الفرض الرابع ـ دفن الميت:
وفيه بحث ما يأتي:
أولاً ـ حمل الميت لغير بلد موته، ثانياً ـ حمل الجنازة، ثالثاً ـ سنن الجنازة، رابعاً ـ وجوب الدفن وندب تعجيله، خامساً ـ مكروهات الجنازة، سادساً ـ صفة القبور واحترامها والجلوس عليها والاتكاء عليها، وما يوضع على القبر من آس ونحوه، وما يكتب عليه وعلى الكفن، سابعاً ـ أحكام الدفن (كيفيته، مكانه، زمنه، ما يقال عند الدفن، التلقين بعد الدفن، ستر القبر، الدفن في تابوت) ، ثامناً ـ زيارة القبور للرجال والنساء والسلام على الميت، واجتماع الأرواح.
أولاً ـ حمل الميت لغير بلد موته:
للفقهاء آراء ثلاثة في نقل الميت لغير بلد موته: الكراهة لغير غرض صحيح، والإباحة، والتحريم (1) :
فقال الحنابلة: السنة دفن الميت في مكان صرعه أو موته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «تدفن الأجساد حيث تفيض الأرواح» (2) ، وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه، لما نقل عن عائشة أنه «لما مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبَش ـ وهو مكان بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلاً ـ ونقل إلى مكة، أتت قبره، وقالت: والله لو حضرتك مادفنتك إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك» (3) وهو محمول على أنها لم تر غرضاً في نقله، وأنه تأذى به.
فإن كان النقل لغرض صحيح فلا كراهة، لما في الموطأ عن مالك أنه سمع غير واحد يقول: «إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة، ودفنا بها» وقال سفيان بن عيينة: مات ابن عمر ههنا، وأوصى أن لا يدفن ههنا، وأن يدفن بسَرَف (4) .
__________
(1) كشاف القناع:97/2-98، المغني:510/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص96، مراقي الفلاح: ص102، رد المحتار والدر المختار:840/1، مغني المحتاج:365/1.
(2) روى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن جابر قال: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة» وروى البزار بإسناد حسن عن أبي سعيد مثله (نيل الأوطار: 112/4، مجمع الزوائد:43/3) .
(3) رواه الترمذي.
(4) ذكره ابن المنذر.(2/650)
وقال الحنفية والمالكية: لا بأس بنقل الميت من بلد إلى آخر إن كان لم يدفن، والنقل عند الحنفية جائز قدر ميل أو ميلين، لكن يندب دفنه في جهة موته، أي في مقابر أهل المكان الذي مات فيه أو قتل، للحديث السابق أنه صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أُحد في مضاجعهم، مع أن مقبرة المدينة قريبة، ودفنت الصحابة الذين فتحوا دمشق عند أبوابها، ولم يدفنوا كلهم في محل واحد.
وقال الشافعية: يحرم نقل الميت قبل دفنه إلى بلد آخر، ليدفن فيه، وإن لم يتغير، لما فيه من تأخير دفنه، ومن التعريض لهتك حرمته.
ثانياً ـ حمل الجنازة وكيفيته:
حمل الجنازة فرض كفاية بلا خلاف، وهو بر وطاعة وإكرام للميت. وقال الشافعية: لا بأس باتباع المسلم جنازة قريبه الكافر، لأنه عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه أبو داود ـ أمر علياً رضي الله عنه أن يواري أبا طالب.
وقالوا أيضاً: يحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية كحمله في قفة أو غِرارة (جوالق) ونحو ذلك، ويحمل على سرير أو لوح أو محمل، ولا خلاف في أنه لا يحمل الجنازة إلا الرجال، سواء أكان الميت ذكراً أم أنثى؛ لأن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن شيء لو حملن.
وللفقهاء آراء ثلاثة في كيفية حمل الميت: التربيع عند الحنفية والحنابلة، وما بين العمودين عند الشافعية، وعدم ترتيب وضع معين على المشهور عند المالكية (1) .
أما الحنفية والحنابلة فقالوا: يوضع الميت على النعش بعد أن يغسل ويكفن، مستلقياً على ظهره؛ لأنه أمكن، ويسن أن يحمله أربع؛ لأنه يسن التربيع في حمله، والتربيع أفضل من الحمل بين العمودين، لحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنها من السنة، ثم إن شاء فليطَّوَعْ، وإن شاء فليدع» (2) .
__________
(1) الدر المختار:833/1، فتح القدير:467/1،469،الكتاب مع اللباب:133/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص100، القوانين الفقهية: ص96، الشرح الصغير:565/1، المهذب:135/1، كشاف القناع:146/2 ومابعدها، المجموع:233/5، المغني:478/2، مغني المحتاج:359/1.
(2) رواه سعيد بن منصور وابن ماجه، وإسناده ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.(2/651)
وصفة التربيع: أن يضع النعش اليسرى على كتفه اليمنى، ثم ينتقل إلى قائمة السرير المؤخرة، فيضعها على كتفه اليمنى أيضاً، ثم يدعها لغيره، ثم يضع قائمته اليمنى على كتفه اليسرى، ثم يدعها لغيره، وينتقل إلى قائمة السرير اليمنى، فيضعها على كتفه اليسرى. فتكون البداءة من الجانبين بالرأس، والختام من الجانبين بالرجلين، لما فيها من الموافقة لكيفية غسله.
ويمشي في كل مرة عشر خطوات، لحديث: «من حمل جنازة أربعين خطوة، كفرت عنه أربعين كبيرة» (1) .
وإن حمل الميت بين العمودين وهما القائمتان، كل عمود على عاتق رجل كره عند الحنفية، وكان حسناً، ولم يكره عند الحنابلة، لرواية ابن منصور، ولأنه صلّى الله عليه وسلم «حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» (2) ، وروي عن عثمان وابن الزبير وابن عمر وأبي هريرة «أنهم فعلوا ذلك» (3) .
وقال الشافعية: الحمل بين العمودين أفضل من التربيع، وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش، ويجعلهما على كاهله.
ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة، لكن الأول أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين، ولفعل الصحابة المذكورين.
وقال المالكية: ليس في حمل الجنازة ترتيب معين على المشهور، فيجوز البدء في حمل السرير بأي ناحية بلا تعيين، قال خليل: والمعين مبتدع؛ لأنه عين ما لا أصل له في الشرع، ويجوز أن يحمل النعش اثنان أو ثلاثة أو أربعة.
__________
(1) ذكره الزيلعي والكاساني في البدائع. وذكر ابن عباس عن واثلة: «من حمل بجوانب السرير الأربع، غفر له أربعون كبيرة» وهو ضعيف.
(2) ذكره الشافعي في المختصر والبيهقي في كتاب المعرفة، وأشار إلى تضعيفه.
(3) رواها الشافعي والبيهقي بأسانيد ضعيفة إلا أثر سعد فصحيح.(2/652)
ثالثاً ـ سنن تشييع الجنازة:
يسن في حمل الجنازة ما يأتي:
1 - الإسراع بالجنازة: يستحب الإسراع بالجنازة (أي فوق المشي المعتاد، ودون الخَبَب ـ أي العَدْو السريع ـ لكراهته) بحيث لا يضطرب الميت على الجنازة، لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (1) ، وكراهة الخبب لما روى عبد الله بن مسعود، قال: «سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة، فقال: دون الخبب، فإن يكن خيراً يعجل إليه، وإن يكن شراً، فبعداً لأصحاب النار» (2) .
واستحباب الإسراع باتفاق العلماء إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه، فيتأنى (3) .
2 - اتباع الجنازة: يستحب اتباع الجنازة اتفاقاً (4) ، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم» (5) . واتباع الجنازة سنة للرجال، كما في الحديث المتقدم، مكروه للنساء، لما رواه البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا» أي لم يشدد علينا في النهي، ولم يحرم علينا الاتباع.
__________
(1) رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم أيضاً ولفظه «فخيراً تقدمونها عليه» .
(2) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم، واتفقوا على تضعيفه، وروى أحمد عن أبي موسى حديث «عليكم القصد» وهو ضد الإفراط (نيل الأوطار:70/4) .
(3) اللباب:134/1، الشرح الكبير:418/1، المهذب:135/1، المغني:472/2-473.
(4) الدر المختار:833/1، الشرح الكبير:418/1، المهذب:136/1، مغني المحتاج:367/1، المجموع:286/5، المغني:473/2.
(5) رواه الجماعة، منهم البخاري ومسلم (نيل الأوطار:70/4) .(2/653)
وروى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا نسوة جلوس، فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، قال: هل تغَسِّلن؟ قلن: لا، قال: هل تَحمِلْنَ؟ قلن: لا، قال: هل تُدْلينَ فيمن يُدْلي؟ أي هل تنزلن الميت في القبر ـ قلن: لا، قال: فارجِعْن مأزورات غير مأجورات» أي عليكن الإثم، ولا أجر لكنّ.
ويتطلب اتباع الجنازة أموراً ثلاثة:
أـ أن يصلي عليها: قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك.
ب ـ أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن، لحديث أبي هريرة: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد» (1) .
جـ ـ أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل الله له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، فإنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا دفن ميتاً، وقف، وقال: «استغفروا له، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (2) وروي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها.
وروى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: «إذا دفنتموني، فأقيموا بعد ذلك حول قبري ساعة قدر ما تنحر جزور، ويفرّق لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع رسل ربي» .
3 - الخشوع والتفكر بالموت: يستحب لمتبع الجنازة (3) أن يكون متخشعاً، متفكراً في مآله، متعظاً بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدث بأحاديث
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما: «القيراطان مثل الجبلين العظيمين» .
(2) رواه أبو داود والبزار، وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد.
(3) المغني:474/2.(2/654)
الدنيا، ولا يضحك. قال سعد بن معاذ: «ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها» ورأى بعض السلف رجلاً يضحك في جنازة، فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبداً.
4 - ستر نعش المرأة: يندب عند المالكية والشافعية والحنابلة (1) ستر نعش المرأة بقُبَّة تجعل فوق ظهر النعش، تعمل من خشب أو جريد نخل أو قصب، لأنه أبلغ في الستر، قال بعضهم: أول من اتخذ له ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقال ابن عبد البر: فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول من غُطِّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش.
5 - المشي أمام الجنازة: يسن عند فقهاء الحديث (مالك والشافعي وأحمد) (2) المشي أمام الجنازة، وبقربها بحيث يراها إن التفت لأنه إذا بعد لم يكن معها، والمشي أمامها، لما روى ابن عمر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة» (3) ولأن المشيع شفيع للميت، والشفيع يتقدم على المشفوع له.
وأضاف الحنابلة: ولا يكره كون المشاة خلف الجنازة؛ لأنها متبوعة، ولا أن يمشوا حيث شاؤوا عن يمينها أو يسارها بحيث يعدّون تابعين لها. وذكر المالكية على المشهور: أن الراكب يسير خلف الجنازة.
وقال فقهاء الرأي منهم الحنفية (4) : يندب المشي خلف الجنازة؛ لأنها
__________
(1) الشرح الكبير:418/1، كشاف القناع:146/2، مغني المحتاج:359/1.
(2) بداية المجتهد:225/1، المهذب:136/1، المغني:474/2، كشاف القناع:149/2، المجموع:238/5، القوانين الفقهية: ص96.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) واحتج به أحمد (نيل الأوطار:71/4) .
(4) الدر المختار:834/1، مراقي الفلاح: ص 101.(2/655)
متبوعة (1) ، إلا أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها حسن، ولو مشى أمامها جاز، وفيه فضيلة أيضاً، لكن إن تباعد عنها أو تقدم الكل أو ركب أمامها، أو فيها كره.
ودليلهم حديث ابن مسعود المتقدم: «سألنا النبي صلّى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب» فقرر قولهم: خلف الجنازة، ولم ينكره، وحديث طاوس أنه قال: «ما مشى رسول اصلّى الله عليه وسلم حتى مات خلف الجنازة» (2) .
ويظهر أن كلاً من المشي أمام الجنازة أو خلفها جائز، لحديث المغيرة بن شعبة: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريباً منها عن يمينها أو عن يسارها، والسِقْط يُصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (3) .
6- القيام للجنازة: قال النووي وجماعة: يخير المسلم بين القيام والقعود (4) ، روى ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الجنازة، فقوموا لها حتى يُخلّفكَم أو توضع» (5) .
وقال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة (6) : لا يقام للجنازة؛ لأن القيام منسوخ، بدليل قول علي رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» (7) وسبب القعود مخالفة اليهود،
__________
(1) هذا إشارة لحديث البراء بن عازب المتقدم: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتباع الجنائز» .
(2) قال الشوكاني: وهذا مع كونه مرسلاً، لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث (نيل الأوطار:72/4) .
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم (نيل الأوطار:45/4،72) .
(4) المجموع:239/5.
(5) رواه الجماعة (نيل الأوطار:75/4) .
(6) القوانين الفقهية: ص 96، المغني:479/2، الشرح الصغير:570/1، الدر المختار:834/1، المجموع، المكان السابق، نيل الأوطار:76/4.
(7) رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه بنحوه (نيل الأوطار: المكان السابق) .(2/656)
قال عبادة بن الصامت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حَبْر (عالم) من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: اجلسوا خالفوهم» (1) ، وصرح المالكية بكراهة القيام للجنازة؛ لأنه ليس من عمل السلف.
7 - عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة: المستحب لمن يتبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون، والقيام أمكن منه (2) ، ولحديث: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتَّبعها فلا يجلس حتى توضع» (3) أي في الأرض، كما في رواية أبي داود.
ولا مانع ولا كراهة من تشييع المسلم جنازة قريبه الكافر.
رابعاً ـ مكروهات الجنازة:
ذكر الفقهاء طائفة من مكروهات الجنازة، أهمها ما يأتي (4) :
1 - تأخير الصلاة والدفن، لزيادة المصلين أو ليصلي عليه جمع عظيم بعد صلاة الجمعة، إلا إذا خيف فوتها بسبب دفنه، للخبر الصحيح: «أسرعوا بالجنازة» ولا بأس بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت، وقال المالكية: ويكره
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وإسناده ضعيف.
(2) فتح القدير:469/1، المغني:480/2، المهذب:136/1.
(3) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار:74/4) .
(4) الدر المختار:833/1-835، الكتاب مع اللباب:134/1، فتح القدير:469/1، الشرح الصغير:566/1،568-574، المهذب:136/1، المجموع:237/5-240، مغني المحتاج:359/1 ومابعدها، المغني:475/2-477،480، كشاف القناع:149/2 ومابعدها، الشرح الكبير:421/1-424.(2/657)
للمشيعين الانصراف عن الجنازة بلا صلاة عليها ولو بإذن أهلها، والانصراف بعد الصلاة بلا إذن من أهلها إن لم يطولوا، فإن أذنوا أو طولوا جاز الانصراف.
2 - الجلوس قبل وضع الجنازة على الأرض، والقيام بعده. ولايقوم أحد في المصلى إذا رأى الجنازة، ولا من مرت عليه، كما بينت في البحث السابق.
3 - الركوب: السنة ألا يركب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «ما ركب في عيد، ولاجنازة» (1) وقال ثوبان: «خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى ناساً رُكباناً، فقال: ألا تستحيون، إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» (2) .
أما الركوب في الرجوع فلا بأس به، لحديث جابر بن سمرة أن «النبي صلّى الله عليه وسلم أُتي بفرس مُعْرَوْر (أي عريان) ، فركبه حين انصرفنا من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله» (3) .
4 - اللَّغَط أي رفع الصوت بذكر أو قراءة والصياح خلف الجنازة، كقول: «استغفروا لها» ونحوه، لما روى البيهقي أن الصحابة كرهوا رفع الصوت عند الجنائز عند القتال وعند الذكر، وسمع ابن عمر قائلاً يقول: «استغفروا له غفر الله لكم، فقال: لا غفر الله لك» (4) وكره الحسن وغيره قولهم: «استغفروا لأخيكم» .
والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة والاشتغال بالتفكر في الموت وما يتعلق به، كما أبنت. وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام يجب إنكاره.
__________
(1) قال النووي: غريب (المجموع:237/5) .
(2) رواه ابن ماجه والترمذي (نيل الأوطار:72/4) .
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي، وروى أبو داود عن ثوبان مثله (نيل الأوطار:72/4) .
(4) رواه سعيد بن منصور في سننه.(2/658)
5 - اتباع الجنازة بنار في مجمرة بخور أو غيرها، لما فيه من التشاؤم القبيح بأنه من أهل النار، ولخبر أبي داود: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» .
ويكره أيضاً اتباعها بنائحة وتزجر، لما روى عمرو بن العاص قال: «إذا أنا مت، فلا تصحبني نار ولا نائحة» (1) وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه وصى: لاتتبعوني بصارخة ولا بمجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً (2) . ويكره اجتماع نساء لبكاء سراً، ومنع جهراً، كالقول القبيح مطلقاً.
6 - اتباع النساء الجنائز، الكراهةعند الجمهور تنزيهية، لما روي عن أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» (3) أي أنه نهي تنزيه، وعند الحنفية الكراهة تحريمية، لحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (4) ويعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه عائشة بقولها: «لو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء بعده، لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل» .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه في جملة حديث طويل فيه أحكام كثيرة في كتاب الإيمان.
(2) رواه البيهقي.
(3) رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.
(4) رواه ابن ماجه بسند ضعيف، أوله «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج، فإذا نسوة جلوس، قال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، قال: هل تغسلن؟ قلن: لا، قال: هل تحملن؟ قلن: لا، قال: هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن ... » .(2/659)
وأجاز المالكية خروج امرأة متجالَّة: عجوز لا أرب للرجل فيها، أو شابة لم يخش فتنتها في جنازة من عظُمت مصيبته عليها كأب وأم وزوج وابن وبنت وأخ وأخت. وحرم على مخشيَّة الفتنة مطلقاً. وخروج الزوجة المتجالة وغير مخشية الفتنة مستثنى من أحكام العدة والإحداد.
7 - قال المالكية: يكره تكبير نعش لميت صغير، لما فيه من المباهاة والنفاق، ويكره فرش النعش بحرير أو خز، أي منسوج من الصوف والحرير.
8 - قال الحنابلة: مس الجنازة بالأيدي والأكمام والمناديل محدث مكروه، وقد منع العلماء مس القبر، فمس الجسد مع خوف الأذى أولى بالمنع.
ويكره تقليد غير المسلمين في حمل أكاليل الورد لما فيه من إتلاف المال والمفاخرة والمباهاة.
خامساً ـ حكم الدفن وتعجيله:
أجمع الفقهاء على أن دفن الميت فرض على الكفاية (1) ؛ لأن في تركه على وجه الأرض هتكاً لحرمته، ويتأذى الناس من رائحته، والأصل فيه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً، أحياء وأمواتاً} [المرسلات:77/25-26] والكفت: الجمع، وقوله سبحانه في دفن هابيل: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه} [المائدة:5/31] ، وقوله: {ثم أماته فأقبره} [عبس:21/80] 0
والأفضل أن يعجل بتجهيز الميت ودفنه من حين موته، للحديث المتقدم: «أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» واستثنى المالكية الغريق فإنه يستحب عندهم تأخير دفنه مخافة بقاء حياته.
والدفن في المقبرة أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع (2) ، ولأنه يكثر الدعاء له ممن يزوره، ولأنه أقل ضرراً على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة (3) .
__________
(1) رد المحتار والدر المختار:833/1، بداية المجتهد:218/1،235، المجموع:241/5، كشاف القناع:96/2،146،152.
(2) حديث صحيح متواتر.
(3) مراقي الفلاح: ص102، الدر المختار:836/1، الشرح الصغير:574/1، المجموع:241/5، المغني:508/2 ومابعدها.(2/660)
الدفن في البيوت: يجوز ولا يحرم الدفن في البيت؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها (1) .
لكن الدفن في البيوت لغير النبي ولو للسقط مكروه، لاختصاصه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ويكره الدفن في القباب ونحوها من البيوت المعقودة لجماعة، لمخالفته السنة.
الدفن في البقاع الشريفة: يستحب الدفن في أفضل مقبرة: وهي التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، روى البخاري ومسلم أن موسى عليه السلام لما حضره الموت، سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو كنتم ثَمَّ لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر» ، ولأن عمر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن مع صاحبيه (2) : أي النبي صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر.
جمع الأقارب في موضع واحد: يستحب أن يجمع الأقارب في موضع واحد، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» (3) ، ولأن ذلك أسهل لزيارتهم، وأكثر للترحم عليهم.
__________
(1) حديث صحيح متواتر.
(2) حديث صحيح رواه البخاري وغيره.
(3) رواه أبو داود والبيهقي عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب، وهو من التابعين، عمن أخبره عن النبي صلّى الله عليه وسلم فهو مسند لا مرسل، لأن الصحابة كلهم عدول.(2/661)
سادساً ـ صفة القبور واحترامها:
للقبور صفات مستمدة من السنة النبوية ومما تقتضيه الحاجة وهي ما يلي (1) :
1ً - أقل القبر حفرة تمنع الرائحة والسبع عن نبش تلك الحفرة لأكل الميت؛ لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته، واستقذار جيفته وأكل السباع له.
2ً - ويندب عند الجمهور غير المالكية أن يوسع طولاً وعرضاً ويعمَّق بأن يزاد في نزوله، لقوله صلّى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» (2) ، ولأن تعميق القبر أنفى لظهور الرائحة التي تستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت، وروى البيهقي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لحفار: «أوسع من قبل الرأس، ومن قبل الرجلين» .
والتعميق عند الشافعية وأكثر الحنابلة: قدر قامة وبسطة من رجل معتدل، يأن يقوم باسطاً يديه مرفوعتين؛ لأن عمر رضي الله عنه وصى بذلك، ولم ينكر عليه أحد، وهما أربعة أذرع ونصف. وقال أحمد رحمه الله: يعمق القبر إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء.
وعند الحنفية: مقدار نصف قامة، أو إلى حد الصدر، وإن زاد مقدار قامة فهو أحسن. فالأدنى نصف القامة، والأعلى القامة. وطوله: على قدر طول الميت، وعرضه: على قدر نصف طوله.
__________
(1) الدر المختار:835/1-839،847، فتح القدير:469/1-472، مراقي الفلاح: ص101 ومابعدها، الكتاب:134/1 ومابعدها، بداية المجتهد:235/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص96،97، الشرح الكبير:419/1، الشرح الصغير:558/1،560،572،578، مغني المحتاج:351/1،364، المهذب:139/1، المغني:497/2-499،504-508، كشاف القناع:154/2-163، شرح الرسالة:277/1-280، المجموع:284/5.
(2) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.(2/662)
وقال المالكية: وندب عدم تعميق القبر جداً، بل قدر الذراع فقط إذا كان لحداً.
3ً - واللَّحْد باتفاق الفقهاء أفضل من الشَّق: والمراد باللحد: أن يحفر في جانب القبر القبلي مكان يوضع فيه الميت بقدر ما يسعه ويستره. أما الشق: فهو أن يحفر قعر القبر كالنهر، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره غير ما مسته النار، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت، ويسقف عليه ببلاط أو حجارة أو لبن أو خشب ونحوها، ويرفع السقف قليلاً بحيث لا يمس الميت. ويكره الشق عند الحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا» (1) .
وفصل الحنفية والمالكية والشافعية فقالوا: إن اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة، لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته: «الحدوا لي لحداً، وانصبوا على اللبِن نصباً، كما فعل برسول الله صلّى الله عليه وسلم» (2) . فإن كانت الأرض رخوة فالشق أفضل خشية الانهيار.
ويجب عند الشافعية والحنابلة ويندب عند المالكية والحنفية أن يوضع الميت في القبر مستقبل القبلة، ويسند وجهه إلى جدار القبر ويسند ظهره بلبنة ونحوها ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «قبلتكم أحياء وأمواتاً» ولأن ذلك طريقة المسلمين، بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا دفن.
ويسن - كما سأبين - أن يسلَّ الميت من قبل رأسه، بعد أن يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر. ويسن أن ينزله في القبر أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده: «بسم الله وعلى سنة رسول الله» اتباعاً لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، لكنه ضعيف.
(2) رواه مسلم.(2/663)
ويوضع اللبِن (الطوب النيء) على اللحد، بأن يسد من جهة القبر، ويقام اللبن فيه، اتقاءً لوجهه، عن التراب، لقول سعد: «وانصبوا علي اللبن نصباً» . ويكره الآجُرّ (الطوب المُحرَق) والخشب؛ لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع اللبِن. ولا بأس بالقصب مع اللبِن.
ثم يهال التراب على القبر، سَتْراً له وصيانة.
4ً - يسن لكل من حضر عند القبر أن يحثو التراب في القبر من قبل رأسه أو غيره ثلاث حَثَيات باليد، قبل إهالة التراب عليه، لحديث أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً» (1) ، وعن عامر بن ربيعة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلى على عثمان بن مظعون، فكبر عليه أربعاً، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثيات، وهو قائم عند رأسه» (2) ، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يصير ممن شارك فيها، وفي ذلك أقوى عبرة وتذكار، فاستحب لذلك.
5ً - يرفع القبر قدر شبر فقط، ليعرف أنه قبر، فيتوقى، ويترحم على صاحبه، ولأن قبره صلّى الله عليه وسلم رفع نحو شبر (3) ، وروى الشافعي عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر» وعن القاسم بن محمد قال: «قلت لعائشة: يا أماه، اكشفي لي عن قبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (4) .
6ً - تسنيم القبر عند الجمهور أفضل من تسطيحه أي تربيعه، لقول سفيان
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) رواه الدارقطني.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه.
(4) رواه أبو داود (نيل الأوطار:82/4) .(2/664)
التَّمار: «رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلم مسنماً» (1) وكذلك قبور الصحابة من بعده، ولأن التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا، واستثنى الحنابلة دار الحرب إذا تعذر نقل الميت، فالأولى تسوية القبر بالأرض وإخفاؤه، خوفاً من أن ينبش، فيمثل به.
وقال الشافعية: الصحيح أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، كما فعل بقبره صلّى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما (2) .
7ً - يكره تجصيص القبر والبناء، والكتابة عليه والمبيت عنده، واتخاذ مسجد عليه، وتقبيله والطواف به وتبخيره، والاستشفاء بالتربةمن الأسقام، وكذا يكره التطيين عند الحنفية والمالكية.
أما التجصيص: أي التبييض أي الطلاء بالجص وهوا لجبس، ومثله تزويقه ونقشه، والبناءعليه كقبة أو بيت، فمكروه للنهي عنهما في صحيح مسلم الآتي. وإن كان البناء على القبر للمباهاة أو في أرض مسبلة (مخصصة للدفن بحسب العادة) أو موقوفة، فيحرم ويهدم، لأنه في حالة المباهاة من الإعجاب والكبر المنهي عنهما، وفي الموقوفة والمسبلة، فلما في ذلك من التضييق والتحجير على الناس.
وذكر ابن عبد الحكم تلميذ مالك أنه لا تنفذ وصية من أوصى بالبناء على قبره، أي بناء بيوت، وعليه يجب هدم ما بني على القبور من القباب والسقائف والروضات. لكن لا بأس عند اللخمي من المالكية ببناء حاجز بين القبور ليعرف به. وقيل عند الحنفية: لابأس بتطيين القبر، واليوم اعتاد الناس التسنيم باللبن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه (المصدر السابق) وروى الجماعة إلا البخاري وابن ماجه أن علياً بعث أبا الهياج الأسدي وقال: «أبعثك على ما بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» (نيل الأوطار:83/4) .
(2) رواه أبو داود بإسناد صحيح.(2/665)
صيانة للقبر عن النبش، ورأوا ذلك حسناً، وفي الأثر: «ما رآه المسلمون حسناً فهوعند الله حسن» . ولا بأس عند الحنابلة أيضاً من تطيين القبر. وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر، عملاً بوصية أبي هريرة كما روى أحمد في مسنده، وبأمر ابن عمر بنزع فسطاط على قبر عبد الرحمن.
وأما الكتابة على القبر فمكروهة عند الجمهور، سواء اسم صاحبه أوغيره، عند رأسه أم في غيره، أو كتابة الرقاع إليه ودسها في الأنقاب، وتحرم عند المالكية كتابة القرآن على القبر، ودليلهم: ما روى جابر: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها» (1) .
وقال الحنفية: لا بأس بالكتابة على القبر إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن؛ لأن النهي عنها وإن صح، فقد وجد الإجماع العملي بها (2) ، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق، ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، ويتقوى بما أخرجه أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «حمل حجراً، فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» ، فإن الكتابة طريق تعرف القبر بها. ويباح عندهم أيضاً أن يكتب على الكفن «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «يرجى أن يغفر الله للميت» .
والخلاصة: إن النهي عن الكتابة محمول على عدم الحاجة،، وأن الكتابة بغير عذر، أو كتابة شيء من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك فهو مكروه.
__________
(1) رواه مسلم وغيره.
(2) رد المحتار لابن عابدين:839/1.(2/666)
وأما اتخاذ المساجد على القبور فهو مكروه، حرام عند بعض المحدثين والحنابلة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها، لكن ذكر ابن القاسم تلميذ مالك أنه لابأ س بالمسجد على القبور العافية (المندرسة) ويكره على غير العافية. وتكره أيضاً الصلاة إلى القبر، لحديث «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (2) .
