايقابل الحلية من الثمن في مجلس العقد، فإن تفرق العاقدان قبل أن يتقابضا، أو يقبض أحدهما حقه دون الآخر، فإنه ينظر:
أـ إن كانت الحلية مما لا يمكن تخليصها عن السيف إلا بإلحاق ضرر به: فسد البيع كله.
ب ـ وإن كانت تتخلص بغير ضرر: جاز البيع في السيف، وفسد في الحلية؛ لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفاً، وبالنسبة للسيف يكون بيعاً مطلقاً، والتقابض شرط لصحة الصرف فقط.
فإذا كانت الحلية تتخلص من غير ضرر، فكأنها والسيف شيئان منفصلان، فيجوز العقد في أحدهما دون الآخر.
وإن كانت الحلية لا تتخلص إلا بضرر: فسد العقد كله، أما بالنسبة للحلية فلعدم التقابض، وأما بالنسبة للسيف، فلأنه بيع شيء لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع، ومثل هذا البيع فاسد كبيع جذع في سقف، فلو فصلت الحلية عن السيف، وسلم إلى المشتري انقلب العقد صحيحاً.
ـ يترتب على الشرطين السابق ذكرهما في عقد الصرف (وهما خلو العقد عن
__________
(1) انظر البدائع: 217/5 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 41/3 ومابعدها، الدر المختار: 247/4 ومابعدها.
(2) الجفن ـ بفتح الجيم: غمد السيف. والحمائل بفتح الحاء جمع حمالة بكسر الحاء أو محمل بوزن مرجل: وهي علاقة السيف.
(3) المفضض: ما رصع بفضة أو ألبس فضة، والمزركش هو المطرز بخيوط فضية أو ذهبية.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 48/4.(5/344)
خيار الشرط، وعن تأجيل قبض أحد العوضين) أنه لو بيع السيف المحلى بجنس الحلية، أو بخلاف جنسها من الذهب أو الفضة، وكان الثمن أكثر وزناً من الحلية، واشترط أحد العاقدين خيار شرط، أو شرط المشتري تأجيل الثمن في صلب العقد، ثم تفرق المتعاقدان دون أن يتم قبض أحد العوضين: كان العقد فاسداً على التفصيل الآتي (1) :
أـ إن كانت الحلية مما لا تتميز عن السيف إلا بضرر: فسد البيع في الحلية بسبب الخيار أو الأجل، وفسد في السيف، لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع، بتسليمه منفصلاً عن الحلية.
فإن افترق المتعاقدان بعد التقابض، بأن أبطلا الخيار أو أسقطا الأجل، انقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر.
ب ـ وإن كانت الحلية تتميز عن السيف من غير ضرر: فسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، والفساد في نفس المعقود عليه، وفي مثل هذا يشيع الفساد في كل المبيع.
وقال محمد: يجوز البيع في السيف، ويبطل في الحلية؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، وللفاسد تأثيره، فيصح العقد في الجزء الصحيح، ويفسد في الفاسد.
جـ ـ إذا اشترى رجل من صائغ سواراً من فضة بدراهم فضية، وتماثلا في الوزن، وتقابضا وافترقا، أو تصارف رجلان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة مثلاً بمثل، وتم التقابض بينهما، وافترقا، ثم زاد أحدهما صاحبه شيئاً وقبل الآخر: فسد البيع عند أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف: الحط والزيادة باطلان لاغيان، والعقد الأول صحيح.
وقال محمد: الحط جائز بمنزلة الهبة المستقبلة، والزيادة باطلة.
__________
(1) راجع البدائع: 217/5 وما بعدها.(5/345)
ومنشأ هذا الخلاف هو اختلافهم في تأثير الشرط الفاسد على العقد إذا تأخر ذكره عن العقد (1) :
فعند أبي حنيفة: يلتحق هذا الشرط بالعقد ويفسد العقد، فإذا وجدت الزيادة أو الحط بعد انعقاد العقد، التحقا بأصل العقد، فكأن العقد وجد منذ إنشائه على هذا النحو مشتملاً على الزيادة في أحد العوضين، فيفسد العقد بسبب التفاضل في مال ربوي؛ لأن العوضين من جنس واحد، فيتحقق الربا.
وإنما شرط القبول في الحط عند أبي حنيفة، لأنه يترتب عليه فسخ العقد، ولا يحق لأحد المتعاقدين إجراء الفسخ إلا برضا الآخر.
وعند أبي يوسف ومحمد: إن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد إلا أن أبا يوسف التزم هذا الأصل، فأسقط اعتبار الزيادة والحط جميعاً فبقي البيع الأول صحيحاً.
وأما محمد فإنه فرق بين الزيادة والحط، فقال: الزيادة باطلة والحط جائز؛ لأن الزيادة لو صحت لالتحقت بأصل العقد، فأفسدته، فبطلت الزيادة.
وأما الحط: فلا يشترط لصحته أن يلتحق بالعقد بدليل أن البائع لو حط جميع الثمن صح، ولا يلتحق بأصل العقد، إذ لو التحق لكان البيع واقعاً بلا ثمن، فيجعل حطاً للحال بمنزلة هبة مستأنفة أو مبتدأة بقطع النظر عن البيع الأول.
هذا إذا اتحد جنس البدلين.
فإن اختلف جنسهما بأن بيع سوار فضة وزنه مقدار وزن عشرة دراهم بدينار ذهبي، أو تصارف اثنان ديناراً بعشرة دراهم فضية، ثم زاد أحدهما صاحبه درهماً وقبل الآخر، أو حط عنه درهماً من الدينار، صح الحط والزيادة باتفاق الحنفية، ويلتحقان بأصل العقد؛ لأن المانع من تصحيح العقد هو وجود الربا، واختلاف الجنس في العوضين يمنع تحقق الربا، إذ أن مبادلة الأموال الربوية يجوز فيها التفاضل حال اختلاف الجنس، ويمتنع حال اتحاد الجنس.
إلا أنه يشترط في الزيادة قبضها في مجلس الزيادة، فلو افترق العاقدان قبل القبض، بطل البيع بقدر الزيادة، لأنها لما التحقت بأصل العقد، صار كأن العقد ورد على الزيادة والأصل جميعاًً، فصارت جزءاً من ثمن الصرف.
__________
(1) راجع البدائع: 216/5، الدر المختار: 246/4.(5/346)
وأما الحط فلا يشترط قبضه في المجلس، لأنه وإن التحق بأصل العقد فأدى إلى حدوث التفاضل في العوضين، فلا يؤثر على العقد؛ لأن التفاضل في الأموال الربوية جائز عند اختلاف الجنس كما بينت.
لكن يجب على العاقد رد ما حط لغيره؛ لأن الحط لما التحق بأصل العقد تبين أن العقد لم يقع على قدر المحطوط من ابتداء العقد، فيجب رده.
شروط بيع الجزاف:
اشترط فقهاء المالكية لصحة بيع الجزاف شروطاً سبعة (1) ، سأذكرها بإيجاز مع الإشارة إلى ما قد يوجد من شروط في كتب فقهاء المذاهب الأخرى وهي:
1 - أن يكون المبيع مرئياً بالبصر حال العقد أو قبله، واستمر العاقدان على معرفة المبيع حين التعاقد، فلا يصح بيع غير المرئي جزافاً ولا البيع من الأعمى جزافاً. وتكفي رؤية بعض المبيع المتصل به كمغيب الأصل، وتكفي في الصبرة رؤية ما ظهر منها. ولا تشترط الرؤية إذا ترتب عليها فساد البيع كأواني الخل المختومة التي يفسدها الفتح، ولكن لا بد من بيان صفة ما فيها من الخل.
__________
(1) راجع الشرح الكبير للدردير: 3 ص 20 وما بعدها، بداية المجتهد: 2 ص 157، مواهب الجليل 285/4، الشرح الصغير: 35/3-40، الغرر وأثره في العقود للزميل الدكتور الصدِّيق محمد الضرير: ص 234 وما بعدها.(5/347)
وهذا الشرط متفق عليه أيضاً بين الحنفية والشافعية والحنابلة (1) ، قال الزيلعي: شرط جواز الجزاف: أن يكون مميزاً مشاراً إليه. وعبارة الشافعية والحنابلة: تكفي المشاهدة في الصبرة ونحوها؛ لأن غرر الجهالة ينتفي عنها بها.
2 - أن يجهل كل من البائع والمشتري قدر المبيع كيلاً أو وزناً أو عدداً، فإن علم قدره أحد العاقدين بإعلام صاحبه بعد انعقاد العقد، كان الآخر بالخيار، وإن استوى الاثنان في العلم بمقداره حين التعاقد فسد العقد، لتعاقدهما على الغرر، وتركهما الكيل أو الوزن، فيرد المبيع إن كان قائماً، وإلا لزم المشتري دفع القيمة (2) . ووجود هذا الخيار دليل على أن هذا الشرط شرط لزوم وليس شرط صحة.
وقد أشار ابن جزي إلى مخالفة الحنفية والشافعية في هذا الشرط، لكن صرح الشافعية بالموافقة عليه (3) ، ونص الإمام أحمد على أن البائع إذا عرف مقدار شيء لم يبعه صبرة، فإن خالف ذلك وباع مع علمه بمقدار المبيع، فالبيع صحيح لازم لكنه مكروه كراهة تنزيه (4) .
3 - أن يكون البيع في كل ما كان المقصود منه الكثرة لا الآحاد: فيصح الجزاف في المكيلات والموزونات كالحبوب والحديد، والممسوحات أو المذروعات كالأرضين والثياب، ولا يجوز الجزاف في المعدودات إلا إذا كان في عدّه مشقة؛ لأن العد متيسر لغالب الناس، وهذا هو المراد بالمذكور في الشرط: وهو ألا يكون القصد منه آحاد أو أفراد أعيانه. فإن كان في عده مشقة جاز بيعه جزافاً، وإن كان القصد موجهاً إلى كل فرد من أفراده على حدة لم يجز بيعه جزافاً.
وعلى هذا يجوز بيع المعدود جزافاً إذا قل ثمن أفراده كالبيض والتفاح والرمان والبطيخ المتماثل في الحجم نسبياً بأن كان كله كبيراً أو كله صغيراً، لا ماكان بعضه صغيراً وبعضه كبيراً. ولا يجوز بيع المعدود جزافاً إن قصد كل فرد من أفراده بثمن معين كالعبيد والثياب والدواب، وحينئذ لا بد من عده، فإن لم تقصد أفراد هذه الأشياء جاز بيعها جزافاً.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 4 ص 5، المهذب: 1 ص 265، المغني: 4 ص 123.
(2) انظر القوانين الفقهية لابن جزي: ص 246.
(3) المجموع للنووي: 9 ص 343.
(4) المغني: 4 ص 125 وما بعدها.(5/348)
ولا يجوز فيما له خطر وهو بيع الدراهم والدنانير والجواهر جزافاً، ويجوز بيع التبر والفضة غير المسكوكين جزافاً.
والخلاصة: متى عدَّ المعدود بلا مشقة لم يجز جزافاً سواء قصدت أفراده أم لا، قل ثمنها أم لا، ومتى عدَّ بمشقة فإن لم تقصد أفراده جاز بيعه جزافاً قل ثمنها أم لا، وإذا قصدت جاز جزافاً إن قل ثمنها ومنع إن لم يقل (1) .
وأما الحنفية فقد عرفنا الخلاف المذهبي عندهم، فالإمام أبو حنيفة يحصر جواز بيع الجزاف في المكيل والموزون (أي المثليات) في الكيل الواحد منها، والصاحبان يجيزان بيع المجازفة في المكيلات والموزونات والذرعيات كالثياب والأراضي والمعدودات المتقاربة كالجوز والبيض، والعدديات المتفاوتة كالحيوانات، والفتوى على رأيهما للتيسير على الناس كما أوضحت (2) .
وفي الجملة: يجيز الشافعية والحنابلة أيضاً بيع المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات جزافاً (3) .
4 - أن يحزر المبيع بالفعل من أهل الحزر: فلا يصح بيع الجزاف فيما يعسر حزره كعصافير حية ونحوها مما يتداخل مع بعضه كحمام في برج وصغار دجاج في مدجنة كبرى، إلا إذا أمكن معرفتها بالحزر قبل الشراء في وقت هدوها أو نومها، فيجوز عندئذ شراؤها جزافاً.
وكون العاقدين من أهل الحزر بأنفسهما أو بوكيلهما يتحقق بالممارسة والخبرة والاعتياد.
ووافق الشافعية على هذا الشرط، فقرروا أنه لا بد من معرفة مقدار الصبرة أو التمكن من تخمينه، فأجازوا في الأصح بيع النحل في الكندوج (4) إذا رئي في دخوله وخروجه، ولم يعرف أنه خرج جميعه (5) .
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير: 3 ص 21.
(2) راجع فتح القدير: 5 ص 88-90، اللباب شرح الكتاب: 2 ص 7 ومابعدها.
(3) انظر مغني المحتاج: 2 ص 16-17، المغني: 4 ص 124.
(4) الكندوج ـ بضم الكاف وسكون النون: وهو الخلية، عجمي معرب، ويقال لها الكوارة أيضاً.
(5) المجموع: 9 ص 345، 353، المهذب: 1 ص 265.(5/349)
5 - أن يكون المبيع كثيراً كثرة غير هائلة: فإن كان كثيراً جداً يمنع بيعه جزافاً، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً أم معدوداً لتعذر حزره وتخمينه. وإن لم يكثر جداً يجوز بيعه جزافاً مكيلاً كان أو موزوناً أو معدوداً لإمكان حزره. وأما ما قل جداً فيمنع بيعه جزافاً إن كان معدوداً لأنه لا مشقة في علمه بالعدد، ويجوز إن كان
مكيلاً أو موزوناً وجهل العاقدان قدر كيله أو وزنه، ولو كان لا مشقة في كيله أو وزنه.
6 - أن تكون الأرض التي عليها المبيع مستوية علماً أو ظناً: فإن لم تكن مستوية فسد العقد بسبب الغرر الكثير أو الجهالة، أما إن ظن المتعاقدن أنها مستوية ثم تبين في الواقع أن فيها علواً فيمنح المشتري الخيار، وإن كان فيها انخفاض فالخيار للبائع.
واتفق الشافعية مع المالكية على هذا الشرط، فقرروا في الأصح عندهم أن البيع فاسد إذا كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو كان المبيع سمناً ونحوه في ظرف مختلف الأجزاء رقة وغلظاً (1) .
واشترط الحنابلة أيضاً هذا الشرط، فقرروا كالمالكية أن المشتري بالخيار إذا بان أن الصبرة على ربوة مثلاً، وكذلك البائع بالخيار إذا بان أن تحت الصبرة حفرة لم يكن يعلم بها (2) .
ويظهر لنا أن الحنفية يطالبون أيضاً بتحقق هذا الشرط بدليل أنهم شرطوا في بيع شيء بإناء بعينه لا يعرف مقداره ألا يكون الإناء محتملاً للزيادة والنقصان كأن يكون من خشب أو حديد، أما إذا كان يحتمل أو ينكبس بالكبس كالزنبيل والجوالق والقفة فلا يجوز كما ذكر (3) .
__________
(1) المجموع: 9 ص 315، 345، 350، المهذب: المكان السابق.
(2) المغني: 4 ص 124 ومابعدها.
(3) تبيين الحقائق: 4 ص 5، فتح القدير: 5 ص 86.(5/350)
7 - ألا يشتمل العقد الواحد على جزاف من الحب ومكيل منه، من غير جنسه أو من جنسه، ولا على جزاف من الحب مع مكيل من الأرض، ولا على جزاف من الأرض مع الأرض المكيلة؛ فلا يصح بيع هذه الصبرة من القمح مع عشرة أمداد من قمح آخر أو شعير، ولا يجوز بيع هذه الصبرة مع عشرة أذرع من الأرض، ولا يجوز بيع هذه الأرض جزافاً مع مئة متر من أرض أخرى، وسبب منع هذه الصور الثلاث: هو تأثر الشيء المعلوم بجهالة المجهول.
أما إذا اجتمع في صفقة واحدة شيئان، كل منهما يباع بحسب الأصل الذ ي يباع به، فيجوز، كشراء صبرة حب معلومة القدر، مع أرض مجهولة القدر؛ بألف دينار، لموافقة كل منهما للأصل الذي يباع به، أي لا يمنع اجتماع جزاف أصله أن يباع جزافاً كالأرض، مع ما أصله أن يباع كيلاً، كالحب المكيل، لمجيء كل منهما على أصله (1) .
__________
(1) راجع الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3 ص 23.(5/351)
...........................................5.........................................
...........................................الربا.........................................
خطة الموضوع:
الكلام مقصور على الربا الذي هو أحد أنواع البيوع المنهي عنها قطعاً على ما يأتي:
المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه.
المطلب الثاني ـ أنواع الربا.
المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا.
المطلب الرابع ـ أثر الاختلاف في علة الربا.
المطلب الأول ـ تعريف الربا وأدلة تحريمه:
الربا في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج:5/22] أي زادت ونمت، وقال سبحانه: {أن تكون أمة هي أربى من أمة} [النحل:16/92] أي أكثر عدداً، يقال: (أربى فلان على فلان) أي زاد عليه (1) .
وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة، وهذا تعريف الحنابلة. وعرفه في الكنز عند الحنفية بأنه: فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال. ويقصد به فضل مال ولو حكماً، فيشمل التعريف حينئذ ربا النسيئة والبيوع الفاسدة، باعتبار أن الأجل في أحد العوضين فضل حكمي بلا عوض مادي محسوس، والأجل يبذل بسببه عادة عوض زائد (2) .
والربا محرم بالقرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وأحلّ الله البيع وحرم الربا} (3) [البقرة:275/2] ، {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة:275/2] . {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون} [البقرة:278/2-279] .
وكان تحريم الربا سنة ثمان أوتسع من الهجرة.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها أكل الربا» (4)
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 21، نهاية المحتاج: 3 ص 39.
(2) رد المحتار: 4 ص 184.
(3) رد الله تعالى بهذا على العرب في الجاهلية الذين كانوا يقولون: إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه ربا أي أن الزيادة عند حلول أجل الدين آخراً كمثل أصل الثمن في أول العقد، فبين الله الفرق بين النوعين بأن الزيادة في أحدهما لتأخير الدين وفي الآخر لأجل البيع، وأيضاً فإن البيع بدل البدل لأن الثمن فيه بدل المثمن، والربا زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل، أو زيادة في الجنس، (راجع تفسير القرطبي ومجمع البيان للطبرسي) .
(4) أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قلنا، وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (راجع الإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد: ص 518) .(5/352)
وروى ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» (1) وروى الحاكم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» (2) وستأتي أحاديث أخرى في بحث علة الربا.
وأجمعت الأمة على أن الربا محرّم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحلَّ في شريعة قط» ، لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/4] يعني في الكتب السابقة (3) .
والربا المحرم في الإسلام نوعان: أولهما: ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً.
وثانيهما: ربا البيوع في أصناف ستة هي الذهب والفضة والحنطة والشعير والملح والتمر وهو المعروف بربا الفضل. وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل ثم يؤدي فضة بقدر زائد مشتمل على الربا.
__________
(1) رواه أبو داود وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده» ورواه مسلم عن جابر قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وكاتبه وشاهده، وقال: هم سواء» وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة، وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخمر عشرة..الحديث» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 118، سبل السلام: 3 ص 36، نيل الأوطار: 5 ص 154) .
(2) رواه ابن ماجه مختصراً والحاكم بتمامه وصححه. وفي معناه أحاديث كثيرة في بعضها: «الربا سبعون باباً» وفي بعضها: «الربا اثنان وسبعون باباً» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 117، سبل السلام: 3 ص 37) .
(3) مغني المحتاج: 2 ص 21، المهذب: 1 ص 270، المغني: 4 ص 1، المبسوط: 12 ص 109، فتح القدير: 5 ص 274، حاشية قليوبي وعميرة: 2 ص 166.(5/353)
والنوع الأول هو المحرم بنص القرآن وهو ربا الجاهلية، وأما الثاني فقد ثبت تحريمه في السنة بالقياس عليه لاشتماله على زيادة بغير عوض، وأضافت السنة تحريم نوع ثالث وهو بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، فاعتبرته ربا؛ لأن النَّساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة. ويساويه في المعنى القرض الذي يجر نفعاً؛ لأنه مبادلة الشيء نفسه (1) .
وحكم عقد الربا سواء ربا الفضل وربا النسيئة: حرام باطل عند الجمهور، فلا يترتب عليه أي أثر، فاسد عند الحنفية.
المطلب الثاني ـ أنواع الربا:
ربا البيع عند جمهور الفقهاء نوعان: ربا الفضل وربا النسيئة (2) . وقد عرف فقهاء الحنفية ربا الفضل (3) الذي هو بيع: بأنه زيادة عين مال في عقد بيع على المعيار الشرعي (وهو الكيل أو الوزن) (4) عند اتحاد الجنس. ولم نقل: (شرطت في عقد بيع) كما ذكر الكاساني؛ لأن ترك ذلك أولى فإن الربا يتحقق بالزيادة المشروطة وغير المشروطة في البيع أو في القرض، والقصد من قوله (عين مال) هو
__________
(1) راجع الموافقات للشاطبي: 4 ص 40 ط مصطفى محمد.
(2) البدائع: 5 ص 183، بداية المجتهد: 2 ص 129، حاشية الدسوقي: 3 ص 47، المغني:4 ص 1، أعلام الموقعين: 2 ص 135.
(3) سماه ابن القيم الربا الخفي الذي كان تحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرِّماء» أي الربا.
(4) المعيار الشرعي أي بحسب العادة في بيع الأشياء عند أبي يوسف: وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن أي أن الربا محصور في دائرة المكيلات والموزونات، والمقصود بقوله «زيادة عين مال» الزيادة المادية الملموسة في أحد العوضين عن الآخر بغض النظر عن الزيادة في القيمة، فإذا حصلت زيادة عينية في مال وجد الربا، وإن كان المالان مختلفين أو متساويين في القيمة الشرائية.(5/354)
أنه ينظر في تحقيق الفضل أو الزيادة إلى المقدار والكمية لا إلى القيمة، واحترز بقيد (المعيار الشرعي) عن المذروع والمعدود، فإنه لا يتحقق فيهما ربا. كما لا ربا في الأموال القيمية مثل أنواع الحيوان والبسط والطنافس والأثاث والأراضي والشجر والدور، فلا تحرم فيها الزيادة، فيجوز فيها أخذ كثير مقابل قليل من جنسه؛ لأن القيميات ليست من المقدرات أي مما لا تخضع في مبادلتها لمقدار كيلي أو وزني موحد. وإنما يختص الربا في كل مكيل أو موزون، فلو باع خمسة أذرع من قماش معين بستة أذرع منه، أو بيضة ببيضتين أو شاة بشاتين، جاز بشرط التقابض في المجلس، فإذا كان أحدهما نسيئة لم يجز البيع؛ لأن وجود الجنس فقط كاف لتحريم ربا النَّساء، أي تأجيل أحد البدلين.
ويمكن تعريف ربا الفضل بعبارة أخرى: هو بيع ربوي بمثله مع زيادة في أحد المثلين.(5/355)
والخلاصة: أن تبادل الأموال الربوية يجب فيه التساوي في الكميات المبادلة في الجنس الواحد. والتساوي عند أبي يوسف يعتبر شرعاً بالمقياس العرفي في كل صنف على حدة، فما كان وزنياً عرفاً كالزيت والسمن يجب تساوي الكميتين فيه بالوزن، وما كان كيلياً عرفاً يجب التساوي فيه بالكيل.
وتحريم الربا في النقدين (الذهب والفضة أو ما يحلّ محلهما من النقود الورقية الرائجة) لا فرق فيه بين المسكوك المصنوع أو التبر غير المصنوع. لذا قال الفقهاء عن الدراهم: تبرها وعينها سواء. إلا أن ابن القيم أجاز بيع المصوغات الذهبية والفضية المباحة الاستعمال كالخاتم والحلية للنِّساء بأكثر من وزنها ذهباً أو فضة، رعاية للصنعة ولحاجة الناس إلى ذلك (1) .
وأما ربا النسيئة (2) الذي هو بيع، فقد عرفه الحنفية بأنه: فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس (3) ، أو في غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس (4) ، أي أن يباع الجنس الواحد ببعضه، أو بجنس آخر مع زيادة في الكيل أو الوزن في نظير تأخير القبض، كبيع صاع من الحنطة بصاع ونصف يدفع له بعد شهرين، وكبيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر، أو بدون زيادة كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم، وهذه أمثلة المكيل أو الموزون عند اختلاف الجنس أو اتحاده. وأما مثال غير المكيل أو الموزون عند اتحاد الجنس فهو بيع تفاحة بتفاحتين أو سفرجلة بسفرجلتين لشهر مثلاً (5) . ففي كل هذه الأمثلة يوجد ربا النسيئة لاشتماله على زيادة في أحد العوضين بدون مقابل، وأما سبب التحريم عند التساوي قدراً فهو بسبب الزيادة في القيمة، إذ لا يقبل أحد العاقدين عادة
__________
(1) أعلام الموقعين: 2 ص 140.
(2) سماه ابن القيم الربا الجلي: وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيقول الدائن للمدين عند حلول الأجل: أتقضي أم تربي؟ وهذا هو الربح المركب.
(3) أي وكذا عند اتحاد الجنس من باب أولى.
(4) البدائع: 5 ص 183، رد المحتار: 4 ص 184 ومابعدها.
(5) إن الزيادة المادية التي سيحصل عليها البائع بعد مدة كانت في مقابل تسليم المشتري في الحال مداً من الحنطة. وهذا هو المقصود بفضل الحلول على الأجل أي أن المال المدفوع في الوقت الحاضر أكثر أهمية من المدفوع في المستقبل، وأما المقصود بفضل العين على الدين فهو أن الشيء المعين بذاته يكون أكثر أهمية من الشيء المعين بنوعه إذ قد يختلف هذا عن الوصف، وقد لا يقوم البائع بتسليم ما يجب عليه، كما في شراء كمية محددة المقدار غير معينة الذات من القمح أو السكر أو نحوهما في مقابل مقدار معين من الشعير مثلاً، فالمبيع في هذه الحالة يكون من قبيل الدين لا العين، والثمن هوالعين. وبه يتبين أن المساواة بين البدلين في العينية مطلوبة احترازاً عن شبهة الفضل الذي هو ربا، لأن العين خير من الدين، وإن كان حالاً، ولهذا لم يجز أداء زكاة العين من الدين، واشتراط التعيين مأخوذ من نص الحديث «يداً بيد» لأن اليد آلة التعيين، كالإحضار والإشارة، كما أن شرط المماثلة مأخوذ من قوله «مثلاً بمثل» فأصبح التعيين في البدلين الربويين أمراً مطلوباً، لتحقيق المساواة بينهما، كما أن تعيين أحد البدلين شرط لجواز كل بيع، احترازاً عن الدين بالدين الذي هو نسيئة بنسيئة، وهو ربا.(5/356)
تأجيل تسليم أحد العوضين إلا عند وجود الزيادة به في القيمة (1) . والمعجل عادة أكثر من المؤجل، كما أن العين أفضل من الدين، إذ قد لا يقوم المدين بالتسليم، وقد يكون مخالفاً للمتفق عليه.
وذهب ابن عباس وأسامة بن زيد بن أرقم والزبير وابن جبير وغيرهم إلى أن الربا المحرم فقط: هو ربا النسيئة لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة» وهؤلاء يرد عليهم بالأحاديث التي ثبت بها تحريم ربا الفضل، لذا نقل جابر بن زيد أن ابن عباس رجع عن قوله، ثم جاء إجماع التابعين على تحريم الربا بنوعيه، فرفع الخلاف. وأما تأويل الحديث السابق فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن مبادلة الحنطة بالشعير والذهب بالفضة إلى أجل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «لا ربا إلا في النسيئة» فهذا بناء على ما تقدم من السؤال، فكأن الراوي سمع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يسمع ما تقدم من السؤال أو لم يشتغل بنقله (2) أو أن القصد من قوله «لا ربا» الربا الأكمل الأعظم
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 4 ص 42.
(2) راجع المبسوط للسرخسي: 12 ص 112، تكملة المجموع للسبكي: 10 ص 48.(5/357)
خطورة، الأكثر وقوعاً، الأشد عقوبة، كما تقول العرب: «لا عالم في البلد إلا فلان» مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل علماً، لا نفي أصل العلم.
وربا البيع عند الشافعية ثلاثة أنواع:
1 - ربا الفضل: وهو البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر أي أن الزيادة مجردة عن التأخير. وهو لا يكون إلا في بدلين متحدي الجنس مثل كيلة قمح بكيلة ونصف مثلاً من القمح، وغرام ذهب بغرام ونصف، وهذا باتفاق العلماء، بدليل
حديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولاتُشِفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفُّوا بعضها على بعض» . والورق: الفضة، ولا تشفوا: لا تفضلوا.(5/358)
2 - وربا اليد: وهو البيع مع تأخير قبض العوضين أو قبض أحدهما من غير ذكر أجل، أي أن يتم بيع مختلفي الجنس كالقمح بالشعير من غير تقابض في مجلس العقد. وهذا النوع داخل في تعريف ربا النسيئة عند الحنفية في قولهم: «فضل العين على الدين» وهو مفرع على شرط التقابض في المالين الربويين، ففيه يحدث التأخير في قبض البدلين أو أحدهما عن مجلس العقد بالفعل لا بالشرط. ودليله حديث عمر عند البخاري ومسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء» أي خذ وأعط.
3 - وربا النسيئة: وهو البيع لأجل أي البيع نسيئة إلى أجل ثم الزيادة عند حلول الأجل، وعدم قضاء الثمن في مقابلة الأجل، أي أن الزيادة في أحد البدلين من غير عوض في مقابلة تأخير الدفع، سواء من جنس واحد أم جنسين مختلفين، وسواء أكانا متساويين أم متفاضلين، ودليل تحريمه حديث عبادة عند مسلم: «فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، وحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين: «ولا تبيعوا منها غائباً بناجز» أي مؤجلاً بحاضر، ورواية مسلم: «مثلاً بمثل يداً بيد» .
وكل من ربا اليد وربا النسيئة لا يكون عند الشافعية إلا في بدلين مختلفي الجنس. والفرق بينهما أن ربا اليد في حالة تأخير القبض. وربا النسيئة في حالة تأخير الاستحقاق بذكر الأجل في العقد ولو قصيراً، يعني أن الشافعية قصروا ربا النسيئة على حالة البيع الذي يصاحبه أجل. وأما ربا اليد فهو في حالة البيع الحال المنجز مع تأخير القبض. وزاد المتولي من الشافعية: ربا القرض(5/359)
المشروط فيه جر نفع، قال الزركشي: ويمكن رده لربا الفضل (1) .
والخلاصة: أن ربا النسيئة هو تأخير الدين في مقابل الزيادة على مقداره الأصلي (وهذا هو ربا الجاهلية) ، أو تأخير قبض أحد البدلين في بيع المال الربوي بجنسه. وأما ربا الفضل: فهو زيادة أحد البدلين على الآخر في مبادلة المال الربوي بجنسه مناجزة (2) . فإن قال تاجر عن سلعة: ثمنها حالاً خمس ليرات مثلاً، ومؤجلاً إلى شهر (كذا) بستة، فهذا البيع المؤجل جائز، إذ ليس فيه شيء من الربا، لاختلاف الجنس في البدلين، وبعض العلماء من الزيدية يحرمه لوجود الربا فيه.
ذرائع الربا وشبهاته: قال ابن كثير: وإنما حرمت المخابرة: وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة: وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، والوسائل الموصلة إليه.. إلخ (3) .
المطلب الثالث ـ مذاهب الفقهاء في علة الربا:
اتفق الفقهاء على تحريم ربا الفضل في سبعة أصناف منصوص عليها:
الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والزبيب، والملح. فيحرم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، واختلفوا فيما عداها:
طائفة: قصرت التحريم عليها، وهم الظاهرية.
وطائفة: حرمته في كل مكيل أو موزون بجنسه، وهذا مذهب أحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة.
__________
(1) نهاية المحتاج:39/3، مغني المحتاج: 21/2، حاشية قليوبي وعميرة: 167/2، حاشية الشرقاوي: 30/2 وما بعدها.
(2) أصول البيوع الممنوعة: ص 95.
(3) راجع تفسير ابن كثير: 327/1.(5/360)
وطائفة: خصته بالنقدين أو بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. والطعام عندهم: كل ما يؤخذ اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً.
وطائفة: خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول للشافعي.
وطائفة: خصته بالقوت، وما يصلحه: وهو قول مالك، واعتبره ابن القيم أرجح الأقوال (1) .
وأبين أهم هذه الآراء:
1 - مذهب الحنفية: قال الحنفية: علة ربا الفضل أو الضابط الذي تعرف به الأموال الربوية: هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، فعند اجتماعهما: يحرم الفضل والنَّساء (2) أي أن العلة في الأشياء الأربعة المنصوص عليها (البر والشعير والتمر والملح) : هي الكيل مع الجنس. وفي الذهب والفضة: العلة هي الوزن مع
__________
(1) أعلام الموقعين: 136/2.
