«من حج فلم يرفُث ولم يفسُق، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» (1) .
فإن جامع قبل الوقوف بعرفة أفسد حجه ومضى في فاسده وعليه القضاء فوراً من العام القادم، حتى وإن كان نسكه تطوعاً، وعليه بدنة، لقضاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بذلك، كما سأبين.
وإن جامع بين التحللين، أو جامع ثانياً بعد جماعه الأول قبل التحللين، فعليه شاة.
وإن جامع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل، أو قبل أو لمس بشهوة أو باشر، فعليه دم، لكن لا يفسد حجه عند الجمهور غير المالكية، قال ابن عمر: «إذا باشر المحرم امرأته، فعليه دم» وذلك سواء فعل ما ذكر من الجماع ومقدماته عامداً أو ناسياً أو مكرهاً. أما لو نظر إلى فرج امرأته عن شهوة، فأمنى، فلا شيء عليه، بخلاف المس عن شهوة، إنه يوجب الدم، أمنى أو لم يمن، والفرق: أن اللمس: استمتاع بالمرأة وقضاء للشهوة، أما النظر فليس استمتاعاً ولا قضاء للشهوة، بل هو سبب لزرع الشهوة في القلب، والمحرم ليس ممنوعا عما يزرع الشهوة كالأكل.
ورأى الشافعية أنه إن باشر فيما دون الفرج ناسياً فلا شيء عليه، سواء أنزل أم لا. والاستمناء باليد يوجب الفدية. ولو كرر النظر إلى امرأة فأنزل من غير مباشرة ولا استمناء، فلا فدية عليه، كما قال الحنفية.
وكذلك قال الحنابلة: إن فكر أو نظر فأنزل فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان ينظر إلى نسائه وهو محرم. وإن كرر النظر حتى أمذى أو أمنى، فعليه دم عندهم.
أما المالكية فقالوا: إن إنزال المني مفسد الحج والعمرة مطلقاً، حتى وإن حدث بنظر أو فكر مستديمين، لا بمجردهما، بخلاف الإنزال بغيرهما لا يشترط فيه الإدامة. وبه يلتقي الحنابلة مع المالكية في إيجاب الدم في حال الاستدامة، لكن يختلف المذهبان في مجرد النظر أو الفكر، فعند المالكية: يجب دم، وعند الحنابلة: لا شيء عليه.
__________
(1) متفق عليه.(3/608)
وللمحرم بالاتفاق أن يتجر ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته مادامت في عدتها، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاًمن ربكم} [البقرة:198/2] أي في مواسم الحج، والمرأة الرجعية زوجة، والرجعة إمساك، لقوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} [البقرة:231/2] فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق.
ما يفسد الحج، وحكمه إذا فسد:
أولاً ـ شروط كونه مفسداً: يشترط في الجماع المفسد للحج شرطان عند الحنفية وغيرهم:
الأول ـ أن يكون الجماع في الفرج: وهذا متفق عليه، فلو جامع فيما دون الفرج، أو لمس بشهوة، أو عانق، أو قبل، أو باشر، لا يفسد حجه، لكن تلزمه عند الحنفية الكفارة، سواء أنزل أو لم ينزل. وقال المالكية: وكذا الإنزال بالوطء أو بغيرالوطء إلا الاحتلام يوجب الدم.
ورأى الشافعية: أن الاستمناء باليد والمباشرة فيما دون الفرج حرام، لا يفسد الحج، ويوجب الدم إن أنزل. وشرطوا لإفساد الحج بالجماع أن يكون المجامع عالماً بالتحريم، فإن كان ناسياً أو جاهلاً بالتحريم أو جومعت المرأة مكرهة، لم يفسد الحج ولا فدية أيضاً في الأصح. والجماع وحده هو الذي يفسد الحج، سواء للرجل والمرأة، حتى لو استدخلت المرأة ذكر نائم، فسد حجها وعمرتها.
وذهب الحنابلة إلى أنه إن وطئ دون الفرج، فلم ينزل، فعليه دم، وإن أنزل، فعليه بدنة، ولا يفسد حجه في الرواية الصحيحة. وقالوا: على الرجل المحرم بدنة إن وطئ في الفرج واستكرهها، فإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة. وإذا تكرر الجماع، فإن كفر عن الأول، فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول، وإن لم يكن كفر عن الأول، فكفارة واحدة.
والخلاصة: إن الجماع وحده مفسد للحج عند الجمهور، ويضم إليه الإنزال عند المالكية.(3/609)
والثاني ـ أن يكون الجماع عند الحنفية قبل الوقوف بعرفة، فمن جامع بعد الوقوف بعرفة، لم يفسد حجه. وعليه بدنة إن جامع بعد الوقوف قبل الحلق، لأن الركن الأصلي هوالوقوف بعرفة، لحديث: «الحج عرفة» أي الوقوف بعرفة، وعليه مع فساد الحج شاة إن جامع قبل الوقوف، لما روي أن الصحابة قالوا: عليه هدي.
وقال الجمهور غير الحنفية: يفسد الحج إن وقع قبل التحلل الأول (1) ،ولو بعد الوقوف؛ لأنه وطء صادف إحراماً صحيحاً لم يحصل في التحلل الأول، فأشبه ما قبل الوقوف. وعليه بدنة عند الشافعية والحنابلة، لقضاء الصحابة بذلك، وهدي عند المالكية في زمن القضاء، وأفضله الإبل، ثم البقر ثم الضأن، ثم المعز أما العمرة: فتفسد عند الحنفية (2) إن جامع قبل أن يطوف أربعة أشواط، وعليه قضاوها، وشاة. وإن وطئ بعدما طاف أربعة أشواط فلا تفسد، ولا يلزمه قضاؤها، وعليه شاة.
وتفسد عند المالكية والحنابلة (3) إن جامع قبل تمام السعي، قبل الحلق، وعليه لإفسادها هدي عند المالكية، وشاة عند الحنابلة، ولا فدية على مكرهة، ولا يفسد بعد تمام السعي وقبل الحلق.
وتفسد عند الشافعية (4) إن جامع قبل التحلل أو الفراغ منها، وعليه لإفسادها بدنة كالحج، لتغليظ الجناية.
ثانياً ـ حكم الحج إذا فسد:
إذا فسد الحج بالجماع يجب المضي في فاسده، ويجب القضاء اتفاقاً على الفور من العام التالي، وإن كان نسكه تطوعاً؛ لأنه يلزم بالشروع فيه، فصار فرضاً، بخلاف باقي العبادات عند غير الحنفية. وفورية قضاء الفاسد؛ لأنه وإن كان وقت الحج موسعاً، يضيق بالشروع فيه، ولقول الصحابة بقضائه من قابل.
ويستوي في ذلك الرجل والمرأة لاستوائهما في المعنى الموجب للفساد.
__________
(1) التحلل الأول كماسبق يحصل بفعل اثنين من ثلاثةوهي رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة.
(2) الكتاب مع اللباب: 202/1.
(3) الشرح الصغير: 94/2، غاية المنتهى: 382/1.
(4) مغني المحتاج: 522/1.(3/610)
ويجب عليه بدنة عند الشافعية والحنابلة، سواء حدث الإفساد قبل الوقوف أم بعده، لقضاء الصحابة بذلك، بدون تفرقة بين ما قبل الوقوف وبعده، ولأنه جماع صادف إحراماً تاماً، فوجب به كما بعد الوقوف، والقضاء واجب على الصبي إن أفسد نسكه بالجماع.
وعليه عند المالكية هدي زمن القضاء، لقول ابن عمر لمن واقع امرأته: «..فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هدياً..» .
وأوجب الحنفية عليه شاة إن جامع قبل الوقوف وفسد حجه، وبدنة إن جامع بعد الوقوف قبل الحلق وحجه صحيح؛ لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء، فلم يجب به بدنة كفوات الوقوف، ولأن ابن عباس أوجب البدنة في موضعين في الحج: أحدهما إذا طاف للزيارة جنباً ورجع إلى أهله ولم يعد، والثاني إذا جامع بعد الوقوف. وإذا كان المحرم قارناً فجامع قبل الوقوف فسد حجه وعمرته، وعليه دمان لكل واحد منهما شاة، وعليه المضي فيهما وإتمامهما على الفساد، وعليه قضاؤهما، ويسقط عنه دم القران، وأوجب الشافعية مع البدنة دم القران.
الأصل الرابع ـ الصيد:
لا يجوز للمحرم قتل صيد البر واصطياده أو الدلالة عليه، إلا المؤذي المبتدئ بالأذى غالباً كالأسد والذئب والحية والفأرة والعقرب والكلب العقور، والكلب عند المالكية: كل حيوان وحشي يخاف منه كالسباع. وعند أبي حنيفة: الكلب المعروف.(3/611)
ويجوز للمحرم صيد البحر مطلقاً، وذبح المواشي الإنسية كالأنعام من الإبل والبقر والغنم، وذبح الطير الذي لا يطير في الهواء كالدجاج، والدليل قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرِّم عليكم صيد البر مادمتم حرماً} [المائدة:96/5] ، وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم} [المائدة:95/5] ، وتحريم الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه والأكل منه واضح من حديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوه» (1) وهذا دليل الحنفية القائلين: يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً إذا صاده الحلال.
وقال الجمهور: يحرم الأكل من لحم صيد البر على المحرم إذا صيد له، لحديث الصعب بن جَثَّامة: «أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نردَّه عليك، إلا أنا حُرُم» (2) وهذا الرأي أرجح؛ لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرماً، كما قال الشوكاني، ولحديث آتٍ: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» .
وللمذاهب تفصيلات في الصيد الممنوع، خلاصتها ما يأتي:
قال الحنفية (3) : لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول إلا المؤذي غالباً. والصيد الممنوع: كل حيوان بري متوحش بأصل الخلقة مباح أو مملوك، فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر والغنم؛ لأنها ليست بصيد، لعدم الامتناع، والصيد هو الممتنع المتوحش، ولا يحرم الدجاج والبط الذي في المنازل. والكلب والسنَّور (القط) الأهلي ليس بصيد: لأنه مستأنس. ويحل صيد البحر
__________
(1) رواه مسلم، والبخاري بلفظ آخر عن أبي قتادة (نيل الأوطار: 21/5) .
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (المرجع السابق: ص 18) ولأحمد ومسلم وأبي داود والنسائي مثله عن زيد بن أرقم.
(3) البدائع: 195/2-206، الكتاب: 206/1-210، فتح القدير: 255/2.(3/612)
للحلال والمحرم، للآية السابقة، والبحري: هو الذي توالده في البحر، سواء أكان لا يعيش إلا في البحر أم يعيش في البحر والبر. والبري: ما يكون توالده في البر، سواء أكان لا يعيش إلا في البر، أم يعيش في البر والبحر، فالعبرة للتوالد.
ولا بأس بقتل البرغوث والبعوض والنملة والذباب والقراد والزنبور؛ لأنها ليست بصيد، لانعدام التوحش والامتناع، ولأن هذه الأشياء من المؤذيات المبتدئة بالأذى غالباً، فالتحقت بالمؤذيات المنصوص عليها من الحية والعقرب في حديث: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والغراب» (1) .
ولا يقتل القملة، لا لأنها صيد، بل لما فيها من إزالة التفث، لأنه متولد من البدن كالشعر، والمحرم منهي عن إزالة التفث من بدنه، فإن قتلها تصدق بشيء، كما لو أزال شعرة.
وكذا لا يقتل الجرادة، لأنها صيد البر.
ولا بأس له بقتل هوام الأرض من الفأرة والحية والعقرب والخنافس والجعلان وصياح الليل والصرصر ونحوها؛ لأنها ليست بصيد، بل من حشرات الأرض. وكذا القنفذ وابن عرس؛ لأنهما من الهوام.
وله أن يقتل ما لا يبتدئ بالأذى غالباً كالضبع والثعلب وغيرهما من الضب واليربوع والقرد والفيل والخنزير إن عدا عليه، ولا شيء عليه إذا قتله في قول أئمة الحنفية ما عدا زفر.
وإن ذبح المحرم صيداً، فذبيحته ميتة لا يحل أكلها لأحد من مُحرم أو حلال، ولا بأس أن يأكل المحرم لحم صيد اصطاده حلال أوذبحه، إذا لم يدلَّه المحرم عليه، ولا أمره بصيد، سواء اصطاده لنفسه أو للمحرم، حيث لم يكن له فيه صنع.
__________
(1) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة، وله ألفاظ أخرى عند أبي داود وأحمد.(3/613)
وقال المالكية (1) : لايقتل المحرم شيئاً من صيد البر، ما أكل لحمه، ومالم يؤكل، كما قال الحنفية: سواء أكان ماشياً أم طائراً في الحرم أم في غيره، ولا يأمر به، ولا يدل عليه، ولا يشير إليه، فإن أمر أو دل، فقد أساء ولا كفارة عليه.
ولا يأكل لحم صيد صيد له أو من أجله، خلافاً للحنفية، وإن صيد في الحل لحلال، جاز للمحرم أكله.
وكل ما ذبحه المحرم من الصيد أو قتله عمداً أو خطأ، فهو ميتة، ولا يجوز له ولا لغيره أكله، كما قال الحنفية.
ويجوز له ذبح المواشي الإنسية كالأنعام والطير الذي لا يطير في الهواء كالدجاج، وله صيد البحر مطلقاً، وهذا متفق عليه.
وله قتل الحيوان المضر كالأسد ونحوه مما ذكر، وهذا متفق عليه.
ولا يقتل ضبعاً ولا خنزيراً ولا قرداً إلا أن يخاف من عاديته.
ويحرم قتل ما لا ضرر فيه من البعوضة فما فوقها.
وقال الشافعية (2) : يحرم بالإحرام اصطياد كل حيوان مأكول بري متوحش مباح أو مملوك، وكذا المتولد من المأكول وغيره، أو من الإنسي وغيره، كالمتولد من حمار وحشي وحمار أهلي، أو من شاة وظبي، ويجب به الجزاء احتياطاً.
ويحرم الجراد، ولا يحرم السمك وصيد البحر: وهو مالا يعيش إلا في البحر. أما ما يعيش في البر والبحر فحرام، وتحرم الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج. ولا يحرم ما ليس مأكولاً كما قال الحنابلة، خلافاً للحنفية والمالكية.
ولو ذبح المحرم صيداً، صار ميتة على الأصح، فيحرم على كل أحد أكله.
ويحرم على المحرم أكل صيد ذبحه هو، أو صاد هـ غيره بإذنه، أوبغير إذنه، أو أعان عليه، أو كان له تسبب فيه، فإن أكل منه عصى، ولا جزاء عليه بسبب الأكل. ولو صاده حلال للمحرم ولا تسبب فيه، جاز له الأكل منه، ولا جزاء عليه، كما قال المالكية.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص137، الشرح الصغير: 99/2-110.
(2) مغني المحتاج: 524/1-526، المهذب: 210/1 ومابعدها، الإيضاح: ص 28 ومابعدها.(3/614)
وقال الحنابلة (1) : يحرم على المحرم قتل صيد البر واصطياده والإعانة أو الدلالة عليه إذا كان وحشياً مأكولاً، أومتولداً منه ومن غيره، ويباح صيد غير المأكول كما قرر الشافعية.
ويحرم عليه أكله من ذلك كله، وكذا ما ذبح أو صيد لأجله فلا يأكل المحرم ما صاده الحلال أو ذبحه لأجله، كما قال الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم» (2) ويتعين حمل حديث الصعب بن جثَّامة على هذا، ويكون امتناع النبي صلّى الله عليه وسلم عن الأكل من الحمار الوحشي لعلمه أو ظنه أنه صيد من أجله. ويحمل حديث أبي قتادة الذي استدل به الحنفية على جواز الأكل من الصيد الذي صاده الحلال، لا من أجل المحرم.
ويحرم قتل القمل وصئبانه؛ لأنه يترفه بإزالته كإزالة الشعر، ولو كان قتله بزئبق ونحوه، ويحرم رميه أيضاً، ولا جزاء فيه، لأنه ليس بصيد ولا قيمة له. ويحرم قتل الجراد ويضمن بقيمته في مكانه.
وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه أو أعان عليه، لم يحرم على الحلال أكله، لقول علي: «أطعموه حلالاً» وهو محمول على أنه صيد من أجلهم، ولم ينه النبي صلّى الله عليه وسلم الصعب بن جثامة عن أكل الحمار الوحشي، ولأنه صيد حلال، فأبيح للحلال أكله، كما لو صيد لهم.
وهل يباح أكله لمحرم آخر لم يصد له؟ فيه احتمالان: قال عثمان: يباح، لظاهر الحديث «صيد البر لكم حلال مالم تصيدوه أو يصد لكم» وروي «أنه أهدي لعثمان صيد وهو محرم، فقال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل هو، وقال: إنما صيد من أجلي» ولأنه لم يصد من أجله، فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه.
__________
(1) المغني: 309/3-315، كشاف القناع: 502/2-514، غاية المنتهى: 376/1-379.
(2) رواه أبو داود والنسائي والترمذي، وقال: هو أحسن حديث في الباب، وفيه جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها.(3/615)
وقال علي: يحرم عليه، لقوله: «أطعموه حلالاً، فإنا حُرُم» وهذا ما أرجحه.
وإذا ذبح المحرم الصيد، صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس. وهذا متفق عليه؛ لأنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى، فلم يحل بذبحه كذبح المجوسي.
والخلاصة يحرم عند الحنفية والمالكية الصيد المأكول وغيرالمأكول، ولا يحرم عند غيرهم إلا الصيد المأكول أو المتولد منه ومن غيره.
وإذا اضطر المحرم فوجد صيداً وميتة، أكل الميتةعند الحنابلة والمالكية، وقال الشافعي: يأكل الصيد (1) .
وأضاف الحنابلة: ويباح قتل الفواسق كالحية والغراب ونحوهما، وقتل كل ما كان طبعه الأذى، وإن لم يوجد منه الأذى كالأسد والنمر والذئب والفهد وما في معناه، والحشرات المؤذية كالزنبور والبق والبعوض والبراغيث. ويباح صيد البحر والنهر إلا في الحرم، ولو للحلال.
مباحات الإحرام:
يتلخص مماسبق بيانه أنه يباح للمحرم ما يأتي مما ليس من المحرمات السابقة (2) :
1 - للمحرم غسل الرأس بما ينظفه من الوسخ كالسدر والخطمي وغيرهما من غيرنتف شيء من شعره، لكن الأولى ألا يفعل؛ لأن ذلك نوع من الترفه، والحاج أشعث أغبر. وله أن يغتسل من الجنابة بالإجماع، وإذا اغتسل من الجنابة استحب أن يغسل رأسه ببطون أنامله برفق، حتى يتسرب الماء في أصول شعره، ولا يحكه بأظفاره. ويكره له عند المالكية والحنابلة غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما، لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر. ويجوز له أيضاً غسل البدن في الحمام وغيره ولا يكره.
2 - وله الاكتحال بما لا طيب فيه، ويكره بالإثمد إلا للحاجة فلا يكره.
3 - لا بأس بالاختتان والفصد والحجامةإذا لم يقطع الشعر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم (3) ، ويجوز قلع الضرس وجبر الكسر، وحك الرأس والبدن برفق بأظفاره على وجه لا ينتف شعراً، أو يسقط قملة، والمستحب ألا يفعل.
__________
(1) هذا ما ذكره المغني:315/3 وكشاف القناع:514/3.
(2) وانظر الإيضاح للنووي: ص 30، المغني: 297/3-308.
(3) متفق عليه عن ابن عباس.(3/616)
فلو حك رأسه أو لحيته، فسقط بحكه شعرة أوشعرات، لزمته الفدية أو التصدق بما شاء. ولو سقط شعر وشك، هل كان زائلاً بنفسه، أم انتتف بحكه فلا فدية على الأصح عند الشافعية.
وللمحرم عند الشافعية أن ينحي القمل من بدنه وثيابه ولا كراهة في ذلك، وله قتله ولا شيء عليه، بل يستحب للمحرم قتله، كما يستحب لغيره. وهذا هو الراجح خلافاً لمن منع ذلك، تحقيقاً للنظافة ومنع الأذى. ويكره للمحرم أن يفلي رأسه ولحيته، فإن فعل، فأخرج منهما قملة وقتلها، تصدق ولو بلقمة على ما عليه الشافعي، وهذا التصدق مستحب. ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل عند الحنابلة، فإن خالف وتفلى أو قتل قملاً أو ألقاه أو قتله بالزئبق فلا فدية عليه. وقال الحنفية: يتصدق بما شاء من كف من طعام.
4 - للمحرم أن ينشد الشِعْر الذي لا يأثم فيه.
5 - ولا يكره للمحرم والمحرمة النظر في المرآة، خلافاً للحنابلة والمالكية فيكره.
6 - يباح قتل الفواسق كالحدأة والفأرة، بنص الحديث المتقدم، ويجوز قتل السباع، وقتل الحشرات المؤذية كالبعوض والبراغيث والذباب في رأي الجمهور غيرالمالكية.
7 - يجوز صيد البحر، وذبح الأنعام الإنسية، والطيور التي لا تطير كالدجاج والبط والإوز الأهلي.(3/617)
8 - يباح الاستظلال بالبيت والمحمل والمظلة ونحوها مما لا يصيب رأسه أو وجهه. ويكره الاستظلال بالمحمل عند المالكية والحنابلة، فإن فعل فعليه دم، ولكن له أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء.
9 - يجوز أن يشد على وسطه حزام النقود ولو كانت لغيره، ويجوز عقد الإزار لستر العورة، وكذا يجوز لبس حزام الفتق، وعليه الفدية.
10 - يحل حمل السلاح وقتال العدو للحاجة، ولبس الخاتم والساعة والحزام (الكمر) .
11- يباح الكلام، ولكن يستحب للمحرم قلة الكلام في كل حال إلا فيما ينفع، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب، وما لا يحل؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه. ويستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى أو قراءة القرآن، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر بحاجته، أو يسكت. وإن تكلم بما لا مأثم فيه، أو أنشد شعراً لا يقبح، فهو مباح ولا يكثر.
المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات
تطرأ على المحرم عوارض: هي الجنايات، والإحصار، والفوات. أما الجنايات فهي جمع جناية، وهي لغة: ما تجنيه من شر، وشرعاً: ما حرم من الفعل بسبب الإحرام أو الحرم.
والجنايات نوعان:
1 ً - جناية على الإحرام: هي ارتكاب مخالفة لأعمال الحج أو العمرة، أو اقتراف محظور من محظورات الإحرام السابقة، وترك واجب من واجبات الحج، ولو كان الجاني ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطئاً، أو مغمى عليه، بشرط أن يكون الجاني عند الحنفية محرماً بالغاً، فلا شيء على الصبي عند الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لأن عمده خطأ، لكن لو وطئ يفسد حجه ويمضي في فاسده، وفي وجوب القضاء عليه عند الحنابلة وجهان: الأول: لا يجب لعدم تكليفه، والثاني: يجب كوطء البالغ.(3/618)
وأوجب الشافعية في الأصح على الصبي الفدية والقضاء إذا ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام وكان عامداً لا ناسياً أو مكرهاً، بناء على أن عمده عمد، وهو أحد القولين المشهورين (1) .
والحاصل أنه يفسد حج الصبي بالجماع بلا خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة خلافاً لداود الظاهري، وقال الدسوقي المالكي: لا يفسد حجه.
2 ً - جناية على الحرم: وهي التعرض لصيد الحرم وشجره، سواء من المحرم أو غيره، إذا كان الشخص مكلفاً (بالغاً عاقلاً) ولو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو مخطئاً. وذلك يوجب ضمان المثل أو القيمة، وسوف أبينه في بحث خصوصيات الحرم.
أما الجناية على الإحرام: فقد توجب دماً (2) واحداً أو أكثر، أو صدقة، أو دون ذلك، أو قيمة، على النحو التالي (3) ، وهو يشمل بحث الفدية وجزاء الصيد.
أولاً ـ الجناية التي توجب بدنة (ناقة أو بقرة) يوزع لحمها على فقراء الحرم:
1ً - الجماع في أثناء الإحرام قبل التحلل الأول وبعد وقوف عرفة: ويفسد حجه عند الجمهور، ولا يفسد حجه عند الحنفية، فإن جامع المحرم زوجته قبل الوقوف فإنه يفسد حجه، وعليه شاة فقط عند الحنفية، ويمضي في فاسده من حج أو عمرة حتى التمام، ثم يقضيه بالاتفاق فوراً في العام المقبل إن كان حجاً، وبعد تمام الفاسد إن كان عمرة.
وأوجب المالكية الهدي من الأنعام (الإبل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز) بالجماع أو الإنزال بغير الاحتلام قبل الوقوف مطلقاً أو بعد الوقوف قبل طواف الإفاضة ورمي جمرة العقبة يوم النحر.
__________
(1) شرح المجموع:28/7، الإيضاح: ص 99.
(2) يراد بكلمة الدم عند الإطلاق: هو وجوب الشاة أو سبع بدنة أو بقرة كالواجب في الأضحية.
(3) الدر المختار:2733/2-296، فتح القدير:224/2-254، الكتاب مع اللباب: 199/1-210، القوانين الفقهية: ص 138 ومابعدها، بداية المجتهد: 346/1-356، الشرح الكبير: 54/1-71، الشرح الصغير: 84/2-98، مغني المحتاج: 521/1-526، المهذب: 210/1-217، غاية المنتهى: 384/1-391، المغني:255/3، 492-526، 544 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص 26 ومابعدها، حاشية الشرقاوي: 510/1 ومابعدها.(3/619)
2ً - إذا طاف طواف الإفاضة جنباً أو حائضاً أو نفساء.
ثانياً ـ الجناية التي توجب دمين:
هي جناية القارن عند الحنفية، وهي كل جناية يجب بها على المفرد دم واحد، فعليه مثلاً دمان إذا حلق قبل الذبح، دم للتأخير ودم للقران على المذهب، وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: القارن والمفرد في كفارات الإحرام واحد؛ لأن القارن كالمفرد في الأفعال، فكان كالمفرد في الكفارات، فتلزمه بالجماع بدنة واحدة بسبب الإفساد لاتحاد الإحرام، ويلزمه مع ذلك شاة للقران. والمتمتع كالقارن (1) .
ثالثاً ـ الجناية التي توجب دماً واحداً إما على سبيل التخيير أو الترتيب:
1ً - لبس المخيط وتغطية الرأس والحلق وقص الأظفار والتطيب:
قال الحنفية: إن لبس المحرم ثوباً مخيطاً أوغطى رأسه يوماً كاملاً، فعليه دم (شاة) يفرق لحمها على فقراء الحرم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة.
وإن حلق موضع الحجامة، فعليه دم عند أبي حنيفة، وقال الصاحبان: عليه صدقة؛ لأنه غير مقصود في ذاته.
وإن حلق ربع الرأس فصاعداً أو ربع اللحية، فعليه دم، وإن حلق أقل من الربع فعليه صدقة؛ لأن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل لأنه معتاد، فتتكامل به الجناية، ويتقاصر فيما دونه.
وإن قص في مجلس واحد أظافر يديه ورجليه جميعاً، أو أظافر يديه فقط أو أظافر يد واحدة أو رجل واحدة، فعليه شاة. وإن تعدد المجلس بأن قص أظافر يديه في مجلس، ثم أظافر رجليه في مجلس واحد وجب عليه دمان.
وإن قص أقل من خمسة أظافر متفرقة من يديه ورجليه، فعليه صدقة عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وإن طيب المحرم عضواً كاملاً كالرأس والفم واليد والرجل فأكثر أو جسمه كله، فعليه دم (شاة) ؛ لأن المعتبر الكثرة، وحد الكثرة: هو العضو.
وإن طيب المحرم ثوبه، لزمه دم بشرط لبسه يوماً كاملاً.
وإن خضب رأسه أو يده أو لحيته بحناء وجب دم.
__________
(1) شرح المجموع: 7 385/7،394، 400، 418.(3/620)
وإن ادهن بزيت أو شيرج، لزمه دم، لأنهما أصل الطيب (1) ، بخلاف بقية الأدهان كالسمن والشحم ودهن اللوز. أما لو أكل الزيت أو داوى به جرحه أو شقوق رجليه أو أقطر في أذنيه، فلا يجب عليه شيء، لا دم ولا صدقة باتفاق الحنفية، لأنه ليس بطيب من كل وجه، لكن لو استعمل المسك والعنبر والغالية والكافور ونحوهما مما هو طيب في نفسه، فإنه يلزمه الدم بالاستعمال ولو على وجه التداوي. ولو جعله في طعام وإن لم يطبخ فلا شيء فيه إذا كان مغلوباً، ويكره أكله، كما يكره شم الطيب والتفاح.
وإن تطيب أو حلق أو لبس ثوباً لعذر فهو مخير: إن شاء ذبح شاة، وإن شاء تصدق على ستة مساكين بثلاثة أصوع (1) من طعام لكل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام ثلاثة أيام، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُك} [البقرة:196/2] .
__________
(1) ومن الأدهان الموجبة لذبح شاة: زيت الشعر ونحوه أو الكريم.(3/621)
وقال الجمهور غير الحنفية: من لبس أو حلق شعره أو قلم أظفاره أو تطيب أو ادهن أو أزال ثلاث شعرات متوالية عند الشافعية أو أزال أكثر من شعرتين أو ظفرين عند الحنابلة: يخير في الفدية بين ذبح شاة يتصدق بها، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وذبح الشاة يسمى نسكاً، فالنسك أحد خصال الفدية، سواء فعل المحظور عمداً أو خطأ أو جهلاً، والتخيير ثابت مع العسر واليسر في أي مكان شاء، ودليل التخيير الآية السابقة: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/2] وقوله صلّى الله عليه وسلم لكعب بن عُجرة: «أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: نعم، قال: انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فَرقاً من الطعام (2) على ستة مساكين» وقيس بالحلق وبالمعذور غيرهما. فهذه الفدية عند الجمهور عامة للمعذور وغيره، وخاصة عند الحنفية بالمعذور. وشعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية؛ لأن الشعر كله جنس واحد في البدن، ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية، كما في الفطرة وكفارة اليمين. والواجب عند الحنابلة فدية واحدة مالم يكفر عن الأول، فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانياً، فعليه كفارة ثانية. وإذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره،! فلا فدية عليه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يلزمه صدقة؛ لأنه أتلف شعر آدمي، فأشبه شعر المحرم. وإن حلق رأس محرم بإذنه أو حلقه حلال بإذنه، فالفدية على المحلوق. وإن كان المحلوق مكرهاً أونائماً، فلا
__________
(1) جمع صاع، وهو جملة قلة، وجمع الكثرة صيعان. وجمعه على آصع من خطأ العوام، والصاع (2751) غراماً عند الجمهور، وعند الحنفية (3800 غم) .
(2) الفرق: ثلاثة آصع.(3/622)
فدية على المحلوق رأسه عند المالكية والحنابلة، وقال أبو حنيفة: على المحلوق رأسه الفدية، وعن الشافعي كالمذهبين (1) .
وهذه الفدية عند الشافعية والحنابلة تجب في مقدمات الجماع بشهوة كإمناء بنظرة ومباشرة بغير إنزال، وإمذاء بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس أو مباشرة. وتجب أيضاً في الجماع الثاني بعد الجماع الأول، وفي حالة الجماع بين التحللين. والإنزال بغير الاحتلام عند المالكية كالجماع يفسد الحج ويوجب الهدي.
2ً - الجماع ومقدماته:
قال الحنفية: إن قبل أو لمس بشهوة أنزل أو لم ينزل في الأصح، أواستمنى بكفه، فعليه دم؛ لأن دواعي الجماع محرمة لأجل الإحرام مطلقاً، فيجب الدم مطلقاً.
وإن جامع في أحد السبيلين من آدمي ولو ناسياً أو مكرهاً أو كانت نائمة، قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، ووجب عليه شاة أو سُبْع بدنة، ويمضي وجوباً في حجه الفاسد كغيره ممن لم يفسد حجه، ووجب عليه القضاء فوراً، ولو كان حجه نفلاً، لوجوبه بالشروع فيه، ولم يقع الموقع المطلوب. لكن ليس على صبي أو مجنون أفسد حجه دم ولا قضاء.
فإن جامع بعد الوقوف بعرفة قبل الحلق أو الطواف، لم يفسد حجه، ويجب عليه بدنة، كما بينت؛ لأنه أعلى أنواع الجناية فغلظت عقوبتها.
وإن جامع ثانياً فعليه شاة؛ لأنه وقع في إحرام مهتوك.
وإن جامع بعد الوقوف والحلق، فعليه شاة، لبقاء إحرامه في حق النساء فقط أي بين التحللين الأول والثاني.
ومن جامع في العمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط، أفسدها؛ لأن الطواف في العمرة بمنزلة الوقوف في الحج، ومضى فيها، وقضاها فوراً، ووجب عليه شاة؛ لأنها عند الحنفية سنة. وإن وطئ بعد ما طاف لها أربعة أشواط، وقبل الحلق، فعليه شاة، ولا تفسد عمرته، ولا يلزمه قضاؤها.
__________
(1) المغني: 494/3-496.(3/623)
وقد سبق بيان رأي غير الحنفية في هذا المحظور، فعند الشافعية والحنابلة إن كان الوطء قبل التحلل الأول يجب عليه بدنة، فإن عدمها لزمه بقرة، فإن عدمها لزمه سبع شياه، فإن عدمها قوم البدنة بدراهم واشترى بقيمتها طعاماً وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. فإن وطئ بين التحللين أو بعد الإفساد لزمه شاة، كما في الحلق ونحوه.
3ً - ترك واجب من واجبات الحج:
قال الحنفية: إن طاف طواف القدوم جنباً فعليه شاة لغلظ الجنابة. وإن طاف طواف الزيارة محدثاً، فعليه شاة؛ لأنه أدخل النقص في الركن. وإن طاف للقدوم محدثاً فعليه صدقة، وإن طاف للزيارة جنباً، فعليه بدنة لغلظ الجنابة. والأفضل أن يعيد الطواف ما دام بمكة ولا ذبح عليه.
ومن طاف طواف الصَّدَر (الوداع) محدثاً، فعليه صدقة، وإن طاف جنباً، فعليه شاة. ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها، فعليه شاة. وإن ترك أربعة أشواط، بقي محرماً أبداً حتى يطوفها.
وإن ترك طواف الوداع أو أربعة أشواط منه، فعليه شاة، ومن ترك من طواف الوداع ثلاثة أشواط فعليه صدقة.
ومن أعاد أي طواف على طهارة، سقط الدم، لإتيانه به على الوجه المشروع، والأصح وجوب الإعادة في حال الجنابة، وندبها في حال الحدث، ومن طاف وربع عضو من العورة مكشوف، أعاد الطواف ما دام بمكة، وإن لم يعد حتى خرج من مكة، فعليه دم.
ومن ترك السعي بين الصفا والمروة، فعليه شاة، وحجه تام.
ومن أفاض من عرفة قبل الإمام والغروب، فعليه دم، ويسقط بالعود قبل الغروب، لا بعده.
ومن ترك الوقوف بالمزدلفة، فعليه دم.
ومن ترك رمي الجمار في الأيام كلها بغروب شمس آخر أيام الرمي وهو اليوم الرابع، فعليه دم واحد، وإن ترك رمي يوم فعليه دم، وإن ترك رمي إحدى الجمار الثلاث. فعليه صدقة.
وإن ترك رمي جمرة العقبة، فعليه دم.(3/624)
ومن أخر الحلق حتى مضت أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة، وكذا لو أخر طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عنده. وقال الصاحبان: لا شيء عليه. ويجب ذبح شاة على القارن والمتمتع بالاتفاق، كما بينت سابقاً. وكل ما وجب فيه دم على المفرد وجب فيه دمان على القارن: دم لحجته ودم لعمرته، إلا في حال تجاوز الميقات من غير إحرام عليه إن عاد دم واحد.
وقال المالكية (1) : دماء الحج أو العمرة ثلاثة: الفدية، وجزاء الصيد، والهدي، وقد عرفنا الفدية، أما الهدي فيجب في خمسة أنواع: جبر ما تركه من الواجبات كترك التلبية أو طواف القدوم أو رمي الجمار أو المبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي المتعة والقران، وكفارة الوطء ونحوه كمذي وقبلة بفم، وجزاء الصيد، وهدي الفوات. والهدي مرتب، بخلاف الفدية وجزاء الصيد.
وقال الشافعية: حاصل الدماء الواجبة في الحج أربعة أنواع:
الأول - دم ترتيب وتقدير: ومعنى الترتيب: أنه يلزمه الذبح، ولايجوز العدول إلى غيره إلا إذا عجز عنه. ومعنى التقدير: أن الشرع قدر مايعدل إليه بما لايزيد ولاينقص. وهو دم التمتع والقران والفوات، والمنوط بترك مأمور: وهو ترك الإحرام من الميقات، والمبيت بمزدلفة ومنى، وطواف الوداع، والواجب ذبح شاة للموسر، فإن عجز صام عشرة أيام.
والثاني - دم ترتيب وتعديل: بمعنى أن الشرع أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة، ويلزمه في حال الجماع، فيجب فيه بدنة، ثم بقرة، ثم سبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم طعاماً، وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً.
ويلزم في حال الإحصار، فعليه شاة، ثم طعام بالتعديل، فإن عجز عن الطعام، صام عن كل مد يوماً، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] .
__________
(1) الشرح الصغير:119/2، القوانين الفقهية: ص139.(3/625)
والثالث- دم تخيير وتقدير: أي إنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه. فيتخير في حلق ثلاث شعرات أو قلم ثلاثة أظفار بالتتابع، بين ذبح وإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وصوم ثلاثة أيام. ويتخير أيضاً في حال التطيب ودَهْن الرأس أو اللحية وبعض شعور الوجه، واللبس، ومقدمات الجماع، والاستمناء، والجماع غير المفسد. والفدية تجب في حلق الشعر ولو ناسياً أو جاهلاً بالحرمة، لعموم الآية: {ولاتحلقوا رؤوسكم} [البقرة:196/2] ، بخلاف الناسي والجاهل في التمتع باللبس والطيب والدهن والجماع ومقدماته: لاتجب الفدية عليه لاشتراط العلم والقصد فيه.
والرابع ـ دم تخيير وتعديل: وهو دم جزاء الصيد والشجر، فيجب مثل الصيد، أوشراء حَبّ لأهل الحرم بقدر قيمته، يوزع على الفقراء، أو الصيام عن كل مد يوماً. فإن لم يكن للصيد مثل، خيِّر بين الإطعام أوالصيام إلا الحمام فيجب فيه شاة، والدليل آية المائدة 95: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مِثْل ُما قتل من النَّعَم، يحكم به ذوا عدل منكم، هدياً بالغ الكعبة، أو كفارةٌ طعام مساكين، أو عَدْل ُ ذلك صياماً ليذوق وبال أمره..} [المائدة:95/5] وأما شجر الحرم ونباته فيحرم قطعه ويجب ضمانه بالقطع أو القلع، سواء النبات الذي ينبت بنفسه والمستنبت، ففي الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، عملاً بما رواه الشافعي عن ابن الزبير. فإن صغرت الشجرة جداً، ففيها القيمة.
وقال الحنابلة: الفدية: ما يجب بسبب نسك أو حرم، وله تقديماً على فعل محظور لمعذور، وهي نوعان: تخيير وترتيب. فالتخيير: يكون بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بُر أو نصف صاع يجزئ في الفطرة. وذلك كفدية لبس المخيط، وطيب، وتغطية رأس، وإزالة أكثر من شعرتين أو ظفرين، ومقدمات الجماع كما تقدم، وجزاء صيد كما سأبين.(3/626)
والترتيب:
أـ إما بذبح شاة حال اليسار، وصيام عشرة أيام حال الإعسار، وذلك كدم التمتع والقران، وترك واجب، وفوات، وإحصار، والصوم في غير الإحصار: ثلاثة في أيام الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يجب تتابع ولا تفريق في الأيام، ومن لم يصم الثلاثة في أيام منى، صام بعدها عشرة، وعليه دم مطلقاً، وعلى المحصر دم، فإن لم يجد ثمنه أو عدمه، صام عشرة أيام بنية التحلل ثم حل، ولا إطعام فيه.
ب ـ وإما بذبح بدنة ونحوها في الحج، وشاة في العمرة، فإن عجز صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، وذلك في حال الوطء وإنزال مني بمباشرة دون فرج، أو بتكرار نظر أو تقبيل أو لمس بشهوة، أواستمناء، ولو خطأ. والمرأة المطاوعة كالرجل، لا النائمة والمكرهة، ولا شيء على من فكر فأنزل أو احتلم أوأمذى بنظرة، ولا على من قتل القمل وعقد النكاح.
رابعاً ـ ما يوجب الصدقة:
الصدقة: نصف صاع من البر (1) ، أو قيمة ذلك من الدراهم عند الحنفية. وتجب الصدقة عند الحنفية فيما يأتي من الحالات التي أشرت إليها سابقاً وهي:
أـ إن طيب المحرم أقل من عضو كامل.
ب ـ إن حلق أقل من ربع الرأس أو اللحية أو حلق شاربه.
جـ ـ إن لبس المخيط أو ستر رأسه أقل من يوم أو أقل من ليلة.
د ـ إن قص أقل من خمسة أظافير متفرقة، فلكل ظفر صدقة.
هـ ـ إن طاف للقدوم أو للوداع أو لكل طواف تطوع محدثاً، فإن طاف للقدوم جنباً أو طاف طواف الزيارة محدثاً فعليه شاة، وإن طاف للزيارة جنباً فعليه بدنة. وإن طاف للوداع جنباً فعليه شاة.
وـ إن ترك شوطاً من أشواط طواف الوداع أو السعي، أو نقص حصاة من إحدى الجمار.
ز ـ إن حلق المحرم رأس غيره، سواء أكان الغير محرماً أم حلالاً. ولا شيء عليه إن طيب عضو غيره أو ألبسه مخيطاً إجماعاً.
__________
(1) وهو عند الحنفية 1900 غم، وعند الجمهور 1375 غم.(3/627)
وقال المالكية: في قلم الظفر ترفهاً أوعبثاً، لا لإماطة الأذى، حفنة من طعام. وفي إزالة الشعر والشعرات والقملة والقملات لعشر لغير إماطة الأذى: حفنة من طعام يعطيها لفقير، فإن قلم أكثر من ظفر مطلقاً أو قلم واحداً فقط لإماطة الأذى، أو أزال أكثر من عشر مطلقاً، أو قتل أو طرح أكثر من عشر قملات مطلقاً لإماطة الأذى، فتلزمه فدية.
وقال الشافعية: الأظهر أن في الشعرة والظفر مد طعام، وفي الشعرتين والظفرين مدين أي نصف صاع، وفي ثلاث شعرات وثلاثة أظفار فدية كاملة (شاة) .
وقال الحنابلة كالشافعية: في كل شعرة أو ظفر مد من طعام، وفي قطع بعض الظفر أوبعض الشعرة مثل ما في جميعه. والمذهب وجوب الفدية الكاملة في حلق ثلاث شعرات وقلم ثلاثة أظفار.
خامساً ـ ما يوجب أقل من نصف صاع: وهو التصدق بما شاء:
قال الحنفية: إن قتل جرادة، أو قملة أو اثنتين أوثلاثاً أو ألقاها من بدنه أو ثوبه، أو ألقى ثوبه بالشمس لتموت، أو دل عليها غيره، يتصدق بما شاء ككف طعام؛ لأن القملة متولدة من التفث الذي على البدن. ولو قتل قملة وجدها على الأرض لم يكن عليه شيء. والجراد من صيد البر.
زمان الفدية ومكانها:
قال الحنفية (1) : النسك: أي ذبح الشاة أو البدنة يختص بالحرم بالاتفاق؛ لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، وهذا لم يختص بزمان، فتعين اختصاصه بالمكان.
وأما الصوم: فيجزئ في أي موضع شاء؛ لأنه عبادة في كل مكان، ولا يشترط تتابع الأيام. وكذا الصدقة تصح في أي مكان شاء.
وقال المالكية (2) : الفدية: وهي كفارة ما يفعله المحرم من الممنوعات إلا الصيد والوطء، لا تختص بأنواعها الثلاثة (الصيام والصدقة والنسك) بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي وقت شاء. أما الهدي الواجب جزاء للصيد أو الوطء فمحله منى أو مكة، فإن وقف بالهدي بعرفة بجزء من الليل ذبحه بمنى، وإلا فبمكة.
__________
(1) الدر المختار: 288/2، اللباب: 201/1.
(2) الشرح الصغير: 93/2، القوانين الفقهية: ص 138 ومابعدها.(3/628)
وقال الشافعية (1) : الدم الواجب بفعل حرام كالحلق لعذر أو ترك واجب عليه غير ركن كدم الجبرانات ودم التمتع والقرآن والحلق: لايختص بزمان، ويختص ذبحه بالحرم في الأظهر، ويجب صرف لحمه إلى مساكين الحرم وفقرائه: القاطنين منهم والغرباء، فكل الدماء الواجبة وبدلها من الطعام تختص تفرقتها بالحرم على مساكينه، وكذا يختص به الذبح، إلا دم المحصر، فيذبح حيث أحصر. ودم الفوات يجزئ قبل دخول وقت الإحرام بالقضاء، كالتمتع إذا فرغ من عمرته، فإنه يجوز له أن يذبح قبل الإحرام بالحج على المعتمد.
وقال الحنابلة (2) : ما وجب لترك واجب، أو بفعل محظور من هدي أو إطعام يكون في الحرم. ويلزم ذبح هدي التمتع والقران والمنذور بالحرم، ويفرق لحمه على مساكينه.
والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، ومن عجز عن إيصال المذبوح للحرم حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره. وتجزئ فدية أذى في الرأس، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، والطيب، وفدية فعل المحظور غير الصيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر. ويدخل وقت ذبح الفدية من حين فعل الجناية، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين، ويكون جزاء الصيد بعد جرحه، وفدية ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم الإحصار حيث أحصر. ويصح الصوم في كل مكان.
__________
(1) مغني المحتاج: 530/1-532.
(2) غاية المنتهى:388/1 ومابعدها.(3/629)
سادساً ـ الجناية التي توجب القيمة أو المثل (جزاء الصيد وقطع النبات) :
أوجب أبو حنيفة القيمة بقتل الصيد، وأوجب الجمهور المثل في المثلي أو القيمة.
قال أبو حنيفة (1) : تجب القيمة بقتل الصيد أو الدلالة عليه. والصيد المقصود: هو كل حيوان بري متوحش بأصل خلقته، سواء أكان مباحاً أم مملوكاً مأكولاً أم غير مأكول كالأسد والنمر إذا لم يكن صائلاً، وكالنسر والبوم والغزال والنعام ونحوها، فلا يعد صيداً الكلب والهر والحية والعقرب والذباب والبعوض والبرغوث والقراد والسلحفاة، والفراشة والدجاج والبط ونحوها.
وتجب القيمة على قاتله سواء أكان عامداً أم مخطئاً أم ناسياً لإحرامه، أم مبتدئاً بقتل الصيد أم عائداً إليه (أي تكرر منه) ؛ لأنه ضمان إتلاف، فأشبه غرامات الأموال.
وتقدر القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف: بأن يقوم الصيد في المكان الذي قتله المحرم فيه، أو في أقرب المواضع منه إن كان في برية، يقوّمه ذوا عدل لهما خبرة في تقويم الصيد، لقوله تعالى: {فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/5] وقال في الهداية: والواحد يكفي، والاثنان أولى؛ لأنه أحوط وأبعد من الغلط، كما في حقوق العباد.
ثم يخير المحكوم عليه بالقيمة: إن شاء اشترى بها هدياً فذبح بمكة إن بلغت القيمة هدياً مجزئآً في الأضحية من إبل أو بقر أوغنم؛ وإن شاء اشترى بها طعاماً، فتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُر، أو صاعاً من تمر أوشعير؛ وإن شاء صام يوماً عن كل نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو مخير: إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عنه يوماً كاملاً. وتجب قيمة الحشيش والشجر النابت بنفسه الذي لا ينبته الناس في حرم مكة إذا قطعه الشخص البالغ إلا الإذخر والكمأة، سواء أكان محرماً أم حلالاً، وتوزع القيمة مثل توزيع جزاء صيد الحرم.
__________
(1) اللباب: 206/1 وما بعدها.(3/630)
وقال المالكية (1) : جزاء الصيد أحد ثلاثة أنواع على التخيير كالفدية، بخلاف الهدي، يحكم بالجزاء من غير المخالف ذوا عدل فقيهان اثنان، فلا يكفي واحد أو كون الصائد أحدهما، ولا يكفي كافر، ولا فاسق، ولامرتكب ما يخل بالمروءة، ولا جاهل غير عالم بالحكم في الصيد؛ لأن كل من ولّي أمراً، فلا بد من أن يكون عالماً بما وُلّي به.
وأنواع الجزاء الثلاثة هي:
النوع الأول: مثل الصيد الذي قتله من النَّعَم (الإبل والبقر والغنم) قدراً وصورة أو قدراً، بشرط كونه مجزئاً كما تجزئ الأضحية سناً وسلامة من العيوب. فلا يجزئ صغير ولا معيب.
النوع الثاني ـ قيمة الصيد طعاماً: بأن يقوَّم بطعام من غالب طعام أهل ذلك المكان الذي يخرج فيه. وتعتبر القيمة يوم التلف بمحل التلف، ويعطى لكل مسكين بمحل التلف مدّ بمد النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن لم يوجد فيه مساكين فيعطى لمساكين أقرب مكان له.
النوع الثالث - عدل ذلك الطعام صياماً: لكل مد صوم يوم، في أي مكان شاء من مكة أو غيرها، وفي أي زمان شاء، ولايتقيد بكونه في الحج أو بعد رجوعه.
وطريق تقدير الحكمين لجزاء الصيد: في النعامة أو الفيل بَدَنة، وفي حمار الوحش أو بقرة الوحش بقرة، وفي الضَّبْع والثعلب والظبي وحمام حرم مكة ويمامه شاة. وفيما دون ذلك كفارة طعام أو صيام بتقويم الحكمين. ولا جزاء عندهم فيما حرم قطعه من الشجر في حرمي مكة والمدينة.
__________
(1) الشرح الصغير: 112/2-118.(3/631)
وكذلك قال الشافعية (1) مثل المالكية: إن أتلف المحرم صيداً له مثل من النعم ففيه مثله، وإن لم يكن له مثل ففيه قيمة، ويتخير في جزاء إتلاف الصيد المثلي بين ثلاثة أمور: ذبح مثله والتصدق به على مساكين الحرم، أو أن يقوم المثل بالدراهم ويشتري به طعاماً لمساكين الحرم، أو يصوم عن كل مد يوماً. وغير المثلي: يتصدق بقيمته طعاماً أو يصوم عن كل مد يوماً. ففي النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عَنَآق، وفي اليَرْبوع جَفْرة (أنثى المعز إذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها) ، وفي الضبع كبش، وفي الثعلب شاة، وفي الضب: جدي. وما لا نقل فيه يحكم بمثله من النعم عدلان، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/5] ويجب فيما لا مثل له مما لا نقل فيه من السُّنة أو عن الصحابة كالجراد وبقية الطيور ما عدا الحمام: القيمة، عملاً بالأصل في القيميات. وتقدر القيمة بموضع الإتلاف أو التلف لا بمكة على المذهب. ويلزم في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب، وفي السمين سمين، وفي الهزيل هزيل، ولو فدى المريض بالصحيح أو المعيب أو الهزيل بالسمين
فهو أفضل، وما لا مثل له مما فيه نقل وهو الحمام في الواحدة منها شاة.
والأظهر ضمان قطع نبات الحرم المكي الرطب الذي لا يستنبت، وقطع أشجاره، ففي قطع الشجرة الحرمية الكبيرة، بقرة لها سنة، وفي الصغيرة شاة، وفي الشجرة الصغير جداً: قيمتها. والمذهب وهو الأظهر أن النبات المستنبت وهو
__________
(1) مغني المحتاج: 524/1-529.(3/632)
ما استنبته الآدميون من الشجر كغيره في الحرمة والضمان، لكن يحل الإذخر والشوك وغيره كالعوسج من كل مؤذ، كالصيد المؤذي، فلا ضمان في قطعه، والأصح حل أخذ نبات الحرم من حشيش ونحوه لعلف البهائم وللدواء، وللتغذي، للحاجة إليه، ولأن ذلك في معنى الزرع، ولا يضمن في الجديد صيد المدينة مع حرمته.
وقال الحنابلة (1) أيضاً مثل الشافعية: يخير في جزاء الصيد بين مثل له، أو تقويمه بمحل تلف أو قربه بدراهم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مد بُر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وإن بقي دون طعام صام. ويخير فيما لا مثل له من القيميات بين إطعام وصيام، ولا يجب تتابع فيه.
ويضمن نبات الحرم المكي وشجره حتى المزروع إلا الإذخر والكمأة والثمرة، فيجب في الشجرة الصغيرة شاة، وفيما فوقها بقرة، ويخير بين ذلك وبين تقويم الجزاء، وتوزع قيمته كجزاء الصيد، وتجب قيمة الحشيش. ولاجزاء في قطع ما حرم من صيد المدينة وشجرها.
ضوابط جزاء الصيد:
أفاض ابن قدامة في بيان أحكام جزاء الصيد (2) ، أوجزها فيما يلي:
أولاً ـ وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد: أجمع أهل العلم على وجوبه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] .
وقتل الصيد نوعان: مباح ومحرم.
فالمحرم: قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله، ففيه الجزاء. والمباح ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يضطر إلى أكله، فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] ومتى قتله ضمنه، سواء وجد غيره أم لم يجد.
__________
(1) غاية المنتهى: 384/1-397.
(2) المغني: 504/3-526.(3/633)
الثاني: إذا صال عليه صيد، فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله قتله، ولا ضمان عليه، وهذا موافق لرأي الشافعي وأبي حنيفة، لأنه قتله لدفع شره، فلم يضمنه كالآدمي الصائل.
الثالث: إذا خلص صيداً من سبع أو شبكة صياد، أو أخذه ليخلص من رجله خيطاً ونحوه، فتلف بذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان، فلم يضمن ما تلف به.
ثانياً ـ الجزاء واجب في الخطأ والعمد: وهذا متفق عليه بين أئمة المذاهب، لقول جابر: «جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشاً» وقال عليه الصلاة والسلام: «في بيض النعام يصيبه المحرم: ثمنه، ولم يفرق» (1) ولأنه ضمان إتلاف استوى عمده وخطؤه كمال الآدمي.
ثالثاً ـ الجزاء لا يجب إلا على المحرم: ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، لعموم النص فيهما، ولا خلاف في ذلك.
رابعاً ـ الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد: لأنه الذي ورد به النص بقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد} [المائدة:95/5] والصيد: ما جمع ثلاثة أوصاف: وهو أن يكون مباحاً أكله، لا مالك له، ممتنعاً وحشياً، فلا جزاء فيما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات. وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره، كالمتولد من الضبع والذئب، تغليباً لتحريم قتله.
ولا جزاء اتفاقاً بذبح وأكل ما ليس بوحشي، كبهيمة الأنعام كلها والخيل والدجاج ونحوها. والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال.
خامساً ـ وجوب الجزاء في صيد البر دون صيد البحر بغير خلاف: لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/5] .
__________
(1) رواهما ابن ماجه.(3/634)
ولا فرق بين حيوان البحر الملح، وبين ما في الأنهار والعيون، فإن اسم البحر يتناول الكل، لقوله تعالى: {وما يستوي البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، ومن كلٍ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/35] وحيوان البحر: ماكان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه، كالسمك ونحوه، وإن كان مما يعيش في البر والبحر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لا جزاء فيه. أما طير الماء ففيه الجزاء باتفاق أهل العلم. وكذا الجراد فيه الجزاء في قول الأكثرين.
سادساً ـ كيفية وجوب الجزاء بقتل الصيد: قال أبو حنيفة: الواجب القيمة؛ لأن الصيد ليس بمثلي. وقال الجمهور: الواجب المثل من النعم؛ لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم في الضبع كبشاً، وأجمع الصحابة على إيجاب المثل، فقالوا: «في النعامة بدنة» وحكم ابن عباس وأبو عبيدة «في حمار الوحش ببدنة» وحكم عمر «فيه ببقرة» ، فليس المراد حقيقة المماثلة، فإنها لاتتحقق بين النعم والصيد، لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة، وهو الأرجح لدي. والمتلف من الصيد قسمان:
1 - قسم قضت فيه الصحابة: فيجب فيه ما قضت، وبه قال الحنابلة والشافعية. وقال مالك: يستأنف الحكم فيه، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل} [المائدة:95/5] لكن مذهب المالكية موافق للرأي الأول كما تقدم. ويدل للحنابلة وموافقيهم ما روي عن جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشاً» (1) وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: قال: «في الضبع كبش إذا أصاب المحرم، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» (2) .
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه عن جابر.
(2) رواه الدارقطني.(3/635)
2 - وقسم لم تقض فيه الصحابة: فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة، لقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/5] فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة، لا من حيث القيمة، بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة. ولم يشترط الحنابلة في الحاكم كونه فقيهاً خلافاً للمالكية، وإنما شرطوا فيه العدالة، للنص عليها.
ويجوز عند الحنابلة والشافعية كون قاتل الصيد أحد العدلين، لعموم قوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} [المائدة:95/5] والقاتل مع غيره ذوا عدل منا.
سابعاً ـ نوع الجزاء:
قال الحنابلة والشافعية: في كبير الصيد مثله من النعم، وفي الصغير: صغير، وفي الذكر: ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب: معيب، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] مثل الصغير صغير.
والجفرة: التي قد فطمت ورعت.
وقال المالكية: يجب ما يجزئ في الأضحية، ففي الصغير كبير، وفي المعيب صحيح، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/5] ولا يجزئ في الهدي صغير ولا معيب.
ضمان جزء الصيد: أضاف الحنابلة: إن أتلف جزءاً من الصيد وجب ضمانه؛ لأن جملته مضمونة، فكان بعضه مضموناً كالآدمي والأموال، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا ينفَّر صيدها» فالجرح أولى بالنهي، والنهي يقتضي التحريم، وما كان محرماً من الصيد وجب ضمانه كنفسه. ويضمن بمثله من مثله. هذا إن اندمل الصيد ممتنعاً، فإن اندمل غير ممتنع ضمنه جميعه؛ لأنه عطَّله، فصار كالتالف، ولأنه مفض إلى تلفه، فصار كالجارح له جرحاً يتيقن به موته. قال ابن قدامة: وهذا مذهب أبي حنيفة.(3/636)
ضمان مضاعفات الجرح: إن جرح المحرم صيداً، فوقع في شيء تلف به: ضمنه؛ لأنه تلف بسببه، وكذلك إن نفره فتلف في حال نفوره، ضمنه. فإن سكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف، لم يضمنه. ويجوز عند الحنابلة إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته.
قاعدة الضمان: وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة وتسبب. وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من الصيد. فالضمان على راكبها، أو قائدها أو سائقها، وما جنت برجلها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يمكن حفظ رجلها.
كيفية ضمان الطير: قال الجمهور: في النعامة بدنة، وفي الحمام شاة؛ لأن النعامة تشبه البعير في خلقته، فكانت البدنة مثلاً لها، وتوجب الآية المثل: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] ولأن الآثار عن الصحابة ذكرت في الحمام شاة، وكذلك ما كان أكبر من الحمام كالحباري والكركي والكروان والحجل والأوز الكبير من طير الماء، فيه شاة. وقال أبو حنيفة: الواجب هو القيمة.
ولا خلاف في أن ضمان غير الحمام ونحوه من الطير هو القيمة في المكان الذي أتلفه فيه. وكذلك يضمن بيض الطير بقيمة الطير، لقول ابن عباس: «في بيض النعام قيمته» .(3/637)
وقال المالكية (1) : يجب في الجنين وفي البيض عُشر دية الأم.
ثامناً ـ التخيير في جزاء الصيد: اتفقت المذاهب على أن قاتل الصيد مخير في الجزاء بين أحد أمور ثلاثة، بأيها شاء كفَّر، سواء أكان موسراً أم معسراً، والأمور الثلاثة: هي ذبح النظير، وتقويم النظير بدراهم ثم بطعام، لكل مسكين مد، وصيام يوم عن كل مد، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياماً} [المائدة:95/5] و «أو» في الأمر للتخيير، بين المثل أو الإطعام أوالصيام. وإذا اختار المثل ذبحه، وتصدق به على مساكين الحرم، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/5] والهدي يجب ذبحه، ولا يجزئه أن يتصدق به حياً على المساكين، لتسميته هدياً، وله ذبحه في أي وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر.
كيفية تقدير الطعام ونوعه:
قال الشافعية والحنابلة: متى اختار الإطعام: فإنه يقوم المثل بالدراهم، والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين؛ لأن المثل الواجب إذا قوم، لزمت قيمة مثله. ولا يجزئ إخراج القيمة؛ لأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليست القيمة منها. ونوع الطعام المخرج: هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى: وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقال مالك: يقوم الصيد لا المثل؛ لأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف، قوم المتلف كالذي لا مثل له.
تقدير الصيام:
في الصيام: يصوم عند الجمهور: عن كل مد يوماً؛ لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام، فكان في مقابلة المد ككفارة الظهار: المد فيها في مقابلة إطعام المسكين. وإذا بقي ما لا يعدل يوماً، صام يوماً كذلك.
وقال أبو حنيفة: يصوم عن كل نصف صاع من بُرّ يوماً، إذ لا يجوز عنده أن يطعم المسكين أقل من نصف صاع؛ لأن الطعام المذكور ينصرف إلى ما هو المعهود في الشرع.
__________
(1) الشرح الصغير: 118/2.(3/638)
تاسعاً ـ ما لا مثل له من الصيد كالجراد: يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاماً، فيطعمه للمساكين، وبين أن يصوم. ولا يجوز إخراج القيمة عند الحنابلة في الظاهر، والشافعية، وإنما يتخير بين إخراج طعام بقيمته والصيام بعدد الأمداد.
عاشراً ـ تكرار قتل الصيد والاشتراك في القتل: كلما قتل صيداً حكم عليه، فيجب الجزاء بقتل الصيد الثاني، كما يجب عليه إذا قتله ابتداء؛ لأنه كفارة عن قتل، فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي، ولأن هذه الكفارة بدل متلف يجب به المثل أو القيمة، فأشبه بدل مال الآدمي.
ولو اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد في رأي الحنابلة على الصحيح والشافعية، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] والجماعة قد قتلوا صيداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب.
وقال الحنفية (1) والمالكية: إذا اشترك المحرمان في قتل صيد، فعلى كل واحد منهما الجزاء كاملاً؛ لأن كل واحد منهما جنى على إحرام كامل. وإذا اشترك الحلالان في قتل صيد الحرم، فعليهما جزاء واحد؛ لأن الضمان هنا لحرمة الحرم، فجرى مجرى ضمان الأموال، كرجلين قتلا رجلاً خطأ، يجب عليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة.
وأضاف الحنابلة: إن كان شريك المحرم في قتل صيد مطلقاً حلالاً أو سبعاً، فلا شيء على الحلال، ويحكم على الحرام.
وإن اشترك حرام وحلال في صيد حرمي، فالجزاء بينهما نصفان؛ لأن الإتلاف ينسب إلى كل واحد منهما نصفه.
حادي عشر ـ تملك الصيد بالبيع ونحوه وزوال ملكيته عنه، وتملكه بالإرث:
قال أكثر الفقهاء: إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد، لم يزل ملكه عنه، ولا يده الحكمية، مثل أن يكون في بلده أو في يد نائب له في غير مكانه. ولا شيء عليه إن مات، وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ومن غصبه لزمه رده، ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه، فإذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفص معه أو مربوطاً بحبل معه، لزمه إرساله.
والدليل على بقاء يد المالك عليه: أنه لم يفعل في الصيد فعلاً، فلم يلزمه شيء، كما لو كان في ملك غيره.
ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب، بدليل حديث الصعب بن جثَّامة المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم رد الحمار الوحشي على صاحبه، لأنه محرم. فإن أخذه بأحد هذه الأسباب، ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً فعليه القيمة أو رده إلى مالكه، فإن أرسله فعليه ضمانه كما لو أتلفه، وليس عليه جزاء، وعليه رد المبيع أيضاً.
وإن ورث المحرم صيداً ملكه؛ لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل في ملكه حكماً، سواء اختار ذلك أو كرهه.
__________
(1) اللباب:211/1 ومابعدها.(3/639)
.............................جدول محظورات الإحرام...............................
.....المحرّمات.................ما يترتب على فعل شيءٍ منها عمداً أو سهواً أو جهلاً أو لعذر
1-لبس الرجل المخيط من....................الفدية بذبح شاة.............................
الثياب أو الحذاء وستر بلا عذر.............................................................
2-تغطية رأس الرجل ووجه المرأة..............الفدية بذبح شاة.............................
3-إزالة الشعر من الجسم بأي ... الفدية بذبح شاة بحلق ربع الرأس عند الحنفية، وإلا فعليه نوع في أي موضع....................صدقة
................................الفدية بذبح شاة بإزالة ما يزيد عن عشر شعرات عند المالكية
................................وإلا فعليه حفنة من طعام.
................................الفدية بذبح شاة بإزالة ثلاث شعرات فأكثر عند الشافعية
................................والحنابلة، وإلا فعليه إطعام مسكين عند الحنابلة، ومد لشعرة................................ومدان لشعرتين عند الشافعية
4-تقليم الأظافر................الفدية بالذبح بتقليم أظافر يد أو رجل عند الحنفية، وأما عند................................الأئمة الآخرين فعلى تفصيل إزالة الشعر.
5-استعمال الطيب مطلقاً......الفدية بالذبح..............................................
6-صيد الحيوان أو التعرّض له ... جزاء عند الجمهور بالمثل أو التصدق بقيمته طعاماً، أو الصيام
................................عن كل مد يوماً............................................
...............................جزاء بالقيمة عند أبي حنيفة، ويخير فيها بين شراء هدي وذبحه
..............................أو التصدق بطعام لكل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صوم
..............................يوم عن كل نصف صاع.....................................
7-قطع نبات حرم مكة أو شجرة.....لا جزاء عند المالكي، وعليه القيمة عند أبي حنيفة، وعليه......................................شاة أو بقرة عند الشافعية والحنابلة بحسب كون الشجرة
......................................صغيرة أو كبيرة، وقيمة النبات.
8-الجماع ومقدماته التي فيها.......فساد الحج بالجماع اتفاقاً، وكذا بالإنزال عند المالكية
استمتاع بالنساء.....................مع القضاء اتفاقاً، وذبح بدنة عند الشافعية والحنابلة،
....................................وهدي عند المالكية، وبدنة بعد الوقوف عند الحنفية
....................................وقبله شاة. ولافدية عند أحمد على المرأة النائمة والمكرهة،
...................................ولا شيء عند الشافعية على من باشر مقدمات الجماع ناسياً
...................................ولا على المجامع الناسي والجاهل بالتحريم والمرأة المكرهة،...................................ولا يفسد الحج أيضاً بذلك عندهم.(3/640)
المبحث الثاني عشر ـ الفوات والإحصار:
الفوات: ما يفوت به الحج، وحكم الفوات (1) :
ما يفوت به الحج: من أحرم بالحج مطلقاً فرضاً أو نفلاً، صحيحاً أوفاسداً، ثم فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج؛ لأن وقت الوقوف يمتد إليه، ولأن الحج عرفة.
قال ابن جزي المالكي: وكذلك يفوت الحج بفوات أعماله كلها، وإذا أقام بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر، سواء أكان وقف بها أم لم يقف. والعمرة لا تفوت؛ لأنها غير مؤقتة بوقت.
حكم الفوات: قال الحنفية: من فاته الحج وجب عليه أن يتحلل بأفعال العمرة: بأن يطوف ويسعى من غير إحرام جديد لها، ويحلق أو يقصر، ثم يقضي الحج من عام قابل، ولا دم عليه؛ لأن التحلل وقع بأفعال العمرة، فكانت في حق فائت الحج بمنزله الدم في حق المحصَر، فلا يجمع بينهما، فلو كان الفوات سبباً للزوم الهدي للزم المحرم هديان: للفوات والإحصار.
وقال الجمهور: من فاته الحج تحلل بعمرة من طواف وسعي وحلق أوتقصير، وقضى على الفور من عام قابل، ولزمه الهدي في وقت القضاء، وسقط عنه ما بقي من المناسك كالنزول بمزدلفة والوقوف بالمشعر الحرام والرمي والمبيت بمنى.
أما دليل الفوات: فهو أن آخر الوقوف آخر ليلة النحر، فمن لم يدرك الوقت حتى طلع الفجر يومئذ، فاته الحج، بلا خلاف بين العلماء؛ لقول جابر:
__________
(1) البدائع: 220/2 ومابعدها، فتح القدير: 303/2 ومابعدها، اللباب: 214/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 130/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 142، المهذب: 233/1، المغني: 526/3-530، مغني المحتاج: 537/1، حاشية الشرقاوي: 511/1 ومابعدها.(3/641)
«لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جَمْع، قال أبو الزبير، فقلت له: أقال رسول الله ذلك؟ قال: نعم» (1) ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، فمن جاءقبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه» : يدل على فواته بخروج ليلة جمع أي ليلة المزدلفة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (2) .
ودليل التحلل بعمرة: هو ما روي عن الصحابة كعمر وابن عمر (3) وغيرهما، ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات، فمع الفوات أولى.
ودليل لزوم القضاء من قابل، سواء أكان الفائت واجباً أم تطوعاً: هو ما روي عن الصحابة: عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير ومروان، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من فاته عرفات فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» (4) ، ولأن الحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، بخلاف سائر التطوعات.
وأما لزوم الهدي عند الجمهور خلافاً للحنفية: فلقول الصحابة المذكورين، ولما روى عطاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فاته الحج فعليه دم، وليجعلها عمرة، وليحج من قابل» (5) ، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي، كالمحرم لم يفت حجه، فإنه يحل قبل فواته.
بقاء الفائت محرماً لعام آخر: إن اختار من فاته الحج البقاء إحرامه ليحج من قابل، فله ذلك؛ لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة، والمحرم بالحج في غير أشهره.
صفة القضاء:
قال الجمهور: إذا فات القارن الحج حل، وعليه مثل ما أهل به من قابل؛ لأن القضاء يجب على حسب الأداء في صورته ومعناه، ويلزمه هديان: هدي للقران، وهدي فواته.
وقال الحنفية: يطوف ويسعى لعمرته، ثم لا يحل حتى يطوف ويسعى لحجه.
الخطأ في وقت الوقوف: إذا أخطأ الناس، فوقفوا في اليوم الثامن أو في اليوم العاشر أي في غير ليلة عرفة، أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يوم عرفة الذي يعرّف فيه الناس» (6) ، ولأن الخطأ نجم عن شهادة الشاهدين برؤية الهلال قبل الشهر بيوم، فوقفوا يوم الثامن، أو غم عليهم الهلال، فوقفوا يوم العاشر، ومثل هذا لا يؤمن في القضاء، فسقط.
__________
(1) رواه الأثرم بإسناده.
(2) رواه الدارقطني عن ابن عمر، وضعفه.
(3) رواه الشافعي في مسنده، وروى مالك في الموطأ بإسناد صحيح عن هبار بن الأسود أن عمر رضي الله عنه أفتى بوجوب القضاء والدم، واشتهر في الصحابة.
(4) رواه الدارقطني عن ابن عباس.
(5) رواه النجاد بإسناده.
(6) رواه الدارقطني عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وروى الدارقطني أيضاً وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون» .(3/642)
فإن اختلفوا فأصاب بعض، وأخطأ بعض، وقت الوقوف، لم يجزئهم؛ لأنهم غير معذورين في هذا.
الإحصار:
معناه، أحكامه ومنها مكان ذبح دم الإحصار ووقته، ما يقضيه المحصر، زوال الإحصار (1) .
أولاً ـ معنى الإحصار:
الإحصار لغة: المنع، وشرعاً عند الحنفية: منع المحرم عن أداء الركنين (الوقوف والطواف) . وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة.
والمنع عند الحنفية: إما بعدو أو مرض أو ضياع نفقة أو حبس أو كسر أو عرج وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعاً. ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف والطواف، كان محصراً؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل، وإن قدر على أحد الركنين، فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل به، وإن قدر على الوقوف فقد تم حجه، فليس بمحصر.
والمنع الذي يعدّ به المحرم محصراً عند الجمهور: هو ما يكون بعدو، فالإحصار بعدو بعد الإحرام مبيح للتحلل إجماعاً. ولا يجوز التحلل بعذر المرض أوالحبس في دَين يتمكن من أدائه، أو ذهاب نفقة، فمن مرض يصبر حتى يبرأ، فإذا برئ أتم ما أحرم به من حج أو عمرة. وعلى المدين أن يؤدي الدين ويمضي في
__________
(1) البدائع: 175/2-182، فتح القدير: 295/2 - 302، اللباب: 212/1-214، بداية المجتهد: 342/1-346، القوانين الفقهية: ص141، الشرح الصغير: 133/2-136، الشرح الكبير: 93/2-98، مغني المحتاج: 532/1- 537، المجموع: 242/8-268، المهذب: 233/1 - 235، المغني: 356/3 - 364، كشاف القناع: 607/2 - 614، الإيضاح: ص 97 -98.(3/643)
حجه، فإن فاته الحج في الحبس لزمه المسير إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، ويلزمه القضاء. ومن ذهبت نفقته بعث بهدي إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على الوصول إلى البيت. وعليه، فكل من تعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة وضياع طرق ونحوه، لا يجوز له التحلل بذلك، بل يصبر حتى يزول عذره.
المحصر بمكة: من حصر بمكة عن البيت بعدو أو مرض أو حبس ولو بحق، ووقف بعرفة، فقد أدرك الحج، ولا يحل إلا بطواف الإفاضة، ولو بعد سنين.
شرط التحلل: لكن إن شرط المحرم التحلل بمرض، تحلل به، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ضُبَاعة بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج، فقالت: والله، ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي، وقولي: اللهم مَحِلِّي حيث حبستني» ويقاس عليه غيره. ولا يسقط عنه الدم عند الحنفية والشافعية إذا شرط عند الإحرام أنه يتحلل إذا أحصر.
وقال الحنابلة: لاشيء عليه، لاهدي ولا قضاء ولاغيره، فإن للشرط تأثيراً في العبادات.(3/644)
الأدلة:
استدل الحنفية: على عموم أسباب الإحصار بعموم قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] والمنع كما يكون من العدو، يكون من المرض وغيره، والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب. وعن الكسائي وأبي معاذ أن الإحصار من المرض، والحصر من العدو، فعلى هذا كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض. واستدل الجمهور: بأن آية الإحصار المذكورة: {فإن أحصرتم..} [البقرة:196/2] نزلت في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أحصروا من العدو، وفي آخر الآية الشريفة دليل عليه، وهو قوله عز وجل: {فإذا أمنتم} [البقرة:196/2] والأمان: من العدو يكون (1) .
وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا حصر إلا من عدو» .
شروط التحلل عند المالكية: يرى المالكية أن للمحصر خمس حالات يصح له الإحلال في أربع منها: وهي أن يكون العذر طارئاً بعد الإحرام، أو متقدماً ولم يعلم به، أو علم وكان يرى أنه لا يصده، وأن يشرط الإحلال فيما إذا شك هل يصدونه أو لا؟
ويمتنع الإحلال في حالة واحدة، هي إن صد عن طريق، وهو قادر على الوصول من غيره.
رفض الإحرام: إن قال المحرم: أنا أرفض الإحرام وأحل، فلبس الثياب، وذبح الصيد، وعمل ما يعمله الحلال، يظل محرماً، ويكون الإحرام باقياً في حقه، تلزمه أحكامه، ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه، فعليه في كل فعل فعله دم، وإن وطئ فعليه أيضاً للوطء بدنة، مع ما يجب عليه من الدماء، ويفسد حجه. وليس عليه لرفضه الإحرام شيء؛ لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئاً.
__________
(1) لكن قال ابن رشد في (بداية المجتهد: 345/1) : الأظهر أن قوله سبحانه: {فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة:196/2] أنه في غير المحصر، بل هو في التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين، لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه: {ذلك لمن لَمْ يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/2] والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع.(3/645)
تحليل الزوجة من حج تطوع: ذكر الشافعية والحنفية أن للزوج تحليل زوجته، كما له منعها ابتداء من حج أو عمرة تطوع أو فرض في الأظهر لم يأذن فيه، لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع، كما له أن يخرجها من صوم النفل، وإن أذن لها، لم يجز لرضاه بالضرر. وتحليلها في الحال من غير ذبح هدي عند الحنفية، ومع الهدي عند الشافعية. والمراد بتحليله إياها: أن يأمرها بالتحلل، وتحللها كتحلل المحصر. فإن لم يأمرها، لم يجز لها التحلل. وليس للزوج تحليل الرجعية أو البائن، بل يحبسها للعدة، فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي الوقت، وإلا تحللت بعمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات.
ثانياً ـ أحكام الإحصار: يتعلق بالمحصر أحكام، لكن الأصل فيه حكمان: أحدهما ـ جواز التحلل عن الإحرام، والثاني ـ وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل.
أما جواز التحلل من الإحرام وهو الحكم الأول: فيقتضي بيان معنى التحلل ودليل جوازه، وما يتحلل به، ومكان وزمان ذبح الهدي.
أما معنى التحلل: فهو فسخ الإحرام والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعاً. وأما دليل جوازه فقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] وفيه إضمار، ومعناه: فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة، وأردتم أن تحلوا، فاذبحوا ما تيسر من الهدي، إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي.(3/646)
وأما ما يتحلل به: فإن أمكنه الوصول إلى البيت، تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر عليه ذلك ذبح الهدي، فيبعث عند الحنفية بالهدي أو بثمنه ليشتري به هدياً، فيذبح عنه، وما لم يذبح لا يحل، سواء عند الحنفية شرط الشخص عند الإحرام الإحلال بغير ذبح عند الإحصار أو لم يشترط. والهدي: بدنة أو بقرة أو شاة.
ورأي الجمهور: أن من أحصر تحلل بهدي، سواء أكان حاجاً أم معتمراً أم قارناً، للآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] والآية نزلت بالحديبية حين صدّ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم عن البيت، وكان معتمراً، فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا» (1) .
وإن كان قارناً فعليه عند الشافعية والحنابلة دم واحد، وعند الحنفية دمان، بناء على أصل أن القارن عند الحنفية محرم بإحرامين، فلا يحل إلا بهذين، وعند الآخرين محرم بإحرام واحد، ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فيكفيه دم واحد.
فإن لم يكن مع المحصر هدي، وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل كدم التمتع والطيب واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر الهدي؛ لأنهما أقيما مقام أفعال الحج، فلم يحل قبلهما. وانتقل عند الشافعية في الأصح إلى الإطعام، فتقوَّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعاماً، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، وإذا انتقل إلى الصوم، له التحلل في الحال في الأظهر.
وقال الحنفية والمالكية: ليس للهدي الواجب بالإحصار بدل؛ لأنه لم يذكر في القرآن.
والتحلل عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء: ذبح، ونية التحلل بالذبح، وحلق أو تقصير، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حلق يوم الحديبية، وفعله في النسك دال على الوجوب.
__________
(1) رواه البخاري وأحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار: 9/5) .(3/647)
والحلق شرط أيضاً عند المالكية، وليس بشرط للتحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة ومحمد، لإطلاق نص الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب، وهذا خلاف النص، ولأن الحلق للتحلل عن أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج، فلا حلق عليه، والحديث في الحلق بالحديبية محمول على الندب والاستحسان.
وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة في حج أو عمرة يتربص ما رجا كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي أو دم عليه. فإن كان معه هدي نحره وتحلل بالنية والحلق بشرطين: أولهما ـ إن لم يعلم بالمانع عند إرادة إحرامه. وثانيهما ـ أن ييأس من زوال المانع قبل الوقوف بعرفة، والمعتمد عند أشياخ المالكية أنه لا يتحلل إلا بحيث لو سار إلى عرفة من مكانه، لم يدرك الوقوف، فإن علم أو ظن أو شك أنه يزول المانع قبل الوقوف، فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل عمرة.
وأما مكان ذبح الهدي عند الحنفية: فهو الحرم، لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة:2/196] ولو كان كل موضع محلاً له، لم يكن لذكر المحل فائدة، ولأنه عز وجل قال: {ثم مَحِلّها إلى البيت العتيق} [الحج:33/22] أي إلى البقعة التي فيها البيت. فلا يجوز عندهم ذبح دم الإحصار إلا في الحرم، فيبعث شاة تذبح في الحرم، ويواعد من يحملها يوماً بعينه يذبحها فيه، ثم يتحلل، أي يحل له ما كان محظوراً. ويجوز للمحصر بالعمرة أن يذبح متى شاء. أما الصدقة والصوم فيجزيان في أي مكان شاء.(3/648)
وأما زمان ذبح الهدي: فيجوز عند أبي حنيفة ذبح الهدي قبل يوم النحر، لإطلاق النص، ولأنه لتعجيل التحلل. وقال الصاحبان: لا يجوز الذبح للمحصر بالحج إلا في يوم النحر كدم المتعة والقران. وعلى الرأي الأول وهو الراجح: يكون زمان ذبح الهدي مطلق الوقت، لا يتوقف بيوم النحر، سواء أكان الإحصار عن الحج أم عن العمرة.
وحكم التحلل أي أثره: صيرورته حلالاً يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر، فيعود حلالاً كما كان قبل الإحرام.
وقال الجمهور غير الحنفية: من تحلل ذبح شاة حيث أحصر في حل أو حرم وقت حصره، لإطلاق الآية السابقة: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما منعه كفار قريش نحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، قبل يوم النحر، فله النحر في موضعه كما فعل النبي.
لكن وإن جاز التحلل قبل يوم النحر، فالمستحب له عند الشافعية والحنابلة وأبي حنيفة مع ذلك الإقامة على إحرامه، رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، بغير خلاف.
والخلاصة ألا هدي على المحصر إن لم يكن معه عند المالكية، وعليه الهدي عند الجمهور.
وأما ما يقضيه المحصر وهو الحكم الثاني فهو مايأتي:
قال الحنفية: إذا تحلل المحصر بالحج، فعليه حجة وعمرة قضاء عما فاته؛ لأنه في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها. هذا إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه؛ لأنه ليس في معنى فائت الحج. وعلى المحصر بالعمرة القضاء لما شرع فيه، وعلى المحصر القارن حجة وعمرتان، أما الحج وإحدى العمرتين: فلما تبين أنه في معنى فائت الحج، وأما الثانية: فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها.
والحاصل أنه يجب عند الحنفية على المحصر قضاء ما أحرم به بعد التحلل:(3/649)
أـ فإن كان أحرم بالحجة لاغير: فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار وأراد أن يحج من عامه ذلك، أحرم وحج، وليس عليه نية القضاء، ولا عمرة عليه. وإن مضت السنة فعليه قضاء حجة وعمرة، ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء.
ب ـ وإن كان إحرامه بالعمرة لا غير، قضاها، لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء؛ لأنه ليس لها وقت معين.
جـ ـ وإن كان قارناً فأحرم بالعمرة والحجة: فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء حجة وعمرة فلوجوبها بالشروع، وأما العمرة الأخرى فلفوات الحج في عامه ذلك؛ لأن العمرة تتعين بالإحصار، لأنها أقل الواجبين، وهو شيء متيقن.
ودليلهم في الجملة على وجوب القضاء: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل، وسميت عمرة القضاء، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء، كما لو فاته الحج.
وقال المالكية: على المتحلل بفعل عمرة أو بالنية حجة الفريضة، ولا تسقط عنه بالتحلل المذكور. أما حجة التطوع: فيقضيها إذا كان التحلل لمرض أو خطأ عدد أو حبس بحق، وأما لو كان التحلل لعدو أو فتنة أو حبس ظلماً، فلا يطالب بالقضاء. وقال الشافعية: لا قضاء على المحصر المتطوع إن تحلل من إحصار عام أو خاص، لعدم وروده، وقد أحصر مع النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديبية ألف وأربع مئة، ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير، أكثر ما قيل: إنهم سبع مئة.
وإن لم يكن تطوعاً نظر: إن كان نسكه فرضاً مستقراً عليه، كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان، أو كانت قضاء أو نذراً، بقي في ذمته، كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها، فإنها تبقى في ذمته. وإن كان غير مستقر كحجة الإسلام في السنة الأولى من سني الإمكان، اعتبرت الاستطاعة بعد زوال الإحصار، إن وجدت وجب الحج، وإلا فلا.(3/650)
وكذلك قال الحنابلة في الصحيح من المذهب: لا قضاء على المحصر إن تحلل ولم يجد طريقاً أخرى إلا أن يكون واجباً، يفعله بالوجوب السابق؛ لأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب، فلم يكن. وأما خبر قضاء العمرة الذي احتج به الحنفية، فلم ينقل إلينا أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أحداً بالقضاء، والذين اعتمروا مع النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا نفراً يسيراً، كما تقدم في مذهب الشافعية.
والخلاصة: إن الحنفية يوجبون القضاء، والجمهور لايوجبونه.
ثالثاً - زوال الإحصار:
قال الحنفية: إذا زال الإحصار قبل التحلل، فإن قدر على إدراك الهدي الذي بعثه، ليذبح في الحرم، وعلى الحج، لم يجز له التحلل، ولزمه المضي، لزوال العجز قبل حصول المقصود بالخلف، ويفعل بهديه مايشاء؛ لأنه ملكه، وقد كان مخصصاً لمقصود استغنى عنه. وإن قدر على إدراك الهدي دون الحج، تحلل، لعجزه عن الأصل. وإن قدر على إدراك الحج دون الهدي، جاز له التحلل استحساناً، لئلا يضيع عليه ماله مجاناً، إلا أن الأفضل التوجه لأداء الحج.
وقال الجمهور: متى زال الحصر قبل تحلله، فعليه المضي لإتمام نسكه، وهذا لا خلاف فيه. وإن زال الحصر بعد فوات الحج، تحلل بعمل عمرة، فإن فات الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي.
ووجوب المضي لإتمام النسك فيما إذا كانت حجته حجة الإسلام، أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج عند الأكثرين غير الشافعية يجب على الفور، فإن لم تكن الحجة واجبة، فلا شيء عليه، كمن لم يحرم.(3/651)
المبحث الثالث عشر ـ الهدي:
معنى الهدي، أنواعه وشروط دم التمتع، صفته، الأكل منه، مكان ذبحه وزمانه، ذابح الهدي، التصدق بلحمه، الانتفاع به، تقليد الهدي وإشعاره، عطب الهدي في الطريق (1) .
أولاً ـ معنى الهدي:
الهدي في اللغة: اسم لما يهدي أن يبعث وينقل، وفي الشرع:
هو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) . وسوق الهدي سنة لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة.
ثانياً ـ أنواع الهدي وصفته:
الهدي: بدنة أو بقرة أو شاة، وأدناه شاة. وقد يطلق الدم أو النسك على الهدي، والمراد بالنسك أو الدم هو الذبيحة وهي الشاة، لإجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية عن حلق الشعر أو قلم الظفر ونحو ذلك.
وأفضل الهدي: البدنة ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز، لما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أحصر بالحديبية، نحر البدن، وكان يختار من الأعمال أفضلها.
والمجزئ من الهدي بالاتفاق: ما يجزئ في الأضحية، وهو الثَّني فصاعداً، وهو عند الحنفية مثلاً: من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر: سنتان، ومن الغنم سنة ومن المعز ما له سنتان، لكن يجزئ عندهم وعند الحنابلة الجذع من الضأن: وهو ما دون الثني، وهو ماله ستة أشهر، لحديث: «يجزئ الجذع من الضأن: أضحية» (2) والهدي مثله.
ولا يجزئ في الهدي مقطوع الأذن أو أكثرها، ولا مقطوع الذَّنَب، ولا اليد ولا الرجل ولا الذاهبة العين، ولا العجفاء (كثيرة الهزال) ، ولا العرجاء التي لا تمشي إلى المَنْسك (الموضع الذي تذبح النسائك فيه) ؛ لأنها عيوب بينة.
والذكر والأنثى في الهدي سواء، لأن الله تعالى قال: {والبدنَ جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/22] ولم يذكر ذكراً ولا أنثى.
__________
(1) فتح القدير: 321/1-326، 333، الكتاب مع اللباب: 215/1-220، الشرح الصغير: 119/2-129، بداية المجتهد: 363/1-367، القوانين الفقهية: ص 139 ومابعدها، المهذب: 235/1-237، مغني المحتاج: 515/1، المغني: 470/3 ومابعدها، 480، 534-554، كشاف القناع: 615/2-619، شرح مسلم: 138/8، البدائع: 172/2-175، 179، المجموع: 269/8-296.
(2) رواه ابن ماجه، والفرق بين جذع الضأن وجذع المعز: أن الأول ينزو فيلقح، بخلاف الثاني، ويعرف كونه أجذع بنمو الصوف على ظهره.(3/652)
نوعا الهدي شرعاً: الهدي نوعان: واجب وتطوع.
أما هدي التطوع: فهو ما يقدمه الإنسان قربة إلى الله تعالى بدون إيجاب سابق. ويستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه، لما روي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهدى مئة بدنة» (1) . والأفضل عند الجمهور سوق الهدي من بلده، فإن لم يكن، فمن طريقه من الميقات أو غيره أو من مكة أو منى، ولا يشترط أن يجمع الهدي بين الحل والحرم، ولا أن يقفه بعرفة، ولكن يستحب ذلك. وقال مالك: أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة، جاز، وقال في هدي المجامع: إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة، ثم ليخرجه إلى الحل، وليسقه إلى مكة.
والمستحب أن يكون مايهديه سميناً حسناً، لقوله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/22] (2) قال ابن عباس في تفسيرها: الاستسمان والاستحسان والاستعظام.
والهدي الواجب نوعان: واجب بالنذر في ذمته للمساكين أو على الإطلاق، فإن نذر وجب عليه؛ لأنه قربة، فلزمه بالنذر.
وواجب بغير النذر، كدم التمتع والقران، والدماء الواجبة تكون بترك واجب أو فعل محظور. وقد عرفنا أن الواجب بغير النذر عند المالكية خمسة أنواع:
هدي المتعة والقران، وكفارة الوطء، وجبر ما تركه من الواجبات كرمي الجمار والمبيت بمنى والمزدلفة وغير ذلك، وهدي الفوات، وجزاء الصيد.
__________
(1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم.
(2) الشعائر لغة: العلائم، وشعائر الله: معالم دينه.(3/653)
الهدي الواجب بغير النذر: ينقسم الهدي الواجب بغير النذر عند الشافعية والحنابلة قسمين: منصوص عليه في القرآن، ومقيس على المنصوص (1) .
أما المنصوص عليه: فهو أربعة أنواع: دم التمتع، وجزاء الصيد، وفدية دفع الأذى كحلق، وفدية الإحصار.
فإن عدم المتمتع الدم، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، للآية السابقة: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/2] والعبرة بالعدم في محل الذبح، وإن كان له مال غائب عن ذلك المحل. ولا يجب عليه تحصيل الدم بأكثر من ثمن المثل.
وإن فاته صوم الثلاثة الأيام في الحج، فرق بينها وبين السبعة، بقدر تفريقه بينهما في الأداء، وهو أربعة أيام، ومدة إمكان السير إلى وطنه، على العادة الغالبة.
وجزاء الصيد: إن كان له مثل خير بين أمور ثلاثة: إخراج مثله، بأن يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم، أو تقويمه بدراهم يشتري بها مثلاً طعاماً يجزئ في الفطرة، ويتصدق به على مساكين الحرم، لكل مسكين مد، أو أن يصوم عن كل مد يوماً، لآية: {فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النعم} [المائدة:95/5] وهو صوم التعديل، لقوله تعالى: {أوعدل ذلك صياماً} [المائدة:95/5] وإن لم يكن له مثل خير بين أمرين: تقويمه وشراء طعام به والتصدق به، أو صوم يوم عن كل مد. والمعتبر في قيمة غير المثلي: بمحل الإتلاف، لا بمكة، وفي قيمة المثلي بمكة، لا بمحل الإتلاف.
وفدية دفع الأذى كحلق وتقليم أظفار: يخير بين أمور ثلاثة: ذبح شاة بصفة الأضحية والتصدق بلحمها على مساكين الحرم، وصوم ثلاثة أيام، وتصدق باثني عشر مداً على ستة مساكين في الحرم، لكل مسكين مدان، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ـ أي فحلق ـ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/2] .
__________
(1) حاشية الشرقاوي: 508/1-150، المغني: 543/3 ومابعدها.(3/654)
ودم الإحصار: شاة بصفة الأضحية، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة:2/196] فإن عدمها وقت الإخراج، فيجب عند الشافعية بدلها كدم التمتع وغيره، وهو طعام بقيمتها، فإن عجز عنه صام عن كل مد يوماً، قياساً على الدم الواجب بترك مأمور به، وعند الحنابلة: لا إطعام فيه وينتقل إلى صيام عشرة أيام، وقال مالك وأبو حنيفة: لا بدل له؛ لأنه لم يذكر في القرآن.
وأما المقيس على المنصوص عليه فهو نوعان:
أحدهما ـ لترك نسك يجبر تركه وهو خمسة: ترك الإحرام من الميقات والمبيت بمزدلفة، وبمنى، والرمي وطواف الوداع، ويقاس على دم التمتع، ويقاس عليه أيضاً دم الفوات، وهو ذبح شاة، فإن عجز صام عشرة أيام.
والثاني ـ الترفه: وهو خمسة أيضاً: الوطء في فرج أو غيره، واللمس بشهوة، والقبلة، والتطيب، واللباس، ويقاس على فدية الأذى: صيام أو صدقة أو نسك.
ثالثاً ـ شروط هدي التمتع:
من اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، عليه دم بالإجماع، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة، ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/2] .
ويمكن تلخيص شروط وجوب الدم على المتمتع بما يأتي وهي خمسة:
الأول ـ أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً، سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره. وهذا لا خلاف فيه إلا في شذوذ عن طاوس والحسن، إلا أن أبا حنيفة قال: إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج، فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع؛ لأن العمرة صحت في أشهر الحج.(3/655)
الثاني ـ أن يحج من عامه: فإن اعتمر في أشهر الحج، ولم يحج ذلك العام، بل حج من العام القابل، فليس بمتمتع، وهذا لا خلاف فيه إلا في قول شاذ عن الحسن؛ لأن الله تعالى قال: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] وهذا يقتضي الموالاة بينهما.
الثالث ـ ألا يسافر بين العمرة والحج سفراً بعيداً تقصر في مثله الصلاة. وهذا رأي الحنابلة: لقول عمر: «إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام، فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع» .
وقال الشافعي وأحمد: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه.
وقال الحنفية: إن رجع إلى مصره، بطلت متعته، وإلا فلا. وقال المالكية: إن رجع إلى مصره أو إلى غيره مما هو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا فلا.
الرابع ـ أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج: فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم والذين كان معهم الهدي من أصحابه، فهذا يصير قارناً، ولا يلزمه دم المتعة، لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عائشة التي حاضت بالإهلال بالحج وترك العمرة، ولم يوجب عليها هدياً ولا صوماً ولاصدقة.
ولكن عليه حينئذ دم للقران؛ لأنه صار قارناً، وترفه بسقوط أحد السفرين.
الخامس ـ ألايكون من حاضري المسجد الحرام: وهذا متفق عليه، فلا يجب دم المتعة على حاضري المسجد الحرام، بنص القرآن الكريم: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/2] ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة، فلم يحصل له الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم بالحج من ميقاته، فأشبه المفرد.(3/656)
من هم حاضرو المسجد الحرام؟ وحاضرو المسجد الحرام عند الحنفية: من دون الميقات، لأنه موضع شرع فيه النسك، فأشبه الحرم. وعند المالكية: هم أهل مكة وذي طوى. وعند الشافعية في الأصح: هم من دون مرحلتين (مسافة القصر) من الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم، إلا قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة:149/2] فهو الكعبة نفسها، فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى. والقريب من الشيء يقال: إنه حاضره. وعند الحنابلة: هم أهل الحرم، ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر؛ لأن حاضر الشيء: من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر، كما قال الشافعية، بدليل أن من قصده لا يترخص رخص السفر.
وإذا كان للمتمتع قريتان: قريبة وبعيدة، فهو من حاضري المسجد الحرام؛ لأن له أن يحرم من القريبة، فلم يكن بالتمتع مترفهاً بترك أحد السفرين.
وعليه: إن دخل الآفا قي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها، بعد تمتعه، فعليه دم المتعة.
وإذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات، ثم نوى العمرة وحل منها، وأحرم بالحج من مكة من عامه، فهو متمتع، عليه دمان: دم المتعة، ودم ترك الإحرام من الميقات.
الصيام بدل دم المتعة: إن لم يجد المتمتع الهدي، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى وطنه. وتعتبر القدرة على الهدي في موضعه، فمتى عدمه في موضعه، جاز له الانتقال إلى الصيام، وإن كان قادراً علىه في بلده؛ لأن وجوبه موقت، وما كان وجوبه موقتاً اعتبرت القدرة عليه في موضعه، كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه، انتقل إلى التراب. ولا يجب التتابع في أيام الصوم، وإنما يندب.
وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، فإنه يصومها بعد ذلك عند الجمهور غير الحنفية، وتعين عليه الدم عند الحنفية، ولا يجزيه الصوم في وطنه، والأظهر عند الشافعية أنه يلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة.(3/657)
ومن شرع في الصيام، ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه عند الحنابلة والمالكية والشافعية الخروج من الصوم إلى الهدي، إلا إذا شاء، لأنه صوم دخل فيه لعدم الهدي.
والمرأة إذا أحرمت متمتعة، فحاضت قبل طواف العمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، ولأنها ممنوعة من دخول المسجد. فإن خشيت فوات الحج، أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة. وهذا قول الجمهور، بدليل رواية مسلم لقصة عائشة التي حاضت، فإنها حجت أولاً، ثم اعتمرت من التنعيم.
وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة، وتهل بالحج، بدليل حديث عائشة المتقدم حينما حاضت، أهلت بالحج، وتركت العمرة، بدليل أمور ثلاثة: قوله عليه السلام لها: «دعي عمرتك» وقوله: «انقضي رأسك وامتشطي» وقوله: «هذه عمرة مكان عمرتك» .
رابعاً ـ الأكل من الهدي:
يرى الحنفية (1) أنه يجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران، إذا بلغ الهدي مَحِلَّه؛ لأنه دم نُسُك، فيجوز الأكل منه بمنزلة الأضحية. وما جاز لصاحبه الأكل منه، جاز للغني الأكل منه أيضاً. واشتراط بلوغ المحل، لأنه إذا لم يبلغ الحرم لا يحل الانتفاع منه لغير الفقير.
ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء الكفارات والنذور وهدي الإحصار، والتطوع إذا لم يبلغ مَحِلَّه، ومحله: منى أو مكة.
__________
(1) اللباب: 217/1.(3/658)
وقرر المالكية (1) أن صاحب الهدايا يأكل منها كلها إلا من أربعة: جزاء الصيد، ونسك الأذى، ونذر المساكين أي (النذر المعين للمساكين وهدي التطوع للمساكين) وهدي التطوع إذا عَطِب قبل محله (منى أو مكة) ، بأن عطب فنحره؛ لأنه يتهم بأنه تسبب في عطبه ليأكل منه، وليس عليه بدله. فإن أكل من هذه الأربعة، فعليه بدل البهيمة، إلا النذر المعين للمساكين يضمن فقط بقدر أكله منه.
وكل ما يمنع الأكل منه، يختص بالمساكين.
وما سوى هذه الأربعة يجوز لصاحبها الأكل منها مطلقاً؛ قبل المحل وبعده، وهو كل هدي وجب في حج أو عمرة، كهدي التمتع والقران، وتجاوز الميقات، وترك طواف القدوم أو الحلق، أو المبيت بمنى أو النزول بمزدلفة، أو الواجب بسبب المذي ونحوه، أو نذر مضمون لغير المساكين.
ويأكل منها أيضاً الغني والقريب. ويعد رسول صاحب الهدي غير الفقير كصاحبه في الأكل وعدمه، أما الفقير فيجوز له الأكل مما لا يجوز لصاحبه الأكل منه.
وقال الشافعية (2) : الهدي نوعان: واجب ومتطوع به، أما الهدي الواجب: وهو ما يجب بفعل حرام، أو ترك واجب من واجبات الحج، أو بنذر، فلا يجوز للمهدي الأكل منه، بل يجب ذبحه في محله، وتفرقة جميعه على أهله من مكة أو غيرها، ويملكهم جملته ولو قبل سلخه. أما ما يقع الآن من ذبح الهدي ورميه، فلايجزئ ولا يقع هدياً.
__________
(1) الشرح الصغير: 125/2-128، القوانين الفقهية: ص 140، الشرح الكبير: 89/2.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب:506/1 وما بعدها، الايضاح: ص 63.(3/659)
كذلك لا يجوز الأكل لمن تلزم المهدي نفقته، ورفقته ولو فقراء قافلته، وإن كبرت كالحج المصري، ولا للأغنياء مطلقاً.
ومحل عدم جواز الأكل من الهدي المنذور إذا كانت صيغة النذر صحيحة، كقوله: لله علي أن أهدي شاة للحرم. أما مايقع الآن من نذر شيء لسيدي أحمد البدوي وغيره، فيجوز لصاحبه الأكل منه، لعدم صحة نذره، لكن إن نذر ذلك لمجاوريه أو خدامه، ووجدوا في ذلك المكان، كان نذراً صحيحاً يمتنع الأكل منه (1) .
والخلاصة: لا يأكل من واجب؛ لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة، فلا يجوز الأكل من الهدي الواجب، وهدي القران والتمتع والمنذور ودم الجناية.
وأما المتطوع به: فيجوز لصاحبه كالأضحية الأكل منه، ويلزمه التصدق بقدر ما ينطلق عليه الاسم: وهو أقل متمول. والأفضل إذا أراد تقسيمه أن يأكل منه ثلثه، ويهدي للأغنياء ثلثه، ويتصدق بثلثه، لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج:36/22] والقانع: السائل أو الراضي بما عنده وبما يعطاه بلا سؤال، والمعتر: المتعرض للسؤال.
وقال الحنابلة (2) : لا يأكل الإنسان من كل واجب كالواجب بنذر أو بتعيين كأن يقول: هذا هدي أو يقلده أو يشعره، إلا من هدي التمتع والقران دون ما سواهما؛ لأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع، وأدخلت عائشة الحج على العمرة، فصارت قارنة، ثم ذبح عنهن النبي صلّى الله عليه وسلم البقرة، فأكلن من لحومها،
__________
(1) ومثله نذر الشمعة للوقود: فإن كان في المكان المنذور له من ينتفع بضوئها، جاز وإلا فلا.
(2) المغني: 537/3، 541-548، غاية المنتهى: 388/1.(3/660)
ولأن دم المتعة والقران دم نسك، فأشبه التطوع. ولا يجوز أن يأكل من غير دم التمتع والقران؛ لأنه يجب بفعل محظور، فأشبه جزاء الصيد. ويستحب أن يأكل من هدي التطوع: وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه، لقوله تعالى: {فكلوا منها} [الحج:36/22] وأقل أحوال هذا الأمر الأمر بالاستحباب، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أكل من بُدْنه (1) ، ويجوز التزود منه، لقول جابر: «كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا» (2) .
وإن لم يأكل فلا بأس، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس، قال: «من شاء اقتطع» ولم يأكل منهن شيئاً.
والمحتسب أن يأكل اليسير منها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وله الأكل كثيراً والتزود، كما جاء في حديث جابر، وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية. فإن أكلها، ضمن المشروع للصدقة منها، كما في الأضحية.
وإن أكل مما منع من أكله أو أعطى الجازر منها شيئاً أو باع شيئاً منها أو أتلفه، ضمنه بمثله لحماً. وإن أطعم غنياً مما يجوز له الأكل منه على سبيل الهدية جاز، كما يجوز له ذلك في الأضحية؛ لأن ما ملك أكله ملك هديته.
والخلاصة: يجوز الأكل من دم التمتع والقران عند الجمهور، ولا يجوز عند الشافعية، ولا يجوز الأكل من المنذور ودم الجزاء اتفاقاً، ويجوز الأكل من المتطوع به بالاتفاق.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.(3/661)
خامساً ـ مكان ذبح الهدي وزمانه:
سبق بيان الكلام عن هذا الموضوع فيما يخص دم الإحصار، وأوضحه هنا بصفة عامة.
قال الحنفية (1) : لا يجوز ذبح هدي المتعة والقران إلا في يوم النحر لأنه دم نسك، والصحيح أن يجوز ذبح دم التطوع قبل يوم النحر، وذبحه يوم النحر أفضل؛ لأن القربة في التطوعات باعتبار أنها هدايا، وذلك يتحقق ببلوغها إلى الحرم، فإذا وجد ذلك جاز ذبحها في غير يوم النحر، وفي أيام النحر أفضل؛ لأن معنى القربة في إراقة الدم فيه أظهر.
ويجوز ذبح بقية الهدايا أيّ وقت شاء؛ لأنها دماء كفارات، فلا تختص بيوم النحر، لأنها وجبت لجبر النقصان.
ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم؛ لأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان، ومكانه الحرم.
وقال المالكية (2) : يجب على المعتمد نحر الهدي بمنى بشروط ثلاثة: إن سيق الهدي في إحرامه بحج، ووقف به (3) بعرفة كوقوفه هو في كونه بجزء من الليل، وكان النحر في أيام النحر. فإن انتفت هذه الشروط أو بعضها، بأن لم يقف به بعرفة، أو لم يسق في حج، بأن سيق في عمرة، أو خرجت أيام النحر، فمحل ذبحه مكة.
فكان محل الذبح إما منى بالشروط الثلاثة، وإما مكة لا غير عند فقدها.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 217/1 ومابعدها.
(2) الشرح الصغير: 92/2-93، 120، الشرح الكبير: 86/2.
(3) أو وقف به نائبه، فلا يكفي إذا اشتراه صبيحة عرفة من التجار الواقفين به جزءاً من الليل للبيع.(3/662)
والأفضل فيما ذبح بمنى أن يكون عند الجمرة الأولى، ولو ذبح في أي موقع منها كفى وخالف الأفضل. ونحر الهدي يوم النحر.
أما فدية المحظور من لبس أو طيب ونحوهما: وهي الشاة أو إطعام ستة مساكين من غالب قوت البلد الذي أخرجها فيه، أو صيام ثلاثة أيام ولو أيام منى (وهي ثاني يوم النحر وتالياه) فلا تختص بأنواعها الثلاثة بمكان أو زمان، فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أي وقت شاء.
وقال الشافعية (1) : وقت ذبح الهدي إن كان تطوعاً أو بنذر: وقت أضحية، أما إن كان بسبب فعل حرام أو ترك واجب، فلا يختص بوقت. ومكان الذبح للمحصر مكان حصره أو الحرم، ولغير المحصر: جميع الحرم، فالحرم كله منحر حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة، لكن الأفضل للحاج ولو متمتعاً الذبح في منى، ولمعتمر غير متمتع الذبح في مكة عند المروة؛ لأنهما مكان تحللهما.
وقال الحنابلة (2) : فدية الأذى بحلق رأس أو غيره: في الموضع الذي حلق فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية» ولم يأمره ببعثه إلى الحرم. وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة، وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم، لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} [المائدة:95/5] وأما الصيام فيجزئه في كل مكان، بلا خلاف.
والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بالمروة، لما رواه أبو داود من قولهصلّى الله عليه وسلم: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق» ، والعاجز عن إيصاله للحرم، حتى بوكيله، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره، ويجزئ ما وجب بفعل محظور غير صيد: خارج الحرم، ولو بلا عذر، حيث وجد السبب، وبالحرم أيضاً.
ويدخل وقت ذبح فدية المحظور من حين فعله، وقبله بعد وجود سببه المبيح ككفارة يمين. ويكون وقت جزاء الصيد بعد جرحه، ووقت ترك الواجب عند تركه. ويجزئ دم إحصار حيث أحصر، وصوم وحلق بكل مكان، ووقت نحر الهدي والأضحية ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده.
سادساً ـ ذابح الهدي:
الأفضل عند الجمهور في البدن: النحر، وفي البقر والغنم، الذبح، والأولى بالاتفاق (3) أن يتولى الإنسان ذبح الهدي بنفسه إن كان يحسن ذلك؛ لأنه قربة، والعمل بنفسه في القربات أولى لما فيه من زيادة الخشوع، إلا أنه يقف عند الذبح إذا لم يذبح بنفسه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نحر هديه بيده.
وقال جابر: «نحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر» .
وإن ذبح الهدي غير صاحبه أجزأه، والمستحب أن يشهد ذبحه، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها» .
والأفضل أن يتولى تفريق اللحم بنفسه؛ لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين، وإن خلى بينه وبين المساكين جاز، لقوله عليه السلام: «من شاء اقتطع» .
ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفع إليهم، إما بالإذن الصريح لفظاً لحديث «من شاء اقتطع» أو بالإذن دلالة كالتخلية بينهم وبينه.
__________
(1) حاشية الشرقاوي: 506/1، الإيضاح: ص 63.
(2) المغني: 432/3-434، 545/3-548، غاية المنتهى: 388/1 ومابعدها.
(3) اللباب: 218/1، الشرح الصغير: 129/2، الشرح الكبير: 87/2، المغني: 541/3.(3/663)
سابعاً ـ التصدق بلحم الهدي:
أجاز الحنفية (1) أن يتصدق بلحم الهدي على مساكين الحرم وغيرهم؛ لأن الصدقة قربة معقولة، والصدقة على كل فقير قربة، وعلى مساكين الحرم أفضل، إلا أن يكون غيرهم أحوج.
ويتصدق بجلال الهدايا وخطامها (2) ، ولا يعطي الجزارة أجرة منها، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «تصدَّق بجلالها وخُطُمها ولا تُعط الجزار منها» .
وقال المالكية (3) كالحنفية: يوزع لحم الهدي والخِطام والجِلال على المساكين.
ويرى الشافعية (4) : أن جزاء الصيد، وفدية الأذى كحلق وتقليم أظفار ودم التمتع والقران يذبح ويتصدق به على مساكين الحرم، لقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج:33/22] .
وأما رأي الحنابلة (5) : فهو أن كل هدي أو إطعام لترك نسك أو فوات أو فعل محظور لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا أن فدية الأذى توزع على المساكين في الموضع الذي حلق فيه، لما تقدم من أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية، ولقول ابن عباس: «الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء» ، ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين، فاختص بالحرم كالهدي.
ويصح تفرقة اللحم أو إعطاؤه لمساكين الحرم ميتاً أو حياً لينحروه، وإلا استرده ونحره، فإن أبى أو عجز، ضمنه.
ومساكين الحرم: من كان فيه من أهله، أو وارد إليه من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ويجوز إباحة الذبيحة لهم، لما روى أبو داود عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات، ثم قال: من شاء فليقتطع» .
وما جاز تفريقه بغير الحرم، لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة في رأي الجمهور؛ لأن الذمي كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي. وأجاز الحنفية دفعه لأهل الذمة كالأضحية.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 218/1.
(2) الجلال: جمع جُلّ، وهو كالكساء يقي الحيوان والبرد، وخطامها: زمامها.
(3) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 128/2.
(4) حاشية الشرقاوي: 509/1.
(5) المغني: 433/3، 545 ومابعدها، غاية المنتهى: 388/1.(3/664)
ثامناً ـ الانتفاع بالهدي:
يجوز الانتفاع بالهدي عند الضرورة أو الحاجة، فقال المالكية (1) : يجوز له ركوبه إن احتاج إليه، ويندب عدم ركوبه والحمل عليه بلا عذر، بل يكره، فإن اضطر لركوبه لم يكره، ولا يشرب من اللبن وإن فضل عن الفصيل.
وقال الحنفية (2) : من ساق بَدَنة، فاضطر إلى ركوبها أو حمل متاعه عليها، ركبها وحملها، وإن استغنى عن ذلك لم يركبها، لأنه جعلها خالصاً لله، فلا ينبغي أن يصرف لنفسه شيئاً من عينها أو منافعها إلى أن تبلغ محلها، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً» (3) . وإذا ركبها أو حملها، فانتقصت فعليه ضمان ما انتقص منها. وإن كان لها لبن لم يحلبها؛ لأن اللبن متولد منها، وينضح ضَرْعها بالماء البارد حتى ينقطع اللبن عنها، إن قرب محلها، وإلا حلبها وتصدق بلبنها كيلا يضر ذلك بها، وإن صرفه لنفسه، تصدق بمثله أو قيمته؛ لأنه مضمون عليه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 140، الشرح الكبير: 92/2.
(2) اللباب: 218/1 ومابعدها.
(3) رواه أبو داود.(3/665)
وقال الحنابلة (1) : له ركوب الهدي على وجه لايضر به، لما روى أبو هريرة وأنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، فقال: اركبها، ويلك ـ في الثانية أو الثالثة» (2) وللمهدي شرب لبن الهدي؛ لأن بقاءه في الضرع يضرُّ به، فإذا كان ذا ولد لم يشرب إلا ما فضل عن ولده. وهذا هو الراجح لدي.
وقال الشافعية (3) : للمحتاج دون غيره أن يركب الهدي المنذور ويشرب من لبنه ما فضل عن ولده، ولو تصدق به، كان أفضل، ولو كان عليه صوف لا منفعةله في جزه، ولا ضرر عليه في تركه، لم يجز له جزه، وإن كان عليه في بقائه ضرر، جاز له جزه، وينتفع به، فلو تصدق به كان أفضل.
تاسعاً ـ تقليد الهدي وإشعاره:
التقليد: أن يعلق في عنق الهدي قلادة، مضفورة من حبل أو غيره، ويعلق بها نعلان أو نعل.
والإشعار: أن يشق سنام البدنة الأيمن عند الشافعية والحنابلة، أو الأيسر عند المالكية، ويقول حينئذ: «بسم الله والله أكبر» . والتقليد: هو المستحب بالاتفاق، أما الإشعار فمختلف فيه.
فقال الحنفية (4) : الإشعار مكروه، لأنه مُثْلة، فكان غير جائز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وهذا هو الحق.
ولا يجب التعريف بالهدايا: وهو إحضارها عرفة، فإن عرَّف بهدي المتعة والقران والتطوع، فحسن؛ لأنه يتوَّقت بيوم النحر، فعسى ألا يجد من يُمسكه، فيحتاج إلى أن يعرّف به، ولأنه دم نسك، ومبناه على التشهير، بخلاف دماء الكفارات، فإنه يجوز ذبحها قبل يوم الجناية، فالستر بها أليق.
ويُقلَّد هدي التطوع والمتعة والقران إذا كان من الإبل والبقر؛ لأنه دم نسك، فيليق به الإظهار والشهرة، تعظيماً لشعائر الإسلام. وأما الغنم فلا يقلد، وكل ما يقلد يخرج به إلى عرفات، وما لا فلا.
ولا يقلد دم الإحصار؛ لأنه لرفع الإحرام، ولا دم الجنايات؛ لأنه دم جبر، فالأولى إخفاؤها وعدم إشهارها.
__________
(1) المغني: 540/3.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(3) الإيضاح: ص 62، شرح المجموع: 278/8، 281.
(4) الكتاب مع اللباب: 218/1، 220.(3/666)
وقال المالكية (1) : يستحب تقليد الهدي وإشعاره، وتجليله: وهو أن تكسى بجل من أرفع ما يقدر عليه من الثياب، ويشق فيه موضع السنام، ويساق كذلك إلى موضع النحر، فيزال عنه الجل، وينحر قائماً وذلك يوم النحر. ويتصدق بالجل والخطام، وتترك القلادة في الدم.
والإشعار والتقليد والتجليل كله في الإبل، وأما البقر فتقلد وتشعر، ولا تجلل، وأما الغنم فلا تقلد ولا تشعر ولا تجلل.
وقال الشافعية (2) : إن ساق هدياً تطوعاً ومنذوراً، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب له أن يقلدها نعلين لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضاً؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر في ذي الحليفة، ثم أتى ببدنة، فأشعرها على صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، ثم قلدها
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 139-140، الشرح الصغير: 122/2 ومابعدها.
(2) المهذب: 235/1 ومابعدها، الإيضاح للنووي: ص 61، شرح المجموع:269/8.(3/667)
نعلين» (1) ، ولأنه ربما اختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز، وربما ندَّ (هرب) فيعرف بالإشعار والتقليد، فيرد.
وإن ساق غنماً قلدها خُرَب القُرَب: وهي عراها وآذانها، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أهدى مرة غنماً مقلدة» (2) ولأن الغنم يثقل عليها حمل النعال. ولا يشعرها؛ لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها، ولأنها ضعيفة.
ويكون تقليد الجميع والإشعار وهي مستقبلة القبلة، والبدنة باركة.
وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هدياً واجباً، على المذهب الصحيح المشهور، كما لو كتب الوقف على باب داره.
وقال الحنابلة (3) كالشافعية: يسن تقليد الهدي، سواء أكان إبلاً أم بقراً أم غنماً، لحديث عائشة السابق بلفظ: «كنت أفتل القلائد للنبي صلّى الله عليه وسلم، فيقلد الغنم، ويقيم في أهله حلالاً» .
ويسن إشعار الإبل والبقر، لحديث عائشة المتفق عليه: «فتلت قلائد هد ي النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها» .
والخلاصة: إن الإشعار عند الجمهور للإبل والبقر، وهو مكروه عند الحنفية، ولا تقلد الغنم عند المالكية والحنفية، وإنما تقلد الإبل والبقر، ويقلد الكل عند الشافعية والحنابلة.
عاشراً ـ عطب الهدي في الطريق:
قال الحنفية (4) : من ساق هدياً فعَطِب (أي هلك) ، فإن كان تطوعاً فليس عليه غيره، وإن كان عن واجب، فعليه أن يقيم غيره مُقامه؛ لأن الواجب باق في ذمته حيث لم يقع موقعه، فصار كهلاك الدراهم المعدة للزكاة قبل أدائها.
وإن أصابه عيب كبير، أقام غيره مقامه، لبقاء الواجب في ذمته، وصنع بالمعيب ما شاء.
وإذا عطبت البدنة في الطريق (أي قاربت العطب) : فإن كان تطوعاً نحرها، وصَبَغ نعلها (أي قلادتها) بدمها، وضرب بقلادتها المصبوغة بدمها صفحتها (أي أحد جانبيها) ، ولم يأكل منها صاحبها، ولا غيره من الأغنياء، ليعلم الناس أنه هدي، فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء.
وإن كانت البدنة واجبة، أقام غيرها مُقامها، وصنع بها ما شاء؛ لأنها ملكه كسائر أملاكه.
وقال المالكية (5) : إذا عطب هدي التطوع قبل محله، ينحره، ويخلي بينه وبين الناس، ولا يأكل منه، فإن أكل منه، فعليه بدله.
وأما ولد الهدي المولود: فإن ولد قبل التقليد فيستحب نحره، ولا يجب حمله إلى مكة. وإن ولد بعد التقليد أو الإشعار، فيجب حمله إلى مكة على غير أمه، إن لم يمكن سوقه.
وكذلك قال الشافعية (6) : إن عطب الهدي وخاف أن يهلك، نحره وغمس نعله التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله. لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي، ثم يقول:
__________
(1) رواه مسلم بلفظه.
(2) رواه مسلم بلفظه، والبخاري بمعناه.
(3) المغني: 549/3.
(4) الكتاب: 219/1.
(5) الشرح الكبير: 91/2-92.
(6) المهذب: 1/632، المجموع: 278/8، 281-289.(3/668)
«إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (1) .
فإن كان تطوعاً: فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك.
وإن كان منذوراً: لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت.
ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث معه بهدي، فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» (2) . والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه.
وإذا أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري.
وإن أتلف الهدي أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل.
وإذا اشترى هدياً، ثم نذر إهداءه، ثم وجد به عيباً، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق الله تعالى، فلا يجوز إبطاله.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(3/669)
نعله التي قلده إياها في دمه، وضرب به صفحته وتركه موضعه، ليعلم من مر به أنه هدي، فيأكله. لما روى أبو قبيصة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليه موتاً، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب صَفْحتها، ولا تطعمها أنت، ولا أحد من رفقتك» (1) .
فإن كان تطوعاً: فله أن يفعل به ماشاء من بيع وذبح وأكل وإطعام لغيره، وتركه وغير ذلك؛ لأنه ملكه، ولا شيء في كل ذلك.
وإن كان منذوراً: لزمه ذبحه، فإن تركه حتى هلك، لزمه ضمانه، كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت.
ولا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الأكل منه، بلا خلاف للحديث السابق، ولا يجوز للأغنياء الأكل منه بلا خلاف؛ لأن الهدي مستحق للفقراء، فلا حق للأغنياء منه، ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب الهدي الأكل منه بالإجماع، لحديث ناجية الأسلمي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بعث معه بهدي، فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس» (2) . والأصح أنه لا يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه.
وإذا أتلف المهدي الهدي، لزمه على المذهب ضمانه بأكثر الأمرين من قيمته ومثله، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري.
وإن أتلف الهدي أجنبي، وجبت عليه القيمة، ويشترى بها المثل.
وإذا اشترى هدياً، ثم نذر إهداءه، ثم وجد به عيباً، لم يجز له رده بالعيب، لأنه تعلق به حق الله تعالى، فلا يجوز إبطاله.
وإذا أتلف الهدي قبل بلوغ المنسك، أو بعده وقبل التمكين من ذبحه، فلاشيء عليه، لأنه أمانة لم يفرط فيها، كما لو ماتت أو سرقت الأضحية المعينة أو المنذورة المعينة قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر.
وإن ذبح الهدي أجنبي بغير إذن صاحبه، أجزأه عن النذر؛ لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده، ويلزم الذابح أرش نقصه: وهو ما بين قيمته حياً ومذبوحاً؛ لأنه لو أتلفه ضمنه، فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم.
وإذا ذبح الهدي المعين قبل المنسك، لزم التصدق بلحمه، ولزم البدل في وقته، كما لو ذبح الأضحية المعينة أو المنذورة قبل يوم النحر، يلزم التصدق بلحمها، ولا يجوز له أكل شيء منها، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلاً عنها.
وإذا ولد الهدي أو الأضحية المتطوع بهما، فالولد ملك لصاحبه كالأم، يتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره كالأم. وأما ولد المنذور فيتبع الأم بلا خلاف.
ومذهب الحنابلة (3) كالشافعية إجمالاً: إن كان الهدي تطوعاً، وخاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبة الرفاق، نحره بموضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يبح له أكل شيء منه، ولا لأحد من صحابته، وإن كانوا فقراء.
وليس عليه بدل عنه، لحديث أبي قبيصة السابق.
وإن كان نذراً فعليه البدل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أهدى تطوعاً، ثم ضلت، فليس عليه البدل، إلا أن يشاء، فإن كان نذراً فعليه البدل» (4) .
فإن أكل صاحب الهدي أو السائق أو رفقته منه، أو باع أو أطعم غنياً أو رفقته منها، ضمنه بمثله لحماً. وإن أتلفه أو تلف بتفريطه أو خاف عطبه، فلم ينحره حتى هلك، فعليه ضمانه بما يوصله إلى فقراء الحرم. وإن أطعم منه فقيراً أو أمره بالأكل منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه أوصله إلى المستحق.
وإن تعيب بفعل آدمي، فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) المغني: 3/537-539.
(4) رواه الدارقطني عن ابن عمر.(3/670)
الفَصْلُ الثَّاني: خَصَائِصُ الحَرَمَين
وفيه مبحثان: حرم مكة، وحرم المدينة
المبحث الأول ـ حرم مكة:
حدود الحرم، بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد الحرام، المجاورة بمكة، أيهما أفضل: مكة أم المدينة؟ آداب دخول مكة، محظورات الحرم المكي وخصائصه، زيارة أهم المعالم التاريخية في مكة.
أولاً ـ حدود الحرم المكي:
وهو الذي يحرم فيه الصيد والنبات، ويمنع أخذ ترابه وأحجاره، وبيان مايتعلق به من الأحكام وما يخالف غيره من الأرض.
حد الحرم: من طريق المدينة على ثلاثة أميال من مكة عند بيوت بني نفار أو السقيا وتعرف الآن بمساجد عائشة، ومن طريق اليمن على سبعة أميال طرف أضاة لبِن في ثنيه لبن، ومن طريق العراق على سبعة أميال من مكة على ثنية جبل بالمنقطَع أو المقطع، ومن الطائف وبطن نمرة على طريق عرفات على سبعة أميال من مكة عند طرف عرفة، ومن طريق الجِعْرانة على تسعة أميال في شعب آل عبد الله ابن خالد، ومن جُدَّة على عشرة أميال من مكة عند منقطع الأعشاش. ومن بطن عرنة أحد عشر ميلاً. وأما وَجّ: وهو واد بالطائف فهو من الحل (1) .
ويلاحظ أن للحرم علامات من جوانبه كلها، ومنصوب عليه أنصاب، ذكر الأزرقي وغيره أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلم عملها، وجبريل عليه السلام يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية، وهي الآن بينة واضحة.
وقد صارت المدينة حرماً بتحريم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن كانت حلالاً. والصحيح أن مكة حرم منذ القديم، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «فإن هذا بلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة» (2) .
ثانياً ـ بناء الكعبة ومزيتها وفضيلة المسجد الحرام:
بنيت الكعبة المشرفة خمس مرات (3) : بناء الملائكة أو آدم، أو شيث بن آدم كما قال السهيلي، وبناء إبراهيم على القواعد الأولى، وبناء قريش في الجاهلية بحضور الرسول صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة، وبناء ابن الزبير، حين احترقت، وبناء الحجاج بن يوسف. وهذا البناء هو الموجود اليوم.
وقد تم توسيع المسجد الحرام في عهد عمر بل إن عمر أول من بناه، ثم في عهد عثمان، ثم في عهد الوليد بن عبد الملك، ثم في عهد المهدي، واستقر الأمر على ذلك، إلى أن تم توسيعه الأخير عدة مرات في عهد السعوديين ويتم الآن أكبر
__________
(1) المجموع: 440 ومابعدها، الإيضاح: ص78، غاية المنتهى: 395/1، إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 63.
(2) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) الإيضاح: ص 81، 84-85.(3/671)
توسعة، من جهة الغرب، قال الشافعي: أحب أن تترك الكعبة على حالها، فلا تهدم؛ لأن هدمها يذهب حرمتها ويصير كالتلاعب بها. وقد كساها النبي صلّى الله عليه وسلم ثياباً يمانية، ثم كساها أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير ومن بعدهم.
وكان الوليد بن عبد الملك أول من ذهَّب البيت في الإسلام. وأجاز الغزالي تزيين الكعبة بالذهب والحرير ما لم ينسب إلى الإسراف. ويجوز تطييب الكعبة ويحرم أخذ شيء منه للتبرك وغيره، ومن أخذه لزمه رده إليها، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به، ثم أخذه كما قال النووي.
والبيت الحرام: أول بيت من بيوت الله وجد على ظهر الأرض ليعبد الناس فيه ربهم، أولية شرف وزمان، لقوله سبحانه: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً} [آل عمران:96/3] فأول دلائله وعلائمه الظاهرة: مقام إبراهيم، وثانيها أنه يجب تعظيمه بنسبته إلى الله، حتى إنه كان اللاجئ إليه عند العرب يصير آمناً ما دام فيه، وقد أقر الله تعالى هذه المزية في قوله: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة:125/2] {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً} [القصص:57/28] {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت:67/29] لذا يكره عند مالك والشافعي حمل السلاح في مكة لغير ضرورة وحاجة، فإن كانت حاجة جاز، ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل أن يحمل السلاح بمكة» .(3/672)
وتضاعف في الحرم السيئات والحسنات، قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقه من عذاب أليم} [الحج:25/22] وثواب الصلاة فيه يعدل مئة ألف صلاة، قال صلّى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمئة صلاة» (1) وفي لفظ عند أحمد من حديث ابن عمر: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة» وروى الطبراني عن أبي الدرداء: «الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمس مئة صلاة» وهذا يدل على أفضلية هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي ثم المسجد الأقصى، والمسجد الحرام أفضل المساجد على الإطلاق، ويقصد بالذات للعبادة فيه، ويجب أداء الصلاة فيه إذا نذرت، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (2) .
ويطلق المسجد الحرام غالباً ويراد به هذا المسجد، وقد يراد به الحرم، وقد يراد به مكة، كما في قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} [البقرة:196/2] وقد ازدادت أهميته بجعله من أهم أماكن شعائر الحج في أيام معلومات (3) .
ثالثاً ـ المجاورة بمكة وفضيلتها:
قال جماعة منهم النووي والزركشي (4) : إن حرم مكة كالمسجد الحرام في
__________
(1) رواه أحمد وصححه ابن حبان عن أبي الزبير (سبل السلام: 216/2) .
(2) رواه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(3) وقد عرفنا أن الأيام المعلومات عند المالكية هي أيام النحر الثلاثة، والأيام المعدودات هي أيام منى وهي أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر.
(4) إعلام الساجد بأحكام المساجد: ص 119-129، فتح القدير: 335/2، الدر المختار: 354/2، الإيضاح: ص 84، غاية المنتهى: 395/1.(3/673)
مضاعفة ثواب الصلاة بل وسائر أنواع الطاعات، قال الحسن البصري: صوم يوم بمكة بمئة ألف، وصدقة درهم بمئة ألف، وكل حسنة بمئة ألف.
قال صلّى الله عليه وسلم: «رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة» (1) وقال أيضاً: «من حج من مكة ماشياً، حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبع مئة حسنة من حسنات الحرم، وحسنات الحرم بمئة ألف حسنة» (2) .
وقال جماعة من العلماء، منهم ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأحمد بن حنبل: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال بعض المتأخرين: القائل بالمضاعفة: أراد مضاعفة مقدارها أي غلظها لا كميتها في العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئات تتفاوت، فالسيئة في حرم الله أكبر وأعظم منها في طرف من أطراف البلاد.
ويعاقب فيها على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها، قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج:25/22] وهذا مستثنى من قاعدة الهم بالسيئة وعدم فعلها، تعظيماً لحرمة الحرم.
أما المجاورة بمكة: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى كراهتها، خوفاً من التقصير في حرمتها، والتبرم واعتياد المكان والأنس به، وذلك يجر إلى قلة المهابة والتعظيم، ولتهييج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العود، وخوفاً من ركوب الخطايا والذنوب بها، فإن ذلك محظور، والراجح عند الحنفية رأي الصاحبين وهو عدم كراهة المجاورة بمكة أو المدينة، واختار بعضهم أن المجاورة بالمدينة أفضل منها بمكة.
__________
(1) رواه البزار عن ابن عمر، وهو ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد.
(2) رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه البيهقي في سننه وضعَّفه.(3/674)
واستحب الشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة المجاورة لمن لم يخف الوقوع في محظور بمكة أو المدينة (1) ؛لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال عن مكة: «إنك لأحب البقاع إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (2) قال أحمد: والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه؛ لأنها مهاجر المسلمين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» (3) .
رابعاً ـ هل مكة أفضل أو المدينة (4) ؟.
قال القاضي عياض وغيره: انعقد الإجماع على أن أفضل بقع الأرض على الإطلاق المكان الذي ضم جسده صلّى الله عليه وسلم، وعلى أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض بعده.
واختلفوا في أيهما أفضل مكة أم المدينة؟ فقال مالك تبعاً لعمر وغيره من الصحابة المدنيين بتفضيل المدينة؛ لأنها موطن الهجرة، ومستقر الصحابة، ومثوى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولما ورد في فضلها من الأحاديث الصحيحة (5) ، منها: «إنها طيبة ـ يعني المدينة ـ وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة» (6) .
__________
(1) فتح القدير: 335/2، غاية المنتهى: 395/1، إعلام الساجد: ص129 ومابعدها، المغني: 556/3.
(2) أخرجه الترمذي عن ابن عباس وعبد الله بن عدي بن الحمراء بعبارات مقاربة لهذا (جامع الأصول: 185/10) .
(3) رواه مسلم والموطأ والترمذي عن ابن عمر (جامع الأصول: 198/10) .
(4) الإيضاح: ص 72، الدر المختار: 352/2، إعلام الساجد: ص 185 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 143.
(5) انظر جامع الأصول:192/10-211.
(6) رواه مسلم عن زيد بن ثابت (جامع الأصول: 201/10) .(3/675)
وذهب أكثر العلماء، منهم الأئمة الثلاثة إلى تفضيل مكة، للحديث السابق عن مكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (1) .
وحديث: «يامكة، والله، إنك لخير أرض الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (2) .
وحديث الترمذي أيضاً عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمكة: «ما أطيبك وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» .
وذكر العز بن عبد السلام أوجه تفضيل مكة على المدينة، منها:
1 - وجوب قصدها للحج والعمرة، وهما واجبان لا يقع مثلهما بالمدينة.
2 - أن الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض.
3 - أن الله جعلها حرماً آمناً في الجاهلية والإسلام.
4 - لا يدخلها أحد إلا بحج أو عمرة وجوباً أو ندباً.
خامساً ـ آداب دخول مكة:
يستحب لمن دخل مكة ما يأتي (3) :
1ً - ينبغي لمن أحرم بحج أو عمرة من الميقات أوغيره أن يتوجه إلى مكة، ومنها يكون خروجه إلى عرفات.
2ً - إذا بلغ الحرم المكي دعا، فقال: «اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على النار، وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك» . هذا ويستحضر من الخشوع والخضوع في قلبه وجسده ما أمكنه.
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) رواه النسائي عن أبي هريرة.
(3) الإيضاح: ص31-33، الكتاب مع اللباب: 182/1، الدر المختار ورد المحتار: 351/2، القوانين الفقهية: ص 143، مغني المحتاج: 511/1، المغني: 368/3-370، 555.(3/676)
3ً - إذا بلغ مكة اغتسل بذي طوى (1) بنية غسل دخول مكة، فإن جاء من طريق آخر اغتسل في غيرها. وهذا الغسل مستحب لكل أحد حتى الحائض والنفساء والصبي.
4ً - السنة أن يدخل مكة من ثنية كَداء (2) ، وإذا خرج راجعاً إلى بلده خرج من ثنية كُدا (3) .
5ً - الأصح عند الشافعية أن يدخل مكة ماشياً لا راكباً.
6ً - يدخلها الإنسان ليلاً أونهاراً، فقد دخلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهاراً في الحج، وليلاً في عمرة له، والأفضل في الأصح عند الشافعية دخولها نهاراً.
7ً - ينبغي أن يتحفظ في دخوله من إيذاء الناس في الزحمة، ويتلطف بمن يزاحمه، ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والتي يتجه إليها.
8ً - ينبغي لمن يأتي من غير الحرم ألا يدخل مكة إلا محرماً بحج أو عمرة. والأصح عند الشافعية أن دخولها محرماً مستحب، وواجب عند غيرهم.
9ً - يستحب إذا وقع بصره على البيت أن يرفع يديه، فقد جاء أنه يستجاب دعاء المسلم عند رؤية الكعبة، ويقول:
أي من جهة الجنوب. (اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً) ويضيف إليه: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام) .
ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها سؤال المغفرة. وينبغي أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع، فهذه عادة الصالحين والعارفين.
ويقول قبالة البيت: (اللهم إن هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار) .
10ً - يستحب ألا يعرج أول دخوله على استئجار منزل وتغيير ثياب وغير ذلك إلا الطواف الذي هو طواف القدوم وهو سنة عند الجمهور واجب عند المالكية. ويترك بعض الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا، ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل.
__________
(1) مثلثة الطاء، وهي في أسفل مكة في صوب طريق العمرة المعتادة ومسجد عائشة رضي الله عنها.
(2) بفتح الكاف، وهي بأعلى مكة، ينحدر منها إلى المقابر، والثنية: هي الطريق الضيقة بين جبلين. أي من جهة الشمال.
(3) بضم الكاف، وهي بأسفل مكة بقرب جبل قُعَيْقِعَان، وإلى صوب ذي طوى.(3/677)
ويستحب للمرأة الجميلة أو الشريفة ألا تبرز للرجال، وتؤخر الطواف ودخول المسجد إلى الليل.
ويستحب الدخول إلى البيت الحرام من باب بني شيبة، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، ويقول:
(أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك) . وإذا خرج قدم رجله اليسرى، وقال هذا، إلا أنه يقول: (وافتح لي أبواب فضلك) وهذا الذكر والدعاء مستحب في كل مسجد.
11ً - إذا دخل المسجد ينبغي ألا يشتغل بصلاة تحية المسجد، ولا غيرها، بل يقصد الحجر الأسود، ويبدأ بطواف القدوم، وهو تحية المسجد الحرام، والطواف مستحب لكل داخل محرماً كان أوغير محرم، إلا لأداء الصلاة المكتوبة أو قضائها، أو فوات الجماعة فيها، أو فوات الوتر أو سنة الفجر وغيرها من السنن الراتبة، فيقدم كل ذلك على الطواف ثم يطوف.
ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد.
12ً - يستحب لمن حج أن يدخل البيت، ويصلي فيه ركعتين، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه، ولا يدخل حِجْر إسماعيل؛ لأنه من البيت، ولا يدخل الكعبة بسلاح.
وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً، ولا يخرج من تراب الحرم، ولا يدخل فيه من الحل، ولا يخرج من حجارة مكة وترابها إلى الحل.-
13ً - يستحب لمن دخل مكة حاجاً أو معتمراً أن يختم القرآن فيها قبل رجوعه.
14ً - يندب عند المالكية طواف الوداع، ويجب عند الأئمة الآخرين.(3/678)
سادساً ـ الأحكام التي يخالف فيها الحرم غيره من البلاد (خصائصه ومحظوراته) :
للحرم المكي أحكام خاصة، أهمها ما يأتي (1) :
1ً - ينبغي ألا يدخله أحد إلا بإحرام، وهو مستحب عند الشافعية، واجب عند غيرهم.
2ً - يحرم صيد الحرم بالإجماع على الحلال والمحرم إلا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالباً، وهو مضمون بإتلافه خلافاً لداود الظاهري، لحديث: «لا ينفَّر صيده» .
3ً - يحرم قطع شجر الحرم ونباته الرطب الذي ينبت بنفسه ولا يستنبته الناس كالشيح والشوك والعوسج، إلا ما فيه ضرورة كالإذْخر (نبات طيب الرائحة) ، ويلحق به كما أبان المالكية ستة: السَّنَا (المعروف بالسنامكي) للحاجة إليه في التداوي، والهَشّ (قطع ورق الشجر بالمِحْجَن) (2) ، والعَصَا، والسواك، وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه، وقطعه لإصلاح الحوائط والبساتين. لقوله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شوكه، ولا يُنَفَّر صيده، ولا يَلْتقط لقطته إلا من عرَّفها، ولا يُخْتَلى خلاه (3) ، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخِر، فإنه
__________
(1) المجموع: 443/7-444، المهذب: 218/1-220، الكتاب مع اللباب: 211/1، الشرح الصغير مع الصاوي: 110/2 وما بعدها، مغني المحتاج: 527/1 ومابعدها، المغني: 344/3-355، بداية المجتهد: 319/1، البدائع: 207/2-211، إعلام الساجد: ص137، 154-169، الدر المختار: 297/2 ومابعدها، الإيضاح: ص 95-97، طبعة الجمالية بمصر.
(2) المحجن: العصا المعوجة من الطرف. أما خبط العصا على الشجر ليقع ورقه فهو حرام.
(3) الخلا: الحشيش الرطب.(3/679)
لقَيْنهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» (1) ويجب عند الجمهور ضمان الشجر خلافاً للمالكية. والمستنبت الذي استنبته الآدميون من الشجر كغيره على المذهب عند الشافعية وهو الأظهر في الحرمة والضمان، لعموم الحديث السابق. ويحل الإذخر، والشوك كالعوسج (نوع من الشوك) وغيره من كل مؤذ كالصيد المؤذي، فلا ضمان في قطعه. والأصح عند الشافعية حل أخذ نبات الحرم من حشيش ونحوه بالقطع لعلف البهائم وللدواء كالحنظل، وللتغذي كالرِّجْلة والبقلة للحاجة إليه (2) .
ولا يحرم عند غير الشافعية قطع ما أنبته الآدمي من الشجر كالجوز واللوز والنخل ونحوه كشجر الأراك، والرمان والخس والبطيخ والحنطة، ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه قد مات، وليس له أخذ ورق الشجر، ويباح أخذ الكمأة من الحرم لأنها ليست من جنس النبات، بل هي من ودائع الأرض، وكذا الفقع؛ لأنه لا أصل له، فأشبه الثمرة. ولا شيء بقتل غراب وحدأة وفأرة وحية وكلب عقور وبعوض ونمل وبرغوث وقراد وسلحفاة وما ليس بصيد، على الخلاف والتفصيل السابق.
وأما صيد وَج (واد بالطائف) وشجره: فحرام لا يضمن عند الشافعية، لحديث: «ألا إن صيد وج وعضاهه ـ يعني شجره ـ حرام محرم» (3) وهو مباح حلال عند الحنابلة؛ لأن الأصل الإباحة، والحديث ضعفه أحمد، لكن لايضمن قطعاً عند الشافعية.
4ً - يمنع إخراج تراب الحرم وأحجاره، والمعتمد عند أكثر الشافعية كراهة ذلك، والأصح عند النووي التحريم. وقال الحنفية: لا بأس بإخراج الأحجار وترابه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس (جامع الأصول: 183/10) وعضد الشجر: قطعه بالمِعْضَد: وهي حديدة تتخذ لقطعه. والقين: الحداد، والعبد أيضاً. ومعنى كونه لبيوتهم أنهم يسقُفونها به فوق الخشب.
(2) مغني المحتاج 527/1 ومابعدها.
(3) حديث ضعيف رواه البيهقي عن الزبير بن العوام.(3/680)
5ً - يمنع عند الجمهور كل كافر من دخول الحرم، مقيماً كان أو ماراً. وأجازه أبو حنيفة ما لم يستوطنه.
6ً - لا تحل لقطة مكة وحرمها لمتملك، وإنما تحل لمنشد يحفظها ويعرفها بخلاف سائر البلاد، للحديث المتقدم: «ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها» .
7ً - تغلظ الدية على القاتل الذي قتل في حرم مكة، لقول تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة:191/2] لأن للحرم تأثيراً في إثبات الأمن. وتغلظ وإن كان القتل خطأ، سواء أكان القاتل والمقتول معاً في الحرم، أم أحدهما فيه دون الآخر.
وقدر التغليظ عند أحمد: هو الزيادة في العدد أي بمقدار الدية وثلث الدية.
وعند الشافعي: التغليظ جاء في أسنان الإبل، لا الزيادة في العدد.
ولا تغلظ الدية بالقتل في حرم المدينة، في الأصح عند الشافعية.
ويجوز عند الجمهور خلافاً لجماعة قتال البغاة في حرم مكة على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها.
وتقام الحدود والقصاص في الحرم عند المالكية والشافعية، لقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} [البقرة:191/2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خَطَل لما وجد متعلقاً بأستار الكعبة، وأمر النبي بقتل الفواسق الخمس في الحل والحرم؛ لأنها مؤذيات طبعاً. وروي عن أحمد وأبي حنيفة والظاهرية أن من وجب عليه الحد أو القصاص آمن ما دام في الحرم، لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} [آل عمران:97/3](3/681)
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً» (1) .
8ً - تحريم دفن المشرك فيه ونبشه منه.
9ً - تخصيص ذبح دماء الجزاءات في الحج والهدايا في الحرم.
10ً- لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهل الحرم.
11ً- لا يكره عند الشافعية صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات في الحرم، سواء في مكة وسائر الحرم.
12ً- إذا نذر قصده، لزمه عند الشافعية الذهاب إليه بحج أوعمرة، بخلاف غيره من المساجد، فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره، إلا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، فإنهما يتعينان أيضاً، للحديث السابق: «لا تشد الرحال..» .
13ً- إذا نذر النحر وحده بمكة، لزمه عند الشافعية النحر بها، وتفرقة اللحم على مساكين الحرم، ولو نذر ذلك في بلد آخر، لم ينعقد نذره في أصح الوجهين.
14ً- يحرم عند الشافعية استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في الصحراء.
15ً- مضاعفة الأجر في الصلوات وسائر الطاعات بالمسجد الحرام.
16ً- يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام، والأفضل لغيرهم الصلاة في المصلى، إذا كان المسجد عند الشافعية (2) ضيّقاً، فإن كان واسعاً فالمسجد أفضل من المصلى.
17ً- لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه.
سابعاً ـ زيارة أهم المعالم التاريخية بمكة:
قال ابن جزي (3) : من المواضع التي ينبغي قصدها تبركاً: قبر إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر وهما في الحِجْر، وقبر آدم عليه السلام في جبل أبي قبيس، والغار المذكور في القرآن وهو جبل أبي ثور، والغار الذي في جبل حراء حيث ابتدأ فيه نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزيارة قبور من بمكة والمدينة من الصحابة والتابعين والأئمة.
وجبل حراء أو جبل النور: يقع في شمال مكة على بعد خمسة كيلو مترات منها، وعلى يسار الذاهب إلى عرفات، وارتفاعه نحو 200 م، وفيه ابتدأ نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلم بأول سورة العلق.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من الحديث السابق: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ... » .
(2) المجموع: 5/5.
(3) القوانين الفقهية: ص 143.(3/682)
وجبل ثور: أحد الجبال الكثيرة المحيطة بمكة، وارتفاعه نحو 500 م، يقع جنوبي مكة، وعلى مسافة ستة أميال منها، وهو ملجأ النبي عليه السلام وصاحبه أبي بكر أثناء الهجرة لمدة ثلاثة أيام.
ومن الأماكن الأثرية: دار الأرقم، قرب الصفا، وقد أسلم الأرقم المخزومي بعد ستة من الصحابة، وكانت داره مقر الدعوة السرية إلى الإسلام في مبدأ الأمر، وفيها أسلم عمر.
ومنها مقبرة المُعَلاَّة أو الحجون: شمال شرقي مكة، وهي مقبرة المكيين منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، وتضم قبور بني هاشم من أجداد الرسول صلّى الله عليه وسلم وأعمامه، وقبور بعض الصحابة والتابعين، ففيها قبور جدي الرسول: عبد مناف وعبد المطلب، وعمه أبي طالب، وقبر السيدة آمنة أم النبي صلّى الله عليه وسلم، والسيدة خديجة الكبرى زوجته، وقبر عبد الله بن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر.
وأما منى: فقرية تقع على مسافة سبعة كيلو مترات من مكة، فيها الجمرات الثلاث: الصغرى والوسطى والكبرى، ومسجد الكبش نسبة إلى كبش فداء إسماعيل عليه السلام، ومسجد البيعة حيث بايع أهل المدينة الرسول عليه السلام، ومسجد الخيف الكبير.
وأما عرفات: فجبل مرتفع بقدر (225 م) عن سطح البحر، ويقع على مسافة 25 كم في الجنوب الشرقي من مكة. وفي شماله يقع جبل الرحمة الذي وقف عنده الرسول صلّى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة يوم حجة الوداع، ونزل في هذا الموقف آية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة:3/5] .(3/683)
المبحث الثاني ـ حرم المدينة:
حدود الحرم، فضيلة المسجد النبوي، خصائص الحرم أو محظوراته وأوجه اختلاف حرم المدينة عن حرم مكة، زيارة المسجد وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم، زيارة المعالم الأثرية في المدينة.
أولاً ـ حدود الحرم المدني:
حرم المدينة جنوباً وشمالاً: بريد في بريد، ما بين عائر إلى ثور، لخبر الصحيحين: «المدينة حرم من عَيْر إلى ثَوْر» وعائر أوعير: اسم جبل مشهور بقرب المدينة، وثور: جبل صغير وراء أُحد من جهة الشمال، وجبل أحد من الحرم (1) . وشرقاً وغرباً بريد في بريد أيضاً ما بين لابتيها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حرَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة» (2) فمساحتها بريد في بريد من جهاتها الأربع، وسورها الآن هو طرفها في زمنه صلّى الله عليه وسلم.
وجعل النبي صلّى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلاً.
والأولى ألا تسمى «يثرب» لأنه اسم جاهلي قديم، اسمها طيبة وطابة والدار والمدينة ويثرب.
ثانياً ـ فضيلة المسجد النبوي:
بنى الرسول صلّى الله عليه وسلم مع الصحابة هذا المسجد بمساحة 70 × 60 ذراعاً، ثم وسعه عمر، وعثمان، وعبد الملك بن مروان وابنه الوليد (3) ، وتم توسيعه الأخير على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وضم إليه مساحة كبرى من جهة الغرب مصلى أثناء الحج. ويتم الآن إحداث أكبر توسعة له بحيث تشمل تقريباً المدينة القديمة.
والصلاة في هذا المسجد تربو على الصلاة في غيره بألف صلاة، لحديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» قال النووي: وهذا التفضيل يعم الفرض والنفل كمكة. وقال العلماء: وهذا فيما يرجع إلى الثواب، فثواب صلاة فيه يزيد على ألف صلاة
__________
(1) إعلام الساجد للزركشي: ص 226-229، مغني المحتاج: 529/1، غاية المنتهى: 397/1.
(2) رواه مسلم عن عتبة بن مسلم وعن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله، واللابة: أرض ذات حجارة سود، واللابتان: شرقية وغربية (جامع الأصول: 194/10) .
(3) إعلام الساجد: ص 223-225.(3/684)
فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء، حتى لو كان عليه صلاتان، فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما، وهذا لاخلاف فيه.
ورأى النووي أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلّى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه، دون ما زيد فيه بعده، لقوله: «في مسجدي هذا» وذهب غيره إلى أنه لو وُسِّع ثبت له هذه الفضيلة، كما في مسجد مكة إذا وسع، فإن تلك الفضيلة ثابتة له، قال ابن عمر: «زاد عمر بن الخطاب في المسجد، قال: ولو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة (1) ، كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (2) .
وفي حديث يبين فضل الصلاة في هذا المسجد: «من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار، ونجاة يوم القيامة» (3) ولو نذر الذهاب إلى المسجد النبوي أو إلى المسجد الأقصى، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الذهاب ولا يجب، ويتحقق النذر باعتكاف ساعة في الأصح، والأفضل صلاة ركعتين فيه.
ثالثاً ـ خصائص الحرم المدني:
حرم المدينة: ما بين لابيتها، واللابة: الحرة: وهي أرض فيها حجارة سود، كما قدمنا. ويمتاز هذا الحرم بأحكام منها ما يأتي (4) .
__________
(1) مقبرة المدينة.
(2) إعلام الساجد: ص 246 ومابعدها.
(3) رواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك، ولم يروه عن أنس إلا نُبيط، تفرد به ابن أبي الرجال.
(4) إعلام الساجد للزركشي: ص242-273، القوانين الفقهية: ص 143، الشرح الصغير: 111/2 ومابعدها، المجموع: 447/7-455، الإيضاح: ص 96، المهذب: 219/1، مغني المحتاج: 529/1، المغني: 353/3-355، غاية المنتهى: 397/1، الدر المختار: 354/2.(3/685)
1 - تحريم صيد المدينة وشجرها على الحلال والمحرم كمكة عند الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، للحديث السابق: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها» (1) وإذا فعل استغفر الله ولاشيء عليه، ولا يضمن القيمة عند الجمهور في الجديد الأصح عند الشافعية للحديث الآتي: «يا أبا عمير» ولأنه ليس محلاً للنسك، لكن مكة يضمن صيدها وشجرها.
ولعل أبا حنيفة يستدل بحديث «يا أبا عمير مافعل النغير» (2) لكن قال الجمهور: يحتمل أن يكون قبل تحريم المدينة، أو أن هذا الطائر من خارج حرم المدينة.
2 - يحرم في رأي النووي نقل تراب حرم المدينةأو أحجاره عن حرم المدينة.
3 - يستحب عند الشافعية والحنابلة المجاورة بالمدينة، لما يحصل في ذلك من نيل الدرجات ومزيد الكرامات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من صبر على لأواء المدينة وشدتها، كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة» (3) .
والراجح عند الحنفية كما تقدم: أنه لا تكره المجاورة بالمدينة، وكذا بمكة لمن يثق بنفسه.
4 - يستحب عند الشافعية الصيام بالمدينة والصدقة على سكانها وبرهم، فهم جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلم، خاصة أهل المدينة، وقد روى الطبراني بإسناد ضعيف أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواه من البلدان» .
__________
(1) رواه مسلم، والعضاه: شجر عظيم له شوك.
(2) رواه أبو عوانة في صحيحه عن شُرحَبيل بن سعد، ورواه البخاري ومسلم عن أنس، والنغير: مصغر نغر، وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار.
(3) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم.(3/686)
5 - يختص أهل المدينة بمزيد الشفاعة والإكرام، زائداً على غيرهم من الأمم، لحديث الصحيحين المتقدم عن أبي هريرة: «من صبر على لأواء المدينة..» وفي حديث آخر: «أول من أشفع له من أمتي: أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف» (1) .
6 - إذا عاين حيطان المدينة صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: (اللهم هذا حرم نبيك فاجعله وقاية لي من النار، وأماناً من العذاب وسوء الحساب) .
رابعاً ـ الفرق بين حرم المدينة وحرم مكة:
يختلف حرم المدينة عن حرم مكة في شيئين (2) :
أحدهما ـ أنه يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف، لما روى جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما حرم المدينة، قالوا: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لانستطيع أرضاً غير أرضنا، فرخص لنا، فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد، ولا يخبط منها شيء» (3) فاستثنى ذلك وجعله مباحاً كاستثناءذلك وجعله مباحاً كاستثناء الإذخر بمكة.
ولما روى علي: «المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» .
وعن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
__________
(1) رواه الطبراني والبزار عن عبد الملك بن عباد بن جعفر، لكنه لم يرو إلا هذا الحديث بهذا الإسناد.
(2) مغني المحتاج: 528/1، إعلام الساجد: ص 234.
(3) رواه أحمد. والمسند: مرْود البكرة أي محور البكرة.(3/687)
ولكن يهش هشاً رفيقاً» (1) ،ولأن المدينة ذات شجر وزرع، فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة أفضى إلى الضرر، بخلاف مكة. ولا جزاء في مذهب المالكية خلافاً لغيرهم بقتل صيد المدينة وقطع شجرها، فإن فعل استغفر الله تعالى فقط.
الثاني ـ أن من صاد صيداً خارج المدينة، ثم أدخله إليها، لم يلزمه إرساله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» وهو طائر صغير، فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة إذ لم ينكر ذلك.
وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة، بدليل أنه لا يدخلها الداخل إلا محرماً.
خامساً ـ زيارة المسجد النبوي وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم:
يستحب زيارة المسجد النبوي، لأنه كما تقدم في الحديث الصحيح أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه؛ لأن موضع قبره عليه الصلاة والسلام أفضل بقاع الأرض. وآداب الزيارة وأحكامها ما يأتي (2) :
1ً - تسن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لقوله عليه السلام: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (3) وقوله: «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي، كان
__________
(1) رواهما أبو داود.
(2) الإيضاح: ص 86-88، 91، القوانين الفقهية: ص 143، مغني المحتاج: 512/1، غاية المنتهى: 396/1، المغني: 556/3-559، مراقي الفلاح: ص 127-129.
(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبزار والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما (نيل الأوطار: 95/5) .(3/688)
حقاً على الله تعالى أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» (1) وروى البخاري: «من صلى علي عند قبري، وكل الله به ملكاً يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة» .
فزيارة قبره صلّى الله عليه وسلم من أفضل القربات وأنجح المساعي لقوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء:64/4] ، وتتأكد الزيارة للحاج والمعتمر أكثر من غيره، لأمرين: أحدهما ـ أن الغالب على الحجيج الورود من آفاق بعيدة، فإذا قربوا من المدينة يقبح تركهم الزيارة. والثاني ـ لحديث ابن عمر: «من حج، ولم يزرني، فقد جفاني» (2) وحديث «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» (3) .
2ً - يستحب للزائر أن ينوي مع زيارته صلّى الله عليه وسلم التقرب إلى الله تعالى بالمسافرة إلى مسجده صلّى الله عليه وسلم والصلاة فيه.
3ً - يستحب في أثناء السفر لهذه الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلم في طريقه، خصوصاً إذا رأى أشجار المدينة وحرمها.
4ً - يستحب أن يغتسل قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه.
5ً - يستحضر في قلبه حينئذ شرف المدينة وأنها أفضل الدنيا بعد مكة.
6ً - ليقل عند باب مسجده صلّى الله عليه وسلم ما قدمناه عند المسجد الحرام وكل المساجد، ويقدم رجله اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج.
__________
(1) رواه ابن السكن في سننه الصحاح المأثورة. وروى أبو داود عن أبي هريرة حديثاً ضعيفاً: «ما من أحد سلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» وروى الدارقطني حديثاً آخر ضعيفاً: «من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي» ..
(2) رواه ابن عدي في الكامل والدارقطني وابن حبان والبزار (نيل الأوطار: 95/5) وهو ضعيف.
(3) رواه الدارقطني وأبو يعلى والبيهقي وابن عدي عن ابن عمر، ورواه غيرهم، وتعدد طرقه يقوي بعضها بعضاً.(3/689)
ثم يقصد الروضة الكريمة (1) : وهي ما بين المنبر والقبر، فيصلي تحية المسجد، بجنب المنبر، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
7ً - إذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد، شكر الله تعالى على هذه النعمة، ويسأله إتمام ما قصده وقبول زيارته، ثم يأتي القبر الكريم، فيستدبر القبلة، ويستقبل جدار القبر، ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع، ويقف ناظراً إلى أسفل، خاشعاً، فارغ القلب من علائق الدنيا، مستحضراً قلبه جلالة موقفه صلّى الله عليه وسلم، ثم يسلم ولا يرفع صوته، فيقول:
(السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك ياخيرة الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا نذير، السلام عليك يا بشير، السلام عليك يا طُهر، السلام عليك يا طاهر، السلام عليك يا نبي الرحمة، السلام عليك يا نبي الأمة، السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا رسول رب العالمين، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وذريتك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين.
جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك ذاكر، وغفل عن ذكرك غافل، أفضل وأكمل وأطيب ما صلى على أحد من الخلق أجمعين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه. وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده.
اللهم وآته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون.
__________
(1) ما بين المنبر ومقام النبي صلّى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه حتى توفي أربعة عشر ذراعاً وشبر، وما بين المنبر والقبر ثلاثة وخمسون ذراعاً وشبر.(3/690)
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد) .
ومن أراد الاختصار، قال: (السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم) .
ثم يتأخر نحو يمينه إلى الشرق قدر ذراع، فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه، فيقول: (السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله، وثانيه في الغار، جزاك الله عن أمة نبيه صلّى الله عليه وسلم خيرا ً) .
ثم يتأخر نحو اليمين قدر ذراع، فيسلم على عمر رضي الله عنه، فيقول: (السلام عليك يا عمر، أعز الله بك الإسلام، جزاك الله عن أمة محمد صلّى الله عليه وسلم خيراً) .
ثم يرجع قدر نصف ذراع فيقول: (السلام عليكما يا ضجيعي رسول الله ورفيقيه ووزيريه ومشيريه والمعاونين له على القيام في الدين، القائمين بعده بمصالح المسلمين، جزاكما الله أحسن الجزاء) .
ثم يعود إلى رأس قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، في زاوية الحجرة المسورة، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه، ولوالديه، ولمن شاء من أقاربه، وأشياخه وإخوانه وسائر المسلمين، ويبتدئ بقوله: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء:64/4] وقد جئناك سامعين قولك، طائعين أمرك، مستشفعين بنبيك، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) .(3/691)
ثم يأتي الروضة، فيكثر فيها من الدعاء، والصلاة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» ويقف عند المنبر ويدعو.
ثم يأتي اسطوانة أبي لبابة التي ربط نفسه بها حتى تاب الله عليه، وهي بين القبر والمنبر، فيصلي ركعتين ويتوب إلى الله ويدعو بما شاء. ثم يأتي الأسطوانة الحنانة التي فيها بقية الجذع الذي حن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم حين تركه، وخطب على المنبر، حتى نزل، فاحتضنه، فسكن.
8ً - لا يجوز أن يطاف بقبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه كما يبعد منه لو حضر في حياته صلّى الله عليه وسلم.
9ً - ينبغي له مدة إقامته بالمدينة أن يصلي الصلوات كلها بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وينبغي له أن ينوي الاعتكاف فيه، كما ينويه في المسجد الحرام. وإذا أراد وداع المدينة صلى ركعتين وقال: (اللهم لا تجعله آخر العهد بحرم رسولك، وسهل لي العود إلى الحرمين سهلة، وارزقني العفو والعافية في الآخرة والدنيا، وردنا إليه سالمين غانمين) .
10ً - كره مالك رحمه الله لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد وخرج الوقوف بالقبر، قال: وإنما ذلك للغرباء، أو لمن قدم من أهل المدينة من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف عند قبر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. والفرق أن أهل المدينة مقيمون بها، وقد قال عليه السلام: «اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد» .(3/692)
سادساً ـ زيارة أهم المعالم الأثرية في المدينة:
يسن أن يأتي المشاهد بالمدينة، وهي نحو ثلاثين موضعاً يعرفها أهل المدينة، وأهمها ما يأتي (1) .
1 - زيارة مساجد المدينة الأخرى: يستحب زيارة المساجد الأخرى، مثل مسجد قباء وهو في الجنوب الغربي من المدينة، وهو أول مسجد أسس في المدينة، وذلك يوم السبت ناوياً التقرب بزيارته والصلاة فيه، لحديث: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» (2) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين» وفي رواية صحيحة: «كان يأتيه كل سبت» ويدعو بما شاء من كشف الكرب والحزن كما كشف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزنه وكربه في هذا المقام.
ومثل مسجد المصلى أو مسجد الغمامة: في المكان الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيه صلاة العيدين.
ومسجد الفتح: الواقع شمال البلدة الغربي على قطعة من جبل سَلْع، ويقع حيث كان الخندق.
ومسجد القبلتين: وهو مسجد صغير أقيم على حافة وادي العقيق شمال غربي المدينة، وسمي بذلك لأن فيه قبلتين: الأولى منهما نحو الشمال لبيت المقدس، والثانية إلى الجنوب نحو مكة.
2 - زيارة البقيع: على بضع مئات من الأمتار من المسجد النبوي من جهة الشرق. فيه رفات أكثر من عشرة آلاف من كبار الصحابة رضي الله عنهم، منهم آل البيت وشهداء أحد، وبعض شهداء بدر. وتكون الزيارة خصوصاً يوم الجمعة أو يوم الخميس، بعد السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقول الزائر:
(السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم اغفر لنا ولهم) .
__________
(1) الإيضاح: ص 90-91، مغني المحتاج: 512/1 ومابعدها.
(2) رواه الترمذي وغيره عن أسيد بن ظهير رضي الله عنه، وهو صحيح.(3/693)
ويزور القبور الظاهرة كقبر إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين، وجعفر بن محمد وغيرهم، ويختم بقبر صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي فضل زيارة هذه القبور أحاديث صحيحة كثيرة.