وأما التقبيل والاستشفاء بالتربة ونحوه فلأن ذلك كله من البدع، لكن لا بأس كما ذكر الشافعية على الصحيح من تطييب القبر.
8ً - يوضع على القبر حصى، وعند رأسه حجر أو خشبة: أما وضع الحصى فلما رواه الشافعي مرسلاً «أنه وضعه على قبر ابنه إبراهيم» وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، وإن العبد إذا عمل شيئاً، أحب الله منه أن يتقنه» . وأما وضع الحجر ونحوه لتعليم القبر، فللحديث المتقدم: «أنه صلّى الله عليه وسلم وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» .
9ً - لا يجوز اتخاذ السرج على القبور، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها السرج» (3) .
__________
(1) متفق عليه عن أبي هريرة، وروى الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» (نيل الأوطار:90/4) وفيه دليل على تحريم زيارة القبور للنساء كما سيأتي.
(2) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي.
(3) رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، كما تقدم.(2/667)
احترام القبور: أما احترام القبور فهو أمر مقرر في السنة ولدى جميع الفقهاء (1) ، ومظاهر الاحترام ما يأتي:
1- يكره الجلوس على القبر، والمشي عليه، والنوم وقضاء الحاجة من بول أوغائط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (2) ، وقوله: «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» (3) ، والكراهة عند الحنفية تحريمية إذا كان الجلوس لقضاء الحاجة، تنزيهية لغير ذلك، إلا أنهم قالوا على المختار: لا يكره الجلوس على القبر للقراءة، لتأدية القراءة بالسكينة والتدبر والاتعاظ، ولم يجز الشافعية والحنابلة الجلوس إلا لضرورة، وجعلوا الاتكاء أو الاستناد إلى القبر مكروهاً كالجلوس.
وأما المالكية فقالوا: يكره المشي على القبر بشرطين: إن كان مسنماً أو مسطباً، والحال أن الطريق بجانبه، فإن زال تسنيمه أو لم تكن هناك طريق، جاز المشي عليه. أما الجلوس على القبر لغير بول أو غائط فيجوز، وحملوا حديث النهي عن الجلوس على المقابر على التخلي (قضاء الحاجة) . وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يجلس على المقابر ويتوسدها.
2 - يحرم نبش القبر ما دام يظن فيه شيء من عظام الميت فيه: فلا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور، ولا تزال عن موضعها، ويتقى كسر عظامها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم» أو «كسر عظم الميت ككسره
__________
(1) مراقي الفلاح: ص103، رد المحتار:846/1، الشرح الصغير:559/1،573، الشرح الكبير:428/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص97، المجموع:264/5، مغني المحتاج:354/1، المهذب:139/1،كشاف القناع:162/2،164،165،166، المغني:507/3،551،565.
(2) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي.
(3) رواه الجماعة، وفسر فيه الجلوس بالحدث، وهو حرام بالإجماع.(2/668)
حياً» (1) ويستثنى من ذلك حالات تقتضيها الضرورة أو الحاجة والغرض الصحيح وأهمها ما يأتي (2) :
أـ إذا دفن من غير كفن أو غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يتغير حاله أو لم يخش عليه الفساد في نبش وكفن وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب عليه، وروى سعيد في سننه أن رجالاً قبروا صاحباً لهم، لم يغسلوه ولم يجدوا له كفناً، ثم لقوا معاذ بن جبل، فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره، ثم غسِّل وكفِّن، وحُنِّط، ثم صلي عليه (3) .
ولم يجز الشافعية في الأصح نبش القبر لتكفين الميت؛ لأن المقصود حصل وهو ستره بالتراب.
فإن خشي عليه الفساد أو التغير، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر.
أما الصلاة على الميت إذا دفن قبلها، فتصلى على القبر؛ لأنها تصل إليه في القبر. وينبش عند المالكية، وعند الحنابلة، ويصلى عليه في رواية عن أحمد، ولاينبش عند الحنفية لوضعه لغير القبلة أوعلى يساره، وينبش لغير ذلك مما سيأتي.
ب ـ إذا كان الكفن مغصوباً وأبى صاحبه أن يأخذ القيمة، أو كانت الأرض مغصوبة، ولم يرض مالكها ببقائه.
جـ ـ لضيق المسجد الجامع، أو دفن معه آخر عند الضيق. وإذا نبش للدفن أو اتخاذ مسجد محل القبر جاز، ولا يجوز عند المالكية للزرع والبناء، وأجاز الحنفية الزرع والبناء في محل قبر إذا بلي وصار تراباً.
__________
(1) الأول رواه ابن ماجه عن أم سلمة، وهو حديث حسن، والثاني رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة، وهو حسن أيضاً.
(2) الدر المختار:839/1،840، مراقي الفلاح: ص102، الشرح الصغير:577/1، القوانين الفقهية: ص93،97، المهذب:138/1، المجموع:266/5-268، المغني:511/2،551-554، كشاف القناع:97/2،98.
(3) نيل الأوطار: 4/211 ومابعدها، وفيه أيضاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم أخرج عبد الله بن أُبي من قبره فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه، رواه البخاري.(2/669)
د ـ إذا دفن معه مال من حلي أوغيره، أو وقع في القبر مال لآدمي قليل أو كثير، وطالب به صاحبه، لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: خاتمي، ففتح موضعاً فيه، فأخذه (1) .
ولم يجز المالكية نبش القبر لمال قليل للميت، أو إذا تغير الميت، ويعطى صاحبه مثله أو قيمته من التركة (المثل في المثلي، والقيمة في القيمي) .
هـ ـ إذا بلع الشخص جوهرة لغيره، ومات وطالب صاحبها، شق جوفه، وردت الجوهرة. فإن كانت الجوهرة للميت شق أيضاً عند الحنفية وسحنون المالكي وفي الأصح عند الشافعية، ولم يشق عند أحمد وابن حبيب المالكي وفي وجه آخر عند الشافعية.
شق بطن الحامل:
وـ إذا ماتت الحبلى، وفي بطنها جنين حي يضطرب، شق جوفها عند أكثر الفقهاء؛ لأنه استبقاء حي، بإتلاف جزء من الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل الميت.
والمذهب عند الحنابلة: أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة.
3 - نقل الميت بعد الدفن: للفقهاء رأيان: رأي المالكية والحنابلة بالجواز لمصلحة، ورأي الشافعية بعدم الجواز إلا لضرورة، وعدم الجواز مطلقاً عند الحنفية، على التفصيل الآتي (2) :
قال المالكية: يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، أو من حضر لبدو، بشرط ألا ينفجر حال نقله، وألا تنتهك حرمته، وأن يكون لمصلحة كأن يخاف عليه أن يأكله البحر أو السبع، أو ترجى بركة الموضع المنقول إليه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله.
__________
(1) حديث المغيرة ضعيف غريب، قال الحاكم أبو أحمد شيخ الحاكم أبي عبد الله: لا يصح هذا الحديث (المجموع:266/5) .
(2) الدر المختار ورد المحتار:840/1، الشرح الصغير:566/1، الشرح الكبير:421/1، المجموع:270/5، مغني المحتاج:366/1، كشاف القناع:97/2.(2/670)
وقال الحنابلة: يجوز نقل الميت لغرض صحيح كدفنه في بقعةخير من بقعته التي دفن فيها، ولمجاورة صالح لتعود عليه بركته، إلا الشهيد إذا دفن بمصرعه، فلا ينقل عنه لغيره، حتى لو نقل منه رد إليه ندباً؛ لأن دفنه في مصرعه (مكان قتله) سنة، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة (1) .
وقال الشافعية: نبش الميت بعد دفنه للنقل وغيره حرام إلا لضرورة بأن دفن بلا غسل ولا تيمم. أو في أرض أو ثوب مغصوبين، ووقع فيه مال، أو دفن لغير القبلة، لا للتكفين في الأصح؛ لأن غرض التكفين الستر، وقد حصل بالتراب، مع ما في النبش من هتك حرمته، كما أبنت.
وقال الحنفية: لا يجوز النقل بعد الدفن مطلقاً، وأما نقل يعقوب ويوسف عليهما السلام من مصر إلى الشام ليكونا مع آبائهما الكرام، فهو شرع من قبلنا، ولم يتوافر فيه شروط كونه شرعاً لنا، وعليه: لا يجوز كسر عظامه ولا تحويلها ولو كان الميت ذمياً، ولا ينبش وإن طال الزمان.
وفي الجملة: تلتقي هذه الأقوال في ضرورة احترام الميت، وتحرص على إبقائه في مكانه، فهو الأصل، ويجوز النقل عند الجمهور لضرورة أو مصلحة أو غرض صحيح، ولا يجوز عند الحنفية مطلقاً.
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي عن جابر (نيل الأوطار:112/4) .(2/671)
4 - قال الشافعية (1) : لا بأس بتطييب القبر، وقالوا أيضاً مع الحنابلة والحنفية: ويندب أن يرش القبر بماء، ويسن وضع الجريد الأخضر والريحان ونحوه من الشيء الرطب على القبر حفظاً لترابه من الاندراس، ولا يجوز للغير أخذه من على القبر قبل يبسه؛ لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه، لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته، وهو الاستغفار.
ودليلهم على رش الماء: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء (2) » .
وكذلك قال الحنفية (3) : يكره قطع النبات الرطب والحشيش من المقبرة، دون اليابس؛ لأنه مادام رطباً يسبح الله تعالى، فيؤنس الميت، وتنزل بذكره الرحمة. ويندب وضع الجريد والآس ونحوهما على القبور. والدليل: ما ورد في الحديث الصحيح من وضعه عليه الصلاة والسلام الجريدة الخضراء، بعد شقها نصفين على القبرين اللذين يعذبان، وتعليله بالتخفيف عنهما ما لم ييبسا أي يخفف عنهما ببركة تسبيحهما؛ إذ هو أكمل من تسبيح اليابس، لما في الأخضر من نوع حياة.
فكراهة قطع ذلك وإن نبت بنفسه، لما فيه من تفويت حق الميت.
5 - جمع أكثر من ميت في قبر واحد: اتفقت كلمة الفقهاء على أنه لا يجوز أن يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة (4) قال جابر: دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجتُه، فجعلته في قبر على حدة (5) ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحداً.
والضرورة: كأن كثر الأموات وعسر إفراد كل ميت بقبر، أو لضيق المكان أو تعذر الحافر، ولو كانوا ذكوراً وإناثاً أجانب.
ويقدم حينئذ الأفضل كترتيبهم في الإمامة، فيقدم الأحق بالإمامة إلى جدار القبر القبلي، فيكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يسأل في قتلى أحد عن أكثرهم قرآناً، فيقدمه إلى اللحد، لكن لا يقدم فرع على أصله من جنسه، وإن علا، حتى يقدم الجد ولو من قبل الأم، وكذا الجد، فيقدم الأب على الابن وإن كان أفضل منه لحرمة الأبوة، وتقدم الأم على البنت وإن كانت أفضل.
__________
(1) مغني المحتاج:364/1، المغني:504/2، الدر المختار:838/1، كشاف القناع:191/2.
(2) رواه الشافعي (نيل الأوطار:84/4) .
(3) رد المحتار:846/1، مراقي الفلاح: ص103.
(4) مراقي الفلاح: ص102، الشرح الصغير:567/1، الشرح الكبير:419/1،422، القوانين الفقهية: ص97، مغني المحتاج:354/1، المغني:562/2-563، المجموع:244/5 ومابعدها.
(5) رواه البخاري والنسائي (نيل الأوطار:112/4) .(2/672)
ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلم في بعض الغزوات.
ولو بلي الميت وصار تراباً، جاز دفن غيره في قبره، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض. ولا ينبش قبر ميت باق.
سابعاً ـ أحكام الدفن:
1 - كيفيته:
للفقهاء آراء ثلاثة في كيفية إنزال الميت القبر (1) .
فقال الحنفية: يُدخل الميت مما يلي القبلة إن أمكن كما أدخل النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو أن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل الميت، فيوضع في اللحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة لشرف القبلة، وهذا إذا لم يُخشَ على القبر أن ينهار، وإلا فيسل من قبل رأسه أو رِجْليه.
وقال المالكية: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من أي ناحية كان، والقبلة أولى.
وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم، ثم يسل سلاً إلى القبر، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سُلَّ من قبل رأسه سلاً (2) ، ولأن ذلك أسهل.
__________
(1) اللباب:134/1، مراقي الفلاح: ص101، الدر المختار:836/1، 838، الشرح الكبير:422/1، القوانين الفقهية: ص96، الشرح الصغير:559/1، المهذب:137/1، المغني:496/2،499،501-505، المجموع:254/5-260، مغني المحتاج:363/1.
(2) رواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد صحيح.(2/673)
وتحل عُقد الأكفان من عند رأسه ورجليه؛ لأن عقدها كان لخوف الانتشار، وقد أمن من ذلك بدفنه، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر، نزع الأخلّة (1) بفيه، وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب نحو ذلك.
ويوجه الميت إلى القبلة على جنبه الأيمن.
ويضع الرجل في قبره الرجال، بدون تقدير عدد معين، وأولى الناس بدفنه أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه، والمرأة يُدخلها زوجها أو محرمها: وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها، ولها السفر معه، فإن لم يكن فالنساء فإن لم يكن فصالحو المؤمنين من الشيوخ القادرين على الدفن.
وتمد يده اليمنى مع جسده، قال المالكية: ويعدل رأسه ورجلاه بالتراب حتى يستوي، وقال الشافعية: يستحب أن يوسد رأسه لبنة أو حجر أو نحوهما، واتفقوا على أنه لا يفرش تحته شيء، ويكره أن يجعل تحته فرش أو مضربة أو مخدة، أو ثوب، أو حصير، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا أنزلتموني في اللحد، فأفضوا بخدي إلى الأرض» وعن أبي موسى: «لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً» وينصب اللبن على اللحد نصباً، لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: «اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلّى الله عليه وسلم، انصبوا عليَّ اللبن، وأهيلوا علي التراب» (2) ، ويكره الآجر (الطوب المحرق) والخشب، فلا يدخل القبر آجراً ولا خشباً ولا شيئاً مسته النار (3) ، ولا بأس عند الحنفية والحنابلة بالقصب ثم يهال التراب عليه.
ويستحب لكل من دنا على شفير القبر - كما أوضحت - أن يحثو ثلاث حثيات من التراب؛
__________
(1) الأخلة جمع خلال: وهو ما يخل أو يشبك به الثوب.
(2) رواه مسلم بلفظه إلا قوله: «وأهيلوا علي التراب» .
(3) عللوا ذلك بأنه من بناء المترفين، وأما ما مسته النار فللتشاؤم بأنه من أهل النار.(2/674)
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حثا في قبر ثلاث حثيات من التراب (1) .
ويستحب كما تقدم أن يقف جماعة على القبر بعد الدفن بساعة يدعون للميت بعد دفنه، ويقرؤون بقدر ما ينحر الجزور ويفرق لحمه، لما روى عثمان رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، يقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (2) .
2 - مكان الدفن والدفن في البحر:
الدفن في المقبرة أفضل منه في غيرها، لما يلحقه من دعاء الزوار والمارين (3) ، ولأنه صلّى الله عليه وسلم كان يدفن أهله وأصحابه بالبقيع، ولا بأس بشرائه موضع قبره، ويوصي بدفنه فيه، كما فعل عثمان وعائشة.
ولا يدفن كافر في مقبرة المسلمين، ولا مسلم في مقبرة الكفار (4) .
ولو ماتت ذمية (يهودية أو نصرانية) وهي حامل من مسلم، ومات جنينها في جوفها، فالصحيح عند الشافعية، والحنابلة (5) : أنها تدفن بين مقابر المسلمين والكفار، ويكون ظهرها إلى القبلة؛ لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه، فتدفن منفردة، لأن ولدها مسلم، فيتأذى بعذابهم، ولا تدفن في مقابر المسلمين؛ لأنها كافرة.
أما لو مات إنسان في سفينة في البحر: فاتفق الفقهاء (6) على أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وينتظر به الوصول إلى البر إن رجوا الوصول في يوم أو يومين ليدفنوه فيه، ما لم يخافوا عليه الفساد.
__________
(1) رواه البيهقي من حديث عامر بن ربيعة، وإسناده ضعيف، إلا أن له شاهداً رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(2) رواه أبو داود والبيهقي بإسناد جيد (نيل الأوطار:89/4) .
(3) مغني المحتاج:362/1، كشاف القناع:167/2، المغني:508/2.
(4) المجموع:246/5.
(5) المجموع:246/5، المغني:563/2.
(6) الدر المختار ورد المحتار:836/1، الشرح الكبير:429/1، الشرح الصغير:579، القوانين الفقهية: ص96، المجموع:247/5، المغني:500/2.(2/675)
فإن كان البر بعيداً أو خيف عليه التغير، شدت عليه أكفانه، ويوضع بتابوت عند الحنفية، ويثقل بشيء كحجر ليرسب عند الحنابلة، ولا يثقل عند المالكية، ويلقى في الماء مستقبل القبلة على الشق الأيمن. وقال الشافعية: يجعل بين لوحين ويلقى في البحر، لأنه ربما وقع في ساحل فيدفن، فإن كان أهل الساحل كفاراً، ألقي في البحر.
ورأي الجمهور أولى؛ لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه، والقاؤه بين لوحين تعريض له للتغير والهتك، وربما بقي على الساحل مهتوكاً عرياناً.
3 - زمان الدفن:
الأفضل الدفن نهاراً، وفي غير الأوقات التي تكره صلاة النوافل فيها، ويجوز ولايكره الدفن ليلاً، وهو المختار عند الحنفية، والشافعية والحنابلة، وأجاز الشافعية الدفن في وقت كراهة الصلاة ما لم يتحرَّه، فإن تحراه وتعمده كره (1) .
ودليل جواز الدفن ليلاً: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم دفن ليلاً، كما ذكر أحمد عن عائشة، ودفن أبو بكر بالليل، كما ذكر البخاري تعليقاً في باب الدفن بالليل (2) ، ودفن الصحابة إنساناً بالليل في حال حياة الرسول عليه السلام (3) .
__________
(1) الدر المختار:847/1، المجموع:269/5، مغني المحتاج:363/1، المغني:555/2 ومابعدها.
(2) راجع نيل الأوطار:88/4، وقد وصل البخاري حديث دفن أبي بكر في آخر كتاب الجنائز في باب موت يوم الاثنين من حديث عائشة.
(3) رواه البخاري وابن ماجه عن ابن عباس، قال البخاري: ودفن أبو بكر ليلاً، وروى أبو داود عن جابر أن النبي دفن رجلاً ليلاً (نيل الأوطار:88/4) .(2/676)
4 - ما يقال عند الدفن:
يندب لواضع الميت في القبر أن يقول حين يضعه في قبره (1) : «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلّى الله عليه وسلم» ، اتباعاً للسنة (2) ، وفي رواية «سنة» بدل «ملة» .
ويسن أن يزيد في الدعاء ما يناسب الحال. روى ابن ماجه عن ابن عمر أنه كان يقول أثناء تسوية اللبن على اللحد: «اللهم أجرها ـ أي الجنازة ـ من الشيطان، ومن عذاب القبر، اللهم جافِ الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضواناً» وروى ابن المنذر أن عمر كان إذا سوى على الميت قال: «اللهم، أَسْلَمه إليك الأهل والمال والعشيرة، وذنبه عظيم فاغفر له» .
5 - التلقين بعد الدفن:
يستحب عند الشافعية والحنابلة (3) تلقين الميت المكلف بعد الدفن، ويقعد الملقن عند رأس القبر، فيقال له: «يا عبد الله ابن أمة الله، اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً» لحديث ورد فيه (4) . قال النووي في الروضة: والحديث وإن كان ضعيفاً، لكنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة، ولم تزل الناس على العمل به من العصر الأول في زمن من يقتدى به، وقد قال تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات:55/51] ، وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه الحالة.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص101، مغني المحتاج:362/1، المغني:500/2، الدر المختار:837/1.
(2) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان والحاكم.
(3) مغني المحتاج:367/1، كشاف القناع:157/2، المغني: 506/2.
(4) رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد:43/3) : وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وقال عنه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: وإسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه (نيل الأوطار:89/4 ومابعدها) .(2/677)
والحق ـ في تقديري ـ مع القائلين بعدم سنية التلقين، والظاهر أن المستحب لذلك هم الصحابة، بدليل ما روي عن راشد بن سعد، وضَمْرة بن حبيب، وحكيم ابن عمر قالوا: «إذا سوِّي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثلاث مرات، يا فلان قل: ربيَ الله، ودينيَ الإسلام، ونبيّي محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم ينصرف» (1) .
وقد عرفنا أنه يندب عند الحنفية والمالكية تلقين المحتضر الشهادتين ولا يلقن بعد الدفن.
6 - ستر القبر:
لا خلاف بين أهل العلم في استحباب ستر قبر المرأة بغطاء؛ لأن المرأة عورة، ولا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون، فإن كان الميت رجلاً كره ستره عند الحنابلة، ولا يستر عند المالكية والحنفية إلا لعذر، ودليل الستر للمرأة فعل عمر وعلي وغيرهما (2) .
واستحب الشافعية ستر القبر مطلقاً عند إدخال الميت فيه، وإن كان الميت رجلاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ، ولأنه أستر لما عساه أن ينكشف مما كان يجب ستره، وهو للأنثى آكد منه لغيرها (3) .
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه (نيل الأوطار:89/4) .
(2) المغني:500/2، الشرح الصغير:553/1، الدر المختار:838/1.
(3) مغني المحتاج:362/1.(2/678)
7 - الدفن في تابوت أو صندوق:
الدفن في التابوت (أي السِحْلية: وهو أن يجعل في وعاء كالصندوق) هو من سنة النصارى لدفن أمواتهم، ويستعمل عندنا لحالة العذر فقط، كما يبين من كلام فقهائنا (1) .
قال الحنفية: لا بأس باتخاذ التابوت ولو من حجر أو حديد للميت عند الحاجة كرخاوة الأرض، وكونها ندية، أو لميت البحر، أو للمرأة مطلقاً، ويسن أن يفرش فيه التراب.
وقال المالكية: الأولى عدم الدفن في التابوت، وإنما يندب سد اللحد بلبن (طوب نيء) ، فلوح خشب، فقَرْمود (طوب على صورة وجوه الخيل) ، فآجر (طوب محروق) ، فتراب يلتُّ بالماء ليتماسك.
وقال الشافعية: يكره دفن الميت في تابوت إلا في أرض ندية أو رخوة، أو كان في الميت تهرية بحريق، أو لذع، بحيث لا يضبطه إلا التابوت، أو كانت امرأة لامحرم لها، لئلا يمسها الأجانب عند الدفن أو غيره.
وقال الحنابلة: لا يستحب الدفن في تابوت؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولاأصحابه، وفيه تشبه بأهل الدنيا، والأرض أنشف لفضلاته.
ثامناً ـ زيارة القبور:
مذهب أهل السنة: أن الروح: هي النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنه جوهر لا عَرَض. وتجتمع أرواح الموتى،
__________
(1) الدر المختار:836/1، الشرح الصغير:560/1، مغني المحتاج:363/1، المهذب:137/1، المغني:503/2.(2/679)
فينزل الأعلى إلى الأدنى، لا العكس. ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وتتصل أيضاً بالبدن أحياناً، فيحصل له معها النعيم أو العذاب.
وهناك لأهل السنة قول آخر: أن النعيم والعذاب يكون للبدن دون الروح.
واستفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يرى أيضاً، وبأنه يدري بما فعل عنده، ويسر بما كان حسناً، ويتألم بما كان قبيحاً.
ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس. وهذا الوقت آكد، وينتفع بالخير، ويتأذى بالمنكر عنده (1) .
أما حكم زيارة القبور فللفقهاء فيه رأيان (2) بالنسبة للنساء. أما الرجال فلا خلاف بين أهل العلم في إباحة زيارتهم القبور:
أـ رأي الحنفية: تندب زيارة القبور، للرجال والنساء على الأصح، لما روى ابن أبي شيبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «كان يأتي قبور الشهداء بأحد، على رأس كل حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار» وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، أسأل الله لي ولكم العافية» وقال عليه الصلاة والسلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الموت» (3) وفي لفظ «فإنها تذكِّر الآخرة» .
والأفضل أن تكون الزيارة يوم الجمعة والسبت والاثنين والخميس. والسنة زيارتها قائماً، والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع.
ويستحب للزائر أن يقرأ سورة {يس} لما ورد عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من دخل المقابر فقرأ يس ـ أي وأهدى ثوابها للأموات ـ خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد ما فيها حسنات» (4) وقال عليه السلام: «اقرؤوا على موتاكم يس» (5) .
ويقرأ أيضاً من القرآن ما تيسر له من الفاتحة، وأول البقرة إلى «المفلحون» وآية الكرسي، وآمن الرسول، وتبارك الملك، وسورة التكاثر، والإخلاص اثنتي عشرة مرة أو إحدى عشرة مرة، أو سبعاً أو ثلاثاً، والمعوذتين ثلاث مرات، ثم يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأناه إلى فلان أو إليهم» . وروى الدارقطني: «من مر على المقابر، فقرأ: قل هو الله إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات» .
__________
(1) كشاف القناع:190/2 ومابعدها.
(2) الدر المختار ورد المحتار:843/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص103، الشرح الكبير:422/1، الشرح الصغير:563/1، شرح الرسالة:288/1، مغني المحتاج:364/1-365، المغني:564/2، 565،570، كشاف القناع:164/2،173 ومابعدها.
(3) رواه مسلم عن أبي بريدة، ورواه أيضاً أصحاب السنن إلا الترمذي بأسانيد صحيحة، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الموت» .
(4) ذكره في البحر الرائق، ورواية الزيلعي: «وكان له ـ أي للقارئ ـ بعدد من فيها من الأموات» والظاهر أنه ضعيف.
(5) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن معقل بن يسار، وهو حديث حسن.(2/680)
وزيارة النساء إن كانت لتجديد الحزن والبكاء والندب على ما جرت به عادتهن لا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور» فإن كانت للاعتبار والترحم من غير بكاء، فلا بأس.
والأفضل لمن يتصدق نفلاً أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء. ويستحب إهداء ثواب القراءة للنبي صلّى الله عليه وسلم، لأنه أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر، وإسداء جميل له.
ب ـ رأي الجمهور: تندب زيارة القبور للرجال للاعتبار والتذكر وتكره للنساء، وكانت زيارتها منهياً عنها، ثم نسخت، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» وفي رواية: «ولا تقولوا هُجْراً» أي كلاماً قبيحاً، ولا تدخل النساء في ضمير الرجال على المختار. وزيارة قبور الكفار مباحة. وأما وقت الزيارة فقال مالك: بلغني أن الأرواح بفناء المقابر، فلا تختص زيارتها بيوم بعينه، وإنما يختص يوم الجمعة لفضله والفراغ فيه.(2/681)
وسبب كراهتها للنساءلأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن، لما فيهن من رقة القلب، وكثرة الجزع، وقلة احتمال المصائب، وإنما لم تحرم لما روى مسلم عن أم عطية: «نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا» وكراهة زيارتهن لحديث: «لعن الله زوَّارات القبور» (1) . ولكن يسن لهن زيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويلحق بذلك قبور بقية الأنبياء والصالحين، بشرط عدم التبرج والاختلاط ورفع الأصوات.
لكن قال المالكية: هذا في حق الشابة، أما المتجالة التي لا أرب للرجال بها فكالرجال. ويكره الأكل والشرب والضحك وكثرة الكلام، وكذا قراءة القرآن بالأصوات المرتفعة، واتخاذ ذلك عادة لهم.
ويندب أن يسلِّم الزائر على قبور المسلمين، ويقرأ، ويدعو.
أما السلام فيكون مستقبلاً وجه الميت، قائلاً ما علَّمه النبي صلّى الله عليه وسلم لأصحابه إذا خرجوا للمقابر: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (2) بكم لاحقون» . أو «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لا حقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم، زاد أبو داود: «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» لكن بسند ضعيف.
ويقرأ عنده ما تيسر من القرآن، وهو سنة في المقابر، فإن الثواب للحاضرين، والميت كحاضر يرجى له الرحمة.
ويدعو للميت عقب القراءة، رجاء الإجابة؛ لأن الدعاء ينفع الميت، وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة. وعند الدعاء يستقبل القبلة.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» والغرقد: شجر له شوك، والبقيع: مدفن أهل المدينة.
ويستحب ـ كما ذكر الشافعية ـ الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، ويقف الزائر أمام القبر كما يقف أمام الحي.
__________
(1) قال الترمذي: هذ احديث صحيح، رواه الخمسة إلا النسائي.
(2) قوله: «إن شاء الله» : الصحيح أنه للتبرك وامتثال قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} [الكهف:23/18-24] (المجموع:280/5) .(2/682)
ويكره تقبيل التابوت الذي يجعل على القبر، وتقبيل القبر واستلامه، وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، فإن هذا كله من البدع التي ارتكبها الناس: {أفمن زين له سوء عمله، فرآه حسناً} [فاطر:8/35] .