(2) البدائع: 183/5، فتح القدير: 274/5، مختصر الطحاوي: ص 75، المبسوط: 110/12،الدر المختار: 186/4.(5/361)
الجنس، فلا تتحقق علة ربا الفضل إلا باجتماع الوصفين معاً: وهما القدر والجنس أي القدر المعهود في الشرع بكيل أو وزن (1) مع الجنس، أي أن الربا يكون في الأموال التي يجمعها جنس وقدر واحد، كبيع الذهب بالذهب إذا زاد أحد البدلين على الآخر، فإن الزيادة تكون حينئذ ربا؛ لأن كلاً من البدلين موزون، وهو المراد بالقدر. وعلى هذا فإن الأموال المثلية (المكيلات والموزونات) هي التي يجري فيها الربا. وأما الأموال القيمية كالحيوان والدور وأنواع الطنافس والجواهر والآلئ، فلا يجري فيها الربا، فيجوز مبادلة الكثير بالقليل كغنمة بغنمتين؛ لأن القيميات ليست من المقدرات، أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار.
والأصل في هذا حديث صحيح رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب (2) مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، والفضل ربا» .
وعلى هذا فإن ربا الفضل يختص بالمقدرات المثلية من مكيل أو موزون فقط، لا مذروع أو معدود، فليس فيه ربا. وأما الأموال القيمية كأفراد الحيوان والطنافس والأراضي والدور والأشجار، فلا يجري فيها ربا الفضل، لأنها ليست من المقدَّرات (أي التي تجمع بين أفرادها وحدة مقياس ومقدار معين) ، فيجوز إعطاء الكثير منها في مقابل القليل من جنسه كبيع غنمة
__________
(1) والمعتبر في الموزون والمكيل: ما كان عليه عرف المسلمين في صدر الإسلام لما روى أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» (راجع جامع الأصول: 371/1، التلخيص الحبير: ص 183) ، ويرى أبو يوسف أن المقياس المعتبر في الأصناف الربوية هو المقياس العرفي الحاضر وأنه يتبدل بتبدل العرف في كل زمان ومكان (المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 514) .
(2) أي بيع الذهب بالذهب.(5/362)
بغنمتين؛ لأن ربا الفضل زيادة أحد المتجانسين على الآخر في المقدار والكمية، والقيميات ليست من المقدرات (1) .
وحكمة التحريم: هي دفع الغبن عن الناس، وعدم الإضرار بهم، مما قد يظن بأن في أحد الجنسين معنى زائداً عن الآخر. والأصل في تحريمه هو من باب سد الذر ائع، لأنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين، ولا يفعل هذا عند اتحاد الجنس إلا للتفاوت الذي بين النوعين: إما في الجودة، وإما في نوع السكة، وإما في الثقل والخفة وغيرها، تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر: وهو عين ربا النسيئة، أما تحريم ربا الفضل عند اختلاف الجنسين كبيع القمح بالشعير أحدهما معجل والآخر مؤجل، فهو أيضاً من قبيل سد الذرائع، كيلا يتخذ جواز التفاضل عند اختلاف الجنسين ذريعة ووسيلة إلى ربا النسيئة، فيستقرض الشخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يوفي فضة أكثر منه بقدر الربا المراد. وبذلك وضع الشرع الحكيم مقياساً مبسطاً في يد أكثر الناس لتقويم الأصناف المختلفة، دون حاجة إلى البحث عن الفروق النوعية في الصنف الواحد.
وقد لا يكون سبب التحريم هو سد الذرائع، كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد، فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، لكنه مع ذلك حرام؛ لأن هناك غرراً كبيراً لا يعلم معه أيهما غبن (2) .
__________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام للأستاذ الزرقاء: ص 139، الدر المختار: 185/4.
(2) الموافقات للشاطبي وتعليقاته: 42/4، القياس لابن القيم: ص 114، أعلام الموقعين، المرجع السابق، الفقه على المذاهب الأربعة: 247/2 وما بعدها، المدخل الفقهي، المرجع السابق. وربا الفضل قليل الوقوع في المعاملة، مثاله: أن يشتري رجل مداً من القمح بمدين من القمح مقايضة: بأن تسلّم كل من البائع والمشتري ماله.(5/363)
ولا يقتصر الربا على ما فيه استغلال، فقد يكون ربا الجاهلية من أجل الاستثمار، ويرد المقترض للمقرض رأس المال والفوائد الربوية المتفق عليها، وقد سوى الرسول صلّى الله عليه وسلم في تحريم الربا بين المحتاج والمستغل حيث قال: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» ولعن الرسول صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله على السواء (1) .
قدر ربا الفضل: القدر الذي يتحقق فيه الربا من الطعام: هو ما كان نصف صاع (2) فأكثر، لأنه لا تقدير في الشرع بما دون ذلك (3) . فإذا كان أقل من نصف صاع، فإنه يصح فيه الزيادة، فيجوز أن يشتري حفنة من القمح بحفنتين (4) يداً بيد، أو تفاحة بتفاحتين مع التقابض، وهكذا إلى أن يبلغ نصف صاع، لعدم وجود المعيار المبيِّن للمساواة، فلم يتحقق الفضل أي الزيادة.
وأما القدر الذي يتحقق فيه الربا من الموزون: فهو ما دون الحبة (5) من الذهب والفضة.
ولكن يشترط في صحة البيع في مثل ذلك تعيين البدلين، فلو كان غير معينين أو أحدهما لم يجز اتفاقاً (6) .
نوع العلة: وهكذا كل ما تحققت فيه هذه العلة (القدر المتفق مع الجنس المتحد) فإنه يشتمل على الربا، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم، فيقاس على القمح والشعير المذكورين في حديث ربا الفضل: كل ما يباع بالكيل كالذرة والأرز والسِّمسِم والحِلْبة والجص، إذا كان يباع بالكيل. ويقاس على الذهب والفضة: كل ما يباع بالوزن كالرصاص والنحاس والحديد.
__________
(1) حكم ودائع البنوك للدكتور علي السالوس: ص 64.
(2) نصف الصاع حوالي 1350 غم أي كيلو وأوقيتان إلا ربعا، أو سبع أواق إلا ربعاً، أو 540 درهماً.
(3) فتح القدير: 278/5، الدر المختار: 188/4.
(4) الحفنة: ملء الكفين.
(5) المراد منها حبة شعير معتدل قطع من طرفيها ما دق وطال، مع العلم بأن الدرهم يساوي خمسين حبة وخمسي حبة (50 و 2/5) أي (975،2 غم) .
(6) الدر المختار: 189/4، 191.(5/364)
وأما الذي لا يباع بالكيل ولا بالوزن كالمعدود والمذروع: فإنه لا يشتمل على ربا الفضل، فيصح بيع البيضة بالبيضتين، والذراع من قماش بذراعين من قماش من جنسه، بشرط القبض.
مقياس الأموال الربوية: يلاحظ أن ما نص الشارع على كونه كيلياً كبُر وشعير وتمر وملح، أو وزنياً كذهب وفضة، فإنه يظل كذلك لا يتغير أبداً، وإن ترك الناس التعامل فيه كما كان في الماضي. وهذا رأي جمهور الحنفية، والشافعية والحنابلة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة» (1) ، فلا يصح بيع الحنطة بالحنطة بوزن متساو، ولا بيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة بكيل متساو؛ لأن النص أقوى من العرف، والأقوى لا يترك بالأدنى. وقد أشرت إلى أن أبا يوسف ذهب إلى أن المقياس المعتبر في الأموال الربوية في المنصوص عليه وغيره هو المقياس العرفي وأنه يتبدل بتبدل العرف، ورأيه أقوى حجة؛ لأن النص الذي ورد بلزوم التساوي في الربويات كيلاً أو وزناً، مراعى فيه المقياس المتعارف في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإثبات العلة في المقيس على النص مما يدرك هنا بالعرف، ويؤيده أن المالكية قالوا: إذا اختلفت عوائد الناس في الكيل أو الوزن اعتبرت عادة البلد الذي تم فيه التعاقد.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أيضاً البزار، وصححه ابن حبان والدارقطني (نيل الأوطار: 198/5) .(5/365)
وأما ما لم ينص عليه الشارع فهو محمول على عادات الناس وأعرافهم في التعامل في الأسواق (1) .
جيد المال ورديئه:
يلاحظ أيضاً أن جيد مال الربا ورديئه سواء، فلا يجوز بيع الجيد بالرديء مما فيه الربا إلا مثلاً بمثل؛ لأن الجودة ساقطة في الأموال الربوية، للقاعدة الشرعية: «جيدها ورديئها سواء» (2) . ولحديث أبي سعيد الخدري عند الشيخين المتقدم: «ولاتُشفّوا بعضها على بعض» أي لاتزيدوا. والحكمة من ذلك هي ألا يؤدي مبادلة الجيد بالرديء إلى نقض ما شرعه الشارع من منع التفاضل؛ لأن الناس عادة لا يبادلون شيئاً آخر، إذا كانا متساويين من كل الوجوه، وإنما يبادلون الجنس بجنسه لما بينهما من التفاوت، فلو أجيز لهم مبادلة شيء بآخر من جنسه لما فيه من صفة هي أجود، لم يحرم عليهم ربا الفضل، وكان تحريم مبادلة الجيد بالرديء دفعاً لشبهة الربا، وسداً للذرائع (3) . وبناء عليه حرم المالكية بيع المراطلة: وهي بيع النقد بصنفه وزناً، وكان هناك اختلاف بين الذهبين في الجودة والرداءة.
ولا عبرة بالصنعة في النقدين: الذهب والفضة، فيجب التماثل في الوزن في التبادل بين البدلين، دون زيادة، فلو باع شخص غيره ذهباً مصوغاً حلياً بسبيكة، وجب التماثل في الوزن، ويحرم وجود الزيادة في أحد العوضين، لحديث الخدري عند الشيخين: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل.. ولا تبيعوا الورِق بالورِق إلا مثلاً بمثل» والذهب والفضة يشمل المسكوك وغير المسكوك.
علة ربا النسيئة:
__________
(1) فتح القدير: 282/5، الدر المختار: 189/4، الفروق للقرافي: 264/3 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 254، مغني المحتاج: 24/2، المغني: 17/4، الأم: 70/3.
(2) ذكرها الحنفية حديثاً، وهو غريب كما قال الزيلعي، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث ابن المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة في مبادلة التمر الجنيب (الطيب) بتمر رديء من خيبر، وقوله عليه السلام: «لا تفعل ولكن بع هذا، واشتر بثمنه من هذا» (نصب الراية: 36/4-37) .
(3) أعلام الموقعين: 143/2، مصادر الحق للسنهوري: 206/3.(5/366)
إن علة ربا النسيئة وهو ربا الجاهلية: هي أحد وصفي علة ربا الفضل: إما الكيل أو الوزن المتفق، أو الجنس المتحد (1) ، ومثاله: أن يشتري إنسان صاعاً من القمح في زمن الشتاء بصاع ونصف يدفعهما في زمن الصيف، فإن (نصف الصاع) الذي زاد في الثمن، لم يقابله شيء من المبيع، وإنما هو في مقابل الأجل فقط، ولذا سمي ربا النسيئة أي التأخير في أحد البدلين، فالزيادة في أحد العوضين في مقابلة (تأخير الدفع) سواء اتحد المقدار أو اختلف. وقد كان أهل الجاهلية إذا داين الرجل منهم أخاه، ثم حل أجل الدين، قال له: (إما أن تقضي أو تُربي) ، فإما قضاه، وإما أجله وزاده شيئاً على رأس ماله، وفي هذا إرهاق للمدين، وإضرار به؛ لأن الدين قد يستغرق ماله.
وعلى هذا: إذا وجد القدر المتفق وحده كالحنطة بالشعير، أو الجنس المتحد وحده كتفاحة بتفاحتين، أو شعير بشعير، حرم النَّساء (2) ، ولو كان البدلان متساويين، حتى لو باع ملحاً بملح مثله إلى أجل، لم يجز، لوجود اتحاد الجنس. وهكذا فإن حرمة ربا الفضل تتحقق بوصفين، وحرمة النَّساء بأحد الوصفين.
__________
(1) البدائع: 183/5، فتح القدير: 279/5، مختصر الطحاوي: ص 75. والمقصود بالقدر المتفق: أن يكون البدلان من فئة واحدة: إما فئة المكيلات أو فئة الموزونات. وأما الجنس المتحد فمعناه أن يكون جنس البدلين من جنس الآخر كحنطة مقابل حنطة أو ذهب مقابل ذهب مثلاً.
(2) الحكمة في أنه يجوز بيع مد حنطة بمدي شعير حالاً ولا يجوز نسيئه: هو أن البيع في الحالة الأولى لم يكن القصد منه: هو الاستغلال، وإنما تأمين الحاجة، وفي إلزامهم المساواة بالبيع إضرار بالناس، وأما في الحالة الثانية فالبيع أقرب إلى القرض، فهو مظنة لاستغلال الحاجة عند المحتاج، وتكون الزيادة مقابل الأجل، فيحرم النساء سداً لذريعة «إما أن تقضي وإما أن تربي» . أما إذا بيعت الحنطة مثلاً بالدراهم نَساء فذلك جائز لحاجة الناس إليه.(5/367)
وبما أن اتحاد الجنس كاف وحده لتحريم النسيئة، فلا يعتبر القدر هنا (وهو نصف صاع فأكثر) فلا يجوز بيع حفنة قمح بحفنتين إلى أجل، ولا تفاحة بتفاحتين، ولا بِطِّيخة ببطيختين إلى أجل ونحوها، لاتحاد الجنس، بخلاف ربا الفضل كما تقدم.
فإذا انتفى الجنس كحفنة بر بحفنتي شعير، يحل في الأرجح البيع مطلقاً: حالاً ونسيئة، لعدم وجود علة كل منهما. وذكر عن الإمام محمد أنه حرم ذلك كله، وقال: كل شيء حرم في الكثير فالقليل منه حرام.
حكمة التحريم:
إن حكمة تحريم ربا النسيئة إجمالاً: هي ما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بالإنسان، ونزع فضيلة التعاون والتناصر في هذه الحياة، واستغلال القوي لحاجة الضعيف، وإلحاق الضرر العظيم بالناس، فإذا صارت النقود محلاً للتعامل بزيادة ربوية، كالسلع العادية حالاً أو نسيئة، اختل معيار تقويم الأموال الذي ينبغي أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولاينخفض. وإذا جاز ربا النسيئة في المطعومات ببيع بعضها ببعض لأجل، اندفع الناس إلى هذا البيع، طمعاً في الربح، فيصبح وجود الطعام حالاً عزيز المنال، فيقع الضرر في أقوات العالم (1) :
__________
(1) القياس لابن القيم: ص 114، الفقه على المذاهب الأربعة: 246/2، أعلام الموقعين: 137/2 وما بعدها، الدر المختار: 189/4، فتح القدير: 278/5، 286.(5/368)
ربا المصارف: إن من ربا النسيئة كما سأوضح في آخر الموضوع: ما هو معروف اليوم في المصارف أو البنوك من إعطاء مال أو قرض مال لأجل بفائدة سنوية أو شهرية كسبعة في المئة أو خمسة أو اثنين ونصف، فهو أكل لأموال الناس بالباطل. وإن مضار الربا متحققة فيه، فحرمته كحرمة الربا، وإثمه كإثمه (1) ، أي إنه ربا نسيئة، بدليل قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/2] . وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم، لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو ربا النسيئة الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، وبه يظهر المقصود من الحديث السابق: «إنما الربا في النسيئة» وهو التنبيه على خطره وكثرة وقوعه، كما تقدم سابقاً.
ومن المعلوم أنه يمنع البنك من التجارة والاستثمار، ومهمته الأساسية الاقتراض من المودعين والإقراض لآخرين مقترضين، ويدفع للمودعين فائدة الودائع، ويأخذ من المقترضين فائدة الإقراض، والفرق بين الفائدتين هو المصدر الأساسي لإيرادات البنك. فتكون مهمة البنوك هي الاتجار في الديون. والوظيفة الثانية للبنوك هي (خلق الديون أو الائتمان) أي إقراض ما لم تقترضه فعلاً من أحد أو تحوزه، أو إقراض مالا تملكه (2) .
الجنس المتحد والمختلف: يحرم كما أبنت بيع الجنس بجنسه متفاضلين، ويجوز التفاضل بين مختلفي الجنس عند الحنفية، إلا في لحم الطير، فيجوز بيع لحم الجنس الواحد منه، كالسُّماني والعصافير متفاضلاً، لأنه ليس مالاً ربوياً، إذ لا يباع وزناً ولا كيلاً، لكن يستثنى لحم الدجاج والإوز، لأنه يوزن عادة، فيحرم بيعه متفاضلاً.
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 247/2، أصول البيوع الممنوعة للأستاذ عبد السميع: 118.
(2) حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي للدكتور علي السالوس: ص40.(5/369)
والضابط لاختلاف الجنس عند الحنفية: هو بحسب اختلاف الأصل كخل التمر مع خل العنب، ولحم البقر مع لحم الضأن، أو باختلاف المقصود كشعر المعز وصوف الغنم، فإنه يختلف القصد من استعمال كل منهما في الصناعات، أو بتبدل الصفة كالخبز مع الحنطة، فإن الخبز صار عددياً أو موزوناً، والحنطة مكيلة. وعلى هذا فتعتبر لحوم الإبل والبقر والغنم وألبانها أجناساً مختلفة، فيجوز التفاضل فيما بينها، والحنطة والشعير والذرة ونحوها أجناس مختلفة، والخبز مع الدقيق أو الحنطة جنسان، والشحم مع اللحم جنسان، والزيت مع الزيتون، والزيت المطبوخ بغير المطبوخ، جنسان لاختلاف المقصود والغرض منهما، وهكذا بحسب الضابط المذكور (1) .
أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن علة الربا هي الكيل أو الوزن: بأن التساوي أو المماثلة في العوضين شرط في صحة البيع، وحرمة الربا لوجود فضل مال خال عن العوض، وهذا يوجد في غير المنصوص عليه في الحديث السابق، مثل الجص والحديد ونحوهما. والتساوي أو المماثلة بين الشيئين يكون باعتبار الصورة والمعنى. والقدر المتفق (وهو الكيل أو الوزن) يحقق المماثلة صورة، والجنس يحقق المماثلة معنى؛ لأن المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية، فالقفيز يماثل القفيز (2) ، والدينار يماثل الدينار، فيكون القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة، فكان ربا، وهذا المعنى لا يخص المطعومات والأثمان، بل يوجد في كل مكيل يباع بجنسه، وموزون يبادل بمثله (3) .
وبعبارة أخرى: إن المراد من الحنطة مثلاً في الحديث السابق هو أنها مال
__________
(1) فتح القدير: 297/5 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 193/4 وما بعدها.
(2) القفيز: مكيال، وهو ثمانية مكاكيك والمكوك: صاع ونصف.
(3) المبسوط: 116/12، البدائع: 184/5، فتح القدير: 277/5.(5/370)
متقوم، لأن البيع لا يصح إلا على مال متقوم؛ ولا يعلم ماليتها، إلا بالكيل، فصارت صفة الكيل ثابتة بمقتضى النص، فكأنه عليه السلام قال: الذهب الموزون بالذهب، والحنطة المكيلة بالحنطة. وإذا كان المطلوب للتخلص من الربا هو المماثلة بين العوضين، فإن المماثلة في الكيل أو الوزن هي طريق الخلاص من الحرام، والحفنة والتفاحة لاتقبل المماثلة، فلم تكن من أموال الربا (1) أي ربا الفضل، لا ربا النسيئة فإنها من أموال الربا فيها.
ويلاحظ أن الحنطة كلها على اختلاف أنواعها وأوصافها وبلدانها جنس واحد، ومثلها الشعير، ودقيقهما، وكذلك التمر، والملح، والعنب، والزبيب، والذهب، والفضة، فلا يجوز بيع كل مكيل أو موزون من ذلك بجنسه متفاضلاً في الكيل أو الوزن، وإن تساويا في النوع والصفة (2) .
2 - مذهب المالكية:
قال المالكية في ظاهر المذهب: علة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية) ، أما في الطعام: فإن العلة عندهم تختلف بين ربا النسيئة وربا الفضل.
العلة في تحريم ربا النسيئة: هي مجرد المطعومية على غير وجه التداوي، سواء وجد الاقتيات والادخار، أو وجد الاقتيات فقط، أو لم يوجد واحد منهما، مثل أنواع الخضر من قثاء وبطيخ وليمون وخس وجزر، وقلقاس، وأنواع الفاكهة الرطبة كالتفاح والموز.
وأما العلة في تحريم ربا الفضل فهي أمران: الاقتيات والادخار، أي أن يكون الطعام مقتاتاً، والمعنى أن الإنسان يقتات به غالباً بحيث تقوم عليه بنيته، بمعنى أنه لو اقتصر عليه يعيش بدون شيء آخر، دون أن تفسد البنية كالحبوب كلها والتمر والزبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها. وفي معنى الاقتيات: إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخل والبصل والثوم والزيت.
__________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 180/3.
(2) البدائع: 187/5، المبسوط: 122/12.(5/371)
ومعنى كونه صالحاً للادخار: أنه لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن، لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف دون تحديد بمدة ستة أشهر أو سنة، كما رأى بعضهم.
ودليلهم على أن هذه هي علة تحريم الربا: هو أنه لما كان حكم التحريم معقول المعنى في الربا وهو ألا يغبن بعض الناس بعضاً، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش: وهي الأقوات: كالحنطة والشعير والأرز والذرة والكِرسَنَّة والتمر والزبيب، والبيض، والزيت، والبقول السبعة: وهي (العدس، واللوبيا، والحِمّص، والتُرْمس، والفول، والجُلْبان، والبسلة) (1) .
وأما اتفاق الجنس واختلافه فيلاحظ أن الإمام مالك يعتبر القمح والشعير والسُلْت (وهو نوع من الشعير ليس له قشر) صنفاً واحداً، وأن الذرة والدُّخن والأرز صنف واحد، وأن القَطَاني أو البقول كالفول والعدس والحمص وشبه ذلك كلها صنف واحد، وعلى هذا لا يجوز التفاضل بين القمح والشعير، ويجوز بين القمح والذرة. وأما اللحوم عند مالك فهي ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع صنف، ولحم الطيور صنف، ولحم الحيتان صنف (2) .
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 158/4، بداية المجتهد: 131/2، حاشية الدسوقي: 47/3، الحطاب: 346/4، الفقه على المذاهب الأربعة: 251/2.
(2) القوانين الفقهية: ص 253.(5/372)
3 - مذهب الشافعية:
قال الشافعية: العلة في الذهب والفضة: هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما أثماناً للأشياء، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين (مسكوكين) ، ولا أثر لقيمة الصنعة في الذهب والفضة، فلو اشترى رجل بدنانير ذهباً مصوغاً قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة في الكمية، ولا نظر إلى القيمة. والمقصود بعلة الربا في الذهب والفضة على المعتمد هو جنسية الأثمان غالباً، وهي منتفية عن الفلوس (وهي القروش وغيرها المصنوعة من معادن غير الذهب والفضة كالنيكل والبرونز والنحاس) وغيرها من سائر عروض التجارة، لا أنها قيم الأشياء؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري فيها الربا وليس مما يقوم بها، واحترز بغالباً: عن الفلوس إذا راجت فإنه لا ربا فيها. ولا أثر لقيمة الصنعة في ذلك. حتى لو اشترى بدنانير ذهباً مصوغاً، قيمته أضعاف الدنانير، اعتبرت المماثلة، ولا نظر إلى القيمة.
وبما أن الفلوس ومنها النقود الورقية الحالية أصبحت هي أثمان الأشياء غالباً، فإني أرى جريان الربا فيها، وهو الموافق لمذهب الحنفية.
وأما العلة في الأصناف الأربعة الباقية، فهي الطعمية ـ بضم الطاء، أي كونها مطعومة. والمطعوم يشمل أموراً ثلاثة:
أحدها: ما قصد للطعم والقوت كالبُّر والشعير، فإن المقصود منهما التقوت أي الأكل غالباً، ويلحق بهما ما في معناهما كالفول والأَرُزّ والذرة والحمص والترمس ونحوها من الحبوب التي تجب فيها الزكاة.
ثانيها: أن يقصد به التفكه، وقد نص الحديث على التمر، فيلحق به ما في معناه، كالزبيب والتين. ثالثها: أن يقصد به إصلاح الطعام والبدن: أي للتداوي. وقد نص الحديث على الملح، فيلحق به ما في معناه من الأدوية القديمة كالسنامكي والسقمونيا والزنجبيل، ونحوها من العقاقير المتجانسة كالحبة اليابسة.(5/373)
وعلى هذا فلا فرق بين ما يصلح الغذاء أو يصلح البدن، فإن الأغذية لحفظ الصحة، والأدوية لرد الصحة. وبه يكون المطعوم: كل ما قصد للطُعم (أي الأكل غالباً) اقتياتاً أو تفكهاً أو تداوياً. وتكون علة الربا عند الشافعية هي: الطعم أو النقدية؛ أما ما ليس بطعم كالجبس أو الحديد والأقمشة وغيرها من كل ما يباع كيلاً أو وزناً، فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلاً، كعروض التجارة، لأنها أي المذكورة كلها ليست أثماناً. وما كان في الغالب قوتاً لغير الآدميين، لا يحرم الربا فيه.
ودليلهم: أن الحكم إذا علق باسم مشتق دلّ على أن المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38/5] ففهم أن السرقة هي علة قطع اليد، وإذا كان هذا هو المقرر، فقد جاء من حديث معمر بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» (1) فتبين أن الطُّعم هو علة الحكم، لأن الطعام مشتق من الطعم، فهو يعم المطعومات، وهذا وصف مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة الخطر (أي الأهمية) في الأشياء الأربعة التي نص عليها الحديث؛ لأن حياة النفوس بالطعام. وكذلك الثمنية معنى مناسب، لأنه ينبئ عن زيادة خطر، وهو شدة الحاجة إلى النقدين (الذهب والفضة) أو ما يقوم مقامهما من النقود الورقية، بحسب التخريج والتصحيح الذي رأيته، خلافاً للمعتمد في المذهب الشافعي في العرف الماضي.
أما القدر الذي قال به الحنفية، فلا ينبئ عن زيادة خطر في الأشياء.
__________
(1) رواه مسلم وأحمد عن معمر بن عبد الله (راجع نصب الراية: 37/4، التلخيص الحبير: ص 235، نيل الأوطار: 193/5) .(5/374)
وعلى هذا: إذا بيع الطعام بالطعام أو النقد بالنقد، حالة اتحاد الجنس كحنطة بحنطة، وفضة بفضة، مضروبين كانا أو غير مضروبين كالحلي والتبر، اشترط في صحة البيع ثلاثة أمور: الحلول (بأن لا يذكر في العقد أجل مطلقاً) والمماثلة يقيناً بحسب المعيار الشرعي (وهو الكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، بحسب عادة أهل الحجاز في عهد الرسول عليه السلام، وفي غير ذلك تعتبر عادة بلد البيع حالة البيع) والتقابض (أي القبض الحقيقي للعوضين مطلقا ً) قبل التفرق من المجلس. واشتراط التقابض زيادة عما اشترطه الحنفية من المساواة في العينية أي تعيين كل من البدلين، سواء في حالة اتفاق الجنس أو اختلاف الجنس، لقوله عليه الصلاة والسلام: «يداً بيد» في كل من الحالتين.
فإذا اختلف الجنس كحنطة وشعير جاز التفاضل، ويشترط الحلول والتقابض قبل التفرق. قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواءً بسواء، يداً بيد؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» أي مقابضة، ويؤخذ من ذلك اشتراط الحلول. فإذا بيع الطعام بغيره كنقد أو ثوب، أو غير الطعام بغير الطعام وليسا نقدين، كحيوان بحيوان، لم يشترط شيء من الشروط الثلاثة السابقة، أي فلا ربا فيه. والسبب في أنه لا ربا في الحيوان مطلقاً: هو أنه لا يعد للأكل على هيئته، وقد اشترى ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً ببعيرين بأمره صلّى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) مغني المحتاج: 22/2-25، حاشية قليوبي وعميرة: 167/2 ومابعدها، حاشية الشرقاوي: 23/2 ومابعدها. المهذب: 272/1.(5/375)
اتحاد الجنس واختلافه: كل شيئين متفقين في الاسم الخاص من أصل الخلقة كتمر وتين من نوعين (أي كل أنواع التمور جنس واحد، وكل أنواع التين جنس واحد، وكل أنواع الزبيب جنس واحد) ، أو متحدين في أصلهما كدقيق من حنطتين: هما جنس واحد عند الشافعية، وكل شيئين مختلفين في الاسم من أصل الخلقة كالحنطة والشعير والتمر والزبيب، أو متخذين من أصلين كأدقة الأصول المختلفة الجنس وخلولها وأدهانها واللحوم والألبان، هما جنسان مختلفان.
وعلى هذا فدقيق البر ودقيق الشعير والذهب والفضة بأنواع كل منها، والتمر والزبيب بأنواع كل منهما، وخل التمر وخل العنب، ولحم البقر ولحم الضأن، ودهن الجوز ودهن اللوز، ولبن البقر ولبن الضأن، والإنسي من البقر والوحشي، هما جنسان مختلفان يجوز بيعهما مع التفاضل، وبيوض الطيور أجناس، والكبد والطحال والقلب والكرش والرئة والمخ: أجناس، وإن كانت من حيوان واحد لاختلاف أسمائها وصفاتها، وشحم الظهر والبطن واللسان والرأس والأكارع: أجناس، والبطيخ الأصفر والأخضر والخيار والقثاء: أجناس، وأما الطيور: فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس، وأنواع الحمام جنس واحد على الأصح (1) . والرطب واليابس من أصل واحد كالعنب والزبيب، والرطب والتمر جنس واحد، وما تفرع عن أصل مع أصله كالحنطة ودقيقها والمجروش منها كالبرغل جنس واحد. ولحوم الحيوانات أجناس مختلفة، فالضأن والمعز جنس واحد، والبقر والجاموس جنس واحد، والألبان أجناس مختلفة، كاللحوم.
__________
(1) مغني المحتاج: 23/2 ومابعدها، المهذب: 272/1.(5/376)
4 - مذهب الحنابلة:
في هذا المذهب ثلاث روايات بالنسبة لعلة الربا: أشهرها مثل مذهب الحنفية: وهي أن الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس هو علة الربا، فيجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه، مطعوماً كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان والنُّورة والقطن والكتان والصوف والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن، لما روى ابن عمرقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار، بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرِّماء» (والرماء: هو الربا) فقام إليه رجل فقال: «يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يداً بيد» (1) وروى أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلاً بمثل، إذا كان نوعاً واحداً، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به» (2) .
إلا أن الحنابلة خلافاً للحنفية قالوا: يحرم ربا الفضل في كل مكيل أو موزون بجنسه، ولو كان قليلاً كتمرة بتمرة، وما دون الأرزة من نقد (ذهب أو فضة) ، لا في ماء، ولا فيما لا يوزن عرفاً: لصناعته من غير ذهب أو فضة، كمعمول من نحاس أو حديد أو قطن ونحوه.
والرواية الثانية: كمذهب الشافعية.
والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة: كونه مطعوماً إذا كان مكيلاً أو موزوناً، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والخوخ
__________
(1) رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، قال الهيثمي: وفيه أبو جناب وهو ثقة ولكنه مدلس (راجع جامع الأصول: 469/1، مجمع الزوائد: 113/4، نصب الراية: 56/4) .
(2) رواه الدارقطني عن الحسن عن عبادة وأنس بن مالك (راجع نيل الأوطار: 193/5) .(5/377)
والبطيخ والكمثرى والسفرجل والإجاص والخيار والجوز والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأُشنان والحديد والرصاص ونحوه. وهذا قول سعيد بن المسيب كما تقدم (1) . ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب» (2) .
اتحاد الجنس واختلافه: مذهب الحنابلة في هذا الموضوع مثل مذهب الشافعية فإنهم قالوا (3) : كل نوعين اجتمعا في اسم خاص، فهما جنس واحد كأنواع التمر، وكل شيئين اتفقا بالجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل، وإن اختلفت الأنواع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلاً بمثل» فاعتبر المساواة في جنس التمر، ثم قال: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» وفي لفظ «فإذا اختلف الجنسان..» وفي لفظ «إلا ما اختلفت ألوانه» .
فإذا كان المشتركان في الاسم الخاص من أصلين مختلفين، فهما جنسان، أي أن كل شيئين أصلهما واحد، فهما جنس واحد، وإن اختلفت مقاصدهما خلافاً للحنفية. وعلى هذا فالتمور كلها جنس واحد؛ لأن الاسم الخاص يجمعها، ودهن الورد والبنفسج والزنبق ودهن الياسمين المأخوذ من أصل واحد وهو الزيت أو الشيرج: جنس واحد (4) ، والأدقة والأخباز والخلول والأدهان واللحم واللبن
__________
(1) المغني: 3/4-5، أعلام الموقعين: 136/2 ومابعدها، غاية المنتهى: 54/2.
(2) رواه الدارقطني في سننه عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في ذهب أو فضة، أو ما يكال، أو يوزن، أو يؤكل، أو يشرب» وهو حديث مرسل. ورواه البيهقي موقوفاً على ابن المسيب (انظر نصب الراية: 36/4) .
(3) راجع المغني: 20/4، غاية المنتهى: 55/2.