3 - زيارة الأماكن الأثرية: يستحب أن يزور بئر أريس التي روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم تفل فيها، فيشرب من مائها ويتوضأ منه، وهي عند مسجد قباء.
ويأتي دار أبي أيوب الأنصاري شرقي المسجد النبوي من ناحيته الجنوبية. ودار عثمان بن عفان التي استشهد فيها، بجوار دار أبي أيوب، وفيها اليوم قبر أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقبر والد صلاح الدين الذي دفن مع أخيه.
ودار عبد الله بن عمر بن الخطاب، ودار أبي بكر، ودار خالد بن الوليد، حول المسجد النبوي.
وتزار قرية بدر في الجنوب الغربي من المدينة، على مسافة 156 كم، ففيها انتصر المسلمون على المشركين في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة، وعلى مسيرة ميل جنوب القرية توجد قبور شهداء بدر.
ويزار جبل أحد: على بعد أربعة كيلو مترات شمال المدينة، وطوله من الشرق إلى الغرب 6 كم، وارتفاعه (1200م) . وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» (1) . وفي سفحه قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي استشهد في غزوة أحد. وعلى مقربة منه مقابر الصحابة رضي الله عنهم الذين استشهدوا في هذه المعركة.
__________
(1) رواه البخاري عن سهل بن سعد، والترمذي عن أنس، وهو صحيح.(3/694)
الفصل الثالث: آداب السفر للحج وغيره، وآداب الحاج العائد
وفيه مبحثان:
المبحث الأول ـ آداب السفر للحج وغيره:
ذكر النووي آداباً عظيمة مفيدة للسفر وهي ما يأتي (1) :
1ً - المشاورة: يستحب أن يشاور من يثق بدينه وخبرته وعلمه في حجه، وعلى المستشار أن يبذل له النصيحة، فإن المستشار مؤتمن والدين النصيحة.
2ً - الاستخارة: ينبغي إذا عزم على الحج أو غيره أن يستخير الله تعالى، فيصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول بعدها:
(اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن ـ ذهابي إلى الحج في هذا العام ـ خير في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به) .
ويستحب أن يقرأ في هذه الصلاة بعد الفاتحة في الركعة الأولى (الكافرون) وفي الثانية (الإخلاص) . ثم ليمض بعد الاستخارة لما ينشرح إليه صدره.
3ً - التوبة ورد المظالم والديون: إذا عزم على السفر تاب من جميع المعاصي ورد المظالم إلى أهلها، وقضى ما أمكنه من ديونه، ورد الودائع، وطلب المسامحة ممن كان يعامله أو يصاحبه، وكتب وصيته وأشهد عليها، ووكل من يقضي عنه ديونه ما لم يتمكن من وفائها، وترك لأهله ما يحتاجونه من نفقة.
4ً - إرضاء الوالدين والزوج: يجتهد في إرضاء والديه وكل من يبره، وتسترضي المرأة زوجها وأقاربها، ويستحب للزوج أن يحج مع امرأته.
وليس للوالد منع الولد من حج الفريضة، وله المنع من حج التطوع، فإن أحرم فللوالد تحليله من هذا الحج على الأصح عند الشافعية.
__________
(1) الإيضاح: ص 4-11.(3/695)
وللزوج أيضاً منع الزوجة من حج التطوع، وحج الفريضة على الأظهر عند الشافعية؛ لأن حقه على الفور. وإن كانت مطلقة حبسها للعدة وليس له التحليل إلا أن تكون رجعية، فيراجعها، ثم يحللها أي يأمرها بذبح شاة تنوي بها التحلل، وتقصر من رأسها ثلاث شعرات فأكثر.
5ً - كون النفقة حلالاً: ليحرص على أن تكون نفقته حلالاً خالصة من الشبهة، فإن حج بما فيه شبهة أو بمال مغصوب صح حجه عند الجمهور، لكنه ليس حجاً مبروراً. وقال أحمد: لا يجزيه الحج بمال حرام.
6ً - الاستكثار من الزاد الطيب والنفقة: يستحب الاستكثار منهما ليواسي منه المحتاجين، ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/2] والمراد بالطيب هنا: الجيد، وبالخبيث: الرديء.
7ً - ترك المماحكة في الشراء: يستحب ذلك بسبب الحج وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى.
8ً - عدم المشاركة في الزاد والراحلة والنفقة: يستحب ذلك إيثاراً للسلامة من المنازعات. 9ً - تحصيل مر كوب قوي مريح: يستحب ذلك، والركوب في الحج أفضل من المشي في المذهب الصحيح للشافعية، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حج راكباً، وكانت راحلته زاملته. والزاملة: البعير الذي يُحمل عليه الطعام والمتاع.
10ً - تعلم كيفية الحج: لا بد إذا أراد الحج أن يتعلم كيفيته، وهذا فرض عين، إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها. ويستحب أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في مناسك الحج، وأن يديم مطالعته، ويكررها في جميع طريقه لتصير محققة عنده.(3/696)
11ً - اصطحاب الرفيق: ينبغي أن يطلب له رفيقاً موافقاً، راغباً في الخير، كارهاً للشر، إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه. ويحرص على رضا رفيقه في جميع طريقه، ويتحمل كل واحد صاحبه، ويرى لصاحبه عليه فضلاً وحرمة، ولا يرى ذلك لنفسه، ويصبر على ما وقع منه أحياناً من جفاء ونحوه. وقد كره الرسول صلّى الله عليه وسلم الوحدة في السفر، وقال: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب» (1) وإذا ترافق ثلاثة أو أكثر أمَّروا على أنفسهم أفضلهم وأجودهم رأياً، لحديث «إذا كانوا ثلاثة فليؤمِّروا أحدهم» (2) .
12ً - التفرغ للعبادة والإخلاص: يستحب أن يتفرغ للعبادة، خالياً عن التجارة؛ لأنها تشغل القلب، فإن اتجر مع ذلك صح حجه، لقوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/2] ، ويريد بعمله وجه الله تعالى، لقوله سبحانه {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:5/98] . وقوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» .
والأفضل في الحج عن الغير أن يكون متبرعاً، ولو حج بأجرة فقد ترك الأفضل، ويحصل لغيره العبادة، ويحصل له حضور تلك المشاهد الشريفة.
13 - كون السفر يوم الخميس والتبكير: يستحب أن يكون سفره يوم الخميس، «إذ قلما
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.
(2) رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة.(3/697)
خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر إلا يوم الخميس» (1) ، فإن فاته فيوم الاثنين، إذ فيه هاجر الرسول من مكة. ويستحب أن يبكر لحديث صخر الغامدي: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» (2) .
14ً - صلاة سنة السفر: يستحب إذا أراد الخروج من منزله أن يصلي ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (الكافرون) وفي الثانية: (الإخلاص) (3) ، ويستحب أن يقرأ بعد سلامه آية الكرسي، ولإيلاف قريش (4) ، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يدعو بحضور قلب وإخلاص بما تيسر من أمور الدنيا والآخرة، ويسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق في سفره وغيره من أموره، فإذا نهض من جلوسه، قال مارواه أنس:
«اللهم إليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم اكفني ما أهمني وما لم أهتم به، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي» .
15ً - الوداع: يستحب أن يودع أهله وجيرانه وأصدقاءه وأن يودعوه ويستسمحهم، ويقول كل واحد منهم لصاحبه: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث كنت) .
16ً - الدعاء عند الخروج من البيت: السنة إذا أراد الخروج من بيته أن يقول ما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أضل، أو أَزل أو أزل، أو أَظلم أو أظلم، أو أَجهل أو يجهل علي» وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجل من بيته، فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال: هديت وكفيت ووقيت» .
ويستحب له أن يتصدق بشيء عند خروجه، وكذا بين يدي كل حاجة يريدها.
__________
(1) رواه الشيخان في الصحيحين عن كعب بن مالك.
(2) رواه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
(3) جاء في الحديث: «ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين، يركعهما عندهم حين يريد السفر» .
(4) جاء فيهما آثار للسلف، منها «من قرأ آية الكرسي عند خروجه من منزله لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع من منسكه عن جماعة» .(3/698)
17ً - الدعاء عند الركوب: يستحب إذا أراد الركوب أن يقول: (بسم الله) وإذا استوى على دابته قال: (الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين (1) ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون) .
ثم يقول: (الحمد لله) ثلاث مرات (الله أكبر) ثلاث مرات.
ثم يقول: (سبحانك، اللهم إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) للحديث الصحيح في ذلك.
ويستحب أن يضم إليه: «اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما تحب وترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا واطْوِعنا بُعْده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال. اللهم إنا نعوذ بك من وَعْثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد» للحديث الصحيح في ذلك.
18ً - السفر بالليل والرفق بالدابة: يستحب إكثار السفر في الليل، لحديث أنس: «عليكم الدُّلْجة، فإن الأرض تطوى بالليل» (2) ، وأن يريح دابته بالنزول عنها غدوة وعشية، ويتجنب النوم على ظهرها، للحديث الصحيح في النهي عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، لكن يجوز للحاجة؛ لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطب على راحلته.
ويحرم عليه أن يحمل على الدابة فوق طاقتها، وأن يجيعها من غير ضرورة.
ولا بأس بالارتداف على الدابة إذا أطاقته، فقد صحت الأحاديث في ذلك.
19ً - التقشف والرفق في السفر: أن يتجنب الشبع المفرط والزينة والترفه والتبسط في ألوان الأطعمة، فإن الحاج أشعث أغبر، روى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: من الحاج؟ قال: الشَعِث التفِل» .
وينبغي أن يستعمل الرفق وحسن الخلق مع الناس، ويتجنب المخاصمة والمخاشنة ومزاحمة الناس في الطريق وموارد الماء إذا أمكنه ذلك.
__________
(1) أي مطيقين.
(2) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي عن أنس، وهو صحيح.(3/699)
ويصون لسانه من الشتم والغيبة ولعن الدواب وجميع الألفاظ القبيحة، للحديث المتقدم: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
20ً - عدم اصطحاب الكلب أو الجرس: يكره أن يستصحب كلباً أو جرساً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة» (1) وقوله: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس» (2) «الجرس مزمار الشيطان» (3) .
21ً - التكبير والتسبيح: السنة التكبير عند العلو، والتسبيح عند الهبوط في وادٍ ونحوه، بدون رفع الصوت.
22ً - الدعاء عند رؤية بلد: يستحب إذا أشرف على قرية أو منزل يقول: «اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» .
23ً - الدعاء عند نزول منزل: السنة إذا نزل منزلاً أن يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لحديث خولة بنت حكيم فيما رواه مسلم: «من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء، حتى يرتحل من منزله ذلك» .
ويستحب أن يسبح في حال حطه الرحل، لقول أنس: «كنا إذا نزلنا سبحنا حتى نحط الرحال» .
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد حسن عن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(3) رواه أبو داو وغيره.(3/700)
ويكره النزول في قارعة الطريق، لحديث أبي هريرة: «لا تعرِّسوا على الطريق فإنها مأوى الهوام بالليل» (1) .
24ً - الدعاء عند دخول الليل: السنة إذا جن عليه الليل أن يقول ما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سافر، فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وْسْود، والحية والعقرب، ومن ساكن البلد (2) ، ومن والد وما ولد» .
25ً - الدعاء عند الخوف: إذا خاف قوماً أو إنساناً أوغيره، قال ما رواه أبو موسى الأشعري: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً، قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم» (3) .
ويستحب أن يكثر من دعاء الكرب هنا وفي كل موطن وهو: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلاالله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض، ورب العرش الكريم» (4) .
__________
(1) ورواه ابن ماجه عن جابر بلفظ آخر، والتعريس: النزول ليلاً.
(2) الأسود: الشخص، قال أهل اللغة: كل شخص يقال له أسود، وساكن البلد: الجن، والبلد: الأرض التي هي مأوى الحيوان، وإن لم يكن فيها بناء.
(3) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
(4) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.(3/701)
وكان صلّى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (1) .
26ً - أذكار المسافر في الأزمات: إذا استصعبت دابته، قرأ في أذنيها {أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون} [آل عمران:83/3] وإذا انفلتت دابته نادى مرتين أو ثلاثاً: «يا عباد الله احبسوا» .
وإذا ركب سفينة قال: {بسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم} [هود:41/11] . {وما قدروا الله حق قدره..} [الأنعام:91/6] الآية.
27ً - الدعاء في السفر: يستحب الإكثار من الدعاء في جميع سفره لنفسه ولوالديه وأحبائه وولاة المسلمين وسائر المسلمين بمهمات أمور الآخرة والدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» (2) .
28ً - التزام الطهارة والصلاة: يستحب له المداومة على الطهارة والنوم على الطهارة، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها المشروعة، وله عند الشافعية أن يقصر ويجمع، وله ترك الجمع والقصر، وله عند الشافعية فعل أحدهما وترك الآخر، لكن الأفضل أن يقصر وألا يجمع خروجاً من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله يوجب القصر ويمنع الجمع، إلا في عرفات والمزدلفة.
وإذا جمع أذَّن في وقت الأولى، وأقام لكل صلاة، كما تقدم في صلاة المسافر.
ويستحب صلاة الجماعة في السفر، ولكن لا تتأكد كتأكدها في الحضر.
وتسن السنن الراتبة مع الفرائض في السفر، كما تسن في الحضر.
__________
(1) رواه الترمذي عن أنس بن مالك، قال الحاكم: إسناده صحيح.
(2) رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة، وليس في رواية أبي داود «على ولده» .(3/702)
المبحث الثاني ـ آداب رجوع الحاج من سفره:
للحاج وكل مسافر عند عودته إلى بلده آداب أهمها ما يأتي (1) :
1ً - السنة أن يقول ما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة، كبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» (2) .
2ً - السنة إذا قرب من وطنه أن يبعث قدامه من يخبر أهله، كيلا يقدم عليهم بغتة.
3ً - يحسن أن يقول إذا أشرف على بلده: (اللهم إني أسألك خيرها، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها) واستحب بعضهم أن يقول: «اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً، اللهم ارزقنا جناها، وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا» رواه ابن السني في الأذكار.
4ً - إذا قدم، فلا يطرق أهله في الليل، بل يدخل البلدة غدوة، وإلا ففي آخر النهار، روى مسلم عن أنس «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوة أو عشية» .
5ً - إذا وصل منزله، فالسنة أن يبتدئ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، وإذا دخل منزله صلى أيضاً ركعتين، ودعا وشكر الله تعالى.
6ً - يستحب لمن يسلم على الحاج أن يقول: (قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (3) . هذا وإن قيام العوام بذبح الشاة بين رجلي الحاج يؤدي إلى تحريم أكلها، إذ إن الذبح بنية تعظيم فلان يحرم أكلها ولو ذكر اسم الله عليها، أما مظاهر الاستقبال الزائدة فهو رياء ينافي الإخلاص في العبادة.
7ً - يستحب أن يقول إذا دخل بيته ما كان يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رجع من سفره، فدخل على أهله، قال: توباً توباً، لربنا أوباً، لا يغادر حوباً» توباً: أي نسألك توبة كاملة، ولا يغادر حوباً أي لا يترك إثماً.
8ً - ينبغي أن يكون رجوعه خيراً مما كان، فهذا من علامات قبول الحج، وأن يكون خيره مستمراً في ازدياد.
انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع
(الأيمان والنذور والكفارات، النظريات الفقهية وقرارات المجامع)
__________
(1) الإيضاح: ص 100 ومابعدها، المغني: 559/3.
(2) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر.
(3) رواه الحاكم عن ابن عمر وأبي هريرة، قال الحاكم: وهو صحيح على شرط مسلم، والدعاء المذكور رواه ابن السني مرفوعاً.(3/703)
...................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ.................................
.........................................الجزء الرابع.......................................
المحتويات
البَابُ السَّادس: الأيمان والنُّذور والكفَّارات
الفَصْلُ الأوَّل: الأيمان
المبحث الأول - تعريف اليمين ومشروعيتها وأنواعها وحكم كل نوع
أنواع اليمين
1 - اليمين الغموس
2 - اليمين اللغو
3- اليمين المنعقدة أو المؤكدة
أنواع اليمين المنعقدة
النوع الأول - اليمين على ما هو متصور الوجود عادة
النوع الثاني - اليمين على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلاً
النوع الثالث - اليمين على ما هو مستحيل عادة
المبحث الثاني - صيغة اليمين
1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى
2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى
3 - اليمين بالله تعالى بطريق الكناية
4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق)
5 - الحلف بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى
المبحث الثالث - شروط صحة اليمين
1ً - شروط الحالف
2ً - شروط المحلوف عليه
3ً - شرط ركن اليمين
المبحث الرابع - أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً
المطلب الأول - الحلف على الدخول
المطلب الثاني - الحلف على الخروج
المطلب الثالث - الحلف على الكلام
المطلب الرابع - الحلف على الأكل والشرب والذوق ونحوها
المطلب الخامس - الحلف على اللبس والكسوة
المطلب السادس - الحلف على الركوب
المطلب السابع - الحلف على الجلوس
المطلب الثامن - الحلف على السكنى
المطلب التاسع - الحلف على الضرب والقتل
المطلب العاشر - الحلف على مايضاف إلى غير الحالف
بحثان ملحقان بهذا المطلب
البحث الأول - الحلف على فعل صادر من غير الحالف
البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف
المطلب الحادي عشر - الحلف على تصرفات شرعية
الفصل الثاني - النذور
تعريف النذر وركنه
شروط النذر
شروط المنذور به
حكم النذر
1 - أصل حكم النذر
2 - وقت ثبوت حكم النذر
3 - كيفية ثبوت حكم النذر
الفصل الثالث - الكفارات
أنواع الكفارات
كفارة اليمين ومشروعيتها وسبب وجوبها
نوع الواجب في كفارة اليمين
خصال الكفارة
1 - الإطعام
2 - الكسوة - صفتها وقدرها(4/1)
3 - عتق الرقبة
4 - الصوم - مقداره وشرطه
الباب السابع - الحظر والإباحة
المبحث الأول - الأطعمة
المطلب الأول - أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها
المطلب الثاني - ما لا نص فيه - الاحتكام للذوق العربي
المطلب الثالث - حالة الضرورة
أولاً - تعريف الضرورة وحكمها
ثانياً - شروط الضرورة أو ضوابطها
ثالثاً - هل تشمل الضرورة حالة السفر والحضر جميعاً؟
رابعاً - جنس الشيء المستباح للضرورة
خامساً - كيفية ترتيب الأفضلية بين مطعومات الضرورة سادساً - مقدار الجائز تناوله للضرورة
سابعاً - حكم أخذ طعام قهراً للضرورة
ثامناً - حالات خاصة للضرورة أو الحاجة
المطلب الرابع - إجابة الولائم وموائد المنكر وآداب الطعام
أولاً - إجابة الولائم وموائد المنكر
ثانياً - آداب الطعام والشراب
المبحث الثاني - الأشربة
أولاً - حكم الأشربة
ثانياً - الانتباذ في الظروف والأواني
ثالثاً - تخلل الخمر وتخليلها
المبحث الثالث - اللبس والاستعمال والحلي
المبحث الرابع - الوطء والنظر واللمس واللهو والتصوير والرسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام
أولاً - الوطء وأحكامه
ثانياً - النظر
الأول - نظر الرجل للمرأة
الثاني - نظر المرأة للرجل
الثالث - نظر الرجل إلى الرجل
الرابع - نظر المرأة إلى المرأة
ثالثاً - اللمس
رابعاً - اللهو
خامساً - التصوير سادساً - وسم الحيوان
سابعاً - أحكام الشعر
ثامناً - الوشم والنمص والتفليج
تاسعاً - الترجل والتخنث
عاشراً - السلام
المبحث الخامس - مسائل في البيع والتعامل
أولاً - بيع السماد الطبيعي
ثانياً - استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي
ثالثاً - بيع العنب للخمار
رابعاً - الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي
خامساً - بيع بناء بيوت مكة وأرضها وإجارتها
سادساً - دخول الكافر المساجد
سابعاً - الاحتكار
ثامناً - التسعير
الباب الثامن - الأضحية والعقيقة
الفصل الأول - الأضحية(4/2)
المبحث الأول - تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها
المطلب الأول - تعريف الأضحية ومشروعيتها
المطلب الثاني - حكم الأضحية
حالة تغير حكم الأضحية أو نوعا الأضحية
المبحث الثاني - شروط الأضحية
المطلب الأول - شروط إيجاب الأضحية أو سنيتها المطلب الثاني - شروط صحة الأضحية
المطلب الثالث - شروط المكلف بالأضحية
المبحث الثالث - وقت التضحية
المبحث الرابع - الحيوان المضحى به
المطلب الأول - نوع الحيوان المضحى به
المطلب الثاني - سن الحيوان المضحى به
المطلب الثالث - قدر الحيوان المضحى أو ما يجزئ عنه
المطلب الرابع - أوصاف الحيوان المضحى
المبحث الخامس - مندوبات الأضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية
المبحث السادس - أحكام لحوم الضحايا
الفصل الثاني - العقيقة وأحكام المولود
المبحث الأول - العقيقة
1 - حكم العقيقة ومعناها وحكمتها
2 - جنسها وسنها وصفتها
3 - عددها
4 - وقتها
5 - حكم لحمها وجلدها
المبحث الثاني - أحكام المولود
الباب التاسع - الذبائح والصيد
الفصل الأول - الذبائح
مقدمة في تعريف الذبح وحكمه شرعاً
المبحث الأول - الذابح المبحث الثاني - الذبح أو التذكية
المطلب الأول - عدد المقطوع
المطلب الثاني - موضع القطع
المطلب الثالث - الذبح من القفا
المطلب الرابع - قطع النخاع
المطلب الخامس - فورية الذبح
المطلب السادس - شروط الذبح أو التذكية الشرعية
المطلب السابع - سنن التذكية
المطلب الثامن - مكروهات التذكية
المطلب التاسع - أنواع التذكية
المطلب العاشر - ما يحرم أكله من المذبوح
المطلب الحادي عشر - أثر ذكاة الأم في الجنين
المطلب الثاني عشر - أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض
أولاً - أثر الزكاة في المشرف على الموت أو المريض
ثانياً - أثر الزكاة في الحيوان المريض
المطلب الثالث عشر - أثر الذكاة في غير المأكول
المبحث الثالث - آلة الذبح السكين الكالّة
المبحث الرابع - الحيوان الذبيح(4/3)
النوع الأول - الحيوان المائي
النوع الثاني - الحيوان البري
النوع الثالث - الحيوان البرمائي ملحق - حول طرق الذبح الحديثة في المسلخ الحديث
الفصل الثاني - الصيد
المبحث الأول - تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته
المبحث الثاني - شروط إباحة الصيد
المطلب الأول - شروط الصائد
المطلب الثاني - شروط آلة الصيد
شروط السلاح المصيد به
شروط الحيوان الصائد
هل يجب غسل معضّ الكلب؟
المطلب الثالث - شروط المصيد
المبحث الثالث - ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية
المبحث الرابع - متى يملك الصائد المصيد؟
حالة الاشتراك في الصيد
القسْمُ الثَّاني: النّظَريّات الفقهيّة
تقديم
الفصل الأول - نظرية الحق
المبحث الأول - تعريف الحق وأركانه
المطلب الأول - تعريف الحق
المطلب الثاني - أركان الحق
المبحث الثاني - أنواع الحق
التقسيم الأول - باعتبار صاحب الحق
1 - حق الله تعالى (الحق العام)
2 - حق الإنسان (العبد)
تقسيم حق الشخص (العبد)
الأول - حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لاتقبل الإسقاط
الثاني - حقوق تورث وحقوق لا تورث
التقسيم الثاني - باعتبار محل الحق
1 - الحقوق المالية وغير المالية
2 - الحق الشخصي والحق العيني
3 - الحقوق المجردة وغير المجردة
التقسيم الثالث - باعتبار المؤيد القضائي وعدمه
المبحث الثالث - مصادر الحق أو أسبابه
المبحث الرابع - أحكام الحق
1 - استيفاء الحق
التسامح في الاستيفاء والأداء
2 - حماية الحق
3 - حق التأليف والنشر والتوزيع
4 - استعمال الحق بوجه مشروع
نقل الحق
انقضاء الحق
الفصل الثاني - الأموال
المبحث الأول - تعريف المال وإرثه
الأشياء غير المادية - الحقوق والمنافع
المبحث الثاني - أقسام المال المطلب الأول - المال المتقوم وغير المتقوم
المطلب الثاني - العقار والمنقول
المطلب الثالث - المال المثلي والقيمي
الذمة المالية وخصائصها
المطلب الرابع - المال الاستهلاكي والاستعمالي
الفصل الثالث - الملكية وخصائصها(4/4)
المطلب الأول - تعريف الملكية والملك
المطلب الثاني - قابلية المال للتملك وعدمها
1 - مالا يقبل التمليك ولا التملك بحال
2 - مالا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي
3 - مايجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد
المطلب الثالث - أنواع الملك
المطلب الرابع - أنواع الملك الناقص
1 - ملك العين فقط
2 - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع
3 - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق
المطلب الخامس - أسباب الملك التام
1 - الاستيلاء على المباح
أولاً - إحياء الموات
ثانياً - الاصطياد
ثالثاً - الاستيلاء على الكلأ والآجام
رابعاً - الاستيلاء على المعادن والكنوز
2 - العقود الناقلة للملكية
3 - الخلفية
4 - التولد من المملوك
الفصل الرابع - نظرية العقد
المبحث الأول - تعريف العقد والفرق بينه وبين التصرف والالتزام والإرادة المنفردة
العقد والالتزام
العقد والإرادة المنفردة
الالتزام بإرادة واحدة
المبحث الثاني - تكوين العقد
المطلب الأول - ركن العقد
تعريف الإيجاب والقبول
المطلب الثاني - عناصر العقد
العنصر الأول - صيغة العقد
الفرع الأول - أساليب صيغة الإيجاب والقبول
الفرع الثاني - شروط الإيجاب والقبول
مجلس العقد
هل تشترط الفورية في القبول
صيغة العقد
كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين
التعاقد حالة المشي أو الركوب العنصر الثاني - العاقد
أولاً - الأهلية
1 - أهلية الوجوب
2 - أهلية الأداء
أدوار الأهلية
عوارض الأهلية
ثانياً - الولاية
تعريف الولاية
صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية
أنواع الولاية
الأولياء ودرجاتهم
مبدأ الولاية
شروط الولي
تصرفات الولي ومدى صلاحياته
الوكالة
أنواع الوكالة
حكم تصرفات الوكيل
الفرق بين الوكالة والرسالة
حكم العقد وحقوقه في الوكالة
التصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان
انتهاء الوكالة
الفضالة العنصر الثالث - محل العقد
1 - أن يكون موجوداً وقت التعاقد(4/5)
2 - أن يكون المعقود عليه مشروعاً
3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد
4 - أن يكون معيناً معروفاً للعاقدين
العنصر الرابع - موضوع العقد
السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين
موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث
1 - بيع العينة
2 - بيع العنب لعاصر الخمر
3 - بيع السلاح في الفتنة
4 - زواج المحلِّل
المطلب الثالث - الإرادة العقدية
الفرع الأول - صورية العقود
الفرع الثاني - سلطان الإرادة العقدية
الأولى - حرية التعاقد ورضائيته
الثانية - حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود والقوة الملزمة للعقد
أولاً - مذهب الحنفية في الشروط
ثانياً - مذهب الحنابلة في الشروط
الفرع الثالث - عيوب الإرادة أو عيوب الرضا
1 - الإكراه
2 - الغلط
3 - التدليس أو التغرير
4 - الغبن مع التغرير
المبحث الثالث - شروط العقد
أولاً - شرائط الانعقاد
ثانياً - شرائط الصحة
ثالثاً - شرائط النفاذ
رابعاً - شرائط اللزوم
المبحث الرابع - آثار العقد
المبحث الخامس - تصنيف العقود
التقسيم الأول - بحسب وصف العقد شرعاً
منشأ الخلاف بين الحنفية والجمهور
العقد الباطل
العقد الفاسد
العقد المكروه تحريماً
1 - بيع النجش
2 - تلقي الركبان أو الجلب
3 - بيع الحاضر للبادي
4 - البيع وقت النداء لصلاة الجمعة
أنواع العقد الصحيح
أنواع العقد النافذ
التقسيم الثاني - بالنظر إلى التسمية وعدمها
التقسيم الثالث - بالنظر إلى غاية العقد وأغراضه التقسيم الرابع - بالنظر إلى العينية وعدمها
التقسيم الخامس - باعتبار اتصال الأثر بالعقد وعدم اتصاله
1 - العقد المنجز
2 - العقد المضاف للمستقبل
3 - العقد المعلق على شرط
المبحث السادس - الخيارات
خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة
خيار التعيين
خيار الشرط
مدة الخيار
أثر خيار الشرط
خيار العيب
خيار الرؤية
خيار النقد
المبحث السابع - انتهاء العقد
انتهاء العقد بالفسخ
انتهاء العقد بالموت
انتهاء العقد بعدم إجازة الموقوف(4/6)
الفصل الخامس - المؤيدات الشرعية
أولاً - المؤيدات المدنية
أهم الفروق بين البطلان والفساد
ثانياً - المؤيدات التأديبية (أو العقوبات) العقوبات غير المقدرة أو التعزيرات
الشريعة أساس الحكم على الجريمة والعقاب
الفصل السادس - نظرية الفسخ
تعريف الفسخ لغة واصطلاحاً
الفرق بين الفسخ والانفساخ
الفرق بين الطلاق والفسخ
الإبطال
الفساد
الفرق بين الفسخ والإفساد
الحكم الإجمالي للفسخ ودليله
شروط فسخ العقد
أسباب الفسخ
عدم لزوم العقد بطبيعته
استحالة تنفيذ أحد الالتزامين المتقابلين
الفسخ للفساد عند الحنفية
أنواع الفسخ
الفسخ باعتباره جزاءً لعدم تنفيذ العاقد الآخر التزامه
الفسخ بسبب الخيار (الفسخ والقوة الملزمة للعقد)
الفسخ للأعذار الطارئة
الفسخ لاستحالة التنفيذ (الفسخ وتحمل تبعة الهلاك)
الفسخ للإفلاس والإعسار والمماطلة
الفسخ بسبب البطلان أو الفساد أو الردة في الزواج الفسخ الرضائي والفسخ الجبري بطريق القضاء
فرقة الفسخ: منها مايتوقف على القضاء، ومنها مالا يتوقف عليه
الفسخ لعدم إجازة العقد الموقوف
الفسخ بسبب الاستحقاق
الاستحقاق بالنسبة لفسخ العقد نوعان:
مايقبل الفسخ ومالا يقبل
العقود اللازمة للطرفين
العقود الجائزة غير اللازمة للطرفين
العقد اللازم لطرف دون آخر
حالات فسخ العقود وحالات عدم الفسخ
فسخ عقد البيع:
فسخ عقد الإيجار
حالات عدم الفسخ
فروق بين الفسخ وغيره
بعض أسباب الفسخ
متى يجوز عدم تنفيذ العقد أو ماهي شروط الدفع بعدم التنفيذ
آثار الفسخ (أحكامه)
1 - انتهاء العقد بالفسخ
2 - أثر الفسخ في الماضي (الأثر المستند والمقتصر) والمستقبل
ملحق - ما اقتبسه القانون المدني المعاصرمن الفقه الإسلامي
مدى الاعتماد على الشريعة في القانونين المصري والسوري
بعض المبادئ والنظريات العامة المقتبسة من الفقه الإسلامي
الجزء الرابع من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته
الباب السادس
الأيمان والنذور والكفّارات(4/7)
الأيمان والنذور تشتمل لغة وفقهاً على معنى العقد والتصميم؛ لأن الأيمان: هي التي يعقدها الحالف بإرادته المنفردة قاصداً بها التصميم والعزم على فعل شيء أو تركه، وأما النذور: فهي التي يلتزم بها الناذر بقصد التوصل إلى تحقيق هدف معين. والكفارة: هي جزاء الحنث بالعقد الملتزم به.
ومن الواضح أن في اليمين والنذور والكفارة معنى العبادة والتعظيم والطاعة لوجود الالتزام بها نحو الله عزوجل.
وأبدأ ببحث الأيمان نظراً لأهميتها وخطورتها وشيوعها بين الناس وأصالتها بالنسبة لغيرها، وذلك في فصول ثلاثة:
الفَصْلُ الأوَّل: الأيمان
الكلام عن الأيمان يتناول المباحث الأربعة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيتها وأنواعها وحكم كل نوع.
المبحث الثاني ـ صيغة اليمين.
المبحث الثالث ـ شروط اليمين.
المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً، وفيه أحد عشر مطلباً:
المطلب الأول ـ الحلف على الدخول.
المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج.
المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام.
المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب.
المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة.
المطلب السادس ـ الحلف على الركوب.
المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس. المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى.
المطلب التاسع ـ الحلف على الضرب والقتل.
المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف.
المطلب الحادي عشر ـ الحلف على أمور شرعية.
المبحث الأول ـ تعريف اليمين ومشروعيّتها وأنواعها وحكم كل نوع:
تعريف اليمين: اليمين في اللغة لها معان ثلاثة:
أولها ـ القوة، ومنه قوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة:45/69] أي بالقوة، ثانيها ـ اليد اليمنى وقد سمي العضو باليمين لوفور قوته.
ثالثها ـ القسم أو الحلف، وأطلقت اليمين على الحلف؛ لأن الناس كانوا إذا تحالفوا يأخذ كل واحد منهم بيمين صاحبه.(4/8)
وفي اصطلاح الفقهاء كما قال الحنفية: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أوالترك. وسمي هذا العقد باليمين؛ لأن العزيمة تتقوى بها (1) .
مشروعية اليمين: اليمين مشروعة؛ لأن الله تعالى أقسم وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بالقسم، مثل قوله سبحانه: {والليل إذا يغشى} [الليل:1/92] {والشمس وضحاها} [الشمس:1/91] {والنجم إذا هوى} [النجم:1/53] {والتين والزيتون} [التين:1/95] أي وربِّ هذه الأشياء على اعتبار أن المحلوف به محذوف. والنبي أمر بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال سبحانه: {ويستنبئونك أحق هو؟ قل: إي وربي، إنه لحق وما أنتم بمعجزين} [يونس:10/53] ، وقال تعالى: {قل: بلى وربي لتأتينكم} [سبأ:3/34] ، وقال عز وجل: {قل: بلى وربي لتبعثن} [التغابن:7/64] .
وقد ثبت في السنة تشريع اليمين (2) ، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إني ـ والله ـ إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها» (3) أي أديت كفارتها.
لكن لايملك الحالف الرجوع عن اليمين والنذر والطلاق، وإنما تلزمه بمجرد النطق بها.
واليمين وإن كانت في الأصل مباحة عند الفقهاء إلا أنه يكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقوله سبحانه: {ولا تطع كل حلاف مَهين} [القلم:10/68] وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله. ولذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: «ما حلفت بالله تعالى صادقاً ولا كاذباً» (4) ، وقد تقرر أن اليمين مكروهة للنهي عنها بقوله تعالى:
__________
(1) راجع المبسوط للسرخسي: 8 ص126، فتح القدير: 4 ص 2، تبيين الحقائق للزيلعي: 3ص 106 ومابعدها، الدر المختار بهامش رد المحتار: 3 ص 48 ومابعدها، مغني المحتاج: 4 ص 320، الفتاوى الهندية: 2 ص 48.
(2) المغني لابن قدامة الحنبلي: 8 ص 676-682، تبيين الحقائق، المرجع السابق.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري، وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» وفي لفظ بالعكس (راجع جامع الأصول: 12 ص301، نصب الراية: 297/3) .
(4) المغني، المرجع السابق: ص 678، الميزان للشعراني: 2 ص18، 130، مغني المحتاج: 4ص 325، الفتاوى الهندية: 2 ص 49.(4/9)
{ولا تجعلوا الله عُرْضة لأيمانكم} [البقرة:224/2] أي لا تكثروا الحلف بالله، لأنه ربما يعجز الحالف عن الوفاء به، إلا أن تكون اليمين في طاعة من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه، فتكون طاعة. وعلى هذا ليس من الأدب مع الله تعالى اتخاذ اليمين طريقاً للإقناع والتأثير وإنفاق السلعة والترغيب في المعاملات، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحلف مَنْفَقة للسلعة، مَمْحقة للبركة» .
وذكر المالكية أن اليمين بغير الله مكروهة، وقيل: حرام، أما اليمين بنحو (اللات والعزى) فإن اعتقد تعظيمها فهو كفر، وإلا فهو حرام. وذكر الحنابلة أن الأيمان خمسة أنواع:
أحدها ـ واجب: وهي التي ينجي بها إنساناً معصوماً من الهلاك.
والثاني ـ مندوب: وهو الذي تتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين، أو إزالة حقد من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر.
والثالث ـ المباح: مثل الحلف على فعل مباح أو تركه، والحلف على الإخبار بشيء هو صادق فيه أو يظن أنه فيه صادق.(4/10)
والرابع ـ المكروه: وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب.
والخامس ـ المحرم: وهو الحلف الكاذب، فإن الله تعالى ذمه بقوله: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة:14/58] ولأن الكذب حرام.
أنواع اليمين: اليمين بالله تعالى ثلاثة أنواع: يمين منعقدة، ويمين الغموس، ويمين اللغو، قال محمد في كتاب (الأصل) : «الأيمان ثلاثة: يمين مكفَّرة، ويمين لا تكفَّر، ويمين نرجو ألا يؤاخذ الله بها صاحبها. وفسر الثالثة بيمين اللغو» (1) .
1 - اليمين الغَموس: عرفها الحنفية والمالكية بأنها: اليمين الكاذبة قصداً في الماضي أو في الحال، أو هي الحلف على أمر ماض أو في الحال متعمداً الكذب فيه نفياً أو إثباتاً، مثل قول الحالف: (والله لقد دخلت هذه الدار) وهو يعلم أنه ما دخلها، أو قوله عن رجل: (والله إنه خالد) مع علمه أنه عامر ونحو ذلك.
وحكمها عند الجمهور ومنهم الحنفية والمالكية والحنابلة على الراجح عندهم (2) : أنه يأثم فيها صاحبها، ويجب عليه التوبة والاستغفار، ولا كفارة عليه بالمال. استدلوا بقول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة وأدخله النار» (3) وفي الصحيحين: «لقي الله وهو عليه غضبان» . قال ابن مسعود: «كنا نعد من اليمين التي لا كفارة لها: اليمين الغموس» وعن سعيد بن المسيب قال: «هي من الكبائر، وهي أعظم من أن تُكفَّر» ، يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس واليمين الغموس» (4) . والمعقول يؤيدهم وهو أن الذي أتى به الحالف أعظم من أن تكون فيه الكفارة، فلا ترفع الكفارة إثمها، ولا تشرع فيها، وقد سميت بالغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار.
__________
(1) البدائع: 2/3.
(2) راجع المبسوط: 8 ص 127، البدائع: 3 ص3، 15، الفتاوى الهندية: 2 ص 48، فتح القدير: 4 ص 3، تبيين الحقائق: 3 ص107، الشرح الكبير للدردير بهامش حاشية الدسوقي: 2 ص 128، بداية المجتهد: 1 ص 396، المغني: 8 ص 686، القوانين الفقهية: ص 160.
(3) أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة، ورواية الصحيحين ومثلها رواية أبي داود والترمذي هي عن عبد الله بن مسعود، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات عن العرس بن عميرة، ورواه أحمد والطبراني أيضاً عن أبي موسى بلفظ: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل، وهو عليه غضبان» (راجع جامع الأصول: 12 ص 295، مجمع الزوائد: 4 ص 178، نصب الراية: 3 ص 292) .
(4) رواه البخاري من حديث ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فذكر في الحديث الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس، وفيه قال السائل: وما اليمين الغموس؟ قال: «الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» (راجع نيل الأوطار: 8 ص 235، سبل السلام: 4 ص 105 ومابعدها) .(4/11)
وقال الشافعية وجماعة: تجب الكفارة في اليمين الغموس، أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس؛ لأنه وجدت من الحالف اليمين
بالله تعالى والمخالفة مع القصد، فتلزمه الكفارة كما تلزمه في اليمين المنعقدة على أمر في المستقبل، والله تعالى يقول: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/5] وهذا النص عام يعم الحلف في الماضي والمستقبل، فتكون الآية موجبة الكفارة في اليمين الغموس، لكونها من الأيمان المنعقدة، وتعلق الإثم في هذه اليمين لا يمنع الكفارة، كما أن الظهار(4/12)
منكر من القول وزور، وتتعلق به الكفارة (1) .
2 - اليمين اللغو: اختلف العلماء في تحديد المراد منها، فقال الجمهور (2) : هي أن يخبر عن الماضي أوعن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه، في النفي والإثبات. وبعبارة أخرى: هي أن يحلف على شيء يظنه كما حلف، فلم يكن كذلك. مثل قول الحالف: (والله ماكلمت زيداً) وفي ظنه أنه لم يكلمه، و: (والله لقد كلمت زيدا ً) وفي ظنه أنه كلمه، وهو بخلاف الواقع. أو يقول: (والله إن هذا الطائر لغراب) وفي ظنه أنه كذلك، ثم تبين في الواقع أن الطائر حمام مثلاً.
وقال الشافعي (3) : لغو اليمين: ما لم تنعقد عليه النية. أو بعبارة أخرى: يمين اللغو: هي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصد لمعناها، أو يريد اليمين على شيء، فسبق لسانه إلى غيره، بدليل قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان} [المائدة:89/5] وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا: «هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله» (4) ولأن ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به، كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
واتفق الفقهاء على أن يمين اللغو لا كفارة فيها، لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/5] ، ولأنها يمين غير منعقدة، فلم تجب فيها كفارة، ولأنها لا يقصد بها المخالفة، فأشبه ذلك ما لو حنث ناسياً (5) .
والشافعية يرون أن يمين اللغو تكون على أمر في الماضي أو الحال أو المستقبل؛ لأن الأدلة التي ذكروها لم تفرق بين الماضي والمستقبل، فكان الحلف لغواً على كل حال.
والحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط (6) بدليل قوله تعالى:
__________
(1) مغني المحتاج: 4 ص 325، المهذب للشيرازي: 2 ص 128.
(2) المراجع السابقة: البدائع: ص 3 ص 17، الفتاوى الهندية: ص 49، بداية المجتهد: ص 395، المغني: ص 688، القوانين الفقهية: ص 159.
(3) مغني المحتاج، المرجع السابق: ص 324، المهذب، المرجع السابق.
(4) روى خبر عائشة البخاري والشافعي ومالك موقوفاً، وصحح ابن حبان رفعه، ورواه أبو داود مرفوعاً، وأخرجه البيهقي أيضاً. ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين (راجع جامع الأصول: 12 ص 307، نيل الأوطار: 8 ص 235 ومابعدها، سبل السلام: 4 ص 107) .
(5) المغني: 8 ص 687 ومابعدها، البدائع: 3 ص 17، القوانين الفقهية: ص 159.
(6) البدائع: 3 ص 3-4.(4/13)
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة:89/5] ، واللغو في اللغة: اسم للشيء الذي لا حقيقة له، بل على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه، والحقيقة بخلاف ذلك، وهكذا اليمين على أمر في الماضي أو الحال، فهو مما لا حقيقة له إذ ليس فيه قصد اليمين: وهو المنع عن شيء أو الحث على شيء، فكان لغواً. أما اليمين في المستقبل فهي يمين منعقدة، كما سيأتي بيانه في اليمين المعقودة.
3 - اليمين المنعقدة أو المعقودة أو المؤكدة: هي ما يحلف على أمر المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وحكم هذه اليمين وجوب الكفارة عند الحنث (1) لقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته ... } [المائدة:89/5] ، الآية. والمراد به اليمين في المستقبل، بدليل قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم} [المائدة:89/5] ، ولا يتصور الحفظ عن الحنث والمخالفة إلا في المستقبل، ولأنه تعالى قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/16] ، والنقض إنما يتصور في المستقبل (2) .
__________
(1) الحنث: الإثم والذنب من حنث بكسر النون يحنث بفتحها.
(2) المبسوط: 8 ص 127، فتح القدير: 4 ص 5، تبيين الحقائق: 3 ص 109، البدائع: 3ص 17، المغني: 683/8، 689.(4/14)
ووجوب الكفارة في هذه اليمين أمر مقرر بالاتفاق بعد الحنث، سواء أكانت اليمين على فعل واجب، أم ترك واجب، أم فعل معصية، أم ترك مندوب أم ترك المباح أم فعله (1) .
فإن كانت اليمين على فعل واجب مثل قوله: (والله لأصلين صلاة الظهر اليوم) أو: (لأصومن رمضان) فإنه يجب عليه الوفاء بيمينه، ولا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) فإن امتنع عن البر يأثم ويحنث (3) ويلزمه الكفارة (4) .
__________
(1) البدائع: المرجع والمكان السابق.
(2) رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها، وتتمة الحديث: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (راجع نصب الراية: 3 ص 300، نيل الأوطار: 8ص240) .
(3) البر: هو الموافقة لما حلف عليه. والحنث: مخالفة ما حلف عليه من نفي أو إثبات، والبر عند المالكية: لا يكون إلا بأكمل الوجوه، والحنث يتحقق بأقل الوجوه، فمن حلف أن يأكل رغيفاً، لم يبر إلا بأكل جميعه، وإن حلف ألا يأكله، حنث بأكل بعضه (القوانين الفقهية: ص 161) وقال الحنفية: لا يتحقق البر والحنث إلا بفعل كل المحلوف عليه (البدائع: 3 ص 12، مختصر الطحاوي: ص 308) .
(4) البدائع: المرجع السابق، المغني: 8 ص 682.(4/15)
وإن كانت اليمين على ترك الواجب أو على فعل المعصية كأن قال: (والله لا أصلي صلاة الفرض) أو: (لا أصوم رمضان) أو قال: (والله لأشربن الخمر) أو: (لأقتلن فلانا ً) أو: (لا أكلم والدي) ونحو ذلك، فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة والاستغفار، ثم يجب عليه الحنث والكفارة بالمال؛ لأن عقد هذه اليمين معصية (1) وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (2) .
وإن كانت اليمين على ترك المندوب مثل: (والله لا أصلي نافلة، ولا أصوم تطوعاً، ولا أعود مريضاً ولا أشيع جنازة) ونحو ذلك، أو على فعل المكروه مثل: (والله لألتفت في الصلاة) فالأفضل له ألا يفعل المكروه ويفعل المندوب أي يحنث، ويكفر عن يمينه، للحديث السابق: (من حلف على يمين..) ولقوله تعالى: {ولا يأتل (3) أولو الفضل منكم والسعة} .. [النور:22/24] الآية، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حلف ألا يبرّ مِسْطحاً بسبب اشتراكه في حديث الإفك على عائشة (4) .
وإن كانت اليمين على مباح تركاً أو فعلاً، كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب ونحوه، فالأفضل له البر أي ترك الحنث، لما فيه من تعظيم الله تعالى، وقد
__________
(1) البدائع: المرجع نفسه، مغني المحتاج: 4 ص 325، المغني: 8 ص 682.
(2) رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي وصححه عن أبي هريرة، ورواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم وروي عن غير هؤلاء أيضاً (راجع جامع الأصول: 12 ص 300، مجمع الزوائد: 4 ص 183، نصب الراية: 3 ص 296، نيل الأوطار: 8 ص 237، سبل السلام: 4 ص 103) .
(3) أي لايحلف، وقيل: المراد لايمتنع.
(4) البدائع: 3 ص 16، مغني المحتاج: 4 ص 326، المغني: 8 ص 681 وما بعدها.(4/16)
قال سبحانه: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [النحل:91/16] وله أن يُحنث نفسه، ويكفر عن يمينه (1) .
حكم الناسي والمكره: الكفارة تجب في اليمين المنعقدة عند الحنفية والمالكية، سواء أكان الحانث عامداً أم ساهياً أم مخطئاً أم نائماً أم مغمى عليه أم مجنوناً أم مكرهاً (2) لأن الآية القرآنية وهي: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة:89/5] لم تفرق بين عامد وناس وغيره، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق واليمين» (3) ، فمن حلف بعتق أو طلاق ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً حنث؛ لأن هذا يتعلق به حق آدمي، فتعلق الحكم به مع النسيان كالإتلاف.
وقال الشافعية والحنابلة (4) : لا كفارة ولا حنث على غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» (5) ولا كفارة أيضاً على المغمى عليه
__________
(1) المراجع السابقة، القوانين الفقهية: ص 160.
(2) البدائع: 3 ص17، تبين الحقائق: 3ص109، بداية المجتهد: 2ص 402، القوانين الفقهية: ص 161، فتح القدير 4ص6، الفتاوى الهندية: 2ص 49، الدر المختار: 3ص53، المغني: 8ص 726، الشرح الكبير: 2ص 142.
(3) نص الحديث ليس هكذا، وإنما لفظه (النكاح والطلاق والرجعة) أخرجه أبو داوود وابن ماجه والترمذي والحاكم في المستدرك والدارقطني والبيهقي. فاستبدال اليمين بالرجعة من صنع الفقهاء (راجع نصب الراية: 3ص 293 وما بعدها) .
(4) المهذب للشيرازي: 2 ص 128، حاشية الباجوري على متن أبي شجاع: 2ص 323، المغني: 8ص 676، 684 وما بعدها.
(5) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان عن عائشة، ورواه بعضهم عن علي وعمر وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم (راجع مجمع الزوائد: 6 ص 251، سبل السلام: 3 ص 180) وله ألفاظ منها لفظ رواية عائشة: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق» .(4/17)
والسكران غير المتعدي بسكره، والساهي، إذ إنهم في معنى المذكورين في الحديث، فلا تنعقد اليمين منهم، كذلك لاتنعقد من المكرَه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمنين» (1) ولقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (2) .
شروط انعقاد اليمين:
يشترط لانعقاد اليمين الشروط العامة التالية:
1ً - أن يكون الحالف بالغاً عاقلاً: فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون، لرفع المؤاخذة عنهما، روى أبو داود عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعْقِل» .
2ً - ألا تكون اليمين لغواً: وهي مايجري على ألسنة الناس بغير قصد اليمين كما تقدم، مثل قولهم: (بلى والله، ولا والله) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامة، ثم قال: عنبسة ـ أحد رجال السند ـ ضعيف، قال في التنقيح: حديث منكر، بل موضوع، وفيه جماعة ممن لايجوز الاحتجاج بهم (راجع نصب الراية: 3 ص 294) .
(2) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان، ورواه أيضاً عن أبي الدرداء، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أبي ذر، ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر، وكل هذه الروايات بلفظ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» إلا حديث أبي الدرداء وثوبان فهو بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ثلاثة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» ولكن ابن عدي في الكامل رواه عن أبي بكرة بلفظ: «رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه» ورواه الطبراني في الأوسط عن عقبة بن عامر بلفظ: «وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف. وهكذا يظهر أن لفظ: «رفع عن أمتي..» ليس موجوداً، وإن كان الفقهاء لايذكرونه إلا بهذا اللفظ (راجع نصب الراية: 2ص62، التلخيص الحبير: 1ص109، مجمع الزوائد: 6 ص 250) .(4/18)
3ً - أن يكون الحلف بذات الله تعالى مثل: أقسم بالله، أو بأحد أسمائه تعالى، مثل: أقسم بالرحمن أو برب العالمين، أو بصفة من صفاته تعالى مثل: أقسم بعزة الله، أو بعلمه أو بإرادته أو بقدرته.
وسأبحث بعض الشروط المختلف فيها والمتفق عليها فيما سيأتي.
أنواع اليمين المنعقدة: يشترط لانعقاد اليمين كما سيأتي أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة عند الحلف، ويشترط أيضاً لبقاء اليمين أن يكون المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة بعد اليمين. وبناء على هذا الشرط عند الحنفية انقسمت اليمين المنعقدة إلى أنواع:
النوع الأول - أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة.
النوع الثاني ــ أن تكون اليمين على ماهو غير متصور الوجود أصلاً.
النوع الثالث ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود في نفسه، لكن لايوجد على مجرى العادة.(4/19)
النوع الأول ــ أن تكون اليمين على ماهو متصور الوجود عادة:
إذا كان المحلوف عليه أمراً يتصور حدوثه بحسب العادة والإمكان، فإما أن يكون الحلف في حالة الإثبات أي الإيجاب، أو في حالة النفي أي السلب.
أولاً ـ إن كان الحلف في حالة الإثبات: فإما أن يكون الإثبات مطلقاً عن الوقت أو مؤقتاً (1) .
آـ فإن كان الحلف في الإثبات مطلقاً عن التأقيت: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف) أو: (لأدخلن الدار) أو: (لآتين دمشق) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، فاليمين باقية لا يحنث؛ لأن الحنث يتحقق عند عدم البر باليمين، وتصور البر ممكن في هذه الحالة: وهو فعل المحلوف عليه مرة في مدة العمر، فإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه، حنث لحصول العجز عن تحقيق مقتضى البر، غير أنه إذا هلك المحلوف عليه يحنث وقت هلاكه، وإذا هلك الحالف يحنث في آخر جزء من أجزاء الحياة.
ب ـ وإن كان الحلف في الإثبات مؤقتاً: مثل: (والله لآكلن هذا الرغيف اليوم) أو: (لأدخلن هذه الدار اليوم) فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، والوقت باقياً لا يحنث؛ لأن البر في الوقت مرجو فتبقى اليمين. وإن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين، ولكن مضى الوقت، فإنه يحنث باتفاق الحنفية؛ لأن اليمين كانت مؤقتة بوقت، فإذا لم يفعل المحلوف عليه حتى انتهى الوقت، فإنه يحنث.
أما إذا هلك أحدهما في الوقت المحدد: فإن هلك الحالف في الوقت ثم مضى الوقت فلا يحنث باتفاق الحنفية والحنابلة؛ لأن الحنث في اليمين المؤقتة بوقت يقع في آخر أجزاء الوقت، وهو في تلك اللحظة ميت، والميت لا يوصف بالحنث.
وإن هلك المحلوف عليه وهو الرغيف مثلاً قبل مضي الوقت، فتبطل اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر.
__________
(1) راجع البدائع: 3 ص 12، المغني: 8 ص 786، 791.(4/20)
وقال أبو يوسف والشافعية والحنابلة: لا تبطل اليمين، ويحنث، وتجب الكفارة. واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث، روي عنه أنه يحنث عند غروب شمس اليوم المحدد فيه وقت اليمين، وروي عنه أنه يحنث للحال، قيل: وهو الصحيح من مذهبه.
ثانياً ـ إذا كان الحلف في حالة النفي: فإما أن يكون النفي مطلقاً عن التأقيت أو مؤقتاً.
آـ فإن كان الحلف في النفي مطلقاً عن الوقت: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف) أو: (لا أدخل هذه الدار) فإن فعل مرة حنث؛ لأنه لم يتحقق منه البر، وإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه قبل الفعل: لا يحنث، لأنه تحقق منه شرط برّه في اليمين: وهو الامتناع عن الفعل.
ب ـ وإن كان الحلف في النفي مؤقتاً: مثل: (والله لا آكل هذا الرغيف اليوم) فإن مضى اليوم قبل الأكل، والحالف والمحلوف عليه قائمان، فقد بر في يمينه، لأنه وجد منه شرط البر، وهو ترك الأكل في اليوم كله. وإن هلك الحالف أو المحلوف عليه في اليوم برَّ في يمينه أيضاً؛ لأن شرط البر عدم الأكل، وقد تحقق. وإن فعل المحلوف عليه في الوقت المحدد حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الفعل في الوقت.
النوع الثاني ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلاً:
هذا هو المستحيل عقلاً مثل قول الشخص: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز وليس في الكوز ماء، أو قوله: «والله لأقضين دين فلان غداً» فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين اليوم، ثم جاء الغد، وحكمه أنه لا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر ومالك وأبي الخطاب من الحنابلة (1) ؛ لأن اليمين إنما تعقد على متصورالوجود أو متوهم التصور، وليس ههنا واحد منهما، وإذا لم يكن البر باليمين متصوراً فلا يتصور الحنث، فلا فائدة في انعقاد اليمين.
__________
(1) البدائع: 3 ص 11، تبيين الحقائق: 3 ص 134، الدر المختار: 3 ص 109، المغني: 8 ص 730، القوانين الفقهية: ص 163.(4/21)
وقال أبو يوسف والشافعي والقاضي من الحنابلة (1) : تنعقد اليمين موجبة للكفارة في الحال؛ لأن الحالف حلف على فعل نفسه في المستقبل، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت قبل طلاقها، ولا يشترط عند هؤلاء أن تكون اليمين على أمر متصور الوجود.
وإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لا تنعقد.
ويجري هذا الخلاف السابق فيما إذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً) وهو لا يعلم بموته، فلا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر ومن وافقهم. وقال أبو يوسف ومن معه: تنعقد اليمين (2) .
فإن كان الحالف عالماً بموت الشخص فإنه تنعقد اليمين عند الجمهور، وهو كالنوع الثالث وهو المستحيل عادة؛ لأنه لا يتصور أن يحييه الله، فيقتله، فيكون البر باليمين متصوراً، إلاأنه خلاف المعتاد. وقال زفر: لا تنعقد يمينه.
__________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 4 ص 320.
(2) رتب الحنفية كيفية الأخذ بأقوال أئمتهم فقالوا: يأخذ القاضي والمفتي وغيرهما بقول أبي حنيفة على الإطلاق سواء أكان معه أحد أصحابه أو انفرد بالرأي، ولكن ذلك في غير بحوث القضاء والمواريث فإن الفتوى فيها على قول أبي يوسف لزيادة تجربته،، ثم يؤخذ بقول أبي يوسف ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد. ويؤخذ بقول الصاحبين إذا خالفا الإمام فيما كان الاختلاف فيه بحسب تغيير الزمان وفيما أجمع عليه المتأخرون كالمزارعة والمعاملة (الدر المختار رد المحتار: 4 ص 325، 65/1) .(4/22)
النوع الثالث ـ أن تكون اليمين على ما هو مستحيل عادة:
إذا كان الأمر المحلوف عليه متصور الوجود في نفسه، ولكنه مستحيل بحسب العادة كالصعود في السماء، والطيران في الهواء، أو تحويل الحجر ذهباً، أو شرب ماء دجلة كله، أو قطع المسافة البعيدة في برهةوجيزة، فإنه تنعقد اليمين عند أبي حنيفة وصاحبيه وبقية أئمة المذاهب (1) ؛ لأن البر متصور الوجود في نفسه بأن يقدر الله تعالى الحالف على ذلك، كما أقدر الملائكة والجن والأنبياء على صعود السماء، وكذلك انقلاب الحجر ذهباً ممكن بتحويل الله تعالى، وهكذا كل ما ذكر إلا أن الحالف عاجز عن الأمر عادة، فبالنظر لتصور وجود المحلوف عليه حقيقة انعقدت اليمين، وبالنظر للعجز عن تحقيق المحلوف عليه عادة حنث في الحال، ووجبت الكفارة، كما لو حلف ليطلقن امرأته، فماتت.
وقال زفر رحمه الله تعالى: لاينعقد يمين هذا الحالف: لأنه مستحيل عادة فيلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أن اليمين لا ينعقد في المستحيل حقيقة فلا ينعقد كذلك في المستحيل عادة (2) .
فإذا كانت هذه اليمين مؤقتة مثل: (والله لأصعدن السماء اليوم) فإنه عند أبي حنيفة ومحمد: يحنث في آخر اليوم؛ لأن البر يجب في المؤقتة في آخر اليوم عندهما، ويكون الوقت ظرفاً موسعاً.
وقال أبو يوسف: يحنث في الحال، لتحقق عجزه عن البر في الحال. وهذا هو الصحيح من مذهبه (3) .
__________
(1) راجع البدائع: 3ص11 ومابعدها، تبيين الحقائق: 3ص135، الدر المختار: 3ص111، مغني المحتاج: 4ص320، المهذب: 3ص140، الشرح الكبير للدردير: 2ص126، المغني: 8ص 730، الميزان: 2ص129، 132.
(2) مراجع الحنفية السابق ذكرها.
(3) مراجع الحنفية السابقة.(4/23)
يمين الفور: هناك نوع آخر من اليمين المنعقدة أي اليمين في المستقبل: وهو ما تكون اليمين مؤقتة دلالة أو معنى ومؤبدة لفظاً، وهي المسماة يمين الفور: وهي كل يمين خرجت جواباً لكلام، أو بناء على أمر، فتتقيد بذلك بدلالة الحال، مثل أن يقول شخص لآخر: (تعال تغد معي) فقال: (والله لا أتغدى) فلم يتغد معه، ثم رجع إلى منزله، فتغدى، وحكمها: أنه لا يحنث في يمينه استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول زفر.
وجه القياس: أن الحالف منع نفسه عن الغداء في عموم الحالات، فتقييد اليمين في بعض الحالات دون بعض تخصيص للعموم.
ووجه الاستحسان: أن كلام الحالف خرج جواباً للسؤال، فينصرف إلى ما وقع السؤال عنه، والسؤال وقع عن الغداء المدعو إليه، فينصرف الجواب إليه، كأنه أعاد السؤال وقال: (والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه) : يعني أن قصد الحالف متجه إلى الامتناع عن الغداء المدعو إليه بحسب عرف الناس، والأيمان مبنية على العرف عند الحنفية كما سيأتي بيانه.
وهناك مثال آخر ليمين الفور وهو: إذا أرادت امرأة إنسان أن تخرج من الدار فقال لها زوجها: (إن خرجت فأنت طالق) فقعدت تاركة الخروج ساعة، ثم خرجت بعدئذ لا يحنث استحساناً؛ لأن دلالة الحال تدل على التقيد بذلك الخروج، كأنه قال: (إن خرجت هذه الخرجة فأنت طالق) فإن ذكر ما يدل على خلاف المقصود، كأن بين أن المراد الخروج مطلقاً في هذا اليوم، فيبطل اعتبار الفور، ويبطل أيضاً اعتبار الفور ويحنث بمطلق التغدي إن قال: (إن تغديت اليوم (1)) .
__________
(1) راجع المبسوط: 8 ص 131، 186، البدائع: 3 ص 13، الدر المختار: 3 ص 29 ومابعدها، فتح القدير: 4 ص 42.(4/24)
قضاء الحق قبل وقته: إذا حلف شخص أن يقضي حق غيره في وقت، فقضاه قبله، لم يحنث بيمينه عند الحنفية والحنابلة؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الوقت، فإذا قضاه قبله، فقد قضى قبل خروج الوقت، وزاد خيراً، ولأن مبنى الأيمان على النية، ونية هذا بيمينه أداء الحق قبل خروج الوقت.
وقال الشافعي ـ نقلاً عن ابن قدامة ـ: يحنث إذا قضاه قبله؛ لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختاراً، فحنث كما لو قضاه بعده (1) .
فعل بعض المحلوف عليه: إن حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر عند الحنابلة إلا بفعل جميعه، وإن حلف ألا يفعله وأطلق، ففعل بعضه، ففيه روايتان عند الحنابلة، أرجحهما أنه يحنث بفعل البعض (2) .
المبحث الثاني ـ صيغة اليمين:
تنقسم اليمين بحسب اللفظ المقسم به إلى خمسة أنواع:
1 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال اسم من أسماء الله الحسنى.
2 - يمين بالله تعالى صراحة باستعمال صفة من صفات الله.
3 - يمين بالله تعالى بطريق الكناية.
4 - يمين بالله تعالى من حيث المعنى.
5 - يمين بغير الله تعالى صورة ومعنى.
1 - اليمين باسم من أسماء الله تعالى:
إن الحلف المباح: هو الحلف بالله تعالى، وإن الحالف بغير الله عاص، وقد اتفق العلماء على إباحة الأيمان بأسماء الله سبحانه، سواء أكان الاسم خاصاً لا يطلق إلا على الله تعالى نحو: الله، والرحمن، أم مشتركاً في الإطلاق على الله تعالى وعلى غيره كالعليم والحكيم والكريم والحليم ونحو ذلك؛ لأن هذه الأسماء وإن أطلقت على المخلوقات إلا أنها تنصرف إلى الخالق بدلالة القسم، إذ القسم بغير الله تعالى لا يجوز، فكان المراد بالاسم اسم الله تعالى.
__________
(1) المغني: 790/8، الشرح الكبير: 153/2.
(2) المغني: 782/8، 792.(4/25)
حروف القسم: هي الباء، والواو، والتاء، كأن يقول الحالف: بالله، أو والله، أوتالله، وهو بحسب استعمال العرب، وقد ورد الشرع بتأييد اللغة مثل قوله تعالى: {والله ربِّنا ما كنا مشركين} [الأنعام:23/6] {وتالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء:57/21] {وأقسموا بالله} [فاطر:42/35] وقال صلّى الله عليه وسلم: «والله لأغزون قريشاً ـ ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة: إن شاء الله» (1) ، وقال عليه السلام فيما يرويه عمر: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت» قال عمر: «فما حلفت بها بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً» (2) .
والباء والواو يستعملان في جمع ما يقسم به من أسماء الله تعالى وصفاته. أما التاء فإنه لا يستعمل إلا في اسم الله تعالى، تقول: تالله، ولا تقول: تالرحمن، تعزة الله تعالى.
__________
(1) رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى وابن عدي عن عكرمة عن ابن عباس، بعضهم رواه مسنداً، وبعضهم رواه مرسلاً، قال ابن أبي حاتم في العلل: الأشبه إرساله، وقال ابن القطان: الصحيح مرسل (جامع الأصول: 12 ص 299، نصب الراية: 3 ص 302، مجمع الزوائد: 4 ص 182، نيل الأوطار: 8 ص 220) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد ومالك والبيهقي عن عمر قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم.. الحديث» ومعنى قول عمر: «ما حلفت به ذاكراً» أي عن ذكر مني وعلم «ولا آثراً» : ولا راويا لها عن أحد أنه حلف بأبيه (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، 311، نصب الراية: 3 ص 295، سبل السلام: 4 ص 101، نيل الأوطار: 8 ص 227) .(4/26)
ولو لم يذكر الحالف شيئاً من هذه الأدوات بأن قال: (اللهِ لا أفعل كذا) يكون يميناً عند الجمهور. وقال الشافعية: لو قال: (الله) ورفع أو نصب أو جر فليس بيمين إلا بنية (1) .
2 - اليمين بصفة من صفات الله تعالى:
صفات الله تعالى ثلاثة أقسام:
أحدها ـ ما لا يستعمل في عرف الناس وعاداتهم إلا في الصفة نفسها، فالحلف بها يكون يميناً، مثل: «وعزة الله، وعظمته، وجلاله، وكبريائه» يكون حالفاً؛ لأن الحلف بهذه الصفات أمر متعارف بين الناس.
الثاني ـ أن يحلف بصفة تستعمل صفة لله ولغيره على السواء، فالحلف بها يكون يميناً أيضاً، مثل (وقدرة الله تعالى، وقوته وإرادته، ومشيئته ورضاه، ومحبته، وكلامه) (2) فإنه يكون حالفاً؛ لأن هذه الصفات، وإن استعملت في غير صفة الله، لكن تعين المراد منها بقرينة القسم، إذ لا يجوز القسم بغير اسم الله تعالى وصفاته.
ومما يلحق بهذا القسم: أن يقول الحالف: (وأمانة الله) في ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضاً. وذكر الطحاوي: أنه لايكون يميناً وإن نوى، دليله: أن أمانة الله فرائضه التي تعبد بها عباده من الصلاة والصوم وغيرهما. قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال..} [الأحزاب:72/33] الآية، فكان حلفاً بغير اسم الله عز وجل، فلا يكون يميناً.
ودليل ظاهر الرواية: أن الأمانة المضافة إلى الله تعالى عند القسم يراد بها صفته، بدليل أن «الأمين» من أسماء الله تعالى، وهو مشتق من الأمانة، فكان المراد بها ـ لا سيما في حالة القسم ـ صفة الله.
__________
(1) راجع هذا المبحث في البدائع: 3 ص 5، فتح القدير: 4 ص 8، تبيين الحقائق للزيلعي 3 ص 109، 111، الدر المختار: 3 ص 54، بداية المجتهد: 1 ص 394، مغني المحتاج: 4 ص 320-323، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 677، 689-693.
(2) الحلف بكلام الله أي بصفته يمين، كما في البدائع: 3 ص 6 وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه. وقال صاحب الدر: وأما الحلف بكلام الله فيدور مع العرف أي لأن الكلام صفة مشتركة، والتعارف إنما يعتبر في الصفة المشتركة لا في غيرها (الدر المختار: 3 ص 56) .(4/27)
وقال المالكية: اليمين المنعقدة الموجبة للكفارة: الحلف بالله وبأسمائه كالعزيز والرحيم، وبصفاته كعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه ووحدانيته، وقدمه وبقائه وعزته وجلاله وعهده وميثاقه وذمته وكفالته وأمانته، وكذلك باسمه وحقه. ويلحق بذلك القرآن والمصحف على المشهور.
وقال الشافعية في الراجح عندهم: لا ينعقد اليمين بأمانة الله إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى؛ لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق، كما في الآية السابقة.
ومن هذا القسم: (وعهد الله) (1) فهو يمين، وهذا باتفاق الحنفية والمالكية والحنابلة، وفي وجه عند الشافعية؛ لأن العادة الحلف بها والتغليظ بألفاظها كالحلف بالله وصفات، وفي الوجه الثاني عند الشافعية وهو الراجح: لا تعتبر يميناً ما لم ينو الحالف بها اليمين؛ لأنها تحتمل أن المراد بالعهد: هو استحقاق الله ما
__________
(1) المراد بعهد الله: أي إلزامه وتكاليفه.(4/28)
تعبدنا به، فهو يمين، وتحتمل أن المراد بها ما أخذ علينا من العهد في العبادات، فليس بيمين، لأنه يمين بشيء محدث (1) .
ومن هذا القسم أيضاً: (ووجه الله) فهو يمين؛ لأنه الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات، قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص:88/28] أي ذاته.
ولو قال الحالف: (وأيم الله) كان يميناً وكذلك إذا قال: (لعمر الله) (2) .
وقال الشافعية لو قال: (وأيم الله) أو (لعمر الله) ونوى به اليمين، كان يميناً (3) .
وقال المالكية والحنابلة كالحنفية: إذا قال الحالف: (وأيم الله) أو (أيمن الله) أي بركته، فهو يمين تجب كفارته؛ لأن الحلف بذلك متعارف، وكذا إذا حلف بقوله (لعمر الله) (4) .
الثالث ـ أن يحلف بصفة تستعمل لله تعالى، ولغيره، لكن استعمالها في غير الصفة هو الغالب، فالحلف بها لا يكون يميناً، مثل قول الحالف: (وعلم الله) (ورحمة الله) ، (وكلام الله) أو غضبه أو سخطه أو رضاه (5) ، لا يكون هذا يميناً؛ لأنه يراد بهذه الصفات آثارها عادة، لا نفسها، فالعلم يراد به المعلوم غالباً، والرحمة يراد بها الجنة، قال تعالى: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} [آل عمران:107/3] والغضب والسخط يراد به أثر الغضب والسخط عادة:
__________
(1) راجع هذا المبحث في البدائع: 3 ص 6، فتح القدير: 4 ص 14، الفتاوى الهندية: 2 ص 49، الشرح الكبير للدردير: 3 ص 127، المغني: 8 ص 697، 703، المهذب: 2 ص 130، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) البدائع، المرجع السابق، الدر المختار: 3ص 58، تبيين الحقائق: 3 ص 110.
(3) راجع المهذب: 2 ص 130، مغني المحتاج: 4 ص 324 وأصل الكلمة: وأيم أي أيمن فحذفت منه النون لكثرة الاستعمال كما حذفوها في (يكن) فقالوا (يك) .
(4) الشرح الكير، المرجع السابق، المغني: 8 ص 691، 693، والمراد من قوله: (لعمر الله) أي البقاء والحياة.
(5) أي إذا أريد بهذه الصفات آثارها، فلا يكون الحلف بها يميناً إلا بالنية(4/29)
وهو العذاب والعقوبة، لا الصفة نفسها، فلا يصير بذلك حالفاً إلا إذا نوى به الصفة، وكذا العرب لم تتعارف القسم بعلم الله تعالى، فلا يكون يميناً بدون النية (1) . والخلاصة: أن المعول عليه هو العرف، فما تعارفه الناس أنه يمين فهو يمين وإلا فلا.
وقال الشافعية والحنابلة: الحلف بكلام الله وعلمه وقدرته يمين إلا أن ينوي بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور، كما يقال: (اللهم اغفر لنا علمك فينا) أي معلومك منا ومن زلاتنا. ويقال: انظر (قدرة الله) أي مقدوره (2) .
الحلف على المصحف: الحلف على القرآن أو المصحف يمين باتفاق العلماء من مالكية وشافعية وحنابلة، وكذا عند الحنفية على ما رجحه الكمال بن الهمام والعيني؛ لأن الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه: وهو القرآن، فإنه ما بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين. وذلك إلا أن يريد الحالف بقوله (القرآن) الخطبة أو الصلاة، أو يريد بقوله (المصحف) الورق أو الجلد أو النقوش. وقد كان الحنفية يرون أن الحلف بالقرآن أو المصحف ليس يميناً، لأنه حلف بغير الله تعالى. ولكن بما أن القرآن كلام الله فهو من صفاته تعالى، لذا قال ابن الهمام: ولا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف، فيكون يميناً، وقال العيني: وعندي أن المصحف يمين، لا سيما في زماننا (3) .
ومن حلف بحق القرآن، لزمته عند الجمهور كفارة واحدة؛ لأن تكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة. ونص الإمام أحمد على أنه تلزمه بكل آية كفارة يمين، لما رواه الأثرم عن مجاهد من قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف بسورة من القرآن، فعليه بكل آية كفارة يمين صبر، فمن شاء بر، ومن شاء فجر» .
__________
(1) البدائع: 3 ص 6، تبيين الحقائق: 3 ص 109، فتح القدير: 4 ص 9، الدر المختار: 3 ص 58.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 321 ومابعدها، المغني: 8 ص 690 ومابعدها، المهذب: 2 ص 129.
(3) انظر فتح القدير: 4 ص 9 -10، البدائع: 3 ص 8، الفتاوى الهندية: 2 ص 50، الدر المختار: 3 ص 56، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 127، مغني المحتاج: 4 ص 322، المغني: 8 ص 695، 707.(4/30)
الحلف بحق الله: اتفق المالكية والحنابلة، والشافعية في الأصح على أن الحلف بحق الله يعتبر يميناً مكفَّرة؛ لأن الحق اسم من أسماء الله تعالى، أو أن المراد به صفة لله تعالى؛ لأن لله حقوقاً يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة، فكان الحلف بذلك كقوله: (وقدرة الله) (1) .
وأما مذهب الحنفية في الحلف بحق الله ففيه اختلاف: فقال أبو حنيفة ومحمد وفي رواية عن أبي يوسف: لا يكون يميناً؛ لأن حق الله يراد به طاعة الله ومفروضاته، وليست هذه صفة لله، إذ الطاعات حقوقه كما يتبادر إلى الفهم شرعاً وعرفاً، فيكون حلفاً بغير الله.
وقالوا: فلو قال (والحق) يكون يميناً بالاتفاق. ولو قال: (حقاً) لا يكون يميناً؛ لأن الحق من أسماء الله تعالى، قال سبحانه: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور:25/24] فذكره معرفاً بأل ينصرف إلىه، والحلف به متعارف. أما إذا ذكر منكَّراً بدون أل فهو مصدر منصوب بفعل مقدر، فكأنه قال: أفعل هذا الفعل لا محالة، فيراد به تحقيق الوعد، فقوله (حقاً) بمنزلة قوله: (صدقاً) وليس في ذلك شيء من معنى الحلف.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير، مغني المحتاج، المرجعان السابقان، المغني، المرجع السابق: ص691.(4/31)
والرواية الأخرى عن أبي يوسف: أن الحلف بحق الله يكون يميناً؛ لأن الحق من صفات الله تعالى، وهو حقّيته أي كونه تعالى ثابت الذات موجودها، فكأنه قال: (والله الحق) والحلف به متعارف، فوجب كونه يميناً (1) وهذا هو رأي بقية الأئمة كما عرفنا.
الحلف بـ (لعمر الله) : هي يمين موجبة الكفارة عند الجمهور؛ لأنه أقسم بصفة من صفات ذات الله، كالحلف ببقاء الله تعالى. وقال الشافعي: إن قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا. وإن قال: (وأيم الله وأيمن الله) فهي عند الجمهور يمين موجبة للكفارة. وقال الشافعي: هي يمين إن قصد اليمين كما تقدم سابقاً (2) .....
الحلف بلفظ (أقسم بالله ونحوه) : إذا قال الحالف: (أقسم بالله، أو أحلف بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله لأفعلن كذا) ، يكون يميناً، سواء نوى اليمين أو أطلق عند الحنفية والحنابلة، وفي الأصح عند الشافعية في حالة الإطلاق.
وقال المالكية: يكون يميناً إن نوى وأراد اليمين بالله، فإن لم يرد اليمين بالله فليست بيمين. والمراد بالنية: التقدير أي إن قدر أن هذا اللفظ يمين، فإذا لم يقدره ويلاحظه فلا يمين عليه.
والدليل على أن الحلف بذلك يمين هو عرف الناس واستعمالهم، قال الله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/5] {وأقسموا بالله} [الأنعام:109/6] ويدل عليه أنه لو قال الحالف: بالله ولم يقل: أقسم أو أشهد: أي لم يذكر الفعل، كان يميناً، وإنما كان يميناً بتقدير الفعل قبله؛ لأن الباء تتعلق بفعل مقدر، فإذا ذكر الفعل ونطق بالمقدَّر كان أولى بثبوت حكمه.
__________
(1) فتح القدير: 4 ص 11، البدائع: 3 ص 7، تبيين الحقائق: 3 ص 111، الدر المختار: 3ص62، الفتاوى الهندية: 2 ص 49.
(2) المغني: 691/8-693.(4/32)
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي، فقال: (أقسمت بالله أو حلفت بالله لأفعلن كذا) ، يكون يميناً (1) .
الحلف على الغير: قال الشافعية وغيرهم (2) : إذا قال شخص لغيره: (أقسم عليك بالله، أو أسألك بالله لتفعلن كذا) ، وأراد يمين نفسه فهو يمين، ويسن للمخاطب أن يبر الحالف، لما روى البخاري «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم» وهذا على سبيل الندب لا على سبيل الإيجاب، بدليل أن أبا بكر قال: «أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تقسم يا أبا بكر» ولم يخبره، ولو وجب عليه إبراره لأخبره، فإن لم يبره فالكفارة على الحالف، وإن أراد يمين المخاطب أو لم يرد يميناً، بل أراد التشفع بالله عز وجل في الفعل لم يكن يميناً.
الحلف بقوله (أقسم لأفعلن كذا) : إذا ذكر الحالف القسم والخبر المقسم عليه، ولم يذكر المقسم به أي لفظ الجلالة بأن قال: (أشهد) أو (أحلف) أو (أقسم) أو (أعزم) لأفعلن كذا، كان يميناً عند جمهور الحنفية وفي رواية عن أحمد وهي الراجحة في مذهبه؛ لأن القسم لما لم يجز بغير الله تعالى، دل على أن هنالك مقسماً به محذوفاً: وهو اسم الله تعالى، مثل (واسأل القرية) أي أهلها، ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه، قال الله تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} [التوبة:96/9] ولم يقل: بالله، وقال عز وجل: {إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين} [القلم:17/68] ولم يذكر بالله. وقال سبحانه: {إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله} ـ إلى قوله ـ {اتخذوا أيمانهم جنة} [المنافقون:1/63] فسماها الله يميناً.
وقال المالكية مثل قولهم حالة ذكر المقسم به، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وقول زفر عند الحنفية: إن نوى اليمين بالله كان يميناً وإلا فلا؛ لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره، فلم تكن يميناً حتى يصرفه بنية إلى ما تجب به الكفارة، واستثنى المالكية من ذلك لفظ (أعزم) فإنه لا يكون يميناً وإن نوى، لأن معنى (أعزم) : أقصد وأهتم.
__________
(1) البدائع، فتح القدير: ص 12 المرجعان السابقان، بداية المجتهد: 1 ص 398، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 127، مغني المحتاج: 4 ص 323، المهذب: 2 ص 131، المغني: 8 ص 700 ومابعدها، شرح الباجوري: 2 ص 321.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 324، المهذب: 2 ص 131، المغني: 8 ص 731.(4/33)
وقال الشافعية: لا يكون يميناً وإن نوى؛ لأن ذكر المقسم به ركن من أركان اليمين (1) .
تكرار المقسم به: إذا ذكر الحالف المقسم به مكرراً بدون حرف العطف مثل قوله: (والله الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك) : كان يميناً واحدة بلا خلاف. وإن كرر المقسم به بواسطة حرف عطف مثل قوله: (والله والله) أو (والله والرحمن) لا أفعل كذا: كان يمينين في أرجح الروايتين عن أئمة الحنفية ما عدا زفر؛ لأنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر كان الثاني غير الأول؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه، فكان كل واحد منهما يميناً على حدة. أما إذا لم يعطف أحدهما على الآخر، فيجعل الثاني صفة للأول.
وقال زفر وهي الرواية الثانية عن أبي حنيفة: يكون ذلك يميناً واحدة في الحالتين؛ لأن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف، وقد يستعمل للصفة، فإنه يقال: فلان العالم والزاهد والجواد والشجاع، فاحتمل المغايرة، واحتمل الصفة، فلا تثبت يمين أخرى مع الشك (2) .
تكرار الخبر المقسم عليه: إذا كرر الحالف الخبر المقسم عليه بأن قال: (والله لا أفعل كذا، لا أفعل) أو قال: (والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلمه) فإنه يكون عند الحنفية يمينين إلا إذا أراد بالكلام الثاني الإخبار عن الأول، فإنه يكون يميناً واحدة. والدليل على الحالة الأولى: أن الحالف لما أعاد المقسم عليه، علم أنه أراد به يميناً أخرى، إذ لو أراد الصفة أو التأكيد لما أعاد المقسم عليه (3) .
3 - اليمين بالله تعالى بطريق الكناية:
__________
(1) المراجع السابقة: البدائع: ص 7، فتح القدير: ص 13، الدردير: ص 128، مغني المحتاج: ص323، المغني: 8 ص 702، 732، تبيين الحقائق: 3ص110، بداية المجتهد: ص 398.
(2) البدائع: 3 ص 9، فتح القدير: 4 ص 13، الدر المختار: 3 ص 57.
(3) البدائع: 3 ص 10.(4/34)
إذا حلف إنسان بالخروج من الإسلام مثل أن يقول: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام أو من رسول الله أو من القرآن أو كافر، أو يعبد من دون الله أو يعبد الصليب أو نحوه مما يكون اعتقاده كفراً، فهذا ما اختلف فيه فقهاؤنا: فقال الحنفية (1) وفي رواية عن أحمد: يكون يميناً موجبة للكفارة إذا فعل الشيء المحلوف عليه؛ لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولو لم يكن ذلك حلفاً لما تعارفوا؛ لأن الحلف بغير الله تعالى معصية، فدل تعارفهم على أنهم جعلوا المذكور كناية عن الحلف بالله عز وجل، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه، كقول العرب: (لله علي أن أضرب ثوبي حطيم (2) الكعبة) فهذا جعل كناية عن النذر بالتصدق في عرفهم، وإن لم يعقل وجه الكناية فيه.
__________
(1) البدائع: المرجع السابق: ص 8، فتح القدير: 4 ص 13، الدر المختار: 3 ص 59، الفتاوى الهندية: 2 ص 51.
(2) الحطيم: جدار حجر الكعبة، وقيل: ما بين الركن وزمزم والمقام.(4/35)
وقال المالكية والشافعية والحنابلة في الرواية الصحيحة عندهم: لا يكون ذلك يميناً لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولا كفارة عليه بالحنث فيه، والحلف به معصية، والتلفظ به حرام. هذا إذا قصد بيمينه تبعيد نفسه عن المحلوف عليه، أما لو حلف على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل الفعل، كفر في الحال، فإن لم يعرف قصده، لا يحكم بكفره، كما رجح الشافعية (1) . ويؤيد هذا الرأي ماروى بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فقد قال، وإن كان صادقاً فلم يرجع إلى الإسلام سالماً» (2) .
هذا إذا أضاف اليمين إلى المستقبل، فأما إذا أضاف اليمين إلى الماضي بأن قال: (إني يهودي أو نصراني إن فعلت كذا في الماضي) كاذباً قصداً، فهذا يمين الغموس، ولا كفارة فيه عند جمهور الفقهاء، كما بان سابقاً.
لكن هل يكفرُ بقوله هذا؟
اختلف مشايخ الحنفية في ذلك، والصحيح ما روى الحاكم الشهيد عن أبي يوسف أنه لا يكفر؛ لأنه ما قصد به الكفر، ولا اعتقده، وإنما قصد به ترويج كلامه وتصديقه فيه.
وكذلك لا يكفُر في الصحيح إذا قال: (يعلم الله أني فعلت كذا) وهو يعلم
__________
(1) بداية المجتهد: 1 ص 396، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 128، مغني المحتاج: 4 ص 324، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 698، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي وصححه من حديث بريدة بلفظ «من حلف، فقال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً، فهو كما قال؛ وإن كان صادقاً، فلن يرجع إلى الإسلام سالماً» . وروى أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فهو كما قال: إن قال: إني يهودي فهو يهودي، وإن قال: إني نصراني فهو نصراني، وإن قال: إني مجوسي فهو مجوسي» وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك (راجع جامع الأصول: 12 ص 295، سبل السلام: 4 ص 102، نيل الأوطار: 8 ص 233، مجمع الزوائد: 4 ص 177) .(4/36)
أنه لم يفعل. وقيل: إنه يكفر إذا علم أن قوله هذا مكفر؛ لأنه بالإقدام عليه صار مختاراً للكفر، واختيار الكفر كفر (1) .
الحلف بتحريم شيء من ماله: قال الحنابلة والحنفية (2) إن قال: (الحل علي حرام) ، أو قال: (هذا حرام علي إن فعلت) ، ثم فعل، فهو مخير إن شاء ترك ماحرمه على نفسه، وإن شاء كفَّر. وقال المالكية والشافعية: ليس بيمين ولا شيء عليه؛ لأنه قصد تغيير المشروع، فلغا ما قصده. والراجح الرأي الأول لقوله تعالى: {يا أيها النبي لِم تحرمُ ما أحل الله لك} ـ إلى قوله ـ {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم:1/66] .
هل اليمين بحسب نية الحالف أو المستحلف؟
اتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف، واختلفوا في مثل الأيمان على الوعود ونحوه، فقال قوم: بحسب نية الحالف، وقال قوم آخرون: بحسب نية المستحلف.
أما المالكية فقالوا: اليمين على نية المستحلف، ولا تقبل نية الحالف؛ لأن الخصم كأنه قبل هذه اليمين عوضاً عن حقه، ولأنه ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اليمين على نية المستحلف» وفي رواية «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (3) .
__________
(1) البدائع: 3 ص 8، تحفة الفقهاء: 2 ص 443، الطبعة القديمة، الدر المختار: 3 ص 61.
(2) المغني: 699/8 ومابعدها، 733.
(3) أخرج مسلم وابن ماجه هاتين الروايتين عن أبي هريرة، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه الرواية الثانية، وهو حجة لمن قال: الاعتبار بقصد المحلّف سواء أكان حاكماً أو دائناً عادياً ظالما أو مظلوماً، صَادقاً أو كاذباً (راجع نيل الأوطار: 8 ص 218، جامع الأصول: 12 ص 307، الإلمام: ص 427، سبل السلام: 4 ص 102) .(4/37)
وأما الحنفية فقد فصلوا في رواية عن أبي حنيفة، فقالوا: اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوماً، لأنه لا يقتطع بيمينه حقاً، فلا يأثم وإن نوى غير الظاهر من كلامه، وإن كان ظالماً فعلى نية المستحلف، لأنه يكون حينئذ آثماً إن نوى به غير ما حلف عليه. والمعول عليه عندهم هو أن اليمين على نية المستحلف إلا إذا كانت اليمين بالطلاق أو العتاق ونحوهما، فتعتبر نية الحالف إذا لم ينو خلاف الظاهر ظالماً كان الحالف أو مظلوماً، وكذلك إذا كانت اليمين بالله تعالى وكان الحالف مظلوماً، فإنه تعتبر نية الحالف أيضاً. والظالم: من يريد بيمينه إبطال حق الغير.
ووافق الحنابلة أبا حنيفة، فمن حلف فتأول في يمينه أي قصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره، فله تأويله إن كان مظلوماً، وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله.
وأما الشافعية فقالوا: العبرة في اليمين بنية الحالف؛ لأن المقصود من الأيمان هو المعنى القائم بالنفس، لا ظاهر اللفظ (1) .
4 - اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى (الحلف بمخلوق) :
إذا حلف الإنسان بغير الله تعالى، كالإسلام أو بأنبياء الله تعالى أو بملائكته أو بالكعبة أو بالصلاة والصوم والحج، أو قال: (عليَّ سخط الله وعذابه) أو بالآباء أو الأمهات أو الأبناء، أو بالصحابة أو بالسماء أو بالأرض أو بالشمس أو بالقمر والنجوم ونحوها، ومثل: (لعمرك وحياتك وعيشك وحقك) فلا يكون يميناً
__________
(1) راجع هذا المبحث في بداية المجتهد: 1 ص 403، البدائع: 3 ص 20، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 ص 81، مغني المحتاج: 4 ص 321، المغني: 8 ص 727، 763 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 2 ص 139، القوانين الفقهية: ص162، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 35.(4/38)
بإجماع العلماء، وهو مكروه (1) . قال الشافعي: أخشى أن يكون معصية ولا يجب عليه كفارة؛ لأنه حلف بغير الله تعالى، والناس وإن تعارفوا الحلف بالآباء ونحوهم لكن الشرع نهى عنه، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (2) ، «فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» (3) وقال عليه السلام: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (4) ولأن هذا النوع من الحلف لتعظيم المحلوف به، وهذا التعظيم لايستحقه إلا الله تعالى.
5 - اليمين بغير الله تعالى صورة ولكنها يمين بالله معنى:
وهي اليمين بغير القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي الحلف بالطلاق والعتاق، أو كالمشي إلى مكة، والصوم والصدقة وغيرها، وذلك بذكر
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 8، 21، فتح القدير: 4 ص 9، الفتاوى الهندية: 2 ص 48، الدر المختار: 3 ص 56، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 128، مغني المحتاج: 4 ص 320، المهذب: 2 ص 129، المغني: 8 ص 677، 704، القوانين الفقهية: ص 158.
(2) رواه النسائي، وأخرجه مسلم بلفظ: «لاتحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه البزار والطبراني في الكبير عن سمرة بلفظ: «لاتحلفوا بالطواغيت ولاتحلفوا بآبائكم واحلفوا بالله» وإسناد البزار ضعيف، وفي إسناد الطبراني مساتير (راجع جامع الأصول: 12 ص 294، مجمع الزوائد: 4 ص 177) والمقصود بالطواغي والطواغيت: الأوثان، وكل ماكان أهل الجاهلية يقدسونه ويعبدونه، وكذلك الشياطين، وكل رأس في ضلالة فهو طاغوت.
(3) هذه العبارة من حديث آخر بلفظ: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وفي رواية: «أو ليسكت» أخرجه أصحاب الكتب الستة ومالك وأحمد والبيهقي عن ابن عمر، وقد سبق تخريجه (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، نصب الراية: 3 ص 295) .
(4) رواه أحمد بهذا اللفظ عن ابن عمر، ورواه أبو داود والترمذي وحسنه الحاكم وصححه بلفظ: «من حلف بغير الله، فقد كفر» ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ: «فقد كفر وأشرك» للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وهو في الجملة محمول على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم مايعتقده في الله تعالى (راجع جامع الأصول: 12 ص 293، نيل الأوطار: 8 ص 227، سبل السلام: 4 ص 101) .(4/39)
الشرط والجزاء (1) ، وبما أنه مانع عن تحصيل الشرط، وحامل على البر، فهو بمنزلة ذكر اسم الله تعالى. ويتحقق هذا الحلف باستعمال أحد حروف الشرط وهي: إن، وإذا، وإذا ما، ومتى، ومتى ما، ومهما، وكلما.
مثل قوله لامرأته: (إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق) أو: (إن دخلت) أو: (متى دخلت) أو: (إذا مادخلت) أو: (متى مادخلت) فإن وجد الدخول طلقت؛ لأن هذه حروف الشرط، فإذا وجد الشرط، حنث في يمينه، فإن تكرر دخولها لاتطلق؛ لأن هذه الحروف لاتقتضي التكرار (2) .
وحكمها: أنه يلزمه تنفيذ ما حلف به، ولا كفارة فيه.
ولو قال لامرأته: (كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق) يحنث بدخولها الدار، فإن تكرر دخولها مرة ثانية أو ثالثة، تكرر وقوع الطلاق، فتطلق طلقة واحدة في كل مرة؛ لأن كلمة (كلما) تقتضي تكرار الأفعال، وهي قد دخلت على فعل الدخول. هذا إذا تكرر الدخول في حالة زوجية واحدة، فإن طلقت ثلاثاً، فتزوجت بزوج آخر، وعادت إليه، ثم دخلت الدار في المرة الرابعة، لايقع الطلاق عند أئمة الحنفية ماعدا زفر، لأن محل الجزاء قد فات (3) .
__________
(1) الشرط: العلامة، فسمي ماحلف عليه الحالف شرطاً: علامة على تحقق الجزاء، والجزاء: هو مادخل عليه حرف التعليق وهو حرف الفاء إذا كان الجواب متأخراً ذكره عن الشرط مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن تقدم الجزاء فلا حاجة إلى حرف الفاء.
(2) البدائع: 3 ص 21، القوانين الفقهية: ص 159.
(3) البدائع، المرجع السابق: ص 23.(4/40)
ولو قال: (كل امرأة أتزوجها فهي طالق) فتزوج امرأة، تطلق لوجود الشرط، ولو تزوجها ثانية لاتطلق؛ لأن الطلاق توقف على الزواج لا على طريق التعليق بالشرط، بل لأنه أوقع الطلاق على امرأة متصفة بأنه تزوجها، ويحصل الاتصاف عند التزوج. ولو تزوج امرأة أخرى تطلق؛ لأن كلمة (كل) توجب عموم الأسماء أي كل ما يوصف بأنه امرأة، ولا توجب عموم الأفعال وتكرارها (1) .
الجمع بين شرطين في يمين: إذا جمع الحالف بين شرطين بأن عطف أحدهما على الآخر بحرف الواو لايقع الطلاق إلا عند وجود الشرطين، مثل قوله: (إن دخلت هذه الدار وهذه الدار) فلا يقع الطلاق إلا عند دخول الدارين جميعاً، سواء قدم الشرط أو أخره أو كان متوسطاً، ولايشترط الترتيب في دخول الدارين؛ لأن حرف الواو لمطلق الجمع، ولعطف الشيء على جنسه، فيكون الشرط معطوفاً على الشرط لا على الجزاء.
وكذلك إن عطف بحرف (الفاء) لابد من تحقق الشرطين أيضاً بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، فهذه الدار، فأنت طالق) إلا أنه يشترط هنا دخول الدارين على الترتيب والتعقيب بلا تراخ.
وكذلك إن كان العطف بحرف (ثم) لابد من تحقق الشرطين بأن قال: (إن دخلت هذه الدار، ثم هذه الدار، فأنت طالق) فيقع الطلاق بدخول الدارين على الترتيب مع التراخي بأن يدخل الدارين الأولى ثم الثانية بعد مدة ساعة من الزمن أو أكثر منها؛ لأن حرف (ثم) للترتيب والتعقيب مع التراخي.
والحكم لايختلف في الجمع بين الشرطين، سواء كرر حرف العطف بدون الفعل، كما تقدم، أو كرر حرف العطف مع الفعل بأن قال: (إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار) وذلك بالواو أو بالفاء أو بحرف (ثم) (2) .
__________
(1) البدائع: ص 21.
(2) البدائع: 3 ص 31.(4/41)
فإن قال: (الأيمان تلزمني) يحمل على العرف الثابت عند المالكية، والمراد به في بعض البلاد الطلاق الثلاث، فيلزمه (1) .
تكرار الأيمان في مجلس واحد أو في مجلسين: إذا حلف إنسان فقال: (والله لا أكلم فلاناً) ثم قال في ذلك المجلس، أو في مجلس آخر: (والله لا أكلم فلاناً) أو قال لامرأته: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) ثم قال بعدئذ: (إن دخلت هذه الدار فأنت طالق) فهنا ثلاثة احتمالات: إما ألا يكون له نية، أو نوى بالثانية التغليظ والتشديد، أو نوى بالثانية الأولى.
آ - فإن لم يكن نية: فلا شك أنهما يمينان، حتى لو فعل كان عليه كفارتان، فلو كلم فلاناً لزمه كفارتان، وفي اليمين بالطلاق يقع طلقتان إن تحقق الشرط.
ب - وإن نوى باليمين الثانية التغليظ: فكذلك عليه يمينان، ويلزمه كفارتان إذا كلم فلاناً، كما أنه يقع عليه طلاقان بدخول الدار. ودليل هاتين الحالتين هو أنه لما أعاد المقسم عليه مع المقسم به، علم أنه أراد به يميناً أخرى.
جـ ــ وإن نوى باليمين الثانية الأولى: كان عليه يمين واحدة، لأنه نوى التكرار، وهو مستعمل في العرف للتأكيد، إلا أن في مسألة الطلاق لايصدق قضاء، ويصدق ديانة؛ لأن كلامه ظاهر في تكرار اليمين، فإن نوى خلاف الظاهر، صدق فيما بينه وبين الله تعالى (2) .
وقال المالكية (3) كالحنفية: إذا حلف الحالف على شيء واحد بعينه مراراً كثيرة، ففي كل يمين كفارة، إلا أن ينوي أو يريد التأكيد.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 160.
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 10، الفتاوى الهندية: 2 ص 53، تحفة الفقهاء: 2 ص 446 ومابعدها.
(3) بداية المجتهد: 1 ص 407، الشرح الكبير: 2 ص 135 ومابعدها.(4/42)
وقال الحنابلة (1) : إذا كرر الحالف اليمين على شيء واحد، مثل قوله: (والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً) ، فحنث، فليس عليه إلا كفارة واحدة.
وعن الشافعي قولان (2) : أحدهما كالحنابلة، والآخر كالمالكية، والراجح فيما يظهر أنهم كالمالكية.
وسبب الاختلاف: هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد، قال: لكل يمين كفارة إذا كرر. ومن قال: اختلافها بالجنس، قال: في هذه المسألة يمين واحدة.
المبحث الثالث ــ شروط صحة اليمين:
اشترط الحنفية شروطاً لصحة اليمين بالله تعالى، سواء بالنسبة للحالف والمحلوف عليه وركن اليمين (3) .
1 ً - شروط الحالف: يشترط في الحالف شرطان:
أولهما - أن يكون الحالف عاقلاً بالغاً قاصداً إلى اليمين: فلا يصح يمين الصبي والمجنون والنائم.
ثانيهما - أن يكون مسلماً: فلا يصح يمين الكافر؛ لأن كفارة اليمين عبادة، والكافر ليس من أهلها. والدليل على أن الكفارة عبادة: أنها لاتتأدى بدون النية، وكذا لا تسقط بأداء الغير عن الحانث، وهذان حكمان مختصان بالعبادات، إذ غير العبادة لاتشترط فيه النية، ويسقط بأداء الغير مثل الديون ورد المغصوب ونحوها، والكافر ليس من أهل العبادات، فلاتجب بيمينه الكفارة.
__________
(1) المغني: 8 ص 705.
(2) المهذب: 2 ص 131، مغني المحتاج: 4 ص 323.
(3) البدائع: 3 ص 10 - 15، فتح القدير: 4 ص 3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 2 ص 48.(4/43)
وقال غير الحنفية (1) : تصح اليمين من الكافر، وتلزمه الكفارة سواء حنث في أثناء كفره، أو بعد إسلامه، بدليل أن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلم بالوفاء بنذره (2) ، ولأن الكافر من أهل اليمين بالله تعالى، بدليل قوله تعالى: {فيقسمان بالله} [المائدة:106/5] .
وأما الحرية فليست بشرط، فتصح يمين العبد، وكفارته بالصوم حال رقه، وكذا الطواعية والاختيار ليس شرطاً عند الحنفية والمالكية، فتصح اليمين من المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما.
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره؛ لأنها من التصرفات التي لاتحتمل الفسخ، فلا يؤثر الإكراه في اليمين كالطلاق والنذر ونحوهما.
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون الحالف مختاراً، فلا تنعقد يمين المكره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على مقهور يمين» (3) ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح ككلمة الكفر، كما سبق بيانه في أنواع اليمين.
__________
(1) مغني المحتاج: 4 ص 320، المغني: 8 ص 676، الميزان للشعراني: 2 ص 130.
(2) رواه أصحاب الكتب الستة عن ابن عمر أن عمر قال: «يارسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام؟ قال: أوف بنذرك» وزاد البخاري في رواية: «فاعتكف ليلة» الفعل بصيغة الأمر (انظر جامع الأصول: 12 ص 185، الإلمام: ص 312، سبل السلام: 4 ص 115، نيل الأوطار: 8 ص 249، نصب الراية: 3 ص300) .
(3) حديث ضعيف، وقد سبق تخريجه.(4/44)
2 ً - شرط المحلوف عليه: يشترط في المحلوف عليه عند أبي حنيفة ومحمد وزفر شرط واحد: وهو أن يكون متصور الوجود (1) حقيقة عند الحلف، وفي حال بقاء اليمين. وهو شرط انعقاد اليمين على أمر في المستقبل، وشرط لبقاء اليمين أيضاً، فلا ينعقد اليمين على ماهو مستحيل الوجود حقيقة، ولايبقى إذا صار بحال يستحيل وجوده.
وقال أبو يوسف: ليس هذا بشرط لانعقاد اليمين ولا لبقائها، وإنما الشرط فقط أن تكون اليمين على أمر في المستقبل.
واتفق أبو حنيفة وصاحباه على أن كون اليمين متصور الوجود عادة ليس بشرط لانعقاد اليمين، وقال زفر: هو شرط، لاتنعقد اليمين بدونه.
ويتوضح الخلاف بالأمثلة التطبيقية على كل من الحالتين: المستحيل حقيقة، والمستحيل عادة، وذكر بعضها في بحث أنواع اليمين.
أما أمثلة النوع الأول وهو المستحيل حقيقة فهي: لو قال إنسان: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز) فتبين أنه لا ماء فيه، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، لعدم تحقق شرط انعقاد اليمين: وهو تصور شرب الماء الذي حلف عليه.
وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين لوجود الشرط بحسب رأيه: وهو مجرد إضافة اليمين إلى المستقبل.
فإن كان الحالف يعلم أنه لا ماء في الكوز، فهو من المستحيل عادة: تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة، وعند زفر: لاتنعقد. ويجري هذا الخلاف فيما لو وقَّت اليمين فقال: (والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم) .
وإذا قال الحالف: (والله لأقتلن فلاناً) : مع أن فلاناً هذا ميت، وهو لايعلم بموته، لاتنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد وزفر، وعند أبي يوسف: تنعقد.
__________
(1) أي متصور البر والوفاء بمقتضى ما حلف عليه.(4/45)
ويجري هذا الخلاف فيما إذا قال شخص: (والله لأقضين دين فلان غداً) فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين قبل مجيء الغد، لايحنث في يمينه عند الطرفين وزفر والحنابلة. وعند أبي يوسف والشافعي: يحنث.
وكذا إذا قال الزوج في اليمين بالطلاق: (إن لم أشرب هذا الماء اليوم فامرأتي طالق) ثم أهريق الماء قبل انقضاء اليوم: لايحنث عند الطرفين وزفر، وعند أبي يوسف: يحنث.
وأما أمثلة النوع الثاني: وهو المستحيل عادة فهي: لو قال شخص: (والله لأمسن السماء) أو (لأصعدن السماء) أو (لأحولن هذا الحجر ذهباً) وحكمه: أنه تنعقد اليمين عند أئمة الحنفية الثلاثة. وعند زفر: لاتنعقد.
الأدلة: استدل أبو يوسف على المستحيل حقيقة فقال: إن الحالف شرَط لحنثه عدم تحقق فعل من الأفعال: وهو القتل أو شرب الماء مثلاً، فإذا تحقق الشرط حنث، كما في المستحيل عادة.
واستدل أبو حنيفة ومحمد وزفر: بأن اليمين تنعقد بقصد البر والوفاء بما حلف عليه، والكفارة تجب لستر الذنب الذي حصل بعدم البر وهو الحنث، فإذا لم يكن البر متصور الوجود حقيقة لايتصور الحنث، فلم يكن في انعقاد اليمين فائدة، فلاتنعقد. وهذا بخلاف المستحيل عادة، فإن البر متصور الوجود في نفسه حقيقة بأن يقدر الله تعالى الحالف على صعود السماء مثلاً، كما أقدر الملائكة والأنبياء عليهم السلام، إلا أنه عاجز عن ذلك عادة، فيحنث للعجز عن تحقيق مقتضى يمينه في العادة. واستدل زفر على عدم انعقاد اليمين في المستحيل عادة بقوله: المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة، وبما أنه لاتنعقد اليمين في المستحيل حقيقة، فلا تنعقد في المستحيل عادة.
واستدل جمهور الحنفية على انعقاد اليمين في المستحيل عادة: بأن الذي ينبغي مراعاته هو حقيقة الشيء والعادة فيه، فإذا قررنا انعقاد اليمين فقد اعتبرنا الحقيقة والعادة معاً، وهو أولى من النظر إلى العادة فقط، أو إهدار الحقيقة كما يرى زفر.(4/46)
والخلاصة: إن زفر سوّى في الحكم بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة وهو عدم انعقاد اليمين، وأن أبا يوسف سوَّى في الحكم بين النوعين وهو انعقاد اليمين، وأن أبا حنيفة ومحمد فرقا بين المستحيل حقيقة والمستحيل عادة، فتنعقد اليمين في النوع الثاني دون الأول.
ووافق بقية أئمة المذاهب رأي جمهور الحنفية في المستحيل عادة. وأما في المستحيل عقلاً فقد اتفق الشافعي والقاضي من الحنابلة مع أبي يوسف في الرأي. كما اتفق مالك وأبو الخطاب من الحنابلة مع أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله جميعاً، وسبق ذكر ذلك كله.
3 ً ــ شرط ركن اليمين: ركن اليمين بالله تعالى: هو اللفظ الذي يستعمل في اليمين بالله تعالى، وهو مركب من المقسم عليه والمقسم به. وقد تكلمت عن المقسم به تحت عنوان: صيغة اليمين.
الاستثناء في اليمين: اشترط جميع الفقهاء (1) في ركن اليمين نفسه:
__________
(1) راجع المغني لابن قدامة الحنبلي: 8 ص 715 ومابعدها، البدائع: 3 ص 15، مختصر الطحاوي: ص 308، بداية المجتهد: 1 ص 399، القوانين الفقهية: ص 166 ومابعدها.....(4/47)
أن يخلو عن الاستثناء (1) ، مثل: إن شاء الله تعالى، أو إلا أن يشاء الله، أو ماشاء الله، أو إلا أن يبدو لي غير هذا، أو إلا أن أرى غير هذا، أو إلا أن أحب غير هذا، أو قال: إن أعانني الله، أو يسّر الله، أو قال: بمعونة الله، أو بتيسيره ونحو ذلك.
فإن قال الحالف شيئاً مما ذكر متصلاً مع لفظ اليمين، لم تنعقد اليمين أي أن للاستثناء بالمشيئة تأثيراً في اليمين بالاتفاق. وإن فصل الاستثناء عن لفظ اليمين انعقدت. ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» (2) وروى أبو داود: «من حلف فاستثنى: فإن شاء رجع، وإن شاء ترك» (3) فقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من حلف فاستثنى» يقضي كونه عَقِبه لا منفصلاً عنه.
وذكر المالكية شروطاً ثلاثة لتعطيل اليمين بالاستثناء بالمشيئة أو بإلا وهي ما يأتي (4) :
أحدها ـ النطق باللسان، ولا يكفيه مجرد النية إلا في الاستثناء بمشيئة الله.
الثاني ـ اتصاله باليمين من غير فصل إلا بنحو سعال أو عطاس أو تثاؤب وشبه ذلك. وقال الشافعي: لا بأس بالسكتة الخفيفة للتذكر أو للتنفس أو انقطاع الصوت.
__________
(1) إذا قال الحالف مع يمينه: (إن شاء الله) ، فهذا يسمى استثناء، روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى» .
(2) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، وعند النسائي: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى» (راجع جامع الأصول: 12ص 298، نصب الراية: 3ص302) .
(3) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر، وفي لفظ: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فقد استثنى» وفي رواية الترمذي: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث» رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك ابن مسعود (المرجعان السابقان، مجمع الزوائد: 4 ص 182، الإلمام: ص 427، نيل الأوطار: 8 ص 219، سبل السلام: 4 ص 103) .
(4) القوانين الفقهية: ص 167، 171، الشرح الكبير: 2 ص 129، 161.(4/48)
الثالث ـ قصد حل اليمين: فلو قصد تأكيد اليمين أو التفويض إلى الله أو التأدب والتبرك، لم ينفعه الاستثناء.
أما النذر فلا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة.
ووافقهم بقية الفقهاء في الشرطين الأولين (1) . وإن قال: إلا أن يشاء فلان، فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت، انحلت اليمين، لأنه لم يوجد الشرط. وإن عرفت مشيئته فشاء، لزمه الفعل.
المبحث الرابع ـ أحوال اليمين التي يحلف عليها فعلاً:
يحلف الإنسان عادة على الأحوال المحيطة به من أكل وشرب ودخول وخروج وجلوس وركوب وسكنى ولبس وكلام وضرب ونحوها، قاصداً حث نفسه أو غيره على فعل الشيء أو المنع منه، فإن خالف مقتضى يمينه حنث ووجبت عليه الكفارة. لهذا كان مناسباً أن يعنون لهذا المبحث بأحوال اليمين التي يكون الكلام عنها في أحد عشر مطلباً بحسب ما هو الأغلب وقوعه بين الناس.
وقبل البدء بالكلام عن هذه المطالب أحقق هذه المسائل المهمة التي اختلف فيها الفقهاء، والتي يتوقف إصدار الحكم في أهم موضوعات هذه المطالب على معرفتها وهي:
هل الأيمان مبنية على العرف أو النية أوصيغة اللفظ؟
__________
(1) المغني: 8 ص 716 وما بعدها.(4/49)
قال الحنفية: الأيمان مبنية على العرف والعادة لا على المقاصد والنيات، لأن غرض الحالف: هو المعهود المتعارف عنده، فيتقيد بغرضه. هذا هو الغالب عندهم، وقد تبنى الأيمان عندهم على الألفاظ لا على الأغراض (1) .
وقال الشافعية: الأيمان مبنية على الحقيقة اللغوية أي بحسب صيغة اللفظ، لأن الحقيقة أحق بالإرادة والقصد، إلا أن ينوي شيئاً فيعمل بنيته، مثاله: لو حلف إنسان ألا يأكل رؤوساً، فأكل رؤوس حيتان (مفرده: حوت) فمن راعى العرف قال: لا يحنث، ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. وكذلك يحنث من حلف لا يأكل لحماً، فأكل شحماً مراعاة لدلالة اللفظ، وقال الآخرون: لا يحنث.
والخلاصة: أن الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل العام، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد......
وقال مالك في المشهور من مذهبه: المعتبر في الأيمان التي لا يقضى (2) على حالفها بموجبها وكذلك النذور هو النية (أي نية الحالف في غير الدعاوى ففيها تعتبر نية المستحلف كما بان سابقاً) ، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفط أي ماقصد الناس من عرف أيمانهم، فإن عدم فدلالة اللغة، وقيل: لايراعى إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط، وقيل: يراعى النية وبساط الحال أي السبب الحامل على اليمين (3) ، أو المقام وقرينة السياق في اصطلاح علم المعاني. ولاينفع في النذر الاستثناء بالمشيئة.
وأما الأيمان التي يقضى بها على صاحبها: ففي مجال الاستفتاء تراعى هذه الضوابط على هذا الترتيب، وإن كان مما يقضى بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يؤيد ما اد عاه من النية قرينة الحال أو العرف.
__________
(1) قال ابن عابدين في رسائله (1 ص 304) : كل من هاتين القاعدتين مقيدة بالأخرى، فقولهم: (الأيمان مبنية على العرف) معناه العرف المستفاد من اللفظ لا الخارج عن اللفظ اللازم له. وقولهم: (الأيمان مبنية على الألفاظ لا الأغراض) معناه الألفاظ العرفية. وإذا تعارض الوضع الأصلي للكلمة والوضع العرفي ترجح الوضع العرفي.
(2) أي التي لايصدر فيها حكم قضائي، وإنما يترك شأنها للحالف بينه وبين الله تعالى، وذلك في الأمور التي تكون علاقتها بنفس الإنسان أو بالله سبحانه. أما الأمور التي تتعلق بالناس فهذه مما يقضى فيها على الحالف.
(3) حدود ابن عرفة: ص 137.(4/50)
قال الشاطبي: من مذهب مالك أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير مايقتضيه العرف. كمن حلف لايدخل بيتاً: لايحنث بدخول المسجد، لأنه لا يسمى بيتاً في العرف (1) .
وقال الحنابلة: يرجع في الأيمان إلى النية أي نية الحالف، فإن نوى بيمينه مايحتمله اللفظ انصرفت يمينه إليه، سواء أكان مانواه موافقاً لظاهر اللفظ، أم مخالفاً له (2) لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ مانوى» (3) فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها أو أثارها لدلالته على النية. فإن حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، فإن كان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها، اختصت يمينه بها. وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقضي جفاءها ولا أثر للدار فيه، تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار.
هذا.. وقد عرفنا أنه ينقسم هذا المبحث إلى أحد عشر مطلباً أذكرها فيما يأتي:
المطلب الأول ــ الحلف على الدخول:
أبدأ ببيان الأفعال أو الأحوال التي يحلف عليها فعلاً، وأولها الدخول لمكان باعتباره من أهم الأسباب التي تثير المشكلات، وتستدعي الحلول بعد انعقاد الأيمان المحلوفة لمنع المرء نفسه أو غيره من الدخول إلى مكان من الأمكنة.
__________
(1) الاعتصام: 141/2.
(2) انظر هذا المبحث في تبيين الحقائق: 3ص116 ومابعدها، البدائع: 3 ص38، الفتاوى الهندية: 2ص63، الدر المختار: 3 ص 78، رسائل ابن عابدين: 1 ص 292، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1 ص 82، بداية المجتهد: 1 ص 398، 402 ومابعدها. الشرح الكبير للدردير: 2 ص 135، 139 ومابعدها، مغني المحتاج: 4 ص 335 ومابعدها، المغني: 8 ص 763 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 161 ومابعدها، 171.
(3) رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث متواتر عن ثلاثين صحابياً (شرح مسلم: 13 ص 53، الأربعين النووية: ص 16، النظم المتناثر من الحديث المتواتر للسيد جعفر الكتاني: ص 17) .(4/51)
معنى الدخول:
الدخول: هو الانتقال من خارج المكان إلى داخله. فإن حلف إنسان لايدخل هذه الدار وهو فيها، فمكث بعد يمينه، لايحنث استحساناً، والقياس أن يحنث وهو قول غير الحنفية، ووجه ذلك أن المداومة على الفعل هي بحكم إنشاء الفعل. ووجه الاستحسان: أن معنى الدخول المذكور وهو (الانتقال من خارج الشيء إلى داخله) لايتحقق؛ لأن الدوام هو المكث، والمكث استقرار في الشيء فيستحيل أن يكون انتقالاً.
ولو حلف ألا يدخل داراً أو بيتاً أو مسجداً أو حماماً، فعلى أي وجه دخل: من الباب أو غيره، حنث لوجود الدخول، فإن نزل على سطحها، حنث عند الجمهور غير الشافعية؛ لأن سطح الدار منها، إذ الدار اسم لما تدور عليه الدائرة، والدائرة أحاطت بالسطح. وكذا لو أقام على حائط من حيطانها؛ لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة، فكان كسطحها، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة في أن سطح الدار منها، وحكمه كحكمها.
وقال الشافعية: لايحنث بصعود سطح من خارج الدار، لأنه لايسمى داخل الدار لغة ولا عرفاً، لأنه حاجز يقي الدار الحر، والبرد، فهو كحيطانها. ولو قام على ظلة للدار شارعة (1) أو كنيف شارع (2) : فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث، لأنه ينسب إليها، فيكون من جملة الدار وإلا فلا يحنث.
وإن قام على أسكفَّة (3) الباب: فإن كان الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج، وإن بقيت من داخل الدار حنث، لأنه داخل؛ لأن الباب يغلق على مافي داخل الدار، لا على ما في الخارج.
ولو دخل دهليز (4) الدار حنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأنه من داخل الدار. ولو دخل ظلة باب الدار لا يحنث، لأنها اسم للخارج.
وإن أدخل الحالف إحدى رجليه في الدار، ولم يدخل الأخرى لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه لم يوجد الدخول مطلقاً، وهو الانتقال بكله، وإنما دخل بعضه، وكذا إذا أدخل رأسه دون قدميه (5) .
ولو حلف لا يدخل داراً، فدخل داراً بعد انهدامها ولا بناء عليها لا يحنث.
__________
(1) الظلة: كل ما أظلك من بناء أو جبل أو سحاب أي سترك وألقى ظله عليك من الحر والبرد. وقول الفقهاء: ظلة الدار يريدون بها السدة التي فوق باب الدار، أي الساباط الذي يكون على باب الدار، ولايكون فوقه بناء. وكذلك إذا كان فوقه بناء إلا أن مفتحه إلى الطريق، وهو المراد بقوله: ظلة شارعة أي سقيفة تابعة للدار، ولكنها فوق طريق يسير فيه الناس. والشارعة مؤنث الشارع. وإنما لم يحنث في الحالة الأولى: فلأنه لاينطلق عليه اسم البيت ولعدم البيتوتة فيه. وفي الحالة الثانية: لايحنث لأنه ليس من جملة البيت المنسوب إلى شخص.
(2) الكنيف: هو الكنَّة التي تشرع فوق باب الدار، أي السقفية.
(3) الأسْكفَّة - بضم الألف والكاف وتشديد الفاء: وهي خشبة الباب التي يوطأ عليها.
(4) الدهليز - بكسر الدال: ما بين الباب والدار.
(5) انظر ما ذكر في البدائع: 3 ص 36، المبسوط: 8 ص 168، الفتاوى الهندية: 2 ص 64، تبيين الحقائق: 3 ص 118، فتح القدير: 4 ص 29، 34، الدر المختار: 3 ص 80، وانظر ما ذكر من مذاهب غير الحنفية في كتاب المغني:8 ص 772، 775، 778، مغني المحتاج: 4 ص 332، المهذب: 2 ص 132، القوانين الفقهية: ص 162، الشرح الكبير: 154/2.(4/52)
ولو عين المحلوف عليه، فقال: (والله لا أدخل هذه الدار) فذهب بناؤها بعد يمينه، ثم دخلها، يحنث.
والفرق بين الصورتين: هو أنه إذا ذكر الحالف لفظ الدار منكَّراً، فإن النكرة تنصرف إلى المتعارف، وهي الدار المبنية، فما لم يوجد البناء وهو وصف الدار لا يحنث، وأما إذا قال: (هذه الدار) فهو إشارة إلى الشيء المعين الحاضر، فيراعى ذات المعين، لا صفته؛ لأن الوصف للتعريف، والإشارة كافية للتعريف، وذات الدار قائمة بعد الانهدام؛ لأن الدار في اللغة اسم للعَرْصة يقال: دار عامرة ودار غير عامرة، وقد شهدت أشعار العرب بذلك، والعرصة قائمة بعد انهدام الدار.(4/53)
ولو أعيد البناء فدخلها يحنث سواء ذكر الدار منكراً أو معيناً (1) .
وقال الشافعية والمالكية: إن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت، وصارت ساحة، أو جعلت حانوتاً أو بستاناً أومسجداً أو حماماً، فدخلها، لم يحنث، لأنه زال عنها اسم الدار. ثم إن أعيدت بغير تلك الآلة أي بأدوات بناء جديدة من حجارة واسمنت ونحوها لم يحنث بدخولها، لأنها غير تلك الدار. وإن أعيدت بآلتها الأولى ففيه وجهان: أحدهما وهو الأصح: يحنث، والآخر: لا يحنث (2) .
الحلف على عدم دخول مسجد: لو قال شخص: (لا أدخل هذا المسجد) فهدم فصار صحراء ثم دخله، فإنه يحنث لأنه مسجد، وإن لم يكن مبنياً. وإذا دخل سطح المسجد يحنث، لأنه مسجد.
الحلف على عدم دخول بيت: ولو حلف: لا يدخل بيتاً أو هذا البيت، فدخله بعدما انهدم ولابناء فيه، لا يحنث؛ لأن البيت اسم لما يبات فيه، ولا يبات إلا في البناء، وكذلك لا يطلق اسم البيت إلا على المبنى المسقف.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 37، الدر المختار: 3 ص 81، فتح القدير: 4 ص 30-32 قال الشاعر:
الدار دار وإن زالت حوائطها والبيت ليس ببيت بعد تهديم
(2) المهذب: 2 ص 132، مغني المحتاج: 4 ص 332، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 158.(4/54)
الحلف على عدم دخول الفسطاط: لو حلف: (لا يدخل هذا الفسطاط) وهو مضروب في مكان، فقلع وضرب في مكان آخر، فدخله، يحنث؛ لأن اليمين يقع على عين الشيء، والعين باقية لا تتبدل بنقلها من مكان إلى مكان.
عدم الجلوس إلى الحائط أو الأسطوانة: إذا حلف: (لا يجلس إلى هذا الحائط، أو إلى هذه الأسطوانة) فهدما، ثم بنيا بأنقاضهما، فجلس إليه: لا يحنث؛ لأن الشيء الجديد غير القديم، فإن الحائط إذا هدم زال اسمه عنه، وكذا الأسطوانة.
الحلف على القلم والمقص ونحوهما: إذا حلف: (لا يكتب بهذا القلم) فكسر القلم، بحيث لم تبق صورته، ثم براه، فكتب به، لم يحنث، لأنه إذا كسر، فقد زال عنه اسم القلم، فبطلت اليمين.
وكذلك إذا حلف على مقص أو سكين أو سيف، فكسر، ثم أعيد ثانية: لا يحنث؛ لأن اسم الشيء قد زال بالكسر.
ولو نزع الحالف مسمار المقص ونصاب السكين وجعل مكانه مسماراً آخر، أو نصاباً آخر: يحنث؛ لأن اسم الشيء لم يزل عنه، وإنما تغير وصف التركيب.
الحلف على عدم دخول الدار ثم جعلها شيئاً آخر: لو حلف: (لا يدخل هذه الدار) فجعلها بستاناً أو حماماً أو مسجداً: لا يحنث، لأنها صارت شيئاً آخر من حيث الانتفاع بها والغرض من استعمالها (1) .
__________
(1) المبسوط: 8 ص 171، البدائع، المرجع السابق.(4/55)
وإن حلف: (لا يدخل بيتاَ) فدخل مسجداً أو بِيعة أو كنيسة أو بيت نار (1) ، أو دخل الكعبة، أو حماماً أو دهليزاً وظلة باب دار: لم يحنث بالاتفاق؛ لأن البيت ما أعدَّ للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها ولأن هذه الأشياء لا تسمى بيتاً في العرف والعادة، ومن المعلوم عند الحنفية أن الأيمان مبنية على العرف. وكذلك لا يحنث إن دخل صُفَّة (2) في عرفنا الحاضر؛ لأن الصُفَّة لا تسمى بيتاً في العرف والعادة (3) .
وهذا هو الحكم المقرر أيضاً عند الشافعية (4) ؛ لأن هذه الأشياء لا تدخل في إطلاق اسم البيت، ولأن البيت اسم لما جعل للإيواء والسكنى، وهذه الأشياء لم تجعل لذلك، ولا تسمى بيتاً عرفاً. ويحنث عندهم بدخول أو سكنى كل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خيمة أو بيت شعر أو جلد، لأن اسم البيت يقع على ذلك كله حقيقة في اللغة، سواء أكان الحالف حضرياً أم بدوياً. وخالفهم المالكية (5) ، فقالوا: إن حلف ألا يدخل على فلان بيتاً، حنث إن دخل عليه في الحمام لا في المسجد.
الحلف على عدم دخول باب الدار: لو حلف: (لا يدخل من باب هذه الدار) ، فدخلها من غير الباب، لم يحنث بالاتفاق، لعدم الشرط وهو الدخول من الباب. ولو جُعل للدار باب آخر، فدخل منه يحنث؛ لأن الحلف على باب منسوب إليها، فيستوي القديم والحادث إلا إن عين ذلك الباب في حلفه، ولو نواه ولم يعينه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأن لفظه يحتمله، ولا يدين في القضاء، لأنه خلاف الظاهر، حيث أراد بالمطلق المقيد.
__________
(1) البيعة بكسر الباء، معبد النصارى، والكنيسة: معبد اليهود، وبيت النار: معبد المجوس.
(2) الصفَّة: موضع مظلل وهو بيت صيفي يكون مسقوفاً بجريد النخل ونحوه. وصفة المسجد: مقعد بالقرب منه مظلل.
(3) المسبوط، المرجع السابق: ص 169، الفتاوى الهندية: 2 ص 63، البدائع، المرجع السابق: ص 38، فتح القدير: 4 ص 29، 32، تبيين الحقائق: 3 ص 117، الدر المختار: 3 ص 80.
(4) المهذب: 2 ص 132، مغني المحتاج: 4 ص 332، 334.
(5) القوانين الفقهية: ص 163.(4/56)
ولو حلف: (لا يدخل من باب الدار) : فمن أي باب دخل حنث إلا إذا أراد به الباب المعروف، فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء (1) .
الحلف على عدم دخول دار فلان: وإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً بين فلان وبين آخر، فإن كان فلان ساكناً فيها بالإجارة حنث، وإذا كان مالكاً بعضها حنث من باب أولى. وإن لم يكن ساكناً فيها لا يحنث، لأن الدار مضافة إلى الشخصين إضافة ملك، وكل الدار ليست مضافة إلى أحدهما، لأن بعض الدار لا يسمى داراً، وحينئذ لا يقال: إن الدار لفلان.
وهذا يفترق عما إذا حلف لا يزرع أرض فلان، فزرع أرضاً بين فلان وشخص آخر، فإنه يحنث، لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضا، وبعض الدار لا يسمى داراً كما ذكرت.
وكذلك قال المالكية والشافعية في الأظهر (2) : من حلف لا يدخل على زيد، فدخل بيتاً فيه زيد وغيره حنث مطلقاً، لوجود صورة الدخول عليه. لكن لو حلف لا يسلم على فلان، فسلَّم على قوم هو فيهم واستثناه، لا يحنث، وإن أطلق حنث في الأظهر، كالدخول.
الحلف على عدم دخول بيت فلان: لو حلف شخص لا يدخل بيت فلان، ولا نية له، فدخل صحن داره، وفلان ساكن فيها لا يحنث حتى يدخل البيت؛ لأن البيت اسم لموضع يبات فيه عادة، ولا يبات في صحن الدار عادة، فإن نواه يصدق، لأنه شدد على نفسه.
الحلف على عدم دخول الدار إلا مجتازاً: لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازاً أوعابر سبيل: فإن دخل وهو لا يريد الجلوس، لا يحنث، لأنه عقد يمينه على كل دخول، واستثنى دخولاً بصفة الاجتياز، وقد دخل على الصفة المستثناة.
فإن دخل يعود مريضاً، ومن رأيه الجلوس عنده، يحنث، لأنه دخل لا على الصفة المستثناة.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 38، فتح القدير، المرجع السابق: ص 34، المغني: 773/8.
(2) مغني المحتاج: 334/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 145/2 ومابعدها.(4/57)
وإن دخل لايريد الجلوس، ثم بدا له بعد ما دخل فجلس، لا يحنث؛ لأنه لم يحنث بدخوله، والبقاء على الدخول ليس بدخول. وإن نوى بقوله: (لا يدخلها إلا مجتازاً) النزول فيها والدوام: لا يحنث بالجلوس، لأنه يقول: دخلت عابر سبيل: بمعنى أنه لم يدم على الدخول ولم يستقر (1) .
الحلف بالدخول على فلان: لو حلف إنسان لا يدخل على فلان، فدخل عليه في بيته: فإن كان يقصده بالدخول حنث، وإن لم يقصده لا يحنث، وكذلك إذا دخل عليه في بيت رجل آخر، ولم يقصده بالدخول، لا يحنث. وإنما اعتبر القصد حتى يصير داخلاً عليه؛ لأن الإنسان إنما يحلف ألا يدخل على غيره استخفافاً به وتركاً لإكرامه عادة، وهذا لا يكون إلا مع القصد.
وذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا، فقال في رجل قال: (والله لا أدخل على فلان بيتاً) فدخل بيتاً على قوم، وفيهم فلان، ولم يعلم به الحالف، فإنه حانث بدخوله، فلم يعتبر القصد للدخول على فلان.
ودليله أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان، وقد وجد الشرط، والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث، كمن حلف لا يكلم زيداً، فكلمه وهو لا يعرف أنه زيد. ولكن ظاهر المذهب هو الرأي الأول.
ولو علم الحالف أن فلاناً في القوم، فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه: لا يحنث فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلاً عليه، ولا يصدق قضاء؛ لأن الظاهر دخوله على الجماعة وما في اعتقاده لا يعرفه القاضي.
فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار: لم يحنث لأن الدخول يقع على الدخول المعتاد، وهو الذي يدخل الناس فيه بعضهم على بعض، ولا يكون هذا إلا في البيوت.
__________
(1) البدائع: ص 39.(4/58)
فإن دخل في فسطاط (1) أو خيمة أو بيت شعر: لم يحنث إلا أن يكون المحلوف عليه من أهل البادية، لأنهم يسمون ذلك بيتاً، والتعويل في شأنه على العرف والعادة.
ولو دخل عليه في داره، وفلان في بيت من الدار: لم يحنث، لأنه ليس بدخول عليه. وإن كان في صحن الدار، يحنث، لأنه يكون داخلاً عليه إذا شاهده.
وإن دخل عليه في المسجد أو الكعبة أو الحمام، لا يحنث لأن المقصود بهذه اليمين الامتناع من الدخول في المواضع التي يُكرَّم الناس بالدخول عليهم فيها، وهذا لا يوجد في هذه المواطن.
ولو دخل الحالف داراً ليس فيها فلان، فدخل فلان تلك الدار: لا يحنث، لأنه ما دخل على فلان، بل فلان دخل عليه فلا يحنث (2) .
وذكر المالكية (3) : أن من حلف ألا يدخل دار فلان، فدخل داراً مكتراة له، حنث عندهم وعند الحنفية والحنابلة إن لم ينو دار الملك لأن الدار تضاف إلى ساكنها. ومن حلف ألا يدخل دار فلان، فانتقلت عن ملكه، لم يحنث بدخولها. وإن قال: (هذه الدار) حنث. وقال الشافعية: لا يحنث إلا بدخول دار يملكها؛ لأن الإضافة إلى المالك.
واتفق الفقهاء (4) على أن من حلف لايدخل داراً، فأكره على دخولها، ولم يمكنه الامتناع، لم يحنث؛ لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه.
المطلب الثاني ـ الحلف على الخروج:
الخروج مقابل للدخول وهو: الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه. فلا يكون المكث بعد الخروج خروجاً، كما لا يكون المكث بعد الدخول دخولاً، والخروج كما يكون من البلدان والدور والمنازل والبيوت، يكون من الأخبية والفساطيط والخيم والسفن لوجود تعريف الخروج، وذلك كالدخول.
والخروج من الدور المسكونة: أن يخرج الحالف بنفسه ومتاعه وعياله، كما إذا حلف لا يسكن فيها.
والخروج من القرى والبلدان: أن يخرج الحالف ببدنة خاصة.
__________
(1) الفسطاط: بيت من شعر.
(2) انظر البدائع: 3 ص 41.
(3) القوانين الفقهية: ص 162، المغني: 773/8، الشرح الكبير: 154/2.
(4) المغني: 771/8.(4/59)
وهذا مبني عل العرف، فإن من خرج من الدار، وأهله ومتاعه فيها لا يعد خارجاً من الدار، ومن خرج من البلد يعد خارجاً منها، وإن كان أهله ومتاعه فيها (1) . وهذا هو مذهب الحنابلة أيضاً (2) ، فالحلف على الخروج يقتضي الخروج بنفسه وأهله، كما لو حلف لا يسكنها. أما من حلف على الخروج من هذه البلدة، فتتناول يمينه عند الحنابلة الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها صاحبها عادة في اليوم مرات، فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، أما الخروج من البلد فهو بخلاف ذلك.
وقال الشافعية: يتحقق معنى الخروج بأن يخرج الحالف بنفسه بنية الانتقال، لأنه المحلوف عليه، ولا يضر بقاء أهله ومتاعه (3) .
ويترتب على مذهب الحنفية ما يأتي (4) :
الحلف على الخروج من البيت: لو قال رجل لامرأته: (إن خرجت من البيت فأنت طالق) فخرجت من البيت إلى صحن الدار، حنث، لأنه نوى ما يحتمله لفظه: وهو الانتقال من داخل الشيء إلى خارجه، ولأن البيت غير الدار، لأن البيت اسم لمسقف واحد، والدار اسم لحدود يجمع البيوت والمنازل، وبناء عليه إذا قال: (إن دخل فلان بيتك) فدخل صحن دارها، دون بيتها، لم يحنث.
والحكم في هذين المثالين مبني على عرف الذين كانوا في عصر المجتهدين، أما في عرف المتأخرين، فإن اسم البيت يطلق على الدار والمنزل، فيحنث في الثاني دون الأول.
الحلف على الخروج من الدار: وإن قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من هذه الدار من أي باب كان، ومن أي موضع كان: من فوق حائط، أو سطح أو نقب: حنث، لوجود شرط الحنث، وهو الخروج من الدار.
__________
(1) البدائع: 3 ص 42، فتح القدير: 4 ص 38، الدر المختار: 3 ص 85، الفتاوى الهندية: 2 ص 69، 73.
(2) المغني: 8 ص 770.
(3) مغني المحتاج: 4 ص 329.
(4) انظر البدائع: 3 ص 42 ومابعدها، المبسوط: 8 ص 173 ومابعدها.(4/60)
الخروج من الباب: ولو قال: (إن خرجت من باب هذه الدار فأنت طالق) فخرجت من أي باب كان، سواء من الباب القديم أو من الباب الحادث بعد اليمين، حنث في يمينه لوجود شرط الحنث: وهو الخروج من باب الدار. فلو خرجت من السطح أو من فوق حائط أو نقب: لا يحنث، لأنه ليس بباب.
ولو عين باباً في يمينه فقال: (إن خرجت من هذا الباب) لا يحنث ما لم تخرج من الباب المعين. وإن خرجت من باب آخر، لا يحنث، لأنه قد يكون للتعيين فائدة أو غرض معين، فيعتبر ذلك.
الخروج لأمر معين: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا) فخرجت في ذلك الأمر مرة، ثم خرجت لأمر آخر: يحنث، لأنه حرم عليها جميع حالات الخروج إلا خروجاً مقيداً بصفة معينة، فإذا وجد منها الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد خروج آخر يحنث.
وإن عنى بيمينه الخروج مرة يصح. وتكون (إلا) بمعنى (حتى) مجازاً، كأنه قال: (إن خرجت من هذه الدار حتى تخرجي في أمر كذا) فإذا خرجت في ذلك الأمر يسقط اليمين، لتحقق الغاية من اليمين، ولكن هذا يثبت ديانة لا قضاء، لأنه مخالف لحقيقة اللفظ.
الخروج مع فلان: لو قال: (إن خرجت من الدار مع فلان فأنت طالق) فخرجت وحدها أو مع غير فلان، ثم خرج فلان ولحقها: لم يحنث، لأن حرف (مع) للمصاحبة والقران، فيقتضي مقارنتها في الخروج، ولم يوجد، لأن الدوام على الخروج ليس بخروج.
بعض الحالات المتعلقة بالخروج من الدار: لو قال: (إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق) فدخلت في صحن الدار أو في بيت علو أو كنيف شارع (1) إلى الطريق العام، فإنه لا يحنث، لأن هذا لا يسمى خروجاً من الدار.
هل الدوام على الشيء بحكم ابتداء الشيء؟ لو قال لها وهي خارجة من الدار: (إذا خرجت من الدار فأنت طالق) لا يحنث. وكذلك إذا كانت في الدار، فقال: (إن دخلت هذه الدار..إلخ) لا يحنث، ويقع اليمين على خروج ودخول مستأنف.
__________
(1) أي السقيفة الممتدة خارج البيت إلى الشارع.(4/61)
أما لو قال: (إن قمت أو قعدت أو لبست أو ركبت) وهي قائمة أو قاعدة أو لابسة أو راكبة، فدامت على ذلك ساعة، يحنث.
هذا هو مذهب الحنفية؛ لأن الخروج معناه الانتقال من الداخل إلى الخارج والدخول عكسه، وهذا مما لا دوام له، فلا يعتبر الدوام على الخروج خروجاً. أما الركوب ونظائره ففعل له دوام أي تتجدد أمثاله، فيكون له حكم الابتداء. ودليل التفرقة أنه يقال: ركبت أمس واليوم، ولبست أمس واليوم، ولا يقال: دخلت أمس واليوم إلا لدخول مبتدأ جديد (1) .
وزعم الحنفية أن مذهب الشافعي يعتبر الدوام على الدخول والخروج له حكم ابتداء الفعل، وهذا غير صحيح، فإن نصوص المذهب الشافعي صريحة في أنه لو حلف إنسان ألا يدخل الدار وهو فيها، أو لا يخرج منها، وهو خارج، فلا حنث في الصورتين؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل، والخروج عكسه، ولم يوجد المعنى في الاستدامة، فلهذا لا يسمى دخولاً ولا خروجاً. أما الدوام على اللبس والركوب والقيام والقعود فله حكم الابتداء، فلو استمر في هذه الأحوال حنث (2) كما لاحظنا عند الحنفية.
ومثل الركوب: الأكل والضرب: فلو قال لها وهي في الأكل والضرب: (إذا أكلت أو ضربت، فأنت طالق) فدامت على ذلك: يقع اليمين؛ لأن كل جزء من هذا الفعل يسمى أكلاًوضرباً.
ومثل الدخول والخروج: (الحيض والمرض) : فلو قال رجل لامرأته وهي حائض أو مريضة:
(إن حضت أو مرضت، فأنت طالق) فإن اليمين يقع على ما يستجد ويحدث من الحيض والمرض، كما هو عرف الناس.
ولو نوى ما يحدث من الحيض في هذه المدة أو يزاد من المرض: يصح، لأن الحيض ذو أجزاء، يحدث حالاً فحالاً، فتصح نيته.
__________
(1) البدائع: 3 ص 36.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 321.(4/62)
ولو قال: (إن حضت غدا ً) وهو لا يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على الحيض المستجد الحادث. وإن كان يعلم أنها حائض، فإن اليمين يقع على هذه الحيضة إذا دام الحيض منها إلى أن يطلع الفجر واستمر ثلاثة أيام في رأي الحنفية، لأنه لما علم أنها حائض وقد حلف، فقد أراد استمرار الحيض، وما لم يكن ثلاثة أيام لا يكون حيضاً.
الحلف على الخروج بدون إذن: قد يحلف الرجل بطلاق امرأته إذا لم يأذن لها بالخروج، بإحدى الصيغ الآتية:
1 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو برضاي) ونحوه.
2 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو حتى أرضى) .
3 - أن يقول: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أو إلا أن أرضى) .
وأبدأ بالحالة الأولى وهي:
1 - أن يقول: (إلا بإذني أو برضاي) : إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت إلا بإذني أو بأمري أو برضاي أو بعلمي) أو قال: (إن خرجت من هذه الدار بغير إذني، أو بغير أمري، أو بغير رضاي، أو بغير علمي) ففي هذه الحالات كلها يحنث إن خرجت بغير إذنه، ويشترط الإذن في كل مرة، حتى لو أذن لها مرة فخرجت، ثم عادت، ثم خرجت بغير إذنه مرة أخرى، حنث. وكذلك لو أذن لها مرة، فقبل أن تخرج نهاها عن الخروج، ثم خرجت بعدئذ يحنث. وإن وجد خروج بإذن فهو خروج مستثنى من يمينه، فلا يكون داخلاً تحت اليمين، فلا يحنث.
والسبب فيه أنه جعل كل خروج شرطاً لوقوع الطلاق، واستثنى خروجاً موصوفاً بصفة: وهو أن يكون الخروج مصحوباً بالإذن؛ لأن الباء في اللغة للإلصاق، مثل كتبت بالقلم أي أنه التصقت الكتابة بالقلم، فكل خروج لايكون بتلك الصفة، كان داخلاً في اليمين، وصار شرطاً للحنث. قال الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم:64/19] أي لا يوجد نزول إلا بهذه الصفة.(4/63)
ونظيره: ما لو قال لامرأته: (إن خرجت إلا بملاءة، أو بقناع أو إلا راكبة فأنت طالق) فإن وجد الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد لا على ذلك الوصف: يحنث؛ لأن المستثنى غير داخل في اليمين، وغير المستثنى داخل، فيحنث، لوجود الشرط.
فإن أراد بقوله: (إلا بإذني) مرة واحدة: تصح نيته، ويعمل بمقتضى نيته ديانة فيما بينه وبين الله عز وجل. أما قضاء فيعمل أيضاً بموجب النية عند أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وقيل: لا يعمل بنيته قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر؛ لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي تكرار الإذن في كل مرة كما تقدم، وهو الرأي الراجح الذي عليه الفتوى عند الحنفية.
أما وجه قول الطرفين: فهو أن تكرار الإذن لم يثبت بظاهر اللفظ، وإنما ثبت بإضمار الخروج، فإذا نوى مرة واحدة، فقد نوى ما يقتضيه ظاهر كلامه. والحقيقة أن ظاهر الكلام: هو تكرار الإذن. وأما إذا أريد باليمين الإذن مرة واحدة، فهذا مما يحتمله الكلام فقط، ولذا كان المعول عليه في الفتيا، هو رأي أبي يوسف، فيصدق الحالف في أنه نوى مرة واحدة ديانة لا قضاء، لأنه نوى التخفيف عن نفسه، فلا يصدق في القضاء.
والحيلة في هذه اليمين المتطلبة تكرار الإذن: أن يقول الزوج لامرأته: (أذنت لك الدهر كله) أو (أذنت لك أبداً) أو (كلما شئت الخروج فقد أذنت لك) فيثبت الإذن في كل مرة وجد فيها الخروج؛ لأن كلمة (كلما) توجب التعميم والتكرار. وكذلك لا يحنث إذا قال الزوج: (أذنت لك عشرة أيام) فخرجت مراراً في مدة العشرة.
ولو أذن الزوج لامرأته في قوله: (إلا بإذني) مرة واحدة، ثم نهاها عن الخروج بعد صدور الإذن الخاص يصح نهيه، حتى لو خرجت بعد ذلك بغير إذنه: يحنث في يمينه؛ لأنه صح رجوعه عن الإذن، واليمين باقية، فجعل كأنه لم يأذن.
أما لو أذن الزوج لامرأته إذناً عاماً: ثم نهاها عن الخروج بعدئذ نهياً عاماً عن جميع حالات الخروج، فهل يؤثر هذا النهي أو لا؟(4/64)
قال محمد: يعمل بموجب النهي، ويبطل إذنه الصادر منه بالخروج، حتى إنها لو خرجت بعدئذ بغير إذنه، يحنث، بدليل أنه لو أذن لها مرة، ثم نهاها يصح نهيه، فكذا إذا أذن لها في كل مرة، وجب العمل بنهيه، ويزول الإذن بالنهي.
وقال أبو يوسف: لا يؤثر نهيه في الإذن السابق ويظل ساري المفعول، لأن الإذن العام بالخروج يرفع اليمين، لأنه بالإذن ألغى شرط وقوع الطلاق: وهو الخروج بدون إذن، فإذا وجد النهي العام عن الخروج فلا يؤثر، لأنه لا يمين هناك. وهذا بخلاف الإذن الخاص بالخروج مرة واحدة، فإنه لم ترتفع اليمين، فجاء النهي عن الخروج واليمين باقية، فصح النهي (1) .
2 - أن يقول: (حتى آذن لك) : إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو آمر، أو أرضى أو أعلم) فيكفي الإذن مرة واحدة، وتسقط اليمين، حتى لو أذن لها مرة، فخرجت ثم عادت، ثم خرجت بغير إذن لا يحنث، وكذا إذا أذن لها مرة ثم نهاها قبل أن تخرج، ثم خرجت بعدئذ لا يحنث؛ لأن كلمة (حتى) تفيد الغاية، وهي بمعنى (إلى) وكلمة (إلى) لانتهاء الغاية، فينتهي اليمين بانتهاء ما بعد (حتى) فيصير وجود الإذن من الحالف غاية لمنع الخروج، فلا تبقى اليمين بعد وجود الغاية. فإذا حدث خروج بعدئذ، لا يحنث إذ لا يمين هناك؛ لأن اليمين سقطت بالإذن، فلا يعتبر النهي بعده. أما قبل الإذن فاليمين باقية فيحنث بالخروج.
__________
(1) المبسوط: 8 ص 173، البدائع: 3 ص 43 ومابعدها، فتح القدير: 4 ص 40، تبيين الحقائق: 3 ص 122، الدر المختار: 3 ص 89 ومابعدها.(4/65)
ولو نوى بقوله: (حتى آذن لك) حصول الإذن في كل مرة: يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى التشديد على نفسه (1) .
3 - أن يقول: (إلا أن آذن لك) : إذا قال رجل لامرأته: (أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك، أو آمر أو أعلم، أو أرضى) فهذا بمنزلة قوله: (حتى آذن) عند عامة العلماء. فلو أذن لها مرة واحدة، فخرجت، ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه لم يحنث، لأن (إلا أن) كلمة تفيد معنى الغاية، فتنتهي اليمين بها، كما إذا قال: (حتى آذن لك) .
والسبب في أن كلمة (إلا أن) تفيد معنى الغاية، مع أنها من حروف الاستثناء: هو أن صدر الكلام الذي قبل أداة الاستثناء ليس من جنس الإذن، حتى يستثنى الإذن منه، فيجعل مجازاً عن كلمة (حتى) لمناسبة بينهما: وهو أن حكم ما قبل الغاية مخالف لما بعدها، كما أن حكم ما قبل الاستثناء يخالف ما بعده.
وقال الفراء من علماء النحو: قول القائل: (إلا أن آذن لك) مثل قوله: (إلا بإذني) يتطلب تكرار الإذن في كل مرة من مرات الخروج، لأن المعنى (إلا خروجاً بإذني) ، إذ (أن) والفعل المضارع بعدها في تأويل المصدر، فصار تقدير الكلام: (إن خرجت من الدار إلا خروجاً إذني) وهذا كلام غيرمستقيم، فلزم تقدير الباء، فيصير (إلا خروجاً بإذني) وإسقاط الباء في اللفظ مع ثبوتها في التقدير أمر جائز في اللغة، كما روي عن رؤبة بن العجاج أنه قيل له: كيف أصبحت؟ فقال: (خير، عافاك الله) أي بخير. وكذا يحذفون الباء في القسم، فيقولون: (الله) مكان قولهم: (بالله) وإذا كان حذف الباء جائزاً قدرت في الكلام لضرورة تصحيحه، والدليل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/33] أي إلا بإذن لكم يتكرر بتكرار الدخول في كل مرة.
__________
(1) انظر المراجع السابقة.(4/66)
ورد الحنفية بأن تصحيح الكلام بجعل (إلا) بمعنى (حتى) و (إلى) أولى من تصحيح الكلام بالتقدير الذي قاله الفراء؛ لأن التصحيح بجعل كلمة قائمة مقام أخرى أولى من التصحيح بطريق الإصنمار والتقدير، لأن الأول تغيير بتصرف في الوصف، والإضمار إثبات أصل الكلام، ولا شك أن التصرف في الوصف بالتغيير والتبديل أولى من إثبات أصل الكلام. وأما قوله عز وجل: {إلا أن يؤذن لكم} [الأحزاب:53/33] فإنه اقتضى تكرار الإذن في كل مرة لابمقتضى اللفظ، بل بدليل آخر: وهو أن دخول دار الغير بغير إذنه حرام، ولأن الله تعالى قال؛ {إن ذلكم كان يؤذي النبي} [الأحزاب:53/33] ومعنى الأذى موجود في كل ساعة، فشرط الإذن في كل مرة (1) .
وقال غير الحنفية (2) : الحكم في أنواع الألفاظ الثلاثة السابقة واحد، وهو أنه متى خرجت بغير إذنه، طلقت وانحلت يمينه؛ لأن حرف (إن) لا يقتضي تكراراً، فإذا حنث مرة انحلت اليمين؛ لأنه علق الطلاق على شرط، وقد وجد فيقع الطلاق، كما لو لم تخرج بإذنه. لكن الحنابلة قالوا: لابد من تكرار الإذن، كما سيأتي بيانه.
تعليق الخروج بإذن فلان: لو قال الرجل لامرأته: (إن خرجت إلا بإذن فلان) فمات فلان قبل الإذن، بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: اليمين باقية، حتى لو خرجت بعدئذ يحنث. وهذا الخلاف مفرع على اختلافهم فيمن حلف (ليشربن الماء الذي في هذا الكوز، ولا ماء فيه) . فعند الطرفين: لا تنعقد اليمين؛ لأن تصور البر شرط لانعقاد اليمين ولبقائها في المستقبل عندهما. وعند أبي يوسف: تنعقد اليمين، لأنه لا يشترط هذا الشرط عنده، وإنما يكفي أن تكون اليمين على أمر في المستقبل.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني: 796/8، الشرح الكبير: 148/2، 157.(4/67)
الإذن بالخروج دون أن تسمع المرأة: إن أذن الرجل لامرأته المحلوف عليها بالخروج من حيث لا تسمع عادة، فخرجت، بغير الإذن: يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأن الإذن إعلام، قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله} [التوبة:3/9] أي إعلام، والإذن بحيث لا تسمع يكون إعلاماً، فلا يكون إذناً، فلم يوجد مأذون فيه، فيحنث، ولأنه حرم عليها الخروج إلا خروجاً مأذوناً فيه مطلقاً بحيث يأذن وتسمع، والخروج الذي حصل مأذون فيه من جهة واحدة، فلم يكن هذا خروجاً مستثنى، فبقي داخلاً تحت الحرمة.
وقال أبو يوسف: لا يحنث؛ لأن شرط الحنث وجود خروج غير مأذون فيه مطلقاً، والخروج الذي حصل مأذون فيه من وجه لوجود كلام الإذن فلم يوجد شرط الحنث، فلا يحنث بالشك.
الحلف مقيد ببقاء الولاية: إذا حلف رجل على زوجته ألا تخرج من الدار، أو سلطان حلَّف رجلاً ألا يخرج من بلدة إلا بإذنه، ثم بانت المرأة من الزوج، أو عزل السلطان عن عمله، ثم خرجت المرأة والرجل بغير إذن: لم يحنث الحالف، وسقطت اليمين؛ لأن اليمين تقع على الحال التي يملك الحالف فيها الإذن: وهي بقاء الولاية، فإذا زالت الولاية زالت اليمين. وتنطبق هذه القاعدة على ما إذا حلَّف الدائن مدينه ألا يخرج من بلده إلا بإذنه، فاليمين مقيدة بحال قيام الدين، فإن خرج وعليه دين: يحنث. وإن خرج بعد أداء الدين أو إبراء المدين منه: لا يحنث؛ لأن اليمين سقطت، وإنما تتقيد اليمين ببقاء الدين. وهذا من تطبيقات يمين الفور التي تتقيد بدلالة الحال. ويترتب عليه أنه إن عاد الدين أو غيره على المدين لم تعد اليمين (1) .
والخلاصة: إن مذهب الحنفية يشترط تكرار الإذن في كل خروج في قول الحالف: (إلا بإذني) . أما قوله: (حتى آذن) أو (إلا أن آذن) فلا يقتضي تكرار الإذن، وإنما يكفي الإذن مرة واحدة، ثم تسقط اليمين.
__________
(1) انظر هذه القضايا الثلاث في البدائع: 3 ص 45-46.(4/68)
مذاهب غير الحنفية في هذه الألفاظ: قال المالكية والشافعية: يكفي إذن واحد بالخروج في هذه الصور الثلاث: (إلا بإذني) و (حتى آذن لك) و (إلا أن آذن لك) .
فإذا أذن الحالف مرة واحدة تنحل اليمين، ولا يحنث بخروجها بعدئذ، لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار، وإذا خرجت بغير إذن حنث. وإن خرجت بإذن بر في يمينه؛ لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث.
وقال الحنابلة: لا بد من تكرار الإذن في كل حالة من حالات الخروج في
الصور الثلاث السابقة؛ لأن الحالف علق الطلاق بشرط، فإذا وجد الشرط وقع الطلاق، وتنحل اليمين إن حنث مرة واحدة (1) .
المطلب الثالث ـ الحلف على الكلام:
لا بد من وقوع الكلام من الإنسان، لأنه يحتاج إلى إيصال ما في نفسه إلى غيره للوصول إلى مقاصده وأغراضه. وللكلام أهميته في التوفيق أو التنازع بين اثنين. ويحتاج المرء في الغالب إلى القسم لحمل نفسه أو غيره على التكلم أو الامتناع من التكلم. وسأذكر أهم حالات الحلف على الكلام: وهو إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً.
أما المطلق: فهو أن يحلف ألا يكلم فلاناً، فيقع على الأبد، حتى لو كلمه ولو بالسلام في أي وقت وفي أي مكان وعلى أي حال، حنث. ومن حالاته ما يأتي:
الحلف على عدم تكليم فلان: لو حلف شخص على ألا يكلم فلاناً فناداه من مكان بعيد: فإن كان فلان هذا في موضع بحيث يسمع مثله لو أصغى إليه أذنه، فإنه يحنث عند الحنفية والحنابلة وفي قول عند المالكية، وإن لم يسمعه. وإن كان في موضع لا يسمع في مثله عادة بسبب بعد المسافة، فإنه لا يحنث. وكذا إذا كان المخاطب أصم بحيث لو أصغى إليه أذنه لا يسمع: لا يحنث.
والسبب: هو أن تكليم فلان: عبارة عن إسماع كلامه إياه، إلا أن الإسماع أمر باطن خفي، فأقيم السبب الظاهرالمؤدي إليه مقامه، وهو إمكان السماع في الموضع القريب.
__________
(1) انظر المغني: 8 ص 796 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 2 ص 148، 157، الميزان للشعراني: 2 ص 132.(4/69)
ولو حلف ألا يكلم فلاناً، فكلمه وهو نائم فأيقظه: حنث، لأنه كلمه وأسمعه، ولو لم يوقظه لم يحنث، وهو المختار عند عامة مشايخ الحنفية خلافاً لما ذكر القدوري من أنه إذا كان بحيث يسمع لو لم يكن نائماً يحنث؛ لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه إلا أنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه وهو في مكان بحيث يسمع إلا أنه لم يفهم لاشتغاله بأمر آخر. ورأي عامة المشايخ هو الأرجح، لأنه إذا لم يوقظه كان كما إذا ناداه من بعيد، وهو بحيث لا يسمع صوته، ولأن الإنسان لا يعد مكلماً للنائم إذا لم يتيقظ بكلامه، كما لا يعد متكلماً مع الغائب.
ولو مر الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، فسلم عليهم: حنث لأنه كلمه وكلم غيره بالسلام، فإن قصد بالسلام الجماعة دونه لم يحنث وتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه نوى تخصيص كلامه، وإطلاق الكل وإرادة البعض جائز، ولكن لا يقبل منه هذا الادعاء قضاء، لأنه خلاف الظاهر من كلامه (1) .
ولو سلم في الصلاة والمحلوف عليه معه في الصلاة: فإما أن يكون الحالف إماماً أو مقتدياً:
1 - فإن كان الحالف إماماً ينظر: إن كان المحلوف عليه خلفه، فسلم، لم يحنث بالتسليمة الأولى. وإن كان على يمينه: لا يحنث أيضاً؛ لأن التسلمية الأولى كلام في الصلاة؛ لأن المصلي يخرج بها عن الصلاة، فلا تكون من كلام الناس، بدليل أنها لا تفسد الصلاة.
وإن كان شماله فقد اختلف المشايخ فيه: فقال بعضهم: يحنث، وقال بعضهم: لا يحنث.
__________
(1) انظر البدائع: 3 ص 47 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 2 ص 89 وما بعدها، تبيين الحقائق: 3 ص 136، فتح القدير: 4 ص 63، الدر المختار: 3 ص 112، المغني: 822/8.(4/70)
2 - وإن كان الحالف مقتدياً: فكذلك لا يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المقتدي لا يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام عندهما.
وقال محمد: يحنث لأن المقتدي يصير خارجاً عن صلاته بسلام الإمام عنده، فقد تكلم كلاماً خارج الصلاة مع فلان، فيحنث.
ولو حلف لا يكلم فلاناً، فكتب إليه كتاباً، فانتهى الكتاب إليه، أو أرسل إليه رسولاً، فبلغ الرسالة إليه، أو أشار إليه بالإصبع: لا يحنث؛ لأن هذا ليس بكلام، وذلك باتفاق الحنفية، والشافعية في الجديد. وقال الحنابلة والمالكية على الراجح: يحنث إلا أن يكون أراد ألا يشافهه (1) .
الحلف على عدم التكلم: من حلف لا يتكلم اليوم، فقرأ القرآن، أو صلى، أو سبح: لم يحنث، استحساناً، ومثله التهليل والتكبير، وهو يتناول القراءة والتسبيح في الصلاة وخارجها؛ لأن هذا لا يسمى كلاماً عرفاً، أما في الصلاة فليس بكلام عرفاً ولا شرعاً، قال عليه الصلاة والسلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» (2) وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة» (3) ، ولأن الكلام مفسد، ولو كانت هذه الأشياء من كلام الناس لأفسدت.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 48، تبيين الحقائق، المرجع السابق، القوانين الفقهية: ص 164، مغني المحتاج: 345/4. المغني: 820/8، الشرح الكبير: 146/2.
(2) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي والطبراني عن معاوية بن الحكم السلمي (نصب الراية: 2 ص 66، نيل الأوطار: 2 ص 315) .
(3) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود (انظر نيل الأوطار، المرجع السابق: ص 314) .(4/71)
وأما في غير الصلاة فلا يحنث، لأنه لا يسمى متكلماً في عرفنا المتأخر بل قارئاً ومسبحاً، ومبنى الأيمان على العرف (1) . وكذلك قال الشافعية والحنابلة: لا يحنث مطلقاً سواء قرأ في الصلاة أم في غيرها؛ لأن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين.
وهذا هو مذهب الشافعية خلافاً لما زعم الحنفية من أن مذهب الشافعي مخالف لهم، فإنهم قالوا: لو حلف لا يتكلم فسبح الله تعالى أو حمده أو هلله أو كبره أو دعا أو قرأ قرآناً في الصلاة أو خارجها، ولو كان عليه حدث أكبر، فلا حنث بذلك، لانصراف الكلام إلى كلام الآدميين في محاوراتهم (2) .
وأما الحلف على الكلام مؤقتاً: فهو نوعان: معين ومبهم.
أما المعين: فنحو أن يحلف الرجل بالليل: لا يكلم فلاناً يوماً، فيحنث بكلامه من وقت الحلف إلى أن تغيب الشمس من الغد، فيدخل في يمينه بقية الليل. وكذلك لو حلف بالنهار لا يكلمه ليلة: إنه يحنث بكلامه من حين حلف إلى طلوع الفجر. ولو حلف في بعض النهار لا يكلمه يوماً فاليمين على بقية اليوم والليلة المستقبلة إلى مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الغد.
فإن قال في بعض اليوم: (والله لا أكلمك اليوم) ، فاليمين على باقي اليوم، فإذا غربت الشمس سقطت اليمين. وكذلك إذا قال بالليل: (والله لا أكلمك الليلة) ، فإذا طلع الفجر، سقطت اليمين.
ولو حلف لايكلمه شهراً: يقع على ثلاثين يوماً تبتدئ من حين الحلف. ولو قال: الشهر، يقع على بقية الشهر، ولو حلف لايكلمه السنة، يقع على بقية السنة.
__________
(1) البدائع: 3 ص 48، فتح القدير: 4 ص 65، تبيين الحقائق: 3 ص 137، الدر المختار: 3 ص 114، المغني: 824/8.
(2) مغني المحتاج: 4 ص 345.(4/72)
ولو قال: (والله لا أكلمك يوماً ولا يومين) ، فهو مثل قوله: والله لا أكلمك ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة ومحمد، وفي رواية عن أبي يوسف. وذكر محمد في الجامع الصغير أنه يقع على يومين. ودليله: أن كل واحد منهما يمين منفردة، فصار لكل يمين مدة على حدة، وبذلك أصبح على اليوم الأول يمينان، وعلى اليوم الثاني يمين واحدة.
ودليل الرأي الأول: أن الحالف عطف اليومين على اليوم، والمعطوف غير المعطوف عليه، فاقتضى يومين آخرين غير الأول (1) .
وأما المبهم: فنحو أن يحلف ألا يكلم فلاناً زمناً أو حيناً أو الزمان أو الحين: فإنه يقع على ستة أشهر؛ لأن الحين يستعمل، ويراد به الوقت القصير: قال الله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم:17/30] وقد يراد به الوقت الطويل، وهو أربعون سنة، قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} [الإنسان:1/76] وقد يراد به الوقت الوسط: وهو ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم:25/14] قيل: أي ستة أشهر، فحمل على الوسط، لأنا لا نعلم أنه يريد القليل أو الكثير.
ولو قال: (لا أكلمه دهراً أو الدهر) فقال أبو حنيفة: إن كانت له نية فهو على ما نوى، وإن لم تكن له نية، فلا أدري ما الدهر.
وقال الصاحبان: إذا قال: دهراً أي (منكَّراً) فهو ستة أشهر، وإذا قال: الدهر أي (معرفاً) فهو على الأبد.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 48 وما بعدها، تبين الحقائق، المرجع السابق.(4/73)
وقال بعض مشايخ الحنفية: لا خلاف في الدهر أنه الأبد، وإنما قال أبو حنيفة: (لا أدري ما الدهر) إذا قال: (دهرا ً) (1) .
وقال الشافعية والحنابلة (2) : إن حلف ألا يكلمه زمناً أو وقتاً أو دهراً أو عمراً فإنه يقع على القليل والكثير، فيبر بالقليل والكثير؛ لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة، وتقع على القليل والكثير، فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه. أما إذا حلف ألا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان، فذلك على الأبد، لأن ذلك بالألف واللام، وهي للاستغراق، فتقتضي الدهر كله.
ولو قال: (والله لا أكلمك يوم الجمعة) فله أن يكلمه في غير يوم الجمعة؛ لأن الجمعة اسم ليوم مخصوص. وكذلك لو قال: (جمعاً) له أن يكلمه في غير يوم الجمعة، لأن الجُمَع جمع جمعة وهي يوم الجمعة فلا يتناول غيره، بخلاف ما إذا قال: (لا أكلمه أياماً) : إنه يدخل فيه الليالي.