ويستحب عند الحنابلة خلع النعال إذا دخل المقابر، للأمر به في حديث بُشَير
ابن الخَصَّاصية (1) ، ولم ير أكثر العلماء بذلك بأساً لإقرار النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك، في حديث رواه البخاري.
المطلب الثالث ـ التعزية وتوابعها:
أولاً ـ تعريفها وحكمها (2) :
هي أن يسلِّي أهل الميت ويحملهم على الصبر بوعد الأجر، ويرغبهم في الرضا بالقضاء والقدر، ويدعو للميت المسلم وتكون إلى ثلاث ليال بأيامها، وتكره بعدها إلا لغائب، حتى لا يجدد له الحزن، ولإذن الشارع في الإحداد في الثلاث، بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً» (3) . ويكره عند غير المالكية تكرار التعزية، فلا يعزي عند القبر من عزى قبل ذلك، وهي بعد الدفن أفضل منها قبله؛ لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ووحشتهم بعد الدفن لفراقه أكثر.
ويكره عند الشافعية والحنابلة الجلوس للتعزية بأن يجلس المصاب في مكان أو في السرادقات على الطريق ليعزوه، أو يجلس المعزي عند المصاب للتعزية، لما في ذلك من استدامة الحزن. وقال الحنفية: لا بأس بالجلوس للتعزية في غير المسجد ثلاثة أيام، وأولها أفضلها، وقال في الفتاوى الظهيرية: لا بأس بها لأهل الميت في البيت أو المسجد، والناس يأتونهم ويعزونهم. ويكره المبيت عند أهل
__________
(1) رواه أبو داود، وإسناده جيد.
(2) الدر المختار ورد المحتار:841/1 وما بعدها، تبيين الحقائق:246/1، شرح الرسالة:283/1، الشرح الكبير:419/1، الشرح الصغير:560/1، المهذب:138/1 ومابعدها، كشاف القناع:185/2 ومابعدها، المغني:543/2 ومابعدها، المجموع:273/5-276.
(3) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة، وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان (نيل الأوطار:292/6) .(2/683)
الميت وتكون التعزية في بيت المصاب، وليس في ألفاظ التعزية شيء محدد، فيقول المعزي للمسلم: «أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى مسلماً بكافر يقول: «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك» ويمسك عن الدعاء للميت؛ لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه. وإن عزى كافراً بمسلم قال: «أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى كافراً بكافر قال: «أخلف الله علينا وعليك، ولانقص عددك» .
وقال الحنابلة: تحرم تعزية الكافر؛ لأن فيها تعظيماً للكافر كبداءته بالسلام، ويقول المعزَّى: «استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك» ولا تكره المصافحة أو أخذ المعزي بيد من عزاه.
والتعزية تستحب للرجال والنساء اللاتي لا يفتن، في الصغير والكبير، والذكر والأنثى، بلا خلاف بين العلماء، إلا أن الثوري قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن، لأنه خاتمة أمره. وتكره تعزية الرجل لامرأة حسناء أجنبية غير محرم له، خشية الفتنة.
ودليل استحباب التعزية أحاديث، منها: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» (1) ومنها: «من عزى أخاه بمصيبة، كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» (2) .
ثانياً ـ البكاء والرثاء والنياحة واللطم والشق:
يجوز بالاتفاق البكاء على الميت قبل الدفن وبعده؛ بلا رفع صوت أوقول قبيح، أو ندب أو نواح (3) ، لما روى جابر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يا إبراهيم، إنا
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه، قال الترمذي: غريب، وقال ابن الجوزي: موضوع.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) الدر المختار:841/1، الشرح الصغير:566/1،579، الشرح الكبير:421/1، مغني المحتاج:355/1 ومابعدها، المهذب:139/1، المغني:545/2-547، كشاف القناع:188/2 ومابعدها، المجموع:276/5-280.(2/684)
لا نغني عنك من الله شيئاً، ثم ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يارسول الله، أتبكي، أو لم تنه عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن النوح» (1) . وورد في الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما فاضت عيناه، لما رفع إليه ابن بنته، ونفسه تقعقع كأنها في شَنَّة (2) ـ أي لها صوت وحشرجة كصوت ما ألقي في قربة بالية ـ قال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» .
والبكاء لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.
وأما حديث «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (3) فمؤول عند جمهور العلماء على من وصى أهله أن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه، ونوحهم؛ لأنه بسببه ومنسوب إليه، وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طَرَفة بن العبد:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب ياابنة معبد
أما من بكى عليه أهله وناحوا عليه من غير وصية منه، فلا يعذب ببكائهم ونوحهم، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/6] .
ولا بأس ـ كما ذكر الحنفية ـ برثاء الميت بشعر أو غيره، لكن يكره الإفراط في مدحه، لا سيما عند جنازته، لحديث «من تعزى بعزاء الجاهلية،
__________
(1) رواه الترمذي، وهو حديث حسن، ومعناه في الصحيحين من رواية غير جابر.
(2) الشنة: القربة الخلق أي البالية.
(3) رواه البخاري ومسلم عن عمر، وعن عائشة أن ابن عمر يقول: «الميت يعذب ببكاء الحي» وردته بآية {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام:164/6] .(2/685)
فأعضّوه بهَنِ أبيه ولا تكْنوا» (1) وهذا أمر تأديب ومبالغة في الزجر عن دعوى الجاهلية.
ويحرم الندب بتعديد شمائله، والنوح، والجزع بضرب صدر أو رأس وشق جيب ونحوهما.
أما الندب: فهو تعداد محاسن الميت، وما يَلْقون بفقده بلفظـ النداء، بالواو بدل الياء، مثل قولهم: وارجلاه، واجبلاه، وانقطاع ظهراه، واكهفاه، ياعزي، ياسندي ونحوه، لحديث: «ما من ميت يموت فيقدم باكيهم، فيقول: واجبلاه، واسنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهَزانه، أهكذا كنت» (2) وذلك إن أوصى بما ذكر، أو كان كافراً.
وأما النوح: فهو رفع الصوت بالندب، لخبر «النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» (3) وخبر «لعن الله النائحة والمستمعة» (4) .
وأما الجزع: بضرب الصدر ونحوه كشق جيب ونشر شعر، وتسويد وجه، وإلقاء رماد على رأس، ورفع صوت بإفراط في البكاء، فهو حرام أيضاً، لخبر الشيخين: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» وفي الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة» فالصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها.
__________
(1) المراد به قولهم في الاستغاثة: يالفلان، وقولوا له: اعضض بذكر أبيك، ولا تكنوا عن الذكر بالهن، رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب (كشف الخفا:332/2) .
(2) رواه الترمذي وحسنه، واللهز: الدفع في الصدر باليد، وهي مقبوضة. والفعل لهز يلهز على وزن فتح يفتح.
(3) رواه مسلم، والسربال: القميص.
(4) رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد، وهو صحيح.(2/686)
ثالثاً ـ ما ينبغي للمصاب والثواب على المصيبة (1) :
ينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويتنجز ما وعد الله به الصابرين حيث يقول سبحانه: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات} ـ أي مغفرة ـ {من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة:155/2-156-157] .
وعليه يسن للمصاب أن يسترجع، فيقول: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156] (أي نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، ونحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا) و «اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها» ، ويصلي ركعتين، كما فعل ابن عباس، وقرأ {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:45/2] ، وقال حذيفة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا حَزَ به أمر صبر» (2) وروى مسلم عن أم سلمة مرفوعاً: «إذا حضرتم المريض أو الميت، فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» فلما مات أبو سلمة قال: «قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني عقبة حسنة» (3) .
ويسن للمصاب أن يصبر، والصبر: الحبس، قال تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال:46/8] ، وقال صلّى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء» (4) .
__________
(1) الدر المختار:841/1، الشرح الصغير:561/1، المجموع:274/5، كشاف القناع:187/2.
(2) رواه أحمد وأبو داود. وحز به الأمر: نابه واشتد عليه، أو ضغطه.
(3) روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمة: قلت كما أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخلف لي خيراً منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .
(4) رواه مسلم من حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه بلفظ: «الطُّهور شطر الإيمان..» .(2/687)
وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، لأخبار، منها ما في الصحيحين: أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلَّة القسم» يشير إلى قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم:71/19] والصحيح: أن المراد به المرور على الصراط.
وأخرج البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن من جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة» .
وثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: «أرسلت إحدى بنات النبي صلّى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت، فقال للرسول: ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» (1) .
والثواب على المصيبة: في الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فالمصائب نفسها لا ثواب فيها، لأنها ليست من كسب العبد وإرادته، وإنما يثاب على كسبه، والصبر من كسبه أو فعله. وهذا قول الحنابلة والعز بن عبد السلام.
والرضا بالقضاء والقدر فوق الصبر، فإنه يوجب رضا الله سبحانه وتعالى.
وصرح الشافعي رحمه الله بأن كلاً من المجنون والمريض المغلوب على عقله مأجور، مثاب، مكفر عنه بالمرض، فحكم بالأجر مع انتفاء العقل المستلزم لانتفاء الصبر،
__________(2/688)
ويؤيده خبر الصحيحين: «مايصيب المسلم من نَصَب - تعب - ولا وَصَب ـ مرض ـ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» والحديث الصحيح: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمله صحيحاً مقيماً» .
فمن أصيب وصبر يحصل له ثوابان: لنفس المصيبة، وللصبر عليها. ومن انتفى صبره، فإن كان لعذر كجنون فكذلك، أو لنحو جزع لم يحصل من ذينك الثوابين شيء.
رابعاً ـ ضيافة أهل الميت وصنع الطعام لهم:
يستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يصنعوا طعاماً لأهل الميت (1) ، لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه» (2) . ويبعث بهم إليهم إعانة لهم، وجبراً لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم، وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم، ويكون الطعام بحيث يشبعهم في يومهم وليلتهم.
أما صنع أهل البيت طعاماً للناس، فمكروه وبدعة لا أصل لها؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم، وتشبهاً بصنع أهل الجاهلية. وإن كان في الورثة قاصر دون البلوغ، فيحرم إعداد الطعام وتقديمه، قال جرير بن عبد الله: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة» وإن دعت الحاجة إلى
__________
(1) فتح القدير:473/1، الدر المختار:841/1، الشرح الصغير:561/1، المجموع:285/5 وما بعدها، المهذب:140/1، المغني:550/2، شرح الرسالة:289/1.
(2) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من رواية عبد الله بن جعفر، قال الترمذي: حديث حسن. ورواه أحمد وابن ماجه أيضاً من رواية أسماء بنت عميس. وقد قتل جعفر في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة في جمادى.(2/689)
ذلك، جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه.
خامساً ـ القراءة على الميت وإهداء الثواب له:
ههنا مسائل للفقهاء (1) :
أـ أجمع العلماء على انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار بنحو «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه» ، والصدقة، وأداء الواجبات البدنية ـ المالية التي تدخلها النيابة كالحج، لقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [الحشر:10/59] وقوله سبحانه: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد:19/47] ، ودعا النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك، ولكل ميت صلى عليه. وسأل رجل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» (2) ، وجاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى» (3) وقال للذي سأله: «إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم» .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:844/1 ومابعدها، فتح القدير:473/1، شرح الرسالة:289/1، الشرح الكبير:423/1، الشرح الصغير:568/1،580، مغني المحتاج:69/3-70، المغني:566/2-570، كشاف القناع:191/2، المهذب:464/1.
(2) رواه أبو داود، وروي ذلك عن سعد بن عبادة.
(3) رواه أحمد والنسائي عن عبد الله بن الزبير (نيل الأوطار:285/4ومابعدها) .(2/690)
قال ابن قدامة: وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها.
ب ـ اختلف العلماء في وصول ثواب العبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن إلى غير فاعلها على رأيين: رأي الحنفية والحنابلة ومتأخري الشافعية والمالكية بوصول القراءة للميت إذا كان بحضرته، أو دعا له عقبها، ولو غائباً؛ لأن محل القراءة تنزل فيه الرحمة والبركة، والدعاء عقبها أرجى للقبول.
ورأي متقدمي المالكية والمشهور عند الشافعية الأوائل: عدم وصول ثواب العبادات المحضة لغير فاعلها.
قال الحنفية: المختار عدم كراهة إجلاس القارئين ليقرؤوا عند القبر، وقالوا في باب الحج عن الغير: للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره: صلاة كان عمله، أو صوماً أو صدقة أوغيرها، وأن ذلك لا ينقص من أجره شيئاً.
وقال الحنابلة: لا بأس بالقراءة عند القبر، للحديث المتقدم: «من دخل المقابر، فقرأ سورة يس، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات» وحديث «من زار قبر والديه، فقرأ عنده أو عندهما يس، غفر له» (1) .
وقال المالكية: تكره القراءة على الميت بعد موته وعلى قبره؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله.
وقال متقدمو الشافعية: المشهور أنه لا ينفغ الميت ثواب غير عمله، كالصلاة
__________
(1) كلاهما ضعيف، والأول أضعف من الثاني، كما أشار السيوطي في جامعه.(2/691)
عنه قضاء أو غيرها وقراءة القرآن. وحقق المتأخرون منهم وصول ثواب القراءة للميت، كالفاتحة وغيرها. وعليه عمل الناس، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وإذا ثبت أن الفاتحة تنفع الحي الملدوغ، وأقر النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «وما يدريك أنها رقية؟» كان نفع الميت بها أولى.
وبذلك يكون مذهب متأخري الشافعية كمذاهب الأئمة الثلاثة: أن ثواب القراءة يصل إلى الميت، قال السبكي: والذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت وتخفيف ما هو فيه، نفعه، إذ ثبت أن الفاتحة لما قصد بها القارئ نفع الملدوغ نفعته، وأقره النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «وما يدريك أنها رقية» وإذا نفعت الحي بالقصد، كان نفع الميت بها أولى. وقد جوز القاضي حسين الاستئجار على قراءة القرآن عند الميت. قال ابن الصلاح: وينبغي أن يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأنا لفلان» فيجعله دعاء، ولا يختلف في ذلك القريب والبعيد، وينبغي الجزم بنفع هذا؛ لأنه إذا نفع الدعاء وجاز بما ليس للداعي، فلأن يجوز بما له أولى، وهذا لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال.
المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله:
فضل الشهادة في سبيل الله، تعريف الشهيد، أحكامه، شهداء غير المعركة.
فضل الشهادة في سبيل الله:
التضحية بالنفس أسمى درجات الإخلاص والتفاني في سبيل المبدأ والعقيدة، وأصدق برهان على صحة الإيمان، وطريق الخلود في جنان الله والفوز برضوان الله تعالى، والأمة أو الجماعة بأمس الحاجة في كل زمان إلى تضحيات العديد من أبنائها دفاعاً عن النفس والبلاد، وحفاظاً على المقدسات والحرمات، ولا يكتب لها العزة والكرامة والهيبة إلا بجسور من الضحايا في سبيل تحقيق غاياتها، ودماء تضرج من أجل كرامتها ووجودها.(2/692)
لهذا كتب الله الحياة والخلود للشهداء، وغفر للشهيد كل ذنوبه إلا الدين لتعلقه بحقوق الناس المادية، وبوأه المنزلة العالية في الجنة مع الأنبياء والمرسلين، كما دلت عليه النصوص الشرعية. فقال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران:169/3-171] عن مسروق رضي الله عنه، قال: سأل عبد الله - أي ابن مسعود - عن هذه الآية: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون؟} [آل عمران:169/3] فقال: أما أنا فقد سألت عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أرواحهم في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ... » الحديث (1) .
والمعنى أن الله تعالى أحياهم وأعطاهم القدرة على التمتع بثمار الجنة، والتفكه بها والتنقل في أرجائها، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء، ولكن لا تشعرون} [البقرة:154/2] إلا أن حياتهم ليست بالجسد، وإنما هي من نوع خاص لا يدرك بالعقل، بل بالوحي.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» (2) .
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وغيرهما (الترغيب والترهيب:326/2ومابعدها) .
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس (المصدر السابق:310/2 وما بعدها) .(2/693)
وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده: لودِدْت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل» (1) ، «يُغفر للشهيد كلُ ذنب إلا الدَّيْن» (2) .
تعريف الشهيد:
سمي الشهيد شهيداً؛ لأنه مشهود له بالجنة، أو لأنه حي عند ربه حاضر شاهد، أو تشهد موته الملائكة (3) . والشهيد الذي يستحق الفضائل السابقة ونحوها هو شهيد المعركة مع العدو. وقد أورد الفقهاء تعريفات متقاربة له بحسب رأيهم في بعض المسائل المتعلقة به.
فقال الحنفية (4) : الشهيد من قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو قطاع الطريق، أو اللصوص في منزله ليلاً أو نهاراً بأي آلة: مثقل أو محدد، أو وجد في المعركة وبه أثر كجرح وكسر وحرق وخروج دم من أذن أو عين، أو قتله مسلم ظلماً عمداً بمحدد، وكان مسلماً مكلفاً (بالغاً عاقلاً) طاهراً (خالياً من حيض أو نفاس أو جنابة) ، ولم يرتث بعد انقضاء الحرب، أي لا يموت عقب الإصابة.
والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو يُداوى، أو يبقى حياً حتى يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل، أو ينقل من المعركة حياً، أي وهو يعقل.
أما المقتول حداً أو قصاصاً، فإنه يغسل ويصلى عليه، لأنه لم يقتل ظلماً، وإنما قتل بحق، وأما من قتل من البغاة أو قطاع الطرق فلا يغسل ولا يصلى عليه.
وبه يتبين أن شروط تحقيق الشهادة عندهم: هي الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحدث الأكبر، وأن يموت عقب الإصابة. وأن كل مقتول في المعركة مع العدو، أو قتل ظلماً، أو دفاعاً عن النفس أو المال فهو شهيد. أما من خرج حياً من المعركة، أو كان جنباً فلا تطبق عليه أحكام الشهيد.
ويلاحظ أن هذا المذهب ومذهب الحنابلة أوسع الآراء في تحديد المقصود من الشهيد ماعدا اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (المصدر السابق) .
(2) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (المصدر السابق) .
(3) الدر المختار:848/1، اللباب:135/1، مغني المحتاج:350/1.
(4) الدر المختار ورد المحتار:848/1، مراقي الفلاح: ص103ومابعدها، اللباب:135/1-137.(2/694)
وقال المالكية (1) : الشهيد: من مات في معترك المشركين، ومن أخرج من المعركة في حكم الأموات وهو من رفع من المعركة حياً منفوذ المقاتل، أو مغموراً (أي يعاني غمرات الموت: شدائده) : وهو من لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم إلى أن مات، فإن قتل في غير المعركة ظلماً، أو أخرج من المعترك حياً، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل وصلي عليه في المشهور، كما أن من قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه، ويغسل الجنب.
وقال الشافعية (2) : الشهيد: هو من مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب، كأن قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو تردى في بئر أو وهدة، أو رفسته دابته فمات، أو قتله مسلم باغٍ استعان به أهل الحرب.
فإن مات لا بسبب القتال، أو بعد انقضاء المعركة، أو في حال قتال البغاة، فغير شهيد في الأظهر.
ولا تشترط الطهارة من الحدث الأكبر عند المالكية والشافعية، فمن مات جنباً فإنه لا يغسل.
__________
(1) الشرح الكبير:425/1 ومابعدها، الشرح الصغير:575/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص94، بداية المجتهد:219/1، 232.
(2) مغني المحتاج:350/1،361، المهذب:135/1.(2/695)
فالشهيد عند المالكية والشافعية: هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (1) .
وقاتل نفسه كغيره في الغسل والصلاة عليه، لحديث: «الصلاة واجبة على كل مسلم براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر» (2) . هذا رأي الجماهير، لكن مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، بدليل ماروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقِص ـ سهام عراض ـ فلم يصل عليه.
وقال الحنابلة (3) : الشهيد: هو من مات بسبب القتال مع الكفار وقت قيام القتال، أو هو المقتول بأيدي العدو من الكفار، أو البغاة، أو المقتول ظلماً، ولو كان غير مكلف رجلاً أو امرأة. أو كان غالاًّ (خائناً) : كتم من الغنيمة شيئاً. ومن عاد إليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو، لكن تشترط الطهارة من الحدث الأكبر كالحنفية، فمن قتل جنباً غسل. كذلك يغسل ويصلى عليه من حمل وبه رمق أي حياة مستقرة، وإن كان شهيداً.
ودليلهم على غير المكلف: عموم حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (4) ، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان، وهو صغير، وليس هذا خاصاً بهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم علل ذلك
__________
(1) روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الرجل: يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» (جامع الأصول:194/3) .
(2) رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب إلا أن فيه إرسالاً والمرسل حجة إذا اعتضد بأحد أمور، منها قول أكثر أهل العلم، وهو موجود هنا.
(3) المغني:528/2-535، كشاف القناع:113/2-115.
(4) رواه البخاري.(2/696)
بعلة توجد في سائر الشهداء، فقال: «والذي نفسي بيده لا يُكلَم أحد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة، اللون لون الدم، والريح ريح المسك» (1) .
ودليلهم على أن من قتل مظلوماً ملحق بشهيد المعركة: حديث: «من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (2) ، ولأن هؤلاء مقتولون بغير حق، فأشبهوا قتلى الكفار، فلا يغسلون.
وأما من قتل من أهل العدل في المعركة مع البغاة: فحكمه في الغسل والصلاة عليه حكم من قتل في معركة المشركين؛ لأن علياً رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى ألا يغسل، وقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم. قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل، إنا مستشهدون غداً، فلا تنزعوا عنا ثوباً، ولا تغسلوا عنا دماً، ولأنه شهيد المعركة، فأشبه قتيل الكفار.
أما الباغي: فقال الخرقي: من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه، ويحتمل إلحاقه بأهل العدل؛ لأنه لم ينقل إلينا غسل أهل الجمل وصفين من الجانبين، ولأنهم يكثرون في المعترك، فيشق غسلهم، فأشبهوا أهل العدل.
أحكام الشهداء:
للشهداء أحكام استثنائية من الدفن والغسل والتكفين والصلاة عليهم كما يتبين من آراء الفقهاء الآتية (3) ، علماً بأن للحنفية رأياً، وللجمهور رأياً آخر.
قال الحنفية: يكفن الشهيد بثيابه، ويصلي عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفاً طاهراً، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهد، فيغسل عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون. وقال الصاحبان: لا يغسَّلان.
استدل أبو حنيفة على وجوب غسل الجنب ونحوه بما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه لما قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي، قال: إن صاحبكم حنظلة تُغسِّله الملائكة، فسألوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب،
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(2) رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث سعيد بن زيد.
(3) المراجع السابقة.(2/697)
فقال عليه الصلاة والسلام: لذلك غسلته الملائكة (1) .
وأورد الصاحبان: أنه لو كان الغسل واجباً، لوجب على بني آدم، ولما اكتفي بفعل الملائكة. ورد عليهما بالمنع بأنه يحصل بفعلهم؛ لأن الواجب نفس الغسل، أما الغاسل فيجوز أن يكون أياً كان.
ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه، وإنما يدفن بدمه وثيابه بعد نزع الفرو والحشو والخف والسلاح مما لا يصلح للكفن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «زمّلوهم بدمائهم» (2) .
وقال الجمهور: لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه إبقاء لأثر الشهادة عليهم وتعظيمهم باستغنائهم عن دعاء الناس لهم. ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم؛ لأنها ليست من أثر الشهادة، بدليل حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (3) وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده، ما من كَلْم يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء كهيئته حين كُلِم: اللون لون الدم، والريح ريح مسك» .
ويدفن الشهيد بثيابه بعد تنحية الجلود والسلاح عنه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ادفنوهم بثيابهم» (4) ، لكن ليس هذا عند الحنابلة بحتم، ولكنه الأولى.
ويستحب دفن الشهيد في مصرعه الذي قتل فيه، للحديث المتقدم المتضمن أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد في مصارعهم.
والبالغ وغيره سواء؛ لأنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم، فأشبه البالغ، وهذا ما يقتضيه العدل، وتؤيده السنة في فعل النبي صلّى الله عليه وسلم بشهداء أحد، وفيهم صغير، وهو حارثة بن النعمان. ولكن لا يغسل الجنب ونحوه عند المالكية والشافعية؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد، وهو جنب، ولم يغسله النبي صلّى الله عليه وسلم، وقال: «رأيت الملائكة تغسله» (5) وهذا هو الحق؛ إذ لو كان الغسل واجباً لم يسقط إلا بفعلنا، ولأنه طهر عن حدث، فسقط بالشهادة كغسل الميت، فيحرم.
__________
(1) رواه محمد بن إسحاق في المغازي عن محمود بن لبيد (نيل الأوطار:29/4) .
(2) رواه الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي.
(3) متفق عليه.
(4) روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» .
(5) رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما.(2/698)
شهداء غير المعركة:
الشهيد الذي تكلمنا عنه: هو المختص بثواب خاص، وهو شهيد الدنيا والآخرة. وهناك شهداء آخرون في حكم الآخرة، وفي حكم الدنيا فقط، فالشهداء ثلاثة:
1 - شهيد في حكم الدنيا والآخرة: وهو شهيد المعركة، أما حكم الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه عند الجمهور كما أبنت، وأما حكم الآخرة فله ثواب خاص وهو الشهيد الكامل الشهادة.
2 - وشهيد في حكم الدنيا فقط: وهو عند الشافعية: من قتل في قتال الكفار بسببه، وقد غل من الغنيمة، أو قتل مدبراً، أو قاتل رياء أو نحوه، أي لايغسل ولايصلى عليه، ولا ثواب له في الآخرة.
3 - شهيد في حكم الآخرة فقط: كالمقتول ظلماً من غير قتال، والمبطون إذا مات بالبطن، والمطعون إذا مات بالطاعون، والغريق إذا مات بالغرق، والغريب إذا مات بالغربة، وطالب العلم إذا مات على طلبه، أو مات عشقاً (1) أو بالطلق أو بدار الحرب أو نحو ذلك (2) .
قال الحنابلة (3) : الشهداء غير شهيد المعركة بضعة وعشرون، وعدهم السيوطي نحو الثلاثين: المطعون أي الميت بالطاعون، والمبطون، والغريق، والشريق، والحريق، وصاحب الهدم، أي من مات بانهدام شيء عليه، كمن ألقي عليه حائط ونحوه، لقول صلّى الله عليه وسلم: «والشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْم، والشهيد في سبيل الله» (4) وصاحب ذات الجنب، وصاحب السِّل، وصاحب داء في الوجه، والصابر في الطاعون، والمتردي من رؤوس الجبال بغير فعل الكفار، ومن مات في سبيل الله كمن مات في الحج ومن مات في طلب العلم، ومن طلب الشهادة بنية صادقة، وموت المرابط (حارس الحدود والثغور) ، وأمناء الله في الأرض وهم العلماء، والمجنون والنفساء واللديغ، ومن قتل دون دينه أو دمه، أو ماله، أو أهله، أو مظلِمته، وفريس
__________
(1) قال ابن عباس: «من عشق وعف وكتم، مات شهيداً» الأصح وقفه عليه، فشرطه العفة والكتمان.
(2) مغني المحتاج:350/1، الدر المختار ورد المحتار:852/1 وما بعدها.
(3) كشاف القناع:115/2 ومابعدها، المغني:536/2.
(4) رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح. وفي حديث آخر: «الشهادة سبع سوى القتل» وزاد على ما ذكر في هذا الخبر: صاحب الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة في حالة النفاس.(2/699)
السبع، ومن خر عن دابته، والغريب (1) ، والعاشق إذا عف وكتم، والميت ليلة الجمعة، والمرتث: وهو من نقل من المعركة حياً، أو من أكل أو شرب أو نام أو تداوى بعد طعنه، وبقي حياً وقت صلاة.
والخلاصة: إن كل من مات. بسبب مرض أو حادث أو دفاع عن النفس، أو نقل من قلب المعركة حياً، أو مات في أثناء الغربة، أو طلب العلم، أو ليلة الجمعة، فهو شهيد آخرة.
وحكم هؤلاء الشهداء في الدنيا، أي شهداء الآخرة: أن الواحد منهم يغسل ويكفن ويصلى عليه اتفاقاً كغيره من الموتى. أما في الآخرة فله ثواب الآخرة فقط، وله أجر الشهداء يوم القيامة.
المعصية والشهادة: المعصية لا تمنع الاتصاف بالشهادة، فيكون الميت شهيداً عاصياً؛ لأن الطاعة لا تلغي المعصية إلا في الصغائر، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114/11] أي إن الحسنات بامتثال الأوامر، خصوصاً في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات، قال صلّى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» (2) .
قال بعض الفقهاء: من غرق في قطع الطريق فهو شهيد، وعليه إثم معصيته، وكل من مات بسبب معصيته فليس بشهيد، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة، فله أجر شهادته، وعليه إثم معصيته.،ولو قاتل على فرس مغصوب أو كان قوم في معصية فوقع عليهم البيت، فلهم الشهادة، وعليهم إثم المعصية.
__________
(1) لما رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، والدارقطني وصححه عن ابن عباس مرفوعاً: «موت الغريب شهيد» .