(4) وعند الحنفية: دهن البنفسج ودهن الورد، وإن كان أصلهما واحداً لكن المقصود منهما مختلف، فهما جنسان، فيجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل بينهما، كالزيت مع الزيتون، والشيرج مع السمسم، والزيت المطبوخ بغير المطبوخ، يجوز التفاضل بينهما وزناً لاختلاف أجناسها، فلو اتحد الجنس لم يجز متفاضلاً (الدر المختار: 194/4) .(5/378)
والجبن والسَمْن وعصير الأشياء المختلفة، كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها. ودقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وكذا أنواع الزيوت من الزيتون والقطن، والأدهان من السمك والشَّيْرج والبزر ونحوها: أجناس مختلفة.
5 - مذهب الظاهرية:
قال الظاهرية وأبو بكر بن الطيب: الربا غير معلل، وهو مخصص بالمنصوص عليه فقط (1) ، وذلك لأنهم ينكرون القياس، وقد بين الشارع أن الربا يجري في الأصناف الستة، فيبقى ما عداها على الأصل وهو الإباحة.
والخلاصة: أن العلة في تحريم التفاضل في الطعام عند الحنفية والحنبلية الكيل والوزن، وعند مالك الاقتيات والادخار، وعند الشافعي: الطعمية.
وأما جواز الزيادة في غير النقدين والمطعومات عند المالكية والشافعية أو غير المكيل والموزون عند الحنفية والحنابلة فلأَنها لا تمس حياة الناس الضرورية، سواء في أقواتهم أم في نشاطهم الاقتصادي، إذ أن الطمع في الربح لا يؤدي إلى إلحاق الضرر الكبير بهم.
ترجيح:
قال ابن رشد المالكي: ولكن إذا تؤمل من طريق المعنى ظهر ـ والله أعلم ـ أن علة الحنفية أولى العلل وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا: إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات، جعل الدينار
__________
(1) راجع المحلى لابن حزم: 468/8.(5/379)
والدرهم لتقويمها (أعني تقديرها) ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات (أعني غير الموزونة والمكيلة كالثياب) : العدل فيها إنما هو في وجود النسبة أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه كنسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، فإذن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدلة، والعدل في المكيلات والموزونات إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن (1) . إلا أن هذا الرأي وسع كثيراً من نطاق دائرة الربا باجتهاد لا يؤيده العقل والنقل.
ورجح ابن القيم مذهب الإمام مالك في أن علة الربا هي القوت والادخار فيما يتعلق بغير النقدين. وأما النقدان فالعلة فيهما الثمنية كما قال الشافعية، إذ لو كان النحاس والحديد رِبَويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقداً، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّساء أي التأخير.
وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، حتى لا تفسد معاملات الناس، ويقع الاختلاف، ويشتد الضرر، فلا تكون الدراهم والدنانير مجالاً صالحاً للتجارة (2) .
ورجح الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري مذهب الشافعي في علة الربا، لأنه نظر إلى اعتبار اجتماعي اقتصادي، فنفذ بذلك إلى لب الموضوع ووقف عند المعنى البارز الذي ينبغي الوقوف عنده. أما اعتبار الحنفية فهو اعتبار منطقي أقرب إلى الشكل منه إلى الجوهر (3) .
__________
(1) بداية المجتهد: 131/2.
(2) أعلام الموقعين: 137/2.
(3) مصادر الحق: 184/3.(5/380)
أصول الربا: قال ابن رشد: أصول الربا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنَّسَاء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، وبما أنه عرفنا هذه الأصول ما عدا قاعدتين فقد وجدت ضرورة لشرحهما.
قاعدة (أنظرني أزدك) : حرام باتفاق العلماء: وهي: أن يكون للرجل دين عند آخر، فيؤخره به على أن يزيده في قدر الدين، وذلك كان ربا الجاهلية، سواء أكان الدين طعاماً أم نقداً، وسواء أكان من سلف أم بيع أم غيرهما. ووسيلة ذلك أن يبيع الدائن للمدين سلعة بثمن مؤجل إلى وقت معين يشتمل الثمن على زيادة عن الثمن النقدي.
قاعدة (ضع وتعجل) : إن أخذ مال من المقترض مقابل تعجيل بقية القرض بالنص على ذلك في عقد القرض حرام أيضاً عند أئمة المذاهب الأربعة؛ لأن نقص ما في الذمة لتعجيل الدفع شبيه بالزيادة؛ لأن المعطي جعل للزمان مقداراً من الثمن بدلاً منه.
ومعنى القاعدة: أن يكون لشخص على آخر دين لم يحل، فيعجله قبل حلوله على أن ينقص منه. ومثل ذلك أن يعجل بعضه ويؤخر بعضه إلى أجل آخر، وأن يأخذ قبل الأجل بعضه نقداً وبعضه عرضاً (1) . ويجوز ذلك كله بعد الأجل باتفاق، ويجوز أن يعطيه في دينه المؤجل عرضاً قبل الأجل وإن كانت قيمته أقل من دينه (2) .
__________
(1) النقد: الذهب والفضةأو ما يحل محلهما من الأوراق النقدية، والعرض ما سوى ذلك من السلع والأمتعة.
(2) القوانين الفقهية: ص 252، 289، بداية المجتهد: 127/2، 142، أعلام الموقعين: 135/2، الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ رشيد رضا: ص 70.(5/381)
شروط مبادلة الأموال الربوية مع بعضها أو مع غيرها:
إذا حدث تبادل الأموال الربوية ببعضها، فقد يحرم التبادل وقد يحل. فيحل التبادل عند اتحاد الجنس كذهب بذهب وفضة بفضة وحنطة بحنطة وذرة بذرة إذا توافرت شروط ثلاثة:
1 - التماثل في البدلين كيلاً في المكيلات، ووزناً في الموزونات، وعدداً في المعددوات، فمن باع مد حنطة بمد حنطة، ورطل تفاح برطل تفاح، وخمس جوزات بخمس، جاز البيع. والمعتبر في التماثل: التساوي بأداة البيع: الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات. ووقت التماثل فيما يمر بدور الرطوبة والجفاف: هو وقت الجفاف، فلا يباع الرطب بالرطب ولا الرطب بالتمر، ويراعى زمن الجفاف.
2 - الحلول: بألا يؤجل تسليم أحد البدلين عن مجلس العقد، أي لا يذكر الأجل في العقد.
3 - التقابض: بأن يتم قبض كلا البدلين في مجلس العقد قبل تفرق العاقدين بأبدانهما.
واشتراط هذه الشروط من الأحاديث السابقة: «مثلاً بمثل» فيه شرط التماثل، و «يداً بيد» «هاء بهاء» يدلان على اشتراط الحلول والتقابض.
ويحرم التبادل إذا لم يتوافر أحد هذه الشروط.
ويحل التبادل عند اختلاف الجنس واتحاد العلة كذهب بفضة وحنطة بشعير بشرطين:
1 - الحلول: بأن يكون العقد حالاً لا تأجيل فيه.
2 - التقابض: بأن يتم ذلك في مجلس العقد.
ولا يشترط التماثل، للحديث المتقدم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد» . ويحرم التبادل إذا اختل أحد الشرطين السابقين.(5/382)
وإذا اختلفت العلة بأن كان أحد البدلين من الأثمان أو النقود: الذهب والفضة أو النقود الورقية، والآخر من المطعومات كالتمر والزبيب، جاز التبادل وحل التعاقد، كبيع مد حنطة بعشر غرامات من الذهب، أو بدينار سواء حصل التقابض أو لم يحصل، اشترط الأجل أو لم يشترط، لما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاء بتمر جنيب (1) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجَمْع (2) بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً» .
وأما إذا بودلت الأموال الربوية بغيرها، كبيع معادن بذهب، وطعام بثياب، ومواد الاستهلاكية من سكّر وزيت وسمن وأرز بنقود ورقية، كالشراء من البقاليات لأجل، فيجوز البيع مطلقاً، ولا يشترط التماثل ولا التقابض ولا الحلول؛ لأن العقد غير ربوي؛ لأن أحد العوضين مال غير ربوي، أو لأن نوع العلة مختلف، فالمواد الاستهلاكية من فئة المطعومات، والنقود الورقية من فئة الأثمان.
أما بيوع الرطب بالتمر والحب الجديد بالقديم، فهو ممنوع شرعاً، لعدم تحقق المماثلة بين البدلين، وهما من الأموال الربوية. وبيع الرطب على رؤوس الشجر بما يساويه خرصاً من التمر المقطوف، أو بيع العنب بالزبيب، يسمى بيع المزابنة.
وبيع الحب في سنبله بما يساويه خرصاً (أي تقديراً وتخميناً لكيله أو وزنه) يسمى بيع المحاقلة.
وقد رخص الشرع ببيع العرايا كما تقدم: وهو أن يبيع الرطب على النخل بخرصه تمراً، أو العنب بخرصه زبيباً فيما دون خمسة أوسق (653 كغ) . أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن أبي حَثْمة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخّص في العَرِيّة أن تباع بخرصها، يأكلها أهلها رُطَباً» أي يأكلها الذين اشتروها، وهو رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، كما تقدم.
__________
(1) الجنيب: التمر الجيد.
(2) الجمع: التمر الرديء.(5/383)
المطلب الرابع ـ ما يترتب على الاختلاف في علة الربا
يترتب على الاختلاف في علة الربا بين الحنفية والشافعية أمور كثيرة، منها مايتعلق بربا الفضل، ومنها ما يتعلق بربا النسيئة.
أما ما يتعلق بربا الفضل، فيظهر أثر الخلاف فيما يأتي:
1 - في بيع مطعوم بجنسه غير مقدر: أي (غيرمكيل ولا موزون) كبيع حفنة حنطة بحفنتين منها، أو بطيخة ببطيختين، أو تفاحة بتفاحتين، أو بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين أو أكثر ونحو ذلك، يجوز هذا عند الحنفية لعدم العلة: وهي القَدْر، إذ لا تقدير في الشرع بأقل من نصف صاع بالنسبة للمكيلات، وأما في الموزون: وهو الذهب والفضة، فلا تقدير بما دون الحبة، إذ لا قيمة له (1) .
ولا يجوز ذلك عند الشافعية لوجود علة الربا عندهم وهي الطُّعم؛ لأن الأصل عندهم هو تحريم بيع المطعومين ببعضهما، أخذاً من حديث: «الطعام بالطعام مثلاً بمثل» والمساواة بين المطعومين في البيع مُخَلِّص من الحرمة، فما لم تثبت المساواة كانت الحرمة ثابتة، لأنها هي الأصل، فلا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما.
__________
(1) المبسوط: 114/12، فتح القدير: 278/5 ومابعدها، البدائع: 185/5، رد المحتار: 188/4.(5/384)
والتعليل بالقدر عند الحنفية يقتضي تخصيص نص الحديث السابق: «البر بالبر مثلاً بمثل..» (1) فيجوز عندهم بيع الحفنة بالحفنتين ونحوهما.
2 - في بيع مقدَّر بمقدَّر غير مطعوم: أي بيع مكيل بجنسه غير مطعوم، أو موزون بجنسه غير مطعوم ولانقد، كبيع قفيز جص بقفيزي جص، أو رطل حديد برطلين منه ونحوهما.
فلا يجوز ذلك عند الحنفية لوجود علة الربا، وهي الكيل مع الجنس في بيع الجص، أو الوزن مع الجنس في بيع الحديد (2) .
ويجوز ذلك عند الشافعية لعدم وجود علة الربا، وهي الطُّعم أو الثمنية. واتفق الحنفية مع الشافعية على أنه لو باع قفيز (3) أرز بقفيزي أرز لا يجوز، لوجود الكيل مع الجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم مع الجنس عند الشافعية.
واتفقوا أيضاً على أنه إذا باع رطل زعفران (4) برطلين منه، أو رطل سكر برطلين من السكر: لا يجوز لوجود الوزن والجنس عند الحنفية، ولوجود الطعم والجنس عند الشافعية.
واختلف الفقهاء فيما يتعلق بشرط الجنس في بعض النواحي المتعلقة بتحققه، منها ما يأتي:
1 - بيع الدقيق بمثله أو بالحب:
قال الحنفية: لا يصح بيع الدقيق المأخوذ من جنس بجنسه، فلا يصح بيع الدقيق المأخوذ من القمح بالقمح، وكذا المأخوذ من الذرة بالذرة وهكذا، سواء أكانا متساويين أم لا؛ لأن التساوي في مثل ذلك غير محقق.
أما بيع الدقيق المأخوذ من جنس بغير جنسه، فإنه يصح كالدقيق المأخوذ من القمح إذا بيع بالشعير، فإنه يصح، لاختلاف الجنس متى كان يداً بيد.
وأما بيع الدقيق بالدقيق المتحد الجنس، فإنه يجوز بشرط التساوي في الكيل والنعومة والخشونة.
__________
(1) فتح القدير: 276/5.
(2) المبسوط: 114/12، البدائع: 185/5، فتح القدير: 279/5، الدر المختار: 188/4.
(3) القفيز مكيال يبلغ حوالي 817،27 كغ، والجريب: مكيال قدره أربعة أقفزة. والقفيز في المساحة من الأرض عشر الجريب، والجريب عشرة آلاف ذراع.
(4) الزعفران غير العصفر. فالأول من نبات أصفر الزهر له أصل كالبصل. والثاني من نبات معروف له زهر برتقالي في وعاء له شوك ناعم.(5/385)
ويجوز بيع الخبز بالحنطة أو بالدقيق وبالعكس متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الخبز صار بالصنعة جنساً مختلفاً مع الحنطة، حتى خرج من أن يكون مكيلاً، والحنطة والدقيق مكيلان، فلم يجمع بين الخبز والحنطة أو الدقيق القدر ولا الجنس، فجاز بيع أحدهما بالآخر نسيئة، ولا يشترط فيه التقابض، وإنما يشترط التعيين (1) .
وقال المالكية: لا يصح بيع الحب والدقيق، أحدهما بالآخر، إلا مثلاً بمثل بدون زيادة، فلو باع قمحاً بدقيق مأخوذ منه، فإنه يصح إذا كانا متساويين بالوزن.
فإذا اختلف الجنس، كأن باع دقيقاً من الذرة بحب من القمح، فإنه يصح بيعه متفاضلاً بشرط التقابض في المجلس.
وكذلك يصح بيع الخبز بالحنطة؛ لأن صنعة الخبز جعلته جنساً منفرداً.
وأما بيع الدقيق بمثله فلا يصح مطلقاً (2) .
وقال الشافعية: لا يصح بيع دقيق بجنسه، فلا يصح بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة مثلاً، لانتفاء المماثلة اليقينية بينهما، بسبب النعومة الطارئة عليه، إذ قد يكون أحد البدلين أنعم من الآخر، فلا ينكبس في الكيل.
وكذلك لا يصح بيع دقيق الحنطة بحب الحنطة، كما لا يصح بيع الخبز بهما، ويصح بيع الخبز ببعضه، والدقيق ببعضه، إذا اختلف الجنسان، كأن يكون خبز قمح بخبز شعير أو دقيق قمح بدقيق ذرة، لاختلاف الجنس (3) .
وقال الحنابلة: لا يصح بيع الدقيق بالحب المأخوذ منه مطلقاً، لأنه يشترط التساوي في بيع الجنس الواحد ببعضه، ولا يصح بيع الخبز بالحب المأخوذ منه، كما لا يصح بيعه بدقيقه.
وأما بيع الدقيق بمثله من نفس الجنس، فإنه يجوز كيلاً كما يقول الحنفية، بشرط التساوي في النعومة (4) .
والخلاصة: أن في بيع الدقيق بمثله رأيين:
رأي يجيز ذلك: وهم الحنفية والحنابلة.
ورأي لا يجيز ذلك: وهم المالكيةوالشافعية.
__________
(1) البدائع: 189/5، فتح القدير: 288/5 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 194/4 ومابعدها، الفقه على المذاهب: 254/2.
(2) بداية المجتهد: 136/2، حاشية الدسوقي: 53/3، الفقه على المذاهب: 253/2.
(3) المهذب: 271/1، مغني المحتاج: 23/2، الفقه على المذاهب: 255/2.
(4) المغني: 24/4، الفقه على المذاهب: 255/2.(5/386)
2 - بيع الحيوان بلحم:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، لأنه بيع ما هو موزون بما ليس بموزون، وهو جائز كيفما كان بشرط التعيين (1) ، لأن الحيوان ليس بمال ربوي.
وقال الأئمة الثلاثة غير الحنفية: لايجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه، فلا يجوز بيع شاة مذبوحة بشاة حية يقصد منها الأكل (2) لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان باللحم (3) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى أن يباع حي بميت (4) ؛ ولأن اللحم نوع فيه الربا، بيع بأصله الذي فيه منه، فلم يجز كبيع السِّمسِم بالشَّيْرَج، للجهل بالمماثلة فيما تطلب فيه المماثلة، والجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة (5) .
أما بيع الحيوان بالحيوان فيجوز، متفاضلاً ومن جنس واحد أو من جنسين، كبيع شاة بشاتين، وبيع شاة ببعير؛ لأن الحيوان ليس بمال ربوي، لأنه غير مطعوم
__________
(1) فتح القدير: 290/5، الدر المختار: 192/4، البدائع: 189/5.
(2) بداية المجتهد: 136/2، حاشية الدسوقي: 54/3، 272/1، مغني المحتاج: 29/2، المغني: 32/4، أعلام الموقعين: 145/2.
(3) رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وله شواهد عن ابن عمر عند البزار، وعن الحسن عن سمرة عند الحاكم والبيهقي وابن خزيمة وله لفظ آخر: «نهى عن بيع الحي بالميت» قال في نيل الأوطار: 203/5: «ولا يخفى أن الحديث ينتهض للاحتجاج بمجموع طرقه» (راجع جامع الأصول: 413/1، نصب الراية: 39/4) .
(4) رواه البيهقي عن رجل من أهل المدينة، قال البيهقي: وهذا مرسل يؤكد مرسل ابن المسيب أي الحديث السابق (راجع نصب الراية: 39/4) .
(5) تخريج الفروع على الأصول: ص 71.(5/387)
على حاله وهيئته، وليس من جنس الأثمان. وأما بيع اللحوم ببعضها فيجوز إن كانت من جنس واحد، بشرط التماثل والحلول والتقابض؛ لأنها من الأموال الربوية فإن اختلف الجنس كلحم ضأن بلحم بقر، فيجوز التفاضل، بشرط الحلول والتقابض.
وأما مايترتب على الاختلاف في ربا النسيئة بين الشافعية والحنفية، فيظهر فيما يأتي:
أولاً ـ بعض الخلافات التي ترجع إلى أصل الخلاف في علة الربا التي هي عند الحنفية: الكيل أو الوزن، وعند الشافعية: الطعم.
إذا باع شخص قفيز حنطة بقفيز شعير نسيئة مؤجلة، أو ديناً موصوفاً في الذمة غير مؤجل (1) : لا يجوز بالاتفاق، لوجود علة ربا النسيئة: وهي أحد وصفي علة ربا الفضل وهو هنا الكيل عند الحنفية، والطعم عند الشافعية.
وتظهر ثمرة الخلاف في حالتين:
1 - في بيع غير المطعوم: إذا بيع قفيز جص بقفيز نورة (2) مؤجلاً عن طريق السَّلَم، أوغير مؤجل عن طريق البيع ديناً في الذمة: لا يجوز عند الحنفية لوجود الكيل، وعند الشافعية: يجوز لعدم الطعم.
ولو أسلم رطل حديد برطلي حديد: لا يجوز عند الحنفية لوجود الوزن المتفق لكونهما موزونين، وعند الشافعية يجوز لعدم الطعم أو الثمنية.
ولو باع رطل سكر برطل زعفران ديناً في الذمة: لا يجوز بالاتفاق لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو هنا الوزن المتفق عند الحنفية، ولوجود الطعم عند الشافعية.
__________
(1) أي أن الثمن شيء غير معين، فيحصل الربا، لأن العين خير من الدين، لأن الدين قد يختلف عن الوصف وقد لا يقوم الملتزم بشيء بتسليم ما يجب عليه.
(2) النورة: حجر الكلس، ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، ويستعمل لإزالة الشعر.(5/388)
أما لو أسلم الدراهم أو الدنانير في زعفران، أو في قطن أو حديد: فإنه يجوز بالاتفاق لانعدام علة الربا: وهي القدر المتفق أو الجنس المتحد. أما المجانسة فغير متحققة كما هو واضح، وأما القدر المتفق فغير متحقق أيضاً؛ لأن وزن الثمن يخالف وزن المثمن، فإن الدراهم توزن بالمثقال، والقطن والحديد والزعفران يوزن بالقبان، فلم يتحقق القدر، فلم توجد العلة، فلا يتحقق الربا.
ولو أسلم نُقرة (1) فضة في نقرة ذهب، أو تبر ذهب في نقرة فضة، أو المصوغ من أحدهما في ذهب أو فضة: لا يجوز بالاتفاق لوجود الوزن المتفق عند الحنفية، فإنهما يوزنان بالمثاقيل (2) ، ولوجود الثمنية عند الشافعية، لأنها أصل الأثمان.
2 - في بيع المطعوم بالمطعوم من قدر مختلف:
لو أسلم الحنطة في الزيت: جاز عند الحنفية؛ لأن أحدهما مكيل والآخر موزون، فكانا مختلفين قدراً. وعند الشافعية: لا يجوز لوجود الطعم (3) .
ثانياً ـ بعض الخلافات ترجع إلى الخلاف في الجنس وحده: هل هو علة أو لا؟ :
سبقت الإشارة إلى أن الجنس وحده يصلح علة لربا النسيئة عند الحنفية؛ لأن علة الربا هي الكيل أو الوزن مع اتحاد الجنس، وكل علة ذات وصفين مؤثرين لا تتم العلة إلا بهما، فيكون لكل منهما شبهة العلية، وشبهة العلية تثبت بها شبهة الحكم، أي أن الجنس ركن في العلة، لا مجرد شرط.
__________
(1) النقرة: هي القطعة المذابة من الفضة أو الذهب.
(2) المثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم وهو (24) قيراطاً، ويساوي (80،4 غم) .
(3) انظر البدائع: 186/5 وما بعدها.(5/389)
وعند الإمام الشافعي: الجنس بانفراده لا يصلح علة لتحريم ربا النسيئة؛ لأن الجنس محل التحريم أو هو شرط فقط في علة الربا، والحكم قد يدور مع الشرط كالرجم مع الإحصان، والسبب فيه: أن العلة هي اسم لوصف مناسب للحكم، فيعلل الحكم بعلة تناسب المقصود منه، وهي الطعم لبقاء الإنسان به، والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط مصالح الناس بها، ولا أثر للجنسية، فجعل شرطاً (1) .
ويترتب على ذلك ما يأتي:
لا يجوز إسلاف الجوز في الجوز، والبيض في البيض، والتفاح في التفاح، والحفنة في الحفنة بالاتفاق لوجود الجنس عند الحنفية، ولوجود الطُّعم عند الشافعي.
ولا يجوز إسلاف الثوب الهَرَوي مثلاً في الثوب الهروي عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعي: يجوز؛ لأن الجنس عنده لا يكفي وحده لتحريم الربا.
ويجوز أن يسلم ثوباً هروياً في ثوب مَرْوي بالاتفاق، لعدم وجود الجنس عند الحنفية، ولعدم وجود الطعم أو الثمنية عند الشافعية.
ولو أسلم الفلوس في الفلوس لا يجوز عند الحنفية لوجود الجنس. وعند الشافعية: لا يجوز أيضاً لوجود الثمنية.
والسبب في أن الجنس وحده يحرم الربا عند الحنفية، كما في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل: هو أن عقد البيع يقتضي المساواة في البدلين، ولا مساواة بين المدفوع حالاً، والمدفوع نسيئة؛ لأن العين خير من الدين، والمعجل أكثر قيمة من المؤجل، وهذا المعنى كما هو موجود في المطعومات والأثمان أي (النقود) موجود في غيرهما. يؤكده قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا
__________
(1) فتح القدير: 276/5، 280، المبسوط: 122/12 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص75، المهذب: 271/1 ومابعدها.(5/390)
إلا في النسيئة» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة» (1) والنص مطلق لم يفرق بين المطعوم والأثمان وغيرهما، فيجب القول بتحقيق الربا فيها على الإطلاق (2) لتحقق علة الربا عندهم: وهي اتفاق الجنس.
وقال مالك: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة أي إلى أجل فيما تشابهت منافعه كشاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. ويجوز فيما اختلفت منافعه، كبيع البعير النجيب ببعيرين للحمولة (3) ، وعمدته في حالة المنع سد الذريعة إلى الربا.
أما الشافعية فقالوا: كل ما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب لا يحرم فيه التفرق قبل التقابض، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ على قلاص (4)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي، فهو حديث صحيح، وله ألفاظ منها «الربا في النسيئة» وفي رواية «إنما الربا في النسيئة» وفي رواية «لا ربا فيما كان يداً بيد» قال البيهقي: يحتمل أن الراوي اختصره، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن الربا في صنفين مختلفين: ذهب بفضة، أو تمر بحنطة، فقال «إنما الربا في النسيئة» فأداه الراوي دون ذكر سؤال السائل (راجع جامع الأصول:469/1،نصب الراية: 37/4) .
(2) البدائع: 187/5.
(3) راجع كتاب «الربا والمعاملات في الإسلام» للسيد رشيد رضا: ص 97، 99، ومقدمته: ص 5 للأستاذ بهجت البيطار، وراجع نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف لمعرفة الفرق بين الضرورة والحاجة.
(4) شرح السير الكبير: 223/3، 188/4، المبسوط: 95/10.(5/391)
الصدقة، فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» (1) .وعن علي كرم الله وجهه أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيراً (2) . وباع ابن عمر رضي الله عنهما بعيراً بأربعة أبعرة (3) ونحو ذلك كثير (4) .
وأصح الروايات الأربع عن الإمام أحمد (5) مثل الشافعية أي جواز بيع الحيوان بجنسه أو بغيره متساوياً ومتفاضلاً، واتفق الأئمة على بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً إذا كان يداً بيد، أي كان البيع حالاً، غير مؤجل.
وبعد: فإن ربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته منعاً من إلحاق غبن كبير بأحد الطرفين، نتيجة للتقلبات المفاجئة في أسعار السلع بسبب أو آخر، وللقضاء على استغلال عجز المدين عن وفاء الدين. وربا الفضل محرم سداً للذريعة أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة إليه وللمصلحة الراجحة على المفسدة (6) ، والمسلم وحده يمكن أن يقدر الضرورة أو الحاجة المحدقة به.
ويمكن القول بأن تحريم ربا الفضل ليس لكونه مجرد وسيلة إلى ربا النسيئة، وإنما هو ربا حقيقي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لبلال: «عين الربا» حينما باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر جيد هو التمر البرني؛ ولأنه يعتمد تارة على استغلال جهل الناس بأصناف الأنواع، وتارة يعتمد على استغلال حاجتهم إلى نوع معين.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني بمعناه والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وضعفه بعضهم بمحمد بن إسحاق إلا أن الحافظ ابن حجر قوّى إسناده، ورواه البيهقي في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (راجع نصب الراية: 47/4، نيل الأوطار: 304/5، جامع الأصول: 473/1) . (2) رواه الإمام مالك في الموطأ (راجع تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 148/2، جامع الأصول: 474/1) .
(3) أخرجه الموطأ والبخاري عن عبد الله بن عمر (المرجعان السابقان) .
(4) المهذب: 271/1.
(5) المغني: 11/4 ومابعدها.
(6) راجع كتاب «الربا والمعاملات في الإسلام» للسيد رشيد رضا: ص97، 99، ومقدمته: ص5 للأستاذ بهجت البيطار، وراجع نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف لمعرفة الفرق بين الضرورة والحاجة.(5/392)
ربا القرض: الربا يجري في البيع كما تقدم في بحث الربا ـ ربا الفضل وربا النسيئة. ويجري أيضاً في القرض: بأن يقرض شخص آخر مبلغاً من المال على أن يرد له زيادة معينة أو يجري التعارف بالزيادة، أو يشترط عليه دفع فائدة شهرية أو سنوية على مبلغ القرض، كما يحدث الآن في التعامل مع البنوك الربوية ومع بعض التجار الذين يقومون بتشغيل بعض أموال الناس. وهذا كله حرام لقوله تعالى: {وأحل الله البيع، وحرم الربا} [البقرة:2/275] وقوله سبحانه: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمون} [البقرة:2/279] أي لا تَظْلمون بأخذ زيادة على رأس المال، ولا تُظْلَمون بنقص شيء من رأس المال، بل لكم ما دفعتم من غير زيادة ولا نقصان. وقد جعل الله «أكل الربا» من السبع الموبقات (المهلكات) في حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم.
ويحرم الربا في أي مكان من العالم، في دار الإسلام ودار الحرب على السواء؛ لأن حرمة الربا عامة مطلقة، لا تخصيص فيها ولا تقييد.
ولكن نقل عن أبي حنيفة ومحمد: أنه يجوز أخذ مال الحربي بأي طريق لا خيانة فيه ولا غدر، ولو بالعقود الفاسدة كالربا؛ لأن ماله مباح مهدر كنفسه، أي غير معصوم، بل هو مباح في نفسه، وقد بذله الحربي في عقود الربا باختياره ورضاه، فزال المنع لزوال موجبه (1) .
__________
(1) شرح السير الكبير 223/3، 188/4، المبسوط: 95/10.(5/393)
وقد انزلق بعض المسلمين فأودعوا أموالهم في ديار غير المسلمين واستباحوا أخذ الفوائد عنها، عملاً بهذا الرأي فيما زعموا، وهو فهم خطأ، وعمل باطل غير مشروع، وحرام؛ لأن الربا الذي قصد في هذا الرأي هو ربا العقود لا ربا البنوك والفوائد، ولأن المال في أصله مال الحربي، أما الأموال المودعة فهي أموال المسلمين، يتقوى بها غير المسلمين في تشغيل المصانع والمعامل، ولأن القول مخصوص بمال الحربي، والحربي: هو الذي بيننا وبين بلاده عداوة وحرب فعلية أو حكمية، ولا ينطبق هذا على غير اليهود وأمثالهم من غاصبي الأراضي الإسلامية، لوجود معاهدات سلمية بيننا وبين مختلف الدول المنضمة لميثاق الأمم المتحدة.
وإيداع المسلمين أموالهم في بلاد غير المسلمين غير جائز شرعاً؛ لأنهم يتقوون بتلك الأموال علينا، ويعطوننا جزءاً من الفوائد، بل إن أكثر تلك الأموال أصبحت مجمدة لا يفرج عنها ولا ترد لأصحابها الأصليين، مما يؤكد تحريم التعامل مع المصارف الأجنبية إلا لضرورة قصوى أو لأجل الاستيراد والتصدير.
وعلى هذا تكون فوائد هذه الأموال حراماً لا يجوز لأصحابها تملكها وضمها لأموالهم، لكن لا يصح إبقاؤها لهم حتى لا يتقووا بها علينا، ونعين الظالم على ظلمه، وإنما يجب أخذها وصرفها في المصالح العامة في البلاد الإسلامية كتعبيد الطرق وبناء المشافي والمدارس وغير ذلك من المرافق العامة، كما أفتى بذلك لجنة الفتوى بالأزهر في أواخر الستينات.(5/394)
................................فوائد المصارف (البنوك) ..............................
....................................حرام حرام حرام...................................
تشهد الساحة الإعلامية المعاصرة هجمة جريئة في الصحف والمجلات وفتاوى شاذة مستعجلة بأقلام كتاب ينتمون للعمل الإسلامي، ويحاولون التجديد والاجتهاد في مجال الربا (أو الفائدة) ويقولون بإباحة فوائد المصارف؛ لأن المصارف (أو البنوك) أصبحت في وقتنا الحاضر ضرورة اقتصادية، وتقوم بتشغيل أموال المودعين في مشاريع متنوعة صناعية وزراعية وتجارية وغيرها بطريق غير مباشر عن طريق إقراضها لأصحاب هذه المشاريع، وأخذ فوائد منهم، وإعطاء بعضها للمودعين، فالبنوك بمثابة وسيط بين الطرفين.
ومن هذه الهجمة: ما كتبه السيد فهمي هويدي في مجلة العربي العدد 341 أبريل نيسان 1987 م شعبان 1407 هـ ناقلاً عن عالم محاولة بالقول في إباحة فوائد الإيداع في البنوك، وعدم الاعتماد على مبدأ «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» لعدم ثبوت كونه حديثاً، وبالتالي عدم جواز الاستدلال به. ومنها فتوى هذا العالم وهو الدكتور عبد المنعم النمر بإباحة فوائد المصارف في جريدة الأهرام يوم الخميس 27 من شوال 1409 هـ الموافق 1989/6/1م، ومنها فتوى مفتي مصر الدكتور محمد سيد طنطاوي بإباحة شهادات الاستثمار بتاريخ 1410/5/7هـ = 1989/12/7م، والطامة الكبرى بيان مفتي مصر المذكور قبل ربيع سنة 1410هـ وقبل نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 الذي أحل فيه الفوائد الربوية لشهادات الاستثمار والبنوك المتخصصة، وأعقبه عام 1991 بأن فوائد المصارف حلال في جميع أنحاء الأرض. وأبين هنا مراحل التدرج التشريعي في تحريم الربا في القرآن الكريم، وأذكر الأحاديث النبوية الثابتة ثبوتاً لا شك فيه والمبينة لمدلول الربا، كما أذكر ما عليه قوانين الدول العربية في قضية الربا، ثم أناقش الشبهات التي يثيرها القائلون بإباحة فوائد المصارف الحديثة (1) .