ثم إذا قال (والله لا أكلمك جمعاً) فهو على ثلاث جمع؛ لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة، فيحمل عليه. وإذا قال: (الجمع) يقع اليمين على عشر جمع عند أبي حنيفة، وكذلك الأيام والأزمنة والأحايين والشهور والسنين: يقع اليمين على عشرة أيام، وعشرة أحايين أو أزمنة وعشرة أشهر وعشر سنين؛ لأن أكثر ما تناوله اسم الأيام ونحوه: هو عشرة؛ لأن بعد العشرة لا يقال: أيام، بل يقال: أحد عشر يوماً، ومئة يوم، وألف يوم.
وقال الصاحبان: في الجُمَع والسنين يقع على الأبد، وكذا في الأحايين والأزمنة، وفي الأيام يقع على سبعة، وفي الشهور على اثني عشر؛ لأن الأصل عندهما فيما دخل عليه حرف التعريف هو (اللام) من أسماء الجمع: أن ينظر إن كان هناك معهود ينصرف إليه كالسبعة في الأيام بحسب أيام الأسبوع، والاثني عشر في الشهور، وإن لم يكن هناك معهود ينصرف إلى جميع الجنس، فيستغرق العمر كالسنين والأحايين والأزمنة.
__________
(1) البدائع: 3 ص 50، فتح القدير: 4 ص 72.
(2) المغني: 789/8.(4/74)
أما الأصل عند أبي حنيفة فهو كما لاحظنا: أن ينصرف الاسم إلى أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد: وذلك عشرة (1) .
ومن حلف ألا يكلمه حيناً، فكلمه قبل الستة أشهر، حنث عند الحنفية والحنابلة (2) ؛ لأن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أكلها كل حين} [إبراهيم:25/14] فسره جماعة بستة أشهر. وقال مالك: الحين سنة؛ لأنه فسر بعام. وقال الشافعي وأبو ثور: لا قدر له، ويبر بأدنى زمن؛ لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير.
ولو حلف (لا يكلمه أياماً) فهو على ثلاثة أيام وهو الصحيح، لأنه ذكر لفظ الجمع منكراً، فيقع على أدنى الجمع الصحيح: وهو ثلاثة. وفي رواية: يقع على عشرة أيام عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين: على سبعة.
ولو قال: (لا أكلمك سنين) فهو على ثلاث سنين باتفاق الحنفية والمالكية، لما ذكر أن أقل الجمع ثلاثة، فيحمل عليه (3) .
والخلاصة: أن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون في الجمع المنكر: إنه يقع على أقل الجمع وهو ثلاثة، أما في الجمع المعرف: فالأصل عند أبي حنيفة: أن يقع على أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد وهو العشرة. والأصل عند الصاحبين: أن يقع على المعهود إن كان هناك معهود، وإلا فيقع على جميع الجنس.
ولو حلف (لايكمله العمر) فهو على جميع العمر إذا لم تكن له نية. ولو قال: عمراً: فعن أبي يوسف روايتان: في رواية وهي الأظهر: يقع على ستة أشهر كالحين. وفي رواية: يقع على يوم.
ولو حلف (لا يكلم فلاناً أياماً كثيرة) : فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: يقع على سبعة أيام.
ولو حلف (لا يكلمه إلى بعيد) يقع على شهر فصاعداً.
ولو حلف (لا يكلمه إلى قريب) فهو على أقل من شهر.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 51، فتح القدير، المرجع السابق: ص 75.
(2) المغني: 788/8.
(3) البدائع: 3 ص 52، فتح القدير: 4 ص 73، الشرح الكبير: 155/2.(4/75)
ولو حلف (لا يكلمه عاجلاً أو آجلاً) فالعاجل: يقع على أقل من شهر؛ لأن الشهر في حكم الكثير؛ لأنه يجعل زمناً آجلاً في الديون، فكان بعيداً. والآجل: يقع على الشهر فصاعداً.
ولو حلف (لا يكلمه ملياً) يقع على شهر كالبعيد.
ولو حلف (ألا يكلمه الشتاء) فأوله إذا لبس الناس الألبسة الشتوية، وآخره إذا ألقوها بحسب البلد الذي حلف فيه، والصيف على ضده: وهو من حين خلع الألبسة الشتوية إلى لبسها. والخريف والربيع معروفان بحسب المعلوم في اللغة (1) .
ومن حلف ألا يفعل شيئاً ففعل بعضه حنث إلا إن أراد الكل، فمن حلف ألا يزور شخصين أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما، إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما (2) .
المطلب الرابع ـ الحلف على الأكل والشرب والذوق ونحوها:
الأكل: ـ هو إيصال ما يتأتى فيه المضغ بفمه إلى جوفه، مضَغه أو لم يمضغه، كالخبز واللحم والفاكهة ونحوها.
والشرب: ـ هو إيصال ما لا يتأتى فيه المضغ إلى جوفه، مثل كل المائعات من الماء والنبيذ واللبن والعسل الممزوج بالماء ونحوها (3) .
والذَّوْق: ـ هو إيصال المذوق إلى الفم ابتلعه أو لا، بعد أن وجد طعمه، لأن الذوق أحد الحواس الخمس التي تعلم بها الأشياء، ولذا يتحقق العلم بالطعم سواء ابتلع الشيء المذاق أو مجه، فكل أكل فيه ذوق، وليس كل ذوق أكلاً.
الحلف على الذَّوْق: بناء عليه: إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فذاق، لم يحنث. وإذا حلف لا يذوق طعاماً أو شراباً، فأدخله في فمه وعرف طعمه، حنث لحصول الذوق، وتحقق معناه الذي ذكر.
ولو حلف لا يذوق شيئاً وعنى به أكله وشربه: فإنه تصح نيته ويصدق ديانة بينه وبين الله عز وجل، ولا يصدق قضاء، ولا يحنث بالذوق، لأنه قد يراد بالذوق: الأكل والشرب في عرف الناس، يقول الرجل: ما ذقت اليوم شيئاً، وماذقت إلا الماء ـ يريد به الأكل والشرب.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق.
(2) المغني: 782/8.
(3) المبسوط: 8 ص 175، البدائع: 3 ص 56، تبيين الحقائق: 3 ص 124، فتح القدير: 4ص44، الدر المختار: 3 ص 94، الفتاوى الهندية: 2 ص 75.(4/76)
وأما السبب في أنه يصدق ديانة، فلأنه نوى ما يحتمله كلامه، ولا يصدق قضاء لعدوله عن ظاهر الكلام إلى معنى آخر.
ولو حلف لا يذوق ماء: فتمضمض في الوضوء: لا يحنث في يمينه، وإن حصل له العلم بطعم الماء؛ لأن ذلك لا يسمى ذوقاً عرفاً وعادة، لأن قصده التطهر، لا معرفة طعم المذوق (1) .
ولو حلف لا يشم شيئاً، فالشم عند الحنابلة يشمل كل نبت أو زهر طيب الرائحة، مثل الورد والبنفسج والنرجس. وقال الشافعي: لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي؛ لأنه المتعارف (2) .
الحلف على الأكل:
1 - لو حلف لا يأكل الرمان أو العنب، فمصه ورمى تفله وبلع ماءه، لا يحنث في الأكل، ولا في الشرب؛ لأن المص ليس بأكل ولا شرب، بل هو مص. وإن ابتلع العنب أو الرمان من غير مضغ: يحنث لأنه أكل.
2 - مفهوم أكل الطعام: لو حلف لا يأكل طعاماً: فإن الطعام يقع بالاتفاق على الخبز، واللحم، والحلوى والفاكهة وما يؤكل على سبيل الإدام مع الخبز؛ لأن الطعام في اللغة: اسم لما يطعم، لقوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه} [آل عمران:93/3] أما في العرف فقد اختص بما يؤكل بنفسه أو مع غيره عادة.
وكذلك إذا حلف لا يأكل من طعام فلان، فأكل شيئاً مما ذكر من طعام فلان: يحنث. فإن أخذ من نبيذ فلان أو مائه، فأكل به بخبز نفسه: لا يحنث؛ لأن هذا لا يسمى طعاماً، لأنه لا يؤكل مع الخبز عادة، ولأن الشخص يسمى حينئذ طعام نفسه عادة.
__________
(1) المبسوط: 175/8، البدائع: 67/3 ومابعدها، تبيين الحقائق: 125/3، الدر المختار: 73/3، الفتاوى الهندية: 75/2، 84.
(2) المغني: 813/8 وما بعدها.(4/77)
ولو حلف ألا يأكل قوتاً، فأكل خبزاً أوتمراً أو زبيباً أو لحماً أو لبناً، حنث؛ لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان.
3 - كيفية أكل اللبن والخل: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكله مع الخبز أو التمر، أو حلف لا يأكل هذا الخل، فأكله مع الخبز: يحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن أكل اللبن هكذا يكون عادة، وكذلك الخل لأنه من جملة الإدام، قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل» (1) ولو شربه لا يحنث، لأن هذا ليس بأكل (2) .
4 - اليمين معلقة ببقاء العين لا بعد تغيرها: لو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكل مما يتخذ منه كالجبن والأقط (3) ونحوهما، لا يحنث بالاتفاق؛ لأنه قد تغير، فلا يبقى له اسم العين المحلوف عليها. ومثله: ما لو حلف ألا يأكل من هذه البيضة، فصارت فرخاً، فأكل من فرخ خرج منها، أو حلف لا يشرب من هذه الخمر، فصارت خلاً: لا يحنث، لأنه تغير عن أصله.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله، ورواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها وهو حديث صحيح، ولفظ حديث جابر: «نعم الأدم الخل» (نيل الأوطار: 221/8) والإدام: ما يؤتدم به، وجمع الإدام أدم بضم الهمزة، مثل: كتاب وكتب، والأدم بإسكان الدال مفرد كالإدام.
(2) البدائع، المرجع نفسه: ص 56، تبيين الحقائق، المرجع السابق، الشرح الكبير: 144/2، مغني المحتاج: 338/4، 340، 342. المغني: 806/8.
(3) الأقط (بفتح الهمزة وكسر القاف) : ما يتخذ من اللبن المخيض: يطبخ ثم يترك حتى يمصل.(4/78)
وذكر الحنابلة (1) أن اللبن يتناول لبن الأنعام أوالصيد أو لبن الآدمية؛ لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفاً، وسواء أكان حليباً أم رائباً مائعاً أم مجمداً؛ لأن الجميع لبن.
ومثله أيضاً لو حلف ألا يأكل من هذا البُسْر فصار رُطَباً (2) أو لا يأكل من هذا الرطب فصار تمراً، أو لا يأكل من هذا العنب شيئاً، فصار زبيباً فأكله: لم يحنث في جميع ما ذكر باتفاق الحنفية والشافعية والمالكية؛ لأن الأصل أن اليمين متى تعلقت بعين تبقى ببقاء العين، وتزول بزوالها، إلا أن العين في الرطب وإن لم تتبدل، لكن زال بعضها: وهو الماء بالجفاف، فإذا جف الرطب، فقد زال عنه الماء، فصار آكلاً بعض العين المشار إليها فلا يحنث، وذلك كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، فأكل بعضه.
وقال الحنابلة (3) : لو حلف ألا يأكل هذا الرطب، فأكله تمراً حنث، كما يحنث من أكل كل ما تولد من ذلك الرطب. أما لو حلف ألا يأكل تمراً، فأكل رطباً، لم يحنث، وكذا لو حلف ألا يأكل عنباً، فأكل زبيباً أو دبساً، أو لا يكلم شاباً فكلم شيخاً، أو لا يشتري جدياً فاشترى تيساً لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة.
ومن حلف لا يأكل طعاماً يشتريه فلان، فاشتراه فلان وغيره، فأكل منه ولم تكن له نية، حنث عند المالكية والحنفية والحنابلة (4) لأن فلاناً مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله، فيجب أن يحنث كما لو اشتراه فلان فخلطه بما اشتراه غيره، فأكل الجميع. وقال الشافعية: لا يحنث؛ لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه، فلم يحنث به، كما لو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، فلبس ثوباً اشتراه زيد وغيره.
وهذا بخلاف الحالات الآتية:
__________
(1) المغني: 803/8.
(2) البسر: هو التمر إذا تلون ولم ينضج، والرطب: ما نضج من البسر قبل أن يصير تمراً.
(3) المغني: 800/8،802.
(4) القوانين الفقهية: ص 163، مغني المحتاج: 352/4، المغني: 780/8.(4/79)
لو حلف لا يأكل من لحم هذا الحَمل (1) أو هذا الجدي (2) فأكل منه بعدما صار كبشاً أو تيساً: فإنه يحنث عند الحنفية؛ لأن العين قائمة لم تتغير، واليمين وقعت على الذات المعينة.
وإذا حلف ألا يكلم هذا الشاب، فكلمه بعدما شاخ: حنث لأن العين قائمة لم تتغير، وإنما الذي تغير هو الوصف، لا بعض الشخص المحلوف عليه.
أما لوحلف لا يكلم شاباً، فكلم شيخاً: فإنه لا يحنث بالاتفاق؛ لأن اليمين وقعت على نكرة موصوفة بصفة الشباب، وذكر الصفة بمنزلة اشتراط الشرط، ومن المعلوم أن صفة الشباب لا تنطبق على الشيوخ.
اختلاف الحنفية في حكم خلط اللبن بالماء: إذا حلف إنسان لا يذوق من هذا اللبن شيئاً، فصب فيه ماء فذاقه أو شربه: ينظر إذا كان اللبن غالباً: حنث، لأنه إذا كان غالباً يسمى لبناً، وإذا كان الماء غالباً لا يحنث، وهذا ينطبق على النبيذ إذا صبه في خل، أو الماء المالح إذا صب على ماء عذب، فالعبرة فيه للغلبة، وهذا باتفاق الصاحبين، غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم، لا في الأجزاء، فإن بقي لون اللبن أو طعمه يحنث وإن كان اللبن أقل. أما إذا ذهب طعم اللبن أو لونه فلا يحنث، وإن كانت أجزاء اللبن أكثر، لأنه إذا كان اللون والطعم كان اسم الشيء باقياً.
ونظر محمد إلى غلبة الأجزاء، فقال: إن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبة يحنث، وإن كانت مغلوبة لا يحنث؛ لأن الحكم يتعلق بالأكثر ويكون الأقل تبعاً للأكثر.
__________
(1) الحمل: أي الخروف.
(2) الجدي: ذكر الماعز في السنة الأولى.(4/80)
وذكر محمد: أنه لو حلف إنسان لا يأكل سمناً، فأكل سويقاً لتَّه (1) بسمن ولا نية له أخرى: إن كانت أجزاء السمن تستبين في السويق ويوجد طعمه يحنث. وإن كان لا يوجد طعمه، ولا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة ضِمْن غيرها، فكأنه أكل السمن بنفسه منفرداً، وإذا لم تستبن أجزاء السمن، فقد صارت مستهلكة في غيرها، فلا يعتد بها.
اختلاط الشيء بجنسه: إذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر، قال أبو يوسف: حكمه حكم خلط اللبن بالماء تعتبر فيه الغلبة، فإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه، لم يحنث في يمينه، لأنه في معنى الشيء المستهلك في غيره.
وقال محمد: يحنث وإن كان المحلوف عليه مغلوباً؛ لأن الشيء لا يصير مستهلكاً بجنسه، وإنما يصير مستهلكاً بغير جنسه، وحينئذ يعتبر كأنه غير مغلوب.
ولكن يلاحظ أن الإمام محمد لم يجعل خلط الجنسين استهلاكاً أي (إعداماً لذات الشيء) إذا كان الجنس والنوع والصفة في كل منهما واحداً، فإذا اختلف النوع كلبن الضأن ولبن المعز، أو اختلفت الصفة كالماء العذب والماء المالح، فيجعل خلطهما استهلاكاً، ويعتبر الحكم في الخليط للغلبة كما في حالة اختلاط الجنسين (2) .
5 - الحلف على الإدام: لو حلف لا يأكل إداماً، فالإدام: كل مايصطبغ (3) به مع الخبز عادة كاللبن والزيت والمرق والخل والعسل ونحوها، وما لا يصطبغ به فليس بإدام مثل: اللحم والجبن والبيض، وهذا قول أبي حنيفة، وفي رواية عن أبي يوسف. وقال محمد وبقية الفقهاء وفي رواية أخرى عن أبي يوسف: إن كل ما يؤكل بالخبز: فهو إدام مثل اللحم والبيض والجبن، بدليل ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد إدام أهل الجنة اللحم» (4) ولأن الإدام من الائتدام وهو الموافقة، والموافقة بين هذه الأشياء وبين الخبز في الأكل أمرها ظاهر، فكانت إداماً، ولأن الناس يأتدمون بها عرفاً وعادة. وهذا هو الرأي الأظهر المفتى به عند الحنفية.
وبناء عليه هناك ثلاثة أوجه في أكل الإدام:
آـ إن أكل ما يؤتدم به كالزيت والخل يحنث بالاتفاق؛ لأن هذه الأشياء تصير تبعاً للخبز، ولا تؤكل مقصودة بنفسها، وهذا هو معنى الإدام.
__________
(1) السويق: هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير، ولت السويق: خلطه بالسمن.
(2) أنظر ما ذكر في المبسوط: 8/182 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 2 / 76 وما بعدها، البدائع: 3/62 ومابعدها، فتح القدير: 4 /45 وما بعدها، تبين الحقائق: 3 /126، الدر المختار: 3/97.
(3) يقال اصطبغ بالصبغ أي الإدام: ائتدم.
(4) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء مرفوعاً به بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة: اللحم» وسنده ضعيف، ورواه ابن قتيبة في غريبه والطبراني عن بريدة مرفوعاً أيضاً بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا والآخرة اللحم» رواه أبو نعيم في الطب عن علي ابن أبي طالب بلفظ: «سيد طعام أهل الدنيا والآخرة: اللحم» أو «خير طعام..» (أنظر نيل الأوطار: 8 /222 , المقاصد الحسنة للسخاوي: ص 244 , الجامع الصغير: 2/ 35) .(4/81)
ب ـ إن أكل مع الخبزوالجبن واللحم والبيض: يحنث على الرأي المختار، وهو قول محمد. ولا يحنث على الرأي المرجوح وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأما الأرز: فإن كان في بلد يؤكل تبعاً للخبز يكون إداماً عند محمد، فيحنث بأكله، وإن كان يؤكل مقصوداً بنفسه في عرف الناس كما في بلاد الشرق الأقصى، فلا يحنث، لأنه ليس إداماً عندهم.
جـ ـ وإن أكل مع الخبز عنباً وسائر الفواكه أو البقول: لا يحنث بالاتفاق، لأنه تؤكل وحدها، ولا تؤكل إداماً مقصوداً، بل هي تبع للأكل مع الإدام، إلا في موضع تؤكل تبعاً للخبز غالباً(4/82)
مراعاة للعرف (1) .
6 - عدم أكل اللحم: لو حلف لا يأكل لحماً، فأي لحم أكل من سائر الحيوان غير السمك حنث. أما إن أكل سمكاً فلا يحنث وإن سماه الله عز وجل لحماً في قوله تعالى: {لحماً طرياً} [فاطر:12/35] لأنه لا يسمى لحماً في العرف ولا يراد به عند الإطلاق اسم اللحم، فإن الرجل يقول: ما أكلت اللحم كذا يوماً، وإن كان قد أكل سمكاً، وإطلاق القرآن عليه مجرد تسمية. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (2) ، ولا يشمل الكَرْش والكَبِد والطِّحال والقلب في الأصح عند الشافعية، ويشمل لحم الرأس واللسان وشحم الظهر والجَنْب.
وقال المالكية والحنابلة: يحنث بأكل شحم الظهر والجنب وبأكل السمك، لأن الله سماه لحماً في قوله سبحانه: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} [النحل:14/16] ، وقال: {ومن كلٍّ تأكلون لحماً طرياً} [فاطر:12/35] ، ولأنه من جسم حيوان (3) .
واللحم عند الحنابلة لا يشمل الشحم والمخ والدماغ، إلا إن أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم.
ولو أكل شحم الظهر يحنث عند الحنفية؛ لأنه لحم سمين. ولو أكل شحم البطن والألية: لا يحنث، لأنه لا يسمى لحماً، ولا يباع مع اللحم أيضاً، فإن نواه يحنث؛ لأنه شدد على نفسه، ولأن فيه معنى اللحم من وجه وهو الدسومة. وكذلك يحنث إن نوى لحم السمك، لأنه لحم ناقص في معنى اللحمية.
ولو أكل أحشاء البطن مثل الكرش والكبد والقلب والكلي والرئة والأمعاء والطحال: ذكر الكرخي أنه يحنث في عادة أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة، لأن ذلك يباع مع اللحم، وأما في الموضع الذي لا يباع مع اللحم كما في عرفنا الحاضر فلا يحنث به.
__________
(1) امبسوط: 8 /177، البدائع 3/57، الدر المختار: 3 /103 وما بعدها، فتح القدير: 4/54، تبين الحقائق: 3/131، المغني: 8 /805.
(2) المهذب 2 /134، مغني المحتاج: 4 /336.
(3) المغني: 8 /809 , 811 وما بعدها , الشرح الكبير: 2 /143.(4/83)
ولو أكل لحم الرأس من الحيوانات، سوى السمك: يحنث؛ لأن الرأس عضو من أعضاء الحيوان، فكان لحمه كلحم سائر الأعضاء، بخلاف ما إذا حلف لايشتري لحماً، فاشترى رأساً: إنه لا يحنث، لأن مشتريه لا يسمى مشتري لحم، وإنما يقال: اشترى رأساً (1) .
7 - عدم أكل الشحم: ولو حلف لا يأكل شحماً فاشترى شحم الظهر لم يحنث عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأنه لا يسمى شحماً عرفاً وعادة، بل يسمى لحماً سميناً، فلا يتناوله اسم الشحم عند الإطلاق، وتسمية الله تعالى إياه شحماً لا يدل على دخوله تحت اليمين إذا لم يكن متعارفاً، والأيمان مبنية على العرف، وإنما يحنث بشحم البطن والأمعاء.
وقال الصاحبان والمالكية: يحنث بأكل شحم الظهر أيضاً، لقوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما} [الأنعام:146/6] والمستثنى من جنس المستثنى منه، فدل أن شحم الظهر شحم حقيقة (2) وهذا ما يؤيده عرف اليوم أنه شحم.
8 - عدم أكل الرأس أو شرائه: لو حلف لا يأكل رأساً أو لا يشتري: إن نوى الرؤوس كلها انصرف إليها، لأنه نوى حقيقة كلامه وشدد على نفسه. وإن لم يكن له نية فإن اسم الرأس يتناول جميع ما يباع في بلد الحالف من الرؤوس.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: يدخل فيه رأس الإبل والبقر والغنم، ثم رجع فقال: يحنث في رأس البقر والغنم خاصة. وقال الصاحبان: لا يحنث إلا في رأس الغنم خاصة.
قال متأخرو الحنفية: وهذا اختلاف عصر وزمان وتبدل عادة لا اختلاف حجة وبرهان، إذ مسائل الأيمان مبنية على العرف، فتدورمعه (3) .
وقال الشافعية (4) : من حلف لا يأكل الرؤوس، ولا نية له، حنث برؤوس تباع وحدها، وهي
__________
(1) المبسوط: 8 /176، البدائع: 3/58، فتح القدير: 4/47, تبين الحقائق: 3/127، الدر المختار: 3 /99.
(2) المراجع السابقة: فتح القدير: ص 48، تبيين الحقائق: ص 128، الدر المختار: ص100، مغني المحتاج: 337/4، الشرح الكبير: 144/2.
(3) انظر المبسوط، المرجع السابق، فتح القدير، المرجع السابق: ص 52، تبيين الحقائق: ص130، الدر المختار: ص 102، البدائع: ص 59.
(4) مغني المحتاج: 335/4.(4/84)
رؤوس الغنم قطعاً، وكذا الإبل والبقر على الصحيح؛ لأن ذلك هو المتعارف. ولا يحنث بأكل رؤوس طير وحوت وصيد وخيل إلا ببلد تباع فيه مفردة، لكثرتها واعتياد أهلها، فيحنث بأكلها فيه؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حق غيرهم.
9 - عدم أكل البيض: إذا حلف لا يأكل بيضاً: فإن نوى بيض كل شيء، يقع عليه عند الحنفية؛ لأنه نوى حقيقة كلامه، وشدد على نفسه وإن لم تكن له نية فيقع على ماله قشر: وهو بيض الطير والدجاج والأوز، بدلالة العرف (1) .ويقع اسم البيض عند الشافعية (2) على كل ما يفارق بائضه في الحياة كدجاجة ونعامة وحمام، لا سمك وجراد.
10 - عدم أكل الطبيخ: لو حلف لا يأكل طبيخاً: فإن نوى اللحم وغيره يقع عليه، لأنه طبيخ حقيقة، وفيه تشديد على نفسه. وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى المتعارف عليه وهو كل مطبوخ بالماء. وكان العرف السابق يعني بالطبيخ: اللحم المطبوخ بالماء ليسهل أكله، ويعني أيضاً المرقة المتخذة منه لما فيها من أجزاء اللحم.
11 - عدم أكل الشواء: لو حلف لا يأكل شواء ونوى أكل لحم مشوي بالنار: يحنث بأكل أي مشوي، لأنه نوى حقيقة كلامه وإن لم يكن له نية فإنما يقع على اللحم خاصة لتعارف الناس في السابق عليه، وأما اليوم فينصرف إلى ما يتعارفه الناس أيضاً.
__________
(1) البدائع: 59/3.
(2) مغني المحتاج: 336/4.(4/85)
12 - عدم أكل الحلو: إذا حلف لا يأكل حلواء أو حلواً أو حلاوة: فالأصل الذي كان مقرراً عند السابقين: هو أن الحلو: هو ما ليس من جنسه حامض. وغير الحلو: ما كان من جنسه حامض، والمرجع فيه إلى العرف.
فيحنث بأكل الخبيص والعسل والسكر والرطب والتمر والتين وأشباهها، لأنه ليس من جنسها حامض، ولا يحنث بأكل العنب الحلو والبطيخ الحلو والرمان الحلو والإجاص الحلو والتفاح الحلو والزبيب؛ لأن من جنسها ما ليس بحلو، فلم يخلص معنى الحلاوة فيها.
وأما الحلواء: فيقع على المصنوع من الحلاوة وحدها، أو مع غيرها كالخبيص والناطف: وهو ما يصنع من الطحينة والسكر (1) .
والحقيقة أن تفسير الحلوى وغيرها مرجعه إلى العرف كما قالوا، ففي عرفنا يراعى ما هو المقصود من الحلويات أو الحلاوة عند الناس.
قال ابن عابدين: وفي زماننا، الحلو: كل ما يتحلى به من فاكهة وغيرها كتين وعنب وخبيصة وكنافة وقطائف، وأما الحلاوة والحلوى: فهي اسم لنوع خاص كالجوزية والسمسمية مما يعقد، وكذا ما يطبخ من السكر أوالعسل بطحين أو نشا (2) .
13 - عدم أكل الفاكهة: الكلام في الحلف على ألا يأكل الفاكهة على النحو الذي ذكره فقهاء الحنفية بحسب عرفهم السابق يتناول أصنافاً ثلاثة أعرضها هنا عرضاً تاريخياً، ثم أذكر الحكم الفقهي الدائم:
الصنف الأول: يحنث به باتفاق الحنفية: وهو أنه يقع على ثمرة كل شجرة سوى العنب والرطب والرمان، سواء منها الطري واليابس؛ لأنه ينطبق عليها اسم الفاكهة: وهو كل ما يتفكه به ويؤكل قبل الطعام وبعده، أي يتنعم به زيادة على المعتاد.
الصنف الثاني: لا يحنث به بالاتفاق أيضاً: وهو أن يأكل القثاء والخيار والجزر؛ لأن معنى التفكه غير موجود فيها بحسب المعتاد، لأنها من البقول بيعاً وأكلاً.
__________
(1) المبسوط: 178/8، البدائع: 59/3، فتح القدير: 52/4، تبيين الحقائق: 129/3.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 103/3.(4/86)
الصنف الثالث: اختلفوا فيه وهو العنب والرطب والرمان: فعند أبي حنيفة لا يحنث بها؛ لأن الفاكهة من التفكه: وهو التنعم بما لا يتعلق به البقاء زيادة على المعتاد، وهو مما لا يصلح غذاء ولا دواء، وهذه الأشياء مما يتغذى بها ويتداوى بها، لأن الرطب والعنب يؤكلان غذاء، ويتعلق بهما بقاء الجسد. وبعض الناس في بعض المواضع يكتفون بها. والرمان يؤكل للتداوي، فليس في هذه الأشياء معنى التفكه الكامل، فلا يتناولها اسم الفاكهة، ويؤيده قوله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غُلْباً، وفاكهة وأبّا، متاعاً لكم ولأنعامكم} [عبس:27/80-32] فالله سبحانه عطف الفاكهة على العنب، والمعطوف غير المعطوف عليه.
وقال الصاحبان: يحنث بأكل هذه الأشياء؛ لأن معنى التفكه موجود فيها عرفاً، فإنها أعز الفواكه، والتنعم بها يفوق التنعم بغيرها.
هذا هو مذهب الحنفية في الفاكهة، والعبرة الآن للعرف، فيحنث الحالف بكل ما يعد فاكهة عرفاً. وأما قول أبي حنيفة بأن العنب والرطب والرمان ليس بفاكهة، فهذا اختلاف عرف وزمان، وكان في زمنه لا تعد هذه الأشياء من جملة الفواكه، فأفتى بحسب عرف زمانه، وقد تغير العرف في زمان الصاحبين، فكانت فتواهما مخالفة لفتوى الإمام رضي الله عنه.
ولو حلف لا يأكل فاكهة يابسة فأكل الجوز واللوز والتين ونحوها: فإنه كان في الماضي يحنث؛ لأن اسم الفاكهة يطلق على الرطب واليابس منها، وأما في عرفنا فلا يحنث في الجوز واللوز، لأنه لا يتفكه بهما (1) .
__________
(1) المبسوط: 179/8، البدائع: 60/3 ومابعدها، فتح القدير: 53/4، تبيين الحقائق: 130/4 ومابعدها، الدر المختار: 103/3.(4/87)
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (1) : يدخل في فاكهة: رُطَب النخيل وعنب ورمان وأتر ُجّ (نارنج) ورَطْب ويابس وليمون ونَبْق (ثمر حمل السدر) ، وبِطّيخ ولبُّ فُسْتق وبُنْدق وغيرهما من اللبوب كلبّ لوز وجوز، في الأصح، ولا يشمل القثاء والخيار والجزر والباذنجان.
14 - عدم أكل الحنطة: لو حلف لا يأكل من هذه الحنطة يقع على أكل عينها مقلية (2) ومطبوخة، ولا يقع على الحنطة النيئة إلا بالنية، كما لا يقع على الخبز، وما يتخذ من الدقيق إلا أن ينويه فيحنث به، وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن اسم الحنطة لا يقع على الخبز حقيقة، فحملها على الخبز يكون حملاً على المجاز، والحقيقة أولى.
ورأى الشافعية (3) أنه يحنث بأكل الحنطة مطبوخة ونيئة ومقلية، ولا يحنث بأكل طحينها وسويقها وعجينها وخبزها. كذلك لا يتناول الرطب تمراً ولا بُسْراً (4) ، ولا يتناول العنب زبيباً.
وقال الصاحبان رحمهما الله والمالكية: إن أكل الحنطة خبزاً حنث أيضاً، كما لو أكل من عينها؛ لأن المتعارف في إطلاق أكل الحنطة هو أكل المتخذ منها وهو الخبز، لا أكل عينها، يقال: فلان يأكل من حنطة كذا أي من خبزها، ومطلق الكلام يحمل على المتعارف. ومنشأ الخلاف في هذه القضية راجع إلى اختلافهم في مسألة في أصول الفقه: وهي أن الكلام إذا كان له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف، فعند أبي حنيفة: الحقيقة أولى من المجاز المتعارف. وعند الصاحبين:
__________
(1) مغني المحتاج: 340/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 163، المغني: 804/8.
(2) المقلية: هي التي يغليها الناس على النار ويأكلونها قضماً، وهي التي تسمى في عرف بلادنا (بليلة) .
(3) مغني المحتاج: 338/4.
(4) قال أهل اللغة: ثمر النخل أوله طلع وكافور، ثم خَلال، ثم بلح، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر.(4/88)
المجاز المتعارف أولى. فمن حلف لا يشرب من الفرات أو من هذا النهر فعند أبي حنيفة: يقع على الشرب كرعاً (1) حتى لو اغترف بإناء أو بيده: لا يحنث. وعند الصاحبين: يقع عليهما أخذاً بعموم المجاز.
وعموم المجاز: معناه أن يكون للمجاز أفراد كثيرة، ومن جملة أفراده محل الحقيقة، فتدخل الحقيقة في المجاز، كمن حلف لا يدخل دار فلان، فإنه مجاز عن المسكن، وحقيقته الدار المملوكة لفلان، فيدخل في اليمين: ما يسكنه كيفما كان، سواء أكان مستأجراً أم عارية أم ملكاً لعموم المجاز اتفاقاً.
عدم أكل الدقيق: ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق، فأكل مما يتخذ منه وهو الخبز: يحنث؛ لأن عينه لا يؤكل، وإنما يؤكل عادة خبزاً، ولا يستف إلا نادراً، والنادر ملحق بالعدم. فإن نوى لا يأكل عين الدقيق: لا يحنث بأكل ما يخبز منه، لأنه نوى حقيقة كلامه.
عدم أكل الخبز: ولو حلف لا يأكل خبزاً فيمينه على حسب المعتاد عند أهل البلد فيما يعتبر أكله خبزاً، وذلك خبز الحنطة والشعير، لأنه هو المعتاد في غالب البلدان (2) .
والخبز في الحلف على أكله يتناول عند الشافعية (3) كل خبز كحنطة وشعير وأرز وباقلا (فول) وذ ُرة وحَمِّص.
وبناء على مسألة الدقيق: إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فأكل من ثمرتها: يحنث؛ لأن عينها لا تؤكل.
__________
(1) كَرع في الماء أو الإناء: مد عنقه وتناول الماء بفيه من موضعه.
(2) انظر المبسوط: 181/8، البدائع، المرجع السابق: ص 61 ومابعدها، فتح القدير: 50/4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 129/3، الدر المختار: 100/3 ومابعدها، الشرح الكبير: 145/2.
(3) مغني المحتاج: 339/4.(4/89)
15- الحلف على عدم الأكل وقصد طعام خاص: لو حلف لا يأكل أو لا يشرب، أو لا يلبس، ونوى طعاماً خاصاً وشراباً خاصاً، وثوباً: فإنه لا يصدق؛ لأنه نوى خلاف مقتضى كلامه وهو لا عموم له، فلا يحتمل الخصوص، والنية إنما تعمل في الملفوظ لتعيين بعض محتملاته. أما لو قال: لا آكل طعاماً، أو لا ألبس ثوباً، ونوى طعاماً بعينه وثوباً بعينه: يصدق ديانة لا قضاء، لأنه نوى تخصيص كلامه الظاهر منه العموم ولكنه يحتمل الخصوص (1) .
وذكر المالكية (2) : أن من حلف ألا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، فإنه يحنث في المشهور، ولو حلف أن يأكله، لم يبر إلا بأكل جميعه. والقاعدة عندهم أن من حلف على فعل يحمل على أكثر ما يحتمله اللفظ على المشهور. ومن حلف على فعل شيء حنث بأكل ما يشتق منه، فمن حلف ألا يأكل قمحاً، حنث بأكل خبزه، ومن حلف ألا يأكل لبناً، حنث بأكل الجبن، ومن حلف ألا يأكل عنباً، حنث بأكل الزبيب.
الحلف على الشرب:
عرفنا معنى الشرب: وهو إيصال مالا يحتمل المضغ من المائعات إلى الجوف، فلو حلف لا يشرب، فأكل: لا يحنث، كما لو حلف لا يأكل، فشرب: لا يحنث؛ لأن الأكل والشرب فعلان متغايران. وإذا حلف لا يشرب ولا نية له: فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث، لأنه منع نفسه عن الشرب عموماً، وسواء شرب قليلاً أو كثيراً، لأن بعض الشراب يسمى شراباً.
ولو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات: قال أبو حنيفة: لا يحنث ما لم يشرب منه كرعاً: وهو أن يضع فاه عليه، فيشرب منه، فإن أخذ الماء بيده أو بإناء لم يحنث.
__________
(1) البدائع: ص 66، تبيين الحقائق: 133/3، الدر المختار: 105/3 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 164 ومابعدها.(4/90)
وقال الصاحبان: يحنث سواء شرب كرعاً أو بإناء أو اغترف بيده. دليلهما: أن مطلق اللفظ ينصرف إلى المتعارف عند أهل اللغة. والمتعارف عندهم: أن من رفع الماء من النهر بيده أو بإناء أنه يسمى شارباً من النهر، فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف، وإن كان مجازاً بعد أن كان متعارفاً، كما ذكرت قريباً، وهو مثل ما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة، فإنه ينصرف إلى الثمرة. ودليل أبي حنيفة: أن مطلق الكلام محمول على الحقيقة، وحقيقة الشرب من النهر: هو أن يكرع منه كرعاً بأن يضع فاه عليه فيشرب منه.
الشرب من الجب أو البئر: إن حلف لا يشرب من ماء هذا الجب (1) أو البئر فاغترف بإناء أو بيده من الأول واستقى من الثاني وشرب: يحنث بالاتفاق، لأنه لا يمكن الشرب منه كرعاً.
فلو حلف لا يشرب من هذا الجب: فهو على الاختلاف الذي ذكرته في الحلف من دجلة أو الفرات، فلا يحنث عند أبي حنيفة ما لم يكرع منه. وعند الصاحبين: يحنث مطلقاً (2) .
الحلف على الغداء والعشاء والسحور: الغداء والعشاء والسحور عبارة عن أكل ما يقصد به الشبع عادة، ويعتبر غداء كل بلدة: ما تعارفه أهلها، فإن كان خبزاً فخبز، وإن كان لحماً فلحم، حتى إن الحضري إذا حلف على ترك الغداء، فشرب اللبن لم يحنث، والبدوي بخلافه، لأنه غداء في البادية أي أن المعتبر فيما يتغدى به عادة أهل بلد الحالف.
ولا بد من أن يأكل أكثر من نصف الشبع في غداء وعشاء وسحور.
__________
(1) الجب بضم الجيم: البئر العميقة.
(2) المبسوط: 186/8 ومابعدها، البدائع: 66/3، فتح القدير: 58/4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 134/3.(4/91)
والغداء في الماضي: هو الأكل من طلوع الفجر إلى الظهر.
والعشاء في الماضي: هو الأكل من صلاة الظهر إلى نصف الليل؛ لأن مابعد الزوال يسمى عشاء، وعليه تسمى الظهر إحدى صلاتي العشاء في الحديث، فإنه ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشاء ركعتين: يريد به الراوي: الظهر أو العصر.
وفي عرفنا اليوم يعتبر الأكل من طلوع الفجر إلى ارتفاع الضحى الأكبر فطوراً، ومابعده يدخل وقت الغداء وينتهي إلى العصر، لأنه أول وقت العشاء في عرفنا، وحينئذ يدخل وقت العشاء: وهو مابعد صلاة العصر، وهذا العرف يعمل به.
والسحور: هو الأكل من بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر، مأخوذ من السحر وهو الثلث الأخير من الليل، وقد أطلق على النصف الثاني من الليل لقربه من الثلث الأخير.
وأما التضحي: فهو الأكل في وقت الضحى. ووقت الضحى: هو من بعد طلوع الشمس من الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى نصف النهار؛ لأن هذا وقت صلاة الضحى.
وأما التصبيح: فهو ما بين طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحوة الكبرى لأنه من الإصباح، وهذا يعرف بتسمية أهل اللغة.
ولو حلف ليأتينه غدوة: فهذا بعد طلوع الفجر إلى نصف النهار (1) .
وإن حلف ألا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله، لا يحنث عند الجمهور، وعن الإمام أحمد روايتان: إحداهما ـ يحنث؛ لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء، فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي.
والثانية ـ لا يحنث؛ لأن الأفعال أنواع كالأعيان (2) .
المطلب الخامس ـ الحلف على اللبس والكسوة:
من حلف ألا يلبس ثوباً وهو لابسه، نزعه في الحال، فإن لم يفعل حنث بالاتفاق (3) .
وإذا حلف إنسان (لا يلبس قميصاً أو سراويل أو رداء) فاتزر به: لا يحنث، وكذا إذا اعتم بشيء مما ذكر؛ لأن المطلق تعتبر فيه العادة، والاتزار والتعمم ليس بمعتاد في هذه الأشياء، فلا يحنث.
ولو حلف (لا يلبس هذا القميص أو هذا الرداء) فعلى أي حال لبسه حنث بالاتفاق (4) .
__________
(1) البدائع: 69/3، فتح القدير: 5/4، تبيين الحقائق: 132/3، الدر المختار: 105/3.
(2) المغني: 816/8.
(3) المغني: 777/8.
(4) المغني: 779/8، الشرح الكبير: 154/2.(4/92)
حتى بالاتزار والتعمم؛ لأن اليمين إذا تعلقت بعين اعتبر فيها وجود اسم العين، ولا تعتبر فيها الصفة المعتادة.
ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة شيئاً) فلبس ثوباً قد غزلته فلانة: يحنث في يمينه؛ لأن الغزل عينه لا يلبس، فيقع على ما يصنع منه، وهو الثوب. ولو نوى الغزل بعينه: لا يحنث إذا لبس الثوب، لأنه نوى حقيقة كلامه.
ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) يقع على الثوب، ولو نوى الغزل لايصدق.
ولو حلف (لا يلبس ثوباً من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: لايحنث باتفاق الحنفية والشافعية؛ لأن الثوب اسم لشيء مقدر، فلا يقع على بعضه.
وعند الحنابلة روايتان: إحداهما: يحنث كالصورة الآتية بعدها، والثانية: لايحنث.
ولو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) فلبس ثوباً من غزلها وغزل غيرها: حنث بالاتفاق (1) ، لأن البعض يسمى غزلاً.
أما لو حلف (لا يلبس من غزل فلانة) ولم يقل ثوباً: لم يحنث في التكة والزر والعروة والطوق؛ لأن هذا ليس بلبس في العادة، فلو لبس ثوباً تلابيبه (2) من غزل فلانة: يحنث؛ لأن هذا القدر ملبوس من غزلها بلبس الثوب (3) .
ومن حلف (لا يلبس حلياً) فلبس خاتم فضة لم يحنث؛ لأنه ليس بحلي عرفاً ولا شرعاً، حتى أبيح استعماله للرجال، وإن كان من ذهب حنث، لأنه حلي ولهذا لا يحل استعماله للرجال، ولو لبس عقد لؤلؤ يحنث عند الصاحبين، لأنه حلي حقيقة، والتحلي به معتاد، وهو الرأي المفتى به خلافاً لرأي أبي حنيفة القائل بأنه لا يحنث. وقال غير الحنفية: يحنث بلبس الفضة واللؤلؤ (4) .
__________
(1) المغني: 781/8.
(2) التلابيب: جمع تلبيب وهو ما في موضع اللبب من الثياب، واللبب واللبة: موضع القلادة من الصدر.
(3) انظر المبسوط: 2/9 ومابعدها، البدائع: 69/3 ومابعدها، تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 483/2، فتح القدير: 96/4 ومابعدها.
(4) فتح القدير: ص97، المهذب: 136/2، المغني: 779/8.(4/93)
ولو حلف (لا يكسو فلاناً شيئاً) ولا نية له، فكساه قلنسوة، أو خفين أو جوربين: حنث؛ لأن الكسوة اسم لما يكسى به، وذلك يوجد في القليل والكثير.
ولو حلف (لا يكسو فلاناً ثوباً) فأعطاه دراهم يشتري بها ثوباً لم يحنث، لأنه لم يكسه، وإنما وهبه دراهم، وشاوره فيما يفعل بها.
ولو أرسل له ثوب كسوة: حنث؛ لأن حقوق العقد أو اليمين لا تتعلق بالرسول، وإنما تتعلق بالمرسل (1) .
المطلب السادس ـ الحلف على الركوب:
إذا حلف (لا يركب دابة) فهو يقع على الدواب التي يركبها الناس في حوائجهم في مواضع إقامتهم، كالفرس والحمار والبغل، فلو ركب ظهر إنسان أو بعيراً أو بقرة أو فيلاً: لا يحنث استحساناً إلا بالنية. والقياس أن يحنث في ركوب كل حيوان، لأن الدابة لفظ عام يشمل كل ما يدب على الأرض. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود:6/11] إلا أنهم استحسنوا وحملوا اليمين على ما يركبه الناس في حوائجهم غالباً: وهو الخيل والبغال والحمير تخصيصاً للعموم بالعرف والعادة.
قال صاحب الدر: وينبغي حنثه بالبعير في مصر والشام أي (إذا كان ممن يركب البعير كالمسافر وأهل البدو) وبالفيل في الهند للتعارف.
ولو حمل على الدابة مكرهاً فلا حنث.
ولو حلف (لا يركب فرساً) فركب برذوناً، أو حلف لا يركب برذوناً (2) فركب فرساً: لم يحنث؛ لأن كل حيوان يختلف عن الآخر، فالفرس عربي، والبرذون أعجمي.
ولو حلف (لا يركب) وقال: نويت الخيل: لا يصدق قضاء ولا ديانة، لأن المركوب ليس بمذكور، فلا يحتمل اللفظ التخصيص.
__________
(1) المبسوط: 4/9، البدائع: 71/3.
(2) البرذون: التركي من الخيل، والجمع البراذين، وخلافها العراب(4/94)
فإن حلف (لا يركب الخيل) فركب برذوناً أو فرساً: يحنث لأن الخيل اسم جنس، فيعم جميع أنواعه.
ولو حلف (لا يركب دابة) وهو راكبها فمكث على حاله ساعة: حنث؛ لأن الركوب له أمثال تتجدد مع الزمن، فله حكم الابتداء، مثل ما لو حلف لا يلبس وهو لا بس، أو لا يجلس وهو جالس (1) .
المطلب السابع ـ الحلف على الجلوس:
إذا حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على شيء حائل بينه وبين الأرض كحصير أو بساط أو كرسي: لم يحنث، لأنه لا يسمى جالساً على الأرض؛ لأن الجالس على الأرض: من باشر الأرض، ولم يحل بينه وبينها شيء، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الأرض ثيابه، فإنه لا يعتبر حائلاً لأن الثياب تبع له.
وإن حلف (لا يجلس على هذا الفراش) فجعل عليه فراشاً مثله، ثم جلس: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الفراش الثاني دون الأول.
وخالف أبو يوسف في الفراش خاصة فقال: إذا حلف لا ينام على هذا الفراش، فجعل فوقه فراشاً آخر ونام عليه: حنث، لأنه يحصل به زيادة توطئة ولين، فيكونان مقصودين بالنوم عليهما.
واتفقوا على أنه لو حلف لا ينام على هذا الفراش فجعل فوقه ملاءة أي شرشفاً: حنث لأنه تبع للفراش، فلا يمنع أن يقال: نام على الفراش.
ولو حلف (لا يجلس على هذا السرير أو السطح) فجعل فوقه مصلى أو بساطاً، ثم جلس عليه: حنث؛ لأن السرير يجلس عليه هكذا غالباً، ويقال: نام على السطح، وإن كان نام على فراش.
فلو جعل فوق السرير سريراً أو بنى فوق السطح سطحاً: لم يحنث؛ لأن الجلوس ينسب إلى الثاني دون الأول.
__________
(1) المبسوط، المرجع السابق: 12/3 وما بعدها، البدائع: 71/3، فتح القدير: 42/4 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 94، الفتاوى الهندية: 74/2.(4/95)
ولو نوى الجلوس على ألواح هذا السرير مباشرة دون أن يكون فوقه شيء: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله، لا قضاءً، لأنه خلاف المعتاد وإن كان حقيقة.
ولو قال: (والله لا أنام على ألواح هذا السرير) فجلس على بساط فوقه: لم يحنث، لأنه ما نام على ألواح.
ولو حلف (لا يجلس على الأرض) فجلس على السطح: يحنث لأنه يسمى أرض السطح (1) .
المطلب الثامن ـ الحلف على السكنى:
إذا حلف (لا يسكن هذه الدار) فإن لم يكن ساكناً فيها فالسكنى: أن يسكنها بنفسه، وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به، ويستعمله في منزله، فإذا فعل ذلك فهو ساكن، وحانث في يمينه؛ لأن السكنى هو الكون في المكان على طريق الاستقرار والمداومة، وهو يكون بما يسكن به عادة، ألا ترى أن من جلس في المسجد وبات فيه، لم يكن ساكناً في المسجد، ولو أقام فيه بما يتأثث به يسمى ساكن المسجد، فكان هذا معتبراً في اليمين.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : إن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها، فإذا حلف ساكن الدار لايسكنها، فمتى أقام فيها بعد يمينه زمناً يمكنه فيه الخروج، حنث. وإن أقام لنقل متاعه لم يحنث؛ لأن الانتقال لايكون إلا بالأهل والمال، فيحتاج أن ينقل ذلك معه، حتى يكون منتقلاً. وإن أكره على المقام لم يحنث، لحديث العفو عن الاستكراه.
وإن كان الرجل ساكناً في الدار فحلف لا يسكنها: فإنه لا يبر في يمينه ما لم ينتقل بنفسه وأهله وولده ومتاعه وخادمه ومن يقوم بشأنه في منزله، لأن السكنى في الدار بهذه الأشياء، فكان ترك السكنى فيها بضدها، فإذا لم يأخذ في النقلة من ساعته مع الإمكان: يحنث في يمينه. وهنا ثلاثة افتراضات:
__________
(1) البدائع: 71/3 ومابعدها، فتح القدير: 98/4، تبيين الحقائق: 155/3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 329/4، المغني: 767/8 وما بعدها.(4/96)
أحدها ـ إذا انتقل بأهله ومتاعه في الحال: لم يحنث عند أئمة الحنفية الثلاثة، ولا يؤثر وجود السكنى القليلة، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، فكان مستثنى دلالة. وقال زفر: يحنث لوجود شرط الحنث وهو السكنى.
الثاني ـ لو انتقل بنفسه، ولم ينتقل بأهله ومتاعه: يحنث عند أئمة الحنفية والحنابلة؛ لأن السكنى في المكان ـ كما تقدم ـ هي الكون في الشيء على وجه الاستقرار، ولا يكون هذا إلا بما يسكن به عادة، فإذا حلف لا يسكنها وهو فيها، فالبر في إزالة ما كان به ساكناً، فإذا لم يفعل حنث، ولأن من حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه، وأهله ومتاعه فيها يسمى في العرف والعادة ساكن الدار. هذا بخلاف ما إذا حلف لا يسكن في بلد فخرج منه وترك أهله فيه: لم يحنث؛ لأن العادة لا يقال لمن بدمشق وأهله بحلب: إنه ساكن بحلب.
وقال الإمام الشافعي (1) : لا يحنث، ويكفي أن يخرج ببدنه بنية التحول، لأن اليمين على سكناه، وقد ترك السكنى، فلم يحنث بترك أهله ومتاعه، كما لو حلف لا يسكن في بلد، فخرج بنفسه وترك أهله فيه. وقال الشافعي محتجاً على الحنفية: إذا خرجت من مكة، وخلَّفت دفيترات بها أفأكون ساكناً بمكة؟!. ومن حلف لا يسكن داراً معينة أو لا يقيم فيها، فليخرج في الحال، فإن مكث بلا عذر حنث، حتى ولو أخرج متاعه؛ لأن المحلوف عليه سكناه، وهو موجود، إذ السكنى تطلق على الدوام كالابتداء، أما إن اشتغل بأسباب الخروج كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب، فلم يحنث بمكثه لذلك؛ لأنه لا يعدّ ساكناً، وإن طال مقامه بسبب ذلك. وكذلك الدوام على التزوج أو التطهر أو اللبس أو الركوب أو القيام أو القعود، له حكم ابتداء هذه الأفعال عندهم.
__________
(1) انظر مغني المحتاج: 329/4، المهذب: 132/2.(4/97)
وهذا بعكس الوطء والصوم والصلاة وبقاء الطيب، الدوام فيها ليس كالابتداء باتفاق الفقهاء (1) .
الثالث ـ إذا انتقل بنفسه وأهله وماله ومتاعه وترك من أثاثه شيئاً يسيراً فإن أبا حنيفة قال: يحنث لأن السكنى قد ثبتت بكل ذلك فيبقى مابقي شيء منه.
وقال أبو يوسف: يعتبرنقل الأكثر، لأن نقل الكل قد يتعذر في بعض الأوقات.
وقال محمد: يعتبر ماتقوم به السكنى، قالوا: وهذا القول أحسن وأرفق بالناس. ولاشك أن من خرج على نية ترك المكان وعدم الرجوع إليه، ونقل من أمتعته مايقوم به أمر سكناه. وهو على نية نقل الباقي يقال عنه: ليس ساكناً فيه، بل انتقل منه، وسكن في مكان آخر، وبهذا يترجح قول محمد.
فإن منع من الخروج والتحول بنفسه ومتاعه، وأوثقوه وقهروه: لايحنث وإن أقامـ على وضعه أياماً، لأنه ليس بساكن، إنما هو أسكن فيها عن إكراه، فلايحنث.
وقال محمد: إذا خرج الحالف من ساعته، وخلف متاعه كله في المسكن، ومكث في طلب المنزل أياماً ثلاثة، فلم يجد مايستأجره وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارج الدار: لايحنث؛ لأن هذا من عمل النقلة عادة، لأن المعتاد أن ينتقل من منزل إلى منزل لا أن يلقي متاعه على الطريق.
وقال محمد أيضاً: وإن كان الساكن موسراً وله متاع كثير، وهو يقدر على أن يستأجر من ينقل متاعه في يوم، فلم يفعل، وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول، ومكث في النقلة سنة وهو لايترك الاشتغال بالنقل: فإنه لايحنث، لأنه لا يلزمه الانتقال بأسرع الوجوه.
وإن حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكن فيها، فتحول ببدنه فقط، وقال: ذلك عنيت بيميني: يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى ولايصدق قضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر والعادة.
__________
(1) المغني: 778/8.(4/98)
وإن كان حلف وهو غير ساكن فيها وقال: نويت الانتقال ببدني فقط يصدق ديانة وقضاء، لأنه نوى مايحتمله كلامه، ولأنه شدد على نفسه (1) .
هل الدوام على السكنى له حكم الابتداء؟
قال الحنفية: دوام السكنى واللبس والركوب له حكم الابتداء، حتى لو حلف لايلبس هذا الثوب وهو لابسه أو لايركب هذه الدابة وهو راكبها، أو لايسكن هذه الدار وهو ساكنها، واستمر على ماكان عليه: حنث؛ لأن هذه الأفعال تتجدد بحدوث أمثالها. وذلك بعكس الدخول والخروج والتزوج والتطهر: لايعتبر الدوام عليها بمثابة إنشائها.
والضابط الفارق بينهما: أن مايمتد فلدوامه حكم الابتداء كالقعود والقيام والنظر ونحوه، ومالا يمتد لا دوام له كالخروج والدخول. وهذا هو مذهب الشافعية أيضاً (2) .
ويترتب على هذا أن الحالف على السكنى واللبس والركوب ونحوها إذا انتقل للحال أو نزع الثوب حالاً، أو نزل عن الدابة حالاً: لايحنث. وقال زفر: يحنث لوجود اللبس والركوب والسكنى بعد اليمين، وإن قل الانتظار، وهو كاف للحنث (3) .
المطلب التاسع ــ الحلف على الضرب والقتل:
إذا حلف إنسان بطلاق زوجته ليضربنها حتى يقتلها أو حتى ترفع ميتة ولانية له، فإن ضربها ضرباً شديداً بر في يمينه، لأنه يراد بمثل هذا القول في العادة شدة الضرب دون الإماتة.
وقال الشافعية: البر بما يسمى ضرباً، فلا يكفي وضع اليد عليها ورفعها، ولايشترط فيه إيلام لصدق الاسم بدونه إلا أن يقول: ضرباً شديداً.
ولو حلف «ليضربن غلامه عشرة أسواط» فجمع عشرة أسواط، وضربه مرة واحدة، وأصاب كل سوط جلده: بر في يمينه ولايحنث عند الحنفية والشافعية، لأنه ضربه عشرة أسواط. فأما إذا لم يصب كل سوط جلده: فإنه يحنث، لأنه لايسمى ضارباً عشرة أسواط.
وقال المالكية والحنابلة (4) : من حلف أن يضرب غيره مئة سوط فجمعها
__________
(1) المبسوط: 162/8 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 69/2، البدائع: 72/3 ومابعدها، فتح القدير: 36/4 ومابعدها، تبيين الحقائق: 119/3.
(2) مغني المحتاج: 331/4، المهذب: 132/2.
(3) المبسوط، المرجع السابق: ص35، تبيين الحقائق، المرجع السابق، الدر المختار: 3 ص 83.
(4) القوانين الفقهية: ص 164، المغني: 819/8، الشرح الكبير: 143/2.(4/99)
ضغثاً فيه عشرة أعواد، ثم ضربه بها ضربة واحدة لم يبر بيمينه؛ لأن معنى يمينه أن يضربه عشر ضربات، ولم يضربه إلا ضربة واحدة، فلم يبر، كما لو حلف ليضربنه عشر مرات بسوط.
ولو قال: (والله لا أقتل فلاناً بدمشق) أو قال: (والله لا أتزوج فلانة بدمشق) فضرب فلاناً بحلب فمات بدمشق، أو زوجه الولي امرأة بحلب، فبلغها الخبر بدمشق، فأجازت العقد حنث في اليمينين جميعاً.
وكذلك لو حلف على الزمان، فقال: (لا أفعل ذلك يوم الجمعة) فمات المحلوف عليه يوم الجمعة، أو أجازت المرأة النكاح يوم الجمعة: حنث الحالف.
وهكذا يعتبر في القتل مكان زهوق الروح وزمانه، كما يعتبر في النكاح مكان الإجازة وزمانها. ويجري هذا في البيع والشراء: يعتبر مكان الإجازة ويوم الإجازة.
وقال محمد: يعتبر في العقد مكان الفاعل وزمانه، وفي القتل كما قال أبو يوسف: يعتبر مكان زهوق الروح بالنسبة للمقتول وزمانه (1) .
ومن حلف (لا يضرب امرأته) ففعل بها أي فعل يوجعها كالعض وعصر الحلق وشد الشعر ولو ممازحاً: يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم، وقد تحقق الإيلام. وقيل: لا يحنث في حال الملاعبة، لأنه يسمى في العرف ممازحة لا ضرباً.
وإذا قال شخص: (إن لم أقتل فلاناً فامرأتي طالق) وفلان ميت: فإن كان الحالف عالماً بموته حين حلف حنث للحال؛ لأن يمينه تنعقد لتصور البر فيه، لأن الله تعالى قادر على إعادة الحياة فيه إذ الروح لا تموت، فيمكن قتله، ثم إنه يحنث في الحال للعجز عن البر في يمينه عادة مثل الحلف على صعود السماء.
__________
(1) البدائع: 76/3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 118/2.(4/100)
وإن لم يعلم بموته لا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه عقد يمينه على حياة كانت فيه، ولا يتصور إزالتها، وقال أبو يوسف: يحنث لأن تصور البر ليس بشرط عنده لانعقاد اليمين. وهذا الخلاف جرى كما ذكر سابقاً في مسألة الكوز إذا كان يعلم ألا ماء فيه، فحلف وقال: (إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأتي طالق) (1) .
أما إن حلف أن يضرب فلاناً في غد، فمات الحالف في يومه، فلا حنث عليه عند الحنابلة والشافعية، وإن مات المحلوف عليه في الغد، حنث؛ لأنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان، وهو من أهل الحنث (2) . وينطبق هذا الحكم على من قال: والله لأشربن ماء هذا الكوز غداً، فاندفق اليوم، أو لآكلن هذا الخبز غداً، فتلف اليوم، يحنث.
المطلب العاشر ـ الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف:
الحلف على ما في ملك فلان: إذا حلف إنسان على ما في ملك فلان: يحنث إذا كان الشيء مملوكاً له وقت فعل المحلوف عليه، سواء أكان ما في ملك فلان مملوكاً له وقت الحلف، أم لم يكن مملوكاً له حينذاك، كأن حلف (لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان أو لا يدخل دار فلان، أو لا يركب دابة فلان، أو لا يلبس ثوب فلان) ولم يكن شيء منها في ملكه، ثم استحدث الملك فيها، فإن زال الملك عن فلان، فحدث الفعل المحلوف عليه: لا يحنث بالاتفاق. وأما في حال وجود الملك فيحنث وهو الحكم المقرر في ظاهر الرواية عند الحنفية؛ لأن هذه اليمين عقدت على المنع من الفعل في ملك فلان، فيعتبر الملك القائم يوم الفعل. وهناك رواية أخرى في النوادر عن محمد، ورواية أخرى أيضاً عن أبي يوسف.
__________
(1) فتح القدير: 101/4، تبيين الحقائق: 159/3، الدر المختار: 143/3 ومابعدها. مغني المحتاج: 347/4.
(2) المغني: 786/8 ومابعدها.(4/101)
لكن إذا حلف (لا يكلم زوج فلانة أو امرأة فلان أو صديق فلان، أو ابن فلان، أو أخ فلان) فإنه يقع على ما كان متحققاً وقت الحلف، ولا يشمل ما يحدث من زوجية وصداقة وولد في المستقبل، فإن زال عقد النكاح ورابطة الصداقة، فكلم المحلوف عليه حنث بالاتفاق.
وإذا حلف على ما في ملك فلان مع التعيين بالإشارة، كأن قال: (لا أدخل دار فلان هذا، أو لا أركب دابة فلان هذا، أو لا ألبس ثوب فلان هذا) فباع فلان داره أو دابته، أو ثوبه ثم دخل أو ركب أو لبس بعد زوال الملك عن فلان: لم يحنث عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن يعني ذات الشيء خاصة. وقال محمد: يحنث وإن زال ملك فلان إلا أن يعني ما دامت ملكاً لفلان، فأبو حنيفة وأبو يوسف اعتبرا الإشارة وإضافة الملك لفلان معاً وقت حدوث الفعل للحكم بالحنث فما لم يوجدا لا يحنث. ومحمد يعتبر الإشارة فقط.
واتفقوا على أنه لو حلف (لا أكلم هذا الشخص) أو (لا أدخل هذه الدار) أو (لا أركب هذه الدابة) حنث بالمخالفة، لأنه تعتبر العين المشار إليها (1) .
بحثان ملحقان بهذا المطلب:
البحث الأول ـ الحلف على فعل صادر من غير الحالف:
إذا حلف إنسان (لا يلبس مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره: لم يحنث، لأنه لبس ثوباً اشترى فلان بعضه لا كله.
ولو حلف (لا يأكل مما يشتريه فلان) فاشتراه فلان مع غيره فأكل منه حنث؛ لأنه قد أكل ما اشتراه فلان، لأن بعض الطعام طعام حقيقة، ويسمى أيضاً طعاماً عرفاً. وهذا بخلاف ما إذا حلف (لا يدخل دار فلان) فدخل داراً بينه وبين آخر، فإنه لا يحنث، لأن بعض الدار لا يسمى داراً. وكذلك لو حلف (لا يلبس ثوباً لفلان أو يشتريه فلان، أو نسجه فلان) فلبس ثوباً اشتراه فلان مع آخر، أو نسجه مع غيره، لأن بعض الثوب لا يسمى ثوباً.
أما لو حلف (لا يلبس من نسج فلان) فنسجه فلان مع غيره، فإنه يحنث؛ لأنه يقال عنه: من نسج فلان.
__________
(1) البدائع: 79/3.(4/102)
ولو حلف (لا يأكل من طبيخ فلان، أو من خبز فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره أو من خبز مشترك بينه وبين غيره، حنث؛ لأن كل جزء من الطبيخ طبيخ، وكل جزء من الخبز يسمى خبزاً.
أما لو حلف (لا يأكل من قِدْر طبخها فلان) فأكل مما طبخ فلان مع غيره فلا يحنث؛ لأن كل جزء من القِدْر ليس بقدر.
وكذا لو حلف (لا يأكل لفلان رغيفاً) فأكل رغيفاً مشتركاً: لا يحنث، لأن بعضه لا يسمى رغيفاً. والمقصود من الخباز: هو الذي يضرب الخبز في التنور أو الفرن، دون من عجنه وبسطه. وأما الطابخ: فهو الذي يوقد النار، دون الذي ينصب القدر، ويصب الماء واللحم فيه؛ لأن ذلك من مقدمات الطبخ؛ لأن الطبخ ما ينضج به اللحم، وهو يحصل بإيقاد النار.
ولو حلف (لا يأكل من كسب فلان) فالكسب: ما صار ملكاً للإنسان بفعله أو بقوله، مثل الاستيلاء على المباحات، والاصطياد، والبيع، والإجارة وقبول الهبة والصدقة والوصية ونحوها مما يحتاج إلى قبول لترتب الأثر الشرعي عليه.
أما الميراث: فليس بكسب للوارث؛ لأنه يثبت له الملك فيه من غير إرادة منه.
ولو مات المحلوف عليه، وقد كسب شيئاً فورثه رجل، فأكل الحالف منه: حنث؛ لأنه أكل من أكساب المحلوف عليه، وهو ليس كسباً للوارث، فيظل منسوباً للمورث.
أما لو باع المحلوف عليه كسبه إلى رجل، فأكل منه الحالف فلا يحنث؛ لأن ملكيته انتقلت إلى المشتري، فلم يبق منسوباً إلى المالك الأصلي (1) .
البحث الثاني - فعل الغير بأمر الحالف:
لو حلف إنسان على فعل، فقال: (والله لا أفعل كذا) ثم أمر غيره بأن يفعله، ففعل، ينظر في طبيعة المحلوف عليه:
__________
(1) البدائع: 57/3، 64.(4/103)
1 - إن كان فعلاً له حقوق (1) ترجع إلى الفاعل كالبيع والشراء والإجارة، والقسمة: لا يحنث؛ لأن حقوق هذه العقود تختص بالعاقد المباشر لها دون الآمر وحينئذ لا ينسب الفعل إلى الآمر، وإنما ينسب إلى الفاعل باعتبار أنه العاقد في الحقيقة. وأما ما يرجع للآمر فهو حكم العقد أي (الغرض والغاية من إنشائه) ففي البيع: الحكم هو انتقال ملكية المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع.
ففي هذه الزمرة من العقود لا يحنث الحالف على فعلها كما بينت إلا إذا كان الحالف ممن لا يتولى القيام بهذه العقود بنفسه، كالقاضي والسلطان ونحوهما، فيحنث بمجرد أمر غيره بهذه الأفعال؛ لأن المعتاد أن تتم هذه العقود بواسطة غيره.
وكذلك لو كان الوكيل هو الحالف فإنه يحنث؛ لأن حقوق العقد راجعة إليه، وأنه هو العاقد حقيقة، لا الآمر.
2 - وإن كان المحلوف عليه فعلاً ترجع حقوقه إلى الآمر، أو كان مما ليس له حقوق، كالنكاح والطلاق والهبة والصدقة والكسوة وقضاء الحقوق واقتضائها والادعاء أمام القضاء والشركة: بأن حلف لا يشارك رجلاً، فأمر غيره بأن يعقد عقد الشركة معه، وكالضرب والذبح والقتل والبناء والخياطة والنفقة ونحوها، فإذا فعل الحالف هذه الأفعال بنفسه، أو أمر غيره ففعل، حنث؛ لأن مالا حقوق له أو ترجع حقوقه إلى الآمر، لا إلى الفاعل ينسب إلى الآمر، لا إلى الفاعل.
وأما عقد الصلح: ففيه روايتان عن أبي يوسف: في رواية إذا حلف لا يصالح، فوكل بالصلح لم يحنث؛ لأن الصلح عقد معاوضة كالبيع. وفي رواية: أنه يحنث؛ لأن الصلح إسقاط حق كالإبراء.
__________
(1) حقوق العقد: هي الأعمال التي لا بد منها للوصول إلى حكم العقد لتمام الغاية والغرض منه، مثل تسليم المبيع وقبض الثمن والرد بالعيب أو بخيار الرؤية أو الشرط.(4/104)
فإن قال الحالف في زمرة الأفعال التي ترجع الحقوق فيها إلى الآمر كالنكاح والطلاق: (نويت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة فيما بينه وبين الله تعالى، لا قضاء، لأنه نوى ما يحتمله كلامه إلا أنه خلاف الظاهر.
ولو قال الحالف فيما لا حقوق له كالضرب والذبح: (عنيت أن أباشر ذلك بنفسي) يصدق ديانة وقضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه؛ لأن الضرب والذبح من الأفعال الحقيقية لا الحكمية أو الاعتبارية، فكانت العبرة فيه لمباشرة الفعل (1) .
المطلب الحادي عشر ـ الحلف على تصرفات شرعية:
الكلام في المطالب السابقة كان محصوراً في الحلف على الأمور العادية التي يمارسها الإنسان عادة بحكم تقلب شؤونه في هذه الحياة. وهذا المطلب مخصص للبحث عن أحوال اليمين التي يحلفها الحالف على الأمور الشرعية، باعتبار أن الشارع له حكم فيها من ناحية الصحة والفساد، مثل البيع والشراء والهبة والعارية والصدقة والقرض والتزويج والصلاة والصوم ونحوها.
الحلف على عدم شراء الذهب والفضة: إذا حلف شخص (لايشتري ذهباً ولا فضة) فاشترى عملة نقدية فضية كالدراهم في الماضي، أو ذهبية كالدنانير، أو آنية أو سبيكة أو حلياً مصوغاً أو غيرها مما هو ذهب أو فضة: فإنه يحنث عند أبي يوسف. وقال محمد: لا يحنث في الدراهم والدنانير.
وسبب الخلاف هو أن أبا يوسف يعتبر الحقيقة اللغوية في هذه الأمور. ومحمد: يعتبر العرف السائد عند الناس.
__________
(1) البدائع: 82/3 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 104/2.(4/105)
عدم شراء الصوف: لو حلف لا يشتري صوفاً، فاشترى شاة على ظهرها صوف: لم يحنث. والقاعدة في مثل هذا: أن من حلف لا يشتري شيئاً، فاشترى غيره، ودخل المحلوف عليه في البيع تبعاً: لم يحنث، وإن دخل مقصوداً يحنث. والصوف ههنا لم يدخل في العقد مقصوداً؛ لأن التسمية لم تتناول الصوف، وإنما دخل في العقد تبعاً للشاة (1) .
عدم الهبة والصدقة ونحوهما لو حلف لا يهب لفلان شيئاً، أو لا يتصدق عليه، أو لا يعيره، أو لا ينحل له أو لا يعطيه، ثم وهب له أو تصدق عليه، أو أعاره أو نحله أو أعطاه فلم يقبل المحلوف عليه: يحنث عند جمهور الحنفية. وعند زفر: لا يحنث.
وأما القرض: فقد روي عن محمد أنه لا يحنث ما لم يقبل، وعن أبي يوسف روايتان: في رواية مثل قول محمد، وفي رواية: يحنث من غير قبول، وهو الأرجح؛ لأن القرض لا تتوقف صحته على تسمية عوض، فهو كالهبة. ووجه قول محمد: أن القرض يشبه البيع، لأنه تمليك بعوض.
عدم البيع والإجارة ونحوهما: إن حلف الشخص على عقد فيه عوض كالبيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها، ففعل الحالف، ولم يقبل الآخر: لا يحنث.
والفرق بين عقود التبرعات كالهبة ونحوها، وعقود المعاوضات كالبيع ونحوه: هو أن التبرعات تفيد التمليك من جانب واحد وهو المتبرع، وأما القبول فهو شرط لثبوت الحكم في حق الجانب الآخر، أي أنه شرط فقط لترتب الأثر الشرعي على العقد: وهو انتقال الملكية بالنسبة إليه، فإذا وجد مايطلق عليه اسم العقد لغة واصطلاحاً عند الفقهاء، يحنث.
وأما المعاوضات: فلا تفيد التمليك إلا بإرادة المتعاقدين لغة وشرعاً فلا يتحقق وجود اسم العقد إلا بوجود الإيجاب من أحد المتعاقدين، والقبول من المتعاقد الآخر، وحينئذ يحنث.
__________
(1) البدائع: 81/3.(4/106)
فإذا كان البيع صحيحاً وتم قبول المشتري: يحنث الحالف، وكذلك يحنث إن كان البيع فاسداً إن تحقق قبول المشتري وقبض المبيع فعلاً؛ لأن اسم البيع يتناول الصحيح والفاسد: وهو مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه.
ولو باع بيعاً فيه خيار للبائع أو للمشتري: حنث عند محمد، ولم يحنث عند أبي يوسف. وجه قول محمد: أن البيع كما يطلق على البيع البات، أي الذي لاخيار فيه، يطلق أيضاً على البيع الذي فيه خيار، فإن كل واحد منهما يسمى بيعاً في عرف الناس، إلا أن انتقال الملكية في بيع الخيار يتوقف على أمر آخر هو إجازة البيع أو سقوط الخيار فأشبه البيع الفاسد.
ووجه قول أبي يوسف: أن وجود شرط الخيار يمنع نقل الملكية، فأشبه حالة وجود الإيجاب فقط من أحد المتعاقدين دون القبول (1) .
الحلف على عدم الزواج: لو حلف (لا يتزوج هذه المرأة) فيقع على الزواج الصحيح دون الفاسد، فلو تزوج المرأة بنكاح فاسد: لا يحنث؛ لأن المقصود من النكاح هو حل المرأة، ولا يثبت الحل بالفاسد، بخلاف البيع، فإن المقصود منه الملك، ويثبت الملك بالفاسد.
__________
(1) البدائع، المرجع السابق: ص 83.(4/107)
وقال الشافعية (1) : حلف لا يبيع أو لا يشتري، فعقد لنفسه أو غيره، حنث، ولا يحنث بعقد وكيله له. ولو حلف لا يُزوج أو لا يطلق أو لايضرب، فوكل من فعله لا يحنث، إلا أن يريد ألا يفعل هو ولا غيره. وإن حلف لا ينكح، حنث بعقد وكيله له، لا بقبوله هو لغيره. ورأى الحنابلة والمالكية (2) أن من حلف لا يفعل شيئاً كالشراء والضرب، فوكل في فعله حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه.
الحلف على عدم الصلاة والصوم: وكذلك لو حلف لا يصلي ولا يصوم، فيقع على الصحيح دون الفاسد، حتى لو صلى بغير طهارة أو صام بغير نية: لا يحنث؛ لأن المقصود منه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل التقرب بالفاسد من الصلوات أو الصيام.
أما إذا حلف في الماضي بأن قال: (والله ما تزوجت) أو (ما صليت) أو (ماصمت) فإنه يقع على الصحيح والفاسد؛ لأن القصد من كلامه هو الإخبار عن الصلاة وغيرها، واسم الصلاة أو النكاح أو الصوم يطلق على الصحيح والفاسد، فإن قصد الصحيح صدق قضاء.
ولو حلف (لا يصلي) فكبر، ودخل في الصلاة: لم يحنث حتى يركع ويسجد سجدة استحساناً؛ لأن الصلاة أفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود، والمتركب من أجزاء مختلفة: لا يوجد ما لم يكتمل كله، فما لم توجد هذه الأفعال كلها لا يوجد فعل الصلاة، وبالتالي لا يسمى مصلياً. وهذا بخلاف الصوم: ففي صوم ساعة يحصل فعل الصوم.
وبخلاف ما لو حلف (لا يصلي صلاة) لا يحنث، ما لم يصل ركعتين، لأن أدنى الصلاة ركعتان.
ولو حلف (لا يصلي الظهر) : لا يحنث ما لم يتشهد التشهد الأخير: لأن صلاة الظهر مقدرة بأربع ركعات، فما لم توجد الأربع، لا توجد الظهر.
ولو حلف (لا يصوم) فأصبح صائماً لمدة ساعة ثم أفطر: يحنث لأنه يسمى صائماً بصوم ساعة واحدة، إذ الصوم هو الإمساك عن المفطرات على قصد التقرب، وبه وجد شرط الحنث.
ولو حلف (لا يصوم يوماً) : لا يحنث حتى يصوم يوماً كاملاً، لأنه جعل شرط الحنث صوماً مقدراً باليوم.
ولو حلف (لا يصوم صوماً) : لم يحنث مالم يصم اليوم؛ لأن أقل الصوم الشرعي يوم كامل.
ولو حلف (ليفطرن عند فلان) فأفطر بالماء في منزله، ثم تعشى عند فلان: حنث؛ لأن شرط بره هو الإفطار عند فلان، والإفطار اسم لما يضاد الصوم أي نقيض الصوم، وقد حصل المعنى بالإفطار في منزله بالماء. أما إن نوى بالإفطار تناول العشاء عند فلان: لا يحنث لأنه نوى به أمراً متعارفاً، يقال: (فلان يفطر عند فلان) إذا كان يتعشى عنده، حتى ولو كان أصل الإفطار يقع في منزله.
__________
(1) مغني المحتاج: 350/4.
(2) المغني: 724/8 ومابعدها.(4/108)
الحلف على (عدم الحج) : لو حلف (لا يحج) أو (لا يحج حجة) : لا يحنث حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأن الحج عبادة مركبة من أجناس أفعال من الوقوف بعرفة، والطواف والسعي وغيرها، فيكون اسم الحج واقعاً على كل الأفعال حقيقة، لا على البعض، وللأكثر حكم الكل، فإذا طاف أكثر الطواف: حنث.
ولو حلف (لا يعتمر) فأحرم، وطاف أربعة أشواط: حنث؛ لأنه وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل كما تقدم، فإن جامع الرجل امرأته في الحج: لايحنث؛ لأن الحج قربة إلى الله تعالى، فتنعقد اليمين على الحج الذي هو قربة أي عبادة: وهو الحج الصحيح لا الفاسد؛ لأن الفاسد ليس بقربة (1) .
الفَصْلُ الثَّاني: النّذور
خطة الموضوع:
أذكر في هذا البحث ثلاثة أمور: تعريف النذر وشروط النذر، وحكم النذر.
تعريف النذر وركنه: النذر لغة: الوعد بخير أو شر، وشرعاً: الوعد بخير خاصة.
وقال بعضهم: هو التزام قربة لم تتعين (2) . وركنه عند الحنفية: هو الصيغة الدالة عليه مثل قول الشخص: (لله علي كذا) و (علي كذا) أو (علي نذر) أو (هذا هدي) أو (صدقة) أو (مالي صدقة) أو (ما أملك صدقة) ونحوها (3) .
وللنذر عند الجمهور غير الحنفية أركان ثلاثة: الناذر، والمنذور، وصيغة النذر. فأما الناذر: فهو كل مكلف مسلم، فلا نذر للصبي والمجنون والكافر.
وأما المنذور فنوعان: مبهم ومعين، فالمبهم: ما لا يبين نوعه كقوله: لله علي نذر، وحكمه أن فيه في رأي المالكية كفارة يمين. والمعين: أربعة أنواع:
الأول ـ قربة، فيجب الوفاء بها.
الثاني ـ معصية، فيحرم الوفاء بها. الثالث ـ مكروه، فيكره الوفاء به.
__________
(1) البدائع: 84/3 ومابعدها، تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 48/2 ومابعدها، فتح القدير: 93/4 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 108/2 ومابعدها، المغني: 720/8.
(2) مغني المحتاج: 354/4 وقال الراغب: النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر.
(3) البدائع: 81/5.(4/109)
الرابع ـ مباح، فيباح الوفاء به وتركه، وليس على من تركه شيء.
وأما الصيغة، فنوعان أيضاً: مطلق ومقيد.
فأما المطلق فما كان شكراً لله على نعمة أو لغير سبب، مثل لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا، وهو مستحب عند المالكية، ويجب الوفاء به.
وأما المقيد: فهو المعلق بشرط، كقوله: إن قدم فلان أو شفى الله مريضي فعلي كذا. وحكمه: أنه يلزم الوفاء به بتحقق الشرط.
وهو مباح عند المالكية وقيل: مكروه.
شروط النذر: هناك شروط في الناذر وشروط في المنذور به، أما شروط الناذر فهي ما يأتي (1) :
أولاً ـ الأهلية من العقل والبلوغ: فلا ينعقد نذر المجنون والصبي غير المميز والصبي المميز؛ لأن هؤلاء غير مكلفين بشيء من الأحكام الشرعية، فليسوا أهلاً للالتزام.
ثانياً ـ الإسلام: فلا يصح نذر الكافر، حتى لو نذر، ثم أسلم، لا يلزمه الوفاء بنذره لعدم أهليته للقربة أو التزامها.
__________
(1) انظر البدائع، المرجع السابق: ص 81 ومابعدها، مغني المحتاج، المرجع السابق، الشرح الكبير للدردير: 161/2، القوانين الفقهية: ص 167 ومابعدها.(4/110)
وأما الحرية فليست بشرط لصحة النذر، فيصح نذر المملوك. وكذلك الاختيار أو الطواعية ليس بشرط عند الحنفية، وهو شرط عند الشافعية فلا يصح نذر المكره عندهم لخبر: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه» (1) .
وأما شروط المنذور به فهي مايلي (2) :
أولاً ـ أن يكون المنذور به متصور الوجود في نفسه شرعاً: فلا يصح النذر بما لايتصور وجوده شرعاً كمن قال: (لله علي أن أصوم ليلاً) أو قالت المرأة: (لله علي أن أصوم أيام حيضي) لأن الليل ليس محل الصوم، والحيض مناف له شرعاً؛ إذ الطهارة عن الحيض والنفاس شرط وجود الصوم الشرعي.
ثانياً ـ أن يكون المنذور به قربة: كصلاة وصيام وحج وصدقة، فلا يصح النذر بما ليس بقربة كالنذر بالمعاصي بأن يقول: (لله علي أن أشرب الخمر) أو (أقتل فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) وهذا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم (3) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لانذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» (4) وقوله عليه السلام: «لا نذر إلا مايُبتغى به وجه الله تعالى» (5) وقوله أيضاً:
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير عن ثوبان، وهو حديث صحيح، وروي عن غيره، وقد سبق تخريجه، وهو بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ثلاثة: الخطأ والنسيان وماأكرهوا عليه» .
(2) البدائع، المرجع السابق: ص 82 ومابعدها.
(3) انظر بداية المجتهد: 409/1، المحلى: 3/8، مختصر الطحاوي: ص 316، مغني المحتاج: 354/4، المغني: 3/9، المهذب: 242/1، القوانين الفقهية: ص 168.
(4) رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وروى النسائي وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نذر، ولا يمين فيما لا تملك، ولا في معصية، ولا في قطيعة رحم» (نصب الراية: 300/3، جامع الأصول: 188/12، نيل الأوطار: 238/8) .
(5) رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص (جامع الأصول، المرجع السابق) وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى» (نيل الأوطار: 242/8) .(4/111)
«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (1) ولأن حكم النذر: وجوب المنذور به، ووجوب فعل المعصية محال، وعليه فإنه يحرم الوفاء بالمعصية، ولايجب عند الجمهور على الناذر شيء. وقال أبو حنيفة: عليه كفارة يمين، كما سيأتي.
وكذلك لايلزم النذر بالمباحات من الأكل والشرب واللبس والركوب وطلاق المرأة؛ لأن هذه الأمور ليست قربة لله، فلا تلزم بالنذر.
ثالثاً ـ أن يكون قربة مقصودة: فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز والوضوء وتكفين الميت والاغتسال ودخول المسجد ومس المصحف والأذان وبناء الرباطات (2) والمساجد ونحوها؛ لأن هذه الأمور، وإن كانت قُرَباً لله إلا أنها ليست قرباً مقصودة لذاتها عادة. ومن المعلوم أن النذر قربة مقصودة لذاتها كاليمين، فلا يصح نذر ماليس عبادة أو طاعة مقصودة لنفسها (3) ، وإنما يصح نذر الصلاة والصوم والحج والعمرة والاعتكاف ونحوها؛ لأنها عبادات مقصودة، ومن جنسها واجب شرعاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» .
وقال الشافعية: الصحيح انعقاد النذر بكل قربة لاتجب ابتداء كعيادة مريض وتشييع جنازة والسلام على الغير أو على نفسه إذا دخل بيتاً خالياً، وتشميت العاطس، وزيارة القادم؛ لأن الشارع رغب فيها، والعبد يتقرب بها، فهي كالعبادات. وأما القرب التي يجب جنسها بالشرع كالصلاة والصوم والحج: فإنها تلزم بالنذر قطعاً بدون خلاف، وكون الاعتكاف يلزم بالنذر وهو أنه يوجد من جنسه في الشرع ماهو واجب وهو الوقوف بعرفة والقعدة الأخيرة في الصلاة، فهذان يعتبران مكثاً كالاعتكاف (4) .
ولو قال شخص: (لله علي أن أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق) يصح نذره عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأنه نذر بقربة مقصودة، فيصح النذر، كما لو نذر الصوم في غير هذه الأيام.
__________
(1) رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها (انظر تخريج وتحقيق أحاديث تحفة الفقهاء: 459/2 ومابعدها للمؤلف مع الأستاذ المنتصر الكتاني) .
(2) الرباطات: المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء.
(3) انظر البدائع: 82/5، فتح القدير والعناية: 27/4، الدر المختار ورد المحتار: 73/3.
(4) مغني المحتاج: 370/4.(4/112)
وقال جمهور العلماء وزفر من الحنفية: لايصح نذر يوم العيد أو أيام التشريق؛ لأنه نذر بما هو معصية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الصوم في هذه الأيام، فقال: «ألا لاتصوموا، فإنها أيام أكل وشرب» (1) والمنهي عنه يكون معصية، والنذر بالمعاصي لايصح بدليل قوله عليه السلام: «لانذر في معصية الله، ولا فيما لايملكه ابن آدم» (2) .
ولو قال: (لله علي أن أحج ماشياً) يلزمه الحج ماشياً باتفاق الفقهاء، لأنه التزم المشي، وفيه زيادة قربة، قال عليه السلام: «من حج ماشياً فله بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم» ، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «واحدة بسبع مئة» (3) فإن عجز عن المشي ركب، وعليه دم، أي شاة عند الحنفية والمالكية
__________
(1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم والبزار عن عقبة بن عامر بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق: أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومها أحد» وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر» (راجع تخريج أحاديث تحفة الفقهاء للمؤلف مع الأستاذ الكتاني: 296/1) .
(2) المراجع السابقة في بحث شروط المنذور به، البدائع: 83/5.
(3) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن زاذان رضي الله عنه، ولفظه مختصراً: «من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبع مئة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم. قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مئة ألف حسنة» (الترغيب والترهيب: 166/2) .(4/113)
والشافعية، وفي رواية عن أحمد. وأضاف مالك رضي الله عنه أن الناذر يرجع عند العجز، ثم يمشي مرة أخرى من حيث عجز، والدم عنده أي الهدي هو بدنة أو بقرة، أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة (1) . ودليل هذه المسألة ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فسأله: فقال: «إن الله لغني عن نذر أختك، لتركب،، ولتهد ِ بدنة» (2) ولأن المشي صار بالنذر نسكاً واجباً، فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات.
والأرجح عند الحنابلة أنه إذا عجز عن المشي ركب، وعليه كفارة يمين، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله: «لتمش ولتركب، ولتكفر عن يمينها» أخرجه أبو داود، وفي رواية الجوزجاني والترمذي وبقية أصحاب السنن: «فلتصم ثلاثة أيام» ولقوله عليه السلام: «كفارة النذر كفارة يمين» (3) ولأن المشي مما يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه، وحديث الهدي ضعيف كما أشرنا في الحاشية.
__________
(1) انظر البدائع: 84/5، بداية المجتهد: 411/1، مغني المحتاج: 363/4 ومابعدها، المهذب: 245/1 ومابعدها، المغني: 8/9.
(2) رواه أبو داود عن عبد الله بن عباس بهذا اللفظ، ورواه أحمد وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما بلفظ: «إن الله غني عن نذر أختك، ولتركب ولتصم ثلاثة أيام» ورواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عقبة بن عامر بلفظ: «لتمش ولتركب» وفي رواية: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام» (جامع الأصول: 185/12، مجمع الزوائد: 189/4، نصب الراية: 305/3، نيل الأوطار: 246/8، سبل السلام: 113/4) .
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر بلفظ: «كفارة النذر كفارة يمين» وهو حديث صحيح، وهناك روايات أخرى استوفيناها في تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 464/2 وما بعدها.(4/114)
رابعاً ـ أن يكون المال المنذور به مملوكاً للناذر وقت النذر، أو يكون النذر مضافاً إلى المِلْك، أو إلى سبب الملك: فلو نذر في الحال صدقة مالا يملكه لايصح بالاتفاق لقوله عليه الصلاة والسلام: «لانذر فيما لايملكه ابن آدم» . ولو أضاف النذر إلى الملك مثل: كل مال أملكه في المستقبل فهو صدقة، أو أضافه إلى سبب الملك مثل: كل ما أشتريه أو أرثه فهو صدقة: يصح النذر عند الحنفيةخلافاً للشافعي رحمه الله لقوله عز وجل: {ومنهم من عاهد الله: لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} [التوبة:75/9] إلى قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة:77/9] فهذه الآية الشريفة تدل على صحة النذر المضاف إلى الملك (1) .
ودليل الشافعي على أنه لا يصح النذر بالتصدق بما لا يملكه الإنسان: هو حديث عمران بن الحصين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لايملكه ابن آدم» (2) .
خامساً ـ ألا يكون المنذور فرضاً أو واجباً: فلا يصح النذر بشيء من الفرائض، سواء أكان فرض عين كالصلوات الخمس وصوم رمضان، أم فرض كفاية كالجهاد وصلاة الجنازة، ولا بشيء من الواجبات سواء أكان عيناً كالوتر وصدقة الفطر والأضحية أم كفائياً كتجهيز الموتى وغسلهم ورد السلام، لأن إيجاب الواجب لا يتصور (3) .
__________
(1) البدائع: 90/5.
(2) المهذب: 242/1.
(3) البدائع، المرجع السابق.(4/115)
حكم النذر: هذا البحث يتطلب الكلام في أمور ثلاثة هي: أصل الحكم، وفيه تعرف أدلة مشروعية النذر، وقت ثبوت الحكم، وكيفية ثبوت الحكم.
1 - أصل حكم النذر: اختلف العلماء: هل النذر مكروه أو قربة؟ فقال الحنفية: النذر في الطاعات مباح، سواء أكان مطلقاً أم معلقاً على شرط. وقال جماعة: النذر تقرب. ورأى المالكية أن النذر المطلق مندوب، وهو ماليس بمعلق على شيء ولا مكرر بتكرر الأيام كنذر صوم كل يوم خميس، وهو ما أوجبه على نفسه شكراً لله تعالى على نعمة وقعت، كمن شفى الله مريضه أو رزق ولداً أو زوجة، فنذر. أما المكرر كنذر صوم كل يوم خميس فمكروه، وأما المعلق مثل إن شفى الله مريضي فعلي صدقة، ففي كراهته وإباحته تردد، قال الباجي بالكراهة، وقال ابن رشد بالإباحة، وهذا هو الراجح، لكن النذور المعلقة لاتغير من قضاء الله شيئاً، وإنما هي وسيلة لاستخراج الصدقة من البخيل.
وقال الشافعية والحنابلة: إنه مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، فلا يستحب بدليل ماروى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: «إنه لايرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل» وفي لفظ: «أنه لايأتي بخير وإنما (1) ... إلخ» ولأن
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن ابن عمر، وصح أيضاً مسنداً فيما يرويه الجماعة إلا أبا داود من طريق أبي هريرة. قال الخطابي: معنى نهيه عليه السلام عن النذر إنما هو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي عنه قد صار معصية، فلا يلزم الوفاء به: أي أن الحديث متأول وليس على ظاهره، وبمثله قال ابن الأثير في النهاية، وأضاف قوله: وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً، ولا يرد قضاء، فلا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا فعلتم ذلك فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم. وقيل: الحديث على ظاهره فإنه صريح بكراهة النذر، لأنه إنما يفعله البخيل يستخرج به من ماله ما لا تسخو به نفسه إلا قهراً إذا تحقق غرضه المنذور عليه. (راجع المحلى: 4/8، جامع الأصول: 181/12، 243، نيل الأوطار: 240/8، سبل السلام: 110/4) .(4/116)
النذر لو كان مستحباً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه، لكن مع هذا من نذر طاعة لله عز وجل لزمه الوفاء بها بأدلة من القرآن والسنة والمعقول (1) .
أما القرآن: فقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/22] {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} [الإنسان:7/76] {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} [الإسراء:34/17] {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} [النحل:91/16] والنذر نوع من العهد من الناذر مع الله عز وجل، والعقود: العهود.
وأما السنة: ـ فقوله عليه السلام: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» وقوله عليه الصلاة والسلام «من نذر وسمى (2) فعليه الوفاء بما سمى» (3) وكلمة «على» تفيد الإيجاب.
__________
(1) المحلى: 3/8، المغني: 1/9، مغني المحتاج: 354/4، البدائع: 90/5، بداية المجتهد: 409/1، الشرح الكبير لللدردير: 162/2.
(2) أي سمى شيئاً يفعله كالصلاة والصوم والحج ونحوها من الطاعات.
(3) قال الزيلعي في نصب الراية: 300/3 عن هذا الحديث: غريب. وفي وجوب الوفاء بالنذر أحاديث ذكر منها أحاديث ابن عباس وعائشة وابن عمر وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (وراجع أيضاً فتح القدير: 27/4) .(4/117)
وأما المعقول: فهو أن المسلم يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بنوع من القرب المقصودة التي يجوز له تركها، طمعاً في نيل الدرجة العليا عند الله تعالى، وبما أن النذر يوجب فعل المنذور به، فيكون النذر طريقاً لإلزام النفس فعل الشيء ومنعها من الترك، فيتحقق المقصود للناذر.
وقد فصل الحنفية حكم ما يجب الوفاء به بالنظر لتسمية المنذور به وعدم تسميته فقالوا:
أولاً ـ إن نذر الناذر وسمى المنذور به: مثل: (لله علي حج أو عمرة) أو قال: (إن شفى الله مريضي فعلي صدقة مئة ليرة) فيجب عليه الوفاء بما سمى، سواء ـ كما لاحظنا ـ أكان النذر مطلقاً أم معلقاً بشرط، ولا تجزئ عنه الكفارة.
وقال المالكية: النذر نوعان: مطلق ومقيد، فأما المطلق: فهو ما كان شكراً لله على نعمة، أو لغير سبب كقوله: (لله علي أن أصوم كذا أو أصلي كذا) ، وهو مستحب ويجب الوفاء به، سواء ذكر لفظ النذر أو لم يذكره إلا إن قصد الإخبار فلا يجب عليه شيء.
وأما المقيد فهو المعلق بشرط كقوله: إن قدم فلان، أو شفى الله مريضي، أو إن قضى الله حاجتي فعلي كذا، وهو مباح، وقيل: مكروه ويلزم الوفاء به مطلقاً. ولا اعتبار باختلاف الوجوه التي يقع النذر عليها من لَجاج أو غضب أو غيرهما (1) .
وقال الشافعية (2) : إذا كان النذر معلقاً بشرط يفرق بين ما يريد الناذر وقوعه، وبين ما لا يريد وقوعه أي يفرق بين نذر التبرر، ونذر اللَّجاج.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 168، الشرح الكبير: 161/2.
(2) راجع مغني المحتاج: 355/4 ومابعدها، المهذب: 243/1.(4/118)
ونذر التبرر (1) : بأن يلتزم الإنسان قربة إن حدثت نعمة أو ذهبت نقمة، مثل: إن شفى الله مريضي فلله علي صوم أو نحوه، ففي هذا النوع يلزم الناذر بالوفاء بنذره إذا حصل الشرط المعلق عليه.
ونذر اللَّجاج (2) : ويسمى أيضاً يمين اللجاج، والغضب، ويمين الغَلَق: هو الذي خرج مخرج اليمين بأن يقصد الناذر حث نفسه على فعل شيء أو منعها غير قاصد للنذر ولا القربة، مثل: إن كلمت فلاناً فلله علي صوم أو نحوه، فالأظهر في هذا النوع أن الناذر بالخيار: إن شاء وفى بما التزم، وإن شاء كفر كفارة يمين، وهذا هو المقصود بحديث: (كفارة النذر كفارة يمين) (5) فبما أنه لا كفارة في نذر التبرر قطعاً، فتعين أن يكون المراد بالحديث نذر اللجاج.
وبه يتبين أن نذر اللجاج يكون حال الخصومة بدافع من الغضب، ونذر التبرر لا يكون بدافع الخصومة أو الغضب. والنذر المطلق: هو أن يلتزم الناذر قربة لله تعالى، دون تعليق على تحقق غرض معين أو بدافع من الخصومة أو الغضب، مثل: لله علي صيام يوم الخميس.
وقال الحنابلة (4) : حكم نذر اللجاج والغضب حكم اليمين ويخير كما قال الشافعية بين فعل المنذور وبين كفارة اليمين، قال عليه السلام: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» (5) . وقال الإمام مالك: النذر لازم على أية جهة وقع (6) .
ثانياً ـ وإن كان النذر لا تسمية فيه: أي إن المنذور به غير مسمى، فحكمه وجوب مانواه الناذر إن نوى شيئاً، سواء أكان النذر مطلقاً عن الشرط أم مقيداً
__________
(1) هو تفعُّل من البر، سمي بذلك، لأن الناذر طلب به البر والتقرب إلى الله تعالى، وهو يشمل نذر المجازاة أي المكافأة والنذر المطلق.
(2) اللجاج: هو التماحك والتمادي في الخصومة، سمي بذلك لوقوعه حال الغضب.
(3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وزاد فيه: «إذا لم يسمّه» وصححه عن عقبة بن عامر بهذا اللفظ قال ابن حجر: وهو صحيح، وروي بألفاظ أخرى عن عائشة وابن عباس وعمران بن حصين وأبي هريرة (راجع سبل السلام: 111/4، نيل الأوطار: 243/8 وما بعدها، نصب الراية: 295/3، الإلمام: ص 309، تخريج أحاديث التحفة: 465/2) .
(4) المغني: 696/8، 2/9.
(5) رواه النسائي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه (راجع المحلى: 8/8، جامع الأصول: 189/12 ومابعدها) ورواه الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس بلفظ «ولا يمين في غضب» (مجمع الزوائد: 186/4) .
(6) بداية المجتهد: 409/1، الشرح الكبير للدردير: 161/2.(4/119)
بشرط، بأن قال: (لله علي نذر) أو قال: (إن فعلت كذا فلله علي نذر) فإن نوى صوماً أو صلاة أو حجاً أو عمرة لزمه الوفاء به للحال حالة كون النذر مطلقاً، وعند وجود الشرط إذا كان النذر معلقاً بشرط، ولا تجزئ كفارة اليمين.
وإن لم تكن هناك نية عند الناذر وهو النذر المبهم، فعليه كفارة اليمين. وهذه الكفارة تجب حالاً إذا كان النذر مطلقاً عن الشرط، فإن كان معلقاً على شرط فتجب الكفارة عند تحقق الشرط. والدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «النذر يمين، وكفارته كفارة يمين» (1) .
ووجوب الكفارة مقرر عند الحنفية سواء أكان الشرط الذي علق به النذر مباحاً أم معصية، ويجب عليه أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» (3) .
وإذا كان النذر مبهماً ونوى الناذر فيه صياماً ولم ينو عدداً معيناً: فعليه صيام ثلاثة أيام.
وإن نوى في قوله (لله علي نذر) طعاماً ولم ينو عدداً: فعليه طعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة، أي حوالي نصف رطل شامي.
__________
(1) نص الحديث: هو ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس مرفوعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من نذر نذراً لم يسمّه، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً أطاقه فليف به» وهناك روايات أخرى مثل حديث عقبة بن عامر: «كفارة النذر كفارة يمين» (راجع تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 464/2 ومابعدها) وقد سبقت الإشارة إليه.
(2) راجع مذهب الحنفية بهذا التفصيل في المبسوط: 136/8، البدائع: 90/5-92، فتح القدير: 27/4، الفتاوى الهندية: 60/2.
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم. ورواه آخرون عن غيره، وقد سبق تخريجه (انظر نيل الأوطار: 237/8) .(4/120)
ولو قال: (لله علي صدقة) فعليه نصف صاع.
ولو قال: (لله علي صوم) فعليه صوم يوم بالاتفاق.
ولو قال: (لله علي صلاة) فعليه ركعتان بالاتفاق.
والعلة في حكم هذه الصور: هو أن النذر لم يذكر فيه التقدير، فاعتبر أدنى ما ورد به الأمر في الشرع؛ لأن النذر يعتبر بحسب ما جاء به الأمر.
وقال المالكية (1) : من نذر صوم أيام لزمه الأيام التي نواها، وإن لم يعين عدداً كفاه يوم واحد. ولو نذر صوم الدهر لزمه، ولا شيء عليه في أيام العيد والحيض ورمضان، وله الفطر في المرض والسفر، ولا قضاء عليه، إذ لا يمكنه.
وإن نذر صلاةً، لزمه ما نوى، وإلا كفته ركعتان. وإن نذر صدقة جميع ماله أو حلف بذلك، فحنث، كفاه الثلث. وإن عين مقداراً معيناً كالنصف أو الثلثين، لزمه ما نوى. وإن نذر المشي إلى مكة، فإن ذكر الحج أو العمرة، لزمه ذلك، وإن لم يذكر الحج أو العمرة ولا نواهما، وجب عليه الحج أو العمرة، كما بينت. ومن نذر أن يضحي ببدنة، لم تقم مقامها بقرة مع القدرة عليها، أما مع العجز فيجزئه بقرة في رأي مالك.
وكذلك قال الشافعية (2) : من نذر المشي إلى بيت الله أو إتيانه، فالمذهب وجوب إتيانه بحج أو عمرة. وإن نذر أن يحج أو يعتمر ماشياً، فالأظهر وجوب المشي، فإن قال: أحج ماشياً فمن حيث يحرم، وإن قال: أمشي إلى بيت الله تعالى، فمن دويرة أهله في الأصح. هذا إذا كان قادراً على المشي، لأنه التزم جعل
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 168-170، الشرح الكبير: 166/2.
(2) مغني المحتاج: 362/4 ومابعدها.(4/121)
الشيء وصفاً للعبادة، أما إذا لم يكن قادراً على المشي، فلا يلزمه المشي، ويجوز له الركوب، لعجزه عن المشي.
نذر المباح ونذر المعصية:
إذا نذر الإنسان فعل مباح، كما إذا قال: (لله علي أن أمشي إلى بيتي) أو (أركب فرسي) أو (ألبس ثوبي) أو نذر ترك مباح كأن لا يأكل الحلوى: لم يلزمه الفعل ولا الترك لخبر أبي داود: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى» (1) ولخبر البخاري عن ابن عباس «بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب إذا رأى رجلاً قائماً في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، قال: مروه فليتكلم وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» (2) وعن أبي هريرة قال: «نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فسئل نبي الله عن ذلك، فقال: إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب» (3) وأجاب جمهور الفقهاء عن حديث المرأة التي قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: «إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: أوفي بنذرك» (4) بأنه صار ذلك من القرب لما حصل السرور للمسلمين بقدومه صلّى الله عليه وسلم وأغاظ الكفار، وأرغم المنافقين.
__________
(1) رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (انظر تخريج أحاديث تحفة الفقهاء: 461/2، نيل الأوطار: 242/8 ومابعدها، مجمع الزوائد: 186/4) .
(2) وأخرجه أيضاً مالك وابن ماجه وأبو داود (انظر تخريج أحاديث التحفة، المرجع السابق، جامع الأصول: 184/12، نيل الأوطار: 242/8، الإلمام ص 113) ورواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله، وفيه حجاج بن أرطاة وهو مدلس (راجع مجمع الزوائد: 187/4) .
(3) رواه الترمذي عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث صحيح. ولم يأمرها بكفارة (جامع الأصول: 186/12) .
(4) أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (جامع الأصول، المصدر السابق: ص 188، نصب الراية: 300/3) .(4/122)
ولكن ناذر المباح إن خالف مقتضى نذره فهل عليه كفارة؟ قال الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح: لا كفارة عليه لعدم انعقاد النذر. وقال الحنابلة: يتخير ناذر المباح بين فعله فيبر، لحديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف السابق ذكره، وبين تركه وعليه كفارة يمين؛ لأنه ينعقد عندهم نذر المباح بدليل حديث الضرب بالدف (1) .
وأما إذا نذر الإنسان معصية مثل: (لله علي أن أشرب الخمر) و (أقتل فلاناً) أو (أضربه) أو (أشتمه) ونحوه: فلا يجوز الوفاء به إجماعاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نذر في معصية الله» (2) . وهل تجب الكفارة به؟
قال الحنفية والحنابلة: يجب على ناذر المعصية كفارة يمين، لا فعل المعصية، بدليل حديث عمران بن الحصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» (3) .
__________
(1) انظر الموضوع في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة للدمشقي بهامش الميزان: 149/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 357/4، المغني: 5/9، تحفة الفقهاء، الطبعة القديمة: 502/2، بداية المجتهد: 410/1، الشرح الكبير للدردير: 162/2، الفتاوى الهندية: 61/2، القوانين الفقهية: ص168.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن عمران بن حصين بلفظ «لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» وفي لفظ «لا نذر في معصية الله» عند مسلم (راجع جامع الأصول: 188/12، نصب الراية: 300/3، مجمع الزوائد: 187/4) .
(3) حديث عمران خرّجته في الحديث السابق فقد روي بلفظ: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» وحديث أبي هريرة رواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي، قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع. ورواه أحمد وأصحاب السنن عن عائشة بلفظ «لانذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» واحتج به أحمد وإسحاق، وصححه الطحاوي وأبو علي بن السَّكَن، وضعفه جمهور المحدثين، ورواه أبو داود عن ابن عباس بلفظ «من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين» وإسناده حسن، إلا أنه في الأصح موقوف على ابن عباس بلفظ «من نذر نذراً في معصية فكفارته كفارة يمين» وإسناده حسن، إلا أنه في الأصح موقوف على ابن عباس (انظر جامع الأصول: 188/12، نيل الأوطار: 243/8 ومابعدها، سبل السلام: 112/4) .(4/123)
وقال المالكية والشافعية وجمهور العلماء: لايلزمه في ذلك شيء، فلا كفارة عليه، لحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» وأما حديثُ عمران وأبي هريرة، فقال ابن عبد البر: ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة، وقالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث، وحديث عمران يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه مجهول، لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضاً عنده مناكير، وأما حديث عقبة بن عامر: (كفارة النذر كفارة يمين) فهو محمول على نذر اللجاج والغضب (1) .
__________
(1) انظر الموضوع في مراجع نذر المباح: رحمة الأمة: ص 147 ومابعدها، مغني المحتاج: ص 356 ومابعدها، المغني: ص 3، التحفة: ص 502، فتح القدير: 22/4، المحلى: ص 8، بداية المجتهد: ص 409 ومابعدها، الدردير: ص 162، القوانين الفقهية: ص 168.(4/124)
2 - وقت ثبوت حكم النذر: أي الوقت الذي يجب فيه المنذور به، ووقت الوجوب يختلف بحسب ما إذا كان النذر مطلقاً عن الشرط، أو معلقا على شرط أو مقيداً بمكان، أو مضافاً إلى وقت في المستقبل. ومن المعلوم أن المنذور به: إما أن يكون قربة بدنية كالصوم والصلاة، أو قربة مالية كالصدقة (1) .
فإن كان النذرمطلقاً: أي غير معلق بشرط ولا مقيد بمكان أو زمان مثل: لله علي صوم شهر أو حجة أو صدقة أو صلاة ركعتين ونحوه: فيجب عليه في الحال مطلقاً عن الشرط والزمان والمكان؛ لأن سبب الوجوب وجد مطلقاً فيثبت مطلقاً، لكن يندب التعجيل.
وإن كان النذر معلقاً بشرط: إن شفى الله مريضي أو إن قدم فلان الغائب، فلله علي صوم شهر أو صلاة ركعتين أوالتصدق بليرة ونحوه، فإذا وجد الشرط فعليه الوفاء بالنذر نفسه؛ لأن المعلق بالشرط كالمنجز، فلو فعل المشروط قبل وجود الشرط يكون نفلاً؛ لأن المعلق بالشرط غير موجود قبل وجود الشرط.
وإن كان مقيداً بمكان بأن قال: (لله علي أن أصلي ركعتين في موضع كذا) أو (أتصدق على فقراء بلد كذا) يجوز أداؤه في غير ذلك المكان عند أبي حنيفة وصاحبيه؛ لأن المقصود من النذر: هو التقرب إلى الله عز وجل، وليس لذات المكان دخل في القربة.
__________
(1) انظر البدائع: 93/5، فتح القدير: 26/4 ومابعدها، الدر المختار: 75/3، 77، القوانين الفقهية: ص 168.(4/125)
وإن نذر صلاة ركعتين في المسجد الحرام، فأداها في أقل شرفاً منه أو فيما لا شرف له أجزأه عند أئمة الحنفية المذكورين، وأفضل الأماكن: المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم مسجد بيت المقدس، ثم الجامع، ثم مسجد الحي، ثم البيت؛ لأن المقصود هو القربة إلى الله، وهو يتحقق في أي مكان.
وخالف زفر في الحالتين: في حالةالتصدق في مكان، وحالة الصلاة في مكان، فإنه يتعين عليه الوفاء بنذره في المكان المشروط؛ لأن الناذر أوجب على نفسه الأداء في مكان مخصوص، فإذا أدى في غيره لم يكن مؤدياً ما عليه، وفي الصلاة في مسجد، التزم الناذر زيادة قربة فيلزمه.
وقال المالكية (1) : إن نوى الصلاة أو الاعتكاف في مكان أو سمى المسجد كأحد المساجد الثلاثة لزمه الذهاب إليه دون غيرها.
وقال الشافعية (2) : إذا نذر إنسان التصدق بشيء على أهل بلد معين لزمه فيه الوفاء بالتزامه، ولو نذر صوماً في بلد لزمه الصوم؛ لأنه قربة، ولم يتعين مكان
__________
(1) الشرح الصغير: 255/2، 265، القوانين الفقهية: ص 170.
(2) مغني المحتاج: 367/4، المهذب: 243/1 ومابعدها.(4/126)
الصوم في تلك البلد، فله الصوم في غيره. ولو نذر صلاة في بلد لم يتعين لها ويصلي في غيرها؛ لأنها لا تختلف باختلاف الأمكنة إلا المسجد الحرام أي الحرم كله، ومسجد المدينة والمسجد الأقصى إذا نذر الصلاة في أحد هذه المساجد فيتعين لعظم فضلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» (1) .
واستدلوا بدليل نقلي على تعيين مكان التصدق بالنذر: وهو ما روى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: «أن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ـ لمكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية ـ قال: لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: أوفي بنذرك» (2) .
وكذلك قال الحنابلة (3) : يتعين الاعتكاف في أحد المساجد الثلاثة إن نذر الاعتكاف فيها.
وإن كان مضافاً إلى وقت في المستقبل: بأن قال: (لله علي أن أصوم رجب) أو: (أصلي ركعتين يوم كذا) أو: (أتصدق بدرهم في يوم كذا) ، فوقت الوجوب في الصدقة: هو وقت النذر باتفاق الحنفية، حتى إنه يجوز تقديمها على الوقت المحدد.
واختلف الحنفية في الصوم والصلاة: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: وقت الوجوب فيهما وقت النذر؛ لأن الوقت للتقدير، لا لتعين الواجب؛ لأن الأوقات في معنى العبادة سواء. وبناء عليه يجوز تقديم المنذور به على الوقت.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده والشيخان: البخاري ومسلم، والبيهقي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أحمد والشيخان والبيهقي والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو حديث صحيح (انظر نيل الأوطار: 253/8، سبل السلام: 114/4) .
(2) رواه أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو تتمة حديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف عند الرسول صلّى الله عليه وسلم السابق تخريجه، وفي معناه أحاديث أخرى. قال ابن الأثير في النهاية: الفرق بين الوثن والصنم: أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل، وتنصب، فتعبد. والصنم: الصورة بلا جثة. ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين. وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: «قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك» (انظر نصب الراية: 300/3، نيل الأوطار: 249/8 ومابعدها، الإلمام: ص 309 ومابعدها، جامع الأصول: 187/12، مجمع الزوائد: 191/4) .
(3) كشاف القناع: 412/2.(4/127)
وقال محمد: وقت الوجوب هو حين مجيء الوقت؛ لأن الناذر أوجب على نفسه الصوم في وقت مخصوص، فلا يجب عليه قبل مجيئه بخلاف الصدقة؛ لأنها عبادة مالية، لا تعلق لها بالوقت بل بالمال، فكان ذكر الوقت فيه لغواً بخلاف العبادة البدنية.
ومن نذر أن يذبح ولده، نحر شاة عند أبي حنيفة، وجزوراً فداء عند مالك، وقال الشافعي: لا شيء عليه؛ لأنها معصية. وقال أحمد في رواية عنه: عليه كفارة يمين، وهذا قياس المذهب؛ لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج. وفي رواية ثانية كما قال أبو حنيفة: كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين، عملاً بفداء ولد إبراهيم حينما أمر بذبحه (1) . ومن نذر ذبح نفسه أو أجنبي، ففيه أيضاً عن أحمد روايتان.
3 - كيفية ثبوت حكم النذر: النذر إما أن يضاف إلى وقت مبهم أو إلى وقت معين:
فإن أضيف إلى وقت مبهم بأن قال: (لله علي أن أصوم شهراً) ولا نية له: فحكمه حكم الواجب المطلق عن الوقت (2) . ومن المعروف أن علماء الأصول اختلفوا في وقت وجوب الواجب. فقال بعضهم: على الفور، وقال الأكثرون: على التراخي: ففي أي جزء من العمر يجوز القيام به ويتضيق الوجوب في آخر العمر إذا بقي من العمر في غالب الظن قدر ما يسع الأداء، ويسن تعجيل الوفاء بالنذر، وهذا هو الرأي الصحيح. وهو ينطبق على نذر الاعتكاف المضاف إلى وقت مبهم بأن قال: (لله علي أن أعتكف شهراً) ولا نية له.. ولكن هناك فرقاً بين الصوم والاعتكاف: في الصوم يخير الناذر بين متابعة الصوم وتفرقته، أما في الاعتكاف فيلزم الناذر عند الجمهور غير الشافعية بالتتابع في النهار والليل؛ لأن طبيعة الاعتكاف وهو اللبث على الدوام تتطلب القيام به على الاتصال، فلا بد من التتابع. وأما الصوم فليس مبنياً على التتابع لوجود فاصل الليل بين كل يومين. فإن قيد نذر الصوم بتفريق أو موالاة وجب.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 170، المغني: 708/8 ومابعدها.
(2) الواجب المطلق: هو ما طلب الشارع فعله حتماً، ولم يعين وقتاً لأدائه، كالكفارة الواجبة على من حلف يميناً وحنث، فليس لفعل هذا الواجب وقت معين، فإذا شاء الحانث كفر بعد الحنث مباشرة، وإن شاء كفر بعد ذلك (انظر أصول الفقه للمؤلف: 49/1) .(4/128)
وإن أضيف النذر إلى وقت معين بأن قال: (لله علي صوم غد) فيجب عليه صوم الغد وجوباً مضيقاً ليس له تأخيره من غير عذر، وإذا قال: (لله علي صوم رجب) فيجب عليه صيام شهر، سواء أكان قبل مجيء رجب أم بمجرد مجيئه، ولا يجوز التأخير عن رجب من غير عذر. فإن صام رجب إلا يوماً يقضي ذلك اليوم من شهر آخر، ولو أفطر رجب كله قضى في شهر آخر، لأنه فوت الواجب عن وقته، فصار ديناً عليه (1) ، والدين مقضي على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2) .
وقال الشافعية: إن نذر صوم سنة معينة، صامها وأفطر العيد والتشريق، وصام رمضان عنه ولا قضاء، ولا تقضي المرأة في الأظهر أيام الحيض والنفاس. وإن أفطر يوماً بلا عذر وجب قضاؤه. فإن شرط التتابع وجب في الأصح. ويقضي رمضان والعيدين والتشريق؛ لأنه التزم صوم سنة ولم يصمها. وكذا تقضي المرأة في الأظهر أيام الحيض والنفاس.
ومن شرع في صوم نفل، فنذر إتمامه، لزمه على الصحيح.
ولو قال: (إن قدم زيد، فلله علي صوم اليوم التالي ليوم قدومه) : لزمه صومه فيه.
__________
(1) انظر هذا المطلب في البدائع: 94/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 359/4 ومابعدها.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة، قال الترمذي: حديث حسن وصححه ابن حبان. ورواه أيضاً أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى والدارقطني وابن أبي شيبة وعبد الرزاق (نصب الراية: 57/4) .(4/129)
الفَصْلُ الثَّالث: الكفَّارات
أنواع الكفارات: الكفارات أربعة أنواع: كفارة ظهار، وكفارة قتل خطأ (ويقاس عليه القتل العمد عند الشافعية) وكفارة جماع نهار رمضان عمداً (ويقاس عليه الأكل والشرب عمداً عند الحنفية والمالكية) (1) وكفارة يمين. والخصال الواجبة للكفارة في الأنواع الثلاثة الأولى مرتبة: (وهي إعتاق رقبة، فإن عجز عن الرقبة وجب صوم شهرين متتابعين، فإن عجز عن الصوم وجب إطعام ستين مسكيناً إلا القتل فلا إطعام فيه اقتصاراً على الوارد فيه النص) . لكن كفارة إفساد الصوم بالجماع في نهار رمضان مخيرة الخصال عند المالكية، والإطعام أفضل الخصال عندهم. وأما خصال كفارة اليمين فهي مرتبة مخيرة: (وهي كما سنعلم إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن عجز عن ذلك وجب صوم ثلاثة أيام) (2) وسأفصل موضوع الكفارة الأخيرة محل البحث.
وقد بينت في بحث الصيام أحكام أربع كفارات: كفارة إفساد صوم رمضان، وكفارة المسافر والمريض إذا لم يقضيا الصوم في عامهما، وكفارة الكبير العاجز عن الصوم، وكفارة الحامل والمرضع عند الشافعية إذا أفطرتا خوفاً على طفلهما. وأوضحت أيضاً في بحث الحج كفارات الحج. وذكرت في النذر كفارة نذر اللجاج وهي كفارة اليمين. وسأذكر في بحث الظهار والقتل كفارتيهما. وإقامة الحد عند الجمهور غير الحنفية كفارة للقتل، كما سيتضح في بحث الحدود.
__________
(1) راجع أصول الفقه الإسلامي للمؤلف، طبعة دار الفكر: 692/1-693.
(2) تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: ص 103 وما بعدها.(4/130)
كفارة اليمين
خطة الموضوع:
الكلام في هذه الكفارة عن الأصل في مشروعيتها، وسبب وجوبها، ونوع الواجب فيها، والخصال الواجبه فيها.
مشروعية الكفارة: الكفارة مشتقة من الكفر بفتح الكاف أي الستر، فهي ستارة للذنب الحاصل بسبب الحنث في اليمين، فاليمين سبب للكفارة.
والأصل في كفارة اليمين: الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} [المائدة:89/5] .
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» (1) .
وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى (2) .
سبب وجوبها: تجب الكفارة بالحنث في اليمين، سواء أكانت في طاعة أم في معصية أم مباح، ولا يجوز التكفير قبل اليمين باتفاق العلماء؛ لأنه تقديم للحكم قبل سببه، فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب.
تقديم الكفارة على الحنث: وهل الكفارة قبل الحنث أفضل أو بعده؟ قال الحنابلة: الكفارة قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة. وقال مالك والشافعية: الكفارة بعد الحنث أفضل لما فيه من الخروج من الخلاف، وحصول اليقين ببراءة الذمة، فيجوز تقديم الكفارة المالية للصوم.
__________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه عن عبد الرحمن بن سمرة، ورواه بعض هؤلاء وآخرون عن غيره، وقد سبق تخريجه (انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري: 300/12) .
(2) المغني: 733/8، فتح القدير: 18/4، المبسوط: 147/8.(4/131)
وقال أبو حنيفة: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقاً، إنما تجزئ إذا أخرجها بعد الحنث (1) . وهذا أولى الآراء؛ لأن المسبب يكون عادة بعد السبب.
نوع الواجب في الكفارة: الكفارة واجب مطلق، أي ليس له وقت محدد لأدائه، فيجوز القيام به بعد الحنث مباشرة أو بعده في أثناء العمر.
ثم إن الواجب في الكفارة واجب مخير حالة اليسار: (توفر المقدرة المالية) يعني أن الموسر مخير بين أحد أمور ثلاثة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو إعتاق رقبة. وهذا بإجماع العلماء المستند إلى صريح الآية القرآنية السابق ذكرها: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة:89/5] لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف (أو) وهو للتخيير (2) .
فإذا عجز الإنسان عن كل واحد من الخصال الثلاثة المذكورة، لزمه صوم ثلاثة أيام، للآية السابقة: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/5] والمراد بالعجز: ألا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة، كمن يجد كفايته في يومه وليلته وكفاية من تلزمه نفقته فقط، ولا يجد ما يفضل عنها (3) .
وينظر إلى العجز وقت الأداء، أي أداء الكفارة عند الحنفية والمالكية والشافعية، فلو حنث الحالف، وكان موسراً وقت الحنث، ثم أعسر، جاز له الصوم عندهم؛ لأن الكفارة عبادة لها بدل، فينظر فيها إلى وقت الأداء، لا وقت الوجوب كالصلاة إذا فاتت في حال الصحة، فقضاها قاعداً أو بالإيماء حال المرض فإنه يجوز.
ويشترط عند الحنفية استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو شرع في الصوم ثم قدر على الإطعام أو الكسوة أو العتق، ولو قبل فراغه من صوم اليوم الثالث بساعة مثلاً: لا يجوز له الصوم، ويرجع إلى التكفير بالمال (4) .
__________
(1) المغني، المرجع السابق: ص 712 -714، بداية المجتهد: 406/1، الميزان للشعراني: 130/2، مغني المحتاج: 326/4، الدر المختار: 67/3، المهذب: 141/2، شرح تحفة الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري: 481/2، المبسوط للسرخسي: 147/8، فتح القدير: 20/4، القوانين الفقهية: ص 166.
(2) المبسوط: 127/8، الفتاوى الهندية: 157/2، المغني: 734/8، بداية المجتهد: 403/1، البدائع: 97/5، مغني المحتاج: 327/4.
(3) مغني المحتاج: 728/4، المغني: 756/8، الفتاوى الهندية: 57/2، نهاية المحتاج للرملي: 40/8، المهذب: 141/2، الشرح الكبير: 133/2.
(4) البدائع: 97/3، الدر المختار: 67/3، تبيين الحقائق: 113/3.(4/132)
كذلك ينظر عند المالكية والشافعية إلى العجز وقت إرادة التكفير. أما إذا شرع في الصوم، ثم قدر على المال فلا يلزمه عند هؤلاء الرجوع عن الصوم إلى الكفارة المالية؛ لأن الصوم بدل عن غيره، فلا يبطل بالقدرة على المبدل عنه، ولو وجبت الكفارة على موسر ثم أعسر لم يجزئه الصوم عند هؤلاء (3) ، بعكس الحنفية في المسألتين.
والمعتبر عند الحنابلة وقت الوجوب أي حالة الحنث.
خصال الكفارة: عرفنا أن كفارة اليمين هي إما الإطعام أو الكسوة أو العتق، فإن عجز عن أحد هذه الخصال صام ثلاثة أيام. فما هو الواجب في كل حالة؟
1 - ما مقدار الإطعام وما المقصود به؟ قال الحنفية: إن المقصود من الإطعام هو مجرد الإباحة لا التمليك؛ لأن النص القرآني ورد بلفظ الإطعام: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/5] والإطعام في متعارف اللغة: هو التمكين من المطعم أي (الآكل) لا التمليك، وكذا إشارة النص دليل على قولهم، لأن الله تعالى: {إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/5] والمسكنة: هي الحاجة، وهو محتاج إلى أكل الطعام دون تملكه، فكان في إضافة الإطعام إلى المساكين إشارة إلى أن الإطعام هو الفعل الذي يصير المسكين به متمكناً من الطعام لا التمليك، بخلاف الزكاة وصدقة
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 133/2، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المنهاج للمحلي: 275/4، المغني: 755/8، 762 وما بعدها.(4/133)
الفطر والعشر الواجب على الزروع البعلية، لا بد فيها من التمليك؛ لأن النص ورد فيها بلفظ الإيتاء لا بلفظ الإطعام (1) .
وقال الجمهور: لا بد من تمليك الطعام للفقراء ككل الواجبات المالية؛ لأن الواجب المالي لا بد من أن يكون معلوم القدر ليتمكن المكلف من الإتيان به، والطعام المباح للغير ليس له قدر معلوم، لا سيما وأن كل مسكين يختلف عن الآخر صغراً وكبراً، جوعاً وشبعاً (2) .
والخلاصة: إن التمليك عند الحنفية ليس بشرط لجواز الإطعام، بل الشرط هو التمكين، فيكفي دعوة المساكين إلى قوت يوم: وهو غداء وعشاء، فإذا حضروا وتغدوا وتعشوا كان ذلك جائزاً. وعند غير الحنفية: لا بد من التمليك بالفعل أخذاً.
ويجب أن يكون المخرج سالماً من العيب، فلا يكون الحب مسوساً، ولا متغيراً طعمه ولا فيه زوان أو تراب يحتاج إلى تنقية، وكذلك دقيقه وخبزه؛ لأنه مخرج في حق الله تعالى عما وجب في الذمة، فلم يجز أن يكون معيباً كالشاة في الزكاة.
وأما مقدار الإطعام: فاختلف العلماء فيه بسبب اختلافهم في تأويل قوله تعالى: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة:89/5] فمن قال: المراد أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع، ومن قال: المراد قوت اليوم وهو غداء وعشاء قال: الواجب نصف صاع أي مدان (3) .
وبناء عليه قال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة: يعطى لكل مسكين مد من الحنطة كصدقة الفطر إلا أن الإمام مالك قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم، وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجزئ المد في كل مدينة (4) .
__________
(1) المبسوط: 151/8، البدائع: 100/5، الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 3/67، الفتاوى الهندية: 58/2.
(2) الشرح الكبير للدردير: 132/2، حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلي للمنهاج: 274/4، المغني: 734/8، 736، 738، 739، 741.
(3) الصاع: أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالرطل العراقي، والرطل العراقي (130) درهماً، والدرهم 2,975غم، أي أن المد يساوي 675 غم والصاع يساوي 2751 غم.
(4) بداية المجتهد: 404/1، مغني المحتاج: 327/4، المغني: 736/8، القوانين الفقهية: ص 165.(4/134)
ويجوز عند الشافعية: مدّ حب من غالب قوت بلد الحانث. والأفضل بالاتفاق إخراج الحب؛ لأن فيه خروجاً من الخلاف. ولا يجوز عند الجمهور إخراج قيمة الطعام والكسوة، عملاً بنص الآية: {فكفارته إطعام عشرة مساكين ... } [المائدة:89/5] .
وقال الحنفية: مقدار الإطعام نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير أو من دقيق الحنطة أو الشعير أو قيمة هذه الأشياء من النقود: دراهم أو دنانير أو من عروض التجارة كما هو المقرر في صدقة الفطر. قالوا: وقد ثبت ذلك عن سادتنا عمر وعلي وعائشة، وبه قال جماعة من التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن.
وأما مقدار طعام الإباحة عند الحنفية: فأكلتان مشبعتان: غداء وعشاء، وكذلك إذا غداهم وسحرهم، أوعشاهم وسحرهم، أو غداهم غداءين ونحوهما؛ لأنهما أكلتان مقصودتان.
وسواء أكان الطعام خبزاً مع الإدام، أم بغير الإدام: لأن الله تعالى لم يفصل بين الطعام المأدوم وغيره، في قوله سبحانه: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/5] .
وكذلك لو أطعم خبز الشعير أو تمراً أجزأه؛ لأنه قد يؤكل وحده في طعام الأهل.(4/135)
ولو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام غداء وعشاء، أو أعطى مسكيناً واحداً عشرة أيام، كل يوم نصف صاع، جاز عند الحنفية؛ لأن المقصود سد حاجة عشرة مساكين، وقد تحقق. ولا يجوز ذلك عند المالكية والشافعية؛ لأنه لا بد من توزيع الطعام على عشرة مساكين فعلاً بالاتفاق. وقال الحنابلة: إذا وجد عشرة فقراء، لم يجزئه الصرف إلى فقير واحد في عشرة أيام، وإذا لم يجد غير فقير واحد أو خمسة مثلاً، أجزأه ذلك للضرورة. والخلاصة: لابد من إطعام عشرة مساكين فعلاً، والخلاف محصور فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، يجوز عند الحنفية ولا يجوز عند غيرهم. ولو أطعم عشرة مساكين في يوم غداء، ثم أعطى كل واحد مداً من الحنطة جاز؛ لأنه جمع بين التمليك، وطعام الإباحة، ولأن كل وجبة طعام مقدرة بمد. وكذلك لو غدى رجلاً واحداً عشرين يوماً، أو عشى رجلاً في شهر رمضان عشرين يوماً جاز؛ لأن المقصود قد حصل.
أما لو أعطى مسكيناً واحداً طعام عشرة، في يوم واحد، دفعة واحدة: لم يجز؛ لأن الله تعالى أمر بسد جوعة عشرة مساكين إما مرة واحدة أو موزعة على الأيام، وهذا لم يحصل هنا.
وأجاز أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور لا الزكاة، لعموم قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة:89/5] من غير تفرقة بين المؤمن والكافر. واستثنيت الزكاة بقول النبي صلّى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» (1) .
وقال أبو يوسف: لا يجوز إعطاء الذميين من الأموال الإسلامية إلا النذور والتطوعات ودم التمتع في الحج؛ لأن الكفارة صدقة أوجبها الله، فلا يجوز صرفها إلى الكافر كالزكاة، بخلاف النذر، لأنه وجب بإيجاب الإنسان، والتطوع ليس بواجب أصلاً، والتصدق بلحم المتعة في الحج غير واجب؛ لأن التقرب إلى الله في إراقة الدم (2) .
__________
(1) رواه الجماعة: أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، وفيه: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» (انظر نيل الأوطار: 114/4، نصب الراية: 327/2) .
(2) انظر المبسوط: 149/8 ومابعدها، البدائع: 101/5-105، فتح القدير: 18/4، الدر المختار: 66/3، الفتاوى الهندية: 58/2.(4/136)
المدفوع إليهم الطعام: الإطعام يكون لمن توافرت فيه أوصاف خمسة هي:
الأول ـ أن يكونوا مساكين فلا يدفع إلى غيرهم؛ لأن الله تعالى أمر بإطعام المساكين، وخصهم بذلك.
الثاني ـ أن يكونوا أحراراً، فلا يجزئ دفعه إلى عبد ومكاتب.
الثالث ـ أن يكونوا مسلمين فلا يجوز عند الجمهور صرفه إلى كافر، ذمياً كان أو حربياً. وأجاز الحنفية دفعه إلى الذمي، لدخوله في اسم المساكين، فيدخل في عموم الآية.
الرابع ـ أن يكونوا قد أكلوا الطعام في رأي الحنابلة والمالكية، فلا يجوز دفعه لطفل لم يطعم. وأجاز الحنفية والشافعية دفعه إلى الصغير الذي لم يطعم، ويقبضه عنه وليه. ويجوز بالاتفاق للمكفر أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله. وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع أخذ الكفارة. إلا أن الحنفية أجازوا دفعها لذمي.
الخامس ـ أن يوزع الطعام على عشرة مساكين فعلاً، فلو أطعم واحداً طعام عشرة لم يجزئه باتفاق الفقهاء، واختلفوا فيما لو أطعم واحداً عشرة أيام، على النحو السابق بيانه.(4/137)
2 - الكسوة، صفتها وقدرها: صفة الكسوة: هي أنها لا تجوز إلا على سبيل التمليك حتى عند الحنفية؛ لأن الكسوة للوقاية من الحر والبرد، وهذه الحاجة لا تتحقق إلا بالتمليك، بخلاف الإطعام، فإنه لدفع الجوع، وهو يحصل بتناول الطعام. وتكون الكسوة للمساكين كالإطعام. وأما قدر الكسوة: فاختلف فيه (1) ، فقال الحنفية: أدنى الكسوة ما يستر عامة البدن، وقال الحنابلة: تتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه: فإن كان رجلاً كساه ثوباً تجزئ الصلاة فيه، وإن كانت امرأة كساها قميصاً وخماراً؛ لأن الكسوة إحدى خصال الكفارة، فلم يجز فيها أدنى ما يطلق عليه اسم الكسوة، كما هو مقرر في الإطعام والإعتاق، ولأن اللابس حينما لا يستر العورة يسمى عرياناً لا مكتسياً. وقال المالكية: أقل ذلك للرجل ثوب يستر جميع جسده، وللمرأة: ما يجوز لها فيه الصلاة، وذلك ثوب وخمار.
وقال الشافعية: يجزئ أقل ما يطلق عليه اسم الكسوة من إزار أو رداء أو جبة أو قميص أو ملحفة؛ لأنه يقع عليه اسم الكسوة، ولأن الله تعالى لم يذكر في الكسوة تقديراً، فكل ما يسمى لا بسه مكتسياً يجزئ.
ولا تجزئ بالاتفاق القلنسوة (2) والخفان والنعلان والقفازان والمنطقة (3) ؛ لأن لا بسها لا يسمى مكتسياً إذا لم يكن عليه ثوب، بل ولا تسمى هذه كسوة عرفاً (4) .
ولم يجز الحنفية على الصحيح عندهم الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأن أدنى الكسوة عندهم كما تقدم ما يستر عامة البدن، ولأن لا بسها لا يسمى مكتسياً عرفاً وعادة، بل يسمى عرياناً، فلو أمكن اتخاذ العمامة ثوباً أجزأه، كذا إذا بلغت قيمتها وقيمة السراويل قيمة المقدار الواجب من الطعام، فإنه يجزئ، ويقع ذلك
__________
(1) بداية المجتهد: 405/1، الشرح الكبير:132/2، المغني: 742/8، القوانين الفقهية: ص 165.
(2) القلنسوة بفتح القاف واللام: وهي ما يغطى به الرأس ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة، كدرع من حديد.
(3) المنطقة: بكسر الميم: هي النطاق الذي يشدّ به وسط الإنسان.
(4) المبسوط: 153/8، البدائع: 105/5، فتح القدير: 19/4، المهذب: 141/2، مغني المحتاج: 327/4، الفتاوى الهندية: 57/2، القوانين الفقهية: ص 165.(4/138)
عن الطعام بغير نية إذا نوى الكفارة عند محمد. وأما عند أبي يوسف فلا يقع عن الطعام ما لم ينو الكسوة عن الطعام.
وأجاز الشافعية الكسوة بالسراويل والعمامة؛ لأنها تسمى كسوة.
ويجزئ عند المالكية أقل ما يطلق عليه اسم قميص أو إزار، أو سراويل أو عمامة.
3 - عتق الرقبة: الكلام في إعتاق الرقبة في كفارة اليمين وغيرها تاريخي فقط بسبب عدم وجود الرقيق في عصرنا، وحينئذ يسقط هذا الواجب ويظل الخيار للحانث محصوراً بين الإطعام والكسوة. وأكتفي هنا بذكر ضابط الرقبة التي يجوز عتقها في الكفارة.
قال الحنفية: يشترط أن تكون الرقبة مملوكة ملكاً كاملاً للمعتق، وأن تكون كاملة الرق، سليمة من العيوب التي تزيل جنساً من أجناس المنفعة، سواء أكانت الرقبة صغيرة أم كبيرة، ذكراً أم أنثى، مسلمة أم كافرة. فلا يجوز في الكفارة إعتاق عبد غيره، ولا أن يعتق عبداً مشتركاً بينه وبين غيره، ولا مدبَّراً أو أم ولد، إلا أنه يجوز تحرير المكاتب استحساناً، ولا يجوز أن يعتق عبداً مقطوع اليدين أو الرجلين أو مقطوع يد واحدة، أو رجل واحدة من جانب واحد، أو يابس الشق مفلوجاً، أو مقعداً أو زمِناً أو أشل اليدين، أو مقطوع الإبهامين من اليدين أو مقطوع ثلاثة أصابع من كل يد سوى الإبهامين، أو أعمى، أو مفقود العينين، أو معتوهاً يغلب العته عليه، أو أخرس لفوات جنس من أجناس المنفعة كمنفعة البطش باليدين، والمشي بالرجلين، والنظر في العينين، والكلام والعقل (1) .
__________
(1) المبسوط: 144/8، البدائع: 107/5 ومابعدها، فتح القدير: 18/4، الدر المختار: 66/3، القوانين الفقهية: ص166(4/139)
واشترط المالكية والشافعية والحنابلة: أن تكون الرقبة مؤمنة، كما تشترط في كفارة الفطر في رمضان، وفي كفارة الظهار.
وسبب الاختلاف بين الحنفية والجمهور في اشتراط الإيمان في الرقبة: هو اختلافهم في مسألة أصولية وهي: هل يحمل المطلق على المقيد في الأمور التي تنفق أحكامها وتختلف أسبابها ككفارة اليمين وكفارة القتل الخطأ، فقد ورد النص القرآني في كفارة اليمين مطلقاً بدون تقييد بشرط الإيمان وهو: {أو تحرير رقبة} [المائدة:89/5] ، وورد النص مقيداً بشرط الإيمان في كفارة القتل الخطأ وهو: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريررقبة مؤمنة} [النساء:92/4] فقال الجمهور: يحمل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في كفارة اليمين حملاً على اشتراطه في كفارة القتل الخطأ؛ لأنهما يشتركان في ستر الذنب، كما حمل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282/2] على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق:2/65] .
وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يجب أن يبقى موجب اللفظ في كفارة اليمين على إطلاقه، ويعمل بكل نص على حدة؛ لأن شرط الإيمان في كفارة القتل غير معقول المعنى، فيقتصر على مورد النص (1) .
4 - الصوم، مقداره وشرطه: اتفق الفقهاء على أن الحانث إن لم يجد طعاماً ولا كسوة ولا عتقاً يجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام، لقوله سبحانه: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/5] .
واختلفوا في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام، فقال المالكية والشافعية
__________
(1) بداية المجتهد: 406/1، البدائع: 110/5، مغني المحتاج: 327/4 ومابعدها، المغني:743/8، القوانين الفقهية: ص 165.(4/140)
في الأظهر عندهم: لا يشترط التتابع، ولكنه مستحب، لإطلاق الآية القرآنية: {فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89/5] فليس فيها اشتراط التتابع، وقد نسخت هذه الآية القراءة الشاذة لابن مسعود تلاوة وحكماً (1) .
وقال الحنفية والحنابلة: يشترط التتابع (2) بدليل قراءة أبي وعبد الله بن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (3) . وهذا إن كان قرآناً فهو حجة، وإن لم يكن قرآناً فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم فهو إذاً خبر واحد، وخبر الواحد حجة، وتجوز الزيادة في الجملة على الكتاب بخبر واحد (4) .
وبناء على اشتراط التتابع لو أفطر المكفر لعذر مرض أو سفر أو حيض، أو لغير عذر: فإنه عند الحنفية يستأنف الصوم من جديد مرة أخرى، كذلك يستأنف الصوم إذا أفطر في يوم العيد أو أيام التشريق، ويبطل التتابع؛ لأن الصوم في هذه الأيام لا يصلح لإسقاط ما في الذمة. وهذا بخلاف صوم شهرين متتابعين كفارة عن الجماع في نهار رمضان، فإن الحيض والمرض لا ينقطع التتابع بسببهما؛ لأن الغالب أن الشهرين لا يخلوان عنهما. وأما عند الحنابلة فلا ينقطع التتابع بالحيض والمرض في كفارة اليمين، وكفارة انتهاك حرمة رمضان (5) .
__________
(1) بداية المجتهد، المرجع السابق: 405، مغني المحتاج، المرجع السابق، حاشية قليوبي وعميرة: 275/4، المهذب: 141/2.
(2) قال الحنفية: أربعة صيامات متتابعة بالنص: أداء رمضان وكفارة الظهار والقتل واليمين. والمخير فيه قضاء رمضان وفدية الحلق لأذى برأس المحرم، والمتعة والقران، وجزاء الصيد، وثلاثة صيامات لم تذكر في القرآن وثبتت بالأخبار: صوم كفارة الإفطار عمداً وهو متتابع، والتطوع متخير فيه، والنذر متتابع إن نذر أياماً متتابعة معينة أو غير معينة بخصوصها، ومنه ما لزم بنذر الاعتكاف، وهو متتابع وإن لم ينص عليه، إلا أن يصرح بعدم التتابع في النذر (نور الإيضاح: ص 116، العناية بهامش فتح القدير: 81/2) .
(3) حكاه أحمد ورواه الأثرم عن أبي بن كعب وابن مسعود أنهما قرأا: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} [المائدة:89/5] وروى ابن أبي شيبة حديث ابن مسعود عن الشعبي قال: «قرأ د الله: فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ورواه عبد الرزاق عن عطاء يقول: بلغنا في قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكذلك نقرؤها» وأخرج الحاكم حديث أبي عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} [المائدة:89/ (انظر نيل الأوطار: 8/238، نصب الراية: 3/296.
(4) المبسوط: 8/144، فتح القدير: 4/18 , البدائع: ص 11، المغني: 8/752 , تبين الحقائق: 3 /113 , الفتاوى الهندية:2/57.
__________
(5) البدائع، المرجع السابق، المغني، المرجع السابق.(4/141)
البَابُ السّابع: الحَظر والإباحة
أو الأطعمة والأشربة واللباس وغيره
تمهيد:
هناك أمور تتردد بين الحل والحرمة تمس الإنسان والمجتمع، لتحقيق عافية المرء في صحته ودينه، أو لمنع الضرر المادي أو الأدبي عن المجتمع في المعاملات، يعبر عنها الحنفية إما بالحظر (المنع الشرعي) والإباحة (أي الإطلاق) أو بالكراهية (1) ، أو بالاستحسان (أي ما حسَّنه الشرع وقبَّحه) أو بكتاب الزهد والورع؛ لأن كثيراً من مسائله أطلقه الشرع، والزهد والورع تركه.
ويبحثها غير الحنفية تحت عنوان الأطعمة والأشربة، والآنية، وخصال الفطرة، ومقدمات عقد الزواج، وعبر عنها الشيخ خليل من المالكية بالمباح والمحرم والمكروه.
والكلام عنها أو عن المهم منها في مباحث خمسة هي:
المبحث الأول ـ الأطعمة.
المبحث الثاني ـ الأشربة.
المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي.
المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو.
المبحث الخامس ـ مسائل في البيع (بيع السماد الطبيعي، الاحتكار، التسعير، بيع العنب للخمار ونحوها) .
__________
(1) إذا أطلقت الكراهة عند الحنفية أريد بها الكراهة التحريمية، وهي إلى الحرام أقرب , لثبوت النهي فيهابدليل فيه شبهة.(4/142)
المبحث الأول ـ الأطعمة
وفيه مقدمة عن حكم الطعام والشراب، ومطالب أربعة:
المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها (الحلال، والمكروه، والحرام.
المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام إلى الذوق العربي.
المطلب الثالث ـ حالة الضرورة.
المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآدا ب الطعام.
مقدمة ـ مبدأ تناول الطعام والشراب:
عني الإسلام بالجسم والنفس، فأوجب تناول الحد الأدنى أو الضروري من الطعام والشراب للحفاظ على الحياة، ودفع الهلاك عن النفس (1) ، وللقيام بالواجبات الدينية من صلاة وصيام ونحوهما، وما عدا قدر الضرورة يباح تناوله ما لم يصل إلى حد الإسراف، فالإسراف في الأكل والشرب فوق الطاقة الجسمية ضرر، وخطر، وحرام. والاعتدال هو المطلوب. واستثنى الحنفية من التحريم إذا لم يخش الضرر حالة قصد التقوي على صوم الغد أو لئلا يستحي ضيفه ونحو ذلك، قال تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد (2) ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف:31/7] .
__________
(1) الدر المختار: 5 /238.
(2) أي عند الطواف أو الصلاة , فستر العورة فيهما واجب , وما بعد العورة سنة , لا واجب.(4/143)
والملبوس والمأكول: هو الحلال، الطيب، فقد أحل الله للإنسان كل نافع في الأرض: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] وقد أردف الله تعالى الآية السابقة بقوله: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق} [الأعراف:32/7] . وتوالت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تقرير هذا المباح، فقال تعالى: {ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة:168/2] وقال أيضاً: {ويحل لهم الطيبات. ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا، وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة ـ كبر وإعجاب بالنفس ـ فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده» (1) .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن عمرو.(4/144)
وقال الحنفية: ولا تجوز الرياضة بتقليل الأكل حتى يضعف عن أداء العبادة (1) .
المطلب الأول ـ أنواع الأطعمة وحكم كل نوع منها:
الغذاء الإنساني الذي يؤكل نوعان: نبات وحيوان.
أما النبات المأكول: فكله حلال إلا النجس والضار والمسكر (2) . أما النجس أو ما خالطته نجاسة (المتنجس) ، فلا يؤكل، لقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] والنجس: خبيث. ولو تنجس طاهر كخل، ودبس ودهن ذائب، وزيت، حرم، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الفأرة تقع في السمن، وتموت فيه: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وكلوه، وإن كان مائعاً فأريقوه» (3) فلو حل أكله، لم يأمر بإراقته.
وأما المسكر: فحرام لقوله تعالى فيه {رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة:90/5] .
وأما الضار: فلا يحل أكله، كالسُّم والمخاط والمني والتراب والحجر، لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/4] وقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] وأكل هذه الأشياء تهلكة، فوجب ألا تحل. لكن قال المالكية: قيل: الطين مكروه. وقيل: حرام، وهو الأرجح.
ويحل أكل ما لا يضر كالفواكه والحبوب، لقوله تعالى: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق} [الأعراف:32/7] .
وأما الحيوان فنوعان: مائي، وبري. أذكر هنا الحلال والحرام باختصار، وأحيل التفصيل على بحث الحيوان الذبيح في الذبائح والصيد.
أما المائي: فيحل منه السمك بالاتفاق، إلا الطافي منه فلا يحل عند الحنفية، ويحل عند غيرهم. وكره مالك خنزير الماء، والمعتمد عند المالكية أن خنزير الماء وكلب الماء مباح.
ولا يحل أكل الضفدع عند الجمهور غير المالكية، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع. ولو حل أكله لم ينه عن قتله. وأباح المالكية أكل الضفادع، إذ لم يرد نص بتحريمها.
وأما البري: فيحرم منه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به (أي ما ذكر عند ذبحه اسم معبود غير الله) ، والمنخنقة (التي ماتت خنقاً) والنطيحة (التي نطحها حيوان فماتت) ، والموقوذة (التي ضربت فماتت) ، والمتردية (التي سقطت من مرتفع فماتت) ، وما بقر الحيوان المفترس بطنها، إلا إذا ذبحت، وفيها حياة، فيحل كل ما ذكر.
__________
(1) رد المحتار: 238/5.
(2) بداية المجتهد: 450/1-452،456، القوانين الفقهية: ص 171، المهذب: 246/1، 250، مغني المحتاج: 305/4.
(3) رواه البخاري وأحمد والنسائي عن ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم (سبل السلام: 8/3) .(4/145)
ويحرم أكل الحيوانات المفترسة كالذئب والأسد والنمر عند الجمهور، وقال المالكية: هي مكروهة. كما يحرم أكل الطيور الجارحة كالصقر والباز والنسر ونحوها. وقال المالكية: هي مباحة، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح.
ويحرم أكل الكلاب والحمير الأهلية والبغال؛ لأن الكلب من الخبائث، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» (1) ولنهي النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن الحُمُر والبغال (2) والمعتمد عند المالكية: أن الكلب الإنسي مكروه، وأن كلب الماء مباح.
ويحرم أكل حشرات الأرض (صغار دوابها) كالعقرب والثعبان والفأرة والنمل والنحل لسُّميتها واستخباث الطباع السليمة لها.
ويحرم المتولد من مأكول وغير مأكول كالبغل المتولد من الحمير والخيل، والحمار المتولد من حمار الوحش والحمار الأهلي؛ لأنه مخلوق مما يؤكل ومما لا يؤكل، فيغلب التحريم (3) عملاً بقاعدة تقديم الحاظر على المبيح.
وقال المالكية: يباح بالذكاة أكل خَشاش الأرض كعقرب وخنفساء وبنات ورَدْان وجندب ونمل ودود وسوس. ويباح أيضاً أكل حية أمن سمها إن ذبحت بحلقها (4) .
ويحل أكل الخيل بأنواعها الأصيلة وغير الأصيلة عند الشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة لإذن النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر بها (5) . وقال أبو حنيفة بكراهتها كراهة تنزيهية، لورود حديث ينهى عن لحوم الخيل (6) . والمشهور عند المالكية تحريم الخيل (7) .
__________
(1) روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي عن رافع بن خديج: «ثمن الكلب خبيث» (نيل الأوطار: 143/5، 284) .
(2) رواه الحاكم في المستدرك عن جابر بن عبد الله، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه (نصب الراية: 197/4) .
(3) المهذب: 249/1، مغني المحتاج: 303/4، كشاف القناع: 190/6.
(4) الشرح الكبير: 115/2،وسمي ذلك خشاشاً لأنه يخش أي يدخل في الأرض ولا يخرج منها إلا بمخرج، ويبادر برجوعه إليها.
(5) أخرجه البخاري ومسلم (نصب الراية: 198/4) .
(6) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن خالد بن الوليد (نصب الراية: 196/4) .
(7) بداية المجتهد: 455/1، الشرح الكبير: 117/2.(4/146)
وأباح الشافعية والحنابلة أكل الضَّب والضَّبُع. وعند الشافعية: والثعلب، وحرمه الحنابلة. وحرم الحنفية أكل ذلك كله. وأما المالكية فقد أباحوا مع الكراهة أكل كل السباع كما تقدم.
ويجوز بالإجماع أكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لإباحتها بنص القرآن الكريم، كما يجوز أكل الطيور غير الجارحة كالحمام والبط والنعامة والأوز، والسمان، والقنبر، والزرزور، والقطا، والكروان، والبلبل وغير ذلك من العصافير.
ويحل أكل الوحوش غير الضارية، كالظباء، وبقر الوحش وحماره لإذن النبي صلّى الله عليه وسلم بأكلها (1) .
ويباح أكل الأرنب والجراد، لثبوت الإباحة في السنة النبوية. الدود وحده يحرم عند غير المالكية، لكن دود الطعام والفاكهة وسوس الحبوب، ودود الخل، إذا أكل معه ميتاً، وطابت به النفس ولم تعافه، يحل أكله لتعسر تمييزه (2) .
خلاصة مذهب المالكية في المباح والمحرم (3) :
يظهر مما سبق أن مذهب المالكية أوسع المذاهب في إباحة الأطعمة والأشربة، لذا أستحسن إعطاء خلاصة عنه:
المباح: يباح حال الاختيار أكلاً أوشرباً كل طعام طاهر، والحيوان البحري، ولو آدميه وخنزيره، وإن كان البحري ميتاً، والطير بجميع أنواعه ولو كان
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) مغني المحتاج: 268/4، 303، المغني: 605/8.
(3) راجع متن العلامة خليل والشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 115/2.(4/147)
جلاَّلة (1) ، أو ذا مخلب كالباز والعقاب والرخم، إلا الوطواط، فيكره أكله على الراجح، والنَّعَم (الإبل والبقر والغنم ولو جلالة) ، والوحش غير المفترس كغزال وحمر وحش ويربوع، وخُلْد، ووَبْر (2) ، وأرنب، وقُنْفُذ، وضُرْبوب (3) ، وحية أمن سمها (4) إن ذكيت بحلقها.
ويباح أيضاً هوام الأرض كخنفساء وبنات وَرْدان، وجندب (5) ، ونمل ودود وسوس.
ويباح عصير ماء العنب أول عصره، وفُقَّآع، وعقيد وسوبيا (6) أمن سكره.
__________
(1) أي مستعملاً للنجاسة. والجلالة لغة: البقرة التي تستعمل النجاسة. والفقهاء يستعملونها في كل حيوان يستعملها.
(2) اليربوع: دابة قدر بنت عرس، رجلاها أطول من يديها. والخلد: فأر أعمى لا يصل للنجاسة. والوبر: فوق اليربوع كالأرنب يعتلف النبات والبقول، ودون السنور، طحلاء اللون أي بين البياض والغبرة.
(3) القنفذ: أكبر من الفأر، كله شوك إلا رأسه وبطنه ويديه ورجليه، والضربوب: كالقنفذ في الشوك، إلا أنه قريب من خلقة الشاة. وأباح الحنابلة أكل اليربوع والوبر والضب والضبع (المغني: 592/8، كشاف القناع: 191/6) والشافعية أيضاً كما أبنت في الذبائح: أباحوا أكل الضبع والضب والثعلب واليربوع والفَنَك (حيوان يؤخذ من جلده الفرو) والسمور (كالسنور) ، وهما من ثعالب الترك. وأباحوا أكل ابن عرس (دويبة رقيقة تعادي الفأر تدخل تحت حجره وتخرجه) ، والبجع (الحوصل) : وهو طائر أبيض من الكركي، ذو حوصلة عظيمة يتخذ منها فرو، ويكثر بمصر، والقاقم (دويبة يتخذ جلدها فرواً) لأن ما ذكر من الطيبات (مغني المحتاج: 299/4) .
(4) أمن سمها لمستعملها، ويجوز أكلها بسمها لمن ينفعه ذلك لمرض.
(5) بنت وردان: دويبة كريهة الرائحة، تألف الأماكن القذرة في البيوت، وهي ذات ألوان مختلفة وأرجل جانبية متعددة. والجندب: نوع من الجراد.
(6) الفقاع: شراب يتخذ من القمح والتمر. والسوبيا: شراب يميل إلى الحموضة بما يضاف إليه من عجوة ونحوها. وعقيد: هو ماء العنب يغلى على النار حتى ينعقد ويذهب إسكاره. ويسمى بالرُّب الصامت.(4/148)
المحرم: ويحرم تناول النجس من جامد أو مائع، والخنزير البري، والبغل والفرس والحمار، ولو كان حمارا وحشياً تأنس. والأرجح تحريم أكل الطين والتراب والعظام والخبز المحروق بالنار، منعاً لأذى البدن.
المكروه: ويكره سبع وضبع وثعلب وذئب، وهر ولو كان وحشياً، وفيل وفهد ودب ونمر ونمس (1) ، وكلب إنسي على المعتمد. والأظهر كراهة أكل القرد والنسناس، والمشهور أن فأر البيوت الذي يصل إلى النجاسة يكره، فإن شك في وصوله لها، لم يكره، وإن لم يصل للنجاسة فهو مباح.
لحم الجلالة: الجلالة كما عرفها الحنفية: هي التي تعتاد أكل الجيف والنجاسات فقط، ولا تخلط معها طعاماً غيره ويكون لها ريح منتنة. وهي عند غير الحنفية: هي التى أكثر طعامها النجاسة، وقد اختلف الفقهاء في حكم أكل لحمها.
فأباح المالكية (2) كما تقدم أكل لحم الجلالة. وكرهها مالك، وأحمد في رواية عنه والحنفية والشافعية (3) ، وحرمها الحنابلة (4) .
وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فهو ما روى ابن عمر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها» (5) وروى الخلال بإسناده عن عبد الله بن
__________
(1) وتسمى كل تلك الحيوانات ما عدا الهر الوحوش المفترسة.
(2) الشرح الكبير: 115/2، بداية المجتهد: 451/1.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي: 10/1، البدائع: 39/5 ومابعدها، المهذب: 250/1، مغني المحتاج: 304/4، الدر المختار: 239/5 ومابعدها.
(4) كشاف القناع: 192/6، المغني: 593/8.
(5) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب. وفي رواية لأبي داود: «نهى عن ركوب الجلالة» وفي أخرى له: «نهى عن ركوب جلالة الإبل» وروى أحمد والنسائي وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وعن ركوب الجلالة، وأكل لحمها» .(4/149)
عمرو: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يحمل عليها إلا الأدمُ (الجلود المدبوغة) ، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» .
وأما القياس المعارض لهذا: فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم، فالمالكية القائلون بالحل نظروا إلى الانقلاب أو التحول إلى لحم، كانقلاب الدم لحماً.
والحنابلة أخذوا بظاهر النهي المقتضي للتحريم، ولأن اللحم يتولد من النجاسة، فيكون نجساً، كرماد النجاسة. والحنفية والشافعية حملوا الحديث على الكراهة التنزيهية.
وعبارة الحنفية: يكره لحم الجلالة ولبنها، كما يكره لحم الأتان ولبنها ولبن الخيل، وبول الإبل، وأجازه (أي بول الإبل ولحم الفرس) أبو يوسف للتداوي به. وتحبس الجلالة حتى يذهب نتن لحمها، وقدر بثلاثة أيام لدجاجة، وأربعة لشاة، وعشرة لإبل وبقر على الأظهر. ولو أكلت الجلالة النجاسة وغيرها بحيث لم ينتن لحمها، حلت، كما حل أكل جدي غذي بلبن خنزير؛ لأن لحمه لا يتغير، وما غذي به يصير مستهلكاً لا يبقى له أثر. وعليه: لا بأس بأكل الدجاج، لأنه يخلط أكل النجس مع غيره، ولا يتغير لحمه (1) .
وعبارة الشافعية: يكره أكل الجلالة: وهي التي أكثر أكلها العَذِرَة (الغائط) من ناقة أو شاة، وبقرة، أو ديك، أو دجاجة؛ لحديث ابن عمر المتقدم: ولا يحرم أكلها، لأنه ليس فيها أكثر من تغيير لحمها، وهذا لا يوجب التحريم. فإن أطعم الجلالة طعاماً طاهراً لم يكره، لقول ابن عمر: «تعلف الجلالة علفاً طاهراً: إن كانت ناقة أربعين يوماً، وإن كانت شاة سبعة أيام، وإن كانت دجاجة ثلاثة أيام» .
__________
(1) وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل الدجاج. وما روي أن الدجاج يحبس ثلاثة أيام، ثم يذبح، فذاك على سبيل التنزه، لا أنه شرط (تبيين الحقائق، المكان السابق) .(4/150)
وعبارة الحنابلة: وتحرم الجلالة: وهي التي أكثر طعامها النجاسة، كما تحرم ألبانها وهي رواية عن أحمد، وفي رواية أخرى أنها مكروهة غير محرمة، وتزول الكراهة بحبسها اتفاقاً. واختلف في قدره فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثاً، سواء أكانت طائراً أم بهيمة. وروي عنه أيضاً: تحبس الدجاجة ثلاثاً، والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين. ويكره ركوب الجلالة.
المطلب الثاني ـ ما لا نص فيه ـ الاحتكام للذوق العربي:
قال الشافعية والحنابلة (1) : الحيوان الذي لا نص فيه من كتاب أو سنة أو إجماع، لا خاص ولا عام بتحريم ولا تحليل، ولا ورد فيه أمر بقتله ولا بعدم قتله: إن استطابه أهل يسار (أي ثروة وخصب) وأهل طباع سليمة من أكثر العرب ـ سكان بلاد أو قرى، في حال رفاهية عند الشافعية، أو أهل الحجاز أهل الأمصار عند الحنابلة: حل أكله. لقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] ولأن العرب هم الذين نزل عليهم الكتاب، وخوطبوا به، وبالسنة وفيهم بعث النبي صلّى الله عليه وسلم، فيرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم، دون غيرهم.
وعليه تكون القاعدة: المحرم من الحيوان: ما نص الله تعالى عليه في كتابه. وما كانت العرب تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً فهو محرم.
ولا يعتبر قول الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضرورة؛ لأنهم للضرورة والمجاعة، يأكلون ما وجدوا.
وما لم يوجد عند أهل الحجاز عند الحنابلة، رد إلى أقرب ما يشبهه في
__________
(1) مغني المحتاج: 303/4 ومابعدها، المهذب: 249/1، المغني: 585/8.(4/151)
الحجاز. فإن لم يشبه شيئاً منها، فهو مباح، لدخوله في عموم قوله تعالى: {قل: لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً} .. [الأنعام:145/6] الآية، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه» (1) .
وقال الشافعية: إن جهل اسم حيوان، سئل العرب عنه، وعمل بتسميتهم له مما هو حلال أو حرام؛ لأن المرجع في ذلك إلى الاسم وهم أهل اللسان. وإن لم يكن له اسم عندهم، ألحق بالأشبه به من الحيوان، في الصورة، أو الطبع، أو الطعم في اللحم. فإن تساوى الشبهان، أو فقد ما يشبهه، حل على الأصح، لقوله تعالى: {قل: لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً..} [الأنعام:145/6] الآية.
وعملاً بهذا المبدأ أذكر بإيجاز ما يحرم وما يحل من الحيوان عند الشافعية: أما ما يحرم: فيشمل الحشرات كلها كالنمل والذباب والخنافس والحيَّات والدود والبق والقمل والصُّرصُر والوزع: وهو سام أبرص. ويَحرم ذوات السم وكل ما يندب قتله كالنحل والزنابير والعقارب والفئران والغربان والأفاعي والحِدأ.
ويحرم من الطيور: الخُفَّاش (الوطواط) والخُطَّاف (طائر أسود الظهر أبيض البطن) والببَّغا) طائر أخضر يحاكي الأصوات) والطاوس، والرَّخمة (طائر يشبه النسر) والبُغَاثة (طائر أبيض بطيء الطيران أصغر من الحدأة) ويحرم كل ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. ويحرم كل متنجس لا يمكن تطهيره كخل وزيت ودبس، وما يضر البدن كالحجر والتراب والزجاج والسم والأفيون.
وأما ما يحل: فيشمل طيور النعامة والبط والحجل والإوَز والدجاج والقطا وغراب الزرع والحمام. ويشمل أيضاً كل طاهر لا ضرر فيه ولا تعافه النفس
__________
(1) أخرجه الترمذي وابن ماجه عن سلمان الفارسي (نيل الأوطار: 106/8) .(4/152)
كالبيض والجبن، أما ما تعافه النفس وتستقذره كالمخاط والمني ونحوهما فحرام. وتحل ألبان الحيوانات المأكولة اللحم، ولا تحل ألبان الحيوانات غير المأكولة اللحم كلبن إناث الحمير، لكن لبن الإنسان طاهر.
ويحرم كل ما استخبثه العرب في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم كالحشرات ونحوها إلا ما أباحه الشرع كاليربوع (دابة كالفأرة لكن ذنبه أطول) والضَّب (دابة كالجرذون) والوَبْر (دابة أصغر من الهر) والسمُّور (دابة كالسنور) وابن عرس (دابة رقيقة تطارد الفئران) .
وتحل حيوانات البحر، لأن العرب استطابتها، وتباح الأنعام (الإبل والبقر والغنم والمعز) وحُمُر الوحش والظباء والأرانب ونحوها مما استطابته العرب، إلا ما حرمه الشرع كالبغال والحمر الأهلية.