(2) حديث حسن رواه الترمذي عن أبي ذر جُندُب بن جُنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما.(2/700)
وهذا يعني أنه إذا مات في حالة من حالات الشهادة أثناء معصية فهو شهيد عاص، وإذا مات بسبب المعصية فليس بشهيد. فالمرأة التي تموت بالولادة من الزنا الظاهر أنها شهيدة، أما لو تسببت امرأة في إلقاء حملها فليست بشهيدة للعصيان بالسبب. ومن ركب البحرلمعصية أو سافر آبقاً (هارباً) أو ناشزة، فمات فليس بشهيد (1) .
انتهى الجزء الثاني ويتبعه الجزء الثالث
(الصيام، الاعتكاف، الزكاة، الحج والعمرة)
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين:854/1.(2/701)
....................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
..........................................الجزء الثالث....................................
البَابُ الثَّالث: الصِّيامُ والاعتكاف
وفيه فصلان: الأول عن الصيام، والثاني عن الاعتكاف
الفَصْلُ الأوَّل: الصِّيام
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده، وفضل رمضان، وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان.
المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه (الصوم المفروض وصوم التطوع) .
المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم؟ وكيفية إثبات الشهر واختلاف المطالع.
المبحث الرابع ـ شروط الصوم ـ شروط الوجوب وشروط الصحة.
المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته.
المبحث السادس ـ الأعذار المبيحة للفطر.
المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم ومالا يفسده.
المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته.
ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من المنذور.
وأبدأ بالأول فالأول فيما يأتي:
المبحث الأول ـ تعريف الصوم وزمنه وفوائده، وفضل رمضان وليلة القدر، وأهم الأحداث التاريخية في رمضان:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول ـ تعريف الصوم، وركنه وزمنه وفوائده:
تعريف الصوم: الصوم لغة: الإمساك والكف عن الشيء، قال: صام عن الكلام، أي أمسك عنه، قال تعالى إخباراً عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوماً} [مريم:26/19] أي صمتاً وإمساكاً عن الكلام، وقال العرب: صام النهار: إذا وقف سير الشمس وسط النهار عند الظهيرة (1) .
وشرعاً: هو الإمساك نهاراً عن المفطِّرات بنية من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (2) . أي أن الصوم امتناع فعلي عن شهوتي البطن والفرج، وعن كل شيء حسي يدخل الجوف من دواء ونحوه، في زمن معين: وهو من طلوع الفجر الثاني أي الصادق إلى غروب الشمس، من شخص معين أهل له: وهو المسلم العاقل غير الحائض والنفساء، بنية وهي عزم القلب على إيجاد الفعل جزماً بدون تردد، لتمييز العبادة عن العادة.
وركن الصوم: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، أو الإمساك عن المفطرات، وزاد المالكية والشافعية ركناً آخر وهو النية ليلاً.
__________
(1) وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج واخرى تعلك اللجما
وأراد بالصائمة الممسكة عن الصهيل.
(2) اللباب: 162/1، الشرح الصغير: 681/1-698، مغني المحتاج: 420/1، المغني: 84/3، كشاف القناع: 348/2 ومابعدها.(3/1)
وزمن الصوم: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويؤخذ في البلاد التي يتساوى الليل والنهار فيها، أو في حالة طول النهار أحياناً كبلغاريا بتقدير وقت الصوم بحسب أقرب البلاد منها، أو بتوقيت مكة. ودليله قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187/2] وعبر بالخيط مجازاً، يعني بياض النهار من سواد الليل، وهذا يحصل بطلوع الفجر. قال ابن عبد البر: في قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح، وأن السحور لا يكون الا قبل الفجر، بالإجماع.
وفوائد الصيام كثيرة من الناحيتين الروحية والمادية:
فالصوم طاعة لله تعالى، يثاب عليها المؤمن ثواباً مفتوحاً لا حدود له، لأنه لله سبحانه، وكرم الله واسع، وكرم الله واسع، وينال بها رضوان الله، واستحقاق دخول الجنان من باب خاص أعد للصائمين يقال له الريان (1) ويبعد نفسه عن عذاب الله تعالى بسبب ما قد يرتكبه من معاص، فهو كفارة للذنوب من عام لآخر، وبالطاعة يستقيم أمر المؤمن على الحق الذي شرعه الله عز وجل، لأن الصوم يحقق التقوى التي هي امتثال للأوامر الإلهية واجتناب النواهي، قالله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/2] .
__________
(1) روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد» (الترغيب والترهيب: 82/2-83) .(3/2)
والصوم مدرسة خلقية كبرى يتدرب فيها المؤمن على خصال كثيرة، فهو جهاد للنفس، ومقاومة للأهواء ونزعات الشيطان التي قد تلوح له، ويتعود به
الإنسان خلق الصبر على ما قد يُحرَم منه، وعلى الأهواء والشدائد التي قد يتعرض لها، إذ يجد الطعام الشهي يطبخ أمامه، والروائح تهيج عصارات معدته، والماء العذب البارد يترقرق في ناظريه، فيمتنع منه، منتظراً وقت الإذن الرباني بتناوله.
والصوم يعلِّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السر والعلن؛ إذ لا رقيب على الصائم في امتناعه عن الطيبات إلا الله وحده.
والصوم يقوي الإرادة، ويشحذ العزيمة، ويعلِّم الصبر، ويساعد على صفاء الذهن، واتقاد الفكر، وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحياناً، قال لقمان لابنه: «يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة» .
والصوم يعلِّم النظام والانضباط؛ لأنه يجبر الصائم على تناول الطعام والشراب في وقت محدد وموعد معين. والصوم يشعر بوحدة المسلمين الحسية في المشارق والمغارب، فهم جميعاً يصومون ويفطرون في وقت واحد؛ لأن ربهم واحد، وعبادتهم موحدة.
وينمي الصوم في الإنسان عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن والتعاون التي تربط المسلمين فيما بينهم، فيدفعه إحساسه بالجوع والحاجة مثلاً إلى صلة الآخرين، والمساهمة في القضاء على غائلة الفقر والجوع والمرض، فتتقوى أواصر الروابط الاجتماعية بين الناس، ويتعاون الكل في معالجة الحالات المرضية في المجتمع.(3/3)
والصوم فعلاً يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ماشاخ منها، وإراحة المعدة وجهاز الهضم، وحمية الجسد، والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة، والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا» (1) ، وقال طبيب العرب: الحارث بن كَلْدة: «المعدة بيت الداء، والحِمْية رأس كل دواء» .
والصيام جهاد للنفس، وتخليصها مما علق بها من شوائب الدنيا وآثامها، وكسر حدة الشهوة والأهواء، وتهذيبها وضبطها في طعامها وشرابها، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (2) وقال الكمال بن الهمام (3) : الصوم ثالث أركان الإسلام بعد «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» والصلاة، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً أشياء:
منها: سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها.
ومنها: كونه موجباً للرحمةوالعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات، ذكر من هذا حاله في عموم الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء.
ومنها: موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى.
__________
(1) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة، وهو حديث حسن.
(2) رواه الجماعة عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 99/6) والباءة: مؤن الزواج وتكاليفه، والوجاء: أي يضعف شهوة النكاح، تشبيهاً بقطع السيف.
(3) فتح القدير: 43/2 ومابعدها.(3/4)
وقال في الإيضاح: اعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وإنه مركب من أعمال القلب، ومن المنع عن المآكل والمشارب والمناكح عامة يومه، وهو أجمل الخصال، غير أنه أشق التكاليف على النفوس (1) ، وقد مدحه الله بآية {إن المسلمين والمسلمات} ... {والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات} [الأحزاب:35/33] .
المطلب الثاني ـ فضل رمضان وليلة القدر:
رمضان سيد الشهور، فيه بدأ نزول القرآن، وهو شهر الطاعة والقربة والبر والإحسان، وشهر المغفرة والرحمة والرضوان، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبه عون المؤمن على أمر دينه وطلب إصلاح دنياه، وهو موسم تكثر فيه مناسبات إجابة الدعاء.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على فضل رمضان وفضل الصوم فيه.
من ذلك ما يأتي:
1ً - «سيد الشهور شهر رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة» (2) «ولو يعلم العباد ما في شهر رمضان لتمنى العباد أن يكون شهر رمضان سنة» (3) . وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوماً وقد حضر رمضان: «أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل» .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 109/2.
(2) رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود، وفيه انقطاع (مجمع الزوائد: 140/3) .
(3) رواه الطبراني في الكبير وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من طريقه عن أبي مسعود الغفاري، وفي راو من سنده كلام (الترغيب والترهيب: 102/2، مجمع الزوائد: 141/3) .(3/5)
2ً - «إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين» (1) .
3ً - «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (2) .
4ً - «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضَعْف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (3) .
وفي رواية للترمذي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن ربكم يقول: «كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضِعْف، والصوم لي وأنا أجزي به، والصوم جُنَّة (4) من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم، فليقل: إني صائم، إني صائم» .
5ً - «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (5) أي من أحيا لياليه بصلاة التراويح أوغيرها بالذكر والاستغفار وتلاوة القرآن تصديقاً لما وعده الله على ذلك من أجر، محتسباً ومدخراً أجره عند الله تعالى لا غيره، بخلوص عمله لله، لم يشرك به غيره، غفرت له ذنوبه غير حقوق العباد، فتتوقف على إبراء الذمة، أو المسامحة.
6ً - عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، قال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً، من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 97/2) .
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 92/2) .
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة. والخلوف: تغير رائحة الفم (الترغيب والترهيب: 81/2) .
(4) الجُنة: ما يستر ويقي مما يخاف منه، ومعنى الحديث: إن الصوم يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي.
(5) متفق عليه عند البخاري وغيره (أصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة. واحتساباً: أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه. والاحتساب من الحَسْب كالاعتداد من العد، أي يعتد عمله.(3/6)
وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائماً، كان مغفرة لذنوبه وعتقَ رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجدُ ما يفطر الصائم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة، أو على شَرْبة ماء، أو مَذْقة (1) لبن.
وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار.
واستكْثِروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غِنَاء بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار.
ومن سقى صائماً، سقاه الله من حوضي شَرْبة لا يظمأ حتى يدخل الجنة» (2) .
ليلة القدر: يستحب طلب ليلة القدر؛ لأنها ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة، ترجى إجابة الدعاء فيها، وهي أفضل الليالي حتى ليلة الجمعة (3) ، قال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر:3/97] أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وقال صلّى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (4) وعن عائشة أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر» (5) أي اعتزل النساء، ولأحمد ومسلم: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.
وهي مختصة بالعشر الأواخر في ليالي الوترمن رمضان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان، في كل وتر» (6) .
وأرجح الأقوال عند العلماء أنها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، قال
__________
(1) مزيج خليط.
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: صح الخبر، ورواه من طريق البيهقي، ورواه أبو الشيخ ابن حيان في الثواب باختصار عنهما (الترغيب والترهيب: 94/2 ومابعدها) .
(3) المهذب: 189/1، المجموع: 492/6-503، المغني: 178/3-183، كشاف القناع: 401/2-404.
(4) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(5) متفق عليه (نيل الأوطار: 270/4) .
(6) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي ذر.(3/7)
أبي بن كعب: «والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان، وأنها في ليلة سبع وعشرين، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا» (1) ، وعن معاوية «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: ليلة سبع وعشرين» (2) ويرجحه قول ابن عباس: «سورة القدر: ثلاثون كلمة، السابعة والعشرون فيها: هي» (3) وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر حديثاً نصه: «من كان متحرّيها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، أو قال: تحروها ليلة سبع وعشرين» .
والحكمة في إخفائها: أن يجتهد الناس في طلبها، ويجدّوا في العبادة طمعاً في إدراكها، كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة، وأخفي اسمه الأعظم في أسمائه، ورضاه في الحسنات، إلى غير ذلك.
والمستحب أن يدعو المؤمن فيها بأن يقول: «اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني» لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ماذا أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» (4) .
وأما علاماتها: فالمشهور فيها ما ذكره أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها» (5) وفي بعض الأحاديث: «
__________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) رواه أبو داود مرفوعاً، والراجح وقفه على معاوية، وله حكم الرفع (سبل السلام: 176/2) .
(3) قال ابن حجر في فتح الباري: وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً، وأرجحهما كلها أنها في وتر العشر الأواخر، وأنها تنتقل. وقال الصنعاني: وأظهر الأقوال أنها في السبع الأواخر (المصدر السابق) .
(4) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) غير أبي داود، وصححه الترمذي والحاكم (المصدر السابق) .
(5) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 272/4) .(3/8)
بيضاء مثل الطست» وروي أيضاً عنه صلّى الله عليه وسلم: «إن أمارة ليلة القدر: أنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولاحر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس فيها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وروى ابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعاً: «ليلة القدر طلقة لا حارّة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة» ولأحمد من حديث عبادة: «لا حر فيها ولا برد، وإنها ساكنة صاحية، وقمرها ساطع» ، وورد في علامتها أحاديث منها عن جابر بن سمرة عند ابن أبي شيبة، وعن جابر بن عبد الله عند ابن خزيمة، وعن أبي هريرة عنده، وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة وعن غيرهم (1) .
__________
(1) نيل الأوطار: 275/4.(3/9)
المطلب الثالث ـ أهم الأحداث التاريخية الواقعة في رمضان:
إن أهم حدث في رمضان هو نزول القرآن الكريم في ليلة الخامس والعشرين. ثم وقعت أحداث تاريخية فاصلة كبرى في شهر رمضان، تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حق قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والهروب والفتور والكسل، فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحد من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، ولا يصح لمسلم أن يقول: إن الصوم يعطل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، فسبيل الإسلام معروف وهو الجهاد، ودين الله وشرعه يسر لا عسر، فقد أباح الفطر وحضَّ عليه في السفر والحرب، وحكم بأن الصائمين حينئذ متنطعون متشددون، وبأن المفطرين في الجهاد ذهبوا
بالأجر كله، كما بيَّن النبي صلّى الله عليه وسلم في فتح مكة، وكان أول المفطرين. ودليل ما نقول: هذه الأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان ونكتفي بذكر أشهرها، للاستدلال على أن النصر مرتبط بتطهير النفوس وصفائها وسموها وترفعها عن أدران المادة، وأن أيام رمضان مباركة ينتهز فيها الخير والنصر والفضل الإلهي، إذا توجهت القلوب لرب الأرض والسماء، قال الله تعالى:: {وما النصر إلا من عند الله} [آل عمران:126/3] .
1 - معركة بدر الكبرى: وهي يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، فانتصر فيه الإسلام ـ رمز القيم العليا في التوحيد والتفكير والحياة السوية والأخلاق الصحيحة ـ واندحر الشرك والوثنية ـ رمز الانحدار والتخلف والتعقيد وإهدار الكرامة الإنسانية. والمعركة حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، قال تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران:123/3] ، وقال ابن عباس: كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وفيها قتل فرعون الأمة أبو جهل أكبر أعداء الإسلام.(3/10)
2 - فتح مكة: وهو الفتح الأكبر لقوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح:1/48] حدث في يوم الجمعة في العشرين أو الحادي والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وقد تم به القضاء على فلول الوثنية، وتم به تحطيم الأصنام حول الكعبة. وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق التي وقعت في شوال من العام نفسه.
3 - وقعت بعض أحداث غزوة تبوك في رمضان سنة 9هـ، وفي رمضان كانت معركة القادسية، ومعركة البويب، وفتح رودس.
4 - انتشر الإسلام في اليمن في السنة العاشرة في رمضان، وأرسل النبي صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على رأس سرية إلى اليمن، وحمل معه كتاباً إليهم.
5 - هدم خالد بن الوليد لخمس بقين من رمضان في السنة الثامنة البيت الذي كانت تعبد فيه العزى في نخلة، وقال للرسول صلّى الله عليه وسلم: «تلك العزى ولا تعبد أبداً» (1) . ووجه الرسول صلّى الله عليه وسلم السرايا لهدم الأصنام.
6 - قدم في السنة التاسعة في رمضان وفد ثقيف من الطائف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريدون الإسلام، وهدم فيها صنم اللات الذي كانت تعبده ثقيف (2) .
7 - في صبيحة يوم الجمعة في 25 من رمضان479 هـ حدثت موقعة الزلاَّقة (سهل يقع على مقربة من البرتغال الحالية) أو يوم العروبة والإسلام، وانتصر فيها جيش المرابطين المسلمين في الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين على جيش الفرنجة البالغ ثمانين ألف مقاتل بقيادة الفونس السادس ملك قشتالة.
8 - موقعة عين جالوت: (قرية بين بيسان ونابلس) حدثت في صبيحة يوم الجمعة في الخامس عشر من رمضان سنة 658 هـ الموافق 3 أيلول (سبتمبر) 1260م، بقيادة السلطان قُطُز سلطان المماليك في مصر، بعد أن صاح بأعلى صوته «وإسلاماه» ، وانتصر فيها على المغول الذين ولوا الأدبار لا يلوون على شيء (3) ، وتم فيها توحيد مصر وبلاد الشام (4) . وإنقاذ الإسلام والمسلمين من
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير: 316/4.
(2) المرجع السابق: 316/5.
(3) الحركة الصليبية للدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور: 1136/2، ط ثانية، مكتبة الأنجلو المصرية.
(4) أما موقعة حطين شمال طبرية سنة 583 هـ/1187م فقد وقعت في يوم السبت 14 ربيع الآخر الموافق 4 تموز، ولكن دخل صلاح الدين الأيوبي القدس في ليلة السابع والعشرين من رجب في ذكرى الإسراء والمعراج في 12 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1187م (الحركة الصليبية: 808/2-811،822) .(3/11)
همجية المغول، كما أن البطل صلاح الدين خاض معارك حاسمة ضد الصليبيين في رمضان.
9 - فتح الأندلس: في رمضان كانت معركة طريف تمهيداً لفتح الأندلس، وكانت معركة الزلاَّقة، ثم حدث فتح الأندلس في 28 رمضان سنة 92هـ/19 يوليو (تموز) 711 م بقيادة طارق بن زياد بعد أن هزم روذريق قائد القوط في موقعة حاسمة تعرف بـ «موقعة البحيرة» بعد أن استولى على مضيق جبل طارق وأحرق سفنه، وقال كلمته المشهورة: «البحر من ورائكم والعد ومن أمامكم» ، ثم تم بعدها فتح قرطبة وغرناطة وطليطلة العاصمة السياسية للأندلس (1) .
وفي رمضان كانت آخر المعارك مع الصليبيين لتطهير أرضنا وديارنا من أرجاسهم. وفي العاشر من رمضان سنة 1393هـ/1973م كانت معركة العبور، أي عبور القوات المصرية المسلحة قناة السويس من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، بعد احتلال اليهود لها مدة نحو سبع سنوات في الخامس من شهر حزيران سنة 1967م، ووصلت في العاشر من شهر رمضان القوات السورية إلى شواطئ بحيرة طبرية. ولقّن الفلسطينيون العدو الصهيوني في رمضان في معركة الكرامة في نيسان (أبريل) سنة 1968م درساً لا ينساه مع قلتهم وتمكن العدو في موقع استراتيجي رائع.
__________
(1) التاريخ السياسي للدولة العربية، للدكتور عبد المنعم ماجد: 204/2) .(3/12)
المبحث الثاني ـ فرضية الصيام وأنواعه:
فرضية الصيام وتاريخها: صوم شهر رمضان ركن من أركان الإسلام وفرض من فروضه (1) ، بدليل القرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون} [البقرة:183/2] إلى قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/2] .
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً» (2) ، وعن طلحة بن عبيد الله أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليّ من الصيام؟ قال: شهررمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع شيئاً. قال: فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق» (3) .
وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان.
وفُرض صوم رمضان بعد صرف القبلة إلى الكعبة لعشر من شعبان في السنة الثانية من الهجرة بسنة ونصف إجماعاً، وصام النبي صلّى الله عليه وسلم تسعة رمضانات في تسع سنين، وتوفي النبي صلّى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة (4) .
__________
(1) الفرق بين الركن والفرض: أن الركن يجب اعتقاده ولا يتم العمل إلا به، سواء أكان فرضاً أم نفلاً، والفرض: ما يعاقب على تركه، وأركان الإسلام: أي جوانبه التي يبنى عليها، فمتى فقد ركن منها لم يتم الإسلام.
(2) رواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة عن ابن عمر.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(4) المجموع: 273/6 ومابعدها، الدر المختار: 109/2، كشاف القناع: 349/2، بداية المجتهد: 274/1، المغني: 84/3.(3/13)
وجاحد وجوب صوم رمضان كافر يعامل كالمرتد، فيستتاب، فإن تاب قبل منه، وإلا قتل حداً إذا لم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء. أما تارك الصيام كسلاً بغير عذر،،ولم يكن جاحداً لوجوبه، فهو فاسق، وليس بكافر.
أنواع الصيام:
الصوم أنواع: واجب، وتطوع، وحرام، ومكروه (1) .
وقال الحنفية: الصوم ثمانية أنواع: فرض معين كصوم رمضان أداء، وغير معين كقضاء رمضان وصوم الكفارات، وواجب معين كنذر معين، وغير معين كالنذر المطلق، ونفل مسنون كصوم عاشوراء وتاسوعاء، ونفل مندوب أو مستحب كأيام البيض من كل شهر، ومكروه تحريماً كصوم العيدين، ومكروه تنزيهاً كعاشوراء وحده، وسبت وحده، ونيروز ومهرجان.
النوع الأول ـ الواجب:
وهو ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه وهو صوم شهر رمضان، ومنه ما يجب لعلة وهو صيام الكفارات، ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر.
والصوم اللازم عند الحنفية نوعان: فرض وواجب. والفرض نوعان: معين كصوم أداء، وغير معين كصوم رمضان قضاء، وصوم الكفارات، ولكنه أي الأخير فرض عملاً، لا اعتقاداً، ولذا لايكفر جاحده.
والواجب نوعان: معين كالنذر المعين، وغير المعين كالنذر المطلق، وكقضاء ما أفسده من صوم النفل.
__________
(1) اللباب: 162/1،173، فتح القدير: 43/2 ومابعدها، 54، الدر المختار وحاشيته: 112/2-116، مراقي الفلاح: ص105 ومابعدها، بداية المجتهد: 274/1، 300، الشرح الصغير: 687/1،722، القوانين الفقهية: ص114، مغني المحتاج: 420/1، 433، 445-449، كشاف القناع: 349/2، 393 ومابعدها، 398، المغني: 89/3، 142، 163.(3/14)
النوع الثاني ـ الصوم الحرام عند الجمهور أو المكروه تحريماً عند الحنفية: وهو ما يأتي:
1 ً - صيام المرأة نفلاً بغير إذن زوجها أو علمها برضاه إلا إذا لم يكن محتاجاً لها كأن كان غائباً أو محرماً بحج أو عمرة أو معتكفاً، لخبر الصحيحين: «لا يحل لامرأة أن تصوم، وزوجها شاهد إلا بإذنه» ولأن حق الزوج فرض، لا يجوز تركه لنفل، فلوصامت بغير إذنه صح، وإن كان حراماً كالصلاة في دار مغصوبة، وللزوج أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه. وهذا الصوم مكروه تنزيهاً عند الحنفية.
2 ً - صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا تردد الناس في كونه من رمضان، وللفقهاء عبارات متقاربة في تحديده، واختلفوا في حكمه، مع اتفاقهم على عدم الكراهة وإباحة صومه إن صادف عادة للمسلم بصوم تطوع كيوم الاثنين أو الخميس.
فقال الحنفية (1) : هو آخر يوم من شعبان يوم الثلاثين إذا شك بسبب الغيم أمن رمضان هو أم من شعبان. فلو كانت السماء صحواً ولم ير هلال أحد فليس بيوم شك.
وحكمه: أنه مكروه تحريماً إذا نوى أنه من رمضان أو من واجب آخر. ويكره أيضاً صوم ما قبل رمضان بيوم أو يومين، لحديث: «لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً، فيصومه» (2) فيكره صومه إلا أن يوافق صوماً كان يصومه المسلم، خوفاً من أن يظن أنه زيادة على صوم رمضان، ولا يكره صوم نفل جزم به بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فلا يصام يوم الشك إلا تطوعاً.
وقال المالكية على المشهور (3) : إنه يوم الثلاثين من شعبان إذا كان بالسماء في ليلته (أي ليلة الثلاثين) غيم، ولم ير هلال رمضان. فإن كانت السماء صحواً لم يكن يوم شك؛ لأنه إذا لم تثبت رؤية هلال رمضان، كان اليوم من شعبان جزماً. وهذا كمذهب الحنفية.
__________
(1) فتح القدير: 53/1 وما بعدها، الدر المختار: 119/2 وما بعدها، مراقي الفلاح، ص 107.
(2) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: 440/2) .
(3) الشرح الكبير: 513/1، الشرح الصغير: 686/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص115، شرح الرسالة: 293/1-295.(3/15)
والراجح عند الدردير والدسوقي وغيرهما أن يوم الشك: صبيحة الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء صحواً أو غيماً، وتحدث بالرؤية من لا تقبل شهادته كعبد أو امرأة أو فاسق. أما يوم الغيم فهو من شعبان جزماً؛ لخبر الصحيحين: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» .
وحكمه: أنه يكره صومه للاحتياط على أنه من رمضان، ولا يجزئه صومه عن رمضان، فمن أصبح فلم يأكل ولم يشرب، ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان، لم يجزه، وجاز صومه لمن اعتاد الصوم تطوعاً سرداً أو يوماً معيناً كيوم الخميس مثلاً، فصادف يوم الشك، كما جاز صومه تطوعاً، وقضاء عن رمضان سابق، وكفارة عن يمين أوغيره، ولنذر يوم معين أو يوم قدوم شخص مثلاً، فصادف يوم الشك. ويندب الإمساك (الكف عن المفطر) يوم الشك ليتحقق الحال، فإن ثبت رمضان وجب الإمساك لحرمة الشهر، ولو لم يكن أمسك أولاً.
وقال الشافعية (1) : يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان في حال الصحو، إذا تحدث الناس برؤية الهلال ليلته، ولم يعلم من رآه، ولم يشهد برؤيته أحد، أو شهد بها صبيان أو عبيد أو فسقة أو نساء، وظن صدقهم، أو شهد شخص عدل ولم يكتف به. وليس إطباق الغيم بشك، كما أنه إذا لم يتحدث أحد من الناس بالرؤية فليس بشك، بل هو يوم من شعبان، وإن أطبق الغيم، لخبر الصحيحين المتقدم: «فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» .
__________
(1) مغني المحتاج: 433/1،438.(3/16)
وحكمه: أنه يحرم ولا يصح التطوع بالصوم يوم الشك، ولقول عمار بن ياسر رضي الله عنه: «من صام يوم الشك، قد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلم» (1) . وحكمة التحريم: توفير القوة على صوم رمضان، وضبط زمن الصوم وتوحيده بين الناس، دون زيادة. وكذلك يحرم صوم يوم أو يومين قبل رمضان، والأظهر أنه يلزم الإمساك من أكل يوم الشك، ثم ثبت كونه من رمضان، لأن صومه واجب عليه، إلا أنه جهله.
ويجوز صوم يوم الشك عن القضاء والنذر والكفارة، ولموافقة عادة تطوعه، ونحوه مما له سبب يقتضي الصوم، على الأصح مسارعة لبراءة الذمة، فيما عدا الاعتياد، وعملاً في الاعتياد بالحديث المتقدم: « ... إلا رجل كان يصوم صوماً، فليصمه» ويجب الإمساك على من أصبح يوم الشك مفطراً، ثم تبين أنه من رمضان، ثم يقضيه بعد رمضان فوراً، وإن صامه متردداً بين كونه نفلاً من شعبان أو فرضاً من رمضان، لم يصح فرضاً ولا نفلاً إن ظهر أنه من رمضان.
وقال الحنابلة (2) : يوم الشك: هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال ليلته، مع كون السماء صحواً لا علة فيها من غيم أو قَتَر ونحوهما، أو شهد برؤية الهلال من ردت شهادته لفسق ونحوه، فهم في تحديده كالشافعية.
وحكمه كما قال المالكية: يكره ويصح صوم يوم الشك بنية الرمضانية احتياطاً، ولا يجزئ إن ظهر منه، إلا إذا وافق عادة له، أو وصله بصيام قبله، فلا كراهة، للحديث المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً، فليصمه» وإلا أن يصومه عن قضاء أو نذر أو كفارة، فلا كراهة؛ لأن صومه واجب إذاً. وإن صامه موافقة لعادة ثم تبين أنه من رمضان، فلا يجزئه عنه، ويجب عليه الإمساك فيه، وقضاء يوم بعده. والخلاصة: إن صوم يوم الشك مكروه عند الجمهور، حرام عند الشافعية.