__________
(1) علماً بأن مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1406 هـ ومجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1385 هـ الموافق 1965 م انتهت إلى أن فوائد المصارف من الربا الحرام (انظر كتابي الدكتور محمد علي السالوس في الرد على إباحة فتاوى المبيحين) .(5/395)
التدرج في التشريع: هذا من خصائص وأسس بيان الأحكام الشرعية، فلم تحرم الخمر مثلاً دفعة واحدة كما هو معروف، وإنما مر التحريم بمراحل أربع آخرها آيتا المائدة (90-91) : {إنما الخمر والميسر ... } [المائدة:90/5] وعقوبة الزنا مرت بمرحلتين: الأولى ـ الحبس للنساء والإيذاء للرجال في آيتي النساء (15، 16) والثانية ـ حد الجلد في سورة النور (2) {الزانية والزاني ... } [النور:2/24] وكذلك تحريم الربا مر بمراحل أربع:
أولها ـ تقبيح فعل اليهود الذين يأكلون الربا والتشنيع عليهم في قوله تعالى: {سَّماعون للكذب، أكَّالون للسُّحت ... } [المائدة:42/5] وقوله سبحانه: {فبظلمٍ من الذين هادُوا حرمنا عليهم طيبات أحلَّت لهم، وبصدِّهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} [النساء:159/4-160] .
ثانيها ـ التفرقة بين الربا والزكاة في قوله تعالى: {وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله، فأولئك هم المضعفون} [الروم:39/30] .(5/396)
ثالثهما - التنديد بفعل العرب المشركين في الجاهلية ونهي المؤمنين عن محاكاة فعلهم بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} [آل عمران:130/3] والنهي ليس مقصوراً على حالة المضاعفة، وإنما هذا قيد لبيان الواقع، وتقبيح الوضع القائم الشائع بين العرب حينما يقرض أحدهم لآخر قرضاً لمدة، ثم يحل أجل القرض ويعجز المدين المقترض عن وفاء دينه، فيقول له المقرض الدائن: (إما أن تقضي أو تربي) فيزيد له في الأجل مقابل الزيادة في الربا، وهذا عين عمل المصارف الحالية تكون الفائدة 7% أو 9% مثلاً، فيعجز المدين عن سداد الدين، فتضاعف عليه الفائدة في العام الثاني والثالث وهكذا حتى تكاد الفائدة في النهاية تعادل أصل رأس المال وهذه هي الفائدة المركبة، والتي لا يتنبه لها القائلون بفوائد البنوك المقللون لمقدارها والمبيحون لها، بل إن هذه الفوائد أسوأ من ربا الجاهلية.(5/397)
رابعها ـ تحريم الربا تحريماً قطعياً ووصف المرابين بالتعرض لحرب الله ورسوله، في قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطانُ من المسّ، ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، وأحلَّ الله ُ البيعَ، وحرَّم الرِّبا، فمن جاءه موعظة من ربه، فانتهى فله ما سلف، وأمرُه إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يمحق الله ُ الربا ويُرْبي الصدقات، والله ُ لا يحبُّ كلَّ كفَّارٍ أثيم} [البقرة:275/2-276] ثم قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذرُوا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وإن تبتم، فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:278/2-279] .
ثم جاءت الأحاديث الكثيرة، كالحديث المتفق عليه عن أبي هريرة الذي جاء فيه أن أكل الربا من السبع الموبقات الكبائر، وحديث أسامة بن زيد عند مسلم وغيره «إنما الربا في النسيئة» أو «لا ربا إلا في النسيئة» وحديث ابن مسعود وجابر عند أبي داود وغيره: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه» وحديث ربا البيوع بتحريم الربا في الأصناف الستة ـ أي وأمثالها ـ عند مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثْلاً بمِثْل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» قال الجصاص في كتابه (أحكام القرآن: 467/1) : «هو عندنا في حيز التواتر، لكثرة رواته، واتفاق الفقهاء على استعماله» وحديث ابن مسعود عند الحاكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ... » .(5/398)
وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال الماوردي: «حتى قيل: إنه لم يحل في شريعة قط» لقوله تعالى: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء:161/4] يعني في الكتب السابقة.
الربا الحرام: والربا المحرم في الإسلام نوعان:
أولهما ـ ربا النسيئة الذي لم تكن العرب في الجاهلية تعرف سواه، وهو المأخوذ لأجل تأخير قضاء دين مستحق إلى أجل جديد، سواء أكان الدين ثمن مبيع أم قرضاً.
وثانيهما ـ ربا البيوع في أصناف ستة، ذكرها حديث عبادة المتقدم، وهو المعروف بربا الفضل، وقد حرم سداً للذرائع، أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة أو ربا القرض، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل، ثم يؤدي فضة بقدر زائد، مشتمل على الربا. وهذا هو ربا النَّساء في البيوع، فهو كل تأخير أو تأجيل في أحد البدلين في أصناف معينة يحصرها الطُّعم لدى الشافعية أو القوت والادخار في المطعومات لدى المالكية، أو الثمنية في النقدين في مذهبي المالكية والشافعية، أو الكيل والوزن في مذهبي الحنفية والحنابلة. فربا النسيئة زيادة مع زمن، وربا النَّساء زمن بلا زيادة، وربا الفضل زيادة بلا زمن. ولا ربا ببيع كمية حنطة بكمية شعير مثلاً مع التفاوت في المقدار كيلاً أو وزناً، بشرط التقابض في مجلس العقد، كما لا ربا ببيع مطعومات أو مواد استهلاكية يتأجل دفع ثمنها إلى شهر مثلاً بالنقود الورقية الحالية لاختلاف الفئة بين مطعوم ونقد. ولكن يوجد الربا بتبادل كيلو حنطة يدفع الآن بكيلو حنطة يدفع بعد شهر مثلاً، لاتحاد الجنس، وكذلك يوجد الربا عند شراء الحلي من الصواغ بنقود ورقية إذا تأجل دفع الثمن كله أو بعضه لأجل في المستقبل.(5/399)
ليست كل زيادة من الربا، وإنما الزيادة في أموال مخصوصة، والزيادة المشروطة في القرض أو جرى عليها العرف حرام، أما التبرع برد الزيادة عند وفاء القرض دون شرط ولا عرف متعارف عليه، فليس حراماً، فلا يصح القول بأن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يربي حينما قال: «خيركم أحسنكم قضاء» .
ربا المصارف:
وربا المصارف أو فوائد البنوك: من ربا النسيئة، سواء أكانت الفائدة بسيطة أم مركبة، لأن عمل البنوك الأصلي الإقراض والاقتراض، فتدفع للمقرض فائدة 4% أو 5% وتأخذ فائدة من المقترض 9% أو 12%، ولا يصح القول بأن البنك مجرد وسيط بين المودع والمقترض، يأخذ عمولة مقابل وساطته، لأن البنك ممنوع من القيام بنشاط استثماري، ولا يتقاسم المودع مع البنك الربح والخسارة، ولا يتقاسم البنك مع المقترض في مشروعه الأرباح والخسائر، والنسبة مع الطرفين محددة مشروطة سلفاً سواء بالنسبة للمودع أو المقترض، وإن مضار الربا في فوائد البنوك متحققة تماماً، وهي حرام حرام حرام كالربا وإثمها كإثمه، لقوله تعالى: {وإن تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم} [البقرة:279/2] وقد أصبح الربا في عرف الناس اليوم لا يطلق إلا على ربح المال عند تأخيره، وهو مشابه لربا الجاهلية المضاعف مع مرور الزمن. فربا النسيئة الواقع في عقدي الصرف والقرض هو الواقع الآن، كشراء نقد، (دولارات) بنقد (دراهم) دون تقابض، واقتراض أو استلاف دنانير على أن يرد زيادة عليها بنسبة معينة 5% مثلاً، أو مبلغاً مقطوعاً كمئة دينار أو ألف. وأما ربا الفضل فهو نادر الحصول، لكنه حرام سداً للذرائع إلى ربا النسيئة.(5/400)
ويكون تحريم ربا المصارف بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما القول بأن «كل قرض جر نفعاً» ليس حديثاً فهو صحيح، ولكن ذلك ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم نهوا عن قرض جر نفعاً، ونهيهم مستمد من السنة النبوية وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» والسلف هو القرض في لغة الحجاز، مثل أن يقرض شخص غيره ألف درهم على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر، والزيادة حرام كما تقدم إذا كانت مشروطة أو متعارفاً عليها في القرض، فإن لم تكن مشروطة ولا متعارفاً عليها فلا بأس بها، ويمكن فهم قاعدة «كل قرض جر نفعاً فهو ربا» على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره.
وكذلك إيداع المال في المصارف والتعاقد على أن تدفع منها ضرائب الدولة أو تؤخذ الفوائد وتدفع للفقراء حرام أيضاً، لأن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً، جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يكتسب عبد مالاً من حرام، فينفق منه، فيبارك فيه، ولا يتصدق به، فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ولكن لو كان المال مودعاً في بنوك دولة أجنبية، وسجلت له نظامياً فوائد، فلا مانع كما جاء في فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في الستينات ونشرتها مجلة الوعي الإسلامي من أخذ هذا المال وصرفه في مصالح عامة في ديار المسلمين كتعبيد الطرق وبناء المدارس والمشافي ولا تترك للأجانب يتقوون بها علينا، أوتبنى بها الكنائس، وهذا من قبيل (اختيار أهون الشرين) و (الأخذ بأخف الضررين) .(5/401)
الفوائد في قوانين الدول العربية:
تتفاوت عبارات القوانين في البلاد العربية بالنص على تحريم الفوائد أو إباحتها من الناحية النظرية الظاهرية فقط، ولكن لا تخلو دولة عربية مع الأسف الشديد من إقرار النظام المصرفي والتعامل بالفائدة. فهناك اتجاه يجيز الفائدة مطلقاً كمجلة الالتزامات والعقود التونسية وقانون الموجبات والعقود اللبناني، ففيهما النص على سريان الفائدة من تاريخ الإعذار، وليس للفائدة حد أقصى، وهكذا فعلت تركيا حيث أطلقت حديثاً على لسان رئيس الوزراء الحالي حرية أسعار الفائدة، واتجاه ثان يجيزها بقيود كالقانونين المدني المصري والسوري حيث جاء فيهما: لا يجوز أن تتجاوز الفائدة رأس المال ولا أن تتجاوز الحد الأقصى ولا تسري إلا اعتباراً من المطالبة القضائية، وقد نص القانون المصري (م 226) ومثله العراقي (م 171) على الفائدة 4% في المسائل المدنية و 5% في المسائل التجارية كالقانون المغربي (م 870) الذي نص على أن اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه، والقانون المدني الجزائري لعام 1975 (م 455، 456) الذي نص على أن القرض بين الأفراد يكون دائماً بدون أجر، ويقع باطلاً كل نص يخالف ذلك، ولكنه أجاز التعامل بالفائدة للمؤسسات المالية (البنوك) في حال إيداع أموال لديها، وكذلك القانون الليبي رقم 74 لعام 1972 (م 1 الذي أباح الفائدة بين الأشخاص الاعتباريين (كالدولة) ومصارفها، وحرمها على الأشخاص الطبيعيين الأفراد العاديين. وهذه تفرقة ليست في شرع الله ولا دينه، فلا فرق في التحريم بين الفرد المسلم والدولة، والخطاب الشرعي للجميع، وإلا جاز للدولة باعتبارها شخصاً معنوياً كل ما حرمه الإسلام من الظلم والغبن والقتل بغير حق وأكل الأموال بالباطل، وقد قال أبو يوسف رحمه الله للخليفة هارون الرشيد في كتاب الخراج «لايجوز لولي الأمر أن يأخذ شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف» .(5/402)
ومن هذا الاتجاه القانون الأردني (بموجب نظام المرابحة العثماني 1304 هـ مارس 1903م) حيث نص على حد أقصى للفائدة 9% ونص القانون المدني الأردني (م 640) على بطلان شرط المنفعة في القرض وصحة العقد. وكذلك المعمول به في دولة الإمارات، الذي سوِّى فيه بين المعاملات المدنية والتجارية في قانون الاجراءات المدنية لإمارة أبو ظبي، وقضت المحكمة الاتحادية العليا في تفسيرها رقم 14 لسنة 1979 بدستورية نص المادتين 61، 62 من هذا القانون، إلا أنه لا يجوز أن يزيد سعر الفائدة التي تحددها المحكمة عن السعر الذي اتفق عليه الأطراف أو تعاملوا به في أي مرحلة قبل رفع الدعوى، ونص القانون الإماراتي (م714) على بطلان شرط المنفعة الزائدة في القرض وصحةالتعاقد. لكن نص قانون العقوبات لدولة الإمارات في المادة (409) على أنه «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبالغرامة التي لا تقل عن ألفي درهم كل شخص طبيعي تعامل مع شخص طبيعي آخر بربا النسيئة في أي نوع من أنواع المعاملات المدنية والتجارية، ويدخل في ذلك كل شرط ينطوي على فائدة ربوية صريحة أو مستترة» وهذا يعني بالمفهوم المخالف إعفاء الأشخاص الاعتبارية (البنوك) من العقوبة.
أما القانونان المدنيان في كل من السودان (م1/279، 281) والكويت (م1/547) فقد نص كلاهما على منع الربا أو الفائدة ظاهراً. «يكون الإقراض بغير فائدة، ويقع باطلاً كل شرط يقضي بغير ذلك» لكن نص القانون التجاري في الكويت (م 102) على أن «للدائن الحق في اقتضاء فائدة في القرض التجاري» وكان العمل على هذا أيضاً في السودان، والسعودية وغيرهما.(5/403)
شبهات القائلين بإباحة فوائد البنوك:
1 - يزعم المبيحون للفوائد المصرفية (البنكية) أنها ليست أضعافاً مضاعفة، وإنما هي نسبة قليلة 4% أو 7% أو 9%، فلم يشملها النص المحرم للربا: «وحرَّم الربا» وليست مما عهدته العرب. والرد على ذلك أن الربا في الآية ليس هو ربا العهد المذكور في سورة آل عمران فحسب، وهو ربا الجاهلية المضاعف، بل كل ما ذكر في القرآن والسنة الثابتة المفصلة لأنواع الربا وهي ربا الفضل وربا النسيئة الشامل لربا البيوع وربا القروض، وليس مجرد الربا المضاعف، وإنما كل زيادة قليلة أو كثيرة، لقوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} [البقرة:279/2] وأكد الله تعالى هذا مباشرة بقوله: {لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمُون} [البقرة:279/2] كما أن اللام في قوله تعالى: {وحرم الربا} [البقرة:275/2] للجنس، أي حرم جنس الربا، ثم أبانت السنة النبوية في الأحاديث الصحيحة المراد من هذا الجنس، أي الزيادة في أموال مخصوصة، وعقود معينة هي البيع والقرض والصرف، لكن الفقهاء اختلفوا في علة الربا بين موسع ومضيق ومتوسط، والفريق الأول هم الحنفية والحنابلة الذين جعلوا العلة هي الكيل والوزن، فشمل الربا كل ما يباع كيلاً كالقمح والشعير، وكل ما يباع وزناً كالقطن والحديد، والذهب والفضة.(5/404)
والفريق الثاني هم المالكية الذين حصروا علة ربا المطعومات في القوت والادخار أي كل مقتات غالباً قابل للادخار مدة سنة مثلاً، أي لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن لا حد لها في ظاهر المذهب، وإنما بحسب الأمد المبتغى منه عادة في كل شيء بحسبه، فالمرجع فيه إلى العرف، والفريق الثالث وهم الشافعية الذين جعلوا العلة هي الطُّعْم وهو يشمل كل مايتناول الإنسان اقتياتاً أوتفكهاً أو تداوياً، واتفق الفريقان الثاني والثالث على أن العلة في النقدين وما يحل محلهما من النقود الورقية هي النقدية أو الثمنية، أي كونهما ثمناً للأشياء. ليست العلة في الربا هي الاستغلال والظلم وإنما هذه حكمة لا يربط الحكم الشرعي بها، ولا يصح القياس عليها لعدم انضباطها واختلافها من شخص لآخر، حتى يقال بأنه إذا لم يتوافر الاستغلال والظلم، كالقروض الإنتاجية لإصلاح أرض أو إقامة مصنع أو تشييد بناء أو غير ذلك من مختلف مجالات الإنماء، كانت الفائدة أي الربا جائزة. ثم إن ربا المصارف كما تقدم يصبح بنظام الفائدة المركبة من ربا الأضعاف المضاعفة، وليس صحيحاً ما ينقل عن ابن عباس أنه كان يحرم فقط ربا الجاهلية، ولا يحرم ربا الفضل وربا النسيئة حسبما زعم السنهوري.(5/405)
2 - يزعم المبيحون أيضاً بأن لفظ «الربا» في الشريعة مجمل، عرف العرب بعضه ولم يعرفوا البعض الآخر، ويؤيدون رأيهم بقول عمر رضي الله عنه: «أن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا الربا الريبة» . وهذا خطأ لأن الشريعة تتمثل بالقرآن والسنة الصحيحة، والقرآن حرم جنس الربا، بدليل آخر قول عمر: «فدعوا الربا والريبة» وجاءت السنة الثابتة بمجموع الأحاديث الصحيحة مبينة المراد من قوله تعالى: {وحرَّم الربا} [البقرة:275/2] واعتبر النبي صلّى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر المتأخر حدوثه (وهو سنة سبع بعد الحديبية) مبادلة الصاع الجيد من التمر بالصاعين من الرديء «عين الربا» مما يدل على وجود هذه المعاملة بين العرب، وأنها بيع في ظنهم، فكان إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلم دالاً على أن ذلك العقد ربا حرام وليس بيعاً حلالاً، كما أن لفظ الربا الوارد في القرآن شامل لهذا النوع من المعاملة. وعلى هذا فلا يصح القول بحصر الربا بربا الجاهلية (الأضعاف المضاعفة) ، وبأن غيره من أنواع الربا مشكوك في حرمته، وإن اعتبرناه حراماً فهو أقل حرمة من ربا الجاهلية، كما يقول السيد رشيد رضا.(5/406)
3 - يزعم بعض المعاصرين كالدكتور معروف الدواليبي أن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية أي التي يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدونها أضعافاً مضاعفة، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون للتشغيل في مشروعات إنتاجية صناعية أو تجارية أو زراعية تدر عليهم ربحاً وفيراً، فليست الفائدة المؤداة ربا محرماً لعدم توافر معنى استغلال حاجة المحتاج. ويلاحظ أن أول من أعلن هذا في أسبوع الفقه الإسلامي عن الربا سنة 1951 م في باريس قد تأثر بالنظريات الرأسمالية وبالفكر اليهودي. وقد رددت على هذا بأن الحكم الشرعي يرتبط بالعلة المنضبطة لا بالحكمة المضطربة المختلفة من شخص لآخر، وربط الربا بالاستغلال والظلم بيان للحكمة التشريعية لا لعلة الحكم. ثم إن الشريعة بنصوصها القاطعة حرمت كما تقدم جنس الربا، ولم تفرق بين قرض استهلاكي وقرض إنتاجي، كما أن الإسلام حرم كل أنواع الربا مبتدئاً بالموسرين كالعباس.(5/407)
4 - يزعم هؤلاء المبيحون بأن الفائدة في القروض الإنتاجية تقتضيها مصلحة متحققة فتجوز ولو عارضتها مفسدة، والقاعدة المنقولة في مقال العربي السابق عن عالم أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت المصلحة، وتتمثل المصلحة هنا في توظيف الأموال لمضاعفة الدخل القومي، وفتح مجالات العمل أمام العمال، وإفادة كل من المقرض والمقترض. أما المفسدة فهي الربا فقط. وهذا خطأ بيِّن لأن القاعدة الشرعية الصحيحة أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وأن المصلحة يعمل بها إذا لم تعارض النص الشرعي، ومجال العمل بالمصلحة عند فقدان الدليل من نص أو إجماع أو قياس، وأن مفاسد القروض الإنتاجية أكثر وأخطر من المصالح الوهمية المشار إليها، لأن المنتج يضيف مقدار الفائدة على تكاليف الإنتاج التي يتحملها المستهلك في نهاية الأمر، ولأن ارتفاع سعر السلع فيه مضرة بمجموع الناس، ولأن الفائدة الربوية تسخر العمل لخدمة رأس المال دائماً، ولأن إقراض الموسرين يحصر الثروة في أيديهم، ويؤدي إلى التضخم النقدي والتفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء.
5 - يزعم المبيحون بأن المصارف (البنوك) في العصر الحديث ضرورة اقتصادية لا يستغنى عنها، وهذا أيضاً تمويه وخداع، فإن النظام الاشتراكي لا يقر نظام الفوائد المصرفية، كما أن نجاح المصارف الإسلامية التي زادت عن خمسين مؤسسة في عصرنا، في غضون ثلاث عشرة سنة فقط برهان واضح على إمكان قيام نظام اقتصادي خال من الفوائد البنكية أو المصارف الربوية. ولايصح القول أيضاً بأن فوائد المصارف مما تعارف عليها الناس، والعرف مصدر تشريعي؛ لأن هذا عرف فاسد مصادم للنصوص الشرعية.(5/408)
6 - إن تسويغ (تبرير) الربا بالتضخم النقدي أي بجعل الفائدة تعويضاً عن القيمة المفقودة من النقد غير صحيح، لأن الفائدة في الحقيقة هي سعر استعمال النقدية مع مرور الزمن، وليست تعويضاً عن فقد قيمة النقد، كما أن الربا من مسببات التضخم فعلاً، وليس نتيجة له، كما يقرر الاقتصاديون.
7 - إن من مظاهر انحطاط الفكر ودواهي العلم أن يقال: (إن الأوراق النقدية لا توزن، فلا تعتبر من الربويات، بل تأخذ حكم العروض التجارية) ، أو يقال: إن الأوراق النقدية كالفلوس لايجري فيها الربا. وهذا جهل واضح بحقيقة النقود، فإنها ثمن اصطلاحي للأشياء، سواء أكانت معادن أم أي شيء آخر، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين» (نيل الأوطار: 303/5) والفلوس ليست لها قوة النقود ولا بديلاً عن النقود، وإنما هي كالسلع التجارية، فلا تقوَّم بها السلع والأعيان وإنما تقوَّم بالذهب والفضة، وكان سلخ وجود صفة الربا فيها لتفاهتها، كتفاهة بيع الحفنة بالحفنتين، والتفاحة بالتفاحتين، وإنما سمح بتداولها في الماضي لتسهيل شراء ما رخص ثمنه من الحاجيات.
8 - أن الفائدة البنكية المعطاة لصاحب المال، المحددة بمقدار معين حرام، لأنها قدر مقطوع لا زيادة فيها ولا نقص ولا تتأثر بحقيقة الأرباح، ولا تساهم في تحمل شيء من الخسارة إذا قيل: إنها عائد استثمار رأس المال المودع في المشروعات الاستثمارية من صناعة وتجارة وزراعة وغيرها.(5/409)
وعلى هذا فلا يصح القول خلافاً لما جاء في مقال مجلة «العربي» السابق وغيره من الفتاوى الضالة بإباحة أرباح صناديق التوفير التي تعتمدها بعض الحكومات لتشجيع الناس على الادخار، ولا القول بإباحة أرباح شهادات الاستثمار المصرفية حيث يودع بعض الناس أموالهم، ويحصلون على شهادات أو صكوك بقيمتها، تحقق أرباحاً أو جوائز بعد فترة زمنية معينة؛ لأن هذه الصناديق والشهادات ما هي إلا قرض جر نفعاً، وليست عارية؛ لأنه يجب رد العين المعارة بذاتها، ولأن عارية النقود قرض، ولا وديعة، لأن الودائع لا يجوز للوديع تشغيلها، فإن استعملها ضمنها، وليست هي أيضاً من قبيل شركات المضاربة بتقديم رأس المال من جانب والعمل من جانب آخر؛ لأن المصارف تحدد نسبة معينة من الربح بمقدار نسبة رأس المال، لا بحسب نسبة الربح الفعلي، مما يجعل المعاملة ربا نسيئة، والمضارب في شركة المضاربة شريك لرب المال، والشريك لا يضمن إلا بالتعدي أو بالتقصير في العمل، مع أن رأس المال مضمون من قبل المصرف كالمقترض تماماً، فإنه ضامن بالشرط والتعهد والاتفاق لا تبرعاً لما يقترضه من مال. ثم إنه لا بد من الاشتراك في الربح دون تحديد نسبة مقطوعة، وتكون الخسارة على رب المال في المضاربة، ولا خسارة على أصحاب هذه الأموال، وقد يقرض المصرف بعض الأموال المودعة لديه، وليس هذا جائزاً في المضاربة. ولا يجوز تخصيص حظ معين، لأنه قد أجمع الفقهاء في الشركات وعقود استثمار الأراضي (المساقاة، والمزارعة، والمغارسة) على عدم جواز تخصيص مقدار مقطوع من الربح أو الغلة والناتج لوجود الغرر، أي احتمال وجود ربح أو عدم وجوده، واحتمال تفاوت نسبة الربح، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج نهى عن كراء الأرض بما على السواقي وأمر بكرائها بذهب أو ورق (فضة) معين. ولا عبرة لما يقال بأن المشروع رابح دائماً، وأن الخسارة نادرة فتكون غرراً يسيراً لا يبطل العقد فإن الكلام في مقدار(5/410)
الغرر، ومقدار الغرر فاحش، وليس الكلام في ندرة وقوعه أو عدم وقوعه، لأن الخسارة للمصرف إذا حدثت تكون فاحشة وليست يسيرة.
والكلام عن الغرر يقتضينا الإشارة إلى أن مقال العربي السابق الذي ينقل عن عالم جواز التأمين على الحياة خطأ أيضاً، لأنه بالرغم مما يقال عن أن نسبة الاحتمال أو الغرر في شركات التأمين تخضع لحسابات دقيقة، وهي يسيرة مسموح بها، فهو كلام مناقض للواقع، لأن مقدار الغرر فاحش، واحتمال حدوث الحادث أو عدم حدوثه بيد الله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس، بأي أرض تموت، إن الله َ عليمٌ خبيرٌ} [لقمان:34/31] .
والخلاصة:
إن فوائد المصارف حرام شرعاً بنص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والأمة، والقول بإباحتها مصادم بداهة للأدلة الشرعية كلها النصية (القرآن والسنة) والاجتهادية (كالإجماع والقياس) ولا عبرة بقول من غير فقه وورع، أو جهل بحقيقة أعمال المصارف.
هذا مع العلم بتناقض فتاوى مفتي مصرالدكتور سيد طنطاوي حيث صدرت له فتاوى سابقة تصرح بتحريم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار (1) .
__________
(1) انظر كتاب الدكتور محمد علي السالوسي «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» وكتابه أيضاً «حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي» جزاه الله خيراً حيث دافع بورع وحق عن حياض شرع الله القائم على تحريم الفوائد وكل ربح ثابت.(5/411)
أحكام التعامل مع المصارف الإسلامية
المصرف الإسلامي: هو مؤسسة مالية تقوم بتجميع الأموال واستثمارها وتنميتها لصالح المشتركين، وإعادة بناء المجتمع المسلم، وتحقيق التعاون الإسلامي، على وفق الأصول الشرعية.
وأهم تلك الأصول: اجتناب المعاملات الربوية والعقود المحظورة شرعاً، وتوزيع جميع الأرباح بحسب الاتفاق دون استغلال حاجة المضطر أو المحتاج، ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن، والدعوة إلى الإسلام اقتصادياً واجتماعياً.
مميزات المصارف الإسلامية:
تمتاز المصارف الإسلامية عن المصارف التجارية الربوية القائمة على أساس الفائدة المصرفية إيداعاً وإقراضاً، بميزات واضحة، مستمدة من الشريعة الإسلامية وفقهها الخصب غير الملتزم بمذهب معين، بحيث يمكن أن تحقق هذه التجربة نجاحاً ملحوظاً بارزاً، تستطيع به الصمود أمام المصارف الأخرى، ومنافستها، وإقناع المسلم بأنها قادرة على تلبية حاجاته، وتحقيق مطالبه في ظل أحكام القرآن، والحد من غطرسة النظام الرأسمالي القائم أساساً على الاستغلال والطبقية والفائدة الربوية.
وأهم هذه الميزات التي يبين منها أوجه الفرق بين المصارف الإسلامية والمصارف التجارية هي ما يأتي:
1 - ارتباطه بالعقيدة الإسلامية: المسلم في كل تصرفاته ملتزم بأصول الحلال والحرام في شريعته، فهو يقْدم على الحلال الواضح المعالم الذي يطمئن إليه قلبه، ويجتنب الحرام الذي يمنعه دينه ويحظره عليه شرعه، فلا يجرؤ على مخالفة حكم من أحكام قرآنه وسنة نبيه، وقد نص القرآن الكريم على تحريم الربا تحريماً قطعياً أبدياً، سواء أكان ربا نسيئة ومنها ربا المصارف، أم ربا فضل، وسواء أكان الربا في البيع أم في القرض، وسواء أكان القرض استهلاكياً أم إنتاجياً.(5/412)
وذلك في قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة:275/2] أي حرم جنس الربا بمختلف أنواعه، وأنذر تعالى بمحق فوائد الربا فقال: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة:276/2] وأوجب تعالى ترك كل آثار الربا وتصفيته ولو كانت الفائدة قليلة مثل 1% بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة:278/2] وأعلن الحق تبارك وتعالى الحرب والعداوة على أكلة الربا، فقال: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تَظْلمون ولا تُظلمون} [البقرة:279/2] وهذا أشد عقاب في الإسلام، وأدل على أن الربا أشد الأحكام حرمة وأفظعها وأشنعها جرماً عند الله تعالى، لاستحقاقه عداوة الله والرسول.
وينبني على قاعدة الحلال والحرام هذه أنه لا يجوز للمصرف الإسلامي إنتاج أوتمويل أو استيراد أو تصنيع السلع المحرمة شرعاً كالخمر، أو التعامل بالربا، أو الاحتكار، أو التغرير أو الغش في التعامل. أما المصارف الربوية فتعتمد على الفائدة أخذاً وعطاء، وعلى دعم الاحتكارات.
ويتعين على المصرف الإسلامي توجيه الموارد واستثمارها في مجال السلع والخدمات المشروعة دون إسراف.
ويراعي المصرف في مشروعاته حاجات المسلمين ومصلحة الأمة.
2 - الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر: إن مبدأ الإخاء الإسلامي يوجب على عاملي المصرف الإسلامي الأخذ بيد المسلم لإنقاذه من عسر أوضيق طارئ أو أزمة ألمت به، فلا إرهاق ولا إعنات في المطالبة، ويعتمد في معاملته النصح والإرشاد، والأمانة والصدق، والإخلاص والتسامح، ويتعامل بالقرض الحسن، ويمهل المدين الغريم عند العسر، أخذاً بنظرية الميسرة المقررة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى مَيْسَرة، وأن تصدَّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/2] .(5/413)
أما المصارف التجارية غير الإسلامية فنظرتها مادية محضة، لا تعنى بالأخلاق، ولا ترعى ظروف المقترض، وإنما يهمها مصلحتها وتحقيق أرباحها، بغض النظر عن أوضاع العميل مع المصرف، فإذا لم يقم بتسديد ما عليه من فوائد متراكمة تبادر إلى الحجز على ممتلكاته التي قدمها رهناً بالقرض.
3 - النزعة الاجتماعية الإنسانية: إن هدف المصارف الربوية هو الربح، وتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما هدف المصارف الإسلامية هو التعاون، ودرء الضرر، ودفع الحاجة، من طريق القروض الحسنة التي لا تأخذ فائدة عليها، وصرف الزكاة إلى الأسر الفقيرة، وطلبة العلم، وبناء المساجد، ودعم الجمعيات الخيرية التي تعنى برعاية الفقراء طعاماً وغذاء وكساء ومأوىً وعلاجاً، وبتحفيظ القرآن، وإعداد الجيل على منهج التربية الإسلامية في سيرتها السلفية الأولى، مع الأخذ بما تقتضيه المعاصرة والحداثة والتطور النافع المفيد.
وتعنى المصارف الإسلامية بربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية في أُطر متوازنة وتنسيق متكامل صحيح، فيسير العمل من أجل توفير الرخاء الاقتصادي، مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بآداب الإسلام وقِيَمه وأخلاقه الاجتماعية في كل مناحي الحياة ومسيرة المعاملات، فلا غش ولا خداع، ولا تغرير ولا تدليس، ولا مقامرة ولا غبن في المعاملات، منعاً لأكل أموال الناس بالباطل، وحفاظاً على شيوع روح الود والحب والطمأنينة، ومنع المنازعات بين الناس، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار في الحياة والأوطان الإسلامية، وتقوية وازع الدين، وخشية الله تعالى ورقابته في السر والعلن، حتى يكون المواطن عضواً أميناً صالحاً منتجاً، يعمل بوحي من دينه وضميره الذي لا رقيب عليه إلا الله تعالى، ويتقن أعماله ويضاعف جهوده في الإنتاج، والتصنيع، وتحسين الثمار والزروع وغير ذلك من الأنظمة الاقتصادية وتقوية التجارة القائمة على الثقة، وإفادة الأمة الإسلامية.(5/414)
4 - المساواة بين طرفي التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار: لا تعرف المصارف الربوية هذه المبادئ، وإنما المهم تشغيل الأموال بمعرفة إدارة المصرف، وإعادة الإقراض إلى غير المودعين بسعر فائدة أعلى من سعر فائدة الودائع. بينما المصارف الإسلامية لا غموض فيها، وكل أعمالها واضحة، ويهمها توفير ثقة المتعاملين مع إدارة المصرف، ولا تعتمد على الإقراض بالفائدة، وتلتزم بعقد المشاركة (شركة العنان في الفقه الإسلامي) مع العميل أو صاحب رأس المال، فيساهم الشريك والمصرف في رأس المال والإدارة، ويقسم الربح بنسبة يتفقان عليها بالتراضي مقدماً. أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال، إلا إذا كانت الخسارة بسبب التعدي أو التقصير.