المطلب الثالث ـ حالة الضرورة:
الضرورة نظرية متكاملة تشمل جميع أحكام الشرع، يترتب عليها إباحة المحظور، وترك الواجب. والكلام عنها يطول (1) ، أجتزئ ببيان المهم منها وهو تعريفها وحكمها وشروطها، وهل تشمل حالة السفر والحضر جميعاً، وجنس المستباح أو ما يجوز تناوله، وكيفية ترتيب أفضلية الشيء المتناول، ومقدار الجائز تناوله، والتزود من الميتة، وحكم أخذ طعام الغير قهراً للضرورة، وحالات خاصة للحاجة (المار ببستان الفاكهة، والأكل من الزرع، وحلب الماشية لمن مر بهما) (2) .
__________
(1) راجع كتابنا نظرية الضرورة الشرعية.
(2) انظر المسبوط:48/24، البدائع: 124/5، رد المحتار: 238/5، أحكام القرآن للجصاص: 147/1 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 115/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 173، بداية المجتهد: 461/1 ومابعدها، المهذب: 250/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 188/4، 306-310، المغني: 595/8-603، كشاف القناع: 194/6-200.(4/153)
أولاً ـ تعريف الضرورة وحكمها: هي الخوف على النفس من الهلاك علماً (أي قطعاً) أو ظناً. فلا يشترط أن يصبر حتى يشرف على الموت. وحكمها في المذاهب الأربعة (1) :وجوب الأكل من المحرَّم، بمقدار ما يسد رمَقَه (أي بقية حياته) ، ويأمن معه الموت، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/2] وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29/4] . فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك، فقد عصى، لأن فيه إلقاء إلى التهلكة، وهو منهي عنه في محكم التنزيل، ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له، فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال.
بخلاف من امتنع عن التداوي حتى مات، لا يجب عليه، ولا يعصي بالترك، إذ لا يتيقن أن الدواء يشفيه. هذا وقد قرر الحنابلة أنه يجب على المضطر تقديم السؤال، أي الاستجداء على أكل الميتة.
__________
(1) المبسوط، المكان السابق، البدائع: 176/7، تبيين الحقائق: 185/5، الدر المختار ورد المحتار: 92/5، 238، درر الحكام: 310/1، الشرح الكبير: 115/2، مغني المحتاج: 306/4، المغني: 596/8، الفروق: 183/4، الجصاص: 148/1، 150، أحكام القرآن لابن العربي: 56/1.(4/154)
وقيل عند البعض كأبي يوسف وأبي إسحاق صاحب المهذب وفي وجه عند الحنابلة: لا يجب على المضطر الأكل من الميتة أو لحم الخنزير، بل يباح لأنه له غرضاً في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة، ولما روي عن عبد الله بن حذافة السَّهْمي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن طاغية الروم حبسه في بيت، وجعل معه خمراً ممزوجاً بماء، ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام، فلم يأكل، ولم يشرب، حتى مال رأسه من الجوع والعطش، وخشوا موته، فأخرجوه، فقال: قد كان الله أحله لي، لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام» ولأن إباحة الأكل رخصة، فلا تجب عليه كسائر الرخص (1) ، ولأن قوله تعالى: {وقد فصَّل لكم ماحَرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119/6] استثناء من التحريم، والاستثناء من التحريم حل أو إباحة كما يقرر الأصوليون.
وبهذا يظهر أن الإضراب عن الطعام في السجون ونحوها، لا يحل إذا أدى إلى الموت، على كلا الرأيين السابقين.
__________
(1) المغني: 596/8، تكملة فتح القدير: 298/7.(4/155)
ثانياً ـ شروط الضرورة أو ضوابطها:
ليس كل من ادعى الضرورة يسلَّم له ادعاؤه، أو يباح له فعل الحرام، وإنما لابد من توافر شروط أو ضوابط للضرورة، وهي ما يأتي (1) :
1ً - أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة في المستقبل، أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك على النفس أو المال بغلبة الظن بحسب التجارب، أو التحقق من خطر التلف، لو لم يأكل، ويكفي في ذلك الظن، كما في الإكراه على أكل الحرام، فلا يشترط فيه التيقن ولا الإشراف على الموت، بل لو انتهى إلى هذه الحالة لم يفد الأكل ولم يحل الأكل كما صرح الشافعية.
2ً - أن يتعين على المضطر ارتكاب المحظور الشرعي أي ألا يكون هناك وسيلة أخرى من المباحات لدفع الخطر إلا تناول الحرام؛ لأن سبب استعمال المحرمات في حال الاضطرار هو ضرورة التغذي أعني إذا لم يجد شيئاً حلالاً يتغذى به. وهذا لاخلاف فيه.
3ً - أن يتوافر عذر يبيح الإقدام على الحرام، كالحفاظ على النفس أو العضو بأن خاف التلف إما من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، وبه يظهر أن كل ما يبيح التيمم ـ كماصرح الشافعية والحنابلة ـ يبيح تناول الحرام أو ارتكاب المحظور، فيعتبر خوف حصول الشين الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض، كل منهما يبيح الأكل من المحرمات.
4ً - ألا يخالف المضطر مبادئ الإسلام، فلا يحل الزنا والقتل والكفر والغصب بأي حال؛ لأنها مفاسد في ذاتها، وإن كان يرخص حال الإكراه في الكفر باللسان مع اطمئنان القلب بالإسلام، كما يرخص بأخذ طعام الغير ولو قهراً إذا لم يكن هو أيضاً مضطراً إليه. وبه يظهر أن الإباحة تختلف عن الرخصة؛ لأن الإباحة تقلب الحرام حلالاً، وتزيل عنه صفة الحرمة، وأما الرخصة فتمنع الإثم ويظل الفعل حراماً.
__________
(1) نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 66 ومابعدها.(4/156)
ولا يباح أصلاً قتل آدمي وأكله، كما لايباح عند الجمهور غير الشافعية أكل آدمي ميت، كما سأبين، ويحرم على الراجح عند أئمة المذاهب الأربعة تناول الخمر إلا لإزالة غُصة عند عدم مايسيغها به من غيرها، ولايحل عند المالكية تناول شيء من الدم أو العَذِرة، أو ضالة الإبل.
5ً - أن يقتصر في رأي الجمهور على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، كما سأوضح؛ لأن إباحة الحرام ضرورة، والضرورة تقد ر بقدرها.
6ً - أن يصف المحرم ـ في حال ضرورة الدواء ـ طبيب عدل ثقة في دينه وعلمه، وألا يوجد من غير المحرَّم علاج آخر، يقوم مقامه.
ولا يتقيد الاضطرار بزمن مخصوص لاختلاف الأشخاص في ذلك (1) .
ثالثاً ـ هل تشمل الضرورة حالة السفر والحضر جميعاً؟
تباح المحرمات عند الاضطرار إليها في الحضر والسفر جميعاً؛ لأن آية الضرورة {فمن اضطر} [البقرة:173/2] مطلقة غير مقيدة بحالة معينة من هاتين الحالتين، وهو لفظ عام في حق كل مضطر، ولأن الاضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة العامة، وسبب الإباحة: الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك، وهو عام في الحالين (2) .
وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، ولم يميز الحنفية (3) بين السفر المقصود به أصلاً المعصية، أو طروء المعصية في أثناء سفر مباح. وهو الراجح عند الحنابلة كما في الحاشية. والمشهور من مذهب مالك (4) : أن المضطر يجوز له الأكل من الميتة ونحوها في سفر المعصية، ولايجوز له القصر والفطر لقوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/2] .
وفرق المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة (5) بين المعصية بالسفر، والمعصية في السفر أي
__________
(1) كشاف القناع: 194/6، المغني: 595/8.
(2) هذا ماقرره ابن قدامة في مذهب أحمد (المغني: 596/8) وهو الموافق لغيره من الكتب (كشاف القناع: 194/6) .
(3) التوضيح: 194/2، مسلم الثبوت: 113/1، أحكام الجصاص: 147/1 ومابعدها.
(4) الموافقات: 337/1، أحكام القرآن لابن العربي: 58/1، تفسير القرطبي: 233/2، القوانين الفقهية: ص 173، بداية المجتهد: 462/1.
(5) مخطوط قواعد الزركشي: ق 107، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 124، مغني المحتاج: 64/1، 268، المغني: 297/8، الشرح الصغير: 477/1.(4/157)
أثنائه. فمن أنشأ سفراً يعتبر في ذاته معصية كالمرأة الناشز، وقاطع الطريق، والمسافر لظلم الناس، لايباح له الأكل من الميتة، أو استعمال الرخص الشرعية؛ لأن الرخص لاتناط بالمعاصي، ولقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/2] قال مجاهد: غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم.
ومن سافر سفراً مباحاً، وعصى أثناء سفره، كأن شرب الخمر، فهو عاص في سفره، تباح له الرخص الشرعية، لأنها منوطة بالسفر، ونفس السفر ليس معصية، ولا إثم به.
رابعاً ـ جنس الشيء المستباح للضرورة:
يستباح للضرورة في المذاهب الأربعة كل شيء محرم، يرد جوعاً أو عطشاً، كالميتة من كل حيوان والخنزير وطعام الغيرونحوه (1) .
واستثنى الحنابلة السم ونحوه مما يضر.
واستثنى المالكية الآدمي والدم والخنزير والأطعمة النجسة كالعذرة والأشربة النجسة إلا الخمر، لإزالة الغُصة، ولا تباح لجوع ولا لعطش لأنها لا تدفعه، وقيل: تباح، ولا يحل التداوي بها ولو لخوف الموت في المشهور.
كما استثنوا ضالة الإبل، إلا إن تعينت عند انفرادها، وتقدم عليها الميتة عند وجودهما.
واتفق أئمة المذاهب على أنه لا يباح قتل إنسان مسلم أو كافر معصوم أو إتلاف عضو منه لضرورة الأكل، لأنه مُثلة، فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه. فلا يباح إذن الإنسان الحي. كما لا يباح الأكل من الإنسان الميت عند الجمهور غير الشافعية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حياً» (2) . وإن قال شخص لآخر
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 115/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 461/1، القوانين الفقهية: ص 173، الدر المختار ورد المحتار: 238/5، مغني المحتاج: 595/8، كشاف القناع: 194/6.
(2) رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها. وروى مالك وابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح ما عدا رجلاً واحداً هو سعد الأنصاري، ضعفه أحمد، ووثقه الأكثرون: حديثاً في معناه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لحفار قبر أخرج عظماً: «لا تكسرها، فإن كسرك إياها ميتاً ككسرك إياه حياً، ولكن دُسَّه في جانب القبر» وأخرج ابن ماجه عن أم سلمة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حياً في الإثم» .(4/158)
مثلاً: اقطع يدي وكلها، لا يحل؛ لأن لحم الإنسان لا يباح في الاضطرار لكرامته.
وأجاز الشافعية (1) للمضطر أكل آدمي ميت إذا لم يجد ميتة غيره؛ لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، إلا إذا كان الميت نبياً، فإنه لا يجوز الأكل منه قطعاً، أو كان الميت مسلماً والمضطر كافراً، فإنه لا يجوز له الأكل منه لشرف الإسلام. وقال الخطيب الشربيني شارح المنهاج: بل لنا وجه: أنه لا يجوز أكل الميت المسلم، ولو كان المضطر مسلماً. وبهذه الاستثناءات اقترب الشافعية من غيرهم.
وأجاز الحنابلة أكل الآدمي غير المعصوم أي مباح الدم كالحربي والمرتد والزاني المحصن والقاتل في المحاربة (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 307/4.
(2) كشاف القناع: 198/6.(4/159)
كذلك أجاز الشافعية والحنابلة للمضطر قتل حربي ومرتد وأكله، ولا يجوز له قطع بعض أعضائه، لأنهما ـ أي في حالة القتل ـ غير معصومين، فيباح قتلهما، إذ لا حرمة لهما، فكانا بمنزلة السباع، وللمضطر أكله بعد موته، لعدم حرمته.
وللمضطر أيضاً عندهم (الشافعية والحنابلة) قتل الزاني المحصن، والمحارب (قاطع الطريق) ومن عليه قصاص، وإن لم يأذن الإمام في القتل؛ لأن قتلهم مستحق، وإنما يعتبر إذن الإمام في غير حال الضرورة تأدباً معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب.
ولا يجوز للمضطر قتل ذمي ومستأمن ومعاهد، لحرمة قتلهم. والأصح له حل قتل صبي حربي وامرأة حربية، لأنهما ليسا بمعصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتهما، بل لحق الغانمين.
تشريح الجثث ونقل الأعضاء:
يرى المالكية والحنابلة عملاً بحديث: «كسر عظم الميت ككسره حياً» أنه لا يجوز شق بطن الميتة الحامل لإخراج الجنين منه؛ لأن هذا الولد لا يعيش عادة، ولايتحقق أنه يحيا، فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم.
وأجاز الشافعية شق بطن الميتة لإخراج ولدها، وشق بطن الميت لإخراج مال منه. كما أجاز الحنفية كالشافعية شق بطن الميت في حال ابتلاعه مال غيره، إذا لم تكن له تركة يدفع منها، ولم يضمن عنه أحد (1) .
وأجاز المالكية أيضاً شق بطن الميت إذا ابتلع قبل موته مالاً له أو لغيره إذا كان كثيراً: هو قدر نصاب الزكاة، في حال ابتلاعه لخوف عليه أو لعذر. أما إذا ابتلعه بقصد حرمان الوارث مثلاً، فيشق بطنه، ولو قل.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 246/3.(4/160)
وبناء على هذه الآراء المبيحة: يجوز التشريح عند الضرورة أو الحاجة بقصد التعليم لأغراض طبية، أو لمعرفة سبب الوفاة وإثبات الجناية على المتهم بالقتل ونحو ذلك لأغراض جنائية إذا توقف عليها الوصول إلى الحق في أمر الجناية، للأدلة الدالة على وجوب العدل في الأحكام، حتى لا يظلم بريء، ولا يفلت من العقاب مجرم أثيم.
كذلك يجوز تشريح جثث الحيوان للتعليم؛ لأن المصلحة في التعليم تتجاوز إحساسها بالألم.
وعلى كل حال ينبغي عدم التوسع في التشريح لمعرفة وظائف الأعضاء وتحقيق الجنايات، والاقتصار على قدر الضرورة أو الحاجة، وتوفير حرمة الإنسان
الميت وتكريمه بمواراته وستره وجمع أجزائه وتكفينه وإعادة الجثمان لحالته بالخياطة ونحوها بمجرد الانتهاء من تحقيق الغاية المقصودة.
كما يجوز عند الجمهور نقل بعض أعضاء الإنسان لآخر كالقلب والعين والكُلْية إذا تأكد الطبيب المسلم الثقة العدل موت المنقول عنه؛ لأن الحي أفضل من الميت، وتوفير البصر أو الحياة لإنسان نعمة عظمى مطلوبة شرعاً. وإنقاذ الحياة من مرض عضال أو نقص خطير أمر جائز للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، ولكن لا يقبل بيع هذه الأعضاء بحال، كما لا يجوز بيع الدم، وإنما يجوز التبرع بدفع عوض مالي على سبيل الهبة أو المكافأة عند نقل العضو أو التبرع بالدم في حالة التعرض لهلاك أو ضرر بالغ. فإن تحتم دفع العوض ولا يوجد متبرع من الأقارب أو غيرهم، جاز للدافع الدفع للضرورة.
التداوي بالخمر:
قال أئمة المذاهب الأربعة (1) : يحرم على الراجح الانتفاع بالخمر وسائر المسكرات للمداواة وغيرها، كاستخدامها في دُهن أو طعام أو إذابة دواء أو بَلَّ طين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (2) ،وروى طارق
__________
(1) البدائع: 113/5، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 320/5، المنتقى على الموطأ: 154/3، 158، التاج والإكليل: 318/6، الشرح الكبير للدردير: 352/4 ومابعدها، المهذب: 251/1، مغني المحتاج: 187/4، كشاف القناع: 198/6، زاد المعاد: 114/3، المغني: 255/4، 308/8، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص 286.
(2) رواه البخاري عن ابن مسعود. وكذا رواه عبد الرزاق والطبري وابن أبي شيبة موقوفاً عليه. وذكره البيهقي وأحمد وأبو يعلى والبزار مرفوعاً، وابن حبان وصححه، من حديث أم سلمة.(4/161)
ابن سويد أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء» (1) .
لكن قال الحنفية (2) : يجوز التداوي بالمحرم إن علم يقيناً أن فيه شفاء، ولا يقوم غيره مقامه، أما بالظن فلا يجوز. وقول الطبيب لا يحصل به اليقين. ولايرخص التداوي بلحم الخنزير، وإن تعين.
وقيد الشافعية (3) حرمة التداوي بالخمر إذا كانت صرفاً، غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه. أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم به، مما يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حية وبول. وكذا يجوز التداوي بما ذكر لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك، أو معرفته للتداوي به. وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لايسكر.
قال العز بن عبد السلام (4) : جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهراً يقوم مقامها؛ لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها.
وأبان ابن العربي والقرطبي المالكيان (5) أنه يجوز الانتفاع بالخمر للضرورة،
__________
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والترمذي وصححه هو وابن عبد البر. وروي أيضاً: «لا تداووا بحرام» من حديث أبو داود والطبراني ورجاله ثقات عن أبي الدرداء بلفظ: «إن الله خلق الداء والدواء فتداووا ولا تتداووا بحرام» (مجمع الزوائد: 86/5) .
(2) الهدية العلائية للعلامة الشيخ علاء الدين عابدين: ص 251.
(3) مغني المحتاج: 188/4.
(4) قواعد الأحكام: 81/1.
(5) أحكام القرآن لابن العربي: 56/1 ومابعدها، تفسير القرطبي: 231/2.(4/162)
لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/2] فرفعت الضرورة التحريم، وخصصت الضرورة الحرام؛ لأن إهمال تعاطي الدواء قد يسبب الوفاة.
شرب الخمر حالة العطش:
أجاز جمهور الفقهاء (1) شرب الخمر عند ضرورة العطش أو الغصص أو الإكراه قدر ما تندفع به الضرورة؛ لأن الحفاظ على الحياة يقتضي إباحة كل ما يطفئ الظمأ.
وقيد الحنابلة (2) شرب الخمر لضرورة العطش بما إذا كانت ممزوجة بما يروي من العطش، فتباح حينئذ فقط. فإن شربها صرفاً أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش، لم يبح له ذلك، وعليه عقوبة الحد المقررة.
خامساً ـ كيفية ترتيب الأفضلية بين مطعومات الضرورة:
إذا وجد المضطر ميتة وطعاماً لغيره وصيداً لمحرم أو مأكولاً غير مذبوح، فهل يقدم الميتة أو غيرها؟ للفقهاء رأيان:
1 - قال الجمهور (الحنفية، والشافعية في المعتمد عندهم، والحنابلة) (3) : إنه يأكل الميتة؛ لأن أكل الميتة ثبت بالنص، وطعام الغير أو إباحة الصيد ثبت بالاجتهاد، والأخذ بالمنصوص عليه أولى، ولأن الميتة لا تبعة فيها لأحد من الناس
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي: 147/1، بداية المجتهد: 462/1، الإفصاح لابن هبيرة: ص 374، تفسير القرطبي: 228/2.
(2) المغني: 308/8، 605.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم: 124/1، أحكام القرآن للجصاص: 148/1، مغني المحتاج: 309/4، المهذب: 250/1، المغني: 600/8، كشاف القناع: 194/6 ومابعدها.(4/163)
في الدنيا ولا في الآخرة، فكان أكلها أخف من أكل طعام الغير، إذ حقوق الناس مبنية على التشديد، وحق الله تعالى أوسع. ولو حصل ضرر بأكل الميتة يرجى الشفاء منه بالمداواة. ويجب عند الحنابلة تقديم السؤال على آكل الميتة.
وإن وجد المحرم صيداً حياً وميتة، أكل الميتة؛ لأن ذبح الصيد جناية لا تجوز له حال الإحرام. فإن لم يجد المضطر ميتة، ذبح الصيد وأكله.
وإن لم يجد المضطر شيئاً يأكله، لم يبح له عند الحنابلة (1) أكل بعض أعضائه؛ لأن أكله من نفسه ربما قتله، فيكون قاتلاً لنفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكل جزء من جسده.
وقال النووي في المنهاج (2) : الأصح جواز قطع بعضه، لا كله، لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله. وشرط الجواز أمران: أحدهما ـ فقد الميتة ونحوها. والثاني ـ أن يكون الخوف في قطعه أقل من الخوف في ترك الأكل. فإن كان مثله أو أكثر، حرم جزماً. كما يحرم جزماً على شخص قطع بعض نفسه لغيره من المضطرين؛ لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستبقاء الكل. ويحرم على مضطر أيضاً أن يقطع لنفسه قطعة من حيوان معصوم.
2- وقال المالكية (3) : تقدم الميتة وجوباً على أكل لحم الخنزير، لأنه حرام لذاته، وحرمة الميتة عارضة، كما تقدم الميتة للمضطر المحرم على الصيد الحي الذي صاده المحرم أو أعان عليه، ما لم تكن الميتة متغيرة يخاف على نفسه من أكلها، وإلا قدم الصيد المذكور. فإن كان المضطر حلالاً قدم صيد المحرم على الميتة.
__________
(1) المغني: 601/8.
(2) مغني المحتاج: 310/4.
(3) الشرح الكبير: 116/2، القوانين الفقهية: ص 173، تفسير القرطبي: 229/2.(4/164)
ويقدم طعام الغير ندباً، لا وجوباً على أكل الميتة، إن لم يخف الأذى من قطع عضو، أو ضرب ونحوه؛ لأن الطعام طاهر، ولأن الغالب أن الإنسان يبذل طعامه للمضطر ولا يتلكأ في ذلك. وهذا المذهب هو المعقول، بل إني أرى وجوب تقديم طعام الغير على أكل الميتة، دفعاً للضرر.
قال ابن كثير (1) : إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا ضرر فيه ولا أذى، فإنه لا يحل له أكل الميتة، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف (2) .
سادساً ـ مقدار الجائز تناوله للضرورة:
هل يقتصر المضطر من تناول الحرام كالميتة على مقدار دفع الضرر، أو يباح له الشبع؟ رأيان للفقهاء:
1 - قال الجمهور (الحنفية، والأظهر عند الشافعية، وأصح الروايتين عند الحنابلة، وبعض المالكية كابن الماجشون وابن حبيب) (3) : يأكل المضطر للغذاء، ويشرب للعطش، ولو من حرام أو ميتة ومال غيره، مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه أو يؤمن معه الموت: وهو مقدار ما يتمكن به من الصلاة قائماً، ومن الصوم، وهو لقيمات معدودة، ويمتد ذلك من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولاعاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/2] (4) ولأن (ما جاز للضرورة يتقدر بقدرها) ويكون المضطر بعد سد الرمق غير مضطر، فلم يحل له الأكل، فيصير بعد سد رمقه كما كان قبل أن يضطر، وحينئذ لم يبيح له الأكل، فكذا بعد زوال حالة الضرورة.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 205/1.
(2) كذا قال، وقد عرفنا أن هناك خلافاً في المسألة.
(3) رد المحتار: 238/5، المهذب: 250/1، كشاف القناع: 194/6، المغني: 595/8، 597، مغني المحتاج: 307/4.
(4) أي غير متجاوز حد الضرورة، ولا باغ في الأكل بما يزيد عن حاجته.(4/165)
2 - وقال المالكية على المعتمد (1) : يجوز للمضطر التناول من الحرام حتى يشبع، وله التزود (ادخار الزاد) من الميتة ونحوها، إذا خشي الضرورة في سفره، فإذا استغنى عنها طرحها، لأنه لا ضرر في استصحابها، ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته، ولكن لا يأكل منها إلا عند ضرورته.
ودليلهم أن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة جميعها ونحوها مباحة لظاهر قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} [البقرة:173/2] . ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده، ولأن كل طعام يباح، جاز أن يأكل منه الإنسان قدر سد الرمق، جاز له أن يشبع منه كالطعام الحلال.
هذا إذا كانت المخمصة نادرة في وقت ما، فإن كانت المجاعة عامة مستمرة، فلا خلاف بين العلماء في جواز الشبع من الميتة ونحوها من سائر المحظورات.
ويتفق الشافعية، والحنابلة في أصح الروايتين (2) مع المالكية في جواز التزود من المحرَّمات، ولو رجا الوصول إلى الحلال. ويبدأ وجوباً بلقمة حلال ظفر بها، فلا يجوز له أن يأكل من الحرام حتى يأكلها لتتحقق الضرورة.
وصرح الشافعية: لو عمَّ الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادراً، جاز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة، بل على الحاجة. وعلل العز بن عبد السلام (3) جواز تناول الحرام حينئذ، دون أن يقتصر على الضرورات بقوله: لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة.
__________
(1) بداية المجتهد: 462/1، أحكام القرآن لابن العربي: 55/1، الشرح الكبير: 116/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 173، تفسير القرطبي: 226/2 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 307/4، المغني: 597/8، كشاف القناع: 194/6.
(3) قواعد الأحكام: 160/2.(4/166)
سابعاً ـ حكم أخذ طعام قهراً للضرورة:
لا خلاف بين الفقهاء (1) في أنه يجب على مالك الطعام أو المال، إذا لم يكن مضطراً إليه في الحال، أن يبذله إلى المحتاج إليه بقيمته، ليدفع عنه أذى الجوع أو العطش أو الحر أو البرد أو الضرر الذي قد يلحق به. فإن امتنع أو طلب أكثر من ثمن المثل، فيجوز قتاله ولو كان مسلماً؛ لأخذه جبراً عنه؛ لأن المسلمين متكافلون متعاونون على السراء والضراء، قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2/5] ، ولأن امتناع مالك المال أو الطعام من بذله للمضطر إليه إعانة على قتله، وقد ورد: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» (2) . وقد ذم الله على منع ذلك مطلقاً بقوله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون:7/107] .
ولا يجوز للمضطر في هذه الحالة أن يأكل الميتة، لأنه غير مضطر، والتزامه بدفع قيمة الطعام أمر مقرر شرعاً؛ لأن الإباحة للاضطرار لا تنافي الضمان (3) . وتنص القاعدة: (الاضطرار لا يبطل حق الغير) .
وأما في حال المجاعة العامة فلا يلزم المرء ببذل الطعام للمضطرين؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر (4) .
__________
(1) رد المحتار: 238/5، الموافقات: 352/2، الشرح الكبير: 116/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 205/1، المهذب: 250/1، كشاف القناع: 195/6، غاية المنتهى: 316/1، المغني: 602/8، الطرق الحكمية: ص 26، ط السنة المحمدية، الحسبة لابن تيمية: ص40، القواعد لابن رجب: ص227.
(2) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، وهو حديث ضعيف.
(3) شرح المجلة للأتاسي: ص 76 ومابعدها، للمحاسني: ص 60 ومابعدها، الفروق: 195/1 ومابعدها، 9/4، حاشية الجمل على المنهج، القواعد لابن رجب: ص 36، 286، القواعد والفوائد لابن اللحام الحنبلي: ص 43.
(4) كشاف القناع: 198/6.(4/167)
ثامناً ـ حالات خاصة للضرورة أو الحاجة:
هناك حالات خاصة بالمار ببستان الغير والأكل من الزرع أو الفاكهة، والمار بماشية الغير، هل يجوز التناول منه أو لا؟
1 ً ـ الأكل من ثمار البساتين:
من مر في طريقه ببستان فيه أشجار مثمرة، فله أن يأكل من فاكهته الرطبة ولو كان هناك حائط عند الضرورة بشرط الضمان أي دفع القيمة.
فإن لم يكن هناك ضرورة للأكل، فلا يجوز للمار عند جمهور الفقهاء (1) أن يأخذ منه شيئاً بغير إذن صاحبه، كما لا يجوز له أن يحمل معه شيئاً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» (2) وقوله عليه السلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا» (3) وهذا الرأي أنزه وأورع وأحوط ديناً.
وقال الحنابلة (4) : يجوز في حال الجوع والحاجة لمن مر بثمرة أن يأكل منها، ولا يحمل. قال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط، يأكل الإنسان منها إذا كان جائعاً، وإذا لم يكن جائعاً، فلا يأكل. وقد فعله غير واحد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا كان عليه حائط لم يأكل، لأنه قد صار شبه الحريم، ولقول ابن عباس: «إن كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط، فلا بأس» ، ولأن إحراز الثمار بالحائط يدل على شح صاحبه به، وعدم المسامحة فيه.
__________
(1) رد المحتار: 238/5، المهذب: 251/2، الميزان للشعراني: 59/2.
(2) رواه الحاكم وابن حبان في صحيحهما عن أبي حميد الساعدي بلفظ: «لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيبة نفسه منه» .
(3) رواه البخاري ومسلم. وروى مسلم عن أبي هريرة: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» .
(4) المغني: 597/8.(4/168)
والدليل على جواز الأكل للحاجة في حال عدم وجود حائط للبستان قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنة (1) ، فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئاً، فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» (2) وقوله أيضاً: «إذا أتيت على حائط ـ أي بستان ـ فناد صاحب البستان ثلاثاً، فإن أجابك، وإلا فكل، من غير أن تفسد» (3) . وروي عن أبي زينب التميمي، قال: «سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم» وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة، قال عمر: «يأكل ولا يتخذ خبنة» (4) .
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه أجاز الأكل من ثمار البساتين غير المحوطة مطلقاً، سواء أكان المار جائعاً، أم لا. جاء في متن الإقناع وكشاف القناع (5) : من مر بثمر على شجر بستان، أو مر بثمر ساقط تحت الشجر، لا حائط عليه، ولا ناظر (حافظ) ولو كان المار به غير مسافر ولا مضطر، فله أن يأكل منه مجاناً، ولو لغير حاجة إلى أكله، وكذا لو أكله من غصونه من غير رميه بشيء ولا ضربه، ولا صعود شجرة، لحديث الخدري السابق: «إذا أتيت حائط بستان..» . والحقيقة أن هذا كان سائداً بحسب العرف القائم بين الناس، فإنهم كانوا
__________
(1) الخبنة: ما تحمله في حضنك.
(2) رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم.
(3) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، ورجاله ثقات. وروى سعيد عن الحسن عن سمرة مثله.
(4) المغني: 598/8.
(5) كشاف القناع: 198/6 ومابعدها.(4/169)
يتسامحون عادة في الأكل للمار، وفي تناول الثمار الساقطة بلا إذن صاحبها، إلا إذا كان قائماً بالتقاطها، أو نهى الناس عن التناول منها (1) .
2 ً ـ الأكل من الزرع:
روي عن أحمد روايتان فيمن مر بزرع الغير، فأراد الأكل منه (2) ، أي للحاجة:
إحداهما ـ قال: لا يأكل، إنما رخص في الثمار ليس في الزرع، وقال: ما سمعنا في الزرع أن يمس منه. والفرق بين الثمر والزرع: أن الثمار خلقها الله تعالى للأكل رطبة، والنفوس تتوق إليها، أما الزرع فهو بخلاف ذلك.
والثانية ـ قال: يأكل من الفريك؛ لأن العادة جارية بأكله رطباً، فأشبه الثمر.
قال ابن قدامة: والأولى في الثمار وغيرها ألا يأكل منها إلا بإذن صاحبها لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم.
3 ً ـ حلب ماشية الغير:
عن أحمد أيضاً روايتان في حلب لبن الماشية (3) :
إحداهما ـ يجوز ـ أي للمحتاج ـ أن يحلب ويشرب من ماشية الغير، ولكن لا يحمل معه شيئاً، لحديث سمرة: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها، فليستأذنه، فإن أذن، فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها، فليصوت ثلاثاً، فإن أجابه أحد، فليستأذنه، وإن لم يجبه
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 81.
(2) المغني: 599/8.
(3) المغني: 599/8.(4/170)
أحد، فليحلب وليشرب، ولايحمل» (1) .
والثانية ـ لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فَيُنْتَقَل ُطعامه، فإنما تَخْزُن ُلهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ، وفي لفظ: «فإن ما في ضروع مواشيهم، مثل ما في مشاربهم» (2) .
المطلب الرابع ـ إجابة الولائم، وموائد المنكر، وآداب الطعام:
أولاً ـ إجابة الولائم وموائد المنكر:
إجابة الوليمة مشروعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «شر الطعام: طعام الوليمة، يُمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لا يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله» (3) ولا خلاف في أن وليمة العرس سنة مشروعة لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» (4) . والمنصوص لدى أصحاب الشافعي أنها واجبة، لهذا الحديث. ومنهم من قال: هي مستحبة، لأنه طعام لحادث سرور، فلم تجب كسائر الولائم. وهذا قول أكثر العلماء (5) .
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه الباقون إلا الترمذي موقوفاً عن أبي هريرة بلفظ: «شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» (نصب الراية: 221/4) .
(4) رواه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة عن أنس بن مالك.
(5) المغني: 2/7.(4/171)
وإجابة الدعوة سنة عند الحنفية (1) ، وتجب الإجابة إذا لم يكن فيها منكر أو لهو عند الشافعية والحنابلة (2) .
وتجب الإجابة لوليمة النكاح عند المالكية وفاقاً للشافعية والحنابلة (3) ، وتستحب إجابة ما يفعله الرجل بخواص إخوانه تودداً. وتجوز إجابته كدعوة العقيقة، وتكره إجابته: وهو ما يفعل للفخر والمباهاة. وتحرم إجابته: وهو ما يفعله الرجل لمن تحرم عليه هديته كالغريم (الدائن) ، وأحد الخصمين للقاضي. وهذا تفصيل حسن لدى المالكية.
والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام، لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: «أفطر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار» .
مانع المنكر من إجابة الدعوة:
إن علم المدعو بوجود منكر كلعب وغناء وملاهٍ ونصب تماثيل وصور مجسمة على الحيطان أو الأستار أو الوسائد، قبل حضوره، فلا يحضر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنزير والخزَّ والمعازف» (4) . وفي لفظ: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات (5) ، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (6) .
وإن حضر المدعو، ففوجئ بالمنكر: فإن كان على المائدة كالخمر، فلا يقعد، لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [الأنعام:68/6] .
وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل الرجل وهو منبطح على بطنه» .
وإن كان في المنزل، لا على المائدة الجالس عليها:
فإن قدر على المنع، منعهم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (7) . وإن لم يقدر على المنع: فإن كان قدوة، خرج ولم يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين، وفتح باب المعصية على المسلمين.
وإن لم يكن قدوة، صبر، وقعد، وأكل، ولا يخرج؛ لأن إجابة الدعوة سنة (8) .
__________
(1) تكملة الفتح: 87/8، تبيين الحقائق: 13/6.
(2) المهذب: 64/2، المغني: 2/7، مغني المحتاج: 245/3.
(3) القوانين الفقهية: ص 194، المهذب: 64/2-65، غاية المنتهى: 77/3، الشرح الصغير: 500/3 ومابعدها.
(4) أخرجه البخاري وأبو داود عن عبد الرحمن بن غُنْم (نيل الأوطار: 92/2) والخز: هو المخلوط من صوف وحرير.
(5) اختلف في الغناء المجرد عن الآلات أو المعازف، فقال بعضهم: إنه حرام مطلقاً، والاستماع إليه معصية، لإطلاق هذين الحديثين، ولو سمع بغتة فلا إثم عليه. ومنهم من قال: لا بأس بالتغني ليستفيد فهم القوافي والفصاحة. ومنهم من قال: يجوز التغني لدفع الوحشة إذا كان وحده، ولا يكون على سبيل اللهو، وهو رأي السرخسي. ولو كان في الشعر حكم أو عبر أو فقه أو ذكر امرأة غير معينة، لا يكره (تبيين الحقائق: 14/6) وقال الشافعية: يكره الغناء من غير آلة مطربة، ويحرم استعمال الالآت المطربة من غير غناء (المهذب: 326/2ومابعدها) .
(6) رواه ابن ماجه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري.
(7) رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري.
(8) تكملة الفتح، تبيين الحقائق، المكان السابق، المهذب: 64/2، مغني المحتاج: 3 /247.(4/172)
ثانياً ـ آداب الطعام والشراب:
ورد في السنة آداب كثيرة للطعام والشراب منها ما يأتي (1) :
يسن للأكل أو الشرب البسملة عند أول الطعام، والحمدلة آخره، وللأكل غسل اليدين قبله وبعده بأن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن نسي البسملة فليقل: بسم الله على أوله، وعلى آخره. ويرفع الصوت بها لتلقين من معه، ولا يرفع بالحمد إلا إذا فرغ الحضور من الأكل، فيقول: «الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» (2) أو: «الحمد لله الذي أطعمني وسقاني من غير حول مني ولا قوة» .
ويستحب الأكل والشرب باليمين، ودليل ما سبق قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعمر بن أبي مسلمة: «بسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» (3) وقوله عليه السلام: «إذا أكل أحدكم، فليأكل بيمينه، وإذا شرب، فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» (4) . والأكل مما يليه من موضع واحد، إلا أن يكون طبقاً فيه ألوان الثمار، فيأكل من حيث شاء، لأنه ألوان، كما ورد في الأثر.
ويستحب الأكل بثلاث أصابع لما ثبت عن النبي (5) .والتقليل من الأكل فيجعل ثلثاً للطعام، وثلثاً للشراب، وثلثاً للنَّفَس. وترك التبسط في الطعام، كما هو خلُق السلف. وألا يأكل متكئاً (6) ، وقال الحنفية: لا بأس به. وألا ينفخ في
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 239/5، القوانين الفقهية: ص 436 ومابعدها، مغني المحتاج: 205/3، 310/4، المغني: 614/8-616.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أحمد والشيخان وابن ماجه وأبو داود عن عمر بن أبي سَلَمة (نيل الأوطار: 161/8) .
(4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عمر (نيل الأوطار: 160/8) .
(5) رواه أحمد عن كعب بن مالك.
(6) روى الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل متكئاً» (نيل الأوطار: 161/8) .(4/173)
الطعام ولا في الشراب، ولا يتنفس في الإناء. وأن يوافق من يأكل معه في تصغير اللقم، وإطالة المضغ، والتمهل في الأكل، وألا يشرب من فم الإناء. ويجوز الشرب قائماً، والأفضل القعود. وإذا كان جماعة يدار عليهم ماء الشرب، يأخذ بعد الأول: الأيمن فالأيمن.
ويسن تناول الحلو من الأطعمة، وكثرة الأيدي على الطعام، وإكرام الضيف، والحديث الحسن القليل على الأكل، ويكره السكوت، لأنه تشبه بالمجوس.
ويكره ذم الطعام إذا كان الطعام لغيره، لما فيه من الإيذاء، فإن كان له فلا.
ويسن أن يأكل من أسفل الصحفة، ويكره من أعلاها، أو وسطها، فإن البركة تنزل في وسطها (1) .
ومن السنةالبداءة بالملح والختم به؛ لأن فيه شفاء من سبعين داء. ويبسط رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ولا يأكل الطعام حاراً، ولا يشمه.
المبحث الثاني ـ الأشربة:
البحث هنا في الأشربة يتناول حكم الحرام والحلال منها، والانتباذ في الظروف والأواني، وتخليل الخمر.
__________
(1) روى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه» (نيل الأوطار: 160/8) .(4/174)
أولاً ـ حكم الأشربة:
اتفق العلماء على أن الأصل في الأشربة والأطعمة الإباحة، لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] فكل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض، أو عصر من التمر والزهر فهو حلال. واتفقت المذاهب (المفتى به ـ وهو رأي محمد ـ عند الحنفية، وغير الحنفية) (1) على تحريم جميع الأشربة المسكرة، قليلها وكثيرها، نيئها ومطبوخها، سواء أكانت خمراً (وهي عصير العنب المتخمر) أم غيرها من الأشربة الأخرى المتخذة من الزبيب أو التمر أو العسل والتين، أو الحبوب كالقمح والشعير والذرة، ونحوها، ويحد كما سأوضح في بحث الحدود شارب القليل أو الكثير منها عند غير الحنفية، ولا يحد إلا بالسكر من الأشربة غير الخمر، أو بشرب القليل أو الكثير من الخمر عند الحنفية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» (2) ، «أنهاكم عن قليل ما أسكر قليله» «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» (3) «إن من العنب خمراً، وإن من العسل خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن الحنطة خمراً، ومن التمر خمراً، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» (4) .
ويحرم جميع ما هو ضار من الأشربة كالسم وغيره، وكل ما هو نجس كالدم المسفوح والبول، ولبن الحيوان غير المأكول عدا الإنسان، وكل ما هو متنجس كالمائع الذي وقعت فيه نجاسة لما فيه من الضرر على الإنسان.
__________
(1) البدائع: 117/5، نتائج الأفكار: 160/8 ومابعدها، الدر المختار: 323/5، اللباب: 215/3، بداية المجتهد: 457/1 ومابعدها، الشرح الكبير والدسوقي: 352/4، القوانين الفقهية: ص 174، مغني المحتاج: 187/4، المهذب: 286/2، المغني: 304/8 ومابعدها، كشاف القناع: 116/6 ومابعدها.
(2) رواه مسلم والدارقطني عن ابن عمر (نصب الراية: 295/4) .
(3) روي عن تسعة من الصحابة (نصب الراية: 301/4 ومابعدها) .
(4) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير (التلخيص الحبير: ص 359) .(4/175)
خلط الخمر بغيرها: يحرم بالاتفاق شرب الماء الممزوج بالخمر، لما فيه من ذرات الخمر، ويعزَّر الشارب، ويجب الحد إن كانت الخمر أكثر من الماء، لبقاء اسم الخمر ومعناها. كما يحرم شرب الخمر المطبوخة؛ لأن الطبخ لا يحل حراماً، ولو شربها يجب الحد، لبقاء اسم الخمر ومعناها (1) .
ويكره تحريماً عند الحنفية أكل الخبز المعجون بالخمر، لوجود ذرات الخمرفيه، وفيه التعزير. ويحرم ذلك عند غير الحنفية، ولا حد فيه عند الكل، والخلاف في التسمية والاصطلاح فقط. فما ثبت بدليل ظني كالقياس وخبر الآحاد يسميه الحنفية مكروهاً تحريماً يعاقب فاعله، والجمهور يسمونه حراماً.
ويكره تحريماً أيضاً عند الحنفية (2) الاحتقان بالخمر (بأخذها حقنة شرجية) أو جعلها في سَعُوط (ما يصب في الأنف من دواء ونحوه) ؛ لأنه انتفاع بالمحرَّم النجس، ولكن لا يجب الحد، لأن الحد مرتبط بالشُّرْب.
كذلك لا يحد بالاحتقان والسَّعُوط عند الشافعية والمالكية. ولا يحد بالاحتقان بالخمر عند الحنابلة، لكن يحد إن استعط به، لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه (3) .
ويكره تحريماً عند الحنفية (4) شرب دُرْدِي الخمر (5) ، والامتشاط به، ليزيد بريقَ الشَّعَر؛ لأن فيه ذرات الخمر المتناثرة فيه، وقليله ككثيره، للأحاديث المتقدمة. ولكن لا يحد شاربه إلا إذا سكر منه، لأنه لا يسمى خمراً.
__________
(1) المراجع السابقة، مغني المحتاج: 188/4، المغني: 306/8.
(2) تكملة فتح القدير: 167/8.
(3) الشرح الكبير: 352/4، مغني المحتاج، المغني: المكان السابق، كشاف القناع: 118/6، ويلاحظ أن المرجع الأخير ذكر فيه: أنه يحد من احتقن بالمسكر، أو استعط به.
(4) تكملة الفتح: 167/8.
(5) دردي الخمر: أي كدره أو عكره، ودردي الشيء: مايبقى أسفله. فالمراد به: مافي أسفل وعاء الخمر من عكر.(4/176)
وقال غير الحنفية (1) : يحرم شرب دردي الخمر، ويحد به، لأنه خمر بلا شك.
الأدوية السامة: قال الحنابلة (2) في الأصح: ما فيه السموم من الأدوية: إن كان الغالب من شربه واستعماله الهلاك به أو الجنون، لم يبح شربه. وإن كان الغالب منه السلامة، ويرجى منه المنفعة، فالأولى إباحة شربه، لدفع ما هو أخطر منه كغيره من الأدوية، ولأن كثيراً من الأدوية يخاف منه، وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه.
المخدرات: تحرم جميع المخدرات وهي كل ما يضر بالجسم والعقل كالبنج والأفيون والحشيشة ونحوها، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتِّر» (3) ولما فيها من الإضرار بالعقل والجسم، ولما تؤدي إليه من تعطيل الأعمال والكسل والاسترخاء والخمول.
ما يستثنى من حكم المسكرات والمخدرات: يباح تناول شيء من المسكر للضرورة كإزالة اللقمة بالغصة إذا لم يوجد شراب آخر غير الخمر، ويباح التداوي بالأدوية الممزوجة بالكحول للضرورة أو الحاجة إذا لم يتوافر دواء آخر سواها. ويحل استعمال المخدر في العمليات الجراحية وتسكين الآلام الشديدة بحقنة أو شرب أو ابتلاع للضرورة.
غير المسكر: يحل شرب كل الأشربة غير المسكرة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
__________
(1) مغني المحتاج:188/4.
(2) المغني:401/1.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود.(4/177)
لكن يكره تحريماً من غيرالمسكر (1) : المنصَّف: وهو ما يعمل من تمر ورطب، والخليطان: وهو ما يعمل من بُسْر ورطب، أو تمر وزبيب، ما لم يغل، أو لم تأتِ عليه ثلاثة أيام، فإن قصرت المدة، فلا كراهة. فيباح الانتباذ (طرح التمر أو الزبيب أو الحبوب في الماء) إذا بقي مدة يسيرة كيوم أو ليلة ونحوها بحيث لا يحتمل توقع الإسكار فيها، بدليل ما روى أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عباس: أنه كان ينقع الزبيب للنبي، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الليلة الثالثة، ثم يأمر به فيهراق.
ودليل الكراهة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين، فقال: «لا تَنْبُذوا الزَّهْو (2) والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والرطب جميعاً، ولكن انبذوا كل واحد منهما على حدته» (3) . وعن أبي سعيد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما، وعن التمر والبسر أن يخلط بينهما يعني في الانتباذ (4) » .
ولأن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، قبل أن يتغير، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر، ويكون مسكراً.
وصرح المالكية والحنابلة (5) بأنه لابأس بالفُقَّاع (وهو شراب يتخذ من قمح وتمر، وقيل: ماجعل فيه زبيب ونحوه حتى انحل فيه) لأنه غير مسكر، وإنما يتخذ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 117/2، بداية المجتهد: 460/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 174، مغني المحتاج: 187/4، كشاف القناع: 120/6، المغني: 318/8.
(2) الزهو: هو البسر الملون الذي بدأ فيه حمرة أو صفرة وطاب. والبسر: نوع من تمر النخل معروف.
(3) متفق عليه عن أبي قتادة (نيل الأوطار: 185/8) .
(4) رواه أحمد ومسلم (نيل الأوطار:185/8) .
(5) كشاف القناع: 120/6، المغني: 318/8، بداية المجتهد: 459/1، المنتقى على الموطأ: 153/3.(4/178)
لهضم الطعام. ويحل عندهم شراب السوبيا: وهو مايتخذ من الأرز بطبخه طبخاً شديداً حتى يذوب في الماء، ويصفى ويوضع فيه السُّكَّر ليحلو به.
ويحل عقيد العنب: وهو ماء العنب المغلي حتى يعقد ويذهب إسكاره الذي حصل في ابتداء غليانه، ويسمى الرُّب الصامت. ولاتحل هذه الأشربة إلا إذا أمن السكر منها. وبه يظهر أن الدبس ونحوه من المربَّيات مباح لعدم الإسكار.
ثانياً ـ الانتباذ في الظروف والأواني:
اتفق العلماء على أنه يجوز الانتباذ (اتخاذ النبيذ المباح) في الأوعية المصنوعة من جلد، وهي الأسقية، واختلفوا فيما عداها:
فقال الحنفية (1) : لابأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني، سواء الدُّبَّاء والحَنْتم والمُزفَّت والنَّقير (2) ؛ لأن الشراب الحاصل ليست فيه شدة مطربة. والنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخ بقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأَدَم ـ الجلود المدبوغة ـ فاشربوا في كل وعاء، غير ألا تشربوا مسكراً» (3) . وفي رواية: «نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لايحل شيئاً، ولايُحرِّمه، وكل مسكر حرام» (4) .
__________
(1) تكملة الفتح: 166/8، اللباب شرح الكتاب: 216/3.
(2) الدباء: القرعة اليابسة المجعولة وعاء. والحنتم: الجرار الخضراء المدهونة. والمزفت: الوعاء المطلي بالزفت وهو القار، وهذا مما يحدث التغير في الشراب سريعاً. والنقير: خشبة تنقر أو تحفر كقصعة وقدح، وينبذ فيها.
(3) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن بريدة (نصب الراية: 308/4 ومابعدها، نيل الأوطار: 183/8) .
(4) رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود عن بريدة.(4/179)
وقال المالكية (1) : يكره الانتباذ في الدباء والمزفت فقط، ولايكره في غير ذلك من الفخار وغيره من الظروف وإن طالت المدة مالم يظن به الإسكار. وعلة الكراهة خوف تعجيل الإسكار، لما ينبذ فيها، إذ شأنها ذلك بخلاف غيرها.
وقال الشافعية والحنابلة (2) كالحنفية: يجوز الانتباذ في الأوعية كلها.
ثالثاً ـ تخلل الخمر وتخليلها:
اتفق الفقهاء على أن الخمر إذا تخللت بنفسها، جاز أكلها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نعم الأُدْم الخل» (3) .
وإذا نقلت الخمر من الظل إلى الشمس أو بالعكس، ولو بقصد التخليل، حل الخل عند الحنفية والشافعية والظاهرية، وفي احتمال عند الحنابلة؛ لأن الشدة المطربة (أي الإسكار) التي هي علة النجاسة والتحريم، قد زالت من غير أن تعقب نجاسة في الوعاء، فتطهر.
ويحتمل في وجه آخر عند الحنابلة ألا تطهر، لأنها خللت بفعل، كما لو ألقي فيها شيء (4) .
ويعرف التخلل عند أبي حنيفة بالتغير من المرارة إلى الحموضة، بحيث لا يبقى فيها مرارة أصلاً، فلو بقي فيها بعض المرارة، لا يحل شربها؛ لأن الخمر عنده لا تصير خلاً إلا بعد تكامل معنى الخلية فيه، كما لا يصير العصير عنده خمراً إلا بعد تكامل معنى الخمرية، كما سأذكر في حد الشرب.
__________
(1) الشرح الكبير: 117/2، بداية المجتهد: 460/1، القوانين الفقهية: ص 174.
(2) شرح مسلم للنووي: 158/13، كشاف القناع: 120/6، المغني 318/8.
(3) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جابر بن عبد الله (نصب الراية: 310/4) .
(4) انظر المبسوط:7/24، البدائع: 113/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 166/8، تبيين الحقائق: 48/6، الدر المختار: 320/5، مغني المحتاج: 81/1، شرح المحلي على المنهاج: 72/1، بداية المجتهد: 461/1، القوانين الفقهية: ص 175، منتقى الموطأ: 153/3، المغني: 319/8، المحلى: 117/1.(4/180)
وقال الصاحبان: تصير الخمر خلاً بظهور قليل من الحموضة فيها، اكتفاء بظهور الخَلِّية فيها، كما أن العصير يصير خمراً بظهور دليل الخمرية عندهما. ويظهر أن هذا هو رأي بقية الفقهاء.
وأما تخليل الخمر بعلاج بإلقاء جسم غريب عنها كالملح أو الخل أو السمك أوالخبز الحار، أو البصل، أو بإيقاد النار قربها، حتى صارت حامضاً، فيجوز، ويحل شربها عند الحنفية، لأنه إصلاح، والإصلاح مباح، قياساً على دبغ الجلد، فإن الدباغ يطهره، كما ثبت في السنة النبوية: «أيما إهاب دبغ، فقد طهر» (1) . وقال صلّى الله عليه وسلم عن جلد الشاة الميتة: «إن دباغها يُحلِّه، كما يُحِلُّ خَلَّ الخمر» (2) فأجاز النبي التخليل، كما ثبت حل الخل شرعاً، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير خلكم خل خمركم» (3) . والحديث السابق: «نعم الأدمْ الخل» لم يفرق بين التخلل بنفسه، والتخليل، فالنص مطلق.
ولأن التخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصلاح، والإصلاح مباح، كما تقدم، لأنه يشبه إراقة الخمر.
وإذا صارت الخمر خلاً، يطهر ما يجاورها من الإناء، كما يطهر أعلى الإناء (وهو الذي نقص منه الخمر) تبعاً.
وللمالكية في تخليل الخمر بمعالجة أقوال ثلاثة: قول بالمنع أو التحريم؛ لأن النبي صلّى الله عليه
__________
(1) أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عباس. وأخرجه الدارقطني بإسناد حسن عن ابن عمر.
(2) أخرجه الدارقطني عن أم سلمة، وفي سنده ضعف (نصب الراية: 119/1، 113/4) .
(3) رواه البيهقي في المعرفة عن جابر، وقال: تفرد به المغيرة بن زياد، وليس بالقوي. ويلاحظ أن أهل الحجاز يسمون خل العنب خل الخمر (نصب الراية: 311/4) .(4/181)
وسلم أمر بإراقة راوية خمر، أهداها له رجل (1) ، ولو جاز تخليلها، لما أباح له إراقتها، ولنبهه على تخليلها.
وقول بالجواز مع الكراهة؛ لأن علة تحريم الخمر الشدة المطربة، فإذا زالت زال التحريم، كما لو تخللت بنفسها.
وقول بالتفصيل: يجوز تخليل الخمر الذي تخمر عند صاحبه، بدون قصد الخمرية، ولا يجوز تخليل الخمر المتخذة خمراً.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يحل تخليل الخمر بالعلاج، ولا تطهر حينئذ؛ لأننا مأمورون باجتنابها، فيكون التخليل اقتراباً من الخمر على وجه التموُّل، وهو مخالف للأمر بالاجتناب، ولأن الشيء المطروح في الخمر يتنجس بملاقاتها، فينجسها بعد انقلابها خلاً، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول آية المائدة بتحريمها. وعن أبي طلحة: أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، فقال: «أهرقها» قال: «أفلا أخللها؟ قال: لا» (2) وهذا نهي يقتضي التحريم. ولو كان إلى استصلاحها سبيل مشروع لم تجز إراقتها، بل أرشدهم إليه، لاسيما وهي لأيتام، يحرم التفريط في أموالهم (3) .
__________
(1) رواه مالك في الموطأ وأحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار: 169/8) والراوية: المزادة من ثلاثة جلود يوضع فيها الماء.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود (نصب الراية: 311/4) .
(3) راجع بحثي عن (الأشربة) للموسوعة الفقهية بالكويت، أول بحث نشر من بين البحوث.(4/182)
المبحث الثالث ـ اللبس والاستعمال والحلي:
الأصل في اللباس والزينة الحل والإباحة، سواء في الثوب والبدن والمكان، لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2] وقوله سبحانه: {قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق..} [الأعراف:32/7] وقوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً..} [الأعراف:26/7] . والريش كما قال ابن عباس: كل ما ظهر من الثياب والمتاع مما يلبس ويفرش.
ويحرم استعمال الذهب والفضة للرجال والنساء في الآنية ووسائل الكتابة والزينة وغيرها في غير البيع والشراء باتفاق أئمة المذاهب (1) ، فلا يجوز الأكل والشرب والادهان والاكتحال والتطيبُ والتوضؤ في آنية الذهب والفضة، كما لا يجوز استعمال الساعات والأقلام وأدوات المكتب والمرايا وأدوات الزينة الذهبية أو الفضية، ولا يجوز تزيين البيوت والمجالس بالذهب وبالفضة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما (2) ، فإنها لهم ـ أي للمشركين ـ في الدنيا، ولكم في الآخرة» (3) وقوله: «الذي يشرب في إناء الفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» (4) .
والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف. وحرم الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية اتخاذ آنية الذهب والفضة أي اقتناءها؛ لأن اتخاذها يجر إلى استعمالها، وماحرم استعماله مطلقاً حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال. وقال الشافعية: وظاهره حرمة الاتخاذ ولو للتجارة؛ لأن آنية الذهب والفضة ممنوع من استعمالها لكل أحد، بعكس الحرير، يجوز اتخاذه للتجارة فيه، لأنه ليس ممنوعاً من استعماله لكل أحد.
ويستثنى من حرمة استعمال الذهب والفضة أمور للضرورة أو للحاجة:
__________
(1) انظر تكملة الفتح: 81/8-82، اللباب: 159/4 ومابعدها، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 371/2-373، حاشية الباجوري على ابن قاسم: 42//1، المغني: 75/1-78، المهذب: 11/1 ومابعدها، بجيرمي الخطيب: 294/3 وما بعدها.
(2) الصحاف جمع صحفة، والصحفة: هي ما تشبع الخمسة.
(3) متفق عليه بين الشيخين عن حذيفة بن اليمان (سبل السلام: 29/1) .
(4) متفق عليه عن أم سلمة (نصب الراية: 220/4، سبل السلام: 30/1) .(4/183)
1 - صناعة الأنف إذا قطع، والأسنان إذا سقطت، يجوز عملها من الذهب أو الفضة. وهذا رأي الجمهور ومنهم محمد، وفي رواية عن أبي يوسف من الحنفية. وقال أبو حنيفة: لا تشد الأسنان بالذهب، وتشد بالفضة، وأضاف الحنفية: لا بأس بمسمار الذهب لتثبيت حجر فص الخاتم، لأنه تابع له. وقال الشافعية: يحرم سن خاتم الذهب على الرجل وهي الشعبة التي يستمسك بها الفص.
2 - طلاء الأدوات بالذهب أو الفضة إذا كان قليلاً: بأن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار، أو الذي لا يخلص، أي لا يمكن فصل شيء مادي منه.
3 - أجاز أبو حنيفة الشرب والوضوء في الإناء المفضض (المزين بالفضة) ، والركوب على السَرْج المفضض، والجلوس على السرير المفضض.
وأجاز أيضاً الإناء المضبب (الذي لحم كسره) بالذهب والفضة، والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف وحلقة المرآة، أو جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً، ومثل ذلك اللجام والركاب، والثوب الذي كتب فيه بذهب أو فضة. ولا بأس بتحلية المصحف ونقش المسجد وزخرفته بماء الذهب إذا كان المقصود بذلك تعظيمه، ويكره إذا كان بقصد الرياء. وقال المالكية: لا بأس بالفضة (لا الذهب) في حلية الخاتم أو السيف والمصحف، ولا يجعل ذلك في لجام ولا سرج ولا سكين ولا في غير ذلك. وفي الجملة عندهم قولان بالمنع أو الكراهة في المموه بالذهب والفضة، وفي الإناء المضبب.
وقال الشافعية: يحرم الإناء المطلي بذهب أو فضة إن حصل من الطلاء شيء بعرضه على النار، ويحل إن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار. ويحرم الإناء المضبب (1) بضَبة فضة كبيرة عرفاً لزينة، فإن كانت كبيرة للحاجة، جاز مع الكراهة، وإن كانت صغيرة عرفاً لزينة كرهت، أما لحاجة فلا تكره بدليل ما رواه البخاري عن عاصم الأحول قال: «رأيت قدح النبي عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة..» . أما ضبة الذهب فتحرم مطلقاً، كبيرة أو صغيرة لحاجة أو لزينة، كلها أو بعضها، ولو كمكحلة.(4/184)
ويجوز تحلية المصحف بالفضة للرجل والمرأة، وتحلية آلة الحرب كالسيف والرمح والمنطقة بالفضة للرجل لأنها تغيظ الكفار، ولا يحل ذلك للمرأة ولا يجوز تحلية ما لا يلبسه الرجل من آلات الحرب كالسرج واللجام.
وللمرأة تحلية المصحف بالذهب أيضاً. والتحلية: وضع قطع رقيقة.
ويحرم تمويه السقوف والجدران بالذهب والفضة، سواء أمكن استخراج شيء منها بالعرض على النار أم لا.
ويحرم تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب أو بالفضة، كما يحرم كسوتها بالحرير المزركش بالذهب أو بالفضة.
وقال الحنابلة مثل الشافعية: يحرم المضبب بضبة كثيرة من الذهب أو الفضة، لحاجة أو غيرها. ولا يباح اليسير من الذهب إلا للضرورة كأنف الذهب وما ربط به الأسنان، ويباح اليسير من الفضة؛ لحاجة الناس إليه.
وعلل الفقهاء حرمة استعمال الذهب والفضة بالسرف والخيلاء، والأصح في التعليل: هو كون الذهب والفضة أثمان الأشياء، والنقد المتداول، فلو أبيح استعمالها لأثَّر ذلك في رواجهما في الأسواق، فيحل الاضطراب والقلق.
ويجوز استعمال غير آنية الذهب والفضة من الأواني النفيسة كإناء ياقوت وزمّرد وزجاج وبلور وعقيق وزبرجد ومرجان ولؤلؤ، ونحاس ورصاص، ونحو ذلك؛ لأنها ليست في معنى الذهب والفضة، والأصل في الأشياء الإباحة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم توضأ من إناء نحاس (2) .
لبس الحرير والتختم بالذهب والفضة:
يحرم على الرجال لبس الحرير والتختم بالذهب، ويحل للنساء اللبس والتختم مطلقاً والتحلي بالحلي من الذهب والفضة (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب
__________
(1) يقال: ضبب الإناء والباب ونحوهما: عمل له ضبَّة، وأدخل بعضه في بعض، وشَعَبه وأصلحه.
(2) روى الشيخان عن عبد الله بن زيد قال: «أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في توْر من صُفْر، فتوضأ» وروى أبو داود عن عائشة قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في تَوْر من شَبَه» وتور: إناء يشرب فيه، والصفر: النحاس، والشبه: أرفع النحاس.
(3) تكملة الفتح: 83/8، -97، اللباب: 157/4-158، تبيين الحقائق: 14/6 ومابعدها، الدر المختار: 255/5، شرح الرسالة: 371/2 ومابعدها، المنتقى على الموطأ: 254/7، المهذب: 11/1، بجيرمي الخطيب: 227/2-230، 295، نيل الأوطار: 81/2-83، الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي: ص 24 ومابعدها، كشاف القناع: 275/2-279، المغني: 588/1-591.(4/185)
والحرير حِلٌّ لإناث أمتي، حرام على ذكورها» (1) وعن علي «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب» (2) وعن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتماً من ذهب، فنزعه فطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده» (3) ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة» (4) .
واستثنى أئمة المذاهب الخاتم الفضي للرجل، فأباحوا له لبسه والتختم به إذا كان قليلاً، ومقداره عند الحنفية: بقدر مثقال (975،2 غم) فما دونه، وعند المالكية: إذا كان لا يزيد على درهمين بشرط الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم. والصواب عند الشافعية: بما دون المثقال. والمعول في ذلك على العرف والعادة، سواء زاد عن مثقال أو نقص عنه، فمتى زاد على العادة حرم. ويلبس في خنصر اليد اليسرى. ولو لِبسه في غير الخنصر جاز مع الكراهة عند الشافعية. وقال الحنفية: ترك التختم لغير السلطان والقاضي وذي الحاجة إليه أولى، والحاجة مثل الختم به.
ولا يحل للرجال بحال كالخطبة والزواج التختم بخاتم الذهب، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه. ويشتد التحريم بقصد تقليد غير المسلمين. ولا بأس أيضاً عند الحنفية من استخدام المنطقة (ما ينتطق به الرجل ويشد وسطه) وحلية السيف، من الفضة، كالخاتم، بشرط ألا يضع يده على موضع الفضة، لورود الآثار في إباحة ذلك.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن أرقم، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر عن أبي موسى الأشعري، وقال: حديث حسن صحيح، ورويت أحاديث كثيرة في معناه (نصب الراية: 222/4-225) .
(2) رواه الجماعة إلا البخاري. وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه (نصب الراية: 235/4) .
(3) رواه مسلم (نصب الراية: 225/4) .
(4) رواه الشيخان عن ابن عمر (نصب الراية: 222/4) .(4/186)
أما الخاتم: فأخرج الأئمة الستة عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة، له فص حبشي، ونقش فيه: محمد رسول الله» .
وفي السيف وردت عدة أحاديث: منها مارواه أبو داود والترمذي عن أنس، قال: «كانت قبيعة ـ مقبض ـ سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضة» .
وأما المنطقة: ففي عيون الأثر لابن سيد الناس اليعمري قال: «وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم منطقة من أديم منشور ثلاث، حَلَقها وإبزيمها (1) ، وطرفها فضة» (2) .
ولابأس عند أبي حنيفة بتوسد الحرير (جعله وسادة أي مخدة) ، وافتراشه والنوم عليه؛ لأن ذلك استخفاف به، فصار كالتصاوير على البساط، فإنه يجوز الجلوس عليه. وقال الصاحبان: يكره التوسد والافتراش والجلوس على الحرير، لعموم النهي عنه، ولأنه زي من لا خلاق له من الأعاجم.
__________
(1) الإبزيم: الذي في رأس المنطقة، وما أشبهه، وهو ذو لسان يدخل فيه الطرف الآخر.
(2) راجع الآثار الثلاثة المذكورة في (نصب الراية: 232/4 - 234) .(4/187)
ولابأس عند الصاحبين للضرورة بلبس الديباج (وهو ماسداه ولحمته إبْريَسم أي أحسن الحرير) في الحرب؛ لأن الحاجة ماسة إليه، فإنه يردّ الحديد بقوته، ويكون رعباً في قلوب الأعداء، وهو أهيب في عين العدو لبريقه ولمعانه. وعن الحكم بن عمير، قال: «رخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم في لباس الحرير عند القتال» (1) ويكره لبسه عند أبي حنيفة لعموم النهي، والضرورة تندفع بالمخلوط.
وأباح الحنفية في الحرب وغيرها لبس الثوب المختلط بالحرير (المُلْحَم) بأن كان سداه حريراً ولحمته غير حرير كقطن أو كتان أو خز (صوف مخلوط بحرير: لحمته صوف، وسداه حرير) ؛ لأن الصحابة كانوا يلبسون الخز، والخز مسدّى بالحرير، ولأن النسج باللحمة، فهي المعتبرة دون السدى. فإن انعكس الأمر بأن كانت لحمة الثوب حريراً، وسداه غير حرير، لايحل لبسه في غير الحرب، ولابأس به في الحرب باتفاق الحنفية.
ويجوز عند الحنفية قليل الحرير، فالقليل عفو: وهو مقدار ثلاثة أو أربعة أصابع، كالأعلام، والمكفوف بالحرير، لما روى عمر، فقال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع» (2) . وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يلبس جبة مكفوفة بالحرير (3) .
ويجوز للضرورة لبس الحرير لستر عورة أو وقاية الجسم من الحر أو البرد حتى يجد غيره من الثياب المباحة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
__________
(1) رواه ابن عدي في الكامل، وفيه ضعيف، وروي عن الشعبي، وهو غريب عنه (نصب الراية: 237/4) .
(2) أخرجه مسلم (نصب الراية: 225/4) .
(3) أخرجه مسلم عن عبد الله أبي عمر، مولى أسماء بنت أبي بكر، ورواه أبو داود، والبخاري أيضاً (نصب الراية: 226/4) .(4/188)
ويباح للضرورة عند جمهور الفقهاء غير المالكية لبس الحرير لدفع أذى من قَمْل ونحوه، أو لدفع مرض كجرب وغيره، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما (1) . وقال المالكية: لا يحل ولو لذاك، ويلاحظ أن الحديث حجة عليهم.
ويكره عند الحنفية للولي أن يلبس الصبيان الذكور الذهب والفضة والحرير؛ لأن التحريم ثبت في حق الذكور، وإذا حرم اللبس، حرم الإلباس، كالخمر لما حرم شربه حرم سقيه.
وحرم الحنابلة في الأصوب على الولي أن يلبس الصبي الحرير، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «حرِّم لباس الحرير على ذكور أمتي وأحل لنسائهم» وروى أبو داود عن جابر قال: «كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري» .
وحرم الجمهور غير الحنفية الجلوس على الحرير، أو الاستناد عليه، أو توسده وستر الجدران به، إلا أن المالكية أجازوا ستر النافذة به، وأجاز الحنابلة ستر الكعبة به، وأباح الشافعية الجلوس على الحرير بحائل (غطاء) كملاءة من قطن أو صوف أو كتان أو نحوها.
__________
(1) رواه الجماعة عن أنس إلا لفظ الترمذي: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم القَمْلَ، فرخص لهما في قُمُص الحرير، في غزاة لهما (نيل الأوطار: 88/2) .(4/189)
ودليلهم على تحريم الجلوس على الحرير قول حذيفة: «نهانا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه» (1) .
وأجاز الجمهور غير الحنفية كالحنفية لبس القليل من الحرير كالعَلَم (2) في الثوب الحريري المقدر بأربع أصابع، ولكن عند المالكية يجوز لباس الخز (غير الخالص) مع الكراهة للباس السلف له. ودليل الجمهور حديث عمر المتقدم، وحديث ابن عباس قال: «إنما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الثوب المُصْمَت من قَزّ (3) » . قال ابن عباس: «أما السَّدَى والعَلَم، فلا نرى به بأساً» (4) .
والمنسوج من الحرير وغيره: الحكم فيه عند الشافعية والحنابلة للأغلب منهما فإن كان القطن ونحوه هو الأكثر، جاز؛ لأن الحرير مستهلك في غيره. وقال المالكية في الأصوب: يكره المختلط بغيره، كالخالص، سواء أكانت المختلط يسيراً أم كثيراً.
ولا يجوز في الأصوب عند الحنابلة كالحنفية لولي الصبي أن يلبسه الحرير. وأجاز الشافعية إلباس الصبي أو المجنون حريراً؛ لأنه غير مكلف، ولأن خنوثة الحرير لا تتنافى مع الأولاد بعكس الرجال.
وكره تنزيهاً عند الحنفية للرجال لبس المعصفر والمزعفر: الأحمر والأصفر، ولا يكره للنساء، ولا بأس لهن بسائر الألوان.
__________
(1) رواه البخاري (نيل الأوطار: 85/2) .
(2) أعلمت الثوب: جعلت له علماً من طراز وغيره، وهي العلامة.
(3) المصمت من قز: هو الذي جميعه حرير، لا يخالطه قطن ولا غيره.
(4) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 90/2) .(4/190)
المبحث الرابع ـ الوطء والنظر واللمس واللهو والتصوير والوسم والوشم وأحكام الشعر والنتف والتفليج والسلام:
أولاً ـ الوطء:
الاستمتاع واجب على الرجل للمرأة إذا انتفى العذر، بما يحقق الإعفاف والصون عن الحرام، وتباح كل وجوه الاستمتاع إلا الإتيان في الدبر فهو حرام. ومكان الوطء باتفاق المذاهب: هو القبل، لا الدبر (1) ، لقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/2] (2) أي على أية كيفية:
قائمة، أو قاعدة، مقبلة، أو مدبرة، في أقبالهن (3) . قال ابن عباس: إنما قوله: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223/2] . قائمة، وقاعدة، ومقبلة، ومدبرة، في أقبالهن، لا تعدو ذلك إلى غيره. وله عبارة أخرى في الآية: إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني ذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت.
وقد ثبت تحريم الوطء في الدبر (4) ، في السنة النبوية، بأحاديث كثيرة منها: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (5) «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى» (6) «من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً، فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد» (7) . ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، لقوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون:6/23] ويجوز وطؤها في القبل مدبرة لقول جابر: «يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في الفرج» .
وربما كان أسوأ من الدبر: وضع الذكر في فم المرأة ونحوه، مما جاءنا من شذوذ الغربيين، فيكون ذلك حراماً لثبوت ضرره وقبحه شرعاً وذوقاً.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 211، فتح المعين شرح قرة العين: ص 107) .
(2) الآية 223 من سورة البقرة.
(3) قال الشافعي: لا يجب قضاء الجماع للمرأة إلا مرة بعد الزفاف، وهذا هو مذهب الحنفية في الرواية الظاهرة والمعروف عند الشافعية أنه لا حق للمرأة في الجماع. وقال الطحاوي: يلزم في كل أربع ليال مرة. وقال بعضهم: يلزم كل أربعة أشهر مرة وهي مدة الإيلاء. هذا في أحكام القضاء. أما ديانة فيلزم الزوج شرعاً إعفاف زوجته وإبعادها عن الوقوع في الحرام، متى كان قادراً على ذلك. وقال بعضهم: إن الإعفاف بحسب تقدير حال الزوجين واجب قضائي أيضاً، وهو الرأي المعقول.
(4) المهذب: 66/2.
(5) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(6) رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(7) رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة (راجع الأحاديث الثلاثة في تفسير ابن كثير: 263/1) .(4/191)
وطء الحائض ونحوها:
ويحرم بالاتفاق إتيان الحائض، ومستحله كافر، لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض، قل: هو أذى، فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين} [البقرة:222/2] والنفساء كالحائض.
ويسن لمن وطئ الحائض أن يتصدق بدينار إن وطئها في إقبال الدم، وبنصفه في إدباره؛ لخبر أبي داود والحاكم وصححه: «إذا واقع الرجل أهله وهي حائض، إن كان دماً أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر، فليتصدق بنصف دينار» (1) .
وأجاز أبو حنيفة إتيان المرأة إذا انقطع دم الحيض، ولو لم تغتسل بالماء إلا أنه إذا انقطع دمها بعد أكثر الحيض (عشرة أيام) حلت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل من عشرة أيام، لم تحل حتى يمضي وقت صلاة كامل أو تغتسل.
ولم يجز الجمهور غير أبي حنيفة إتيانها حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.
وأما ما عدا الوطء في الفرج للحائض من الاستمتاع بالضم أو المس، أو القبلة أو غير ذلك، فتجوز المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة باتفاق العلماء.
__________
(1) روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار، أو بنصف دينار. قال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار. وفي لفظ للترمذي: إ ذا كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار، وفي رواية لأحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ديناراً، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها، ولم تغتسل، فنصف دينار» (نيل الأوطار: 278/1) .(4/192)
وأما المباشرة فيما بين السرة والركبة ففيه أقوال ثلاثة (1) :
1 - قول أكثر العلماء، منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية والشافعية: وهو التحريم، سداً للذريعة، ولحديث عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار، في فور حيضتها، ثم يباشرها» (2) .
2 - قول الحنابلة والأوزاعي ومحمد من الحنفية وغيرهم: الجواز، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح، وفي لفظ: إلا الجماع» (3) وهو صريح بتحليل كل شيء ما عدا النكاح.
3 - التفصيل: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج، إما لشدة ورع، أو لضعف شهوة، جاز، وإلا لم يجز.
وأرجح العمل بالأحوط في الأحوال العادية، فإن كان المرء مسافراً ثم قدم، أو شديد الشَّبَق (4) ، جاز له العمل بالقولين الآخرين، بشرط أن يضبط نفسه عن الفرج، منعاً من الوقوع في الحرام بالنظر إلى الأجنبيات وغيره، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً، ألقى على فرجها شيئاً (5) .
__________
(1) نيل الأوطار: 276/1، الدرر المباحة في الحظر والإباحة: ص41، اللباب: 48/1 ومابعدها، تبيين الحقائق: 57/1، الشرح الكبير: 173/1، مغني المحتاج: 110/1، المغني: 306/1.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين. قال الخطابي: فور الحيض: أوله ومعظمه (نيل الأوطار: 278/1) .
(3) رواه الجماعة إلا البخاري عن أنس بن مالك (نيل الأوطار: 276/1) .
(4) وأجاز الحنابلة لمن به شبق وطء الحائض بشرط ألا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، ولايجد غير الحائض من زوجة أخرى (كشاف القناع: 227/1) .
(5) رواه أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم (نيل الأوطار: 277/1) .(4/193)
العزل:
الإيجاد والخلق في الحقيقة منوط بالإرادة الإلهية، ففي حديث حسن رواه الطبراني: «اعزلوا أو لاتعزلوا، ماكتب الله تعالى من نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» ولا خلاف بين العلماء ما عدا ابن حزم الظاهري (1) : أنه يجوز العزل (2) عن الزوجة، بشرط إذنها، بدليل قول جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك، فلم ينهنا» (3) ودليل اشتراط الإذن مارواه أحمد وابن ماجه عن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أن يعزل عن الحرة، إلا بإذنها» (4) .
إلا أن الشافعية والحنابلة وقوماً من الصحابة قالوا بكراهة العزل؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن عائشة سماه الوأد الخفي، فحمل النهي على كراهة التنزيه. وأجاز الغزالي العزل لأسباب منها كثرة الأولاد.
وبناء عليه يجوز استعمال موانع الحمل الحديثة كالحبوب وغيرها لفترة مؤقتة، دون أن يترتب عليه استئصال إمكان الحمل، وصلاحية الإنجاب، قال الزركشي: يجوز استعمال الدواء لمنع الحبل في وقت دون وقت كالعزل، ولايجوز التداوي لمنع الحبل بالكلية. أو ربط عروق المبايض إذا ترتب عليه امتناع الحمل في
__________
(1) تكملة الفتح: 109/8، إحياء علوم الدين: 47/2 ومابعدها، نيل الأوطار: 197/6، فتح القدير: 494/2، الشرح الكبير: 266/2، المهذب: 66/2، المغني: 223/7، الإحياء: 248/2، شرح مسلم: 6/10،17.
(2) العزل: النزع بعد الإيلاج، لينزل الماء خارج الفرج.
(3) رويت أحاديث أخرى في معناه (نيل الأوطار: 195/6 ومابعدها) .
(4) قال المحدثون: وليس إسناده بذلك، لأن في إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف. ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال: «نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها» وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته، وروى البيهقي عن ابن عمر مثله (نصب الراية: 251/4، نيل الأوطار: 196/6 ومابعدها) .(4/194)
المستقبل، والعبرة في ذلك لغلبة الظن، أي احتمال مافوق 50%. وكذلك الحكم في تعقيم الرجل.
آداب الجماع:
للجماع آداب كثيرة ثابتة في السنة النبوية منها مايأتي (1) : تستحب التسمية قبله، ويقرأ {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/112] ، ويكبر، ويهلل، ويقول ولو مع اليأس عن الولد: «باسم الله العلي العظيم، اللهم اجعلها ذرية طيبة، إن كنت قدرت أن تخرج ذلك من صلبي» «اللهم جنِّبني الشيطان، وجنب الشيطان مارزقتني» رواه أبو داود. وينحرف عن القبلة، ولايستقبل القبلة بالوقاع، إكراماً للقبلة.
وأن يتغطى نفسه هو وأهله بغطاء، وألا يكونا متجردين (2) فذلك مكروه كما سيأتي.
وأن يبدأ بالملاعبة والضم والتقبيل. وإذا قضى وطره، فليتمهل لتقضي وطرها، فإن إنزالها ربما تأخر. ويكره الإكثار من الكلام حال الجماع، ولايخليها عن الجماع كل أربع ليال مرة بلا عذر.
وتأتزر الحائض بإزار مابين السرة والركبة إذا أراد الاستمتاع بها.
__________
(1) المغني: 25/7، إحياء علوم الدين: 46/2 ومابعدها، كشاف القناع: 216/5 ومابعدها، مختصر منهاج القاصدين: ص73، فتح المعين: ص 107،الأذكار للنووي: ص 159، نيل الأوطار: 194/6.
(2) روى ابن ماجه حديثاً عن عتبة بن عبد السُّلمي: «إذا أتى أحدكم أهله، فليستتر، ولايتجردا تجرد العَيْرين» أي الحمارين (نيل الأوطار: 194/6) .(4/195)
ومن أراد أن يجامع مرة ثانية، فليغسل فرجه، ويتوضأ؛ لأن الوضوء يزيد نشاطاً ونظافة.
وليس في السنة استحباب الجماع في ليال معينة كالاثنين أو الجمعة، ومن العلماء من استحب الجماع يوم الجمعة.
ويكره الوطء وهما متجردان. لما روى ابن ماجه عن عتبة بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردان تجرد العَيْرين» والعَيْر: حمار الوحش، شبههما به تنفيراً عن تلك الحالة. ويكره تحدثهما بما جرى بينهما، وحرمه بعضهم لما فيه من إفشاء السر، وهو حرام.
ومن الآداب ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره، ولا يخرج دماً، وهو جنب.
ويستحب في ليلة الزفاف قبل الجماع أن يأخذ الرجل بناصية المرأة ويقول: «اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» (1) .
الإجهاض:
اتفق العلماء على تحريم الإجهاض دون عذر بعد الشهر الرابع أي بعد 120 يوماً من بدء الحمل، ويعد ذلك جريمة موجبة للغُرَّة (2) ، لأنه إزهاق نفس وقتل إنسان.
__________
(1) ثبت ذلك بحديث رواه ابن ماجه وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار: 189/6) .
(2) الغرة: دية الجنين، وتساوي 5% من الدية الكاملة أي50 ديناراً أو 500 درهم.(4/196)
وأرجح عدم جواز الإجهاض بمجرد بدء الحمل، لثبوت الحياة، وبدء تكون الجنين إلا لضرورة كمرض عضال أو سار كالسل أو السرطان، أوعذر، كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل. وله ولد، وليس لأبيه ما يستأجر الظئر (المرضع) ، ويخاف هلاك الولد. وإني بهذا الترجيح ميَّال مع رأي الغزالي الذي يعتبر الإجهاض ولو من أول يوم كالوأد جناية على موجود حاصل (1) .
ومع هذا أذكر أقوال الفقهاء في الإجهاض:
1 - مذهب الحنفية (2) : يباح الإسقاط بعد الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مئة وعشرين يوماً؛ لأنه ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. وقيل عندهم: إن ذلك مكروه بغير عذر، فإذا أسقطت بغير عذر يلحقها إثم.
ومن الأعذار: أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه.
وحمل بعضهم إباحة الإسقاط المطلقة على حالة العذر؛ لأن الماء بعد ما وقع في الرحم مآله الحياة، فله حكم الحياة. وهذا التأويل معقول وضروري.
2 - مذهب المالكية (3) : المعتمد أنه يحرم عندهم إخراج المني المتكون في الرحم، ولو قبل الأربعين يوماً. وقيل: يكره إخراجه قبل الأربعين. وإذا نفخت فيه الروح حرم إجماعاً، وهذا رأي الغزالي والظاهرية (4) .
__________
(1) إحياء علوم الدين: 47/2.
(2) فتح القدير: 495/2، حاشية ابن عابدين: 278/1، 522/2، ط الأميرية، و418/5، الفتاوى الهندية: 365/5-367.
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي: 266/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 212.
(4) المحلى: 38/11، ط الإمام.(4/197)
3 - مذهب الشافعية (1) : يباح الإجهاض مع الكراهة إذا تم في فترة الأربعين يوماً (40 أو 42 أو 45 يوماً) من بدء الحمل، بشرط كونه برضا الزوجين، وألا يترتب على ذلك ضرر بالحامل. وبعد فترة الأربعين يحرم الإسقاط مطلقاً.
ورجح الرملي جواز الإجهاض قبل نفخ الروح والتحريم بعد نفخ الروح مطلقاً، فيكون رأيه كالحنفية.
وحرم الغزالي (2) الإجهاض مطلقاً، لأنه جناية على موجود حاصل.
4 - مذهب الحنابلة (3) ، هو كالحنفية: المعتمد عندهم أنه يجوز الإسقاط في فترة الأربعة الأشهر الأولى ي في مدة الـ 120 يوماً من بدء الحمل قبل نفخ الروح، ويحرم قطعاً بعدها، أي بعد ظهور الحركة الإرادية.
الإعقام أو التعقيم:
جعل المرأة عقيماً، بمعالجة تمنع الإنجاب نهائياً. وقد صرح الفقهاء بأنه يحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله، لأنه كالوأد (4) . وذلك إلا إذا كانت هناك ضرورة ملجئة كانتقال مرض خطير بالوراثة إلى الأولاد والأحفاد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويرتكب أخف الضررين، ولا مانع من عقم المصابة
بمرض خبيث، وتكون من فئة النساء اللاتي تحققت فيهن مشيئة الله بالعقم: {لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً} [الشورى:42/49-50] .
أما ما يبطئ الحبل مدة، ولا يقطعه من أصله، وهو المعروف بتنظيم الحمل، فلا يحرم، بل إن كان لعذر كتربية ولد، لم يكره أيضاً، وإلا كره عند الشافعية.
التلقيح الصناعي:
هو استدخال المني لرحم المرأة بدون جماع. فإن كان بماء الرجل لزوجته، جاز شرعاً، إذ لا محذور فيه، بل قد يندب إذا كان هناك ما نع شرعي من الاتصال الجنسي.
وأما إن كان بماء رجل أجنبي عن المرأة، لا زواج بينهما، فهو حرام؛ لأنه بمعنى الزنا الذي هو إلقاء ماء رجل في رحم امرأة، ليس بينهما زوجية. ويعد هذا العمل أيضا منافياً للمستوى الإنساني، ومضارعاً للتلقيح في دائرة النبات والحيوان.
خصاء البهائم:
ولا بأس عند الحنفية بخصاء البهائم، وإنزاء الحمير على الخيل، لإنجاب البغال، ولأن الخصاء للنفع، إذ تسمن الدابة ويطيب لحمها. وقال المالكية: يجوز خصاء الغنم وسائر الدواب إلا الخيل؛ لأن خصاء الغنم يزيد في سمنها، وخصاء الخيل ينقص من قوتها ويقطع نسلها، ويكره الوسم في الوجه، ولا بأس به في غير ذلك (5) .
__________
(1) بجيرمي الخطيب: 40/4، حاشية الشبرامسلي على نهاية المحتاج: 205/6، ط البهية المصرية، تحفة المحتاج لابن حجر: 241/8، نهاية المحتاج: 239/8 ومابعدها، شرح مسلم: 190/16.
(2) إحياء علوم الدين: 47/2.
(3) الفروع لشمس الدين المقدسي: 281/1، الإنصاف لعلاء الدين المرداوي: 386/1، منتهى الإرادات لابن النجار: 286/1، المغني: 816/7.
(4) المراجع السابقة.
(5) اللباب: 161/4، القوانين الفقهية: ص 445، شرح الرسالة: 414/2.(4/198)
ثانياً ـ النظر:
للنظر أربعة أقسام، لكل قسم حكم، وهي: نظر الرجل للمرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة (1) .
الأول ـ نظر الرجل للمرأة:
أـ إذا كانت المرأة زوجة: جاز للزوج اللمس والنظر إلى جميع جسدها، حتى فرجها باتفاق المذاهب الأربعة، والفرج محل التمتع. ولكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الآخر، ومن نفسه بلا حاجة، وإلى باطنه أشد كراهة، قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت منه، ولا رأى مني» أي الفرج (2) .
ب ـ وإذا كانت المرأة ذات مَحْرم كالأخت والخالة (3) ، جاز عند الحنابلة النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة والرأس والكفين والقدمين، وليس له النظر إلى ما يستتر غالباً كالصدر والظهر ونحوهما.
__________
(1) راجع تكملة الفتح: 97/8-107، البدائع: 119/5-124، اللباب: 162/4-165، تبيين الحقائق: 17/6-21، الدر المختار: 257/5-264، الشرح الكبير: 215/2، القوانين الفقهية: ص 193، 446، تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر: 190/7-205، المهذب: 34/2-35، المغني: 552/6 ومابعدها، 558-563، 580، مغني المحتاج: 128/3-134، فتح المعين: ص 98.
(2) أما خبر: «النظر إلى الفرج يورث الطمس» أي العمى، فرواه ابن حبان وغيره في الضعفاء، بل ذكره ابن الجوزي في الموضوعات فهو منكر لا أصل له. وخالفه ابن الصلاح وحسن إسناده (نصب الراية: 248/4) وحديث عائشة رواه ابن ماجه.
(3) ذوات المحارم: كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد بنسب أو رضاع أو تحريم المصاهرة بسبب مباح كأم الزوجة عند الشافعية والحنابلة. والأصح عند الحنفية أن المصاهرة سبب للتحريم سواء أكانت بسبب مباح كالنكاح أم بسبب حرام كالسفاح.(4/199)
ومذهب الحنفية قريب من الحنابلة مع تعديل: فعندهم يجوز النظر إلى الوجه والرأس والصدر والساقين (الساق: من الركبة إلى القدم) والعضدين (أي الساعدين، والساعد: من المرفق إلى الكتف) ، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها؛ لأن الله تعالى حرم المرأة إذا شبّهها بظهر الأم، فيحرم النظر إليه، والبطن أولى من الظهر، لأنه أدعى للشهوة.
وتشدد المالكية فقالوا: الأصح جواز رؤية وجهها ويديها، دون سائر جسدها.
وتوسط الشافعية فحرموا نظر البالغ من محرمه الأنثى ما بين سرة وركبة، وأباحوا بغير شهوة نظر ما عدا ما بين السرة والركبة، فيجوز النظر إلى السرة والركبة، لأنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المحرَم.
جـ ـ وإن كانت المرأة أجنبية: حرم النظر إليها عند الحنفية إلا وجهها وكفَّيها، لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} [النور:31/24] . قال علي وابن عباس: ما ظهر منها الكحل والخاتم أي موضعهما وهو الوجه والكف، والمراد من الزينة في الآية موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وعطاء.
وإن وقع البصر على محرَّم من غير قصد، وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم في المرة الأولى غير المقصودة، فقد روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري» . وروى أبو داود عن بُريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» .(4/200)
وإن كان لا يأمن الشهوة: لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة ضرورية. وبه يظهر أن حل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام. والواجب المنع في زماننا من نظر الشابة. ويدل لحرمة النظر: حديث صحيح: «العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش» (1) . وحد الشهوة: تحرك الآلة.
ويتفق المالكية مع الحنفية في ذلك، فإنهم أجازوا رؤية الوجه والكفين من العجوز، وحرموا ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة أو معالجة أو خطبة.
والخصي في المذهبين في حرمة النظر إلى الأجنبي كالفحل.
وكذلك قال الشافعية: يحرم نظر فحل بالغ عاقل مختار، ولو شيخاً كبيراً، وعاجزاً عن الوطء ومخنثاً (وهو المتشبه بالنساء) إلى المرأة الأجنبية، وكذا يحرم نظر وجهها وكفيها سواء عند خوف الفتنة أو عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة، على الصحيح؛ لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرّك للشهوة، وقد قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [النور:30/24] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» (2) .
والمنع من النظر، لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة. فقد حكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية.
وحرم الحنابلة أيضاً نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب، وعلى هذا فإن بدن الحرة كله عورة عند الشافعية والحنابلة. وأما عند الحنفية والمالكية فليس الوجه والكفان بعورة. وروي عن أبي حنيفة أن القدمين ليستا من العورة. وأباح بعض الحنابلة النظر إلى الوجه والكفين مع الكراهة، إذا أمن الفتنة ونظر لغير شهوة.
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة (نصب الراية: 248/4) .
(2) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود، وهو حديث صحيح.(4/201)
وقالوا: لا بأس بالنظر إلى ما يظهر غالباً من العجوز التي لا يشتهى مثلها أو الشوهاء التي لا تشتهى، لقوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً} [النور:60/24] .
وعندهم أن الخصي والمخنث الذي لا شهوة له والشيخ ومن ذهبت شهوته لكبر أو عُنَّة أو مرض لا يرجى برؤه: حكمه حكم ذوي المحارم في النظر لقوله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة} [النور:31/24] أي غير ذوي الحاجة إلى النساء.
والأحوال التي يجوز النظر فيها للمرأة لحاجة استثنائية هي عند الفقهاء: الخطبة، والمعالجة، والمعاملة كبيع وشراء، والشهادة أو القضاء، والتعليم، ونحو ذلك والنظر بقدر الحاجة، فلا يجوز أن يجاوز ما يحتاج إليه؛ لأن ما حل لضرورة يقدر بقدرها.
ففي أثناء الخطبة يجوز النظر للوجه والكفين فقط دون ما عداهما، وللخاطب تكرير نظره، ولا ينظر غير الوجه والكفين، بلا مس شيء منها، لدلالة الوجه على الجمال، والكفين على خصوبة البدن.
وفي المعالجة للطبيب: يجب أن يكون النظر إلى موضع المرض من المرأة للضرورة مع وجود مانع الخلوة كمحرم أو زوج، أو امرأة ثقة، وبشرط عدم وجود امرأة تحسن ذلك؛ لأن نظر الجنس إلى جنسه أخف وأسهل عاقبة، وألا يكون الطبيب غير أمين مع وجود أمين، وألا يكون ذمياً مع وجود مسلم، أو ذمية مع وجود مسلمة.
ويعتبر في النظر إلى الوجه والكفين أدنى حاجة، وفيما عداهما: كل ما يبيح التيمم يبيح النظر، إلا الفرج وقريبه، فيزاد على ذلك وهو أن تشتد الضرورة، حتى لا يعد الكشف عليه هتكاً للمروءة.
وفي المعاملة من بيع وشراء يباح النظر للوجه فقط، للمطالبة بالثمن أو تسليم المبيع مثلاً.(4/202)
وفي الشهادة أداء وتحملاً للمرأة أو عليها، ولو كان النظر للفرج للشهادة بالزنا، أو الولادة، أو العَبَالة (كبر الذكر) أو الالتحام أو الإفضاء بين القبل والدبر، فإن تيسر وجود النساء أو المحارم للشهادة بذلك كان هو المتعين.
ويجوز للقاضي النظر إلى المرأة إذا أراد أن يحكم عليها، فينظر إلى الوجه، وإن خاف أن يشتهى للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بالقضاء.
وفي التعليم لما يجب تعلمه وتعليمه كالفاتحة وما يتعين من الصنائع المحتاج إليها، يجوز النظر بشرط فقد وجود أحد من جنس النساء أو محرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع الخلوة من محرم ونحوه.
الثاني ـ نظر المرأة للرجل:
حكم نظر المرأة للرجل كحكم الأحوال الثلاث المتقدمة في نظر الرجل للمرأة، فإن كان زوجها، جاز أن ترى منه ما يرى منها.
وإن كانت ذا ت محرم، جاز أن ترى منه جسده له إلا عورته.
وإن كانت أجنبية عنه، جاز لها عند الحنفية إن أمنت الشهوة أن تنظر إلى جميع بدنه إلا ما بين سرته وركبته.
وعند المالكية والحنابلة قولان: قول بأن لها النظر إلى ما ليس بعورة (ما بين السرة والركبة) أي كما قال الحنفية، كالرجل مع ذوات محارمه، ويظهر أن هذا هو الراجح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه قال لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فلا يراك» (1) .
وقول آخر، وهو الأصح عند الشافعية: يجوز لها النظر من الرجل، مثل ما ينظر إلىها الرجل؛ لأن الله تعالى أمر النساء بغض أبصارهن، كما أمر الرجال به. وروى أبو داود وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة وحفصة بالاحتجاب من ابن أم مكتوم، قائلاً لهما: «أفعمياوان أنتما لا تبصرانه؟» .
__________
(1) وقالت عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورائي يسترني بردائه، وأنا أنظرإلى الحبشة يلعبون في المسجد» متفق عليه.(4/203)
الثالث ـ نظر الرجل إلى الرجل:
يباح باتفاق المذاهب نظر الرجل للرجل ولو أمرد إذا أمن الشهوة إلى جميع بدنه إلا العورة: وهي ما بين السرة والركبة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عورة المؤمن ما بين سرته وركبته» (1) ، وقوله: «الفخذ عورة» (2) . وستر العورة واجب حتى على الابن، وفي الحمام وغيرها (3) .
ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم تنبت لحيته) بشهوة، بالإجماع. كذلك يحرم النظر إلى الملتحي، وإلى النساء المحارم بشهوة.
الرابع ـ نظر المرأة إلى المرأة:
المرأة مع المرأة في النظر كالرجل مع الرجل، لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالباً، وقد تحققت الضرورة إلى الانكشاف فيما بين النساء. فيمنع النظر إلى العورة أى ما بين السرة والركبة، ويجوز ما سواها مع أمن الشهوة، ويحرم مع الشهوة وخوف الفتنة.
والأصح عند الجمهور غير الحنابلة تحريم نظر كافرة (ذمية أو غيرها) غير مَحْرم إلى مسلمة، فتحتجب المسلمة عنها وترتدي خمارها أمامها، ما عدا الوجه والكفين، أي أنها كالرجل لقوله تعالى: {أو نسائهن} [النور:31/24] ، فلو جاز لها النظر لم يبق للتخصيص بالنساء فائدة. وصح عن عمر أنه منع الكتابيات دخول الحمام مع المسلمات، ولأنها ربما تحكي أوصاف المسلمة للكافر. فالمراد بنسائهن: خصوص النساء المسلمات، أي المتفقات في الدين، وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئاً من زينتها الباطنة للكافرة.
__________
(1) رواه سَمُّويَه (إسماعيل بن عبد الله -267 هـ) عن أبي سعيد، وهو حديث حسن (الفتح الكبير، والجامع الصغير) .
(2) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه (نصب الراية: 4 /243 ومابعدها) .
(3) نقل القاضي حسين من الشافعية عن علي رضي الله تعالى عنه أن الفخذ في الحمام ليس بعورة.(4/204)
والأصح عند الحنابلة: ألا فرق بين المسلمتين، وبين المسلمة والذمية، كما لافرق بين الرجلين المسلمين. وبين المسلم والذمي في النظر؛ لأن النساء الكوافر من اليهوديات وغيرهن، قد كن يدخلن على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يكنَّ يحتجبن، ولا أمرن بحجاب، ولأن الحجب بين الرجال والنساء لمعنى لا يوجد بين المسلمة والذمية، فوجب ألا يثبت الحجب بينهما، كالمسلم مع الذمي. فأما قوله: {أو نسائهن} [النور:31/24] فيحتمل أن يكون المراد جملة أو عموم النساء، ويكون المقصود بالآية عموم النساء: المسلمات أوالكافرات. ويترتب عليه، أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة (1) .
وفي هذا الرأي سعة ويسر، يتناسب مع أوضاع العصر الحاضر.
__________
(1) مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 164/3(4/205)
ثالثاً ـ اللمس:
متى حرم النظر، حرم المس أي مس الشهوة؛ لأنه أبلغ منه في اللذة، وإثارة الشهوة، بدليل أنه لو مس فأنزل أفطر، ولو نظر فأنزل لم يفطر. ومتى جاز النظر، جاز مس الأعضاء، إذا أمن الشهوة على نفسه وعلى المرأة، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقبِّل رأس فاطمة. وإن لم يأمن اللامس ذلك أو شك، لم يحل له المس ولا النظر (1) .
وهذا في غير الأجنبية الشابة، أما الشابة فلا يحل مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة، لعدم الضرورة، بخلاف النظر.
وتحرم مصافحة المرأة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إني لا أصافح النساء» (2) .
لكن الجمهور غير الشافعية أجازوا مصافحة العجوز التي لا تشتهى، ومس يدها، لانعدام خوف الفتنة، قال الحنابلة: كره أحمد مصافحة النساء، وشدد أيضاً حتى لمحرم، وجوزه لوالد، وأخذ يد عجوز شوهاء.
وحرم الشافعية المس والنظر للمرأة مطلقاً، ولو كانت المرأة عجوزاً.
وتجوز المصافحة بحائل يمنع المس المباشر.
__________
(1) راجع تكملة الفتح: 98/8، 102، 106، الدر المختار: 259/5 ومابعدها، 263، 269 ومابعدها، اللباب: 164/4، القوانين الفقهية: ص 446، مغني المحتاج: 132/3، 134، غاية المنتهى: 8/3، كشاف القناع: 179/2،14/5، الأذكار للنووي: ص 148-150، الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني: ص 36 ومابعدها.
(2) رواه الموطأ والترمذي والنسائي عن أميمة بنت رقيقة (جامع الأصول: 168/1) .(4/206)
ومتى جاز المس، جاز سفر الرجل مع المرأة، ويخلو بها إذا أمن على نفسه وعليها، فالخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت رضاعاً والصهرة الشابة. ومتى حرم المس حرم السفر والخلوة، فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليست زوجته ولا ذات محرم منه، ولا السفر معها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة فوق ثلاث، إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم منها» (1) وقوله: «ألا لا يخلون رجل بامرأة، إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» (2) .
وكل ما حرم نظره متصلاً، حرم نظره منفصلاً، ولو بعد الموت، كشعر عانة (عورة) ولو من رجل، وشعر رأس امرأة، وعظم ذراع حرة ميتة وساقها، وقلامة ظفر رجلها دون يدها عند الحنفية، ولو من يديها عند الشافعية، فيندب مواراة ذلك لئلا ينظر إليه أحد، ويستثنى ما تناثر في الحمامات من امتشاط شعور النساء، وحلق عانات الرجال.
ووصل الشعر بشعر الآدمي حرام ـ كما سأبين ـ سواء أكان شعر المرأة أم شعر غيرها، لما فيه من التزوير، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة» (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري. وفي لفظ للبخاري: ثلاثة أيام، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم عليها» (نصب الراية: 249/4) .
(2) روي من حديث عمر، وابن عمر، وجابر بن سمرة، وعامر بن ربيعة. وحديث عمر رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب (نصب الراية: 249/4 ومابعدها) .
(3) فيه أحاديث كثيرة منها ما هو متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عمر، وأسماء وعائشة (نيل الأوطار: 190/6) والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمصة: التي يفعل بها ذلك. وهو محمول على ما لا ضرورة إليه لما في نتفه بالمنماص (المنقاش) من الإيذاء. جاء في تبيين المحارم: إزالة الشعر من الوجه حرام إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالته، بل تستحب. وفي التتارخانية: لا بأس بأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنث (رد المحتار: 264/5) .(4/207)
وحيث منع النظر منعت المجالسة والمواكلة إلا لضرورة (1) .
وأما إعفاء اللحية: فلا شك بأنه سنة مطلوبه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، أحْفُوا الشوارب، وأوفوا اللِّحى» ، «جُزُّوا الشوارب وأرْخُوا اللحى، خالفوا المجوس» وروت عائشة: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك ... » الحديث، وعن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحية» (2) .
ومعنى إحفاء الشوارب: قص ما طال على الشفتين، حتى يبين بياضهما.
ومعنى إعفاء اللحية: توفيرها، خلافاً لما كان من عادة الفرس من قص اللحية، فنهى الشرع عن ذلك.
وقد حرم المالكية والحنابلة حلقها، واعتبر الحنفية حلقها مكروهاً تحريمياً، والمسنون في اللحية هو القبضة، وأما الأخذ منها دون ذلك أو أخذها كلها فلا يجوز (3) . وقال الشافعية بكراهية حلقها، فقد ذكر النووي أن العلماء ذكروا عشر خصال مكروهة في اللحية، بعضها أشد من بعض، منها حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية، فيستحب لها حلقها (4) .
وأما خصال الفطرة العشر (5) فهي بمقتضى حديث عائشة السابق: قص
__________
(1) راجع القوانين الفقهية: ص 446 ومابعدها، مغني المحتاج: 135/4.
(2) روى مسلم في صحيحه هذه الأحاديث، الأول عن ابن عمر، والثاني عن أبي هريرة، والثالث عن عائشة، والرابع عن ابن عمر (شرح مسلم:147/3) .
(3) الدر المختار: 155/2.
(4) شرح مسلم: 149/3، نيل الأوطار: 116/1.
(5) وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد (حلق العانة) ، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط» .(4/208)
الشارب وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البَرَاجم (1) ، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء (الاستنجاء) ، والمضمضة، والختان وكونه العاشر أولى، كما في رواية أبي هريرة.
وأما المضاجعة: فلا يجوز أن يجتمع رجل وامرأة غير زوجته في مضجع واحد، لا متجردين، ولا غير متجردين، ولا يجوز أن يجتمع رجلان ولا امرأتان في مضجع واحد، وقد نهي عن المكامعة أو المكاعمة ومعناها المضاجعة التي لا ستر بينهما (2) . وقد حرم الشافعية تلك المضاجعة بين رجلين أو امرأتين عاريين في ثوب واحد.
ويجب التفريق بين الصبيان أو البنات في المضاجع بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته لخبر: «مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم بالمضاجع» (3) .
وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لقوله عليه السلام فيما يرويه الطبراني والبيهقي: «إن المؤمن إذا لقي المؤمن، فسلم عليه وأخذ بيده، فصافحه، تناثرت خطاياهما، كما يتناثر ورق الشجر» . ولخبر: «ما من مسلمين يلتقيان يتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» (4) والسنة في المصافحة بكلتا يديه. قال النووي في الأذكار: اعلم أن المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاة الصبح والعصر، فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه،
__________
(1) البراجم: هي عُقد الأصابع ومفاصلها كلها، ويلحق بها معاطف الأذن وداخل الأنف وأي موضع من البدن عليه وسخ مجتمع.
(2) روه ابن أبي شيبة عن عامر الحجري (نصب الراية: 257/4) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو، وهو حديث صحيح.
(4) رواه أبو داود والترمذي عن البراء (نصب الراية: 260/4) .(4/209)
ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وتقييدها بما بعد الصبح والعصر عادة كانت في زمانه، وإلا فعقب الصلوات كلها كذلك. والراجح عند الحنفية جواز المصافحة مطلقاً ولو بعد الصلوات. وكره بعض الحنفية المصافحة بعد الصلاة.
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص (1) .
ويكره تحريماً عند الحنفية تقبيل الرجل فم الرجل، أو يده، أو شيئاً منه. وكذا تقبيل المرأة المرأة عند لقاء أو وداع، إذا كان عن شهوة، أما لو كان على وجه البر، فجائز.
وتكره عند الشافعية المعانقة والتقبيل في الرأس، ولو كان أحدهما أو كلاهما صالحاً، للنهي عن ذلك في حديث رواه الترمذي، إلا لقادم من سفر، أو تباعُد لقاء عرفاً، فيكون سنة؛ لحديث رواه الترمذي أيضاً.
ويكره حني الظهر مطلقاً لكل أحد من الناس، ويحرم تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء. ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل، وتقبيل رأس العالم أجود.
ويسن القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف، أو نحو ذلك إكراماً، لا رياء وتفخيماً، قال النووي في الروضة: قد ثبت فيه أحاديث صحيحة.
رابعاً ـ اللهو:
اللعب: أـ يحرم بالاتفاق كل لعب فيه قمار (2) : وهو أن يغنم أحدهما، ويغرم الآخر، لأنه من الميسر أي القمار الذي أمر الله باجتنابه في قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه} [المائدة:90/5] . ومن تكرر منه ذلك سقطت عدالته، وردت شهادته.
وإن أخرج أحدهما مالاً على أنه إن غلب، أخذ ماله، وإن غلبه صاحبه، أخذ المال، لم يصح العقد؛ لأنه ليس من آلات الحرب، فلا يصح بذل العوض فيه، ولا ترد به الشهادة، لأنه ليس بقمار، كما أبنت معناه.
ب ـ وما خلا من القمار، وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، لكن لا يخلو كل لهو غير نافع من الكراهة؛ لما فيه من تضييع الوقت والانشغال عن ذكر الله وعن الصلاة وعن كل نافع مفيد.
النرد: يحرم اللعب بالنرد، وترد به الشهادة. وعبر عنه الحنفية: بالمكروه تحريماً بحسب اصطلاحهم في كون دليل الحكم فيه ظنياً، لما روى أبو موسى الأشعري: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» (3) وروى بريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه» (4) .
__________
(1) انظر الدرر المباحة في الحظر والإباحة: ص 42 ومابعدها، مغني المحتاج: 135/3، تكملة الفتح: 120/8، شرح الرسالة: 393/2، الدر المختار: 269/5-271.
(2) انظر البدائع:127/5، تكملة الفتح: 132/8، القوانين الفقهية: ص 194، شرح الرسالة: 417/2،420، الشرح الكبير مع الدسوقي: 198/1 ومابعدها، المهذب: 325/2-328، المغني: 170/9-176، الدر المختار: 279/5، 337/3، الفتاوى الهندية: 363/5، تبيين الحقائق: 13/6 ومابعدها.
(3) رواه أحمد وأبو داود ومالك (المنتقى على الموطأ: 278/7، نيل الأوطار:94) .
(4) رواه أبو داود، ولمسلم: «من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه» (نصب الراية: 274/4) .(4/210)
فمن تكرر منه اللعب به، لم تقبل شهادته، سواء لعب به قماراً أو غير قمار. وهذا باتفاق المذاهب الأربعة، لأنه إن لم يقامر، فهو عبث ولهو، وقال عليه السلام: «كل شيء ليس من ذكر الله، فهو لهو، ولعب، أو: وهو سهو ولغو، إلا أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأدي الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلم الرجل السباحة» (1) وقال صلّى الله عليه وسلم: «لست من دَد، ولا الدَّد مني» (2) .
ويحرم اللعب بالأربعة عشر؛ لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان (3) فشابه الأزلام والنرد، لكن الحقيقة أن تحريم النرد (أي الطاولة) هو لأنه اللعب الذي كان يدور عليه قمار أهل فارس.
الشطرنج: ويحرم عند الجمهور غير الشافعية أيضاً الشطرنج، قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر. ومرّ علي رضي الله عنه بقوم يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟
وقال الشافعية: يكره اللعب بالشطرنج، لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين، ولا حاجة تدعو إليه، فكان تركه أولى. ولا يحرم، لأنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير، وأبي هريرة، وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم، إذ لم يرد نص بتحريمه، ولا هو في معنى المنصوص عليه، والأصل في الأشياء الإباحة. وقيل: فيه تشحيذ الخواطر، وتذكية الأفهام.
__________
(1) أخرجه النسائي من حديث جابر بن عبد الله، وفيه أحاديث أخرى عن عقبة بن عامر، وأبي هريرة، وعمر بن الخطاب. والمشي بين الغرضين أو الهدفين أي تعلم الرماية (نصب الراية: 273/4 ومابعدها) .
(2) روي من حديث أنس، ومعاوية بن أبي سفيان، روى الأول البخاري وغيره، وروى الثاني الطبراني (تخريج أحاديث التحفة: 4697/3) . والدد: اللعب.
(3) الكعاب: هي فصوص النرد.(4/211)
وإن كان على عوض من الجانبين أو من جانب واحد يأخذه الغالب من المغلوب، فهو حرام، كما ذكرت في بدء بحث اللهو.
الغناء وآلاته: قال بعض الحنفية وبعض الحنابلة: يحرم الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، لما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب» (1) .
وقال بعض آخر من الحنفية والحنابلة، والمالكية: يباح الغناء المجرد من غير كراهة. ويظهر أن رأي هذا البعض هو الراجح.
وقال الشافعية: يكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، ولا يحرم، لما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر، فقال: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: دعهما، فإنها أيام عيد» (2) . وقال عمر: الغناء زاد الراكب. والخلاصة: أن الغزالي في بعض تآليفه نقل الاتفاق على حل مجرد الغناء من غير آلة (3) .
وأما الآلات: فيحرم في المشهور من المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) استعمال الآلات التي تطرب كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والرباب وغيرها من ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها (4) .
__________
(1) الصحيح أنه من قول ابن مسعود (المغني: 175/9) .
(2) متفق عليه.
(3) نيل الأوطار:101/8، الإحياء: 238/2 ومابعدها.
(4) انظر بحث السماع في الإحياء للغزالي: 237/2-268 ويلاحظ أن الغزالي أباح سماع القضيب والطبل والدف وغيره، ولم يستثن إلا المعازف والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها، لا للذتها، مثل البَرْبَط والطُنبُور. وانظر أيضاً نيل الأوطار: 100/8-105، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 502/2 ومابعدها.(4/212)
فمن أدام استماعها، ردت شهادته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخمر والخنازير والخز والمعازف» (1) وفي لفظ: «ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير» (2) .
واستدلوا على تحريم المعازف من القرآن بقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان:6/31] قال ابن عباس: إنها الملاهي.
وبالمعقول: وهو أن هذه الآلات تطرب، وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وإلى إتلاف المال، فحرمت كالخمر.
ويكره عند الشافعية والحنابلة القضيب الذي يزيد الغناء طرباً، ولا يطرب إذا انفرد، لأنه تابع للغناء، فكان حكمه حكم الغناء، أي أنه مكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص. وإن خلا عن ذلك لم يكره، لأنه ليس بآلة ولا يطرب، ولا يسمع منفرداً بخلاف الملاهي.
وأباح مالك والظاهرية وجماعة من الصوفية السماع ولو مع العود واليراع. وهو رأي جماعة من الصحابة (ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية، وعمرو بن العاص وغيرهم) وجماعة من التابعين كسعيد بن المسيب.
وأما الرقص الذي يشتمل على التثني والتكسر والتمايل والخفض والرفع بحركات موزونة فهو حرام ومستحله فاسق.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه ابن ماجه (نيل الأوطار في الحديثين: 96/8) وروى الترمذي حديثاً عن علي: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وفيه: وشربت الخمور، ولبست الحرير، واتخذت القيان والمعازف» لكنه حديث غريب، (نيل الأوطار: 99/8) .(4/213)
وأما اللعب المباح: فهو ـ كما سأبين في بحث السبق ـ المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات، أو التدرب على السلاح. ويجوز ذلك على عوض من غير المتسابقين، أو من واحد منهما يأخذه السابق.
ويجوز الغناء المباح وضرب الدف (1) في العرس والختان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال» . (2)
وتحرم الأغاني المهيجة للشرور المشتملة على وصف الجمال والفجور ومعاقرة الخمور في الزفاف وغيره، ويحرم كل الملاهي المحرمة (3) .
وحكى الرُوياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وهو مذهب الظاهرية. ولا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود (4) ، وبه قال بعض الشافعية. ودليلهم على الإباحة: أنه لم تصح عندهم أحاديث المنع. قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله، ولا في السنة حديثاً صحيحاً في تحريم الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها، لا أدلة قطعية (5) .
وأقول: إن الأغاني الوطنية أو الداعية إلى فضيلة، أو جهاد، لا مانع منها، بشرط عدم الاختلاط، وستر أجزاء المرأة ما عدا الوجه والكفين. وأما الأغاني المحرضة على الرذيلة فلا شك في حرمتها، حتى عند القائلين بإباحة الغناء، وعلى التخصيص منكرات الإذاعة والتلفاز الكثيرة في وقتنا الحاضر.
__________
(1) وهو المدور من وجه واحد كالغربال. وأما المدور من وجهين وهو المزهر ففيه عند المالكية أقوال ثلاثة: الجواز، والمنع، والكراهة.
(2) رواه ابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار: 187/6) .
(3) نيل الأوطار: 188/6.
(4) نيل الأوطار: 100/8-150.
(5) نيل الأوطار: 104/8.(4/214)
ولا شك بأن الامتناع عن السماع في الوقت الحاضر أولى؛ لأن في ذلك شبهة؛ والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولاسيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والجمال والدلال، والهجر والوصال، ومعاقرة الراح (الخمر) ، كما ذكر الشوكاني (1) .
ولا بأس بسماع الموسيقا لعلاج بعض الأمراض النفسانية، أو العصبية.
ضابط ما يجوز وما يحرم من اللهو واللعب عند الشافعية:
الضابط المميز للهو واللعب عند الشافعية: هو أن كل ما لا يترك أثراً نافعاً فهو مباح، وكل ما يترك أثراً ضاراً فهو حرام.
وأساس التفرقة في أنواع اللعب: هو أن ما يقوم على تشغيل الذهن وتحريك الفكر كالشطرنج فهو مكروه، وكل ما يقوم على المصادفة وحجب الفكر والعقل كالنرد فهو حرام.
وعلى هذا يكون الاسترسال في مجالس اللهو والمزاح مكروهاً، فإن انضم إليه الكذب أو التهاون في الأخلاق فهو حرام.
وتكون مجالس الغناء المقرونة بالآلات الموسيقية حراماً، والشطرنج مكروه لأنه رياضة للذهن، فإن فوت الواجبات الدينية فهو حرام، ولعب الشدَّة أو الورق مكر وه لأنه يلهي عن ذكرالله ويصبح حراماً إن كان على شرط المال. والنرد حرام ولو بغير قمار أو عوض مالي لاعتماده على المصادفة، وذلك يترك أثراً ضاراً في النفس؛ لأنه يجعل العقل يتخيل كون المصادفة مؤثرة في أعمال الحياة.
__________
(1) نيل الأوطار: 105/8.(4/215)
وتحريش الديكة على بعضها، ودفع المواشي إلى التناطح ومصارعة الثيران والمصارعة الحرة والملاكمة ونحوها حرام، لما تحدثه من أضرار في حياة الإنسان أو الحيوان، فإن لم يكن في الملاكمة أو المصارعة ضرر بأحد الطرفين كانت مباحة، وكذلك تباح إن كان فيها تعويد الإنسان على القوة والقتال والدفاع عن النفس، وقد صارع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رُكانة وغلبه (1) .
فإن كان اللهو على مال مشروط من أحد الطرفين أو من الطرفين أو من أجنبي عنهما فهو حرام؛ لأنه من الميسر الذي يحرم تعاطيه.
وأما ما رواه أبو داود في مراسيله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صارع ركانة إذ كان مشركاً، على شياه» فهذا كان في الجاهلية قبل إسلام ركانة، وقد رد النبي صلّى الله عليه وسلم الشياه الثلاث على ركانة قائلاً له: «ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك، خذ غنمك» .
ويكره اللعب بالحمام عند جماعة من العلماء لأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه، وربما يكون حراماً؛ لما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع شيطانة» .
الحداء والشعر: وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل، فمباح، لا بأس في فعله واستماعه. وقد أقره النبي صلّى الله عليه وسلم، كما أقر نشيد الأعراب. فيجوز سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر، فلا ينكره (2) .
ويجوز قول الشعر، لأنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وقد مدحوه، وأعطى الرسول بردة كانت عليه كعب بن زهير لما أنشده القصيدة اللامية: بانت سعاد.
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) راجع المهذب: 327/2 ومابعدها، المغني: 176/9، الإحياء: 109/3.(4/216)
وحكم الشعر حكم الكلام في حظره وإباحته، وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به، فحسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكماً» (1) وقال أيضاً: «الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» (2) .
تلحين القرآن: لا بأس بقراءة القرآن من غير تلحين. والأفضل تحسين الصوت بالقرآن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» أو «زينوا أصواتكم بالقرآن» (3) .
أما القراءة بالتلحين: فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات، فلا بأس به لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قد قرأ ورجَّع ورفع صوته. فإن جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض، كان مكروهاً (4) .
خامساً ـ التصوير:
التصوير في أصل اللغة العربية: معناه الإنشاء والترتيب والتمييز، ومنه «المصوِّر» أحد أسماء الله تعالى: وهو الذي صوَّر جميع الموجودات ورتَّبها، فأعطى كلَّ شيء منها صورة خاصة، وهيئة منفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها (5) . ومنه قوله تعالى: {ثم صوَّرناكم} [الأعراف:7/11] {وصوَّركم
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس بلفظ: «إن من البيان سحراً، وإن من الشعر حكماً.
(2) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن ابن عمرو، ورواه أبو يعلى عن عائشة (الفتح الكبير) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن البراء بن عازب (الجامع الصغير) .
(4) المهذب:328/2، المغني: 179/9 ومابعدها.
(5) النهاية لابن الأثير 58/3.(4/217)
فأحسن صوركم} [التغابن:3/64] {في أي صورة ما شاء ركَّبك} [الانفطار:8/82] {هو الذي يصوِّركم في الأرحام} [آل عمران:6/3] . ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً» (1) . قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: فالصورة: أراد بها ما خُصَّ الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضَّله على كثير من خلقه (2) .
وكان التصوير الموجود في عهد النبوة الذي اتجه إليه النهي والتحريم هو الذي توافر فيه صفات ثلاث: صورة ماله روح من الإنسان والحيوان، وقصد التعظيم، ومضاهاة أو محاكاة خلق الله تعالى وفعله. والحكمة من التحريم: منع التشبه بعبادة الأوثان والأصنام، ومحاربة الشرك، وتوفير التعظيم لله وحده.
وأهم الأحاديث الواردة في التصوير ما يلي:
1 ً - حديث امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو تصاوير: أخرج مسلم عن ابن عباس يقول: سمعت أبا طلحة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» أي ملائكة الرحمة والتبريك والاستغفار. أما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال؛ لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها. قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى. وأما الكلب فلكثرة أكله النجاسات (3) . وقال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة: مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة، والمعنى: خلق الله آدم على صورة آدم التي كان عليها من مبدأ فطرته إلى موته، لم تتفاوت قامته ولم تتغير هيئته بخلاف بنيه، فإن كلاً منهم يكون نطفة ثم مضغة ثم عظاماً وأعصاباً، ثم يمر بأطوار الطفولة والبلوغ والشباب والشيخوخة.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص297.
(3) شرح مسلم للنووي 14/84.(4/218)
2 ً - حديث القرام: أخرج مسلم أيضاً عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا متسترة بِقرَام (1) فيه صورة، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشَبِّهون بخَلْق الله» (2) وهذا الحكم المتعلق بالقرام كان في أول الأمر، ثم رُخِّص فيه بعدئذ، بدليل رواية أخرى كما ذكرها مسلم لخالد الجهني فيها زيادة: «إلا ما كان رقماً في ثوب» وكذلك رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) في حديث أبي طلحة: «إلا رقماً في ثوب» .
ويؤيد الترخيص المتأخرحديث آخر: هو ما أخرجه مسلم عن عائشة قالت: «كان لنا ستْر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حوِّلي هذا، فإني كلما دخلت فرأيته، ذكرت الدنيا» قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول: عَلَمُها حرير، فكنا نَلْبَسُها. قال الطحاوي: إنما نهى الشارع أولاً عن الصور كلها، وإن كانت رقماً؛ لأنهم كانوا حديث عهد بعبادة الصور، فنهى عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك، أباح ما كان رقماً في ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح ما يمتهن؛ لأنه يأمن على الجاهل تعظيم ما يمتهن، وبقي النهي فيما لا يمتهن.
3 ً - حديث النُّمرقة (3) : أخرج مسلم عن عائشة: «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قام على الباب، فلم يدخل، فعَرَفتُ ـ أو
__________
(1) القرام: الستر الرقيق كالشراشف الحالية والبطانيات.
(2) شرح المسلم 14 /87 وما بعدها.
(3) النُّمُرقة: الوسادة الصغيرة.(4/219)
فعُرفت ـ في وجهه الكراهية، فقالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ فقالت: اشتريتُها لك تقعُد عليها وتوَسَّدها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» . ثم قال: «إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» (1) . وهذا واضح الدلالة في أن التحريم منصب على المصورين الذين يصورون صور الأجسام ذات الروح إذا كانت بحالة يضاهى بها خلق الله.
4 ً - تحدي المصورين: أخرج مسلم عن أبي زُرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلُق خلقاً كخَلْقي، فليخلُقوا ذَرَّة، أو ليخلقوا حبَّة أو ليخلقوا شعيرة» (2) .
5 ً - أخرج البخاري «أن النبي لمصلّى الله عليه وسلم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب (3) إلا نفضه» .
آراء العلماء في التصوير:
قال النووي مبيناً آراء العلماء (4) : تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.
وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام. هذا حكم التصوير نفسه.
__________
(1) شرح المسلم 14 /89 وما بعدها.
(2) المرجع السابق: 14 /93 وما بعدها.
(3) التصاليب: صور الصليب.
(4) شرح مسلم، المرجع السابق: 14/81 وما بعدها.(4/220)
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، أي تعليقه ونصبه في المنازل وغيرها، فإن كان معلقاً على حائط أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهناً، فهو حرام.
وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن، فليس بحرام، ولافرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له. وهذا رأي الشافعية وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
ووجود الصور يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت إذا كان فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلب والصور، دون غيره مما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه، كما تقدم بيانه.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورالتي ليس لها ظل، قال النووي: وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلّى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقماً في ثوب أوغير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن، عملاً بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم. قال النووي: وهذا مذهب قوي. وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها، سواء كان رقماً أو غيره. واحتجوا بحديث «إلا ما كان رقماً في ثوب» وهذا مذهب القاسم بن محمد.
وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره. قال القاضي عياض: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك.(4/221)
ونقل ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري عن ابن العربي رأيه في اتخاذ الصور قائلاً: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع. وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:
الأول ـ يجوز مطلقاً، عملاً بحديث: «إلا رقماً في ثوب» .
الثاني ـ المنع مطلقاً.
الثالث ـ إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال ابن حجر: وهو الأصح.
الرابع ـ إن كانت مما يمتهن جاز، وإلا لم يجز.
خلاصة الرأي في التصوير:
تحرم الصور ذات الظل وكل الصور المجسَّدة والتماثيل لكل ذي روح من إنسان أو حيوان، لإجماع العلماء على ذلك، ويحرم صنع التماثيل ونصبها في أي مكان، لما أخرجه الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تماثيل» ، وتباح صور النباتات والمناظر الطبيعية الكونية من السماء والأرض والحدائق والجبال والبحار والأنهار، والأشياء الجامدة من طائرات وسيارات وغير ذلك من الكائنات المخلوقة وليست بذات روح؛ لأنها ليست مما تناولها النص النبوي بإشارة «يشبِّهون بخلق الله» وبإشارة «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» .
أما الصور المجسَّمة على المخاد والوسائد والستائر والبسط والفرش والبطائن فلا مانع منها، لأنها ممتهنة. وتباح عند بعض العلماء اللوحات الزيتية ونقوش الحيطان، والرسوم على الورق، والصور المطبوعة أو المنسوجة في الملابس والستور، والمطرزات والموشّاة والمشغولة بأنواع الخيوط ونحو ذلك مما لا ظل له.(4/222)
وتباح صور لعب الأطفال المختلفة من أنواع الشموع والمعادن كالعرائس ونحوها، ويجوز بيعها، لما أخرجه البخاري وأبو داود عن عائشة قالت: «كنت ألعب بالبنات (1) ، فربما دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي الجواري (2) ، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن» وأخرج أبو داود والنسائي حديثاً آخر مشابهاً لهذا الحديث، أقر فيه الرسول صلّى الله عليه وسلم ما وجده عند عائشة من بنات لُعَب، بعد عودته من غزوة تبوك أو خيبر، قال ابن حزم: وجائز للصبايا خاصة اللعب بالصور ولا يحل لغيرهن، والصور محرمة إلا هذا، وإلا ما كان رقماً في ثوب.
وتباح الصور إذا كانت بحالة لا تعيش بها كمقطوعة الرأس أو الصور النصفية، والأولى عدم إقامتها أو نصبها في أي مكان في المنزل وغيره.
قال الكاساني من الحنفية (3) :وتكره (أي كراهة تحريم) التصاوير في البيوت، لما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة» ولأن إمساكها تشبّه بعبدة الأوثان إلا إذا كانت على البسط أو الوسائد الصغار التي تلقى على الأرض ليجلس عليها، فلا تكره؛ لأن دوسها بالأرجل إهانة لها، فإمساكها في موضع الإهانة لا يكون تشبهاً بعبدة الأصنام إلا أن يسجد عليها، فيكره لحصول معنى التشبه.
__________
(1) البنات: صور للبنات تستعمل للعب والتسلية.
(2) الجواري: جمع جارية وهي الشابة الصغيرة.
(3) البدائع: 126/5 ومابعدها.(4/223)
ويكره التصوير على الستور وعلى الأزر المضروبة على الحائط وعلى الوسائد الكبار وعلى السقف؛ لما فيه من تعظيمها، فإذا لم يكن لها رأس، فلا بأس؛ لأنها لا تكون صورة، بل نقشاً، فإن قطع الرأس بأن خاط على عنقه خيطاً، فذاك ليس بشيء؛ لأنها لم تخرج عن كونها صورة، بل ازدادت حلية كالطوق لذوات الأطواق من الطيور. ثم المكروه أي تحريماً: صورة ذي الروح، فأما صورة مالا روح له من الأشجار والقناديل ونحوها، فلا بأس به.
أما التصوير الشمسي أو الخيالي فهذا جائز، ولا مانع من تعليق الصور الخيالية في المنازل وغيرها، إذا لم تكن داعية للفتنة كصور النساء التي يظهر فيها شيء من جسدها غير الوجه والكفين، كالسواعد والسيقان والشعور، وهذا ينطبق أيضاً على صور التلفاز وما يعرض فيه من رقص وتمثيل وغناء مغنيات، كل ذلك حرام في رأيي.
وأما أعمال النحت والرسم للنساء العاريات التي يقوم بها طلاب كليات الفنون الجميلة فهي من أشد المحرمات والكبائر، ولا يصح قياس الرسم على تشريح الجثث في كليات الطب، لأن التشريح ضرورة علمية تحقق فائدة الحفاظ على حياة الإنسان، بعكس الرسم الذي هو مجرد عمل ترفيهي كمالي، كما أن التشريح يحدث بعد الموت، والرسم يتم في حال الحياة.
والسبب في إباحة الصور الخيالية: أن تصويرها لا يسمى تصويراً لغة ولا شرعاً، لما تقدم من بيان معنى التصوير في عهد النبوة، ولأن هذا التصوير يعد حبساً للظل أو الصورة، مثل الصورة في المرآة والصورة في الماء، كل مافي الأمر أن صورة المرآة أو الماء متحركة غير ثابتة، والصور الخيالية تثبَّت بالأحماض الكيمياوية ونحوها، وهذا لا يسمى تصويراً في الحقيقة، فإن الحمض هو المانع من الانتقال والتحرك (1) .
__________
(1) تفسير آيات الأحكام للشيخ الأستاذ محمد علي السايس 61/4.(4/224)
سادساً ـ وسم الحيوان:
الوسم: وضع علامة على الحيوان بالكي أو شق الأذن أو ثقبها بمثقب. قال أهل اللغة: الوسم: أثر كية، يقال: بعير موسوم، وقد وسمه يسمه وسماً وسمة، والمِيسَم: الشيء الذي يوسم به، وجمعه مياسم ومواسم، وأصله كله من السمة: وهي العلامة، ومنه موسم الحج، أي معلم جمع الناس، وفلان موسوم بالخير وعليه سمة الخير، أي علامته، وتوسمت فيه كذا، أي رأيت فيه علامة.
وحكم الوسم يتنازعه اتجاهان:
قال أبو حنيفة: هو مكروه؛ لأنه تعذيب ومثلة، وقد نهي عن المثلة.
وذهب الجمهور: إلى جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه، وندبه في نَعَم الزكاة والجزية، لأحاديث صحيحة صريحة ذكرها مسلم، وآثار كثيرة عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، ولأنها ربما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها فيردها، والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام، وحديث الوسم خاص، فوجب تقديمه.
وأما الأحاديث: فمنها ما أخرجه مسلم عن هشام بن زيد قال: «سمعت أنساً يحدِّث أن أمّه حين ولدت انطلقوا بالصبي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يُحنّكه، قال: فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم في مِرْبَد (1) يَسِمُ غنماً، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: في آذانها» .
وفي رواية أخرى: أن هشام بن زيد قال: سمعت أنساً يقول: «دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مِرْبَداً، وهو يَسِمُ غنماً، قال: أحسِبُه قال: في آذانها (2) » .
سابعاً ـ أحكام الشَّعر:
تجوز إطالة شعر الرأس وحلقه جميعه، لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى صبياً قد حلق بعض رأسه، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوا كله، أو ذروا كله» وفيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه، قال الغزالي: لا بأس به لمن أراد التنظيف.
__________
(1) المربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل، وهو مثل الحظيرة للغنم.
(2) شرح مسلم: 98/14.(4/225)
ويكره القَزَع: وهو حلق رأس الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير محلوقة تشبيهاً بقزع السحاب، قال النووي: والقزع حلق بعض الرأس مطلقاً، وهو الأصح.
ويجوز اتخاذ الشعر، لما روى الخمسة إلا النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوق الوَفرة ودون الجُمَّة» (1) .
ومن اتخذ شعراً يندب له ترجيله (تمشيطه) وإكرامه، روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان له شعر فليكرمه» وفيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق؛ لأنه يخالف الإكرام إلا أن يطول، أخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: «أتى رجل النبي ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته، ففعل، ثم رجع، فقال صلّى الله عليه وسلم: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر
__________
(1) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن. والجمة: دون ذلك، وهي مجتمع شعر الرأس.(4/226)
الرأس (1) كأنه شيطان» .
ويكره نتف الشيب، لما رواه أحمد وأبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» قال النووي: لو قيل: يحرم النتف للنهي الصريح لم يبعد، وقال: ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس والشارب والحاجب والعذار من الرجل والمرأة.
وأما خضاب الشعر بالأحمر والأصفر والأسود وغير ذلك من الألوان فهو جائز، إلا عند الشافعية، فإنه يحرم الخضاب بالسواد وقال غيرهم بالكراهة فقط، لما رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن جابر بن عبد الله قال: جيء بأبي قحافة (2) يوم الفتح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكأن رأسه ثُغَامة (3) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اذهبوا به إلى بعض نسائه، فلتغيره بشيء، وجنِّبوه السواد» .
وفي الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيراً، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضّبا بالحِنَّاء والكَتَم» (4) .
__________
(1) الثائر: الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل.
(2) أبو قحافة: هو والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(3) ثغامة: قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه بياض المشيب به.
(4) الحناء: معروف، لون صباغة أحمر فاتح، والكتَم والكُتمان، نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر، وهو النبت المعروف بالوسمة يعني ورق النيل، ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقاً.(4/227)
واختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وجنسه، فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل، لحديث في النهي عن تغيير الشيب، ولأنه صلّى الله عليه وسلم لم يغير شيبه (1) . وقال آخرون: الخضاب أفضل، فقد خضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك.
ثم اختلف هؤلاء، فكان أكثرهم يخضب بالصفرة، أي الشقرة، منهم ابن عمرو وأبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي.
وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم، وبعضهم بالزعفران.
وخضب جماعة بالسواد، روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني علي، وعقبة بن عامر وابن سيرين وأبي بردة وآخرين (2) .
والصواب جواز تغيير الشيب وجواز تركه، وجواز الخضاب بأي لون كان، مع كراهة الخضاب بالسواد.
ويحرم كما تقدم وصل الشعر بشعر آدمي آخر على الرجال والنساء الأيامى والمتزوجين، للتجمل وغيره، بلا خلاف، سواء كان شعر رجل أو امرأة، وسواء شعر المَحْرم والزوج وغيرهما بلا خلاف، لعموم الأدلة، ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته، بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه.
فإن وصلته بشعر غير آدمي: فإن كان شعراً نجساً، وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فهو حرام أيضاً للحديث الآتي بلعن الواصلة والمستوصلة، ولأنه حمل نجاسة في صلاتها وغيرها عمداً.
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي، والشعر الصناعي: فإن لم يكن لها زوج ولا سيد، فهو حرام أيضاً، وإن كان لها زوج فإن فعلته بإذنه جاز، وإن فعلته بغير إذنه، لم يجز، وعلى هذا يكون ارتداء «الباروكة» جائزاً للرجل، وللمرأة بإذن زوجها.
ويجوز عند الشافعية والليث والقاضي عياض وصل الشعر بخيوط من الحرير الملونة؛ لأنه لا يأخذ حكم الوصل، إنما هو لمجرد الزينة أو التجمل والتحسين، وقال مالك والطبري وكثيرون: الوصل ممنوع بكل شيء، سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق، لحديث جابرعند مسلم: «أن النبي
__________
(1) روي هذا عن عمر وعلي وأبي بكر وآخرين.
(2) نيل الأوطار: 118/1.(4/228)
زجر أن تصل المرأة برأسها شيئاً (1) » .
قال الكاساني من الحنفية: ويكره أي كراهة تحريم للمرأة أن تصل شعر غيرها من بني آدم بشعرها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ولأن الآدمي بجميع أجزائه مكرم، والانتفاع بالجزء المنفصل منه إهانة له، ولهذا كره بيعه. ولا بأس بذلك من شعر البهيمة وصوفها؛ لأنه انتفاع بطريق التزين بما يحتمل ذلك، ولهذا احتمل الاستعمال في سائر وجوه الانتفاع، فكذا في التزين (2) .
وأما قص المرأة شعرها فيجوز مادون الأذن، كيلا تتشبه بالرجال، كما تقدم. ولها تسريح شعرها بمختلف التسريحات في المنزل، وستره خارج المنزل.
ثامناً ـ الوشم والنمص والتفليج:
الوشم حرام أيضاً: وهو أن تغرز إبرة أو نحوها في الجلد على ظهر الكف والمعصم أو الوجه أو الشفة وغير ذلك، حتى يسيل الدم، ثم يحشى محل الغرز بكحل ونحوه، فيخضر.
والنمص: وهو نتف الشعر من الوجه حرام أيضاً إلا إذا نبت في وجه المرأة شعر كثير كلحية وشارب، فيندب إزالتهما.
وتفليج الأسنان حرام أيضاً: وهو تفريق ما بين مقدمة الأسنان من الثنايا والرباعيات بالمبرد ونحوه، وتحرم أيضاً عمليات التجميل النسائية التي يراد بها تصغير المرأة الكبيرة (عمليات الشد) روى أحمد عن عائشة قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلعن القاشرة والمقشورة، والواشمة والموشومة، والواصلة والموصولة» وروى أحمد أيضاً عن ابن مسعود قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من داء» .
والواشرة: التي تَشِر الأسنان حتى تكون لها أشْر، أي تحديد ورقّة، تفعله المرأة الكبير، تتشبه بالحديثة السن.
والقاشرة: التي تعالج وجهها أو وجه غيرها بالغُمرة (طلاء يتخذ من الوَرْس) ليصفو لونها، والمقشورة: التي يفعل بها ذلك، كأنها تَقْشِر أعلى الجلد، ويبدو ما تحته من البشرة، وهو شبيه بفعل النامصة.
والوشم والنمص والتفليج حرام على الرجال والنساء، الفاعل والمفعول به، لورود اللعن عليه، مما يدل على تحريمه. ويصبح موضع الوشم متنجساً لانحباس الدم فيه، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجب، وإن لم يمكن إلا بالجرح، فإن خيف منه الضرر أو العيب الفاحش في عضو ظاهر كالوجه والكفين، لم تجب إزالته، وتجب التوبة منه، وإن لم يكن ضرر، لزم إزالته.
__________
(1) المرجع السابق: 191/6 ومابعدها.
(2) البدائع: 125/5 ومابعدها.(4/229)
ودليل تحريم هذه الثلاثة (الوشم والنمص والتفليج) : الحديث المتفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله تعالى» وقال: «ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» . وهناك أحاديث أخرى عن ابن عمر وغيره في الموضوع (1) ..
تاسعاً ـ الترجل والتخنث:
يحرم أيضاً تشبه الرجال بالنساء في اللباس والزينة، كالأساور والعقود (الأطواق) والأقراط، وتشبه النساء بالرجال في الكلام، والمشي، وحلق الشعر وتكلف الخشونة والرجولة، وهن المترجلات: المتشبهات من النساء بالرجال. ويحرم التخنث أيضاً: وهو تشبه الرجال بالنساء في المشي والتكسر ولين الكلام ورقة الصوت والتزين بالحناء ونحو ذلك من أنواع «المكياج» والتحمير والتبييض وتطريف الأصابع، لكن يستحب الخضاب للنساء بالحناء ونحوه، وأما التحمير ونحوه فيجوز بإذن الزوج وفي داخل البيت، ويحرم بغير إذن الزوج وخارج المنزل. والدليل ما أخرجه أحمد والبخاري عن أنس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» وفي رواية: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجِّلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر فلاناً» . وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال: «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله، ألا تقتله؟ فقال:
__________
(1) راجع نيل الأوطار: 190/6.(4/230)
إني نهيت أن أقتل المصلين» (1) .
عاشراً ـ السلام:
السلام: هو اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: اسم الله عليك أنت في حفظه، كما يقال: الله يصحبك، الله معك. وللسلام أحكام هي ما يأتي (2) :
ابتداء السلام سنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام بينكم» (3) ورده من الفرد فرض عين ومن الجماعة فرض كفاية، لقوله تعالى: {وإذا حيِّيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء:86/4] وابتداء السلام من جماعة سنة كفاية، والأفضل السلام من جميعهم، ولو سلم جماعة على شخص، وقصد الرد عليهم جميعاً، جاز ذلك، وسقط الفرض في حق الجميع. ويجزئ «السلام عليكم» وفي الرد «وعليكم السلام» ويجب زيادة الواو في رد السلام. وقال جماعة: لا تجب وإنما تندب، وأكمله «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وفي الرد: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ولكل فقرة من هذه التحية عشر حسنات. ويكره تغيير صيغة السلام المشروعة هكذا، بمثل قول بعضهم: «سلام من الله..» إلخ فذلك بدعة منكرة.
ورفع الصوت بابتداء السلام سنة، ليسمعه المسلَّم عليه سماعاً محققاً، للحديث السابق: «أفشوا السلام بينكم» وإن كان هناك أيقاظ ونيام، خفض صوته، بحيث يسمع الأيقاظ، ولا يوقظ النيام، جمعاً بين الفرضين.
ولو سلم على إنسان، ثم لقيه على قرب، سن أن يسلم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر من ذلك، لعموم حديث «أفشوا السلام» .
ويسن أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام، للخبر السابق.
__________
(1) نيل الأوطار: 193/6-194.
(2) كشاف القناع: 175/2-179.
(3) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولاتؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (الترغيب والترهيب: 424/3) .(4/231)
ولا يترك السلام إذا كان يغلب على ظنه أن المسلَّم عليه لا يرد السلام، لعموم «أفشوا السلام» ولا بأس بالسلام على الصبيان تأديباً لهم، ولا يجب الرد عليهم، فإن سلم الصبي على البالغ وجب عليه الرد.
ورفع الصوت برد السلام واجب قدر الإبلاغ أو الإسماع أي للمسلِّم.
ويكره الانحناء في السلام، ويكره أن يسلم على امرأة أجنبية (غير زوجة له ولا محرم) إلا أن تكون عجوزاً أي غير حسناء، أو ألا تشتهى لأمن الفتنة.
ويكره السلام في الحمام، وعلى من يأكل أو يقاتل لاشتغاله، وعلى تال للقرآن وعلى ذاكر الله تعالى، وعلى ملبّ ومحدِّث (أي يحدث بحديث النبي صلّى الله عليه وسلم) ، وخطيب وواعظ، وعلى من يستمع للمذكورين من التالي ومن بعده، وعلى مكرر فقه ومدرس في أي عمل كان، وعلى من يبحثون في العلم، وعلى من يؤذِّن أو يقيم (1) ، وعلى من هو على حاجته، ويكره أيضاً رده منه، وعلى من يتمتع بأهله، أو مشتغل بالقضاء ونحوهم.
ومن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام مما سبق، لم يستحق جواباً لسلامه.
ويكره أن يخص بعض طائفة لقيهم أو دخل عليهم بالسلام، وأن يقول: سلام الله عليكم، لمخالفته الصيغة الواردة، وأن يقول: عليك سلام الله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كرهه.
والهجر المنهي عنه (وهو هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام) يزول بالسلام؛ لأنه سبب التحابب، فيقطع الهجر، وروي مرفوعاً: «السلام يقطع الهجران» .
ويسن السلام عند الانصراف عن القوم، وإذا دخل على أهله، فإن دخل بيتاً خالياً، أو مسجداً خالياً، قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، للخبر في كل ذلك.
وإذا دخل بيته، قدم رجله اليمنى، وليقل: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا، وباسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا» ثم يسلّم على أهله، لخبر أبي مالك الأشعري مرفوعاً، رواه أبو داود.
__________
(1) مذهب الحنابلة: لا يكره السلام على المصلي.(4/232)
المبحث الخامس ـ مسائل في البيع والتعامل:
أورد الحنفية فروعاً فقهية في المعاملات مشتملة على شبهة أو مانع شرعي أو معصية، يحسن ذكرها باختصار:
أولاً ـ بيع السماد الطبيعي:
لا بأس ببيع روث البهائم لتسميد الأرض بها، واستكثار الريع بها، فينتفع بها، وإن كان البيع في الأصل مكروهاً؛ لأن الروث نجس، ويكره بيع العَذِرة (رجيع الآدمي) والصحيح عند الحنفية: هو جواز بيع المتنجس كالزيت الذي خالطته النجاسة (1) .
ثانياً ـ استيفاء دين المسلم من ثمن خمر الذمي:
يجوز أخذ المسلم دينه على كافر، من ثمن خمر، أو خنزير، لصحة بيعهما من الكافر لغيره؛ لأنهما مال متقوم في حقه، بخلاف الدين على مسلم، لا يصح أخذه من ثمن خمر أو خنزير، لعدم صحة البيع، لكن أجاز أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه أن يوكل المسلم ذمياً في بيع الخمر.
وكذلك لا يجوز استيفاء الدين من كسب حرام كالمرابي والمرتشي والغصب والسارق والمغنية. ولا يحل للورثة أيضاً أخذ الميراث من كسب حرام، وعليهم رد ما أخذوه على أربابه إن عرفوهم، وإلا تصدقوا به؛ لأن سبيل الكسب الخبيث التصدق به إذا تعذر الرد على صاحبه (2) .
ثالثاً ـ بيع العنب للخمار:
يجوز بيع العنب ممن يعلم أنه يتخذه خمراً؛ لأن المعصية لا تقوم بعين الموجود حالة البيع، وإنما تتحقق بعد تغييره.
كذلك أجازوا بيع السلاح من أهل الفتنة، لأن المعصية تتحقق باستعماله، لا بحالته القائمة (3) ، وهو رأي الشافعي أيضاً. لكن يكره هذا البيع، لأنه تسبب إلى المعصية. بخلاف بيع العصير لمن يتخذه خمراً، لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغييره.
__________
(1) تكملة الفتح: 122/8، الدر المختار: 110/4 و 272/5، الدرر المباحة في الحظر والإباحة: ص53.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 272/5 ومابعدها.
(3) المرجع السابق: 273/5، تكملة فتح القدير: 127/8.(4/233)
رابعاً ـ الإجارة للكنيسة أو حمل خمر الذمي:
يجوز للشخص عند أبي حنيفة (1) أن يؤجر نفسه أو سيارته أو دابته بأجر لتعمير كنيسة، أو لحمل خمر ذمي، لا لعصرها؛ لأنه لا معصية في الفعل عينه، لأن عقد الإجارة على الحمل ليس بمعصية ولا سبب لها، وإنما تحصل المعصية باختيار الشارب، وقد يكون حملها للإراقة أو التخليل.
أما عصرها بقصد الخمرية كمعاصر الخمور في بلادنا أو في أمريكا مثلاً من مسلم فيحرم؛ لأن المعصية في الفعل عينه. وأجاز أبو حنيفة أيضاً إجارة بيت لاتخاذه كنيسة أو لبيع الخمر فيه في بلاد غالب أهلها أهل الذمة؛ لأن الإجارة تقع على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه.
ولا تجوز تلك الإجارة في بلاد غالب أهلها الإسلام؛ لأن أهل الذمة لايمكَّنون من اتخاذ الكنائس وإظهار بيع الخمور ونحو ذلك في الأصح.
وقال الصاحبان والأئمة الثلاثة: لا ينبغي كل تلك الإجارات، وهي مكروهة؛ لأنها إعانة على المعصية، ولأنه عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة، وعد منها «حاملها» (2) .
واعتبر أبو حنيفة الحديث محمولاً على الحمل المقرون بقصد المعصية. وعلى كل حال فرأي أبي حنيفة قياس. ورأي الصاحبين استحسان. وهو المعول عليه في كثير من الفتاوى.
خامساً ـ بيع بناء بيوت مكة وأرضها، وإجارتها:
يجوز عند الحنفية والشافعية بلا كراهة بيع بناء بيوت مكة وأرضها؛ لأن البناء مملوك لبانيه، والأرض مملوكة لأهلها، لظهور آثار الملك فيها، وهو الاختصاص بها شرعاً.
__________
(1) الدر المختار: 277/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 127/8.
(2) رواه أبو داود عن ابن عمر، وصححه ابن السكن (التلخيص الحبير:359/1) .(4/234)
ويكره عند الحنفية إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، في الحج، ويرخص لهم الإجارة في غير الموسم، لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} [الحج:25/22] وهكذا كان عمر بن الخطاب ينادي أيام الموسم ويقول: يا أهل مكة، لا تتخذوا لبيوتكم أبواباً، لينزل البادي حيث شاء، ثم يتلو الآية (1) .
سادساً ـ دخول الكافر المساجد:
أجاز أبو حنيفة (2) للكافر دخول المساجد كلها، حتى المسجد الحرام من غير إذن، ولو لغير حاجة. ومعنى آية {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/9] عنده: ألا يحجوا، ولا يعتمروا عراة بعد حج عامهم هذا، عام تسع من الهجرة، حين أمر الصديق، ونادى علي بهذه السورة، وقال: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوف عريان» (3) . وقد دخل أبو سفيان مسجد المدينة لتجديد عقد صلح الحديبية، بعدما نقضته قريش، وكذلك دخل إليه وفد ثقيف، وربط ثمامة بن اثال في المسجد النبوي حينما أسر.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 278/5.
(2) الدر المختار: 274/5، شرح السير الكبير: 93/1، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 176/2، أحكام القرآن للجصاص: 88/3.
(3) رواه الشيخان.(4/235)
وأجاز المالكية (1) لغير المسلم دخول الحرم المكي، دون البيت الحرام، بإذن أو أمان. ولا يجوز عندهم مطلقاً دخول الكافر مسجداً، ولا يمكَّن من دخوله، إلا لعذر، كالدخول للتقاضي أمام الحاكم المسلم، قياساً على منعه من دخول المسجد الحرام؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة في كل مشرك، والحرمة موجودة في كل مسجد.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : يمنع غير المسلم، ولو لمصلحة من دخول حرم مكة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة:28/9] وقد ورد في الأثر: «الحرم كله مسجد» (3) . ويجوز عندهم للكافر لحاجة دخول المساجد الأخرى غير المسجد الحرام، بإذن المسلمين؛ لأن نص الآية في المسجد الحرام، والأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد في الشرع ما يخالف هذا الأصل، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم عليه وفد أهل الطائف، فأنزلهم في المسجد قبل إسلامهم. وقال سعيد بن المسيب: قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة، وهو على شركه. وقدم عمير بن وهب، فدخل المسجد، والنبي صلّى الله عليه وسلم فيه ليفتك به، فرزقه الله الإسلام.
سابعاً ـ الاحتكار:
معناه: الاحتكار: هو الادخار للبيع، وطلب الربح بتقلّب الأسواق، أما الادخار للقوت فليس من الاحتكار. هذا تعريف المالكية (4) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 381/3، الخرشي: 144/3، ط ثانية، أحكام القرآن لابن العربي: 901/2، مذكرة تفسير آيات الأحكام للسايس: 22/3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 247/4، تفسير ابن كثير: 346/2، الإفصاح لابن هبيرة: ص448، المغني: 531/8-532.
(3) قال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} .
(4) المنتقى على الموطأ: 15/5 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 255 ومابعدها.(4/236)
وعرفه الحنفية (1) بقولهم: الاحتكار لغة مصدر حكر أي حبس فهو احتباس الشيء انتظاراً لغلائه، والمراد به شرعاً: حبس الأقوات متربصاً للغلاء. أو هو اشتراء طعام ونحوه، وحبسه إلى الغلاء أربعين يوماً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه، وأيُّما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله» (2) .
وعرفه الشافعية (3) بأنه: إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة. بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص، لا يحرم مطلقاً، ولاإمساك غلة ضيعته، ولا ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله، أو ليبيعه بمثل ما اشتراه.
وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفايته وكفالة عياله سنة وجهان: أوجههما ـ عدم الكراهة، لكن الأولى بيعه.
وقال الحنابلة (4) : الاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
1ً - أن يكون بطريق الشراء، لا الجلب، فلو جلب شيئان، أو أدخل من غلته شيئاً، فادخره، لم يكن محتكراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون» (5) .
2ً - أن يكون المشترى قوتاً أي من الحبوب المقتاتة ونحوها؛ لأنه مما تعم الحاجة إليه. أما الإدام والحلواء والعسل والزيت وأعلاف البهائم، فليس فيها احتكار محرم.
3ً - أن يُضيَّق على الناس بشرائه بأمرين: أحدهما ـ بأن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار، كالحرمين والثغور، أما البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب كبغداد ودمشق ومصر، فلا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالباً.
__________
(1) العناية شرح الهداية بهامش تكملة الفتح: 126/8، رد المحتار: 282/5، البدائع: 129/5، تبيين الحقائق: 27/6، اللباب: 166/4.
(2) رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبو يعلى الموصلي والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم عن ابن عمر (نصب الراية: 262/4، نيل الأوطار: 221/5) .
(3) مغني المحتاج: 38/2، سبل السلام: 25/3.
(4) المغني: 221/4.
(5) أخرجه ابن ماجه وابن راهويه والدارمي وعبد بن حميد وأبو يعلى الموصلي والبيهقي عن عمر بن الخطاب (نصب الراية: 261/4) .(4/237)
والثاني ـ أن يكون في حال الضيق: بأن يدخل البلد قافلة فيبادر ذوو الأموال لشرائها، ويضيقون على الناس، وفي هذا لا فرق بين البلد الصغير والكبير. أما الشراء في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد، فليس بمحرم.
متى يتحقق الاحتكار وما نوع المحتكَر؟
يظهر من تعاريف الفقهاء للاحتكار: أنهم اتفقوا على أن الاحتكار يكون في حال الضيق والضرورة لا في وقت السعة، وفي البلد الصغير عادة، ومن طريق الشراء والامتناع عن البيع مما يضر بالناس؛ لأن في الحبس ضرراً بالمسلمين. ولا يكون محتكراً بحبس غلة أرضه بلا خلاف لأنه خالص حقه، ولا ما جلبه من بلد آخر؛ لأن حق الناس بالموجود في البلد، والمختار عند الحنفية قول محمد وهو إن كان يجلب منه عادة كره تحريماً حبسه؛ لأن حق الناس تعلق به.
واتفق الفقهاء أيضاً على أن الاحتكار حرام في كل وقت في الأقوات أو طعام الإنسان، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز، والتين والعنب والتمر والزبيب واللوز ونحوها مما يقوم به البدن، لا العسل والسمن، واللحم والفاكهة.
وكذلك يحرم الاحتكار عند الحنفية والشافعية والحنابلة في طعام البهائم كتبن وفصفصة وهي الرطبة من علف الدواب. ويحرم الاحتكار أيضاً عند المالكية وأبي يوسف في غير الطعام في وقت الضرورة، لا في وقت السعة، فلا يجوز عندهم الاحتكار في الطعام وغيره، من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه الإنسان، أو كل ما أضر بالناس حبسه، قوتاً كان أو لا ولو ثياباً أو دراهم. وقال السبكي من الشافعية: إذا كان الاحتكار في وقت قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها إضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن إضرار فلا يخلو احتكار الأقوات من كراهة (1) .
ويخرج الطعام من بلد إلى غيره إذا أضر بأهل البلد.
__________
(1) نيل الأوطار: 222/5.(4/238)
والخلاصة: إن الجمهور خصوا الاحتكار بالقوتين (قوت الناس وقوت البهائم) نظراً للحكمة المناسبة للتحريم وهي دفع الضرر عن الناس، والأغلب في ذلك إنما يكون في القوتين، ومنعه المالكية مطلقاً.
المدة: إذا قصرت مدة الاحتباس لا تكون احتكاراً لعدم الضرر، وإذا طالت تكون احتكاراً لتحقق الضرر.
وقيل: يقدر طول المدة بأربعين ليلة للحديث السابق: «من احتكرطعاماً أربعين ليلة، فقد برئ من الله، وبرئ الله منه» . وقيل: بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير عاجل. وقيل: المدة للمعاقبة في الدنيا، وأما الإثم فيحل وإن قلت المدة.
حكم الاحتكار: للاحتكار أحكام أهمها ما يأتي:
1ً - الاحتكار ممنوع: وعبر أغلب الحنفية عن المنع بكراهته التحريمية، فقالوا: يكره الاحتكار في أقوات الآدميين، والبهائم، إذا كان ذلك في بلد يضر
الاحتكار بأهله، كما يكره تلقي الركبان، أو الجلب، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع (1) . فأما إذا كان لا يضر، فلا بأس به (2) .
وعبر الكاساني في البدائع عن منع الاحتكار بالحرمة (3) ، وهو متفق عليه مع تعبير الأئمة الآخرين: الاحتكار حرام.
وأدلة التحريم أحاديث كثيرة، منها ما ذكر سابقاً في البحث، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» «من احتكر حُكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ» «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم، كان حقاً على الله أن يقعده بُعْظم من النار ـ مكان عظيم من النار ـ يوم القيامة» «من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس» (4) .
2ً - بيع المال المحتكر: قال الحنفية (5) : يؤمر المحتكر من القاضي ببيع ما فضل عن قوته وقوت
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 166/5) وأخرج مسلم عن أبي هريرة: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب. وفي لفظ: لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشتراه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار» وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس: «لا تتلقوا الركبان، ولا يبيع حاضر لباد» (نصب الراية: 261/4) .
(2) تكملة الفتح، الدر المختار، اللباب، تبيين الحقائق: المكان السابق.
(3) البدائع، المكان السابق.
(4) روى الأول أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن المسيب، وروى الثاني والثالث أحمد عن معقل بن يسار، وعن أبي هريرة، وروى الرابع ابن ماجه عن عمر (نيل الأوطار: 220/5) .
(5) مراجعهم السابقة.(4/239)
أهله، فإن لم يفعل وأصر على الاحتكار، ورفع أمره إلى الحاكم مرة أخرى، وهو مصر عليه، وعظه الحاكم وهدده. فإن لم يفعل ورفع إليه أمره للمرة الثالثة، حبسه وعزره، زجراً له عن سوء صنعه، ويجبره القاضي على البيع، ويبيعه القاضي عليه جبراً عنه إذا امتنع عن بيع طعامه بالاتفاق بين الحنفية على الصحيح، ويكون البيع بسعر المثل.
وكذلك قال المالكية (1) : يباع الشيء المحتكر للمحتاج إليه بمثل ما اشتراه به، لا يزاد عنه شيء. وإن لم يعلم ثمنه، فبسعره يوم احتكاره.
وأضاف الحنفية (2) : لو خاف الحاكم على أهل بلد الهلاك، أخذ الطعام من المحتكرين، ووزعه عليهم، حتى إذا صاروا في سعة، ردوا مثله، وذلك للضرورة، ومن اضطر إلى مال غيره، وخاف الهلاك، تناوله بلا رضاه، ويضمن قيمته؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير، كما أبنت.
__________
(1) المنتقى على الموطأ: 17/5.
(2) الدر المختار: 283/5، البدائع: 129/5.(4/240)
ثامناً ـ التسعير:
المبدأ الاقتصادي في الإسلام هو الحرية الاقتصادية التي يراعي فيها المسلم حدود النظام الإسلامي، ومن أهمها العدالة والقناعة والتزام قواعد الربح الطيب الحلال بأن كان في حدود الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (1) .
وبناء عليه: الأصل عدم التسعير، ولا يسعر حاكم على الناس، وهذا متفق عليه بين الفقهاء.
والتزم الشافعية والحنابلة (2) هذا الأصل، فقال الحنابلة: ليس للإمام أن يسعر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون. وقال الشافعية: يحرم التسعير، ولو في وقت الغلاء، بأن يأمر الوالي السوقة ألا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا، للتضييق على الناس في أموالهم، وذلك لا يختص بالأطعمة. ولو سعَّر الإمام، عُزِّر مخالفه، بأن باع بأزيد مما سعر، لما فيه من مجاهرة الإمام بالمخالفة، وصح البيع، إذ لم يعهد الحجر على الشخص في ملكه أن يبيع بثمن معين.
وأجاز ابن الرفعة الشافعي وغيره التسعير في وقت الغلاء.
__________
(1) رواه الطبراني عن أبي السائب بلفظ: «دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» وورد في (نيل الأوطار: 164/5) : «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» .
(2) مغني المحتاج: 38/2، المغني: 217/4.(4/241)
واستدل ما نعو التسعير بحديث أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت، فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل، ولا يطلبني أحد بمَظْلَمة، ظلمتها إياه في دم، ولا مال» (1) فالنبي لم يسعر، ولو جاز، لأجابهم إليه، وعلل بكونه مظلمة، والظلم حرام، ولأنه ماله، فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما اتفق الجماعة عليه، ولأن في التسعير إضراراً بالناس، إذا زاد تبعه أصحاب المتاع، وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
وأجاز المالكية والحنفية (2) للإمام تسعير الحاجيات، دفعاً للضرر عن الناس، بأن تعدى أصحاب السلعة عن القيمة المعتادة تعدياً فاحشاً، فلا بأس حينئذ بالتسعير بمشورة أهل الرأي والبصر، رعاية لمصالح الناس والمنع من إغلاء السعر عليهم، والإفساد عليهم. ومستندهم في ذلك القواعد الفقهية: (لا ضرر ولا ضرار) و (الضرر يزال) و (يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام) .
ولا يجبر الناس على البيع، وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمبتاع، ولا يمنع البائع ربحاً، ولا يسوغ له منه ما يضر بالناس.
ويجب أن يختص التسعير في قول ابن حبيب المالكي بالمكيل والموزون مأكولاً كان أو غير مأكول، دون غيره من المبيعات التي لا تكال ولا توزن؛ لأن المكيل والموزون من المثليات يرجع فيه إلى المثل، وغير ذلك من القيميات يرجع فيه إلى القيمة، وتختلف أغراض الناس في الأعيان، فلا يمكن حمل الناس فيه على سعر واحد.
__________
(1) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الترمذي. وعن أبي سعيد مثله (نيل الأوطار: 219/5) .
(2) الدر المختار: 183/5، تبيين الحقائق: 28/6، البدائع: 129/5، تكملة الفتح: 127/8، اللباب: 167/4، المنتقى على الموطأ: 17/5-19، القوانين الفقهية: ص 255.(4/242)
وليس في التسعير مخالفة لنص الحديث السابق، وإنما هو تطبيق للنص نفسه، وفهم اجتهادي لمناطه وحكمته في الواقع، وتفسير له بالمعنى المناسب أو المصلحة المتبادرة إلى الفهم من ذات النص، لا من خارجه (1) . فامتناع الرسول من التسعير لا لكونه تسعيراً، وإنما لكون علة التسعير وهي ظلم التجار أنفسهم غير متوفرة، فهم كانوا يبيعون بسعر المثل، وإنما كان ارتفاع السعر ليس من قبل التجار، وإنما بسبب قانون العرض والطلب، فقد قل عرض البضاعة، فارتفع السعر. ولا تسعير إذا لم تدع الحاجة إليه، بأن كانت السلع متوفرة في الأسواق، وتباع بسعر المثل دون ظلم أو جشع (2) .
__________
(1) وكذلك أجاز المالكية تلقي الركبان إذا كثرت السلع واعتدلت الأسعار، وعلم البائع بسعر السوق، وباع بسعر المثل، أو أزيد منه. ويظل النهي عن تلقي الركبان قائماً معمولاً به إذا تضرر أهل السوق عامة ولم تتوفر السلع لهم، أو إذا جهل البائع نفسه بالأسعار، فتجب حينئذ رعاية المصلحة العامة، وحماية البائع نفسه.
(2) أصول الفقه للمؤلف: 815/2، ط دار الفكر.(4/243)
البَاب الثَّامن: الأُضحِية والعَقِيقَة
وفيه فصلان:
الفصل الأول ـ في الأضحية
الفصل الثاني ـ في العقيقة وأحكام المولود الفصل الأول
الأضحية
الكلام عن الأضحية في المباحث الستة الآتية:
المبحث الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها.
المبحث الثاني ـ شروطها (شروط إيجابها أو سنيتها، شروط صحتها، شروط المكلف بها) .
المبحث الثالث ـ وقت التضحية.
المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به (نوعه، سنه، ما يجزئ عنه، صفاته) .