__________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وغيره.
(2) المغني: 89/3، كشاف القناع: 350/2-351،398 ومابعدها.(3/17)
3 ً - صوم عيد الفطر والأضحى وأيام التشريق بعده: مكروه تحريماً عن الحنفية، حرام لا يصح عند باقي الأئمة (1) ، سواء أكان الصوم فرضاً أم نفلاً، ويكون عاصياً إن قصد صيامها، ولا يجزئه عن الفرض لما روى أبو هريرة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم فطر، ويوم أضحى» (2) والنهي عند غير الحنفية يقتضي فساد المنهي عنه وتحريمه. وروى مسلم في صحيحه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكْر الله تعالى» . وقصر المالكية تحريم صوم التشريق على يومين بعد الأضحى، وقال الجمهور: ثلاثة أيام بعده، وأما صوم اليوم الرابع عند المالكية فمكروه فقط.
وتحريم الصوم في أيام العيدين عند الشافعية، ولو لمتمتع بالحج والعمرة، للنهي عن صيامها كما رواه أبو داود بإسناد صحيح. واستثنى الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) حالة الحج للمتمتع والقارن، فأجازوا لهما صيامهما، لقول ابن عمر وعائشة:
__________
(1) الدر المختار: 114/2، مراقي الفلاح: ص106، القوانين الفقهية: ص114، مغني المحتاج: 433/1، المهذب: 189/1، المغني: 163/3، كشاف القناع: 399/2.
(2) متفق عليه، وعن أبي سعيد الخدري عند الشيخين (البخاري ومسلم) مثله.(3/18)
«لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي» (1) .
4 ً - صوم الحائض والنفساء حرام ولا يصح ولا ينعقد، كما أبنت في مبحث الحيض والنفاس، وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة.
5 ً - قال الشافعية: يحرم صوم النصف الأخير من شعبان الذي منه يوم الشك، إلا لوِرْد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كالاثنين فصادف ما بعد النصف، أو نذر مستقر في ذمته، أو قضاء لنفل أو فرض، أو كفارة، أو وصل صوم ما بعد النصف بما قبله، ولو بيوم النصف.
ودليلهم حديث: «إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا» (2) ولم يأخذ به الحنابلة وغيرهم لضعف الحديث في رأي أحمد.
6 ً - صيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه.
النوع الثالث ـ الصوم المكروه:
هو كصوم الدهر (3) ، وإفراد يوم الجمعة بالصوم، وإفراد يوم السبت، وصوم يوم الشك وصوم يوم أو يومين قبل رمضان عند الجمهور، ويحرم الأخيران عند الشافعية، والراجح عند المالكية عدم كراهة صوم الدهر وإفراد الجمعة بالصوم. والكراهة فيهما عند غير المالكية تنزيهية. وللفقهاء تفصيلات في بيان الصوم المكروه:
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وهو حسن، كما ذكر السيوطي وصححه ابن حبان وغيره (سبل السلام: 171/2) .
(3) الدهر: الأبد المحدود، وأما قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله» فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله، ليس الدهر، فإذا سببت به الدهر، فكأنك أردت الله سبحانه (مغني المحتاج: 448/1) .(3/19)
فقال الحنفية (1) : الصوم المكروه قسمان: مكروه تحريماً، ومكروه تنزيهاً. والمكروه تحريماً: هو صوم أيام العيدين والتشريق وصوم يوم الشك، لورود النهي السابق عن صيامها، فإذا صامها انعقد صومه مع الإثم، ولا يلزم القضاء لمن شرع في صومه وأفسده، لأن المبدأ الأصولي عندهم هو أن النهي المتوجه إلى وصف من أوصاف العمل اللازم له يقتضي فساد الوصف فقط، ويبقى أصل العمل على مشروعيته.
والمكروه تنزيهاً: هو إفراد صيام يوم عاشوراء (العاشر من المحرم) عن التاسع أوعن الحادي عشر، وإفراد يوم الجمعة في قول البعض، ويوم السبت، ويوم النيروز (يوم في طرف الربيع) والمهرجان (يوم في طرف الخريف) بالصوم إلا أن يوافق ذلك عادته، فتزول علة الكراهة، أما الجمعة فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» (2) . وأما السبت: فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة، فليمضغه» (3) . وأما النيروز والمهرجان فلأن فيه تعظيم أيام نهينا عن تعظيمها.
ويكره تنزيهاً أيضاً صوم الدهر؛ لأنه يضعفه، ولحديث «لا صام من صام الأبد» (4) ويكره صوم الصمت: وهو أن يصوم ولا يتكلم بشيء، وعليه أن يتكلم بخير وبحاجة دعت إليه. ويكره صوم الوصال ولو بين يومين فقط، وهو ألا يفطر بعد الغروب أصلاً حتى يتصل صوم الغد بالأمس، للنهي عنه، قال صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال» (5) وقالت عائشة: «نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني» (6) .
ويكره صوم المسافر إذا أجهده الصوم، وصوم المرأة تطوعاً بغير رضا زوجها، وله أن يفطرها، لقيام حقه واحتياجه، إلا أن يكون مريضاً أو صائماً أو محرماً بحج أو عمرة.
وقال المالكية (7) : قال العلامة خليل: يندب صوم الدهر ولا يكره، للإجماع على لزومه لمن نذره، ولو كان مكروهاً أو ممنوعاً لما لزم على القاعدة، ويندب صوم يوم الجمعة ولا يكره لأن محل النهي عن ذلك على خوف فرضه، وقد انتفت هذه العلة بوفاته عليه الصلاة والسلام، وقال ابن جزي: المكروه: صوم الدهر، وصوم يوم الجمعة خصوصاً إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده، وصوم السبت خصوصاً، وصوم يوم عرفة بعرفة، وصوم يوم الشك: وهو آخر يوم من شعبان احتياطاً إذا لم يظهر الهلال. وصوم اليوم الرابع من النحر، إلا لقارن أو متمتع أو لمن لزمه هدي لنقص في الحج، أو في حالة النذر والكفارات، فلا يكره.
__________
(1) الدر المختار: 114/2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص106.
(2) رواه مسلم، ورواه الجماعة عن أبي هريرة بلفظ «لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم» (نيل الأوطار: 249/4) .
(3) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عبد الله بن بُسْر عن أخته الصماء (نيل الأوطار: 251/4) .
(4) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن عبد الله بن عمرو (نيل الأوطار: 254/4) .
(5) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 219/4) .
(6) متفق عليه (نيل الأوطار: 219/4) .
(7) القوانين الفقهية: ص 115،119، الشرح الصغير: 686/1،692-694،722-723، الشرح الكبير مع الدسوقي: 534/1.(3/20)
ويكره صوم التطوع لمن عليه صوم واجب كالقضاء، وصوم الضيف بدون إذن المضيف، وصوم يوم المولد النبوي، لأنه شبيه بالأعياد.
ويكره نذر صوم يوم مكرر ككل خميس، لأن التزام يوم متكرر أو دائم يؤدي إلى التثاقل والندم، فيكون لغير الطاعة أقرب. ويكره تطوع بصوم قبل صوم واجب غير معيَّن، كقضاء رمضان وكفارة. أما المعين فلا يكره التطوع فيه. ويكره تعيين صوم الثلاثة البيض من كل شهر وهي الثالث عشر وتالياه، فراراً من التحديد، كما يكره صوم ستة من شوال إن وصلها بالعيد مظهراً لها، ولا يكره إن فرقها أو أخرها أو صامها سراً، لانتفاء علة اعتقاد الوجوب.(3/21)
وقال الشافعية (1) : يكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد السبت والأحد بالصوم، وصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن خاف به ضرراً أو فوت حق واجب أو مستحب، للنهي المتقدم عنها في الأحاديث السابقة، ولخبر البخاري: «إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً» ، وعليه حمل خبر الصحيحين: «لا صام من صام الأبد» .
ويستحب صوم الدهر لمن لم يخف ضرراً أو فوت حق، لإطلاق الأدلة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وعقد تسعين» (2) .
وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضاً.
ويكره صوم المريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير إذا خافوا مشقة ورأى الجمهور أن الحديث في صوم الدهر على ظاهره، وحملوه على من صام الأيام المنهي عنها. شديدة، وقد يحرم صومهم إذا خافوا الهلاك أو تلف عضو بترك الغذاء. ولا يكره صوم يوم النيروز والمهرجان.
وقال الحنابلة (3) : مثل الشافعية؛ وزادوا أنه يكره صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين، وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها، ويكره صوم بسفر قصر ولو بلا مشقة، فلو سافر ليفطر حرم السفر والفطر. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن صيامه» (4) ، ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه، وتزول الكراهة بفطره فيه، ولو يوماً، أو بصومه شهراً آخر من السنة، ولايكره إفراد شهر غير رجب بالصوم.
ويكره إفراد يوم نيروز (اليوم الرابع من الربيع) ويوم مهرجان (اليوم التاسع عشر من الخريف) بالصوم، وهما عيدان للكفار، لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمهما.
ويكره أيضاً صوم يوم الشك، كما سبق، وتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ولا يكره تقدمه بأكثر من يومين.
__________
(1) مغني المحتاج: 447/1 ومابعدها، المهذب: 188/1 ومابعدها.
(2) رواه البيهقي وأحمد، ومعنى «ضيقت عليه» أي عنه، فلم يدخلها، أو لا يكون له فيها موضع (نيل الأوطار: 255/4)
(3) كشاف القناع: 397/2-399، غاية المنتهى: 334/1.
(4) رواه ابن ماجه عن ابن عباس، وهو ضعيف. وكل حديث روي في فضل صوم رجب أو الصلاة فيه فكذب باتفاق أهل العلم.(3/22)
النوع الرابع ـ صوم التطوع أو الصوم المندوب:
التطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات، مأخوذ من قوله تعالى: {ومن تطوع خيراً} [البقرة:158/2] ، وقد يعبر عنه بالنافلة كما في الصلاة، لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء:79/17] . ولا
شك أن الصوم ـ كما أبنت ـ من أفضل العبادات، ففي الصحيحين: «من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفاً» وفي الحديث المتقدم: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به» .
وأيام صوم التطوع بالاتفاق ما يلي:
1 - صوم يوم وإفطار يوم: أفضل صوم التطوع صيام يوم، وإفطار يوم، لخبر الصحيحين: «أفضل الصيام صوم داود، كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً» وفيه «لاأفضل من ذلك» (1) .
2 - صوم ثلاثةأيام من كل شهر، والأفضل أن تكون الأيام البيض أي أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وسميت بيضاً لابيضاضها ليلاً بالقمر، نهاراً بالشمس، وأجرها كصوم الدهر، بتضعيف الأجر، الحسنة بعشر أمثالها من غير حصول المضرة أو المفسدة التي في صيام الدهر. ودليلها ما روى أبو ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال له: «إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثالث عشرة، ورابع عشرة، وخامس عشرة» (2) وروي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم عدة ثلاثة أيام من كل شهر» (3) .
__________
(1) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو، ولفظه: «صم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال: لا أفضل من ذلك» (نيل الأوطار: 254/4) .
(2) رواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان في صحيحه، وأحمد (نيل الأوطار: 252/4 ومابعدها، سبل السلام: 168/2) .
(3) رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، وأخرج مسلم من حديث عائشة «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ما يبالي في أي الشهر صام» (سبل السلام: 168/2) .(3/23)
3 - صوم يوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، لقول أسامة بن زيد إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: «إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» (1) ، وفي لفظ: «وأحب أن يُعْرَض عملي وأنا صائم» .
4 - صوم ستة أيام من شوال، ولو متفرقة، ولكن تتابعها أفضل عقب العيد مبادرة إلى العبادة، ويحصل له ثوابها ولو صام قضاء أو نذراً أو غير ذلك، فمن صامها بعد أن صام رمضان، فكأنما صام الدهر فرضاً، لما روى أبو أيوب «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، فذاك صيام الدهر» (2) وروى ثوبان: «صيام شهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك سنة» (3) يعني أن الحسنة بعشر أمثالها، الشهر بعشرة أشهر، والستة بستين، فذلك سنة كاملة.
5 - صوم يوم عرفة: هو تاسع ذي الحجة لغير الحاج، لخبر مسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبلها، والسنة التي بعده» وهو أفضل الأيام لخبر مسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة» ، وأما قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر (4) .
أما الحاج فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره وإن كان قوياً، ليقوى على الدعاء، واتباعاً للسنة، كما روى الشيخان، فصومه له خلاف الأولى، قال
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي، ورواه أحمد من حديث جابر (نيل الأوطار: 237/4) .
(3) رواه سعيد بن منصور بإسناده عن ثوبان.
(4) قيل: المكفر الصغائر دون الكبائر، ورد عليه: وهذا تحكم يحتاج إلى دليل، والحديث عام، وفضل الله واسع لا يحجر.(3/24)
أبو هريرة رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات» (1) . ولا بأس بصومه للحاج عند الحنفية إذا لم يضعفه الصوم.
6 - صوم الأيام الثمانية من ذي الحجة قبل يوم عرفة للحاج وغيره، لقول حفصة: «أربع لم يكن يدعُهنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة» (2) وقد تقدم في بحث «صلاة العيدين» أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة عموماً، والصوم مندرج تحتها.
7 - صوم تاسوعاء وعاشوراء: وهما التاسع والعاشر من شهر المحرم، ويسن الجمع بينهما، لحديث ابن عباس مرفوعاً: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر» (3) ويتأكد صيام عاشوراء لقوله صلّى الله عليه وسلم فيه: «أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله» (4) ، وإنما لم يجب صومه لخبر الصحيحين: «إن هذا اليوم يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» وحملوا الأخبار الواردة بالأمر بصومه على تأكد الاستحباب.
والحكمة من صيام عاشوراء: ما بينه ابن عباس، قائلاً: «قدم النبي صلّى الله عليه وسلم،
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه (نيل الأوطار: 239/4) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 238/4) .
(3) رواه الخلال بإسناد جيد، واحتج به أحمد، وروى مسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع» .
(4) روى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» وحكمة التفرقة: أن عرفة يوم محمدي: يعني أن صومه مختص بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعاشوراء يوم موسوي، ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (نيل الأوطار: 238/4) ، وأحتسب: أطلب الأجر والثواب.(3/25)
فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يومٌ صالح، نجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه» (1) .
فإن لم يصم مع عاشوراء تاسوعاء، سن عند الشافعية أن يصوم معه الحادي عشر، بل نص الشافعي في الأم والإملاء على استحباب صوم الثلاثة. وذكر الحنابلة أنه إن اشتبه على المسلم أول الشهر، صام ثلاثة أيام، ليتيقن صومها. وتاسوعاء وعاشوراء آكد شهر الله المحرم.
ولا يكره عند الجمهور غير إفراد العاشر بالصوم.
8 - صيام الأشهر الحرم ـ وهي أربع: ثلاثة متوالية؛ وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، وواحد منفرد وهو رجب، وهي أفضل الشهور للصوم بعد رمضان، وأفضل الأشهر الحرم: المحرم، ثم رجب، ثم باقي الحرم، ثم بعد الحرم شعبان.
واستحباب صوم هذه الأشهر هو عند المالكية والشافعية (2) ، واكتفى الحنابلة باستحباب صوم المحرم، فهو عندهم أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم» (3) ، وأفضل المحرم يوم عاشوراء، كما تقدم. وقال الحنفية: المندوب في الأشهر الحرم أن يصوم ثلاثة أيام من كل منها، وهي الخميس والجمعة والسبت.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 241/4) .
(2) القوانين الفقهية: ص 114، الحضرمية: ص 118.
(3) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة.(3/26)
9 - صوم شعبان: لحديث أم سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهراً تاماً إلا شعبان يصل به رمضان (1) ، وعن عائشة قالت: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله» (2) وكره قوم صوم النصف الآخر من شعبان، وقال الشافعية: لا يصح صومه، للحديث المتقدم: «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا» .
آراء المذاهب في الصوم المندوب:
للفقهاء تصنيفات لأيام الصوم المتطوع بها، هي ما يأتي:
قال الحنفية (3) : صوم التطوع أنواع ثلاثة: مسنون، ومندوب، ونفل: والمسنون: هو ما واظب عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، والمندوب أو المستحب: هو مالم يواظب عليه صلّى الله عليه وسلم، وإن لم يفعله بعدما رغب إليه. والنفل: ما سوى ذلك وهو ما رغب فيه الشرع من مطلق الصوم.
أما المسنون: فهو صوم عاشوراء مع التاسع.
وأما المندوب: فهو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويندب كونها الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وصوم الاثنين والخميس، وصوم ست من شوال ولا يكره التتابع على المختار، وكل صوم ثبت طلبه والوعد عليه بالسنة كصوم داود عليه السلام. ومنه صوم يوم الجمعة ولو منفرداً، فلا بأس بصيامه عند أبي حنيفة ومحمد، لما روي عن ابن عباس أنه كان يصومه ولا يفطر.
ومنه صوم يوم عرفة، ولو لحاج لم يضعفه عن الوقوف بعرفات، ولا يخل بالدعوات، فلو أضعفه كره.
وأما النفل: فهو ما سوى ذلك مما لم يثبت كراهيته.
وذكر الحنفية تصنيفاً آخر، فقالوا:
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) ولفظ ابن ماجه، «كان يصوم شهري شعبان ورمضان» (نيل الأوطار: 245/4) .
(2) متفق عليه (المصدر والمكان السابق) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 113/2-116، 171، مراقي الفلاح: ص 105 ومابعدها.(3/27)
أنواع الصوم اللازم ثلاثة عشر: سبعة متتابعة: وهي رمضان، وكفارة ظهار وقتل، ويمين، وإفطار رمضان بلا عذر، ونذر معين، وصوم اعتكاف واجب، وستة يخير فيها بين التتابع والتفريق وهي: صوم النفل، وقضاء رمضان، وصوم القران والتمتع في الحج إذا عجز عن الذبح، وفدية حلق، وجزاء صيد، ونذر مطلق عن التقييد بشهر كذا وعن التتابع أو نيته.
وقال المالكية (1) : التطوع ثلاثة أنواع: سنة ومستحب ونافلة، فهم كالحنفية.
فالسنة: صيام يوم عاشوراء: وهو عاشر المحرم.
والمستحب: صيام الأشهر الحرم وشعبان والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم عرفة، وستة أيام من شوال، وثلاثة أيام من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس.
والنافلة: كل صوم لغير وقت ولا سبب في غير الأيام التي يجب أو يمنع.
وذكر الشافعية (2) : أن صوم التطوع المؤكد قسمان: قسم لا يتكرر كصوم الدهر. وقسم يتكرر، وهو أنواع ثلاثة:
الأول ـ ما يتكرر بتكرر السنين: وهو صوم يوم عرفة لغير الحاج والمسافر، وعشر ذي الحجة، وعاشوراء وتاسوعاء، والحادي عشر من المحرم، وست من شوال ويسن تواليها واتصالها بالعيد. وسن صوم الأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وكذا يسن صوم شعبان.
الثاني ـ مايتكرر بتكرر الشهور: وهي الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، والأيام السود: وهي الثامن والعشرون وتالياه، وعند نقص الشهر يعوض عنه أول الشهر، ويسن أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطاً.
وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور والثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكراً، والثانية لطلب كشف السواد، ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويده بذلك.
الثالث ـ ما يتكرر بتكرر الأسابيع: وهو الاثنين والخميس.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 114، بداية المجتهد: 298/1-118.
(2) مغني المحتاج: 446/1 ومابعدها، الحضرمية: ص 118.(3/28)
وسرد الحنابلة (1) أوقات صوم التطوع فقالوا:
أفضل صوم التطوع يوم ويوم، ولا يكره صوم الدهر إلا لخائف ضرراً أو فوت حق. وسن ثلاثة من كل شهر، وكونها أيام البيض أفضل: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر،
وذلك كصيام الدهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها.
ويسن صوم الاثنين والخميس، وستة من شوال، والأولى تتابعها وعقب العيد، إلا لمانع كقضاء، ومن صامها مع رمضان، كأنما صام الدهر.
__________
(1) كشاف القناع: 393/2 - 396، غاية المنتهى: 334/1 ومابعدها.(3/29)
ويسن صوم المُحرَّم، وهو أفضل الصيام بعد رمضان، وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة (1) ، ثم تاسوعاء، ولا يكره إفراد العاشر بالصوم. ويسن صوم أيام عشر ذي الحجة، وهي أفضل من العشر الأخير من رمضان، وآكده يوم عرفة، وهو كفارة سنتين، والمراد كفارة الصغائر، فإن لم تكن رُجي تخفيف الكبائر، فإن لم تكن فرفع درجات.
ولا يستحب صيام يوم عرفة لمن كان بعرفة من الحاج، بل فطره أفضل، لما روت أم الفضل بنت الحارث «أنها أرسلت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بقدح لبن، وهو واقف على بعيره بعرفة، فشرب» (2) ، وأخبر ابن عمر أنه «حج مع النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلم يصمه أحد منهم» ولأنه يُضعف عن الدعاء، فكان تركه أفضل.
ويكره إفراد رجب بالصوم، لما تقدم سابقاً في الصوم المكروه. ولا يكره إفراد شهر غير رجب بالصوم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يصوم شعبان ورمضان» أي أحياناً، إذ لم يداوم على غير رمضان.
هل يلزم التطوع بالشروع فيه؟
للفقهاء نظريتان في هذا الموضوع، الأولى للحنفية والمالكية، والثانية للشافعية والحنابلة:
__________
(1) وينبغي فيه التوسعة على العيال، قال إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وكان أفضل أهل زمانه، أنه بلغه «من وسع على عياله يوم عاشوراء، وسَّع الله عليه سائر سنته» .
(2) متفق عليه.(3/30)
قال الفريق الأول (1) : من دخل في صوم التطوع أو في صلاة التطوع، لزمه إتمامه، فإن أفسده قضاه وجوباً، كما أنه إذا سافر عمداً فأفطر لسفره، فعليه القضاء، لأن المؤدى قربة وعمل صار لله تعالى، فتجب صيانته بالمضي فيه عن الإبطال، ولا سبيل إلى صيانة ما أداه إلا بلزوم الباقي، وإذا وجب المضي وجب القضاء، ولأن الوفاء بالعقد مع الله واجب، وحله حرام في كل عبادة يتوقف أولها على آخرها، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] وقال مالك: لا ينبغي أن يفطر من صام متطوعاً، إلا من ضرورة، وبلغني أن ابن عمر قال: من صام متطوعاً، ثم أفطر من غير ضرورة، فذلك الذي يلعب بدينه، وقياساً على النذر، فإن النفل ينقلب واجباً بالنذر، ويجب أداؤه، لكن ذكر الحنفية أنه إذا شرع متطوعاً في خمسة أيام: يومي العيدين وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها في ظاهر الرواية.
وقال الفريق الثاني (2) : من دخل في تطوع غير حج وعمرة كأن شرع في صوم أو صلاة أو اعتكاف أو طواف أو وضوء أو قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، أو التسبيحات عقب الصلاة، فلا يلزمه إتمامه، وله قطعه، ولا قضاء عليه، ولا مؤاخذة في قطعه لكن يستحب له إتمامه، لأنه تكميل العبادة، وهو مطلوب، ويكره الخروج منه بلا عذر، لظاهر قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه، ولما فيه من تفويت الأجر.
فإن وجد عذر كمساعدة ضيف في الأكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه، أو عكسه، فلا يكره الخروج منه، بل يستحب لخبر: «وإن لزَوْرك عليك حقاً» والزور: الزائرون، وخبر «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (3) .
ودليلهم على عدم لزوم النفل بالشروع فيه في الصوم: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» (4) وتقاس الصلاة وبقية النوافل غير الحج والعمرة على الصوم، ولأن أصل مشروعية النفل غير لازم، والقضاء يتبع المقضي عنه، فإذا لم يكن واجباً، لم يكن القضاء واجباً، بل يستحب، وروي جواز قطع صوم التطوع عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود.
أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه، لمخالفته غيره في لزوم الإتمام، والكفارة بالجماع، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة، ومشقة شديدة، وإنفاق مال كثير، ففي إبطالهما تضييع لماله، وإبطال لأعماله الكثيرة.
المبحث الثالث ـ متى يجب الصوم، وكيفية إثبات هلال الشهر واختلاف المطالع؟:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ متى يجب الصوم؟
يجب الصوم بأحد أمور ثلاثة (5) .
الأول ـ النذر: بأن ينذر المرء صوم يوم أو شهر تقرباً إلى الله تعالى، فيجب عليه بإيجابه على نفسه، ويكون سبب صوم المنذور هو النذر، فلو عين شهراً أو يوماً، وصام شهراً أو يوماً قبله عنه، أجزأه، لوجود السبب، ويلغو التعيين.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 171/1 ومابعدها، فتح القدير: 85/2، 105، الدر المختار: 164/2، شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 296/1، فواتح الرحموت: 114/1، كشف الأسرار: 632/1.
(2) مغني المحتاج: 437/1، 448، كشاف القناع: 400/2، المغني: 151/3 ومابعدها، شرح المحلي على جمع الجوامع: 69/1، غاية الوصول للأنصاري: ص 12، أصول الفقه الإسلامي للمؤلف، 1ص 79 ومابعدها، ط ثانية بدار الفكر.
(3) رواهما الشيخان.
(4) رواه أحمد وصححه من حديث أم هانئ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وضعفه البخاري.
(5) الدر المختار ورد المحتار: 111/2، مغني المحتاج: 420/1، الشرح الكبير: 509/1، كشاف القناع: 349/2.(3/31)
الثاني ـ الكفارات: عن معصية ارتكبها المرء، كالقتل الخطأ، وحنث اليمين، وإفطار رمضان بالجماع نهاراً، والظهار، ويكون سبب الصوم هو القتل أو الحنث أو الإفطار، أو المظاهرة.
الثالث ـ شهود جزء من شهر رمضان من ليل أو نهار على المختار عند الحنفية، فيكون السبب شهود الشهر.
ويجب صوم رمضان: إما برؤية هلاله إذا كانت السماء صحواً، أو بإكمال شعبان ثلاثين يوماً إذا وجد غيم أوغبار ونحوهما، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/2] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (1) وفي لفظ البخاري: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وفي لفظ لمسلم: «أنه ذكر رمضان، فضرب بيده، فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدُروا ثلاثين» وقد يقع نقص الشهر أي تسعة وعشرين يوماً مدة شهرين أو ثلاثة أو أربعة فقط، كما في شرح مسلم للنووي، ولا تثبت بقية توابع رمضان كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطراً إلا برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ورواه البخاري عن ابن عمر، ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر أيضاً بلفظ آخر، ورواه أحمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ورواه أحمد والنسائي والترمذي بمعناه وصححه عن ابن عباس، وروي عن آخرين (نيل الأوطار: 188/4-192) .(3/32)
المطلب الثاني ـ كيفية إثبات هلال رمضان وهلال شوال:
تتردد أقوال الفقهاء في طريق إثبات هلال رمضان وشوال بين اتجاهات ثلاثة: رؤية جمع عظيم، ورؤية مسلمين عدلين، ورؤية رجل عدل واحد.
أما الحنفية (1) فقالوا:
أـ إذا كانت السماء صحواً: فلا بد من رؤية جمع عظيم لإثبات رمضان، والفطر أو العيد، ومقدار الجمع: من يقع العلم الشرعي (أي غلبة الظن) بخبرهم، وتقديرهم مفوض إلى رأي الإمام في الأصح؛ واشتراط الجمع لأن المَطْلع متحد في ذلك المحل، والموانع منتفية، والأبصار سليمة، والهمم في طلب الهلال مستقيمة، فالتفرد في الرؤية من بين الجم الغفير ـ مع ذلك ـ ظاهر في غلط الرأي.
ولا بد من أن يقول الواحد منهم في الإدلاء بشهادته: «أشهد» .
ب ـ وأما إذا لم تكن السماء صحواً بسبب غيم أو غبار ونحوه، فيكتفي الإمام في رؤية الهلال بشهادة مسلم واحد عدل عاقل بالغ، (والعدل: هو الذي غلبت حسناته سيئاته) أو مستور الحال في الصحيح، رجلاً كان أو امرأة، حراً أم غيره، لأنه أمر ديني، فأشبه رواية الأخبار. ولا يشترط في هذه الحالة أن يقول: «أشهد» وتكون الشهادة في مصر أمام القاضي، وفي القرية في المسجد بين الناس.
وتجوز الشهادة على الشهادة، فتصح الشهادة أمام القاضي بناء على شهادة شخص آخر رأى الهلال.
ومن رأى الهلال وحده، صام، وإن لم يقبل الإمام شهادته، فلوأفطر وجب عليه القضاء دون الكفارة.
ولا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ لأنه وإن صح الحساب أو الرصد، فلسنا مكلفين شرعاً إلا بالرؤية العادية.
__________
(1) رسائل ابن عابدين: 253/1، الدر المختار: 123/2-130، مراقي الفلاح: ص108 ومابعدها، اللباب: 164/1.(3/33)
وقال المالكية (1) : يثبت هلال رمضان بالرؤية على أوجه ثلاثة هي ما يأتي:
1ً - أن يراه جماعة كثيرة وإن لم يكونوا عدولاً: وهم كل عدد يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب. ولا يشترط أن يكونوا ذكوراً أحراراً عدولاً.