وفي مجال تشغيل الأموال أو استثمارها يعتمد المصرف على نوع آخر من الشركات هو شركات القراض أو المضاربة التي يقدِّم فيها المصرف كل التمويل، بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة والعمل، وفقاً لشروط محددة يعينها المصرف حسبما يعرف في الفقه الإسلامي بالمضاربة المقيدة. ويحدد نصيب المضارب في الربح بالتراضي بين الجانبين مقدماً، أما الخسارة فيتحملها المصرف وحده، ويفقد الشريك المضارب مجهوده الذي بذله في إدارة المشروع، ما لم تكن الخسائر بسبب التعدي أو التقصير.
أما في نطاق الاستيراد كشراء السيارات والسلع التجارية سواء من داخل البلاد أو خارجها، فيلجأ المصرف الإسلامي إلى نوع من البيوع يسمى بيع المرابحة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح، وهو من بيوع الأمانة، فإن ظهرت خيانة كان للمشتري الخيار بنقض الصفقة. ويستطيع المصرف أن يأخذ ربحاً معقولاً على شراء السلعة، سواء أكان البيع حالا (نقدياً) أم مقسطاً أم مؤجلاً لأجل معين، ويجوز في رأي جمهور الفقهاء أن يكون سعر التقسيط أو المؤجل أعلى من السعر الحالّ أو النقدي، بشرط تحديد السعر تحديداً نهائياً عند الاتفاق على البيع.(5/415)
ويمكن للمصرف بناء بيت أو منزل في أرض بمبلغ معين يراعى فيه التكاليف زائداً الربح، يدفع عند التسليم، أو على أقساط يتفق عليها، ولا مانع من اختلاف الثمن باختلاف الأجل.
أما التحاويل والحوالات التي هي وسائل تؤدي إلى سداد مبالغ نقدية في داخل البلد أو خارجه، فيجوز شرعاً وكما هو معمول به في المصارف التجارية أن تكون بأجر أو بغير أجر.
وأما خطابات الضمان (وهي التعهدات الكتابية التي يتعهد بمقتضاها المصرف بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول) فهي كفالة جائزة شرعاً. أما أخذ المصرف الأجرة على هذه الكفالة فيجوز إذا كان خطاب الضمان بغطاء كامل أو جزئي (أي بتعهد بالدفع الكلي أو الجزئي ويرصد مقابلها ما يوازيها) ؛ لأن العقد هنا عقد كفالة ووكالة معاً: كفالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع الطرف الثالث ووكالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع العميل.
ولا يجوز للمصرف أخذ الأجرة إذا كان خطاب الضمان بغير غطاء (أي لا يرصد مقابله شيء) لأن العقد هنا عقد كفالة، ولايجوز أخذ الأجر على الكفالة؛ لأنها من عقود التبرعات، وأخذ الأجر على ذات الضمان غير جائز عند جمهور الفقهاء، خلافاً لما عليه المصارف التجارية من أخذ عوائد على خطابات الضمان التي تصدرها. وهذا الحكم الشرعي هو ما أخذ به المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية، وهيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني. وأجازت هذه الهيئة أخذ أجر حالة الكفالة المجردة شريطة أن يكون محسوباً نظير ما يقوم به البنك من خدمة فعلية يتكبدها في سبيل إصدار خطاب الضمان، من غير أن يمتد ذلك إلى الضمان نفسه.(5/416)
5 - مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل:
الاسترباح في المصارف الإسلامية يعتمد على تشغيل رأس المال والعمل من جانب المصرف أو وكلائه، فلا يحقق إيداع المال نظير فائدة ثابتة، وإنما صاحب رأس المال شريك بناء على شركة العنان أو شركة المضاربة، ويجوز اجتماع شركة المضاربة مع شركة أخرى كشركة العنان، كما يجوز تعدد أرباب المال وتعدد المضارب، فللمضارب الواحد أو جماعة المضاربين الاشتراك مع آخرين في شركة عنان. والمضاربة مبنية على الأمانة، فلا يجوز أن يضمن المضارب المال، وإلا فسخ العقد.
ويطبق المصرف مبدأ المضاربة المطلقة فيما يتعلق بالودائع الاستثمارية، والمضاربة المقيدة فيما يتعلق بعمليات الاستثمار. أما المستفيد من المصارف فيقترض منها بالقرض الحسن الذي لا فائدة فيه، ومصدر أموال القروض من بعض مؤسسي المصرف؛ لأن الفقهاء اتفقوا على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، أي اشترط فيه النفع وهو الربا أو الفائدة أو المنفعة كالسكنى في بيت الغريم المدين. ولا يجوزفي أي تعامل للمصرف أن ينص على دفع فائدة منه أو إليه، وليس له أخذ فائدة مقابل دفع مبلغ مؤجل حالاً؛ لأن ذلك ربا حرام داخل في قاعدة «ضع وتعجل» .
وبناء عليه لا يصح للمصرف في تعامله مع المصارف الأجنبية أن ينص على أخذ فائدة أو دفع فائدة، كأن يشترط المصرف الإسلامي على المصرف الأجنبي أن يقرضه عندما ينكشف حسابه نظير فائدة، والحل هو الاتفاق على إيداع المصرف الإسلامي مبالغ في المصرف الأجنبي لحسابه من غير فائدة، وإذا احتاج المصرف الإسلامي تغطية عجزه، لا يدفع فائدة للمصرف الأجنبي إذا صار دائناً له، وقد قبلت المصارف الربوية هذا التعامل.
ويلاحظ أن المصارف التجارية لا تتعامل مع عملائها أو مع المصارف الأخرى إلا بفائدة ربوية في حالتي الأخذ والعطاء. ونظام الفوائد سلباً وإيجاباً يؤدي إلى تضخم التكاليف: وارتفاع الأسعار؛ لأن كل فائدة تضم في النهاية على سعر السلعة، ويدفعها المستهلك مع ثمن البضاعة.(5/417)
وهناك عبء إضافي ثقيل على المقترض من المصارف الربوية وهو مضاعفة الفائدة أو ما يسمى بالفائدة المركبة مع مرور الزمن ومضي السنوات، وإذا عجز عن تسديد هذه الفوائد وهو الغالب، فإن أرضه أو بستانه أو منزله الذي قدمه رهناً سيباع بالمزاد العلني، ويأخذ المصرف من الثمن كامل حقه غير منقوص.
ًً6 - سعة رقعة التعامل مع العملاء:
ليس كل أحد يستطيع التعامل مع المصارف التجارية الربوية، وإنما الأمر مقصور غالباً على الأغنياء، فتعطى القروض لكبار العملاء والذين يستطيعون تقديم ضمانات عقارية أو عينية كالبضائع والمعدات والآلات.
أما المصارف الإسلامية فتتعامل مع جميع الناس، حتى أبسط الحرفيين وصغار الكسبة وصغار التجار، وحديثي التخرج من الجامعات، فتمول المشروعات الصغيرة، وتساعد في توفير المسكن والمأوى للشاب الذي يريد الزواج والاستقرار في حياته العائلية.
7 - العدالة في تقدير العمولة:
تتقاضى المصارف التجارية عمولة على جميع أوجه نشاط التعامل معها، أما المصارف الإسلامية فتتقاضى عمولة مطابقة تماماً للجهد المبذول أو السعي في تحقيق مصلحة العميل، فيأخذ المصرف النفقات الفعلية التي أنفقها على قرض معين بذاته، كما يأخذ مصاريف القرض الحسن مرة واحدة في بداية القرض، ومبلغاً موحداً على القرض غير مرتبط بقيمته. وبعض هذه المصارف مثل «بنك دبي الإسلامي» لا يأخذ أية مصاريف على القرض الحسن وإنما يأخذ فقط مبلغ القرض دون أي مصاريف أو زيادة.(5/418)
هل التعامل مع المصارف الإسلامية حلال أو حرام؟
يتبين مما تقدم أن المصرف الإسلامي يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته كلها، ويجتنب الحرام فيما يقوم به من مشاركة واستثمار وتنمية الأموال المدفوعة إليه، ويساهم في سد حاجة المحتاج عن طريق القروض الحسنة غير المقترنة بشرط دفع فائدة ربوية أو تحقيق منفعة على حساب المقترض، فليطمئن المسلم على سلامة تعامله مع المصارف الإسلامية شرعاً أخذاً وعطاء، إنتاجاً واستثماراً، على أساس المشاركة المنتهية بالتمليك أو المساهمة.
إذ من المعلوم شرعاً أن العقد الجائز يصح للإنسان المسلم إبرامه، والأصل في المعاملات والعقود: الإباحة، وأما التعامل أو العقد المحظور شرعاً كالعقد الفاسد أو الباطل، مثل البيع المشتمل على الربا فيحرم الاقتراب منه، ويلزم اجتنابه، حتى ولو كان عقداً صحيحاً في الظاهر لكنه يستهدف غاية محظورة أو ممنوعة شرعاً؛ إذ من المبادئ الشرعية أو الأصولية: مبدأ سد الذرائع إلى الحرام، فكل ما أدى إلى الحرام أو كان وسيلة إليه، فهو حرام محظور شرعاً.
والإسلام يجيز كل ما يحقق حاجات الناس، ولا يحجر على أحد الربح المعقول شرعاً وهو ما كان دون الخمس أوالثلث، وربما اشتبه على بعض الناس الوقوع في معنى الحرام أو الربا في بعض المعاملات، وهذا صحيح، ولكن الإسلام يمنع التصريح بالربا أو اشتراط الفائدة، ولكنه لا يمنع التوصل إلى المقصود بأسلوب شرعي، فمثلاً البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل أكثر من السعر الحال أو النقدي، قد يقال: إنه حرام لما فيه من زيادة في السعر على الثمن الحالّ، ولكن فقهاء الإسلام أجازوه رعاية للحاجة، ولأنه لا يقصد به الاستغلال والتضييق على المضطر أو المحتاج، وإنما على العكس فيه رعاية لحاجة المشتري الذي لا يملك الثمن الكلي للسلعة، وهو بحاجة إليها.
والعمولة على الخدمات المصرفية قد يتوهم أنها فائدة أو ربا حرام، مع أنها أجر على عمل ما لم ينص صراحة على الفائدة، ومعظم الخدمات المصرفية التي يقوم بها المصرف للعملاء جائزة على أساس الإجارة والوكالة بأجر، والإجارة نوعان: إجارة منافع الأعيان، وإجارة الأشخاص، فإيجار الخزائن الحديدية أو المخازن تتضمن منافع الأعيان، وقيام موظفي المصرف بالعناية بهذه الأماكن يتضمن إجارة الأشخاص. وما عدا إيجار الخزائن الحديدية والاعتمادات المستندية من الخدمات المصرفية مثل كتابة الوثائق وتدوين الحسابات وفتحها وتشغيل الأموال ورصد الأرباح جائز أيضاً لا شبهة فيه.(5/419)
..........................................6..........................................
......................................بيوع الأمانة......................................
المرابحة والتولية والوضيعة
ذكرت سابقاً أن البيع ينقسم من ناحية البدل إلى خمسة أقسام:
1 - بيع المساومة: هو البيع بأي ثمن كان من غير نظر إلى الثمن الأول الذي اشتري به الشيء، وهو البيع المعتاد.
2 - بيع المرابحة: هو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة المرابحة كما ذكر المالكية: هي أن يعرِّف صاحب السلعة المشتري بكم اشتراها، ويأخذ منه ربحاً إما على الجملة مثل أن يقول: اشتريتها بعشرة وتربحني ديناراً أو دينارين، وإما على التفصيل وهو أن يقول: تربحني درهماً لكل دينار، أو نحوه (1) ، أي إما بمقدار مقطوع محدد، وإما بنسبة عشرية. وتعريفها عند الحنفية: نقل ما ملكه بالعقد الأول وبالثمن الأول مع زيادة ربح. وعند الشافعية والحنابلة: هي البيع بمثل رأس المال أو بما قام على البائع وربح درهم لكل عشرة ونحو ذلك، بشرط علم العاقدين برأس المال (2) .
3 - بيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الأول أي برأس المال من غير زيادة ربح، فكأن البائع جعل المشتري يتولى مكانه على المبيع.
__________
(1) راجع القوانين الفقهية لابن جزي: ص 263.
(2) مغني المحتاج: 77/2، المهذب: 382/1، ط ثالثة، المغني: 199/4، ط الرياض.(5/420)
4 - بيع الإشراك: هو كبيع التولية، إلا أنه بيع بعض المبيع ببعض الثمن.
5 - بيع الوضيعة: هو بيع بمثل الثمن الأول، مع نقصان شيء معلوم منه (1) .
بيع المرابحة:
بيع المرابحة عقد جائز شرعاً رخص في جوازه جماهير العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، إلا أنه في رأي المالكية خلاف الأولى أو الأحب. وأدلة الجواز ما يلي:
1ً - الآيات القرآنية الدالة بعمومها على مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/2] وقوله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] والمرابحة بيع بالتراضي بين العاقدين.
2ً - صح أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة، ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «ولّني أحدهما، فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: أما بغير ثمن فلا» (2) .
3ً - روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأساً بده يازده، وده دوا زده، أي كل عشرة ربحها درهم، وكل عشرة ربحها درهمان.
4ً - توافرت في هذا العقد شرائط الجواز الشرعية، والحاجة ماسّة إلى هذا النوع من التصرف، يستفيد منه الخبير بالحوائج والأشياء، بالبيع مع الربح، وغير الخبير الذي لا يحسن التجارة.
والمرابحة: بيع بثمن معلوم، فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمئة وعشرة، وكذا الربح معلوم، فأشبه ما لو قال: وربح عشرة دراهم.
وتفصيل الكلام عن المرابحة في المطالب الآتية:
المطلب الأول ـ شرائط المرابحة.
المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق.
المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة.
المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت.
__________
(1) انظر درر الحكام: 180/2.
(2) ذكره البخاري عن عائشة، وكذا الإمام أحمد في مسنده وابن سعد في الطبقات، وابن إسحاق في السيرة. وقوله: «ولني أحدهما» معناه الأخذ على سبيل التولية بمثل الثمن.(5/421)
ويلاحظ أن الكلام في هذه المطالب يتناول حكم غير المرابحة: وهي التولية، والإشراك، والوضيعة.
المطلب الأول ـ شرائط المرابحة
يشترط في المرابحة شروط هي ما يأتي (1) :
1 - العلم بالثمن الأول: يشترط أن يكون الثمن الأول معلوماً للمشتري الثاني، لأن العلم بالثمن شرط في صحة البيوع. وهذا الشرط يشمل جميع أخوات المرابحة من التولية والإشراك والوضيعة؛ لأنها تعتمد كلها على أساس الثمن الأول أي رأس المال، فإذا لم يعلم الثمن الأول فالبيع فاسد إلى أن يعلم في المجلس، فلو لم يعلم حتى افترق العاقدان عن المجلس، بطل العقد لتقرر الفساد.
2 - العلم بالربح: ينبغي أن يكون الربح معلوماً، لأنه بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحة البيوع.
3 - أن يكون رأس المال من المثليات: كالمكيلات، والموزونات والعدديات المتقاربة، وهذا شرط في المرابحة والتولية، سواء تم البيع مع البائع الأول، أو مع غيره، وسواء أكان الربح من جنس الثمن الأول، أم لم يكن بعد أن يكون شيئاً مقدراً معلوماً، كدرهم ونحوه. فإن كان مما لا مثل له كالعروض (2) لا يجوز بيعه مرابحة ولا تولية ممن ليس العرض في ملكه؛ لأن المرابحة والتولية بيع بمثل الثمن الأول، مع زيادة ربح عليه في المرابحة.
وعلى هذا إذا كان الثمن الأول غير مثلي كأن يكون من الأعداد المتفاوتة كالدور والثياب والرمان، والبطيخ، ونحوها، فإما أن يبيعه ممن في يده وملكه أو من غيره:
فإن باعه ممن ليس في ملكه ويده، لم يجز، لأنه لا يمكن بيعه مرابحة بالعرض عينه؛ إذ أنه ليس في يده ولا ملكه، ولا بيعه منه بقيمته؛ لأن قيمته مجهولة تعرف بالحزر والظن، وفيه يختلف أهل التقويم.
وإن باعه مرابحة ممن كان العرض في يده وملكه فينظر:
آـ إن جعل الربح شيئاً متميزاً عن رأس المال، معلوماً، كالدراهم، وثوب
__________
(1) البدائع: 5 ص 220 - 222.
(2) العروض جمع عرض والعرض: بسكون الراء، المتاع، وكل شيء سوى الدراهم والدنانير. وعرض الدنيا بفتحتين: ماكان من مال قلَّ أو كثر.(5/422)
معين مثلاً، جاز؛ لأن الثمن الأول معلوم، والربح معلوم، مثل أن يقول: (أبيعك مرابحة بالثوب الذي في يدك وبربح عشرة دراهم) .
ب ـ وإن جعل الربح جزءاً من رأس المال، كأن يقول: كل عشرة ربحها واحد أي أن الربح بالعُشْر وهو المعروف قديماً بربح (ده يازده) لم يجز، لأنه جعل الربح جزءاً من العَرض، والعَرض ليس متماثل الأجزاء، وإنما يعرف بالتقويم، والقيمة مجهولة، لأن معرفتها بالحزر والظن (1) .
وأما بيعه وضيعة ممن العرض في يده وملكه، فالحكم فيه على عكس المرابحة: وهو أنه إن جعل الوضيعة شيئاً متميزاً عن رأس المال معلوماً كالدراهم ونحوه: لا يجوز، لأنه يحتاج إلى حط ذلك القدر عن رأس المال، وهو مجهول.
وإن جعل الوضيعة من جنس رأس المال، بأن باعه بوضع العُشْر، أي أن كل عشرة ينقص منها واحد، جاز البيع بعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من رأس المال، لأن الجزء الموضوع جزء شائع من رأس مال معلوم (2) .
4 - ألا يترتب على المرابحة في أموال الربا وجود الربا بالنسبة للثمن الأول، كأن يشتري المكيل أو الموزون بجنسه مثلاً بمثل، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في أموال الربا تكون رباً، لا ربحاً. وكذلك لا يجوز بيعه مواضعة، ولكن يجوز بيعه تولية أو إشراكاً، إذ أنهما بمثل الثمن في كل المبيع أو بعضه، فلا يتحقق الربا.
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 254، المبسوط: 13 ص 91.
(2) البدائع: 5 ص 221(5/423)
فإن اختلف الجنس فلا بأس بالمرابحة، كأن يشتري ديناراً بعشرة دراهم، فباعه بربح درهم أو ثوب بعينه، جاز (1) .
5 ً - أن يكون العقد الأول صحيحاً: فإن كان فاسداً لم يجز بيع المرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول مع زيادة ربح، والبيع الفاسد يثبت الملك فيه بقيمة المبيع أو بمثله، لا بالثمن، لفساد التسمية.
المطلب الثاني ـ رأس المال وما يلحق به وما لا يلحق
رأس المال: هو ما لزم المشتري الأول بالعقد، أي ما ملك المبيع به ووجب بالعقد، لا ما نقده بعد العقد بدلاً عن المسمى في العقد؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول. والثمن الأول: هو ما وجب بالبيع، فأما ما نقده بعد البيع، فذلك وجب بعقد آخر: وهو الاستبدال، فيكون الواجب على المشتري الثاني هو المتفق عليه بالعقد، لا المدفوع بعدئذ بموجب اتفاق آخر.
ومثل ذلك ـ التولية:
وبيان هذا: إذا اشترى إنسان ثوباً بعشرة دراهم ونقد مكانها ديناراً أو ثوباً، فيكون رأس المال: هو العشرة لا الدينار أو الثوب؛ لأن العشرة هي التي وجبت بالعقد، وإنما الدينار أو الثوب بدل الثمن الواجب.
وكذلك من اشترى ثوباً بعشرة دراهم جياد، ثم إنه دفع إلى البائع عشرة دراهم زيوف أو بعضها جياد وبعضها زيوف، فقبلها البائع، ثم أراد أن يبيعه مرابحة، فيجب على المشتري الثاني أن يدفع الثمن من الجياد؛ لأن المضمون بالعقد الأول هو الجياد، لكن جعل الزيوف بدلاً عن الثمن الأول بعقد آخر.
ولو اشترى ثوباً بعشرة هي خلاف نقد البلد، ثم باعه مرابحة، فإن ذكر الربح مطلقاً (أي بدون تحديد صفة معينة) بأن قال: (أبيعك بالثمن الأول، وربح درهم) كان على المشتري الثاني عشرة مثل التي وجبت بالعقد الأول وهي عشرة ليست من نقد البلد، وأما الربح فيكون من نقد البلد؛ لأنه أطلق الربح، فينصرف المطلق إلى المتعارف، وهو نقد البلد.
__________
(1) المبسوط: 13 ص 82، 89.(5/424)
وإن نسب الربح إلى رأس المال، فقال: (أبيعك بربح العشرة أو بربح العُشْر ـ ده يازده) فالربح والعشرة من جنس الثمن الأول لأنه جعل الربح جزءاً من العشرة، فكان من جنسها ضرورة (1) .
وأما ما يلحق برأس المال: فهو كل نفقة أنفقت على السلعة وأوجبت زيادة في المعقود عليه سواء في العين أو في القيمة، وكان ذلك معتاداً إلحاقه برأس المال عند التجار، مثل أجرة القصار (2) والصباغ، والغسال، والخياط، والسمسار، وسائق الغنم، وعلف الدواب اعتباراً للعرف، والعرف حجة لما ورد من الأثر: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» .
ويباع ذلك مرابحة وتولية، إلا أن البائع لا يقول عند البيع: اشتريته بكذا، ولكن يقول: (قام علي بكذا، فأبيعك مع ربح كذا) حتى لا يكون كاذباً في كلامه.
وأما ما لا يلحق برأس المال: فهو أجرة الراعي والطبيب والحجام، والختان، والبيطار وأجرة تعليم القرآن، والأدب والشعر والحرف بالنسبة للرقيق في الماضي. ويباع مرابحة وتولية بالثمن الأول الواجب بالعقد الأول لا غير؛ لأن التجار لم
__________
(1) البدائع: 5 ص 222.
(2) هو محور الثياب ومبيضها بواسطة آلة، فإن لم يستعمل آلة فهو الصباغ.(5/425)
يتعارفوا إلحاق هذه المؤن برأس المال، وقد ورد: «ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح» (1) .
المطلب الثالث ـ ما يجب بيانه في المرابحة وما لا يجب
إن بيع المرابحة والتولية بيع أمانة؛ لأن المشتري ائتمن البائع في إخباره عن الثمن الأول من غير بينة، ولا استحلاف، فيجب صيانتهما عن الخيانة، وعن سبب الخيانة والتهمة، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال:27/8] .
وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا» (2) .
وبناء على هذا: إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أوفي يد المشتري فأراد أن يبيعها للمشتري مرابحة ينظر:
إن حدث العيب بآفة سماوية: له أن يبيعها مرابحة بجميع الثمن من غير بيان العيب عند جمهور الحنفية؛ لأن الجزء المتعيب لا يقابله شيء من الثمن، فكأنه دفع الثمن مقابل المبيع على حالته التي آل إليها، فكان بيان العيب والسكوت عنه على حد سواء (3) .
وقال زفر وجمهور العلماء: لا يبيع الشيء المعيب مرابحة حتى يبين العيب الحادث منعاً من شبهة الخيانة؛ لأن غرض الناس يختلف بذلك العيب، ولأن العيب الحادث ينقص به المبيع (4) .
وإن حدث العيب بفعل المشتري الأول أوبفعل أجنبي، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين العيب بالاتفاق.
ولو حدث في المبيع زيادة كالولد، والثمرة، والصوف، واللبن: لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن
__________
(1) فتح القدير: 5 ص 255، البدائع: 5 ص 223، الدر المختار: 4 ص 161.
(2) سبق تخريج هذا الحديث وله ألفاظ منها هذا: ومنها: «من غشنا فليس منا» ومنها: «ليس منا من غش» (راجع مجمع الزوائد: 4 ص 78) .
(3) البدائع: 5 ص 223.
(4) الشرح الكبير للدردير: 3 ص 164، المهذب: 1 ص 289، مغني المحتاج: 2 ص 79، المغني: 4 ص 182.(5/426)
الزيادة المتولدة مبيعة عند الحنفية، ولا يحط ذلك من الثمن، وإنما يخبر عادة بالثمن من غير زيادة (1) .
ولو استغل الأرض جاز أن يبيعها من غير بيان؛ لأن الزيادة التي ليست بمتولدة من المبيع لا تكون مبيعة بالاتفاق.
ولو اشترى شيئاً نسيئة كثوب بعشرة دراهم: لم يبعه مرابحة حتى يبين ذلك، لأن الأجل سبب في زيادة الثمن عادة، فإن ثمن المبيع يختلف بين النسيئة والنقد.
ولو اشترى من إنسان شيئاً بدين له عليه: فله أن يبيعه مرابحة من غير بيان، لأنه اشترى بمثمن في ذمته، لأن الدين لا يتعين ثمناً.
وإن أخذ شيئاً صلحاً من دين له على إنسان: فليس له أن يبيعه مرابحة على ذلك الدين؛ لأن مبنى الصلح على الحط والتساهل، فلا بد من البيان ليعلم المشتري أنه سامح أم لا، فيحترز عن التهمة ... بخلاف الشراء في الحالة الأولى؛ لأن مبنى الشراء على المماكسة (2) ، فلا حاجة إلى البيان.
ولو اشترى ثوباً بعشرة دراهم ثم رقمه (3) بأكثر من الثمن إذا كانت قيمته أكثر من عشرة، ثم باعه مرابحة على الرقم من غير بيان جاز، ولا يكون خيانة، لأنه صادق حيث ذكر الرقم، ولكن لا يقول: اشتريته بكذا، لأنه يكون كاذباً فيه. هذا إذا علم المشتري بأن الثمن والرقم متغايران، فإن علم أنهما سواء، فيكون خيانة يوجب له الخيار.
وكذلك لو ملك مالاً بالميراث أو الهبة، فقومه رجل عدل، ثم باعه مرابحة على قيمته: فيجوز، لأنه صادق في مقالته (4) .
المطلب الرابع ـ حكم الخيانة إذا ظهرت
إذا ظهرت الخيانة في المرابحة بإقرار البائع في عقد المرابحة أو ببرهان عليها أو بنكوله عن اليمين: فإما أن تظهر في صفة الثمن أو في قدره.
فإن ظهرت في صفة الثمن: بأن اشترى شيئاً نسيئة، ثم باعه مرابحة على الثمن الأول، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، أو أنه باعه تولية، ولم يبين أنه اشتراه نسيئة، ثم علم المشتري: فله الخيار باتفاق علماء الحنفية إن شاء أخذ المبيع، وإن شاء رده؛ لأن المرابحة عقد مبني على الأمانة، إذ أن المشتري اعتمد على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول، فكانت صيانة البيع الثاني عن الخيانة مشروطة دلالة، فإذا لم يتحقق الشرط ثبت الخيار، كما في حاله عدم تحقق سلامة المبيع عن العيب.
وكذا إذا لم يخبر أن الشيء المبيع كان بدل صلح، فللمشتري الثاني الخيار.
وإن ظهرت الخيانة في قدر الثمن في المرابحة والتولية بأن قال:
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) ماكسه مماكسة: استحطه الثمن واستنقصه إياه.
(3) سبق تفسير الرقم في البيوع الفاسدة.
(4) البدائع: 224/5.(5/427)
اشتريت بعشرة، وبعتك بربح كذا، أو اشتريت بعشرة ووليتك بما توليتُ، ثم تبين أنه كان اشتراه بتسعة، فاختلف فقهاء الحنفية:
فقال أبو حنيفة رضي الله عنه، وقوله هو الأرجح عند الحنفية: المشتري بالخيار في المرابحة: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك. وأما في التولية: فلا خيار له لكن يحط قدر الخيانة، ويلزم العقد بالثمن الباقي. ووجه الفرق بين المرابحة والتولية: هو أن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن طبيعته: وهو كونه مرابحة؛ لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، وزيادة ربح. وهذا المعنى متوفر بعد ظهور الخيانة، فيصبح بعض الثمن رأس مال، وبعضه ربحاً مما يوجب خللاً في الرضا، فيثبت الخيار، كما في الخيانة في صفة الثمن.
وأما التولية فالخيانة فيها تخرج عن كونه تولية؛ لأن التولية بيع بالثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان. فإذا ظهر النقصان في الثمن الأول، وأثبتنا الخيار للمشتري، فإنا نخرج العقد عن كونه تولية ونجعله مرابحة، وهذا إنشاء عقد جديد لم يتراضيا عليه وهو لا يجوز فحططنا قدر الخيانة، وألزمنا العقد بالثمن الباقي.
وعليه: لو هلك المبيع في يد المشتري الثاني، أو استهلكه قبل رده، أو حدث به ما يمنع من الرد كعيب مثلاً، لزمه بجميع الثمن المسمى وسقط خياره.
وقال أبو يوسف: لا خيار للمشتري، ولكن يحط قدر الخيانة في المرابحة والتولية. وقدر الخيانة في المثال المذكور: هو درهم في التولية ودرهم في المرابحة وحصة من الربح: وهو جزء من عشرة أجزاء من درهم؛ لأن الثمن الأول أصل في بيع المرابحة والتولية؛ فإذا ظهرت الخيانة تبين أن تسمية قدر الخيانة لم تصح، فتلغو التسمية في قدر الخيانة، ويبقى العقد لازماً بالثمن الباقي.(5/428)
وقال محمد: للمشتري الخيار في المرابحة والتولية: إن شاء أخذ المبيع بجميع الثمن، وإن شاء رده على البائع، ودليله: أن المشتري لم يرض بلزوم العقد إلا بالقدر المسمى من الثمن، فلا يلزم بدونه، ويثبت له الخيار، لوجود الخيانة، كما يثبت الخيار بعد تحقق سلامة المبيع عن العيب (1) .
ويلاحظ أن المفتى به عند الحنفية رفقاً بالناس: هوأنه يجوز رد المبيع أو الثمن على صاحبه بالغبن الفاحش إذا كان هناك تغرير من أحد العاقدين للآخر أو من شخص آخر أجنبي عنهما كالدلال ونحوه.
والمراد بالغبن الفاحش: هومالا يدخل تحت تقويم المقومين كزيادة ثلاثة بالعشرة مثلاً، وأما ما دونها فهو غبن يسير لا رد فيه، كما أنه لا رد إذا لم يوجد التغرير (2) .
الإشراك: والإشراك حكمه حكم التولية فيما ذكر، ولكنه تولية بعض المبيع ببعض الثمن. وتفصيل الكلام في القدر الذي تثبت فيه الشركة يعرف في المطولات (3) .
المواضعة: والمواضعة كما عرفنا: هي بيع بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم منه، وتطبق عليها شروط المرابحة وأحكامها (4) .
بيع المرابحة للآمر بالشراء: تسير المصارف الإسلامية المعاصرة على معاملة معينة أطلق عليها (بيع المرابحة للآمر بالشراء) باعتبارها بديلاً شرعياً عما تقوم به البنوك الربوية. وصورتها أن يتقدم شخص إلى المصرف راغباً مثلاً بشراء سيارة ذات مواصفات معينة أو شراء أجهزة مخبر أو أجهزة طبية أو آلات معمل معين، فيشتري المصرف تلك الأشياء، ثم يبيعها لراغبها بثمن معين مؤجل لأجل محدد، يكون أكثر من الثمن النقدي.
__________
(1) المبسوط: 86/13، البدائع: 225/5 ومابعدها، فتح القدير: 256/5، الدر المختار: 163/4.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 166/4 ومابعدها.
(3) البدائع: 226/5.
(4) المصدر السابق: ص 228.(5/429)
وتكون العملية مركبة من وعدين: وعد بالشراء من العميل الذي يطلق عليه: الآمر بالشراء، ووعد من المصرف بالبيع بطريق المرابحة، أي بزيادة ربح معين المقدار أو النسبة على الثمن الأول (1) .
وهذه العملية جائزة بدليل ما قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: «وإذا أرى الرجل الرجل السلعة، فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً، وإن شاء تركه» (2) . فأصل العملية جائز كما صرح الشافعي بشرط تسلم المصرف الشيء المشترى، أما الإلزام بالوعد فيمكن تقليد مذهب آخر فيه وهو المذهب المالكي إن ترتب على الوعد الدخول في التزام مالي معين، وهو رأي ابن شبرمة الذي يقول: إن كل وعد بالتزام لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، يكون وعداً ملزماً قضاء وديانة. ولا يعد هذا ممنوعاً، وليس من التلفيق المحظور؛ لأن المسألتين قضيتان منفصلتان، ولا مانع من تقليد كل إمام في مسألة تختلف عن مسألة أخرى يؤخذ فيها بقول إمام آخر.
وأجاز المالكية أيضاً هذا النوع من التعامل، جاء في كتبهم: «من البيع المكروه: أن يقول: أعندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول: ابتع ذلك، وأنا أبتاعه منك بدين، وأربحك فيه، فيشتري ذلك، ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه» (3) .