المبحث الخامس ـ آداب التضحية ـ مندوباتها ومكروهاتها، وما يسن لمريد التضحية.
المبحث السادس ـ أحكام لحوم الضحايا ـ الأكل والتوزيع.
المبحث الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها وحكمها:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ تعريف الأضحية ومشروعيتها:
الأضحية لغة: اسم لما يضحى به، أو لما يذبح أيام عيد الأضحى، فالأضحية ما يذبح في يوم الأضحى. وفقهاً: هي ذبح حيوان مخصوص بنية القربة في وقت مخصوص (1) . أو هي ما يذبح من النَّعَم تقرباً إلى الله تعالى في أيام النحر (2) .
وقد شرعت في السنة الثانية من الهجرة كالزكاة وصلاة العيدين، وثبتت مشروعيتها بالكتاب والسنة والإجماع (3) .
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فصلّ لربك وانحر} [الكوثر:2/108] (4) {والبدنَ جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/22] أي من أعلام دين الله.
وأما السنة فأحاديث، منها حديث عائشة: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً» (5) .
ومنها حديث أنس قال: «ضحى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، أقرنين، فرأيته واضعاً قدميه على صِفَاحها، يُسمِّي ويكبِّر، فذبحهما بيده» (6) .
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية. ودلت الأحاديث على أنها أحب الأعمال إلى الله يوم النحر، وأنها تأتي يوم القيامة على الصفة التي ذبحت عليها، ويقع دمها بمكان من القبول قبل أن يقع على الأرض، وإنها سنة إبراهيم لقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات:107/37] .
__________
(1) الدر المختار: 219/5، تبيين الحقائق: 2/6، تكملة الفتح: 66/8.
(2) شرح الرسالة: 366/1، مغني المحتاج: 282/4، حاشية الباجوري على ابن قاسم: 304/2، كشاف القناع: 615/2.
(3) المغني: 617/8، مغني المحتاج: المكان السابق، المهذب: 237/1، كشاف القناع: 17/3.
(4) أشهر الأقوال: أن المراد بالصلاة صلاة العيد، وبالنحر: الضحايا.
(5) رواه الحاكم وابن ماجه والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب. وجاء في لفظ: «أحب إلى الله من هراقة دم وإنه ليأتي..» (نيل الأوطار: 108/5) .
(6) رواه الجماعة، ورواه أحمد أيضاً عن عائشة (نيل الأوطار: 119/5، 121) ، والأملح: الأبيض الخالص، أو بياضه أغلب من سواده، والأقرن: الذي له قرنان معتدلان. والصفحة: جانب العنق. وإنما فعل ذلك ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه من إكمال الذبح، أو تؤذيه.(4/244)
والحكمة من تشريعها: هو شكر الله على نعمه المتعددة، وعلى بقاء الإنسان من عام لعام، ولتكفير السيئات عنه: إما بارتكاب المخالفة، أو نقص المأمورات، وللتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم، فلا يجزئ فيها دفع القيمة، بخلاف صدقة الفطر التي يقصد منها سد حاجة الفقير. ونص الإمام أحمد على أن الأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها.
المطلب الثاني ـ حكم الأضحية:
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية، هل هي واجبة أو هي سنة؟
فقال أبو حنيفة وأصحابه: إنها واجبة مرة في كل عام على المقيمين من أهل الأمصار، وذكر الطحاوي وغيره: أن على قول أبي حنيفة: واجبة، وعلى قول الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) : سنة مؤكدة (1) .
__________
(1) تكملة فتح القدير: 67/8، اللباب شرح الكتاب: 232/3، تبيين الحقائق: 2/6، البدائع: 62/5.(4/245)
وقال غير الحنفية (1) : إنها سنة مؤكدة غير واجبة، ويكره تركها للقادر عليها. وذلك عند المالكية على المشهور لغير الحاج بمنى. والأكمل عندهم للقادر أن يضحي عن كل شخص عنده أضحية، فإن أراد إنسان أن يضحي بنفسه عن كل من عنده ممن تجب عليه نفقته جاز في المذهب. وهي عند الشافعية سنة عين للمنفرد في العمر مرة، وسنة كفاية إن تعدد أهل البيت، فإذا فعلها واحد من أهل البيت، كفى عن الجميع.
ودليل الحنفية على الوجوب: هو قوله عليه السلام: «من وجد سعة، فلم يضح، فلا يقربن مصلانا» (2) قالوا: ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، ولأن الأضحية قربة يضاف إليها وقتها، يقال: يوم الأضحى وذلك يؤذن بالوجوب؛ لأن الإضافة للاختصاص، والاختصاص بوجود الأضحية فيه، والوجوب هو المفضي إلى الوجود في الظاهر بالنسبة لمجموع الناس.
واستدل الجمهور على السنية للقادر عليها بأحاديث:
منها حديث أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة: وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» (3) ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
ومنها حديث ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هن علي
__________
(1) بداية المجتهد: 415/1، القوانين الفقهية: ص 186، الشرح الكبير: 118/2، مغني المحتاج: 282/4 ومابعدها، المهذب: 237/1، المغني: 617/8، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 366/1.
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 108/5) .
(3) رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار: 112/5) .(4/246)
فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر وصلاة الضحى» (1) وروى الترمذي: «أمرت بالنحر وهو سنة لكم» .
ويؤيد ذلك أن الأضحية ذبيحة لم يجب تفريق لحمها، فلم تكن واجبة كالعقيقة. وضعف أصحاب الحديث حديث الحنفية، أو هو محمول على تأكيد الاستحباب كغسل الجمعة في حديث: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» (2) .
ويرشد إليه الأثر: «أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان، مخافة أن ترى الناس ذلك واجباً (3) والأصل عدم الوجوب» .
ودليل الشافعية على أن الأضحية سنة كفاية لكل بيت: حديث مِخْنَف بن سُلَيم قال: «كنا وقوفاً مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: يا أيها الناس، على كل أهل بيت في كل عام أضحية..» (4) ، ولأن الصحابة كانوا يضحون في عهده صلّى الله عليه وسلم، والظاهر اطلاعه، فلا يُنكر عليهم (5) . وقد ضحى النبي صلّى الله عليه وسلم بكبشين سمينين أقرنين أملحين، أحدهما عن أمته، والثاني عن نفسه وآله (6) .
ودليل الشافعية على أن الأضحية سنة عين للمنفرد في العمر مرة هو أن الأمر عندهم لا يقتضي التكرار (7) .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك، والدارقطني. وسكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني (نصب الراية: 206/4) .
(2) رواه السبعة: (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي سعيد الخدري (سبل السلام:87/1) .
(3) رواه البيهقي وغيره بإسناد حسن.
(4) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب (نيل الأوطار: 138/5) .
(5) ثبت هذا برواية ابن ماجه والترمذي وصححه عن عطاء بن يسار، وبرواية ابن ماجه عن الشعبي (نيل الأوطار: 120/5) .
(6) رواه ابن ماجه عن عائشة وأبي هريرة (نصب الراية: 215/4) .
(7) قرر الشافعية في أصولهم: أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا يفيد المرة، وإنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة، إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة، فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به (شرح الإسنوي: 43/2) .(4/247)
حالة تغير حكم الأضحية أو نوعا الأضحية:
الأضحية عند الحنفية نوعان: واجبة وتطوع (1) .
أما الواجبة: فهي أولاً ـ المنذورة كأن يقول المرء: لله علي أن أضحي شاة، أو بدنة (ناقة) أو هذه الشاة، أو هذه البدنة، أو جعلت هذه الشاة ضحية أو أضحية، سواء أكان القائل غنياً أم فقيراً.
وثانياً ـ المشتراة للأضحية إذا كان المشتري فقيراً. فإن اشترى فقير شاة بنية الأضحية، صارت واجبة؛ لأن الشراء للأضحية ممن لا أضحية عليه، يجري مجرى الإيجاب، وهو النذر بالتضحية عرفاً.
وثالثاً ـ المطلوبة من الغني دون الفقير في كل عيد، من غير نذر ولا شراء للأضحية، بل شكراً لنعمة الحياة، وإحياء لميراث الخليل عليه السلام حين أمره الله تعالى بذبح الكبش في أيام العيد، فداء عن ولده، ومطية على الصراط (2) ، ومغفرة للذنوب، وتكفيراً للخطايا.
وإن ولدت الأضحية ولداً يذبح ولدها مع الأم، وإن باعه يتصدق بثمنه، لأن الأم تعينت للأضحية.
وأما التطوع: فأضحية المسافر، والفقير الذي لم يوجد منه النذر بالتضحية، ولا الشراء للأضحية، لانعدام سبب الوجوب وشرطه.
وقال ابن جزي المالكي (3) : تتعين الأضحية وتصبح واجبة بالذبح اتفاقاً،
__________
(1) البدائع: 61/5-63، 78، الدر المختار: 227/5.
(2) ذكر الرافعي وابن الرفعة حديث: «عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم» لكن قال ابن الصلاح: إنه غير ثابت.
(3) القوانين الفقهية: ص 189.(4/248)
وبالنية قبله على خلاف في المذهب، وبالنذر إن عينها له اتفاقاً، فإذا قال: جعلت هذه أضحية، تعينت على أحد قولين، فإن ماتت فلا شيء عليه على كلا القولين، وإن باعها لزمه أن يشتري بثمنها كله أخرى.
لكن قال الدردير والدسوقي المالكيان (1) : المعتمد المشهور في المذهب: أن الأضحية لاتجب إلا بالذبح فقط، ولاتجب بالنذر. وقالا أيضاً: يندب ولايجب على المعتمد ذبح ولد الأضحية الذي ولد قبل ذبح أمه؛ لأن الأضحية لاتتعين عندهم إلا بالذبح، ولاتتعين بالنذر.
وقال الشافعية في الصحيح والحنابلة (2) : إن نوى الشراء للأضحية ولم يتلفظ بذلك لاتصير به أضحية؛ لأن إزالة الملك على سبيل القربة لاتحصل بذلك، وإنما تجب الأضحية إما بالنذر، مثل لله علي، أو علي أن أضحي بهذه الشاة، أو بالتعيين بأن يقول: هذه أضحية أو جعلتها أضحية، لزوال ملكه عنها بذلك. والجعل بمعنى النذر، فتصير واجبة، ويحرم حينئذ الأكل منها، ولايقبل القول بإرادة التطوع بها. فإن قال: أضحية إن شاء الله لم تتعين ولم تجب. وإشارة الأخرس المفهمة كنطق الناطق. ولايجوز تأخيرها للعام القابل، وتعين ذبحها وقت الأضحية.
وإن ولدت الأضحية المعينة أو المنذورة، فولدها تابع لها، يذبح معها، وحكمه حكمها، سواء أكان حملاً عند التعيين أم حدث بعده. ولايشرب صاحبها من لبنها إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء لم يكن له أخذه.
المبحث الثاني ــ شروط الأضحية:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ شروط إيجاب الأضحية أو سنيتها:
يشترط لإيجاب الأضحية عند الحنفية، أو سنيتها عند الأئمة الآخرين: القدرة عليها، فلا تطلب من العاجز عنهافي أيام عيد الأضحى.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته: 122/2، 125.
(2) مغني المحتاج: 283/4، 288، 291، المهذب: 240/1 ومابعدها، حاشية الباجوري: 305/2، المغني: 627/8 ومابعدها، كشاف القناع: 8/3.(4/249)
والمقصود بالقدرة عند الحنفية، هو اليسار أي يسار الفطرة (1) ، وهو أن يكون مالكاً مئتي درهم الذي هو نصاب الزكاة، أو متاعاً يساوي هذا المقدار زائداً عن مسكنه ولباسه، أو حاجته وكفايته هو ومن تجب عليه نفقتهم.
والقادر عليها عند المالكية (2) : هو الذي لا يحتاج إلى ثمنها لأمر ضروري في عامه. ولو استطاع أن يستدين استدان.
والمستطيع عليها عند الشافعية (3) : هو من يملك ثمنها زائداً عن حاجته وحاجة من يعوله يوم العيد وأيام التشريق، لأن ذلك وقتها، مثل زكاة الفطر، فإنهم اشترطوا فيها أن تكون فاضلة عن حاجته مَمونة يوم العيد وليلته فقط.
والقادر عليها عند الحنابلة (4) : هو الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدين، إذا كان يقدر على وفاء دينه.
__________
(1) الدر المختار: /222، اللباب: 232/3، تبيين الحقائق: 3/6.
(2) شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 367/1.
(3) حاشية الباجوري: 304/2.
(4) كشاف القناع: 18/3.(4/250)
المطلب الثاني ـ شروط صحة الأضحية:
يشترط لصحة الأضحية ما يأتي (1) :
1 - سلامة الحيوان المضحى به من العيوب الفاحشة التي تؤدي عادة إلى نقص اللحم أو تضر بالصحة، كالعيوب الأربعة المتفق على كونها مانعة من الضحية، وهي: العور البين، والمرض البين، والعرج، والعَجَف (الهُزال) ، فلا تجزئ العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضَلَعُها، والعجفاء (أو الكسير) التي لا تُنْقي، بنص الحديث (2) .
وسيأتي مزيد بيان للعيوب المانعة في المذاهب في مبحث الحيوان المضحى به.
2 - كون التضحية في وقت مخصوص: وهو عند الحنفية: أيام النحر ولياليها وهما ليلتان: ليلة اليوم الثاني: وهي ليلة الحادي عشر من ذي الحجة، وليلة يوم الثالث: وهي ليلة الثاني عشر، ولا تصح التضحية في ليلة عيد الأضحى: وهي ليلة العاشر من ذي الحجة، ولا في ليلة اليوم الرابع، لقول جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم: أيام النحر ثلاثة. وذكر الأيام يشمل ذكر الليالي لغة. ولكن يكره تنزيهاً الذبح ليلاً.
وسأوضح وقت الذبح في مبحث (وقت التضحية) .
واشترط المالكية أن يكون الذبح نهاراً، فلو ذبح ليلاً لم تصح أضحيته. والنهار بطلوع الفجر في غير اليوم الأول.
وأضاف المالكية شرطين آخرين هما (2) :
1 - إسلام الذابح: فلا تصح بذبح كافر، أنابه صاحب الأضحية فيه، ولو كان كتابياً، وإن جاز أكلها. ويستحب عند غير المالكية (3) ألا يذبح الأضحية إلا مسلم، ويكره أن يذبحها الذمي الكتابي، لأنها عمل هو قربة، وهو ليس من أهلها، فلو ذبحها بالنيابة عن المسلم جاز مع الكراهة.
2 - وعدم الاشتراك في ثمن الأضحية، فإن اشترك جماعة بالثمن أو كانت مملوكة شركة بينهم، فذبحوها ضحية عنهم، لم تجز عن واحد منهم. ويصح التشريك في الثواب قبل الذبح لا بعده، بين سبعة في بدنة أو بقرة لا شاة، بشروط ثلاثة على المشهور عندهم:
أن يكون قريباً له كابنه وأخيه وابن عمه، ويلحق به الزوجة.
وأن يكون ممن ينفق عليه، سواء أكانت النفقة واجبة عليه كأب وابن فقيرين، أم غير واجبة كالأخ وابن العم.
وأن يكون ساكناً معه في دار واحدة.
ويصح عند غير المالكية (4) الاشتراك في الأضحية إذا كانت من الإبل أو البقر، فيصح اشتراك سبعة في بقرة أو ناقة إذا ساهم كل واحد منهم بالسُبع. ولا يصح أكثر من سبعة، ولا المساهمة بأقل من السُبع.
__________
(1) البدائع: 73/5-75، الشرح الصغير للدردير: 141/2-144، القوانين الفقهية: ص186، مغني المحتاج: 286/4 ومابعدها، المغني: 623/8، 636 ومابعدها.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن البراء بن عازب وصححه الترمذي، ولفظ العجفاء عنده: وهي التي اشتد هزالها بحيث ذهب مخ أي دهن العظم. وعند غيره: الكسير، والضلع: هو العرج، ولا تنقي: أي لا نقْي لها أي لا مخ. قال النووي: وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء، وهي المرض والعجف والعور والعرج البينات لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح منها كالعمى وقطع الرجل وشبهه (نيل الأوطار: 115/5-117) .
(2) الشرح الصغير: 141/2 ومابعدها.
(3) الباب شرح الكتاب: 236/3، المهذب: 239/1، المغني: 640/8.
(4) تبيين الحقائق: 2/6-3، مغني المحتاج: 285/4، كشاف القناع: 618/2، المغني: 619/8.(4/251)
المطلب الثالث ـ شروط المكلف بالأضحية:
اتفق الفقهاء (1) على أن المطالب بالأضحية هو المسلم الحر البالغ العاقل المقيم المستطيع، واختلفوا في مطالبة المسافر والصغير بها.
أما المسافر: فقال الحنفية (2) : ليس عليه أضحية؛ لأن أبا بكر وعمر كانا لايضحيان إذا كانا مسافرين. وقال علي: «ليس على المسافر جمعة ولا أضحية» (3) ، ولأن أداءها يختص بأسباب تشق على المسافر، وتفوت بمضي الوقت، فلا تجب عليه لدفع الحرج عنه، كالجمعة.
وقال المالكية (4) : تسن الأضحية لغيرالحاج، لأن سنته الهدي (5) ، وغير الحاج تسن له الضحية مطلقاً، حاضراً في بلده أو مسافراً.
وقال الشافعية والحنابلة (6) : تسن الأضحية لكل مسلم، مسافر أو حاج أو غيرهما، «لأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى في منى عن نسائه بالبقر» رواه الشيخان. وبه يرد على القائل بأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وإن الذي ينحره بها هدي، لا أضحية.
والخلاصة أن غير الحنفية يقولون: تسن الأضحية للمسافر وغيره، وعند الحنفية: ليس عليه أضحية.
__________
(1) اللباب: 232/3، تكملة الفتح: 67/8، القوانين الفقهية: ص 186، الشرح الكبير: 118/2، مغني المحتاج: 283/4، كشاف القناع: 17/3.
(2) تكملة الفتح: 71/8، تبيين الحقائق: 3/6، الدر المختار: 222/5.
(3) قال الزيلعي عن كل من الأثرين: غريب (نصب الراية: 211/4) .
(4) الشرح الكبير: 118/2، القوانين الفقهية: ص 186، بداية المجتهد: 415/1.
(5) الهدي: ما يهدى إلى الحرام من النعم وغيرها، سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى.
(6) مغني المحتاج: 283/4، كشاف القناع: 17/3.(4/252)
وأما الصغير: فتجب عليه الأضحية من ماله على الأصح، في رأي الشيخين: أبي حنيفة وأبي يوسف، ويضحي عنه أبوه أو وصيه، ويأكل الصغير من أضحيته ما أمكنه، ويبتاع مما بقي ما ينتفع بعينه كالغربال والمنخل، لا ما يستهلك. ويذبح الولي عن كل واحد من أولاده الصغار شاة، أو يذبح ناقة أو بقرة عن سبعة، كما في صدقة الفطر.
وقال محمد وزفر: يضحي الولي من مال نفسه، لا من مال الصغير.
وفي ظاهر الرواية عند الحنفية، وهو الأظهر لدى بعضهم وعليه الفتوى (1) : إن الأضحية تستحب ولا تجب عن الولد الصغير، وليس للأب أن يفعله من مال الصغير؛ لأنها قربة محضة، والأصل في العبادات ألا تجب على أحد بسبب غيره، بخلاف صدقة الفطر؛ لأن فيها معنى المؤونة (2) ، والسبب فيها رأس يمونه (ينفق عليه) ويلي عليه. وهذا أرجح الآراء.
وكذلك قال المالكية (3) : تسن الأضحية للصغير.
__________
(1) الدر المختار: 222/5، تبيين الحقائق: 2/6-3، تكملة الفتح: 67/8، 70، اللباب:232/3 ومابعدها.
(2) المؤونة: هي الضريبة التي تؤدي إلى المحافظة على ما تؤدى عنه من نفس أو مال. فصدقة الفطر عبادة فيها معنى المؤونة، أما إنها عبادة فلأنها تقرب إلى الله بالتصدق على المحتاجين، وأما إنها مؤونة فلوجوبها عند الحنفية على المكلف بسبب غيره ممن يعوله، وله ولاية عليه كخادمه وابنه الصغير، كما تجب عليه نفقتها (أصول الفقه لنا: 153/1، ط دار الفكر) .
(3) الشرح الكبير: 118/2.(4/253)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا تسن الأضحية للصغير.
والخلاصة: إن الأضحية للصغير من مال وليه تستحب عند الحنفية والمالكية، ولا تستحب عند الشافعية والحنابلة.
ويشترط لجواز إقامة التضحية على المكلف بها (2) : نية الأضحية، فلا تجزئ الأضحية بدونها، لأن الذبح قد يكون للحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يقع قربة بدون النية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (3) وقوله: «لا عمل لمن لا نية له» .
قال الكاساني: والمراد منه عمل هو قربة، فلا تتعين الأضحية إلا بالنية. واشترط الشافعية والحنابلة: أن تكون النية عند ذبح الأضحية؛ لأن الذبح قربة في نفسه. ويكفيه أن ينوي بقلبه، ولا يشترط أن يتلفظـ بالنية بلسانه؛ لأن النية عمل القلب، والذكر باللسان دليل عليها.
واشترط الحنفية أيضاً: ألا يشارك المضحي فيما يصح فيه الشركة من لايريد القربة رأساً، وإنما أراد اللحم، فلو اشترك سبعة في بعير أو بقرة كلهم يريد القربة إلا واحداً منهم يريد اللحم، لا تجزئ الأضحية عن الجميع، لأن القربة في إراقة الدم، وذلك لا يتجزأ، لأنها فعل أو ذبح واحد.
وأجاز الشافعية (4) هذا الاشتراك، وللشركاء قسمة اللحم، لأنها قسمة إفراز على الأصح.
__________
(1) مغني المحتاج: 283/4، كشاف القناع: 17/3، قليوبي وعميرة على المحلي على المنهاج: 249/4.
(2) البدائع: 71/5، القوانين الفقهية: ص 187، مغني المحتاج: 289/4، كشاف القناع: 6/3.
(3) رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل رواه الجماعة عنه.
(4) مغني المحتاج: 285/4.(4/254)
المبحث الثالث ـ وقت التضحية:
للفقهاء خلافات جزئية في أول وقت التضحية وآخره، وفي كراهية التضحية في ليالي العيد.
لكنهم اتفقوا على أن أفضل وقت التضحية هو اليوم الأول قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أول مانبدأ به يومنا هذا: أن نصلي، ثم نرجع، فننحر، فمن فعل ذلك، فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النُسُك في شيء» (1) . إنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة، أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بالحديث السابق.
وأذكر آراء الفقهاء فيما اختلفوا فيه:
1 - قال الحنفية (2) : يدخل وقت التضحية عند طلوع فجر يوم الأضحى، ويستمر إلى قبيل غروب شمس اليوم الثالث، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار المطالبين بصلاة العيد الذبح في اليوم الأول إلا بعد أداء صلاة العيد، ولو قبل الخطبة، أو بعد مضي مقدار وقت الصلاة في حال تركها لعذر. وأما أهل القرى الذين ليس عليهم صلاة العيد، فيذبحون بعد فجر اليوم الأول.
وإن ضلت الشاة أو سرقت، فاشترى أخرى ثم وجدها فالأفضل ذبحهما، وإن ذبح الأولى جاز، وكذا الثانية لو قيمتها كالأولى أو أكثر.
وإذا أخطأ الناس في تعيين يوم العيد، فصلوا وضحوا، ثم بان لهم أنه يوم عرفة (الوقفة) ، أجزأتهم الصلاة والتضحية، لأنه لا يمكن التحرز عن مثل هذا الخطأ، فيحكم بالجواز، صيانة لجميع المسلمين.
وأيام الذبح ثلاثة: يوم العيد (النحر) ويومان بعده.
ويكره تنزيهاً الذبح ليلاً، لاحتمال الغلط في الذبح في ظلمة الليل، وذلك في الليلتين المتوسطتين: الثانية والثالثة، لا الأولى ولا الرابعة؛ لأنه لا تصح فيهما الأضحية أصلاً.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم (نصب الراية: 212/4) .
(2) البدائع: 73/5-75، تكملة فتح القدير: 72/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 4/6 ومابعدها، الدر المختار: 222/5-225، اللباب شرح الكتاب: 233/3 ومابعدها.(4/255)
ولو تركت التضحية حتى مضى وقتها، تصدق بها صاحبها حية إن كانت منذورة أوجبها على نفسه، أو مشتراة من فقير أو غني للأضحية؛ لأنها في حكم المنذورة عرفاً. وأما الغني إذا لم يشتر الأضحية، فيتصدق بقيمة شاة على الصحيح، كما في البدائع، وهو قول الإمام وصاحبيه؛ لأن الأضحية واجبة على الغني، وتجب على الفقير بالشراء بنية الأضحية.
ودليل الحنفية على جواز الذبح بعد الصلاة ولو قبل الخطبة: حديث البراء بن عازب المتقدم: «من ضحى قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين» وحديث أنس عند البخاري: «من ذبح قبل الصلاة، فليُعد، ومن ذبح بعد الصلاة، فقد تم نُسكُه، وأصاب سُنة المسلمين» فقد رتب النبي صلّى الله عليه وسلم الذبح على الصلاة، لا على الخطبة، فدل على أن العبرة للصلاة، لا للخطبة.
وأما دليلهم على تحديد الوقت بثلاثة أيام، فهو ما روي عن عمر وعلي وابن عباس أنهم قالوا: «أيام النحر ثلاثة، أفضلها أولها» (1) . وكان ابن عمر يقول: «الأضحى يومان بعد يوم الأضحى» (2) .
2 - وقال المالكية (3) : يبتدئ وقت التضحية لإمام صلاة العيد بعد الصلاة والخطبة، فلو ذبح قبلها لم يجز. وغير الإمام يذبح في اليوم الأول، بعد ذبح الإمام، أو مضي زمن قدر ذبح الإمام أضحيته إن لم يذبح الإمام، فإن ذبح أحد قبل الإمام متعمداً لم يجزئه، ويعيد ذبح أضحية أخرى، وعليه فلا جزئ الذبح قبل الصلاة، ولا قبل ذبح الإمام، إلا من تحرى أقرب إمام ولم يبرز أضحيته وظن أنه ذبح فسبقه، أجزأه ذلك. وإن تأخر الإمام بعذر شرعي انتظره إلى قرب الزوال بحيث يبقى قدر ما يذبح قبله لئلا يفوته الوقت الأفضل.
ودليلهم أن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر (4) أمر من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي، مما يدل على أنه لا ذبح قبل ذبح الإمام.
ودل حديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي (5) على أن الذبح يكون بعد الصلاة: «من كان ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح، حتى صلينا، فليذبح باسم الله» وفي غير اليوم الأول ـ وهو الثاني والثالث يدخل وقت الذبح بطلوع الفجر، لكن يندب التأخير لارتفاع الشمس. وإذا لم يضح المسلم قبل زوال الشمس يوم النحر، الأفضل أن يضحي بقية النهار، وإن فاته ذلك في
__________
(1) قال الزيلعي عنه: غريب جداً (نصب الراية: 213/4) .
(2) رواه مالك في الموطأ. وفيه أيضاً أنه بلغه أن علي بن أبي طالب كان يقول مثل ذلك (المرجع السابق) .
(3) الشرح الكبير: 120/2،122، بداية المجتهد: 421/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 186 وما بعدها.
(4) رواه أحمد ومسلم.
(5) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 123/5) .(4/256)
اليوم الثاني فالأفضل أن يؤخر إلى ضحى اليوم الثالث، وإن فاته التضحية في اليوم الثالث، فيضحي بعد الزوال، لأنه ليس له وقت ينتظر.
ويستمر وقت الذبح لآخر (أي مغيب شمس) اليوم الثالث من أيام النحر، أي كما قال الحنفية، وهو رأي الحنابلة أيضاً كما سيأتي؛ لأن المشهور في تفسير (الأيام المعلومات) : أنها يوم النحر ويومان بعده، في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:28/22] .
3 - وقال الشافعية (1) : يدخل وقت التضحية بمضي قدر ركعتين وخطبتين خفيفات بعد طلوع شمس يوم النحر، ثم ارتفاعها في الأفق كرمح (2) على الأفضل وهو بدء وقت صلاة الضحى، فإن ذبح قبل ذلك لم تقع أضحية لخبر الصحيحين عن البراء بن عازب المتقدم: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع، فننحر..» ويستثنى من ذلك ما لو وقف الحجاج بعرفة في الثامن غلطاً، وذبحوا في التاسع، ثم بان الخطأ، أجزأهم في رأي ضعيف تبعاً للحج (3) .
ويمتد وقت الذبح ليلاً ونهاراً إلى آخر أيام التشريق، وهي ثلاثة عند الشافعي رحمه الله بعد العاشر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عرفة كلها موقف، وأيام التشريق كلها منحر» (4) وفي رواية لابن حبان: «في كل أيام التشريق ذبح» (5) .
__________
(1) مغني المحتاج: 287/4 وما بعدها، المهذب: 237/1، المحلي على المنهاج: 252/4 ومابعدها، نهاية المحتاج: 6/8.
(2) الرمح: عود طويل في رأسه حربة.
(3) هذا إنما يأتي على رأي مرجوح عند الشافعية، وهو أن الحج يجزئ، والأصح أنه لا يجزئ، فكذا الأضحية.
(4) رواه البيهقي، وصححه ابن حبان.
(5) ورواه أحمد والدارقطني: «كل أيام التشريق ذبح» وهو دليل على أن أيام التشريق كلها أيام ذبح وهي يوم النحر، وثلاثة أيام بعده (نيل الأوطار: 125/5) وقال الأئمة الثلاثة غير الشافعية: يومان بعده.(4/257)
لكن يكره الذبح والتضحية ليلاً للنهي عنه، إما خوفاً من الخطأ في المذبح، أو لأن الفقراء لا يحضرون للأضحية بالليل، كحضورهم بالنهار.
ومن نذر أضحية معينة، فقال: لله علي أن أضحي بهذه البقرة مثلاً، لزمه ذبحها وقت الأضحية المذكور هنا، ولا يجوز تأخيرها للعام القابل، فإن تلفت قبل وقت الأضحية أو فيه قبل التمكن من ذبحها، فلا شيء عليه لعدم تقصيره وهي في يده أمانة. وإن أتلفها لزمه أن يشتري بقيمتها مثلها ويذبحها فيه، أي وقت التضحية المذكور.
4 - وقال الحنابلة (1) : يبدأ وقت الذبح من نهار الأضحى بعد مضي قدر صلاة العيد والخطبتين في أخف ما يكون كما قال الشافعية، والأفضل أن يكون الذبح بعد الصلاة وبعد الخطبة وذبح الإمام إن كان، خروجاً من الخلاف، لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم، فإن فاتت صلاة العيد بالزوال، لعذر أو غيره، ضحى المضحي عند الزوال، فما بعده، لفوات التبعية بخروج وقت الصلاة.
__________
(1) المغني: 636/8 ومابعدها، كشاف القناع: 6/3.(4/258)
وإن ذبح قبل الصلاة لم يجزئه، ولزمه في الأضحية الواجبة بنذر أو تعيين البدل، لأنها نسيكة واجبة ذبحها قبل وقتها، فلزمه بدلها. والذبح في اليوم الثاني في أول النهار؛ لأن الصلاة فيه غير واجبة.
ويستمر وقت الذبح إلى آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، أي أن أيام النحر ثلاثة: يوم العيد، ويومان بعده، كما قال الحنفية والمالكية.
والأفضل الذبح في النهار، ويجوز في الليل مع الكراهة، للخروج من الخلاف، روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن الذبح بالليل» (1) ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب، فلا يفرق طازجاً طرياً، فيفوت بعض المقصود.
وإذا فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء، وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته. وهو مخير في التطوع، فإن فرق اللحم، كانت القربة بذلك دون الذبح؛ لأنها شاة لحم، وليست أضحية.
وإذا وجبت الأضحية بإيجاب صاحبها، فضلَّت أو سرقت بغير تفريط منه، فلا ضمان عليه؛ لأنها أمانة في يده، فإن عادت إليه، ذبحها، سواء أكان في زمن الذبح، أم فيما بعده.
المبحث الرابع ـ الحيوان المضحى به:
وفيه مطالب أربعة:
المطلب الأول ـ نوع الحيوان المضحى به:
اتفق العلماء على أن الأضحية لا تصح إلا من نَعم: إبل وبقر (ومنها الجاموس) وغنم (ومنها المعز) بسائر أنواعها، فيشمل الذكروالأنثى، والخصي والفحل، فلا يجزئ غير النعم من بقر الوحش وغيره، والظباء وغيرها، لقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:34/22] ولم ينقل عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه التضحية بغيرها،
__________
(1) أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وفي إسناده متروك، ورواه البيهقي مرسلاً عن الحسن (نيل الأوطار:126/5) .(4/259)
ولأن التضحية عبادة تتعلق بالحيوان، فتختص بالنَّعَم كالزكاة (1) .
والمولود من الأنعام وغيرها، كالمتولد من الأهلي والوحشي يتبع الأم؛ لأنها هي الأصل في التبعية، هذا رأي الحنفية والمالكية.
وقال الشافعية: المتولد بين جنسين من النعم يجزئ في الأضحية، ويعتبر أعلى الأبوين سناً، فلا بد من بلوغه سنتين إذا كان متولداً بين الضأن والمعز. وقال الحنابلة: لا يجزئ المتولد من أهلي ووحشي.
واختلف الفقهاء في الأفضل من أنواع الحيوان على رأيين:
فقال المالكية: الأفضل الضأن، ثم البقر، ثم الإبل، نظراً لطيب اللحم، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله خيراً منه لفدى إسحاق (أو إسماعيل) به.
وعكس الشافعية والحنابلة فقالوا: أفضل الأضاحي: الإبل، ثم البقر، ثم الضأن، ثم المعز. نظراً لكثرة اللحم، ولقصد التوسعة على الفقراء، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن..» (2) .
ورأي الحنفية: الأكثر لحماً هو الأفضل.
__________
(1) البدائع: 69/5، اللباب: 235/3، الدر المختار: 226/5، تبيين الحقائق: 7/6، تكملة الفتح: 76/8، الشرح الكبير: 118/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 416/1، مغني المحتاج: 284/4، المغني: 619/8 ومابعدها، 623، كشاف القناع: 615/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 188، المهذب: 238/1.
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 237/3) .(4/260)
وتفصيل عبارات المذاهب ما يأتي:
قال الحنفية (1) : «الأصل أنه إذا استويا في اللحم والقيمة، فأطيبهما لحماً أفضل. وإذا اختلفا فيهما فالفاضل أولى» فالشاة أفضل من سبع البقرة إذا استويا في القيمة واللحم، وإن كان سبع البقرة أكثر لحماً فهو أفضل. والكبش أفضل من النعجة إذا استويا فيهما، وإلا فهي أفضل، والأنثى من المعز أفضل من التيس إذا استويا قيمةولم يكن خصياً (2) . والأنثى من الإبل والبقر أفضل إذا استويا؛ لأن لحمها أطيب. وعلى هذا فالذكر الخصي أفضل، وإلا فالأنثى، والأبيض الأقرن أفضل من غيره.
وقال المالكية (3) : الأفضل الغنم: فحله، فخصيه، فأنثاه، ثم المعز، ثم البقر، ثم الإبل، لطيب اللحم. فالذكور عندهم أفضل من الإناث مطلقاً، والأبيض أفضل من الأسود، ويوافقهم الشافعية والحنابلة في تفضيل الأبيض على الأسود.
وعبارة الشافعية والحنابلة (4) : أفضل الأضاحي: البعير أو البدنة لأنه أكثر لحماً، ثم بقرة؛ لأن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة غالباً، ثم ضأن، ثم معز، لطيب الضأن على المعز، وبعد المعز: المشاركة في بقرة أو بدنة، فسبع شياه أفضل من
__________
(1) الدر المختار وحاشيته: 226/5 ومابعدها، 233، البدائع: 80/5.
(2) فإن كان خصياً أي موجوءاً ـ مرضوض الأنثيين: مدقوقهما، فالذكر في الضأن والمعز أفضل. وقد ثبت في رواية أحمد عن أبي رافع قال: «ضحى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين خصيين» والموجوء: منزوع الأنثيين (نيل الأوطار: 119/5) وقال الزيلعي في نصب الراية: 215/4: روي أيضاً من حديث جابر وعائشة وأبي هريرة وأبي الدرداء.
(3) الشرح الكبير: 121/2، القوانين الفقهية: ص 188.
(4) مغني المحتاج: 285/4 ومابعدها، المهذب: 238/1، المغني: 621/8 ومابعدها، كشاف القناع: 615/2 ومابعدها.(4/261)
بعير أو بقرة؛ لأن لحم الغنم أطيب، وشاة أفضل من مشاركة في بعير إذا تساويا في القدر، للانفراد بإراقة الدم وطيب اللحم. فإن كان سبع البعير أكثر قدراً، كان أفضل.
والكبش أفضل الغنم، لأنه أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أطيب لحماً (1) ، وجذع الضأن أفضل من ثني المعز، لطيب اللحم، ولأنه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم أو نعمت الأضحية: الجَذَع من الضأن» (2) أي قبل الثني.
والذكر عند الشافعية أفضل على الأصح من الأنثى؛ لأن لحمه أطيب، والخصي أفضل من النعجة عند الحنابلة؛ لأن لحمه أوفر وأطيب. والفحل في المذهبين أفضل من الخصي.
والسمينة أفضل من غير السمينة، لقول الله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/22] قال ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها. وهذا متفق عليه بين الفقهاء.
والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين، والأملح: الأبيض. وبه يكون ترتيب الألوان في مذهبي الشافعية والحنابلة ما يأتي، وهو متفق عليه بين الفقهاء:
البيضاء أفضل، ثم الصفراء، ثم العفراء (وهي التي لايصفو بياضها أوليس بناصع) ، ثم الحمراء ثم البلقاء (مختلط البياض والسواد) ثم السوداء (3) ، روى أحمد والحاكم خبر أبي هريرة: «دم ُعفراءَ أحب إلى الله من دم سوداوين» .
__________
(1) وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير الأضحية الكبش الأقرن» .
(2) حديث غريب رواه الترمذي وأحمد عن أبي هريرة (نصب الراية: 216/4) والجذع لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقرة والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة.
(3) والترجيح بين الألوان: قيل: للتعهد، وقيل لحسن المنظر، وقيل: لطيب اللحم.(4/262)
المطلب الثاني - سن الحيوان المضحى به:
اتفق الفقهاء على جواز التضحية بالثَّنِيّ فما فوقه من الإبل والبقر والغنم. واختلفوا في الجَذَع (1) من الضأن، فقال الحنفية والحنابلة (2) : يجزئ الجذع العظيم أو السمين من الغنم ابن ستة أشهر ودخل في السابع، وهو رأي بعض المالكية (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يجزئ الجذع من الضأن أضحية» (4) . وبيَّن الحنفية حالة سمنه بما إذا خلط بالثنايا يشتبه على الناظر من بعيد، فلا يمكن تمييزه مما له سنة.
والفرق بين جذع الضأن والمعز: أن جذع الضأن ينزو، فيلقح، بخلاف الجذع من المعز. ويعرف كونه قد أجذع بنمو الصوف على ظهره.
وقال الشافعية والمالكية على الراجح عندهم (5) : يجزئ الجذع من الضأن إذا أتم السنة الأولى، ودخل في الثانية، لخبر أحمد وغيره: «ضحوا بالجذع من الضأن، فإنه جائز» (6) .
وأما أسنان بقية الأنعام المجزئة في الأضحية عند الفقهاء فهي ما يأتي (7) :
__________
(1) الجذع قبل الثني: وهو الشاب الحدث، يقال لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة. والثني: الذي يلقي ثنيته. ويكون ذلك في البقر والحافر في السنة الثالثة، وفي الإبل في السنة السادسة.
(2) البدائع:70/5، كشاف القناع: 616/2، المغني: 623/8.
(3) القوانين الفقهية: ص 188.
(4) رواه ابن ماجه وأحمد عن أم بلال بنت هلال عن أبيها (نيل الأوطار: 114/5) .
(5) الشرح الكبير: 119/2، بداية المجتهد: 419/1، مغني المحتاج: 284/4، المهذب: 238/1.
(6) روى النسائي عن عقبة بن عامر أنه ضحى مع الرسول بالجذع من الضأن، وروى أحمد والشيخان أنه أذن لعقبة بن عامر بالأضحية بالجذع (نيل الأوطار: 114/5) .
(7) المراجع السابقة في هذا المطلب لكل مذهب.(4/263)
قال الحنفية: المعز: ما أتم سنة وطعن (دخل في الثانية) ، والبقر والجاموس ما أتم سنتين ودخل في الثالثة، والإبل: ما أتم خمس سنوات، ودخل في السادسة.
وقال المالكية: المعز: ابن سنة عربية ودخل في الثانية دخولاً بيناً كشهر، بخلاف الضأن، فيكفي فيه مجرد الدخول. والبقر والجاموس: ابن ثلاث سنين، ودخل في الرابعة مجرد دخول، والإبل ابن خمس سنوات ودخل في السادسة.
وقال الشافعية: شرط إبل أن يطعن في السنة السادسة، وبقر ومعز في السنة الثالثة، وضأن في السنة الثانية.
وقال الحنابلة: المعز ابن سنة كاملة، والبقر ما له سنتان كاملتان، والإبل: ماكمل خمس سنين.
وبه يظهر لدينا أن فقهاء المذاهب اتفقوا على تحديد سن الإبل بخمس، واختلفوا في البقر على رأيين، فعند الحنفية والحنابلة والشافعية: ما له سنتان. وعند المالكية: ما له ثلاث سنين. كما اختلفوا في المعز: فعند غير الشافعية: ما له سنة كاملة. وعند الشافعية: ما له سنتان كاملتان.
المطلب الثالث - قدر الحيوان المضحى أو مايجزئ عنه:
اتفق الفقهاء (1) على أن الشاة والمعز لا تجوز أضحيتهما إلا عن واحد، وتجزئ البدنة أو البقرة عن سبعة أشخاص، لحديث جابر: «نحرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحديبية: البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (2) . وفي لفظ مسلم: «خرجنا مع
__________
(1) البدائع:70/5، تبيين الحقائق: 3/6، تكملة الفتح: 76/8، الدر المختار: 222/5، القوانين الفقهية: ص 186، بداية المجتهد: 420/1، الشرح الكبير: 119/2، مغني المحتاج: 285/4، 292، المهذب: 238/1، المغني: 619/8 وما بعدها، كشاف القناع: 617/2.
(2) أخرجه الجماعة (نصب الراية: 209/4) .(4/264)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل، والبقر، كل سبعة منا في بدنة» (1) .
وأجاز الحنابلة أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة، أو بقرة، أو بدنة، عملاً بما رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبش عن محمد وآل محمد، وضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن محمد وأمته (2) ، وروى ابن ماجه والترمذي وصححه عن أبي أيوب: «كان الرجل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون ... » .
وكذلك أجاز المالكية أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحياً، عن نفسه وعن أهل بيته، ولو زادوا عن سبعة إذا كان الاشتراك في الثواب قبل الذبح بشروط ثلاثة: أن يكون قريباً له، ينفق عليه، وساكناً معه، وقد بينتها في شروط صحة الأضحية.
وقال الشافعية أيضاً: تضحية واحد من أهل البيت تحصل به سنة الكفاية، وإن لم يصدر من بقيتهم إذن.
المطلب الرابع ـ أوصاف الحيوان المضحى:
صفات الحيوان المضحى به أو الأضحية ثلاثة أنواع: مستحبة، ومانعة الإجزاء، ومكروهة.
__________
(1) استنبط الشافعية من هذا الحديث خلافاً للحنفية كما بينت جواز الاشتراك بين من يريد القربة ومن لا يريدها، فقالوا: وظاهره أنهم لم يكونوا من أهل بيت واحد، وسواء اتفقوا في نوع القربة أم اختلفوا كما إذا قصد بعضهم التضحية، وبعضهم الهدي، وبعضهم اللحم، ولهم قسمة اللحم، لأن قسمته قسمة إفراز على الأصح.
(2) رواه أبو داود.(4/265)
فأما الصفات المستحبة في الأضحية باتفاق الفقهاء (1) : فهي أن تكون كبشاً سميناً أقرن أملح (أبيض) فحلاً ـ هو أفضل من الخصي عند الجمهور، أو خصياً (موجوءاً) هو أفضل من الفحل عند الحنفية؛ لأن الكبش كما تقدم هو أفضل أجناس الغنم. وهذا الاستحباب عند الشافعية والحنابلة هو في حالة تفضيل الكبش عن سبع البدنة أو البقرة.
والسبب في استحباب هذه الصفات هو أنها صفات أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم، كما ثبت في أحاديث جابر وعائشة وأبي هريرة وأبي رافع، وأبي الدرداء الدالة على جواز التضحية بالخصي، وهي دليل الأفضل عند الحنفية، وحديث أبي سعيد الدال على التضحية بالفحل (2) ، ونصه: «ضحى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويمشي في سواد، وينظر في سواد» (3) وهو دليل الأفضل عند الجمهور.
وأما الصفات المانعة الإجزاء: فهي ـ كما تقدم في بحث الشروط ـ أربعة باتفاق الفقهاء: وهي العور البيِّن، والمرض البين، والعرج، والعجف (الهزال) . ودليلهم حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّن عَوَرُها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن ضَلَعها، والكسير (أو العجفاء) التي لا تُنْقي» (4) .
وأضاف الفقهاء عيوباً أخرى بالقياس على هذه الأربعة، هي في معناها، أو أقبح منها، كالعمى وقطع الرجل، لما يترتب على ذلك من نقص اللحم، ويكون الحديث من باب الخاص الذي أريد به العموم.
__________
(1) البدائع: 80/5، القوانين الفقهية: ص 188، مغني المحتاج: 285/4 ومابعدها، المغني: 621/8، كشاف القناع: 617/2.
(2) راجع نصب الراية: 215/4 وما بعدها، نيل الأوطار: 118/5 وما بعدها.
(3) رواه أحمد وصححه والترمذي وابن حبان، وهو على شرط مسلم، ومعناه: أن فمه أسود، وقوائمه وحول عينيه سواد (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(4) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي، وفيه دليل على أن متبينة العور والعرج (الضلع) والمرض لا يجوز التضحية بها، إلا ما كان من ذلك يسيراً غير بيِّن، وكذلك الكسير التي لا نقي لها (أي لا مخ لها) ، وفي رواية الترمذي والنسائي «والعجفاء) بدل «الكسير» (نيل الأوطار:115/5-117) فالعجفاء: هي المهزولة التي لا مخ في عظامها.(4/266)
فصارت العيوب عند الحنفية (1) ما يأتي:
لا يضحى بالعمياء (الذاهبة العينين) ، والعوراء (الذاهبة عيناً) ، والعرجاء (العاطلة إحدى القوائم، وهي التي لا تمشي إلى المذبح) ، والعجفاء (المهزولة التي لا مخ في عظامها) ، والهتماء (التي لا أسنان لها، ويكفي بقاء الأكثر) ، والسَّكاء (التي لا أذن لها خلقة، فلو كان لها أذن صغيرة خلقة أجزأت) ، والجَذَّاء (مقطوعة رؤوس ضرعها، أو يابستها) ، والجَدْعاء (مقطوعة الأنف) ، والمصرَّمة حلمات الضرع (التي عولجت حتى انقطع لبنها) ، والتي لا ألية لها، والخنثى (لأن لحمها لا ينضج) ، والجلاَّلة (التي تأكل العذرة ـ الغائط ـ دون غيرها) ، ومقطوعة أكثر من ثلث الأذن أو الذنَب أو الألْية، أو التي ذهب أكثر نور عينها (لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهاباً، فيكفي بقاء الأكثر، ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه، فجعل عفواً) . وهذه العيوب تمنع من صحة الأضحية إذا كانت قائمة وقت الشراء. أما لو اشتراها سليمة ثم تعيبت، بعيب مانع: فإن كان غنياً غيّرها، وإن كان فقيراً تجزئه. وكذلك تجزئه لو كانت معيبة وقت الشراء لعدم وجوبها عليه، بخلاف الغني.
ويجوز أن يُضحَّى بالجَمَّاء (وهي التي لا قرن لها، أو مكسورة القرن؛ لأن القرن لا يتعلق به مقصود) ، والخَصي (لأن لحمه أطيب) ، والجَرْباء السمينة (لأن
__________
(1) البدائع: 75/5، الدر المختار: 227/5، تكملة الفتح: 74/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 5/6، اللباب: 234/3 ومابعدها.(4/267)
الجرب يكون في جلدها، ولا نقصان في لحمها، بخلاف المهزولة، لأن الهزال يكون في لحمها) والثَّوْلاء (1) (المجنونة) إذا كان ترعى، فإن امتنعت من الرعي، لم تجزئ.
وعند المالكية (2) : لا تجزئ العيوب المذكورة في الحديث وهي العوراء والعرجاء والمريضة والعجفاء، ولا العمياء والمجنونة جنوناً دائماً، ولا مقطوعة جزء من أجزائها الأصلية أو الزائدة كيد أو رجل، غير خُصْية (بيضة) لأنه يجزئ الخصي، ولا الجرباء والهَرِمة والبشْماء إذا كثر الجَرَب والهَرَم والتُّخَمة، ولا البَكْماء (فاقدة الصوت إلا لعارض كالناقة بعد أشهر من الحمل) والصَّماء (التي لا تسمع) والبَخْراء (منتنة رائحة الفم) ، والصَمْعاء (صغيرة الأذنين جداً، كأنها خلقت بلا أذن، والبَتْراء (التي لا ذنب لها) ، ويابسة الضرع جميعه ومكسورة قرن لم يبرأ، وفاقدة أكثر من سن بسبب ضرب أو مرض، لا بسبب كبر أو إثغار (تبديل أو تغيير في الصغر) ، ومقطوعة ثلث ذنب فصاعدا، أو أكثر من ثلث أذن، لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابَلة، ولا مدابَرَة، ولا شَرْقاء (3) ولا خَرْقاء» .
وتصح الأضحية بالجَمَّاء (المخلوقة بدون قرن) ، وبالمُقْعدة (العاجزة عن القيام) لشحم كثر عليها، ومكسورة قرن من أصله، أو طرفه إن برئ.
__________
(1) الثَّوَل: استرخاء في أعضاء الشاة خاصة، أو كالجنون يصيبها، فلا تتبع الغنم وتستدبر في مرتعها.
(2) الشرح الكبير: 119/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 143/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 188 ومابعدها، بداية المجتهد: 417/1-419.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي. ومعناه أن نشرف على الأذن والعين ونتأملهما، كيلا يقع فيهما نقص وعيب. والمقابلة: شاة قطعت أذنها من قدام وتركت معلقة، والمدابرة: التي قطعت أذنها من جانب، والشرقاء: مشقوقة الأذن طولا، والخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير.(4/268)
وعند الشافعية (1) : لا تجزئ أيضاً العيوب المنصوص عليها في الحديث وهي العجفاء (أي ذاهبة المخ من شدة هزالها، والمخ: دهن العظام) ، وذات العرج والعور والمرض البين، ومثلها ذات الجرب ولو كان يسيراً. ولا يضر اليسير في العيوب الأربعة الأولى لعدم تأثيره في اللحم. ولا تجزئ أيضاً العمياء والمجنونة (وهي التولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى إلا قليلاً فتهزل) ، ولا مقطوعة بعض الأذن أو بعض اللسان، ولو كان يسيراً لذهاب جزء مأكول، وهو نقص في اللحم. وشلل الأذن كفقدها. ولا تجزئ مقطوعة الألية قطعاً غير خلقة.
ويجوز التضحية بالخصي لأنه «صلّى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين لله» (2) أي خصيين، لكن الفحل أفضل منه إن لم يحصل منه ضراب. ولا يضرفقد قرن خلقة، وتسمى الجلحاء، ولا كسره ما لم يعب اللحم، وإن دمى بالكسر، لأن القرن لا يتعلق به كبير غرض، فإن عِيب اللحم ضر كالجرب وغيره. لكن ذات القرن أولى لخبر «خير الأضحية الكبش الأقرن» (3) ، ولأنها أحسن منظراَ، بل يكره غيرها. ولا يضر ذهاب بعض الأسنان أو أكثرها، ويجزئ مكسور سن أو سنين؛ لأنه لا يؤثر في الاعتلاف ونقص اللحم، فلو ذهب الكل، ضر، لأنه يؤثر في ذلك.
وكذا لا يضر شق أذن ولا خرقها، ولا ثقبها في الأصح بشرط ألا يسقط من الأذن شي بذلك، لأنه لا ينقص به من لحمها شيء.
والخلاصة: إن كل ما ينقص اللحم لا يجوز، وما لا ينقص اللحم يجوز.
__________
(1) مغني المحتاج: 286/4 ومابعدها، المهذب: 238/1.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي رافع وعائشة وأبي هريرة (نيل الأوطار: 119/5) .
(3) رواه الحاكم وصحح إسناده.(4/269)
وعند الحنابلة (1) : لا تصح الأضحية بالعجفاء والعوراء البين عورها، والعمياء، والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها بمرض مفسد للحمها كجرب أو غيره، والعضباء (وهي التي ذهب أكثر من نصف الأذن أو القرن) (2) ، ومثلها التي ذهب أكثر من نصف أليتها. ولا تجزئ الكسيرة كالمريضة، ولا الجداء أو الجدباء (جافة الضرع) ولا الهتماء (التي ذهبت ثناياها من أصلها) ، ولا العَصماء (التي انكسر غلاف قرنها) .
ويجزئ الخصي (الذي قطعت خصيتاه أو سلتا، أو رضتا) لفعل النبي عليه السلام، ولايجزئ مقطوع الذكر مع قطع الخصيتين، وتجزئ الجماء (وهي التي خلقت بلا قرن) ، والصمعاء (وهي الصغيرة الأذن، أو خلقت بلا أذن) ، والبتراء (التي لا ذنب لها خلقة، أو كان مقطوعاً) لأن ذلك لايخل بالمقصود، وتجزئ التي بعينها بياض لايمنع النظر، لعدم فوات المقصود من البصر. وتجزئ الحامل من الإبل والبقر والغنم كالحائل.
والخلاصة: إن هناك عيوباً متفقاً على كونها مانعة الإجزاء، وعيوباً خَلْقية غير مانعة، وعيوبا مختلفا فيها كمقطوعة بعض الأذن، فالمالكية والحنفية: لايجيزون مقطوعة الأكثر من الثلث، والحنابلة: الأكثر من النصف، والشافعية: لايجيزون قطع البعض وإن كان يسيرا. ومثل مكسورة القرن: تجزئ عند الحنفية مالم يصل الكسر إلى المخ أي رأس العظم، وعند المالكية: تجزئ إن برئ ولو كسر كله. وعند الشافعية: تجزئ مالم ينقص اللحم، وعند الحنابلة: تجزئ إن ذهب أقل من النصف.
__________
(1) المغني: 623/8 ومابعدها، كشاف القناع: 3/3.
(2) لما روى علي رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يضحي بأعضب القرن والأذن» قال قتادة: «فسألت سعيد بن المسيب، فقال نعم، العضب: النصف فأكثر من ذلك» رواه الشافعي وابن ماجه وأحمد وبقية أصحاب السنن (نيل الأوطار: 115/5) .(4/270)
والأفضل: ما كان كامل الخلقة، دون أي نقص فيه.
وإذا أوجب المرء أضحية صحيحة سليمة من العيوب، ثم حدث بها عيب يمنع الإجزاء، ذبحها، وأجزأته عند غير الحنفية (1) ، لما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد قال: «ابتعنا كبشا نضحي به، فأصاب الذئب من أليته، فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به» فالعيب المانع إذن هو القديم لا الطارئ، وعند الحنفية إن كان المضحي غنياً غيَّرها.
وأما الصفات المكروهة في الحيوان المضحى به: فهي ما يأتي عند الفقهاء: قال الحنفية (2) : تكره التضحية بالشرقاء (المشقوقة الأذن) ، والخرقاء (التي يخرق أذنها الوسم) والمدابَرة (التي يقطع شيء من مؤخر أذنها) والمقابَلة (التي يقطع شيء من مقدم أذنها) ، لحديث علي المتقدم، وفيه: «وألا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء ولا شَرقاء» والنهي فيها محمول على الندب، وفي الخرقاء على الكثير.
وتكره المجزوزة (التي جز صوفها قبل الذبح لينتفع به) ، والحَولاء (التي في عينها حول) .
وقال المالكية (3) : تكره الشرقاء وما ذكر معها في الحديث السابق، وكل عيوب الأذن الأخرى، وهي السَّكاء (المخلوقة بغير أذن) ، والجَذعاء (المقطوعة جزءاً يسيراً من أذنها) كما تكره عيوب القرن كالعضباء (وهي الناقصة الخلقة في قول، أو المكسورة القرن) . وتكره ساقطة بعض الأسنان لكبر ونحوه.
__________
(1) المغني: 626/8 ومابعدها.
(2) تبيين الحقائق: 5/6، 9، البدائع: 76/5، 87، الدر المختار: 231/5.
(3) الشرح الكبير: 121/2، القوانين الفقهية: ص 189.(4/271)
وفي الجملة: يندب الجيد من أعلى النعم، والسالم من العيوب التي تجزئ معها، كخفيف مرض، وكسر قرن بريء.
وقال الشافعية (1) : يكره تنزيهاً المذكور في الحديث السابق بسبب شق الأذن أو خرقها أو ثقبها في الأصح؛ وتكره التضحية بالجلحاء (وهي التي لم يخلق لها قرن) وبالقصماء (وهي التي انكسر غلاف قرنها) ، وبالعضباء (وهي التي انكسر قرنها) ؛ لأن كل ذلك يشينها، وقد قال ابن عباس عن الأضاحي: تعظيمها استحسانها.
وكذلك قال الحنابلة (2) : تكره المشقوقة الأذن، والمثقوبة، وما قطع شيء منها، لحديث علي المنهي فيه عن تلك العيوب. وهذا نهي تنزيه، ويحصل الإجزاء بها، ولا خلاف في ذلك ما عدا الظاهرية، ولأن اشتراط السلامة من أي عيب يشق، إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله.
المبحث الخامس - مندوبات الأضحية ومكروهاتها وما يسن لمريد التضحية:
هناك اتفاق بين الفقهاء في أغلب مواضع هذا المبحث.
1 ـ قال الحنفية (3) يستحب للمضحي قبل التضحية: ربط الأضحية قبل أيام النحر بأيام، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها، فيكون له فيه أجر وثواب، وأن يقلدها (4) ويجللها كالهدي، ليشعر بتعظيمها، لقوله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32/22] وأن يسوقها إلى المذبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً، وألا يجرها برجلها.
__________
(1) مغني المحتاج: 287/4، المهذب: 238/1 - 239.
(2) المغني: 626/8.
(3) البدائع: 78/5 - 80، الدر المختار: 231/5.
(4) تقليد البدنة مثلاً: أن يعلَّق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي.(4/272)
ويكره لمن اشترى أضحية أن يحلبها أو يجز صوفها، أو ينتفع بها، ركوباً أو حملاً، أو ينتفع بلحمها إذا ذبحها قبل وقتها؛ لأنه عينها للقربة، والانتفاع بها يوجب نقصاً فيها. وإن كان في ضرعها لبن، وهو يخاف عليها الهلاك إن لم يحلبها، نضح ضرعها بالماء البارد، حتى يتقلص اللبن. وإن حلبها تصدق باللبن؛ لأنه جزء من شاة متعينة للقربة. وإن ذبحها أو جزها تصدق باللحم أو بقيمته، وبالصوف والشعر والوبر.
ويكره له بيعها لتعينها قربة بالشراء، وإن باعها، جاز عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه مثلها أو أرفع منها (1) ؛ لأنه بيع مال مملوك مقدور التسليم. ولم يجز البيع عند أبي يوسف، لأنها بمنزلة الوقف، ولا يجوز بيع الموقوف.
وإن ولدت الأضحية ولداً، ذبح ولدها مع الأم. وإن باعه تصدق بثمنه، لأن الأم تعينت للأضحية، فيتبعها الولد.
وفي حال التضحية: يستحب لمريد التضحية: أن يذبح بنفسه، إن قدر عليه، لأنه قربة، فمباشرتها بنفسه أفضل من توليتها غيره، كسائر القربات. بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم ساق مئة بدنة هدية للحرم، فنحر منها نيفا وستين بيده الشريفة، ثم أعطى المُدية سيدنا علياً رضي الله عنه، فنحر الباقي (2) .
فإن لم يكن المضحي يحسن الذبح أناب عنه غيره مسلماً، لا كتابياً؛ لأن ذبح الكتابي مكروه ولأن الأضحيةقربة، وهو ليس من أهلها، لكن لو ذبح بالنيابة عن المسلم جاز؛ لأنه أهل للذكاة. وأما المجوسي فيحرم ذبحه لأنه ليس من أهله.
ويستحب أن يتوجه الذابح إلى القبلة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث أنس المتقدم الذي رواه الجماعة، وأن يضجع الذبيحة على جنبها الأيسر.
__________
(1) وإن اشترى دونها، فعليه أن يتصدق بفضل مابين القيمتين.
(2) رواه أحمد ومسلم من حديث جابر في صفة حج النبي صلّى الله عليه وسلم (نيل الأوطار: 105/5) .(4/273)
ويستحب أن يحضر المضحي الذبح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لفاطمة: «قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ... » (1) .
ويدعو المضحي، فيقول: اللهم منك، ولك صلاتي، ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، لما ثبت في حديث فاطمة السابق. ثم يقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني، لحديث جابر: قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف، أتي بكبش، فذبحه، فقال: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني، وعمن لم يضح من أمتي» (2) .
والمستحب في الأضحية، كما تقدم أن تكون أسمنها وأحسنها وأعظمها؛ لأنها مطية الآخرة.
وأفضل الشاء: أن يكون كبشاً أملح أقرن، موجوءاً: خصياً، لحديث جابر السابق.
ويستحب أن تكون آلة الذبح حادة من الحديد.
والمستحب بعد الذبح الانتظار قدر مايبرد الذبيح وتسكن جميع أعضائه، فلا يسلخ قبل أن يبرد.
__________
(1) روي من حديث عمران بن حصين عند الحاكم والبيهقي والطبراني، ومن حديث أبي سعيد الخدري عند الحاكم أيضاً، والبزار، ومن حديث علي عند أبي القاسم الأصبهاني، وفي إسناد الأولين مقال (نصب الراية: 219/4) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (نيل الأوطار: 109/5) .(4/274)
2 - وقال المالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة (1) : المستحب لمريد التضحية إذا دخل عليه عشر ذي الحجة ألا يحلق شعره، ولا يقلم أظفاره، حتى يضحي، بل يكره له ذلك. وقال بعض الحنابلة: يحرم عليه ذلك. بدليل حديث أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» (2) . ولا شك بأن هذا الرأي هو الأرجح لصحة الحديث. والدليل على عدم حرمة المذكور قول عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له، حتى ينحر الهدي» (3) .
ولم ير الحنفية كراهة ما ذكر؛ لأن المضحي لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي (4) .
__________
(1) الشرح الكبير: 12/2، الشرح الصغير: 144/2، القوانين الفقهية: ص 190، بداية المجتهد: 424/1، مغني المحتاج: 283/3 ومابعدها، 290، المهذب: 238/1 ومابعدها، المغني:618//8، 640 ومابعدها، كشاف القناع: 5/3، حاشية الباجوري على ابن قاسم: 309/2.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي داود، وهو لمسلم والنسائي أيضاً: «من كان له ذِبْح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره وأظفاره حتى يضحي» (نيل الأوطار: 112/5) . والحكمة في النهي: أن يبقى كامل الأجزاء للعتق من النار، وقيل: للتشبه بالمحرم في الحج. والوجه الثاني غلط عند بعض الشافعية، لأن المضحي لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم.
(3) متفق عليه.
(4) المغني: 619/8.(4/275)
وأضاف الجمهور كالحنفية: أنه يندب توجيه الذبيحة إلى القبلة على جنبها الأيسر إن كانت من البقر والغنم، ويقول الذابح: «بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك» لما روى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين، ثم قال حين وجهها: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي (1) ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك» (2) فإن قال بعدئذ: «اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك» فحسن. وإن اقتصر على التسمية فقد ترك الأفضل.
وقد عدد الشافعية خمسة أشياء تستحب عند الذبح وهي: التسمية بالبسملة كلها أو بسم الله، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، واستقبال القبلة بالذبيحة، والتكبير قبل التسمية أو بعدها، والدعاء بالقبول فيقول الذابح: اللهم هذه منك وإليك، أي نعمة صادرة منك، تقربت بها إليك.
والأفضل أن يذبح الرجل بنفسه إن أحسن الذبح، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (3) . والسنة للمرأة أن توكل عنها. وأن يحضر المضحي أضحيته بنفسه، عملاً بالسنة وطلباً للمغفرة، والمستحب أن يذبحها مسلم، لأنها قربة، فلا يليها غير أهل القربة، قال جابر: «لا يذبح النسك إلا مسلم» . ويجوز توكيل مسلم بالذبح، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وكل علياً رضي الله عنه بذبح ما بقي من المئة بدنة. ويكره استنابة ذمي (كتابي) وصبي وأعمى. وإن وكل ذمياً فذبح، جاز؛ لأنه يجوز للكافر أن يتولى ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر.
__________
(1) النسك: العبادة.
(2) رواه أبو داود، ويقول غير النبي: وأنا من المسلمين لمناسبة المعنى.
(3) رواه الشيخان.(4/276)
وليس على الوكيل أن يقول عند الذبح عمن؛ لأن النية تجزئ، وإن ذكر من يضحي عنه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حينما ضحى، قال: «اللهم تقبل من محمد وآل محمد، وأمة محمد، ثم ضحى» (1) وقال الحسن: يقول: «بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، تقبل من فلان» .
وقال الحنفية: يكره أن يذكر الذابح اسم غير الله، لقوله تعالى: {وما أهلَّ لغير الله به} [المائدة:3/5] .
وإن عين الشخص أضحية، فذبحها فضولي غيره بغير إذنه، أجزأت عن صاحبها، ولا ضمان عليه عند غير المالكية، لأنه فعل لا يفتقر إلى النية، فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه، كغسل ثوبه من النجاسة. وقال مالك: هي شاة لحم، لصاحبها أرشها أي قيمتها، وعليه بدلها؛ لأن الذبح عبادة، فإذا فعلها غير صاحبها عنه، بغير إذنه، لم تقع الموقع كالزكاة (2) .
ويكره عند المالكية (3) : جز صوف الأضحية قبل الذبح إلا إذا تضررت ببقاء الصوف لحر ونحوه، وشرب لبنها، لأنه نواها لله، والإنسان لا يعود في قربته. ويكره للإمام عدم إبراز الأضحية للمصلى، ولغيره يندب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يذبح وينحر بالمصلى (4) : وهو مكان صلاة العيد، والحكمة فيه أن يكون بمرأى من الفقراء فيصيبون من لحم الأضحية.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) المغني: 642/8، كشاف القناع: 11/3، الكتاب مع اللباب: 237/3، مغني المحتاج: 290/4، الشرح الكبير: 123/2 ومابعدها.
(3) الشرح الكبير: 122/2، الشرح الصغير: 146/2.
(4) رواه البخاري وأصحاب السنن إلا الترمذي عن ابن عمر.(4/277)
وفصل الشافعية والحنابلة (1) في الأمر فقالوا: لا يشرب المضحى من لبن الأضحية المعينة إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيء، أو كان الحلب يضرّ بها، أو ينقص لحمها، لم يكن له أخذه. وإن لم يكن كذلك فله حلب اللبن والانتفاع به؛ لأن بقاء اللبن معها يضرها. ولو تصدق به كان أفضل، خروجاً من الخلاف. ودليل جواز الانتفاع، قول علي: «لا يحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها» ولأنه انتفاع لا يضر بها ولا بولدها.
ويجوز لصاحب الأضحية المعينة الركوب عليها لحاجة فقط، بلا ضرر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اركبها بالمعروف، إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً» (2) ، ولأنه تعلق بها حق المساكين، فلم يجز ركوبها من غير ضرورة أو حاجة كملكهم. فإن تضررت بالركوب لم يجز؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، ويضمن النقص الحاصل بركوبه، لتعلق حق غيره بها.
وأما صوفها: فإن كان جزه أنفع لها، كأن كان في وقت الصيف أو الربيع، وبقي إلى وقت النحر مدة طويلة، جاز جزه؛ لأنها تخف بجزه وتسمن، ويتصدق به وهو الأفضل، أو ينتفع به كاللبن. وإن كان لا يضر بها الصوف لقرب مدة الذبح، أو كان بقاؤه أنفع لها، كما في وقت الشتاء، لاحتياجها له للدفء، لم يجز جزه ولا أخذه؛ لأن الحيوان ينتفع به، في دفع البرد عنه، وينتفع به المساكين عند الذبح.
__________
(1) مغني المحتاج: 292/4، المهذب: 236/1، 241، المغني: 629/8 ومابعدها، كشاف القناع: 9/3 ومابعدها.
(2) رواه أبو داود.(4/278)
المبحث السادس ـ أحكام لحوم الضحايا:
يتحقق المقصود من الأضحية، وهو القربة بإراقة الدم (1) ، وأما الأكل منها وتوزيعها ونحوهما ففيه خلاف يسير بين الفقهاء، الجمهور في جانب، والشافعية في جانب آخر، ورأي الجمهور أولى لاتفاقه مع ظاهر السنة النبوية.
1 - قال جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة) (2) :
يجوز الأكل من الأضحية المتطوع بها، أما المنذورة، أو الواجبة بالشراء عند الحنفية فيحرم الأكل منها، كما يحرم الأكل من ولد الأضحية التي تلده قبل الذبح، أو من المشتركة بين سبعة نوى أحدهم بحصته القضاء عن الماضي. أما عند المالكية والحنابلة فيجوز الأكل من المنذورة كالمتطوع بها. والمستحب أن يجمع المضحي في حالة التطوع، أو في حالة النذر عند المالكية والحنابلة بين الأكل منها، والتصدق، والإهداء، ولو أكل الكل بنفسه أو ادخره لنفسه فوق ثلاثة أيام، جاز مع الكراهة عند الحنفية والمالكية. وجاز أكل الأكثر عند الحنابلة، فإن أكل الكل ضمن أقل ما يطلق عليه اسم اللحم كالأوقية. وليس للجمع بين الأمور الثلاثة في المشهور عند المالكية حد مقدر في ذلك بثلث ولاغيره.
والمستحب عند الحنفية والحنابلة أن تكون نسبة التوزيع أثلاثاً، فيأكل ثلث أضحيته، ويهدي ثلثها لأقاربه وأصدقائه ولو أغنياء، ويتصد ق بثلثها على المساكين، ودليلهم عليه: قوله تعالى:
__________
(1) مغني المحتتاج: 291/4.
(2) البدائع:80/5 ومابعدها، الدر المختار: 230/5، تبيين الحقائق: 8/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 76/8 ومابعدها، اللباب: 236/3، بداية المجتهد: 424/1، الشرح الكبير والدسوقي: 122/2، 126، القوانين الفقهية: ص 190 ومابعدها. المغني: 632/8- 635،كشاف القناع: 10/3، 16، 18 ومابعدها، شرح العلامة زروق على رسالة القيرواني: 377/1.(4/279)
{فكلوا منها، وأطعموا القانع، والمعتر} (1) [الحج:36/22] ، {وأطعموا البائس الفقير} [الحج:28/22] وأوجب الحنابلة الإطعام عملاً بالآيتين؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب.
ودليل نسبة التوزيع أثلاثاً عند غير المالكية: ما روى ابن عباس في صفة أضحية النبي صلّى الله عليه وسلم: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السُؤَّال بالثلث» (2) . وجهات التوزيع ثلاثة: الأكل، والادخار، لما ثبت في الحديث، والإطعام لما ثبت في الآية، فانقسم عليها ثلاثاً.
ودليل المالكية على عدم وجود نسبة للتوزيع، وأنها مطلقة: أحاديث عائشة وجابر، وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد وبريدة وغيرهم، التي ورد فيها: «كلوا، وادخروا، وتصدقوا» أو: «كلوا وأطعموا، وادخروا» (3) .
والدليل على جواز ادخار لحوم الأضاحي عدا المذكور: قوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافَّة (4) ، وقد جاء الله بالسعة، فادخروا ما بدا لكم» (5) .
ويحرم بيع جلد الأضحية وشحمها ولحمها وأطرافها ورأسها وصوفها وشعرها ووبرها ولبنها الذي يحلبه منها بعد ذبحها، واجبة كانت أو تطوعاً؛ لأن
__________
(1) القانع: السائل الفقير، والمعتر الذي يعتريك أو يتعرض لك بالسؤال لتطعمه، ولا يسأل
. (2) رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف، وقال: حديث حسن. وهو قول ابن مسعود وابن عمر، بدون مخالف من الصحابة.
(3) انظر نيل الأوطار: 126/5 ومابعدها.
(4) الدافة: جماعة من الأعراب، كانوا قد دخلوا المدينة طلباً للزاد، لأن السنة أهلكتهم في البادية.
(5) رواه مسلم، وفي حديث عائشة: «إنما نهيتكم من أجل الدافّة، فكلوا، وادخروا وتصدقوا» متفق عليه.(4/280)
النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقسم جلودها ونهى عن بيعها، فقال: «من باع جلد أضحيته، فلا أضحية له» (1) .
ولا يجوز إعطاء الجزار أو الذابح جلدها أو شيئاً منها كأجرة للذبح، لما روى علي رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه (أي عند نحرها) ، وأن أقسم جلودها، وجلالها (2) ، وألا أعطي الجازر شيئاً منها» وقال: «نحن نعطيه من عندنا» (3) .
فإن أعطي الجزار شيئاً من الأضحية لفقره، أو على سبيل الهدية، فلا بأس؛ لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره، بل هو أولى، لأنه باشرها، وتاقت نفسه إليها.
وللمضحي أن ينتفع بجلد الأضحية لاستعماله في البيت كجراب وسقاء وفرو وغربال ونحوها، ولكن له استحساناً عند الحنفية خلافاً لغيرهم: أن يشتري به ما ينتفع بعينه مع بقائه أي مبادلته بعروض (أمتعة) أخرى؛ لأن للبدل حكم المبدل، والمعاوضة بالعروض من باب الانتفاع. ولا يجوز أن يشتري به شيئاً استهلاكياً كالدراهم والدنانير والمأكولات والمشروبات، أي فلا يجوز البيع بالنقود أو السلع الاستهلاكية.
ودليل جواز الانتفاع بالجلد: أن عائشة رضي الله عنها اتخذت من جلد أضحيتها سقاء.
__________
(1) رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد، ورواه البيهقي أيضاً (نصب الراية: 218/4) وروى أحمد أيضاً حديثاً عن أبي سعيد، وفيه: «ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي» (نيل الأوطار: 129/5) .
(2) الجلال: ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، ويجمع أيضاً على: أجلة، ومفرده: جلال بضم الجيم.
(3) متفق عليه.(4/281)
ويكره عند المالكية أن يطعم منها يهودياً أو نصرانياً.
وأجاز الحنابلة إهداء الكافر من أضحية التطوع، أما الواجبة فلا يجوز إهداء الكافر منها شيئاً (1) .
أما نقلها إلى بلد آخر: فقال الحنفية: يكره نقلها كالزكاة من بلد إلى بلد إلا أن ينقلها إلى قرابته أو إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده، ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة. وقال المالكية: ولا يجوز نقلها إلى مسافة قصر فأكثر إلا أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حاجة من أهل محل الوجوب، فيجب نقل الأكثر لهم، وتفرقة الأقل على أهله. وقال الحنابلة والشافعية كالمالكية: يجوز نقلها لأقل من مسافة القصر، من البلد الذي فيه المال، ويحرم نقلها كالزكاة إلى مسافة القصر وتجزئه..
2 - وقال الشافعية (2) : الأضحية الواجبة ـ المنذورة أو المعينة بقوله مثلاً: «هذه أضحية» أو «جعلتها أضحية» : لا يجوز الأكل منها، لا المضحي ولا من تلزمه نفقته. ويتصدق بجميعها وجوباً. ويذبح ولد الأضحية المعينة كأمه، لكن يجوز للمضحي أكله كله قياساً على اللبن، إذ أن له شرب فاضل لبنها عن ولدها مع الكراهة.
وأما الأضحية التطوع: فالمستحب للمضحي بها عن نفسه الأكل منها، أي أن الأفضل له تناول لقم يتبرك بأكلها، لقوله تعالى: {فكلوا منها، وأطعموا البائس الفقير} [الحج:28/22] وعند البيهقي: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته» . وإنما لا يجب الأكل منها ـ كما قال الظاهرية عملاً بظاهر الآية ـ لقوله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} [الحج:36/22] فجعلها لنا، وما جعل للإنسان فهو مخير بين تركه وأكله.
وللمضحي أيضاً إطعام الأغنياء، لا تمليكهم منها شيئاً، بل يرسل إليهم على سبيل الهدية، دون أن يتصرفوا فيه بالبيع وغيره.
والمضحي يأكل ثلثاً على المذهب الجديد، وفي قول قديم: يأكل نصفاً ويتصدق بالنصف الآخر.
__________
(1) كشاف القناع: 19/3.
(2) مغني المحتاج: 290/4 ومابعدها، المهذب: 240/1.(4/282)
والأصح وجوباً التصدق ببعض الأضحية، ولو جزءاً يسيراً من لحمها، بحيث ينطلق عليه الاسم، على الفقراء المسلمين ولوواحداً. والأفضل التصدق بالكل إلا لقماً يتبرك بأكلها، كما تقدم.
ويتصدق المضحي في أضحية التطوع بجلدها، أو ينتفع به، كما يجوز له الانتفاع بها، والتصدق به أفضل. أما الواجبة: فيجب التصدق بجلدها.
ولا يجوز نقل الأضحية من بلدها لمسافة القصر فأكثر كما هو المقرر في نقل الزكاة.
الأضحية عن الغير: قال الشافعية (1) : لا يضحى عن الغير بغير إذنه، ولا عن ميت إن لم يوص بها، لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم:39/53] فإن أوصى بها جاز، وبإيصائه تقع له. ويجب التصدق بجميعها على الفقراء، وليس لمضحيها ولا لغيره من الأغنياء الأكل منها، لتعذر إذن الميت في الأكل.
وقال المالكية (2) : وكره فعلها عن ميت إن لم يكن عينها قبل موته، فإن عينها بغير النذر، ندب للوارث إنفاذها. وقال الحنفية والحنابلة (3) : تذبح الأضحية عن ميت، ويفعل بها كعن حي من التصدق والأكل، والأجر للميت، لكن يحرم عند الحنفية الأكل من الأضحية التي ضحى بها عن الميت بأمره.
__________
(1) مغني المحتاج: 292/4، المحلي على المنهاج: 255/4.
(2) الشرح الكبير: 122/2.
(3) رد المحتار والدر المختار: 229/5، كشاف القناع: 18/3.(4/283)
الفَصْلُ الثّاني: العَقِيقة وأحكامُ المولود
وفيه مبحثان:
المبحث الأول ـ العقيقة:
الكلام عن العقيقة فيما يأتي:
1 - حكم العقيقة ومعناها وحكمتها:
قال الحنفية (1) : تباح العقيقة ولا تستحب؛ لأن تشريع الأضحية نسخ كل دم كان قبلها من العقيقة، والرجبية، والعتيرة، فمن شاء فعل، ومن شاء لم يفعل. والنسخ ثبت بقول عائشة: «نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها» .
والعقيقة: الذبيحة التي تذبح عن المولود، يوم أسبوعه. والأصل في معناها اللغوي: أنها الشعر الذي على المولود، ثم أسمت العرب الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه، أو ما يجاوره.
والرجبية: شاة كان العرب في الجاهلية يذبحونها في رجب، فيأكل منها أهل البيت، ويطبخون، ويطعمون.
والعتيرة: أول ولد للناقة أو الشاة، يذبح، ويأكله صاحبه، ويطعم منه. وقيل: إنها الشاة التي تذبح في رجب، وفاء لنذر، أو إذا أنتجت الشاة عشراً، فتذبح واحدة منها.
__________
(1) البدائع: 69/5.(4/284)
والصحيح أن العتيرة هي الرجبية، سواء بنذر أو بغير نذر، وهي سنة جاهلية (1) .
وقال جمهور الفقهاء (غير الحنفية) (2) : لا تسن العتيرة، أو الرجبية، وتسن للأب من ماله العقيقة عن المولود، ولا تجب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم، في حديث ابن عباس: «عق عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشاً كبشاً» (3) . وقال: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى» (4) «كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيه، ويحلق رأسه» (5) . وقال الشافعية: تسن لمن تلزمه نفقته.
وحكمتها: شكر نعمة الله تعالى برزق الولد، وتنمية فضيلة الجود والسخاء وتطييب قلوب الأهل والأقارب والأصدقاء بجمعهم على الطعام، فتشيع المحبة والمودة والألفة.
__________
(1) قال ابن سراقة: آكد الدماء المسنونة: الهدايا، ثم الضحايا، ثم العقيقة، ثم العتيرة، ثم الفرع. والعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجيبة، والفرع: أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، ويكرهان لخبر البخاري: «لا فرع ولا عتيرة» .
(2) الشرح الكبير للدردير: 126/2، القوانين الفقهية: ص 191، مغني المحتاج: 293/4 ومابعدها، المهذب: 241/1 ومابعدها، المغني: 645/8 ومابعدها،650، كشاف القناع: 20/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 448/1 ومابعدها.
(3) رواه أبو داود، والنسائي، وقال: بكبشين كبشين (نيل الأوطار: 135/5) .
(4) رواه الجماعة إلا مسلماً عن سلمان بن عامر الضَّبي (نيل الأوطار: 131/5) .
(5) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي عن سمرة (نيل الأوطار، المكان السابق) .(4/285)
2 - جنسها وسنها وصفتها:
هي في الجنس والسن والسلامة من العيوب مثل الأضحية، من الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. وقيل: لا يعق (1) بالبقر ولا بالإبل.
3 - عددها:
هي عند المالكية: شاة عن الذكر، أو الأنثى، لحديث ابن عباس السابق أنه عليه الصلاة والسلام: «عق عن الحسن شاة، وعن الحسين شاة» وهو المعقول والأيسر.
وقال الشافعية والحنابلة: عن الغلام شاتان، وعن الأنثى شاة. لخبر عائشة: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» (2) وحديث ابن عباس محمول على الجواز. وكالشاة: سُبْع أو بقرة، فلو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أولاد، جاز. ولو كان المساهم في العقيقة عند الشافعية يريد اللحم فقط. وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد. وتتحقق السنة بشاة عن الغلام، وشاة عن الأنثى، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم عن الحسن والحسين. وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد، فلو ولد له توأمان، كان لهما عقيقتان، ولا تكفي واحدة عنهما.
4 - وقتها:
تذبح يوم سابع ولادة المولود، ويحسب يوم الولادة من السبعة. فإن ولدت ليلاً، حسب اليوم الذي يليه. وعند المالكية: يحسب يوم الولادة إن ولد قبل الفجر أو معه، ولا يعد اليوم الذي ولد فيه، إن ولد بعد الفجر. وقيل عندهم: يحسب إن ولد قبل الزوال لا بعده. ويندب الذبح ضحى إلى الزوال لا ليلاً.
وصرح الشافعية والحنابلة: أنه لو ذبح قبل السابع أو بعده، أجزأه. وأضاف الحنابلة والمالكية: لا يعق غير الأب، ولا يعق المولود عن نفسه إذا كبر، لأنها مشروعة في حق الأب، فلا يفعلها غيره. واختار جماعة من الحنابلة: أن للشخص أن يعق عن نفسه استحباباً. ولا تختص العقيقة بالصغر، فيعق الأب عن المولود، ولو بعد بلوغه؛ لأنه لا آخر لوقتها.
ويقول الذابح بعد التسمية: اللهم منك وإليك عقيقة فلان؛ لخبر ورد فيه رواه البيهقي بإسناد حسن، وروت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين، وقال: «قولوا: بسم الله، اللهم لك وإليك عقيقة فلان» .
ويكره لطخ رأس المولود بدم العقيقة، خلافاً لما كان عليه الجاهلية من تلطيخ رأسه بدمها، قالت عائشة: «كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونها على رأس المولود، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خَلوقاً» أي زعفراناً.
__________
(1) عق يعق: بكسر العين وضمها.
(2) رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي لفظ: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتين» رواه أحمد وابن ماجه. وفي معناه حديث أم كُرز الكعبية الذي رواه أحمد والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 132/5) .(4/286)
ودليل كراهية التلطيخ أيضاً قوله صلّى الله عليه وسلم: «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى» (1) .
5 - حكم لحمها وجلدها:
حكم اللحم كالضحايا، يؤكل من لحمها، ويتصدق منه، ولا يباع شيء منها. ويسن طبخها، ويأكل منها أهل البيت وغيرهم في بيوتهم، وكره عند المالكية عملها وليمة يدعو الناس إليها. ويجوز عند المالكية: كسر عظامها، ولا يندب. وقال الشافعية والحنابلة: يجوز اتخاذ الوليمة، ولا يكره كسر العظام، إذ لم يثبت فيه نهي مقصود، بل هو خلاف الأولى، ويستحب أن تفصل أعضاؤها، ولا تكسر عظامها، تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود، لما روي عن عائشة، أنها قالت: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جُدولاً (2) ، ولا يكسر عظم، ويأكل ويطعم، ويتصدق، وذلك يوم السابع» .
وأجاز الإمام أحمد في رواية عنه بيع الجلد والرأس والتصدق به. ويستحب إعطاء القابلة من العقيقة؛ لما في مراسيل أبي داود أن النبي قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين: «أن يبعثوا إلى القابل برِجْل، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظماً» .
فيكون الفرق بين العقيقة والأضحية: أنه يسن طبخ العقيقة، ويستحب ألا تكسر عظامها، وأن تهدى القابلة رجل العقيقة نيئة غير مطبوخة؛ لأن فاطمة رضي الله عنها فعلت ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، كما روى الحاكم.
__________
(1) رواه الجماعة إلا مسلماً عن الصبي، وسبق تخريجه، وهذا يقتضي ألا يمس بدم لأنه أذى. ولكن ذكر في رواية: «فأهرقوا عليه دماً» وروى همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة: «الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويدمى» وهذا دليل قتادة والحسن القائلين باستحباب اللطخ بالدم. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال هذا إلا الحسن وقتادة، وأنكر سائر أهل العلم وكرهوه، للحديث السابق (المغني: 647/8) .
(2) تطبخ جدولاً: أي لا يكسر لها عظم، وإنما تطبخ عضواً عضواً.(4/287)
المبحث الثاني ـ أحكام المولود:
وهي كثيرة أهمها ما يأتي:
يستحب للوالد أن يؤذِّن في أذن المولود اليمنى، وتقام الصلاة في اليسرى حين يولد (1) ، لما روى أبو رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن، حين ولدته فاطمة (2) ، ولخبر ابن السني عن الحسن بن علي مرفوعاً: «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، لم تضره أم الصبيان» أي التابعة من الجن. وعن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي يوم ولد، وأقام في أذنه اليسرى» (3) .
وبما أن هذين الحديثين ضعيفان، فيقتصر في تقديري على الأذان الثابت في حديث أبي رافع، ليكون إعلام المولود بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا، كما يلقن عند خروجه منها، ولما فيه من طرد الشيطان عنه، فإنه يدبر عند سماع الأذان، كما ورد في الخبر.
ويسن أن يقول في أذن المولود اليمنى: «إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» ويقول ذلك، ولو كان المولود ذكراً على سبيل التلاوة، والتبرك بلفظ الآية، بتأويل إرادة (النسمة) وفي مسند ابن رَزِين أنه قرأ في أذن مولود (أي اليمنى) سورة الإخلاص.
ويسن أن يُحنِّك المولود بتمرة، بأن تمضغ، ويدلك بها داخل فمه، ويفتح فمه، حتى ينزل إلى جوفه منها شيء. فإن لم يكن تمر، فيحنكه بحلو (4) . لما في الصحيحين عن أبي موسى قال: «ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلم، فسماه:
__________
(1) مغني المحتاج: 296/4، المهذب: 242/1، المغني: 649/8، كشاف القناع: 25/3.
(2) رواه أبو داود والترمذي وصححاه. وفي رواية أحمد: الحسين.
(3) رواه البيهقي، كما روى الحديث الذي قبله، لكن قال: في إسنادهما ضعف. لكن حديث الأذان فقط صحيح كما أبنت.
(4) مغني المحتاج: 296/4، المهذب: 242/1، المغني: 650/8، كشاف القناع: 25/3.(4/288)
إبراهيم، وحنكه بتمرة» زاد البخاري: «ودعا له بالبركة، ودفعه إلي، وكان أكبر ولد أبي موسى» . وروى أنس قال: «ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حين ولد، فقال: هل معك تمر؟ قلت: نعم، فناولته تمرات، فلاكهن، ثم فغر فاه، ثم مجّه فيه، فجعل يتلمظ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حَب الأنصار: التمر، وسماه: عبد الله» (1) .
ويندب أن يُهنَّأ الوالد، بأن يقال له: «بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره» ويرد هو على المهنئ، فيقول: «بارك الله لك، وبارك عليك» أو: «أجزل الله ثوابك» أو نحو ذلك (2) .
ويستحب حلق رأس المولود في اليوم السابع من ولادته، وأن يُسمى فيه، بعد ذبح العقيقة، ويُتَصدَّق بوزن شعره ذهباً أو فضة (3) ، لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر فاطمة، فقال: «زِني شعر الحسين، وتصدقي بوزنه فضة» (4) ، كما قال لها لما ولدت الحسن: «احلقي شعر رأسه، فتصدقي بوزنه من الوَرِق» (5) أي الفضة. وقيس بالفضة: الذهب.
ويكره الختان يوم الولادة ويوم السابع عند الحنفية؛ لأنه من فعل اليهود. ويستحب عند الشافعية أن يكون الختان في اليوم السابع من ولادته، لما أخرجه البيهقي عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما» . والختان للذكر بقطع الجلدة التي تغطي الحشفة: سنة مؤكدة عند
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 136/5) .
(2) مغني المحتاج، المكان السابق.
(3) القوانين الفقهية: ص 192، مغني المحتاج: 295/4، المهذب: 241/1، كشاف القناع: 25/3.
(4) رواه الحاكم وصححه.
(5) رواه أحمد عن أبي رافع (نيل الأوطار: 136/5) .(4/289)
المالكية والحنفية للذكور، والخفاض في النساء مكرمة وهي قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج، ويندب ألا تَنْهَك، أي لا تجور في قطع الجلدة التي في أعلى الفرج لأجل تمام اللذة في الجماع. وقال الشافعية: الختان فرض على الذكور والإناث، وقال أحمد: الختان واجب على الرجال، مكرمة في حق النساء (1) ، ويجري هذا عادة في البلاد الحارة. ويستحب أن يؤخر عند المالكية حتى يؤمر الصبي بالصلاة، وذلك من السبع إلى العشر.
وحكمة الختان: المبالغة في الطهارة والنظافة، وتمييز المسلم من غيره. ويسن أن يحسن الوالد اسم المولود (2) لخبر: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء آبائكم، فحسِّنوا أسماءكم» (3) . وأفضل الأسماء: عبد الله، وعبد الرحمن، لخبر مسلم: «أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله، وعبد الرحمن» ، زاد أبو داود: «وأصدقها: حارث وهمام، وأقبحها: حرب ومرة» . ومثل ذلك كل ما أضيف إلى أسماء الله الحسنى. ومثله أسماء الأنبياء أو الملائكة لحديث: «تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي» (4) . قال مالك: سمعت أهل المدينة يقولون: «ما من أهل بيت فيهم اسم محمد، إلا رزقوا رزق خير» . فالتكني بأبي القاسم حرام (5) .
وتكره الأسماء القبيحة، كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكليب، وما
__________
(1) الشرح الكبير: 126/2، شرح الرسالة: 393/1 ومابعدها، المغني: 85/1 ومابعدها. القوانين الفقهية: ص 192، الإفصاح لابن هبيرة: 206/1، الدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي: ص 33، شرح العناية على الهداية في تكملة الفتح: 99/8.
(2) مغني المحتاج: 294/4 ومابعدها، المهذب: 242/1، كشاف القناع: 22/3 ومابعدها.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه أبو نعيم.
(5) ثبت النهي عن التكني بأبي القاسم، لكن كان ذلك في زمنه عليه السلام، أو في حالة الجمع بينه وبين اسم (محمد) كما قال النووي، وهو الأولى.(4/290)
يتشاءم بنفيه عادة، كنجيح وبركة، لخبر: «لا تسمين غلامك: أفلح ولا نجيحاً، ولا يساراً، ولا رباحاً، فإنك إذا قلت: أثمَّ هو؟ قال: لا» ، ويسن أن تغير الأسماء القبيحة، وما يتطير بنفيه لخبر مسلم: «أنه صلّى الله عليه وسلم غيَّر اسم عاصية، وقال: أنت جميلة» . وفي الصحيحين أنه غير اسم بَرّة إلى زينب، وهي زينب بنت جحش.
ويجوز التسمية بأكثر من اسم واحد، والاقتصار على اسم واحد أولى، لفعله صلّى الله عليه وسلم بأولاده.
ويكره كراهة شديدة التسمية بست الناس أو العلماء، أو القضاة، أو العرب، لأنه كذب.
ولا تجوز التسمية بملك الأملاك وشاهان شاه، ومعناه: ملك الأملاك وليس ذلك إلا الله.
والتسمية بعبد النبي قد تجوز إذا قصد به التسمية، لا النبي صلّى الله عليه وسلم، ومال الأكثرون إلى المنع منه، خشية التشريك لحقيقة العبودية، واعتقاد حقيقة العبودية.
ولا تجوز التسمية بعبد الكعبة، وعبد العزى.
ويحرم تلقيب الشخص بما يكره، وإن كان فيه، كالأعور والأعمش، ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لم يعرفه إلا به.
وتجوز الألقاب الحسنة، كألقاب الصحابة مثل عمر الفاروق، وحمزة أسد الله، وخالد سيف الله.
ويحرم التسمية بما لا يليق إلا بالله، كقدوس، والبر، وخالق، والرحمن، لأن معنى ذلك لا يليق بغيره تعالى. وتستحب كما تقدم التهنئة بالمولود بين الرجال وبين النساء، بأن يقال: بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بِرَّه. ويجيب الوالد والوالدة: بارك الله لكم، وبارك عليكم، وأجزل ثوابكم.(4/291)
البَاب التَّاسع: الذّبائح والصّيد
وفيه فصلان:
الفصل الأول ـ في الذبائح
الفصل الثاني ـ في الصيد
الفَصْلُ الأوَّل: الذّبائح
وفيه مقدمة في الذبح وحكمه، وأربعة مباحث:
المبحث الأول ـ في الذابح أو المذكي.
المبحث الثاني ـ في الذبح أو التذكية (صفة التذكية، شروطها، سننها، مكروهاتها، أنواعها، ما يحرم أكله من المذبوح ـ أثر ذكاة الأم في الجنين، أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض، أثر الذكاة في غير المأكول) .
المبحث الثالث ـ في آلة الذبح.
المبحث الرابع ـ في الذبيحة أو المذكى ـ ما يؤكل من الحيوان وما لا يؤكل.
المقدمة ـ تعريف الذبح وحكمه شرعاً:
الذبح أو الذكاة أو التذكية لغة: القطع أو الشق وإزهاق الحيوان. واصطلاحاً: يختلف بحسب الواجب قطعه في كل مذهب. فعند الحنفية والمالكية (1) : هو فري العروق، والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان (2) . ومحله ما بين الَّلبة والَّلحيين (عظمي الحنك) ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الذكاة: ما بين الَّلبة والِّلحية» (3) أي محل الذكاة: ما بين اللبة واللحيين. واللبة: أسفل العنق. واللحية شعر الذقن. والنحر: فري الأوداج، ومحله: آخر الحلق، والذكاة الاضطرارية: جرح في أي موضع كان من البدن.
وعند الشافعية والحنابلة (4) : الذكاة: ذبح حيوان مقدور عليه مباح أكله بقطع الحلقوم والمري. ومحله الحلق: أعلى العنق، أو اللبة: أسفل العنق فيسمى نحراً (5) ، أوعقر مزهق للروح عند التعذر في أي موضع كان. والخلاصة باتفاق المذاهب أن الذكاة: هي ذبح أو نحر أوعقر حيوان مباح الأكل.
وحكمه: أنه شرط حل الأكل في الحيوان البري المأكول، فلا يحل شيء من الحيوان المأكول بغير ذكاة شرعية، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم
__________
(1) البدائع: 41/5، تكملة الفتح: 52/8، اللباب مع الكتاب: 225/3 ومابعدها، الشرح الكبير: 99/2.
(2) الحلقوم هو الحلق، والمري: مجرى الطعام والشراب، والودجان: عرقان عظيمان في جانبي العنق، بينهما الحلقوم والمريء.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب بهذا اللفظ، وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة» وإسناده ضعيف جداً. وأخرجه عبد الرزاق موقوفاً على ابن عباس وعلى عمر: «الذكاة في الحلق واللبة» (نصب الراية: 185/4) .
(4) مغني المحتاج: 265/4،270، كشاف القناع: 201/3.
(5) يسن نحر الإبل، وذبح البقر والغنم (نيل الأوطار: 122/5) .(4/292)
الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] فقد علق الحل بالتذكية.
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سناً أو ظفراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظُّفر فمدى الحبشة» (1) .
والحكمة من الذبح: مراعاة صحة الإنسان العامة، ودفع الضرر عن الجسم، بفصل الدم عن اللحم وتطهيره من الدم؛ لأن تناول الدم المسفوح حرام بسبب إضراره بالإنسان، لأنه مباءة الجراثيم والمكروبات، ولكل دم زمرة أو فصيلة تناسبه، فيمنع الاختلاط بين الدماء، ويعد الدم نجساً تنفيراً منه. قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم والشحم من حرامهما، وتنبيه على تحريم الميتة لبقاء دمها.
المبحث الأول ـ الذابح
الذابح أحد أصناف ثلاثة: صنف تحرم ذكاته بالاتفاق، وصنف تجوز تذكيته بالاتفاق، وصنف مختلف فيه (2) .
فالذابح الذي لا تؤكل ذبيحته وتحرم بالاتفاق: هو الكافر من غير أهل الكتاب، كالمشرك أو الوثني عابد الأصنام، والملحد الذي لا يدين بدين، والمرتد وإن تدين بدين أهل الكتاب، والزنديق، لقوله تعالى: {وما ذُبح على النُّصُب} [المائدة:3/5] وقوله: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/5] لأنه يحرم الاتجاه
__________
(1) رواه الجماعة عن رافع بن خديج (نيل الأوطار: 141/8) .
(2) بداية المجتهد: 435/1، القوانين الفقهية: ص 180، الميزان: 60/2، رحمة الأمة بهامش الميزان للدمشقي: 154/1، البدائع: 45/5، المهذب: 251/1، المغني: 564/8، كشاف القناع: 203/6.(4/293)
بالذبح إلى غير الله تعالى، والمرتد لا يقر على الدين الذي انتقل إليه، وبناء عليه تحرم اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية كاليابان، أو الشيوعية كروسيا والصين، أو التي لا تدين بدين سماوي كالهند. كماتحرم ذبيحة الباطنية إلا من ثبت إيمانه بالإسلام وترك ملته.
والذابح المتفق على ذكاته: هو المسلم البالغ العاقل الذكر، الذي لا يضيع الصلاة، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] والخطاب فيه موجه للمسلمين.
وأشهر المختلف في تذكيته بين الفقهاء: أهل الكتاب والمجوس والصابئون، والمرأة والصبي والمجنون والسكران، والسارق والغاصب.
1 ً ـ ذبيحة الكتابي: فأما أهل الكتاب: فتجوز من حيث المبدأ ذبائحهم بالإجماع (1) لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} ـ أي ذبائحهم ـ {حل لكم، وطعامكم حل لهم} [المائدة:5/5] . والجائز: هو ما يعتقدونه في شريعتهم حلالاً لهم، ولم يحرم عليهم، كلحم الخنزير، ولو لم يعلم أنهم سموا الله تعالى، أو كانت الذبيحة لكنائسهم وأعيادهم ولو اعتقدوا تحريمه كالإبل. قال ابن عباس: «وإنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل» (2) .
إلا أن الإمام مالك قال: ذبائحهم المحرمة عليهم مكروهة لنا، كالإبل والشحوم الخالصة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل
__________
(1) البدائع، المكان السابق، تكملة الفتح: 52/8، تبيين الحقائق: 287/5، رد المحتار: 208/5، بداية المجتهد: 436/1، الشرح الكبير: 99/2، المنتقى على الموطأ: 112/2، مغني المحتاج: 266/4 ومابعدها، المغني: 567/8 ومابعدها. تفسير القرطبي: 76/6، أحكام القرآن للجصاص: 146/1.
(2) رواه الحاكم وصححه.(4/294)
ذي ظفر (1) ، ومن البقر والغنم، حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم} [الأنعام:146/6] . وأجازها الجمهور لأنها مسكوت عنها في شرعنا، فتبقى على أصل الإباحة.
وكذلك تكره عند المالكية والشافعية وفي رواية عن أحمد المذبوحة لكنائسهم وأعيادهم، لما فيها من تعظيم شركهم، ولأن الذابح قصد بقلبه الذبح لغير الله، ولم يذكر اسم الله عليه. وهذا هو الأصوب.
وأما إذا علم أن الذابح سمى على الذبيحة غير اسم الله، بأن ذبح النصراني باسم المسيح، واليهودي باسم العزير، فقال الجمهور بعدم الحل لقوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} [المائدة:3/5] {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/6] وهذا هو الأولى بالصحة؛ لأن المراد بحل ذبائحهم ما ذبحوه بشرطه كالمسلم.
وقال المالكية: بكراهة ذلك في غير حرمة، لعموم آية {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة:5/5] لأنه قد علم الله أنهم سيقولون على ذبائحهم مثل ذلك، ولأن تسميتهم باسم الإله حقيقة ليست على طريق العبادة، فكانت التسمية منهم وعدمها على سواء.
وقيد الشافعية حل ذبيحة الكتابي وزواج الكتابية بشرط هو ما يأتي (2) :إن لم يكن الكتابي إسرائيلياً: فالأظهر الحل إن علم دخول قومه (أي أول من تدين من آبائه) في ذلك الدين (أي دين موسى وعيسى عليهما السلام) قبل نسخه وتحريفه، لتمسكهم بذلك الدين حين كان حقاً.
__________
(1) قال قتادة: تفسير كل ذي ظفر: هي الإبل والنعام والبط وكل ما ليس بمشقوق الأصابع.
(2) مغني المحتاج: 187/3 وما بعدها.(4/295)
وإن كان الكتابي إسرائيلياً (1) فالشرط فيه: ألا يعلم دخول أول آبائه في ذلك الدين بعد بعثة تنسخه، بأن علم دخول أول آبائه في ذلك الدين قبل البعثة، أو شك. فإن علم دخوله فيه بعد تحريفه، أو بعد بعثه لا تنسخه، كبعثة بين موسى وعيسى، فإنه يحل ذبحه، وتزوج الأنثى (2) . وفي علمي أنه لا دليل للشافعية على هذا الشرط؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أكلوا من ذبائح الكتابيين وتزوجوا من نسائهم، ولم يبحثوا عن توافر هذا الشرط.
2 ً ـ ذبيحة المجوس: لا تؤكل ذبيحة المجوس وصيدهم (3) ؛ لأنهم مشركون ليسوا من أهل الكتاب، إذ يعتقد المجوسي بخالقين اثنين: للخير والشر، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» (4) وقد روى أحمد بإسناده عن قيس بن سكن الأسدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنكم نزلتم بفارس من النَّبط، فإذا اشتريتم لحماً، فإن كان من يهودي أو نصراني، فكلوا، وإ ن كان ذبيحة مجوسي، فلا تأكلوا» .
3 ً ـ ذبيحة الصابئة: الصابئون إن وافقوا أهل الكتاب في أصول العقائد تؤكل ذبائحهم، وإن لم يوافقوهم وكان دينهم بين المجوسية والنصرانية، أو يعتقدون بتأثير النجوم، فلا تؤكل ذبائحهم (5) . وهذا التفصيل وهو رأي الشافعية هو الأولى خلافاً لمن قال بالحل كأبي حنيفة، أو بالحرمة مطلقاً وهم المالكية.
__________
(1) وهو المنسوب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
(2) ولم يجز الشيعة الإمامية أكل ذبيحة الكتابي لقول جعفر الصادق: «لا تأكلوا ذبائحهم» ولأن الإله الذي يذكرون اسمه ـ إن ذكروه ـ هو أبو المسيح أو أبو عزير، فوجود هذا اللفظ كعدمه. (المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 251) .
(3) تبيين الحقائق: 287/5، البدائع: 45/5، الدر المختار: /209، بداية المجتهد: 438/1، مغني المحتاج: 266/4، المغني: 570/8.
(4) غريب بهذا اللفظ، وروي من طريق آخر، مطعون السند (نصب الراية: 181/4) . ومن تمسك بحل ذبيحة المجوسي كأبي ثور احتج بالشق الأول منه وهو «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
(5) القوانين الفقهية: ص 180، بداية المجتهد: 438/1.(4/296)
4 ً ـ ذبيحة المرأة والصبي: تحل ذبيحة المرأة ولو حائضاً، والصبي المميز (1) ؛ لأن للمرأة أهلية كاملة، لكن يستحب كون الذابح رجلاً؛ لأنه أقوى على الذبح من المرأة، ولأن للصبي قصداً صحيحاً، فأشبه البالغ. وتصح ذبيحة غير المميز مع الكراهة عند الشافعية؛ لأن له قصداً وإرادة في الجملة. ولا تصح ذبيحته عند جمهور الفقهاء لأنه لا قصد له، فلا يعقل التسمية، ولا يضبط الذبيحة، أي فلا يعلم شرائط الذبح من فري الأوداج والتسمية.
5 ً ـ المجنون والسكران: لا تحل ذبيحتهما عند الجمهور، لأنه لا قصد لهم كالصبي غير المميز، وأجاز الشافعية في الأظهر مع الكراهة ذبيحتهما؛ لأن لهما قصداً وإرادة في الجملة (2) .
6 ً ـ السارق والغاصب: أجاز جمهور الفقهاء غير الظاهرية ذبيحتهما، وذبيحة المستكره؛ لأن لهما قصداً صحيحاً، ولأنه ليس وجود الملك شرطاً من شروط التذكية (3) ، بدليل ما ثبت في السنة من إباحة ذبحهما مع الكراهية، في حديث الشاة المصلية (المشوية أو المطبوخة) التي ذبحت بغير إذن صاحبها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أطعموها الأسارى» (4) .
شروط الذابح: مما سبق تعرف شروط الذابح: وهي أن يكون مميزاً عاقلاً، مسلماً أو كتابياً: ذمياً أو حربياً أو من نصارى بني تغلب، قاصداً التذكية، ولو كان
__________
(1) تكملة الفتح: 52/8، اللباب: 223/3، الدر المختار وحاشيته: 209/5، تبيين الحقائق: 287/5، بداية المجتهد: 438/1، القوانين الفقهية: ص 181، الشرح الكبير: 99/2، مغني المحتاج: 267/4، المهذب: 251/1، كشاف القناع: 203/6، المغني: 564/8، 567، 573، 583.
(2) المراجع السابقة.
(3) بداية المجتهد: 438/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 181.
(4) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني عن عاصم بن كليب (نيل الأوطار: 321/5 ومابعدها) .(4/297)
مكرهاً على الذبح، ذكراً أو أنثى، طاهراً أو حائضاً أو جنباً، بصيراً أوأعمى، عدلاً أو فاسقاً؛ لعموم الأدلة وعدم المخصص، فلا يصح ذبح غير المميز والمجنون والسكران عند الجمهور خلافاً للشافعي، ولا تؤكل ذبيحة المشرك والمجوسي والوثني والمرتد، وتكره عند الشافعية ذكاة الأعمى وغير المميز والمجنون والسكران. وتكره عند الكل ذبيحة النصراني أو اليهودي والفاسق وتارك الصلاة.
ودليل إباحة ذبيحة المرأة: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتها بحجر، فسأل النبي فقال: «كلوها» (1) .
المبحث الثاني ـ الذبح أو التذكية:
وفيه ثلاثة عشر مطلباً:
المطلب الأول - عدد المقطوع:
اتفق العلماء على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمري والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا في الحد الأدنى الذي يجب قطعه:
1 - فقال أبو حنيفة (2) : يجب قطع الأكثر من أربعة أي ثلاثة منها: وهي الحلقوم، والمري والودجان، فلو ترك الذابح واحداً منها يحل. لحديث «أفر الأوداج بما شئت» (3) والأوداج: اسم جمع، أقله ثلاثة.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 139/8) .
(2) البدائع: 41/5، الدر المختار: 207/5، تبيين الحقائق: 290/5، اللباب: 226/3، تكملة فتح القدير: 57/8.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب. ولفظه المؤيد له: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم: «أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم الله» وروى ابن أبي شيبة عن رافع بن خديج: «كل ما أفرى الأوداج إلا سناً أو ظفراً» (نصب الراية: 185/4 ومابعدها) .(4/298)
وقال أبو يوسف: لا بد من قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين؛ لأن كل واحد من العروق يقصد بقطعه غير ما يقصد به الآخر؛ لأن الحلقوم مجرى النفَس، والمري: مجرى الطعام، والودجين مجرى الدم.
وقال محمد: لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره، لأنه إذا قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة، فقد حصل المقصود بالذبح، وهو خروج الدم.
2 - وقال المالكية في المشهور عندهم (1) : لا بد من قطع جميع الحلقوم وجميع الودجين. ولا يشترط قطع المري عندهم. فكان مذهبهم قريباً من الحنفية، ودليلهم المفهوم من حديث رافع بن خَديج: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل» (2) وحديث أبي أمامة: «ما أفرى الأوداج، ما لم يكن قرض سن، أو جزّ ظفر» (3) فالأول: يقتضي قطع بعض الأوداج فقط، وهو معنى إنهار الدم، والثاني: يقتضي قطع جميع الأوداج، ولا يمكن قطع الودجين بدون الحلقوم، لاحاطتهما به. وهذا أدق وأصح الآراء.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (4) : لا بد من قطع كل الحلقوم (مجرى النفَس) والمري (مجرى الطعام) ؛ لأن الحياة تفقد بفقدهما. ويستحب قطع الودجين (وهما عرقان في صفحتي العنق) ؛ لأنه من الإحسان في الذبح، وخروجاً من الخلاف. وإجزاء قطع الحلقوم والمري مشروط بوجود الحياة المستقرة عند أول قطعهما (بأن
__________
(1) الشرح الكبير: 99/2، بداية المجتهد: 431/1، القوانين الفقهية: ص 184.
(2) متفق على صحته، رواه الجماعة (نيل الأوطار: 141/8) .
(3) أخرجه الطبراني في معجمه (نصب الراية: 186/4) .
(4) مغني المحتاج: 270/4، المهذب: 252/1، كشاف القناع: 204/6، المغني: 575/8، بجيرمي الخطيب: 248/4.(4/299)
أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع) ، فإن لم يسرع قطعهما (بأن أسرع في الذبح فقطعهما دفعة، وإلا اشترطت عند آخر قطع) ، فإن لم يسرع قطعهما ولم تكن فيه حياة مستقرة، بل انتهى لحركة مذبوح، لم يحل؛ لأنه صار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ.
المطلب الثاني ـ موضع القطع:
لا خلاف في أنه إذا قطعت جوزة الحلقوم (أي العقدة التي في أعلى الحلق) في نصفها، وخرج بعضها إلى جهة البدن، وبعضها إلى جهة الرأس، حلت الذبيحة.
فإن لم تقطع الجوزة في نصفها، وخرجت إلى جهة البدن، فقال جمهور الفقهاء غير الحنفية: لا تؤكل؛ لأن قطع الحلقوم شرط في الذكاة، فلا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليماً. وعلى هذا فلا بد من أن يبقى من الجوزة تدويرتان كاملتان: إحداهما من أعلى، والثانية من أسفل، وإلا لم يحل المذبوح، لأنه حينئذ يسمى مزعاً لا ذبحاً.
وقال الحنفية وبعض المالكية: تؤكل، لأنه لا يشترط قطع الحلقوم ذاته، فإن قطع فوق الجوزة، جاز (1) لأنه يشترط فقط قطع أكثر الأوداج، وقد وجد.
وعبارة الحنفية: المختار أن كل شيء ذبح وهو حي، أكل، وعليه الفتوى، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] من غير تفصيل.
__________
(1) الشرح الكبير: 99/2، بداية المجتهد: 432/1، اللباب شرح الكتاب: 225/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 184، رد المحتار: 207/5.(4/300)
المطلب الثالث ـ الذبح من القفا:
قال المالكية (1) : لا يؤكل ما ذبح من القفا، ولا في صفحة العنق إذا وصل من ذلك إلى قطع ما يجب في الذكاة؛ لأن القاطع للعروق أعضاء الذكاة من القفا، لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع الشوكي، وهو مقتل من المقاتل، فيحصل الذبح لحيوان قد أصيب مقتله.
وقال جمهور الفقهاء (2) : يكره ذبح الحيوان من القفا، أو من صفحة العنق، فلو فعل ذلك عصى لما فيه من التعذيب. لكن إن حدث القطع على وجه السرعة، وأتت السكين على موضع الذبح، وفي الحيوان حينئذ حياة مستقرة حتى تقطع العروق عند الحنفية، والحلقوم والمري عند الشافعية والحنابلة، جاز أكله، وإلا لم يحل لموته بلا ذكاة. ويعلم وجود الحياة المستقرة بوجود الحركة أو انفجار الدم بعد قطع موضع الذبح، فهي دليل بقاء الحياة المستقرة قبله. فإن لم يعلم وشك، هل توجد الحياة المستقرة قبل قطع موضع الذبح نظر: فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع، أبيح أكله، وإن كانت الآلة كالَّة (لا تقطع) ، وأبطأ قطعه، وطال تعذيبه للحيوان لم يبح أكله؛ لأنه مشكوك في وجود ما يحله، وصار ميتة، فلا يفيده الذبح بعدئذ.
المطلب الرابع ـ قطع النخاع:
إن تمادى الذابح بالذبح حتى قطع النخاع (3) ، أو قطع كل الرقبة (إبانة
__________
(1) بداية المجتهد، القوانين الفقهية: المكان السابق، الشرح الكبير: 99/2، شرح الرسالة: 379/1.
(2) الدر المختار: 208/5، اللباب: 227/3، تكملة الفتح: 60/8، الشرح الصغير: 174/2، القوانين الفقهية وبداية المجتهد: المكان السابق، المهذب: 252/1، مغني المحتاج: 271/4، كشاف القناع: 205/6، الميزان: 60/2، المغني: 578/8 ومابعدها.
(3) النخاع: وهو عرق أبيض يمتد من الدماغ، ويستبطن فقرات الرقبة إلى عَجب الذنب (أي أصل الذنب) .(4/301)
الرأس) ، كره الذبح عند جمهور الفقهاء غير الحنابلة (1) ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن النَّخْع (بلوغ السكين النخاع) ولأن فيه زيادة تعذيب، فإن فعل ذلك لم يحرم؛ لأن قطع النخاع يوجد بعد حصول الذكاة.
وقال الحنابلة (2) : لو أبان رأس الحيوان المأكول بالذبح أو بسيف، أبيح مطلقاً، لإفتاء علي وعمران بن حصين بأكله.
المطلب الخامس ـ فورية الذبح:
يشترط الإسراع أو الفورية في إكمال الذبح عند جمهور الفقهاء (3) ، فإن رفع يده قبل تمام الذبح، ثم أعادها فوراً، تؤكل الذبيحة. فإن تباعد ذلك لم تؤكل، لأن الذكاة طرأت على منفوذة المقاتل، أي التي نفذ فيها أثر القتل قبل الذبح فصارت ميئوسة مقطوعاً بموتها. وقال الحنفية (4) : يستحب التذفيف (الإسراع) في قطع الأوداج، ويكره الإبطاء فيه، للحديث: «وليرح ذبيحته» والإسراع نوع راحة له.
المطلب السادس ـ شروط الذبح أو التذكية الشرعية:
يشترط لجواز التذكية أو الذبح شروط أخرى عدا ما ذكر من قطع العروق، والفورية، وكون الذابح مسلماً أو كتابياً، وهي ما يأتي:
__________
(1) الدر المختار، بداية المجتهد، المهذب، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص 581، اللباب مع الكتاب: 227/3.
(2) كشاف القناع: 205/6 ومابعدها.
(3) رد المحتار: 207/5، بداية المجتهد، القوانين الفقهية: المكان السابق، مغني المحتاج: 271/4، كشاف القناع: 204/6، شرح رسالة القيرواني: 379/1.
(4) البدائع: 60/5.(4/302)
أولاً ـ النية أو القصد: أي قصد الفعل لتؤكل لا مجرد إزهاق الروح: يشترط في الذبح باتفاق الفقهاء (1) قصد عين المذبوح بالفعل، وإن أخطأ في الظن، أو قصد الجنس، وإن أخطأ في الإصابة. فلو تم قطع العروق بغير نية الذبح، إذ لم يقصد أحد تحقيقه، لم تحل الذبيحة، كما لوضرب حيواناً بآلة، فأصابت منحره، أو أصابت صيداً، أو قصد مجرد إزهاق روحه من غير قصد تذكية، لم يؤكل (2) .
ثانياً ـ التسمية عند التذكية حالة التذكر: بأن يقول: (بسم الله) عند حركة يده بالذبح أو النحر أو العقر، ويسن التكبير مع التسمية بأن يقول: (بسم الله، والله أكبر) . قال جمهور الفقهاء غير الشافعية (3) : تشترط التسمية عند التذكية وعند الإرسال في العقر، فلا تحل الذبيحة، سواء أكانت أضحية أم غيرها، في حال ترك التسمية عمداً، وكانت ميتة. فلو تركها سهواً، أو كان الذابح المسلم أخرس أو مستكرهاً، تؤكل لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق} [الأنعام:121/6] وأضاف الحنابلة: من ترك التسمية على الصيد عامداً أو ساهياً، لم يؤكل. وعلى هذا فتحقيق المذهب عندهم أن التسمية على الذبيحة تسقط بالسهو، وعلى الصيد لا تسقط. وقال الظاهرية: تشترط التسمية مطلقاً، ولا يؤكل متروك التسمية عمداً أو سهواً.
__________
(1) تكملة الفتح: 53/8، تبيين الحقائق: 287/5، رد المحتار: 209/5، الشرح الكبير: 106/2، بداية المجتهد: 435/1، القوانين الفقهية: ص 184، مغني المحتاج: 276/4 ومابعدها، المغني: 581/8، كشاف القناع: 202/6.
(2) قال النووي في المنهاج (مغني المحتاج، المكان السابق) : «لو كان بيد شخص سكين مثلاً، فسقط من يده، وانجرح به صيد، أو احتكت به شاة، وهو في يده، فانقطع حلقومها ومريئها، أو استرسل كلب، فأغراه صاحبه، فزاد عَدْوه لم يحل الصيد في الأصح، لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح، فغلب جانب المنع» .
(3) البدائع: 46/5، تكملة الفتح: 54/8، تبيين الحقائق: 288/5، الدر المختار: 210/5، الشرح الكبير: 106/2، بداية المجتهد: 434/1، القوانين الفقهية: ص 185، كشاف القناع: 206/6، المغني: 656/8.(4/303)
وقال الشافعية (1) : تسن التسمية ولا تجب وتركها مكروه، لقوله تعالى: {فكلوا مما ذكراسم الله عليه} [الأنعام:118/6] فلو ترك التسمية عمداً، أو سهواً، حل الأكل، ولأن الله تعالى في قوله: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] أباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وأباح الله تعالى ذبائح أهل الكتاب، وهم لا يسمون غالباً، فدل على أنها غير واجبة.
أما الذبيحة التي يحرم أكلها، فهي التي ذكر اسم غير الله عليها، وهي التي كانت تذبح للأصنام. وهذا هو المقصود بآية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/6] .
ويدل لمذهب الشافعية من السنة أحاديث منها:
حديث عائشة رضي الله عنها: «إن قوماً قالوا: يا رسول الله: إن قومنا يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا الله عليه أنتم، وكلوا» (2) وفي رواية لمالك: «وكانوا حديثي عهد بالكفر» ولو كانت التسمية واجبة، لما أجاز الأكل مع الشك.
وحديث عدي بن حاتم، قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن الصيد؟ فقال: إذا رميت بسهمك، فاذكر اسم الله عليه» (3) .
وحديث الصلت السدوسي: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» (4) ويذكره الفقهاء بلفظ غريب: «المسلم يذبح على اسم الله تعالى، سمى أو
__________
(1) مغني المحتاج: 272/4، المهذب: 252/1.
(2) رواه البخاري والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 139/8، نصب الراية: 183/4 ومابعدها) .
(3) أخرجه الأئمة الستة في كتبهم (نصب الراية: 184/4) .(4/304)
(4) مرسل رواه أبو داود في المراسيل (نصب الراية: 183/4) . لم يسم» ، وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله، قال: اسم الله على كل مسلم» (1) وفي لفظ: «على فم كل مسلم» أو «اسم الله في قلب كل مسلم» .
والأحاديث الأخرى المطالبة بالتسمية مثل خبر أبي ثعلبة: «فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله، ثم كل ... » محمولة على الندب. وهذا الرأي أيسر من غيره، لكن أدلة الجمهور وأحاديثهم أصح وأقوى ثبوتاً وأعم مراداً.
المطلب السابع ـ سنن التذكية:
يستحب في التذكية ما يأتي وهي سنن الذبح (2) :
1 - التسمية عند من لا يوجبها وهم الشافعية، والتكبير، فيقول: بسم الله، والله أكبر. ولا يقل: باسم الله واسم محمد، وأضاف الشافعية: ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم عند الذبح؛ لأنه محل طاعة.
2 - كون الذبح بالنهار، ويكره تنزيهاً عند الحنفية بالليل، قياساً على الأضحية، خشية الخطأ في الذبح، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأضحية ليلاً، وعن الحصاد ليلاً (3) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني، وفيه ضعيف (نصب الراية، المكان السابق) .
(2) البدائع: 60/5، الدر المختار: 208/5، تبيين الحقائق: 291/5، تكملة الفتح: 60/8، بداية المجتهد: 435/1، القوانين الفقهية: ص 185، الشرح الكبير: 271/4 ومابعدها، المهذب: 251/1 ومابعدها، كشاف القناع: 208/6 ومابعدها.
(3) أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن الذبح ليلاً، لكن في إسناده متروك. وفي البيهقي عن الحسن: «نهى عن جذاذ الليل وحصاده، والأضحية بالليل» وهو حديث مرسل (نيل الأوطار: 126/5) .(4/305)
3 - توجه الذابح والذبيحة نحو القبلة؛ لأن القبلة جهة معظمة وهي أشرف الجهات، والتذكية عبادة، وكان الصحابة إذا ذبحوا استقبلوا القبلة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لما ضحى، وجه أضحيته إلى القبلة، وقال: {وجهت وجهي..} [الأنعام:79/6] الآيتين (1) . فإن لم يستقبل ساهياً أو لعذر، أكلت.
4 - إضجاع الذبيحة على شقها الأيسر برفق، ورأسها مرفوع. ويأخذ الذابح جلد حلقها من اللحي الأسفل، فيمده، حتى تتبين البشرة، ثم يمر السكين على الحلق تحت الجوزة، حتى يقف في عظم الرقبة. فإن كان أعسر، جاز أن يجعلها على شقها الأيمن. ويكره ذبح الأعسر ويستحب أن يستنيب غيره.
وتترك رجلها اليمنى تتحرك بعد الذبح لتستريح بتحريكها، إلا الإبل، فالأفضل أن تنحر قائمة معقولة ركبتها اليسرى، لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/22] كما سيأتي.
5 - نحر الإبل قائمة معقولة الركبة اليسرى، وذبح البقر والغنم مضجعة لجنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى، وتشد باقي القوائم، لقوله تعالى في الإبل: {فاذكروا اسم الله عليها صوافّ} [الحج:36/22] قال ابن عباس: «أي قياماً على ثلاث» (2) أما الشاة ففي الصحيحين: «أنه أضجعها» وقيس عليها البقر وغيره، لأنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين، وإمساك الرأس باليسار.
ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب نحر الإبل (3) ، وذبح ما سواها، قال الله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:2/108] وقال تعالى: {إن الله
__________
(1) رواه ابن ماجه عن جابر (نيل الأوطار: 126/5) .
(2) رواه الحاكم وصححه.
(3) معنى النحر: أن يضربها بحربة أو نحوها، في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها.(4/306)
يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة:67/2] قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح (1) . وثبت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحر بدنة، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» (2) .
6 - قطع الأوداج كلها والتذفيف أي الإسراع بالذبح، ويكره قطع البعض دون البعض، لما فيه من إبطاء فوات الحياة. ولايبلغ بالذبح النخاع (وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرقبة) ولا إبانة الرأس، ولو فعل ذلك يكره، لما فيه من زيادة إيلام من غير حاجة إليه، كما بان سابقاً.
7 - إحداد الشفرة (السكين العظيمة) قبل الإضجاع، لا بمرأى البهيمة؛ لأنها تعرف الآلة الجارحة كما تعرف المهالك، فتتحرز عنها، فإذا أحد الشفرة، وقد أضجعها، يزداد ألمها. قال النبيصلّى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (3) وفي سنن البيهقي أن عمر رضي الله عنه «رأى رجلاً وقد أضجع شاة، ووضع رجله على صفحةوجهها، وهو يحد الشفرة، فضربه بالدِّرة» وعن ابن عباس قال: «مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: أفلا قُتِل هذا، أو يريد أن يميتها موتتين» (4) .
ويستحب ألا يذبح شاة، وأخرى تنظر إليه لما روى ابن عمر: «أن رسول الله
__________
(1) المغني: 575/8 ومابعدها.
(2) متفق عليه.
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن شدّاد بن أوس (نيل الأوطار: 141/8) والقتلة والذبحة: هي الهيئة والحالة.
(4) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 33/4) .(4/307)
صلّى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم» (1) .
8 - الترفق بالبهيمة، فلا يضرب بها الأرض، ولا تجر برجلها إلى المذبح؛ لأنه إلحاق زيادة ألم بها من غير حاجة إليها في التذكية.
المطلب الثامن ـ مكروهات التذكية:
يكره في الذبح أو التذكية ترك السنن السابقة، فتكون مكروهات التذكية ما يأتي (2) :
1 - ترك التسمية عند من لا يوجبها أو لا يشترطها، وهم الشافعية وبعض المالكية. أو قرن اسم الله باسم محمد أو غيره. ويكره عند الحنفية أن يقول الذابح عند الذبح: اللهم تقبل من فلان. وإن قال ذلك قبل التسمية والإضجاع أوبعد الذبح جاز.
2 - التوجه بالذبيحة لغير القبلة، لمخالفة السنة.
3 - نحر الشياه وذبح الإبل عند الحنفية، لمخالفة ما ثبت بالسنة، ولا يكره ذلك عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه.
4 - التعذيب أو زيادة الألم بلا فائدة مثل قطع الرأس، وكسر الرقبة، وبلوغ النخاع، والذبح من القفا (3) ، وجر الحيوان برجله إلى المذبح، وحد الشفرة أمامه بعد الإضجاع، والذبح أمام بهيمة أخرى لمخالفة الثابت في السنة، والسلخ أو النخع (قطع النخاع) قبل أن يبرد الحيوان، لما روي
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه.
(2) البدائع: 60/5، تبيين الحقائق: 292/5، الدر المختار: 208/5، الشرح الصغير: 173/2، القوانين الفقهية: ص 185، مغني المحتاج: 172/4، كشاف القناع: 208/6 ومابعدها، المغني: 580/8.
(3) إن بقيت حية حتى تقطع العروق، وإلا لم يحل لحدوث الموت بلا ذكاة.(4/308)
«أن الفَرافِصَة قال لعمر رضي الله عنه: إنكم تأكلون طعاماً لا نأكله، قال: وما ذاك يا أبا حسان؟ فقال: تُعجلون الأنفس قبل أن تزهق (1) . فأمر عمر رضي الله عنه منادياً ينادي: الذكاة في الحلق والَّلبة لمن قدر، ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» (2) .
5 ـ الذبح بالسن والظفر والعظم المنزوع عند الحنفية الذين يجيزون التذكية بها، مع الكراهة لما فيه من الضرر بالحيوان كذبحه بشفرة كليلة. أما الذبح بالقائم غير المنزوع من الظفر ونحوه فلا يحل.
المطلب التاسع ـ أنواع التذكية:
التذكية التي تحل الأكل عند المالكية (3) أربعة أنواع:
1 - إدماء أو صيد أو عقر في غير المقدور عليه، المتوحش، لا الإنسي الذي يكون من الأنعام، أما الحمام ونحوه فكله صيد، فلو توحش أكل بالعقر.
2 - وذبح في الحلق بقطع جميع الحلقوم وجميع الودجين للطيور ولو نعامة، والغنم.
3 - ونحر في اللبة: وهي وسط الصدر للإبل والزرافة (4) . وأما البقر فيجوز فيها الذبح والنحر، لكن يندب فيها الذبح، أي أن الأنعام يشترط فيها الذبح أو النحر.
4 - فعل يزيل الحياة بأي وسيلة وهو تأثير بقطع أو غيره في الجراد؛ لأن المقرر عند المالكية خلافاً لعامة الفقهاء: أن الجراد لا يؤكل من غير ذكاة، وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك.
ويجب النحر في الإبل والزرافة، والذبح في غيرها. فإن ذبح ماينحر أو نحر ما يذبح ولو سهواً إن قدر، من غير ضرورة، لم تؤكل الذبيحة. ويجوز للضرورة الذبح في الإبل، والنحر في غيرها كوقوع الحيوان في هوة، أو لعدم وجود آلة الذبح أو النحر.
__________
(1) الأنفس ههنا: الأرواح التي تكون حركة الأبدان بها، وزهوقها: خروجها من الأبدان وذهابها.
(2) المهذب: 253/1.
(3) الشرح الكبير: 99/2، 103، 107، بداية المجتهد: 429/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 183 ومابعدها.
(4) الذبح عند المالكية: قطع الحلقوم والودجين من المقدّ بنية. وعقر الحيوان: هو أن يرمى بسهم في أي موضع من جسمه، فيجرحه ويميته. والنحر: ذبح من أعلى الصدر، ويكون في اللَّبة: وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر.(4/309)
والخلاصة: أن الأنعام إذا توحشت لاتؤكل بالصيد عندهم، لكن يؤكل بالصيد إن تأنس متوحش الأصل ثم هرب، أو توحش الحمام ونحوه؛ لأن كله صيد.
وكذلك تنقسم التذكية عند الشافعية إلى ثلاثة أقسام: ذبح، ونحر، وعقر، أما الذبح: فهو قطع الحلق (أعلى العنق) والمري من الحيوان، وتذكى به جميع الحيوانات.
وأما النحر: فهو قطع لَبّة الحيوان، وهي أسفل العنق، وهو المسنون في الإبل.
وأما العقر: فهو ذكاة الضرورة، وهو جرح الحيوان، بأي فعل مزهق للروح. في أي مكان في جسمه. ويستعمل في تذكية الحيوان المأكول إذا ندَّ، ولم يتمكن صاحبه من القدرة عليه. وعلى هذا يرى الجمهور غير المالكية (1) أن الذكاة نوعان: اختيارية، واضطرارية في معنى الصيد.
أما الاختيارية: فهي الجرح في الحلق (الحلقوم) مابين اللبة واللحيين، عند القدرة على الحيوان. ولابد من ذبح المستأنس؛ لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار.
والاضطرارية: الجرح في أي موضع كان من البدن عند العجز عن الحيوان، أي كأنها صيد، فتستعمل للضرورة في المعجوز عنه من الصيد والأنعام، أي أنها تستعمل عند الجمهور غير المالكية في الحيوان المتوحش، أو الحيوان المستأنس إذا شرد، ولم يمكن الحصول عليه، لأن التكليف بحسب الوسع. وتسمى هذه الحالة: العقر أي إزهاق الروح في أي موضع كان. ويكون العقر أو ذكاة الضرورة بآلة جارحة لا بمثقل أو حجر أي بالجرح أو الطعن، أو إنهار الدم في أي موضع كان من البدن، بحيث يسيل دمه. ويشترط عند الشافعية: أن يكون الجرح مفضياً إلى الزهوق أي يؤدي إلى الموت.
وأما عند المالكية: فلا يحل الحيوان بذكاة الضرورة إذا كان مستأنساً من الأنعام.
__________
(1) تبيين الحقائق: 286/5، تكملة الفتح:60/8 ومابعدها، الدر المختار وحاشيته: 206/5،213، مغني المحتاج: 265/4، 268 ومابعدها، 271، المهذب: 255/1، المغني: 566/8، 573، 575، 577، كشاف القناع: 205/6، الشرح الكبير للدردير: 103/4، 110.(4/310)
فلو توحش حيوان أهلي بعد أن كان إنسياً أو مستأنساً، أو ندَّ بعير (شرد) أو تردى في بئر ونحوه، ولم تمكن الذكاة الاختيارية أي عجز عنها بذبحه في الحلق، فذكاته عند غير المالكية حيث يصاب بأي جرح من بدنه، ويحل حينئذ أكله، كصيد
الطائر أو الحيوان المتوحش، لحديث رافع بن خديج، قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لهذه البهائم أوابد، كأوابد الوحش، فما فعَل منها هذا، فافعلوا به هكذا (1) » . وهذا هو الرأي الأرجح.
وإن نحر ما يذبح، أو ذبح ما ينحر أكل مع الكراهة عند الحنفية (2) ، وبلا كراهة عند الشافعية والحنابلة، لعدم ورود نهي فيه.
المطلب العاشر ـ ما يحرم أكله من المذبوح:
قال الحنفية (3) : لا تؤكل سبعة أشياء من أجزاء الحيوان المأكول وهي: الدم المسفوح، والذكر، والأنثيان، والقبُل، والغدة (4) ، والمثانة، والمرارة. لقوله عز شأنه: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] وهذه الأشياء السبعة مما تستخبثه الطباع السليمة. وروي عن مجاهد أنه قال: «كره رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشاة: الذكر، والأنثيين، والقبل، والغدة، والمرارة، والمثانة والدم» والمراد منه كراهة التحريم، بدليل أنه جمع بين الأشياء الستة وبين الدم، في الكراهة، والدم المسفوح محرم. والمروي عن أبي حنيفة أنه قال: «الدم حرام، وأكره الستة» أطلق اسم الحرام على الدم المسفوح، لأنه ثبت بدليل مقطوع به،
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 143/8) والأوابد جمع آبدة: أي غريبة، وتأبدت: توحشت، والمراد أن لها توحشاً.
(2) يجوز في قول عند الحنفية استخدام ذكاة الضرورة فيما لو أدرك صيده حياً، أو أشرف ثوره على الهلاك، وضاق الوقت على الذبح، أو لم يجد آلة الذبح، فجرحه في غير محل الذبح، حل. وفي قول آخر: لا يحل أكله إلا إذا قطع العروق.
(3) البدائع: 61/5، رد المحتار: 219/5.
(4) الغدة: قطعة لحم صلبة تحدث عن داء بين الجلد واللحم.(4/311)
وهو النص القرآني: {قل: لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} ... إلى قوله: {أو دماً مسفوحاً} [الأنعام:6/145] وسمى ما سواه مكروهاً، لثبوته بدليل ظني.
المطلب الحادي عشر ـ أثر ذكاة الأم في الجنين:
لذكاة الجنين أربعة أحوال (1) :
الأول ـ أن تلقيه الأم ميتاً قبل الذبح، فلا يؤكل إجماعاً.
الثاني ـ أن تلقيه حياً قبل الذبح، فلا يؤكل إلا أن يذكى (يذبح) وهو مستقر الحياة.
الثالث ـ أن تلقيه حياً بعد تذكيتها، فإن ذبح وهو حي أكل، وإن لم تدرك ذكاته في حال الحياة، فهو ميتة، وقيل عند المالكية: ذكاته ذكاة أمه.
الرابع ـ أن تلقيه الأم ميتاً بعد تذكيتها، وهذا موطن الخلاف بين الفقهاء:
آـ فقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد: لا يؤكل بتذكية الأم؛ لأن الله تعالى حرم الميتة، وحرم المنخنقة، والجنين ميتة؛ لأنه لا حياة فيه، والميتة: كل حيوان مات من غير ذكاة، أو إن الجنين مات خنقاً، فيحرم بنص القرآن.
ولا يجعل الجنين تبعاً لأمه؛ لأنه يتصور بقاؤه حياً بعد ذبح الأم، فوجب إفراده بالذبح ليخرج الدم عنه، فيحل به، ولا يحل بذكاة أمه، إذ المقصود بالذكاة إخراج دمه ليتميز من اللحم، فيطيب، فلا يكون تبعاً للأم.
__________
(1) البدائع: 42/5، تبيين الحقائق: 293/5، اللباب: 228/3، القوانين الفقهية: ص 183، بداية المجتهد: 428/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 114/2، مغني المحتاج: 579/4، 306، المغني:579/8، شرح الرسالة: 381/1.(4/312)
والمراد بحديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه» هو التشبيه أي كذكاتها، فلا يدل على أنه يكتفى بذكاة الأم. والخلاصة: أن الجنين الميت لا يؤكل عند الحنفية، أشعر أو لم يشعر، أي تم خلقه، أو لم يتم، لأنه لا يشعر إلا بعد تمام الخلق.
ب ـ وقال جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة: يحل أكل الجنين إذا خرج ميتاً بذكاة أمه، أو وجد ميتاً في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح.
ويشترط فيه عند المالكية: أن يكون قد كمل خلقه: ونبت شعره، لما روي عن ابن عمر وجماعة من الصحابة، وقال كعب بن مالك: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين، فذكاته ذكاة أمه» .
وأجاز الشافعية والحنابلة أكل الجنين الميت، أشعر أم لم يشعر، لما روى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه، أشعر أو لم يشعر» .
ودليل الجمهور على الجواز حديث حسن: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (1) ، ورأيهم بدليل الثابت في السنة هو الأصح عندي، بل القياس يقتضي أن تكون ذكاة الجنين في ذكاة أمه؛ لأنه جزء منها، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه. قال ابن رشد المالكي: وعموم الحديث يضعف اشتراط أصحاب مالك نبات شعره، فلا يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس، أي قياسه على الأشياء التي تعمل فيها التذكية.
__________
(1) روي عن أحد عشر صحابياً وهم الخدري، وجابر، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو أيوب، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وعلي. فحديث أبي سعيد الخدري مثلاً رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والدارقطني وابن حبان وصححه (نصب الراية: 189/4 ومابعدها، نيل الأوطار: 144/8) .(4/313)
المطلب الثاني عشر ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت أو المريض:
إذا أشرف حيوان على الموت بسبب اعتداء عليه، أو مرض، ثم ذبح، فهل يحل أكله؟
أولاً ـ أثر الذكاة في المشرف على الموت بسبب اعتداء:
إذا اعتدي على الحيوان المأكول بخنق، أو ضرب، أو جرح سبع كذئب، ثم أدركه صاحبه فذبحه، أو لم يدركه، فمات، فله أحوال أربعة (1) :
1 - إن مات قبل الذكاة، لم يؤكل إجماعاً، لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] (2) فهذه الحيوانات الخمسة المذكورة في الآية (ما بعد المهل به لغير الله) لم يحل أكلها إذا ماتت قبل إدراكها حية ولم تذبح.
2 ـ إن أدرك حياً أي غلب على الظن أنها تعيش، بأن يصاب لها مقتل، فذبح، أكل إجماعاً، لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] .
__________
(1) رد المحتار: 217/5، الشرح الكبير:113/2، البدائع:40/5، القوانين الفقهية: ص 183، بداية المجتهد: 425/1 وما بعدها، كشاف القناع: 206/6، أحكام القرآن للجصاص: 306/2، أحكام القرآن لابن العربي: 539/2.
(2) أي إلا ما أدركتموه حياً مما سبق، فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع جزءاً منه وما أهل لغير الله به، فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عيناً أو يضرب برجل أو يد ثم ذبح، صار حلالاً، والمنخنقة: هي التي ماتت بأي شكل كان. والموقوذة: هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية. والمتردية: هي ما سقطت من مكان عال كجبل أو هوت في بئر. والنطيحة: هي ما نطحتها بهيمة أخرى، فماتت. وما أكل السبع: هي ما قتلت بافتراس حيوان كالذئب والنمر مثلاً، وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه اسم غير الله، لأن أكله مشاركة لأهله في عبادة غير الله.(4/314)
3 - إن نفذت مقاتل البهيمة: وهي المنفوذة المقاتل (1) (أي المقطوع بموتها) ، لم تؤكل عند المالكية وأجاز على وابن عباس أكلها. وتعمل فيها الذكاة عند الشافعية والحنابلة متى كان فيها حياة مستقرة. وتؤثر فيها الذكاة عند الحنفية إن علمت حياتها، أو لم تدر حياتها فتحركت أو خرج الدم، وهذا يتأتى فيما اعتدى عليها الذئب فبقر بطنها، وفي المنخنقة والمتردية والنطيحة؛ لعموم قوله تعالى: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/5] .
4- الميئوس من حياته ولم تنفذ مقاتله؛ أو المشكوك في أمره، تؤثر الذكاة في حل أكله عند الحنفية، وهو مشهور قول المالكية ما دامت حياته محققة. وقال بعض المالكية: لا تؤثر الذكاة فيه ولا يؤكل. وأجاز الشافعية والحنابلة ذبح الميئوس الذي تكون فيه حياة مستقرة، ولم يجز المشكوك في أمره.
وعلى هذا فإذا غلب على الظن أن المعتدى عليها تهلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال الحنفية والشافعية: تعمل الذكاة فيها، وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها، وعن مالك: الوجهان، وقال ابن القاسم: تذكى وتؤكل.
__________
(1) هي التي بلغ القتل فيها أحد أمور خمسة متفق عليها: وهي قطع الأوداج، وانتشار الدماغ، وانتشار الأحشاء، وخرق أعلى المصران في مجرى الطعام والشراب، لا أسفله. وقطع النخاع الشوكي (القوانين الفقهية، المكان السابق: الشرح الكبير: 113/2) .(4/315)
ومنشأ الخلاف في الميئوس منها وفي منفوذة المقاتل: هو الاستثناء المذكور في الآية السابقة، هل هو استثناء متصل أو منقطع؟ فمن قال: إنه متصل، قال: تعمل الذكاة في هذه الأحوال. ومن قال: إنه منقطع أي ما ذكيتم من غيرها، لم يعمل الذكاة فيها.
والمراد بالحياة المطلوب تحققها في هذه الحالة عند الحنفية والمالكية: هو وجود أمارة الحياة من حركة رجل أو طرفة عين أو جريان نفس، سواء عاشت من مثله أو لا تعيش، بقيت لمدة قصيرة أو طويلة، أي أن المطلوب بقدر حياة المذبوح بعد الذبح، وهو الحد الأدنى للحياة.
وعند الشافعية والحنابلة: أن تبقى فيه حياة مستقرة يمكن زيادتها على حركة المذبوح، سواء انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش.
ثانياً ـ أثر الذكاة في الحيوان المريض:
اتفق الفقهاء على تأثير الذكاة، وحل الأكل في الحيوان المريض الذي لم يشرف على الموت. واختلفوا في تأثير الذكاة في الحيوان الذي أشرف على الموت من شدة المرض (1) .
فقال الجمهور: وهو المشهور عن مالك: إن الذكاة تعمل فيه.
وقال بعضهم: إن الذكاة لا تعمل فيه.
وسبب الخلاف تعارض القياس مع الأثر. فالجمهور أخذوا بحديث كعب بن مالك المتقدم: أن جارية له كانت ترعى غنماً بسَلْع، فأبصرت شاة مشرفة على الموت، فأدركتها وذبحتها بحجر، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: كلوها (2) .
والبعض أخذ بالقياس: وهو أن الذكاة إنما تؤثر في الحي، وهذا في حكم الميت.
__________
(1) بداية المجتهد: 428/1، القوانين الفقهية: ص181 ومابعدها.
(2) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 139/8) .(4/316)
والحنفية من الجمهور على المفتى به فصَّلوا في المريضة، وفي الحالة الأخيرة من أحوال المنخنقة والمتردية والنطيحة، فقالوا (1) :
آـ إن عُلمت حياة الشاة، وإن كانت حياتها خفيفة على المفتى به، وقت الذبح، أكلت مطلقاً، وإن لم تتحرك ولم يخرج الدم. والحياة القليلة أو الخفيفة: هي أن يبقى في الشاة من الحياة بقدر ما يبقى في المذبوح بعد الذبح.
ب ـ وإذا لم تعلم الحياة، فتحركت، أو خرج الدم، حلت، وإن لم تتحرك أو لم يخرج الدم، لم تحل. وعلامات الحياة والموت تعرف بما يأتي: فتح الفم، أو العين، ومد الرجل، ونوم الشعر: علامة الموت، لأنها استرخاء، والحيوان يسترخي بالموت. وعكس ذلك يدل على الحياة، فضم الفم والعين، وقبض الرجل، ووقوف الشعر علامةالحياة.
وذكر المالكية علامات خمس على الحياة هي (2) :
سيلان الدم، لا خروج القليل منه، والركض باليد أو الرجل، وطرف العين، وتحريك الذنب، وخروج النفَس، فإن تحركت ولم يسل دمها، أكلت. وإن سال دمها ولم تتحرك، لم تؤكل؛ لأن الحركة أقوى في الدلالة على الحياة من سيلان الدم. وأما الاختلاج الخفيف فليس دليلاً على الحياة؛ لأن اللحم يختلج بعد السلخ.
والحياة عند الشافعية والحنابلة ثلاثة أنواع (3) :
1 - الحياة المستمرة: وهي الطبيعية الباقية إلى خروجها بذبح، أو نحوه. والذكاة تؤثر فيها بالحل:
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 217/5، 334.
(2) القوانين الفقهية: ص 182، أحكام القرآن للجصاص: 306/2.
(3) بجيرمي الخطيب: 248/4، كشاف القناع: 206/6، مغني المحتاج: 271/4، المغني: 583/8-585.(4/317)
2 - الحياة المستقرة: هي ما يوجد معها الحركة الاختيارية بقرائن وأمارات تغلب على الظن بقاء الحياة. ومن أماراتها: انفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمريء. والأصح الاكتفاء بالحركة الشديدة. ولايشترط العلم بوجود الحياة المستقرة عند الذبح، بل يكفي الظن بوجودها بقرينة كشدة الحركة أو انفجار الدم. وهذه تحل الذبيحة، فإن شك في وجودها، حرم تغليباً للتحريم.
3 - حياة المذبوح، أو حركة عيش المذبوح: وهي التي لا يبقى معها سمع لا إبصار، ولا حركة اختيار، وهذا النوع: إن وجد له سبب يحال عليه الهلاك، كما لو مرض الحيوان بأكل نبات مضر، حتى صار في آخر رمق، لم يحل على المعتمد. وإن لم يوجد سبب يحال عليه الهلاك، كأن مرض الحيوان، أو جاع حتى صار في آخر رمق، فذبحه، حل أكله.
المطلب الثالث عشر ـ أثر الذكاة في غير المأكول:
المقصود بهذا أن الذكاة أو الذبح، هل تؤثر في تحليل الانتفاع بجلود الحيوانات غير مأكولة اللحم، وسلب النجاسة عنها؟
للفقهاء رأيان في ذلك:
1 - فقال الحنفية والمالكية في المشهور (1) : إذا ذبح ما لا يؤكل كالسباع وغيرها يطهر لحمه وشحمه وجلده إلا الآدمي والخنزير. أما الآدمي فلحرمته وكرامته، وأما الخنزير فلنجاسة عينه. وقال الدردير والصاوي: مشهور المذهب أن الذكاة لا تطهر محرَّم الأكل كالخيل والبغال والحمير، والكلب والخنزير. أما سباع الوحش وسباع الطير، فتطهر بذبحها على المشهور.
وأصح ما يفتى به عند الحنفية: أن اللحم والشحم لا يطهر بالذكاة، والجلد يطهر به، وهذا التفصيل عندهم مخالف لما في متن الكنز والدر المختار والهداية من عدم التفصيل.
__________
(1) تبيين الحقائق: 296/5، تكملة الفتح: 64/8، الدر المختار: 290/1، 216/5، البدائع: 86/1، بداية المجتهد: 427/1، اللباب: 230/3، القوانين الفقهية: ص 181، الشرح الصغير: 45/1، شرح الرسالة: 384/1، الشرح الكبير: 56/1.(4/318)
ودليلهم: أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات النجسة والدماء السيالة، فإذا زالت طهرت البهيمة كما في الدباغ، وليس الجلد واللحم من الرطوبات أو الدماء. وإذا ثبت تحريم تناول لحم غير المأكول، بقي ما سواه على الأصل: وهو التطهير، فتؤثر الذكاة فيه، كما يؤثر الدباغ في تطهير الجلود. وإذا طهر الجلد بعد الذبح، فلو وقع في الماء القليل لا ينجسه. ويجوز الانتفاع بالجلد في غير الأكل. وقيل بقول آخر عند الحنفية: لا يجوز قياساً على الأكل.
2 - وقال الشافعية والحنابلة (1) : لا تؤثر الذكاة في شيء من الحيوان غير المأكول؛ لأن أثر الذكاة في إباحة اللحم هو الأصل، والجلد تبع للحم، فإن لم تعمل الذكاة في اللحم، لم تعمل فيما سواه، كذبح المجوسي أو الذبح غير المشروع. ولا يقاس الذبح على الدباغ، لكون الدبغ مزيلاً للخبث والرطوبات كلها، مطيباً للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغنى بها عن الدبغ.
__________
(1) مغني المحتاج: 58/1، المغني: 71/1.(4/319)
هذا ... وقد صرح الشافعية بأنه يحرم ذبح الحيوان غير المأكول، ولو لإراحته، كالحمار الزمِن مثلاِ، لأنه تعذيب له (1) ، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الكلاب إلا الأسود البهيم، فإنه أمر بقتله (2) .
المبحث الثالث ـ آلة الذبح
اتفق الفقهاء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر، أو عود، أو قضيب، أو زجاج تحل التذكية به.
واختلفوا في ثلاثة في السن والظفر والعظم، على رأيين، فأجاز الحنفية، والمالكيةـ في الجملة ـ الذبح بها، ومنع الشافعية والحنابلة إجمالاً التذكية بها، كما سيأتي، والأولى أو الأصح عدم الذبح بها لصحة الحديث الذي استدل به الشافعية وغيرهم.
1 - قال الحنفية (3) : يجوز الذبح بكل ما أفرى الأوداج، وأنهر الدم (أساله) ولو بنار أسالت الدم، أو بِليطَة (قشر القصب) ، أو مَرْوة (حجر أبيض كالسكين يذبح بها) ، أو ظفر وعظم وقرن وسن منزوع من مكانه غير قائم في محله، ولكن مع كراهة الذبح بهذه الأربعة الأخيرة لما فيه من الضرر بالحيوان، كذبحه بشفرة كليلة. ودليلهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أنهر الدم بما شئت» (4) ويروى «أفر
__________
(1) البجيرمي علي الخطيب: 248/4.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن (الخمسة) وصححه الترمذي عن عبد الله بن المُغَفَّل (نيل الأوطار: 128/8) .
(3) تكملة فتح القدير: 59/8 وما بعدها، تبيين الحقائق: 290/5 ومابعدها، الدر المختار: 207/5 ومابعدها، اللباب شرح الكتاب: 227/3.
(4) هذا لفظ النسائي وأحمد في حديث عدي بن حاتم، ونصه «أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله» (نصب الراية: 187/4) .(4/320)
الأوداج بما شئت» (1) ، ولأن هذه آلة جارحة، فيحصل بها ما هو المقصود، وهو إخراج الدم، وصار العظم ونحوه كالحجر والحديد.
فإن كان الظفر أو العظم قائماً محله، فلا يحل الذبح به، وإن فرى الأوداج، وأنهر الدم بالإجماع للنص عليه في الحديث.
واستثناء السن والظفر في حديث رافع بن خديج محمول على غير المنزوع، القائم محله؛ لأن الظفر القائم ونحوه يقتل بالثقل؛ لأنه يعتمد عليه.
وكما كرهوا الذبح بالظفر ونحوه، كرهوه بغير الحديد والسلاح من غير حاجة أو ضرورة، مع وجود الحديد وأسلحته، لما فيه من تعذيب الحيوان بلا فائدة، للأمر بالحديث السابق بالإحسان في القتلة والذبحة.
2 - وقال المالكية (2) : إن وجد الحديد أي الآلة الجارحة كالسكين ونحوها (3) ، تعين. وإن وجد غير الحديد كالحجر والزجاج مع الظفر والسن، ففي الذبح بهما أربعة أقوال للإمام مالك:
الأول ـ الجواز مطلقاً متصلاً أو منفصلاً، والثاني ـ المنع مطلقاً فلا يؤكل ما ذبح بهما، والثالث ـ التفصيل بالجواز عند الانفصال، والمنع عند الاتصال. والرابع ـ الكراهية بالسن مطلقاً، والجواز بالظفر مطلقاً.
وإن لم يوجد غيرهما، أي غير السن والظفر جاز بهما جزماً. ولو تم الذبح بقطعة عظم محددة، فلا خلاف في الجواز.
3 - وقال الشافعية والحنابلة (4) : يحل الذبح بكل محدَّد (له حد) يجرح (يقطع) أو يخرق بحده لا بثقله، كحديد ونحاس، وذهب، وخشب، وقصب، وحجر، وزجاج، إلا ظفراً وسناً، وعند الشافعية: وسائر العظام، متصلاً كان أو منفصلاً من آدمي أو غيره؛ لأن منع الذبح بالسن علل بكونه عظماً، فكل عظم وجدت العلة فيه، فيكون ممنوعاً. وأجاز الحنابلة الذبح بالعظم (5) ، واستدلوا على السن والظفر بحديث رافع بن خديج عند الأئمة الستة وأحمد، قال: «قلت: يارسول الله، إنا نلقى العدو غداً، وليس معنا مُدىً (6) ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوا، ما لم يكن سناً أو ظُفْراً، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» (7) .
__________
(1) هذا حديث غريب كما قال الزيلعي، وفي معناه روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن رافع بن خديج: «كل ما أفرى الأوداج، إلا سناً وظفراً» (نصب الراية: 185/4 ومابعدها) .
(2) الشرح الكبير: 107/2، الشرح الصغير: 178/2، بداية المجتهد: 433/1، القوانين الفقهية: ص 183.
(3) السكين تذكر وتؤنث.
(4) مغني المحتاج: 272/4 ومابعدها، المهذب: 252/1، المغني: 573/8 ومابعدها، كشاف القناع: 203/6-205.
(5) لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثني السن والظفر خاصة، فيبقى سائر العظام داخلاً فيما يباح الذبح به، والمنطوق مقدم على التعليل، ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة؛ ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة، ويحصل بها المقصود، فأشبهت سائر الآلات.
(6) مدى: جمع مُدْية: هي السكين، سميت بذلك لأنها تقطع مدى الحيوان أي عمره. والمراد بلقاء العدو: أنهم سيغنمون منه ما يذبحونه، أو إنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلون للتقوي.
(7) علق ابن رشد عليه فقال (بداية المجتهد: 433/1) : من الناس من فهم منه أن ذلك لمكان إن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالباً. ومنهم من فهم أن ذلك شرع غير معلل. وهؤلاء منهم من اعتقد أن النهي فيه يدل على فساد المنهي عنه، ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهي عنه، ومنهم من اعتقد أن النهي للكراهة.(4/321)
السكين الكالَّة: لو ذبح بسكين كالَّة، حل عند الشافعية بشرطين: ألا يحتاج القطع إلى قوة الذابح. وأن يقطع الحلقوم والمريء قبل انتهاء الحيوان إلى حركة مذبوح. ويقرب منه قول الحنابلة: إن كانت الآلة كالة، وأبطأ قطع الحيوان وطال تعذيبه، لم يبح أكله، لأنه مشكوك في وجود ما يحله.
والخلاصة: إن الجمهور أجازوا التذكية بالعظم، وحرم الشافعية الذبح به. وأما السن والظفر فأجاز الحنفية الذبح بالمنزوع منهما، وحرم الشافعية والحنابلة الذبح بهما متصلين أو منفصلين. وصحح ابن رشد المالكي الذبح بهما عند الانفصال، ولا يجوز حالة الاتصال، أي كما قال الحنفية.
المبحث الرابع ـ الحيوان الذبيح
الكلام في هذا المبحث مجمل بالقدر المتصل بالذبائح، والتفصيل فيه سبق في مبحث مستقل عن «الأطعمة والأشربة» .
التذكية شرط لحل الأكل من الحيوان البري المأكول، فلا يحل أكله ـ كما تقدم ـ بدون الذكاة، لقوله تبارك وتعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم} ـ إلى قوله: {إلا ماذكيتم} [المائدة:3/5] استثنى سبحانه المذكى من المحرم، والاستثناء من التحريم إباحة.(4/322)
والحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري ـ مائي) ؛ لأن منه مايؤكل بدون ذكاة، ومنه ما يؤكل بالذكاة، ومنه ما لا يؤكل وإن ذكي.
النوع الأول ـ الحيوان المائي:
الحيوان المائي: هو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط. وللعلماء في أكله رأيان: 1 - مذهب الحنفية (1) ، جميع مافي الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة إلا الطافي (2) منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل. وأدلتهم كثيرة منها قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة:3/5] وقوله {ويحرِّم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] وما سوى السمك: من الضفادع والسرطان والحية ونحوها: من الخبائث.
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن دواء يتخذ فيه الضفدع، ونهى عن قتل الضفادع (3) ، وذلك نهي عن أكله؛ لأن النهي عن قتل الحيوان، إما لحرمته كالآدمي، وإما لتحريم أكله، كالصُّرَد (4) ، والهدهد. وبما أن الضفدع ليس بمحترم، فكان النهي منصرفاً إلى الوجه الآخر، وهو تحريم الأكل.
وأما دليل تحريم أكل السمك الطافي، فهو حديث جابر: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» (5) .
2 - مذهب الجمهور غير الحنفية (6) ، ورأيهم هو الأصح: حيوان الماء:
__________
(1) البدائع: 35/9-39، تبيين الحقائق: 294/5-297، تكملة الفتح: 61/8-65، الدر المختار: 214/5-217، اللباب: 228/3-231.
(2) الطافي على وجه الماء: هو الذي مات حتف أنفه، وهو ما بطنه من فوق. أما لو كان ظهره من فوق، فليس بطاف، فيؤكل. كما يؤكل الموجود في بطن الطافي لموته بضيق المكان. قال العلامة عبد البر: الأصل في إباحة السمك أن ما مات بآفة (أي بسبب) يؤكل، وما مات بغير آفة لا يؤكل. فالذي مات بحر الماء وبرده، أو بربطه فيه أو إلقاء شيء فيه، فموته بآفة (رد المحتار: 216/5) .
(3) رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي: «أن طبيباً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الضفدع يجعلها في دواء، فنهى عن قتلها» نصب الراية: 201/4.
(4) الصرد: الطائر ضخم الرأس أبيض البطن أخضر الظهر يصطاد صغار الطير.
(5) رواه أبو داود وابن ماجه. وهو حديث ضعيف (نصب الراية: 202/4، تخريج أحاديث تحفة الفقهاء، 70/3) .
(6) بداية المجتهد: 425/1، 456، القوانين الفقهية: ص 171-181، مغني المحتاج: 267/4، 297، المهذب: 250/1، المغني: 606/8-608، كشاف القناع: 202/6.(4/323)
السمك وشبهه مما لا يعيش إلا في الماء كالسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيره ونحو ذلك، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر، كصدمة حجر، أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسياً كان أو طافياً، وأخذه ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرر.
إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء، وقال: أنتم تسمونه خنزيراً.
وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء، وخنزير الماء، فلا يؤكلان على شيء من الحالات.
واستدل الجمهور بقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة} [المائدة:96/5] واسم «الصيد» يقع على ما سوى السمك من حيوان البحر، فيقتضي أن يكون الكل حلالاً. وبقوله صلّى الله عليه وسلم حين سئل عن التوضؤ بماءالبحر، فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (1) وبقوله عليه السلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال» (2) وبحديث: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» (3) وبحديث صحيح عند الشيخين وأحمد في العنبر (4) : «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوه بشاطئ البحر ميتاً، فأكلوا منه شهراً حتى سمنوا، وادهنوا، وقدموا منه للنبي صلّى الله عليه وسلم، فأكل منه (5) » ؛ ولأنه لا دم لحيوان الماء.
__________
(1) رواه الخمسة ومالك وابن أبي شيبة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والترمذي عن أبي هريرة (سبل السلام: 14/1، نيل الأوطار: 149/8) .
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر، وفيه ضعف (سبل السلام: 1/52، نيل الأوطار: 147/8) .
(3) رواه الدارقطني، وذكره البخاري موقوفاً على أبي شريح بلفظ «كل شيء في البحر مذبوح» (نيل الأوطار: 150/8) .
(4) حوت قد يبلغ نحو 60 قدماً، ضخم الرأس، وله أسنان.
(5) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة (جمع الفوائد: 542/1، نصب الراية: 204/4) .(4/324)
النوع الثاني ـ الحيوان البري:
الحيوان البري: هو الذي لا يعيش إلا في البر. وهو أصناف ثلاثة:
الأول: ما ليس له دم أصلاً، كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والزنبور والعنكبوت والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لايحل أكلها إلا الجراد خاصة؛ لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال الله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] .
لكن الجراد وشبهه الجندُب (نوع من الجراد تسميه العامة القبُّوط) خص من هذه الجملة بالحديث السابق: «أحلت لنا ميتتان» والميتتان: السمك والجراد.
واشترط المالكية تذكية الجراد أو موته بسبب، بقطع عضو منه أو إحراقه أو جعله في الماء الحار، كما تبين في أنواع التذكية؛ لأن كل حيوان بري ليس له دم سائل يفتقر عندهم إلى الذكاة. ويكره عند الحنابلة بلع الجراد حياً؛ لأن فيه تعذيباً له، كما يحرم عندهم بلع السمك حياً (1) .
الثاني: ما ليس له دم سائل: كالحية والوَزَغ بأنواعها، وسام أبرص (2) ، وجميع الحشرات، وهوام الأرض من الفأر والقُرَاد (دويبة تتعلق بالبعير ونحوه كالقمل للإنسان) والقنافذ والضب واليربوع وابن عرس والدود ونحوها، يحرم أكلها، لاستخباثها، ولأنها ذات سموم ولأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بقتلها (3) ، قال صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) البدائع: 36/5، بداية المجتهد: 425/1، 456، القوانين الفقهية: ص 181، مغني المحتاج: 303/4، المغني: 573/8، 585، 590، كشاف القناع: 202/6.
(2) نوع من الزحافات كجسم الضفدع، لكن له ذيل. وسام أبرص: هو كبار الوزغ.
(3) البدائع: 36/5، بداية المجتهد: 454/1، مغني المحتاج: 299/4، 303، المغني: 585/8، 603، القوانين الفقهية: ص 172.(4/325)
«خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية (1) والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور، والحدايا» وفي رواية «العقرب» بدل «الغراب» (2) .