2ً - أن يراه عَدْلان فأكثر: فيثبت بهما الصوم والفطر في حالة الغيم أو الصحو. والعدل: هو الذكر الحر البالغ العاقل الذي لم يرتكب معصية كبيرة ولم يصر على معصية صغيرة، ولم يفعل ما يخل بالمروءة. فلا يجب الصوم في حالة الغيم برؤية عدل واحد أو امرأة أو امرأتين على المشهور، ويجب الصوم قطعاً على الرائي في حق نفسه. وتجوز الشهادة بناء على شهادة العدلين إذا نقل الخبر عن كل واحد اثنان، ولا يكفي نقل واحد. ولا يشترط في إخبار العدلين أو غيرهم لفظ «أشهد» .
3ً - أن يراه شاهد واحد عدل: فيثبت الصوم والفطر له في حق العمل بنفسه أو في حق من أخبره ممن لا يعتني بأمر الهلال، ولا يجب على من يعتني بأمر الهلال الصوم برؤيته، ولا يجوز الإفطار بها، فلا يجوز للحاكم أن يحكم بثبوت الهلال برؤية عدل فقط. ولا يشترط في الواحد الذكورة ولا الحرية. فإن كان الإمام هو الرائي وجب الصوم والإفطار.
ويجب على العدل أو العدلين رفع الأمر للحاكم أنه رأى الهلال ليفتح باب الشهادة، ولأنه قد يكون الحاكم ممن يرى الثبوت بعدل.
أما هلال شوال: فيثبت برؤية الجماعة الكثيرة التي يؤمن تواطؤها على الكذب ويفيد خبرها العلم أو برؤية العدلين كما هو الشأن في إثبات هلال رمضان.
ولا يثبت الهلال بقول منجّم أي حاسب يحسب سير القمر، لا في حق نفسه ولا غيره؛ لأن الشارع أناط الصوم والفطر والحج برؤية الهلال، لا بوجوده إن فرض صحة قوله، فالعمل بالمراصد الفلكية وإن كانت صحيحة لا يجوز، ولايطلب شرعاً، كما تقدم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص115 ومابعدها، الشرح الصغير: 682/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 509/1 ومابعدها.(3/34)
وقال الشافعية (1) : تثبت رؤية الهلال لرمضان أو شوال أو غيرهما بالنسبة إلى عموم الناس برؤية شخص عدل، ولو مستور الحال، سواء أكانت السماء مصحية أم لا، بشرط أن يكون الرائي عدلاً مسلماً بالغاً عاقلاً حراً ذكراً، وأن يأتي بلفظ «أشهد» فلا تثبت برؤية الفاسق والصبي والمجنون والعبد والمرأة. ودليلهم: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رأى الهلال، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك، فصام وأمر الناس بصيامه (2) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس، فليصوموا غداً» (3) والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم.
أما الرائي نفسه فيجب عليه الصوم، ولو لم يكن عدلاً (أي فاسقاً) أو كان صبياً أو امرأة أو كافراً، أو لم يشهد عند القاضي، أو شهد ولم تسمع شهادته، كما يجب الصوم على من صدقه ووثق بشهادته.
وإذا صمنا برؤية عدل، ولم نر الهلال ثلاثين، أفطرنا في الأصح، وإن كانت السماء صحواً، لكمال العدد بحجة شرعية.
__________
(1) المهذب: 179/1، مغني المحتاج: 420/1-422.
(2) رواه أبو داود وصححه ابن حبان، ورواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
(3) صححه ابن حبان والحاكم ورواه أبو داود والترمذي.(3/35)
وقال الحنابلة (1) : يقبل في إثبات هلال رمضان قول مكلف عدل واحد ظاهراً وباطناً ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً، ولو لم يقل: أشهد أو شهدت أني رأيته، فلا يقبل قول مميز ولا مستور الحال لعدم الثقة بقوله في الغيم والصحو، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره منهم غيره. ودليلهم الحديث المتقدم أنه صلّى الله عليه وسلم صوَّم الناس بقول ابن عمر، ولقبوله خبر الأعرابي السابق به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط، ولا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولاختلاف حال الرائي والمرئي، فلو حكم حاكم بشهادة واحد، عمل بها وجوباً. ولا يعتبر لوجوب الصوم لفظ الشهادة، ولايختص بحاكم، فيلزم الصوم من سمعه من عدل. ولا يجب على من رأى الهلال إخبار الناس أو أن يذهب إلى القاضي أو إلى المسجد. ويجب الصوم على من ردت شهادته لفسق أو غيره، لعموم الحديث: «صوموا لرؤيته» ولا يفطر إلا مع الناس؛ لأن الفطر لا يباح إلا بشهادة عدلين. وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر لحديث أبي هريرة يرفعه قال: «الفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون» (2) ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط. وتثبت بقية الأحكام إذا ثبتت رؤية هلال رمضان بواحد من وقوع الطلاق المعلق به، وحلول آجال الديون المؤجلة إليه، وغيرها كانقضاء العدة والخيار المشروط ومدة الإيلاء ونحوها تبعاً للصوم.
ولا يجب الصوم - كما تقدم - بالحساب والنجوم ولو كثرت إصابتها، لعدم استناده لما يعول عليه شرعاً.
ولا يقبل في إثبات بقية الشهور كشوال (من أجل العيد) وغيره إلا رجلان عدلان، بلفظ الشهادة؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالباً، وليس بمال ولا يقصد به المال.
__________
(1) كشاف القناع: 352/2-358، المغني: 156/3-163.
(2) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.(3/36)
وإنما ترك ذلك في إثبات رمضان احتياطاً للعبادة. وإذا صام الناس بشهادة اثنين: ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، أفطروا، سواء في حال الغيم أو الصحو، لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (1) .
ولا يفطروا إن صاموا الثلاثين يوماً بشهادة واحد، لأنه فطر، فلا يجوز أن يستند إلى واحد، كما لو شهد بهلال شوال.
وإن صاموا ثمانية وعشرين يوماً، ثم رأوا الهلال، قضوا يوماً فقط. وإن صاموا لأجل غيم ونحوه كقَتر ودخان، لم يفطروا؛ لأن الصوم إنما كان احتياطاً، فمع موافقته، للأصل: وهو بقاء رمضان، أولى. وإن رأى هلال شوال عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما، وجاز لكل واحد منهما أن يفطر بقولهما إذا عرف عدالة الآخر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» فإن لم يعرف أحدهما عدالة الآخر، لم يجز له الفطر لاحتمال فسقه إلا أن يحكم بذلك حاكم، فيزول اللبس.
وإن شهد شاهدان عند الحاكم برؤية هلال شوال: فإن رد الحاكم شهادتهما، لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر؛ لأن رده ههنا ليس بحكم منه بعدم قبول شهادتهما، إنما هو توقف لعدم علمه بحالهما، فهو كالتوقف عن الحكم انتظاراً للبينة، فلو ثبتت عدالتهما بعد ذلك ممن زكاهما حكم بها، لوجود المقتضي، وأما إن رد الحاكم شهادتهما لفسقهما، فليس لهما ولا لغيرهما الفطر بشهادتهما.
__________
(1) رواه النسائي وأحمد.(3/37)
وإذا اشتبهت الأشهر على أسير أو سجين أو من بمفازة أو بدار حرب ونحوهم، اجتهد وتحرى في معرفة شهر رمضان وجوباً؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد، فلزمه كاستقبال القبلة، فإن وافق ذلك شهر رمضان أو ما بعد رمضان، أجزأه. وإن تبين أن الشهر الذي صامه ناقص، ورمضان الذي فاته كامل تمام، لزمه قضاء النقص؛ لأن القضاء يجب أن يكون بعدد المتروك. وإن وافق صومه شهراً قبل رمضان كشعبان لم يجزئه؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، فلم يجزئه، كالصلاة، فلو وافق بعضه رمضان، فما وافقه أوبعده، أجزأه، دون ما قبله.
وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر، بلا اجتهاد، فكمن خفيت عليه القبلة، لا يجزيه مع القدرة على الاجتهاد.
والخلاصة: إن الحنفية يشترطون لإثبات هلال رمضان وشوال رؤية جمع عظيم إذا كانت السماء صحواً، وتكفي رؤية العدل الواحد في حال الغيم ونحوه. ولا بد عند المالكية من رؤية عدلين أو أكثر، وتكفي رؤية العدل الواحد عندهم في حق من لا يهتم بأمر الهلال.
وتكفي رؤية عدل واحد عند الشافعية والحنابلة، ولو مستور الحال عند الشافعية، ولا يكفي المستور عند الحنابلة، كما لا بد عند الحنابلة والمالكية من رؤية هلال شوال من عدلين لإثبات العيد.
وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية.
طلب رؤية الهلال: قال الحنفية (1) : يجب للناس أن يلتمسوا الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، وكذا هلال شوال لأجل إكمال العدة، فإن رأوه صاموا، وإن غم عليهم، أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صاموا؛ لأن الأصل بقاء الشهر، فلا ينتقل عنه إلا بدليل، ولم يوجد.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 163/1.(3/38)
وقال الحنابلة (1) : يستحب ترائي الهلال احتياطاً للصوم، وحذاراً من الاختلاف، قالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان» (2) وروى أبو هريرة مرفوعاً: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» (3) .
ويسن إذا رأى المرء الهلال كبَّر ثلاثاً، وقال: «اللهم أهلّه علينا باليُمن والإيمان، والأمن والأمان، ربي وربك الله» ويقول ثلاث مرات: «هلال خير ورشد» ويقول: «آمنت بالذي خلقك» ثم يقول: «الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا، وجاء بشهر كذا» وروى الأثرم عن ابن عمر، قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله» .
وإذا رئي الهلال يكره عند الحنفية أن يشير الناس إليه، لأنه من عمل الجاهلية.
المطلب الثالث ـ اختلاف المطالع:
اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر أو اختلاف المطالع، ففي رأي الجمهور: يوحد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع. وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة. ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89 كم) .
هذا مع العلم بأن اختلاف المطالع نفسه لانزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف،
__________
(1) كشاف القناع: 349/2.
(2) رواه الدارقطني بإسناد صحيح.
(3) رواه الترمذي.(3/39)
وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جداً كالأندلس والحجاز، وأندونيسيا والمغرب العربي (1) .
وأذكر أولاً عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.
قال الحنفية (2) : اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهاراً قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة، أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أهل بلدة كذا رأوه؛ لأنه حكاية.
وقال المالكية (3) : إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلاد، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، إن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.
وقال الحنابلة (4) : إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.
وأما الشافعية فقالوارين فرسخاً (5) : إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخاً (6) .
وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أنه يوافقهم وجوباً في الصوم آخراً، وإن كان قد أتم ثلاثين؛ لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحداً منهم، فيلزمه حكمهم، وروي أن ابن عباس أمر كُرَيْباً بذلك كما سيأتي.
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين: 131/2، مجموعة رسائل ابن عابدين: 253/1، تفسير القرطبي: 296/2، فتح الباري: 87/4، المجموع: 300/6، بداية المجتهد: 278/1، القوانين الفقهية: ص116.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 131/2-132، مراقي الفلاح: ص109.
(3) الشرح الكبير: 510/1، بداية المجتهد: 278/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص116.
(4) كشاف القناع: 353/2.
(5) المجموع: 297/6-303، مغني المحتاج: 422/1-423.
(6) الفرسخ (5544 م) وهذه المسافة تساوي 5544×24=056،133 كم، انظر جدول المقاييس، علماً بأن مسافة القصر (89كم) : هي أربعة برد أو ستة عشرة فرسخاً، والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام، والقدمان: ذراع، والذراع: أربعة وعشرون إصبعاً معترضات.(3/40)
ومن سافر من البلد الآخر الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية، عيَّد معهم وجوباً، لأنه صار واحداً منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يوماً، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تاماً عندهم، وقضى يوماً إن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح معيِّداً، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلدة بعيدة أهلها صيام، فالأصح أن يمسك بقية اليوم وجوباً؛ لأنه صار واحداً منهم.
الأدلة:
أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول:
1ً - السنة: استدلوا بحديثين: أولهما حديث كُرَيب، وثانيهما حديث ابن عمر:
أ - حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: فقدمتُ الشام، فقضيت حاجتها، واستُهلَّ علي رمضان ُ وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينةفي آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نُكْمِل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1) .
فدل على أن ابن عباس لم يأخذ برؤية أهل الشام، وأنه لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر.
ب ـ حديث ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدُروا له» (2) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية، لكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه (نيل الأوطار: 194/4) .
(2) رواه مسلم وأحمد (نيل الأوطار: 189/4 وما بعدها) .(3/41)
2ً - القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة.
3ً - المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان، وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعاً لاختلاف البلدان.
أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس.
أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» (1) فهو يدل على أن إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية، والمطلق يجري على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة.
وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكُّم، لا تعتمد على دليل.
هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع، وقال الصنعاني: والأقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سَمْتها (2) أي على خط من خطوط الطول: وهي ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعدم التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض.
وقال الشوكاني: إن الحجة إنما هي في المرفوع من رواية ابن عباس، لا في
__________
(1) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 191/4) .
(2) سبل السلام: 151/2.(3/42)
اجتهاده الذي فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: «هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وقوله: «فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين» .
والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد، فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم.
والذي ينبغي اعتماده هو ماذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها (1) .
وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيداً للعبادة بين المسلمين، ومنعاً من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار.
والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هو نحو 9 ساعات، فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقياً أو هاتفياً (2) .
والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءاً من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى.
__________
(1) نيل الأوطار: 195/4.
(2) كتاب الشيخ محمد أبو العلا البنا مدرس الفلك بكلية الشريعة بالأزهر المشار إليه في بحث الشيخ المرحوم محمد السايس، في بحوث المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية: ص 99 ومابعدها.(3/43)
المبحث الرابع ـ شروط الصوم:
فيه مطلبان: الأول ـ في شروط الوجوب، والثاني ـ في شروط صحة الأداء.
المطلب الأول ـ شروط وجوب الصوم:
اشترط الفقهاء لوجوب الصوم شروطاً خمسة هي ما يأتي (1) :
1 - الإسلام: شرط وجوب عند الحنفية: شرط صحة عند الجمهور، فلا يجب الصوم على الكافر، ولا يطالب بالقضاء عند الأولين، ولا يصح صوم الكافر بحال ولو مرتداً عند الآخرين، وليس عليه القضاء عندهم أيضاً. ومنشأ الخلاف: مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، فعند الحنفية: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة التي هي عبادات، وعند الجمهور: الكفار مخاطبون بفروع الشريعة في حال كفرهم بمعنى أنه يجب عليهم الإسلام، ثم الصوم، إذ لا يصح الصوم لأنه عبادة بدنية محضة تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ويزاد في عقوبتهم في الآخرة بسبب ذلك؛، ولكن لا يطالبون بفعلها في حال كفرهم، فتنحصر ثمرة الخلاف في مضاعفة العذاب في الآخرة، فعند الحنفية: العذاب واحد على الكفر، وعند الجمهور يضاعف العذاب على الكفر وعلى ترك التكاليف الشرعية (2) .
فإن أسلم الكافر في شهر رمضان، صام ما يستقبل من بقية شهره، وليس عليه قضاء ما سبق بالاتفاق، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] ، ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام. والردة تمنع صحة الصوم، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/39] .
__________
(1) البدائع: 87/2-89، فتح القدير: 87/2-93، الدر المختار: 145/2 ومابعدها، اللباب: 172/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 681/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص113 ومابعدها، المهذب: 177/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 432/1-438، المغني: 153/3-156، كشاف القناع: 359/2-364، شرح الرسالة: 300/1 ومابعدها، 306، بداية المجتهد: 188/1 ومابعدها، المغني: 98/3 ومابعدها.
(2) انظر كتابي أصول الفقه الإسلامي 79/1 ومابعدها، ط دار الفكر.(3/44)
أما إن أسلم الكافر في أثناء النهار، فيلزمه عند الحنابلة إمساك بقية اليوم، وقضاؤه، لأنه أدرك جزءاً من وقت العبادة، فلزمته، كما لو أدرك جزءاً من وقت الصلاة، ويستحب الكف عن الأكل عندالحنفية والمالكية والشافعية مراعاة لحرمة أو لحق الوقت بالتشبه بالصائمين، كما يستحب القضاء عند المالكية، ولا يلزم عند الحنفية. ولا قضاء عليه في الأصح عند الشافعية لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، ولا يلزمه إمساك بقية النهار في الأصح؛ لأنه أفطر لعذر فأشبه المسافر والمريض. لكن إن أسلم المرتد، وجب عليه عند الشافعية والحنابلة قضاء ما تركه في حال الكفر؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط ذلك بالردة كحقوق الآدميين.
2 - 3 - البلوغ والعقل: فلا يجب الصوم على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران، لعدم توجه الخطاب التكليفي لهم بعدم الأهلية للصوم، المفهوم من قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» فمن زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال زوال العقل، ولا يصح الصوم من المجنون والمغمى عليه والسكران لعدم إمكان النية منه.
ويصح الصوم من الصبي المميز أو المميزة كالصلاة، ويجب عند الشافعية والحنفية والحنابلة على وليه أمره به إذا أطاقه بعد بلوغه سبع سنين، وضربه حينئذ على الصوم بعد بلوغه عشر سنين، إذا تركه ليعتاده، كالصلاة، إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصيام.
وقال المالكية: لا يؤمر الصبيان بالصوم بخلاف الصلاة، فلا صيام على الصبيان حتى يحتلم الغلام وتحيض الفتاة، وبالبلوغ لزمتهم أعمال الأبدان فريضة.(3/45)
فإذا بلغ الصبي أثناء اليوم أمسك عند الحنفية بقية اليوم، كما لو أسلم الكافر، وصام ما بعده من الأيام، لتحقق السببية والأهلية، ولم يقض اليوم الذي تأهل فيه، ولا ما مضى قبله من الشهر، لعدم الخطاب بعدم الأهلية له. ومن أغمي عليه في رمضان، لم يقض عند الحنفية اليوم الذي حدث فيه الإغماء، لوجود الصوم، وهو الإمساك المقرون بالنية، إذ الظاهر وجودها منه؛ لأن ظاهر حال المسلم في ليالي رمضان عدم الخلو عن النية. وقضى ما بعده من الأيام لانعدام النية. وإن أغمي عليه أول ليلة قضاه كله غير يوم تلك النية، لأن ظاهر حال المسلم نية الصوم.
ومن أغمي عليه رمضان كله، قضاه؛ لأنه نوع مرض يُضعف القُوى، ولا يزيل الحجا، فيصير عذراً في التأخير، لا في الإسقاط.
وإذا أفاق المجنون في بعض رمضان، قضى ما مضى منه؛ لأن السبب ـ وهو شهود الشهر ـ قد وجد، وأهلية نفس الوجوب بالذمة وهي متحققة بلا مانع، فإذا تحقق الوجوب بلا مانع، تعين القضاء. وإن استوعب الجنون جميع ما يمكنه فيه إنشاء الصوم، لا يقضي للحرج، بخلاف الإغماء؛ لأنه لا يستوعب الوقت عادة، وامتداده نادر، ولا حرج في ترتيب الحكم على ما هو من النوادر. والخلاصة: إن الإغماء والجنون المتقطع لا يمنع إيجاب الصوم وقضاءه، وأما الجنون المستوعب لجميع الشهر، فلا قضاء على صاحبه، وأما الإغماء ففيه القضاء، والسكر كالإغماء.
وقال المالكية: لا يصح صوم المجنون، ويجب عليه القضاء مطلقاً في المشهور، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وعن المجنون حتى يفيق» قال ابن رشد: وفيه ضعف، ولا يصح أيضاً صوم المغمى عليه مطلقاً، ويجب عليه القضاء إن بقي مغمى عليه يوماً فأكثر، فإن أغمي عليه يسيراً كنصف اليوم فأقل بعد الفجر، لم يقض.(3/46)
وإن أغمي عليه ليلاً، فأفاق بعد طلوع الفجر، فعليه قضاء الصوم، لفوات محل النية، وهو ليس بعاقل، ولا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقتها، ويختلف الإغماء عن النوم لكونه بين رتبتي الجنون والنوم.
ولا يقضي النائم مطلقاً ولو نام كل النهار، والسكر كالإغماء إلا أنه يلزمه الإمساك في يومه، ومن سكر ليلاً وأصبح ذاهب العقل، لم يجز له الفطر، ويلزمه القضاء.
وقال الشافعية: إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون في أثناء النهار، فكما لو أسلم الكافر، لا قضاء عليهم في الأصح، ولا يلزمهم إمساك بقية النهار في الأصح.
ويجب قضاء ما فات بالإغماء والردة والسكر، دون الكفر الأصلي والصِّبا والجنون إلا إذا كان متعدياً بجنونه بأن تناول ليلاً عامداً شيئاً أزال عقله نهاراً، فعليه قضاء ما جن فيه من الأيام، فلا يجب قضاء ما فات على الكافر، لما في وجوبه من التنفير عن الإسلام، ولقوله تعالى {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] ، ولا على الصبي والمجنون لارتفاع قلم التكليف عنهما. ولو ارتد، ثم جن أو سكر، فالأصح قضاء جميع أيام الجنون، وأيام السكر، لأن حكم الردة مستمر، بخلاف السكر. ويجب القضاء على الحائض والمفطر بلا عذر، وتارك النية، والمسافر والمريض، كما سيأتي.
وقال الحنابلة: إن بلغ الصغير صائماً ذكراً كان أو أنثى في أثناء نهار رمضان بتمام سن الخامسة عشرة أو باحتلام (أي إنزال مني بسبب حلم) ، أتم صومه بغير خلاف، ولاقضاء عليه إن كان نوى ليلاً، ولا مانع أن يكون أول الصيام نفلاً وباقيه فرضاً، كنذر إتمام نفل.
وإذا أفاق المجنون في أثناء الشهر، فعليه صوم ما بقي من الأيام بغير خلاف، ولا يلزمه سواء أكان متعدياً بجنونه أم لا قضاء ما مضى خلافاً للمالكية، وخلافاً للحنفية إن أفاق في أثناء الشهر؛ لأن الجنون معنى يزيل التكليف، فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكبر.(3/47)
وأما قضاء اليوم الذي أسلم فيه الكافر أو بلغ الصغير أو أفاق فيه المجنون، وإمساكه فيه، ففيه روايتان، أصحهما لزوم إمساك ذلك اليوم وقضاؤه، لحرمة الوقت، ولقيام البينة فيه بالرؤية، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصلاة. وكذا يلزم الإمساك والقضاء على كل من أفطر لغير عذر، ومن أفطر ظاناً أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو ظن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي النية، أو طهرت الحائض والنفساء، أو تعمدت مكلفة الفطر، ثم حاضت أو نفست، أو تعمد الفطر مقيم ثم سافر، أو قدم مسافر أو أقام مدة تمنع القصر، أو برئ مريض مفطر. أما النوم فلا يؤثر في الصوم، سواء وجد في بعض النهار أو جميعه.
والخلاصة: أن الجنون المستمر لا يوجب القضاء عند الجمهور، ويوجبه عند المالكية على المشهور. أما الإغماء فيوجب القضاء بالاتفاق. ويصح صوم المغمى عليه عند الشافعية والحنابلة إن أفاق لحظة من النهار، فإن أطبق الإغماء جميع النهار لم يصح الصوم، ويصح صوم المغمى عليه مطلقاً عند الحنفية، ولا يصح صومه عند المالكية إلا إذا أغمي يسيراً كنصف اليوم فأقل.
4 - 5 - القدرة (أو الصحة من المرض) ، والإقامة: فلا يجب الصوم على المريض والمسافر، ويجب عليهما القضاء إن أفطرا إجماعاً، ويصح صومهما إن صاما، والدليل قوله تعالى: {أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} [البقرة:184/2] وإذا قدم المسافر أمسك عن الطعام والشراب بقية يومه، كما إذا طهرت الحائض في بعض النهار.(3/48)
كما لايجب الصوم على من لم يطقه للكبر، ولا على نحو حائض لعجزها شرعاً، ولا على حامل أو مرضع لعجزهما حساً. ويشترط لعدم وجوب الصوم على المسافر أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون عند الجمهور (غير الحنفية) مباحاً؛ لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، ولا يشترط كونه مباحاً عند الحنفية؛ لأن سبب وجود الترخص وهو السفر قائم، وأن يكون السفر عند الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر، فلو أصبح المقيم صائماً، فسافر، فلا يفطر؛ لأن الصوم عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر، فغلب جانب الحضر؛ لأنه الأصل. لكن لو أصبح صائماً فمرض، أفطر لوجود المبيح للإفطار، ولو أقام المسافر، وشفي المريض، حرم الفطر.
ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، لكن الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صيامه إتمام الصوم، خروجاً من خلاف من لم يبح له الفطر، تغليباً لحكم الحضر، كالصلاة. وأضاف الحنفية شرطاً آخر لوجوب الصوم وهو مفهوم أصولياً: وهو العلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام لمن نشأ فيها.
المطلب الثاني ـ شروط صحة الصوم:
اشترط الحنفية (1) لصحة الصوم شروطاً ثلاثة: هي النية، والخلو عما ينافي الصوم من حيض ونفاس، وعما يفسده. فإذا حاضت المرأة أفطرت وقضت.
واشترط المالكية (2) أربعة شروط هي النية، والطهارة عن الحيض والنفاس، والإسلام، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد، واشترطوا أيضاً لصحة الصوم: العقل: فلا يصح من مجنون ولا مغمى عليه، ولا يجب عليهما أيضاً.
واشترط الشافعية (3) أربعة شروط أيضاً: وهي الإسلام، والعقل، والنقاء عن الحيض والنفاس جميع النهار، وكون الوقت قابلاً للصوم، فلا يصح صوم الكافر والمجنون والصبي غير المميز والحائض والنفساء. أما النية فهي ركن عندهم.
واشترط الحنابلة (4) شروطاً ثلاثة: هي الإسلام، والنية، والطهارة عن الحيض والنفاس. ويظهر من ذلك أن الفقهاء اتفقوا على اشتراط النية، والطهارة من الحيض والنفاس جميع النهار. وأما الإسلام فهو شرط صحة عند الجمهور وشرط وجوب عند الحنفية كما بينا. وسنبحث شرط النية تفصيلاً.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 105، الدر المختار: 116/2 ومابعدها.
(2) القوانين الفقهية: ص 113، الشرح الصغير: 681/1 ومابعدها، 695 ومابعدها، الشرح الكبير: 522/1.
(3) مغني المحتاج: 423/1،432، المهذب: 177/1.
(4) كشاف القناع: 359/2،366،376، المغني: 137/3 ومابعدها.(3/49)
شرط الطهارة: اتفق الفقهاء على أنه لا يشترط الخلو عن الجنابة، حتى يتمكن من إزالتها، ولضرورة حصولها ليلاً وطروء النهار، ولما روت عائشة وأم سلمة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصبح جُنُباً من جماع غير احتلام، ثم يصوم في رمضان (1) . وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا حُلُم، ثم لا يفطر ولا يقضي (2) . فمن أصبح جنباً ولم يتطهر، أو امرأة حائض طهرت قبل الفجر، فلم يغتسلا إلا بعد الفجر، أجزأهما صوم ذلك اليوم.
أما النية فأذكر في الصوم تعريفها وهل هي شرط أو ركن، ومحلها، وشروطها، وصفتها، وأثرها.
تعريف النية: القصد وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه، من غير تردد. والمراد بها هنا: قصد الصوم، فمتى خطر بقلبه في الليل أن غداً من رمضان وأنه صائم فيه، فقد نوى.
هل النية شرط أو ركن؟
اتفق الفقهاء على أن النية مطلوبة في كل أنواع الصيام، فرضاً كان أوتطوعاً، إما على سبيل الشرطية أو الركنية، علماً بأن الشرط: ما كان خارج ماهية أو حقيقة الشيء، والركن عند الحنفية: ما كان جزءاً من الماهية. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (3) وقوله أيضاً: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» (4) وعن
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 212/4) .
(2) رواه الشيخان (المصدر السابق) .
(3) رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه.
(4) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن حفصة رضي الله عنها (نيل الأوطار: 195/4) .(3/50)
عائشة مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» (1) ولأن الصوم عبادة محضة، فافتقر إلى النية كالصلاة.
واعتبرها الحنفية والحنابلة وكذا المالكية على الراجح، شرطاً (2) ؛ لأن صوم رمضان وغيره عبادة، والعبادة: اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصاً لله تعالى بأمره، والاختيار والإخلاص لا يتحققان بدون النية، فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، تمييزاً للعبادات عن العادات.
وهي عند الشافعية (3) ركن كالإمساك عن المفطرات.
ومحل النية: القلب، ولا تكفي باللسان قطعاً، ولا يشترط التلفظ بها قطعاً (4) . لكن يسن عند الجمهور (غير المالكية) التلفظ بها، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بها.
شروط النية: يشترط في النية ما يأتي:
1 - تبييت النية: أي إيقاعها ليلاً، وهو شرط متفق عليه (5) ، للحديث السابق: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة.
لكن تساهل بعض الفقهاء أحياناً في تحديد وقت النية لبعض أنواع الصيام.
__________
(1) رواه الدارقطني، وقال: إسناده كلهم ثقات، وفي لفظ «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» .
(2) البدائع:83/2، كشاف القناع: 366/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 520/1.
(3) مغني المحتاج: 423/1.
(4) مغني المحتاج، المكان السابق.