__________
(1) بيع المرابحة للآمر بالشراء للدكتور يوسف القرضاوي: ص 36.
(2) الأم: 33/3، ط بولاق سنة 1321هـ، مصورة في الدار المصرية للتأليف والترجمة.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 404/4، ط دار الفكر في بيروت، البيان والتحصيل لابن رشد: 86/7-89.(5/430)
وأقر العملية مؤتمران للمصارف الإسلامية، جاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول في دبي سنة 1399هـ ـ 1979م: إن مثل هذا الوعد ملزم للطرفين قضاء طبقاً لأحكام المذهب المالكي. وهو ملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء، إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه.
وجاء في مؤتمر المصرف الإسلامي الثاني في الكويت سنة 1403هـ ـ 1983: يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء، بعد تملك السلعة المشتراة، وحيازتها، ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الموعد السابق، هو أمر جائز شرعاً، مادامت تقع على المصرف الإسلامي مسؤولية الهلاك قبل التسليم، وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي، وجميع الضمانات كالتأمين. ومنع البيع قبل القبض هو رأي الجمهور، وأجاز المالكية بيع غير الطعام قبل قبضه.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما، فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وأن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً.
وليس هذا التعامل من البيعتين في بيعة المنهي عنه؛ لأن النهي كما ذكر الشافعي وارد على حالة كون القبول لإحدى البيعتين مبهماً أو معلقاً أو مجهولاً، فإن عيّن المشتري إحدى البيعتين جاز، أو أن النهي وارد على حالة اشتراط بيعة أخرى، كأن يقول: بعتك منزلي على أن تبيعني فرسك.(5/431)
.........................................7...........................................
........................................الإقالة..........................................
إذا كان البيع صحيحاً، لازماً: خالياً من الخيار، واتفق المتعاقدان على رفعه وإنهائه، فيتم فسخه عن طريق الإقالة. والإقالة وإن كانت متفرعة عن البيع لأنها أكثر ما تقع فيه، إلا أنها تجري في جميع العقود اللازمة ما عدا الزواج فهي بتعبير أعم: عقد يرفع به عقد سابق (1) .
والكلام هنا عن مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها ثم عن ماهيتها وحكمها، ثم عن شروط صحتها.
مشروعية الإقالة وتعريفها وركنها: الإقالة مندوبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن أبي هريرة: «من أقال نادماً بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة» رواه البيهقي. وفي رواية أبي داود: «من أقال مسلماً، أقال الله عثرته» (2) .
والإقالة لغة: الرفع. وشرعاً: رفع العقد ولو في بعض المبيع. مثل أن يبيع إنسان مئة رطل من الحنطة بخمسين ليرة سورية، ويسلمها إلى المشتري، ثم يفترق المتعاقدان، ثم يقول البائع للمشتري: ادفع إلي الثمن أوالحنطة التي دفعتها إليك، فدفعها أو بعضها، فيكون ذلك فسخاً في المردود إلى البائع.
وركنها: الإيجاب من أحد العاقدين والقبول من الآخر.
وأما صيغة العقد فلا خلاف في أنه ينعقد بلفظ يعبر بهما عن الماضي بأن يقول أحد العاقدين: أقلت، ويقول الآخر: قبلت أو رضيت ونحوهما.
فإن كان أحد اللفظين يعبر به عن الماضي، والآخر عن المستقبل، كأن يقول أحد العاقدين: أقلني، فيقول الآخر: أقلتك، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ينعقد كما هو المقرر في عقد النكاح إذ أنه في العادة ليس في الإقالة مساومة بخلاف البيع، فيحمل اللفظ على الإيجاب.
وقال محمد: لا تنعقد الإقالة إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي، كما في البيع؛ لأن ركن الإقالة وهو الإيجاب والقبول، كركن البيع، والبيع لا ينعقد إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي.
__________
(1) راجع المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 290.
(2) ورواه هكذا ابن ماجه وزاد (يوم القيامة) ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (انظر نصب الراية: 30/4، جامع الأصول: 371/1، سبل السلام: 33/3) .(5/432)
ولا يتعين لفظ الإقالة وإنما تصح أيضاً بألفاظ أخرى مثل: فاسختك، وتركت البيع، وتاركتك، ورفعت. وكذا تصح بالتعاطي، ولو من أحد الجانبين، كما في المبيع، كأن يقطع البائع القماش قميصاً بمجرد قول المشتري: (أقلتك) (1) .
ماهية الإقالة وحكمها: اختلف الفقهاء في ماهية الإقالة، فقال المالكية والظاهرية: إنها بيع ثان؛ لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليه منه، فهي تتم إذن بتراضي العاقدين، يجوز فيها ما يجوز في البيوع ويحرم فيها مايحرم في البيوع (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: إنها فسخ؛ لأن الإقالة هي الرفع والإزالة ولأن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخاً، كالرد بالعيب (3) .
وأما الحنفية فاختلفوا فيما بينهم، فقال أبو حنيفة رحمه الله، وقوله هو الصحيح عند الحنفية:
الإقالة فسخ في حق العاقدين بيع جديد في حق ثالث غيرهما، سواء قبل القبض أو بعده، إلا إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتبطل، كأن تلد البهيمة المبيعة بعد القبض لتعذر الفسخ بالزيادة المنفصلة. ودليله على أن الإقالة فسخ: هو أنها رفع لغة وشرعاً، ورفع الشي فسخه، وأما إنها بيع فلأن كل واحد من المتعاقدين يأخذ رأس ماله ببدل، وهذا معنى البيع. إلا أنه لا يمكن إظهار معنى البيع في حق العاقدين للتنافي (4) ، فأظهرناه في حق ثالث غيرهما. وعلى هذا، فمن اشترى داراً، ولها شفيع فلم يطلب الشفعة بعد علمه بالبيع، ثم أقال العاقدان البيع، فيثبت للشفيع حق طلب الشفعة ثانياً؛ لأن الإقالة عقد جديد في حقه وهو المراد بالشخص الثالث هنا.
__________
(1) البدائع: 5 ص 306، فتح القدير: 5 ص 246 ومابعدها، الدر المختار: 4 ص 151، درر الحكام لمنلا خسرو: 2 ص 178.
(2) الشرح الكبير: 155/3، القوانين الفقهية: ص 272، المحلى: 9 ص 7.
(3) المغني: 4 ص 121 ومابعدها، غاية المنتهى: 2 ص 52، مغني المحتاج: 2 ص 96، قال النووي في المجموع (9 ص 156) : إذا انعقد البيع لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب: وهي خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الخلف بأن كان شرطه كاتباً فخرج غير كاتب، والإقالة والتحالف، وتلف المبيع.
(4) أي لاختلاف البيع والإقالة في الاسم، لأن البيع إثبات، والرفع نفي، وبينهما تناف.(5/433)
وقال أبو يوسف: الإقالة بيع جديد في حق العاقدين وغيرهما، إلا أن يتعذر جعلها بيعاً، فتجعل فسخاً، كأن تقع الإقالة قبل القبض في مبيع منقول؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، بخلاف العقار فإنه يجوز بيعه قبل القبض عنده وعند أبي حنيفة، فإقالته بيع. ودليله أن معنى البيع هو مبادلة المال بالمال، وهو أخذ بدل وإعطاء بدل، وقد وجد، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها، والعبرة للمعنى لا للصورة.
وقال محمد: الإقالة فسخ إلا إذا تعذر جعلها فسخاً، فتجعل بيعاً للضرورة، كما ذكر أثناء بيان قول أبي حنيفة. ودليله أن الأصل في الإقالة الفسخ، لأنها عبارة عن رفع الشيء لغة وشرعاً.
وقال زفر والشافعية والأكثرون من الحنابلة: إنها فسخ في حق الناس كافة (1) .
وتظهر ثمرة الاختلاف بين الحنفية فيما إذا تقايل العاقدان البيع بأكثر من الثمن الأول أو بأقل أو بجنس آخر، أو أجّلا الثمن في الإقالة:
فعلى قول أبي حنيفة: تصح الإقالة بالثمن الأول ويبطل ما شرطه المتعاقدان من الزيادة أو النقص أو الأجل، أو الجنس الآخر، سواء أكانت الإقالة قبل القبض أم بعده؛ لأنها فسخ في حق العاقدين، والفسخ رفع العقد، والعقد وقع بالثمن الأول، فيكون فسخه بالثمن الأول، ويبطل الشرط الفاسد، فإذا تقايل العاقدان على أكثر من الثمن الأول أو أقل على جنس آخر، يلزم الثمن الأول لا غير.(5/434)
والحكم هكذا على قول زفر؛ لأن الإقالة عنده فسخ محض في حق الناس كافة. وعلى قول الشافعية والحنابلة: تبطل الإقالة في هذه الحالات بسبب الشرط الفاسد كما في البيع. وعلى هذا فلا يجوز في الإقالة الزيادة ولا النقصان عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأن الإقالة فسخ على أي حال، وعلى هذا إذا تمت الإقالة، وزاد المبيع زيادة منفصلة متولدة من الأصل، كولادة شاة، امتنعت الإقالة. وقال مالك: الإقالة بيع جديد، فيجوز فيها الزيادة أو النقصان. كما إذا باع شيئاً بمئة دينار، ثم ندم البائع، فطلب من المشتري رد المبيع على أن يدفع إليه عشرة دنانير مثلاً؛ لأن الإقالة حينئذ بيع مستأنف، وعمل الناس في أيامنا على هذا الرأي، فلايرضى البائع بنقض البيع إلا إذا تنازل المشتري عن شيء من حقه. ولا يجوز عند مالك أن يشتري شيئاً بمئة دينار مثلاً إلى أجل، ثم ندم المشتري، فسأل البائع الإقالة على أن يعطيه عشرة دنانير نقداً أو إلى أجل؛ لأن ذلك ذريعة إلى بيع وسلف، كأن المشتري باع الشيء بتسعين، وأسلف البائع عشرة (2) . وأما إن كان البيع الأول نقداً فلا خلاف في جواز ذلك.
وعلى قول أبي يوسف: تصح الإقالة بما ذكرا من الثمن، وشرطا من الزيادة والنقصان والأجل، لأنها بيع جديد.
وعلى قول محمد: إذا كانت الإقالة بغير الثمن الأول، أو بأكثر منه فهي بيع إذ لا يمكن جعلها فسخاً؛ لأن شأن الفسخ أن يكون بالثمن الأول، وإن كانت بمثل الثمن الأول أو أقل فهي فسخ بالثمن، ويبطل شرط النقصان، وكذلك إن أجل يبطل الأجل (3) .
__________
(1) البدائع: 5 ص 306، فتح القدير: 5 ص 247، الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 154، القواعد لابن رجب: ص379، المراجع السابقة، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 68، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 152، المغني: 121/4 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 140/2.
(3) البدائع: 5 ص 307، فتح القدير: 5 ص 249، الدر المختار: 4 ص 155.(5/435)
شروط الإقالة: يشترط لصحة الإقالة شروط:
أولاً ـ رضا المتقايلين: سبب هذا الشرط على رأي أبي يوسف ظاهر؛ لأن الإقالة بيع عنده، والرضا شرط من شروط صحة البيوع. وأما على رأي جمهور الحنفية، فلأن الإقالة فسخ العقد، والعقد وقع بتراضي العاقدين، فكذا فسخه. وهذا شرط متفق عليه.
ثانياً ـ تقابض بدلي الصرف في مجلس إقالة عقد الصرف: وهذا واضح على أصل أبي يوسف. وأما على أصل أبي حنيفة فلأن قبض البدلين إنما وجب حقاً لله تعالى، والإقالة وإن كانت فسخاً في حق العاقدين فهي بيع جديد في حق ثالث، وحق الشرع هنا بمثابة ثالث، فتكون الإقالة بيعاً في حقه. وهذا شرط متفق عليه.
ثالثاً ـ أن يكون محل العقد محتملاً للفسخ عند أبي حنيفة وزفر؛ لأن الإقالة فسخ للعقد عندهما، فإن لم يكن محتملاً للفسخ بأن ازداد زيادة تمنع الفسخ لاتصح الإقالة.
وعند الصاحبين: لا يشترط هذا الشرط؛ لأن الإقالة على أصل أبي يوسف بيع، والزيادة تحتمل البيع، فيظل محل العقد محتملاً للإقالة.
وأما على أصل محمد: فإن الإقالة وإن كانت فسخاً، لكن عند الإمكان ولا إمكان هنا لأنه إذا حصلت زيادة في المبيع يتعذر الفسخ.
رابعاً ـ قيام المبيع وقت الإقالة؛ لأن الإقالة رفع العقد، والمبيع محله، فإن كان هالكاً كله وقت الإقالة لم تصح، وإن هلك بعضه لم تصح الإقالة بقدره.
وأما قيام الثمن وقت الإقالة فليس بشرط.
وجه الفرق أن رفع البيع يستدعي قيام البيع، فإن رفع المعدوم محال وقيام البيع بالمبيع لا بالثمن؛ لأن الأصل هو المبيع، ولهذا شرط وجوده عند البيع، بخلاف الثمن. فإذا هلك المبيع لم يبق محل حكم المبيع، فلا تتصور الإقالة التي هي رفع حكم البيع في الحقيقة، وإذا هلك الثمن فمحل حكم البيع قائم، فتصح الإقالة (1) .
ويترتب على الإقالة انحلال العقد وزوال آثاره أو ارتفاع حكمه.
__________
(1) البدائع: 5 ص 308 ومابعدها، فتح القدير: 5 ص 250 ومابعدها، الدر المختار: 4 ص 157.(5/436)
الفَصْلُ الثَّاني: القَرْض
إن القرض في معناه العام يشبه البيع؛ لأنه تمليك مال بمال (1) وهو أيضاً نوع من السلف (2) . قال جماعة من العلماء: القرض نفس البيع، لكن ذكر القرافي ثلاثة فروق بين القرض والبيع، فالقرض خولفت فيه ثلاث قواعد شرعية:
1 - قاعدة الربا: إن كان القرض في الأموال الربوية وهي المكيلات والموزونات عند الحنفية والحنابلة في الأصح، والنقدان أو الاقتيات عند المالكية والنقدية أو الطعم عند الشافعية.
2 - وقاعدة المزابنة: وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، إن كان القرض في غير المثليات كالحيوان ونحوه.
3 - وقاعدة بيع ما ليس عند الإنسان، إن كان القرض في المثليات.
والسبب في هذه المخالفات: هو مراعاة مصالح الناس والتيسير عليهم في القيام بصنائع المعروف، ولذا يحرم القرض إن لم يكن القصد منه عمل المعروف كتحقيق منفعة للمقرض مثلاً (3) .
والكلام عن القرض يظهر في بيان تعريفه ومشروعيته وعاقده وصيغته، وحكم الخيار فيه وما يصح فيه وحكمه وحكم القرض الذي يجر منفعة.
تعريف القرض: القرض لغة: القطع، وسمي المال المدفوع للمقترض قرضاً، لأنه قطعة من مال المقرض، تسمية للمفعول باسم المصدر. ويسمى أيضاً السلف.
واصطلاحاً عند الحنفية: هو ما تعطيه من مال مثلي لتتقاضاه. أو بعبارة أخرى: هو عقد مخصوص يرد على دفع مال مثلي لآخر ليرد مثله. وعرفه بقية المذاهب بأنه: إعطاء شخص مالاً لآخر في نظير عوض يثبت له في ذمته، مماثل للمال المأخوذ، بقصد نفع المعطى له فقط.
__________
(1) البدائع: 7 ص 215.
(2) المغني: 4 ص 313، الموافقات للشاطبي: 4 ص 42.
(3) الفروق وتهذيبه: 4 ص 2 ومابعدها.(5/437)
والمال يشمل المثلي والحيوان والعرض التجاري (1) .
مشروعيته: القرض جائز بالسنة والإجماع:
أما السنة ـ فما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة» (2) وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» (3) وعن أبي رافع حديث سيأتي في القرض الذي يجر منفعة.
__________
(1) الدر المختار: 4 ص 179، حاشية الدسوقي: 3 ص 222، الشرح الصغير: 291/3.
(2) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي مرفوعاً وموقوفاً عن عبد الله بن مسعود. وفي رواية ابن ماجه في إسناده سليمان بن بشير وهو متروك، وعلى كل فله مؤيدات وشواهد كثيرة من القرآن والحديث (راجع الترغيب والترهيب: 2 ص 41، نيل الأوطار: 5 ص 229) .
(3) رواه ابن ماجه والبيهقي عن أنس بن مالك وقد روى الطبراني والبيهقي قريباً من هذا اللفظ عن أبي أمامة رضي الله عنه (انظر مجمع الزوائد: 4 ص 126، الترغيب والترهيب، المرجع السابق) .(5/438)
وأجمع المسلمون على جواز القرض (1) .
وهو مندوب إليه في حق المقرض، مباح للمقترض، للأحاديث السابقة، ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (2) ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «لأن أقرض دينارين ثم يردا، ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما» وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما قالا: «قرض مرتين خير من صدقة مرة» (3) . وقال الحنابلة: الصدقة أفضل من القرض ولا إثم على من سئل فلم يقرض (4) .
عاقده وصيغته: ولا يصح القرض إلا من جائز التصرف، لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع.
ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول، لأنه تمليك آدمي، فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة.
ويصح بلفظ القرض والسلف؛ لأن الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدي معناه: وهو أن يقول: «ملكتك هذا على أن ترد علي بدله» (5) .
هل يثبت فيه خيار أو أجل؟ لا يثبت فيه خيار المجلس عند القائلين به وهم الشافعية والحنابلة، ولا خيار الشرط؛ لأن المقصود من الخيار هو الفسخ، وفي القرض يجوز لكل واحد من العاقدين أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى للخيار (6) .
ولا يجوز عند جمهور الفقهاء اشتراط الأجل في القرض، فإن أجل القرض إلى أجل مسمى معلوم، لم يتأجل وكان حالا، لأنه في معنى بيع الدرهم بالدرهم، فلا يجوز التأجيل منعاً من الوقوع في ربا النسيئة، وباعتبار أن القرض محض تبرع، فيحق للمقرض المطالبة ببدله في الحال، لأنه عقد يوجب رد المثل في المثليات، فأوجب رد بدله حالاً كالإتلاف. وهكذا كل دين حل أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله. هذا بخلاف البدل في البيع وفي الإجارة، إذا أجل إلى أجل مسمى معلوم، فإنه لا يحق له المطالبة به، قبل حلول الأجل. لكن قال الحنفية: يلزم أجل القرض في أربع حالات:
الأولى ـ الوصية: وهي أن يوصي شخص بإقراض آخر مبلغاً من المال إلى سنة مثلاً، فليس للورثة مطالبة المقترض قبل حلول الأجل.
__________
(1) المغني: 4 ص 313، مغني المحتاج: 2 ص 117.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه مختصراً والحاكم وقال: صحيح على شرطهما وفي لفظ «من كشف عن مسلم ... » (انظر الترغيب والترهيب: 2 ص 44، مجمع الزوائد، 4 ص 33) .
(3) المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 313.
(4) غاية المنتهى: 2 ص 83.
(5) المهذب: 1 ص 302، المغني: 4 ص 314، الدر المختار: 4 ص 179، غاية المنتهى: 2 ص 84.
(6) المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 315، تكملة المجموع: 165/13، الدر المختار ورد المحتار: 177/4-178.(5/439)
الثانية ـ الجحود: وهو أن يكون القرض مجحوداً، فأجله صاحبه، فإن الأجل يكون لازماً.
الثالثة ـ الحكم القضائي: وهو أن يحكم القاضي بلزوم القرض، عملاً بمذهب مالك وابن أبي ليلى، فإنه يلزم أيضاً.
الرابعة ـ الحوالة: بأن أحال المدين الدائن على آخر، فأجله المقرض، أو أحاله على مديون مؤجل دينه؛ لأن الحوالة مبرئة، أي يبرأ بها ذمة المحيل، ويثبت بها للمحال أي المقرض دين على المحال عليه بحكم الحوالة، فهو في الحقيقة تأجيل دين لا قرض.
والخلاصة: يصح تأجيل القرض عند الحنفية مع كونه غير لازم، ويلزم الأجل في هذه الحالات.
وقال الإمام مالك: يتأجل القرض بالتأجيل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (1) ، ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء، فملكا الزيادة فيه (2) . وهذا الرأي هو المعقول الموافق لمقتضى الواقع.
ما يصح فيه القرض: اختلف العلماء فيما يصح فيه القرض:
فقال الحنفية: يصح القرض في المثلي: (وهو ما لا تتفاوت آحاده تفاوتاً تختلف به القيمة) كالمكيل والموزون، والمعدود المتقارب كالجوز والبيض، والورق من مقياس واحد، والذرعي كالقماش، وجاز قرض الخبز وزناً وعدداً، على ما هو المفتى به من رأي الإمام محمد لحاجة الناس المتعينة إليه، وهو رأي بقية المذاهب الأخرى، ولا يجوز القرض في غير المثلي من القيميات كالحيوان والحطب والعقار، والعددي المتفاوت، لتعذر رد المثل (3) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: يجوز قرض كل مال يصح فيه السلم، أي في كل مال قابل للثبوت في الذمة، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً، كالذهب والفضة
__________
(1) رواه أبو داود وأحمد والترمذي والدارقطني عن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعاً وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة، وروي عن أنس عند الحاكم، وعن رافع بن خديج عند الطبراني، وعن ابن عمر عند البزار، وعن عطاء بلاغاً عند ابن أبي شيبة، وجزم به البخاري (راجع سبل السلام: 3 ص 59، المقاصد الحسنة: ص 385) .
(2) اعتمدت في هذا على المغني لابن قدامة: 4 ص 315، المهذب: 1 ص 303.
(3) الدر المختار: 4 ص 179، 195، مغني المحتاج: 119/2، المغني: 318/4 وما بعدها.(5/440)
والأطعمة، أم من القيميات، كعروض التجارة والحيوان ونحوها، كالمعدود؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو رافع: «استسلف بَكراً» (1) (البَكْر: الثني من الإبل) وذلك ليس بمكيل ولا موزون، ولأن ما يثبت سَلَماً يملك بالبيع ويضبط بالوصف، فجاز قرضه كالمكيل والموزون. وأما ما لا يجوز فيه السَّلم كالجواهر ونحوها، فلا يصح قرضه في الأصح؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا ينضبط، أو يندر وجوده، يتعذر أو يتعسر رد مثله (2) . وعلى هذا يصح القرض عند جمهور الفقهاء في كل عين يصح بيعها إلا الجواري؛ لأنه يؤدي إلى إعارة الفروج، ولا يصح قرض المنافع، خلافاً لابن تيمية، كأن يحصد معه يوماً ليحصد الآخر معه مثله، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر داره بدلها. ولايصح القرض فيما لا يثبت في الذمة كالشيء من أرض ودار وحانوت وبستان؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وهذه لا مثل لها. والمماثلة المعتبرة في العوض عند المالكية هي المماثلة في الصفة والقدر. وعند الشافعية والحنابلة: في الصورة. ولا يصح القرض في نادر الوجود كالجواهر النفيسة، لعدم وجودها غالباً عند الرد.
حكم القرض: يثبت الملك في القرض عند أبي حنيفة ومحمد بالقبض، فلو اقترض إنسان مدّ حنطة وقبضه، فله الاحتفاظ به، ورد مثله وإن طلب المقرض رد العين، لأنه خرج عن ملك المقرض، وثبت له في ذمة المقترض مثله لا عينه، ولو كان قائماً.
وقال أبو يوسف: لا يملك المقترض القرض ما دام قائماً (3) .
__________
(1) سيأتي تخريجه في حديث أبي رافع في بحث (القرض بمنفعة) .
(2) الشرح الكبير: 3 ص 222، القوانين الفقهية: ص 288، مغني المحتاج: 2 ص 118 ومابعدها، المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 314، غاية المنتهى: 2 ص 84 وما بعدها.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 181.(5/441)
وقال المالكية: إن القرض وغيره من المعروف كالهبة والصدقة والعارية، يثبت الملك فيه بالعقد، وإن لم يقبض المال. ويجوز للمقترض أن يرد مثل الذي اقترضه، وأن يرد عينه، سواء أكان مثلياً أم غير مثلي، وهذا ما لم يتغير بزيادة أو نقص، فإن تغير وجب رد المثل (1) .
وقال الشافعية في الأصح والحنابلة: يثبت الملك في القرض بالقبض، ويرد المقترض عند الشافعية المثل في المثلي، لأنه أقرب إلى حقه، ويرد في القيمي المثل صورة، لأنه صلّى الله عليه وسلم اقترض بَكراً ورد رَباعياً، وقال: «إن خياركم أحسنكم قضاء» (2) .
ويجب عند الحنابلة رد المثل في المكيل والموزون، كما هو اتفاق الفقهاء. وفي غير المكيل والموزون وجهان: أحدهما ـ يجب رد قيمته يوم القرض. والثاني ـ يجب رد مثله بصفاته تقريباً (3) .
مكان الوفاء: اتفق علماء المذاهب الأربعة على أن وفاء القرض يكون في البلد الذي تم فيه الإقراض، ويصح إيفاؤه في أي مكان آخر إذا لم يحتج نقله إلى حمل ومؤنة أو وجد خوف طريق، فإن احتاج إلى ذلك لم يلزم المقرض بتسلمه (4) .
خلاصة شروط القرض:
يشترط لصحة القرض أربعة شروط:
__________
(1) الدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3 ص 226، الشرح الصغير: 295/3، ط دار المعارف.
(2) سيأتي تخريجه في بحث القرض الذي جر منفعة في حديث أبي رافع.
(3) مغني المحتاج: 2 ص 119 ومابعدها، المهذب: 1 ص 303، المغني: 4 ص 314.
(4) الدر المختار: 180/4، الشرح الصغير: 296/3، مغني المحتاج: 119/2، المغني: 325/4.(5/442)
1ً - أن يتم القرض بالصيغة وهي الإيجاب والقبول أو ما يحل محلهما عند الجمهور من المعاطاة، ولا تكفي المعاطاة عند الشافعية كغيره من العقود.
2ً - أهلية التعاقد: بأن يكون العاقد مقرضاً أو مقترضاً بالغاً عاقلاً راشداً مختاراً أهلاً للتبرع؛ لأن القرض عقد تبرع، فلا يصح من الصبي والمجنون والسفيه المحجور عليه، والمكره، ولا من الولي لغير ضرورة أو حاجة، لأن هؤلاء ليسوا من أهل التبرع.
3ً - أن يكون مال القرض مثلياً عند الحنفية، ويصح عند الجمهور أي مال قابل للثبوت في الذمة من النقود والحبوب والقيميات من حيوانات وعقارات وغيرها.
4ً - أن يكون مال القرض معلوم القدر كيلاً أو وزناً أو عدداً أو ذرعاً ليتمكن من رده، وأن يكون جنساً لم يختلط بغيره كقمح مخلوط بشعير، لأنه يتعذر رد بدله.
الشروط الصحيحة والشروط المفسدة:
يصح اشتراط أي شرط يؤدي لتوثيق الحق أو تأكيده، كاشتراط الرهن بمال القرض أو الكفيل أو الإشهاد على العقد أو كتابة الدين أو الإقرار به عند القاضي.
ولا يصح عند الجمهور اشتراط الأجل في القرض ويصح عند المالكية كما تقدم.
ولا يصح الشرط الذي لا يلائم العقد كاشتراط رد زيادة في البدل أو رد صحيح بدل معيب أو شرط بيع داره مثلاً.
والشرط المفسد: اشتراط زيادة في بدل القرض أو تقديم هدية للمقرض. ويكون الشرط لا غياً غير مفسد إذا لم يكن فيه مصلحة لأحد كرد معيب بدل صحيح ورديء بدل جيد أو اشتراط أن يقرضه غيره.
ما يجب رده على المقترض:
يجب على المقترض أن يرد مثل المال الذي اقترضه إن كان المال مثلياً بالاتفاق، ويرد مثله صورة عند غير الحنفية إذا كان محل القرض مالاً قيمياً، كرد شاة تشبه الشاة التي اقترضها في أوصافها.(5/443)
ووقت رد بدل القرض عند غير المالكية في أي وقت شاء المقرض بعد قبض المستقرض مال القرض؛ لأنه عقد لا يثبت فيه الأجل. وذهب المالكية إلى أن وقت رد بدل القرض عند حلول أجل وفاء القرض؛ لأن القرض يتأجل عندهم بالتأجيل، كما تقدم بيانه.
القرض الذي جرّ منفعة: قال الحنفية في الراجح عندهم: كل قرض جر نفعاً حرام إذا كان مشروطاً، فإن لم يكن النفع مشروطاً أو متعارفاً عليه في القرض، فلا بأس به، وعلى هذا، لايجوز للمرتهن الدائن الانتفاع بالرهن إذا كان مشروطاً أو متعارفاً، وإن لم يكن كذلك فيجوز مع الكراهة التحريمية إلا أن يأذن الراهن فيحل، كما جاء في معتبرات كتب الحنفية، وقال بعضهم: لا يحل وإن أذن الراهن بالانتفاع. وهذا هو المتفق مع الروح العامة في الشريعة في تحريم الربا.
وكذلك حكم الهدية للمقرض: إن كانت بشرط كره أي تحريماً، وإلا فلا (1) .
وقال المالكية: يفسد القرض الذي جر نفعاً؛ لأنه ربا، ويحرم الانتفاع بشيء
__________
(1) رد المحتار: 4 ص 182، مجمع الضمانات: ص 109، مذكرات في الرهن للدراسات العليا لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 96.(5/444)
من أموال المقترض كركوب دابته، والأكل في بيته لأجل الدين، لا للإكرام ونحوه، كما تحرم هدية المقترض لرب المال، إن قصد المهدي بهديته تأخير الدين ونحوه. ولم تكن هناك عادة سابقة قبل القرض بإهداء الدائن بالمثل صفة وقدراً، أو حدث موجب جديد كصهارة، أو جوار، وكان الإهداء لذلك لا للدين. والحرمة تتعلق بكل من الأخذ والدفع، وعندئذ يجب عليه ردها إن كانت باقية، فإن تلفت وجب عليه رد المثل في المثلي، والقيمة في القيمي، هذا في حال بقاء علاقة الدين، أما عند وفاء الدين: فإن قضى المدين أكثر من الدين، فإن كان الدين بسبب بيع، جاز مطلقاً، سواء أكان المؤدى أفضل صفة أم مقداراً، في الأجل أم قبله أم بعده. وإن كان وفاء الدين بسبب سلف (أي قرض) : فإن كانت الزيادة بشرط أو وعد أو عادة منعت مطلقاً، وإن كانت بغير شرط ولا وعد ولا عادة، جازت اتفاقاً عند المالكية في الأفضل صفة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم استسلف بَكْراً، وقضى جملاً بَكْراً خِياراً، كما سيأتي، واختلف في الأفضل مقداراً، ففي المدونة لمالك لا يجوز إلا في اليسير جداً، وأجازه ابن حبيب مطلقاً (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: لا يجوز قرض جرّ منفعة، مثل أن يقرضه ألفاً على أن يبيعه داره، أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن سلف وبيع» (2) . والسلف: هو القرض في لغة الحجاز. وروي عن أبي بن كعب
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3 ص 224 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 288 ومابعدها.
(2) سبق تخريج هذا الحديث، وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «لا يحل سلف ولا بيع» وله رواية أخرى عند الطبراني في معجمه عن حكيم بن حزام قال: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أربع خصال في البيع: عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وبيع ما ليس عندك، وربح ما لم يضمن» (راجع نصب الراية: 4 ص 19، مجمع الزوائد: 4 ص 85) .(5/445)
وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم «نهوا عن قرض جرّ منفعة» (1) ولأن القرض عقد إرفاق (أي منفعة) وقربة، فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه، فيكون القرض صحيحاً والشرط باطلاً، سواء أكانت المنفعة نقداً أم عيناً كثيرة أم قليلة.
فإن أقرض شخص غيره مطلقاً من غير شرط، فقضاه خيراً منه في الصفة، أو زاده في القدر، أو باع منه داره، جاز. ولا يكره للمقرض أخذه، لما روى أبو رافع رضي الله عنه قال: «استسلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رجل بَكْراً (2) ، فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكراً، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خِياراً رَباعياً (3) ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أعطه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء» (4) . وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «كان لي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حق، فقضاني وزادني» (5) وأما النهي عن قرض جر نفعاً، فهو ليس بحديث، كما أثبت الحافظ
__________
(1) هكذا ذكر ابن قدامة في المغني: 4 ص 319. ورواه البيهقي في السنن الكبرى كذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفاً عليهم. وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة» وفي رواية «كل قرض جر منفعة فهو ربا» وإسناده ساقط، لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمذاني المؤذن الأعمى وهو متروك. ورواه البيهقي في المعرفةبلفظ: «كل قرض جر نفعاً فهو وجه من وجوه الربا» قال عمرو بن بدر في المغني: لم يصح فيه شيء (راجع التلخيص الحبير: ص 245، نيل الأوطار: 5 ص 232، سبل السلام: 3 ص 53) وعلى كل فمعناه صحيح تؤيده قواعد الشريعة.
(2) البكر: هو الثني من الإبل، والأنثى بكرة، وقال أبو عبيد: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس.
(3) الخيار: أي المختار، والرباعي: هو الذي ألقى رباعيته: وهي السن التي بين الثنية والناب: وهو الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة.
(4) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة (راجع التلخيص الحبير: ص 245، الموطأ: 2 ص 168، نيل الأوطار: 5 ص 230) .