وحرم الحنفية وفي قول عند المالكية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلم نهى عائشة حين سألته عن أكله (3) .
وأباح الجمهور غير الحنفية أكل الضب، لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه، لما روى ابن عباس أنه أقر خالد بن الوليد على أكله أمامه وهو ينظر إليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ـ أي ليس حراماً ـ ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» (4) . وأباح المالكية أكل الحلزون إذا سلق أو شوي، لا ما مات وحده.
وأجاز الشافعية أكل القُنْفذ وابن عِرْس والثعلب واليَرْبوع والفَنَك والسَّمور (5) ؛ لأن العرب تستطيب ذلك، وما كانت العرب (أي أهل الحجاز) تسميه طيباً فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثاً، فهو محرم، لقول الله تعالى: {ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف:157/7] .
__________
(1) قال في كتاب الجواهر عند المالكية: يحكي المخالفون عن المذهب جواز أكل الحيوانات المستقذرة كالحشرات وهوام الأرض، والمذهب بخلاف ذلك. وحرمها الشافعي لأنها خبائث (القوانين الفقهية: ص 173) .
(2) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن عائشة. والرواية الأخيرة عند أبي داود.
(3) قال الزيلعي عنه: غريب. وروى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب، لكن في اسناده مقال (نصب الراية: 195/4) والضب: حيوان من الزحافات شبيه بالحردون ذنبه كبير العقد.
(4) أخرجه أحمد والأئمة الستة إلا الترمذي (جمع الفوائد لابن سليمان الروداني: 550/1) .
(5) الفنك: حيوان يؤخذ من جلده الفرو للينه وخفته. والسمور: حيوان يشبه السنور (الهر) وهما نوعان من ثعالب الترك.(4/326)
الثالث: ماله دم سائل: وهو إما مستأنس، أو متوحش.
أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، لقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء، ومنها تأكلون} [النحل:5/16] {أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا مايتلى عليكم} [المائدة:1/5] واسم الأنعام يقع على هذه الحيوانات لغة.
ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل، لكن مع الكراهة تنزيهاً عند أبي حنيفة (1) ، لحديث جابر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» (2) والبغال متولدة من الحمير، والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم. وهكذا يحرم عند الشافعية خلافاً للحنفية والحنابلة كل ماتولد من بين الإنسي والوحشي، تغليباً للتحريم. والآخرون قالوا: تغلب الإباحة لأنها الأصل، وعموم النصوص يقتضيها.
والسبب في كراهة لحم الخيل عند أبي حنيفة: هو استخدامها للركوب والجهاد، ولاختلاف الأحاديث المروية في حلها وتحريمها، فتكره احتياطاً للحرمة (3) . والمشهور عند المالكية تحريم الخيل.
__________
(1) البدائع:37/5 ومابعدها، بداية المجتهد: 455/1، الشرح الكبير: 49/1، القوانين الفقهية: ص 172، مغني المحتاج: 298/4 ومابعدها، المغني: 586/8 ومابعدها.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين، قال ابن عبد البر: وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح حسان، وحديث غالب بن الحر لايعرج على مثله مع ما عارضه (نصب الراية: 198/4، المغني: 587/8) .
(3) ثبت في الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها، قالت: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأكلناه، ونحن بالمدينة» وأما خبر خالد في النهي عن أكل لحوم الخيل، فقال الإمام أحمد وغيره: منكر، وقال أبو داود: منسوخ. والاستدلال على التحريم بآية {لتركبوها وزينة} مردود، كما ذكر البيهقي وغيره، لأن الآية مكية بالاتفاق، ولحوم الحمر إنما حرمت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق.(4/327)
ويحل بالتذكية بالإجماع: المستأنس من الطير الذي لا مخلب له، كالدجاج والحمام والنعامة والبط والإوز.
ويحرم المستأنس من السباع: وهو الكلب والسنور الأهلي (الهر) (1) .
وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك أكل كل ذي ناب منه من السباع، وكل ذي مخلب من الطير لأنها تأكل الجيف أي الميتات. وذو الناب من سباع الوحش: مثل الأسد والذئب والضبع والنمر والفهد، والثعلب، والسنور البري، والسنجاب، والفنك، والسمور، والدب، والقرد والفيل، والدَّلَق (2) وابن آوى (فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخلب) .
وذو المخلب من الطير: كالبازي والباشق، والصقر، والشاهين والحدأة والبومة والنعَّاب (فرخ الغراب لكثرة نعبه) وغراب البين (وهو أكبر الغربان والأبقع) والرَّخْم (طير يشبه النسر في الخلقة) والنسر والعقاب، والخُطَّاف (هو عرفاً طائر أسود الظهر أبيض البطن، يأوي إلى البيوت في الربيع، وهو السنونو) والخُفَّاش (أي الوطواط، وهو طائر صغير لا ريش له، يشبه الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء) وما أشبه ذلك (3) .
وحرم الشافعية أكل الببَّغاء والطاووس لخبث لحمهما، كما حرموا أكل الهدهد والصُّرَد (وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير) وعند الحنابلة في
__________
(1) البدائع: 39/5، مغني المحتاج: 300/4، 302، المغني: 592/8، القوانين الفقهية: ص 172، المهذب: 248/1 ومابعدها.
(2) الدلق: حيوان يقرب من السنور في الحجم، وهو أصفر اللون، بطنه وعنقه مائلان إلى البياض.
(3) البدائع: 39/5، تكملة الفتح: 61/8 ومابعدها، بداية المجتهد: 453/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 172، مغني المحتاج: 300/4، المهذب: 247/1 وما بعدها، المغني: 587/8-593، 603، اللباب: 229/3 ومابعدها.(4/328)
الهدهد والصرد: روايتان عن أحمد، إحداهما: أنهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا يستخبثان، والثانية: تحريمهما لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد والصُّرَد، والنملة والنحلة. والدليل على تحريم ذي الناب والمخلب: أنه صلّى الله عليه وسلم يوم خيبر «نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» (1) .
وروي عن مالك القول بأن السباع ذوات الأربع مكروهة وهو الراجح لديه، وقيل: جميعها محرمة، وذهب أصحابه إلى التحريم. وأما الطير فهو حلال عند المالكية سواء ذو المخلب وغيره، عملاً بظاهر الآية: {قل: لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه} [الأنعام:145/6] فما عدا المذكور في هذه الآية حلال. ويحمل النهي المذكور في الحديث على الكراهية.
وقيد الشافعية تحريم ذي الناب بكونه ضارياً (عادياً) ذا ناب قوي، وذي المخلب بكونه قوياً يجرح به، فأباحوا كل ما نابه ضعيف كالضبع والثعلب والفنك والسمور واليربوع. والأصح عندهم حل غراب زرع (وهو أسود صغير يقال له: الزاغ) ؛ لأنه يأكل الزرع.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس، وروي مثله عن علي وخالد بن الوليد (نصب الراية: 192/4 ومابعدها، نيل الأوطار: 116/8) .(4/329)
ورخص الحنابلة أيضاً في أكل الضبع، لما روى جابر، قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأكل الضبع، قلت: صيد هي؟ قال: نعم» وفي لفظ قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» (1) ورويت الرخصة فيه عن سعد وابن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وعكرمة وإسحاق، وقال عروة: مازالت العرب تأكل الضبع، ولا ترى بأكلها بأساً. ورخص أحمد أيضاً في أكل اليربوع؛ لأن الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم.
وما عدا كل ذي ناب أو مخلب من الوحوش، يحل أكله، كالظباء وبقر الوحش، وحمار الوحش على اختلاف أنواعها كالوعل والمها وغيرها؛ لأنها كالمعز الأهلية، ومن الطيبات، ولما ثبت في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم قال في حمار الوحش: «كلوا من لحمه، وأكل منه» .
ويباح أكل الأرنب لأنه حيوان مستطاب، ليس بذي ناب كالظبي، وقد أباح النبي صلّى الله عليه
__________
(1) رواه أبو داود (نيل الأوطار: 121/8) .(4/330)
وسلم أكله (1) .
ويباح أيضاً أكل كل ما لا مخلب له من الطير المتوحش كالحمام بأنواعه، والحُبارى (طائر أكبر من الدجاج وأطول عنقاً) والعصافير والكَركي (وهو طائر كبير معروف، كنيته أبو نعيم، يمشي برجل واحدة على الأرض، ويعلق الأخرى) والغراب (2) الذي يأكل الزرع والحب (وهو المعروف بالزاغ) ، وكل ما على شكل العصفور، وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب (وهو الهُزار) وصَعْوة (صغار العصافير، المحمرة الرأس) وزُرزور (عصفور صغير أحمر الأنف) ، وبُلبل، وحُمَّرة.
وأحل الحنفية في الأصح أكل العَقعق (وقال له القعقع وهو القاق: وهو طائر ذو لونين أبيض وأسود، طويل الذنب، قصير الجناح، عيناه يشبهان الزئبق، صوته العقعقة، كانت العرب تتشاءم بصوته) لأنه يخلط بين أكل الحب والجيف. وحرم الشافعية أكله، وأكل الغدَّاف الكبير (ويسمى الغراب الجبلي، لأنه لا يسكن إلا الجبال) لخبثهما. واختلف الشافعية في الغداف الصغير (وهو أسود رمادي اللون) : فقيل: يحرم، وقيل بحله وهو الظاهر، لأنه يأكل الزرع.
وحرم الحنابلة أيضاً أكل العقعق، لأنه يأكل الجيف. قال أحمد: إن لم يكن يأكل الجيف، فلا بأس به.
__________
(1) عن محمد بن صفوان: «أنه صاد أرنبين، فذبحهما بمروتين، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمره بأكلهما» رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. وروى الجماعة عن أنس أنه أمسك أرنباً بمرّ الظهران، فذبحها أبو طلحة وبعث مع أنس بوَرِكها (أو عجُزها) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبله (نيل الأوطار: 121/8) .
(2) جاء في العناية عند الحنفية: الغراب ثلاثة أنواع: نوع يلتقط الحب ولا يأكل الجيف وهو الزاغ: يباح ولا يكره. ونوع لا يأكل إلا الجيف، وهو الأبقع، وإنه مكروه. ونوع يخلط، يأكل الحب مرة، والجيف أخرى. وهو غير مكروه عند أبي حنيفة، مكروه عند أبي يوسف.(4/331)
النوع الثالث ـ الحيوان البرمائي:
وهو الذي يعيش في البر والماء معاً، كالضفدع والسلحفاة والسرطان، والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها. وفيه آراء ثلاثة:
1 - قال الحنفية والشافعية (1) : لا يحل أكلها؛ لأنها من الخبائث، وللسمية في الحية، ولأن «النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع» (2) ولو حل أكله، لم ينه عن قتله.
2 - وقال المالكية (3) : يباح أكل الضفادع والحشرات والسرطانات والسلحفاة، إذ لم يرد نص في تحريمها. وتحريم الخبائث: هو ما نص عليه الشرع، فلا يحرم ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص.
3 - وفصل الحنابلة فقالوا (4) : كل ما يعيش في البر من دواب البحر، لا يحل بغير ذكاة كطير الماء، والسلحفاة، وكلب الماء، إلا مالا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح في رأي أحمد بغير ذكاة؛ لأنه حيوان بحري يعيش في البر، وليس له دم سائل، فلاحاجة إلى ذبحه، خلافاً لما له دم، لا يباح بغير ذبح. والأصح كما في شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي (214/9) : أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة.
ولا يباح أكل الضفدع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه النسائي ـ نهى عن قتله، فيدل ذلك على تحريمه.
كما لا يباح أكل التمساح.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 230/3، تكملة الفتح: 62/8 ومابعدها، مغني المحتاج: 298/4، المهذب: 250/1.
(2) أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي والحاكم عن عبد الرحمن بن عثمان التميمي (نصب الراية:201/4) .
(3) بداية المجتهد: 656/1، القوانين الفقهية: ص 172.
(4) المغني: 606/8 ومابعدها، كشاف القناع: 202/6.(4/332)
ملحق ـ حول طرق الذبح الحديثة في المسلخ الحديث:
لا مانع من استخدام وسائل تضعف من مقاومة الحيوان، دون تعذيب له (1) ، وبناء عليه: يحل في الإسلام استعمال طرق التخدير المستحدثة غير المميتة قبل الذبح، مثل استعمال ثاني أكسيد الفحم، إذا ذبح الحيوان، وكان الغالب على الظن وجود الحياة الطبيعية فيه عند ذبحه، لأنه لا يترتب عليه إيلام الحيوان، ويحرم الصرع بمسدس، أو بمثقل كخشب وقدوم وعصا، أو تيار كهربائي ونحوها من كل مخدر غير ضار، لما فيها من تعذيب الحيوان المنهي عنه شرعاً. ولكن استعمال ما ذكر لا يمنع من أكل الحيوان بعد ذبحه، إذا ظل حياً حياة مستقرة، وإن كان سيموت بعد مدة لو ترك بغير ذبح، ولو بعد استعمال هذه الوسائل التي يراد منها تسهيل عميلة الذبح. وأما إتلاف الجملة العصبية في المخ بالضرب، فيمنع من إباحة الأكل عند المالكية؛ لأن الحيوان يصبح منفوذ المقاتل، ومن المقاتل انتشار أو نثر الدماغ، لكن إذا كانت حياته محققة يؤكل عندهم. ويؤكل المذكور عند الشافعية والحنابلة إذا ذبح الحيوان وكان فيه حياة مستقرة، أي حركة اختيارية يدل عليها انفجار الدم، أو الحركة الشديدة. كذلك يؤكل عند الحنفية إذا أسرع الذابح بقطع العروق. ويتم الذبح الآن في المسالخ عادة بالآلات الحادة السريعة القطع. وقد نقل لنا أن عملية الذبح تعقب عملية التخدير أو الصرع بثوان معدودات.
ولا مانع من الذبح من القفا عند غير المالكية، ولكن مع الكراهة، لما فيه من تعذيب الحيوان.
ولا يجوز أكل الحيوان إذا نزف دمه بآلة، ثم ذبح قبل معرفة الحياة الطبيعية عنده.
وقد بينت سابقاً أنه لا مانع من أكل الذبائح المستوردة من البلاد النصرانية، حتى وإن لم يسم عليها، بشرط كونها مذبوحة لا مخنوقة، ولا ممزوعة الرقبة. ولا تحل اللحوم المستوردة من البلاد الوثنية أو اللادينية كاليابان والهند والدول الشيوعية. ويكبر على ذبيحة النصراني أخذاً بمذهب المالكية في حل الأكل مع الكراهة من ذبائح أهل الكتاب إن سموا غير اسم الله. لكن الشافعية والشيعة يتشددون في مثل هذه اللحوم، فلا يبيحونها في الواقع العملي.
وأما الطالب الذي يدرس في البلاد الشيوعية، فيجب عليه الامتناع من تناول الطعام المشتمل على اللحوم، ويكتفي بأكل أغذية النباتات والخضار، أو يستعين بالمعلبات من اللحوم المستوردة من أوربا مثلاً. ولا يحل بحال أكل تلك اللحوم الممنوعة، وبخاصة الخنزير في أي بلد، حتى مع ادعاء وجود الضرورة؛ لأن معنى الضرورة لايتوفر حينئذ، إذ يمكن الحفاظ على النفس من الهلاك، بتناول أطعمة غير ممنوعة شرعاً.
__________
(1) انظر فتواي المنشورة في مجلة حضارة الإسلام بدمشق ـ السنة الثامنة، العدد الخامس: ص62 ومابعدها.(4/333)
الفَصْلُ الثَّاني: الصَّيد
وفيه مباحث أربعة:
المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته.
المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد.
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان.
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
المبحث الأول ـ تعريف الصيد وحكمه أو مشروعيته:
تعريف الصيد: الصيد أو الاصطياد لغة: مصدر «صاد» أي أخذ، فهو صائد، وذاك مصيد، ويسمى المصيد صيداً، ويجمع على صيود. والمصيد: هو كل حيوان متوحش طبعاً، ممتنع عن الآدمي، مأكولاً كان أو غير مأكول، لا يمكن أخذه إلا بحيلة.(4/334)
والصيد: اقتناص حيوان حلال متوحش، طبعاً غير مملوك، ولا مقدور عليه (1) .
حكم الصيد: الاصطياد مباح لقاصده إجماعاً في غير حرم مكة وحرم المدينة، لغير المحرم بحج أو عمرة. ويؤكل المصيد إن كان مأكولاً شرعاً (2) لقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة:5/2] أمر بعد حظر، فيفيد الإباحة. ولقوله سبحانه: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:5/96] {ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة:5/95] {قل: أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من الجوارح مكلِّبين} [المائدة:4/5] .
وثبت في السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «إن أرسلت كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» (3) .
وعن أبي قتادة: أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه، وأخذ رمحه، ثم شد على الحمار، فقتله، فلما أدركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سألوه عن ذلك، فقال: «هي طُعْمة، أطعمكموها الله» (4) .
__________
(1) تبيين الحقائق: 50/6، اللباب: 217/3، كشاف القناع: 211/6.
(2) تبيين الحقائق: 50/6، المغني: 539/8،551 ومابعدها، الدر المختار: 328/5.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/8، تلخيص الحبير: 133/4 ومابعدها) .
(4) متفق عليه.(4/335)
وعن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته، فكل» (1) . وأجمع العلماء على إباحة الاصطياد، والأكل من الصيد.
ويكره الصيد لهواً، لأنه عبث لقوله عليه السلام: «لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً» (2) أي هدفاً «من قتل عصفوراً عبثاً، عج إلى الله يوم القيامة يقول: يارب، إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني منفعة» (3) . وهو حرام إن كان فيه ظلم الناس بالعدوان على زروعهم وأموالهم؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد (4) .
والصيد أفضل مأكول؛ لأنه حلال لا شبهة فيه، كما أن الزراعة أفضل مكتسب؛ لأنها أقرب إلى التوكل من غيرها، وأقرب للحل. وفيها عمل اليد، والنفع العام للإنسان والحيوان (5) .
ومما يؤكد مشروعية الصيد: أنه نوع اكتساب، وانتفاع بما هو مخلوق للإنسان، ليتمكن من البقاء، وتنفيذ التكاليف الشرعية.
هذا وقد قسم المالكية (6) أحكام الصيد خمسة أقسام:
مباح للمعاش، ومندوب للتوسعة على العيال، وواجب لإحياء النفس عند الضرورة، ومكروه للهو، وحرام إذا كان عبثاً لغير نية، للنهي عن تعذيب الحيوان لغير فائدة.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 130/8) .
(2) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس.
(3) رواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه (نيل الأوطار: 137/8 ومابعدها) .
(4) كشاف القناع: 211/6.
(5) المرجع السابق.
(6) القوانين الفقهية: ص 175، الشرح الكبير: 108/2.(4/336)
المبحث الثاني ـ شروط إباحة الصيد:
يشترط لإباحة الصيد خمسة عشر شرطاً عند الحنفية (1) ، وستة عشر شرطاً عند المالكية (2) ، وأجملها الشافعية والحنابلة (3) في شروط سبعة.
وهذه الشروط هي في الصائد، وفي آلة الصيد، وفي المصيد.
ويلاحظ أن مجموع هذه الشروط هو لحالة ما يحل أكله ولم يدركه حياً، فإن أدركه حياً وجب ذبحه، وهي شروط في صيد البر، أما صيد البحر فيجوز مطلقاً، سواء صاده مسلم أو كافر على أي وجه كان.
المطلب الأول ـ شروط الصائد:
شروط الصائد خمسة عند الحنفية، ستة أو سبعة عند المالكية وهي:
1 - أن يكون الصائد من أهل الذكاة أي ممن تقبل تذكيته شرعاً، كما تقدم في الذبائح وهذا شرط متفق عليه. فيجوز صيد المسلم اتفاقاً، ولا يجوز صيد الوثني والمرتد والمجوسي والباطني اتفاقاً؛ لأن الاصطياد أقيم مقام الذكاة، والجارحة آلة كالسكين، وعقر الصائد الحيوان بمنزلة إفراء الأوداج، ولا يجوز صيد المجنون عند الجمهور خلافاً للشافعية؛ لأن الصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه. ويجوز صيد الكتابي (اليهودي والنصراني) في المذاهب الأربعة، لكن قيد الشافعية حل اصطياده وذبحه بألا يعلم تهود آباء اليهودي بعد مجيء الإسلام الناسخ لليهودية، وبأن يعلم تنصر آباء النصراني قبل الإسلام. فإن كان أبو الكتابي مجوسياً وأمه كتابية، أو بالعكس، فمالك يعتبر الوالد، والشافعي يعتبر الأم، وأبو حنيفة: يعتبر أيهما كان ممن تجوز تذكيته، فالمتولد بين مشرك وكتابي ككتابي؛ لأنه أخف؛ لأن الولد يتبع أخف الأبوين ضرراً.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 328/5، تكملة الفتح: 174/8، 180 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 175-178، الشرح الكبير: 103/2-106، بداية المجتهد: 441/1-448.
(3) مغني المحتاج: 266/4 ومابعدها، المهذب:253/1 ومابعدها، المغني: 539/8-545، كشاف القناع: 214/6-225.(4/337)
وأحمد: يعتبر المتولد من كتابي ومشرك كولد مجوسية من كتابي مثل المشرك لا يؤكل صيده (1) .
2 - ألا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده: وهذا شرط اتفاق أيضاً. ويمكن جعل الشرط الأول والثاني واحداً. ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم الذي فيه: «ما لم يُشركها كلب ليس معها» فهو يدل على أنه لا يحل أكل ما شاركه كلب آخر في اصطياده.
فلو شارك مجوسي مسلماً في اصطياد أو ذبح، أو اشتركا في إرسال كلبين أو سهمين، ولم يسبق كلب المسلم أو سهمه، فجرحا المصيد، أو جهل الجارح، لم يؤكل المصيد أو المذبوح؛ لأنه اجتمع المبيح والمحرِّم، فتغلب جهة المحرم احتياطاً، مما يدل على أن المبدأ في الأطعمة في المذاهب الأربعة هو تغليب التحريم (2) . ويطبق ذلك أيضاً على حالة الاشتراك بين كلب معلم وغير معلم، أو كلب لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمداً مع ما ذكر، عند الجمهور مشترطي التسمية.
3 - أن ينوي الاصطياد أو يوجد منه الإرسال ـ إرسال الجارحة على الصيد، وهو شرط متفق عليه، فإن استرسلت بنفسها، فقتلت، لم يبح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك» ، ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح، ولهذا اعتبرت التسمية معه.
وإن استرسل الجارح بنفسه، فسمى صاحبه، وزجره، فزاد في عدْوه، أبيح صيده عند الحنابلة والحنفية؛ لأن الزجر مثل الإرسال، ولا يباح عند المالكية، والشافعي في الأصح، لاجتماع
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 176، الدر المختار ورد المحتار: 210/5، كشاف القناع: 215/6.
(2) اللباب: 219/3 ومابعدها، الشرح الكبير: 105/2، مغني المحتاج: 226/4، كشاف القناع: 215/6، المهذب: 253/1.(4/338)
الإرسال بنفسه والإغراء، فغلب جانب المنع (1) ، والأول أرجح في تقديري.
4 - ألا يترك التسمية عامداً، وهذا شرط عند الجمهور، وعند الشافعية ليس بشرط، والسنة أن يسمي الصائد الله تعالى عند الرمي أو إرسال الجارح، كما يسمي الذابح عند الذبح بأن يقول بسم الله، أو يضيف إليه: «والله أكبر» ، للحديث السابق المذكور فيه التسمية. فإن ترك القانص التسمية عمداً لم يؤكل المصيد عند الجمهور، لقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/6] وقوله سبحانه: {فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه} [المائدة:4/5] . وإن ترك التسمية سهواً يؤكل المصيد عند المالكية والحنفية، ولا يؤكل عند الحنابلة (2) بعكس الذبيحة تؤكل عندهم في حال ترك التسمية سهواً، لقول ابن عباس: «من نسي التسمية فلا بأس» . وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم ما لم يتعمد» . وقوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام:121/6] محمول على ما تركت تسميته عمداً بدليل قوله: {وإنه لفسق} [الأنعام:121/6] والأكل مما نسيت التسمية عليه، ليس بفسق.
وتختلف الذبيحة عن الصيد عند الحنابلة؛ لأن ذبح الصيد في غير محل، فاعتبرت التسمية تقوية له، والذبيحة بخلاف ذلك، ويرشد إلى وجوب التسمية مطلقاً حديث عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله، إنى أرسل كلبي، وأسمِّي، قال: إن أرسلت كلبك، وسميت، فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه، فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. قلت: إني أرسل كلبي، أجد معه كلباً
__________
(1) المغني: 541/8 ومابعدها، الشرح الكبير: 104/2، مغني المحتاج: 276/4، تكملة الفتح: 181/8.
(2) المغني: 540/8، 565.(4/339)
آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» (1) .
وقال الشافعية (2) : يباح أكل متروك التسمية عمداً أو سهواً، في الصيد والذبائح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم يسم» (3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل، فقيل: أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله؟ فقال: اسم الله في قلب كل مسلم» (4) .
وأما النهي في قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق} [الأنعام:121/6] فمقيد بحال كون الذبح فسقاً، والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب الله بما أهل لغير الله به؛ لأن جملة {وإنه لفسق} [الأنعام:121/6] لا تصلح أن تكون معطوفاً، للتباين بين الجملتين، إذ الأولى فعلية إنشائية، والثانية اسمية خبرية، فتعين أن تكون حالية.
وأما الأحاديث المطالبة بالتسمية في خبر أبي ثعلبة وعدي بن حاتم ونحوهما، فمحمولة على الندب.
5 - ألا يشتغل الصائد بين الإرسال وأخذ المصيد بعمل آخر. وعبر المالكية عن ذلك بقولهم: أن يتبع الصائد الصيد عند الإرسال أو الرمي.
والسبب في اشتراط هذا الشرط: أن الصائد مطالب بملاحقة المصيد، ليذبحه إن أدركه حياً فيه روح، فإن قصر في ذلك، ومات ولم يذكه، لم يؤكل، لأنه قدر على الذكاة الاختيارية، فلا تجزئ الذكاة الاضطرارية لعدم الضرورة.
__________
(1) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/8) .
(2) مغني المحتاج: 272/4.
(3) قال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ. وفي معناه أحاديث منها حديث ابن عباس عند الدارقطني لكن في إسناده كلام، والصحيح عند ابن حبان أنه موقوف على ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عباس موقوفاً. (نصب الراية: 182/4) .
(4) أخرجه الدارقطني أيضاً، وفيه ضعيف. وعند أبي داود حديث مرسل عن الصلت الدوسي، بلفظ «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله، أو لم يذكر» . ولأحمد رواية مثل حديث أبي هريرة (نصب الراية: 183/4، المغني: 540/8) .(4/340)
وللفقهاء آراء في إدراك المصيد حياً، قال الحنفية (1) : إن أدرك المصيد، وكان فيه فوق حياة المذبوح، بأن يعيش مدة كاليوم أو نصفه، فوق ما يعيش المذبوح، وترك التذكية، حتى مات، لم يؤكل؛ لأنه مقدور على ذبحه، ولم يذبح، فصار كالميتة، والله تعالى يقول: {إلا ما ذكيتم} [المائدة:3/5] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: «إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله عليه، وإن أمسك عليك، فأدركته حياً، فاذبحه» .
أما لو أدرك به حياة مثل حياة المذبوح، فلا تلزم تذكيته، لأنه ميت حكماً، ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة، لا يحرم، كما لو وقع وهو ميت. ولو أدرك الصيد حياً حياة فوق ما يكون في المذبوح، ولم يتمكن من ذبحه لفقد آلة، أو ضيق الوقت، لم يؤكل في ظاهر الرواية، وفي رواية أخرى عن أئمة الحنفية الثلاثة: إنه يؤكل استحساناً، وقيل: هذا أصح.
أما إن لم يتمكن من ذبحه، لعدم قدرته عليه، أي عدم ثبوت يده عليه، فمات، أكل؛ لأن اليد لم تثبت عليه، ولم يوجد منه التمكن من الذبح.
__________
(1) تكملة الفتح: 178/8 ومابعدها، اللباب: 219/3، تبيين الحقائق: 53/6، الدر المختار: 334/5.(4/341)
وقال المالكية (1) : إن رجع الصائد بعد الإرسال أو الرمي، ثم أدرك المصيد غير منفوذ المقاتل، ذكاه. وإن لم يدركه إلا منفوذ المقاتل، لم يؤكل، إلا أن يتحقق أن مقاتله أنفذت بالمصيد به.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : إن كانت حياة المصيد كحياة المذبوح، ليس فيه حياة مستقرة، بأن شق جوفه وخرجت الحشوة، أو أصاب العقر من الكلب مقتلاً، يباح من غير ذبح، باتفاق المذاهب؛ لأن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئاً، لكن المستحب عند الشافعية أن يمر السكين على الحلق ليريحه، وإن لم يفعل حتى مات، حل؛ لأن عقر الكلب المرسل عليه، قد ذبحه، وبقيت فيه حركة المذبوح. وإن كانت فيه حياة مستقرة أدركها الصائد فينظر في الأمر:
أـ إن تعذر ذبحه، بلا تقصير من الصائد، حل أكله، كأن سل السكين على الصيد، أو ضاق الزمان فلم يتسع الوقت لذكاته، حتى مات، أو مشى له على هينته ولم يأته عدواً، أو اشتغل بتوجيهه للقبلة أو بطلب المذبح (مكان الذبح) ، أو بتناول السكين، أو منع منه سبع، فمات قبل إمكانه الذبح، أو امتنع منه بقوته، ومات قبل القدرة عليه، فيحل في الجميع كما لو مات، ولم يدرك حياته.
ب ـ وإن مات لتقصيره، بأن لا يكون معه سكين، أو لم تكن محددة، أو ذبح بظهرها خطأ، أو أخذها منه غاصب، أو نشبت في الغمد (أي عسر إخراجها بأن تعلقت في الغلاف) ، حرم الصيد، للتقصير، لحديث أبي ثعلبة الخشني المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما رد عليك كلبك المكلب، وذكرت اسم الله عليه، وأدركت ذكاته، فذكه، وكل، وإن لم تدرك ذكاته، فلا تأكل..» .
6 - ألا يكون الصائد في صيد البر محرماً بحج أو عمرة، أما صيد البحر فحلال للمحرم لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه، متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/5] . وفي حديث صحيح: «صيد البر لكم حلال ـ وأنتم حرم ـ ما لم
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 176.
(2) مغني المحتاج: 269/4 ومابعدها، المهذب: 254/1، المغني: 547/8 ومابعدها، كشاف القناع: 214/6 ومابعدها.(4/342)
تصيدوه أو يُصَد لكم» (1) وحكمة التفرقة بين نوعي الصيد كما ورد في الآية هو توفير زاد للمسافرين والنائين عن البحر، ولأن صيد البر ترفه يتطلب مشقة ومطاردة تصرف المحرم عما فيه من عبادة.
7 - أن يرى الصائد الصيد ويعينه أو يحس به، ويرسل كلبه المعلم على صيد، وهذا شرط ذكره المالكية والشافعية والحنابلة (2) ، ويمكن عده مع الشرط الثالث.
فلو علم الصائد بالصيد، ولو كان أعمى، فأرسل كلبه أو بازه المعلم، فقتل المصيد، فإنه يؤكل، ويصح صيد الأعمى عند المالكية والحنابلة. أما لو أرسله على صيد، وهو لا يرى شيئاً، ولا يحس به، فأصاب صيداً، لم يبح في قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يرسله على الصيد، وإنما استرسل بنفسه.
وكذلك إن رمى سهماً لاختبار قوته أو إلى غرض، فأصاب صيداً، أو رمى به إلى أعلى، فوقع على صيد، فقتله، لم يُبح لأنه لم يقصد برميه عيناً، كما لو نصب سكيناً فانذبحت بها شاة. ولو أرسل الصائد الجارح في غار أو غيضة (مجتمع شجر) ، لم يعلم أن فيهما صيداً، ونوى ذكاة ما وجده فيها، أو علم فيهما صيداً، ولم يره ببصره، فوجد صيداً، فقتله، فإنه يؤكل كما صرح المالكية، تنزيلاً للغالب منزلة المعلوم.
واشترط الشافعية (3) أن يكون الصائد بصيراً، فلا يحل عندهم صيد الأعمى في الأصح لعدم صحة قصده؛ لأنه لا يرى الصيد، فصار كاسترسال الكلب بنفسه، لايحل به الصيد، ولو أرسل كلباً، وهو لا يراه صيداً، فأصاب صيداً لم يحل. وتطبيقاً على هذه الشروط أذكر حالتين: هما حالة غيبة مصرع المصيد، وحالة وقوعه في ماء أو ترديه من سطح بعد الصيد:
حالة غيبة المصرع: إن رمى الصائد الصيد، فغاب عن عينه، فوجده ميتاً وليس به إلا أثر سهمه (4) ، يباح أكله عند الحنفية، والحنابلة: إن تابع طلبه والبحث عنه، أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر. فإن تشاغل عنه، ثم وجده، أو وجد به أثر سهم آخر، أوشك في سهمه لم يبح أكله، لاحتمال موته بسبب آخر.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر.
(2) الشرح الكبير: 104/2، القوانين الفقهية: ص 176، المغني: 545/8، كشاف القناع: 214/6، المهذب: 255/6، مغني المحتاج: 277/4.
(3) مغني المحتاج:266/4-267، المهذب: 255/1.
(4) اللباب: 220/3، تبيين الحقائق: 57/6، تكملة الفتح: 183/8، الشرح الكبير: 104/2، 106، المهذب: 254/1، المغني: 553/8 ومابعدها، كشاف القناع: 218/6، بداية المجتهد: 446/1، مغني المحتاج: 277/4، القوانين الفقهية: ص 178.(4/343)
ولقول ابن عباس: «كل ما أصميت، ودع ما أنميت» (1) والإصماء: ما رأيته، والإنماء: ما توارى عنك، مما يدل على أن الصيد يحرم بالتواري. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عدي ابن حاتم: «إذا رميت فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك، فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل» .
وقال الشافعية في الأظهر: إن جرحه جرحاً يمكن إحالة الموت عليه، وغاب، ثم وجده ميتاً، ولم يظن أن سهمه قتله، حرم، لحديث عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله، إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فيغيب عنه الليلتين والثلاث، فيجده ميتاً، فقال: إذا وجدت فيه أثر سهمك، ولم يكن أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله، فكل» (2) .
وقال المالكية في المشهور: إن وجده ميتاً بعد يوم أو يومين منفوذ المقاتل لا يؤكل لاحتمال موته بشيء من الهوام مثلاً، ولحديث مسند عن أبي رَزين وعن عائشة، ومرسل عند أبي داود، مفاده «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي، وقال: لعل هوام الأرض قتلته» .
والخلاصة: إن الصيد الذي غاب بعد رميه، ولم يعلم أو يظن أنه مات بضربه، لا يؤكل في المذاهب.
حالة الوقوع في الماء أو التردي من مكان عال على الأرض: إذا رمى الصائد صيداً، فوقع في ماء أو تردى من مكان عال كجبل أو سطح على الأرض، أو وطئه شيء فمات، لم يؤكل باتفاق المذاهب (3) ، لكن إن وقع على الأرض مباشرة،
__________
(1) رواه البيهقي موقوفاً (تلخيص الحبير: 136/4) .
(2) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار: 135/8 ومابعدها، جامع الأصول: 444/7) .
(3) اللباب: 220/3 وما بعدها، تكملة الفتح: 184/8، تبيين الحقائق: 58/6، القوانين الفقهية: ص 178، الشرح الكبير: 105/2، بداية المجتهد: 446/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 274/4، المهذب: 254/1، المغني:577/8، كشاف القناع: 218/6.(4/344)
أكل؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. بخلاف الحالة المتقدمة، فإنه يمكن الاحتراز عنه، وقد اجتمع فيه سبب الحل والحرمة معاً، فترجح جهة الحرمة احتياطاً، ولحديث عدي بن حاتم السابق: «وإن وقع في ماء، فلا تأكل» . هذا مالم يكن سهم قد أنفذ مقاتله قبل الوقوع، فإن حدث ذلك لم يضره الغرق أو التردي.
المطلب الثاني ـ شروط آلة الصيد:
الآلة نوعان: سلاح، وحيوان.
أـ أما السلاح: فيشترط أن يكون محدداً كالرمح والسهم والسيف والبارود ونحو ذلك. وإذا رمى الصيد بسيف أو غيره، فقطعه قطعتين أو قطع رأسه، أكل جميعه وأكل الرأس، عند الجمهور (1) ، ولا يؤكل الجزء المبان منه إذا بقيت فيه حياة مستقرة؛ لأن «الجزء المقطوع من الحي كميتته» . ويؤكل العضو المبان إذا لم تبق فيه حياة مستقرة ومات بالجرح.
وكذلك قال الحنفية (2) : إذا رمى إلى صيد، فقطع عضواً منه أكل المصيد، كوجود الجرح، ولا يؤكل العضو المقطوع بحال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أبين من الحي فهو ميت» (3) والمبان منه حي حقيقة لوجود الحياة. وإن قطعه الرامي أثلاثاً أو أكثره مع عجزه، أو قطع نصف رأسه أو أكثره، أو قدَّه نصفين، أُكل كله؛ لأن هذه الصور لا يمكن فيها وجود حياة فوق حياة المذبوح، فلم يتناولها الحديث المذكور. أما لو كان الأكثر مع الرأس، أكل الأكثر، ولا يؤكل الأقل، لإمكان الحياة فوق حياة المذبوح، وأما الأقل فهو مبان من الحي.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 176، 178، المغني: 556/8 ومابعدها، بداية المجتهد: 447/1، مغني المحتاج: 270/4.
(2) اللباب: 222/3، الدر المختار: 336/5، تكملة الفتح: 185/8 ومابعدها.
(3) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر بلفظ «ما قطع من حي فهو ميته» أو «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (نيل الأوطار: 146/8) .(4/345)
ولا يجوز الاصطياد بما لايجوز التذكية به، وهي السن والظفر والعظم على الخلاف السابق في التذكية به.
ولا يجوز الصيد بمثقل (1) كالحجر، والبندقة (طينة مدورة يرمى بها) ، والمعراض بعُرضه (سهم لا ريش ولا نصل، أو عصا محددة الرأس) إلا أن يكون له حد، ويوقن أنه أصاب به، لا بالرض؛ لأن ما قتله بحدة بمنزلة ما طعنه برمحه، ورماه بسهم، وما قتل بعُرْضه (جانبه) إنما يقتل بثقله، فهو موقوذ أو وقيذ (ميت بالضرب) ولما روي أن عدي بن حاتم قال للنبي صلّى الله عليه وسلمـ: إني أرمي الصيد بالمعراض (2) ، فأصيب، فقال: «إذا رميت بالمعراض، فخزق (نفذ) ، فكله، وإن أصاب بعُرْضه (بغير طرفه المحدد) ، فلا تأكله» (3) . وفي حديث عبد الله بن مغَفَّل قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الخَذْف، وقال: إنه لا يقتل الصيد، ولا ينكأ العدو، وإنه يفقأ العين، ويكسر السن» (4) .
وعليه: إذا قتل الصائد أو الذابح الحيوان بمُثْقّل (شيء ثقيل) ، أو ثقل محدد كبندقة وسوط، وسهم بلا نصل ولا حد، أو سهم وبندقة معاً، أو جرحه نصل وأثر فيه عُرْض السهم (جانبه) في مروره، ومات بهما (أي الجرح والتأثير) أو انخنق بأحبولة أو شبكة، فهو محرم، بلا خلاف، لأنه قتله بما ليس له حد (5) . وهكذا حكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعُرْضها ولم تجرح، لم يبح الصيد، كالسهم يصيب الطائر بعُرْضه فيقتله، أو كالسيف بصفحه.
__________
(1) تكملة الفتح: 185/8، اللباب: 221/3، تبيين الحقائق: 58/6، القوانين الفقهية: ص176، بداية المجتهد: 441/1، مغني المحتاج: 274/4، المهذب: 254/1، المغني: 558/8 ومابعدها، كشاف القناع: 217/6 ومابعدها.
(2) قال القرطبي: المشهور أنه خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها، وقد لا يحدد. وقال ابن التين: المعراض: عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد.
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 130/8) .
(4) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول: 452/7) .
(5) مغني المحتاج: 4/472، المهذب: 274/4، بداية المجتهد: 446/1، المغني: 559/8.(4/346)
ولا يؤكل ما يصطاد اليوم بالخردق أو الرصاص غير محدد الرأس إلا إذا أدركه الصائد حياً وذبحه ذبحاً اختيارياً. وأفتى الشيخ المفتي محمود حمزة في دمشق وغيره بجواز أكل ماصيد بالخردق أو الرصاص العادي، لأنه يقتل بسرعة شديدة.
والخلاصة: أنه يؤكل المصيد بالرمي بأداة محددة كالرماح والسيوف والسهام ونحوها للنص عليها في القرآن والسنة. كما يؤكل المصيد بالمثقل إذا قتله بحده وخرق جسد الصيد، ولا يؤكل إذا قتله بالمثقل ولم يخرق لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما خزق فكل» . وهذا التفصيل بالمثقل هو رأي الجماهير.
ب ـ وأما الحيوان الجارح: فيحل الاصطياد بجوارح السباع والطير إذا كانت معلمة، ولم تأكل من الصيد عند غير المالكية. فالسبع مثل الكلب والفهد والنمر والأسد والهر، والطير مثل الباز أو البازي (نوع من الصقور) والشاهين (من جنس الصقر) والصقر والنسر والعقاب ونحوها من كل ما يقبل التعليم (1) لقوله تعالى: {أحل لكم الطيبات، وما علَّمتم من الجوارح مكلبين} [المائدة:5/4] ، قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة، وكل طير تعلَّم الصيد والفهود والصقور وأشباهها، أي يحل لكم صيد ماعلمتم من الجوارح (2) . ولحديث عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: «إذا أمسك عليك، فكل» ولأنه جارح يصاد به عادة، ويقبل التعليم، فأشبه الكلب. ومثله كل سبع حتى الأسد.
واستثنى أبو يوسف (3) من ذلك الأسد والدب، لأنهما لا يعملان لغيرهما:
__________
(1) البدائع: 44/5، الدر المختار: 329/5، تبيين الحقائق: 50/6، تكملة الفتح: 171/8، اللباب: 217/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 441/1، القوانين الفقهية: ص176، الشرح الكبير: 104/2، مغني المحتاج: 275/4، المهذب: 253/1 ومابعدها، المغني: 539/8، 545-547، كشاف القناع: 220/6.
(2) والجوارح: الكواسب. ومكلبين: من التكليب: هو الإغراء.
(3) الهداية مع تكملة الفتح: 173/8.(4/347)
الأسد لعلو همته، والدب لخساسته، وألحق بعضهم بهما الحدَأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين، فلا يجوز الانتفاع به.
واستثنى الإمام أحمد من الكلاب: الكلب الأسود البهيم (الذي لا يخالط لونه لون سواه كالبياض ونحوه) ، لأنه كلب يحرم اقتناؤه، ويسن قتله بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يبح صيده، كغير المُعلَّم. ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالأسود البهيم ذي النُكْتتين، فإنه شيطان» (1) فقد سماه النبي شيطاناً، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول بالجارح رخصة، فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص، ويكون عموم الآية السابقة مخصصاً بهذا الحديث (2) .
ويسن أيضاً عند الحنابلة قتل الخنزير ويحرم الانتفاع به، ويجب قتل الكلب العقور ولو كان معلماً، ويحرم اقتناؤه لأذاه.
شروط الحيوان الصائد - يشترط في الحيوان المصيد به ستة شروط (3) :
الأول - أن يكون معلماً: بأن ينتقل عن طبعه الأصلي، حتى يصير تحت تصرف الصائد كالآلة، لا صائداً لنفسه. وشرط التعليم متفق عليه بنص القرآن.
وتعليم الكلب عند الحنفية: أن يترك الأكل ثلاث مرات. وتعليم البازي ونحوه: أن يرجع ويجيب إذا دعوته، ولا يشترط فيه ترك الأكل من الصيد، وهو مأثور عن ابن عباس، ولأن آية التعليم: ترك ما هو مألوفه عادة، فيترك الكلب ونحوه من السباع الأكل والاستلاب مما يصيده، ويتعود الطائر الإجابة، أو الرجوع
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعاً بلفظ «ذي الطفيتين» أي الخطين الأبيضين فوق عينيه، وهما النكتتان، والنكتة، النقطة البيضاء في الأسود، أو السوداء في الأبيض.
(2) المغني: 547/8، كشاف القناع: 220/6.
(3) رد المحتار: 328/5، بداية المجتهد: 444/1، القوانين الفقهية: ص 176 ومابعدها.(4/348)
إذا دعوته. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة: لايقدر التعليم بالثلاث بل بحسب رأي المدرب.
ويؤكل مااصطاده في المرة الثالثة عند أبي حنيفة، ولا يؤكل عند الصاحبين؛ لأنه إنما يصير معلماً بعد تمام الثلاث (1) . ولابد من الإرسال، لكن لايشترط الزجر في حل الصيد.
ولابد في التعليم عند الشافعية والحنابلة من أوصاف أو شروط ثلاثة: إذا أرسله صاحبه استرسل، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك الصيد لم يأكل منه. ويكفي عند المالكية توفر الشرطين الأولين (2) . ويشترط تكرار هذه الأمور حتى يصير معلماً في حكم العرف بأن يظن تأدب الجارحة، ولايضبط ذلك بعدد عند المالكية والشافعية، بل يرجع في أمر التكرار إلى أهل الخبرة بالجوارح، وأقل ذلك أن يتكرر مرتين فأكثر، بحيث يغلب على الظن تعوده وتعلمه ذلك. وأقل المطلوب عند الحنابلة ثلاث مرات؛ لأن مااعتبر فيه التكرار اعتبر ثلاثاً، كالمسح في الاستجمار وغسلات الوضوء.
ولايعتبر أيضاً عند بعض المالكية شرط: «إذا زجر انزجر» في الباز، لأنه لاينزجر.
ودليل شرط عدم أكل الجارح من الصيد: هو حديث عدي بن حاتم المتقدم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وسميت، فأمسك وقتل، فكل، وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» .
__________
(1) تكملة الفتح: 173/8 ومابعدها، 175، اللباب: 218/3.
(2) الشرح الكبير: 103/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 443/1، القوانين الفقهية: ص 176، مغني المحتاج: 275/4، المهذب: 253/1، المغني: 542/8 ومابعدها، كشاف القناع: 221/6.(4/349)
فإن ظهر كون الجارح معلماً، ثم أكل مرة من لحم صيد، لم يحل الصيد في الأرجح عند الجمهور غير المالكية، لحديث عدي السابق، ولأن عدم الأكل شرط في التعلم ابتداء ودواماً، فيشترط تعليم جديد. وأجاز الحنفية أكل ما أكل منه البازي؛ لأن ترك الأكل ليس شرطاً عندهم في تعليمه.
وقال المالكية: يؤكل (1) ، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] وحديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك المُعلَّم، فذكرت اسم الله عليه، فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم، فأدركت ذكاته فكل (2) » ولأن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع، أوغيظ على الصيد.
ويحل الصيد الذي صاده قبل الأكل، كما يحل في الراجح عند الحنابلة ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه (3) .
وهل يجب غسل معضّ الكلب أي أثر فم الكلب؟ قال الشافعية وفي وجه عند الحنابلة (4) : معض الكلب نجس، ولا يعفى عنه، لأنه ثبتت نجاسته، فيجب غسل ما أصابه كبوله، ويغسل سبعاً إحداهن بالتراب. وقال المالكية وهو الوجه الثاني عند الحنابلة: لا يجب غسله؛ لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله، ولم يأمرا بغسله، والكلب طاهر في مذهب المالكية، فيؤكل موضع نابه.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 130/8) .
(3) المغني: 545/8.
(4) مغني المحتاج: 276/4، المغني: 546/8، المهذب: 253/1.(4/350)
الثاني ـ أن يذهب على سنن الإرسال ولو من غير تعيين عند الحنفية. أما عند المالكية والشافعية والحنابلة فلا بد من أن يرسله الصائد من يده على الصيد بعد أن يراه ويعينه (1) . فإن انبعث من نفسه لم يؤكل اتفاقاً. ومن سمع حساً ظنه حس صيد، فرماه، أو أرسل كلباً أو بازاً عليه، فأصاب صيداً ثم تبين أنه صيد، حل المصاب عند الحنفية، لأنه قصد الاصطياد.
وإن زجره بعد انبعاثه من تلقاء نفسه، فرجع إليه، ثم أشلاه (أغراه) ، أكل. وإن لم يرجع إليه، بعد أن انزجر، ثم زاد في عدوه، أبيح صيده عند الحنفية والحنابلة، وهو الأولى؛ لأن الزجر مثل الإرسال من حيث كونه فعل الصائد، فالزجر إرسال لأنه دليل الطاعة. ولم يبح عند المالكية والشافعية، كما ذكر سابقاً، تغليباً لجانب المنع؛ لأنه اجتمع إرسال بنفسه وإغراء، فغلب الأول (2) .
وإن أرسله على صيد بعينه، فصاد غيره، لم يؤكل عند غير الحنفية. فإن أرسل، ولم يقصد شيئاً معيناً، وإنما قصد ما يأخذ الجارح، أو ما تقتل الآلة في جهة محصورة كالغار وشبهه، جاز على المشهور عند المالكية. وإن كانت جهة غير معينة كالمتسع من الأرض والغياض أو كان الإرسال على كل صيد يعثر عليه، لم يجز ولم يبح المصيد عندهم. ولو اضطرب الجارح فأرسله الصائد، ولم ير شيئاً، وليس المكان محصوراً من غار أو غيضة، فصاد شيئاً، لم يؤكل لاحتمال أن يكون غير المضطرب عليه ولم ينوه، فإن نواه وغيره أكل. وقيل: لا يؤكل.
ولا بد عند الشافعية والحنابلة: أن يقصد صيداً معيناً، لا مبهماً، فلو أرسل
__________
(1) رد المحتار: 328/5، تكملة الفتح: 181/8، تبيين الحقائق: 54/6 ومابعدها، الشرح الكبير: 106/2، القوانين الفقهية: ص 177، المغني: 545/8، مغني المحتاج: 277/4، كشاف القناع: 222/6، 225، المهذب: 255/1.
(2) فيه حديث موقوف على ابن مسعود وهو: «ما اجتمع الحلال والحرام، إلا وغلب الحرام الحلال» وفيه ضعيف وانقطاع (نصب الراية: 314/4) .(4/351)
سهماً لاختبار قوته، أو إلى غرض يرمي إليه، فاعترضه صيد، فقتله، حرم، لأنه لم يقصد برميه معيناً.
الثالث ـ ألا يشاركه في الأخذ ما لا يحل صيده، كالجارح غير المعلم، وهو شرط مجمع عليه. فإن تيقن أن المُعَلَّم هو المنفرد بالأخذ أو الجراح، أكل. وإن تيقن خلافه أوشك لم يؤكل، لأنه اجتمع المبيح والمحرم، فتغلب جهة المحرم احتياطاً. وإن غلب على ظنه أنه القاتل، ففيه خلاف (1) ، فإن أدركه حياً فذكاه، حل اتفاقاً.
ودليل هذا الشرط حديث عدي بن حاتم قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: أرسل كلبي، فأجد معه كلباً آخر قال: لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر» وفي لفظ: «فإن وجدت مع كلبك كلباً آخر، فخشيت أن يكون أخذ منه، وقد قتله، فلا تأكله، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك» وفي لفظ «فإنك لا تدري أيهما قتله؟» (2) .
الرابع ـ أن يقتله جَرْحاً، فإن خنقه أو قتله بصدمته، لم يبح عند الجمهور (3) غير الشافعية؛ لأن قتله بغير جَرْح أشبه بقتله بالحجر والبندق، ولأن الله تعالى حرم الموقوذة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله، فكل» يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم. فعلى هذا يكون الجرح شرطاً. وهذا أولى في نظري؛ لأن الوقيذ محرم بالقرآن والإجماع، والعقر ذكاة الصيد.
__________
(1) رد المحتار: 328/5، نكملة الفتح: 180/8، اللباب: 219/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 177، بداية المجتهد: 446/1، المهذب: 253/1، المغني: 549/8، كشاف القناع: 216/6.
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين (نيل الأوطار: 134/8) .
(3) رد المحتار: 328/5، تكملة الفتح: 180/8، اللباب: 219/3، الشرح الكبير: 102/3-104، بداية المجتهد: 441/1، 444، 447، المغني: 545/8، كشاف القناع: 222/6.(4/352)
وقال الشافعية (1) : لو تحاملت الجارحة على صيد، فقتلته بثقلها، حل في الأظهر، لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] ولأنه يعسر تعليمه ألا يقتل إلا بجرح، ولعموم حديث عدي: «ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم اللهعليه، فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، ولم يأكل منه شيئاً، فإنما أمسكه عليك» (2) .
الخامس ـ ألا يأكل من الصيد، فإن أكل منه لم يبح. ويمكن دمج هذا الشرط بالشرط الأول.
وهذا الشرط عند الجمهور غير المالكية، وهو أصح الروايتين عند الحنابلة، وهو مذهب الحنفية في الكلب ونحوه من السباع.
وقال مالك ومتأخرو المالكية (وهو مشهور بالذهب) ، وفي رواية ثانية عن أحمد: يجوز الأكل مما أكل منه الكلب أو غيره من الطيور.
وقال الحنفية وبعض المصنفين من الحنابلة كصاحب كشاف القناع (3) : لايباح ما أكل منه الكلب عملاً بالحديث المتفق عليه: «فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إ نما أمسك على نفسه» ، ويباح ما أكل منه الطائر ذو المخلب كالبازي والصقر والعقاب والشاهين ونحوها، لأن تعليمه بأن يسترسل إذا أرسل، ويرجع إذا دعي، ولايعتبر ترك الأكل لقول ابن عباس: «إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإن أكل الصقر، فكل» .
__________
(1) مغني المحتاج: 276/4.
(2) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 130/8) .
(3) رد المحتار: 328/5، اللباب: 218/3، تبيين الحقائق: 52/6، تكملةالفتح175/8، بداية المجتهد: 443/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 275/4، المغني: 543/8، كشاف القناع: 221/6.(4/353)
ودليل الجمهور: حديث عدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله تعالى، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» . وظاهر الكتاب يدل عليه وهو قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] والإمساك يكون بعدم الأكل من الصيد، ولأن من أهم خواص التعليم عدم الأكل.
واستدل المالكية في المشهور عندهم، وأحمد في رواية عنه بعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] وبحديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه، فكل، قلت: وإن أكل منه يارسول الله؟ قال: وإن أكل» وحملوا حديث عدي على الندب، وهذا على الجواز. ولأنه صيد جارح معلم، فأبيح، كما لو لم يأكل، فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد.
ويلاحظ أن حديث عدي أصح من حديث أبي ثعلبة، لأنه متفق عليه، وعدي بن حاتم أضبط، ولفظه أبين، لأنه ذكر الحكم والعلة. ورد ابن رشد المالكي على متأخري المالكية بقوله (1) : وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث، وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» .
السادس ـ عند المالكية (2) : ألا يرجع الجارح عن الصيد، فإن رجع بالكلية، لم يؤكل وكذلك لواشتغل بصيد آخر، أو بما يأكله، لا يؤكل. وهذه الشروط كلها إذا قتله الجارح، فإن لم يقتله، وأدركه القانص، ذكي، وأكل.
__________
(1) بداية المجتهد: 444/1.
(2) القوانين الفقهية: ص 177.(4/354)
المطلب الثالث ـ شروط المصيد:
ذكر المالكية (1) خمسة شروط لحل المصيد، كما ذكر الحنفية (2) شروطاً خمسة له أيضاً، إلا أن الثلاثة المذكورة عند الحنفية منها يمكن عدها شرطاً واحداً.
وسأذكر هذه الشروط بحسب منهج المالكية، لأنه أدق وأشمل. ويلاحظ أنه يجوز عند الحنفية (3) اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان، وكذا ما لا يؤكل لأنه سبب للانتفاع بجلده أو شعره أو قرنه أو لاستدفاع شره.
الأول ـ أن يكون المصيد مباح الأكل شرعاً؛ لأن الحرام عند غير الحنفية والمالكية لا يؤثر فيه الصيد، ولا الذكاة. وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بألا يكون متقوياً بنابه أو بمخلبه، وألا يكون من الحشرات، وألا يكون من بنات الماء إلا السمك، لأنه لا يحل أكل شيء من حيوان الماء عندهم إلا السمك.
الثاني ـ أن يكون متوحشاً، بأن يعجز الإنسان عن أخذه في أصل خلقته كالوحوش والطيور، فإن كان مستأنساً كالإبل والبقر والغنم، ثم توحش، لم يؤكل بالصيد عند المالكية. ويؤكل به عند غير المالكية؛ لأن الصيد يعد حينئذ ذكاة اضطرارية، تباح للضرورة، كما تقدم في بحث أنواع التذكية.
وإن تأنس المتوحش الأصل، ثم ندَّ (هرب) أكل بالاصطياد عند المالكية، كما يؤكل بالعقر عندهم الحمام ونحوه إن توحش؛ لأن كله صيد.
وقد عبر الحنفية عن هذا الشرط بقولهم: أن يمنع نفسه بجناحيه أو قوائمه.
الثالث ـ أن يموت من الجَرح، لا من صدم الجارح، ولا من الرعب، أو الخوف من الجارح. وهذا شرط عند الجمهور غير الشافعية. وأجاز الشافعية أكل ما قتله الجارح بثقله، كأن صدمه بصدره أو جبهته، فقتله، ولم يجرحه، كما ذكر في شروط آلة الصيد.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 177 ومابعدها، بداية المجتهد: 444/1.
(2) رد المحتار: 32/5.
(3) الكتاب مع اللباب: 223/3.(4/355)
الرابع ـ ألا يشك في عين الصيد الذي أصابه في حالة غيبته عن عينه، هل هو، أو غيره؟ ولا يشك، هل قتلته الآلة، أولا؟ فإن شك لم يؤكل. ولو غاب عنه الصيد ليلة، ثم وجده غداً ميتاً لم يؤكل في المشهور عند المالكية. ويباح أكله عند غيرهم إن تابع طلبه. أو لم يتشاغل عنه بشيء آخر، وتأكد أنه صيده.
الخامس ـ أن يذبحه إن أدركه حياً، وقدر على تذكيته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي: «وإن أدركته حياً فاذبحه» فإن أدركه ميتاً، أو نفذت مقاتله، أو حياته كحياة المذبوح، أو عجز عن تذكيته بسبب مقاومته مثلاً حتى مات، ولم يذكه، أكل من غير ذبح باتفاق الفقهاء (1) .
وإن قتله الجارح المصيد به قبل أن يقدر عليه أكل أيضاً، بشرط أن يقتله جرحاً كما تقدم في شروط الآلة. وصرح الحنابلة بأن الصائد إن لم يكن معه ما يذكيه،
__________
(1) تكملة الفتح: 178/8 ومابعدها، تبيين الحقائق: 53/6، اللباب مع الكتاب: 219/3 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 178، المهذب: 253/1، المغني: 547/8 ومابعدها، مغني المحتاج: 269/4.(4/356)
أشلى (أغرى) الصائد له عليه حتى يقتله، فيؤكل (1) عندهم لأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالباً. فجازت ذكاة الضرورة، ولا يؤكل في قول أكثر أهل العلم، لأنه صيد مقدور عليه، فلم يبح بقتل الجارح له كبهيمة الأنعام، وكما لو أخذه سليماً.
المبحث الثالث ـ ما يباح اصطياده من الحيوان عند الحنفية:
يباح عند الحنفية (2) اصطياد ما في البحر والبر، مما يحل أكله، وما لا يحل أكله. غير أن ما يحل أكله يكون اصطياده للانتفاع بلحمه وبقية أجزائه، وما لا يحل أكله، يكون اصطياده للانتفاع بجلده وشعره وعظمه، أو لدفع أذاه وشره، وهذا هو رأي المالكية كما ذُكر سابقاً فيما تعمل به الذكاة، إلا صيد الحرم (في مكة والمدينة) فإنه لا يباح اصطياده، باتفاق الفقهاء إلا المؤذي منه، لقوله عز شأنه: {أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً} [العنكبوت:67/29] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم في صيد حرم مكة: «ولا ينفر صيده» (3) . وكذلك قال في صيد المدينة: «لا ينفر صيدها» (4) وخص منه المؤذيات بقوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» (5) .
__________
(1) وهو رأي إبراهيم النخعي الذي كان يقول: «إذا أدركته حياً ولم يكن معك حديدة، فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله» وبه قال الحسن البصري لعموم قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة:4/5] (بداية المجتهد: 445/1) .
(2) البدائع: 61/5، الكتاب مع اللباب: 223/3، تكملة الفتح: 188/8، تبيين الحقائق: 61/6 ومابعدها.
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس (نيل الأوطار: 25/5) .
(4) رواه أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه عن علي (جامع الأصول: 193/10) .
(5) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عائشة، وفيه روايات أخرى عن ابن عمر، وابن مسعود وابن عباس وغيرهم، وفي بعضها ذكر الحية بدل الحدأة، حتى صارت تسعاً (نيل الأوطار: 26/5) .(4/357)
ويباح اصطياد ما في البحر للحلال (غير الحاج أو المعتمر) والمحرم (الحاج أو المعتمر) ، ولا يباح اصطياد ما في البر للمحرم خاصة، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/5] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم، مالم تصيدوه، أو يُصَد لكم» (1) وعن الصَعب بن جَثَّامة «أنه أهدى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، وهو (بالأبواء) أو بوَدَّان (مكان بين مكة والمدينة) ، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: إنا لم نُردُّه عليك إلا أنا حُرُم» (2) .
المبحث الرابع ـ متى يملك الصائد المصيد؟
جاء في الدر المختار ورد المحتار (3) : أن أسباب الملك ثلاثة:
ناقل من مالك إلى مالك كبيع وهبة. وذو خلافة عن المالك كإرث. وذو أصالة: وهو الاستيلاء الحقيقي بوضع اليد ومنه إحياء الموات، والاستيلاء الحكمي بالتهيئة كنصب شبكة صيد على مباح خالٍ عن المالك. فإن كان المصيد أو المباح مملوكاً لم يتملك، فلو استولى رجل في مفازة على حطب غيره، لم يملكه.
والاستيلاء الحكمي يتم باستعمال ما هو موضوع للاصطياد، فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، ملكه، قصد بها الاصطياد، أو لا، فلو نصبها للتجفيف مثلاً، لا يملكه، لأنه قصد مغاير للاصطياد.
ـ وإن نصب فسطاطاً (خيمة) : إن قصد الصيد، يملكه، وإلا فلا، لأنه غير موضوع للصيد.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا ابن ماجه عن جابر (نيل الأوطار: 23/5) .
(2) رواه البخاري ومسلم والموطأ والترمذي والنسائي (جامع الأصول: 419/3) .
(3) انظر 329/5.(4/358)
ـ ولو دخل صيد دار إنسان، فلما رآه أغلق عليه الباب، وصار بحال يقدر على أخذه، بلا اصطياد بشبكة أوسهم، ملكه. وإن أغلق ولم يعلم به، لا يملكه.
ـ ولو نصب حِبالة (مِصْيَدة) ، فوقع فيها صيد، فقطعها، وانفلت الصيد، فأخذه آخر، ملكه. ولو جاء صاحب الحبالة ليأخذه، ودنا منه، بحيث يقدر على أخذه، فانفلت، لا يملكه الآخذ. وكذا لا يملكه الآخذ لو انفلت من الشبكة في الماء قبل الإخراج، فأخذه غيره، وإنما يملكه صاحب المصيدة. أما لو رمى به صاحب الشبكة خارج الماء، في موضع يقدر على أخذه، فوقع في الماء، فأخذه غيره، يملكه الآخذ؛ لأن الأمور بمقاصدها.
ومن رمى صيداً، فأصابه، ولم يثخنه (يوهنه بالجراحة) ، ولم يخرجه من حيِّز الامتناع عن الأخذ (أي ما يزال قابل الأخذ من الغير) ، فرماه آخر، فقتله، أو أثخنه (أضعفه) ، وأخرجه عن حيز الامتناع، فهو للرامي الثاني، لأنه الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الصيد لمن أخذه» (1) .
وإن كان الرامي الأول قد أثخنه بحيث أخرجه عن حيز الامتناع، فرماه الثاني، فقتله، لم يؤكل، لاحتمال الموت بالثاني، ولا يعد فعل الثاني ذكاة شرعية، للقدرة على ذكاة الاختيار. ويضمن الثاني قيمته للأول، لأنه بالرمي أتلف صيداً مملوكاً للغير؛ لأن الأول ملكه بالرمي المثخن، لكن تقدر قيمته وهو جريح؛ لأن المتعدي وهو الرامي الثاني أتلفه، وهو جريح، وقيمة المتلف تعتبر أو تقدر يوم الإتلاف (2) .
__________
(1) قال عنه الزيلعي: غريب. وقال عنه في الدراية: لا أصل له بهذا الإسناد عن أبي هريرة (نصب الراية: 318/4) .
(2) تكملة الفتح: 187/8، تبيين الحقائق: 60/6، اللباب مع الكتاب: 222/3 وما بعدها.(4/359)
والمالكية (1) : قالوا مثل الحنفية: لا يستحق الصيد إلا بالأخذ أي بالصيد وقصد الاصطياد، أو بوضع اليد، فمن رأى صيداً وصاده آخر، كان لمن صاده، فإن صاده واحد، ثم ند (هرب) منه فصاده آخر، فاختلف: هل يكون للأول أو للثاني، إلا إن توحش بعد الأول، فهو للثاني.
ومن طرد صيداً، فدخل دار إنسان، فإن كان اضطره، فهو له، وإن كان لم يضطره، فهولصاحب الدار.
وقال الشافعية (2) : مثلما قال المالكية والحنفية: يملك الصيد إما بالاستيلاء الفعلي أي بوضع اليد والأخذ، وإن لم يقصد تملكه، كسائر المباحات، وإما بصيده مع قصد الاصطياد. فوضع اليد: مثل ضبطه بيده، إن لم يكن به أثر ملك لغيره كخَضْب وقص جناح وقُرْط، وكان صائده غير محرم وغير مرتد، يكون سبباً للملكية، وإن لم يقصد تملكه. فلو أخذ صيداً لينظر إليه ملكه، لأنه مباح، فيملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات.
ويملك الصيد أيضاً باصطياده: بجُرْح مذفِّف (مسرع للهلاك) وبإزمان (إزالة امتناعه) وكسر جناح بحيث يعجز عن الطيران والعَدْو جميعاً، إن كان مما يمتنع بهما، وإلا فبإبطال واحد منهما، وإن لم يضع يده عليه. ويملكه أيضاً بوقوعه في شبكة نصبها للصيد، فيملكه، وإن لم يضع يده عليه، سواء أكان حاضراً أم غائباً، طرده إليها طارد أم لا، وسواء أكانت الشبكة مباحة أم مغصوبة، لأنه يعد بذلك مستولياً عليه.
ويملكه أيضاً بإلجائه إلى مضيق، ولو مغصوباً، لا يفلت منه، أي لا يقدر الصيد على التفلت منه كبيت لأنه صار مقدوراً عليه.
ولا بد من قصد الاصطياد، فمن رأى صيداً، فظنه حجراً، أوحيواناً غير الصيد، فرماه، فقتله، حل أكله، وملكه، لأنه قتله بفعل قصده، وإنما جهل حقيقته، والجهل بها لا يؤثر.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 178 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 278/4-282، المهذب: 255/1-257.(4/360)
ولو قصد صيداً في ملكه، وصار مقدوراً عليه بتوحل (الوقوع في وحل) وغيره، لم يملكه في الأصح؛ لأن مثل هذا لا يقصد به الاصطياد، والقصد ضروري للتملك، لكن يصير أحق به من غيره.
ومتى ملكه، لم يزل ملكه بانفلاته، فمن أخذه، لزمه رده، ولا يزول ملكه أيضاً بإرسال المالك له في الأصح؛ لأن رفع اليد عنه، لا يقتضي زوال الملك عنه، كما لو سيَّب بهيمته، فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه.
حالة الاشتراك في الصيد: لو جرح الصيد اثنان متعاقبان، فإن ذفف (قتل) الثاني منهما الصيد، أو أزمن (بأن أزال امتناعه) ، دون الأول منهما، فهو للثاني؛ لأن جُرْحه هو المؤثر في امتناعه، ولا شيء له على الأول بجرحه، لأنه كان مباحاً حينئذ.
وإن أزمن الأول، فإن انضم إليه فعل الثاني، بأن ذفف بقطع حُلقوم ومريء، فهو حلال الأكل، لحصول الموت بفعل ذابح، وعليه للأول مقدار ما نقص بالذبح. وإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمريء، أو لم يذفف أصلاً، ومات بالجرحين فحرام، لأنه في حالة عدم القطع كان الصيد مقدوراً عليه، والمقدور عليه لا يحل إلا بذبحه، وفي الحالة الثانية (عدم التذفيف) فلاجتماع المبيح والمحرم، فيغلب المحرم. ويضمنه الثاني للأول لأنه أفسد ملكه. وهذا كما قال الحنفية سابقاً، وهو مذهب الحنابلة أيضاً فيه وفيما يأتي من مسائل. وإن جرحا معاً، وذففا بجرحهما، أو أزمنا به، فلهما الصيد، لاشتراكهما في سبب الملك بجرحهما.
وإن ذفف أحدهما، أو أزمن من دون الآخر، فله، لانفراده بسبب الملك.
ولو جهل كون التذفيف منهما أو من أحدهما، كان لهما، لعدم الترجيح.
وإن ذفف واحد في غير مذبح، وأزمن الآخر على الترتيب بالإصابة لا بالرمي، وجهل السابق منها، حرم الصيد على المذهب، لاجتماع الحظر والإباحة، فيقدم الحظر.(4/361)
وقال الحنابلة (1) : كالشافعية: يتملك الصيد إما بالاصطياد مع قصده، أو بوضع اليد (الأخذ) ، فمن رمى طيراً على شجرة في دار قوم، فطرحه في دارهم، فهو للرامي؛ لأنه ملكه بإزالة امتناعه.
ومن نصب خيمة أو شبكة أو فخاً للاصطياد، فوقع فيه صيد، ملكه للحيازة. وكذا لو ألجأ صيداً لمضيق لا يفلت منه أو أغلق باب داره عليه، ملكه بذلك، ولو لم يقصد تملكه للحيازة أو لأنه بمنزلة إثباته بوضع اليد.
ومن صنع بِرْكة يصيد بها سمكاً، فما وقع فيها ملكه، كالصيد بالشبكة. وإن لم يقصد بالبركة صيد السمك، لم يملكه بحصوله فيها.
ومن كان في سفينة، فوثبت سمكة، فوقعت في حِجْره، فهي له، دون صاحب السفينة؛ لأن السمكة من الصيد المباح، يملك بالسبق إليه.
والصياد الذي يتعاطى سبباً للصيد في قوارب الصيد كضوء أوجرس يملكه بذلك. فإن لم يقصد الصيد بفعل منه، ووقعت سمكة في حجر راكب معه، فهي له، لاستيلائه على مباح، وإن وقعت في السفينة فلصاحب السفينة.
ولو وقع صيد في شبكة إنسان، وأثبته (ثبتت يده عليه) ثم أخذه إنسان آخر، لزمه رده إلى رب الشبكة، لأنه أثبته بآلته. وإن لم تمسكه الشبكة وانفلت منها في الحال، أو خرقها وذهب منها، ولو بعد زمن، لم يملكه رب الشبكة، لأنه لم يثبته، فإذا صاده غيره ملكه. ولو ذهب الصيد بالشبكة، فصاده إنسان مع بقاء امتناعه، ملكه الصائد الثاني، ورد الشبكة لصاحبها؛ لأن الأول لم يملكه. فإن مشى الصيد بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها، لأنه أزال امتناعه، كما في حالة انفلاته منه.
__________
(1) كشاف القناع: 223/6 ومابعدها، المغني: 559/8- 564.(4/362)
القسْمُ الثَّاني: النّظَريّات الفقهيّة
..........................................تقديم.........................................
تقتضي طبيعة التدرج المنطقي الانتقال من الجزئيات إلى الكليات، ومن الإفراد إلى التركيب، ومن الأحكام الجزئية إلى النظريات العامة، كما هو منهج الدراسة القانونية الحديثة. لذا كان لزاماً علينا البحث عن نظريات الفقه الإسلامي، وما أكثرها، بالرغم مما يكتنف ذلك من صعوبات استقرائية في تتبع أحكام المسائل الفقهية في بحار الكتب القديمة المترعة بالثروة الفقهية الضخمة، التي تمتاز بخصوبتها ومرونتها وتغطيتها لاحتمالات متعددة، لا تقل عن أروع ما ابتكره الفكر القانوني الحديث، بل تفوقه أحياناً بالحرص على القيم الخلقية العالية والمصالح العامة.
وحينما ندرس بدقة وإمعان طائفة من النظريات الفقهية، يتجلى لنا إحكام الربط بين الحكم الشرعي وبين مصدره وأصوله وقواعده والنظريات الفقهية التي أدركها المجتهدون من مصادر الشريعة واتخذوها نبراساً لهم في الاجتهاد.
وقد أشرت لما يتفق مع القانون ويختلف فقهاً وقانوناً، ودعمت الحكم الشرعي بدليله النقلي المعتمد على القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، أو بالدليل العقلي المتجه نحو رعاية المصلحة ودرء المفسدة.
هذا.. وقد بحثت في الأجزاء الأربعة الأولى القسم الأول من هذا الكتاب، وهو (العبادات) . وأتابع في هذا الجزء بحث القسم الثاني من الكتاب وهو أهم النظريات الفقهية ومدى الاستفادة منها في القوانين الوضعية، وذلك في فصول ستة وملحق، كما سأبحث في هذا الجزء أيضاً عقد البيع والخيارات من القسم الثالث وهو (العقود) .
أما موضوعات القسم الثاني أو فصوله فهي نظريات الحق، الأموال، نظرية الملكية، نظرية العقد، المؤيدات الشرعية، نظرية الفسخ، أهم ما اقتبسه القانون المدني من الفقه الإسلامي.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لإدراك عظمة الفقه الإسلامي وغناه وواقعيته وسداده، لنعود إليه عند وضع القوانين عن جدارة وتقدير، تاركين الاعتماد على الفقه الغربي ونظرياته وحلوله الغريبة عنا.
..............................................................................المؤلف(4/363)
الفَصْلُ الأوَّل: نظريَّة الحقِّ
النظرية: معناها المفهوم العام الذي يؤلف نظاماً حقوقياً موضوعياً تنطوي تحته جزئيات موزعة في أبواب الفقه المختلفة، كنظرية الحق، ونظرية الملكية، ونظرية العقد، ونظرية الأهلية، ونظرية الضمان، ونظرية الضرورة الشرعية، ونظرية المؤيدات الشرعية من بطلان وفساد وتوقف وتخيير ونحو ذلك مما أذكره هنا.
ومن المعروف أن فقهاءنا لم يقرروا أحكام المسائل الفقهية على أساس النظريات العامة وبيان المسائل المتفرعة عنها، على وفق المنهاج القانوني الحديث، وإنما كانوا يتتبعون أحكام المسائل والجزئيات والفروع، مع ملاحظة ماتقتضيه النظرية أو المبدأ العام الذي يهيمن على تلك الفروع. ولكن بملاحظة أحكام الفروع يمكن إدراك النظرية وأصولها.
وبذلك تختلف النظرية عن القاعدة الكلية مثل (المشقة تجلب التيسير) (والأمور بمقاصدها) في أن النظرية بناء عام لقضايا ذات مفهوم واسع مشترك. أما القاعدة فهي ضابط أومعيار كلي في ناحية مخصوصة من نواحي النظرية العامة.
وأوضح نظرية الحق في أربعة مباحث:
الأول ـ تعريف الحق وأركانه
الثاني ـ أنواع الحق الثالث ـ مصادر الحق وأسبابه
الرابع ـ أحكام الحق
المبحث الأول ـ تعريف الحق وأركانه
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ تعريف الحق:
الحق في اللغة العربية له معان مختلفة تدور حول معنى الثبوت والوجوب مثل قوله تعالى: {لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون} [يس:7/36] أي ثبت ووجب. وقوله سبحانه: {ليُحِقَّ الحقَّ ويُبْطِلَ الباطِل َ} [الأنفال:8/8] أي يثبت ويظهر. وقوله عز وجل: {جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطِل} [الإسراء:81/17] أي الأمر الموجود الثابت. وقوله تعالى: {وللمطلقاتِ متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة:241/2] أي واجباً عليهم.(4/364)
وتطلق كلمة الحق على النصيب المحدد لمثل قوله تعالى: {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ، للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25] ،كما تطلق على العدل في مقابلة الظلم مثل قوله تعالى: {والله يقضي بالحقِّ} [غافر:20/40] .
وأما عند الفقهاء فقد ورد تعريف للحق عند بعض المتأخرين فقال: الحق: هو الحكم الثابت شرعاً (1) . ولكنه تعريف غير جامع ولا شامل لكل ما يطلق عليه لفظ الحق عند الفقهاء. فقد يطلق الحق على المال المملوك وهو ليس حكماً، ويطلق على الملك نفسه، وعلى الوصف الشرعي كحق الولاية والحضانة والخيار، ويطلق على مرافق العقار كحق الطريق والمسيل والمجرى. ويطلق على الآثار المترتبة على العقود كالالتزام بتسليم المبيع أو الثمن.
__________
(1) حاشية قمر الأقمار على شرح المنار للشيخ عبد الحليم اللكنوي، أول مبحث الحقوق.(4/365)
وعرفه بعض الأساتذة المعاصرين، فقال أستاذنا الشيخ علي الخفيف: الحق: هو مصلحة مستحقة شرعاً (1) . لكنه تعريف بالغاية المقصودة من الحق، لا بذاتيته وحقيقته، فإن الحق: هو علاقة اختصاصية بين صاحب الحق والمصلحة التي يستفيدها منه.
وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء: الحق: هو اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً (2) . وهو تعريف جيد؛ لأنه يشمل أنواع الحقوق الدينية كحق الله على عباده من صلاة وصيام ونحوهما، والحقوق المدنية كحق التملك، والحقوق الأدبية كحق الطاعة للوالد على ولده، وللزوج على زوجته، والحقوق العامة كحق الدولة في ولاء الرعية لها، والحقوق المالية كحق النفقة، وغير المالية كحق الولاية على النفس.
ويتميز هذا التعريف بأنه أبان ذاتية الحق بأنه علاقة اختصاصية بشخص معين، كحق البائع في الثمن يختص به، فإن لم يكن هناك اختصاص بأحد، وإنما كان هناك إباحة عامة كالاصطياد والاحتطاب والتمتع بالمرافق العامة، فلا يسمى ذلك حقاً، وإنما هو رخصة عامة للناس.
والسلطة: إما أن تكون على شخص كحق الحضانة والولاية على النفس، أو على شيء معين كحق الملكية.
والتكليف: التزام على إنسان إما مالي كوفاء الدين، وإما لتحقيق غاية معينة كقيام الأجير بعمله.
وأشار التعريف لمنشأ الحق في نظر الشريعة: وهو إرادة الشرع، فالحقوق في الإسلام منح إلهية تستند إلى المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، فلا يوجد حق شرعي من غير دليل يدل عليه، فمنشأ الحق هو الله تعالى؛ إذ لا حاكم غيره، ولا تشريع سوى ما شرعه. وليس الحق في الإسلام طبيعياً مصدره الطبيعة أو العقل البشري، إلا أنه منعاً مما قد يتخوف منه القانونيون من جعل مصدر الحقوق إلهياً وبالتالي إطلاق الحرية في ممارسة الحق، منعاً من هذا الخطر، قرر الإسلام سلفاً تقييد الأفراد في استعمال حقوقهم بمراعاة مصلحة الغير وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة، فليس الحق مطلقاً وإنما هو مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين، والحق في الشريعة يستلزم واجبين:
واجب عام على الناس باحترام حق الشخص وعدم التعرض له.
وواجب خاص على صاحب الحق بأن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين.
__________
(1) مذكرات الحق والذمة: ص 36.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه: ف 3 ص 10 ومابعدها.(4/366)
المطلب الثاني ـ أركان الحق:
للحق ركنان: صاحب الحق وهو المستحق، ومحل الحق: وهو ما يتعلق به الحق ويرد عليه. وهو إما الشيء المعين الذي يتعلق به الحق كما في الحق العيني، أو الدين. ويضاف للحق الشخصي كالعلاقة بين الدائن والمدين ركن ثالث: وهو المدين المكلف بالحق. ونوع التكليف إما أن يكون قياماً بعمل كأداء الدين أو الثمن، أو امتناعاً عن عمل، كالامتناع عن إضرار الجار أو غيره، والامتناع عن استعمال الوديعة أو الأمانة. والمكلف قد يكون معيناً فرداً أو جماعةً كالمدين بالنسبة للدين، أو غير معين كالواجبات العامة المكلف بها جميع الناس باحترام حقوق الآخرين وعدم الاعتداء عليها.
صاحب الحق: هو الله تعالى في الحقوق الدينية، والشخص الطبيعي (الإنسان) أو الاعتباري (كالشركات والمؤسسات) في الحقوق الأخرى، الذي يتمتع بالسلطات التي يمارسها على محل الحق.
وتبدأ الشخصية الطبيعية لكل إنسان ببدء تكون الجنين، بشرط ولادته حياً ولو حياة تقديرية. ويعتبر حياً عند الحنفية بظهور أكثر المولود حياً، وتعتبر الحياة تقديرية عندهم في حالة إسقاط الجنين بجناية، كما لو ضرب شخص امرأة حبلى فأسقط جنيناً ميتاً، فإنه يرث ويورث.
وقال غير الحنفية: يشترط تمام الولادة لاعتبار الشخص حياً، وانفصاله عن أمه انفصالاً تاما. وبهذا الرأي أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري. واكتفى غير الحنفية في حال إسقاط الجنين ميتاً بأن الجنين تورث عنه الغرة فقط (وهي دية الجنين أو التعويض المالي الواجب دفعه بسبب الاعتداء على الجنين وقدرت شرعاً بـ 05 ديناراً أو بـ 500 درهم) .(4/367)
وتنتهي الشخصية الطبيعية بالوفاة الحقيقية (الموت) أو التقديرية كالحكم بوفاة المفقود أو الغائب الذي لا يعلم مكانه، ولا يدرى أهو حي أو ميت، وذلك بوفاة أقرانه في غالب الظن، أو ببلوغه تسعين سنة. ولكن مع زوال الشخصية بالموت تظل ذمة الإنسان وأهلية وجوبه باقية افتراضاً بقدر ما تقتضيه تصفية الحقوق المتعلقة بتركته، وذلك للضرورة وبقدر الضرورة، كما سيتضح في بحث الأموال والذمة المالية، فيتملك الميت ما باشر سبب ملكيته في حياته كنصب شبكة للصيد وقع فيها المصيد، ويضمن ما باشر سبب ضمانه، كالالتزام بدفع قيمة ما يقع من حيوان في حفرة حفرها في الطريق العام.
ويقر الفقه الإسلامي ما يسمى قانوناً: الشخصية الاعتبارية، أو المعنوية أو الشخصية المجردة عن طريق الاعتراف لبعض الجهات العامة كالمؤسسات والجمعيات والشركات والمساجد بوجود شخصية تشبه شخصية الأفراد الطبيعيين في أهلية التملك وثبوت الحقوق، والالتزام بالواجبات، وافتراض وجود ذمة مستقلة للجهة العامة بقطع النظر عن ذمم الأفراد التابعين لها، أو المكونين لها.
والأدلة كثيرة على هذا الإقرار، سواء من النصوص أو من الاجتهادات الفقهية. فمن النصوص: الحديث النبوي: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» (1) أي أن الأمان الصادر للعدو من أحدهم يسري على جماعة المسلمين. ومنها نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تقضي بجواز رفع ما يسمى بدعوى الحسبة من أي فرد لقمع غش وإزالة منكر أو أذى عن الطريق، وتفريق بين زوجين بينهما علاقة محرمة، وإن لم يكن للمدعي مصلحة شخصية.
ومن الاجتهادات: فصل بيت المال عن مال الحاكم الخاص، وقولهم: بيت المال وارث من لا وارث له، واعتبار الحاكم نائباً عن الأمة في التصرف بالأموال العامة على وفق المصلحة، كما يتصرف الوصي بمال اليتيم. وهو نائب عن الأمة
__________
(1) رواه أحمد عن علي رضي الله عنه (نيل الأوطار: 27/7) .(4/368)
أيضاً في إبرام المعاهدات التي تظل نافذة على الرغم من موته أو خلعه، وفي تعيين الموظفين أو العمال الذين لا ينعزلون بموت الحاكم، وفي إصدار الأحكام القضائية، فلا يضمن القاضي الدية إذا أخطأ في قضائه في حقوق الله كقطع يد السارق بشهود زور، وإنماضمانها في بيت المال.
ومن اجتهاداتهم: جواز تمليك الوقف والتزامه بما يجب عليه من حقوق للآخرين، وجواز الوصية والوقف للمسجد، واعتبار ناظر الوقف مجرد نائب عنه لايتحمل شيئاً من ديون الوقف، ويشتري للوقف مايحتاجه، ويدفع ثمنه من غلات الوقف. فالوقف هو المالك والدائن والمدين، لا المتولي عليه. والناظر أمين على الوقف، فلو خان مصلحة الوقف أو أساء التصرف إليه أو خالف شروط الواقف، ضمن موجب فعله.
المبحث الثاني ـ أنواع الحق
ينقسم الحق عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة بحسب المعنى الذي يدور عليه الحق، أذكر أهم هذه التقسيمات وأحكامها وما يترتب عليها من نتائج.
التقسيم الأول ـ باعتبار صاحب الحق
ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أنواع: حق الله، وحق الإنسان، وحق مشترك: وهو ما اجتمع فيه الحقان ولكن قد يغلب حق الله أو حق الإنسان الشخصي (1) .
1 - حق الله تعالى (أو الحق العام) :
وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو تحقيق النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد من الناس. وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، أي أنه هو حق للمجتمع.
مثال الأول: العبادات المختلفة من الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنذر واليمين وتسمية الله عند الذبح وكل أمر ذي بال.
__________
(1) راجع كتب أصول فقه الحنفية: التقرير والتحبير: 104/2-111، كشف الأسرار: 136/2، التلويح على التوضيح: 151/2 ومابعدها، حاشية نسمات الأسحار: ص 259.(4/369)
ومثال الثاني: الكف عن الجرائم وتطبيق العقوبات من حدود (حد الزنا والقذف والسرقة والحرابة وشرب المسكرات) وتعزيرات على الجرائم المختلفة، وصيانة المرافق العامة من أنهار وطرقات ومساجد وغيرها مما لا بد منها للمجتمع.
وتقسم حقوق الله تعالى عند الحنفية إلى ثمانية أقسام تعرف في أصول الفقه. وأحكام حق الله تعالى كثيرة: وهي لا يجوز إسقاطه بعفو أو صلح أو تنازل، ولا يجوز تغييره، فلا يسقط حد السرقة بعفو المسروق منه أو صلحه مع السارق بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم. ولا يسقط حد الزنا بعفو الزوج أو غيره أو إباحة المرأة نفسها.
ولا يورث هذا الحق، فلا يجب على الورثة ما فات مورثهم من عبادات، إلا إذا أوصى بإخراجها، ولا يسأل الوارث عن جريمة المورث.
ويجري التداخل في عقوبة حقوق الله، فمن زنى مراراً، أو سرق مراراً ولم يعاقب في كل مرة، فيكتفى بعقوبة واحدة؛ لأن المقصود من العقوبة هو الزجر والردع ويتحقق بذلك (1) . واستيفاء عقوبة هذه الجرائم للحاكم، فهو الذي يؤدب على ترك العبادات أو التهاون بشأنها، وهو الذي يقيم الحدود والتعزيرات على العصاة منعاً من الفوضى وتثبيتاً من وقوع الجريمة.
2 - حق الإنسان (أو العبد) :
وهو ما يقصد منه حماية مصلحة الشخص، سواء أكان الحق عاماً كالحفاظ على الصحة والأولاد والأموال، وتحقيق الأمن، وقمع الجريمة، ورد العدوان، والتمتع بالمرافق العامة للدولة؛ أم كان الحق خاصاً، كرعاية حق المالك في ملكه، وحق البائع في الثمن والمشتري في المبيع، وحق الشخص في بدل ماله المتلف، ورد المال المغصوب، وحق الزوجة في النفقة على زوجها، وحق الأم في حضانة طفلها، والأب في الولاية على أولاده، وحق الإنسان في مزاولة العمل ونحو ذلك.
__________
(1) البدائع: 55/7 ومابعدها، 86، المبسوط: 185/9.(4/370)
وحكم هذا الحق أنه يجوز لصاحبه التنازل عنه، وإسقاطه بالعفو أو الصلح أو الإبراء أو الإباحة، ويجرى فيه التوارث، ولا يقبل التداخل، فتتكرر فيه العقوبة على كل جريمة على حدة، واستيفاؤه منوط بصاحب الحق أو وليه.
3 - الحق المشترك: وهو الحق الذي يجتمع فيه الحقان: حق الله وحق الشخص، لكن إما أن يغلب فيه حق الله تعالى أو حق الشخص.
مثال الأول: عدة المطلقة، فيها حق الله: وهو صيانة الأنساب عن الاختلاط، وفيها حق الشخص، وهو المحافظة على نسب أولاده، لكن حق الله غالب؛ لأن في صيانة الأنساب نفعاً عاماً للمجتمع، وهو حمايته من الفوضى
والانهيار. ومثاله أيضاً: صيانة الإنسان حياته وعقله وصحته وماله، فيها حقان، لكن حق الله غالب لعموم النفع العائد للمجتمع. ومثاله عند الحنفية (1) حد القذف (وهو ثمانون جلدة لمن يتهم غيره بالزنا) فيه حقان: حق للمقذوف بدفع العار عنه وإثبات شرفه وحصانته، وحق الله: وهو صيانة أعراض الناس وإخلاء العالم من الفساد، والحق الثاني أغلب (2) .
وحكمه: أنه يلحق بالقسم الأول، وهو حق الله تعالى باعتبار أنه هو الغالب.
ومثال الثاني: حق القصاص الثابت لولي المقتول، فيه حقان: حق لله وهو تطهير المجتمع عن جريمة القتل النكراء، وحق للشخص: وهو شفاء غيظه وتطييب نفسه بقتل القاتل، وهذا الحق هو الغالب؛ لأن مبنى القصاص على المماثلة، بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة:45/5] والمماثلة ترجح حق الشخص.
__________
(1) فتح القدير: 194/4، البدائع: 56/7، المبسوط: 113/9، رد المحتار والدر المختار: 189/4.
(2) وقال الشافعية والحنابلة وفي قول لمالك هو الأظهر عند ابن رشد: حد القذف حق خالص للمقذوف، لأن القذف جناية على عرضه، وعرضه حقه فالعقاب حقه.(4/371)
وحكمه أنه يلحق بالقسم الثاني: وهو حق الشخص في جميع أحكامه، فيجوز لولي المقتول العفو عن القاتل، والصلح معه على مال، بل ندب الله تعالى إلى العفو والصلح، فقال: {فمن عفي له من أخيه شيء، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} [البقرة:178/2] . وقال عز وجل: {ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/17] .
تقسيم حق الشخص (أو العبد) :
ينقسم حق الشخص الخاص باعتبار أنه صاحب الحق تقسيمين آتيين:
الأول ـ حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لاتقبل الإسقاط:
1 - الحق القابل للإسقاط: الأصل أن جميع الحقوق الشخصية تقبل الإسقاط بخلاف الأعيان، كحق القصاص وحق الشفعة وحق الخيار. وإسقاط الحق إما أن يكون بعوض أو بغير عوض.
2 - الحق الذي لا يقبل الإسقاط: هناك حقوق لا تقبل الإسقاط على سبيل الاستثناء من الأصل العام المتقدم وهي ما يأتي:
أـ الحقوق التي لم تثبت بعد: كإسقاط الزوجة حقها في المبيت والنفقة المستقبلة، وإسقاط المشتري حقه في خيار الرؤية قبل الرؤية، وإسقاط الوارث حقه في الاعتراض على الوصية حال حياة الموصي، وإسقاط الشفيع (الشريك أو الجار) حقه في الشفعة قبل البيع. كل هذا لا يسقط؛ لأن الحق نفسه لم يوجد بعد.
ب ـ الحقوق المعتبرة شرعاً من الأوصاف الذاتية الملازمة للشخص: كإسقاط الأب أو الجد حقهما في الولاية على الصغير، فإن الولاية وصف ذاتي لهما لا تسقط بإسقاطهما. ومثلها عند أبي يوسف: ولاية الواقف على وقفه، تثبت له سواء شرطها أو نفاها؛ لأنها أثر ملكه.(4/372)
ج ـ الحقوق التي يترتب على إسقاطها تغيير للأحكام الشرعية كإسقاط المطلق حقه في إرجاع زوجته، وإسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، وإسقاط الموصي حقه في الرجوع عن الوصية.
ومنها إسقاط مالك العين حقه في ملكها، لا يقبل الإسقاط؛ لأن معنى إسقاط حقه في ملكها إخراجها عن ملكه إلى غير مالك، فتكون سائبة لا مالك لها، وقد نهى الشرع عن السائبة التي كانت في الجاهلية بقوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ... } (:1) [المائدة:5/103] ، فأصبح المبدأ المقرر: (لا سائبة في الإسلام) . وعليه فإن العين في حكم الشرع لا بد أن يثبت فيها وصف الملك لأحد من الناس، فإسقاط المالك حقه في ملكها يترتب عليه تغيير حكم الشرع الثابت، وهذا باطل إذ ليس لأحد من الناس ولاية تغيير حكم الشرع المقرر.
د ـ الحقوق التي يتعلق بها حق الغير: كإسقاط الأم حقها في الحضانة، والمطلق حقه في عدة مطلقته، والمسروق منه حقه في حد السارق؛ لأن هذه الحقوق مشتركة، وإذا كان للإنسان ولاية على إسقاط حقه، فليس له ولاية على إسقاط حق غيره.
الثاني ـ حقوق تورث وحقوق لا تورث:
اتفق الفقهاء على وراثة الحقوق المقصود بها التوثق كحبس المرهون لوفاء الدين، وحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وحق الكفالة بالدين لأنها من الحقوق اللازمة المؤكدة.
واتفقوا أيضاً على وراثة حقوق الارتفاق كحق الشِّرب والمرور؛ لأنها حقوق تابعة للعقار ولازمة له.
__________
(1) البحيرة: هي الشاة التي تلد خمسة أبطن خامسها أنثى. والسائبة: الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يأخذ لبنها إلا ضيف ولايحمل عليها. والوصيلة: الناقة التي تلد ذكراً ثم أنثى، فيقولون: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم كما كان مقرراً عندهم من ذبح الذكر وإبقاء الأنثى لهم. والحام أو الحامي: الفحل الذي يولد من ظهره عشرة أبطن (تفسير ابن كثير: 107/2 ومابعدها) .(4/373)
وكذلك اتفقوا على إرث خيار التعيين والعيب؛ لأن البيع في خيار التعيين لازم، والحق محصور في اختيار أحد الأشياء. والبيع تم في خيار العيب على أساس سلامة المبيع من العيب، فيثبت ذلك الحق للورثة دفعاً للضرر والغبن.
واختلف الفقهاء في إرث خيار الشرط وخيار الرؤية وأجل الدين وحق الغانم في الغنيمة بعد الإحراز، وقبل القسمة:
فقال الحنفية: لا تورث الحقوق والمنافع؛ لأن الإرث يجري في المال الموجود وهو الأعيان، وهذه ليست أموالاً عندهم. أما الديون فما دامت في الذمة فليست مالاً لأنها أوصاف شاغلة لها، ولا يتصور قبضها حقيقة، وإنما يقبض ما يعادلها، لكنها تورث لأنها مال حكمي؛ أي شيء اعتباري يملكه الدائن، وهو موجود في ثروة المدين، فالدين مال من حيث المآل.
وقال غير الحنفية: تورث الحقوق والمنافع والديون؛ لأنها أموال، ولقوله عليه السلام: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته، ومن ترك كَلاً أو عيالاً فإلي» (1) .
التقسيم الثاني ـ باعتبار محل الحق
ينقسم الحق باعتبار محله المتعلق به إلى حق مالي وغير مالي، وإلى حق شخصي وحق عيني، وإلى حق مجرد وحق غير مجرد.
__________
(1) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ: «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة، واقرؤوا إن شئتم: {النَّبيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أْنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6/33] فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دَيْناً أو ضياعاً، فليأتني فأنا مولاه» والضياع أي ذوي ضياع أي لا شيء لهم (نيل الأوطار: 57/6) .(4/374)
1 - الحقوق المالية وغير المالية:
الحقوق المالية: هي التي تتعلق بالأموال ومنافعها أي التي يكون محلها المال أو المنفعة، كحق البائع في الثمن، والمشتري في المبيع، وحق الشفعة، وحقوق الارتفاق، وحق الخيار، وحق المستأجر في السكنى، ونحوها.
والحقوق غير المالية: هي التي تتعلق بغير المال مثل حق القصاص، وحق الحرية بجميع أنواعها، وحق المرأة في الطلاق أو التفريق لعدم الإنفاق، أو بسبب العيوب التناسلية أو للضرر وسوء العشرة أو للغيبة أو الحبس، وحق الحضانة، وحق الولاية على النفس، ونحو ذلك من الحقوق السياسية والطبيعية.
2 - الحق الشخصي والحق العيني:
الحق الشخصي: هو ما يقره الشرع لشخص على آخر. ومحله إما أن يكون قياماً بعمل كحق البائع في تسلم الثمن وحق المشتري في تسلم المبيع، وحق الإنسان في الدين وبدل المتلفات والمغصوبات، وحق الزوجة أو القريب في النفقة. وإما أن يكون امتناعاً عن عمل كحق المودع على الوديع في عدم استعمال الوديعة.
وللحق الشخصي عناصر ثلاثة: هي صاحب الحق، ومحل الحق، والمكلف أو المدين، إلا أن العلاقة بين طرفي هذا الحق هي المتميزة أو البارزة، دون المحل وهو المال.(4/375)
والحق العيني: هو ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات. فالعلاقة القائمة بين صاحب الحق وشيء مادي معين بذاته، والتي بموجبها يمارس المستحق سلطة مباشرة على الشيء هي الحق العيني. مثل حق الملكية الذي به يستطيع المالك ممارسة أكمل السلطات على ما يملكه: وهي التصرف بالشيء واستثماره واستعماله. وحق الارتفاق المقرر لعقار على عقار معين كحق المرور أو المسيل أو تحميل الجذوع على الجدار المجاور. وحق احتباس العين المرهونة لاستيفاء الدين. وللحق العيني عنصران فقط هما: صاحب الحق، ومحل الحق.
خصائص الحق العيني والحق الشخصي:
يتميز كل من هذين الحقين بمميزات وخصائص أهمها ما يأتي:
1 - حق التتبع لصاحب الحق العيني دون الشخصي: لصاحب الحق العيني تتبع الشيء الذي تعلق به حقه في أي يد وجدت فيها العين مهما تغير واضع اليد عليها. فلو غصب شخص شيئاً ثم باعه أو غصب منه وتداولته الأيدي، جاز لمالكه رفع الدعوى على الحائز الأخير صاحب اليد.
أما الحق الشخصي: فلا يطالب به إلا المكلف به أصالة وهو المدين أو نيابة وهو الكفيل أو المحال عليه.
وسبب التفرقة: أن الحق العيني متعلق بعين معينة لا بذمة شخصية، والعين يمكن انتقالها من يد إلى أخرى. أما الحق الشخصي فمتعلق بذمة المكلف أو المدين، فلا يسأل عنه غيره إلا بإرادته كما في الكفالة والحوالة.
2 - حق الامتياز أو الأفضلية لصاحب الحق العيني: يكون لصاحب الحق العيني حق الأولوية أو الامتياز على سائر الدائنين العاديين إذا كان دينه موثقاً برهن.(4/376)
أما صاحب الحق الشخصي فليس له حق الامتياز إلا استثناء في أحوال معينة كحالة التهمة أو الشك، فتقدم ديون الصحة على ديون المرض، وحالة الضرورة، فتقدم نفقات التكفين والتجهيز على بقية الحقوق المتعلقة بالتركة ويقدم دين النفقة للزوجة والأولاد الصغار على الديون العادية. وحالة رعاية المصلحة العامة، فتقدم ديون الحكومة على ديون الناس العادية. 3 - سقوط الحق العيني بهلاك محله: إذا هلك محل الحق العيني سقط الحق وبطل العقد. فإذا هلك المبيع في يد البائع قبل قبض المشتري له بطل العقد، وسقط حق المشتري في تسلم المبيع. وإذا احترقت الدار المؤجرة بطل عقد الإجارة، وسقط حق المستأجر في الانتفاع بها.
أما إذا هلك محل الحق الشخصي فلا يسقط الحق ولا يبطل العقد، فإذا هلكت أموال المدين، فلا يسقط حق الدائن بالدين؛ لأن الدين متعلق بالذمة لا بمال معين. وإذا هلك الشيء المسلَم فيه في عقد السلم وجب على البائع (المسلَم إليه) تسليم غيره.
3 - الحقوق المجردة وغير المجردة:
الحق المجرد أو المحض: هو الذي لا يترك أثراً بالتنازل عنه صلحاً أو إبراء، بل يبقى محل الحق عند المكلف (أو المدين) بعد التنازل كما كان قبل التنازل. مثل حق الدين، فإن الدائن إذا تنازل عن دينه، كانت ذمة المدين بعد التنازل هي بعينها قبل التنازل، ولا يترتب على التنازل عن الحق أثر من الآثار. وكذلك حق الشفعة إذا أسقط الشفيع حقه في الشفعة، كانت ملكية المشتري للعقار بعد التنازل عن الشفعة هي بعينها قبل التنازل. ومثله حق المدعي في تحليف خصمه اليمين، وحق الخيار، والحق في وظائف الأوقاف.(4/377)
والحق غير المجرد: هو الذي يترك أثراً بالتنازل عنه، كحق القصاص فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ويترك فيه أثراً بالتنازل عنه، فيتغير فيه الحكم، فيصير معصوم الدم بالعفو بعد أن كان غير معصوم الدم، أي مباح القتل بالنسبة إلى ولي المقتول المستحق للقصاص، ولكن برأي الحاكم. ومثل حق استمتاع الزوج بزوجته، يتعلق بالزوجة، ويمنعها من إباحة نفسها لغير زوجها بالعقد عليها، فإذا تنازل الزوج عن هذا الحق بالطلاق، استردت المرأة حريتها، فتتزوج بمن تشاء (1) .
وتظهر فائدة هذا التقسيم فيما يأتي:
الحق غير المجرد تجوز المعاوضة عنه بالمال، كحق القصاص وحق الزوجة يجوز لكل من ولي المقتول والزوج أخذ العوض المالي في مقابل التنازل عن حقه بالصلح.
أما الحق المجرد: فلا يجوز الاعتياض عنه كحق الولاية على النفس والمال وحق الشفعة، وهذا رأي الحنفية، ويجوز عند غير الحنفية أخذ العوض عنه.
التقسيم الثالث ـ باعتبار المؤيد القضائي وعدمه
ينقسم الحق باعتبار وجود المؤيد القضائي وعدمه إلى نوعين: حق دياني، وحق قضائي. فالحق الدياني: هو الذي لا يدخل تحت ولاية القضاء. فلا يتمكن القاضي من الإلزام به لسبب من الأسباب كالعجز عن إثباته أمام القضاء. وإنما يكون الإنسان مسؤولاً عنه أمام ربه وضميره. فالدين الذي عجز صاحبه عن إثباته أمام القضاء لا يعني أنه صار غير مستحق، بل يجب على المدين ديانة المبادرة إلى وفائه. والزواج العرفي غير المسجل في المحاكم الشرعية تكون فيه الزوجية ثابتة ديانة. وتترتب عليها الأحكام الشرعية من نفقة وثبوت نسب الأولاد وغير ذلك.
والحق القضائي: هو ما يدخل تحت ولاية القاضي، ويمكن لصاحبه إثباته أمام القضاء.
وتظهر ثمرة التقسيم في أن الأحكام الديانية تبنى على النوايا والواقع
__________
(1) أحكام المعاملات الشرعية لأستاذنا الشيخ علي الخفيف: ص 38.(4/378)
والحقيقة. وأما الأحكام القضائية فتبنى على ظاهر الأمر ولا ينظر فيها إلى النوايا وواقع الأمر وحقيقته. فمن طلق امرأته خطأ، ولم يقصد إيقاع الطلاق، يحكم القاضي بوقوع طلاقه عملاً بالظاهر واستحالة معرفة الحقيقة، ويكون الحكم بوقوع الطلاق حكماً قضائياً. وأما ديانة فالحكم عدم وقوع الطلاق، وللإنسان أن يعمل بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، وللمفتي إفتاؤه بذلك؛ لأن الزوج لم يقصد الطلاق في الواقع.
المبحث الثالث ـ مصادر الحق أو أسبابه
عرفنا سابقاً أن منشأ الحق أو سببه الأساسي أو غير المباشر: هو الشرع. فالشرع هو المصدر الأساسي للحقوق، والسبب الوحيد لها، غير أن الشرع قد ينشئ الحقوق مباشرة من غير توقف على أسباب أخرى، كالأمر بالعبادات المختلفة، والأمر بالإنفاق على القريب، والنهي عن الجرائم والمحرمات، وإباحةالطيبات من الرزق، فإن أدلة الشرع هنا تعتبر أسباباً مباشرة للحقوق.
وقد ينشئ الشارع الحقوق أو الأحكام مرتبة على أسباب أخرى يمارسها الناس، كعقد الزواج، فإنه ينشئ حق النفقة للزوجة والتوارث بين الزوجين وغير ذلك. وعقد البيع ينشئ ملك البائع للثمن والمشتري للمبيع. والغصب سبب للضمان عند هلاك المغصوب. وتعتبر العقود والغصب أسباباً مباشرة، وأدلة الشرع أسباباً غير مباشرة.
والمقصود من الأسباب أو المصادر في هذا المبحث: الأسباب المباشرة، سواء أكانت أدلة الشرع أم الأسباب التي أقرتها وعينتها هذه الأدلة. فليس المراد من المصدر هنا:(4/379)
المصدر الآمر في إيجاب الالتزام، إذ تكون عندئذٍ جميع المصادر مردها إلى الشرع أو القانون. ومصادر الحق بالنسبة للالتزامات (1) خمسة: هي الشرع، والعقد، والإرادة المنفردة، والفعل النافع، والفعل الضار.
فالعقد كالبيع والهبة والإجارة. والإرادة المنفردة كالوعد بشيء والنذر. والشرع كالالتزام بالنفقة على الأقارب والزوجة، والتزام الولي والوصي، وإيجاب الضرائب. والفعل الضار بالغير كالتزام المتعدي بضمان الشيء الذي أتلفه أو غصبه. والفعل النافع أو الإثراء بلا سبب كأداء دين يظنه الشخص على نفسه، ثم يتبين أنه كان بريئاً منه، أو أداء دين الغير بأمره، أو شراء شيء ثم يتبين أنه ملك الغير، فيجوز لصاحب الحق الرجوع على الآخر بالدين، لعدم استحقاق الآخر له.
ويمكن إدخال جميع هذه المصادر في الواقعة الشرعية. والواقعة الشرعية إما أن تكون طبيعية كالجوار والقرابة والمرض ونحوها، أو اختيارية. والواقعة الاختيارية إما أن تكون أعمالاً مادية ممنوعة وهي الفعل الضار، أو أعمالاً مشروعة من جانب واحد وهي الفعل النافع، وإما أن تكون تصرفات شرعية.
والتصرفات الشرعية: إما وحيدة الطرف وهي الإرادة المنفردة، أو متعددة وهي العقد (2) .
ويلاحظ أن هذه المصادر هي الأسباب المباشرة للالتزم، وأما المصدر غير المباشر لكل التصرفات الشرعية والأفعال المادية فهو الشرع.
وأما مصادر الحق العيني فهي أسباب الملك التام أو الناقص الآتي بيانها في بحث نظرية الملكية.
قال الدكتور السنهوري: إنه يمكن رد مصادر الحقوق في الفقه الإسلامي (سواء بالنسبة للالتزامات أم بالنسبة للحقوق العينية) إلى مصدرين اثنين، كما في الفقه الغربي أو القوانين الوضعية وهما:
__________
(1) الالتزام هو الحادث الذي نشأ عنه الالتزام.
(2) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء: ف 49-52.(4/380)
التصرف القانوني، والواقعة القانونية (1) .
والتصرف الشرعي أو القانوني يشمل العقد والإرادة المنفردة. والواقعة الشرعية أو القانونية تشمل الفعل الضار والفعل النافع.
ويلاحظ أخيراً أن الإقرار لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو إخبار بالحق على الرأي الراجح عند الفقهاء. كما أن قضاء القاضي لا يعد منشئاً للحق، وإنما هو مظهر للحق وكاشف له، إلا إذا قضى القاضي بشهادة زور، ولم يكتشف الزور فيها، فإن قضاءه يعد منشئاً للحق ظاهراً أي قضاء لا ديانة.
وهذه هي المسألة المعروفة في الفقه الإسلامي بأن قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط، وهي محل خلاف بين الفقهاء.
المبحث الرابع ـ أحكام الحق
أحكام الحق: هي آثاره المترتبة عليه بعد ثبوته لصاحبه، وأحكامه ما يأتي:
1 - استيفاء الحق: لصاحب الحق أن يستوفي حقه بكل الوسائل المشروعة.
أـ واستيفاء حق الله تعالى في العبادة يكون بأدائها على الوجه الذي رسمه الله تعالى للعبادة إما في الأحوال العادية (العزيمة) ، أو في الأحوال الاستثنائية (الرخصة) مثل قصر الصلاة، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر، والتيمم بالتراب بدل الماء أثناء المرض أو فقد الماء، والنيابة في الحج للعاجز عنه، وإباحة النطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان حال الإكراه عليه.
فإن امتنع الشخص عن أداء العبادة: فإن كان الحق مالياً كالزكاة أخذه الحاكم جبراً عنه ووزعه في مصارفه الشرعية. وإن كان غير مال حمله الحاكم على فعله بما يملك من وسائل إن ترك الحق ظاهراً، وإلا عاقبه الله في الدنيا بالمحن والآلام، وفي الآخرة بالعذاب الأليم.
واستيفاء حق الله تعالى في منع الجرائم والمنكرات يكون بامتناع الناس عنها، فإن لم يكفّ الناس عنها، كان حق الله إقامة العقوبة، ويستوفيها ولي الأمر أو نائبه بعد إصدار الحكم القضائي بها منعاً من التظالم وإثارة الفتن والعداوات، وشيوع الفوضى وانهيار المجتمع.
__________
(1) مصادر الحق في الفقه الإسلامي للسنهوري: 69/1.(4/381)
ب ـ واستيفاء حق الإنسان (العبد) : يكون بأخذه من المكلف به باختياره ورضاه، فإن امتنع من تسليمه: فإن كان الموجود تحت يده عين الحق كالمغصوب والمسروق والوديعة، أو جنس الحق كأمثال العين المغصوبة عند هلاكها، ولكن ترتب على أخذه من قبل صاحب الحق نفسه فتنة أو ضرر في الحالتين أو كان الموجود تحت يده من خلاف جنس الحق مطلقاً، فليس لصاحب الحق باتفاق الفقهاء استيفاؤه بنفسه، وإنما بواسطة القضاء.
أما إذا كان الموجود تحت يد الآخذ مالاً من جنس الحق، ولم يترتب على الأخذ بطريق خاص فتنة أو ضرر، فالمشهور عند المالكية والحنابلة أن صاحب الحق يستوفيه بواسطة القضاء (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (2) ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى لهند زوجة أبي سفيان بأخذ حقها ولو لم يعلم زوجها بقوله: «خذي مايكفيك وولد ك بالمعروف» (3) فدل على أنه لا بد من القضاء لأخذ عين الحق أو جنسه.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 335/4، القوانين الفقهية: ص359، المغني: 254/8 ومابعدها.
(2) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة.
(3) رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا الترمذي (نيل الأوطار، 323/6، سبل السلام: 219/3) .(4/382)
وقال الشافعية (1) : لصاحب الحق استيفاء حقه بنفسه بأي طريق، سواء أكان من جنس حقه، أم من غير جنسه، لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى:40/42] ، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل:126/16] والمثلية ليست من كل وجه، وإنما في المال. ولقوله عليه السلام: «من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به» (2) .
ووافق الحنفية (3) على رأي الشافعية فيما إذا كان المأخوذ من جنس حقه لا من غيره، والمفتى به اليوم كما قال ابن عابدين جواز الأخذ من جنس الحق أو من غيره، لفساد الذمم والمماطلة في وفاء الديون.
ويلاحظ أن هذا البحث المسمى فقهاً «الظفر بالحق» من أهم أحكام المعاملات التي يفرق فيها بين الأحكام القضائية والأحكام الديانية.
والخلاصة: أن من وجد عين حقه عند آخر مالاً أو عروضاً (سلعاً) وكان مماطلاً في رده أو جاحداً الدين، فيباح له باتفاق الفقهاء أخذه ديانة لا قضاء للضرورة، عملاً بالحديث السابق: (من وجد عين ماله فهو أحق به) (4) .
نوع المأخوذ: الأصل في استيفاء الحق أن يكون بالعدل، فلا يزاد عليه فإن كان الحق معلوم النوع محدد المقدار كثمن دار وأجرتها وبدل قرض فلا تجوز الزيادة عليه في الاستيفاء وفي حكم القاضي.
وإن كان الحق مطلقاً غير محدد النوع أو المقدار، فيحمل على الوسط المتعارف عليه بين الناس، فيؤخذ المتوسط من أموال الزكاة. ولا تؤخذ كرائم الأموال أو خسيسها.
والدليل على استيفاء الوسط نصوص كثيرة قرنت بالمعروف أو العرف، مثل قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة:233/2] وفي كفارة اليمين صرح باعتبار الوسط في قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم..} [المائدة:89/5] والمراد بالأوسط: الوسط في نوع الطعام وعدد الوجبات. وعلى هذا فنفقة الزوجة والأقارب مقدرة بالوسط المتعارف عليه بالنص، وتجب زكاة الفطر من غالب قوت البلد: وهو الذي تعارف أهل البلد على تناوله.
__________
(1) مغني المحتاج: 162/4، المهذب: 282/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن سمرة بن جندب.
(3) فتح القدير: 236/4، رد المحتار والدر المختار: 219/3 ومابعدها، 265.
(4) نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف: ص 188 ومابعدها، ط أولى أو مابعدها.(4/383)
ويجوز التعزير للممتنع عن دفع الزكاة بأخذ أعلى الحق الواجب، أو تغريمه الضعف، لقوله عليه السلام: «من دفعها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى» (1) .
التسامح في الاستيفاء والأداء: الأصل أن يكون استيفاء الحق كاملاً، لكن الشارع ندب صاحب الحق إلى عدم استيفاء حقه كله أو بعضه تسامحاً وإحساناً وإيثاراً، وبخاصة إذا كان المكلف أو المدين في ضائقة، وذلك خير يثاب عليه فاعله، قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:280/2] والمراد بالتصدق في الآية: إبراء المدين من دينه.
وفي تنازل المرأة عن شيء من حقوقها أو كل مهرها، قال تعالى: {وآتوا النساء صدُقاتهن نِحْلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] . {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عُقْدة النكاح} [البقرة:237/2] وفي التنازل عن حق القصاص قال تعالى: {ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً} [الإسراء:33/17] .
وهناك آية تقرر مبدءاً عاماً في التنازل عن الحقوق وهي قوله تعالى: {وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى:40/42] .
2 - حماية الحق: قررت الشريعة حماية الحق لصاحبه من أي اعتداء بأنواع مختلفة من المؤيدات منها المسؤولية أمام الله، والمسؤولية المدنية، وتقرير حق التقاضي.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، بلفظ: «من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله، عَزْمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى..» (نيل الأوطار: 121/4 ومابعدها) .(4/384)
فالعبادات التي هي نوع من حقوق الله تعالى حماها الشرع بوازع الدين ودافع الإيمان القائمين على الرهبة من عذاب الله، والرغبة في ثوابه ونعيم الدنيا. ولذا كثيراً ما بدئت آيات القرآن في التكاليف الشرعية بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا} [البقرة:282/2] .
وهناك نوع آخر من الحماية للعبادة وهو الحسبة (1) : وهي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وهو حق ثابت لكل فرد من أفراد الأمة، وللمحتسب وهو والي الحسبة، فله مطالبة تارك الصلاة والزكاة، أو المفطر في رمضان بأداء ما تركه. ولكل مسلم رفع دعوى الحسبة على المعاصي إلى المحتسب أو القاضي ليؤدب العاصي بما يردعه ويزجره عن ترك العبادات وغيرها.
وهكذا بقية حقوق الله تعالى كالكف عن الجرائم تكون حمايتها أيضاً بوازع الدين وبالحسبة.
وأما حقوق الناس الخاصة (العباد) فحمايتها بوازع الدين الذي يوجب على كل فرد احترام حق غيره في ماله أو عرضه أو دمه، وبالمرافعة إلى القضاء لمطالبة من وجبت عليه.
وهكذا حمت الشريعة كل أنواع الحقوق الدينية والمدنية، الخاصة والعامة باحترام الحق لصاحبه، وعدم الاعتداء عليه، وبمعاقبة المعتدي.
__________
(1) الحسبة: وظيفة إدارية للدولة مهمتها مراقبة الناس والأسواق وحماية الناس من الانحراف عن آداب الدين، ومن جشع التجار والصناع والغش والبيع بأكثر من ثمن المثل وعدم إجادة الصناعة، وخلاصة مهمتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتشبه ما تقوم به البلديات الآن من مراقبة الأسواق وما تقوم به إدارة الأمن العام من مراقبة الآداب. وما تقوم به النيابة العامة من تقديم الجاني إلى القضاء.(4/385)
حق التأليف والنشر والتوزيع:
أ - أما حق المؤلف الذي يدخل تحت عنوان قانوني جديد وهو الحق الأدبي فهو حق مصون في تقديري شرعاً على أساس قاعدة الاستصلاح أو المصلحة المرسلة (وهي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس) فكل عمل فيه مصلحة غالبة أو دفع ضرر أو مفسدة يكون مطلوباً شرعاً.
والمؤلف قد بذل جهداً كبيراً في إعداد مؤلْفه، فيكون أحق الناس به، سواء فيما يمثل الجانب المادي: وهوالفائدة المادية التي يستفيدها من عمله، أو الجانب المعنوي: وهو نسبة العمل إليه. ويظل هذا الحق خالصاً دائماً له، ثم لورثته لقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره: «من ترك مالاً أو حقاً فلورثته» . وبناء عليه يعتبر إعادة طبع الكتاب أو تصويره اعتداء على حق المؤلف، أي أنه معصية موجبة للإثم شرعاً، وسرقة موجبة لضمان حق المؤلف في مصادرة النسخ المطبوعة عدواناً وظلماً، وتعويضه عن الضرر الأدبي الذي أصابه. وذلك سواء كتب على النسخ المطبوعة عبارة: (حق التأليف محفوظ للمؤلف) أم لا، لأن العرف والقانون السائد اعتبر هذا الحق من جملة الحقوق الشخصية، والمنافع تعد من الأموال المتقوّمة في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية، لأن الأشياء أو الأعيان تقصد لمنافعها لا لذواتها، والغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.
بل إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء: المال الموقوف، ومال اليتيم، والمال المُعَدّ للاستغلال.
والمؤلف حينما يطبع كتابه يقصد به أمرين: نشر العلم، واستثمار مؤلفه. ويكون لكل طبعة من طبعات الكتاب حق خاص للمؤلف.(4/386)
وتذرع بعض الناشرين بأنهم في إعادة الطبع أو التصوير إنما ينشرون العلم ويخدمون المؤلّف هو تحايل شيطاني وذريعة فاسدة، لأن الحرام لايكون ولايصح بحال طريقاً للحلال. ويُبطل زعمَهم، أنهم لولا قصد الربح المادي المنتظر من وراء شهرة كتاب انتشر تداوله لما أقدموا على الطبع أو التصوير.
أما الكتب القديمة التي لم يَعُد يُعرَف ورثة مؤلّفها فلا مانع من طبعها بشرط عدم الاعتداء على جهد دار النشر الخاص الذي بذلته في إخراج الكتاب من تعليق وعلامات ترقيم وتصحيح ونحو ذلك.
ب - وأما حق النشر أو التوزيع فيحكمه العقد أو الاتفاق الحاصل بين المؤلف والناشر أو الموزع، فيجب على طرفي الاتفاق الالتزام بمضمونه من حيث عدد النسخ المطبوعة والمدة التي يسري فيها الاتفاق. والله تعالى أمر بالوفاء بالعقود {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] ، {وأوفوا بالعهد} [الإسراء:34/17] .
وبناء عليه يحرم شرعاً نقض بنود الاتفاق، ولايجوز للمؤلف أن يقوم بإعطاء حق النشر أو التوزيع لغير الدار التي التزم معها في مدة معينة. وأما مايقال من جهد دار التوزيع أو النشر، فهذا قد استوفت الدار عوضه بما تأخذه من ربح، والشهرة كانت بالرواج النابع من موضوع الكتاب لا من شكله وإخراجه، فهذا له دور ثانوي، بدليل أن كثيراً من الكتب ذات إخراج بديع، ولكنها تافهة لم يكتب لها الرواج. كذلك لايصح القول: إن دار النشر أو التوزيع هي التي أضفت على المؤلف وكتابه شهرة، فذلك قد استوفت الدار عوضه مما أخذته من نسبة مئوية عالية تفوق فعلاً مايستفيده صاحب التأليف ذاته.
جـ - كذلك الترجمة ينبغي أن يكون نشرها بإذن المؤلف وباتفاق معه، وحق المؤلف أو الناشر حينئذٍ يتجلى في المطالبة بما يحقق الكتاب من أرباح بنسبة مئوية بحسب الاتفاقات أو الأعراف الشائعة التي تُعرَفُ من مجموع اتفاقات المؤلفين والناشرين.(4/387)
والخلاصة: إن البرَّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم: ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس. ولاشك أن حق المؤلف أصبح معترفاً به في القوانين والأعراف، وأن الطبع أو التصوير بغير حق عدوان وظلم على حق المؤلف، وأن فاعل ذلك يتهرب عادة من المسؤولية، ولايجرؤ على الاعتراف بفعله الآثم، مما يدل على أن عمله ظلم موجب لتعويض صاحب الحق، والمسلم أولى الناس برعاية الحقوق والوفاء بالذمم والعهود، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
3 - استعمال الحق بوجه مشروع: على الإنسان أن يستعمل حقه وفقاً لما أمر به الشرع وأذن به. فليس له ممارسة حقه على نحو يترتب علىه الإضرار بالغير، فرداً أو جماعةً، سواء أقصد الإضرار أم لا. وليس له إتلاف شيء من أمواله أو تبذيره لأن ذلك غير مشروع.
فحق الملكية يبيح للإنسان أن يبني في ملكه ما يشاء وكيف يشاء، لكن ليس له أن يبني بناء يمنع عن جاره الضوء والهواء، ولا أن يفتح في بنائه نافذة تطل على نساء جاره، لإضراره بالجار.
واستعمال الإنسان حقه على وجه يضر به أو بغيره هو ما يعرف بالتعسف في استعمال الحق عند فقهاء القانون الوضعي.
فإن مارس الإنسان ما ليس حقاً له فلا يسمى تعسفاً وإنما هو اعتداء على حق الغير، فالمستأجر الذي ينتفع بالدار على وجه يضر بها يعد متعسفاً، أما الغاصب فإنه يعد متعدياً.
وتجاوز الحكام والموظفين حدود الشريعة وحدود صلاحياتهم كاغتصاب بعض الأموال، وجباية ضرائب ظالمة لا يعد تعسفاً في استعمال الحق، وإنما هو استعمال لغير الحق أو تجاوز عن الحق، المستوجب التأديب أو التعزير، فقد عزل عمر عمار بن ياسر عن ولاية الكوفة والمغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة لما شكا إليه أهل الولايتين. وأنشأ عبد الملك بن مروان ولاية المظالم (كمجلس الدولة الآن) لمحاسبة الولاة والجباة وموظفي الدولة إذا ظلموا أحداً من الناس، أوتجاوزوا حدود سلطتهم أو صلاحيتهم.(4/388)
أدلة حرمة التعسف: هناك أدلة كثيرة على تحريم التعسف منها ما يأتي: 1 - قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، فأمسكوهن بمعروف، أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا} [البقرة:231/2] نهى الشرع عن استعمال حق المراجعة بقصد الإضرار، كما كان يفعل في الجاهلية حيث يطلق الرجل زوجته، ثم إذا قاربت عدتها على الانتهاء راجعها، ثم طلقها، فنهى الشرع عنه، والنهي يفيد التحريم، فيكون التعسف حراماً.
2 - قال تعالى بعد بيان أنصباء الورثة: {من بعد وصية يُوصى بها أو دين، غير مضار، وصيةً من الله} [النساء:12/4] نهى الله تعالى عن الوصية الضارة بالورثة كالوصية لوارث أو بأكثر من الثلث، والنهي للتحريم، فيكون التعسف حراماً.
3 - قال عز وجل: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء:5/4] فقد أمر الله بالحجر على السفيه الذي يبذر ماله، إذ إنه تعسف في استعمال حق الإنفاق، فيكون التعسف ممنوعاً مستحقاً التأديب والحجر.
4 - حديث السفينة في التضامن بإزالة المنكر (1) : أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بمنع من في أسفل السفينة من خرقها، لما فيه من الضرر، وهو هلاك الجميع، ففعلهم يكون تعسفاً حراماً.
__________
(1) أخرج البخاري عن النعمان بن بشير أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا. هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً» .(4/389)
السبب في تحريم التعسف: هناك سببان في تحريم التعسف وهما:
أولاً ـ ليس لصاحب الحق حرية مطلقة في ممارسته، وإما هو مقيد بعدم الإضرار بالغير، للنصوص الشرعية التي تمنع الإضرار بالغير وتحريم الاحتكار وبيع مال المحتكر جبراً عنه عند الحاجة، وتحريم العدوان على الدماء والأموال والأعراض، سواء أكان الضرر ناشئاً عن استعمال حق مشروع أم عند اعتداء محض.
ثانياً ـ نزعة الحقوق الجماعية: فلا تقتصر المصلحة المستفادة من الحق الخاص المالي على صاحبه فقط، وإنما تعود على المجتمع أيضاً؛ لأن ثروته جزء من ثروة الأمة التي يجب أن تبقى قوية استعداداً للطوارئ. بل إن للمجتمع في الظروف العادية نصيباً مفروضاً في المال الخاص عن طريق الزكاة والخراج والكفارات وصدقة الفطر وغيرها، ونصيباً مندوباً إليه عن طريق الصدقات والوصايا والأوقاف وسائر وجوه الخير والبر. وهذا ما يعبر عنه اليوم باشتراكية الحقوق.
وإذا كان للمجتمع حق في مال الأفراد، فيجب ألا يتصرف الفرد في ماله تصرفاً ضاراً؛ لأن ذلك يعد اعتداءً على حق المجتمع، واعتداءً على نفسه.(4/390)
قواعد منع التعسف في استعمال الحق:
القاعدة الأولى ـ قصد الإضرار: إذا قصد الإنسان من استعمال حقه الإضرار لا المصلحة المنشودة من الحق، كان استعماله تعسفاً محرماً، ووجب منعه. والدليل على ذلك تحريم الرجعة إضراراً بالزوجة، والوصية إضراراً بالورثة والدائنين، وسفر الزوج بزوجته بعيداً عن بلدها وأهلها إضراراً بها. ورفع الدعوى على الفضلاء بالتهم الباطلة للتشهير بهم. وإقرار مريض الموت بالدين لحرمان الورثة أو الدائنين. وطلاق مريض الموت زوجته فراراً من ميراثها. فكل ذلك تعسف حرام، وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر. ويترتب على التعسف في هذه الحالة ثلاثة أمور: تأديب صاحب الحق المتعسف وتعزيره بما يراه القاضي رادعاً لأمثاله، وبطلان التصرف إذا كان قابلاً للإبطال، وتعويض الضرر من هذا التعسف. ويعرف قصد الضرر بالأدلة والقرائن.
القاعدة الثانية ـ قصد غرض غير مشروع: إذا قصد الشخص من استعمال حقه تحقيق غرض غير مشروع لا يتفق مع المصلحة المقصودة من الحق، وإنما يستتر وراء استعمال الحق المشروع، كاتخاذ عقد الزواج وسيلة لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، ولا يقصد به الزواج الدائم، واتخاذ عقد البيع وسيلة للربا أو الفائدة، ومنه بيع العينة: وهو شراء شيء بثمن مؤجل ثم بيعه لنفس البائع الأول بثمن فوري أقل من الثمن الأول، قاصداً به الربا، فذلك كله تعسف حرام، لقوله عليه السلام: «لعن الله المحلل والمحلل له» (1) وقوله: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» (2) ولنهيه عليه السلام عن بيع العِينة صراحة (3) .
ومنه إسلام الزوجة غير المسلمة بقصد الإرث من زوجها، وهبة المال قبيل الحول بقصد إسقاط الزكاة الواجبة.
وقد أخذت هذه القاعدة من مبدأ (سد الذرائع) وما يتفرغ عنه من بطلان الحيل المحرمة التي يقصد بها إباحة الحرام أو تحريم الحلال أو إسقاط الواجب.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وأبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحلّل والمحلَّل له» (نيل الأوطار: 138/6) .
(2) حديث مرسل، صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات مايشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة، استدل به الأوزاعي ورواه (نيل الأوطار: 207/5) .
(3) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر بلفظ «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (نيل الأوطار: 206/5) .(4/391)
وأساس هذه القاعدة هو قصد الضرر أيضاً كالقاعدة الأولى، ويعرف ذلك بالأدلة والقرائن التي تعين القصد.
القاعدة الثالثة ـ ترتب ضرر أعظم من المصلحة: إذا استعمل الإنسان حقه بقصد تحقيق المصلحة المشروعة منه، ولكن ترتب على فعله ضرر يصيب غيره أعظم من المصلحة المقصودة منه، أو يساويها، منع من ذلك سداً للذرائع، سواء أكان الضرر الواقع عاماً يصيب الجماعة، أو خاصاً بشخص أو أشخاص. والدليل على المنع قول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) وعلى هذا فإن استعمال الحق يكون تعسفاً إذا ترتب عليه ضرر عام، وهو دائماً أشد من الضرر الخاص، أو ترتب عليه ضرر خاص أكثر من مصلحة صاحب الحق أو أشد من ضرر صاحب الحق أو مساو لضرر المستحق. أما إذا كان الضرر أقل أو متوهماً فلا يكون استعمال الحق تعسفاً.
من أمثلة الضرر العام بالأمة أو بالجماعة: الاحتكار: وهو شراء ما يحتاجه الناس وادخاره لبيعه وقت غلاء الأسعار وحاجة الناس إليه. وهو ممنوع للحديث النبوي: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» «لا يحتكر إلا خاطئ» (2) .
ومنه تلقي الركبان: وهو تلقي التاجر للوافدين من الريف إلى المدينة لبيع محاصيلهم، وشراؤها بثمن أقل من السعر القائم، وبيعها لأهل المدينة بثمن مرتفع. وهذا حرام لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الركبان (3) .
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري، ورواه مالك مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه.
(2) الحديث الأول ضعيف رواه ابن ماجه عن عمر، والحديث الثاني صحيح رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن معمر بن عبد الله العدوي (نيل الأوطار: 220/5) .
(3) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن مسعود بلفظ «نهى النبي عن تلقي البيوع» ولفظ البخاري عن ابن عباس «لا تلقوا الركبان» (نيل الأوطار: 166/5، سبل السلام: 20/3-21) .(4/392)
ومنه بيع السلاح أثناء الفتنة، وبيعه لقطاع الطرق، وبيع العنب للخمار، وبيع السلع بأكثر من ضعف القيمة، فذلك يضر الجماعة، فيمنع التاجر منه، ولولي الأمر عند الحنفية والمالكية تسعير السلع بالربح المعقول. فإن أبوا من ذلك بيعت السلع جبراً عنهم.
كذلك لولي الأمر منع الناس من زراعة المخدرات، وزراعة أشياء لا تحتاج إليها الأمة أو تحتاج إلى غيرها.
ومثال الضرر الخاص الأشد: فتح نافذة في بناء تطل على مقر نساء الجار إلا إذا كانت أعلى من مستوى النظر. وقد منع الرسول عليه السلام سمرة بن جندب من دخول بستان لأحد الأنصار لتفقد نخله بسبب تأذي الأنصاري من دخوله (1) ؛ لأن الضرر في الدخول كان أشد من عدم تفقد صاحب النخل نخله.
ومثال الضرر الخاص المساوي للمصلحة: أن يفعل مالك الدار فيها شيئاً يتضرر به جيرانه. رأى أبو حنيفة منعه من ذلك دفعاً للضرر الذي يصيب غيره، والضرر يجب رفعه لقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار» .
__________
(1) رواه مسلم ومالك وأحمد وابن ماجه (شرح مسلم: 47/11) .(4/393)
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يمنع صاحب الحق حينئذ من استعمال حقه مراعاة لحق المالك، لتساويهما في الضرر، فيرجح حق المالك عملاً بما يبيحه له ملكه من استعمال وانتفاع.
ومثال الضرر القليل: بناء جدار أو غرس شجر في أرضه، مما يترتب عليه حجب الهواء عن جاره، لا يمنع منه المالك ولا يكون تعسفاً؛ إذ لا بد من مثل هذا الضرر القليل عادة أثناء الانتفاع بالحق.
ومثال الضرر الموهوم: كثرة إنجاب النسل الذي قد يترتب عليه ضائقة اقتصادية، لا يمنع منه الإنسان؛ لأن الضرر هنا متوهم؛ فالله تعالى أودع في الأرض من الكنوز والموارد ما يكفي حاجة الإنسان إذا استخدمت الأيدي العاملة والعقول المفكرة، وتمت مراقبة الله وتقواه في هذه الموارد، كما قال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف:96/7] . وقال سبحانه في شأن أهل الكتاب: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة، وكثير منهم ساء ما يعملون} [المائدة:66/5] .
وأساس هذه القاعدة: هو مقدار الضرر الناشئ عن استعمال الحق.
القاعدة الرابعة ـ الاستعمال غير المعتاد وترتب ضرر للغير: إذا استعمل الإنسان حقه على نحو غير معتاد في عرف الناس، ثم ترتب عليه ضرر للغير، كان متعسفاً، كرفع صوت المذياع المزعج للجيران والتأذي به، واستئجار دار، ثم ترك الماء في جدرانها وقتاً طويلاً، أو استئجار سيارة ثم يحملها أكثر من حمولتها، أودابة ثم يضربها ضرباً قاسياً أو يحملها ما لا تطيق.
ففي كل ذلك يعتبر متعسفاً، فيمنع من تعسفه، ويعوض المتضرر عما أصابه من ضرر.(4/394)
كذلك يمنع من استعمال حقه، إذا استعمل حقه استعمالاً غير معتاد، ولم يترتب عليه ضرر ظاهر؛ لأن الاستعمال على هذا النحو لا يخلو من ضرر، وعدم ظهور الضرر لا يمنع من وجوده في الواقع، وإن كان يمنع من الحكم عليه بالتعويض لعدم وضوح الضرر، فإن كان الاستعمال معتاداً مألوفاً، ووقع الضرر فلا يعد تعسفاً، ولا يترتب على ذلك ضمان، كالطبيب الجراح الذي يجري عملية جراحية معتادة، ويموت المريض، فلا يضمن. ومثله من يوقد فرناً يتأذى الجيران بدخانه، أو يدير آلة يتضرر الجيران بصوتها المعتاد، فلا ضمان؛ لأن كل ذلك معتاد مألوف.
وبناء عليه: من يشعل ناراً في أرضه، فطار منها شرر أحرق شيئاً لجاره، إن كان ذلك في أحوال عادية فلا ضمان عليه. وإن كان ذلك في وقت هبوب الرياح واشتدادها، فعليه الضمان.
وكذلك سقاية الأرض، إن كان سقياً عادياً، فتسرب الماء إلى أرض الجار، فلا ضمان، وإن كان سقياً غير عادي بماء لا تحتمله الأرض عادة، فعليه ضمان الضرر اللاحق بالغير (1) .
والمقياس في ذلك هو العرف الذي يحدد كون التصرف معتاداً أو غير معتاد. وعليه تطبق أحكام التعامل مع الخباز والكواء إذا أحرق ما سلِّم له، يضمن إذا تصرف تصرفاً غير معتاد بزيادة وقود النار، وحرارة الكهرباء.
القاعدة الخامسة ـ استعمال الحق مع الإهمال أو الخطأ: إذا استعمل الإنسان حقه على وجه ليس فيه احتياط واحتراس وتثبت، فأضر بالغير، وهذا ما يعرف بالخطأ، كان متعسفاً أو مسؤولاً مسؤولية تقصيرية.
سواء أكان خطأ في القصد، كما إذا رأى الصياد شبحاً من بعيد، فظنه صيداً، فأطلق عليه النار، فإذا هو إنسان.
أو كان خطأ في الفعل، كما إذا سدد الصائد الرمية على صيد، فانحرفت وأصابت إنساناً، أو تجاوزت الصيد إلى إنسان فقتلته.
__________
(1) الهداية: 197/3، المهذب: 401/1.(4/395)
فذلك كله إساءة في استعمال الحق يترتب عليه تعويض الضرر الذي أصاب الغير؛ لأنه كان يجب عليه التثبت والانتباه أو الاحتراس في كل من القصد والفعل، فإذا قصد في ذلك تحمل نتيجة فعله صوناً لدماء الناس وأموالهم.
والدليل أن الله تعالى أوجب تعويض الضرر في القتل الخطأ بالدية، ومنع النبي من الضرر في الحديث المتقدم: «لا ضرر ولا ضرار» ولا سبيل إلى رفع الضرر بعد وقوعه إلا بإيجاب الضمان أو التعويض.
ومجال هذه القاعدة هو الضرر الناشئ عن الخطأ في استعمال الحق، سواء أكان هذا الحق ثابتاً بإذن الشارع، أم بالعقد أم بغيرهما من مصادر الحق؛ لأن استعمال الحقوق مقيد بشرط السلامة كما يقرر الفقهاء (1) ، ولأن أموال الناس ودماءهم معصومة لا تهدر بحال، فيجب ضمانها وتعويض الضرر الواقع عليها.
وأساس هذه القاعدة حصول الضرر، سواء أكان قليلاً أم كثيراً.
ولا تطبق هذه القاعدة في حالتين:
الأولى ـ إذا كان استعمال الحق لايمكن فيه الاحتراز أو التثبت عادة، كالطبيب الذي يجري عملية جراحية على النحو المعتاد، فأفضى ذلك إلى تلف عضو أو نفس، لا يكون ضامناً.
الثانية ـ إذا اتخذ الشخص الاحتياطات، ومع ذلك وقع الضرر، فلا يضمنه كما إذا قام إنسان بالتدرب على إطلاق النار في ملكه، ووضع لافتات على أرضه بعدم الدخول، فلا ضمان عليه إذا أصاب أحداً دخل أرضه. كما لاضمان على من سلك طريقاً مخوفاً أو فيه سباع فوجد مقتولاً، لا تجب ديته (2) .
ومن تطبيقات هذه القاعدة:
حوادث السير بدون قصد من قتل وإتلاف مال، وما يترتب على ممارسة حق التأديب للزوج والمعلم والأب والحاكم من إتلافات غير مقصودة. وحالات تجاوز حدود الدفاع الشرعي من الأخف إلى الأثقل، واستهلاك الأموال على الظن أنها مال الشخص، فكل ذلك يوجب تعويض الضرر.
__________
(1) الهداية: 154/4 ومابعدها.
(2) الهداية: 181/4.(4/396)
آثار أو أحكام التعسف:
التعسف في استعمال الحق يندرج تحت (الفعل الضار) أحد مصادر الحق. أما ما ينشأ عن التعسف من حقوق أو آثار وأحكام فهي ما يأتي:
1 - إزالة الضرر عيناً كهدم البناء الذي بناه المالك ملاصقاً لجاره، فسد عليه النور والهواء، وسد النافذة التي فتحها المالك، وكانت تطل على نساء جاره.
2 - التعويض عن الضرر إذا كان تلف نفس أو عضو أو مال.
3 - إبطال التصرف كإبطال زواج التحليل وبيع العينة والوصية الضارة بالورثة.
4 - المنع من ممارسة الحق كمنع الزوج من السفر بزوجته إذا قصد بالسفر إيذاءها.
5 - التعزير كالدعاوى المرفوعة على الشرفاء للتشهير بهم.
6 - الإجبار على الفعل كإجبار التجار على البيع بسعر معين، وإجبار العمال على العمل بأجر المثل.
4 - نقل الحق:
يجوز انتقال الحق بسبب ناقل له، سواء أكان الحق مالياً كحق الملكية في المبيع، فإنه ينتقل من البائع للمشتري بسبب عقد البيع، وحق الدين، فإنه ينتقل من ذمة الدائن إلى تركته بسبب الوفاة، أم كان الحق غير مالي كحق الولاية على الصغير، فإنه ينتقل من الأب إلى الجد بسبب وفاة الأب، وحق الحضانة، فإنه ينتقل من الأم إلى الجدة لأم إذا تزوجت الأم بغير محرم من الصغير.
وأسباب انتقال الحق كثيرة منها: العقد، ومنها الالتزام الذي يتم من جانب واحد، ومنها الوفاة، ومنها حوالة الدين من مدين إلى مدين آخر. وهي نوع من العقد لا خلاف في مشروعيته بين الفقهاء. ومنها حوالة الحق من دائن إلى دائن كأن يحيل البائع دائنه على المشتري بالثمن، ويحيل المرتهن على الراهن بالدين، وتحيل الزوجة على زوجها بالمهر، وهي جائزة على التحقيق عند فقهاء المذاهب، حتى عند الحنفية في نطاق ما يسمى عندهم بالحوالة المقيدة: وهي أن يحيل شخص غيره بالدين الذي له على المحال عليه.
5 - انقضاء الحق:
ينتهي الحق بسبب من الأسباب المقررة شرعاً لانتهائه، وهو يختلف بحسب نوع الحق، فحق الزواج ينتهى بالطلاق، وحق الابن في النفقة على أبيه ينتهي بقدرته على الكسب، وحق الملكية ينتهي بالبيع، وحق الانتفاع ينتهي بفسخ عقد الإجارة أو انتهاء المدة، أو بانفساخ العقد بالأعذار أو الظروف الطارئة كانهدام المنزل، وحق الدين ينتهي بالأداء أو بالمقاصة أو بالإبراء: وهو إسقاط صاحب الحق حقه ممن هو عليه. وتفاصيل ذلك تعرف في بحث نظرية العقد.(4/397)
الفَصْلُ الثَّاني: الأموَال
المال بطبيعته محل الملكية إلا إذا وجد مانع من الموانع، وهو في الغالب محل المعاملات المدنية كالبيع والإيجار والشركة والوصية ونحوها. وهو أيضاً عنصر ضروري من ضرورات الحياة أو المعيشة التي لا غنى عنها للإنسان.
لذا سأذكر تعريف المال وأقسامه ومايقبل التملك منه ومالا يقبل، ثم أبين تعريف الملك وأقسامه وخصائص كل قسم.
المبحث الأول ــ تعريف المال وإرثه:
تعريف المال ــ المال في اللغة: كل مايقتنى ويحوزه الإنسان بالفعل سواء أكان عيناً أم منفعة، كذهب أو فضة أو حيوان أو نبات أو منافع الشيء كالركوب واللبس والسكنى. أما مالا يحوزه الإنسان فلا يسمى مالاً في اللغة كالطير في الهواء والسمك في الماء والأشجار في الغابات والمعادن في باطن الأرض.
وأما في اصطلاح الفقهاء ففي تحديد معناه رأيان:
أولاً ـ عند الحنفية: المال: هو كل ما يمكن حيازته وإحرازه وينتفع به عادة، أي أن المالية تتطلب توفر عنصرين:
1 - إمكان الحيازة والإحراز: فلا يعد مالاً: ما لايمكن حيازته كالأمور المعنوية مثل العلم(4/398)
والصحة والشرف والذكاء، وما لا يمكن السيطرة عليه كالهواء الطلق (1) وحرارة الشمس وضوء القمر.
2 - إمكان الانتفاع به عادة: فكل ما لا يمكن الانتفاع به أصلاً كلحم الميتة والطعام المسموم أو الفاسد، أو ينتفع به انتفاعاً لا يعتد به عادة عند الناس كحبة قمح أو قطرة ماء أو حفنة تراب، لا يعد مالاً، لأنه لا ينتفع به وحده. والعادة تتطلب معنى الاستمرار بالانتفاع بالشيء في الأحوال العادية، أما الانتفاع بالشيء حال الضرورة كأكل لحم الميتة عند الجوع الشديد (المخمصة) فلا يجعل الشيء مالاً، لأن ذلك ظرف استثنائي.
وتثبت المالية بتمول الناس كلهم أو بعضهم (2) ، فالخمر أو الخنزير مال لانتفاع غير المسلمين بهما. وإذا ترك بعض الناس تمول مال كالثياب القديمة فلا تزول عنه صفة المالية إلا إذا ترك كل الناس تموله.
وقد ورد تعريف المال في المادة (621) من المجلة نقلاً عن ابن عابدين الحنفي (3) وهو: «المال: هو ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة، منقولاً كان أو غير منقول» .
ولكنه تعريف منتقد؛ لأنه ناقص غير شامل، فالخضروات والفواكه تعتبر مالاً، وإن لم تدخر لتسرع الفساد إليها. وهو أيضاً بتحكيم الطبع فيه قلق غير مستقر؛ لأن بعض الأموال كالأدوية المرة والسموم تنفر منها الطباع على الرغم من أنها مال. وكذلك المباحات الطبيعية قبل إحرازها من صيود ووحوش وأشجار في الغابات تعد أموالاً ولو قبل إحرازها أو تملكها.
ثانياً ـ وأما المال عند جمهور الفقهاء غير الحنفية: فهو كل ما له قيمة يلزم متلفه بضمانه (1) . وهذا المعنى هو المأخوذ به قانوناً، فالمال في القانون وهو كل ذي قيمة مالية.
الأشياء غير المادية ـ الحقوق والمنافع:
__________
(1) أما الهواء المضغوط المعبأ في زجاجات فهو مال محرز.
(2) البحر الرائق: 227/2، رد المحتارلابن عابدين: 3/4.
(3) رد المحتار: 3/4.(4/399)
حصر الحنفية معنى المال في الأشياء أو الأعيان المادية أي التي لها مادة وجِرم محسوس. وأما المنافع والحقوق فليست أموالاً عندهم وإنما هي ملك لا مال. وغير الحنفية اعتبروها أموالاً؛ لأن المقصود من الأشياء منافعها لا ذواتها، وهذا هو الرأي الصحيح المعمول به في القانون وفي عرف الناس ومعاملاتهم، ويجري عليها الإحراز والحيازة.
والمقصود بالمنفعة: هو الفائدة الناتجة من الأعيان، كسكنى الدار، وركوب السيارة، ولبس الثوب ونحو ذلك.
وأما الحق: فهو ما يقرره الشرع لشخص من اختصاص يؤهله لممارسة سلطة معينة أو تكليف بشيء. فهو قد يتعلق بالمال كحق الملكية وحق الارتفاق بالعقار المجاور من مرور أو شرب أو تعلي، وقد لا يتعلق بالمال كحق الحضانة، والولاية على نفس القاصر.
والمنافع، والحقوق المتعلقة بالمال، والحقوق المحضة كحق المدعي في تحليف خصمه اليمين ليست أموالاً عند الحنفية، لعدم إمكان حيازتها بذاتها، وإذا وجدت فلا بقاء ولا استمرار لها، لأنها معنوية، وتنتهي شيئاً فشيئاً تدريجياً.
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية: إنها تعتبر مالاً، لإمكان حيازتها بحيازة أصلها ومصدرها، ولأنها هي المقصودة من الأعيان، ولولاها ما طلبت، ولا رغب الناس بها.
__________
(1) قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: لايقع اسم مال إلا على ماله قيمة يباع بها ويلزم متلفه، وإن قلت، ومالا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك (راجع الأشباه والنظائر للسيوطي، ص258، ط مصطفى محمد) .(4/400)
ويترتب على هذا الخلاف بعض النتائج أو الثمرات في الغصب والميراث والإجارة. فمن غصب شيئاً وانتفع به مدة، ثم رده إلى صاحبه، فإنه يضمن قيمة المنفعة عند غير الحنفية، وعند الحنفية: لا ضمان عليه إلا إذا كان المغصوب شيئاً موقوفاً، أو مملوكاً ليتيم، أو معداً للاستغلال كعقار معد للإيجار كفندق أو مطعم؛ لأن هذه الأملاك بحاجة شديدة للحفظ ومنع العدوان عليها. وهذا المعنى في الواقع موجود في كل المنافع، فينبغي الإفتاء بالضمان في كل المغصوبات.
والإجارة تنتهي بموت المستأجر عند الحنفية؛ لأن المنفعة ليست مالاً حتى تورث، وغير الحنفية يقولون: لا تنتهي الإجارة بموت المستأجر وتظل باقية حتى تنتهي مدتها.
والحقوق لا تورث عند الحنفية كالحق في خيار الشرط أو خيار الرؤية. وتورث عند غير الحنفية.
المبحث الثاني ـ أقسام المال:
قسم الفقهاء المال عدة تقسيمات يترتب عليها أحكام مختلفة بحسب كل قسم، وأكتفي ببيان أربعة تقسيمات، أوضحها القانون المدني:
1 - باعتبار إباحة الانتفاع وحرمته إلى: متقوم وغير متقوم.
2 - باعتبار استقراره في محله وعدم استقراره إلى: عقارٍ ومنقول.
3 - باعتبار تماثل أحاده أو أجزائه وعدم تماثلها إلى: مثلي وقيمي.
4 - باعتبار بقاء عينه بالاستعمال وعدم بقائه إلى: استهلاكي واستعمالي.(4/401)
المطلب الأول ـ المال المتقوم وغير المتقوم:
المال المتقوم: كل ما كان محرزاً بالفعل، وأباح الشرع الانتفاع به كأنواع العقارات والمنقولات والمطعومات ونحوها.
وغير المتقوم: ما لم يحرز بالفعل، أو ما لا يباح الانتفاع به شرعاً إلا في حالة الاضطرار (1) ، مثال الأول: السمك في الماء والطير في الهواء والمعادن في باطن الأرض ونحوها من المباحات كالصيد والحشيش فهي غير متقومة عرفاً. ومثال الثاني: الخمر والخنزير بالنسبة للمسلم غير متقومين شرعاً، فلا يباح للمسلم الانتفاع بهما إلا عند الضرورة وبقدر الضرورة كدفع خطر جوع شديد أو عطش شديد يخشى معه الهلاك، ولا يجد الإنسان شيئاً آخر سواهما، فيباح له الانتفاع بأحدهما بقدر ما يدفع الهلاك عن نفسه.
أما بالنسبة لغير المسلم فهما من الأموال المتقومة عند فقهاء الحنفية؛ لأننا أمرنا بتركهم وما يدينون. فلو أتلفهما مسلم أو غير مسلم وجب عليه ضمانهما. وقال غير الحنفية: لا يعتبران مالاً متقوماً؛ لأن غير المسلمين المقيمين في بلادنا ملزمون بأحكام المعاملات الإسلامية، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.
وتظهر فائدة هذا التقسيم في موضعين:
الأول ـ صحة التعاقد عليه وعدمها: فالمتقوم يصح أن يكون محلاً لجميع العقود التي ترد على المال كالبيع والإيجار والهبة والإعارة والرهن والوصية والشركة ونحوها. وغير المتقوم: لا يصح التعاقد عليه بشيء من تلك العقود، فيعد بيع المسلم خمراً أو خنزيراً بيعاً باطلاً، ولو اشترى المسلم بخمر أو خنزير كان الشراء فاسداً، وسبب التفرقة بين الحالتين أن المبيع هو المقصود الأصلي من البيع، فتقومه شرط انعقاد. وأما الثمن فهو وسيلة لا يقصد لذاته، فتقومه شرط صحة.
__________
(1) راجع المادة (127) من المجلة، الدر المختار: 111/4 ومابعدها.(4/402)
الثاني ـ الضمان عند الإتلاف: إذا أتلف إنسان مالاً متقوماً لغيره وجب عليه ضمان مثله إن كان مثلياً، أو قيمته إن كان قيمياً. أما غير المتقو م فلا يضمن بالإتلاف إذا كان لمسلم. فلو أراق أحد خمراً لمسلم أو قتل خنزيراً له، لا يضمنه. أما لو أتلفه أحد لذمي (أي غير مسلم مقيم في دار الإسلام) ضمن له قيمته عند الحنفية، لأنه مال متقوم عندهم، كما تقدم.
التقوم وعدمه عند القانونيين:
يختلف معنى التقوم وعدمه بين الشرعيين والقانونيين، فهو عند الشرعيين كما عرفنا: ما يباح الانتفاع بها، شرعاً، أو ما لا يباح ذلك.
وأما عند القانونيين: فالتقوم: ما كان ذا قيمة بين الناس. وعدم التقوم: هو خروج الأشياء عن التعامل بطبيعتها أو بحكم القانون. فالأولى هي التي يشترك كل الناس في الانتفاع بها، ولا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، كالهواء والبحار وأشعة الشمس. والثانية: هي الأشياء الخارجة عن التعامل بحكم القانون كالمخدرات الممنوعة والمواد الحربية المتفجرة، وكل الأشياء المملوكة للدولة أو للأشخاص الاعتبارية العامة أو المخصصة للنفع العام بالفعل. وقد أخذت فكرة التقوم وعدمه من مفهوم المادة (38) من القانون المدني التي تنص على ما يأتي:
1 - كل شيء غير خارج عن التعامل بطبيعته أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق المالية.
2 - والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، وأما الخارجة بحكم القانون فهي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق المالية.
يتبين من ذلك أن فكرة التقوم وعدمه تنبني في القانون على جواز التعامل في الشيء وعدم جوازه قانوناً. فالخمر مثلاً يجوز التعامل بها في القانون ولا يجوز التعامل بها في الشرع.(4/403)
المطلب الثاني ـ العقار والمنقول:
للفقهاء اصطلاحان في بيان المقصود من العقار والمنقول، أحدهما للحنفية، والآخر للمالكية.
رأي الحنفية ـ المنقول: هو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر، سواء أبقي على صورته وهيئته الأولى، أم تغيرت صورته وهيئته بالنقل والتحويل ويشمل النقود والعروض التجارية وأنواع الحيوان والمكيلات والموزونات (1) .
والعقار: هو الثابت الذي لا يمكن نقله وتحويله أصلاً من مكان إلى آخر كالدور والأراضي (2) .
ويلاحظ أن البناء والشجر والزرع في الأرض لا تعد عقاراً عند الحنفية إلا تبعاً للأرض، فلو بيعت الأرض المبنية أو المشجرة أو المزروعة طبقت أحكام العقار على ما يتبع الأرض من البناء ونحوه. أما لو بيع البناء وحده أو الشجر وحده من غير الأرض فلا يطبق عليهما حكم العقار. فالعقار عند الحنفية لا يشمل إلا الأرض خاصة. والمنقول يشمل ما عداها (3) .
رأي المالكية ـ ضيق المالكية من دائرة المنقول ووسعوا في معنى العقار فقالوا: المنقول: هو ما أمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع بقائه على هيئته وصورته الأولى كالملابس والكتب والسيارات ونحوها. والعقار عندهم: هو ما لا يمكن نقله وتحويله أصلاً كالأرض، أو أمكن تحويله ونقله مع تغيير صورته وهيئته عند النقل والتحويل كالبناء والشجر. فالبناء بعد هدمه يصير أنقاضاً، والشجر يصبح أخشاباً (4) .
وهذا الرأي هو المتفق مع القانون المدني السوري، كما نصت المادة 48/1: «كل شيء مستقر بحيزه ثابت فيه، لا يمكن نقله منه، دون تلف، فهو عقار، وكل ماعدا ذلك من شيء فهو منقول» .
__________
(1) م128 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) م129 من المجلة.
(3) رد المحتار: 408/3.
(4) بداية المجتهد: 254/2.(4/404)
لكن توسع القانون في معنى العقار في الفقرة الثانية من هذه المادة، فأدخل فيه المنقولات التي يضعها صاحبها في عقار يملكه لخدمة هذا العقار أو استثماره، حتى السماد والسمك، وسماها (عقاراً بالتخصيص) وهذا سائغ في مذهب المالكية. وأدخل فيه أيضاً في المادة (85) الحقوق العينية المترتبة على العقار كحقوق الارتفاق والتأمينات، حتى الدعوى المتعلقة بحق عيني على عقار. واعتبار هذه الدعوى عقاراً فيه إغراق في تصور معنى العقار.
هذا وقد يتحول المنقول إلى عقار وبالعكس، مثال الأول: الأبواب والأقفال وتمديدات الماء والكهرباء تصبح عقاراً باتصالها بالعقار على نحو ثابت. ومثال الثاني: أنقاض البناء وكل ما يستخرج من الأرض من معادن وأحجار وتراب، تصبح منقولاً بمجرد فصلها عن الأرض.
وتظهر فائدة تقسيم المال إلى عقار ومنقول في طائفة من الأحكام الفقهية التالية:
1 - الشفعة (1) : تثبت في المبيع العقار (2) ، ولا تثبت في المنقول، إذا بيع مستقلاً عن العقار، فإن بيع المنقول تبعاً للعقار ثبت فيهما الشفعة.
وكذلك بيع الوفاء (3) : يختص بالعقار دون المنقول.
2 - الوقف: لا يصح عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء إلا في العقار. أما المنقول فلا يصح وقفه إلا تبعاً للعقار كوقف أرض وما عليها من آلات وحيوان، أو ورد بصحة وقفه أثر عن السلف كوقف الخيل والسلاح، أو جرى العرف بوقفه كوقف المصاحف والكتب وأدوات الجنازة. ويصح عند غير الحنفية وقف العقار والمنقول على السواء (4) .
__________
(1) الشفعة: حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري، بما قام عليه من ثمن وتكاليف مثل رسم التسجيل وأجرة السمسار ونحوهما. وتثبت عند الحنفية للشريك والجار، وعند غير الحنفية: تثبت للشريك فقط.
(2) مختصر الطحاوي: ص120.
(3) بيع الوفاء: هو أن يبيع المحتاج إلى النقود عقاراً بشرط أنه متى وفى الثمن استرد العقار (م 118 مجله) .
(4) الدر المختار ورد المحتار: 408/3-411، فتح القدير: 48/5 ومابعدها.(4/405)
3 - بيع الوصي مال القاصر: ليس للوصي بيع عقار القاصر إلا بمسوغ شرعي كإيفاء دين أو دفع حاجة ضرورية أو تحقيق مصلحة راجحة. وقد أنيط ذلك بإذن القاضي في قانون الأحوال الشخصية؛ لأن بقاء عين العقار فيه حفاظ على مصلحة القاصر أكثر من حفظ ثمنه.
أما المنقول: فله أن يبيعه متى رأى مصلحة في ذلك.
وفي بيع مال المدين المحجوز عليه لوفاء دينه يبدأ أولاً ببيع المنقول، فإن لم يف ثمنه انتقل إلى العقار تحقيقاً لمصلحة المدين.
4 - يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لبقية الفقهاء بيع العقار قبل قبضه من المشتري، أما المنقول فلا يجوز بيعه قبل القبض أو التسليم؛ لأن المنقول عرضة للهلاك كثيراً بعكس العقار.
5 - حقوق الجوار والارتفاق تتعلق بالعقار، دون المنقول.
6 - لا يتصور غصب العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف، إذ لا يمكن نقله وتحويله، ويرى محمد وسائر الفقهاء إمكان غصب العقار، والرأي الأول أخذت به المجلة (م 509 وما بعدها) .
أما المنقول فيتصور غصبه باتفاق الفقهاء (1) .
__________
(1) وهناك أحكام قانونية تختلف بين العقار والمنقول: منها أن انتقال ملكية العقار لايتم إلا بالتسجيل، أما المنقول فلا حاجة في نقل ملكيته إلى التسجيل. ومنها أن الحيازة بسبب صحيح وبحسن نية في المنقول سند الملكية. أما العقار فإن حيازته ولو بسبب صحيح لاتثبت بها الملكية إلا بمضي خمس سنين (م927، 918) .(4/406)
المطلب الثالث ـ المال المثلي والقيمي:
المال المثلي: ما له مثل أو نظير في الأسواق من غير تفاوت في أجزائه أو وحداته تفاوتاً يعتد به في التعامل (1) . والأموال المثلية أربعة أنواع هي: المكيلات (كالقمح والشعير) والموزونات (كالقطن والحديد) والعدديات المتقاربة في الحجم كالجوز والبيض، وبعض أنواع الذرعيات (التي تباع بالذراع أو المتر ونحوهما) : وهي التي تتساوى أجزاؤها دون فرق يعتد به كأثواب الجوخ والقطن والحرير، وألواح البلور، والأخشاب الجديدة. أما إن تفاوتت أجزاء المذروع كالنسيج غير المتماثل الأجزاء وكالأراضي، فيصبح مالاً قيمياً لا مثلياً. وكما يعد المعدود المتقارب من المحصولات الطبيعية من المال المثلي، كذلك يعد المعدود المتماثل من المصنوعات من مادة واحدة وشكل واحد مالاً مثلياً كأواني الأكل والشرب، والسيارات المتحدة النوع، وأدوات غيارها، والكتب الجديدة المطبوعة.
والمال القيمي: هو ما ليس له نظير أو مثل في السوق، أو له مثل ولكن مع التفاوت المعتد به بين وحداته في القيمة (2) ، مثل أفراد الحيوان والأراضي والأشجار والدور وأنواع السجاد والبسط والأحجار الكريمة كالماس والياقوت والكتب المخطوطة أو المستعملة.
ويدخل في المال القيمي: العدديات المتفاوتة القيمة في آحادها كالبطيخ والرمان عند اختلاف أحجامها وأنواعها.
وقد ينقلب المال المثلي قيمياً وبالعكس، وحالات انقلاب المثلي قيمياً أربعة هي:
1 - الانقطاع من السوق: إذا انقطع وجود المال المثلي من الأسواق انقلب قيمياً.
2 - الاختلاط: إذا اختلط مالان مثليان من جنسين مختلفين كحنطة وشعير، صار الخليط قيمياً.
3 - التعرض للخطر: إذا تعرض المال المثلي للخطر كالحريق أو الغرق، صار له قيمة خاصة.
4 - التعيب أو الاستعمال: إذا تعيب المال المثلي أو استعمل، صار له قيمة خاصة.
__________
(1) م145 من المجلة.
(2) م146 من المجلة.(4/407)
وانقلاب المال القيمي إلى مثلي يكون في حال الكثرة بعد الندرة، فإذا كان المال نادر الوجود في السوق، ثم أصبح كثير الوجود، صار مثلياً بعد أن كان له قيمة خاصة.
ويلاحظ أن المال المتقوم أعم من القيمي، فالمتقوم يشمل القيمي والمثلي.
وتظهر فائدة التقسيم إلى مثلي وقيمي فيما يأتي:
1 - الثبوت في الذمة (1) : يثبت المال المثلي ديناً في الذمة أي بأن يكون ثمناً في البيع، عن طريق تعيين جنسه وصفته. ويصح بالتالي وقوع المقاصة بين الأموال المثلية.