(5) البدائع: 85/2، الشرح الكبير: 520/1، الشرح الصغير: 695/1، مغني المحتاج: 423/1، كشاف القناع: 366/2، المغني: 91/3.(3/51)
فقال الحنفية (1) : الأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك، أو من الليل؛ لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة، ومن الليل تقارنه تقديراً.
وإن نوى بعد طلوع الفجر: فإن كان الصوم ديناً، لا يجوز بالإجماع، وإن كان عيناً وهو صوم رمضان، وصوم التطوع خارج رمضان، والمنذور المعين، يجوز.
فالصوم نوعان:
أـ نوع يشترط له تبييت النية وتعيينها: وهو ما يثبت في الذمة: وهو قضاء رمضان، وقضاء ما أفسده من نفل، وصوم الكفارات بأنواعها ككفارة اليمين وصوم التمتع والقران، والنذر المطلق، كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي صوم يوم مثلاً، فحصل الشفاء. فلا يجوز صوم ذلك إلا بنية من الليل.
ب ـ ونوع لا يشترط في تبييت النية وتعيينها: وهو ما يتعلق بزمان بعينه، كصوم رمضان، والنذر المعين زمانه، والنفل كله مستحبه ومكروهه، يصح بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار على الأصح، ونصف النهار: من طلوع الفجر إلى وقت الضحوة الكبرى.
وقال المالكية (2) : يشترط لصحة النية إيقاعها في الليل من الغروب إلى آخر جزء منه، أو إيقاعها مع طلوع الفجر، ولايضر في الحالة الأولى ماحدث بعد النية من أكل أو شرب أو جماع، أو نوم، بخلاف الإغماء والجنون، فيبطلانها إن استمرا للفجر، وإلا فلا. فلو نوى نهاراً قبل الغروب لليوم المستقبل، أو قبل الزوال لليوم الذي هو فيه، لم تنعقد ولو نفلاً.
__________
(1) البدائع: 85/2، فتح القدير: 43/2-50،62، مراقي الفلاح: ص106 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 163/1.
(2) الشرح الصغير: 695/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 520/1، القوانين الفقهية: ص115،117، بداية المجتهد:284/1.(3/52)
وقال الشافعية (1) : يشترط لفرض الصوم من رمضان، أو غيره كقضاء أو نذر تبييت النية ليلاً، والصحيح أنه لا يشترط النصف الآخر من الليل، وأنه لا يضر الأكل والجماع بعدها، وأنه لا يجب تجديد النية إذا نام ثم تنبه.
ويصح صوم النفل بنية قبل الزوال؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة يوماً: «هل عندكم من غداء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم، قالت: وقال لي يوماً آخر: أعندكم شيء؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر، وإن كنت فرضت الصوم» (2) واختص بما قبل الزوال للخبر، إذ الغداء: اسم لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء: اسم لما يؤكل بعده، ولأنه مضبوط بيِّن، ولإدراك معظم النهار به. وبدهي أنه يشترط لصحة الصوم الامتناع عن المفطرات من أول النهار.
وقال الحنابلة (3) كالشافعية: الصوم الواجب أو الفرض لا يصح إلا بنية من الليل، للحديث المتقدم: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» ، وأما صوم التطوع فيصح بنية قبل النهار، وبعده خلافاً للشافعية، إذا لم يكن طعم بعد الفجر، لحديث عائشة المتقدم، قالت: «دخل علي النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم» (4) ويدل عليه أيضاً حديث عاشوراء: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر» (6) ، ولأن الصلاة خفف نفلهاعن فرضها، بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها، وتجوز الصلاة في السفر على الراحلة إلى غير القبلة، فكذا الصيام، ولما فيه من تكثيره لكونه يَعنّ له، فعفي عنه. وهذا قول أبي الدرداء وأبي طلحةومعاذ وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والنخعي وأصحاب الرأي.
ويبدو لي أنه الرأي الأرجح، وحديث عائشة مخصص لحديث «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» بل الحديث الأول أصح من الثاني، كما قال ابن قدامة.
2 - تعيين النية في الفرض: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. قال الحنفية (6)
__________
(1) مغني المحتاج:423/1 ومابعدها.
(2) رواه الدارقطني وصحح إسناده.
(3) المغني:91/3،96، كشاف القناع: 366/2-369.
(4) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
(5) متفق عليه عن معاوية.
(6) المراجع السابقة، فتح القدير: 50/2.(3/53)
كما تقدم في الشرط السابق: لا يشترط تعيين النية في الصوم، المتعلق بزمان معين كصوم رمضان ونذر معين زمانه ونفل مطلق، لأن الزمن المخصص له وهو شهر رمضان ونحوه من نذر يوم محدد بذاته وقت مضيق أو معيار، لا يسع إلاصوم رمضان.
ويصح أداء رمضان بنية واجب آخر لمن كان صحيحاً مقيماً، أما المسافر فإنه يقع عما نواه من الواجب. وأما المريض: فكذلك يقع عما نواه عند أبي حنيفة إذا نوى واجباً آخر؛ لأنه شغل الوقت بالأهم لتحتمه للحال، وتخيره في صوم رمضان إلى إدراك العدة. ورجح هذا الرأي صاحب «الهداية» وأكثر مشايخ بخارى، لعجزه المقدور. ولا فرق بين المسافر والمقيم والصحيح والسقيم عند أبي يوسف ومحمد في وقوع صومه عن رمضان إذا نوى عن واجب آخر؛ لأن الرخصة إنما ثبتت حتى لاتلزم المعذور مشقة، فإذا تحملها التحق بغير المعذور.
وقال الجمهور (1) : يجب تعيين النية في الصوم الواجب: وهو أن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان، أو من قضائه، أو من كفارته، أو نذره. فلا يجزئ نية الصوم المطلق؛ لأن الصوم (2) عبادة مضافة إلى وقت، فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس، والقضاء.
وإن نوى في رمضان صيام غيره، لم يجزه عن واحد منهما.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 117، الدسوقي على الشرح الكبير: 520/1، بداية المجتهد: 283/1، مغني المحتاج: 242/1-624، المغني:94/3 ومابعدها، كشاف القناع:367/2 ومابعدها.
(2) ومثله طواف الزيارة، فإنه يحتاج إلى التعيين، فلو طاف ينوي به الوداع، أو طاف بنية الطواف مطلقاً، لم يجزئه عن طواف الزيارة.(3/54)
3 - الجزم بالنية: هذا شرط أيضاً عند الجمهور، وليس بشرط عند الحنفية. أما الحنفية (1) : فيرون أنه لا يشترط في الصوم المقيد بزمن معين أن تكون النية جازمة، فإن نوى الصوم ليلة الثلاثين من شعبان، على أنه إن ظهر كونه من رمضان، أجزأ عن رمضان ماصامه بأي نية كانت، إلا أن يكون مسافراً أو نواه عن واجب آخر، فيقع عما نواه عنه.
ويكره تحريماً عندهم كما أبنت، في يوم الشك كل صوم من فرض وواجب، وصوم تردد فيه بين نفل وواجب، إلا صوم نفل جزم به، بلا ترديد بينه وبين صوم آخر، فإنه لا يكره.
ورأى الجمهور (2) أنه لا بد أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الشك إن كان غداً من رمضان، فأنا صائم فرضاً، وإلا فهو نفل، أو واجب آخر عينه بنيته، كأن ينويه عن نذر أو كفارة، لم يجزئه عن واحد منهما، لعدم جزمه بالنية لأحدهما، إذ لم يعين الصوم من رمضان جزماً.
ومن قال: أنا صائم غداً إن شاء الله، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد، فسدت نيته لعدم الجزم بها، وإن لم يقصد ذلك بل نوى التبرك أو لم ينو شيئاً، لم تفسد نيته، إذ قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره. كما لايفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذا سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص107.
(2) المراجع السابقة.(3/55)
لكن لا يضر التردد بعد حصول الظن باستصحاب كآخر رمضان، أو حصول الظن بشهادة أو باجتهاد كالأسير، فلو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان، أجزأه وصح صومه إن كان منه، لأن الأصل بقاء رمضان، وصومه مبني على أصل لم يثبت زواله، ولا يؤثر تردده لأنه حكم صومه مع الجزم، بخلاف ما إذا نواه ليلة الثلاثين من شعبان؛ لأنه لا أصل معه يبنى عليه.
ومن نوى الصوم غداً معتقداً كونه من رمضان بشهادة موثوقة، صح صومه.
ولو اشتبه رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه، صام شهراً بالاجتهاد، كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت، وذلك بأمارة كالربيع والخريف والحر والبرد، فلو صام بلا اجتهاد، فوافق رمضان، لم يجزئه لتردده في النية. فلو اجتهد وتحير، فلم يظهر له شيء، فيرى النووي في المجموع أنه لا يلزمه أن يصوم.
أما نية الفرضية: فليست بشرط باتفاق المذاهب، وهو المعتمد عند الشافعية (1) بخلاف المقرر في الصلاة؛ لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضاً، بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل.
وكذلك لا يشترط بالاتفاق تعيين السنة، ولا الأداء، ولا الإضافة إلى الله تعالى، وهو الصحيح عند الشافعية؛ لأن المقصود متحقق بنية الصوم، والتعيين بجزئ عن ذلك.
__________
(1) مغني المحتاج:425/1، كشاف القناع: 367/2.(3/56)
4 - تعدد النية بتعدد الأيام: هذا شرط عند الجمهور، وليس بشرط عند المالكية (1) ، فيشترط عند الجمهور النية لكل يوم من رمضان على حدة؛ لأن صوم كل يوم عبادة على حدة، غير متعلقة باليوم الآخر، بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر، فيشترط لكل يوم منه نية على حدة.
وقال المالكية: تجزئ نية واحدة لرمضان في أوله، فيجوز صوم جميع الشهر بنية واحدة، وكذلك في صيام متتابع مثل كفارة رمضان وكفارة قتل أو ظهار ما لم يقطعه بسفر أو مرض أو نحوهما، أو لم يكن على حالة يجوز له الفطر كحيض ونفاس وجنون، فيلزمه استئناف النية، أي تجديدها فلا تكفي النية الواحدة، وإن لم يجب استئناف الصوم، فالصوم السابق صحيح لا ينقطع تتابعه، ولكن تجدد النية، وتندب النية كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة. ودليلهم أن الواجب صوم الشهر، لقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة:185/2] ، والشهر: اسم لزمان واحد، فكان الصوم من أوله إلى آخره عبادة واحدة، كالصلاة والحج، فيتأدى بنية واحدة.
صفة النية وأثرها:
قال الحنفية (2) : يصح صوم رمضان ونحوه كالنذر المعين زمانه بمطلق النية، وبنية النفل، وبنية واجب آخر، كما أبنت، ولا يجب تبييت نية صوم رمضان.
__________
(1) البدائع:85/2، الشرح الصغير:697/1، بداية المجتهد: 282/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 117، مغني المحتاج: 424/1، المغني:93/3.
(2) مراقي الفلاح: ص 106 ومابعدها.(3/57)
وقال المالكية (1) : صفة النية: أن تكون معينة مبيتة جازمة.
وقال الشافعية (2) : كمال النية في رمضان: أن ينوي صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. والمعتمد أنه لا يجب في التعيين نية الفرضية.
وقال الحنابلة (3) : من خطر باله أنه صائم غداً، فقد نوى، ويجب تعيين النية بأن يعتقد أنه يصوم غداً من رمضان أو من قضائه أو من نذره أو كفارته، ولا يجب مع التعيين نية الفريضة.
واتفق غير الحنفية على وجوب تبييت النية، كما اتفق غير الشافعية على أن الأكل والشرب بنية الصوم أو التسحر نية، إلا أن ينوي معه عدم الصيام. ولا يقوم مقام النية عند الشافعية التسحر في جميع أنواع الطعام، إلا إذا خطر له الصوم عند التسحر ونواه، كأن يتسحر بنية الصوم، أو امتنع من الأكل عند الفجر خوف الإفطار.
وأثر النية: هو تحقيق الثواب، فيحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة، فلا يقع عبادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ، فيصح تطوع حائض أو نفساء طهرت في يوم بصوم بقيته، وتطوع كافر أسلم في يوم بصوم بقية اليوم، ولم يكن كل من الحائض والكافر قد أكلا من طلوع الفجر (4) .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص117، بداية المجتهد: 283/1.
(2) مغني المحتاج: 425/1.
(3) كشاف القناع: 367/2.
(4) كشاف القناع: 370/2.(3/58)
خلاصة آراء المذاهب في شروط الصوم:
الحنفية (1) : شروط الصوم عندهم ثلاثة أنواع: شروط وجوب، وشروط وجوب الأداء، وشروط صحة الأداء.
أما شروط الوجوب، فهي أربعة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب، أو الكون بدار الإسلام، ومن جن رمضان كله لم يقضه، وإن أفاق المجنون في بعضه قضى ما مضى، أما من أغمي عليه في رمضان كله قضاه، ومن أغمي عليه في أثناء يوم في رمضان لم يقضه لوجود الصوم فيه وهو الإمساك المقرون بالنية، وقضى ما بعده.
وأما شروط وجوب الأداء، فهي اثنان: الصحة من مرض وحيض ونفاس، فلا يجب الأداء على المريض، والإقامة، فلا يجب الأداء على مسافر، ولكن يجب عليهما القضاء.
وأما شروط صحة الأداء، فهي ثلاثة: النية فلا يصح أداء الصوم إلا بالنية، والخلو عن ما نع الحيض والنفاس، فلا يصح أداء الصوم منهما، وعليهما القضاء، والخلو عما يفسد الصوم بطروء مفسد عليه.
المالكية (2) : شروط الصوم أنواع ثلاثة: شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة معاً، ومجموعها سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والطهارة من دم الحيض والنفاس، والصحة، والإقامة، والنية.
ويلاحظ أن النية شرط على الراجح كما في حاشية الدسوقي، واعتبرها الدردير في الشرح الصغير ركناً، وما قد يذكر من أن النية ركن فهو تسامح. أما شروط الوجوب فهي ثلاثة: البلوغ، والصحة، والإقامة، فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقاً، ولكن يجوز صيامه، ولا يندب، ولا يجب على الولي أمره به، ولا يجب على المريض أوالعاجز ومنه المكره، ولا على المسافر ويجب عليهما القضاء.
وأما شروط الصحة: فهي اثنان: الإسلام، فلا يصح من الكافر، وإن كان واجباً عليه، ويعاقب على تركه زيادة على عقاب الكفر، والزمان القابل للصوم، فلا يصح في يوم العيد.
وأما شروط الوجوب والصحة معاً فهي ثلاثة:
الأول ـ الطهارة من دم الحيض والنفاس: فلا يجب عليهما، ولا يصح منهما، وعليهما القضاء بعد زوال المانع. ويجب عليهما المباشرة في الأداء بمجرد الطهارة.
والثاني ـ العقل: لأن من زال عقله غير مخاطب بالصوم في حال العقل، فلا يجب على المجنون والمغمى عليه، ولا يصح منهما. أما القضاء فيجب على المجنون مطلقاً في المشهور إذا أفاق من جنونه، وعلى المغمى عليه إن استمر إغماؤه يوماً فأكثر، أو أغمي عليه معظم اليوم، ولا يجب عليه إن أغمي عليه يسيراً بعد الفجر بأن دام نصف اليوم فأقل. والسكران كالمغمى عليه في وجوب القضاء، إلا أنه يلزمه الإمساك بقية يومه.
وأما النائم: فلا يجب عليه قضاء ما فاته مطلقاً، متى بيت النية أول الشهر.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص105، فتح القدير: 87/2-90، البدائْع: 87/2-89.
(2) القوانين الفقهية: ص 113 ومابعدها، بداية المجتهد: 282/1 ومابعدها، شرح الرسالة: 301/1، الشرح الصغير: 681/1 ومابعدها، 695، 701، الشرح الكبير: 520/1،(3/59)
والثالث ـ النية: فهي شرط صحة الصوم على الراجح الأظهر؛ لأن النية القصد إلى الشيء، ومعلوم أن القصد للشيء خارج عن ماهية الشيء، وتكفي نية واحدة لكل صوم يجب تتابعه كرمضان وكفارته وكفارة قتل أو ظهار إذا لم ينقطع تتابعه بنحو مرض أو سفر، وندبت كل ليلة فيما تكفي فيه النية الواحدة.
والخلاصة: أن الصوم يسقط وجوبه عن اثني عشر: الصبي، والمجنون، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، والمسافر، والصحيح الضعيف البنية العاجز عن القيام به، والمتعطش، والمريض، والحامل، والمرضع، والشيخ الكبير.
الشافعية (1) : شروط الصوم لديهم نوعان: شروط وجوب وشروط صحة. أما شروط الوجوب فأربعة هي ما يأتي:
1ً - الإسلام: فلا يجب على الكافر الأصلي وجوب مطالبة في الدنيا كالصلاة، وإنما يعاقب في الآخرة على تركه، ويجب على المرتد وجوب مطالبة أي قضاء مافاته بعد إسلامه.
2ً - البلوغ: فلا يجب على الصبي لا أداء ولا قضاء، ويؤمر به لسبع، ويضرب على تركه لعشر.
3ً - العقل: فلا يجب على المجنون لا أداء ولاقضاء إلا إذا زال عقله بتعديه، فيلزمه قضاؤه. ومثله السكران المتعدي بسكره يلزمه القضاء، أما غير المتعدي بسكره، كما في حالة الغلط، فلا يطالب بقضاء زمن السكر.
4ً - الإطاقة: فلا يجب على العاجز بنحو هرم أو مرض لا يرجى برؤه، ولا على حائض لعجزها شرعاً. وضابط المرض: هو ما يبيح التيمم وهو ما يصعب معه الصوم أو يناله به ضرر شديد.
وأما شروط الصحة فأربعة أيضاً، هي ما يأتي:
1ً - الإسلام حال الصيام: فلا يصح من كافر أصلي أو مرتد.
__________
(1) مغني المحتاج: 427/1، 432 ومابعدها، 436 ومابعدها، الحضرمية: ص110-113.(3/60)
2ً - التمييز: أو العقل في جميع النهار: فلا يصح صوم الطفل غير المميز، والمجنون، لفقدان النية، ويصح من صبي مميز. ولا يصح من سكران أو مغمى عليه، لكن لا يضر في الأظهر السكر والإغماء إن أفاق لحظة في النهار. وكذلك لا يضر النوم المستغرق لجميع النهار على الصحيح، لبقاء أهلية الخطاب.
3ً - النقاء عن الحيض والنفاس في جميع النهار: فلا يصح صوم الحائض والنفساء بالإجماع، ولو طرأ في أثناء النهار حيض أونفاس أو ردة أو جنون، بطل الصوم.
4ً - كون الوقت قابلاً للصوم: فلا يصح صوم العيدين، ولا أيام التشريق، وكذلك لا يصح صوم يوم الشك، ولا النصف الأخير من شعبان إلا لورد بأن اعتاد صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم معين كالاثنين، فصادف ما بعد النصف أو يوم الشك، وإلا إذا صام فيهما لنذر أو قضاء أو كفارة أو وصل ما بعد النصف بما قبله.
وأما النية: فهي ركن، وتشترط لكل يوم، ويجب التبييت في الفرض دون النفل، فتجزئه نيته قبل الزوال، ويجب التعيين أيضاً، ولا تجب نية الفرضية في الفرض.
وكذلك الإمساك عن الجماع عمداً وعن الاستمتاع وعن الاستقاءة وعن دخول عين جوفاً ركن أيضاً، كما سأبين في مبطلات الصوم.
الحنابلة (1) : شروط الصوم عندهم نوعان: شروط وجوب، وشروط صحة. أما شروط الوجوب فهي أربعة:
1 - الإسلام: فلا يجب الصوم على كافر ولو مرتداً، لأنه عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة، ولا يصح منه أيضاً، فلو ارتد في يوم وهو صائم فيه، بطل صومه، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/39] فإن عاد إلى الإسلام قضى ذلك اليوم.
2 - البلوغ: فلا يجب الصوم على صبي ولو كان مراهقاً، لحديث «رفع القلم عن ثلاث» . ويجب على ولي المميز أمره به إذا أطاقه، وضربه عليه إذا تركه، ليعتاده كالصلاة.
__________
(1) كشاف القناع: 359/2-367، غاية المنتهى: 322/1-326(3/61)
3 - العقل: فلا يجب الصوم على مجنون، للحديث السابق «رفع القلم عن ثلاث» ولا يصح منه، لعدم إمكان النية منه. ولا يجب على الصبي غير المميز، ويصح من المميز كالصلاة. ومن جن في أثناء اليوم، لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصلاة. أما إذا جن يوماً كاملاً فأكثر، فلا يجب عليه قضاؤه، بخلاف المغمى عليه، فإنه يجب عليه القضاء، ولو طال زمن الإغماء، لأنه مرض غير رافع للتكليف، ويصح الصوم ممن جن أو أغمي عليه إذا أفاق جزءاً من النهار، حيث نوى ليلاً، وكذا يصح ممن نام كل النهار، فمن نام جميع النهار، صح صومه، لأنه معتاد ولا يزيل الإحساس بالكلية، ويجب القضاء على السكران، سواء أكان متعدياً بسكره أم لا.
4 - القدرة على الصوم: فلا يجب على العاجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لأنه عاجز عنه، فلا يكلف به، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/2] . وأما المرض الذي يرجى برؤه فيوجب أداء الصوم إذا برأ منه، وقضاء ما فاته من رمضان.
وأما شروط الصحة فهي أربعة أيضاً: 1 - النية: أي النية المعينة لما يصومه من الليل لكل يوم واجب، ولا تسقط بسهو أوغيره، ولا يضر لو أتى بعدها ليلاً بأكل أو شرب أو جماع ونحوه، ولا تجب نية الفرضية في الفرض، ولا الوجوب في الواجب، لأن التعيين يجزئ عن ذلك، وتصح النية نهاراً في النفل ولو بعد الزوال إذا كان ممسكاً عن المفطر من طلوع الفجر.
2 - الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض والنفساء ويحرم فعله، ويجب عليهما الأداء بمجرد انقطاع الدم ليلاً، والقضاء لما فاتهما.
3 - الإسلام: فلا يصح من الكافر ولو كان مرتداً.
4 - العقل أي التمييز: فلا يصح من غير المميز وهو الذي لم يبلغ سبع سنين.(3/62)
المبحث الخامس ـ سنن الصوم وآدابه ومكروهاته:
فيه مطلبان:
المطلب الأول ـ سنن الصوم وآدابه:
يستحب للصائم ما يأتي (1) :....
1ً - السحور على شيء وإن قل ولو جرعة ماء، وتأخيره لآخر الليل، أما السحور: فللتقوي به على الصوم، كما دل عليه خبر الصحيحين: «تسحروا فإن في السَّحور بركة» وخبر الحاكم في صحيحه: «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل» وخبر أحمد رحمه الله: «السحور بركة، فلا تدَعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» (2) . وأما تأخير السحور ما لم يقع في شك في الفجر، فلحديث الطبراني: «ثلاث من أخلاق المرسلين: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة» ولخبر الإمام أحمد: «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور» (3) وحديث: «دع ما يريبك إلى ما لايريبك» .
2ً - تعجيل الفطرعند تيقن الغروب وقبل الصلاة، ويندب أن يكون على رطب، فتمر، فحلو، فماء، وأن يكون وتراً ثلاثة فأكثر لحديث: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (4) ، والفطر قبل الصلاة أفضل، لفعله صلّى الله عليه وسلم (5) . وكونه وتراً، لخبر أنس: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفطر على رُطَبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتَمَرات، فإن لم تكن تمرات، حَسَا حَسَوات من ماء» (6) ، ويمكن التعجيل في غير يوم غيم، وفي حالة الغيم ينبغي تيقن الغروب والاحتياط حفظاً للصوم عن الإفساد، ورأى الشافعية أنه يحرم الوصال في الصوم: وهو صوم يومين فأكثر من غير أن يتناول بينهما في الليل مفطراً، للنهي عنه في الصحيحين، وعلة ذلك: الضعف، مع كون الوصال من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم.
3ً - الدعاء عقب الفطر بالمأثور: بأن يقول: «اللهم إني لك صمت، وعلى
__________
(1) البدائع: 105/2-108، مراقي الفلاح: ص115، الدر المختار: 157/2، الشرح الكبير: 515/1، الشرح الصغير: 689/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص115، مغني المحتاج: 434/1-436، الحضرمية: ص113-115، كشاف القناع: 385/2-388، المغني: 103/3، 169-171،178.
(2) وفيه ضعف.
(3) رواه أحمد عن أبي ذر (نيل الأوطار: 221/4) .
(4) متفق عليه عن سهل بن سعد، وروى أحمد والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلُهم فطراً» (نيل الأوطار:217/4) .
(5) رواه مسلم من حديث عائشة، وابن عبد البر عن أنس.
(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وروى الخمسة إلا النسائي عن سلمان بن عامر: «إذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور» (نيل الأوطار: 220/4) .(3/63)
رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. يا واسع الفضل اغفر لي، الحمد لله الذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» .
وسنية الدعاء؛ لأن للصائم دعوة لا ترد، لحديث: «للصائم عند فطره دعوة لاتُرد» (1) ، وصيغة الدعاء ثابتة هكذا في السنة (2) .
4ً - تفطير صائمين ولو على تمرة أو شربة ماء أوغيرهما، والأكمل أن يشبعهم، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من فطَّر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيء» (3) .
5ً - الاغتسال عن الجنابة والحيض والنفاس قبل الفجر، ليكون على طهر من أول الصوم، وليخرج من خلاف أبي هريرة حيث قال: لا يصح صومه، وخشيةمن وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه. وبناء عليه: يكره عند الشافعية للصائم دخول الحمام من غير حاجة، لجواز أن يضره، فيفطر، ولأنه من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم. فلو لم يغتسل مطلقاً صح صومه، وأثم من حيث الصلاة.
ولو طهرت الحائض أو النفساء ليلاً، ونوت الصوم وصامت، أو صام الجنب
__________
(1) رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) فقوله «اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت» رواه أبو داود مرسلاً، وروى أيضاً «ذهب الظمأ ... إلخ» وروى الدارقطني من حديث أنس وابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا، إنك أنت السميع العليم» وروى الدارقطني أيضاً عن ابن عمر «ذهب الظمأ ... » الحديث.
(3) رواه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن زيد بن خالد الجهني (الترغيب والترهيب: 144/2) .(3/64)
بلا غسل، صح الصوم، لقوله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187/2] ولخبر الصحيحين المتقدم: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع، غير احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وأما خبر البخاري: «من أصبح جنباً فلا صوم له» فحملوه على من أصبح مجامعاً واستدام الجماع.
6ً - كف اللسان والجوارح عن فضول الكلام والأفعال التي لا إثم فيها. وأما الكف عن الحرام كالغيبة والنميمة والكذب فيتأكد في رمضان، وهو واجب في كل زمان، وفعله حرام في أي وقت، وقال عليه السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (1) ، «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (2) فإن شتم، سن في رمضان قوله جهراً: إني صائم، لحديث الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم» أما في غير رمضان فيقوله سراً يزجر نفسه بذلك، خوف الرياء.
7ً - ترك الشهوات المباحة التي لا تبطل الصوم من التلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم ريحان ولمسه والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لايناسب حكمة الصوم، ويكره له ذلك كله، كدخول الحمام.
__________
(1) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 146/2) .
(2) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، وإسناده لا بأس به (المصدر السابق: ص 148) .(3/65)
8ً - يسن عند الشافعية: ترك الفصد والحجامة لنفسه ولغيره خروجاً من خلاف من فطَّر بذلك، ويسن بالاتفاق ترك مضغ البان (العلك غير المصحوب بسكر) وغيره لأنه يجمع الريق، ويؤدي للعطش، وترك ذوق الطعام أو غيره خوف وصول شيء إلى الحلق، وترك القبلة، وتحرم القبلة إن خشي فيها الإنزال.
أما كون الحجامة لا تفطر عند الشافعية فلأنه صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم (1) . وأما حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» (2) فهو منسوخ، وتفطر الحجامة عند الحنابلة.
9ً - التوسعة على العيال (الأسرة) والإحسان إلى الأرحام، والإكثار من الصدقة على الفقراء والمساكين، لخبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل» والحكمة في ذلك تفريغ قلوب الصائمين والقائمين للعبادة بدفع حاجاتهم.
10ً - الاشتغال بالعلم وتلاوة القرآن ومدارسته، والأذكار والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، كلما تيسر له ذلك ليلاً أو نهاراً. لخبر الصحيحين: «كان جبريل يلقى النبي صلّى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن» ومثله كل أعمال الخير؛ لأن الصدقة في رمضان تعدل فريضة فيما سواه، فتضاعف الحسنات به.
11ً - الاعتكاف لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، لأنه أقرب إلى صيانة النفس عن المنهيات، وإتيانها بالمأمورات، ولرجاء أن يصادف ليلة القدر إذ هي منحصرة فيه، وروى مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وقالت عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (3) أي اعتزل النساء.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه عن ابن عباس (نيل الأوطار: 202/4) .
(2) رواه أحمد والترمذي عن رافع بن خديج، ولأحمد وأبي داود وابن ماجه مثله من حديث ثوبان وشداد بن أوس (نيل الأوطار:200/4) .