(5) رواه البخاري ومسلم وأحمد (راجع نيل الأوطار: 5 ص 231) .(5/446)
الزيلعي في نصب الراية، وكما ذكر في الحاشية السابقة، ويمكن فهمه على أنه في القرض الذي شرط فيه النفع أو جرى عليه العرف، كما قرر الكرخي وغيره.
والإقراض ممن تعود رد الزيادة، فيه وجهان: أوجههما عند الشافعية الكراهية. وعند الحنابلة: روايتان أصحهما الجواز بدون كراهة (1) .
والخلاصة أن القرض جائز بشرطين (2) :
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 119 ومابعدها، المهذب: 1 ص 304، المغني: 4 ص 321 وما بعدها، غاية المنتهى: 2 ص 85 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 288، الشرح الصغير: 295/3.(5/447)
1 - ألا يجر نفعاً، فإن كانت المنفعة للدافع، منع اتفاقاً للنهي عنه، وخروجه عن باب المعروف، وإن كانت للقابض جاز، وإن كانت بينهما لم يجز لغير ضرورة. واختلف في الضرورة وهي حالة السفاتج الآتية، فيجوز السلف في حال عموم الخوف على المال في الطرق، كأن يسلفه لشخص يعلم أنه يَسْلم معه، كما يجوز إن قام دليل على نفع المقترض فقط كمجاعة، أو كان بيع الحب المسوس الآن أحظ للمقترض لغلائه ورخص الجديد في إبّانه.
2 - ألا ينضم إلى السلف عقد آخر كالبيع وغيره، لما أخرجه الخمسة عن عبد الله بن عمرو: «لا يحل سلف وبيع» .
وأما هدية المديان: فلا يجوز للدائن عند المالكية قبولها؛ لأنه يؤول إلى زيادة على التأخير، وأجازها الجمهور، إن لم تكن مشروطة، كما تجوز إن كان بين المقرض والمقترض من الصلات ما يعلم أن الهدية له لا للدين.(5/448)
ويلاحظ أن إيداع المال في صندوق التوفير، وشهادات الاستثمار يطبق عليه حكم القرض أو السندات الحكومية أو ما يسمى بسندات الخزينة، وتدفع الدولة فوائد ربوية على أرصدة صندوق التوفير، وتتملك الأرصدة، وتتصرف فيها، وتستفيد منها في عمليات الإقراض الربوي. فلا تحل الفائدة التي يدفعها الصندوق لواضعي أموالهم فيها، إذ ليست العلاقة مجرد وديعة كما زعم بعض المفتين، إذ لو كان هذا المال وديعة محضة، لما جاز شرعاً للقائمين على هذا الصندوق أن يستغلوه ويستثمروه في الأعمال، إذ الذي يملكه الوديع من الوديعة حفظها فقط، لا التصرف فيها، لكن المودع إذا أذن بالتصرف في الوديعة كانت قرضاً، لأن العبرة للمعاني والبنك يملك المال المودع لديه، ويتعهد برد المثل، وكذلك الربح المقطوع المحدد بفائدة سنوية معينة في شهادات الاستثمار ليس مشروعاً؛ إذ لا يجوز ذلك في الشركات وبخاصة شركة المضاربة، وطريق الجواز: أن يكون الربح غير محدد المقدار وأن يتفق على المساهمة في الخسارة الحادثة لو وقعت الخسارة أثناء الاستثمار في مشروع معين.
وكذلك الحساب الجاري يعتبر عقد قرض بين المودع والبنك، وبالرغم من أن البنك لا يدفع فائدة على هذا القرض، فهو يستخدم أرصدة الحسابات الجارية في الإقراض بالربا وغير ذلك من الأعمال المحرمة. وإذا اضطر المسلم لفتح الحساب الجاري لتغطية استيراد بضاعة من دولة أجنبية مثلاً، جاز له ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
السُفْتَجة (1) : هي معاملة مالية يقرض فيها إنسان قرضاً لآخر في بلد ليوفيه المقترض أو نائبه أو مدينه إلى المقرض نفسه أو نائبه أو دائنه في بلد آخر معين.
__________
(1) بفتح السين والتاء أو بضمها، أو ضم السين وفتح التاء، وهذا الأخير هو الأشهر وهي كلمة فارسية معربة وهي رقعة يكتبها المقرض إلى من يقبض عنه عوض القرض في المكان الذي اشترطه. وهذه الرقعة كورقة (الشيك) الآن، وتعتبر نوعاً من (الكمبيالة) المعروفة في الوقت الحاضر.(5/449)
وحكمها عند الحنفية: الكراهة التحريمية إذا كانت المنفعة المقصودة منها (أي الوفاء في بلد آخر لتفادي خطر الطريق) مشروطة في صلب العقد، أو بمقتضى العرف. قال المرغيناني: ويكره السفاتج وهي قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، وهذا نوع نفع استفيد به، وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعاً (1) .
وقال الشافعية بمنع السفتجة؛ لأنها من قبيل القرض الذي يجر منفعة للمقرض بربحه فيها خطر الطريق (2) .
وكذلك قال المالكية، فهي عندهم ممنوعة لأنها قرض جر نفعاً إلا في حالة الضرورة حفظاً لماله (3) .
والراجح عند الحنابلة هو جواز تلك المعاملة إن كانت بلا مقابل، واختار ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة القول بالجواز مطلقاً؛ لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعاً (4) .
أنواع شهادات الاستثمار:
صدرت أنواع ثلاثة من شهادات الاستثمار فئة أ، ب، ج:
أما المجموعة أو الفئة (أ) : فتشمل الشهادات ذات القيمة المتزايدة، حيث يبقى القرض عشر سنوات لدى المؤسسة، ثم يسترد صاحبه القرض مع الزيادة المحددة المعلن عنها، وهي ربا عشر سنوات كاملة.
وأما المجموعة أو الفئة (ب) : فتشمل الشهادات ذات العائد الجاري، حيث يمكن سحب الأرباح كل فترة زمنية كسنة أو نصف سنة، أي رأس المال، وهو أن القرض يبقى كما هو، وتؤخذ الزيادة المحددة مع مرور الزمن.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير: 452/5.
(2) المهذب: 304/1.
(3) الخرشي علي خليل: 141/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 250، 288، الشرح الكبير للدردير: 225/3.
(4) مطالب أولي النهى: 246/3، المغني: 321/4، أعلام الموقعين: 391/1، ط التجارية.(5/450)
وكلا هذين النوعين يعد قرضاً، وتكون الزيادة المحددة من ربا الديون، وكلاهما من القروض الإنتاجية الربوية، فهما حرام مثل ودائع البنوك التي هي قرض، سواء قصد بها مجرد الإيداع كالحساب الجاري، أم الاستثمار مع الإيداع وهي الودائع ذات الفائدة.
وأما المجموعة أو الفئة (ج) : فلا تعطي ربحاً محدداً كل سنة، ولكنها خصصت مبلغاً من أرباحها تمنحه للمتعاملين معها بالقرعة. وقد انزلق بعض العلماء فأفتى بجوازها بناء على أن المال كله من جانب رب المال، والربح كله للعامل في مقام تبرع صاحب المال له به كله، وهذا جائز على المشهور من مذهب مالك. وجاء في التقنين المالكي ص 300 ما يفيد إباحة فوائد صندوق التوفير اعتماداً على وجهين:
أحدهما ـ أن هذه معاملة لم تكن موجودة في عصر نزول التشريع الإسلامي، فتكون من قبيل المسكوت عنه، فتكون مباحة شرعاً؛ لأنها معاملة نافعة لكل من العامل ورب المال، ولا ضرر فيها لواحد منهما. ولأن الكثير الغالب هو حصول العامل على نصيب وافر من الربح، والحكم الشرعي يبنى على الكثير الغالب، لا على القليل النادر وهو احتمال الخسارة.
والثاني ـ أن هذه المعاملة من قبيل القراض، وهو جائز بالإجماع، لأنها نوع من أنواعه، ويتغاضى عن اشتراط كون الربح جزءاً شائعاً لا قدراً معيناً؛ لأن القراض العادي يقع بين أفراد الناس، وهذه المعاملة مع مؤسسة للدولة!!
والحق أن هذه المجموعة الثالثة حرام أيضاً لاعتمادها على الميسر أو القمار، من طريق تقسيم مجموع الربا إلى مبالغ مختلفة، لتشمل عدداً أقل من مجموع عدد المقرضين، موزعة باسم الجوائز عن طريق القرعة، وفي هذا أيضاً غبن واضح؛ لأن صاحب قرض ضئيل قد يأخذ آلاف الدنانير أو الليرات، وصاحب الآلاف قد لايأخذ شيئاً.(5/451)
الفَصْلُ الثَّالث: عَقْدُ الإيجار
عقد الإجارة كالبيع من العقود المسماة (1) التي عني التشريع الإسلامي ببيان أحكامها الخاصة بها بحسب ما تقتضيه طبيعة عقدها، وهي تختلف عن عقد البيع في أنها مؤقتة المدة، بينما عقد البيع لا يقبل التأقيت، وإنما هو مؤبد، لأنه يترتب عليه انتقال ملكية العين.
وعقد الإجارة من العقود المهمة في الحياة العملية، لذا فإني سأتكلم عن أهم خصائصها وأحكامها في المباحث الآتية:
المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها.
المبحث الثاني ـ شروط الإجارة.
المبحث الثالث ـ صفة عقد الإجارة وحكمه.
المبحث الرابع ـ نوعا الإجارة وأحكامها.
المبحث الخامس ـ ضمان العين المستأجرة وضمان الأجير وسقوط أجره بهلاك العين.
المبحث السادس ـ اختلاف المتعاقدين في الإجارة.
المبحث السابع ـ انتهاء عقد الإجارة.
المبحث الأول ـ مشروعية الإجارة وركنها ومعناها:
مشروعية الإجارة: اتفق الفقهاء على مشروعية عقد الإجارة ما عدا أبا بكر الأصم وإسماعيل بن عُلَية والحسن البصري والقاشاني والنهرواني وابن كيسان فإنهم لم يجيزوه؛ لأن الإجارة بيع المنفعة، والمنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض، ثم تستوفى شيئاً فشيئاً مع الزمن، والمعدوم لا يحتمل البيع، ولا يجوز إضافة البيع إلى شيء في المستقبل. ورد عليهم ابن رشد بأن المنافع، وإن كانت معدومة في حال العقد، فهي مستوفاة في الغالب. والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما
__________
(1) وهي التي سماها المشرع ونظمها مثل البيع والإجارة والشركة والكفالة والهبة فتطبق عليها القواعد العامة للعقود، والقواعد الخاصة بها، أما العقود غير المسماة وهي التي لم ينظمها المشرع مثل العقود الحديثة الظهور كعقد التوريد وعقد النزول في فندق، فهي تخضع للقواعد العامة.(5/452)
يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه على السواء (1) .
واستدل الجمهور على جواز عقد الإيجار بالقرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [الطلاق:6/65] وقوله عز وجل حاكياً قول إحدى ابنتي شعيب عليه السلام: {قالت إحداهما: يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك} [القصص:26/28-27] والاستدلال بهذه الآية صحيح عند القائلين: بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ.
وأما السنة: فقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» (2) .
فالأمر بإعطاء الأجر دليل على صحة الإيجار، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» (3) .
وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: «كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمرنا أن نكريها بذهب أو وَرِق» (4) .
وروى ابن عباس رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره» (5) .
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة في زمن الصحابة على جواز الإيجار قبل
__________
(1) بداية المجتهد: 2 ص 218.
(2) روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر ومن حديث جابر ومن حديث أنس، فحديث أبي هريرة رواه أبو يعلى في مسنده، وحديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه في سننه، وحديث جابر رواه الطبراني في معجمه الصغير، وحديث أنس رواه أبوعبد الله الترمذي الحكيم في كتاب نوادر الأصول. قال ابن حجر: كلها ضعاف (انظر نصب الراية: 4 ص 129 ومابعدها، مجمع الزوائد: 4 ص 97، سبل السلام: 3 ص 81) .
(3) رواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار، وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة. قال أبو زرعة: الصحيح موقوف أي على أبي سعيد. (انظر نصب الراية: 4 ص 131، سبل السلام: 3 ص 82، نيل الأوطار: 5 ص 292) .
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص بلفظ: «أن أصحاب المزارع في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاختصموا في بعض ذلك، فنهاهم أن يكروا بذلك، وقال: أكروا بالذهب والفضة» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 279) .
(5) رواه أحمد والبخاري ومسلم، زاد البخاري في لفظ: «ولو كان سحتاً لم يعطه» (انظر نصب الراية: 4 ص 134، نيل الأوطار: 5 ص 285، سبل السلام: 3 ص 80) .(5/453)
وجود الأصم وابن علية وغيرهما، لحاجة الناس إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان المحسوسة، فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع (1) .
ركن الإجارة ومعناها: ركن الإيجار عند الحنفية: الإيجاب والقبول، وذلك بلفظ الإجارة والاستئجار والاكتراء والإكراء.
وأركانه عند الجمهور (2) أربعة: عاقدان (مؤجر ومستأجر) ، وصيغة (إيجاب وقبول) ، وأجرة ومنفعة.
ومعنى الإيجار لغة: بيع المنفعة. ومعناه الشرعي هو معناه اللغوي، ولذا قال الحنفية: الإيجار: عقد على المنافع بعوض (3) . وكما لا يصح تعليق البيع، لا يصح تعليق الإجارة، إلا أن الإجارة يصح إضافتها إلى زمن في المستقبل عند جمهور الفقهاء، على عكس البيع كما ذكر سابقاً. ولم يجز الشافعية إضافة إجارة العين للمستقبل كالبيع. وأجازوا إضافة الإجارة في الذمة، مثل: ألزمت ذمتك حمل متاعي هذا إلى بلد كذا أول شهر كذا؛ لأن الدين يقبل التأجيل، كما لو أسلم في شيء إلى أجل معلوم. وكذلك يصح عندهم في الأصح في إجارة العين: أن
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي: 15 ص 74، تكملة فتح القدير: 7 ص 147، البدائع: 4 ص 173، بداية المجتهد: 2 ص 218، المهذب: 1 ص 394، المغني: 5 ص 397، مغني المحتاج: 2 ص332.
(2) القوانين الفقهية: ص 274، مغني المحتاج: 332/2.
(3) تكملة فتح القدير: 7 ص 145، البدائع: 4 ص 174، تبيين الحقائق: 5 ص 105، حاشية ابن عابدين: 5 ص 1. وقد آثرت لفظ الإيجار على لفظ الإجارة لأن الإجارة اسم للأجرة: وهي ما أعطيت من كراء الأجير، وهي ليست مصدراً لفعل «أجر» إذ لم تسمع مصدراً قط، ومن المعروف أن مصدر الفعل الثلاثي سماعي لا قياس فيه. وإذا استعملنا لفظ الإجارة أحياناً فهو مجاراة للاصطلاح الشائع.(5/454)
يؤجر المالك مدة جديدة لمستأجر عين مدة سابقة قبل انقضائها، لاتصال المدتين مع اتحاد المأجور (1) . وعرف الشافعية الإيجار فقالوا: هو عقد على منفعة مقصودة معلومة مباحة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. ومحترزات قيود التعريف هي أنه خرج بقولهم: «منفعة» : العين، فالعقد عليها بيع أو هبة، وبقولهم: «مقصودة» : المنفعة التافهة كاستئجار بياع على كلمة لا تتعب، وبقولهم: «معلومة» : المضاربة والجعالة على عمل مجهول. وأما قيد «قابلة للبذل والإباحة» فهو لإخراج منفعة البُضع، فإن العقد عليها لا يسمى إجارة، والقيد الأخير (أي بعوض) لإخراج هبة المنافع والوصية بها والشركة والإعارة (2) .
وقال المالكية: الإيجار: تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض (3) . وبمثل ذلك قال الحنابلة (4) .
وإذا كانت الإجارة بيع المنافع فلايجوز عند أكثر الفقهاء إجارة الشجر والكرم للثمر؛ لأن الثمر عين، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين. ولا تجوز إجارة الشاة للبنها أو سمنها أو صوفها أو ولدها؛ لأن هذه أعيان، فلا تستحق بعقد الإجارة. ولا تجوز إجارة ماء في نهر أو بئر أو قناة أوعين؛ لأن الماء عين، ولا يجوز استئجار
__________
(1) مغني المحتاج: 2 ص 338 الإجارة عند الشافعية نوعان: إجارة واردة على عين أي على منفعة مرتبطة بعين كإجارة العقار، أو إجارة دابة أو شخص معينين، ويلاحظ أن إجارة العقار لا تكون إلا من إجارة العين، لأنه لا يثبت في الذمة. وإجارة واردة على ذمة، كاستئجار دابة موصوفة لحمل مثلاً، أو كأن يلزم ذمة شخص عملاً معيناً كخياطة أو بناء أو غير ذلك (مغني المحتاج: 2 ص 333) . (2) مغني المحتاج: 2 ص 332.
(3) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 2، الفروق للقرافي: 4 ص 4.
(4) انظر المغني لابن قدامة: 5 ص 398، غاية المنتهى: 2 ص 190، كشاف القناع: 3 ص 537.(5/455)
الآجام التي فيها الماء للسمك وغيره من القصب والصيد؛ لأن كل ذلك عين. وعلى هذا فلا تجوز إجارة البِرك أو البحيرات للاصطياد أي ليصاد منها السمك (1) .
ولا تجوز إجارة المراعي؛ لأن الكلأ عين فلا تحتمل الإجارة.
ولا يجوز عند جمهور الفقهاء استئجار الفحل للضراب؛ لأن المقصود منه النسل، بإنزال الماء وهو عين، وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم: «نهى عن عَسْب الفحل» (2) أي كرائه. وقد حذفت كلمة «الكراء» من باب المجاز المرسل مثل: {واسأل القرية} [يوسف:82/12] . ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير والمكيلات والموزونات؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد استهلاك أعيانها، والمعقود عليه في الإجارة هو المنفعة لا العين (3) . لهذا كله فإن المقرر أن: «كل ما ينتفع به مع بقاء عينه تجوز إجارته وما لا فلا» .
واستثنوا استئجار المرضع للضرورة كما يأتي. وأجاز المالكية كراء الفحل للنزو على الإناث، وأجرة الحمام جائزة عند أكثر العلماء (4) .
رأي ابن القيم في إجارة الأعيان: قال ابن القيم: إن الأصل الذي سار عليه الفقهاء (وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان) أصل فاسد، فهو لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 110 وما بعدها.
(2) رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود عن ابن عمر، وروي عن آخرين بألفاظ ستأتي الإشارة إليها (نيل الأوطار: 5 ص 146) .
(3) البدائع: 4 ص 175.
(4) القوانين الفقهية: ص 273.(5/456)
كالثمر في الشجر، واللبن في الحيوان، والماء في البئر، ولذلك سوي بين العين والمنفعة في الوقف، فجاز وقف المنفعة كالسكنى، وجاز وقف العين كوقف الماشية للانتفاع بلبنها، وكذلك سوي بينهما في التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والمنيحة لمن يشرب الشاة ثم يردها، والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها، فكذلك في الإجارة تارة تكون على منفعة، وتارة تكون على عين تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر، فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة، والجامع بينهما هو حدوث المقصود بالعقد شيئاً فشيئاً، سواء أكان الحادث عيناً أم منفعة (1) .
المبحث الثاني ـ شروط الإجارة
يشترط في عقد الإيجار أربعة أنواع من الشروط كما في عقد البيع: وهي شروط الانعقاد، وشروط النفاذ، وشروط الصحة، وشروط اللزوم. وأذكر هنا بعض هذه الشروط، وأحيل ما بقي منها على ما هو مقرر في عقد البيع.
__________
(1) انظر أعلام الموقعين: 2 ص 15.(5/457)
شروط الانعقاد: وهي ثلاثة أنواع: بعضها يرجع للعاقد، وبعضها يرجع لنفس العقد، وبعضها يرجع لمكان العقد. وأقتصر على ذكر ما يرجع للعاقد: وهو العقل، أي أن يكون العاقد عاقلاً، فلا تنعقد الإجارة من المجنون والصبي غير المميز كما لا ينعقد البيع منهما. ولا يشترط البلوغ للانعقاد ولا للنفاذ عند الحنفية، فلو أجر الصبي المميز ماله أو نفسه: فإن كان مأذوناً في ذلك وغيره ينفذ عقده، وإن كان محجوراً عن التصرفات يقف على إجازة وليه (1) .
وقال المالكية: إن التمييز شرط في الإيجار والبيع، والبلوغ شرط للنفاذ، فالصبي المميز إذا أجر نفسه أو سلعته صح عقده، وتوقف العقد على رضا وليه (2) .
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط التكليف: وهو البلوغ والعقل لانعقاد الإيجار، لأنه عقد تمليك في الحياة، فأشبه البيع (3) .
شروط النفاذ: يشترط لنفاذ عقد الإجارة توافر الملك أو الولاية، فلا تنفذ إجارة الفضولي لعدم الملك أوالولاية، وإنما العقد ينعقد موقوفاً على إجازة المالك عند الحنفية والمالكية كما في عقد البيع، خلافاً للشافعية والحنابلة.
والإجازة تلحق الإجارة الموقوفة بشروط، منها قيام المعقود عليه. فإذا أجر الفضولي، وأجاز المالك العقد ينظر (4) :
إن أجاز العقد قبل استيفاء المنفعة، جازت إجارته، وكانت الأجرة للمالك، لأن المعقود عليه قائم.
وإن أجاز العقد بعد استيفاء المنفعة لم تجز إجارته، وكانت الأجرة للعاقد، لأن المنافع المعقود عليها تلاشت في الماضي، فتكون عند الإجازة معدومة، فلا يبقى العقد بعدئذ، لفوات محله، فلا تصح الإجارة، كما عرفنا في عقد البيع ويصير العاقد الفضولي حينئذ غاصباً بالتسليم.
__________
(1) البدائع: 4 ص 176.
(2) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 3.
(3) مغني المحتاج: 2 ص 332، المغني: 5 ص 398.
(4) انظر البدائع: 4 ص 177.(5/458)
وقال الحنفية: إن الغاصب إذا آجر ما غصبه وسلم ذلك، ثم قال المالك: (أجزت ما آجرت) : فإن كانت مدة الإجارة قد انقضت فللغاصب الأجر؛ لأن المعقود عليه قد انعدم، والإجازة لا تلحق المعدوم كما بينت. وإن كانت الإجازة بعد مضي بعض المدة فالأجر كله للمالك عند أبي يوسف، لأنه إذا بقي بعض المدة لم يبطل العقد، فكان محلاً للإجازة، فهو قد نظر إلى المدة.
وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر ما بقي للمالك؛ لأن كل جزء من أجزاء المنفعة معقود عليه مستقل عن غيره، فإذا مضى بعض مدة الإجارة، كان الماضي منعدماً حين الإجارة، فلا يصح إلحاق الإجازة به لانعدامه، فهو قد نظر إلى المعقود عليه.
ويجري هذا الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيمن غصب أرضاً فأجرها للزراعة، فأجاز صاحب الأرض عقد الإجارة.
وأضاف محمد: إن أعطاها الغاصب مزارعة فهنا تفصيل: إن كان الزرع قد سنبل، ولم ييبس، فأجاز صاحب الأرض، جازت المزارعة، ولا شيء للغاصب من الزرع، لأن المزارعة بمنزلة شيء واحد، لا ينفصل بعض عملها عن بعض، فكانت إجازة العقد قبل الاستيفاء بمنزلة ابتداء العقد. وأما إذا كان الزرع قد يبس فقد انقضى عمل المزارعة، فلا تلحق الإجازة العقد، ويكون الزرع حينئذ للغاصب.
شروط صحة الإجارة: يشترط لصحة الإجارة شروط تتعلق بالعاقد والمعقود عليه والمحل المعقود عليه، والأجرة، ونفس العقد وهي:
1 - رضا المتعاقدين: يشترط توافر رضا المتعاقدين كما في البيع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} [النساء:29/4] والإجارة تجارة، لوجود معنى مبادلة المال بالمال فيها (1) . وهذا الشرط يتعلق بالعاقد، وما سيأتي متعلق بالمعقود عليه.
__________
(1) انظر البدائع: 4 ص 179.(5/459)
2 - أن يكون المعقود عليه وهو المنفعة معلوماً علماً يمنع من المنازعة، فإن كان مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة لا يصح العقد؛ لأن هذه الجهالة تمنع من التسليم والتسلم، فلا يحصل المقصود من العقد.
والعلم بالمعقود عليه: يكون ببيان محل المنفعة وبيان المدة وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال.
أما بيان محل المنفعة: فيحصل بمعرفة العين المستأجرة بعينها، فلو قال إنسان لآخر: آجرتك إحدى هاتين الدارين، أو أحد هذين المركبين أو أحد هذين الصانعين، لم يصح العقد لجهالة المعقود عليه جهالة فاحشة. ولو استأجر إنسان من آخر نهراً يابساً أو موضعاً من الأرض معلوماً ليسوق منه الماء إلى أرض له، فيسقيها، لم يجز في المشهور عند الحنفية، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن مقدار ما يسيل من الماء في النهر مختلف قلة وكثرة، والكثير منه مضر بالنهر، والمضر منه مستثنى ضمناً، وغير المضر غير منضبط، فصار محل المعقود عليه مجهولاً.
وروي عن محمد أنه يجوز؛ لأن المانع من جواز العقد جهالة البقعة وقد زالت الجهالة بالتعيين (1) .
وأما بيان المدة: فهو مطلوب في إجارة الدور والمنازل والبيوت والحوانيت وفي استئجار الظئر (المرضع) ؛ لأن المعقود عليه لا يصير معلوم القدر بدونه، فترك بيانه يفضي إلى المنازعة.
__________
(1) البدائع، المصدر السابق: 4 ص 180، المبسوط: 16 ص 43، الفروق: 4 ص 4، تكملة فتح القدير: 7 ص 148.(5/460)
وتصح الإجارة على أي مدة طالت أو قصرت وهو قول أكثر العلماء ومنهم الشافعية على الصحيح (1) ، فإنهم قالوا: يصح عقد الإجارة مدة تبقى فيها العين غالباً بحسب رأي أهل الخبرة، ولا يقدر للإجارة أقصى مدة، إذ لا دليل من الشرع على ذلك (2) .
ولا يشترط عند الحنفية تعيين ابتداء مدة الإجارة، فإذا كان العقد مطلقاً عن تعيين ابتداء المدة، تعين الزمن الذي يعقب العقد، وهو الشهر الذي يأتي بعد العقد.
وقال الشافعية: يشترط تعيين مدة الابتداء التي تلي العقد نصاً؛ لأن عدم التعيين يؤدي إلى جهالة الوقت الموجبة لجهالة المعقود عليه (3) .
وإن وقعت الإجارة شهراً أو شهوراً أو سنين معلومة في أول الشهر يعتبر الشهر بالأهلة، وإن وقعت في بعض الشهر يعتبر الشهر بالأيام ثلاثين يوماً لتعذر اعتبار الأهلة، فتعتبر الأيام. وكذلك الأمر في الشهور والسنين، فإذا كان العقد في أول الشهر فشهور السنة كلها بالأهلة، لأنها هي الأصل، وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام عند أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف.
وهناك رواية أخرى عن أبي حنيفة وهو رأي محمد ومذهب الشافعية: إذا
__________
(1) يقول الحنفية: تصح الإجارة على أي مدة معلومة سواء أكانت طويلة أم قصيرة، لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوماً، إلا في الأوقاف، فلا تجوز الإجارة الطويلة فيها على ما هو مختار، كيلا يدعي المستأجر ملكها: (وهي ما زاد على ثلاث سنين في الضياع أي العقارات، وعلى سنة في غيرها) ومثل ذلك إجارة أرض اليتيم (راجع اللباب شرح الكتاب: 2 ص 88، تكملة فتح القدير: 7 ص 150) .
(2) مغني المحتاج: 2 ص 349، المهذب: 1 ص 396، المغني: 5 ص 401، غاية المنتهى: 2 ص201.
(3) المهذب، المصدر السابق.(5/461)
استأجر داراً لمدة سنة في بعض الشهر، فإنه يسكن بقية هذا الشهر بالأيام، ويكمل ما بقي من الشهر الأول من الشهر الأخير، والباقي من السنة وهو أحد عشر شهراً بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، والضرورة قائمة في الشهر الأول فقط من السنة. ووجه الرواية الأولى أنه متى تم الشهر الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة، وهكذا إلى آخر السنة (1) .
الإجارة مشاهرة: تشدد الشافعية في شرط معرفة المدة، فقالوا في الصحيح عندهم: إن آجر شخص داره كل شهر بدينار مثلاً، أو كل يوم أو كل جمعة أو كل سنة بكذا، فالإجارة باطلة؛ لأن كل شهر يحتاج إلى عقد جديد لإفراده بأجرة معينة، ولم يوجد عقد، وذلك يقتضي البطلان، هذا بالإضافة إلى جهالة مدة الإجارة، فصار كما لو قال: آجرتك مدة أو شهراً (2) .
وقال جمهور الفقهاء: تصح الإجارة في الشهر الأول وتلزم، وأما ما عدها من الشهور فلا يلزم إلا بالدخول فيه أو التلبس فيه؛ لأن شروعه مع ما تقدم في العقد من الاتفاق على تقدير أجره والرضا ببذله جرى مجرى ابتداء العقد عليه، وصار كبيع المعاطاة إذا جرى من المساومة ما دل على التراضي بها (3) .
وأما بيان العمل في استئجار الصناع والعمال فهو أمر مطلوب منعاً من الجهالة؛ لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة، فيفسد العقد، فلو استأجر عاملاً، ولم يسم له العمل من الخياطة والرعي وعزق الأرض ونحوه لم يجز العقد.
__________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 178، البدائع: 4 ص 181، المبسوط: 15 ص 132، تبيين الحقائق: 5 ص 123: المهذب: 1 ص 396، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 35.
(2) المهذب: 1 ص 396، مغني المحتاج: 2 ص 340، الميزان للشعراني: 2 ص 95.
(3) البدائع: 4 ص 182، تبيين الحقائق: 5 ص 122، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 44، المغني: 5 ص 409، القوانين الفقهية: ص 275 ومابعدها.(5/462)
وإذا كان الأجير مشتركاً فلابد من بيان المعمول فيه إما بالإشارة والتعيين، أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة، فلو استأجر شخص حفاراً لحفر بئر فلا بد من بيان مكان الحفر وعمق البئر ونوعها وعرضها؛ لأن عمل الحفر يختلف باختلاف هذه الأوضاع (1) .
تعيين المدة والعمل: إذا كان لا بد من تعيين المدة في إجارة المنافع كإجارة المنازل ونحوها، وتعيين نوع العمل في الإجارة على الأعمال كالخياطة ونحوها، فهل يجوز الجمع بين اشتراط المدة والعمل معاً؟
قال الحنفية: لا يشترط في إجارة المنافع تعيين العمل، فلو استأجر رجل داراً أو حانوتاً، ولم يسم ما يعمل فيه، جازت الإجارة، وله أن يسكن فيه بنفسه مع غيره، وله أن يسكن فيه غيره بالإجارة والإعارة، وله أن يضع فيه متاعاً وغيره، غير أنه لا يستعمل البناء بما يضره ويوهنه ولا يجعل فيه حداداً ولا قصاراً ولا طحاناً؛ لأن العقد المطلق عن الشرط مقيد بالعرف المألوف.
وأما في الإجارة على الأعمال، فيشترط بيان المدة في استئجار الراعي المشترك لأن قدر المعقود عليه لا يصير معلوماً بدونه. وأما في استئجار القصار المشترك والخياط المشترك، فلا يشترط بيان المدة؛ لأن المعقود عليه يصير معلوماً بدونه. وأما الأجير الخاص، فلا يشترط في العقد معه بيان جنس المعمول فيه ونوعه وقدره وصفته، وإنما يشترط بيان المدة فقط. وكذلك يشترط بيان المدة في استئجار الظئر.
واختلف أبو حنيفة مع صاحبيه في اجتماع المدة مع العمل (2) ، فقال أبو حنيفة: متى تعينت المدة لم يجز تقدير العمل. وقال الصاحبان: يجوز التقدير بهما معاً. وعلى هذا: إذا قال رجل لآخر: استأجرتك لتخيط هذا الثوب اليوم، أو لتقصر هذا الثوب اليوم، أو لتخبز قفيز دقيق اليوم، فالإجارة فاسدة عند أبي حنيفة. وجائزة عند الصاحبين.
وإذا استأجر شخص دابة إلى بلد أياماً معينة، فالإجارة فاسدة عند الإمام. وعند صاحبيه جائزة.
__________
(1) البدائع: 4 ص 184، المبسوط: 16 ص 47.
(2) راجع البدائع: 4 ص 184 ومابعدها.(5/463)
وجه قول الصاحبين: أن المعقود عليه هو العمل لأنه هو المقصود، والعمل معلوم، والقصد من ذكر المدة هو التعجيل، فلم تكن المدة معقوداً عليها، فلا يمنع ذكرها جواز العقد. وإذا وقعت الإجارة على العمل: فإن فرغ الأجير منه قبل تمام المدة فله كمال الأجر، وإن لم يفرغ منه في اليوم، فعليه أن يعمله في الغد.