أما القيمي: فلا يقبل الثبوت ديناً في الذمة، فلا يصح أن يكون ثمناً، ولا تجري المقاصة بين الأموال القيمية. وإذا تعلق الحق بمال قيمي كرأس غنم أو بقر، يجب أن يكون معيناً بذاته، متميزاً عن سواه، بالإشارة إليه منفرداً، لا مشاراً إليه بالوصف؛ لأن أفراد المال القيمي ولو من نوع واحد غير متماثلة، ولكل واحد منها صفة وقيمة معينة.
2 - كيفية الضمان عند التعدي أو الإتلاف: إذا أتلف شخص مالاً مثلياً، مثل كمية من القمح أو السكر، وجب عليه ضمان مثله، حتى يكون التعويض على أكمل وجه، والمثل أقرب إلى الشيء المتلف صورة ومعنى، أي مالية. أما القيمي فيضمن المتعدي قيمته؛ لأنه يتعذر إيجاب مثله صورة، فيكتفى بإيجاب مثله معنى، أي من ناحية المالية، وهي القيمة.
3 - القسمة الجبرية وأخذ النصيب: تدخل القسمة جبراً في المال المثلي المشترك، ولكل شريك أخذ نصيبه في غيبة الآخر دون إذنه. أما القيمي: فلا تدخل فيه القسمة الجبرية، ولا يجوز للشريك أخذ نصيبه في غيبة الآخر بدون إذنه؛ لأن القسمة فيها معنى الإفراز والمبادلة، فإذا كان المال مثلياً كانت جهة الإفراز هي الراجحة لتماثل أجزائه. وإذا كان قيمياً كانت جهة المبادلة هي الراجحة لعدم تماثل أجزائه، فكأنه أخذ بدل حقه لا عينه.
__________
(1) سأوضح قريباً معنى الذمة وخصائصها وبدئها وانتهائها بمشيئة الله تعالى.(4/408)
4 - الربا: الأموال القيمية لا يجري فيها الربا المحرم، فيجوز بيع غنمة بغنمتين، أي يجوز بيع القليل بالكثير من جنسه. أما الأموال المثلية فيجري فيها الربا الحرام الذي يوجب تساوي العوضين المتجانسين في الكمية والمقدار، وتكون الزيادة حراماً. فلا يجوز بيع قنطار من القمح بقنطار وربع مثلاً، لاشتمال البيع على ما يسمى بربا الفضل، وهذا الربا يختص شرعاً بالمقدرات المثلية من مكيل أو موزون فقط.
الذمة المالية وخصائصها:
لا يتصور ثبوت دين على إنسان إلا بتصور محل اعتباري مفترض مقدر وجوده في كل إنسان. وهذا المحل المقدر المفترض هو الذمة، فالذمة تختلف عن الأهلية، إذ أن الأهلية: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له وتحمل الواجبات. وتحمل الواجبات أو الالتزامات يستلزم وجود محل في الشخص تستقر فيه تلك الواجبات أو الديون. وتبدأ الأهلية ناقصة منذ بدء تكون الجنين، وتكمل أهلية الوجوب بالولادة.
وبالولادة تبدأ الذمة مع بدء تصور وجود العنصر الثاني من تلك الأهلية: وهو عنصر المديونية أو الالتزام، فالأهلية هي الصلاحية، والذمة محل الصلاحية.
فالذمة: هي محل اعتباري في الشخص تقع فيه الديون أوالالتزامات (1) .
أولاً ـ خصائص الذمة:
للذمة الخصائص التالية:
1 - الذمة من صفات الشخصية الطبيعية وهو الإنسان أو الاعتبارية كالشركات والمؤسسات والأوقاف والمساجد. فلا ذمة للجنين قبل ولادته، فلا تصح الهبة له، لكن تصح الوصية له بشرط ولادته حياً، ولا ذمة للحيوان، فلو أوصى شخص لدابة وقصد تمليكها فالوصية باطلة، لكن لو كان بقصد الإنفاق عليها صحت الوصية، ويكون المقصود بها مالكها. ولا يتعين صرف الموصى به للنفقة على الدابة عند الحنفية (2) ، ويتعين ذلك لعلف الدابة عند الشافعية (3) .
__________
(1) المدخل إلى الالتزام في الفقه للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف123.
(2) الدر المختار: 459/5،462.
(3) مغني المحتاج: 42/3.(4/409)
2 - لا بد لكل شخص بعد ولادته من ذمة، حتى ولو كانت فارغة بريئة؛ لأن الذمة من توابع الشخصية، وتلازم العنصر الثاني من أهلية الوجوب، وهذه الأهلية مناطها الصفة الإنسانية، فتلازم الإنسان منذ وجوده.
3 - لا تتعدد الذمة، فلكل شخص ذمة واحدة، ولا اشتراك بين أشخاص في الذمة.
4 - الذمة لا حدّ لسعتها، فهي تتسع لكل الديون مهما عظمت؛ لأن الذمة ظرف اعتباري، يتسع لكل الالتزامات.
5 - الذمة متعلقة بالشخص، لا بأمواله وثروته، ليتمكن من ممارسة نشاطه الاقتصادي بحرية مطلقة تمكنه من تسديد ديونه، فله التجارة والبيع ولو كان مديناً بأكثر مما يملك. وله وفاء أي دين متقدم أو متأخر في الثبوت. ولا يحق للدائنين الاعتراض عليه.
6 - الذمة ضمان عام لكل الديون بلا تمييز لدين على آخر إلا إذا وجد لصاحب دين حق عيني كالرهن، أو كانت بعض الحقوق الشخصية ذات امتياز كنفقات التجهيز والتكفين، ودين النفقة للزوجة والأولاد الصغار، وديون الضرائب الحكومية
ثانياً - انتهاء الذمة:
تبدأ الذمة بالولادة وتنتهي بالوفاة، وللفقهاء آراء ثلاثة في انتهاء الذمة.
الرأي الأول للحنابلة في رواية عندهم (1) ـ انهدام الذمة بمجرد الموت: لأن الذمة من خصائص الشخصية، والموت يعصف بالشخص وبذمته. وأما الديون فتتعلق عند أكثر الحنابلة بالتركة، فمن مات ولا تركة له سقطت ديونه.
__________
(1) القواعد لابن رجب: ص193 ومابعدها.(4/410)
الرأي الثاني للمالكية والشافعية وبعض الحنابلة (1) ـ بقاء الذمة بعد الموت حتى إيفاء الديون وتصفية التركة: تبقى الذمة بعد الموت حتى تصفى الحقوق المتعلقة بالتركة. فيصح للميت اكتساب حقوق جديدة بعد موته كان سبباً لها، كمن نصب شبكة للاصطياد، فوقع فيها حيوان، فإنه يملكه، وتظل ذمة الميت باقية بعد موته حتى تسدد ديونه، لقوله عليه السلام: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» (2) . ويمكن أن تشغل ذمة الميت بعد موته بديون جديدة، كشغلها بثمن المبيع الذي رده المشتري على البائع بعد موته بسبب عيب ظهر فيه. وكالتزامه بضمان قيمة ما وقع في حفرة حفرها الشخص قبل موته، في الطريق العام. وتصح الكفالة بعد الموت بما على الميت المفلس من ديون؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صحح هذه الكفالة. وتصح عند المالكية لا الشافعية والحنابلة الوصية لميت. ويقتصر أثر الموت في هذا الرأي على عدم مطالبة الميت بالحقوق وإنما يطالب ورثته بأداء الحقوق لأصحابها.
الرأي الثالث للحنفية ـ ضعف الذمة:
إن الموت لا يهدم الذمة، لكن يضعفها، فتبقى بقدر الضرورة لتصفية الحقوق المتعلقة بالتركة التي لها سبب في حال الحياة. فيكتسب الميت بعد موته ملكية جديدة كما في صورة نصب الشبكة للصيد، ويلتزم بالديون التي تسبب بها الشخص قبل موته، كرد المبيع المعيب عليه والتزامه بالثمن، وضمان ما وقع في حفرة حفرها في الطريق العام. لكن لا تصح كفالة دين على ميت مفلس عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين (3) . ولا تصح الوصية للميت أو الهبة له. وبهذين الحكمين الأخيرين يفترق الرأي الثالث عن الرأي الثاني.
__________
(1) مغني المحتاج: 40/3، المغني: 21/6.
(2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وهو صحيح.
(3) البدائع: 6/6، فتح القدير: 419/5.(4/411)
المطلب الرابع ـ المال الاستهلاكي والاستعمالي:
المال الاستهلاكي: هو الذي لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، كأنواع الطعام والشراب والحطب والنفط والورق والنقود. فلا يمكن الانتفاع بهذه الأموال ما عدا النقود إلا باستئصال عينها. وأما النقود فاستهلاكها يكون بخروجها من يد مالكها، وإن كانت أعيانها باقية بالفعل.
والمال الاستعمالي: هو ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، كالعقارات والمفروشات والثياب والكتب ونحوها.
وينظر إلى الانتفاع المميز بين النوعين لأول مرة، لا إلى حالات الاستعمال المتكررة. فإن زالت عين الشيء من أول انتفاع كان مالاً استهلاكياً، وإن بقيت عينه حينئذ كان مالاً استعمالياً.
وتظهر فائدة التقسيم فيما يأتي:
يقبل كل نوع من هذين المالين نوعاً معيناً من العقود. فالمال الاستهلاكي يقبل العقود التي غرضها الاستهلاك لا الاستعمال كالقرض وإعارة الطعام.
والمال الاستعمالي يقبل العقود التي هدفها الاستعمال دون الاستهلاك كالإجارة والإعارة.
فإن لم يكن الغرض من العقد هو الاستعمال وحده أو الاستهلاك وحده، صح أن يرد على كلا النوعين: الاستعمالي والاستهلاكي كالبيع والإيداع، يصح ورودهما على كل من النوعين على السواء.(4/412)
الفَصْلُ الثَّالث: الملكيَّة وخصائِصُها
ويشتمل على مطالب خمسة:
المطلب الأول ـ تعريف الملكية والملك:
الملكية أو الملك: علاقة بين الإنسان والمال أقرها الشرع (1) تجعله مختصاً به، ويتصرف فيه بكل التصرفات ما لم يوجد مانع من التصرف.
والملك كما يطلق على هذه العلاقة، يطلق أيضاً على الشيء المملوك، تقول: هذا الشيء ملكي أي مملوك لي. وهذا المعنى هو المقصود في تعريف المجلة (م 521) للملك: بأنه ما ملكه الإنسان، سواء أكان أعياناً أو منافع. وعلى هذا المعنى يفهم قول الحنفية: إن المنافع والحقوق ملك وليست بمال.
وعلى هذا، فالملك أعم من المال عندهم.
والملك في اللغة: هو حيازة الإنسان للمال والاستبداد به أي الانفراد بالتصرف فيه.
وقد عرف الفقهاء الملك بتعاريف متقاربة مضمونها واحد (2) ، ولعل أفضلها هو ما يأتي:
الملك: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه، ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي.
فإذا حاز الشخص مالاً بطريق مشروع أصبح مختصاً به، واختصاصه به يمكنه من الانتفاع به والتصرف فيه إلا إذا وجد مانع شرعي يمنع من ذلك كالجنون أو العته أو السفه أو الصغر ونحوها. كما أن اختصاصه به يمنع الغير من الانتفاع به أو التصرف فيه إلا إذا وجد مسوغ شرعي يبيح له ذلك كولاية أو وصاية أو وكالة.
وتصرف الولي أو الوصي أو الوكيل لم يثبت له ابتداء، وإنما بطريق النيابة الشرعية عن غيره، فيكون القاصر أو المجنون ونحوهما هو المالك، إلا أنه ممنوع من التصرف بسبب نقص أهليته أو فقدانها، ويعود له الحق بالتصرف عند زوال المانع أو العارض.
المطلب الثاني ـ قابلية المال للتملك وعدمها:
المال في الأصل قابل بطبيعته للتملك، لكن قد يعرض له عارض يجعله غير قابل في كل الأحوال أو في بعضها للتملك، فيتنوع المال بالنسبة لقابليته للتملك إلى ثلاثة أنواع:
1 ً - ما لا يقبل التمليك ولا التملك بحال: وهو ما خصص للنفع العام كالطرق العامة والجسور والحصون والسكك الحديدية والأنهار والمتاحف والمكتبات العامة والحدائق العامة ونحوها. فهذه الأشياء غير قابلة للتملك لتخصيصها للمنافع العامة. فإذا زالت عنها تلك الصفة عادت لحالتها الأصلية، وهي قابلية التملك، فالطريق إذا استغني عنه أو ألغي جاز تملكه.
__________
(1) حق الملكية وغيره لا يثبت إلا بإقرار الشرع واعترافه به، لأن الشرع هو مصدر الحقوق، وليس الحق في الشريعة حقاً طبيعياً، وإنما هو منحة إلهية منحها الخالق للأفراد وفقاً لمصلحة الجماعة.
(2) راجع فتح القدير: 74/5، الفروق للقرافي: 208/3 ومابعدها.(4/413)
2 ً - ما لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي: كالأموال الموقوفة وأملاك بيت المال أي الأموال الحرة في عرف القانونيين. فالمال الموقوف لا يباع ولا يوهب إلا إذا تهدم أو أصبحت نفقاته أكثر من إيراده، فيجوز للمحكمة الإذن باستبداله (1) .
وأملاك بيت المال (أو وزارة المالية، أو الحكومة) لا يصح بيعها إلا برأي الحكومة لضرورة أو مصلحة راجحة، كالحاجة إلى ثمنها، أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحو ذلك؛ لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة أو المصلحة.
3 ً - ما يجوز تملكه وتمليكه مطلقاً بدون قيد: وهو ما عدا النوعين السابقين.
المطلب الثالث ـ أنواع الملك:
الملك إما تام أو ناقص.
فالملك التام: هو ملك ذات الشيء (رقبته) ومنفعته معاً، بحيث يثبت للمالك جميع الحقوق المشروعة.
ومن أهم خصائصه: أنه ملك مطلق دائم لا يتقيد بزمان محدود ما دام الشيء محل الملك قائماً. ولا يقبل الإسقاط، فلو غصب شخص عيناً مملوكة لآخر، فقال المالك المغصوب منه: أسقطت ملكي، فلا تسقط ملكيته ويبقى الشيء ملكاً له، وإنما يقبل النقل، إذ لا يجوز أن يكون الشيء بلا مالك. وطريق النقل إما العقد الناقل للملكية كالبيع، أو الميراث أو الوصية.
ويمنح صاحبه الصلاحيات التامة وحرية الاستعمال والاستثمار والتصرف فيما يملك كما يشاء، فله البيع أو الهبة أو الوقف أو الوصية، كما له الإعارة والإجارة، لأنه يملك ذات العين والمنفعة معاً، فله التصرف بهما معاً، أو بالمنفعة فقط.
__________
(1) أجاز الحنفية الاستبدال بالموقوف أرضاً أخرى للحاجة والمصلحة، فقالوا: يجوز للقاضي النزيه العدل الإذن باستبدال الوقف، بشرط أن يخرج عن الانتفاع بالكلية، وأن لا يكون هناك ريع للوقف يعمر به، وأن لا يكون البيع بغبن فاحش، وأن يستبدل بعقار لا بدراهم ودنانير (الدر المختار ورد المحتار: 425/3) .(4/414)
وإذا أتلف المالك ما يملكه لا ضمان عليه؛ إذ لا يتصور مالك وضامن في شخص واحد، لكن يؤاخذ ديانة؛ لأن إتلاف المال حرام، وقد يؤاخذ قضاء فيحجر عليه إذا ثبت سفهه.
والملك الناقص: هو ملك العين وحدها، أو المنفعة وحدها. ويسمى ملك المنفعة حق الانتفاع. وملك المنفعة قد يكون حقاً شخصياً للمنتفع أي يتبع شخصه لا العين المملوكة، وقد يكون حقاً عينياً أي تابعاً للعين دائماً، بقطع النظر عن الشخص المنتفع، وهذا يسمى حق الارتفاق، ولا يكون إلا في العقار.
المطلب الرابع ـ أنواع الملك الناقص:
وعلى هذا يكون الملك الناقص ثلاثة أنواع:
1 ً - ملك العين فقط:
وهو أن تكون العين (الرقبة) مملوكة لشخص، ومنافعها مملوكة لشخص آخر، كأن يوصي شخص لآخر بسكنى داره أو بزراعة أرضه مدة حياته، أو مدة ثلاث سنوات مثلاً، فإذا مات الموصي وقبل الموصى له، كانت عين الدار ملكاً لورثة الموصي بالإرث، وللموصى له ملك المنفعة مدة حياته أو المدة المحددة. فإذا انتهت المدة صارت المنفعة ملكاً لورثة الموصي، فتعود ملكيتهم تامة. وفي هذه الحالة: ليس لمالك العين الانتفاع بها، ولا التصرف بمنفعتها أو بالعين، ويجب عليه تسليم العين للمنتفع ليستوفي حقه من منافعها، فإذا امتنع أجبر على ذلك.
وبه يظهر أن ملكية العين فقط تكون دائمة، وتنتهي دائماً إلى ملكية تامة، وملكية المنافع قد تكون مؤقتة؛ لأن المنافع لا تورث عند الحنفية أو دائمة كالوقف.
2 ً - ملك المنفعة الشخصي أو حق الانتفاع (1) :
هناك أسباب خمسة لملك المنفعة: وهي الإعارة والإجارة، والوقف والوصية، والإباحة.
أما الإعارة: فهي عند جمهور الحنفية والمالكية: تمليك المنفعة بغير عوض. فللمستعير أن ينتفع بنفسه، وله إعارة الشيء لغيره، لكن ليس له إجارته؛ لأن الإعارة عقد غير لازم (يجوز الرجوع عنه في أي وقت) ، والإجارة عقد لازم، والضعيف لا يتحمل الأقوى منه، وفي إجارة المستعار إضرار بالمالك الأصلي.
__________
(1) يرى الحنفية: أنه لا فرق بين ملك المنفعة وحق الانتفاع، وهما شيء واحد. فللمنتفع أن ينتفع بنفسه، أو أن يملك غيره المنفعة، إلا إذا وجد مانع صريح من قبل مالك العين، أو وجد مانع يقتضيه العرف والعادة، فمن وقف داره لسكنى الطلاب الغرباء كان للطالب حق السكنى فقط، وحق الانتفاع بالمرافق العامة كالمدارس والجامعات والمشافي مقيد بالمنتفع فقط، وليس له تمليك غيره. وهذا الرأي هو المعمول به قانوناً. وقال المالكية: هناك فرق بين ملك المنفعة وحق الانتفاع. فملك المنفعة اختصاص يكسب صاحبه أن ينتفع بنفسه، وأن يملكها لغيره بعوض أو بغير عوض. وأما حق الانتفاع: فهو مجرد رخصة بالانتفاع الشخصي بناء على إذن عام كحق الانتفاع بالمنافع العامة كالطرق والأنهار والمدارس والمصحات وغيرها، أو إذن خاص كحق الانتفاع بملك شخص أذن له به، كركوب سيارته، والمبيت في منزله، وقراءة كتبه ونحو ذلك. فليس للمنتفع أن يملك المنفعة لغيره، فتمليك الانتفاع: هو أن يباشر المنتفع بنفسه، وتمليك المنفعة أعم وأشمل، فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة، وبغير عوض كالإعارة (راجع الفروق للقرافي:187/1،الفرق 30) .(4/415)
وعند الشافعية والحنابلة: هي إباحة المنفعة بلا عوض، فليس للمستعير إعارة المستعار إلى غيره.
وأما الإجارة: فهي تمليك المنفعة بعوض. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره مجاناً أو بعوض إذا لم تختلف المنفعة باختلاف المنتفعين، حتى لو شرط المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه. فإن اختلف نوع المنفعة كان لا بد من إذن المالك المؤجر.
وأما الوقف: فهو حبس العين عن تمليكها لأحد من الناس وصرف منفعتها إلى الموقوف عليه. فالوقف يفيد تمليك المنفعة للموقوف عليه، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره إن أجاز له الواقف الاستثمار، فإن نص على عدم الاستغلال أو منعه العرف من ذلك، فليس له الاستغلال.(4/416)
وأما الوصية بالمنفعة: فهي تفيد ملك المنفعة فقط في الموصى به، وله استيفاء المنفعة بنفسه، أو بغيره بعوض أو بغير عوض إن أجاز له الموصي الاستغلال.
وأما الإباحة: فهي الإذن باستهلاك الشيء أو باستعماله، كالإذن بتناول الطعام أو الثمار، والإذن العام بالانتفاع بالمنافع العامة كالمرور في الطرقات والجلوس في الحدائق ودخول المدارس والمشافي. والإذن الخاص باستعمال ملك شخص معين كركوب سيارته، أو السكن في داره.
وسواء أكانت الإباحة مفيدة ملك الانتفاع بالشيء بالفعل أو بإحرازه كما يرى الحنفية، أو مجرد الانتفاع الشخصي كما يرى المالكية، فإن الفقهاء متفقون على أنه ليس للمنتفع إنابة غيره في الانتفاع بالمباح له، لا بالإعارة ولا بالإباحة لغيره.
والفرق بين الإباحة والملك:
هو أن الملك يكسب صاحبه حق التصرف في الشيء المملوك ما لم يوجد مانع. أما الإباحة: فهي حق الإنسان بأن ينتفع بنفسه بشيء بموجب إذن. والإذن قد يكون من المالك كركوب سيارته، أو من الشرع كالانتفاع بالمرافق العامة، من طرقات وأنهار ومراعي ونحو ذلك.
فالمباح له الشيء لا يملكه ولا يملك منفعته، بعكس المملوك.
خصائص حق المنفعة أو الانتفاع الشخصي:
يتميز الملك الناقص أو حق المنفعة الشخصي بخصائص أهمها ما يأتي:
1 - يقبل الملك الناقص التقييد بالزمان والمكان والصفة عند إنشائه، بعكس الملك التام، فيجوز لمن يعير سيارته لغيره أو يوصي بمنفعة داره أن يقيد المنتفع بمدة معينة كشهر مثلاً، وبمكان معين كالركوب في المدينة لا في الصحراء، وأن يركبها بنفسه لا بغيره.
2 - عدم قبول التوارث عند الحنفية خلافاً لجمهور الفقهاء: فلا تورث المنفعة عند الحنفية؛ لأن الإرث يكون للمال الموجود عند الموت، والمنافع لا تعد مالاً عندهم كما تبين.(4/417)
أما عند غير الحنفية فتورث المنافع في المدة الباقية؛ لأن المنافع عندهم أموال كما ذكرت، فتورث كغيرها من الأموال، فمن أوصى لغيره بسكنى داره مدة معلومة، ثم مات قبل انتهاء هذه المدة، فلورثته الحق بسكنى الدار إلى نهاية المدة.
3 - لصاحب حق المنفعة تسلم العين المنتفع بها ولو جبراً عن مالكها. ومتى تسلمها تكون أمانة في يده، فيحافظ عليها كما يحافظ على ملكه الخاص، وإذا هلكت أو تعيبت لا يضمنها إلا بالتعدي أو بالتقصير في حفظها. وما عدا ذلك لا ضمان عليه. 4 - على المنتفع ما تحتاجه العين من نفقات إذا كان انتفاعه بها مجاناً، كما في الإعارة، فإن كان الانتفاع بعوض كما في الإجارة فعلى مالك العين نفقاتها.
5 - على المنتفع بعد استيفاء منفعته تسليم العين إلى مالكها متى طلبها إلا إذا تضرر المنتفع. كما إذا لم يحن وقت حصاد الزرع في أرض مستأجرة أو مستعارة، فله إبقاء الأرض بيده حتى موسم الحصاد، ولكن بشرط دفع أجر المثل.
انتهاء حق المنفعة:
حق المنفعة حق مؤقت كما عرفنا، فينتهي بأحد الأمور التالية:
1 - انتهاء مدة الانتفاع المحددة.
2 - هلاك العين المنتفع بها أو تعيبها بعيب لا يمكن معه استيفاء المنفعة، كانهدام دار السكنى أو صيرورة أرض الزراعة سبخة أو ملحة. فإن حصل ذلك بتعدي مالك العين ضمن عيناً أخرى، كالموصي بركوب سيارة ثم عطلها، فعليه تقديم سيارة أخرى.
3 - وفاة المنتفع عند الحنفية؛ لأن المنافع لا تورث عندهم.
4 - وفاة مالك العين إذا كانت المنفعة من طريق الإعارة أو الإجارة؛ لأن الإعارة عقد تبرع، وهو ينتهي بموت المتبرع، ولأن ملكية المأجور تنتقل إلى ورثة المؤجر.(4/418)
وهذا عند الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة: الإعارة عقد غير لازم، فيجوز للمعير أو لورثته الرجوع عنها، سواء أكانت مطلقة أم مؤقتة. وقال المالكية: الإعارة المؤقتة عقد لازم، فمن أعار دابة إلى موضع كذا، لم يجز له أخذها قبل ذلك، وإلا لزمه إبقاؤها قدر ما ينتفع بالمستعار الانتفاع المعتاد. وبذلك يتبين أن الجمهور يقولون: إن الإعارة لا تنتهي بموت المعير أو المستعير، وكذلك الإجارة لا تنتهي بموت أحد العاقدين؛ لأنها عقد لازم كالبيع.
أما إذا كانت المنفعة من طريق الوصية أو الوقف، فلا ينتهي حق المنفعة بموت الموصي؛ لأن الوصية تبدأ بعد موته، ولا بموت الواقف؛ لأن الوقف إما مؤبد، أو مؤقت فيتقيد بانتهاء مدته.
3 ً - ملك المنفعة العيني أو حق الارتفاق:
حق الارتفاق: هو حق مقرر على عقار لمنفعة عقار آخر، مملوك لغير مالك العقار الأول. وهو حق دائم يبقى ما بقي العقاران دون نظر إلى المالك. مثل حق الشِّرب، وحق المجرى، وحق المسيل، وحق المرور، وحق الجوار، وحق العلو.
أما حق الشِّرب: فهو النصيب المستحق من الماء لسقي الزرع والشجر، أو نوبة الانتفاع بالماء لمدة معينة لسقي الأرض.
ويلحق به حق الشفة: وهو حق شرب الإنسان والدواب والاستعمال المنزلي. وسمي بذلك لأن الشُّرب يكون عادة بالشفة.
والماء بالنسبة لهذا الحق أربعة أنواع (1) :
أـ ماء الأنهار العامة كالنيل ودجلة والفرات ونحوها من الأنهار العظيمة: لكل واحد الانتفاع به، لنفسه ودوابه وأراضيه، بشرط عدم الإضرار بالغير، لحديث: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وحديث «لا ضرر ولا ضرار» .
__________
(1) البدائع: 188/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 144/8، القوانين الفقهية: ص 339، نهاية المحتاج: 255/4، المغني: 531/5.(4/419)
ب ـ ماء الجداول والأنهار الخاصة، المملوكة لشخص: لكل إنسان حق الشفة منه، لنفسه ودوابه، وليس لغير مالكه سقي أراضيه إلا بإذن مالك المجرى.
ج ـ ماء العيون والآبار والحياض ونحوها المملوكة لشخص: يثبت فيها كالنوع الثاني حق الشفة دون حق الشرب. فإن أبى صاحب الماء، ومنع الناس من الاستقاء لأنفسهم ودوابهم، كان لهم قتاله حتى ينالوا حاجتهم، إذا لم يجدوا ماءً قريباً آخر.
د ـ الماء المحرز في أوان خاصة: كالجرار والصهاريج، لا يثبت لأحد حق الانتفاع به بأي وجه إلا برضا صاحب الماء؛ لأن الرسول عليه السلام نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه. لكن المضطر إلى هذا الماء الذي يخاف على نفسه الهلاك من العطش، له أخذ ما يحتاجه منه، ولو بالقوة ليدفع عن نفسه الهلاك، ولكن مع دفع قيمته، لأن (الاضطرار لا يبطل حق الغير) .
وحق المجرى: هو حق صاحب الأرض البعيدة عن مجرى الماء في إجرائه من ملك جاره إلى أرضه لسقيها. وليس للجار أن يمنع مرور الماء لأرض جاره، وإلا كان له إجراؤه جبراً عنه، دفعاً للضرر عنه.(4/420)
وحق المسيل: هو مجرى على سطح الأرض، أو أنابيب تنشأ لتصريف المياه الزائدة عن الحاجة، أو غير الصالحة حتى تصل إلى مصرف عام أو مستودع، كمصارف الأراضي الزراعية أو مياه الأمطار أو الماء المستعمل في المنازل. والفرق بين المسيل والمجرى: أن المجرى لجلب المياه الصالحة للأرض، والمسيل لصرف الماء غير الصالح عن الأرض أو عن الدار. وحكمه مثل حق المجرى، ليس لأحد منعه إلا إذا حدث ضرر بين.
وحق المرور: هو حق صاحب عقار داخلي بالوصول إلى عقاره من طريق يمر فيه سواء أكان الطريق عاماً غير مملوك لأحد، أم خاصاً مملوكاً للغير. فالطريق العام يحق لكل إنسان المرور فيه. والطريق الخاص: يحق لأصحابه المرور فيه وفتح الأبواب والنوافذ عليه، وليس لهم سده أمام العامة للالتجاء إليه.
وحق الجوار: الجوار نوعان: علوي وجانبي، وفيه حقان:
أـ حق التعلي: وهو الثابت لصاحب العلو على صاحب السفل، أي الحق الطابقي أو حق العلو.
ب ـ حق الجوار الجانبي: وهو الثابت لكل من الجارين على الآخر.
ولصاحب حق التعلي حق القرار على الطبقة السفلى، وهو حق ثابت دائماً لصاحب العلو، لا يزول بهدم العقار كله أو انهدام السفل، وله ولورثته إعادة بنائه حين يريد، وليس لصاحب العلو أو السفل أن يتصرف في بنائه تصرفاً يضر بالآخر، وإذا انهدم السفل وجب على صاحبه إعادة بنائه، فإن امتنع أجبر على ذلك قضاء، فإن رفض كان لصاحب العلو البناء ويرجع على الآخر بالنفقات، إذا بني بإذن القاضي أو إذن صاحب السفل، فإن بني من غير إذن رجع بقيمة البناء وقت تمامه، لا بما أنفق؛ لأنه لم يكن وكيلاً بالإنفاق.
وليس لصاحب الجوار الجانبي إلا حق واحد وهو ألا يضر أحدهما بصاحبه ضرراً فاحشاً بيِّناً: وهو كل ما يمنع المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى، أو يكون سبباً لهدم البناء أو وهن فيه.(4/421)
فالضرر في كل أنواع الجوار ممنوع، أما التصرفات التي يُشكل أمرها في الجوار العلوي فلا يعلم أيحصل منها ضرر أم لا، كفتح باب أو نافذة في الطابق الأسفل، أو وضع متاع ثقيل في الطابق الأعلى قد يؤثر في السقف، فهذه مختلف في منعها (1) . فقال أبو حنيفة: يمنع هذا التصرف إلا بإذن الجار؛ لأن الأصل في تصرفات المالك في ملكه، التي يتعلق بها حق الغير هو المنع والحظر، لأن ملكه ليس خالصاً، فلا يباح له إلا ما يتيقن فيه عدم الضرر، ويتوقف ما عداه على إذن صاحب الحق ورضاه. وهذا الرأي هو المفتى به عند الحنفية.
وقال الصاحبان: الأصل في ذلك الإباحة؛ لأن صاحب العلو تصرف في ملكه، والمالك حر التصرف في ملكه مالم يكن فيه ضرر لغيره بيقين، فيمنع منه حينئذ، ويبقى ما عداه على الإباحة، وهذا الرأي في تقديري هو المعقول الواجب الاتباع. فيصبح حكم الجوار الجانبي والعلوي واحداً، وهو إباحة التصرف في الملك ما لم يترتب على ذلك ضرر فاحش بالجار، فإن وقع الضرر، وجب على المتعدي ضمانه، سواء أكان الضرر مباشراً أم بالتسبب. وهو رأي المالكية وباقي المذاهب أيضاً (2) .
أمور ثلاثة متعلقة بحقوق الارتفاق:
الأول ـ الفرق بين حق الارتفاق وحق الانتفاع الشخصي:
يفترق حق الارتفاق عن حق الانتفاع من نواحٍ أربع تالية:
1 - حق الارتفاق يكون دائماً مقرراً على عقار، فتنقص به قيمة العقار المقرر عليه، أما حق الانتفاع الشخصي فقد يتعلق بعقار كوقف العقار أو الوصية به أو إجارته أو إعارته. وقد يتعلق بمنقول كإعارة الكتاب وإجارة السيارة.
__________
(1) فتح القدير: 503/5، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 373/4، ط البابي الحلبي، البدائع: 264/6، البحر الرائق: 32/7، تبيين الحقائق للزيلعي: 196/4.
(2) المنتقى على الموطأ:40/6 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 341، نيل الأوطار: 261/5، ط العثمانية.(4/422)
2 - حق الارتفاق مقرر لعقار إلا حق الجوار فقد يكون لشخص أو لعقار. أما حق الانتفاع فإنه دائماً مقرر لشخص معين باسمه أو بوصفه.
3 - حق الارتفاق حق دائم يتبع العقار وإن تعدد الملاك. وحق الانتفاع الشخصي مؤقت ينتهي بأحوال معينة كما تقدم.
4 - حق الارتفاق يورث حتى عند الحنفية الذين لا يعدونه مالاً؛ لأنه تابع للعقار. وأما حق الانتفاع فمختلف في إرثه بين الفقهاء كما سبق بيانه.
الثاني ـ خصائص حقوق الارتفاق:
لحقوق الارتفاق أحكام عامة وخاصة.
فأحكامها العامة أنها إذا ثبتت تبقى ما لم يترتب على بقائها ضرر بالغير، فإن ترتب عليها ضرر أو أذى وجب إزالتها، فيزال المسيل القذر في الطريق العام، ويمنع حق الشرب إذا أضر بالمنتفعين، ويمنع سير السيارة في الشارع العام إذا ترتب عليها ضرر كالسير بالسرعة الفائقة، أو في الاتجاه المعاكس، عملاً بالحديث النبوي المتقدم «لا ضرر ولا ضرار» ولأن المرورفي الطريق العام مقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه (1) .
وأما الأحكام الخاصة فسأذكرها في بحث حقوق الارتفاق المخصص لكل نوع منها.
الثالث ـ أسباب حقوق الارتفاق:
تنشأ حقوق الارتفاق بأسباب متعددة منها:
1 - الاشتراك العام: كالمرافق العامة من طرقات وأنهار ومصارف عامة، يثبت الحق فيها لكل عقار قريب منها، بالمرور والسقي وصرف المياه الزائدة عن الحاجة، لأن هذه المنافع شركة بين الناس يباح لهم الانتفاع بها، بشرط عدم الإضرار بالآخرين.
2 - الاشتراط في العقود: كاشتراط البائع على المشتري أن يكون له حق مرور بها، أو حق شرب لأرض أخرى مملوكة له، فيثبت هذان الحقان بهذا الشرط.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 427/5.(4/423)
3 - التقادم: أن يثبت حق ارتفاق لعقار من زمن قديم لا يعلم الناس وقت ثبوته، كإرث أرض زراعية لها حق المجرى أو المسيل على أرض أخرى؛ لأن الظاهر أنه ثبت بسبب مشروع حملاً لأحوال الناس على الصلاح، حتى يثبت العكس.
المطلب الخامس ـ أسباب الملك التام:
إن أسباب أو مصادر الملكية التامة في الشريعة أربعة هي:
الاستيلاء على المباح، والعقود، والخلفية، والتولد من الشيء المملوك. وفي القانون المدني هي ستة: الاستيلاء على ما ليس له مالك من منقول أو عقار، والميراث وتصفية التركة، والوصية، والالتصاق بالعقار أو بالمنقول، والعقد، والحيازة والتقادم (1) .
__________
(1) راجع الفصل الثاني من حق الملكية ـ أسباب كسب الملكية: م 828، 836، 876، 879، 894، 907 ومابعدها من القانون المدني السوري.(4/424)
وهذه الأسباب تتفق مع الأسباب الشرعية (1) ما عدا الحيازة والتقادم (وضع اليد على مال مملوك للغير مدة طويلة) ، فإن الإسلام لا يقر التقادم المُكسِب على أنه سبب للملكية، وإنما هو مجرد مانع من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين (2) ، توفيراً لوقت القضاة، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق. أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإيفاؤه له ديانة. فمن وضع يده على مال مملوك لغيره لا يملكه شرعاً بحال.
كذلك لا يقر الإسلام مبدأ التقادم المُسقِط على أنه مسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة، فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والخلق، ويكفي في ذلك أن يصير الغاصب أو السارق مالكاً، إلا أن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة، ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم: «من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه» (3) .
1 - الاستيلاء على المباح:
المباح: هو المال الذي لم يدخل في ملك شخص معين، ولم يوجد مانع شرعي من تملكه كالماء في منبعه، والكلأ والحطب والشجر في البراري، وصيد البر والبحر. ويتميز هذا النوع بما يأتي:
أـ أنه سبب منشئ للملكية على شيء لم يكن مملوكاً لأحد. أما بقية أسباب الملكية الأخرى (العقد، الميراث ونحوهما) فإن الملكية الحادثة مسبوقة بملكية أخرى.
ب ـ أنه سبب فعلي لا قولي: يتحقق بالفعل أو وضع اليد، فيصح من كل شخص ولو كان ناقص الأهلية كالصبي والمجنون والمحجور عليه. أما العقد فقد لا يصح من هؤلاء أو يكون موقوفاً على إرادة أخرى، وهو سبب قولي.
__________
(1) يلاحظ أن المادة (1248) من المجلة اقتصرت على الأسباب الأولى للتملك. ولكن من الضروري إضافة سبب رابع وهو التولد من المملوك إذ هو سبب مستقل عن تلك الأسباب.
(2) حدده الفقهاء بـ 33 سنة، وحددته المجلة (م 1661، 1662) في الحقوق الخاصة بـ 15 سنة وفي الأراضي الأميرية بـ 10 سنوات، وفي الأوقاف وأموال بيت المال بـ 36 سنة.
(3) انظر بحث الحيازة والتقادم في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عبد الجواد: ص 18-50 ومابعدها، 60، 108، 150 ومابعدها، ومراجعه مثل المدونة: 23/13، وتبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك: 362/2 ومابعدها.(4/425)
ويشترط للتملك بهذا الطريق أي إحراز المباح شرطان:
أولهما ـ ألا يسبق إلى إحرازه شخص آخر، لأن «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» كما قال النبي عليه السلام.
ثانيهما ـ قصد التملك: فلو دخل الشيء في ملك إنسان دون قصد منه لا يتملكه، كما إذا وقع في حِجْر إنسان، لا يتملكه. ومن نشر شبكته، فإن كان للاصطياد تملك ما يقع فيها، وإن كان للتجفيف لم يتملك ما يقع فيها؛ لأن «الأمور بمقاصدها» .
والاستيلاء على المباح له أنواع أربعة:
أولاً ـ إحياء الموات: أي استصلاح الأراضي البور. والموات: ما ليس مملوكاً من الأرضين: ولا ينتفع بها بأي وجه انتفاع، وتكون خارجة عن البلد. فلا يكون مواتاً: ما كان ملكاً لأحد الناس، أو ما كان داخل البلد، أو خارجاً عنها، ولكنه مرفق لها كمحتطب لأهلها أو مرعى لأنعامهم.
والإحياء يفيد الملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أكان الإحياء بإذن الحاكم أم لا عند جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة ومالك: لا بد من إذن الحاكم. وإحياء الأرض الموات يكون بجعلها صالحة للانتفاع بها كالبناء والغرس والزراعة والحرث وحفر البئر. وعمل مستصلح الأرض لإحيائها يسمى فقهاً «التحجير» وقد حدد بثلاث سنين، قال عمر «ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق» .
ثانياً ـ الاصطياد: الصيد: هو وضع اليد على شيء مباح غير مملوك لأحد. ويتم إما بالاستيلاء الفعلي على المصيد، أو بالاستيلاء الحكمي: وهو اتخاذ فعل يعجز الطير أو الحيوان أو السمك عن الفرار، كاتخاذ الحياض لصيد الأسماك، أو الشباك، أو الحيوانات المدربة على الصيد كالكلاب والفهود والجوارح المعلمة (1) .
والصيد حلال للإنسان إلا إذا كان محرماً بالحج أو العمرة، أو كان المصيد في حرم مكة المكرمة أو المدينة المنورة، قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة:96/5] .
__________
(1) قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم، قل: أحل لكم الطيبات، وماعلمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله، واتقوا الله، إن الله سريع الحساب} [المائدة:4/5] .(4/426)
والصيد من أسباب الملكية، لكن يشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي قصد التملك عملاً بقاعدة (الأمور بمقاصدها) . فمن نصب شبكة فتعلق بهاصيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه، لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان كان لمن سبقت إليه يده إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار إنسان، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه. وإن أغلقه صدفة، لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده.
ثالثاً ـ الاستيلاء على الكلأ والآجام:
الكلأ: هو الحشيش الذي ينبت في الأرض بغير زرع، لرعي البهائم.
والآجام: الأشجار الكثيفة في الغابات أو الأرض غير المملوكة.
وحكم الكلأ: ألا يملك، وإن نبت في أرض مملوكة، بل هو مباح للناس جميعاً، لهم أخذه ورعيه، وليس لصاحب الأرض منعهم من ذلك؛ لأنه باق على الإباحة الأصلية، وهو الراجح في المذاهب الأربعة، لعموم حديث: «الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار» (1) .
وأما الآجام فهي من الأموال المباحة إن كانت في أرض غير مملوكة. فلكل واحد حق الاستيلاء عليها، وأخذ ما يحتاجه منها، وليس لأحد منع الناس منها، وإذا استولى شخص على شيء منها وأحرزه صار ملكاً له. لكن للدولة تقييد المباح بمنع قطع الأشجار، رعاية للمصلحة العامة، وإبقاء على الثروة الشجرية المفيدة.(4/427)
أما إن كانت في أرض مملوكة فلا تكون مالاً مباحاً، بل هي ملك لصاحب الأرض، فليس لأحد أن يأخذ منها شيئاً إلا بإذنه؛ لأن الأرض تقصد لآجامها، بخلاف الكلأ، لا تقصد الأرض لما فيها من الكلأ.
رابعاً ـ الاستيلاء على المعادن والكنوز:
المعادن: ما يوجد في باطن الأرض من أصل الخِلقة والطبيعة، كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ونحوها.
والكنز: ما دفنه الناس وأودعوه في باطن الأرض من الأموال، سواء في الجاهلية أو في الإسلام.
والمعدن والكنز يشملها عند الحنفية كلمة (الركاز) : وهو ما ركز في باطن الأرض، سواء أكان خلق الله كفلزات الحديد والنحاس وغيرها، أم كان بصنع الناس كالأموال التي يدفنها الناس فيها. وحكمها واحد في الحديث النبوي: «وفي الركاز الخمس» (2) .
وقال المالكية والشافعية: الركاز: دفين الجاهلية. والمعدن: دفين أهل الإسلام.
حكم المعادن:
اختلف الفقهاء في تملك المعادن بالاستيلاء عليها، وفي إيجاب حق فيها للدولة إذا وجدت في أرض ليست مملوكة.
أما تملك المعادن فللفقهاء فيه رأيان:
قال المالكية في أشهر أقوالهم (3) : جميع أنواع المعادن لا تملك بالاستيلاء عليها، كما لا تملك تبعاً لملكية الأرض، بل هي للدولة يتصرف فيها الحاكم حسبما تقضي المصلحة؛ لأن الأرض مملوكة بالفتح الإسلامي للدولة، ولأن هذا الحكم مما تدعو إليه المصلحة.
وقال الحنفية والشافعية والحنابلة في أرجح الروايتين عندهم (4) : المعادن تملك
__________
(1) البدائع: 193/6 ومابعدها، م 1257 من المجلة.
(2) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 147/4) .
(3) القوانين الفقهية: ص 102، الشرح الكبير مع الدسوقي: 486/1 ومابعدها.
(4) الدر المختار ورد المحتار: 61/1 ومابعدها، المهذب: 162/1، المغني: 28/3.(4/428)
بملك الأرض؛ لأن الأرض إذا ملكت بجميع أجزائها، فإن كانت مملوكة لشخص كانت ملكاً له، وإن كانت في أرض للدولة فهي للدولة، وإن كانت في أرض غير مملوكة فهي للواجد؛ لأنها مباحة تبعاً للأرض.
وأما حق الدولة في المعادن فيه رأيان أيضاً:
قال الحنفية: في المعادن الخمس؛ لأن الركاز عندهم يشمل المعادن والكنوز بمقتضى اللغة، والباقي للواجد نفسه. وذلك في المعادن الصلبة القابلة للطرق والسحب كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص. أما المعادن الصلبة التي لا تقبل الطرق والسحب كالماس والياقوت والفحم الحجري، والمعادن السائلة كالزئبق والنفط، فلا يجب فيها شيء للدولة؛ لأن الأولى تشبه الحجر والتراب، والثانية تشبه الماء، ولا يجب في ذلك شيء للدولة.
وقال غير الحنفية: لا يجب في المعادن شيء للدولة، لا الخمس وغيره، وإنما يجب فيها الزكاة، لقول النبي: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» فأوجب الخمس في الركاز: وهو دفين أهل الجاهلية، ولم يوجب في المعدن شيئاً؛ لأن (الجبار) معناه: لا شيء فيه. وإيجاب الزكاة عندهم هو بعموم أدلة الزكاة.
حكم الكنز:
وأما الكنز فهو ما دفنه الناس، سواء في الجاهلية أم في الإسلام. فهو نوعان: إسلامي وجاهلي:
فالإسلامي: ما وجد به علامة أو كتابة تدل على أنه دفن بعد ظهور الإسلام مثل كلمة الشهادة أو المصحف، أو آية قرآنية أو اسم خليفة مسلم.
والجاهلي: ما وجد عليه كتابة أو علامة تدل على أنه دفن قبل الإسلام كنقش صورة صنم أو وثن، أو اسم ملك جاهلي ونحو ذلك.
والمشتبه فيه: وهو مالم يتبين بالدليل أنه إسلامي أو جاهلي، قال فيه متقدمو الحنفية: إنه جاهلي. وقال متأخروهم: إنه إسلامي لتقادم العهد. وإن وجد كنز مختلط فيه علامات الإسلام والجاهلية فهو إسلامي؛ لأن الظاهر أنه ملك مسلم، ولم يعلم زوال ملكه.(4/429)
والكنز الإسلامي: يبقى على ملك صاحبه، فلا يملكه واجده، بل يعد كاللقطة، فيجب تعريفه والإعلان عنه. فإن وجد صاحبه سلم إليه وإلا تصدق به على الفقراء، ويحل للفقير الانتفاع به. هذا رأي الحنفية (1) .
وأجاز المالكية والشافعية والحنابلة (2) تملكه والانتفاع به، ولكن إن ظهر صاحبه بعدئذ وجب ضمانه.
وأما الكنز الجاهلي: فاتفق أئمة المذاهب على أن خمسه لبيت المال (خزانة الدولة) وأما باقيه وهو الأربعة الأخماس ففيها اختلاف: فقيل: إنها للواجد مطلقاً سواء وجدها في أرض مملوكة أم لا. وقيل: إنها للواجد في أرض غير مملوكة أوفي أرض ملكها بالإحياء. فإن كان في أرض مملوكة فهي لأول مالك لها أو لورثته إن عرفوا، وإلا فهي لبيت المال.
هذا وقد خصص القانون المدني السوري (م830) ثلاثة أخماس الكنز لمالك العقار الذي وجد فيه الكنز، وخمسه لمكتشفه، والخمس الأخير لخزينة الدولة.
__________
(1) فتح القدير: 307/3، البدائع: 202/6، المبسوط: 4/11 ومابعدها، الدر المختار: 351/3.
(2) بداية المجتهد: 301/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 121/4، المهذب: 430/1، مغني المحتاج: 415/2، المغني: 636/5(4/430)
2 - العقود الناقلة للملكية:
العقود كالبيع والهبة والوصية ونحوها من أهم مصادر الملكية وأعمها وأكثرها وقوعاً في الحياة المدنية؛ لأنها تمثل النشاط الاقتصادي الذي يحقق حاجات الناس من طريق التعامل. أما الأسباب الأخرى للملكية فهي قليلة الوقوع في الحياة.
ويدخل في العقود التي هي سبب مباشر للملكية حالتان (1) :
الأولى: العقود الجبرية التي تجريها السلطة القضائية مباشرة، بالنيابة عن المالك الحقيقي، كبيع مال المدين جبراً عنه لوفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة. فالمتملك يتملك عن طريق عقد بيع صريح بإرادة القضاء.
الثانية: نزع الملكية الجبري: وله صورتان:
أـ الشفعة: وهي عند الحنفية حق الشريك أو الجار الملاصق بتملك العقار المبيع جبراً على مشتريه بما بذل من ثمن ونفقات. وقصرها الجمهور على الشريك.
ب ـ الاستملاك للصالح العام: وهو استملاك الأرض بسعرها العادل جبراً عن صاحبها للضرورة أو المصلحة العامة، كتوسيع مسجد، أو طريق ونحو ذلك.
والمتملك من هذا الطريق يتملك بناء على عقد شراء جبري مقدر بإرادة السلطة. وعلى هذا فالعقد المسبب للملكية إما أن يكون رضائياً أو جبرياً، والجبري: إما صريح كما في بيع مال المدين، أو مفترض كما في الشفعة ونزع الملكية.
3 - الخَلَفية:
وهي أن يخلف شخص غيره فيما كان يملكه، أو يحل شيء محل شيء آخر، فهي نوعان: خَلَفية شخص عن شخص وهي الإرث. وخلفية شيء عن شيء وهي التضمين.
والإرث سبب جبري للتملك يتلقى به الوارث بحكم الشرع مايتركه المورث من أموال التركة.
والتضمين: هو إيجاب الضمان أوالتعويض على من أتلف شيئاً لغيره، أو غصب منه شيئاً فهلك أو فقد، أو ألحق ضرراً بغيره بجناية أو تسبب. ويدخل فيه الديات وأروش الجنايات أي الأعواض المالية المقدرة شرعاً الواجبة على الجاني في الجراحات.
4 - التولد من المملوك:
معناه أن ما يتولد من شيء مملوك يكون مملوكاً لصاحب الأصل؛ لأن مالك الأصل هو مالك الفرع، سواء أكان ذلك بفعل مالك الأصل، أم بالطبيعة والخلقة. فغاصب الأرض الذي زرعها يملك الزرع عند الجمهور غيرالحنابلة؛ لأنه نماء البذر وهو ملكه، وعليه كراء الأرض، ويضمن لصاحب الأرض نقصانها بسبب الزرع. وثمرة الشجر وولد الحيوان وصوف الغنم ولبنها لمالك الأصل.
وقال الحنابلة: الزرع لمالك الأرض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» (2) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 105.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي عن رافع بن خديج، قال البخاري: هو حديث حسن (نيل الأوطار: 318/5 ومابعدها) .(4/431)
الفَصْلُ الرّابع: نظريَّةُ العقدِ
تمهيد وتخطيط للبحث:
التعاقد مع الآخرين وليد الحاجة إلى التعامل، والتعامل ضرورة اجتماعية قديمة ملازمة لنشوء المجتمعات، وتخطي مرحلة الانغلاق والانعزال التي كان يعيشها الإنسان البدائي، فأصبح لا غنى لكل إنسان لكونه مدنياً بالطبع من العيش المشترك مع الجماعة، لتأمين حاجياته، ولا يتم ذلك بدون التبادل والتعاون مع الآخرين. وللمبادلات صور متعددة، تخضع لما يعرف بنظرية العقد، التي تنظم حركة النشاط الاقتصادي، وتضبط أصول التعامل، وحرية التجارة، وتبادل الأعيان والمنافع، ولا تخلو الحياة اليومية لكل فرد من إبرام عقد من العقود، مما يجعل مسيرة الحياة مترعة بالعقود.
فتكون نظرية العقد: هي البناء الشرعي الذي يقوم عليه نظام التعاقد.
وقد وضع فقهاء الإسلام نظاماً على حدة لكل عقد معروف في عصرهم، ويمكن للباحث أن يستخلص نظرية عامة للعقد من جملة هذه الأنظمة، وبحوث الفقهاء حول تعريفات العقد، وأركانه وشروطه، وأحكامه التي قرروها لكل عقد. وبه يمكن الانتقال من الطابع الاستقرائي والتحليلي للقضايا الفردية الذي سار عليه فقهاؤنا إلى المنهج التركيبي أو النظريات العامة التي يسير عليها الآن فقهاء العصر الحديث في القانون وغيره. والأصول العامة لنظرية العقد في الفقه الإسلامي تتضح في البحوث السبعة التالية:
المبحث الأول: تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام، والإرادة المنفردة والوعد بالعقد.
المبحث الثاني: تكوين العقد، وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ ركن العقد.
المطلب الثاني ـ عناصر العقد.
1 - صيغة التعاقد (الألفاظ والإشارات والأفعال والكتابة) .
2 - العاقدان
3 - المحل المعقود عليه (شروطه وآثارها في العقد) .(4/432)
4 - موضوع العقد (أو المقصد الأصلي للعقد) نظرية السبب أو (الباعث على العقد) ـ الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في العقود.
المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية، ويشتمل على الفروع التالية:
1 - صورية العقد (السكر وما في معناه، الهزل، الخطأ، التلجئة، الإكراه، القصد غير المشروع) .
2 - سلطان الإرادة العقدية (مدى الحرية في العقود والشروط) .
3 - عيوب الإرادة أو الرضا.
المبحث الثالث: شروط العقد المبحث الرابع: آثار العقد (حكم العقد، النفاذ، الإلزام واللزوم)
المبحث الخامس: تصنيف العقود (التقسيمات الخمسة)
المبحث السادس: الخيارات (خيار المجلس، الشرط، العيب، الرؤية، التعيين، النقد) .
المبحث السابع: انتهاء العقد
وأوضح هذه المباحث على وفق الترتيب المذكور:
المبحث الأول ـ تعريف العقد، والفرق بينه وبين التصرف والالتزام والإرادة المنفردة:
تعريف العقد:
العقد في لغة العرب: معناه الربط (أو الإحكام والإبرام) بين أطراف الشيء، سواء أكان ربطاً حسياً أم معنوياً، من جانب واحد، أم من جانبين. جاء في المصباح المنير وغيره: عقد الحبل، أو البيع، أو العهد فانعقد. ويقال: عقد النية والعزم على شيء، وعقد اليمين، أي ربط بين الإرادة وتنفيذ ما التزم به. وعقد البيع والزواج والإجارة، أي ارتبط مع شخص آخر.
وهذا المعنى اللغوي داخل في المعنى الاصطلاحي الفقهي لكلمة العقد. وللعقد عند الفقهاء معنيان: عام وخاص.
أما المعنى العام: الأقرب إلى المعنى اللغوي والشائع عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة (1) فهو: كل ما عزم المرء على فعله، سواء صدر بإرادة منفردة
__________
(1) انظر نظرية العقد لابن تيمية: ص 18-21، 78. ومن هذا الرأي أبو بكر الرازي الجصاص في كتابه أحكام القرآن: 294/2 ومابعدها.(4/433)
كالوقف والإبراء والطلاق واليمين، أم احتاج إلى إرادتين في إنشائه كالبيع والإيجار والتوكيل والرهن، أي أن هذا المعنى يتناول الالتزام مطلقاً، سواء من شخص واحد أو من شخصين، ويشمل حينئذ ما يسمى في المعنى الضيق أو الخاص عقداً، كما يشمل ما يسمى تصرفاً أو التزاماً. فالعقد بالمعنى العام ينتظم جميع الالتزامات الشرعية، وهو بهذا المعنى يرادف كلمة الالتزام.
وأما المعنى الخاص الذي يراد هنا حين الكلام عن نظرية العقد فهو: ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محله (1) . أو بعبارة أخرى: تعلق كلام أحد العاقدين بالآخر شرعاً على وجه يظهر أثره في المحل (2) . وهذا التعريف هو الغالب الشائع في عبارات الفقهاء.
فإذا قال شخص لآخر: بعتك الكتاب، فهو الإيجاب، وقال الآخر: اشتريت، فهو القبول، ومتى ارتبط القبول بالإيجاب، وكانا صادرين من ذوي أهلية معتبرة شرعاً، ثبت أثر البيع في محله (وهو الكتاب هنا) : وهو انتقال ملكية المبيع للمشتري، واستحقاق البائع الثمن في ذمة المشتري.
والإيجاب أو القبول: هو الفعل الدال على الرضا بالتعاقد. والتقييد بكونه (على وجه مشروع) لإخراج الارتباط على وجه غير مشروع، كالاتفاق على قتل فلان، أو إتلاف محصوله الزراعي، أو سرقة ماله، أو الزواج بالأقارب المحارم، فكل ذلك غير مشروع لا أثر له في محل العقد. والتقييد بكونه (يثبت أثره في محله) لإخراج الارتباط بين كلامين لا أثر له، كالاتفاق على بيع كل شريك حصته من دار أو أرض لصاحبه بالحصة الأخرى المساوية لها، فهذا لا فائدة منه ولا أثر له.
__________
(1) المادة 103، 104 من مجلة الأحكام العدلية، رد المحتار لابن عابدين: 355/2، ط الأميرية.
(2) العناية بهامش فتح القدير: 74/5.(4/434)
والعقد قانوناً يلتقي مع هذا التعريف الثاني عند الفقهاء: وهو «توافق إرادتين على إحداث أثر قانوني من إنشاء التزام أو نقله، أو تعديله أو إنهائه» (1) فإنشاء الالتزام كالبيع والإجارة، ونقله كالحوالة، وتعديله كتأجيل الدين، وإنهاؤه كالإبراء من الدين، وفسخ الإجارة قبل أوانها، فالتعريفان متقاربان.
وهذا التعريف وإن كان واضحاً سهلاً، إلا أن تعريف الفقهاء في نظر الشرعيين أدق؛ لأن العقد ليس هو اتفاق الإرادتين ذاته، وإنما هو الارتباط الذي يقره الشرع، فقد يحدث الاتفاق بين الإرادتين، ويكون العقد باطلاً لعدم توافر الشروط المطلوبة شرعاً، فالتعريف القانوني يشمل العقد الباطل.
ثم إن مجرد توافق الإرادتين بدون واسطة للتعبير عنهما من كلام أو إشارة أو فعل لا يدل على وجود العقد، وتظل الإرادة حينئذ أمراً خفياً غير معروف. وبذلك يشمل التعريف القانوني الوعد بالعقد مع أنه ليس بعقد (2) .
والعقد في القانون المدني أحد أنواع الاتفاق، فليس كل اتفاق عقداً، وإنما يتخصص العقد بما يمثل التعارض بين مصلحتين، وبما ينصب على محل وقتي يستنفد وينتهي بالتنفيذ مرة واحدة، فالاتفاق على إنشاء منظمة لا يعتبر عقداً، لأنه لا يمثل تعارضاً في المصالح، ولأن محل العقد هو وضع دائم مستمر، وليس وضعاً وقتياً يستنفد مرة واحدة.
أما العقد في الفقه الإسلامي فلا يعرف هذا التخصيص، فالزواج عقد، والإسلام عقد، والذمة عقد، مع أنها نظم دائمة، وقد لا تقوم على تحكيم المصلحة
__________
(1) الوسيط للدكتور السنهوري: ص 138، النظرية العامة للالتزام للدكتور عبد الحي حجازي: ص 35 ومابعدها.
(2) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 134، المدخل للأستاذ مصطفى شلبي: ص 315. الشخصية.(4/435)
والعقد في الإسلام: هو دائماً انضمام لنظام موجود من قبل، هو النظام النوعي للعقد المبرم الذي وضعه الشرع ليسير عليه الناس. وما على الأفراد إلا التقيد التام بأحكام الشرع التي نظم العقود عليها. والخلاصة: أن العقد في القانون أداة لإدراك مصلحة ذاتية شخصية لكل من المتعاقدين، وأما في الإسلام فهومعد لإدراك مقاصد شرعية عامة.
العقد والالتزام:
الالتزام: هو كل تصرف يتضمن إنشاء حق أو نقله أو تعديله أو إنهاءه سواء أكان صادراً من شخص واحد كالوقف والإبراء والطلاق على غير مال، أم من شخصين كالبيع والإجارة والطلاق على مال.
فالالتزام يرادف كلمة العقد بالمعنى العام الذي ذكر، ويختلف عن كلمة العقد بالمعنى الخاص، فالعقد مقصور على نوع خاص من الالتزام وهو ماكان صادراً من شخصين كالبيع والإيجار والرهن ونحوه، والالتزام من ذلك فيشمل ما صدر من شخص واحد كالوقف والنذر واليمين ونحوه، كما يشمل ما صدر من شخصين أو وجد بإرادتين مزدوجتين كالبيع والإجارة.
العقد والتصرف:
التصرف: هو كل ماصدر عن الشخص بإرادته من قول أو فعل، يرتب عليه الشرع أثراً من الآثار، سواء أكان في صالح ذلك الشخص أم لا. فيشمل الأقوال الصادرة عن الشخص كالبيع والهبة والوقف والإقرار بحق، والأفعال كإحراز المباحات والاستهلاك والانتفاع، سواء أكان القول أو الفعل لصالح الشخص كالبيع والاصطياد، أم لغير صالحه كالوقف والوصية، والسرقة والقتل. وبه يتبين أن التصرف نوعان: فعلي وقولي.
أما التصرف الفعلي: فهو الواقعة المادية الصادرة عن الشخص كالغصب والإتلاف وقبض الدين وتسلم المبيع.
أما التصرف القولي فهو نوعان: عقدي وغير عقدي. أما العقدي فهو اتفاق إرادتين كالشركة والبيع، وغير العقدي قد يكون مجرد إخبار بحق كالدعوى والإقرار، وقد يقصد به إنشاء حق أو إنهاءه كالوقف والطلاق والإبراء.(4/436)
وعلى هذا فإن التصرف أعم من العقد والالتزام إذ أنه يشمل الأقوال والأفعال، وينتظم الالتزام وغير الالتزام، وقد يكون التصرف القولي غير داخل في معنى العقد ولو بمعناه الواسع أو العام كالدعوى والإقرار.
والخلاصة: أن التصرف أعم من العقد والالتزام. والعقد بالمعنى العام والالتزام مترادفان متساويان، والالتزام أعم من العقد بالمعنى الخاص، والعقد بمعناه الخاص نوع من الالتزام، وأخص من كلمة تصرف. فكل عقد هو تصرف، وليس كل تصرف عقداً.
العقد والإرادة المنفردة:
قد تستقل الإرادة الواحدة بإنشاء التزام، كما قد تنشئ أحياناً عقداً من العقود في أحوال استثنائية، عملاً بالنزعة الموضوعية للالتزام أو بالمذهب المادي الذي نلاحظه في الفقه الإسلامي، والذي يعد الالتزام فيه علاقة مالية أكثر منه علاقة شخصية بين طرفين: دائن ومدين.
والالتزام بإرادة واحدة: معناه التعهد بشيء يصبح به المتعهد مديناً لآخر غير موجود حين إنشاء الالتزام كالوعد بالمكافأة أو بالجائزة للمتفوقين من الناجحين، أو لمن يصنع دواء لعلاج مرض معين مثلاً.
وأمثلة الالتزام بإرادة واحدة في الفقه الإسلامي كثيرة منها:
1 - الجعالة: هي التزام جعل (1) أو أجر معين لمن يقوم بعمل معين، بدون تحديد أمد معين، وهي عقد جائز غير لازم كتقديم مكافأة لمن يرد متاعاً ضائعاً، أو يبني حائطاً أو يحفر بئراً يصل إلى الماء، أو ينجح نجاحاً متفوقاً في امتحان، أو يحقق نصراً حربياً على العدو، أو يشفي مرضاً معيناً، أو يبتكر علاجاً ناجعاً، أو يخترع اختراعاً صناعياً، أو يحفظ القرآن الكريم.
وقد أجازها جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة (2) عملاً بقصة يوسف عليه السلام مع إخوته: {قالوا: نفقد صُواع (3) الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم} [يوسف:12/72] ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام يوم حُنين: «من قتل قتيلاً فله سلبه» (4) .
ولم يجزها الحنفية (5) ، لما فيها من الغرر والخطر أي الجهالة والاحتمال بالنسبة للملتزم وبالنسبة للقائم بالعمل الذي لا يدري ما يحتاجه من مجهود لإنجاز العمل.
__________
(1) الجُعْل: ما يجعل للإنسان من شيء على فعل كأجر العامل ومكافأة المحارب على عمل حربي رائع.
(2) بداية المجتهد: 232/2 ومابعدها، الشرح الصغير للدردير: 79/4 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص275 ومابعدها، مغني المحتاج: 429/2 ومابعدها، المغني: 507/5 ومابعدها، غاية المنتهى: 284/2.
(3) الصواع: المكيال الذي يكال به.
(4) السلب: ما يكون مع القتيل من متاع أو مال أو سلاح أو خيل. والحديث رواه أحمد وأبو داود عن أنس بلفظ: «من قتل رجلاً فله سلبه» (نيل الأوطار: 262/7) .
(5) البدائع: 206/6.(4/437)
والقانون المدني السوري في المادة (163) نظم الوعد بجائزة: وهو تخصيص أجر لشخص لن يتعين إلا بتنفيذ الأداء الذي حدده الواعد. وأجاز الرجوع عنه إذا لم يعين الواعد أجلاً للقيام بالعمل.
2 - الوقف: هو حبس المال عن التصرف، وتخصيص ريعه لجهة بر، تقرباً إلى الله تعالى، كالوقف على دور العلم وجهات الخير كالمشافي والمدارس والمصانع الحربية، والوقف لفلان، ثم على جهة خير معينة. وينعقد الوقف بإرادة الواقف وحده، فإن كان على شخص فله حق الرد، فيصرف إلى جهة الخير أو البر التي عينها الواقف.
3 - الإبراء: إسقاط شخص ماله من حق لدى شخص آخر، كإسقاط الدائن دينه المستقر في ذمة مدينه. يتم بدون حاجة لقبول المدين، إلا أنه يرتد برده في مجلس الإبراء، لما فيه من معنى التمليك (أي تمليك الدين للمدين) ، دفعاً للمِنَّة والجميل الذي يصنعه الدائن له، والإنسان لا يملّك شيئاً جبراً عنه. فهو من قبيل الإسقاطات عند جمهور الفقهاء غير المالكية.
قال المالكية على ما هو راجح عندهم: يحتاج الإبراء إلى قبول المبرأ؛ لأنه من قبيل التمليكات التي يشترط فيها القبول كالهبة والصدقة.(4/438)
4 - الوصية: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع، سواء أكان المملك عيناً أم منفعة، كالوصية بمبلغ من المال أو بمنفعة دار لفلان أو لجهة خير بعد وفاة الموصي، فهي عقد يتم بإرادة واحدة هي إرادة الموصي، وتتحقق بإيجابه (أو عبارته أو كتابته أو إشارته المفهمة) فيكون ركن الوصية هو الإيجاب من الموصي فقط، إلا أنها ترتد بالرد عند الحنفية (1) ؛ لأنه ليس له إلزامه على قبولها.
واتفق الفقهاء على أن الوصية من العقود الجائزة غير اللازمة أي أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به.
فالإيجاب بالوصية هو ركن الوصية. وأما القبول من الموصى له بعد وفاة الموصي فليس بركن للوصية، ولكنه على الراجح عند فقهاء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة (2) شرط للزوم الوصية ودخول الموصى به في ملك الموصى له من بعد الموت. فالحقيقة الشرعية للوصية عندهم تكون بالإيجاب من الموصي فقط، ولا تتوقف على قبول الموصى له. وتنفذ الوصية من ثلث التركة، ولا وصية جائزة للوارث إلا بإجازة الورثة، كما لا تجوز الوصية لغير الوارث بما زاد عن ثلث التركة إلا بموافقة الورثة.
5 - اليمين: عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك (3) ، مثل والله لأكرمنَّ جاري، أو لأعلمنَّ هذا اليتيم على نفقتي، فيجب عليه ديانةً الوفاء بيمينه، فإن لم يوفّ به، حنث في يمينه ولزمته كفارة اليمين.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 170/4، تبيين الحقائق للزيلعي: 182/6، 184، رد المحتار على الدر المختار: 460/5.
(2) بداية المجتهد: 330/2، الشرح الكبير للدردير: 424/4، مغني المحتاج: 53/3، غاية المنتهى: 351/2، المغني: 25/6.
(3) فتح القدير: 2/4، تبيين الحقائق: 106/3.(4/439)
6 - الكفالة: عند غير الحنفية: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق أي في الدين، فيثبت الدين في ذمتهما معاً. واقتصر الحنفية على أن الضم محصور في المطالبة بالدين. فالكفالة: التزام الكفيل بالدين بأدائه إلى الدائن بدلاً من من المدين عند مطالبته. وهي توجد بمجرد التزام الكفيل بالدين ورضاه به عند المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف من الحنفية (1) ، أي أن ركن الكفالة هو الإيجاب وحده، وأما القبول من الدائن أو المدين فليس ركناً عند هؤلاء. فتكون التزاماً جانب واحد. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (2) : ركن الكفالة: الإيجاب من الكفيل، والقبول من الدائن.
العقد بإرادة منفردة:
الأصل العام في العقود أن يكون العاقد متعدداً، أي أن العقد ينشأ بإيجاب وقبول يعبر كل واحد منهما عن إرادة صاحبه؛ لأن العقد ينشئ آثاراً متعارضة وحقوقاً أو التزاماتٍ متضادة، مثل تسليم المبيع وتسلمه، والمطالبة بتسليم المبيع وقبض الثمن، ورد المبيع بالعيب، وفسخ العقد بالخيارات، ويستحيل أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلِّماً ومتسلماً، طالباً ومطالباً، مملكاً ومتملكاً، مما يوجب أن يكون العقد من طرفين، لكل منهما إرادته وعبارته والتزامه، لا من شخص واحد ليس له إلا إرادة واحدة.
لكن استثناء من هذا الأصل يجوز عند بعض الفقهاء إبرام العقد بعاقد واحد في بعض حالات البيع والزواج.
__________
(1) الشرح الصغير: للدردير: 429/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 200/2، المهذب: 340/1، المغني: 535/5.
(2) فتح القدير: 390/5، البدائع: 2/6، الدر المختار: 261/4، مجمع الضمانات: ص 275.(4/440)
البيع بعاقد واحد:
أجاز الحنفية ما عدا زفر (1) انعقاد البيع بإرادة شخص واحد متخذاً صفتين بالنيابة عن البائع وعن المشتري، في حالات نادرة هي شراء الأب، أو وصيه، أو الجد، مال الصغير لنفسه، أو بيع مال نفسه من الصغير، وبيع القاضي والرسول عن طرفي العقد؛ لأن القاضي لا ترجع إليه حقوق العقد أي (لا يلتزم بشيء من التزامات العقد كالتسليم ودفع الثمن) ، فكان بمنزلة الرسول، والرسول بعكس الوكيل عن الجانبين لا تلزمه حقوق العقد؛ لأنه سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فجاز لكل من القاضي والرسول تولي العقد عن الجانبين. ولا يجوز ذلك للوكيل من الجانبين.
لكن تعامل الأب مع الصغير لنفسه مقيد بأن يكون السعر بمثل قيمة الشيء، أو بشيء يسير من الغبن المعتاد حدوثه بين الناس عادة؛ لأن الأب مفترض فيه كمال الشفقة والرحمة ووفرة الرعاية لمصلحة الصغير.
وأما وصي الأب فمقيد تعامله مع الصغير عند أبي حنيفة وأبي يوسف بأن يكون تصرفه بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة، أو بما فيه نفع ظاهر (أو خير بيّن) لليتيم (2) ، لأنه مرضي الأب، والظاهر ما رضي به إلا لوفور شفقته على الصغير. ولم يجز محمد بن الحسن تصرف الوصي بمال الصغير لنفسه بمثل القيمة؛ لأن التساهل في الأب لكمال شفقته بخلاف الوصي.
وأجاز الحنابلة أن يتولى عاقد واحد عن الجانبين كالوكيل عن الطرفين عقد البيع ونحوه من عقود المعاوضات الأخرى كالإجارة مثلاً؛ لأن حقوق العقد وآثاره أو التزاماته ترجع عندهم للموكل نفسه صاحب الشأن. كما أجازوا ذلك أيضاً في عقد الزواج، وفي الدعوى، فيصح أن يكون الشخص الواحد وكيلاً في الدعوى عن المدعي والمدعى عليه، ممثلاً مصلحة الطرفين ومقيماً الحجة أو الدفوع لكل منهما (3) .
__________
(1) البدائع: 232/2، 136/5، رد المحتار لابن عابدين: 5/4، فتح القدير: 428/2، تبيين الحقائق: 211/6.
(2) النفع الظاهر في العقار يكون بشراء الوصي لنفسه من الصغير بضعف القيمة، ويبيع بنصفها. وفي المنقول ببيع ما يساوي 15 بعشرة، وشراء ما يساوي عشرة بخمسة عشر.
(3) كشاف القناع: 238/2، المغني: 109/5، مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى للسيوطي الرحيباني: 464/3، ط المكتب الإسلامي بدمشق.(4/441)
وروي عن الإمام مالك أن للوكيل والوصي أن يشتريا لأنفسهما من مال الموكل واليتيم، إذا لم يحابيا أنفسهما (1) .
الزواج بعاقد واحد:
أجاز جمهور الحنفية ما عدا زفر للشخص الواحد أن يتولى طرفي عقد الزواج بإيجاب يقوم مقام القبول في خمس صور (2) .
1 - إذا كان الشخص ولياً من الجانبين: كأن يزوج الجد بنت ابنه الصغيرة لابن ابنه الصغير.
2 - إذا كان وكيلاً من الجانبين: كأن يقول: زوجت موكلي فلاناً موكلتي فلانة.
3 - إذا كان أصيلاً من جانب وولياً من جانب آخر، كأن يتزوج ابن عم بنت عمه الصغيرة التي تحت ولايته، فيقول أمام الشهود: تزوجت بنت عمي فلانة.
4 - إذا كان أصيلاً من جانب ووكيلاً من جانب آخر، كما لو وكلت امرأة رجلاً ليزوجها من نفسه.
5 - إذا كان ولياً من جانب ووكيلاً من جانب، مثل زوجت بنتي من موكلي. والسبب في مشروعية انعقاد الزواج في هذه الأحوال أن العاقد ليس إلا سفيراً عن الأصيل ومعبراً عنه، فلا يتحمل شيئاً من التزامات العقد، والواحد يصلح أن يكون معبراً عن اثنين بصفتين مختلفتين.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 328.
(2) البدائع: 231/2، 137/5.(4/442)
وقال الشافعي (1) : «يجوز الزواج بعاقد واحد إذا كان ولياً من الجانبين وذلك في حالة الجد فقط، له أن يزوج حفيديه ببعضهما، ويتولى وحده العقد عن الطرفين، وذلك للضرورة لعدم وجود ولي آخر من درجته، ولقوة ولايته وشفقته دون سائر الأولياء» .
والخلاصة: إن العقد بالمعنى الخاص لا يتحقق بإرادة منفردة، بل لا بد لتحققه من توافق أواجتماع إرادتين. وأما انعقاد البيع أو الزواج في الحالات السابقة، وإن اقتصر فيه على شخص واحد، إلا أنه في الحقيقة يمثل صفتين، فقامت عبارة الشخص الواحد التي تدل على إرادتين متوافقتين مقام العبارتين من عاقدين مختلفتين (2) .
وهناك فرق ثان بينهما من ناحية الحكم (أي الأثر المترتب على العقد) ، وهو أن العقد يلزم الوفاء به من العاقد ديانة وقضاء باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] وقوله سبحانه: {وأوفوا بالعهد} [الإسراء:34/17] . أما الوعد فلا يلزم الوفاء به قضاء، بل الوفاء به مندوب مطلوب ديانة ومن مكارم الأخلاق. فلو وعد شخص غيره ببيع أو قرض أو هبة مثلاً لا يجبر على الوفاء بوعده بقوة القضاء، بل يندب له تنفيذه ديانة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2/61-3] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (3) .
هذا هو السائد عند الفقهاء، لكن توجد آراء قد تكون مخالفة للرأي السائد، وقد تكون ملطفة أحياناً بجعل الوعد ملزماً قضاء في بعض الحالات.
__________
(1) نهاية المحتاج: 192/5 ومابعدها.
(2) منع القانون المدني المصري والسوري في المادة 109 من تعاقد الشخص مع نفسه، سواء أكان التعاقد لحساب نفسه أم لحساب غيره إلا إذا رخص الأصيل مقدماً لنائب في التعاقد مع نفسه، أو وجد نص في القانون، أو قضت قواعد التجارة بجواز ذلك (الوسيط للسنهوري: ص 202) .
(3) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.(4/443)
قال ابن شبرمة (1) : يلزم الواعد ويجبر على الوفاء بوعده قضاء. وقال الحنفية: يلزم الوعد إذا صدر معلقاً على شرط منعاً لتغرير الموعود. وعبروا عن ذلك بقاعدة فقهية: (المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة) (م 38 مجلة) وقال ابن نجيم: «لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً» مثل أن يقول شخص لآخر: إذا لم يعطك فلان ثمن المبيع، فأنا أعطيه لك. فيلزمه إعطاؤه حينئذ؛ لأن الوعد اكتسى صفة الالتزام والتعهد.
وقال المالكية (2) : يلزم الواعد بوعده قضاء إن أدخل الموعود في سبب أو وعده مقروناً بذكر السبب، كما قال أصبغ من فقهائهم لتأكد العزم على الدفع حينئذ. مثال الحالة الأولى أن يقول لآخر: اهدم دارك وأنا أقرضك ما تبني به الدار، أو اخرج إلى الحج وأنا أقرضك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، ففعل الموعود ذلك، فيجب عليه الإقراض لأنه أدخل الموعود في الالتزام. ومثال الحالة الثانية عند أصبغ: أن يقول شخص لآخر: تزوج أو اشتر، وأنا أقرضك، فيلزمه الوفاء بوعده ولو لم يباشر الموعود فعل الزواج أو الشراء أي سواء تزوج الموعود أو اشترى أم لا، يلزم الواعد بما وعد، دفعاً للضرر الحاصل للموعود من تغرير الواعد.
فإن وعده بدون ذكر السبب، كأن يقول شخص لآخر: أسلفني كذا، فيقول
المخاطب: نعم، لا يلزمه الوعد. والقوانين الوضعية المدنية تتفق مع رأي ابن شبرمة وبعض المالكية على أن الوعد بعقد أو بعمل ملزم قانوناً.
__________
(2) هو عبد الله بن شبرمة، قاضي فقيه من التابعين ولد سنة 72 هـ وتوفي سنة 144 هـ (تهذيب التهذيب: 250/5) .
(2) الفروق للقرافي:24/5-25، المحلى لابن حزم: 33/8، م/1125.(4/444)
المبحث الثاني ـ تكوين العقد
يشتمل هذا المبحث على مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ ركن العقد:
الركن في اصطلاح علماء الأصول من الحنفية: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان جزءاً داخلاً في حقيقته. ففي العبادات يعد الركوع والسجود وقراءة القرآن أركاناً للصلاة. وفي المعاملات: الإيجاب والقبول أو ما يقوم مقامهما هو ركن العقد. فركن العقد: هو كل ما يعبر به عن اتفاق الإرادتين أو ما يقوم مقامهما من فعل أو إشارة أو كتابة (1) .
هذا هو مذهب الحنفية، وأما بقية العناصر أو المقومات التي يقوم عليها العقد من محل معقود عليه، وعاقدين، فهي لوازم لا بد منها لتكوين العقد، لأنه يلزم من وجود الإيجاب والقبول وجود عاقدين، ولا يتحقق ارتباط العاقدين إلا بوجود محل يظهر فيه أثر الارتباط.
وغير الحنفية (2) يقولون: إن للعقد أركاناً ثلاثة هي عاقد ومعقود عليه وصيغة. فالعاقد في البيع هو البائع والمشتري، والمعقود عليه هو الثمن والمثمن، والصيغة هي الإيجاب والقبول، باعتبار أن الركن عند الجمهور: هو ما يتوقف عليه وجود الشيء وإن لم يكن جزءاً داخلاً في حقيقته.
وأياً كان هذا الاختلاف فهو اصطلاح لا تأثير له من حيث النتيجة.
__________
(1) فتح القدير: 74/5، البدائع: 133/5، رد المحتار لابن عابدين: 5/4.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 2/3، مغني المحتاج: 3/2، غاية المنتهى: 3/2، القوانين الفقهية: ص 245.(4/445)
تعريف الإيجاب والقبول:
الإيجاب والقبول يكوِّنان صيغة العقد، أي العبارات الدالة على اتفاق الطرفين المتعاقدين.
وتعريفهما عند الحنفية (1) ما يأتي:
الإيجاب: إثبات الفعل الخاص الدال على الرضا الواقع أولاً من كلام أحد المتعاقدين، أو ما يقوم مقامه، سواء وقع من المملك أو المتملك (2) . فقول العاقد الأول في البيع هو الإيجاب، سواء صدر من البائع أو من المشتري. فإذا قال البائع أولاً (بعت) فهو الإيجاب. وإذا ابتدأ المشتري الكلام فقال: (اشتريت بكذا) فهو الإيجاب.
والقبول: ما ذكر ثانياً من كلام أحد المتعاقدين، دالاً على موافقته ورضاه بما أوجبه الأول (3) .
فالمعتبر إذن: أولية الصدور وثانويته فقط، سواء أكان من جهة البائع أم من جهة المشتري في عقد البيع.
وعند غير الحنفية (4) : الإيجاب: هو ما صدر ممن يكون منه التمليك وإن جاء متأخراً، والقبول: هو ما صدر ممن يصير له الملك، وإن صدر أولاً. ففي عقد البيع: إذا قال المشتري: اشتريت منك هذه البضاعة بكذا، وقال البائع: بعته لك بهذا الثمن، انعقد البيع، وكان الإيجاب ما صدر عن البائع، لأنه المملك، والقبول: ما صدر من المشتري، وإن صدر أولاً.
والواقع أن تسمية إحدى عبارتي العاقدين إيجاباً، والأخرى قبولاً هي تسمية اصطلاحية، ليس لها أثر يذكر، والأصل العام في الإيجاب أن يقع من البائع أولاً، ويقع القبول من المشتري ثانياً.
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين والدر المختار: 6/4، والمراجع السابقة.
(2) ورد تعريف الإيجاب في المجلة (م 101) : «الإيجاب: أول كلام يصدر من أحد العاقدين لأجل إنشاء التصرف، وبه يوجب ويثبت التصرف» .
(3) عرفت المجلة في المادة (102) القبول بما يأتي: «القبول: ثاني كلام يصدر من أحد العاقدين لأجل إنشاء التصرف، وبه يتم العقد» .
(4) شرح المنهج للأنصاري: 180/2 وما بعدها، كشاف القناع: 3/2، غاية المنتهى: 3/2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3/3.(4/446)
المطلب الثاني ـ عناصر العقد:
عناصر العقد: هي مقوماته الذاتية التي ينشأ بها العقد، ولا يتحقق إلا بوجودها، وهي أربعة: صيغة التعاقد، والعاقدان، ومحل العقد، وموضوع العقد.
العنصر الأول ـ صيغة العقد:
صيغة العقد: هي ما صدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول. وقد اتفقت الشرائع على أن مدار وجود العقد وتحققه هو صدور ما يدل على التراضي من كلا الجانبين بإنشاء التزام بينهما. وهذا هو ما يعرف بصيغة العقد عند فقهائنا. ويسمى عند القانونيين (التعبير عن الإرادة) . والبحث فيها يكون ببيان أساليب الصيغة، وشروطها.
الفرع الأول ـ أساليب صيغة الإيجاب والقبول:
التعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة، وقد نصت على هذه الأساليب المادة (173) و (174) من المجلة، كما نصت عليها المادة (1/93) من القانون المدني السوري.
أولاً ـ اللفظ (أو القول) :
اللفظ: هو الأداة الطبيعية الأصلية في التعبير عن الإرادة الخفية وهو الأكثر استعمالاً في العقود بين الناس لسهولته وقوة دلالته ووضوحه، فيلجأ إليه متى كان العاقد قادراً عليه، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان. ولا يشترط فيه عبارة خاصة، وإنما يصح بكل ما يدل على الرضا المتبادل بحسب أعراف الناس وعاداتهم؛ لأن الأصل في العقود هو الرضا، لقوله تعال: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] وقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما البيع عن تراض» .
مادة اللفظ: وعليه فلا يشترط في العقود كالبيع والإيجار والرهن والهبة ونحوها لفظ معين أو عبارة مخصوصة، كأن يقول البائع: بعت بكذا، أو ملكته لك بكذا، أو أعطيته لك بكذا، أو وهبته بثمن كذا. ويقول المشتري: اشتريت، أو قبلت، أو رضيت، أو خذ الثمن وهات المبيع.
أما عقد الزواج فاختلف الفقهاء في شأن الألفاظ المستعملة فيه، نظراً لخطورته وقداسته.(4/447)
فقال الحنفية والمالكية (1) : يصح انعقاد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما. وقد ورد لفظ (الهبة) في القرآن الكريم دالاً على صحة استعماله لإبرام الزواج، كما ورد في السنة النبوية استعمال عبارة (التمليك) .
أما الوارد في القرآن فقوله تعالى: {وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} (2) الخصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلمفيقولهتعالى {خالصة لك} [الأحزاب:50/33] ليست في انعقاد زواجه بلفظ «الهبة» وإنما في صحة زواجه بغير مهر.
وأما الوارد في السنة فقوله عليه السلام لخاطب من الصحابة يحفظ سوراً من القرآن: «ملّكتكها بما معك من القرآن» (3) .
ولا يصح الزواج بلفظ لا يفيد الملك كإجارة وإعارة ووصية ورهن ووديعة ونحوها، ولا بالألفاظ المصحفة مثل تجوزت.
وقال فقهاء الشافعية والحنابلة (4) : يشترط لصحة عقد الزواج استعمال لفظي «زوج أو نكح» وما يشتق منهما لمن يفهم اللغة العربية. أما من لا يعرف اللغة العربية فيصح الزواج منه بالعبارة التي تؤدي الغرض المقصود، وتفهم هذا المعنى؛ لأن عقد الزواج له خطورة لوروده على المرأة وهي حرة، وشرع لأغراض سامية
__________
(1) فتح القدير: 346/2، الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 368/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 195، الشرح الكبير للدردير: 220/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 168/2.
(2) الأحزاب: 50.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار: 170/6) .
(4) مغني المحتاج: 139/3، المغني: 532/6 ومابعدها.(4/448)
منها تكثير النسل وبقاء النوع الإنساني، وتكوين الأسر، ففيه معنى التعبد لله، بتكثير عباد الله الذين يعبدونه، مما يوجب علينا التزام ما ورد به الشرع، ولم يرد في القرآن الكريم إلا هذان اللفظان فقط وهما (النكاح والتزويج) وذلك في أكثر من عشرين آية: منها: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} (1) [النساء4/3] ومنها {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} (2) .
ويمكن أن يكون رأي الحنفية والمالكية أرجح، لأن الزواج كغيره من العقود، فيصح بكل لفظ ينبئ عن الرضا والإرادة.
صيغة اللفظ أو نوع الفعل:
اتفق الفقهاء على صحة انعقاد العقد بالفعل الماضي، لأن صيغته أدل على المراد وأقرب إلى تحقيق مقصود وهو إنشاؤها في الحال، فينعقد بها العقد من غير توقف على شيء آخر كالنية أو القرينة، وقد تعارف الناس استعمال هذه الصيغة (3) ، وأقرهم الإسلام عليها واستعملها الرسول صلّى الله عليه وسلم في جميع العقود، لإفادتها تنجيز العقد حالاً ودلالتها على الإرادة الجازمة وحدوث الشيء قطعاً من غيراحتمال معنى آخر، مثل بعت، واشتريت، ورهنت، ووهبت، وزوجت، وأعرت، وقبلت، ونحو ذلك.
واتفق الفقهاء أيضاً على الانعقاد بصيغة المضارع إذا توافرت نية الحال أو دلت القرينة على إرادة إنشاء العقد حالاً؛ لأن المضارع يدل على الحال والاستقبال، ففيه احتمال الوعد والمساومة، فكان لا بد من النية لتعيين المراد في الحال، وإنشاء العقد حالاً، مثل أبيع وأشتري وأزوجك وأقبل وأرضى.
وينعقد العقد بالجملة الاسمية على الأصح، مثل أنا بائع لك كذا، أو واهب لك كذا، فقال آخر: أنا قابل: أو قال: نعم.
__________
(1) النساء: 3.
(2) الأحزاب: 37.
(3) نصت المادة 168 من المجلة على ما يأتي: الإيجاب والقبول في البيع عبارة عن كل لفظين مستعملين لإنشاء البيع في عرف البلدة.(4/449)
واختلف الفقهاء في انعقاد العقد بلفظ الأمر الذي يعبر به عن المستقبل، مثل: بعني أو اشتر مني، أو آجرني، أو خذه بكذا.
فقال الحنفية (1) : إن ماعدا عقد الزواج لا ينعقد عقده بلفظ الأمر، ولو نوى ذلك، ما لم يقل القائل الآمر مرة أخرى في المثال السابق: اشتريت، أو بعت، أو استأجرت؛ لأن لفظ الأمر مجرد طلب وتكليف، فلا يكون قبولاً ولا إيجاباً. أو كانت العبارة تنبئ عن إيجاب أو قبول مقدر (مفهوم ضمناً) يقتضيه المعنى ويستلزمه كأن يقول المشتري: اشتريت منك هذا بكذا، فقال البائع: خذه، والله يبارك لك، فكأنه قال: بعتك فخذه (المجلة: م 172) .
وأما عقد الزواج فيصح بصيغة الأمر مثل: زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك، أو قال الرجل لولي المرأة أو وكيلها: زوجني فلانة، فأجاب: زوجتك، لأن لفظ الأمر للمساومة، وعقد الزواج يسبق عادة بالخطبة، فلا يقصد بهذا الأمر الوعد والمساومة، وإنما المقصود به إنشاء العقد، لا مقدمات العقد وهي الخطبة، فيحمل على الإيجاب والقبول. أما غير الزواج كالبيع مثلاً، فإنه يحصل فجأة بدون مقدمات غالباً، فيكون الأمر فيه مساومة، عملاً بحقيقة لفظ الأمر، ويكون المراد به العدة أو المساومة، ولا يعدل عن المعنى الحقيقي للفظ إلى شيء آخر إلا بدليل، ولم يوجد الدليل في البيع، بخلاف الزواج، كما تقدم.
__________
(1) البدائع: 133/5 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 75/5 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 9/4 وما بعدها، المجلة: م169-172.(4/450)
وقال جمهور الفقهاء غير الحنفية (1) : ينعقد العقد بلفظ الأمر بدون حاجة للفظ ثالث من الآمر، سواء أكان بيعاً أم زواجاً؛ لأن أساس العقد هو التراضي، وقد جرى العرف على استعمال صيغة الأمر في إنشاء العقود كالماضي والمضارع، فينعقد بها العقد، ويكون الآمر أو المستدعي عاقداً فعلاً: بائعاً أو مشترياً مثلاً، وهذا الرأي هو الأرجح لما فيه من تحقيق مصالح الناس ومراعاة أعرافهم وعاداتهم دون مصادمة النصوص الشرعية.
واتفق الفقهاء على عدم انعقاد العقد بصيغة الاستقبال: وهي صيغة المضارع المقرون بالسين أو سوف مثل: سأبيعك؛ لأن ذكر السين يدل على إرادة العقد في المستقبل، فهو وعد بالعقد وليس عقداً، أي أنه يدل على عدم إرادة الحال، فلا ينعقد بها العقد، حتى ولو نوى بها العاقد الإيجاب والقبول.
كذلك لا ينعقد العقد بصيغة الاستفهام، لدلالتها على المستقبل، لأنها سؤال الإىجاب والقبول، وليست إيجاباً ولا قبولاً، كأن يقول المشتري: أتبيع مني هذا الشيء؟ فقال البائع: بعت، لا ينعقد العقد إلا إذا انضم لذلك لفظ ثالث يقوله المشتري مرة أخرى: اشتريت؛ لأن لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال حقيقة.
ثانياً ـ التعاقد بالأفعال (العقد بالمعاطاة) :
قد ينعقد العقد بدون قول أو لفظ، وإنما بفعل يصدر من المتعاقدين ويسمى في الفقه بالمعاطاة أو التعاطي أو المراوضة: وهو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 228/4-240، حاشية الدسوقي: 3/3 ومابعدها، بداية المجتهد: 168/2، مغني المحتاج: 4/2-5، المغني: 560/3.
(2) نصت المادة 175 من المجلة على ما يأتي: «حيث إن المقصد الأصلي من الإيجاب والقبول هو تراضي الطرفين، فينعقد البيع بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي، ويسمى هذا بيع التعاطي» وذكرت المادة أمثلة لذلك.(4/451)
مثل أن يأخذ المشتري المبيع، ويدفع للبائع الثمن، أو يدفع البائع المبيع، فيدفع له الآخر ثمنه من غير تكلم ولا إشارة، سواء أكان المبيع حقيراً أم نفيساً.
ففي البيع لو وجد الرجل سلعة مسعرة كتب عليها الثمن كساعة أو حلي، فناول الثمن للبائع وأخد السلعة دون إيجاب وقبول لفظيين، انعقد البيع لدلالته على التراضي في عرف الناس. كذلك ينعقد لو اقتصر المشتري على دفع عربون؛ لأنه جزء من الثمن.
وفي الإجارة: لو ركب الإنسان سيارة من وسائل النقل، ثم دفع ثمن التذكرة إلى الجابي دون كلام متبادل صح الإيجار عرفاً.
لكن الفقهاء اختلفوا في التعاقد بالتعاطي في العقود المالية على أقوال ثلاثة:
الأول ـ مذهب الحنفية (1) والحنابلة (2) : ينعقد العقد بالتعاطي فيما تعارفه الناس، سواء أكان الشيء يسيراً كالبيضة والرغيف والجريدة أم نفيساً (كثير الثمن) كالدار والأرض والسيارة؛ لأن تعارف الناس دليل ظاهر على التراضي، سواء تمت المبادلة الفعلية من الجانبين، أو من جانب واحد ومن الآخر اللفظ على الأصح المفتى به، وسواء في ذلك البيع والإجارة والإعارة والهبة والرجعة.
وذلك بشرط أن يكون ثمن المعقود عليه معلوماً تماماً، وإلا فسد العقد، وألا يصرح العاقد مع التعاطي بعدم الرضا بالعقد.
والقانون المدني السوري يتفق مع هذا الرأي، كما جاء في المادة (1/93) .
__________
(1) البدائع: 134/5، فتح القدير: 77/5، الدر المختار ورد المحتار: 11/4 ومابعدها.
(2) غاية المنتهى: 5/2.(4/452)
الثاني ـ مذهب مالك وأصل مذهب أحمد (1) : ينعقد العقد بالفعل أو بالتعاطي متى كان واضح الدلالة على الرضا، سواء تعارفه الناس أم لا، وهذا الرأي أوسع من سابقه وأيسر على الناس، فكل ما يدل على البيع أو الإجارة، أو الشركة أو الوكالة وسائر العقود الأخرى ما عدا الزواج ينعقد العقد به؛ لأن المعول عليه وجود ما يدل على إرادة المتعاقدين من إنشاء العقد وإبرامه والرضا به، وقد تعامل الناس به من عصر النبوة فما بعده. ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه الاقتصار على الإيجاب والقبول، ولا إنكار التعاطي، فكانت القرينة كافية على الدلالة على الرضا.
الثالث ـ مذهب الشافعية والشيعة والظاهرية (2) : لا تنعقد العقود بالأفعال أو بالمعاطاة لعدم قوة دلالتها على التعاقد؛ لأن الرضا أمر خفي، لا دليل عليه إلا باللفظ، وأما الفعل فقد يحتمل غير المراد من العقد، فلا يعقد به العقد، وإنما يشترط أن يقع العقد بالألفاظ الصريحة أو الكنائية، أو ما يقوم مقامها عند الحاجة كالإشارة المفهمة أو الكتابة.
ونظراً لما يشتمل عليه هذا المذهب من تشدد وشكلية محدودة ومجافاة لمبدأ المرونة والسماحة واليسر، فقد اختار جماعة من الشافعية منهم النووي والبغوي والمتولي، صحة انعقاد بيع المعاطاة في كل ما يعده الناس بيعاً، لأنه لم يثبت اشتراط لفظ، فيرجع للعرف كسائر الألفاظ المطلقة،
__________
(1) مواهب الجليل: 228/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 3/3، بداية المجتهد: 161/2، المغني: 561/3، فتاوى ابن تيمية: 267/3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 3/2 ومابعدها، المهذب: 257/1، المختصر النافع في فقه الإمامية: ص142، المحلى لابن حزم: 404/8، المهذب: 257/1.(4/453)
وبعض الشافعية كابن سريج والرُّوياني خصص جواز بيع المعاطاة بالمحقَّرات أي غير النفيسة: هي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة كرطل خبز، أو رغيف، وحزمة بقل ونحوها (1) .
عقد الزواج: وبغض النظر عن الاختلاف السابق في التعاقد بالمعاطاة، أجمع الفقهاء على أن الزواج لا ينعقد بالفعل، كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بد من القول للقادر عليه؛ لأن عقد الزواج خطير مقدس له آثار دائمة على المرأة، فكان لا بد من الاحتياط له، وإتمامه بأقوى الدلالات على الإرادة: وهو القول، حفاظاَ على كرامة المرأة ومستقبلها، وصوناً لها عن الابتذال، ولأن عقد الزواج يتطلب الإشهاد عليه، تمييزاً له عن السفاح أو الزنا، ولا يتمكن الشهود من معرفة عقد الزواج إلا بسماع لفظ الإيجاب والقبول (2) .
وكالزواج عند الإمام الشافعي: الطلاق والخلع والرجعة، لا تجوز إلا بالقول.
ثالثاً ـ التعاقد بالإشارة:
الإشارة إما من الناطق أو من الأخرس.
أـ إذا كان العاقد قادراً على النطق فلا ينعقد بإشارته، بل عليه أن يعبر عن إرادته بلسانه لفظاً أو كتابة؛ لأن الإشارة وإن دلت على الإرادة لا تفيد اليقين المستفاد من اللفظ أو الكتابة، فلا بد من العبارة، وإلا لم ينشأ العقد عند الحنفية والشافعية (3) .
__________
(1) سيأتي بحثه في عقد البيع.
(2) الدر المختار: 364/2 وتنص المادة 5 من قانون الأحوال الشخصية السوري على ما يأتي: «ينعقد الزواج بإيجاب من أحد العاقدين، وقبول من الآخر» والمادة 6 تنص: «يكون الإيجاب والقبول في الزواج بالألفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفاً» .
(3) البدائع: 135/5، حاشية ابن عابدين: 9/4، نهاية المحتاج: 11/3.(4/454)
لكن القانون المدني السوري وغيره في المادة 1/93) أجاز انعقاد العقد بالإشارة المتداولة عرفاً، ولو كانت من الناطق، إذ لم يقيدها بالخرس. وهذا يتفق مع مذهب المالكية والحنابلة (1) الذين يجيزون التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما تقدم في المعاطاة.
ب ـ وأما العاقد العاجز عن النطق كالأخرس ومعتقل اللسان، فإن كان يحسن الكتابة فلا بد منها على الرواية الراجحة عند الحنفية؛ لأن الكتابة أبلغ في الدلالة وأبعد عن الاحتمال من الإشارة، فيلجأ إليها.
وإن كان لا يحسن الكتابة، وله إشارة مفهمة، فتقوم مقام النطق باللسان باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لايحرم من حق التعاقد، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان) (م.70 من المجلة) . هذا إذا كان الخرس أصلياً، بأن ولد أخرس، فأما إذا كان عارضاً بأن طرأ عليه الخرس، فلا تعتبر إشارته إلا إذا دام به الخرس حتى وقع اليأس من كلامه، وصارت الإشارة مفهومة، فيلحق بالأخرس الأصلي.
رابعاً ـ التعاقد بالكتابة:
يصح التعاقد بالكتابة بين طرفين، ناطقين أو عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد، أو غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) ، فإذا كانت غير مستبينة كالرقم أو الكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد، وعليه نصت القاعدة الفقهية:
__________
(1) الشرح الكبير: 3/3، المغني: 562/5.(4/455)
(الكتاب كالخطاب) (م 96 مجلة) وهذا رأي الحنفية والمالكية (1) .
وذلك كأن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) ، فإذا وصله الكتاب، فقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. فإن ترك المجلس، أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وفي حال إرسال رسول إلى آخر مثل إرسال الكتاب، يعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل انتهى مفعول الإيجاب. فالمعتبر هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة. وصورة الإرسال: أن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له، فذهب الرسول، فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك صح العقد (2) .
لكن عقد الزواج لا يصح انعقاده بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا حال العجز عن النطق كالخرس؛ لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة (3) صحة التعاقد بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة؛ لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره.
الفرع الثاني ـ شروط الإيجاب والقبول:
الشرط: ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون جزءاً خارجاً عن حقيقته. كالوضوء أو الطهارة للعبادات، لا تصح الصلاة بدون الطهارة، لكنها غير داخلة في تكوين الصلاة. وكالقدرة على التسليم في المعاملات لابد منها لانعقاد العقد، لكنها ليست جزءاً داخلاً في تكوين العقد. وبذلك يظهر أن الركن والشرط يتوقف عليهما وجود الشيء. إلا أن الركن داخل في حقيقة الشيء وجزء منه، أما الشرط فخارج عن الحقيقة ولا يعد جزءاً منها.
------------------------------
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 10/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 3/3، فتح القدير: 79/5، البدائع: 137/5.
(2) نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة 98: «يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين صدر فيهما القبول ... » .
(3) المهذب: 257/1، غاية المنتهى: 4/2....(4/456)
واشترط الفقهاء لانعقاد العقد شروطاً ثلاثة في الإيجاب والقبول هي (1) :
1 - وضوح دلالة الإيجاب والقبول، أي أن يكون كل من الإيجاب والقبول واضح الدلالة على مراد العاقدين، بأن تكون مادة اللفظ المستعمل لهما في كل عقد تدل لغة أو عرفاً على نوع العقد المقصود للعاقدين؛ لأن الإرادة الباطنة خفية، ولأن العقود يختلف بعضها عن بعض في موضوعها وأحكامها، فإذا لم يعرف بيقين أن العاقدين قصدا عقداً بعينه لا يمكن إلزامهما بأحكامه الخاصة به.
ولا يشترط لهذه الدلالة لفظ أو شكل معين، فإن الشكلية في غير عقد الزواج والعقود العينية كالهبة والرهن غير مطلوبة فقهاً؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظـ والمباني، فيصح البيع بلفظ الهبة بعوض، وينعقد الزواج بلفظـ الهبة إذا اقترن بالمهر.
2 - تطابق القبول والإيجاب: بأن يكون القبول موافقاً للإيجاب، بأن يرد على كل ما أوجبه الموجب وبما أوجبه، أي على كل محل العقد، ومقدار العوض في عقود المعاوضات، سواء أكانت الموافقة حقيقية، كما لو قال البائع: بعتك الشيء بعشرة، فيقول المشتري: اشتريته بعشرة، أو ضمنية، كما لو قال المشتري في المثال السابق: اشتريته بخمس عشرة. أو أن تقول المرأة: زوجتك نفسي بمئة، فيقول الزوج: قبلت الزواج بمئة وخمسين، فالتوافق متحقق ضمناً، وهذه المخالفة خير للموجب. لكن العقد لا يلزم إلا بالمقدار الذي وجهه الموجب أي مئة في المثال الأخير، وأما الزيادة فموقوفة على قبول الموجب في مجلس العقد، فإن قبل به الموجب لزم القابل؛ لأن المال لا يدخل في ملك إنسان بغير اختياره إلا في الميراث.
__________
(1) البدائع: 136/5 ومابعدها، حاشية ابن عابدين: 5/4، فتح القدير: 80/5، أحكام المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف: ص69 ومابعدها، مغني المحتاج: 5/2 ومابعدها، حاشية الدسوقي: 5/3، غاية المنتهى: 4/2، نهاية المحتاج: 8/3-10.(4/457)
فإن لم يتطابق القبول مع الإيجاب، وحدثت مخالفة بينهما، لا ينعقد العقد، كأن خالف القابل في محل العقد، فقبل غيره، أو بعضه، مثل قول البائع: بعتك الأرض الفلانية، فيقول المشتري: قبلت شراء الأرض المجاورة لها، أو قبلت شراء نصفها بنصف الثمن المتفق عليه، فلا ينعقد العقد لمخالفته محل العقد، أو لتفرق الصفقة على البائع، والمشتري لا يملك تفريقها أي تجزئتها.
وإذا خالف في مقدار الثمن، فقبل بأقل مما ذكر البائع، لا ينعقد العقد أيضاً، وكذا لو خالف في وصف الثمن لا في قدره، كأن أوجب البائع بثمن حال نقدي، فقبل المشتري بثمن مؤجل، أو أوجب بأجل إلى شهر معين، فقبل المشتري بأجل أبعد منه، لم ينعقد البيع في الحالتين، لعدم تطابق القبول مع الإيجاب، وحينئذ لابد من إيجاب جديد.
ويختلف القانون المدني مع الفقه الحنفي في حالة المخالفة إلى خيرللموجب، إذ يقرر القانونيون (1) أن العقد لا يتم، كما يفهم من صريح المادة (97) مدني سوري «إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه، اعتبر رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً» لكن يتفق ذلك مع ظاهر مذهب الشافعي (2) .
3 - اتصال القبول بالإيجاب: بأن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد إن كان الطرفان حاضرين معاً، أو في مجلس علم الطرف الغائب بالإيجاب.
ويتحقق الاتصال بأن يعلم كل من الطرفين بما صدر عن الآخر بأن يسمع الإيجاب ويفهمه، وبألا يصدر منه ما يدل على إعراضه عن العقد، سواء من الموجب أو من القابل.
ومجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد. وبعبارة أخرى: اتحاد الكلام في موضوع التعاقد.
ويشترط لتحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب شروط ثلاثة هي (3) :
__________
(1) الوسيط للسنهوري: ص 219 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 6/2.
(3) الملكية ونظرية العقد للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 175، ط 1939.(4/458)
أولها ـ أن يكونا في مجلس واحد، وثانيها ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه، ثالثها ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل الآخر.
الشرط الأول ـ أن يتحد مجلس الإيجاب والقبول: فلا يجوز أن يكون الإيجاب في مجلس، والقبول في مجلس آخر؛ لأن الإيجاب لا يعد جزءاً من العقد إلا إذا التحق به القبول. فلو قال البائع: بعتك الدار بثمن كذا، أو آجرتك المنزل بأجرة كذا، ثم انتقل الموجب إلى مكان آخر بعيد عن مجلسه الأول بحوالي مترين أو ثلاثة، أو إلى غرفة أخرى، انتهى المجلس الأول، فإذا قبل القابل بعد هذا الانتقال لم ينعقد العقد، ويحتاج إلى إيجاب جديد؛ لأن الإىجاب كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم ينضم إليه القبول في حال واحدة من المجلس.(4/459)
وهل تشترط الفورية في القبول؟
قرر جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والحنابلة (1)) أنه لا يشترط الفور في القبول، لأن القابل يحتاج إلى فترة للتأمل، فلو اشترطت الفورية لا يمكنه التأمل، وإنما يكفي صدور القبول في مجلس واحد، ولو طال الوقت إلى آخر المجلس؛ لأن المجلس الواحد يجمع المتفرقات للضرورة، وفي اشتراط الفورية تضييق على القابل، أو تفويت للصفقة من غير مصلحة راجحة، فإن رفض فوراً، فتضيع عليه الصفقة، وإن قبل فوراً، فربما كان في العقد ضرر له، فيحتاج لفترة تأمل؛ للموازنة بين ما يأخذ أو يغنم وبين ما يعطي أو يغرم في سبيل العقد، وقدرت فترة التأمل بمدة مجلس العقد؛ لأن المجلس جامع للمتفرقات، فتعتبر ساعة واحدة زمنية تيسيراً على الناس، ومنعاً للمضايقة والحرج، ودفعاً للضرر عن العاقد قدر الإمكان.
وقد أخذ القانون المدني في المادة 95/2 بهذا الرأي، فلم يشترط الفورية فيالقبول، وصرح الأستاذ السنهوري بأن القانون أخذ هذا من الفقه الحنفي (2) .
وقال الرملي من الشافعية (3) : يشترط أن يكون القبول فور الإيجاب، فلو تخلل لفظ أجنبي لا تعلق له بالعقد ولو يسيراً بأن لم يكن من مقتضاه ولا من مصالحه ولا من مستحباته، لا يتحقق الاتصال بين القبول والإيجاب، فلا ينعقد العقد. لكن لو قال المشتري بعد توجيه الإيجاب له: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت، أي (الشراء) صح العقد.
واتجاه الشافعية هذا متفق مع الأصل في القبول: وهو أن يتصل بالإيجاب مباشرة وفوراً لينعقد العقد، ويخفف تشدد هذا الرأي أخذ الشافعية بمبدأ خيار المجلس لكل من العاقدين بعد انعقاد العقد، والذي بمقتضاه يثبت لكل من العاقدين حق فسخ العقد ما داما في المجلس لم يفترقا عنه بأبدانهما.
هذا وقد فسر غير الرملي من الشافعية اتصال القبول بالإيجاب بأنه السائد عرفاً بين الناس، فلا يضر الفصل اليسير ويضر الطويل وهو ما أشعر بإعراضه عن القبول. فيكون رأي الشافعية كغيرهم (4) .
حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة
تمهيد:
تمكن أبناء العالم المعاصر من إنجاز كثير من معاملاتهم وعقودهم المالية بواسطة آلات الاتصال الحديثة، كالهاتف والبرقية واللاسلكي والتلكس والفاكس ونحوها، وأصبح ضرورياً معرفة كيفية إبرام تلك العقود من الناحية الشرعية، وهذا ما أبينه هنا بالاعتماد على ما كتبه فقهاؤنا وقرروه عند الكلام على صيغة العقد، وشروط الإيجاب والقبول، وشروط تحقيق معنى اتصال القبول بالإيجاب ليكون شطرا العقد في مجلس واحد.
وبما أن هذه المعلومات معروفة في الجامعات، فأكتفي بإيجازها هنا، لتكون مدخلاً للحكم على موضوع البحث.
__________
(1) البدائع: 5/137، فتح القدير: 5/78، الشرح الكبير للدردير: 3/5، الشرح الصغير: 3حاشية ص17، غاية المنتهى: 2/4، مواهب الجليل للحطاب: 4/240، الشرح الكبير مع المغني: 4/4.
(2) الوسيط للسنهوري: ص215.
(3) نهاية المحتاج: 3/8، مغني المحتاج: 2/6.
(4) حاشية الباجوري على ابن قاسم الغزي: 354/1، المجموع للنووي: 179/9.(4/460)
صيغة العقد: هي ماصدر من المتعاقدين دالاً على توجه إرادتهما الباطنة لإنشاء العقد وإبرامه. وتعرف تلك الإرادة الباطنة بواسطة اللفظ أو القول أو ما يقوم مقامه من الفعل (المعاطاة) أو الإشارة أو الكتابة. وهذه الصيغة هي الإيجاب والقبول الدالان على تراضي الجانبين بإنشاء التزام بينهما، وتسمى الصيغة عند القانونيين التعبير عن الإرادة.
والتعبير عن الإرادة العقدية الجازمة يكون بأي صيغة تدل عرفاً أو لغة على إنشاء العقد، سواء بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالكتابة (1) .
والقول أو اللفظ مثل بعت واشتريت، ورهنت وارتهنت، ووهبت وقبلت، وزوجت وتزوجت.
والفعل أو المعاطاة أو المراوضة: هو التعاقد بالمبادلة الفعلية الدالة على التراضي دون تلفظ بإيجاب أو قبول (2) ، كأن يأخذ المشتري المبيع ويدفع الثمن للبائع دون كلام من كلا الطرفين أو من أحدهما، سواء أكان المبيع حقيراً بسيطاً أم نفيساً. وهذا جائز عند جمهور العلماء غير الشافعية، لتعارفه بين الناس، لكن عقد الزواج بالإجماع لا ينعقد ولا يصح بالفعل أو بالمعاطاة كإعطاء المهر مثلاً، بل لا بدّ فيه من النطق بالإيجاب والقبول، لخطورته وأهميته، وتأثيره الدائم على المرأة، وحفاظاً على حرمات الأعراض المصونة شرعاً.
ويجوز انعقاد العقد بإشارة الأخرس أو معتقل اللسان المفهومة باتفاق الفقهاء للضرورة، حتى لا يحرم من حق التعاقد، لذا نصت القاعدة الفقهية: «الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان» (المجلة: م 70) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية (م 173، 174) .
(2) المجلة (م 175) .(4/461)
وأجاز فقهاء المالكية والحنابلة التعبير عن الإرادة من الناطق بالإشارة المفهمة المتداولة عرفاً، لأنها أولى في الدلالة من الفعل الذي ينعقد به العقد، كما في المعاطاة (1) .
ويصح التعاقد بالكتابة بين طرفين في رأي الحنفية والمالكية سواء أكانا ناطقين أم عاجزين عن النطق، حاضرين في مجلس واحد أم غائبين، وبأي لغة يفهمها المتعاقدان، بشرط أن تكون الكتابة مستبينة (بأن تبقى صورتها بعد الانتهاء منها) ومرسومة (مسطرة بالطريقة المعتادة بين الناس بذكر المرسل إليه وتوقيع المرسل) فإذا كانت غير مستبينة كالكتابة على الماء أو في الهواء، أو غير مرسومة كالرسالة الخالية من التوقيع مثلاً، لم ينعقد بها العقد (2) ، وعليه نصت القاعدة الفقهية: (الكتاب كالخطاب) (المجلة: م 96) . مثل أن يرسل شخص خطاباً لآخر يقول فيه: (بعتك سيارتي بكذا) فإذا وصله الكتاب، وقال في مجلس قراءة الكتاب: قبلت، انعقد البيع. أما إن ترك المجلس أو صدر منه ما يدل على الإعراض عن الإيجاب، كان قبوله غير معتبر.
وإرسال رسول إلى آخر حامل مضمون الإيجاب مثل إرسال الكتاب، ويعتبر مجلس وصول الرسول هو مجلس العقد، فيلتزم أن يقبل فيه، فإن قام من المجلس قبل أن يقبل، انتهى مفعول الإيجاب، ويكون المعول عليه هو مجلس بلوغ الرسالة أو الكتابة، كأن يقول شخص: بعت لفلان كذا، فاذهب يا فلان وقل له هذا، فذهب فأخبره، فقبل المشتري في مجلسه ذلك، صح العقد.
ومهمة الرسول أضعف من مهمة الوكيل، لأن الرسول مجرد مفوض بنقل تعبير المرسل دون زيادة أو نقصان، أما الوكيل فإنه يتولى إبرام العقد بعبارته، ولا
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/3، المغني: 562/5.
(2) الدر المختار ورد المحتار لابن عابدين: 10/4 وما بعدها، فتح القدير: 79/5، البدائع: 137/5، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 3/3.(4/462)
يتقيد في الوكالة المطلقة إلا بالمعتاد المتعارف عليه، أما في الوكالة المقيدة بمكان أو زمان أو شخص أو محل معقود عليه أو بدل عقدي فيتم التعاقد بين الوكيل والقابل بعبارة الوكيل المقيدة بقيود الوكالة، وتعود حقوق العقد أي الالتزامات إلى الوكيل بعكس الرسول لا يتحمل شيئاً منها، أما حكم العقد الأصلي أي نقل الملكية فيعود إلى الموكل والمرسل على السواء.
ولا ينعقد عقد الزواج بالكتابة إذا كان العاقدان حاضرين في مجلس واحد، إلا في حال العجز عن النطق كالخرس، لأن الزواج يشترط لصحته حضور الشهود العدول وسماعهم كلام العاقدين، وهذا لا يتيسر في حال الكتابة.
وقيد الشافعية والحنابلة صحة التعاقد مطلقاً بالكتابة أو الرسالة فيما إذا كان العاقدان غائبين، أما في حال الحضور فلا حاجة إلى الكتابة، لأن العاقد قادر على النطق، فلا ينعقد العقد بغيره (1) .
كيفية إبرام التعاقد بالهاتف واللاسلكي ونحوهما من وسائل الاتصال الحديثة:
ليس المراد من اتحاد المجلس المطلوب في كل عقد كما بينا كون المتعاقدين في مكان واحد، لأنه قد يكون مكان أحدهما غير مكان الآخر، إذا وجد بينهما واسطة اتصال، كالتعاقد بالهاتف أو اللاسلكي أو بالمراسلة (الكتابة) وإنما المراد باتحاد المجلس: اتحاد الزمن أو الوقت الذي يكون المتعاقدان مشتغلين فيه بالتعاقد، فمجلس العقد: هو الحال التي يكون فيها المتعاقدان مقبلين على التفاوض في العقد (2) ، وعن هذا قال الفقهاء «إن المجلس يجمع المتفرقات» (3) .
__________
(1) المهذب: 257/1، غاية المنتهى: 4/2.
(2) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 171.
(3) البدائع: 137/5.(4/463)
وعلى هذا يكون مجلس العقد في المكالمة الهاتفية أو اللاسلكية: هو زمن الاتصال ما دام الكلام في شأن العقد، فإن انتقل المتحدثان إلى حديث آخر انتهى المجلس.
ومجلس التعاقد بإرسال رسول أو بتوجيه خطاب أو بالبرقية أو التلكس أو الفاكس ونحوها: هو مجلس تبليغ الرسالة، أو وصول الخطاب أو البرقية أو إشعار التلكس والفاكس، لأن الرسول سفير ومعبر عن كلام المرسل، فكأنه حضر بنفسه وخوطب بالإيجاب فقبل، في المجلس. فإن تأخر القبول إلى مجلس ثان، لم ينعقد العقد. وبه تبين أن مجلس التعاقد بين حاضرين: هو محل صدور الإيجاب، ومجلس التعاقد بين غائبين: هو محل وصول الكتاب أو تبليغ الرسالة، أو المحادثة الهاتفية.
لكن للمرسل أو للكاتب أن يرجع عن إيجابه أمام شهود، بشرط أن يكون قبل قبول الآخر ووصول الرسالة أو الخطاب ونحوه من الإبراق والتلكس والفاكس. ويرى جمهور المالكية أنه ليس للموجب الرجوع قبل أن يترك فرصة للقابل يقرر العرف مداها، كما تقدم.
هذا وإن بقية شروط الإيجاب والقبول عدا اتحاد المجلس لا بد من توافرها في وسائط الاتصال الحديثة.
زمن إتمام العقد في التعاقد بين غائبين:
أجمع الفقهاء على أن العقد ينعقد بين الغائبين كما في آلات الاتصال الحديثة بمجرد إعلان القبول، ولا يشترط العلم بالقبول بالنسبة للطرف الموجب الذي وجه الإيجاب (1) .
فلو كان المتعاقدان يتحدثان بالهاتف أو بالاسلكي، وقال أحدهما للآخر: بعتك الدار أو السيارة الفلانية، وقال الآخر: قبلت، انعقد العقد، بمجرد إعلان القبول، ولو لم يعلم الموجب بالقبول، بأن انقطع الاتصال بينهما.
__________
(1) التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ص 118، طبع الجزائر.(4/464)
ولو وجهّ أحد العاقدين خطاباً أو برقية إلى آخر أو تلكساً أو فاكساً، وفيها إيجاب ببيع شيء، أو بإبرام عقد زواج، انعقد العقد بعد وصول البرقية أو الخطاب ونحوهما، وإعلان الآخر قبوله، دون حاجة إلى علم الموجب أو سماعه بالقبول.
لكن إبعاداً لكل لبس أو غموض، وتمكيناً من إثبات العقد، وتأكيداً لإبرامه، جرى العرف الحاضر في التلكس مثلاً ونحوه على إرسال تلكس العرض، ثم تلكس القبول، ثم تلكس البيع، وساعد على ترسيخ هذا العرف ما تنص عليه بعض القوانين الوضعية كالقانون المدني المصري، فإنه نص على ما يلي:
في التعاقد بين حاضرين: تنص المادة (91) على أن «التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به، ما لم يقم الدليل على عكس ذلك» واشتراط السماع أو العلم بالقبول حتى بين الحاضرين أخذ به بعض فقهاء الحنفية مثل النسفي وابن كمال باشا.
وفي التعاقد بين غائبين: تنص المادة (97) على ما يلي: «يعتبر التعاقد ما بين الغائبين قد تم في المكان وفي الزمان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول، مالم يوجد اتفاق أو نص قانوني بغير ذلك، ويفترض أن الموجب قد علم بالقبول في المكان والزمان اللذين وصل إليه فيهما هذا القبول» .
وأرى الأخذ بضرورة العلم بالقبول بالنسبة للموجب في التعاقد بين غائبين بسبب تقدم وسائل الاتصال الحديثة وتعقد المعاملات، وتحقيقاً لاستقرار التعامل ومنعاً لإيقاع الموجب في القلق، وتمكيناً من إثبات العقد وإلزام القابل، فإن جهل الموجب بالقبول يوقعه في حرج شديد، وهذا(4/465)
رأي الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1) .
التعاقد حالة المشي أو الركوب:
إذا تعاقد شخصان على ظهر سفينة أو متن طائرة، أو في قطار أو سيارة، انعقد العقد، سواء أكانت هذه الوسائل واقفة أم ماشية؛ لأن الشخص لا يستطيع إيقاف تلك الوسائل، فاعتبر مجلس العقد فيها مجلساً واحداً، مما يؤكد أن المقصود من اتحاد المجلس اتحاد الزمان وليس الاتحاد المكاني المادي.
لكن إذا كان العاقدان ماشيين على الأقدام، أو راكبين دابة واحدة أو دابتين، فقد تشدد الحنفية في تصور المجلس، فقالا: إذا تم القبول متصلاً بالإيجاب، انعقد العقد، حتى ولو مشيا خطوة واحدة، أو خطوتين. فإن مشيا خطوات ثلاثاً فأكثر، ثم حدث القبول، لم ينعقد العقد؛ لأن العاقدين يستطيعان الوقوف، أو إيقاف الدابة لمداولة العقد، فإن سارا فقد تبدل المجلس قبل القبول. ويجعل السير دليلاً على الإعراض عن العقد (2) .
وهذا ما حدا بالدكتور السنهوري إلى القول بأن نصوص المذهب الحنفي أغرقت في تصوير مجلس العقد تصويراً مادياً لا سبيل إلى مجاراتها فيه (3) .
الشرط الثاني ـ ألا يصدر من أحد العاقدين ما يدل على إعراضه عن العقد:
بأن يكون الكلام في موضوع العقد، وألا يتخلله فصل بكلام أجنبي يعد قرينة على الإعراض عن العقد.
فإن ترك الموجب مجلس العقد قبل قبول الآخر، أو ترك الطرف الآخر المجلس بعد صدور الإيجاب، أو انشغل الطرفان في موضوع آخر لا صلة له بالعقد، بطل الإيجاب. ولو قبل الآخر حينئذ لا يعتبر قبوله متمماً للعقد؛ لأن الإيجاب ذهب ولم يبق له وجود، إذا لم يتعانق مع القبول، وسبب ذهابه أنه كلام اعتباري لا بقاء له إذا لم يتصل بالقبول، ويجعل باقياً مدة المجلس من باب التيسير على الطرفين ودفع العسر عنهما ليمكن تلاقي القبول به، وانعقاد العقد.
متى يصير المجلس قد تغير؟
__________
(1) مصادر الحق: 57/2.
(2) البدائع: 232/2، و 137/5، فتح القدير: 78/5-80.
(3) مصادر الحق للسنهوري: 7/2.(4/466)
العرف الشائع بين الناس هو المحكم في بيان اتحاد المجلس أو تغيره، فإذا صدر القبول في حال اتحاد المجلس، نشأ العقد، وإذا صدر القبول بعد تغير المجلس لم يعتبر ولم ينشأ به العقد. وضابط ذلك أن القبول يكون معتبراً ما دام لم يتخلل بينه وبين الإيجاب ما يعد إعراضاً عن العقد من أحد الطرفين، وما دام المجلس قائماً (1) .
وتحقيق هذا المبدأ عند الحنفية (2) : أنه لو أوجب أحد الطرفين البيع، فقام الآخر عن المجلس قبل القبول، أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس، ثم قبل، لا ينعقد العقد؛ لأن القيام دليل الإعراض والرجوع عن العقد.
والاحتكام إلى العرف في بيان ما يغير المجلس متفق عليه بين المذاهب (3) حتى
__________
(1) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 259.
(2) البدائع: 137/5، فتح القدير والهداية: 78/5 و 80.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 240/4 ومابعدها، المجموع للنووي: 201/9، مغني المحتاج: 45/2، المحلي على المنهاج: 191/2، الباجوري على ابن قاسم:360/1، غاية المنتهى: 4/2.(4/467)
عند بعض الشافعية القائلين بفورية القبول؛ لأن الفورية شيء، والحكم بتغير المجلس شيء آخر، فإنهم قالوا: يعتبر العرف في تفرق العاقدين عن المجلس، فما يعده الناس تفرقاً يلزم به العقد، وما لا فلا؛ لأن ما ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، يرجع فيه إلى العرف، فلو كان العاقدان في دار كبيرة يتغير المجلس بالخروج من البيت إلى صحن الدار، أو بالعكس، وإن كانا في دار صغيرة أو في سفينة أو مسجد صغير يتغير المجلس بخروج أحدهما منه، أوبصعود السطح، وإن كانا في سوق أوصحراء يتغير المجلس بأن يولي أحدهما ظهره ويمشي قليلاً كثلاث خطوات. ولو تناديا بالعقد من مكان بعيد، بقي المجلس ما لم يفارق أحدهما مكانه، فإن مشى كل منهما ولو إلى صاحبه، تغير المجلس. ولو تماشى الطرفان مسافة دام المجلس، وإن زادت المدة على ثلاثة أيام ما لم يعرضا عما يتعلق بالعقد.
الشرط الثالث ـ ألا يرجع الموجب في إيجابه قبل قبول القابل:
لا بد لانعقاد العقد من استمرار الموجب على إيجابه الذي وجهه للقابل، فإن عدل عن إيجابه، لم يصح القبول.
وهل يصح العدول عن الإيجاب في مجلس العقد؟
أجاب جمهور الفقهاء (الحنفية والشافعية والحنابلة) (1) بأنه للموجب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القبول من الطرف الآخر، ويبطل الإيجاب حينئذ؛ لأن الالتزام بالعقد لم ينشأ بعد، ولا ينشأ إلا بارتباط القبول بالإيجاب، ولأن الموجب حر التصرف بملكه وحقوقه، وبإيجابه أثبت للطرف الآخر حق التملك، وحق الملك أقوى من حق التملك، فيقدم عليه عند التعارض؛ لأن الأول ثابت
__________
(1) البدائع: 134/5، مغني المحتاج: 43/2، غاية المنتهى: 29/2.(4/468)
لصاحبه أصالة والثاني لا يثبت إلا برضا الطرف الأول، والتراضي بين الجانبين أساسي لصحة العقود.
والقانون المدني في المادة (95) يتفق مع هذا الرأي، فإنه إذا لم يتعين ميعاد للقبول يجوز للموجب التحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فوراً.
وقال أكثرية المالكية (1) : ليس للموجب الرجوع عن إيجابه، وإنما يلتزم بالبقاء على إيجابه حتى يعرض الطرف الآخر عنه، أو ينتهي المجلس؛ لأن الموجب قد أثبت للطرف الآخر حق القبول والتملك، فله استعماله وله رفضه، فإذا قبل ثبت العقد، وإذا أعرض عن الإيجاب لم ينشأ العقد. وعليه لا يكون الرجوع مبطلاً للإيجاب.
تعيين مدة للقبول: إذا حدد الموجب للطرف الآخر مدة للقبول، فيلتزم بها عند فقهاء المالكية؛ لأنهم قالوا كما تقدم: ليس للموجب الرجوع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فيكون من باب أولى ملتزماً بالبقاء على إيجابه إذا عين ميعاداً للقبول كأن يقول: أنا على إيجابي مدة يومين مثلاً، فيلزمه هذا التقييد ولو انتهى المجلس. وهذا يتفق مع المبدأ العام في الشريعة وهو «المسلمون على شروطهم» (2) ، ومثل هذا الشرط لا ينافي مقتضى العقد.
والقانون المدني في المادة (94) يقرر ذلك: «إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد. وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال، أو من طبيعة التعامل» .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 241/4.
(2) هو حديث نبوي رواه الترمذي عن عمرو بن عوف، وقال: هذا حديث حسن صحيح (نيل الأوطار: 254/5) .(4/469)
العقود التي لا يشترط فيها اتحاد المجلس:
اتحاد المجلس شرط في جميع العقود ما عدا ثلاثة: الوصية، والإيصاء، والوكالة.
أما الوصية (وهي تصرف مضاف إلى مابعد الموت) : فيستحيل فيها تحقق اتحاد المجلس؛ لأن القبول لا يصح من الموصى له في حال حياة الموصي، وإنما يكون بعد وفاته مصراً على الوصية.
وأما الإيصاء (وهو جعل الغير وصياً على أولاده ليرعى شؤونهم بعد وفاته) : فلا يلزم صدور القبول في حياة الموصي، وإنما يصح بعد وفاته، وعلى كل حال لا يصبح وصياً إلا بعد وفاة الموصي، وإن قبل في حياته.
وأما الوكالة (وهي تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل في أثناء الحياة) فمبنية على التوسعة واليسر والسماحة، فلا يشترط فيها اتحاد المجلس؛ لأن قبولها قد يكون باللفظ (القول) ، أو بالفعل بأن يشرع الوكيل في فعل ما وكل فيه، ويصح فيها توكيل الغائب (أي غير الموجود في مجلس العقد) ، فبمجرد علمه بالتوكيل له القيام بالعمل الموكل فيه (1) .
وكالوكالة عند الحنابلة: كل عقد جائز غير لازم يصح القبول فيه على التراخي، مثل الشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة، والوديعة والجعالة.
مبطلات الإيجاب: يبطل الإيجاب بالأمور التالية (2) :
1 - رجوع الموجب عنه قبل القبول في المجلس، على رأي الجمهور.
2 - رفض الإيجاب من الطرف الآخر، إما صراحة كأن يقول: لا أقبل، أو ضمناً كأن يعرض عنه إما بالقيام عن المجلس بعد القعود، أو بالاشتغال بعمل آخر كأكل، أو سماع حديث آخر، أو قراءة خبر صحفي ونحوه.
3 - انتهاء مجلس العقد، بتفرق العاقدين عرفاً؛ لأن الإيجاب يظل قائماً في المجلس، فلما انتهى بطل مفعوله، لأن المجلس يجمع المتفرقات.
__________
(1) البدائع: 20/6 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 328، نهاية المحتاج: 21/4، مغني المحتاج: 222/2، غاية المنتهى: 147/2.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 21/4، فتح القدير: 80/5 ومابعدها، الشرح الكبير: 5/3، مغني المحتاج: 6/2، غاية المنتهى: 5/2.(4/470)
4 - خروج الموجب عن أهليته قبل القبول بالموت أو بالجنون أو بالإغماء ونحوه وكذا فقد القابل أهليته بهذه الأسباب؛ لأن انعقاد العقد يتوقف على توافر الأهلية، فإذا فقدت لم ينعقد العقد، لاحتمال وجود الرجوع عن الإيجاب، أو لعدم فهم القبول، أو لعدم صدور قبول معتبر شرعاً.
5 - هلاك محل العقد قبل القبول، أو تغيره بما يصيره شيئاً آخر، مثل قلع عين حيوان، أو انقلاب عصير العنب خمراً، ونحو ذلك.
العنصر الثاني ـ العاقد:
الإيجاب والقبول اللذان يكونان ركن العقد كما تقدم، لا يتصور وجودهما من غير عاقد، فالعاقد ركيزة التعاقد الأصلية. لكن ليس كل واحد صالحاً لإبرام العقود، فبعض الناس لا يصلح لأي عقد، وبعضهم يصلح لإنشاء بعض العقود، وآخرون صالحون لكل عقد.
وهذا يعني أن العاقد لا بد له من أهلية للتعاقد بالأصالة عن نفسه، أو ولاية شرعية للتعاقد بالنيابة عن غيره. ويستلزم ذلك بحث الأهلية والولاية، لكن بقدر إجمالي، وأما تفصيل أحكام الأهلية والولاية فمتروك لكتب الفقه والأصول (1) المطولة، ولمادة الأحوال الشخصية ومدخل القانون، إذ إن نصوص الأهلية والولاية موزعة بين قانون الأحوال الشخصية والقانون المدني السوريين.
والذي يهمنا من بحث الأهلية أن العاقد يشترط فيه عند الحنفية والمالكية (2) : أن يكون عاقلاً أي مميزاً أتم سن السابعة (3) ، فلا ينعقد تصرف غير المميز لصغر أو إغماء أو جنون، وتصح تصرفات الصبي المميز (4) المالية على التفصيل الآتي (راجع المادة (967 من المجلة) :
أـ التصرفات النافعة نفعاً محضاً: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل، كالاحتطاب، والإحتشاش والاصطياد، وقبول الهبة والصدقة والوصية والكفالة بالدين، تصح من الصبي المميز دون إذن ولا إجازة من الولي، لأنها لنفعه التام.
__________
(1) راجع كتب الأصول وكتابي أصول الفقه الإسلامي: 163/1 ومابعدها، ط دار الفكر.
(2) حاشية ابن عابدين: 5/4، الشرح الكبير: 5/3.
(3) المميز: هو الذي إذا كلم بشيء من مقاصد العقلاء فهمه وأحسن الجواب عنه.
(4) اشترط الشافعية والحنابلة لانعقاد العقود: الرشد وهو البلوغ مع العقل، وصلاح الدين والمال، فلا يصح التصرف من صبي ولا مجنون ولا من محجور عليه بسفه أي تبذير المال. واستثنى الحنابلة شراء الشيء اليسير وتصرف الصبي بإذن وليه (مغني المحتاج: 7/2، غاية المنتهى: 5/2) .(4/471)
ب ـ التصرفات الضارة ضرراً محضاً: وهي التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل، كالطلاق والهبة والصدقة والإقراض وكفالته لغيره بالدين أو بالنفس لا تصح من الصبي العاقل ولا تنفذ، ولو أجازها وليه؛ لأن الولي لا يملك إجازة هذه التصرفات لما فيها من الضرر.
ج ـ التصرفات المترددة بين الضرر والنفع: وهي التي تحتمل الربح والخسارة كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والزواج والمزارعة والمساقاة والشركات ونحوها، تصح من الصبي المميز، ولكنها تكون موقوفة على إذن الولي أو إجازته مادام صغيراً أو على إجازته لنفسه بعد البلوغ؛ لأن للمميز جانباً من الإدراك غير قليل (1) . فإن أجيزت نفذت، وإلا بطلت، والإجازة تجبر نقص الأهلية.
والأشخاص بالنسبة للأهلية: إما عديم الأهلية وغير المميز فتعد تصرفاتهما باطلة، أو ناقص الأهلية كالصبي المميز فيصح بعض تصرفاته، ويبطل بعضها الآخر، ويتوقف بعضها على الإجازة على التفصيل السابق، أو كامل الأهلية وهو الراشد الذي تصح منه كل التصرفات وتنفذ ما لم يكن محجوراً عليه بسبب السفه أو الدين، أو كان ممنوعاً من التصرف بسبب مرض الموت أو الفقد أو الغياب. وكل ذلك يضطرنا إلى بحث الأهلية والولاية.
__________
(1) التلويح على التوضيح: 165/2 ومابعدها.(4/472)
وبه تعرف أحكام الأهلية إجمالاً علماً بأن القانون المدني استمد أحكامها من الفقه الإسلامي وذلك في المواد (46-50) وقد اعتبر القانون أحكام الأهلية من قواعد النظام العام التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على خلافها، فكل اتفاق مخالف لأحكامها باطل، ولا يجوز للشخص التنازل عن أهليته ولا التعديل في أحكامها (المادة 50) .
أولاً ـ الأهلية:
الأهلية في اللغة: الصلاحية، وفي اصطلاح الفقهاء: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق المشروعة له ووجوبها عليه، وصحة التصرفات منه. وهي نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء (1) .
أـ أهلية الوجوب: هي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام، أو هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له كاستحقاق قيمة المتلف من ماله، أو وجوبها عليه كالتزامه بثمن المبيع وعوض القرض، أي أن لهذه الأهلية عنصرين:
عنصر إيجابي: وهو صلاحية كسب الحقوق بأن يكون دائناً، وهو عنصر الإلزام أو الدائنية.
وعنصر سلبي: وهو صلاحية تحمل الواجبات أو الالتزامات بأن يكون مديناً، وهو عنصر الالتزام أو المديونية.
__________
(1) مرآة الأصول: 435/2، التقرير والتحبير: 164/2، كشف الأسرار على أصول البزدوي ص 1357، حاشية نسمات الأسحار: ص 272.(4/473)
ومناط هذه الأهلية: هو الحياة أو الصفة الإنسانية (1) ، فكل إنسان حتى الجنين في بطن أمه له أهلية وجوب، والأهلية تبدأ في الفقه مع بدء الشخصية، فهي ملازمة للشخصية، وصفة من صفات الشخصية. والشخصية تبدأ في فقهنا منذ بدء تكون الجنين في الرحم وتنتهي بالموت.
وفي القانون المدني تبدأ بتمام ولادة الإنسان حياً، وتنتهي بموته (م 31) .
والعنصر السلبي للأهلية (أي المديونية) يتطلب وجود شيء آخر في الشخصية وهو الذمة: وهي وصف شرعي مقدر كوعاء اعتباري في الشخص تثبت فيه الديون والالتزامات المترتبة عليه.
وبناء عليه: يتوقف ثبوت الحق للشخص على وجود أهلية فيه. وأما ثبوت الديون عليه فيتوقف على وجود ظرف اعتباري مفترض في كل شخص هو الذمة.
فيقال: لفلان في ذمة فلان مبلغ مالي كذا (2) .
وأهلية الوجوب نوعان: ناقصة وكاملة.
أهلية الوجوب الناقصة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له فقط أي تؤهله للإلزام ليكون دائناً لا مديناً. وتثبت للجنين في بطن أمه قبل الولادة. وسبب نقص أهليته أمران: فهو من جهة يعد جزءاً من أمه، ومن جهة أخرى يعد إنساناً مستقلاً عن أمه، متهيئاً للانفصال عنها بعد تمام تكوينه. لذا فإنه تثبت له بعض الحقوق الضرورية النافعة له: وهي التي لا تحتاج إلى قبول، وهي أربعة أنواع (3) :
1 - النسب من أبويه.
2 - الميراث من قريبه المورث، فيوقف له أكبر النصيبين على تقدير كونه ذكراً أو أنثى.
3 - استحقاق الوصية الموصى له بها.
4 - استحقاقه حصته من غلات الوقف الموقوفة عليه.
لكن الحقوق المالية الثلاثة الأخيرة ليست للجنين فيهاملكية نافذة في الحال بل تتوقف على ولادته حياً. فإن ولد حياً ثبتت له ملكية مستندة إلى وقت وجود سببها أي بأثر رجعي. وإن ولد ميتاً رد نصيبه إلى أصحابه المستحقين له. فغلة الوقف تعطى لبقية المستحقين، والموصى به يرد إلى ورثة الموصي، وحصة الميراث المجمدة له توزع لبقية الورثة. وثبوت الحق للجنين في الوقف هو رأي الحنفية والمالكية، أما رأي الشافعية والحنابلة فلا يثبت له حق التملك إلا بالإرث والوصية، فلا يصح عندهم الوقف على الجنين، لأنه يشترط إمكان التملك في الحال وهو لا يتملك.
__________
(1) المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقاء: ف 408.
(2) المرجع السابق: ف 410،مدخل نظرية الالتزام في الفقه للأستاذ الزرقاء أيضاً: ف 118 ومابعدها.
(3) كشف الأسرار على أصول البزدوي: ص 1359 ومابعدها، القواعد لابن رجب الحنبلي: ص 178 ومابعدها.(4/474)
أما الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة فلا تثبت له، ولو مارسها عنه وليه (الأب أو الجد) إذ ليس له ضرورة بها، ولأن الشراء له يلزمه بالثمن وهو ليس أهلاً للالتزام.
وأما الواجبات أو الالتزامات لغيره فلا تلزمه، كنفقة أقاربه المحتاجين (1) .
والخلاصة: إن الجنين له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب بعض الحقوق فقط، وليست له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات.
أهلية الوجوب الكاملة: هي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له، وتحمل الواجبات (أو الالتزامات) . وتثبت للشخص منذ ولادته حياً، دون أن تفارقه في جميع أدوار حياته، فيصلح لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات. ولا يوجد إنسان فاقد لهذه الأهلية.
وتحديد وجود الولادة: فيه رأيان للفقهاء، قال الحنفية (2) : تثبت أهلية الوجوب بمجرد ظهور أكثر الجنين حياً. وقال غير الحنفية (3) : لا تثبت هذه الأهلية إلا بتمام ولادة الجنين حياً. وبهذا الرأي أخذ القانون المدني السوري (م 13) وقانون الأحوال الشخصية السوري (م 1/236،2/260) .
وأما الحقوق الثابتة للطفل بعد الولادة: فهي التي تحصل له نتيجة التصرف الذي يمكن للولي أو الوصي أن يمارسه بالنيابة عنه، كتملك ما يشترى له أو يوهب له.
وأما الالتزامات الواجبة على الطفل فهي كل ما يستطاع أداؤه عنه من ماله، سواء من حقوق العباد أو من حقوق الله، وهي:
(1) الأعواض المالية في الأفعال المدنية كثمن المشتريات وأجرة الدار، أو في الأفعال الجنائية كتعويض المتلفات التي يتلفها من أموال الآخرين.
__________
(1) قرر فقهاء الحنابلة إيجاب نفقة الأقارب على الحمل من ماله (القواعد لابن رجب: ص181) .
(2) شرح السراجية: ص 216 وما بعدها.
(3) المغني: 316/6 ومابعدها.(4/475)
(2) والضرائب المالية للدولة كعشر الزرع وخراج الأرض (ضريبة الأراضي الزراعية) وضريبة ورسوم الجمارك والمباني وضريبة الدخل ونحوها.
(3) والصلات الاجتماعية المنوطة بالغنى كنفقة الأقارب والمعسرين وزكاة الفطر في رأي أبي حنيفة وأبي يوسف (1) . وزكاة المال في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية (2) ، رعاية لمصلحة الفقراء والمحتاجين والمجتمع بصفة عامة، وهو رأي أقوم وأفضل وأحق بالعمل، لاسيما في ظروفنا الحاضرة.
وأما الحنفية فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي لأنهم اعتبروها عبادة مالية، والطفل لا يكلف بالتكاليف الدينية إلا بعد البلوغ.
ويلاحظ أن أهلية الوجوب، ولو كانت كاملة ليس لها أثر في إنشاء العقود، فكل تصرف من الطفل غير المميز، حتى ولو كان نافعاً نفعاً محضاً له كقبول الهبة أو الوصية، يعد باطلاً، لأن عبارته ملغاة.
كذلك لا يجب على الطفل غير المميز شيء من العبادات الدينية كالصلاة والصوم والحج.
وأما الذمة المالية فتثبت للطفل كاملة بمجرد الولادة وتلازمه طوال الحياة.
2 - أهلية الأداء: هي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه (أو لممارستها ومباشرتها) على وجه يعتد به شرعاً، وهي ترادف المسؤولية، وتشمل حقوق الله من صلاة وصوم وحج وسواها، والتصرفات القولية أو الفعلية الصادرة عن الشخص. فالصلاة ونحوها التي يؤديها الإنسان تسقط عنه الواجب، والجناية على مال الغير توجب المسؤولية.
__________
(1) التلويح على التوضيح: 163/2 ومابعدها، ط صبيح، كشف الأسرار: ص 136ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 236/1 ومابعدها، ط الاستقامة.(4/476)
وأساس ثبوتها أو مناط هذه الأهلية هو التمييز أو العقل والإدراك، فمن ثبتت له أهلية الأداء صحت عباداته الدينية كالصلاة والصوم، وتصرفاته المدنية كالعقود (1) .
ولا وجود لهذه الأهلية للجنين أصلاً، ولا للطفل قبل بلوغ سن التمييز وهو تمام سن السابعة. فقبل التمييز تكون هذه الأهلية منعدمة، والمجنون مثل غير المميز لا تترتب على تصرفاتهما آثار شرعية، وتكون عقودهما باطلة، إلا أنهما يؤاخذان مالياً بالجناية أو الاعتداء على نفس الغير أو على ماله. ويقوم الولي (الأب أو الجد) أو الوصي بمباشرة العقود والتصرفات التي يحتاجها الطفل غير المميز أو المجنون.
وأهلية الأداء نوعان: ناقصة وكاملة.
أهلية الأداء الناقصة: هي صلاحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض الآخر، وهي التي يتوقف نفاذها على رأي غيره، وهذه الأهلية تثبت للشخص في دور التمييز بعد تمام سن السابعة إلى البلوغ. ويعد في حكم المميز: الشخص المعتوه الذي لم يصل به العته إلى درجة اختلال العقل وفقده، وإنما يكون ضعيف الإدراك والتمييز.
ويفرق بالنسبة للمميز والمعتوه بين حقوق الله وحقوق العباد:
أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز كالإيمان والكفر (2) والصلاة والصيام والحج، ولكن لا يكون ملزماً بأداء العبادات إلا على جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها.
وأما حقوق العباد فعند الشافعي وأحمد: تعد عقود الصبي وتصرفاته باطلة.
وأما عند الحنفية: فإن تصرفاته المالية أقسام ثلاثة: نافعة نفعاً محضاً وضارة ضرراً محضاً، ودائرة بين النفع والضرر، على النحو السابق الذي تقدم.
وأهلية الأداء الكاملة: هي صلاحية الشخص لمباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعاً دون توقف على رأي غيره. وتثبت لمن بلغ الحلم عاقلاً أي للبالغ الرشيد، فله بموجبها ممارسة كل العقود، من غير توقف على إجازة أحد.
__________
(1) التلويح على التوضيح: 164/2 ومابعدها، كشف الأسرار: ص1368 ومابعدها.
(2) اختلف الفقهاء في صحة الكفر من الصبي بالنسبة لأحكام الدنيا مع اتفاقهم على اعتبار الكفر منه في أحكام الآخرة. فعند أبي حنيفة ومحمد: تعتبر منه ردته، فيحرم من الميراث وتبين امرأته. وعند أبي يوسف والشافعي: لا يحكم بصحة ردته في أحكام الدنيا، لأن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة، فلا يصح من الصبي ولا يحرم من الإرث ولا تبين منه امرأته بالردة.(4/477)
والبلوغ يحصل إما بظهور علامة من علاماته الطبيعية كاحتلام الولد (أي الإنزال) ومجيء العادة الشهرية (الحيض) عند الأنثى، أو بتمام الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء غير أبي حنيفة لكل من الفتى والفتاة، وعليه الفتوى والعمل، جاء في المادة (985 مجلة) : «يثبت حد البلوغ بالاحتلام والإحبال والحيض والحبل» ونصت المادة (986 مجلة) : «على أن منتهى البلوغ خمس عشرة سنة» .
وقدر أبو حنيفة سن البلوغ بثماني عشرة سنة للفتى وسبع عشرة سنة للفتاة.
وقدره الإمام مالك لهما بتمام ثماني عشرة سنة، وقيل بتمام السابعة عشرة سنة والدخول في الثامنة عشرة (1) .
والسبب في ارتباط هذه الأهلية بالبلوغ: هو أن الأصل فيها أن تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل، والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيصبح الشخص عاقلاً بمجرد البلوغ، وتثبت له حينئذ أهلية أداءٍ كاملة ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية. وعندها يصبح الإنسان أهلاً للتكاليف الشرعية، ويجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها، وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليه مختلف آثارها ويؤاخذ شرعاً على جميع الأعمال أو الأفعال الجنائية الصادرة عنه.
أدوار الأهلية:
يفهم مما سبق أن أهلية الإنسان من مبدأ حياته في بطن أمه إلى اكتمال رجولته تمر في مراحل خمس أو أدوار خمسة هي:
دور الجنين، ودور الطفولة (عدم التمييز) ، ودور التمييز، ودور البلوغ، ودور الرشد (2) .
__________
(1) تفسير القرطبي: 37/5، الشرح الكبير: 393/3.
(2) راجع التقرير والتحبير: 166/2 ومابعدها، مرآة الأصول: 452/2 ومابعدها، فواتح الرحموت: 156/1 وما بعدها، حاشية نسمات الأسحار: ص 273، التلويح على التوضيح، كشف الأسرار، المرجعان السابقان.(4/478)
الدور الأول ـ دور الجنين: يبدأ من بدء الحمل وينتهى بالولادة، وفيه تثبت للجنين أهلية وجوب ناقصة تمكنه من ثبوت أربعة حقوق ضرورية له ذكرت سابقاً، وليست له أهلية أداء ولا ذمة مالية.
الدور الثاني ـ دور الطفولة: ويبدأ من وقت الولادة ويستمر إلى وقت التمييز وهو بلوغ السابعة من العمر. وفيه تثبت للطفل غير المميز أهلية وجوب كاملة، فيستحق الحقوق ويلتزم بالواجبات التي تكون نتيجة ممارسة وليه بعض التصرفات نيابة عنه، فإذا اشتري له أو وهب له ملك، وجب عليه العوض في المعاوضات المالية، وتكون له ذمة كاملة.
وليست له أهلية أداء، فتكون أقواله كلها هدراً، وعقوده باطلة، حتى ولو كانت نافعة نفعاً محضاً له كقبول الهبة أو الوصية، وينوب عنه فيها وليه الشرعي أو وصيه. جاء في المادة (966 مجلة) : «لا يصح تصرفات الصغير غير المميز وإن أذن له وليه» .
كذلك تكون أفعاله هدراً سواء أكانت دينية كالصلاة والصيام فلا تصح منه، أو مدنية كقبض المبيع أو الوديعة أو القرض، فلا تصح.
وأما جناياته كالقتل والضرب والقطع فلا تستوجب العقوبة البدنية، كالقصاص والحبس، ولا يحرم من الميراث بقتل مورثه لسقوط المؤاخذة عنه، وإنما يلزم في ماله بدفع التعويض أو ضمان ما أتلفه من الأنفس والأموال حفاظاً عليها.
الدور الثالث ـ دور التمييز: يبدأ بعد سن السابعة ويستمر إلى البلوغ عاقلاً.
ومعنى التمييز: أن يصبح الولد بحالة يميز فيها بين الخير والشر، والنفع والضرر، ويعرف معاني الألفاظ إجمالاً، فيدرك أن البيع مثلاً سالب للمال وأن الشراء جالب للملك.(4/479)
وفيه تثبت للمميز أهلية أداء ناقصة: دينية، ومدنية، فتصح منه العبادات البدنية كالصلاة والصيام، ويثاب عليها، وإن لم تكن مفروضة عليه. كما تصح منه مباشرة التصرفات المالية، مثل قبول الهبة أو الصدقة مطلقاً، والبيع والشراء موقوفاً على إجازة وليه. ولا يصح منه التصرف الضار بمصلحته كالتبرع بشيء من أمواله، على ما سبق بيانه.
الدور الرابع ـ دور البلوغ: يبدأ من البلوغ إلى وقت الرشد. وقد اتفق الفقهاء عملاً بالآيات القرآنية (1) والأحاديث النبوية (2) على أن البالغ يصبح مكلفاً بجميع التكاليف الشرعية. وتكتمل لديه أهلية الأداء الدينية، فيطالب بالإيمان بعناصره الستة (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) وبالإسلام بأركانه الخمسة (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد اً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً) . وبتطبيق أحكام الشريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، واحترام الأموال والأنفس والأعراض، واجتناب المحظورات الشرعية والمعاصي والمنكرات التي تضر بمصلحة الفرد والجماعة.
وأما أهلية الأداء المدنية: فتكتمل عند الفقهاء، خلافاً للقانون، بسن البلوغ إذا بلغ الولد راشداً، فتنفذ تصرفاته المالية وتسلم إليه أمواله. فإن لم يؤنس منه الرشد، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله؛ لأن الشرع جعل البلوغ أمارة على كمال العقل، فإن ثبت العكس عمل به. وسن الرشد في القانون السوري 81 سنة، و12 سنة في القانون المصري.
الدور الخامس ـ دور الرشد: الرشد أكمل مراحل الأهلية، ومعناه عند
__________
(1) مثل قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ... } [النساء:6/4] .
(2) مثل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» رواه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم عن علي وعمر.(4/480)
الفقهاء (1) : حسن التصرف في المال من الوجهة الدنيوية، ولو كان فاسقاً من الوجهة الدينية (م 947 مجلة) ويتوافر بتحقق الخبرة المالية بتدبير الأموال وحسن استثمارها. وهو أمر يختلف باختلاف الأشخاص والبيئة والثقافة.
فقد يرافق البلوغ، وقد يتأخر عنه قليلاً أو كثيراً، وقد يتقدمه، لكن لا اعتبار له قبل البلوغ، ومرجعه إلى الاختبار والتجربة عملاً بالآية القرآنية: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً، فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] .
وبناء عليه: إذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته، وارتفعت الولاية عنه، وسلمت إليه أمواله، ونفذت تصرفاته وإقراراته.
وإن بلغ غير رشيد بقي ناقص أهلية الأداء، واستمرت الولاية المالية عليه عند جمهور الفقهاء، فلا تنفذ تصرفاته، ولا تسلم إليه أمواله. أما الولاية على النفس كالتأديب والتطبيب والتعليم والتزويج فترتفع عنه بمجرد بلوغه عاقلاً، أي أن اشتراط الرشد محصور في التصرفات المالية، وأما غير ذلك كالزواج والطلاق فإنها نافذة منه بمجرد البلوغ عاقلاً.
وخالف أبو حنيفة في هذا فقال: إذا بلغ الشخص عاقلاً غير رشيد كملت أهليته، وارتفعت الولايةعنه، احتراماً لآدميته وحفاظاً على كرامته، ولكن لا تسلم إليه أمواله على سبيل الاحتياط والتأديب. لا على سبيل الحجر عليه، لأنه لا
__________
(1) هذا ما فسره ابن عباس، وهو مذهب الحنفية والمالكية. ويرى الشافعية أن الرشد: هو أن يتصف بالبلوغ والصلاح لدينه وماله (الدر المختار: 105/5، بداية المجتهد: 278/2، الشرح الصغير: 393/3، المغني: 467/4، مغني المحتاج: 7/2، 168) .(4/481)
يرى الحجر على السفيه (أي المبذر) ، وأما منع أمواله عنه فينتهي: إما بالرشد فعلاً، أو ببلوغه خمساً وعشرين سنة (1) .
وليس للرشد سن معينة عند جمهور الفقهاء، وإنما متروك لاستعداد الشخص وتربيته وبيئته، وليس في النصوص الشرعية تحديد له.
أما قانون الأحوال الشخصية السوري (م 16) والقانون المدني السوري (م46) فقد حدد سن الرشد فيها بـ (18) سنة ميلادية كاملة، وفي القانون المصري (21) سنة. فما قبل هذه السن لا تسلم للشخص أمواله، ولا تنفذ تصرفاته، فإذا بلغ الإنسان هذه السن سلمت إليه أمواله إذا لم يكن محجوراً عليه.
ورفع سن الرشد إلى هذا الحد يتفق مع ظروف الحياة الحديثة، التي تعقَّدت فيها المعاملات، وتدهورت فيها الأخلاق، وشاع الخداع والاحتيال، ولا مانع في الشريعة من ذلك عملاً بما تقتضيه المصلحة في حماية الناشئة وصيانة أموالهم.
عوارض الأهلية
أهلية الأداء: هي أساس التعامل والتعاقد كما عرفنا، إلا أن هذه الأهلية قد يعترضها بعض العوارض فتؤثر فيها، والعوارض: هي ما يطرأ على الإنسان فيزيل أهليته أو ينقصها أو يغير بعض أحكامها. وهي نوعان عند علماء أصول الفقه:
1 - عوارض سماوية: وهي التي لم يكن للشخص في إيجادها اختيار واكتساب.
2 - وعوارض مكتسبة: وهي التي يكون للشخص دخل واختبار في تحصيلها.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 104/5، بداية المجتهد: 276/2 ومابعدها. والعوارض السماوية أكثر تغييراً وأشد تأثيراً، مثل الجنون والعته والإغماء والنوم، ومرض الموت.
والعوارض المكتسبة: مثل السكر والسفه والدين.(4/482)
وسأقتصر هنا على إعطاء فكرة موجزة عن هذه العوارض، ما عدا مرض الموت والدين فإنهما يتطلبان مزيداً من البحث والإيضاح.
1 - الجنون: اختلال في العقل ينشأ عنه اضطراب أو هيجان (1) . وحكمه أنه سواء أكان مُطْبقاً (مستمراً) أم غير مطبق (متقطع) معدم للأهلية حال وجوده، فتكون تصرفات المجنون القولية والفعلية كغير المميز لاغية باطلة لا أثر لها.
ولكنه يطالب بضمان أفعاله الجنائية على النفس أو المال (2) . جاء في المادة (979 مجلة) : (المجنون المطبق هو في حكم الصغير غير المميز) .
2 - العته: ضعف في العقل ينشأ عنه ضعف في الوعي والإدراك، يصير به المعتوه مختلط الكلام، فيشبه مرة كلام العقلاء، ومرة كلام المجانين. ويتميز المعتوه عن المجنون بالهدوء في أوضاعه فلا يضرب ولا يشتم كالمجنون. فالمعتوه إذن: هو من كان عليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير. وحكمه حكم الصبي المميز كما سبق، أي أن لصاحبه أهلية أداء ناقصة (3) .
3 - الإغماء: تعطل القوى المدركة المحركة حركة إرادية بسبب مرض يعرض للدماغ أو القلب. وهو يشبه النوم في تعطيل العقل، إلا أن النوم عارض طبيعي، والإغماء غير طبيعي،
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 460.
(2) مرآة الأصول: 439/2، التقرير والتحبير: 173/2، كشف الأسرار: ص 1083، التلويح على التوضيح: 167/2.
(3) المراجع السابقة: المرآة 441/2، التقرير والتحبير: 176/2، كشف الأسرار: 1394/2 الدر المختار ورد المحتار: 100/5، التلويح: 168/2.(4/483)
فيكون حكمهما واحداً في التصرفات، وهو إلغاؤها وبطلانها لانعدام القصد عند المغمى عليه (1) .
4 - النوم: فتور طبيعي يعتري الإنسان في فترات منتظمة أو غير منتظمة لا يزيل العقل، بل يمنعه عن العمل، ولا يزيل الحواس الظاهرة، بل يمنعها أيضاً عن العمل. وعبارات النائم كالمغمى عليه لا اعتبار لها إطلاقاً (2) .
5 - السُّكْر: حالة تعرض للإنسان بامتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه، فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة. وهو نوعان: سكر بطريق مباح كالحاصل من الدواء أو البنج، أو حالة الاضطرار أو الإكراه. وسكر بطريق حرام كالحاصل من الخمر أو أي مسكر آخر حتى البيرة. والسكر بنوعيه لا يذهب العقل، بل يعطله فترة من الزمن، ويزيل الإرادة والقصد.
وحكمه على المشهور عند المالكية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة (3) : أنه يبطل العبارة ولا يترتب عليها التزام، فتبطل عقوده وتصرفاته لعدم سلامة القصد أو الإرادة، سواء أكان بطريق مباح أو محظور، فلا يصح يمينه وطلاقه وإقراره ولا بيعه وهبته ولا سائر أقواله (4) . إلا أن المالكية قالوا في الطلاق: لو سكر سكراً حراماً صح طلاقه، إلا أن لا يميز فلا طلاق عليه لأنه صار كالمجنون.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.
(3) الشرح الكبير: 5/3، 265/2، أعلام الموقعين: 48/4، ط السعادة، زاد المعاد: 40/4 ومابعدها، غاية المنتهى: 113/3.
(4) وهذا رأي الإمام أحمد في رواية عنه اختارها جماعة من الحنابلة، والطحاوي والكرخي وأبو يوسف وزفر من الحنفية، والمزني وابن سريج وغيرهما من الشافعية. وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية في سورية ومصر.(4/484)
وقال جمهور الفقهاء (غير المذكورين) (1) : يفرق بين السكر بمباح فليس لعبارته أي اعتبار، وبين السكر بمحرم، فتقبل عبارته زجراً له وعقاباً على تسببه في تعطيل عقله، فتعد تصرفاته من قول أو فعل صحيحة نافذة، عقاباً وزجراً له ولأمثاله، سواء في ذلك الزواج والطلاق والبيع والشراء والإجارة، والرهن والكفالة ونحوها.
6 - السفه: خفة تعتري الإنسان، فتحمله على العمل بخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة، والمراد به هنا ما يقابل الرشد: وهو تبذير المال وإنفاقه في غير حكمة، ولو في أمور الخير عند الحنفية (2) (م 946 مجلة) كبناء المساجد والمدارس والملاجئ.
والسفه لا يؤثر في الأهلية، فيظل السفيه كامل الأهلية، لكنه يمنع من بعض التصرفات.
الحجر على السفيه (3) : قد يبلغ الشخص سفيهاً، وقد يطرأ عليه السفه بعد بلوغه راشداً.
أـ من بلغ سفيهاً: اتفق الفقهاء على أنّ الصبي إذا بلغ سفيهاً يمنع عنه ماله، ويظل تحت ولاية وليه، لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها} [النساء:5/4] . ويستمر هذا المنع أبداً عند جمهور الفقهاء والصاحبين، حتى يتحقق رشده لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء:6/4] .
جاء في المادة (982 مجلة) : «إذا بلغ الصبي غير الرشيد لم تدفع إلىه أمواله، ما لم يتحقق رشده، ويمنع من التصرف كما في السابق» .
وقال أبو حنيفة: تنتهي فترة منع ماله عنه ببلوغه خمساً وعشرين سنة؛ لأن هذه السن غالباً يتحقق فيها الرشد، فإن لم يرشد لا ينتظر منه رشد بعدئذ. وأما تصرفاته في فترة منع ماله عنه فلا ينفذ منها إلا ما كان نافعاً نفعاً محضاً له أو الوصية في حدود الثلث، أو كانت لا تقبل الفسخ: وهي الزواج والطلاق والرجعة واليمين. ويمنع من باقي التصرفات.
ب ـ من بلغ رشيداً ثم صار سفيهاً: لا يجيز أبو حنيفة الحجر عليه، لأنه حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته وكرامته.
__________
(1) كشف الأسرار: ص 1471، التلويح: 175/2، التقرير والتحبير: 193/2، مرآة الأصول: 454/2.
(2) الدر المختار: 102/5، تبيين الحقائق: 192/5. إلا أن الشافعي لم يجعل الإسراف في وجوه البر سفهاً (مغني المحتاج: 168/2) .
(3) الحجر: هو منع نفاذ التصرفات القولية.(4/485)
وقال جمهور الفقهاء، والصاحبان (أبو يوسف ومحمد) وبرأيهما يفتى في المذهب الحنفي: يجوز الحجر على السفيه، رعاية لمصلحته، ومحافظة على ماله، حتى لا يكون عالة على غيره. ويكون حكمه حينئذ حكم الصبي المميز في التصرفات (1) ؛ لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/4] وقوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً، أو لا يستطيع أن يمل هو، فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/2] مما يدل على ثبوت الولاية على السفيه (2) . إلا أن الحجر على السفيه في هذه الحالة يكون بحكم قضائي، بالتثبت من السفه أو التبذير، ومنعاً من إلحاق الضرر بمن يتعامل مع السفيه من غير بينة وتحقق من حاله. وهذا رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى.