ووجه قول أبي حنيفة: أن المعقود عليه مجهول، لأن العاقد ذكر أمرين: هما العمل والمدة، وكل واحد منهما يجوز أن يكون معقوداً عليه، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد. هذا مع العلم بأنه لا يمكن الجمع بين العمل والمدة في كون كل واحد منهما معقوداً عليه؛ لأن حكمهما مختلف؛ إذ أن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً خاصاً؛ والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل؛ لأن الأجير يصبح أجيراً مشتركاً، فكان المعقود عليه أحدهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً.
وقال الحنابلة: إذا عقدت الإجارة على عمل كبناء حائط، وخياطة قميص، وحمل إلى موضع معين، فإذا كان المأجور مما له عمل ينضبط كالحيوان، جاز تقدير إجارته بمدة وعمل؛ لأن المأجور له عمل تتقدر منافعه به. وإن لم يكن المأجور له عملاً كالدار والأرض، لم تجز إجارته إلا على مدة، ومتى تقدرت المدة، لم يجز تقدير العمل، لأن الجمع بينهما يزيد الإيجار غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل المأجور في بقية المدة، فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة. وقد لا يفرغ الأجير من العمل في المدة، فإن أتمه بعدها عمل في غير المدة، وإن لم يعمله، لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه (1) .
__________
(1) المغني: 5 ص 402، غاية المنتهى: 2 ص 302.(5/464)
وقال المالكية والشافعية في الأصح: لا يجوز في إجارة الأعمال كخياطة الثوب ونحوها الجمع بين الزمان والعمل، فلا يصح أن يعين زمان الخياطة بأن يقول الشخص للخياط: اليوم أو بعد أسبوع مثلاً، فتفسد الإجارة؛ لأنه يوجب الغرر بتوقع تعذر العمل في ذلك اليوم أو الأسبوع، فقد يتقدم العمل أو يتأخر، كما لو أسلم رجل في قفيز حنطة بشرط كون وزنه كذا، لا يصح العقد لاحتمال أن يزيد الوزن أو ينقص. وعلى هذا فالمصلحة ونفي الغرر عن العقد يوجبان بقاء العقد مطلقاً دون تحديد مدة معينة (1) .
3 - أن يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء حقيقة وشرعاً: فلا تجوز إجارة متعذر التسليم حقيقة كإجارة البعير الشارد والأخرس للكلام، أو شرعاً كإجارة الحائض لكنس المسجد، والطبيب لقلع سن صحيحة، والساحر على تعليم السحر، وهذا باتفاق الفقهاء. ولا تجوز إجارة المشاع من غير الشريك عند أبي حنيفة وزفر والحنابلة، كأن يؤجر نصيباً من داره، أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك، سواء أكان النصيب معلوماً كالربع ونحوه، أم مجهولاً؛ لأن منفعة المشاع غير مقدورة الاستيفاء؛ لأن استيفاءها بتسليم المشاع، والمشاع غير مقدور
__________
(1) الفروق للقرافي: 4 ص 12، القوانين الفقهية: ص 275، مغني المحتاج: 3 ص340.(5/465)
التسليم بنفسه؛ لأنه سهم شائع ضمن كل، وإنما يتصور تسليمه مع غيره وهو غير معقود عليه، فلا يتصور تسليمه شرعاً. وأما الإجارة من الشريك فهي جائزة على الرواية المشهورة عن أبي حنيفة؛ لأن المعقود عليه مقدور الاستيفاء بدون المهايأة، إذ منفعة كل الدار تحدث مثلاً على ملك المستأجر لكن بسببين مختلفين: بعضها بسبب الملك، وبعضها بسبب الإجارة. وأما الشيوع الطارئ فلا يؤثر على الإجارة في الروية المشهورة عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن المانع من جواز العقد وهو الشيوع كان بسبب عدم القدرة على التسليم، والقدرة على التسليم ليست بشرط لبقاء العقد ودوامه، إذ ليس كل ما يشترط في إنشاء العقد عند ابتدائه يشترط لبقاء العقد (1) .
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء: تجوز إجارة المشاع مطلقاً من الشريك وغيره؛ لأن للمشاع منفعة، والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ، كما يجوز ذلك في البيع، والإجارة أحد نوعي البيع (2) .
ويترتب على اشتراط القدرة على الاستيفاء عند الحنفية مسائل:
أـ لو استأجر إنسان طريقاً في دار غيره ليمر فيها وقتاً معلوماً لم يجز عند أبي حنيفة، ويجوز في قول الصاحبين؛ لأن إجارة المشاع فاسدة عند الإمام، وجائزة عند الصاحبين.
ب ـ لو استأجر شخص أرضاً فيها رطبة (3) (فصفصة) لمدة سنة مثلاً فلا تجوز الإجارة، وإنما تقع فاسدة، لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بإحداث ضرر، وهو قلع الرطبة، والإنسان لا يجبر على إلحاق الضرر بنفسه، فلم تكن المنفعة مقدورة
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 7 ص 180، البدائع: 4 ص 187، تبيين الحقائق: 5 ص 125، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 32، غاية المنتهى: 2 ص 197، الشرح الكبير: 4 ص 19.
(2) بداية المجتهد: 2 ص 225، الميزان: 2 ص 96، المهذب: 1 ص 395.
(3) الرطبة ـ بفتح الراء: الفصة، فإذا يبست فهي قت (الجت) .(5/466)
الاستيفاء شرعاً، فلم تجز. فإن قلع صاحب الأرض الرطبة، وسلم الأرض بيضاء، جاز العقد، لأن المانع قد زال، مثل أن يشتري إنسان جذعاً في سقف إذا نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز العقد، ويجبر المشتري على القبول في الحالتين.
جـ ـ لو استأجر شخص رجلاً للقيام بالبيع والشراء، فلا تجوز الإجارة؛ لأن البيع والشراء لا يتم بشخص واحد، بل بعاقدين هما البائع والمشتري، وذلك غير مقدور للشخص، فتفسد الإجارة على هذه المهمة، إذ أن الأجير لا يقدر على إيفاء المنفعة بنفسه، والمستأجر لا يقدر بالتالي على الاستيفاء، فصار العقد، كما لو استأجر رجلاً ليحمل خشبة بنفسه، وهو لا يقدر على حملها بنفسه.
فإن عين المستأجر للقيام بمهمة البيع والشراء مدة، كأن استأجره شهراً ليبيع له ويشتري، جاز العقد؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة المدة، وهي معلومة.
د ـ لا يصح استئجار الفحل للإنزاء، واستئجار الكلب المعلم، والبازي المعلم للاصطياد؛ لأن المنفعة غير مقدورة الاستيفاء في حق المستأجر إذ لا يمكن إجبار الفحل على الضراب والإنزال، ولا إجبار الكلب والبازي على الصيد.
هذا رأي جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة (1) ؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل أي أجرة ضرابه (2) . وأجاز الإمام مالك العقد إذا كانت الإجارة على مدة معلومة تشبيهاً للمذكور بسائر المنافع (3) .
__________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 179، البدائع: 4 ص 189، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 38، المغني: 5 ص 500، المهذب: 1 ص 394، مغني المحتاج: 2 ص 335، غاية المنتهى: 2 ص 197.
(2) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن ابن عمر، وروي أيضاً عن عدة من الصحابة مثل أنس وابن عباس وعلي وأبي هريرة. وفي بعض ألفاظه: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل» (انظر نصب الراية: 4 ص 135، نيل الأوطار: 5 ص 146) .
(3) بداية المجتهد: 2 ص 322، القوانين الفقهية: ص 275.(5/467)
4 - أن تكون المنفعة المعقود عليها مباحة شرعاً: كاستئجار كتاب للنظر والقراءة فيه والنقل منه، واستئجار دار للسكنى فيها، وشبكة للصيد ونحوها.
يتفرع على هذا الشرط أنه باتفاق الفقهاء (1) : لا يجوز الاستئجار على المعاصي كاستئجار الإنسان للعب واللهو المحرم وتعليم السحر والشعر المحرم وانتساخ كتب البدع المحرمة، وكاستئجار المغنية والنائحة للغناء والنوح، لأنه استئجار على معصية، والمعصية لا تستحق بالعقد. أما الاستئجار لكتابة الغناء والنوح فهو جائز عند الحنفية فقط؛ لأن الممنوع عنه نفس الغناء والنوح، لا كتابتهما. فالقاعدة الفقهية إذن: أن «الاستئجار على المعصية لا يجوز» (2) .
وكذلك لا يجوز استئجار رجل لقتل رجل أو سجنه أوضربه ظلماً أو لأي مظلمة أخرى، لأنه استئجار لفعل معصية، فلا يكون المعقود عليه مقدور الاستيفاء شرعاً. فإن كان الفعل بحق كأن استأجر رجل غيره لقطع عضو فيجوز؛ لأنه مقدور الاستيفاء؛ لأن محله معلوم. أما الاستئجار على القصاص فلا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن القتل بضرب العنق قد يصيب العنق فيكون مشروعاً، وقد يصيب غير العنق فيكون محظوراً؛ لأنه مُثْلة بالإنسان. ويجوز العقد عند محمد؛ لأن القصاص هو حز الرقبة، والرقبة معلومة، فكان المعقود عليه مقدور الاستيفاء (3) .
وكذلك لا يجوز لذمي استئجار دار من مسلم في بلد إسلامية ليتخذها
__________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 180، البدائع: 4 ص 189، تبيين الحقائق للزيلعي: 5 ص 125، الشرح الكبير: 4 ص 21، بداية المجتهد: 2 ص 218، المهذب: 1 ص 394، المغني: 5 ص 502، القوانين الفقهية: ص 275، غاية المنتهى: 2 ص 196، الفروق للقرافي: 4 ص 4.
(2) الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 76.
(3) البدائع: 4 ص 189.(5/468)
مصلى للناس أو لبيع الخمر أو للقمار؛ لأنه استئجار على المعصية، وهذا رأي جمهور العلماء. وكان أبو حنيفة يجيز الاستئجار للمصلى في سواد العراق؛ لأن أكثر أهل السواد في زمانه كانوا أهل ذمة من المجوس، فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة والاستخفاف بالمسلمين (1) .
5 - ألا يكون العمل المستأجر له فرضاً ولا واجباً على الأجير قبل الإجارة:
ويترتب عليه أنه لا تصح الإجارة إذا كانت واردة على القيام بفرض أو واجب على الأجير قبل العقد؛ لأن من أتى بعمل يستحق عليه لا يستحق الأجرة على فعله، كمن قضى ديناً عليه، فلا تصح الإجارة إذن على القرب والطاعات كالصلاة والصوم والحج والإمامة والأذان وتعليم القرآن؛ لأنه في الفرائض استئجار على عمل مفروض، ولأن الاستئجار على الأذان والإقامة والإمامة وتعليم القرآن والعلم سبب لتنفير الناس عن الصلاة بالجماعة، وعن تعليم القرآن والعلم (2) وقد روي أن عثمان بن أبي العاص قال: «إن آخر ما عهد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» قال الترمذي: حديث حسن (3) ، وهذا محل اتفاق بين الحنفية والحنابلة. ومن قواعد الحنفية في هذا «لا يستحق الأجر من استؤجر على الطاعة» «الاستئجار لما هو مستحق عليه لا يجوز» فمن استأجر امرأته شهراً لخدمة البيت لا تجوز هذه الإجارة لأنها مستحقة عليها.
__________
(1) البدائع: 4 ص 176، المبسوط: 16 ص 38، المغني: 5 ص 503.
(2) البدائع: 4 ص 191، المغني: 5 ص 506 ومابعدها، المبسوط: 16 ص 37، تبيين الحقائق: 5 ص 124، رد المحتار على الدر المختار: 5 ص 38، غاية المنتهى: 2 ص 205، 217، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 75، 284، الإفصاح لابن هبيرة: ص 226.
(3) أخرجه أصحاب السنن الأربع بطرق مختلفة، هذا اللفظ للترمذي وابن ماجه (راجع نصب الراية: 4ص 139) .(5/469)
ثم أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخد المعلم أجرة المثل في زمانه على تعليم القرآن.
وقال الإمامان مالك والشافعي (1) : تجوز الإجارة على تعليم القرآن لأنه استئجار لعمل معلوم ببدل معلوم، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «زوج رجلاً بما معه من القرآن» (2) فجاز جعل القرآن عوضاً، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (3) وهو حديث صحيح. وثبت أن أبا سعيد الخدري رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعْل، فبرئ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبروه وسألوه فقال: «لعمري من أكْل برقيةِ باطلٍ (أي كلام باطل) فقد أكلتَ برقيةِ حقٍ، كلوا واضربوا لي معكم بسهم» (4) .
قال صاحب الكنز الحنفي: والفتوى اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، وهو مذهب المتأخرة من مشايخ بلخ (5) .
وأجاز المالكية أخذ الأجرة على الأذان مع الإمامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة بانفرادها قياساً على الأفعال غير الواجبة، كما أجازوا هم والشافعية
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 4 ص 16، بداية المجتهد: 1 ص 221، مغني المحتاج: 2 ص 344، المهذب: 1 ص 398، الميزان: 2 ص 95، القوانين الفقهية: ص 275.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد ولفظه «قد زوجتكها بما معك من القرآن» (انظر نيل الأوطار: 6 ص 170) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الطب عن ابن عباس وروي في معناه أحاديث كثيرة (انظر نصب الراية: 4 ص 139، مجمع الزوائد: 4 ص 94، سبل السلام: 3 ص 81) .
(4) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري، ورويت واقعة أيضاً عن خارجة بن السلط عن عمه، كما رويت أخرى عن جابر (انظر نصب الراية: 4 ص 138، نيل الأوطار: 5 ص 289، 291، مجمع الزوائد: 4 ص 96) .
(5) تبيين الحقائق: 5 ص 124.(5/470)
الإجارة على الحج لإقرار الرسول عليه السلام حج صحابي عن غيره، أما الإمامة في الفروض فلا يجوز فيها الإجارة عند الشافعية، ولا يجوز ذلك بانفرادها عن الأذان في المشهور عند المالكية (1) .
ويجوز بالاتفاق الاستئجار على تعليم اللغة والأدب والحساب والخط والفقه والحديث ونحوها وبناء المساجد والقناطر والرباطات؛ لأنها ليست بفرض ولابواجب. وقد تقع قربة تارة، وتارة غير قربة.
ولا يجوز عند الحنفية الاستئجار على غسل الميت؛ لأنه واجب، ويجوز على حفر القبور، وعلى حمل الجنائز. وأجاز الشافعية الإجارة لتجهيز ميت ودفنه. والتجهيز يشمل الغسل والتكفين؛ لأن ذلك من فروض الكفايات، ولا يضر طروء تعين الواجب كالمضطر، فإنه يتعين إطعامه مع تغريمه البدل.
ولا يجوز استئجار الرجل الزوجة على رضاع ولده منها؛ لأنه استئجار على خدمة الولد، وإنما اللبن يدخل فيه تبعاً، فكان الاستئجار على أمر واجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى (2) .
6 - ألا ينتفع الأجير بعمله: فإن كان ينتفع به لم يجز (3) ، فلا تصح الإجارة
__________
(1) انظر سبل السلام: 2 ص 181، 184، مغني المحتاج: 2 ص 344، الفروق للقرافي: 3 ص 2، أصول الفقه الإسلامي للمؤلف: 60/1 ومابعدها، 139، ط دار الفكر بدمشق.
(2) البدائع: 4 ص 192.
(3) قال الشافعية: الإجارة لقراءة القرآن على القبر مدة معلومة، أو قدراً معلوماً، جائزة، للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن، ويكون الميت كالحي الحاضر، سواء أعقب القرآن الدعاء، أم جعل أجر قراءته له، أم لا، فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك، ولأن الدعاء يلحقه، وهو بعدها أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة. فقول الشافعي رضي الله عنه: إن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك (مغني المحتاج: 341/2) .(5/471)
على الطاعات؛ لأن القائم بها عامل لنفسه، كما لا يصح استئجار رجل ليطحن لآخر قفيزاً من حنطة بجزء من دقيقها، أو ليعصر له قفيزاً من سمسم بجزء معلوم من دهنه، لأن الأجير ينتفع بعمله من الطحن والعصر، فيكون عاملاً لنفسه، وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن قفيز الطحان (1) : وهو أن يعطي الرجل أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.
وهذا هو رأي الشافعية أيضاً (2) عملاً بالنهي في هذا الحديث، ولأن فيه نقضاً لشرط من شرائط الإجارة وهو القدرة على تسليم الأجر وقت التعاقد. والقاعدة المقررة عند الحنفية في هذا الشأن هي: «تعيين الأجر مما يعمل فيه الأجير مفسد للعقد» .
وقال الحنابلة والمالكية: يجوز ذلك إذا كان الكيل معلوماً، والحديث لم تثبت صحته عندهم (3) .
ومنه: ما يتعامل به الزراع في الريف من إعطاء بعض القمح لدارسه أو حامله فقد أجازه الحنابلة.
__________
(1) رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن عسب الفحل (أي كرائه) وعن قفيز الطحان» وفسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحوناً لما فيه من استحقاق طحن قدر الأجرة، لكل واحد منهما على الآخر، وذلك متناقض (راجع نيل الأوطار: 5 ص 292، التلخيص الحبير: ص 255) .
(2) البدائع، المصدر السابق، مغني المحتاج: 2ص335، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 78.
(3) المغني: 5 ص 449، الشرح الكبير للدردير: 4 ص 6، القوانين الفقهية: ص 274 ومابعدها.(5/472)
7 - أن تكون المنفعة مقصودة يعتاد استيفاؤها بعقد الإجارة، ويجري بها التعامل بين الناس، فلا يجوز استئجار الأشجار لتجفيف الثياب (1) عليها والاستظلال بها؛ لأن هذه منفعة غير مقصودة من الشجر (2) .
وأما شرط المحل المعقود عليه: فهو أن يكون مقبوضاً إذا كان منقولاً، وإن لم يكن مقبوضاً فلا تصح إجارته لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض (3) ، والإجارة نوع من البيع فيشملها النهي (4) .
فإن كان الشيء المأجور عقاراً فهو على الاختلاف الذي ذكر في مبحث البيع الفاسد.
وأما شروط الأجرة فهي اثنان (5) :
أولاً ـ أن تكون الأجرة مالاً متقوماً معلوماً: وهذا باتفاق العلماء.
__________
(1) ذكر القرافي المالكي في الفروق (3/4-4) ثمانية شروط في المنفعة التي تجوز عليها الإجارة وهي:
الأول ـ الإباحة: احترازاً من الغناء وآلات الطرب ونحوها.
الثاني ـ قبول المنفعة للمعاوضة، احترازاً من النكاح.
الثالث ـ كون المنفعة متقومة، احترازاً من التافه الحقير الذي لا يقابل بعوض. واختلف في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب، فمنعه ابن القاسم.
الرابع ـ تكون مملوكة، احترازاً من الأوقاف الموقوفة للسكنى كبيوت المدارس.
الخامس ـ ألا يتضمن استيفاء عين، احترازاً من إجارة الأشجار لثمارها أو الغنمة لنتاجها، واستثني من ذلك إجارة المرضع للبنها للضرورة في الحضانة.
السادس ـ أن يقدر على تسليمها، احترازاً من استئجار الأخرس.
السابع ـ أن تحصل للمستأجر احترازاً من الاستئجار على العبادات كالصوم ونحوه.
الثامن ـ كونها معلومة احترازاً عن المجهولات من المنافع كمن استأجر آلة لايدري ما يعمل بها.
(2) البدائع، المصدر السابق.
(3) في هذا أحاديث، منها ما رواه أحمد ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه» (انظر نيل الأوطار: 5 ص 157 وقد سبق ذكر بعض رواياته) ومنها ما أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» (انظر جامع الأصول: 1 ص 383 وما بعدها) .
(4) البدائع: 4 ص 193.
(5) البدائع، المصدر السابق: 193-194.(5/473)
ومحترزات هذا الشرط معروفة كما مر في عقد البيع. والأصل في اشتراط العلم بالأجرة قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من استأجر أجيراً فليعلمه أجره» والعلم بالأجرة لا يصح إلا بالإشارة والتعيين، أو بالبيان (1) .
ولا بد من معرفة مكان إيفاء الأجرة فيما يحتاج لحمل ومؤنة عند أبي حنيفة. وأما عند الصاحبين: فلا يشترط ذلك، ويتعين مكان العقد للإيفاء (2) .
ومما يتفرع على شرط العلم بالأجرة: أنه لو استأجر إنسان شخصاً بأجر معلوم وبطعامه، أو استأجر دابة بأجر معلوم وبعلفها، لم تجز الإجارة؛ لأن الطعام أو العلف يصير أجرة، وهو قدر مجهول، فكانت الأجرة مجهولة.
وأجاز المالكية (3) استئجار الأجير للخدمة، والدابة بالطعام، والخادم بالكسوة ونحوها عملاً بالمتعارف بين الناس، وكذا استئجار الظئر بطعام أو غيره.
استئجار الظئر: ولو استأجر شخص ظئراً (مرضعاً) بطعامها وكسوتها لاتجوز الإجارة بمقتضى الأخذ بالقياس: وهو قول الصاحبين والشافعية، لجهالة الأجرة وهي الطعام والكسوة، إلا أن أبا حنيفة استحسن الجواز بالنص: وهو قوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/2] نفى الله سبحانه الجناح في الاسترضاع مطلقاً. وجهالة الأجرة في تلك الحالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن العادة جرت بالمسامحة مع الأظآر والتوسعة عليهن شفقة على الأولاد، فأشبهت حالة جهالة القفيز من الصبرة (4) .
__________
(1) تكملة فتح القدير: 7 ص 148، 187، البدائع: 4 ص 193، المغني: 5 ص 404.
(2) المبسوط: 15 ص 113.
(3) القوانين الفقهية: ص 274، الشرح الصغير: 31/4.
(4) تكملة فتح القدير: 7 ص 185، البدائع: 4 ص 193 ومابعدها، المبسوط: 15 ص 119، تبيين الحقائق: 5 ص 127.(5/474)
وقال المالكية والحنابلة أيضاً بهذا الرأي (1) .
كون الأجرة جزءاً من المعقود عليه: قال الجمهور: تفسد الإجارة ولو استأجر السلاّخ بالجلد، والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليماً أو لا، وهل هو ثخين أو رقيق، وما مقدار الطحين، فقد تكون الحبوب مسوسة، فلا تصح الإجارة لجهالة العوض (2) ، ولأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن عَسْب الفحل وعن قفيز الطحان (3) ، وأجازه المالكية (4) لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضاً، وأجابوا عن الحديث بأن مقدار القفيز مجهول. ووافق الهادوية والإمام يحيى من الزيدية والمزني والحنابلة على هذا الرأي إذا كانت الأجرة بقدر من الدقيق معلوم. والمشهور لدى المالكية: أن الإجارة فاسدة في حالة استئجار السلاّخ بالجلد؛ لأنه لا يستحق جلد الشاة إلا بعد السلخ، ولا يدري هل يخرج سليماً أو مقطعاً؟ وهي فاسدة أيضاً باستئجار الطحان بنُخالة، لجهالة قدرها، فلو استأجره بقدر معلوم جاز، كما لو استأجر شخصاً بجلد مسلوخ معلوم على أن يسلخ له شاة.
مقابل الخلو: إن ما يؤخذ اليوم مما يسمى (بالفروغ أو خلو الرجل أو اليد) لا مانع منه شرعاً في تقديري، فللمالك المؤجر أن يأخذ من المستأجر مقداراً مقطوعاً من المال مقابل الخلو أو الفروغ. ويعد المأخوذ جزءاً معجلاً من الأجرة المشروطة في العقد. وأما ما يدفع في المستقبل شهرياً أو سنوياً فهو بالإضافة إلى ما تم تعجيله يعد جزءاً آخر مكملاً من الأجرة مؤجل الوفاء.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 4 ص 13، الفروق للقرافي: 4 ص 4، مغني المحتاج: 2 ص 335، غاية المنتهى: 2 ص 192، المغني لابن قدامة: 5 ص 450، 453.
(2) المغني: 405/5.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد لكن في إسناده منكر الحديث (نيل الأوطار: 292/5) .
(4) بداية المجتهد: 222/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 18/4 ومابعدها.(5/475)
وأما ما يأخذه المستأجر من الفروغ مقابل تنازله عن اختصاصه بمنفعة العقار المأجور لشخص آخر يحل محله فهو جائز أيضاً إذا كانت مدة الإجارة باقية، وإلا كان غصباً حراماً، فقد صرح الشافعية أثناء كلامهم عن صيغة عقد البيع بما يقارب هذا المعنى فقالوا: «لا يبعد اشتراط الصيغة في نقل اليد في الاختصاص ـ أي عند التنازل عن حيازة النجاسات لتسميد الأرض ـ كأن يقول: رفعت يدي عن هذا الاختصاص، ولا يبعد جواز أخذ العوض عن نقل اليد، كما في النزول عن الوظائف» (1) إلا أن ذلك كله مقيد شرعاً ضمن مدة الإيجار المتفق عليها. وتنازل المستأجر لغيره بعوض بعد انتهاء المدة مرهون برضا المالك. وبالرغم من أن أصل المذهب الحنفي لا يجيز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، وكذا لا يجيز بيع الحق، فإن كثيراً من الحنفية أفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال كالإمامة والخطابة والأذان ونحوها، وتستند هذه الفتوى إلى الضرورة وتعارف الناس وبالقياس على ترك المرأة قَسْمها لصاحبتها؛ لأن كلاً منهما مجرد إسقاط للحق، وقياساً على أنه يجوز لمتولي النظر على الأوقاف عزل نفسه عند القاضي، ومن العزل: الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره، وقد جرى العرف بالفراغ بعوض (2) .
هذا وقد وجدت رسالة للمتأخرين من علماء المالكية بعنوان (جملة تقارير وفتاوى في الخلوات والإنزالات (3) عند التونسيين) لمفتي المالكية إبراهيم الرياحي
__________
(1) حاشية البجيرمي على شرح الخطيب «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع» : 3 ص 3، مطبعة البابي الحلبي.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 4 ص 15.
(3) الخلو والإنزال والجلسة بمعنى واحد: وهو المنفعة التي يملكها دافع الدراهم لمالك الأصل مع بقاء ملكه للرقبة. فإن كانت الرقبة التي هي الأصل أرضاً عبر عن تلك المنفعة بالإنزال في اصطلاح بعض الناس. وإن كانت في حوانيت أو دور عبر عنها بالخلو في غير اصطلاح أهل فاس، وفي اصطلاحهم يعبر عنها في الحوانيت بالجلسة.(5/476)
بتونس (المتوفى سنة 1266 هـ) والشيخ محمد بيرم الرابع التونسي، والشيخ الشاذلي بن صالح باس مفتي المالكية بتونس، والشيخ محمد السنوسي قاضي تونس يقررون فيها جواز المعاوضة عن الخلوات عملاً بالعرف والعادة، ولأن المستأجر يملك المنفعة، فله أن يتنازل عنها بعوض كالإجارة وبغير عوض كالإعارة (1) ، فقد نقل البناني عن البرزلي في النزول عن الوظيفة ما يقتضي جوازه، ونقل فتوى الفاسيين بجواز بيع الخلو. وقال الشيخ محمد بيرم: وماأشبه الخلو بالمغارسة، غير أن الخلو لا تحصل به ملكية الرقبة لتعلقه بالمنفعة.
قرار مجمع الفقه الإسلامي في جدة رقم (6) لعام 1408 هـ الموافق 1988م: يحسن إيراد ما تضمنه هذا القرار الذي كنت فيه رئيس لجنة صياغته:
أولاً ـ إذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية (وهو ما يسمى في بعض البلاد خلواً) فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع، على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
ثانياً ـ إذا تم الاتفاق بين المالك وبين المستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك إلى المستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً؛ لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.
أما إذا انقضت مدة الإجارة، ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له، فلا يحل بدل الخلو؛ لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
__________
(1) راجع الفروق للقرافي: 187/1.(5/477)
ثالثاً ـ إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد، لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية، فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً، مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول، ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين، لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر، ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد انقضاء المدة، فلا يحل بدل الخلو، لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.
ثانياً ـ ألا تكون الأجرة منفعة هي من جنس المعقود عليه: كإجارة السكنى بالسكنى والخدمة بالخدمة، والركوب بالركوب، والزراعة بالزراعة. وهذا الشرط متفرع عند الحنفية عن الربا، فإنهم يعتبرون اتحاد الجنس وحده صالحاً لتحريم العقد في ربا النسيئة، كما عرفنا في بحث الربا. وتطبيق المبدأ في الإجارة: هو أن انعقاد هذا العقد عندهم ينعقد شيئاً فشيئاً على حسب حدوث المنفعة، فتكون المنفعة وقت العقد معدومة، فيتأخر قبض أحد العاقدين، فيتحقق ربا النَّساء (1) . وقدعرفنا أن الجنس بانفراده لا يحرم العقد بسبب الربا عند الشافعية، فيجوز هذا العقد عندهم، ولايشترط هذا الشرط.
وأما الشرط العائد لركن العقد:
فهو أن يخلو العقد من شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه: فلو أجر المالك
__________
(1) انظر البدائع: 4 ص 194.(5/478)
داره على أن يسكنها هو شهراً، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر أرضاً على أن يزرعها، ثم يسلمها إلى المستأجر، أو أجر دابة على أن يركبها شهراً ونحوه، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا الشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه؛ إذ أن فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين مشروطة في العقد، لا يقابلها عوض، فتكون ربا، أو فيها شبهة الربا، وهو مفسد للعقد (1) وأجاز الحنابلة والمالكية هذه الإجارة.
شروط لزوم الإجارة:
يشترط لبقاء عقد الإجارة لازماً شرطان:
أولهما ـ سلامة العين المؤجرة من حدوث عيب يخل بالانتفاع بها:
ويترتب عليه أنه لو حدث عيب يخل بالانتفاع (2) ، فيكون المستأجر بالخيار بين الإبقاء على الإجارة ودفع كامل الأجرة وبين فسخها، كما إذا حدث بالدابة المؤجرة مرض أو عرج أو انهدم بعض بناء الدار (3) ؛ لأن المعقود عليه وهو المنافع يحدث شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب بالشيء المستأجر كان هذا عيباً قبل القبض، فيوجب الخيار كما في عقد البيع (4) .
فإذا انهدمت الدار كلها أو انقطع الماء عن الرحى (الطاحون) أو انقطع الشِّرْب عن الأرض انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد هلك، والهلاك موجب لفسخ
__________
(1) البدائع: 4 ص 194 ومابعدها.
(2) العيب الذي يخل بالانتفاع: هو الذي يفوت كلياً على المستأجر المنفعة المقصودة من المأجور كانهدام الدار، أو يخل بها على وجه صحيح كهبوط سطح الدار (انظر المادة 514 مجلة) .
(3) هذا ما يراه بعض الحنفية ومشى عليه صاحب الدر المختار، لكن قال ابن الشحنة: ظاهر الرواية أنه لا يسقط من الأجر شيء بانهدام بيت أو حائط من دار.
(4) البدائع، المصدر السابق: ص 195، تكملة فتح القدير: 7 ص 220، تبيين الحقائق: 5 ص 143.(5/479)
العقد؛ إلا أن الأصح عند الحنفية هو أن العقد لا ينفسخ ولكن يثبت حق الفسخ، لأن المعقود عليه قد فات على وجه يتصور عوده، فصار كمن اشترى شيئاً فهرب قبل القبض، ويمكنه الانتفاع في المأجور في الجملة بأن يضرب فيه خيمة.
وإن زال العيب قبل أن يفسخ المستأجرعقد الإجارة بأن صح المريض، وزال العرج عن الدابة وبنى المؤجر ماسقط من الدار، بطل خيار المستأجر بالفسخ؛ لأن الموجب للخيار قد زال، والعقد قائم، فيزول الخيار.
وحق الفسخ يثبت للمستأجر إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع؛ لأن النقصان حينئذ يرجع للمعقود عليه. فإن كان العيب مما لا يضر بانتفاع المستأجر كسقوط حائط من الدار لا ينتفع فيه في سكناها، فلا يثبت حق الفسخ.
والمستأجر يمارس الفسخ إذا كان المؤجر حاضراً أثناء الفسخ، فإن كان غائباً فحدث بالشيء المستأجر ما يوجب الفسخ، فليس للمستأجر الفسخ؛ لأن فسخ العقد لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من يقوم مقامهما.
أما في حالة سقوط الدار أو انهدامها فللمستأجر أن يخرج منها، سواء أكان المؤجر حاضراً أم غائباً، وهذا دليل الانفساخ.
ويثبت أيضاً للمستأجر حق الفسخ بحدوث تفرق الصفقة في المنافع بعد حصولها مجتمعة؛ لأن الصفقة تفرقت في المعقود عليه وهو المنافع، وتفرق الصفقة يوجب الخيار. مثاله أن يستأجر شخص دارين صفقة واحدة، فتسقط إحداهما، أو يطرأ ما نع يمنع المستأجر من إحداهما، أو أن يستأجر شخص داراً واحدة ثم يمتنع المؤجر عن تسليم بيت منها، فيحق للمستأجرفسخ العقد لتجزئة الصفقة عليه (1) .
ثانيهما ـ عدم حدوث عذر يجيز فسخ الإجارة: كما إذا حدث عذر بأحد العاقدين أو بالشيء المأجور فيحق للمتعاقد فسخ العقد. وسأبين فيما يلي الأعذار التي تفسخ الإجارة بها.
__________
(1) البدائع: 4 ص 196 ومابعدها.(5/480)