والحجر في هذه الحالة محصور في التصرفات التي تحتمل الفسخ، ويبطلها الهزل كالبيع والإجارة والرهن. أما التصرفات التي لا تحتمل الفسخ ولا يبطلها الهزل كالزواج والطلاق والرجعة والخلع، فلا يحجر عليه بالإجماع.
__________
(1) وعليه نصت المادة (990 مجلة) : السفيه المحجور عليه هو في المعاملات كالصغير المميز ... » .
(2) كشف الأسرار: ص 1489، التلويح على التوضيح: 191/2، التقرير والتحبير: 201/2، مرآة الأصول: 459/2، الدر المختار: 102/5 ومابعدها، بداية المجتهد: 276/2، 279، مغني المحتاج: 170/2، المغني: 469/4، الشرح الصغير: 382/3 ومابعدها.(4/486)
الغفلة والسفه:
الغفلة ملحقة بالسفه من ناحيةجواز الحجر عند جمهور الفقهاء وعدمه عند أبي حنيفة (1) . وذو الغفلة: هو من لا يهتدي إلى أسباب الربح والخسارة، كما يهتدي غيره، وإنما يخدع بسهولة بسبب البساطة وسلامة القلب، مما يؤدي إلى غبنه في المعاملات. وحكم المغفل والسفيه سواء. أما الفرق بينهما فهو أن السفيه كامل الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى سوء اختياره. وأما ذو الغفلة: فهو ضعيف الإدراك، ويرجع سوء تصرفه إلى ضعف عقله وإدراكه للخير والشر.
7 - الدين أو المديونية:
الخلاف الذي ذكرفي السفه والغفلة من ناحية الحجر وعدمه يجري في الدين. فأبو حنيفة لا يجيز الحجر على المدين، وإن استغرق دينه ماله، لأنه كامل الأهلية بالعقل، فلا حجر عليه، حفاظاً على حريته في التصرف وإنسانيته. وإنما يؤمر بسداد ديونه، فإن أبى يحبس ليبيع ماله بنفسه ويؤدي ما عليه من الديون.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) والأئمة الثلاثة: (مالك والشافعي وأحمد) (2) : يحجر القاضي على المدين الذي ترتبت عليه ديون حالّة الأجل،
__________
(1) تبيين الحقائق: 198/5.
(2) تبيين الحقائق: 199/5، رد المحتار على الدر المختار: 102/5، 105 ومابعدها، الشرح الصغير: 346/2، مغني المحتاج: 146/2، غاية المنتهى: 129/2، القواعد لابن رجب: ص 14، بداية المجتهد: 280/2.(4/487)
هذا مع العلم بأن أصل المذهب الحنفي عدم جواز الحجر بسبب الدين. لكن المفتى به عند الحنفية هو قول الصاحبين وهو جواز الحجر. وكانت ديونه مستغرقة لماله (أي محيطة بها) وطلب الدائنون الغرماء الحجر عليه (1) وهذا هو المفلس، والمفلس لغة: من لا مال له، وشرعاً، من دينه أكثر من ماله. وأجاز المالكية الحجر على المدين المفلس دون حاجة لحكم قضائي، أي على الغريم نفسه، ولو كان الدين المحيط بالمال مؤجلاً.
وبالحجر على المدين تنتقص أهليته، ويصبح كالصغير المميز، ومتى وقع الحجر عليه صارت تصرفاته المالية التي تضر بدائنيه موقوفة على إجازتهم، سواء أكانت تلك التصرفات تبرعات محضة كالهبة أو الوقف، أم معاوضات مشتملة على المحاباة في الثمن، كالبيع بأقل من القيمة، أو الشراء بأكثر من القيمة، فإن أجازوا التصرف نفذ، وإن رفضوه بطل.
وهذا يعني عند الحنفية: أنه إذا صح الحجر على المدين، صار المحجور كمريض عليه ديون الصحة، فكل تصرف أدى إلى إبطال حق الدائنين الغرماء، فالحجر (أي المنع من التصرف) يؤثر فيه كالهبة والصدقة.
وأما البيع: فإن كان بمثل القيمة جاز، وإن كان بغبن فلا يجوز، ويتخير المشتري بين إزالة الغبن، وبين الفسخ، كبيع المريض.
ويجوز له الزواج بمهر المثل والطلاق والخلع ونحو ذلك، كما يجوز له قبول الهبات والتبرعات.
8 - مرض الموت:
البحث فيه يتناول تعريفه وما يلحق به، والحقوق المتعلقة به، وحقوق المريض
__________
(1) نصت المادة (998 مجلة) على ما يأتي «لو ظهر عند الحاكم مماطلة المديون في أداء دينه حال كونه مقتدراً، وطلب الغرماء بيع ماله وتأدية دينه حجر الحاكم ماله. وإذا امتنع عن بيعه وتأدية الدين باعه الحاكم وأدى دينه..» ونصت المادة (999) على جواز حجر الحاكم المدين المفلس الذي دينه مساوٍ لماله أو أزيد ...(4/488)
نفسه، وحقوق الدائنين والموصى لهم والورثة، وتصرفات المريض نفسه، وإقراره (1) .
أـ تعريفه: هو المرض الذي يعجز الرجل أو المرأة عن ممارسة أعمالها المعتادة ويتصل به الموت قبل مضي سنة من بدئه، إذا لم يكن في حالة تزايد أو تغير، فإن كان يتزايد اعتبر مرض موت من تاريخ اشتداده أو تغيره، ولو دام أكثر من سنة (م1595 مجلة) .
ويقال لصاحبه: المريض؛ ويقابله: الصحيح. وهذا هو مراد فقهاء الحنفية عند إطلاق كلمة (المريض) أي من هو في مرض الموت. أو كلمة (الصحيح) أي من ليس في حال مرض الموت، ولو كان مريضاً بمرض آخر.
ولا بد لتوافر معنى مرض الموت من أمرين: أن يكون مما يغلب فيه الهلاك عادة وأن يتصل به الموت فعلاً، ولو من حادث آخر كالقتل والحرق والغرق وغيرها.
وبناء عليه ألحق الفقهاء به حالات مثل (2) :
ركاب سفينة جاءتها ريح عاصف، وظنوا أن الموت نازل بهم.
الأسرى لدى دولة اعتادت قتلهم.
المجاهد الذي خرج للقاء العدو بائعاً نفسه في سبيل الله والوطن.
ب ـ حكمه والحقوق المتعلقة به: مرض الموت لا ينافي أهلية وجوب الأحكام الشرعية في حقه، سواء حقوق الله وحقوق العباد وأهلية العبادة، لأنه لاتأثير له على الذمة والعقل والنطق.
ولا ينافي أيضاً أهلية الأداء؛ لأنه لا يخل بالعقل، فتجب للمصاب به حقوق غيره، كما تجب على الصحيح. وتظل عباراته وأقواله معتبرة كالبيع والهبة والإجارة والزواج والطلاق وسائر التصرفات.
إلا أنه يحجر عليه ويمنع من بعض التصرفات كالمديون حماية لحقوق الدائنين التي تصبح متعلقة بماله بعد أن كانت متعلقة بذمته فقط، وحماية لحقوق الورثة أيضاً التي تصبح متعلقة بأعيان وموجودات التركة نفسها في رأي أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه.
ج ـ حقوق المريض الخاصة: تصرفات المريض الضرورية الخاصة بشخصه وأسرته نافذة، لا تتوقف على إجازة أحد، وهي ما يلي:
أولاً ـ النفقات الضرورية اللازمة للطعام والكسوة والسكنى له ولمن تلزمه نفقته، أو اللازمة للعلاج كأجر الطبيب وثمن الدواء وأجور عملية جراحية ونحوها.
__________
(1) راجع التلويح على التوضيح: 177/2، كشف الأسرار: ص 1427، التقرير والتحبير: 186/2، مرآة الأصول: 447/2، البدائع: 224/7 ومابعدها، الدر المختار: 481/4 ومابعدها.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 340.(4/489)
ثانياً ـ الزواج: للمريض إبرام عقد زواج، لأنه قد يحتاج إلى من يخدمه أو يؤنسه، بشرط ألا يزيد المهر الذي يحدده على مهر المثل، فإن زاد عليه كانت الزيادة تبرعاً وصية موقوفة على إجازة الورثة إن زادت على ثلث التركة، فإن كانت في حدود هذا الثلث نفذت بدون إجازتهم.
ثالثاً: الطلاق: الطلاق نافذ أثناء مرض الموت باتفاق الفقهاء، لكنه إذا كان بائناً بغير رضا المرأة ومات الرجل في أثناء العدة، استحقت الميراث منه، لأنه بطلاقها يعتبر فارّ اً (هارباً) من ميراثها، فيعامل بنقيض مقصوده. وهذا رأي الحنفية، وعليه العمل في المحاكم الحالية (1) . والخلع جائز أيضاً كالطلاق لكن الرجل لا يستحق من بدل الخلع الذي تدفعه المرأة له إذا ماتت في العدة إلا الأقل من ثلاثة (بدل الخلع، وثلث تركة الزوجة، ونصيب الزوج من ميراثه منها) . وإن ماتت بعد العدة استحق الأقل من اثنين (بدل الخلع، وثلث التركة) .
رابعاً ـ العقود الواردة على المنافع، سواء أكانت بعوض أم بغير عوض كالإجارة والإعارة والمزارعة والمساقاة ونحوها. للمريض مباشرة هذه العقود ولو كان العقد بأقل من عوض المثل، دون أن يحق لأحد من الورثة أو الدائنين الاعتراض عليه؛ لأن المنافع ليست أموالاً في مذهب الحنفية، فلا يتعلق بها حق لأحد الورثة أو الدائنين، ولأن التصرف في المنافع ينتهي بمجرد موت أحد العاقدين، فلا يكون هناك حاجة لاعتراض الدائنين أو الورثة. وأما غير الحنفية الذين يعدون المنافع أموالاً، فإن التصرف فيها خاضع لإجازة أصحاب الحق.
خامساً ـ العقود المتعقلة بالربح ولا تمس رأس المال كالشركة والمضاربة تصحان من المريض، ولو بغبن؛ لأن الربح كالمنافع لا حق لأحد فيه، ولأن الشركة تبطل بموت المريض، فلا ضرر فيها على أحد؛ لأن حقوق الورثة أو الدائنين تتعلق بأعيان التركة أو بماليتها.
__________
(1) هناك آراء أخرى: يرى الحنابلة أنها تستحق الميراث ولو انقضت عدتها مالم تتزوج قبل موته. ويرى المالكية: أنها تستحق الميراث ولو تزوجت غيره قبل الموت. وقال الشافعية: لاتستحق الميراث أصلاً، ولو مات زوجها وهي في العدة.(4/490)
والخلاصة: إن كل تصرف يضطر إليه المريض، أو لا يمس حقوق الدائنين أو الورثة هو نافذ لا يتوقف على إجازة أحد.
د ـ حقوق الدائنين: تأتي بعد حقوق المريض الخاصة. فإذا كان المريض مديناً منع من التصرف الضار بمصلحة الدائنين. وعليه إذا كان المريض مديناً بدين مستغرق (محيط بكل ماله) منع من التبرعات أو ما في حكمها، كالهبة والوقف والوصية بشيء من أمواله، والبيع أو الشراء بالمحاباة. ويكون تصرفه موقوفاً على إجازة الدائنين بعد وفاة المريض.
وإن كان المريض مديناً بدين غير مستغرق، اعتبر تصرفه مع غير الوارث نافذاً إذا لم يشتمل على غبن فاحش. أما إذا حدث التصرف مع وارث، فله حكم الوصية: ينفذ من الثلث بعد وفاء الديون. ويتوقف على إجازة الورثة فيما يزيد عن الثلث.
هـ ـ حقوق الموصى له: للمريض أن يوصي بقدر ثلث التركة، فإذا مات مديناً بدين مستغرق للتركة بطلت الوصية، إلا إذا أجازها الدائنون. وإذا لم يكن مديناً أو مديناً بدين غير مستغرق نفذت الوصية لأجنبي في حدود ثلث التركة. وإن كانت الوصية لوارث صارت موقوفة على إجازة الورثة، مهما كان الموصى به، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» .(4/491)
وـ حقوق الورثة: تتعلق حقوق الورثة بثلث تركة المريض بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا. فإن لم يكن هناك ديون ولا وصايا استحقوا التركة كلها. وتأتي حقوقهم بعد حقوق الدائنين والموصى لهم. وبناء عليه: كل تصرف من المريض لايضر بحقوق الورثة يكون صحيحاً نافذاً لا اعتراض لأحد عليه. وإن كان التصرف ضاراً بحقوقهم، كان لهم مع نفاذه حال الحياة حق إبطاله بعد الموت إن كان مما يقبل الفسخ كالتبرعات. لكن ما نوع حق الورثة بالتركة: هل هو حق شخصي أو حق عيني (1) ؟
قال أبو حنيفة: يتعلق حق الورثة بمالية التركة إن تصرف المريض لأجنبي غير وارث، ويتعلق حقهم بأعيان التركة وذاتها نفسها إن تصرف المريض لوارث، أي أن حقهم في الحالة الثانية حق عيني، وفي الأولى حق شخصي. ويترتب عليه: يصح تصرف المريض لغير الوارث ببعض أموال التركة بمثل القيمة، دون اعتراض من أحد الورثة. ولا يصح تصرف المريض لوارث ببعض أموال التركة ولو بقيمته بلا أي غبن. ويحق لباقي الورثة نقض هذا التصرف لما فيه من ضرر بمصلحتهم؛ لأن حقهم تعلق بأعيان التركة، وإيثار بعض الورثة على بعض لا يجوز. أما في حال تصرف المريض مع غير الورثة فإن حقهم تعلق بقيمة التركة أو ماليتها.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) : يتعلق حق الورثة كحق الدائنين العاديين بمالية التركة، أي بقيمتها، لا بأعيانها، سواء أكان تصرف المريض مع وارث أم غير وارث. فيصح تصرف المريض بمال مطلقاً (لوارث أو لغير وارث) إذا كان بثمن المثل أي بدون غبن، إذ ليس فيه ضرر بباقي الورثة؛ لأن حقوقهم في التركة متعلقة بناحية أنها مال فقط.
__________
(1) الحق الشخصي: هو علاقة بين شخصين يكون أحدهما مكلفاً تجاه الآخر بعمل أو بالامتناع عن عمل كحق الدائن في ذمة المدين، أو حق المودع على الوديع في ألا يستعمل الوديعة. والحق العيني: علاقة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته مثل حق الملكية على الأموال وحق الارتفاق المقرر على عقار معين مثل حق المرور أو المسيل.(4/492)
والخلاصة: أن هناك ـ على الرأي الراجح وهو رأي أبي حنيفة ـ فرقاً بين حق الدائنين وحق الورثة: وهو أن حق الدائنين يتعلق بمال المدين فقط، لا بأعيان التركة نفسها. حتى جاز للمريض مبادلة مال بيعاً أو شراءً دون حاجة لإذن الدائن، ويجوز للورثة إعطاء الدائن دينه نقداً، ثم يتصرفون بأعيان التركة كما يشاؤون.
ز ـ تصرفات المريض: إذا كان التصرف الصادر من المريض لا يقبل الفسخ أو الإبطال كالزواج والطلاق والرجعة والعفو عن القصاص، نفذ بعد الموت في حدود ثلث التركة. وإن كان التصرف قابلاً للفسخ، كان موقوفاً على إجازة أصحاب الحق بعد الوفاة إذا كان ضاراً بمصلحتهم كالتبرع والهبة والوقف وبيع المحاباة، وكالبيع المشتمل على غبن. فإن كان التصرف لا غبن فيه، ومع أجنبي غير وارث، نفذ ولم يتوقف على إجازة أحد.
ح ـ إقرار المريض: للمريض أن يقر بدين عليه لأجنبي أو لوارث. فإن كان لأجنبي غير وارث فهو صحيح نافذ دون حاجة لإجازة الورثة، ولو أحاط الإقرار بجميع ماله (م 1601 مجلة) ، لكن تقدم عليه عند الحنفية ديون الصحة (1) .
وإن كان الإقرار لوارث فلا ينفذ إلا بإجازة باقي الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإلا بطل. لكن يصح الإقرار لوارث استثناء كما في حال الإقرار بقبض أمانته الموجودة عند وارث، أو باستهلاك الأمانة أو الوديعة الموجودة عنده لوارث (م1598 مجلة) .
__________
(1) ديون الصحة: هي الديون التي تثبت قبل مرض الموت، ولو بالإقرار وحده حينئذ. وقال غير الحنفية: دين الصحة ودين المرض يتساويان، فلا يقدم دين الصحة على دين المرض، لأنهما حقان ثابتان.(4/493)
ثانياً ـ الولاية:
معناها والفرق بينها وبين الأهلية، صلتها بالعقد، أنواعها، الأولياء ودرجاتهم، محتاجو الولاية، مبدأ الولاية، شروط الولاية، تصرفات الولي (مدى صلاحياته) .
تعريف الولاية: الولاية في اللغة: هي تولي الأمر والقيام به أو عليه. وفي اصطلاح الشرع: هي سلطة شرعية يتمكن بها صاحبها من إنشاء العقود
والتصرفات وتنفيذها، أي ترتيب الآثار الشرعية عليها. والولاية على القاصر: هي إشراف الراشد على شؤون القاصر الشخصية والمالية.
صلتها بالعقد والفرق بينها وبين الأهلية: يتطلب العقد لوجوده ونفاذه وترتيب آثاره الشرعية أن يكون العاقد ذا أهلية أداء، وذا ولاية على العقد بأن يكون أصيلاً عن نفسه أو ولياً أو وصياً على غيره. فإن لم يكن أصيلاً أو ولياً أو وصياً كان فضولياً.
وأهلية الأداء شرط انعقاد العقد ووجوده، فإن لم تتوافر كان العقد باطلاً. أما الولاية فهي شرط لنفاذ العقد (1) وترتب الآثار الشرعية عليه. وهي لا تثبت إلا لكامل أهلية الأداء. أما ناقص أهلية الأداء فلا ولاية له على نفسه ولا على غيره.
وأهلية الأداء: صلاحية الشخص لمباشرة العقود. والولاية: صلاحية الشخص لإنفاذ العقود.
وبناء عليه يكون للعقد بالنظر للأهلية والولاية أحوال ثلاث (2) :
1 - إذا كان العاقد كامل الأهلية وصاحب ولاية: اعتبر العقد صحيحاً نافذاً إلا إذا كان فيه ضرر بآخر فيصبح موقوفاً على الإجازة، كالتصرف بالمأجور أو المرهون قبل انتهاء مدة الإجازة أو قبل أداء الدين، وتصرف المدين الذي يضر الدائنين، وتصرف المريض مرض الموت، على ما سبق بيانه.
2 - إذا صدر العقد من عديم الأهلية وفاقد الولاية، كالمجنون والصبي غير
__________
(1) النفاذ في الأصل: المضي والجواز، ثم أطلق عند الفقهاء على مضي العقد دون توقف على الإجازة أو الإذن.
(2) الأموال ونظرية العقد للدكتور محمد يوسف موسى: ص 351.(4/494)
المميز، كان باطلاً. فإن كان العاقد ناقص الأهلية كالصبي المميز، توقف عقده المتردد بين الضرر والنفع كالبيع على إجازة وليه أو وصيه، على ما سبق بيانه.
3 - إذا صدر العقد من صاحب أهلية أداء كاملة، ولكنه فاقد الولاية، وهو الفضولي، كان موقوفاً على إجازة المعقود له، على ما سيتضح في بحث لاحق، أي أنني سأخصص مبحثاً مستقلاً لكل من الوكالةوالفضالة باعتبارهما من أنواع النيابة عن الغير حال الحياة.
أنواع الولاية: الولاية إما أن تكون أصلية: بأن يتولى الشخص عقداً أوتصرفاً لنفسه، بأن يكون كامل أهلية الأداء (بالغاً عاقلاً راشداً) ، أو نيابية: بأن يتولى الشخص أمور غيره.
والولاية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغير: إما أن تكون اختيارية أو إجبارية (1) :
الاختيارية: هي الوكالة أي تفويض التصرف والحفظ إلى الغيرعلى ماسيأتي.
والإجبارية: هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف لمصلحة القاصر، كولاية الأب أو الجد أو الوصي على الصغير، وولاية القاضي على القاصر. فمصدر ولاية الأب أو الجد أو القاضي هو الشرع. ومصدر ولاية الوصي إما اختيار الأب أو الجد، أو تعيين القاضي.
والولاية النيابية الإجبارية: إما أن يكون ولاية على النفس أو ولاية على المال.
الولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل في حرفة ونحو ذلك. وليس هنا محل بحثها.
والولاية على المال: هي الإشراف على شؤون القاصر المالية من حفظ المال واستثماره وإبرام العقود والتصرفات المتعلقة بالمال. وهي محل البحث هنا.
__________
(1) البدائع: 152/5.(4/495)
الأولياء ودرجاتهم:
الولاية على النفس: تثبت للأقرب فالأقرب من العصبات (1) على الترتيب التالي:
1 - البنوة (الأبناء ثم أبناء الأبناء) فابن المجنون والمجنونة مثلاً يتولى شؤونهما الشخصية.
2 - الأبوة (الآباء ثم الأجداد) .
3 ـ الأخوة (الإخوة ثم أبناء الإخوة) .
4 - العمومة (الأعمام ثم أبناء الأعمام) .
وهذا هو ترتيب الإرث والولاية في الزواج، وقد نصت على ذلك المادة (21) من قانون الأحوال الشخصية السوري.
والولاية على المال: بالنسبة للصغير القاصر: تثبت عند الحنفية على الترتيب التالي: الأب، ثم وصي الأب، ثم الجد، ثم القاضي، ثم وصي القاضي: وهو من يعينه القاضي.
__________
(1) العصبات: قرابة الشخص الذكور من جهة الأب، كالأخ والعم وابن العم.(4/496)
والسبب في هذا الترتيب (1) : أن الأب أوفر الناس شفقة على ولده. ويعقبه وصيه الذي اختاره ليقوم مقامه، والظاهر أنه ما اختاره من بين سائر الناس إلا لعلمه بأن شفقته على الصغير مثل شفقته عليه. والجد يأتي بعدئذ لأن شفقته دون شفقة الأب. ووصيه يليه ويقوم مقامه، لأنه وثقه وارتضاه. والقاضي أمين على مصالح الأمة وبخاصة اليتامى فصلح أن يكون ولياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا ولي له» .
يتبين من ذلك أن الأب، والجد أب الأب لهما ولاية تامة على النفس وعلى المال معاً. وقد نصت على ذلك المادة (170) من قانون الأحوال الشخصية السوري: «للأب ثم للجد العصبي ولاية على نفس القاصر وماله، وهما ملتزمان بالقيام بها» .
كما نصت المادة 1/172) على من تثبت له الولاية على المال: «للأب وللجد العصبي عند عدمه دون غيرهما ولاية على مال القاصر حفظاً وتصرفاً واستثماراً» . ونصت المادة (177) على الوصي المختار: وهو من يختاره الأب أو الجد قبل موته: «يجوز للأب وللجد عند فقدان الأب أن يقيم وصياً مختاراً لولده القاصر، أو الحمل، وله أن يرجع عن إيصائه» . ونصت المادة (771) على وصي القاضي: وهو من يعينه القاضي: «إذا لم يكن للقاصر أو الحمل وصي مختار تعين المحكمة وصياً» .
من يحتاج إلى الولاية:
تثبت الولاية على الصغير القاصر والمجنون والمعتوه، والمغفل، والسفيه، وقد اصطلح قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (163) على تسميات لأنواع الولاية على هؤلاء كما يبدو من النص التالي:
«1 - النيابة الشرعية عن الغير تكون إما ولاية، أو وصاية أو قوامة، أو وكالة قضائية.
2 - الولاية للأقارب للأب أو غيره، والوصاية على الأيتام، والقوامة على المجانين والمعتوهين، والمغفلين والسفهاء. والوكالة القضائية عن المفقودين» .
والحقيقة أن حالات النيابة الشرعية الأربع هذه كلها داخلة تحت كلمة (الولاية) عند فقهائنا كما تبين لدينا.
__________
(1) البدائع: 152/5، 155.(4/497)
أما الولاية على مال الصغير القاصر: فتكون لأحد الأولياء الستة الذين ذكروا سابقاً وهم (الأب ووصيه، والجد ووصيه، والقاضي ووصيه) (1) .
وأما الولاية على المجنون أو المعتوه: إذا بلغ على هذه الحالة، فإنها تكون لمن كان وليه قبل البلوغ من أب أو جد أو وصي، باتفاق المذاهب الأربعة، كما تقدم.
فإن بلغ الشخص رشيداً ثم طرأ عليه الجنون أو العته، عادت إلىه ولاية من كان وليه قبل البلوغ، على الرأي الراجح عند الحنفية، والشافعية (2) .
وقال المالكية والحنابلة: تكون الولاية عليه حينئذ للقاضي، ولا تعود لمن كانت له من أب أو جد؛ لأن الولاية سقطت ببلوغ الصغير رشيداً، والساقط لايعود (3) .
وقانون الأحوال الشخصية السوري أخذ بالرأي الثاني في المادة (002) وهي: «1ً - المجنون والمعتوه محجوران لذاتهما، ويقام على كل منهما قيم بوثيقة» ومعنى المادة أن تصرفات المجنون والمعتوه تعد باطلة، ولو قبل شهر قرار الحجر عليهما، حماية لمصالحهما.
وأما القانون المدني السوري في المادة (115) فلم يعتبر تصرفات المجنون والمعتوه باطلة إلا بعد شهر قرار الحجر عليهما حماية لاستقرار المعاملات إلا في حالتين استثناهما نص المادة وهي:
1 - يقع باطلاً تصرف المجنون والمعتوه، إذا صدر التصرف بعد شهر قرار الحجر.
2 - أما إذا صدر التصرف قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بينة منها.
وأما الولاية على السفيه وذي الغفلة: فإنها تكون للقاضي باتفاق المذاهب الأربعة (4) ؛ لأن الحجر عليهما متوقف على قضاء القاضي، حفاظاً على مالهما ومراعاة لمصلحتهما.
وعلى هذا تكون تصرفاتهما صحيحة نافذة قبل إيقاع الحجر عليهما. نصت المادة (2/200) من قانون الأحوال الشخصية السوري على ذلك فيما يأتي: «السفيه والمغفل يحجران قضاء، وتصرفاتهما قبل القضاء نافذة، ويقام على كل منهما قيم بقرار الحجر نفسه، أو بوثيقة على حدة» .
__________
(1) الولاية في مذهبي المالكية والحنابلة تكون أولاً للأب ثم لوصيه، ثم للحاكم، ثم لمن يقيمه أميناً عنه ولا ولاية للجد وغيره من القرابة (الشرح الكبير للدردير: 292/3، غاية المنتهى: 140/2) وعند الشافعية: الولاية للأب أولاً ثم للجد أبي الأب، ثم لوصيهما ثم القاضي أي العدل الأمين (نهاية المحتاج: 355/3) .
(2) تبيين الحقائق: 195/5 وما بعدها، مغني المحتاج: 171/2، نهاية المحتاج: 356/3.
(3) غاية المنتهى: 142/2، الشرح الكبير للدردير: 292/3.
(4) المراجع السابقة: مغني المحتاج: 170/2.(4/498)
واشترط القانون المدني السوري لإبطال تصرف المغفل والسفيه شهر قرار الحجر إلا في حالتين نصت المادة (116) منه على ما يأتي:
«1- إذا صدر تصرف من ذي الغفلة أو من السفيه بعد شهر قرار الحجر، سرى على هذا التصرف ما يسري على تصرفات الصبي المميز من أحكام.
2 - أما التصرف الصادر قبل شهر قرار الحجر، فلا يكون باطلاً أو قابلاً للإبطال، إلا إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ» .
وأما الوكالة القضائية: فهي نوع من الولاية قررتها القوانين النافذة في أحوال ثلاث:
1 - المفقود والغائب: نص قانون الأحوال الشخصية السوري في المواد (202 - 206) على أصولهما والأحكام المتعلقة بهما، ومنها أن المفقود: هو كل شخص لا تعرف حياته أو مماته، أو تكون حياته محققة، ولكن لا يعرف له مكان (م 202) ومنها أنه يعتبر كالمفقود: الغائب الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه، أو بوكيل عنه، مدة أكثر من سنة، وتعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره.
أما حكم زوجة المفقود فقد نصت المادة (109) من هذا القانون على أنه: «إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول، أو حكم بعقوبة السجن أكثر من ثلاث سنوات، جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه» .
والتفريق للغيبة بعد سنة في هذه المادة مأخوذ من القول المعتمد في مذهب المالكية. وأما أموال المفقود: فقد نصت المادة (302) من هذا القانون على حكمها فيما يأتي:
1 - يوقف للمفقود من تركة مورثه نصيبه فيها، فإن ظهر حياً أخذه، وإن حكم بموته رد نصيبه إلى من يستحقه من الورثة وقت موت مورثه.
2 - إن ظهر حياً بعد الحكم بموته، أخذ ما بقي من نصيبه في أيدي الورثة ولا توزع تركة المفقود قبل موته أو الحكم باعتباره ميتاً عند بلوغه الثمانين من العمر (م205) .
2 -المصاب بعاهتين من ثلاث عاهات هي الصمم والبكم والعمى.(4/499)
نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (118) : «1 - إذا كان الشخص أصم أبكم، أو أعمى أصم، أو أعمى أبكم، وتعذر عليه بسبب ذلك التعبير عن إرادته، جاز للمحكمة أن تعين له مساعداً قضائياً يعاونه في التصرفات التي تقتضي مصلحته فيها ذلك» .
3 - المحكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال:
نص قانون العقوبات السوري في المادة 50 على عقوبة تبعية لهذا الشخص بالإضافة إلى السجن، وهي الحجر عليه، أو منعه من التصرف بماله، وتعيين وصي يشرف على أمواله، ونص هذه المادة ما يأتي:
«1 - كل محكوم عليه بالأشغال الشاقة أو بالاعتقال يكون في خلال تنفيذ عقوبته في حالة الحجر، وتنقل ممارسة حقوقه على أملاكه، ما خلا الحقوق الملازمة للشخص (أي كالطلاق) إلى وصي وفقاً لأحكام قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بتعيين الأوصياء على المحجور عليهم، وكل عمل وإدارة أو تصرف يقوم به المحكوم عليه يعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً مع الاحتفاظ بحقوق الغير من ذوي النية الحسنة، ولا يمكن أن يسلم إلى المحكوم عليه أي مبلغ من دخله ما خلا المبالغ التي يجيزها القانون وأنظمة السجون» .
مبدأ الولاية:
تبدأ الولاية على الأشخاص منذ ولادتهم، وتستمر حتى سن الرشد، أما الجنين فلا ولاية لأحد عليه قبل الولادة عند غالبية الفقهاء، فلو اشترى له شخص شيئاً أو وهب له شيء، فلا يتملكه، حتى ولو ولد حياً، وإنما تثبت له الحقوق الضرورية الأربعة التي ذكرت سابقاً.(4/500)
لكن قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (176) الذي أخذ بالمقرر في فقه الشريعة الزيدية، وقانون الولاية على المال الصادر بمصر سنة 1952م أجازا للأب أو للجد تعيين وصي للحمل المستكن. والوصي المقصود هنا في تقديري ليس مجرد أمين لحفظ المال حتى الولادة كما فهم كثير من الشراح، وإنما الذي له صلاحيات الأوصياء عادة، عملاً بإطلاق النص، وبالمفهوم من التسوية في الحكم بين وصي الحمل، ووصي القاصر في مادة واحدة، وتحقيقاً للهدف المنشود من تعيين الوصي وهو رعاية مصلحة الجنين وتثمير ماله وتنميته فضلاً عن حفظه.
شروط الولي:
الولاية مسؤولية كبرى في إدارة أموال وأعمال الغير، ويترتب عليها نفاذ التصرفات غالباً، لذا يشترط في الولي الخاص كالأب أو الجد أو الولي العام كالقاضي وناظر الوقف ومدير المؤسسة الخيرية شروط إما في شخصه أو في تصرفاته (1) .
1 - كمال أهلية الأداء بالبلوغ والعقل، فلا ولاية للمجنون ولا للصغير، لأنه لا ولاية لهما على أنفسهما، فلا تكون لهما ولاية على غيرهما، إذ فاقد الشيء لايعطيه.
2 - اتحاد الدين بين الولي والمولى عليه، فلا تثبت ولاية لغير المسلم على المسلم، كما لا ولاية للمسلم على غير المسلم؛ لأن اتحاد الدين باعث غالباً على الشفقة ورعاية المصلحة.
__________
(1) مختصر الطحاوي: ص 160 ومابعدها، البدائع: 153/5، الدر المختار ورد المحتار: 495/5.(4/501)
3 - العدالة: أي الاستقامة على أمور الدين والأخلاق والمروءات (1) ، فلا ولاية للفاسق؛ لأن فسقه يجعله متهماً في رعاية مصالح غيره.
4 - القدرة على التصرف مع الأمانة: لأن المقصود من الولاية تحقيق مصلحة المولى عليه، وهي لا تتحقق مع العجز وعدم الأمانة (2) .
5 - رعاية مصلحة المولى عليه في التصرفات، لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [الإسراء:34/17] فليس للولي سلطة في مباشرة التصرفات الضارة بالمولى عليه ضرراً محضاً، كالتبرع من مال القاصر بالهبة أو الصدقة، أو البيع أو الشراء بغبن فاحش، أو الطلاق. فإن أمكن تنفيذها على الولي نفسه نفذت وإلا كانت باطلة.
أما التصرفات النافعة نفعاً محضاً كقبول الهبة والوصية والكفالة بالمال، والتصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء بغبن يسير أو بمثل القيمة، فتكون صحيحة نافذة.
إذا أخل الولي بأحد هذه الشروط، جاز للقاضي تبديله بسبب نقص الأهلية أو الكفر أو الفسق. فإن صار الولي غير أمين ضم القاضي إليه مساعداً آخر يعينه.
__________
(1) نصت المادة 1/178على ما يلي:: «يجب أن يكون الوصي عدلاً قادراً على القيام بالوصاية ذا أهلية كاملة، وأن يكون من ملة القاصر» .
(2) منع قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة 2/178الوصي من الولاية في حالات، ونصها هو:
لا يجوز أن يكون وصياً:
أـ المحكوم عليه في جريمة سرقة أو إساءة الائتمان، أو تزوير أو في جريمة من الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة.
ب ـ المحكوم بإفلاسه إلى أن يعاد إليه اعتباره.
ج ـ من قرر الأب أو الجد عند عدمه حرمانه من التعيين قبل وفاته إذا ثبت ذلك ببينة خطية.
د ـ من كان بينه هو أو أحد أصوله أو فروعه أو زوجه وبين القاصر نزاع قضائي، أو خلاف عائلي يخشى منه على مصلحة القاصر.(4/502)
تصرفات الولي ومدى صلاحياته:
يتبين من شروط الولي أنه ليس له مباشرة أي تصرف يلحق ضرراً محضاً بالمولى عليه كالتبرع من ماله، وله أن يتصرف فيما يحقق مصلحة القاصر، كحفظ أمواله وإدارتها واستثمارها، والإنفاق الضروري عليه، وشراء ما لا بد له منه، وبيع المنقولات، وعلى الأب الإنفاق على الصغير إن لم يكن له مال، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة:233/2] .
فإن كان للصغير مال أنفق عليه من ماله. وجاز للأب المحتاج أن يأخذ نفقته الضرورية من مال الصغير، لقوله تعالى: {ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6/4] .
وأما بيع عقار القاصر: فالمفتى به في مذهب الحنفية: أنه يجوز للأب بيع عقار القاصر مثل القيمة فأكثر، ولا يجوز ذلك للوصي عند متأخري الحنفية إلا للضرورة كبيعه لتسديد دين لا وفاء له إلا بهذا المبيع (1) .
ثم قرر قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (2/172) أنه لا يجوز للأب (أي ولا للوصي) (2) بيع عقار القاصر أو رهنه إلا بإذن القاضي بعد تحقق المسوغ، كبيعه للنفقة أو لوفاء الدين.
هذا مجمل صلاحيات أو سلطات الولي في التصرفات، وتفصيل أحكام تصرفات كل ولي على حدة محله كتب الفقه (3) .
__________
(1) تكملة فتح القدير مع العناية: 499/8 وما بعدها، مجمع الضمانات للبغدادي: ص 408.
(2) وقد نصت المادة (182) من قانوننا السوري على ذلك، فلم تجز للوصي التصرفات الناقلة للملكية في مال القاصر إلا بإذن المحكمة مباشرة.
(3) انظر الدر المختار ورد المحتار: 494/5 ومابعدها، تكملة الفتح: 498/8 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 407 ومابعدها.(4/503)
الوكالة
الوكالة: نيابة شرعية عن الغير حال الحياة، وهي نوع من الولاية كما تقدم، وأبحث فيها ما يأتي: تعريفها، ركنها، شروطها، أنواعها وتصرفات الوكيل، هل للوكيل توكيل غيره؟ تعدد الوكلاء، الفرق بين الرسول والوكيل، حكم العقد وحقوقه في حال التوكيل، انتهاء الوكالة.
تعريف الوكالة ومشروعيتها:
الوكالة في اللغة تطلق ويراد بها إما الحفظ، كما في قوله تعالى: {وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران:173/3] أي الحافظ. وإما التفويض، كما في قوله سبحانه: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12/14] {إني توكلت على الله ربي وربكم} [هود:56/11] ويقال: وكل أمره إلى فلان: أي فوضه إليه واكتفى به.
وعند الفقهاء يراد بها المعنيان، وإن كان المعنى الأول تبعياً والثاني هو
الأصل. وعبارة الحنفية (1) في تعريفها: هي إقامة الشخص غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. أو هي: تفويض التصرف والحفظ إلى الوكيل.
وعبارة المالكية والشافعية والحنابلة (2) في تعريفها: هي تفويض شخص ماله فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته. وضابط ما يقبل النيابة هو ما يأتي:
هو كل تصرف جاز للشخص مباشرته بنفسه ولو من حيث المبدأ جاز له التوكيل فيه.
والناس قديماً وحديثاً بحاجة يومية إلى الوكالة في كثير من أحوالهم وأمورهم، إما أنفة أو عدم لياقة بمباشرة الشيء بالذات كتوكيل الأمير أو الوزير، وإما عجزاً عن الأمر كتوكيل المحامين في الخصومات، والخبراء بالبيع والشراء في التجارات.
__________
(1) تبيين الحقائق: 254/4، البدائع: 19/6، رد المحتار: 417/4.
(2) مغني المحتاج: 217/2، الشرح الكبير للدردير، 377/3، غاية المنتهى: 147/2.(4/504)
لذا أقرتها الشرائع السماوية، قال تعالى في القرآن الكريم حكاية عن أصحاب الكهف: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه..} [الكهف:19/18] الآية. وفي السنة النبوية: وكل النبي صلّى الله عليه وسلم حكيم بن حزام (أو عروة البارقي) بشراء شاة أضحية (1) . ووكل عمرو ابن أمية الضمري في زواج أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة (2) . ووكل في القيام بأعمال الدولة كجباية الزكاة وإدارة الجيش وولاية الأقاليم.
الوكالة بأجر: تصح الوكالة بأجر، وبغير أجر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات، ويجعل لهم عمولة (3) . فإذا تمت الوكالة بأجر، لزم العقد، ويكون للوكيل حكم الأجير، أي أنه يلزم الوكيل بتنفيذ العمل، وليس له التخلي عنه بدون عذر يبيح له ذلك، وإذا لم يذكر الأجر صراحة حكم العرف: فإن كانت مأجورة عادة كتوكيل المحامين وسماسرة البيع والشراء، لزم أجر المثل، ويدفعه أحد العاقدين بحسب العرف. وإن كانت غير مأجورة عرفاً، كانت مجاناً، أو تبرعاً، عملاً بالأصل في الوكالات: وهو أن تكون بغير أجر على سبيل التعاون في الخير. وهذا النوع لا يلزم فيه المضي في العمل، بل للوكيل التخلي عنه في أي وقت. وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة (4) . وقال الشافعية: الوكالة ولو بجُعل جائزة أي غير لازمة من الجانبين (5) .
__________
(1) توكيل حكيم رواه أبو داود والترمذي عن حكيم بن حزام نفسه، وتوكيل البارقي رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن عروة نفسه (نيل الأوطار: 270/5) .
(2) رواه أبو داود في سننه (468/1) .
(3) التلخيص الحبير: 176/1، 251، 275.
(2) تكملة فتح القدير: 123/6، المغني: 85/5، القوانين الفقهية: ص 329، الشرح الكبير: 396/3 ومابعدها.
(5) نهاية المحتاج: 38/4 ومابعدها.(4/505)
ركن الوكالة: ركن الوكالة: الإيجاب والقبول، الإيجاب من الموكل كأن يقول: وكلتك بكذا، أو افعل كذا، أو أذنت لك أن تفعل كذا ونحوه. والقبول من الوكيل كأن يقول: قبلت ونحوه. ولا يشترط في القبول كونه لفظاً أو قولاً، وإنما يصح أن يكون بالفعل. فإذا علم الوكيل بالتوكيل، فباشر التصرف الموكل فيه، اعتبر ذلك قبولاً، ولا يشترط في الوكالة (كما عرفنا في بحث مجلس العقد) اتحاد مجلس الإيجاب والقبول، وإنما يكفي العلم بالوكالة ومباشرة التصرف.
والوكالة بغير أجر عقد جائز غير لازم (1) أي يجوز لأحد العاقدين فسخه متى شاء.
والوكالة باعتبارها إطلاقاً في التصرف يصح أن تكون منجزة في الحال، كأنت وكيلي من الآن في كذا، كما يصح عند الحنفية والحنابلة (2) : أن تكون مضافة إلى وقت في المستقبل، كأنت وكيلي في الدعوى الفلانية في الشهر القادم، أو معلقة على شرط، مثل: إن قدم فأنت وكيلي في بيع هذا الكتاب، لحاجة الناس إلى ذلك.
وقال الشافعية في الأصح: لا يصح تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت، مثل: إن قدم زيد أو رأس الشهر فقد وكلتك بكذا، لما في التعليق من غرر (أي احتمال) ، لكن يصح عندهم جعل الوكالة منجزة في الحال، واشتراط بدء التصرف معلقاً على شرط، مثل أنت وكيلي الآن في بيع هذه الأرض، ولكن لا تبعها إلا بعد شهر، أو إلا إذا تركت وظيفتي.
__________
(1) بداية المجتهد: 297/2، المغني: 113/5، غاية المنتهى: 154/2، مغني المحتاج: 231/2 ومابعدها، الدر المختار: 433/4.
(2) البدائع: 20/6، غاية المنتهى: 147/2، المغني: 85/5.(4/506)
شروط الوكالة:
يشترط لصحة الوكالة شروط في الموكل وفي الوكيل وفي المحل الموكل فيه.
أما الموكل: فيشترط فيه أن يكون مالكاً للتصرف الذي يوكل فيه أي أهلاً لممارسته؛ لأن من لم يملك التصرف لا يملك تمليكه لغيره. فلا يصح التوكيل أصلاً من فاقد الأهلية كالمجنون أو الصبي غير المميز، ولا من ناقص الأهلية أي المميز في التصرفات الضارة به كالطلاق والهبة. ويصح التوكيل من المميز في التصرف النافع له كقبول الهبة، كما يصح منه التوكيل بإجازة وليه في التصرفات المترددة بين الضرر والنفع كالبيع والشراء والإيجار. ويصح التوكيل من المحجور عليه للسفه أو الغفلة فيما يباح له من التصرفات. ويصح للمرأة التوكيل في مباشرة عقد زواجها. وهذا عند الحنفية (1) .
وقال غير الحنفية (المالكية والشافعية والحنابلة) (2) : لا يصح التوكيل من الصبي مطلقاً؛ إذ لا يصح عندهم مباشرته لأي تصرف. كما لا يصح للمرأة توكيل امرأة أخرى في إبرام عقد زواجها. ويصح لها عند المالكية توكيل الرجل في ذلك.
وأما الوكيل: فيشترط فيه أن يكون عاقلاً، فيصح أن يكون المميز وكيلاً، سواء أكان مأذوناً في التجارة أم محجوراً. ولا يصح جعل المجنون والمعتوه وغير المميز وكيلاً في التصرفات لعدم اعتبار عبارتهم. هذا عند الحنفية (3) .
وقال غير الحنفية (4) : وكالة الصبي غير صحيحة، لأنه غير مكلف بالأحكام الشرعية، فلا تصح مباشرة التصرف لنفسه، فلا يصح توكيله عن غيره. ولا يصح أن تكون المرأة وكيلة عن غيرها في مباشرة عقد الزواج؛ لأنها لا تملك مباشرة عقدها بنفسها فلا تملك مباشرة عقد غيرها.
وأما الموكل فيه (محل الوكالة) : فيشترط فيه ما يأتي (5) :
1 - أن يكون معلوماً للوكيل: فلا يصح التوكيل بالمجهول جهالة فاحشة، مثل: اشتر لي أرضاً أو جوهراً أو داراً، ويصح مع الجهالة اليسيرة مثل: اشتر لي صوفاً انكليزياً، أو اشتر لي صوفاً بسعر كذا.
__________
(1) البدائع: 20/6، تكملة فتح القدير: 12/6.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة: 236/3 وما بعدها، مغني المحتاج: 217/2، المهذب: 349/1.
(3) المبسوط: 158/19، البدائع: 20/6، رد المحتار: 417/4.
(4) بداية المجتهد: 297/2.
(5) البدائع: 12/6 ومابعدها، بداية المجتهد: 297/2، الشرح الكبير: 377/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 219/2 ومابعدها، المغني: 83/5.(4/507)
2 - أن يكون التصرف مباحاً شرعاً: فلا يجوز التوكيل في فعل محرم شرعاً، كالغصب أو الاعتداء على الغير.
3 - أن يكون مما يقبل النيابة، كالبيع والشراء والإجارة والتبرع، ورد الودائع وقضاء الديون ونحوها.
وذلك لأن التصرفات بالنظر لقبولها النيابة وعدم قبولها أنواع ثلاثة:
نوع يقبل النيابة اتفاقاً، كما تقدم.
ونوع لا يقبل النيابة اتفاقاً، كاليمين، والعبادات الشخصية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث.
ونوع مختلف فيه كاستيفاء القصاص والحدود الشرعية. فقال الحنفية (1) : لايجوز التوكيل فيها، بل لا بد من حضور الموكل وقت الاستيفاء (أي التنفيذ) ، ولأن غيبته شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
وقال غير الحنفية (2) : يجوز التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص، سواء أحضر الموكل أم غاب؛ لأن الحاجة قد تدعو لذلك، ولأن الوكيل كالأصيل.
أنواع الوكالة: للوكالة أنواع منها ما يأتي:
أولاً ـ الوكالة الخاصة والعامة: قد تكون الوكالة خاصة وقد تكون عامة (3) .
الوكالة الخاصة: هي الإنابة في تصرف معين، كبيع أرض أو سيارة معينة، وإجارة عقار محدد، وتوكيل في دعوى معينة. وحكمها: أن الوكيل مقيد بما وكل فيه، وإلا كان فضولياً.
__________
(1) المبسوط: 9/19، 106، فتح القدير: 104/6، البدائع: 21/6، رد المحتار والدر المختار: 418/4.
(2) بداية المجتهد: 297/2، الشرح الكبير: 378/3، المغني: 84/5، مغني المحتاج: 221/2، المهذب: 349/1.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 416/4، بداية المجتهد: 297/2.(4/508)
والوكالة العامة: هي الإنابة العامة في كل تصرف أو شيء، مثل أنت وكيلي في كل التصرفات، أو في كل شيء، أو اشتر لي ما شئت أو ما رأيت، وحكمها أن الوكيل يملك كل تصرف يملكه الموكل وتجوز النيابة فيه، ما عدا التصرفات الضارة بالموكل كالتبرعات من هبة ووقف ونحوهما، والإسقاطات من طلاق وإبراء ونحوهما. فلا يملك الوكيل هبة شيء من أموال الموكل، ولا طلاق زوجة الموكل، إلا بالنص على ذلك صراحة.
ثانياً ـ الوكالة المقيدة والمطلقة: قد تكون الوكالة أيضاً مقيدة أو مطلقة (1) .
الوكالة المقيدة: هي التي يقيد فيها تصرف الوكيل بشروط معينة، مثل وكلتك في بيع أرضي بثمن حال قدره كذا، أو مؤجل إلى مدة كذا، أو مقسّط على أقساط معينة. وحكمها: أن الوكيل يتقيد بما قيده به الموكل، أي أنه يراعي القيد ما أمكن، سواء بالنسبة للشخص المتعاقد معه أو لمحل العقد، أو بدل المعقود عليه. فإذا خالف الوكيل لا يلزم الموكل بالتصرف إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه، كأن يبيع الشيء الموكل ببيعه بأكثر من الثمن المحدد له، أو بثمن حال بدلاً من الثمن المؤجل أو المقسط. وإذا لم يلزم الموكل بالتصرف بسبب المخالفة، كان الوكيل فضولياً، ولزمه التصرف إن كان وكيلاً بالشراء لأنه متهم بالشراء لنفسه. أما الوكيل بالبيع إذا خالف أمر الموكل فيتوقف على إجازة الموكل، ولا يلزم الوكيل بالعقد، لتعذر تنفيذه عليه.
__________
(1) البدائع: 27/6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 ومابعدها، المبسوط: 39/19، الدر المختار: 421/4 ومابعدها، مجمع الضمانات: ص 249، تكملة فتح القدير: 70/6 وما بعدها.(4/509)
والوكالة المطلقة: هي التي لا يقيد فيها الوكيل بشيء مثل: وكلتك في بيع هذه الأرض، من غير تحديد ثمن معين، أو كيفية معينة لوفاء الثمن. وحكمها عند أبي حنفية: أن المطلق يجري على إطلاقه، فللوكيل التصرف بأي ثمن قليلاً أو كثيراً، ولو بغبن فاحش، معجلاً أو مؤجلاً، صحيحاً أو مريضاً؛ لأن الأصل في اللفظ المطلق أن يجري على إطلاقه، ولا يجوز تقييده إلا بدليل، كوجود تهمة، ولا يعتمد على العرف، لأن العرف في البلاد متعارض.
وقال الصاحبان، وعلى رأيهما الفتوى، ورأيهما هو الراجح وبه قال الشافعية والحنابلة والمالكية (1) : يتقيد الوكيل بما تعارفه الناس، فإذا خالف المتعارف كان فضولياً في تصرفه، وتوقف نفاذه على رضا الموكل. فليس للوكيل بالبيع مثلاً أن يبيع بغبن فاحش: وهو ما لا يتساهل فيه الناس عادة، ولا أن يبيع بغير النقد الغالب في البلد، ولا أن يبيع بثمن مؤجل أو مقسط إلا إذا جرى العرف في مثله؛ لأن الوكيل منهي عن الإ ضرار بالموكل، مأمور بالنصح له.
وفي الزواج: ليس للوكيل أن يزوج الموكل بامرأة لا تكافئه، أو بمهر فيه غبن فاحش، فإن فعل ذلك كان تصرفاً موقوفاً على إجازة الموكل، فإن أجازه نفذ، وإلا بطل.
حكم تصرفات الوكيل:
يترتب على الوكالة ثبوت ولاية التصرف الذي تناوله التوكيل، وسأذكر أهم التصرفات في أهم أنواع الوكالات.
__________
(1) الشرح الكبير: 382/3، المهذب: 353/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 223/2- 229، بداية المجتهد: 298/2، المغني: 124/5، قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 107/2، ط الاستقامة.(4/510)
1 - الوكيل بالخصومة: أي بالمرافعة أمام القضاء كالمحامي اليوم، يملك كل ما يتعلق بالدعوى وما لا بد منه فيها، ومن ذلك الإقرار على موكله عند الحنفية ما عدا زفر (1) ؛ لأن مهمة الوكيل بيان الحق وإثباته، لا المنازعة فيه فقط، وبيان الحق قد يكون إنكاراً لدعوى الخصم، وقد يكون إقراراً.
وقال زفر وأئمة المذاهب الثلاثة الأخرى (2) : لا يقبل إقرار الوكيل بالخصومة على موكله بقبض الحق وغيره، لأن التوكيل بالخصومة معناه التوكيل بالمنازعة، والإقرار مسالمة، لأنه يترتب عليه إنهاء الخصومة، فلا يملكه الوكيل كالإبراء. كذلك يملك الوكيل بالخصومة قبض المال المحكوم به لموكله عند الحنفية ما عدا زفر (3) ؛ لأن هذا من تمام الخصومة، والخصومة لا تنتهي إلا بالقبض، والوكيل أمين على مصالح موكله (4) .
وقال زفر والشافعية والحنابلة (5) : لايملك القبض، لأن الرجل الثقة بالتقاضي والمخاصمة قد لايكون أميناً في قبض الحقوق.
2 - الوكيل بالبيع: إذا كان مقيد التصرف يتقيد بالقيد الذي حدده له الموكل بالاتفاق بين الفقهاء، فإذا خالف القيد، لاينفذ تصرفه على الموكل، ولكن يتوقف على إجازته، إلا إذا كانت مخالفته إلى خير؛ لأنه محقق لمقصود الموكل ضمناً.
__________
(1) البدائع: 24/6، تكملة الفتح: 10/6، المبسوط: 4/19، الدر المختار: 430/4، الكتاب مع شرحه اللباب: 151/2.
(2) بداية المجتهد: 297/2، الشرح الكبير: 379/3، المهذب: 351/1، المغني: 91/5.
(3) البدائع: 24/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 96/6، المبسوط: 19/19، مجمع الضمانات: ص 261.
(4) قال المرغيناني صاحب الهداية: والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله، لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال.
(5) المهذب: 351/1، المغني: 91/5.(4/511)
فإذا كان وكيلاً بالبيع بثمن ما، فباع بأقل، لا ينفذ، لأنه خلاف إلى شر، وإن باع بأكثر، نفذ، لأنه خلاف إلى خير، وإذا وكل بالبيع نقداً فباع مؤجلاً لم ينفذ إلا بإجازة الموكل، وإذا وكل بالبيع مؤجلاً فباع نقداً، نفذ.
وإن كان الوكيل مطلق التصرف: فيعمل عند أبي حنيفة بمقتضى الإطلاق، فله أن يبيع بأي ثمن كان، قليلاً أو كثيراً، حتى بالغبن الفاحش، عاجلاً أو آجلاً، كما أوضحت سابقاً، عملاً بإطلاق الحرية للوكيل بالتصرف.
وقال الصاحبان وبرأيهما يفتى، وبقية الأئمة الثلاث: يتقيد الوكيل المطلق بالمتعارف، فلا يبيع إلا بالنقود المتداولة، وبمثل القيمة، وبالمعجل، فلا يبيع بالأعيان، ولا بما لا يتغابن الناس فيه عادة، أي بالغبن اليسير، ولا بالنسيئة المؤجلة (1) .
وفي حال المخالفة يكون العقد موقوفاً على إجازة الموكل عند الحنفية، باطلاً عند الشافعية.
وليس للوكيل بالبيع عند أبي حنيفة أن يبيع لنفسه ولا لزوجته وأبيه وجده وولده وسائر من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في ذلك بمراعاة مصلحته أو إيثار العين المبيعة لأقاربه.
وقال الصاحبان: يجوز له أن يبيع لهؤلاء لا لنفسه بمثل القيمة أو أكثر؛ لأن التوكيل مطلق، والبيع لأحد من هؤلاء أو غيرهم سواء، ولا تهمة هنا؛ لأن ملكه وأملاكهم متباينة، فالمنافع منقطعة فيما بينهم (2) .
__________
(1) المراجع السابقة في بحث الوكالة المقيدة والمطلقة.
(2) البدائع: 28/6، تكملة فتح القدير: 67/6 ومابعدها، رد المحتار: 424/4، مجمع الضمانات: ص 261.(4/512)
وتوسط غير الحنفية بين الرأيين، فأجاز المالكية للوكيل بالبيع أن يبيع لزوجته ووالده الرشيد إذا لم يحابهما، ولم يجيزوا له البيع لنفسه أو من في رعايته من صغير أو سفيه أو مجنون (1) .
وأجاز الشافعية في الأصح وفي رواية عن أحمد له البيع بمثل القيمة لأبيه وجده وابنه البالغ وسائر فروعه المستقلين عنه لعدم التهمة، ولم يجيزوا له أن يبيع لنفسه وولده الصغير أو المجنون أو السفيه (2) .
3 - الوكيل بالشراء: مثل الوكيل بالبيع من التقيد بما قيده به الموكل، في الثمن وفي جنس المشترى ونوعه وصفته، أو إطلاق الحرية في التصرف إذا كانت الوكالة مطلقة. فإذا خالف الوكيل أحد القيود لا يلزم الموكل بالشراء، إلا إذا كان خلافاً إلى خير، فيلزمه. ووقع الشراء للوكيل نفسه باتفاق الفقهاء (3) ، بعكس الوكيل بالبيع؛ لأن المشتري قد يتهم بأنه كان يريد الشراء لنفسه، فلما تبين أنه غبن غبناً فاحشاً أظهر أنه يشتري باسم موكله.
كذلك لا يملك الوكيل بالشراء عند أبي حنيفة كالوكيل بالبيع أن يشتري من نفسه، أو زوجته أو أبيه أو جده، أو ولده وولد ولده، وكل من لا تقبل شهادته له للتهمة في ذلك.
وقال الصاحبان: يجوز إذا اشترى بمثل القيمة أو بأقل أو بزيادة يتغابن الناس في مثلها عادة (4) .
__________
(1) الشرح الكبير: 387/3 وما بعدها.
(2) مغني المحتاج: 224/2 ومابعدها، نهاية المحتاج: 26/4 ومابعدها، المغني: 107/5 ومابعدها.
(3) البدائع: 29/6 ومابعدها، مختصر الطحاوي: ص 110 ومابعدها، المبسوط: 39/19، تكملة فتح القدير: 75/6. الدر المختار: 421/4، مغني المحتاج: 229/2، المهذب: 354/1، بداية المجتهد: 298/2، الشرح الكبير: 382/3، المغني: 124/5، 107.
(4) المراجع السابقة.(4/513)
4 - الوكالة في الزواج والطلاق، والإجارة والرهن ونحوها من إدارة الأموال: يتقيد الوكيل في ذلك بما يقيده به الموكل، وليس له أن يتصرف بما فيه ضرر.
5 - هل للوكيل توكيل غيره؟
إذا كانت الوكالة خاصة أو مقيدة بأن يعمل الوكيل بنفسه، لم يجز له توكيل غيره فيما وكل فيه.
وإن كانت الوكالة مطلقة أو عامة بأن قال له: اصنع ما شئت، جاز له توكيل الغير، ويكون هذا الغير وكيلاً مع الأول عن الموكل. هذا عند الحنفية (1) .
وقال المالكية (2) : ليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الوكيل لا يليق به تولي ما وكل فيه بنفسه، كأن يكون وجيهاً، والموكل به حقير فله التوكيل حينئذ.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : ليس للوكيل أن يوكل غيره بلا إذن الموكل متى كان قادراً على ما وكل فيه. أما إذا لم يكن قادراً على القيام بكل ما وكل فيه، فله أن يوكل غيره ويكون الوكيل الثاني وكيلاً مع الأول عن الموكل.
6 - تعدد الوكلاء:
قد يتعدد الوكلاء عن الشخص الواحد في التصرفات والخصومات، أو المرافعة أمام القضاء، كما يحدث عادة في كثير من الأحيان، فيكون هناك وكيلان أو أكثر في القضايا الخطيرة. ويعرف تفصيل حكم تصرفات الوكلاء مما يأتي (4) .
فإن تعدد الوكلاء كلاً في عقد خاص وأعمال خاصة، كان لكل منهم أن ينفرد في مباشرة ما وكل فيه دون استشارة غيره. وإن كان العمل واحداً، فلكل واحد القيام به وحده أيضاً، فتنتهي حينئذ وكالة الآخرين.
__________
(1) البدائع: 25/6، تكملة فتح القدير: 89/6 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير للدردير: 388/3.
(3) مغني المحتاج: 226/2، المغني: 88/5.
(4) البدائع: 32/6، تكملة فتح القدير: 86/6-88.(4/514)
وإن كان التوكيل للجميع في عقد واحد، فليس لأحدهم ـ دون إذن الموكل ـ الانفراد بالتصرف بما وكلوا فيه؛ لأن تعددهم كان بقصد تحقيق التعاون والتشاور فيما بينهم ضماناً لصالح الموكل، ويستثنى من ذلك ما لا يحتاج من التصرفات لتبادل الرأي كرد الودائع ووفاء الديون، أو ما لا يمكن فيه الاجتماع كالمرافعة أمام القضاء، بشرط إعداد مذكرات الدفاع بالاشتراك بين جميع الوكلاء.
الفرق بين الوكالة والرسالة:
يحسن بيان الفرق بين الوكيل والرسول تمهيداً لمعرفة من يلتزم بحقوق العقد، إذ يختلف الوكيل عن الرسول (1) .
فالوكيل: هو الذي يتصرف برأيه وعبارته وتقديره، فيساوم ويعقد العقود حسبما يرى من المصلحة، ويتحمل تبعات تصرفاته، ويستغني غالباً عن إضافة العقد إلى موكله، فيقول: بعت أو اشتريت كذا، لا: باع أو اشترى فلان، فإذا أسند العقد لموكله، صار مجرد سفير ومعبر عن كلام الأصيل، فيصبح عندئذ كالرسول.
والرسول: هو الذي يقتصر على نقل عبارة مرسله، دون أن يتصرف برأيه وإرادته، وإنما يبلِّغ عبارة المرسل، وينقل رغبته وإرادته في التصرف، فيقول للمرسل إليه: أرسلني فلان لأبلغك كذا، فيضيف عبارته دائماً للمرسل، ولا يتحمل شيئاً من التزامات التعاقد.
حكم العقد وحقوقه في الوكالة:
حكم العقد: هو الغرض والغاية منه. ويراد به هنا الأثر الذي يترتب على العقد شرعاً. ففي عقد البيع: يكون الحكم: هو ثبوت ملكية المبيع للمشتري واستحقاق الثمن للبائع، وفي عقد الإجارة: الحكم هو تملك المستأجر المنفعة، واستحقاق الأجرة للمؤجر.
__________
(1) راجع مختصر أحكام المعاملات الشرعية لأستاذنا علي الخفيف: ص 117 ومابعدها.(4/515)
واتفق الفقهاء على أن حكم العقد الذي يتم بواسطة وكيل: يقع مباشرة للموكل نفسه، لا للوكيل؛ لأن الوكيل يعمل في الحقيقة لموكله وبأمره، فهو قد استمد ولايته منه (1) . ويترتب عليه أن المسلم لو وكل غير مسلم في شراء خمر أو خنزير، لم يصح الشراء؛ لأن المسلم ليس له أن يتملك شيئاً من هذين.
حقوق العقد: هي الأعمال والالتزامات التي لا بد منها للحصول على حكمه أو على الغاية والغرض منه، مثل تسليم المبيع، وقبض الثمن، والرد بالعيب أو بسبب خيار الشرط أو الرؤية، وضمان رد الثمن، إذ استحق (2) المبيع مثلاً.
فإذا باشر المرء العقد بنفسه ولمصلحته عاد إليه حكم العقد وحقوقه. وأما إن توسط وكيل في إجراء العقد وإبرامه، عاد حكم العقد إلى الموكل كما عرفنا، وأما حقوق العقد فتارة ترجع إلى الموكل، وتارة ترجع إلى الوكيل بحسب نوع التصرف الذي يتولاه الوكيل.
والتصرفات التي يمارسها الوكيل نوعان:
النوع الأول ـ ما يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، ولا يجوز له إضافته إلى نفسه، فإن أضافه إلى نفسه وقع العقد له لا للموكل، مثل الزواج والطلاق والخلع، والعقود العينية أي التي لا تتم إلا بالقبض وهي خمسة (الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن) . يلزم الوكيل أن يقول حين إبرام العقد: قبلت زواج فلانة لفلان، وطلقت امرأة فلان، ووهبتك من مال فلان، ولا يصح أن يقول: تزوجت أو طلقت على كذا ووهبت؛ فينصرف أثر التصرف إليه، أي أن الزواج يكون للوكيل حينئذ لا للموكل، ويقع الطلاق عنه، لا عن الموكل، ويلزم الهبة من ماله لا من مال الموكل.
__________
(1) تبيين الحقائق 256/4، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص137، المغني لابن قدامة: 130/5، مغني المحتاج: 229/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 298/2.
(2) الاستحقاق: هو أن يدعي أحد ملكية شيء موجود في يد غيره ويثبتها بالبينة، ويقضى له بها.(4/516)
وحكم هذا النوع أن حقوق التصرف ترجع إلى الموكل، ولا يطالب الوكيل منها بشيء أصلاً؛ لأن الوكيل في هذه التصرفات يكون سفيراً ومعبراً محضاً عن الموكل. فإذا كان الشخص وكيلاً عن الزوج لا يطالب بالمهر، وإنما يطالب الزوج، وإذا كان وكيلاً عن المرأة لا يطالب بإزفافها إلى بيت زوجها، وإنما تطالب المرأة أو وليها. ولو كان وكيلاً عن الواهب لايلزم الوكيل بتسليم العين الموهوبة، وإنما يطالب الموكل نفسه، ولا يلزم الوكيل بتسليم الموهوب إذا كان وكيلاً عن الموهوب له.
النوع الثاني: ما لا يلزم أن يضيفه الوكيل إلى الموكل، وإنما يصح إضافته له أو لنفسه كالمعاوضات المالية، مثل البيع والشراء والإجارة والصلح الذي هو في معنى البيع (أي الصلح بعوض عن إقرار) فيصح أن يقول الوكيل: بعت أو اشتريت، كما يصح أن يقول: بعت مال فلان، واشتريت لفلان.
وحكم هذا النوع: أن الوكيل إذا أضاف التصرف للموكل، مثل: اشتريت لفلان، رجعت الحقوق للموكل، ولزمته هو، ولا يطالب الوكيل بشيء، لأنه في هذه الحالة مجرد سفير ومعبر عن الأصيل. وإن أضاف الوكيل التصرف لنفسه رجعت إليه الحقوق دون الموكل؛ لأنه هو الذي باشر العقد ولا يعرف الطرف الآخر سواه. فإذا كان وكيلاً عن البائع لزمه تسليم المبيع للمشتري، وقبض الثمن. وإذا كان وكيلاً عن المشتري واطلع على عيب المبيع، أو أظهر أن المبيع مستحق لغير البائع، كان هو المكلف بمقاضاة البائع وخصومته، ويلزمه ضمان الثمن للمشتري حال استحقاق المبيع، كما يلزمه دفع الثمن للبائع إذا كان المبيع سليماً من العيوب.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان العاقد ليس من أهل لزوم العهدة (أي ليس أهلاً للمسؤولية والتزام الحقوق) إما لنقص أهليته كالصبي المحجور عن التصرف، أو لانشغاله كالقاضي وأمين القاضي، فترجع الحقوق حينئذ للموكل نفسه، لا إلى الوكيل.(4/517)
هذا هو مذهب الحنفية (1) . ويوافقهم المالكية والشافعية (2) في ذلك أي في أن حقوق العقد تتعلق بالوكيل دون الموكل.
وقال الحنابلة (3) : إن حقوق العقد ترجع للموكل دون الوكيل؛ لأن الوكيل عندهم مجرد سفير ومعبر عن العاقد الأصيل. لكن في هذا الرأي إضاعة للغرض من الوكالة؛ لأن الموكل يوكل غيره في أموره ليخفف عن نفسه عناء مباشرته لها، أو لأنه لا يليق به أن يباشرها، أو لعدم قدرته على القيام بها، فإذا عادت الحقوق للموكل نفسه لم يتحقق له الغرض من الوكالة (4) .
__________
(1) البدائع: 33/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 16/6 ومابعدها، تبيين الحقائق: 256/4، رد المحتار: 419/4، الكتاب مع اللباب: 141/2.
(2) المدونة الكبرى: 83/10، 186، الشرح الصغير: 506/3 ومابعدها، نهاية المحتاج: 47/4، مغني المحتاج: 230/2.
(3) كشاف القناع: 238/2، المغني: 97/5، مطالب أولي النهي شرح غاية المنتهى: 462/3.
(4) الأموال ونظرية العقد للمرحوم محمد يوسف موسى: ص376.(4/518)
انتهاء الوكالة:
تنتهي الوكالة بأحد الأمور التالية (1) :
1 - انتهاء الغرض من الوكالة: بأن يتم تنفيذ التصرف الذي وكل فيه الوكيل، إذ يصبح العقد غير ذي موضوع.
2 - قيام الموكل بالعمل الذي وكل فيه غيره: كأن يبرم البيع الذي وكل فيه غيره.
3 - خروج الموكل أو الوكيل عن الأهلية: بموت، أو جنون استمر شهراً، أوحجر لسفه؛ لأن الوكالة تتطلب استمرار الأهلية للتصرفات، فإذا زالت الأهلية بطلت الوكالة. والوكيل يستمد ولايته من الموكل.
ولا يشترط عند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يعلم العاقد بخروج الطرف الآخرعن الأهلية بهذه العوارض. وقال المالكية: الأرجح أن الوكيل لا ينعزل بموت الموكل حتى يعلم به.
4 - استقالة الوكيل: إذا تنازل الوكيل عن الوكالة أو استقال، أو رفض الاستمرار في العمل، انتهت الوكالة؛ لأن الوكالة بغير أجر كما تقدم عقد غير لازم، يجوز للوكيل أن يتنازل عنها في أي وقت. لكن يشترط عند الحنفية في هذه الحالة أن يعلم الموكل بهذا التنازل، حتى لا يتضرر بما فعل الوكيل، ولم يشترط الشافعي علم الموكل بعزل الوكيل نفسه.
5 - هلاك العين الموكل بالتصرف فيها، بيعاً أو شراءً أو إيجاراً؛ لأن العقد يصبح غير ذي موضوع. فإذا انهدمت الدار الموكل في شرائها، أو ماتت المرأة الموكل في تزوجها، بطلت الوكالة، لعدم تصور التصرف في المحل المعقود عليه بعد هلاكه.
6 - عزل الموكل وكيله: لأن الوكالة كما عرفنا عقد غير لازم، فللموكل إنهاء الوكالة في أي وقت شاء. لكن يشترط لصحة العزل عند الحنفية شرطان:
أحدهما: علم الوكيل بالعزل، حتى لا يلحقه ضرر بإبطال ولايته فيما إذا تصرف تصرفاً يوجب عليه الضمان، بدفع الثمن مثلاً، وتملك المبيع.
وهذا شرط أيضاً في الأرجح عند المالكية.
وقال الشافعية في الأصح عندهم، والحنابلة في الأرجح لديهم: لا يشترط علم الوكيل بالعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يحتاج إلى علمه كالطلاق.
ثانيهما: ألا يتعلق بالوكالة حق لغير الموكل: فإن تعلق بها حق لغيره لم يصح العزل إلا برضا صاحب الحق، كأن يوكل المدين الراهن شخصاً (هو الدائن أو غيره) ببيع الرهن وسداد الدين منه إذا حل الأجل، فلا يصح عزل الوكيل حينئذ بغير رضا الدائن صاحب الحق، لتعلق حقه بالموضوع.
__________
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 37/6 ومابعدها، تكملة فتح القدير: 123/6 ومابعدها، الدر المختار: 434/4، تبيين الحقائق: 286/4 ومابعدها، وعند المالكية: بداية المجتهد: 298/2، الشرح الكبير: 396/3، وعند الشافعية: مغني المحتاج: 232/2، المهذب: 1/357، وعند الحنابلة: المغني: 113/5، غاية المنتهى: 154/2 ومابعدها.(4/519)
وإذا وكل الزوج شخصاً بطلاق زوجته متى شاء، فلا يملك الزوج الموكل الرجوع عن الوكالة إلا برضا المرأة.
ولو أراد المدين السفر إلى بلد، فطلب منه دائنه أن يوكل عنه شخصاً ليخاصمه في طلب الدين وقت الحاجة، فوكل وكيلاً إجابة لطلبه وسافر، فليس له أن يعزل الوكيل إلا برضا الدائن. الفضالة
قد ينعقد العقد بالفضالة التي تتخذ بالإجازة حكم الوكالة. فمن الفضولي، وما حكم تصرفاته عند الفقهاء، وما أثر إجازة تصرفاته، وما شروط صحة الإجازة، وهل يملك فسخ العقد الصادر منه قبل الإجازة؟
تعريف الفضولي: الفضولي في اللغة: هو من يشتغل بما لا يعنيه أو بما ليس له. وعمله هذا يسمى فضالة. وعند الفقهاء له معنى قريب من هذا. وهو من يتصرف في شؤون غيره، دون أن يكون له ولاية على التصرف. أو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي كأن يزوج من لم يأذن له في الزواج، أو يبيع أو يشتري ملك الغير بدون تفويض، أو يؤجر أو يستأجر لغيره دون ولاية أو توكيل. فهذا التصرف يسمى فضالة.
حكم تصرفاته عند الفقهاء: للفقهاء رأيان في تصرف الفضولي:
أولهما ـ للحنفية والمالكية (1) : تصرفات الفضولي تقع منعقدة صحيحة، لكنها موقوفة على إجازة صاحب الشأن: وهو من صدر التصرف لأجله، إن أجازه نفذ، وإن رده بطل (2) . واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
__________
(1) البدائع: 148/5 ومابعدها، فتح القدير مع العناية: 309/5 ومابعدها، رد المحتار: 6/4، 142، بداية المجتهد: 171/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 12/3، القوانين الفقهية: ص 245.
(2) فرق الحنفية بين بيع الفضولي وشراء الفضولي. أما بيع الفضولي فينعقد صحيحاً موقوفاً على الإجازة، سواء أضاف الفضولي العقد لنفسه أم إلى المالك، وأما شراء الفضولي ففيه تفصيل:
إن أضاف الفضولي الشراء لنفسه نفذ العقد عليه، لأن الأصل أن يكون تصرف الإنسان لنفسه لا لغيره، وإذا وجد العقد نفاذاً على العاقد نفذ عليه ولا يتوقف. وإن أضاف الفضولي الشراء لغيره، أو لم يجد نفاذاً عليه لعدم الأهلية، كأن يكون العاقد صبياً أو محجوراً، انعقد الشراء صحيحاً موقوفاً على إجازة هذا الغير الذي تم الشراء له، فإن أجازه نفذ عليه، واعتبر الفضولي وكيلاً ترجع إلىه حقوق العقد من حين نشوء العقد (البدائع: 148/5- 150، مختصر الطحاوي: ص 83، الدر المختار ورد المحتار: 143/4) .
[التعليق]
انظر أيضاً آراء العلماء في تصرف الفضولي:
5/33
* أبو أكرم الحلبي(4/520)
أولاً ـ بعموم الآيات القرآنية الدال على مشروعية البيع، مثل قوله تعالى: {وأحل الله البيع} [البقرة:275/2] والفضولي كامل الأهلية، فإعمال عقده أولى من إهماله، وربما كان في العقد مصلحة للمالك، وليس فيه أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له ألا يجيز العقد، إن لم يجد فيه فائدة.
ثانياً ـ بما ثبت ـ في الحديث المتقدم في الوكالة ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ـ أحد أصحابه ـ ديناراً ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين بالدينار، وباع إحداهما بدينار، وجاء للنبي صلّى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال له «بارك الله لك في صفقة يمينك» فشراء الشاة الثانية وبيعها لم يكن بإذن النبي عليه السلام، وهو عمل فضولي جائز بدليل إقرار الرسول له.
وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية هي من شروط نفاذ التصرف، فإذا لم يكن العاقد مالكاً ولا ولاية له، كان العقد موقوفاً.
الرأي الثاني ـ للشافعية والحنابلة والظاهرية (1) : تصرف الفضولي باطل، لا يصح ولو أجازه صاحب الشأن؛ لأن الإجازة تؤثر في عقد موجود، وهذا العقد لا وجود له منذ نشأته، فلا تصيره الإجازة موجوداً. واستدلوا بما يأتي:
أولاً ـ بأن تصرف الفضولي تصرف فيما لا يملك، وتصرف الإنسان فيما لا يملكه منهي عنه شرعاً، والنهي يقتضي عدم مشروعية المنهي عنه عندهم، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» (2) أي ما ليس مملوكاً لك،
__________
(1) المجموع للنووي: 281/9، 284 ومابعدها، مغني المحتاج: 15/2، كشاف القناع: 11/2 ومابعدها، القواعد لابن رجب: ص 417، غاية المنتهى: 8/2، المحلى: 503/8، م 1460.
(2) نص الحديث كما رواه أحمد: «إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» . وجاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما رواه الخمسة: «لا يحل سلف ولا بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يَضْمن، ولا بيع ما ليس عندك» (نيل الأوطار: 157/5، سبل السلام: 16/3) .(4/521)
وسبب النهي اشتمال العقد على الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم وقت العقد، وما يترتب عليه من النزاع.
وقالوا عن حديث عروة البارقي: إنه كان وكيلاً مطلقاً عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وتصرفاته التي قام بها تنفذ، لأنها تمت بمقتضى وكالة خالف فيها الوكيل إلى خير، فينفذ تصرفه.
ثانياً ـ إن أي تصرف لا يوجد شرعاً إلا بتوافر الولاية والأهلية عند العاقد، وهذه الولاية لا تكون إلا بالملك أو بالإذن من المالك، والفضولي ليس مالكاً لما يتصرف فيه ولا مأذوناً له من المالك بالتصرف، فلا يكون لتصرفه وجود شرعاً، ولا يترتب عليه أي أثر.
وخلاصة هذا الرأي: أن الملكية أو الولاية من شروط انعقاد التصرف، فإذا لم يتوفر شرط الانعقاد كان التصرف باطلاً.(4/522)
وقد أخذ القانون المدني السوري في مواد عشر (189-198) برأي الحنفية والمالكية، وطبق عليها قواعد الوكالة إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي (م191) ، لكنه حصر الفضالة بقيام الفضولي بشأن عاجل لشخص آخر، كما يفهم من تعريفها (م 189) : «الفضالة: هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشأن عاجل لحساب شخص آخر، دون أن يكون ملزماً بذلك» .
شروط إجازة تصرف الفضولي:
اشترط الحنفية القائلون بصحة تصرف الفضولي شروطاً ثلاثة: أحدها في المجيز، وثانيها في الإجازة، وثالثها في نفس التصرف (1) :
1 - أن يكون للعقد مجيز (2) حالة إنشاء العقد: أي أن يكون صاحب الشأن مستطيعاً إصدار العقد بنفسه، فإن لم يكن كذلك وقع العقد باطلاً من مبدأ الأمر، وعلى هذا إذا طلق فضولي امرأة زوج بالغ عاقل، أو وهب ماله، أو باعه بغبن فاحش، انعقد التصرف موقوفاً على الإجازة؛ لأن صاحب الشأن كان يستطيع أن يصدر هذه التصرفات بنفسه، فيستطيع إجازتها بعد وقوعها، فكان للتصرف مجيز حالة إنشائه.
أما لو فعل فضولي شيئاً من هذه التصرفات بالنسبة لصغير، فلا ينعقد التصرف أصلاً؛ لأن الصغير ليس أهلاً لهذه التصرفات الضارة، فلا يكون أهلاً لإجازتها، فلم يكن لها مجيز حين نشوء التصرف.
فإن كان التصرف قابلاً لإجازة ولي الصغير كالبيع بمثل القيمة أو أكثر، وكان للصغير ولي، انعقد موقوفاً على إجازته، أو على إجازة الصغير بعد البلوغ.
2 - أن تكون الإجازة حين وجود العاقدين (الفضولي والطرف الآخر) والمعقود عليه وصاحب الشأن: فلو حصلت الإجازة بعد هلاك واحد من هؤلاء الأربعة، بطل التصرف، ولم تفد الإجازة شيئاً؛ لأن الإجازة تؤثر في التصرف، فلابد من قيام التصرف، وقيامه بقيام العاقدين والمعقود عليه.
__________
(1) البدائع: 149/5-151، فتح القدير: 311/5، الدر المختار ورد المحتار: 141/4 ومابعدها، 146.
(2) المجيز: هو صاحب المصلحة والشأن في التصرف، والذي له حق تقرير وإمضاء التصرف أو رفضه.(4/523)
3 - ألا يمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند رفض صاحب الشأن: مثل بيع ملك الغير أو إجارته، سواء أضاف العقد لنفسه أم لصاحب المال، ومثل شراء شيء لغيره أو استئجار شيء لغيره وأضاف العقد لذلك الغير. ففي كل هذه الحالات يكون العقد موقوفاً.
أما إذا أمكن تنفيذ العقد على الفضولي عند عدم إجازته، فينفذ على الفضولي كشراء شيء أو استئجاره مضيفاً العقد لنفسه، فيلزمه هو.
أثر إجازة تصرف الفضولي:
يترتب على الإجازة من صاحب الشأن أثران: أحدهما ـ جعل التصرف نافذاً. ثانيهما ـ جعل الفضولي وكيلاً يلتزم بحقوق التصرف؛ لأن «الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة» (1) .
أما تاريخ نفاذ التصرف بالإجازة فيختلف بحسب نوع التصرف:
إن كان من التصرفات التي لا تقبل التعليق بالشرط كعقود المعاوضات المالية (البيع والإيجار ونحوهما) فإنها تنفذ من وقت إنشائها أي أن للإجازة أثراً رجعياً؛ لأن آثارها لا تتراخى عنها، وتكون زوائد الشيء وغلاته كالأجرة مملوكة لمن وقع العقد له، أي للمشتري في عقد البيع؛ لأن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة.
وإن كان التصرف مما يصح تعليقه بالشرط كالكفالة والحوالة والوكالة والطلاق، فإنه ينفذ من وقت الإجازة؛ لأن هذه التصرفات معلقة في المعنى على الإجازة.
وإن كان التصرف يتطلب التسليم الفعلي كالهبة، فينفذ من وقت تسليم الموهوب له.
فسخ تصرف الفضولي:
تصرف الفضولي غير ملزم لصاحب الشأن، فيجوز حينئذ فسخه. والفسخ قد يكون من صاحب الشأن (البائع أو المشتري مثلاً) ؛ لأن التصرف موقوف على رضاه وإجازته، فما لم يجزه لم يتم التصرف.
وقد يكون الفسخ من الفضولي نفسه في عقد البيع قبل إجازة المالك صاحب الشأن حتى يدفع عن نفسه الحقوق التي تلزمه لو أجاز المالك.
__________
(1) البدائع: 151/5.(4/524)
أما عقد الزواج فليس للفضولي فسخه؛ لأنه عقد ترجع فيه الحقوق إلى الأصيل صاحب الشأن (1) .
هل لفضولي واحد أن يعقد العقد عن الطرفين؟
عرفنا سابقاً أن تعدد العاقد شرط في انعقاد العقد، فليس للفضولي الواحد إبرام العقد سواء في البيع أو الزواج وغيرهما، بل يبطل الإيجاب ولا تلحقه الإجازة (2) ، سواء أكان فضولياً من الجانبين، أم من جانب واحد ومن الجانب الآخر أصيلاً عن نفسه، أو وكيلاً، أو ولياً عن القاصر. فلو قال: بعت دار فلان، وقبلت الشراء عن فلان، أو زوجت فلاناً فتاة اسمها كذا، وقبلت هذه الفتاة لفلان، لم ينعقد العقد.
العنصر الثالث ـ محل العقد:
محل العقد أو المعقود عليه: هو ما وقع عليه التعاقد، وظهرت فيه أحكامه وآثاره. وهو قد يكون عيناً مالية كالمبيع والمرهون والموهوب، وقد يكون عيناً غير مالية كالمرأة في عقد الزواج، وقد يكون منفعة كمنفعة الشيء المأجور في إجارة
__________
(1) البدائع: 151/5، فتح القدير: 309/5- 312.
(2) حاشية ابن عابدين: 448/2.(4/525)
الأشياء من الدور والعقارات ومنفعة الشخص في إجارة الأعمال (1) .
وليس كل شيء صالحاً ليكون معقوداً عليه، فقد يمتنع إبرام العقد على شيء شرعاً أو عرفاً، كالخمر لا تصلح أن تكون معقوداً عليها بين المسلمين، والمرأة المحرم بسب رابطة النسب أو الرضاع، لا تصلح أن تكون زوجة لقريبها.
لذا اشترط الفقهاء أربعة شروط في محل العقد، وهي ما يأتي:
1 - أن يكون موجوداً وقت التعاقد:
فلا يصح التعاقد على معدوم كبيع الزرع قبل ظهوره لاحتمال عدم نباته، ولا على ماله خطر العدم، أي احتمال عدم الوجود كبيع الحمل في بطن أمه، لاحتمال ولادته ميتاً، وكبيع اللبن في الضرع، لاحتمال عدمه بكونه انتفاخاً، وكبيع اللؤلؤ في الصدف، ولا يصح التعاقد على مستحيل الوجود في المستقبل، كالتعاقد مع طبيب على علاج مريض توفي، فإن الميت لا يصلح محلاً للعلاج، وكالتعاقد مع عامل على حصاد زرع احترق، فكل هذه العقود باطلة.
وهذا الشرط مطلوب عند الحنفية والشافعية (2) ، سواء أكان التصرف من عقود المعاوضات أم عقود التبرعات، فالتصرف بالمعدوم فيها باطل، سواء بالبيع أو الهبة أو الرهن، بدليل نهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع حبَل الحبلة (3) ونهيه عن بيع
__________
(1) الإجارة نوعان: إجارة المنافع: وهي أن يكون المعقود عليه منفعة كإجارة الدور والمنازل والحوانيت والأراضي، وإجارة الأعمال: وهي التي تعقد على عمل معلوم كبناء وخياطة وحمل إلى موضع معين، وصباغة وإصلاح شيء، وتقديم خبرة كخبرة الأطباء والمهندسين.
(2) البدائع: 138/5 ومابعدها، المبسوط: 194/12 ومابعدها، فتح القدير: 192/5، مغني المحتاج: 30/2، المهذب: 262/1.
(3) أي بيع ولد ولد الناقة، أو بيع ولد الناقة. والحديث رواه أحمد ومسلم والترمذي عن ابن عمر (نيل الأوطار: 147/5) .(4/526)
المضامين والملاقيح (1) ، وعن بيع ما ليس عند الإنسان (2) ؛ لأن المبيع فيها وقت التعاقد معدوم.
واستثنى هؤلاء الفقهاء من هذه القاعدة العامة في منع التصرف بالمعدوم عقود السلَم والإجارة والمساقاة والاستصناع (3) مع عدم وجود المحل المعقود عليه حين إنشاء العقد، استحساناً مراعاة لحاجة الناس إليها، وتعارفهم عليها، وإقرار الشرع صحة السلم والإجارة، والمساقاة (4) ونحوها.
واكتفى المالكية (5) باشتراط هذا الشرط في المعاوضات المالية، أما في عقود التبرعات كالهبة والوقف والرهن فأجازوا ألا يكون محل العقد موجوداً حين التعاقد، وإنما يكفي أن يكون محتمل الوجود في المستقبل.
__________
(1) المضامين: ما في أصلاب الإبل، والملاقيح: ما في بطون النوق. وهذه البيوع كانت متعارفة في الجاهلية. والحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمر (نصب الراية: 10/4) .
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» . (سبل السلام: 16/3) .
(3) السلم: هو بيع آجل بعاجل أي بيع شيء غير موجود بثمن حال، كما يفعل الزراع مع التجار في بيعهم المحصولات الزراعية قبل الحصاد. وقد أجازه الشرع في السنة: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» والإجارة هي عقد على المنافع بعوض. وقد ثبتت مشروعيتها بالقرآن والسنة وإجماع العلماء، والاستصناع: هو الاتفاق على عمل الصانع بأن يصنع شيئاً نظير عوض معين، بخامات من عنده، كما نفعل مع الخياطين والنجارين والحدادين مثلاً. وقد أجيز بالإجماع لحاجة الناس إلى التعامل به في كل زمان ومكان.
(4) المساقاة: هي تعهد العمل على سقاية وتربية الأشجار بنسبة من الناتج. وقد ثبت تشريعها في السنة. ومثلها المزارعة: هي العمل على استثمار الأراضي الزراعية بنسبة من المحصول.
(5) القوانين الفقهية: ص 367، الشرح الصغير: 305/3، ط دار المعارف بمصر. قال ابن رشد في بداية المجتهد: 324/2: «ولا خلاف في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة: كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر» .(4/527)
وأما الحنابلة (1) : فلم يشترطوا هذا الشرط، واكتفوا بمنع البيع المشتمل على الغرر (2) الذي نهى عنه الشرع، مثل بيع الحَمْل في البطن دون الأم، وبيع اللبن في الضرع، والصوف على ظهر الغنم. وأجازوا فيما عدا ذلك ـ كما قرر ابن تيمية وابن القيم ـ بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، كبيع الدار على الهيكل أو الخريطة؛ لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أم معدوماً كبيع الفرس والجمل الشارد، فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود، فبيع المعدوم إذا كان مجهول الوجود في المستقبل باطل للغرر، لا للعدم.
بل إن الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع، فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدء صلاحه، والحب بعد اشتداده، والعقد في هذه الحالة ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد.
وأما حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان فالسبب فيه: هو الغرر لعدم القدرة على التسليم، لا أنه معدوم.
__________
(1) أعلام الموقعين: 8/2 ومابعدها، نظرية العقد لابن تيمية: ص 224، المغني: 200/4، 208.
(2) روى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» أي نهى عن بيع المبيع المشتمل على غرر، فالمبيع نفسه لا البيع هو الغرر، كالثمرة قبل بدو صلاحها. والغرر: ماتردد بين السلامة والعطب. أو ما لا يقدر المتعاقد على تسليمه موجوداً كان أو معدوماً. وبيع الحصاة: أي ماوقعت عليه الحصاة من عدة أشياء (نيل الأوطار: 147/5) .(4/528)
بيع الثمار أو الخضار أو الزروع:
يترتب على اشتراط وجود المعقود عليه أو قابليته للوجود في المستقبل حكم بيع الثمر أو الخضر أو الزرع في الأرض قبل ظهوره أو بعد ظهوره وقبل نضجه (1) .
أـ اتفق الفقهاء على بطلان بيع الثمار والزروع قبل أن تخلق، لنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يخلق، ونهيه عليه السلام عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. وعلل النهي عن البيع بقوله صلّى الله عليه وسلم: «أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه» (2) .
ب ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، صح التعاقد عليه؛ لأن محل العقد موجود. ويجوز إبقاؤه في الأرض أو على الشجر إلى وقت الحصاد أو القطاف عند غير أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن العرف يقتضيه ويتعامل به الناس عادة.
ج ـ إذا أصبح الزرع والثمر بحالة لا ينتفع بهما انتفاعاً كاملاً، كأن صار العنب حصرماً، والبلح بسراً، والزرع سنبلاً أخضر لم ييبس، جاز بيعه عند الإمامين مالك ومحمد بن الحسن استحساناً لتعارف الناس وتعاملهم به. ولم يجز بيعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي، لأن إبقاءه أمر مطلوب، وفي إبقائه منفعة للمشتري لا يقتضيها العقد ولا يلائمه.
__________
(1) انظر عند الحنفية: البدائع: 173/5، المبسوط: 195/12 ومابعدها، فتح القدير: 102/5 ومابعدها، تبيين الحقائق: 12/4، الدر المختار: 40/4، وعند المالكية: المنتقى على الموطأ: 217/4 ومابعدها، بداية المجتهد: 148/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص261. وعند الشافعية: تكملة المجموع: 351/11، 360، مغني المحتاج: 86/2، 89، 91 ومابعدها، وعند الحنابلة: المغني: 80/4، 87، 89 ومابعدها، غاية المنتهى: 68/2 ومابعدها، وعند الظاهرية: المحلى: 471/8 وعند الزيدية: البحر الزخار: 317/3، وعند الإمامية: المختصر النافع: ص 154، وعند الإباضية: شرح النيل: 72/4 ومابعدها.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تَزْهى، قالوا: وما تزهى؟ قال: تحمرّ، وقال: إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك» (نيل الأوطار: 173/5) .(4/529)
د ـ إذا بدا صلاح بعض الأشجار المثمرة في بستان أو في بساتين متجاورة يجوز بيع ما ظهر صلاحه وما لم يظهر عند المالكية والشيعة الإمامية وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، عملاً بحسن الظن بالله تعالى وبمسامحة الإنسان لأخيه، وتعارف الناس عليه، إلحاقاً لما لم يظهر صلاحه بما ظهر، ودفعاً للمشقة على الناس في تعاملهم.
ولم يجز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والظاهرية والإباضية؛ لأن العقد اشتمل على معلوم ومجهول قد لا يخرجه الله تعالى من الشجرة، ولعدم القدرة على تسليم المبيع كله.
والخلاصة: إن من منع البيع في هذه الصور أراد الاحتياط في أخذ مال الغير، ومن أجاز البيع أراد التيسير على الناس ومراعاة الأعراف.(4/530)
هذا ويتفق القانون المدني السوري (م 132،133) مع الفقه الإسلامي في هذا الشرط، فقد شرط فقهاء القانون في محل الالتزام أن يكون شيئاً موجوداً وقت نشوء الالتزام، أو قابلاً للوجود في المستقبل (1) ، لكن لا يجوز قانوناً ولا شرعاً بيع التركة المستقبلة، فلا يجوز للوارث بيع حصته من تركة مورثه وهو على قيد الحياة. ويجوز قانوناً لا شرعاً بيع المؤلف مؤلفه قبل إتمامه، وبيع المحصولات المستقبلة قبل أن تنبت بثمن مقدر، وبيع النتاج الذي لم يولد، ويمكن تصحيح هذه العقود على رأي ابن تيمية الذي يجيز العقد على الشيء الذي يمكن وجوده في المستقبل إذا امتنع الغرر.
2 - أن يكون المعقود عليه مشروعاً:
يشترط أن يكون محل العقد قابلاً لحكمه شرعاً، باتفاق الفقهاء (2) ، بأن يكون مالاً مملوكاً متقوماً، فإن لم يكن كذلك، كان العقد عليه باطلاً، فبيع غير المال كالميتة والدم (3) ، أو هبتها أو رهنها أو وقفها أو الوصية بها باطل؛ لأن غير المال لا يقبل التمليك أصلاً، وذبيحة الوثني والملحد والمجوسي والمرتد كالميتة.
ويبطل بيع غير المملوك أو هبته: وهو المباح للناس غير المحرز كالسمك في الماء والطير في الهواء والكلأ والحطب والتراب والحيوانات البرية أو الشيء المخصص للنفع العام كالطرقات والأنهار والجسور والقناطر العامة؛ لأنها غير مملوكة لشخص أو لا تقبل التملك الشخصي.
والتصرف بغير المتقوم باطل أيضاً: وهو ما لا يمكن ادخاره ولا الانتفاع به شرعاً، كالخمر والخنزير بين المسلمين.
__________
(1) النظرية العامة للالتزام للدكتور عبد الحي حجازي: ص 65.
(2) البدائع: 140/5، حاشية ابن عابدين: 3/4، مغني المحتاج: 11/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 22/3 ومابعدها، غاية المنتهى: 6/2 وما بعدها.
(3) أجاز الشافعية والحنابلة خلافاً لأبي حنيفة ومالك بيع حليب المرأة المرضع للحاجة إليه وتحقيق النفع به، وأجاز الحنابلة بيع أعضاء الإنسان كالعين وقطعة الجلد إذا كان ينتفع بها ليرقع بها جسم الآخر لضرورة الإحياء، وبناء عليه يجوز بيع الدم الآن للعمليات الجراحية للضرورة (راجع المغني: 260/4) .(4/531)
وأما آلات الملاهي كأدوات الموسيقا المختلفة فيجوز بيعها عند أبي حنيفة لإمكان الانتفاع بالأدوات المركبة منها، ولأنها مال في ذاتها، ولا ينعقد بيعها عند الصاحبين وبقية الأئمة؛ لأنها معدة للفساد واللهو. وبناء عليه يضمن قيمتها من يتلف شيئاً منها عند أبي حنيفة، ولا يضمن عند غيره من الفقهاء.
ويبطل التصرف بكل شيء، لا يقبل بطبيعته حكم العقد الوارد عليه، فالأموال التي يتسارع إلىها الفساد كالخضروات والفواكه لا تصلح محلاً للرهن؛ لأن حكمه: وهو حبس المرهون لإمكان استيفاء الدين منه عند عدم الأداء في وقته، لا تقبله هذه الأموال. والمرأة من المحارم كالأخت والعمة بالنسبة لقريبها المحرم لا تصلح محلاً لعقد الزواج. والعمل الممنوع شرعاً كالقتل والغصب والسرقة والإتلاف لا يصح الإجارة عليه.
ويتفق القانون مع الفقه الإسلامي في اشتراط هذا الشرط، فقد شرط القانونيون أن يكون الشيء داخلاً في دائرة التعامل. وأن يكون في بعض الأحوال مملوكاً للملتزم بنقل ملكيته، وذلك في الحقوق العينية المنصبة على شيء معين بالذات (1) ، إلا أن فقهاء الشرع يجعلون تحريم الشرع وعدمه هو المحكم في جعل محل الالتزام مشروعاً أم غير مشروع، والقانون يحكّم في ذلك قواعد النظام العام والآداب.
__________
(1) نظرية الالتزام للدكتور حجازي: ص 65، 71.(4/532)
3 - أن يكون مقدور التسليم وقت التعاقد:
يشترط باتفاق الفقهاء توافر القدرة على التسليم وقت التعاقد، فلا ينعقد العقد إذا لم يكن العاقد قادراً على تسليم المعقود عليه، وإن كان موجوداً ومملوكاً للعاقد. ويكون العقد باطلاً.
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية باتفاق العلماء وفي التبرعات (1) عند غير الإمام مالك، فلا يصح بيع الحيوان الشارد ولا إجارته ورهنه وهبته ووقفه ونحوها، ولا يصح التعاقد بيعاً أو إجارة أو هبة على الطير في الهواء والسمك في البحر والصيد بعد فراره والمغصوب في يد الغاصب والدار في الأرض المحتلة من العدو، لعدم القدرة على التسليم.
وأجاز الإمام مالك أن يكون معجوز التسليم حال التعاقد محلاً لعقد الهبة وغيره من التبرعات (2) . فيصح عنده هبة الحيوان الفارّ وإعارته والوصية به، لأنه في التبرع لا يثور شيء من النزاع حول تسليم المعقود عليه؛ لأن المتبرع فاعل خير ومحسن، والمتبرع له لا يلحقه ضرر من عدم التنفيذ، لأنه لم يبذل قليلاً ولا كثيراً، فلا يكون هناك ما يؤدي إلى النزاع والخصام الذي يوجد في المعاوضات المالية.
وهذا الشرط لم يذكر عند القانونيين، ويظهر أنهم لا يشترطونه.
4 - أن يكون معيناً معروفاً للعاقدين:
لابد عند الفقهاء أن يكون محل العقد معلوماً علماً يمنع من النزاع؛ للنهي الوارد في السنة عن بيع الغرر وعن بيع المجهول (3) .
__________
(1) البدائع: 187/4، 147/5، 119/6، بداية المجتهد: 156/2، الشرح الكبير: 11/3، الشرح الصغير: 22/3، المهذب: 262/1، مغني المحتاج: 12/2، المغني: 200/4 ومابعدها، غاية المنتهى: 10/2.
(2) الشرح الصغير: 142/4.
(3) سبق تخريج الحديث، رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر» وبيع الحصاة: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه هذه الحصاة، ويرمي الحصاة. أو يقول: من هذه الأرض ما انتهت إليه في الرمي (نيل الأوطار: 147/5) .(4/533)
والعلم يتحقق إما بالإشارة إليه إذا كان موجوداً، أو بالرؤية عند العقد أو قبله بوقت لا يحتمل تغيره فيه، ورؤية بعضه كافية إذا كانت أجزاؤه متماثلة، أو بالوصف المانع للجهالة الفاحشة، وذلك ببيان الجنس والنوع والمقدار، كأن يكون المبيع حديداً من الصلب أو الفولاذ من حجم معين.
فلا يصح التصرف بالمجهول جهالة فاحشة: وهي التي تفضي إلى المنازعة.
ويكون العقد فاسداً عند الحنفية، باطلاً عند غير الحنفية، وتغتفر الجهالة اليسيرة، وهي التي لا تؤدي إلى المنازعة ويتسامح الناس فيها عادة.
كما لا يصح التصرف بما يشتمل على الغرر. ويلاحظ أن الغرر أعم من الجهالة فكل مجهول غرر، وليس كل غرر مجهولاً، فقد يوجد الغرر بدون الجهالة كما في شراء الشيء الهارب المعلوم الصفة، ولكن لا توجد الجهالة بدون الغرر (1) .
وهذا الشرط مطلوب في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار باتفاق الفقهاء، أما اشتراطه في غيرها فمحل اختلاف:
فالشافعية والحنابلة (2) يشترطونه في عقود المعاوضات المالية وفي غير المالية كعقد الزواج، وفي عقود التبرعات كالهبة والوصية والوقف.
__________
(1) الفروق للقرافي المالكي: 265/3، تهذيب الفروق بهامشه: 170/3 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج:16/2، المهذب: 263/1،266، المغني: 209/4، 234، غاية المنتهى: 11/2، 332 وما بعدها، 18/3، 60.(4/534)
وقصره الحنفية (3) على المعاوضات المالية وغير المالية، ولا يشترطونه في عقود التبرعات كالوصية والكفالة، فيصح التبرع مع جهالة المحل؛ لأن الجهالة فيه لا تؤدي إلى النزاع، كأن يوصي شخص بجزء من ماله، ويكون البيان متروكاً للورثة. وكأن يقول الكفيل: أنا ضامن ما على فلان من مال.
واكتفى المالكية (4) باشتراطه في عقود المعاوضات المالية فقط، فأبطلوا كل عقد بيع مثلاً إذا كان مشتملاً على جهالة المبيع أو الثمن. ولم يشترطوا هذا الشرط في عقود المعاوضات غير المالية، وفي عقود التبرعات، فأجازوا الزواج المشتمل على غرر قليل لا كثير كأثاث بيت، لا على شيء شارد أو ضائع؛ لأن القصد من المهر هو المودة والألفة فأشبه التبرع فاغتفرت فيه الجهالة اليسيرة، لا الفاحشة؛ لأن في الزواج شبهاً بالمعاوضات، وصححوا التبرع بالمجهول جهالة فاحشة؛ لأن القصد منه الإحسان بالصرف والتوسعة على الناس، ولا يترتب على ذلك نزاع.
__________
(1) المبسوط: 26/13، 49، البدائع: 158/5، فتح القدير: 113/5، 222، الدر المختار: 30/4، 125.
(2) الشرح الكبير: 106/3، القوانين الفقهية: ص 269، المنتقى على الموطأ: 298/4، الفروق: 150/1 ومابعدها.(4/535)
والقانون المدني في المادة (134) اشترط هذا الشرط أيضاً، متجاوزاً عن الجهالة اليسيرة إذا كان المحل غير معين بالذات، أي معيناً بنوعه فقط. فقال فقهاء القانون: يشترط أن يكون الشيء معيناً أو قابلاً للتعيين بشرط بيان طرق التعيين اللاحق. فإذا كان الشيء محل الالتزام مما يعين بذاته وجب أن تكون ذاتيته معروفة. وإذا كان الشيء مما يعيّن بنوعه لزم أن يذكر جنسه ونوعه ومقداره (1) . والشرع والقانون وإن اتفقا على هذا الشرط من حيث المبدأ، لكنهما يختلفان في التطبيق، فالشرعيون يوجبون تعيين محل العقد تعييناً تاماً لا يتطرق إليه أي احتمال، وإلا كان العقد فاسداً عند الحنفية باطلاً عند غيرهم، ولا يجيزون كون المحل قابلاً للتعيين، والقانون يكتفي بكون المحل قابلاً للتعيين، وإن لم يكن معيناً وقت التعاقد، كالتعهد بتوريد أغذية معينة النوع لمدرسة أو مشفى.
وأخيراً اشترط غير الحنفية (2) شرطاً خامساً: وهو أن يكون المبيع طاهراً لانجساً ولا متنجساً؛ لأن جواز البيع يتبع الطهارة، فكل ما كان طاهراً أي ما يباح
__________
(1) موجز النظرية العامة للالتزام لأستاذنا الدكتور عبد الحي حجازي: ص 66 ومابعدها.
(2) مواهب الجليل:258/4 ومابعدها، الشرح الكبير: 10/3، بداية المجتهد: 125/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 246، المهذب: 261/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 11/2، المغني: 251/4،255 وما بعدها، غاية المنتهى: 6/2 ومابعدها.(4/536)
الانتفاع به شرعاً يجوز بيعه عندهم. وأما النجس والمتنجس فيبطل بيعه، والنجس: مثل الكلب ولو كان معلماً للنهي عن بيعه، والخنزير والميتة والدم والزبل والحشرات والبهائم الكاسرة التي لا يؤكل لحمها كالأسد والذئب، والطيور الجارحة كالنسر والغراب والحدأة، والمتنجس الذي لا يمكن تطهيره كالخل والدبس واللبن. لكن أجاز هؤلاء الفقهاء بيع المختلف في نجاسته كالبغل والحمار، وبيع الهر وطيور الصيد كالصقر والعقاب المعلم، والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغاء.
ولم يشترط الحنفية (1) هذا الشرط، فأجازوا بيع النجاسات كشعر الخنزير وجلد الميتة للانتفاع بها إلا ما ورد النهي عن بيعه منها كالخمر والخنزير والميتة والدم (2) ، كما أجازوا بيع الحيوانات المتوحشة، والمتنجس الذي يمكن الانتفاع به في غير الأكل. والضابط عندهم: أن كل ما فيه منفعة تحل شرعاً، فإن بيعه يجوز، لأن الأعيان خلقت لمنفعة الإنسان بدليل قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة:29/2]
__________
(1) البدائع: 142/5 ومابعدها، فتح القدير: 188/5، 122/8.
(2) روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عام الفتح ـ فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة ـ وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام..» (سبل السلام: 5/3) وروى أحمد وأبو داود عن ابن عباس: «… وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه» (نيل الأوطار: 141/5-142) .(4/537)
العنصر الرابع ـ موضوع العقد:
إن موضوع العقد: هو أحد مقوماته الأربعة التي لا بد من وجودها في كل عقد.
وموضوع العقد: هو المقصد الأصلي الذي شرع العقد من أجله. وإذا كان القانون عند القانونيين هو الذي يحدد مقصد العقد أو آثاره، لا إرادة العاقد، فإن المشرع في الشريعة الإسلامية هو الذي يحدد الآثار الخاصة لكل عقد، وبهذا التحديد وفي نطاقه المقرر تتحقق الأغراض الصحيحة التي يقصدها العاقدان من إنشاء العقد.
وموضوع العقد واحد ثابت في كل فئة أو نوع من أنواع العقود، ويختلف باختلاف فئات العقود أو أنواعها، فهو في عقود البيع واحد: وهو نقل ملكية المبيع للمشتري بعوض. وفي الإجارات: هو تمليك المنفعة بعوض، وفي الهبات: هو تمليك العين الموهوبة، بلا عوض، وفي الإعارات: هو تمليك المنفعة بلا عوض، وفي الزواج: هو حل الاستمتاع المشترك بين الزوجين.
وموضوع العقد يتحد في الحقيقة مع عبارتي: المقصد الأصلي للعقد (أو الغاية النوعية من العقد) ، وحكم العقد، فهذه المصطلحات الثلاثة مترادفة يمثل كل واحد منها وجهاً لحقيقة واحدة. فإذا نظر إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر الشارع قبل إيجاد العقد سميت مقصداً أصلياً للعقد أي مآل العقد. وإذا نظر إلى هذه الحقيقة من وجهة نظر الشارع بعد وجود العقد سميت حكم العقد أي الأثر المترتب عليه. وإذا لاحظنا المرحلة المتوسطة التي تقع إبان التعاقد أي بين مرحلة إيجاده وتمامه فتسمى هذه الحقيقة موضوع العقد (1) . فهذه العبارات الثلاث تطلق على حقيقة واحدة مثلثة الوجوه (2) .
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 149، التعبير عن الإرادة في الفقه الإسلامي للدكتور وحيد سوار: ف 531، ص 501 ومابعدها.
(2) يلاحظ أن هناك فرقاً بين موضوع العقد ومحل العقد، أما موضوع العقد فهو المقصد الأصلي للعقد منظوراً إليه إبان تكوين العقد، وأما محل العقد فهو المعقود عليه الذي يثبت فيه حكم العقد كالمبيع والثمن.(4/538)
والمقصد الأصلي للعقد في الشريعة ربما يلتقي في بعض الخصائص مع المفهوم التقليدي للسبب عند القانونيين، وهو الذي لم تأخذ به قوانيننا العربية في سورية ومصر وليبيا وغيرها. وهو المسمى: السبب الفني للالتزام: وهو السبب القريب المجرد الذي يكون واحداً في كل الالتزامات التي من نوع واحد، وهو لازم لنشوء الالتزام ولاستمراره.
فكل من المقصد الأصلي والسبب الفني موضوعي وواحد في العقد. ففي عقد البيع مثلاً السبب الفني لالتزام البائع بنقل ملكية المبيع: هو التزام المشتري بدفع الثمن. والمقصد الأصلي لعقد البيع: هو نقل الملكية بعوض، أي أن السبب الفني هو واحد في كل التزام بنقل الملكية، لا يختلف من التزام إلى آخر بحسب اختلاف الأشخاص. فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو رغبته في الحصول على ثمن ما باع. وكذلك المقصد الأصلي هو واحد كما عرفنا في النوع الواحد من العقود، لا يختلف إلا باختلاف نوع العقد.
لكن الفرق بين السبب الفني والمقصد الأصلي: هو أن السبب الفني ملازم لإرادة العاقد الخاصة، وإن كان متميزاً عنها. أما المقصد الأصلي فهو في الأصل منفك عن الإرادة الخاصة للعاقد، غير متلازم معها، وإنما هو متلازم مع إرادة الشارع (1) .
فالسبب في الفقه الإسلامي هو المقصد الأصلي للعقد (2) ، أي أن السبب هو مجموع الآثار المتولدة، فإن كانت هذه الآثار سليمة، ذات محل مشروع، كان العقد صحيحاً، وإلا كان العقد باطلاً. وهذه الآثار: هي التي دفعت العاقد إلى التعاقد.
__________
(1) التعبير عن الإرادة، للدكتور سوار: ف 534.
(2) المرجع السابق: ف 517.(4/539)
والحقيقة: أن التقاء المقصد الأصلي في الشريعة مع السبب الفني في بعض الخصائص لا يعني أن أحدهما هو بمعنى الآخر؛ لأن السبب الفني هو سبب الالتزام وسبب الالتزام يختلف عن سبب العقد. ففي العقود التبادلية: سبب التزام أحد المتعاقدين هو التزام المتعاقد الآخر، فسبب التزام البائع بنقل الملكية هو التزام المشتري بدفع الثمن. وسبب التزام المشتري بدفع الثمن هو التزام البائع بنقل الملكية.
وهذا المعنى للسبب المدني يختلف عن المقصد العام للعقد في الشريعة، المعتبر في جميع العقود التي تبرم من نوع واحد، فالبيوع كلها مقصدها واحد هو المقصد العام لهذا النوع من العقد. وهو يختلف عن السبب الفني؛ لأن الثاني خاضع لإرادة العاقد، والمقصد النوعي خاضع لإرادة الشرع.
والسبب الفني يختلف عن الباعث؛ لأن الأول: هو الغرض الدافع والمباشر الذي التزم المدين من أجله. والباعث: هو ما قبل ذلك من الدوافع (1) . وإذا كان الفقه الإسلامي لا يعتد بالسبب الفني في المفهوم التقليدي للسبب عند القانونيين فإنه يتوصل إلى الدور نفسه الذي يقوم به السبب الفني من ناحيتين: أولاهما ـ من طريق تحديد شرائط العقد والمحل، كعنصر نشوء أو تكوين، وثانيهما ـ من طريق فكرة «التعادل» في التبادل كعنصر تنفيذ (2) .
السبب في النظرية الحديثة عند القانونيين:
السبب في القضاء اليوم والذي أخذت به القوانين المدنية العربية في سوريا (م137، 138) وفي مصر (م 136،137) :هو المسمى: سبب العقد، أو السبب
__________
(1) موجز نظرية الالتزام، للدكتور حجازي: ص 104.
(2) التعبير عن الإرادة: المرجع السابق: ف 526، النظرية العامة للالتزام، سوار: ص 154.(4/540)
المصلحي أو سبب السبب وهو الباعث الذاتي أو الدافع البعيد الذي دفع العاقد إلى العقد. والسبب بهذا المعنى ليس عنصراً موضوعياً، وإنما يختلف في النوع الواحد من الالتزامات باختلاف الأشخاص، فهو إذن عنصر شخصي، غير ثابت، بعكس السبب الفني الذي يعد عنصراً موضوعياً ثابتاً في النوع الواحد من الالتزام.
وإذا كانت وظيفة السبب الفني أو التقليدي: هي سلامة الالتزام من الناحية الفنية، فوظيفة سبب العقد أو السبب في النظرية الحديثة: هي منع صحة عقد يبتغى بوسائل مشروعة للوصول إلى نتائج غير مشروعة، فبه تتحقق مصلحة المجتمع، وهي حماية الأخلاق أو النظام العام، أي أن السبب المصلحي يتضمن فكرة الجزاء على خطأ: وهو إرادة المتعاقدين تحقيق غاية غير مشروعة.
موقف الفقهاء من نظرية السبب بالمعنى الحديث (الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة) : في الفقه الإسلامي حول نظرية السبب هذه اتجاهان (1) :
اتجاه تغلب فيه النظرة الموضوعية، واتجاه يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية.
أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (2) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو الباعث، لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات.
__________
(1) مصادر الحق للسنهوري: 51/4 ومابعدها.
(2) راجع عند الحنفية مختصر الطحاوي: ص 280، تكملة فتح القدير: 127/8، البدائع: 189/4، تبيين الحقائق: 125/5، وعند الشافعية: الأم: 85/3، المهذب: 267/1، مغني المحتاج: 37/2 وما بعدها، الباجوري على ابن القاسم: 353/1، تحفة الطلاب: ص 143، 211.(4/541)
ولا تأثير للسبب أو الباعث على العقد إلا إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة العقد بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح لاشتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد، ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة.
وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية مع الكراهة التحريمية عند الحنفية والحرمة أو الكراهة عند الشافعية:
1 - بيع العينة: (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا) كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة ليرة، ثم شراؤها في الحال بمئة وعشر، فيكون الفرق ربا (1) . لكن أبا حنيفة استثناه من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض. فيكون بيع العينة ممنوعاً غير جائز عند مالك وأبي حنيفة وأحمد والهادوية من الزيدية. وجوز ذلك الشافعي وأصحابه مستدلين على الجواز في الظاهر بما وقع من ألفاظ البيع التي لايراد بها حصول مضمونه.
2 - بيع العنب لعاصر الخمر، أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمراً، أو يظنه ظناً غالباً، وهو حرام عند الشافعية، فإن شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه فالبيع مكروه في رأيهم.
__________
(1) وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين: هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره، ليصل به إلى مقصوده.(4/542)
3 - بيع السلاح في الفتنة الداخلية أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطرق المحاربين ومثله بيع أدوات القمار، وإيجار دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها ونحو ذلك، وهو بيع حرام عند الشافعية.
4 - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً ثلاثاً (أي البائن بينونة كبرى) بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلاً ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، عملاً بظاهر الآية القرآنية: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/2] . وهو مكروه عند الشافعية إذا لم يشرط في صلب العقد ما يخل بمقصوده الأصلي، فإن شرط ذلك كأن شرط أن يطلق بعد الوطء حرم وبطل.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في صيغة العقد وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد.
وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والشيعة (1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك
__________
(1) راجع عند المالكية: بداية المجتهد: 140/2، الشرح الكبير للدردير مع الدسوقي: 91/3، مواهب الجليل للحطاب: 404/4، 263، القوانين الفقهية: ص 258، 271 ومابعدها، الموافقات: 261/2، الفروق: 266/3 ومابعدها. وعند الحنابلة: المغني: 174/4 ومابعدها و 222/4، أعلام الموقعين: 106/3، 108، 121 ومابعدها، 131، 148، غاية المنتهى: 18/2، وعند الشيعة الجعفرية: المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 140، وعند الزيدية: المنتزع المختار: 19/3 ومابعدها.(4/543)
بالظروف والقرائن التي تدل على القصد الخبيث كإهداء العدو هدية لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة، فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (1) .
هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، قال الشوكاني (2) : لا خلاف في تحريم بيع العنب لمن يعصره خمراً في حال القصد وتعمد البيع إلى من يتخذه خمراً. وأما مع عدم القصد والتعمد للبيع فذهب جماعة من أهل العلم إلى جوازه مع الكراهة ما لم يعلم أنه يتخذه لذلك.
وبناء عليه قال المالكية والحنابلة ومن وافقهم ببطلان العقود السابقة، وأضاف لها المالكية أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة، أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (3) .
أما عدم صحة بيع العنب للخمار وبيع السلاح للأعداء ونحوهما فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد قصد به تكوين أسرة دائمة، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير مشروع. وأما فساد بيع العينة (أو بيوع الآجال) فلأنه اتخذ البيع حيلة لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء. فهو وسيلة لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات ولو لم تذكر في العقود بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب، التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً فلا يصح العقد.
__________
(1) القواعد لابن رجب: ص 322.
(2) تيل الأوطار: 154/5.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 254/4، ط دار الفكر.(4/544)
المطلب الثالث ـ الإرادة العقدية:
الإرادة هي القوة المولدة للعقد، والعقد كما تقدم: هو توافق إرادتين على وجه ينتج أثره الشرعي، وهو الالتزام المطلوب للمتعاقدين. والكلام أو التعبير هو ترجمان الإرادة، فينبغي أن يكون معبراً تماماً عن الإرادة. والإرادة نوعان: باطنة حقيقية، وظاهرة.
والإرادة الباطنة: هي النية أو القصد:
والإرادة الظاهرة: هي الصيغة التي تعبر عن الإرادة الباطنة، أو ما يقوم مقامها كالتعاطي، فإذا تطابقت الإرادتان وجد العقد. وإذا وجدت الإرادة الظاهرة وحدها كالتعبير الصادر من الطفل غير المميز أو النائم أو المجنون، لم تفد شيئاً، كما أن التصرف لا يوجد بمجرد النية أو الإرادة الباطنة، فمن نوى الطلاق أو الوقف لا يصبح بمجرد نيته مطلِّقاً أو واقفاً. وقد عرفنا في بحث صيغة التعاقد ما تتحقق به الإرادة الظاهرة.
وأما الإرادة الباطنة فتتحقق بالرضا والاختيار.(4/545)
والحنفية يقررون أن الرضا والاختيار شيئان متغايران. فالاختيار: هو القصد إلى النطق بالعبارة المنشئة للعقد، سواء أكان ذلك عن رضا أم لا. والرضا: هو الرغبة في أثر العقد عند التلفظ بما يدل على إنشائه. فإذا وجد الرضا وجد الاختيار، وإذا وجد الاختيار لا يلزم وجود الرضا.
وغير الحنفية: الرضا والاختيار بمعنى واحد.
لكن في الحياة العملية: قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، ولا توجد معها إرادة باطنة، فماحكم العقد؟
هذا ما يبحث في الفرع الأول من هذا المطلب وهو صورية العقد، ويأتي بعده بحث الفرعين الآخرين. فإذا لم توجد الإرادة الباطنة الحقيقية كان العقد صورياً. وإذا وقع الشك في وجود الإرادة الحقيقية، كان العقد معيباً بعيب من عيوب الرضا أو الإرادة.
الفرع الأول ـ صورية العقود:
قد توجد الإرادة الظاهرة وحدها، وتنعدم الإرادة الباطنة، فيكون العقد صورياً، ويظهر ذلك في الأحوال التالية:
1- حالة السكر والنوم والجنون وعدم التمييز والإغماء:
إن العقود التي تصدر من النائم والمجنون وغير المميز ونحوهم لا أثر لها، لانعدام الإرادة الحقيقية في إنشاء العقد. والسكران أيضاً ليست له إرادة حقيقية في التصرف، لكن مع ذلك اختلف الفقهاء في تصرفاته، كما تقدم سابقاً.
فقال الإمام أحمد وبعض المالكية (1) : لا تعتبر تصرفات السكران، لعدم توفر القصد الصحيح عنده، فلا يصح بيعه وشراؤه وعقوده وطلاقه وسائر أقواله. وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية في سوريا ومصر، وهو الرأي الراجح والمعقول لدينا. لكن المشهور في مذهب المالكية: نفوذ طلاق السكران.
وقال الحنفية والشافعية (2) : إذا كان السكر بمباح كحالة البنج والاضطرار والإكراه ونحوها، فلا تعتبر أقواله وأفعاله، ولا أثر لعبارته، لعدم تحقق القصد منه. وإذا كان السكر بمحرم فيؤاخذ بأقواله عقاباً وزجراً له، فتصح عقوده كالبيع والزواج، وتصح تصرفاته كالطلاق، وتترتب عليها آثارها.
2 - عدم فهم العبارة:
إذا لم يفهم الشخص عبارة غيره الذي نطق بعبارة تدل على الرضا بالتصرف لم ينعقد العقد، سواء في الإيجاب أو القبول؛ لأن العبارة الصادرة منه لا تدل على قصد صحيح، ولا تعبر عن إرادته، والإرادة أو القصد أساس الرضا.
لكن قال الحنفية (3) : إذا كان التصرف مما يستوي فيه الجدل والهزل كالزواج والطلاق
__________
(1) المغني: 113/7، الشرح الكبير: 5/3، القوانين الفقهية: ص 227، وهذا رأي الكرخي والطحاوي من الحنفية.
(2) فتح القدير: 40/3، نهاية المحتاج: 12/3.
(3) فتح القدير: 249/2، الدر المختار ورد المحتار: 367/2، ط الأميرية.(4/546)
والرجعة واليمين، وعلم العاقدان أن اللفظ المستخدم ينعقد به التصرف، وإن لم يعلما حقيقة معناه، فينعقد به التصرف؛ لأن فهم اللفظ أمر مطلوب لأجل
القصد، وهذه التصرفات لا يشترط فيها القصد، فلا يشترط في الناطق بما يدل عليها أن يكون فاهماً لمعناها. لكن في هذا مغالاة؛ لأن عدم اشتراط القصد في هذه التصرفات يكون بعد فهم المعنى. ولا يعقل ترتيب الآثار على تصرف غير مفهوم المعنى.
3 - حالة التعلم والتعليم والتمثيل:
إذا ردد المتكلم عبارات التصرفات، ولكنه لا يريد إنشاء التزام أو عقد، بل يريد غرضاً آخر كالتعلم والتعليم والتمثيل، فلا يترتب على عبارته أي أثر. كما إذا ردد القارئ عبارة البيع أو الشراء أو الطلاق المسطرة في كتب الفقهاء بقصد تعلمها أو حفظها، أو بقصد تعليمها لغيره، فلا يترتب على كلامه أي أثر. وكذلك ترديد الممثلين عبارات التمثيل وحكاية أقوال الآخرين، مثل زوجيني نفسك، فقالت: زوجتك نفسي، لا يترتب عليه أي أثر؛ لأن المتكلم في هذه الأمثلة لا يقصد إنشاء العقد، بل قصد غرضاً آخر، وهو التمثيل أو الحفظ أو توضيح الحكم للتلاميذ.(4/547)
4 - الهزل أو الاستهزاء: الهزل ضد الجد: وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح اللفظ له استعارة. فإذا نطق الشخص بعبارة لا يريد بها إنشاء التصرف، وإنما قصد بها الهزل أو الاستهزاء والعبث، مستخدماً صورية التصرف القولي أو العقد، كانت العبارة الصادرة من الهازل عند الشافعية على الراجح (1) صالحة لإنشاء العقود وترتيب الآثار عليها، سواء في المعاوضات المالية كالبيع والإيجار أم في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق، وذلك عملاً بالإرادة الظاهرة، لا بالقصد الداخلي، وحفاظاً على مبدأ استقرار العقود والمعاملات، ولا يلتفت إلى دعوى الهزل.
وفصل الحنفية والحنابلة وأكثر المالكية (2) بين عقود المبادلات المالية وغيرها. فعقود المبادلات المالية كالبيع أو التي محلها المال كالهبة والوديعة والعارية لا يترتب على عبارة الهازل بها أي أثر لعدم تحقق الرضا أو القصد الذي تقوم عليه الإرادة.
وأما التصرفات الخمسة التي سوى الشارع فيها بين الجد والهزل (وهي الزواج والطلاق والرجعة والإعتاق واليمين) فصححوا عبارة الهازل فيها، ورتبوا عليها آثارها، أخذاً بحديث نبوي سابق هو: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق» (3) وفي رواية «الرجعة» وفي رواية أخرى «اليمين» ، ولأن هذه التصرفات خطيرة مشتملة على حق لله، وهو ليس موضعاً للهزل والاستهزاء.
5 - الخطأ:
الخطأ: هو وقوع الفعل بدون قصد، كأن يقصد المتكلم النطق بكلمة فيسبق لسانه إلى كلمة أخرى فيتلفظ بها، كأن يقول: طلّقت، وهو يريد أن يقول: بعت.
والمخطئ كالناسي أو المجنون عند الشافعية والمالكية والحنابلة (4) لايترتب على عبارته أي عقد أو التزام، عملاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (5) .
__________
(1) راجع المجموع شرح المهذب للنووي: 184/9، نهاية المحتاج: 82/6.
(2) رد المحتار: 363/2، 367، ط الأميرية: 7/4،255، الشرح الكبير للدسوقي: 4/3، المغني: 535/6، كشاف القناع: 5/2 ومابعدها، غاية المنتهى: 17/3.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) إلا النسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 234/6) وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
(4) الفروق للقرافي: 149/2، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام الحنبلي: ص 30 ومابعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي: 69.
(5) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس.(4/548)
وقال الحنفية (1) : المخطئ والناسي يترتب على عبارتهما أثرها في التصرفات والعقود؛ لأن الإرادة أمر باطني خفي لا اطلاع لنا عليه، فلو قبلنا دعوى الخطأ والنسيان في التصرفات لتزلزلت المعاملات، وضاعت الحقوق.
والخلاصة: أن رأي الحنفية في الخطأ على عكس رأيهم في الهزل.
6 - التلجئة أو المواضعة (2) :
هي أن يتظاهر أو يتواطأ شخصان على إبرام عقد صوري بينهما إما بقصد التخلص من اعتداء ظالم على بعض الملكية، أو بإظهار مقدار بدل أكثر من البدل الحقيقي ابتغاء الشهرة والسمعة، أو لتغطية اسم الشخص الذي يعمل لمصلحته باطناً (قضية الاسم المستعار) .
أي أن المواضعة إما أن تكون في أصل العقد، أو في مقدار البدل، أو في الشخص.
مثال الحالة الأولى: أن يخاف إنسان اعتداء إنسان اعتداء ظالم على بعض ما يملك، فيتظاهر هو ببيعه لثالث فراراً منه، ويتم العقد مستوفياً أرفانه وشرائطه. ومثله بيع المدين أمواله لتهريبها من وجه الدائنين، أوعقد قروض صورية لبعض الناس لمزاحمة الدائنين الحقيقيين، أو إقرار المورث لبعض ورثته بدين لتفضيله في نصيب الإرث.
ومثال الحالة الثانية: إعلان زيادة في المهر في عقد الزواج بعد الاتفاق سراً على مقدار المهر الحقيقي بقصد الرياء والسمعة والشهرة. أو زيادة الثمن في عقد
__________
(1) البحر الرائق: 363/3، التلويح على التوضيح: 169/2، الأشباه والنظائر لابن نجيم: 106/1، 135/2، كشف الأسرار: ص1396، مرآة الأصول: 441/2.
(2) وتسمى عقد الأمانة أو التواطؤ.(4/549)
بيع العقار لمنع الشفيع من الأخذ بالشفعة. فلا يجب في هذه الحالة إلا المهر المتفق عليه سراً في عقد الزواج، أو الثمن الحقيقي الذي تم به البيع، وكل من الزواج والبيع صحيح.
ومثال الحالة الثالثة: تواطؤ اثنين على إخفاء وكالة سرية في عمل معين، والتظاهر بأن الوكيل يعمل باسمه لمصلحته الشخصية أو أنه هو الأصيل في العمل، ثم يعلن أن اسمه مستعار، كأن يقرر شخص بأن الدكان أو السند أو الأموال التي في يده هي لشخص آخر، فيعد قوله إقراراً بالحق لذلك الشخص (راجع المجلة: م 1591 - 1593) .
وقد اختلف الفقهاء في حكم عقد التلجئة أي بالنسبة للحالة الأولى:
فقال الحنفية والحنابلة (1) : إنه عقد فاسد غير صحيح كحالة الهزل تماماً؛ لأن العاقدين ما قصدا البيع، فلم يصح منها كالهازلين. كما لايصح عقد القرض الصوري أو الإقرار كما في حالة الهزل (2) .
وقال الشافعية (3) : هو بيع صحيح؛ لأن البيع تم بأركانه وشروطه، وأتي باللفظ مع قصد واختيار خالياً عن مقارنة مفسد، أي أن رأيهم في هذه العقود كرأيهم في عقود الهازل.
7 - الإكراه:
يقصد الشخص في حالة الإكراه التلفظ بالعبارة مع فهمه لمعناها، ولكنه لم يرض بترتب الآثار عليها. فالإكراه بنوعيه الملجىء وغير الملجئ يعدم الرضا، أي الإرادة الحقيقية.
__________
(1) رد المحتار والدر المختار: 255/4، المغني: 214/4، 189.
(2) الهزل أعم من التلجئة لأنه يجوز ألا يكون العاقد فيه مضطراً إليه وأن يكون الهزل سابقاً للعقد أو مقارناً له، والتلجئة إنما تكون عن اضطرار، ولا تكون مقارنة. هذا في قول، والأظهر كما حقق ابن عابدين أنهما سواء في الاصطلاح.
(3) مغني المحتاج: 16/3، المجموع للنووي: 168/8.(4/550)
وبما أن الإكراه يعدم الرضا لم يترتب عند غير الحنفية (الجمهور) على عبارة المستكره أي أثر في جميع العقود والتصرفات، للحديث السابق: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فلا يصح طلاقه وزواجه وغيرهما، كالسكران. وبهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة (89) (1) والقانون المصري.
إلا أن الشافعية والحنابلة قالوا: بيع المكره باطل (2) .
وقال المالكية: بيع المكره غير لازم، فيكون للعاقد المستكره الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه. وقال ابن جزي المالكي: بيع المكره وشراؤه باطلان (3) .
وأما الحنفية (4) فاعتبروا الإكراه كالهزل تماماً. فالعقود المالية كالبيع والإجارة والرهن ونحوها، أو التي محلها المال كالهبة والوديعة والإعارة تكون موقوفة على إجازة المستكره بعد زوال ظرف الإكراه، فإن رضي بها وأجازها في مدة ثلاثة أيام وبقي العاقد الآخر راضياً نفذت، وإن لم يجزها بطلت. وهذا رأي زفر وهو الأصح.
والتصرفات الخمسة التي لله فيهاحق (وهو الزواج والطلاق والرجعة واليمين والعتاق) تكون صحيحة كالهزل تماماً؛ لأن الشارع جعل العبارة فيها عند القصد إليها قائمة مقام الإرادة، فيترتب عليها أثرها.
__________
(1) نص المادة: «1 - لا يقع طلاق السكران ولا المدهوش ولا المكره.
2 - المدهوش: هو الذي فقد تمييزه من غضب أو غيره، فلا يدري ما يقول» .
(2) مغني المحتاج: 7/2 ومابعدها، غاية المنتهى: 5/2.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 6/3، القوانين الفقهية: ص 246.
(4) مختصر الطحاوي: ص 191، 408، رد المحتار لابن عابدين: 4/4، 255، 89/5-91، الفرائد البهية في القواعد للشيخ محمود حمزة: ص 324.(4/551)
8 - القصد غير المشروع:
إذا اتخذ العاقد عقداً مباحاً وسيلة لتحقيق غرض غير مباح شرعاً، أي كان الدافع له سبباً غير مشروع، فللفقهاء بالنسبة للعقد في حد ذاته رأيان، وذلك مثل بيع السلاح لأهل الفتنة، وبيع العصير لمن يتخذه خمراً، وبيع العينة وزواج المحلل ونحوها.
قال الإمام الشافعي: العقد صحيح، لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول والنية غير المشروعة متروك أمرها لله عز وجل يعاقب صاحبها.
وقال الصاحبان وسائر الأئمة الآخرين: العقد غير صحيح، وليس للإيجاب والقبول أثر متى قام الدليل على هذا القصد الآثم.
وقد سبق بحث الرأيين في نظرية السبب عند الفقهاء.
الفرع الثاني ـ سلطان الإرادة العقدية (أو مدى الحرية في العقود والشروط) :
يأخذ فقهاء القانون الحديث بمبدأ سلطان الإرادة العقدية أي أن الإرادة حرة في إنشاء العقود واشتراط الشروط لتحديد التزامات التعاقد وآثاره المترتبة عليها، ولكن في حدود النظام العام (1) : وهي الحدود التي يضعها التشريع وفقاً لمصالح الفرد والمجتمع ومقتضيات السياسة والاقتصاد، فلا يصح مثلاً الاستئجار على ارتكاب جريمة أو على فعل ما ينافي الآداب الاجتماعية، أو النظام الاقتصادي والسياسي.
ويعبر القانونيون عن حرية الاشتراط وتحديد التزامات التعاقد بقاعدة مشهورة هي (العقد شريعة المتعاقدين) أي أنه قانون ملزم لكل من الطرفين المتعاقدين فيما تقضي به بنوده وشروطه. وقد نص القانون المدني السوري على ذلك في المادة (1/148) .
وهذا يعني أن السلطان المطلق في إنشاء العقد وآثاره المترتبة عليه هو لإرادة المتعاقدين، دون نظر إلى فكرة التعادل في الغنم والغرم أي ما قد يكون من غبن فاحش على أحد المتعاقدين.
__________
(1) لا تعترف الشريعة بما يسمى بالنظام العام، وإنما بما حدّه الله ورسوله.(4/552)
كما أنه يمكن الاتفاق على أنواع جديدة من العقود بحسب ما تقتضيه المصالح الاقتصادية والتطورات الزمنية، دون اقتصار على ما يعرف بالعقود المسماة وهي التي نظمها التشريع وحدد لها التزامات معينة.
وسنعرف أن الفقه الحنبلي يلتقي مع مبدأ سلطان الإرادة المعمول به في نطاق القوانين المدنية المعاصرة.
وسأبحث هذا المبدأ في الفقه الإسلامي من ناحيتين:
الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته.
والثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقد.
الأولى ـ حرية التعاقد ورضائيته:
اتفقت الاجتهادات الإسلامية على أن الرضا أساس العقود (1) لقوله تعالى في المعاملات المالية: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
__________
(1) راحع نظرية العقد لابن تيمية: ص 152 ومابعدها.(4/553)
تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] وقوله سبحانه في استحقاق أخذ شيء من حقوق الزوجات: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] وقال النبي صلّى الله عليه وسلم «إنما البيع عن تراض» (1) «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (2) . وبناء عليه فإن مجرد التراضي هو الذي يولد العقد والتزاماته، دون حاجة لممارسة شكلية معينة، إلا عقد الزواج الذي يخضع لخطورته لشكلية الإعلان بالإشهاد عليه. والإرادة حرة في إبرام العقد دون خضوع لأي نوع من أنواع الإكراه العقدي، سواء في المعاملات المالية، أم في عقود الزواج، إلا ما توجبه قواعد العدالة ومصلحة الجماعة، كبيع القاضي أموال المدين المماطل جبراً عنه لإيفاء ديونه، وبيع الأموال المحتكرة لصالح الجماعة، واستملاك الأراضي للمصالح العامة.
واختلفت الاجتهادات الإسلامية على رأيين في مبدأ حرية إنشاء العقود (حرية التعاقد) أي اختيار نظام معين ليكون عقداً بين طرفين، أو اختيار نوع معين من أنواع العقود الجديدة بالإضافة إلى العقود المتعارف عليها في الماضي. وهذان الرأيان هما ما يأتي:
الرأي الأول ـ للظاهرية: (أتباع داود بن علي وابن حزم الأندلسي) (3) وهم المضيقون الذين يقولون: الأصل في العقود المنع حتى يقوم دليل على الإباحة، أي أن كل عقد أو شرط لم يثبت جوازه بنص شرعي أو إجماع فهو باطل ممنوع (4) . واستدلوا على رأيهم بأدلة ثلاثة:
1 - إن الشريعة شاملة لكل شيء، وقد تكفلت ببيان ما يحقق مصالح الأمة، ومنها العقود، على أساس من العدل، وليس من العدل ترك الحرية للناس في عقد مايريدون من العقود، وإلا أدى ذلك إلى هدم نظام الشريعة.
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري.
(2) رواه الدارقطني عن أنس، وفيه مجهول (نيل الأوطار: 316/5) .
(3) وليس لهم أتباع في العصر الحاضر.
(4) فتاوى ابن تيمية: 323/3، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 593/5 ومابعدها ط الإمام.(4/554)
2 - يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) فكل عقد أو شرط لم يشرعه الشرع بنص أو إجماع يكون باطلاً؛ لأنه إذا تعاقد الناس بعقد لم يرد في الشريعة وأصولها يكونون قد أحلوا أو حرموا غير ماشرع الله، وليس لأحد من المؤمنين سلطة التشريع. قال ابن حزم معلقاً على هذا الحديث: «فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه، إلا ما صح أن يكون عقداً جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه
بعينه» (2) .
3 - يؤيده الحديث النبوي: «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مئة شرط» (3) أي أن الشرط غير المنصوص عليه باطل، فيقاس عليه العقد، غير المنصوص عليه.
الرأي الثاني ـ للحنابلة وبقية الفقهاء: وهم الموسعون الذين يقولون: الأصل في العقود وما يتصل بها من شروط الإباحة ما لم يمنعها الشرع أو تخالف نصوص الشرع. واستدلوا على رأيهم بما يأتي:
1 - إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابق ذكرها لم تشترط لصحة العقد إلا الرضا والاختيار، وكذلك آية {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1/5] أوجبت الوفاء بكل عقد دون استثناء، أي أنها نصت على مبدأ القوة الإلزامية للعقد، وأوجبت على الإنسان الوفاء بعقده الذي باشره بإرادته الحرة، فيصبح العقد ملزماً له بنتائجه، ومقيداً لإرادته حفظاً على مبدأ استقرار التعامل. وهذا يدل على أن تحريم شيء من العقود أو الشروط التي يتعامل بها الناس تحقيقاً لمصالحهم، بغير دليل شرعي، تحريم لما لم يحرمه الله، فيكون الأصل في العقود والشروط هو الإباحة.
2 - هناك فرق بين العبادات والمعاملات. أما العبادات فيجب ورود الشرع بها، وأما المعاملات ومنها العقود فلا تتطلب ورود الشرع بها. فيكفي في صحتها ألا تحرمها الشريعة استصحاباً للمبدأ الأصولي وهو أن الأصل في الأفعال والأقوال والأشياء هو الإباحة؛ لأن القصد من المعاملات رعاية مصالح الناس، فكل ما يحقق مصالحهم يكون مباحاً. ويصح التعامل بعقود جديدة لم تعرف سابقاً من طريق القياس أو الاستحسان أو الإجماع أو العرف الذي لا يصادم أصول الشريعة ومبادئها. وهذه المصادر لا بد لها من سند في الكتاب أو السنة.
__________
(1) رواه مسلم عن عائشة، وفي لفظ البخاري: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
(2) الإحكام في أصول الأحكام: 615/5.
(3) رواه مسلم عن عائشة بلفظ «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مئة شرط، كتاب الله أوثق» .(4/555)
3 - يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» (1) «الناس على شروطهم ما وافقت الحق» ويقاس على الشروط الصحيحة كل عقد لا يصادم أصول الشريعة، ويحقق مصالح الناس.
وهذا الرأي هو الأصح، إذ لم نجد في الشرع ما يدل على أي حصر لأنواع العقود وتقييد الناس بها، فكل موضوع لم يمنعه الشرع ولا تقتضي قواعد الشريعة وأصولها منعه جاز التعاقد عليه، على أن تراعى شرائط انعقاد العقود كالأهلية والصيغة وقابلية المحل لحكم العقد.
الثانية ـ حرية الاشتراط وترتيب آثار العقود والقوة الملزمة للعقد:
اتفق الفقهاء على أن العقد المستكمل لأركانه وشرائطه يتمتع بالقوة الإلزامية أي أن كل عقد باشره الإنسان بإرادته الحرة ملزم له بنتائجه، ومقيد لإرادته؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] وقوله: {وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء:34/17] .
واتفق الفقهاء أيضاً على أن ترتيب آثار العقود هي في الأصل من عمل الشارع، لا من عمل المتعاقدين. فإرادة المتعاقدين هي التي تنشئ العقد، ولكن الشريعة هي التي ترتب ما لكل عقد من حكم وآثار، ويقول الفقهاء: إن العقود أسباب «جعلية شرعية» لآثارها، أي أن الرابطة بين العقد وآثاره باعتبار أن أحدهما مسبب والآخر سبب ليست رابطة آلية طبيعية عقلية، وإنما هي رابطة جعلها الشارع بينهما، حتى لا يبغي بعض الناس على بعض بما يشترطون من شروط، وحتى يكون لكل تصرف حكمه من المشرع الحكيم.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي عن عمرو بن عوف، وقوله: «والمسلمون..» من زيادة رواية الترمذي، وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح. وقولهم «الناس على شروطهم» في معنى «المسلمون على شروطهم ... الحديث» .(4/556)
فإرادة الإنسان مقصورة على إنشاء العقد فقط كعقد البيع، وأما ما يترتب على العقد من آثار كنقل ملكية المبيع إلى المشتري واستحقاق الثمن في ذمة المشتري للبائع، فمتروك لتقدير الشرع.
وتستمد إرادة العاقدين سلطانها من الشرع بالحدود التي حددها لكل عقد، فقد تكون حدود الشرع محققة لحاجةالعاقدين، فلا يحتاجان إلى اشتراط شروط تنقص أو تزيد من آثار العقد المشروعة، فإن لم تحقق حاجة العاقدين وغرضهما احتاجا إلى اشتراط شروط تحقق الغرض المطلوب.
فما مدى سلطة العاقدين على تعديل آثار العقود، أو ما صلاحية الفقهاء في استنباط الحدود المقررة في الشرع أو تعديل الآثار الأصلية للعقد عن طريق اشتراط العاقدين الشروط العقدية إما بالنقص من تلك الآثار، أو بإضافة التزامات على أحد العاقدين لا يستلزمها أصل العقد؟.
وحرية الاشتراط: هو مبدأ سلطان الإرادة في تعديل آثار العقد المقرر في القوانين، علماً بأن الشريعة والقانون متفقان على أن تقرير آثار العقود وأحكامها هو من إرادة الشارع لا من عمل العاقد، والفارق بينهما في مدى تفويض الشارع إلى العاقدين من السلطان على تعديل الأحكام التي قررها التشريع مبدئياً في كل عقد (1) .
للفقهاء الشرعيين رأيان في حرية الاشتراط في العقود:
الرأي الأول ـ للظاهرية، وهم القائلون بأن الأصل في العقود المنع، قالوا: إن الأصل في الشروط المنع، فكل شرط لم يقره الشرع في القرآن أو السنة فهو باطل.
الرأي الثاني ـ لسائر الفقهاء الآخرين: وهو أن الأصل في العقود والشروط الإباحة، لكن هؤلاء فريقان:
1 - الحنابلة يقولون: الأصل في الشروط العقدية هو الإطلاق، فكل شرط لم يرد الشرع بتحريمه فهو جائز.
2 - غير الحنابلة يقولون: الأصل في الشروط العقدية هو التقييد، فكل شرط خالف الشرع أو مقتضى العقد فهو باطل، وما عداه فهو صحيح.
__________
(1) المدخل الفقهي للزرقاء: ف 215، وحاشية ف 217: ص 475.(4/557)
وقد سبق ذكر أدلة المذهبين في بحث حرية التعاقد. وفي رأيي أنه يؤخذ برأي الحنابلة في إطلاق حرية الاشتراط للعاقدين في العقود المالية، تحقيقاً لحاجات الناس ومصالحهم ومراعاة لما يطرأ من تطورات وأعراف في إبرام عقود لأغراض مشروعة، وإلا لشلت حركة التجارة والنشاط الاقتصادي الذي اتسع ميدانه في العقود والشروط على نحو لم يكن معروفاً لدى الفقهاء.
ويؤخذ برأي غير الحنابلة في عقود الزواج حرصاً على ما له من حرمة وقداسة ولما فيه من جانب العبادة ولما تتطلبه الأسرة من استقرار ودوام، ينبغي من أجله عدم إفساح المجال لحرية الاشتراط التي تتأثر بالأهواء، وتعصف بأغراض الزواج السامية. وقد قال الفقهاء: «الأصل في الأبضاع ـ أي المتعة الجنسية ـ التحريم» .
وأكتفي هنا ببيان مذهبي الحنفية والحنابلة في الشروط المقترنة بالعقد. أما مذهب الشافعية فقريب من مذهب الحنفية، ومذهب المالكية قريب من مذهب الحنابلة.
أولاً ـ مذهب الحنفية في الشروط:
قسم الحنفية الشروط إلى ثلاثة أنواع: الشرط الصحيح، والشرط الفاسد، والشرط الباطل (1) .
__________
(1) راجع البدائع: 168/5-172، المبسوط: 13/13-18، فتح القدير: 214/5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 126/4 ومابعدها.(4/558)
الأول ـ الشرط الصحيح: هو ماكان موافقاً لمقتضى العقد (1) ، أو مؤكداً لمقتضاه، أو جاء به الشرع، أو جرى به العرف.
مثال الشرط الذي يقتضيه العقد: اشتراط البائع تسليم الثمن أو حبس المبيع حتى أداء جميع الثمن، واشتراط المشتري تسليم المبيع، أو تملكه. واشتراط الزوجة على زوجها أن ينفق عليها، واشتراطه عليها تسليم نفسها إذا قبضت مهرها. فهذه شروط تبين مقتضى العقد أوتوافق مقتضاه؛ لأن مضمونها واجب التحقق شرعاً، حتى ولو لم يشترطها أحد العاقدين؛ لأن ثبوت الملك والتسليم والتسلم وحبس المبيع من مقتضى المعاوضات، والإنفاق على الزوجة وزفافها من مقتضى الزواج.
ومثال الشرط المؤكد لمقتضى العقد: اشتراط البائع تقديم كفيل أو رهن معينين بالثمن عن تأجيله للمستقبل، فإن الكفالة والرهن استيثاق بالثمن، فيلائم البيع ويؤيد التسليم. ومثله اشتراط كون والد الزوج كفيلاً بالمهر والنفقة.
والشرط الذي ورد به الشرع: مثل اشتراط الخيار أو الأجل لأحد المتعاقدين، أو اشتراط الطلاق إذا طرأ سبب داع له، فذلك كله مشروع في الشرع.
والشرط الذي جرى به العرف: مثل اشتراط المشتري على البائع التعهد بإصلاح الشيء المشترى مدة معينة من الزمان، كالساعة، والمذياع، والسيارة، والغسالة، والثلاجة، واشتراط حمل البضاعة إلى مكان المشتري، فهذا مما تعارفه الناس وإن كان فيه زيادة منفعة لأحد العاقدين، فجاز استحساناً خلافاً لزفر من الحنفية، بدليل أن النبي اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيراً، وشرط لجابر ركوبه وحملانه عليه إلى المدينة.
وإقرار هذا الشرط عند الحنفية أدى إلى توسيع حرية الناس في الاشتراط، بما يحقق لأحد العاقدين منفعة زائدة عن مقتضى العقد. كما أدى إلى زوال الشرط الفاسد من معاملات الناس. وأصبحت الشروط كلها صحيحة بالعرف إلا إذا كانت مصادمة لنص تشريعي، أو منافية لمبادئ الشريعة ومقاصدها العامة.
__________
(1) مقتضى العقد: هو الأحكام الأساسية التي قررها الشرع لكل عقد، سواء بالنص عليها مباشرة أو باستنباط المجتهدين، بقصد تحقيق التوازن في الحقوق بين العاقدين.(4/559)
الثاني ـ الشرط الفاسد: هو مالم يكن أحد الأنواع الأربعة السابقة في الشرط الصحيح، أي أنه الذي لا يقتضيه العقد، ولا يلائم المقتضى، ولا ورد به الشرع، ولم يتعارفه الناس، وإنما فيه منفعة زائدة لأحد المتعاقدين، كشراء حنطة على أن يطحنها البائع، أو قماش على أن يخيطه البائع قميصاً مثلاً، أو شراء بضاعة على أن يتركها في ملك البائع شهراً، أو بيع دار على أن يسكنها البائع شهراً أو أكثر، أو شراء أرض على أن يزرعها البائع سنة، أو شراء سيارة على أن يركبها البائع مدة من الزمن، أو على أن يقرضه قرضاً أو يهب له هبة ونحو ذلك.
وفي الزواج: اشتراط الزوجة ألا تنتقل من بلدها التي تزوجت فيها، أو ألا يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى، أو ألا يطلقها أبداً.
ويختلف أثر الشرط الفاسد على العقود بحسب نوع العقد. والقاعدة المقررة في ذلك هي: أن الشرط الفاسد في عقود المعاوضات المالية يفسدها، وفي غيرها لا يؤثر عليها (1) .
إن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية كالبيع والإجارة والقسمة والمزارعة والمساقاة والصلح عن المال يفسدها (2) ؛ لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) تبيين الحقائق: 131/4.
(2) انفرد الإمام مالك من بين الفقهاء بأن الشرط الذي يفسد العقد إن لم يتمسك به مشترطه، ينقلب العقد صحيحاً لزوال سبب الفساد، لأن العلة التي أوجدت الفساد زالت بزوال المانع من صحة العقد وهو عدم تمسك صاحب الشرط به (نظرية العقد لأبي زهرة: ص 244) .(4/560)
«نهى عن بيع وشرط» (1) ولأن الشرط الفاسد يتنافى مع مبدأ التعادل الذي تقوم عليه المبادلات المالية.
وأما العقود الأخرى غير المبادلات المالية كالتبرعات (هبة أو إعارة) والتوثيقات (كفالة أو حوالة أو رهن) ، والزواج والطلاق، والإطلاقات كالوكالة، فلا يؤثر عليها الشرط الفاسد، ويبقى العقد صحيحاً، ويصير الشرط لاغياً لا أثر له، لما ثبت في السنة النبوية من تصحيح هذه العقود وإلغاء الشروط الفاسدة، كالحكم بصحة الهبة وبطلان شرط التأقيت مثلاً.
الثالث ـ الشرط الباطل: هو ما لم يكن أحد أنواع الصحيح، وليس فيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا لغيرهما، وإنما هو ما كان فيه ضرر لأحد العاقدين، كاشتراط بائع البضاعة على المشتري ألا يبيعها أو لا يهبها لأحد، واشتراط بائع الدار على المشتري أن يتركها من غير سكن مدة شهر في كل سنة مثلاً، واشتراط بائع سيارة ألا يُركب المشتري فلاناً فيها أو يضعها في مكان خاص.
العقد صحيح حينئذ، والشرط لغو باطل لا قيمة له، سواء في عقود المعاوضات، أم في العقود الأخرى كالزواج والكفالة والهبة.
ثانياً ـ مذهب الحنابلة في الشروط:
مذهب الحنابلة وعلى التخصيص ابن تيمية وابن القيم أوسع المذاهب في الأخذ بحرية الاشتراط (2) ، فهم أقرب إلى الفقه القانوني الآخذ بمبدأ سلطان الإرادة، فهم يرون أن الأصل في الشروط الإباحة أو الإطلاق، فيصح كل شرط فيه منفعة أو مصلحة لأحد العاقدين، كاشتراط صفة معينة في المبيع أو في أحد الزوجين، واشتراط منفعة في عقد البيع كسكنى الدار المبيعة بعد بيعها مدة معينة، وتوصيل المبيع لدار المشتري، وخياطة الثوب للمشتري، واشتراط الزوجة على الزوج ألا يتزوج عليها، أو ألا يسافر بها، أو ألا ينقلها من منزلها.
__________
(1) رواه أبو حنيفة، وعبد الحق في أحكامه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) كشاف القناع: 40/2، غاية المنتهى: 23/2-26، أعلام الموقعين: 401/3-402، ط السعادة، فتاوى ابن تيمية: 326/3 ومابعدها، زاد المعاد: 4/4، نظرية العقد لابن تيمية: ص 214 ومابعدها.(4/561)
هذه شروط صحيحة يجب الوفاء بها، سواء في عقود المعاوضات المالية، أم في عقود التبرعات، أو في التوثيقات (أو التأمينات بلغة العصر) ، أو الزواج ونحوه، فإن لم يوف بها جاز للعاقد الآخر فسخ العقد.
وهذا رأي القاضي شريح (1) ، وابن شُبرمة (2) الكوفي، وابن أبي ليلى (3) وجماعة من فقهاء المالكية، بدليل أن جابراً باع النبي صلّى الله عليه وسلم بعيراً واشترط حملانه عليه إلى أهله وأقره النبي على ذلك ودفع له الثمن (4) . إن اشتراط الركوب على الجمل فيه منفعة للبائع، فهو شرط فاسد، والفاسد لا يؤثر في العقد مطلقاً.
ولم يستثن الحنابلة ومن وافقهم من الشروط الجائزة إلا الشرط المنافي لمقتضى العقد، أو الذي ورد النهي عنه.
1) الشرط المنافي لمقتضى العقد: كاشتراط البائع على المشتري ألا يبيع الشيء المشترى مطلقاً، أو ألا يقفه على جهة خير مثلاً، أو ألا يسكن فيه أحداً بالإيجار وغيره، العقد حينئذ صحيح والشرط لاغ؛ لأن في هذا الشرط حرمان العاقد من الاستفادة مما يثبته العقد له من حقوق.
__________
(1) شريح القاضي ابن الحارث بن قيس، قاضي الكوفة والبصرة، استمر على القضاء في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، مات بالكوفة سنة 79 هـ.
(2) عبد الله بن شبرمة، قاضي فقيه تابعي، عاصر أبا حنيفة، له مذهب فقهي اندثر، ولد سنة 72 هـ ومات سنة144 هـ.
(3) هو محمد بن عبد الرحمن قاضي الكوفة، فقيه عالم، مات سنة 148 هـ.
(4) أخرج لفظه أحمد والشيخان عن جابر (نيل الأوطار: 178/5) .(4/562)
2) الشرط المنهي عنه أو المخالف لحكم الله ورسوله، كاجتماع صفقتين في عقد واحد، مثل اشتراط البائع على المشتري إيجار الدار لفلان، أو أن يهبه شيئاً، أو يبيع له شيئاً أو يقرضه مبلغاً من المال، أو ألا يبيع الناتج الزراعي كالقطن وغيره إلا له واشتراط الزوجة أن يطلق امرأته الأولى. هذه شروط فاسدة تفسد العقد؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «نهى عن بيعتين في بيعة» أو «عن صفقتين في صفقة» (1) ولأن ذلك يؤدي غالباً إلى النزاع بين المتعاقدين في العقد الآخر المشروط، فيسري النزاع إلى العقد الأصلي.
رأي المتأخرين من الحنابلة: أفاض ابن تيمية وابن القيم في بيان نظريتهما في أن الأصل في العقود والشروط الإباحة أو الجواز والصحة حتى يقوم الدليل على المنع؛ لأنها من العادات التي تراعى فيها مصالح الناس. فإن حرمنا ما يجري بين الناس من عقود وشروط، بغير دليل من الشارع، نكون قد حرمنا ما لم يحرمه الله.
والله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود في قوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة:1/5] ، وطالبنا النبي عليه السلام بتنفيذ الشروط في قوله المتقدم: «والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» . وقررت الشريعة أن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وأثرها: هو ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد، وذلك في قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء:29/4] فالتراضي هو المبيح للتجارة، وقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء:4/4] فإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات.
__________
(1) اللفظ الأول رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي هريرة. واللفظ الثاني رواه أحمد عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 152/5) .(4/563)
أما استثناء الشرط أو العقد المناقض حكم الله ورسوله، فلقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «من أحدث في أمرنا ـ أو ديننا ـ هذا ما ليس منه فهو رد» وفي لفظ «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» فكل شرط يناقض حكم الله ورسوله يكون باطلاً باتفاق المسلمين، كاشتراط التعامل بالربا أو الاتجار في الخمر ونحو ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» والمقصود بالشرط الذي ليس في كتاب الله: هو ما فسره عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري في القضاء: «والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً» .
وأما استثناء الشرط المنافي لمقصود العقد، كاشتراط عدم الانتفاع بالمشترى ببيع أو إيجار، فلأنه جمع بين المتناقضين، أي بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء.
ويلاحظ أن الحنابلة حصروا الشرط المنافي في المناقضة لمقصود العقد الأصلي. فلو شرط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه، فإنه يكون منافياً أو مبطلاً للمقصود الأصلي من العقد، وهو الملك المبيح للتصرف. أما إذا شرط البائع منفعة أخرى كسكنى الدار أو زراعة الأرض، فإنه لا يكون منافياً لمقتضى العقد، ويكون الشرط صحيحاً. وكذلك في الزواج لو شرط فيه ألا تحل به المتعة الزوجية يبطل العقد، لكن لو شرط فيه عدم ممارسة الاستمتاع الزوجي يصح العقد ويلغو الشرط.
أما الحنفية فقد توسعوا في تفسير المنافاة، وقالوا: كل ما يكون من الشروط فيه منفعة لأحد المتعاقدين، يكون منافياً لمقتضى العقد.
والخلاصة: إن الحنابلة وموافقيهم يرون أن الشريعة فوضت لإرادة العاقدين تحديد مقتضيات العقود، أو آثارها ضمن نطاق حقوقهما ومصالحهما في كل ما لا يصادم نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة.(4/564)
وهذا الاتجاه لعمر وشريح وابن شبرمة والحنابلة يتفق تماماً مع ما تقرره القوانين الحديثة من مبدأ سلطان الإرادة، وإعطاء الحرية للعاقدين في اشتراط أي شرط لا يخالف قواعد النظام العام أو الآداب أو النصوص القانونية الخاصة.
مزايا الفقه الحنبلي في الشروط:
كان للاجتهاد الحنبلي في حرية الاشتراط العقدي مزايا مهمة فيما يأتي:
1 ً ـ الزواج:
أجاز الحنبلية الأخذ بمبدأ حرية الاشتراط في الزواج، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» ولما للزواج من جانب كبير من الخطورة والقدسية، إذ تقوم عليه أسرة تتطلب الحفاظ عليها، فتكون رعاية الشروط التي فيها منفعة أوجب وألزم من العقود الأخرى.
إنهم أجازوا خلافاً للحنفية والشافعية والمالكية للزوجين اشتراط ما شاءا من الشروط التي فيها منفعة مقصودة لا تتعارض مع موضوع الزواج ونصوص الشريعة.
وذلك كاشتراط المرأة ألا يسافر بها زوجها، أو ألا ينتقل بها من دارها ويسكن معها، أو ألا يتزوج عليها، أو أن يطلق امرأته الأولى (1) ، أو اشتراط أحد الزوجين كون الآخر موسراً ونحو ذلك.
__________
(1) اختلف الحنابلة في صحة هذا الشرط، فنص ابن قدامة صاحب المغني على عدم صحة هذا الشرط، ولكن أكثر الحنابلة على القول بالصحة (المغني: 560/6، تصحيح الفروع: 56/3) .(4/565)
أما اشتراط توقيت الزواج، أو عدم المهر، أو عدم النفقة الزوجية أو عدم الاستمتاع الزوجي ونحوه، فلا يصح لمصادمته أصول الزواج (1) .
وإذا لم يوف الزوج بالشرط كان الطرف الآخر المشروط له مخيراً بين الاستمرار وفسخ العقد بسبب عدم الوفاء بالشرط.
2 ً ـ التبرعات:
أجاز الحنابلة للمتبرع استثناء بعض منافع الشيء المتبرع به، ولو لم تكن المنفعة معلومة، لقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/9] فللواهب أو الواقف أو المتصدق أن يشترط لنفسه منفعة من منافع الشيء مدة حياته، كأن يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف، أو منفعة الدار الموهوبة مدة الحياة.
3 ً ـ المعاوضات:
أجاز الحنابلة أيضاً استثناء بعض منفعة الشيء المبيع بشرط أن تكون المنفعة معلومة، كأن يبيع الدار على أن يظل ساكناً فيها مدة معينة، أو السيارة على أن يركبها مدة معينة، والسبب في اشتراط كون المنفعة المستثناة معلومة في المعاوضات بعكس التبرعات: هو بناء المعاوضات على التعادل بين الطرفين، بحث لا يغبن أحدهما الآخر غبناً فاحشاً، فلا بد من كون المنفعة معلومة حتى لا يقع نزاع بين العاقدين، أما التبرع فلا تعادل فيه، ولا يتأتى النزاع فيه بين الطرفين.
وجوزوا استثناء بعض الحقوق كأن يكون البائع أحق بشراء المبيع إذا أراد المشتري بيعه لآخر.
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية: ص 208 ومابعدها، المغني: 548/6 وما بعدها.(4/566)
ولم يمنعوا إيجاب بعض الواجبات على المالك كبيع العقار على أن يقفه المشتري، أو يتصدق به، أو يقضي دين فلان أو يصل به رحمه (1) . وهذا دليل على جواز الاشتراط لمصلحة الغير.
وصحح جماعة من الحنابلة خلافاً لبقية الفقهاء البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير ثمن أو تحديده وقت العقد، لتعارف الناس وتعاملهم به في كل زمان ومكان (2) ، كبيع القطن بما يستقر عليه سعر السوق في بورصة الأقطان في الساعة السادسة من يوم كذا. وهذا ما أخذ به القانون المدني السوري في المادة (392) وكذا أصله المصري.
وجعل الحنابلة خلافاً لجمهور الفقهاء بيع العربون صحيحاً مشروعاً: وهو أن يبيع الشخص شيئاً، ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما، فإن تم البيع بينهما احتسب العربون المدفوع من الثمن، وإن نكل المشتري كان العربون للبائع، هبة من المشتري له (3) . أخذ القانون المدني السوري في المادة (104) بطريقة بيع العربون هذه. وأصبحت طريقة البيع بالعربون في عصرنا الحاضر أساساً للارتباط في التعامل التجاري الذي يتضمن التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار. ويسمى ضمان التعويض عن التعطل والانتظار في الفقه القانوني: الشرط الجزائي (4) . وقد أقره القاضي شريح بقوله «من شرط على نفسه طائعاً غير مكره عليه» (5) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية: 347/3.
(2) أعلام الموقعين: 5/4 ومابعدها، غاية المنتهى: 14/2، نظرية العقد لابن تيمية ص220.
(3) غاية المنتهى: 26/2، المغني: 232/4، وكذلك صحح الحنابلة الإجارة بالعربون.
(4) مصادر الحق للسنهوري: 96/3 ومابعدها، المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء: ف 234.
(5) أعلام الموقعين: 400/3، ط السعادة.(4/567)