(3) متفق عليه (نيل الأوطار: 270/4) ورواه أيضاً عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي شيبة عن أبي بكر ابن عياش.(3/66)
والسنة في ليلة القدر كما أبنت أن يقول: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» ويكتمها ويحييها ويحيي يومها كليلتها.
هذه هي سنن الصوم، أفاض في بيانها الشافعية والحنابلة وغيرهم، واقتصر الحنفية على القول باستحباب ثلاثة أمور: السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر في غير يوم غيم.
وقال المالكية: سننه السحور وتعجيل الفطر، وتأخير السحور، وحفظ اللسان والجوارح، والاعتكاف في آخر رمضان.
وفضائله: عمارته بالعبادة، والإكثار من الصدقة، والفطر على حلال دون شبهة، وابتداء الفطر على التمر أو الماء، وقيام لياليه وخصوصاً ليلة القدر.
المطلب الثاني ـ مكروهات الصيام:
يكره في الصوم ما يأتي:
1ً - صوم الوصال: وهو ألا يفطر بين اليومين بأكل وشرب، وهو مكروه عند أكثر العلماء (1) ، ومحرم عند الشافعية، كما تقدم، إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم فمباح له، لحديث ابن عمر: «واصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان، فواصل الناس، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كأحدكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» (2) وهذا يقتضي اختصاصه بذلك، ومنع إلحاق غيره به. ولا يحرم عند الجمهور؛ لأن النهي وقع رفقاً ورحمة، ولهذا واصل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم، وواصلوا بعده. ويحرم عند الشافعية للنهي عنه، كما سبق.
2ً - القبلة، ومقدمات الجماع ولو فكراً أو نظراً، لأنه ربما أداه للفطر بالمني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك وإلا حرم.
__________
(1) المغني: 171/3، كشاف القناع:399/2.
(2) متفق عليه، وروي مثله أيضاً حديثان آخران متفق عليهما عن أبي هريرة وعائشة، وروى البخاري وأبو داود عن أبي سعيد (نيل الأوطار: 219/4) .(3/67)
3ً - الترفه بالمباحات كالتطيب نهاراً وشم الطيب والحمام.
4ً - ذوق الطعام والعلك، خوفاً من وصول شيء إلى الجوف بالذوق، ولأن العلك يجمع الريق، فإن ابتلعه أفطر في رأي، وإن ألقاه عطشه.
خلاصة المكروهات في المذاهب:
قال الحنفية (1) : يكره للصائم سبعة أمور:
1ً - ذوق شيء ومضغه بلا عذر، لما فيه من تعريض الصوم للفساد.
2ً - مضغ العلك غير المصحوب بسكر (2) ؛ لأنه يتهم بالإفطار بمضغه، سواء المرأة والرجل.
3ً و 4ً - القبلة، والمس والمعانقة والمباشرة الفاحشة، إن لم يأمن فيها على نفسه الإنزال أو الجماع، في ظاهر الرواية، لما في ذلك من تعريض الصوم للفساد بعاقبة الفعل. ويكره التقبيل الفاحش بمضغ شفتها. وإن أمن المفسد لا بأس.
5ً - 6ً - جمع الريق في الفم قصداً، ثم ابتلاعه، تحاشياً له عن الشبهة.
7ً - ما ظن أنه يضعفه كالفصد والحجامة.
ولا يكره للصائم تسعة أمور:
1، 2 - القبلة والمباشرة مع الأمن من الإنزال والوقاع، لما روت عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل ويباشر، وهو صائم (3) .
3، 4 - دهن الشارب بالطيب، والكحل.
5، 6- الحجامة والفصد إذا لم يضعفه كل منهما عن الصوم.
7 - السواك آخر النهار، بل هو سنة في أول النهار وآخره، ولو كان رطباً أو مبلولاً بالماء.
8 - المضمضة والاستنشاق لغير وضوء.
9 - الاغتسال والالتفاف بثوب مبتل للتبرد، على المفتى به.
__________
(1) الدر المختار: 153/2-155، مراقي الفلاح: ص114 ومابعدها.
(2) وهو المصطكى، وقيل: اللبان.
(3) رواه الشيخان.(3/68)
وقال المالكية (1) : يكره للصائم ما يأتي:
1 - إدخال الفم كل رطب له طعم وإن مجه، وذوق شيء له طعم كملح وعسل وخل، لينظر حاله، ولو لصانعه، مخافة أن يسبق لحلقه شيء منه.
2 - مضغ عِلْك كلبان وتمرة لطفل، فإن سبقه شيء منهما لحلقه فيجب القضاء.
3 - الدخول على المرأة والنظر إليها، ومقدمة جماع ولو فكراً أو نظراً؛ لأنه ربما أداه للفطر بالمذي أو المني، وهذا إن علمت السلامة من ذلك، وإلا حرم.
4 - تطيب نهاراً وشم الطيب نهاراً.
5 - الوصال في الصوم.
6 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق.
7 - مداواة نخر الأسنان نهاراً إلا لخوف ضرر في تأخيره لليل بحدوث مرض أو زيادته أو شدة تألم. فإن ابتلع من الدواء شيئاً قهراً، قضى اليوم.
8 - الإكثار من النوم بالنهار.
9 - فضول القول والعمل.
10 - الحجامة.
وقال الشافعية (2) :
تكره الحجامة والفصد، والقبلة وتحرم إن خشي فيها الإنزال، ويكره ذوق الطعام، والعلك، ودخول الحمام، والتلذذ بمسموع ومبصر وملموس ومشموم كشم الريحان ولمسه، والنظر إليه، لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم. والأصح أن كراهة القبلة إن حركت شهوته تحريمية.
ويكره أيضاً السواك بعد الزوال إلى الغروب، للخبر الصحيح المتقدم: «لخُلوف فم الصائم يوم القيامة أفضل عند الله من ريح المسك» أي التغير، واختص بما بعد الزوال؛ لأن التغير ينشأ غالباً قبله من أثر الطعام وبعده من أثر العبادة. ومعنى أطيبيته عند الله تعالى: ثناؤه تعالى عليه، ورضاه به. وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق، مخافة وصول شيء إلى الحلق.
وقال الحنابلة (3) : يكره للصائم ما يأتي:
__________
(1) الشرح الصغير: 692/1-695، الشرح الكبير: 517/1 وما بعدها، القوانين الفقهية: ص 115، 119.
(2) مغني المحتاج: 431/1، 436.
(3) كشاف القناع: 383/2-386، المغني: 106/3-110، غاية المنتهى: 331/1.(3/69)
1 - أن يجمع ريقه ويبتلعه، لأنه قد اختلف في الفطر به، فإن فعله قصداً لم يفطر، لأنه يصل إلى جوفه من معدنه. وإن أخرجه لما بين شفتيه أو انفصل عن فمه، ثم ابتلعه، أفطر؛ لأنه فارق معدنه، مع إمكان التحرز منه في العادة. ولا بأس بابتلاع الصائم ريقه بحسب المعتاد، بغير خلاف؛ لأنه لا يمكن التحرز منه
كغبار الطريق. ويحرم على الصائم بلع نخامة، ويفطر بها إذا بلعها، سواء أكانت من جوفه أم صدره أم دماغه، بعد أن تصل إلى فمه، لأنها من غير الفم كالقيء.
2 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق، لقوله صلّى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماًَ» وقد تقدم في الوضوء. ولا يفطر بالمضمضة والاستنشاق المعتادين بلا خلاف، سواء كان في الطهارة أوغيرها.
3 - ذوق طعام بلا حاجة؛ لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه، فيفطره، فإن وجد طعم المذوق في حلقه، أفطر لإطلاق الكراهة.
4 - مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء؛ لأنه يجمع الريق، ويجلو الفم، ويورث العطش، فإن وجد طعمه في حلقه أفطر، لوصول شيء أجنبي يمكن التحرز منه. ويحرم مضغ ما يتحلل منه أجزاء من علك وغيره، ولو لم يبتلع ريقه إقامة للمظِنة مقام المئِنة.
5 - القبلة لمن تحرك شهوته فقط، لقول عائشة السابق: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يُقبِّل، وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (1) «ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عنها شاباً ورخص لشيخ» (2) .
وإن ظن الإنزال مع القبلة لفرط شهوته، حرم بغير خلاف. ولا تكره القبلة، ولا مقدمات الوطء كلها من اللمس وتكرار النظر ممن لا تحرك شهوته.
6 - ترك الصائم بقية طعام بين أسنانه، خشية أن يجري ريقه بشيء منه إلى جوفه.
__________
(1) متفق عليه. والإرب: الشهوة والحاجة.
(2) حديث حسن رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد عن أبي هريرة وأبي الدرداء، وكذا عن ابن عباس بإسناد صحيح.(3/70)
7 - شم ما لا يأمن أن تجذبه أنفاسه إلى حلقه، كسحيق مسك، وكافور ودهن وبخور وعنبر ونحوها.
ولا بأس أن يغتسل الصائم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة ثم يصوم (1) ، ولا بأس بالسواك للصائم، قال عامر بن ربيعة: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم (2) .
المبحث السادس - الأعذار المبيحة للفطر:
يباح الفطرلأعذار أهمها سبع أو تسع هي ما يأتي (3) ، وقد نظمها بعضهم بقوله:
وعوارض الصوم التي قد يغتفر للمرء فيها الفطر تسع تستطر
حبل وإرضاع وإكراه سفر مرض جهاد جَوْعةعطش كبر
1 - السفر: لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/2] والسفر في عرف اللغة: عبارة عن خروج يُتكلف فيه مؤنة، ويفصل فيه بُعْد في المسافة. ولم يرد فيه من الشارع نص، لكن ورد فيه تنبيه، وهو قوله عليه السلام في الصحيح: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر مسيرة يوم وليلة إلا معها ذو مَحْرم منها» .
__________
(1) متفق عليه عن عائشة وأم سلمة.
(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) الدر المختار:158/2-168، مراقي الفلاح: ص115-117، البدائع: 94/2-97، الشرح الكبير: 534/1، القوانين الفقهية: ص120-122، الشرح الصغير: 689/1-691، بداية المجتهد: 285/1-288، مغني المحتاج: 437-440، المهذب:178/1 ومابعدها، غاية المنتهى: 333/1، المغني: 99/3 ومابعدها، كشاف القناع: 361/2-365.(3/71)
أـ والسفر المبيح للفطر: هو السفر الطويل الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية وذلك لمسافة تقدر بحوالي 89 كم، وبشرط عند الجمهور: أن ينشئ السفر قبل طلوع الفجر ويصل إلى مكان يبدأ فيه جواز القصر وهو بحيث يترك البيوت وراء ظهره، إذ لا يباح له الفطر بالشروع في السفر بعد ما أصبح صائماً، تغليباً لحكم الحضر على السفر إذا اجتمعا. فإذا شرع بالسفر بأن جاوز عمران بلدة قبل طلوع الفجر، جاز له الإفطار، وعليه القضاء. وإن شرع في الصوم، ثم تعرض لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، أفطر وقضى، لحديث جابر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كُرَاع الغميم (1) ، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا، فقال: أولئك العصاة» (2) قال الشوكاني: فيه دليل على أنه يجوز للمسافر أن يفطر بعد أن نوى الصيام من الليل، وهو قول الجمهور.
وأجاز الحنابلة للمسافر الإفطار ولو سافر من بلده في أثناء النهار ولو بعد الزوال، لأن السفر معنى لو وجد ليلاً واستمر في النهار، لأباح الفطر، فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض، وعملاً بما رواه أبو داود عن أبي بصرة الغفاري الذي أفطر بعد شروعه في السفر، وقال: إنها سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) كراع الغميم: اسم واد أمام عسفان، وهو من أراضي أعالي المدينة.
(2) رواه مسلم والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 266/4) .(3/72)
واشترط الشافعية شرطاً ثالثاً: وهو ألا يكون الشخص مديماً للسفر، فإن كان مديماً له كسائقي السيارات، حرم عليه الفطر، إلا إذا لحقه بالصوم مشقة، كالمشقة التي تبيح التيمم: وهي الخوف على نفس أو منفعة عضو من التلف، أو الخوف من طول مدة المرض، أو حدوث شين قبيح في عضو ظاهر: وهو ما لا يعد كشفه هتكاً للمروءة، بأن يبدو في المهنة غالباً.
وهناك شرطان آخران عند الجمهور غير الحنفية: أن يكون السفر مباحاً، وألا ينوي إقامة أربعة أيام في خلال سفره، وأضاف المالكية شرطاً آخر: هو أن يبيِّت الفطر قبل الفجر في السفر، فإن السفر لا يبيح قصراً ولا فطراً إلا بالنية والفعل، كما سيأتي في الفقرة التالية. وأجاز الحنفية الفطر في السفر ولو بمعصية.
والخلاصة: أن المالكية يبيحون الفطر بسبب السفر بأربعة شروط: أن يكون السفر سفر قصر، وأن يكون مباحاً، وأن يشرع قبل الفجر إذا كان أول يوم، وأن يبيت الفطر.
ب ـ ولو أصبح المسافر صائماً، ثم بدا له أن يفطر، جاز له ذلك ولا إثم عليه عند الشافعية والحنابلة، عملاً بحديث صحيح متفق عليه عن ابن عباس، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم أفطر في أثناء فتح مكة (1) . ويحرم الفطر ويأثم عند الحنفية والمالكية، وعليه القضاء فقط عند الجمهور، والقضاء والكفارة عند المالكية، لأنه أفطر في صوم رمضان، فلزمه ذلك، كما لو كان مقيماً أو حاضراً.
__________
(1) وأفطر تبعاً له بعض الناس، وصام بعضهم، فقال عنهم النبي: «أولئك العصاة» رواه مسلم.(3/73)
والصوم عند الحنفية والمالكية والشافعية أفضل للمسافر إن لم يتضرر، أو لم تكن عند الحنفية عامة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النفقة، فإن كانوا مشتركين في النفقة أو مفطرين، فالأفضل فطره موافقة للجماعة، ويجب الفطر ويحرم الصوم في حال الضرر. ودليلهم عموم قوله تعالى دون تقييده بحال الكبير الذي لايطيق الصوم: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/2] والتضرر: هو الخوف من التلف أو تلف عضو منه أو تعطيل منفعة.
وقال الحنابلة: يسن الفطر ويكره الصوم في حالة سفر القصر، ولو بلا مشقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال عن الصائمين عام الفتح: «أولئك العصاة» ولقوله صلّى الله عليه وسلم
في الصحيحين: «ليس من البر الصوم في السفر» . والرأي الأول هو المعقول عملاً بظاهر الآية: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/2] ولأن الفطر عام الفتح من أجل القتال.
جـ ـ وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء؛ لأن الفطر أبيح رخصة عنه، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه، لزمه أن يأتي بالأصل.
فإن نوى المسافر أو المريض صوماً غير رمضان، لم يصح صومه عند الجمهور لا عن رمضان ولا عما نواه؛ لأنه أبيح له الفطر للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض. وقال الحنفية: يقع عما نواه إذا كان واجباً، لا تطوعاً؛ لأنه زمن أبيح له فطره، فكان له صومه عن واجب عليه كغير شهر رمضان.(3/74)
د ـ وإن صام المسافر ومثله المريض أجزأه باتفاق المذاهب الأربعة عن فرضه، وقال الظاهرية: لا يجزيه. ومنشأ الاختلاف هو المفهوم من قوله تعال: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/2] فقال الجمهور: الكلام محمول على المجاز، وتقديره: (فأفطر فعدة من أيام أخر) وهذا الحذف هو المعروف بلحن الخطاب. وقال الظاهرية: الكلام محمول على الحقيقة، لا المجاز، وفرض المسافر هو عدة من أيام أخر، فمن قدر وأفطر، ففرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر.
وتأيد مذهب الجمهور بحديث أنس: «كنا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» (1) .
وتأيد مذهب أهل الظاهر بما ثبت عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَديد (وهو ماء بين عُسْفان وقُديد) فأفطر، وأفطروا» (2) وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث أو بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
2 - المرض: معنى يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد، وهو يجيز الفطر كالسفر، للآية السابقة: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/2] .
أـ وضابط المرض المبيح الفطر: هوالذي يشق معه الصوم مشقة شديدة أو يخاف الهلاك منه إن صام، أو يخاف بالصوم زيادة المرض أو بطء البرء أي تأخره (3) . فإن لم يتضرر الصائم بالصوم كمن به جرب أو وجع ضرس أو إصبع أو دمل ونحوه، لم يبح له الفطر.
والصحيح الذي يخاف المرض أوالضعف بغلبة الظن بأمارة أو تجربة أو بإخبار طبيب حاذق مسلم مستور العدالة، كالمريض عند الحنفية. والصحيح الذي يظن الهلاك أو الأذى الشديد كالمريض عند المالكية.
وليس الصحيح كالمريض عند الشافعية والحنابلة.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 222/4) وروى مسلم عن أبي سعيد مثله.
(2) متفق عليه (المصدر السابق) .
(3) يرى الأطباء أن الأمراض المبيحة للفطر هي مثل: مرض القلب الشديد، والسل (التدرن) والتهابات الرئة، والورم الرئوي، والسرطانات، والتهاب الكلية الحاد، والمصاب بحصاة في المجاري البولية مع اختلاطات والتهابات، وتصلب الشرايين، والقرحة، والسُّكري الشديد، ومرض الفتق الحجابي، والقرحة الاثني عشرية والأمراض الخبيثة أو الإنتانية في الجهاز الهضمي، والأمراض الكبدية المزمنة مثل تشمع الكبد، وأمراض سوء الامتصاص، وحالات الإسهال الشديدة والتهاب البنكرياس الحاد والحصيات المرارية والتهابات الكولون المزمنة.(3/75)
وإن غلب على الظن الهلاك بسبب الصوم، أو الضرر الشديد كتعطيل حاسة من الحواس، وجب الفطر.
وأضاف الحنفية أن المحارب الذي يخاف الضعف عن القتال، وليس مسافراً، له الفطر قبل الحرب، ومن له نوبة حمى أو عادة حيض، لابأس بفطره على ظن وجوده.
فالجهاد ولو بدون سفر سبب من أسباب إباحة الفطر، للتقوي على لقاء العدو، وعملاً بالثابت في السنة عام فتح مكة.
ب ـ ولا يجب عند الجمهور على المريض أن ينوي الترخص بالفطر، ويجب ذلك عند الشافعية وإلا كان آثماً. وإن صام المريض في مرضه، أجزأه صومه؛ لصدوره من أهله في محله، كما لو أتم المسافر.
جـ ـ وللفقهاء آراء في فطر المريض: فقال الحنفية والشافعية: المرض يبيح الفطر. وقال الحنابلة: يسن الفطر حالة المرض ويكره الصوم، لآية {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:185/2] ، أي فليصم عدد ما أفطره. وقال المالكية: للمريض أحوال أربعة:
الأولى: ألا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.
الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة فالفطر له جائز، فهم كالحنفية والشافعية، وقال ابن العربي: يستحب (1) .
الثالثة: أن يقدر بمشقة ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: ألا يشق عليه ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافاً لابن سيرين.
__________
(1) أحكام القرآن: 77/1.(3/76)
د ـ إذا أصبح المريض أو المسافر على نية الصيام، ثم زال عذره، لم يجز له الفطر. وإن أصبح على نية الفطر ثم زال عذره، جاز له الأكل بقية يومه، وكذلك من أصبح مفطراً لعذر مبيح، ثم زال عذره في بقية يومه، عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
هـ ـ لا يصح بالاتفاق لمريض ولا لمسافر أن يصوم تطوعاً في رمضان. وكذا لا يصح عند الجمهور أن يصوم واجباً آخر، ويصح ذلك عند الحنفية على الراجح، كما تبين في عذر السفر.
وعلى المريض والمسافر في رأي الشافعية الكفارة مع القضاء إذا جاء رمضان آخر، ولم يقض، والكفارة: هي إطعام مد من غالب قوت البلد عن كل يوم.
وتتكرر الكفارة بتكرر السنين. لكن إن استمر العذر حتى دخل رمضان آخر، فلا شيء عليه سوى القضاء. وإن مات قبل التمكن من القضاء، فلا شيء عليه. وإن مات بعد التمكن من القضاء، صام عنه وليه ندباً، فإن لم يصم عنه وليه، أطعم من تركته عن كل يوم مداً من طعام غالب قوت البلد؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «من مات وعليه صيام شهر، فليُطعَم عنه مكان كل يوم مسكيناً» وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» .(3/77)
3 - 4 - الحمل والرضاع: يباح للحامل والمرضع الإفطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا، أي نسباً أو رضاعاً، وسواء أكانت أماً أم مستأجرة، وكان الخوف نقصان العقل أو الهلاك أو المرض، والخوف المعتبر: ما كان مستنداً لغلبة الظن بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق عدل. ودليل الجواز لهما: القياس على المريض والمسافر، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم» (1) ويحرم الصوم إن خافت الحامل أوالمرضع على نفسها أو ولدها الهلاك.
وإذا أفطرتا وجب القضاء دون الفدية عند الحنفية، ومع الفدية إن خافتا على ولدهما فقط عند الشافعية والحنابلة، ومع الفدية على المرضع فقط لا الحامل عند المالكية، كما سيأتي.
5 - الهرم: يجوز إجماعاً الفطر للشيخ الفاني والعجوز الفانية العاجزين عن الصوم في جميع فصول السنة، ولا قضاء عليهما، لعدم القدرة، وعليهما عن كل يوم فدية طعام مسكين، وتستحب الفدية فقط عند المالكية، لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/2] قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً (2) .
ومثلهما: المريض الذي لا يرجى برؤه، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/22] . أما من عجز عن الصوم في رمضان ولكن يقدر على قضائه في وقت آخر، فيجب عليه القضاء ولا فدية عليه.
6 - إرهاق الجوع والعطش: يجوز الفطر لمن حصل له أو أرهقه جوع أو عطش شديد يخاف منه الهلاك أو نقصان العقل أو ذهاب بعض الحواس، بحيث لم يقدر معه على الصوم، وعليه القضاء. فإن خاف على نفسه الهلاك، حرم عليه الصيام، لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] .
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أنس بن مالك الكعبي (نيل الأوطار: 230/4) .
(2) رواه البخاري (المصدر السابق: ص 231) .(3/78)
وإذا أفطر المرهق بالجوع أو العطش، فاختلف: هل يمسك بقية يومه، أو يجوز له الأكل.
7 - الإكراه: يباح الفطر للمستكره، وعليه عند الجمهور القضاء، وعند الشافعية لا يفطر المستكره. وإذا وطئت المرأة مكرهة أو نائمة، فعليها القضاء.
هذه أهم الأعذار المبيحة للفطر، أما الحيض والنفاس والجنون الطارئ على الصائم فيبيح الفطر، بل ولا يوجب الصوم ولا يصح معه، كما تقدم في الشروط.
صاحب العمل الشاق: قال أبو بكر الآجري (1) : من صنعته شاقة، فإن خاف بالصوم تلفاً، أفطر وقضى إن ضره ترك الصنعة، فإن لم يضره تركها، أثم بالفطر، وإن لم ينتف التضرر بتركها، فلا إثم عليه بالفطر للعذر. وقرر جمهور الفقهاء أنه يجب على صاحب العمل الشاق كالحصاد والخباز والحداد وعمال المناجم أن يتسحر وينوي الصوم، فإن حصل له عطش شديد أو جوع شديد يخاف منه الضرر، جاز له الفطر، وعليه القضاء، فإن تحقق الضرر وجب الفطر، لقوله تعالى: {ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء:29/4] .
إنقاذ الغريق ونحوه: قال الحنابلة (2) : يجب الفطر على من احتاجه غيره لإنقاذ آدمي معصوم من مهلكة كغرق ونحوه، ولا يفدي، فإن قدر بدون فطر حرم، فإن دخل الماء حلقه، لم يفطر.
صوم التطوع: ولا يجوز الفطر بلا عذر للمتطوع بالصوم عند الحنفية القائلين بلزوم النفل في الشروع بالعبادة في الرواية الصحيحة، والضيافة عذر في الأظهر للضيف والمضيف قبل الزوال لا بعده، إلا أن يكون في عدم الفطر بعد الزوال عقوق لأحد الأبوين، لا غيرهما، لتأكد الصوم.
__________
(1) كشاف القناع: 361/2، غاية المنتهى:323/1.
(2) غاية المنتهى: 324/1.(3/79)
وإذا أفطر المتطوع على أي حال، وجب عليه عند الحنفية القضاء، إلا إذا شرع متطوعاً في خمسة أيام: يومي العيد، وأيام التشريق، فلا يلزمه قضاؤها بإفسادها في ظاهر الرواية، كما بان سابقاً.
الإمساك بعد الفطر بعذر: اختلف الفقهاء على رأيين بوجوب الإمساك بقيةالنهار أو استحبابه على من أفطر في رمضان بعذر من الأعذار، فقال الحنفية والحنابلة بالوجوب، وقال الشافعية بالاستحباب، وقال المالكية بعدم الوجوب وعدم الاستحباب إلا في حالتين، وتفصيل الحالات والآراء يظهر فيما يأتي.
قال الحنفية (1) : يجب الإمساك بقية اليوم على من فسد صومه ولو بعذر ثم زال، وعلى حائض ونفساء طهرتا بعد طلوع الفجر، وعلى مسافر أقام، ومريض برئ، ومجنون أفاق، وعلى صبي بلغ وكافر أسلم، لحرمة الوقت بالقدر الممكن، وعليهم القضاء إلا الأخيرين (الصبي والكافر) لعدم توافر الخطاب التكليفي لهما عند طلوع الفجر عليهما. وقد عرفنا أن الجنون المتقطع، لا المستوعب جميع الشهر يوجب القضاء، بخلاف الإغماء، فإنه يوجب القضاء ولو استوعب جميع الشهر؛ لأنه نوع مرض، إلا أنه لا يقضي اليوم الذي حدث فيه الإغماء أو حدث في ليلته، لوجود شرط الصوم وهو النية.
وقال المالكية (2) : إمساك بقية اليوم يؤمر به من أفطر في رمضان خاصة أو في نذر واجب عمداً أو إكراهاً أو نسياناً، لا من أفطر لعذر مبيح، فمن أفطر لأجل عذر يباح له الفطر، ثم زال عذره، لا يستحب له الإمساك، كأن زال الحيض أو النفاس في أثناء نهار رمضان، أو انقضى السفر، أو زال الصبا وبلغ في أثناء نهار
__________
(1) مراقي الفلاح: ص 114، البدائع:102/2 ومابعدها.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 514/1، 525، القوانين الفقهية: ص124، الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 705/1 ومابعدها.(3/80)
رمضان، أو زال الجنون أو الإغماء، أو قوي المريض المفطر، أو زال اضطرار المضطر للأكل أو الشرب، فلا يستحب لهم الإمساك، ويجوز لهم التمادي في تعاطي الفطر. لكن يندب إمساك يوم الشك بقدر ما جرت العادة فيه بثبوت الشهر من المارين في الطريق من السفارة، وذلك بارتفاع النهار. ويجب الإمساك أيضاً في حال الإفطار نسياناً في صوم النفل، لا في العمد الحرام على المعتمد، ولا في الصوم الذي يجب فيه التتابع ككفارة الظهار والقتل.
ويرى الشافعية (1) : أنه يلزم الإمساك من تعدى بالفطر كأن أكل، عقوبة له ومعارضة لتقصيره، أو من نسي النية من الليل؛ لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة، فهو نوع من التقصير، وفي يوم الشك إن تبين كونه من رمضان، لما في فطره من نوع تقصير لعدم الاجتهاد في الرؤية، ويجب قضاؤه على الفور على المعتمد.
ولا يلزم الإمساك بقية النهار في الأصح إذا بلغ الصبي مفطراً، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، في أثناء النهار، لعدم التمكن من زمن يسع الأداء، لكن يندب القضاء لمن أفاق أو أسلم في أثناء النهار، خروجاً من الخلاف.
كما لا يلزم الإمساك مسافراً أو مريضاً زال عذرهما بعد الفطر، كأن أكلا؛ لأن زوال العذر بعد الترخص لا يؤثر، كما لو قصر المسافر، ثم أقام، والوقت باق، لكن يستحب لهم الإمساك لحرمة الوقت، ويستحب أيضاً للحائض أو النفساء إذا طهرت.
وإنما لم يجب الإمساك؛ لأن الفطر مباح لهم مع العلم بحال اليوم، وزوال العذر بعد الترخص لا يؤثر.
__________
(1) مغني المحتاج: 438/1، الحضرمية: ص413.(3/81)
ويرى الحنابلة (1) : أنه يلزم الإمساك من أفطر بغير عذر، أو أفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو الناسي لنية الصوم ونحوهم، بلا خلاف بين العلماء.
ويلزم الإمساك أيضاً على الراجح كل من زال عذره في أثناء النهار، وعليه القضاء، كالصبي والمجنون والكافر، والمريض والمسافر، والحائض والنفساء، إذا زالت أعذارهم في النهار، فبلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأسلم الكافر، وصح المريض المفطر، وأقام المسافر، وطهرت الحائض والنفساء. ولهم ثواب إمساك، لاثواب صيام.
فإن بلغ الصغير صائماً بسن، أو احتلام، وقد نوى من الليل، أتم وأجزأ، كنذر إتمام نفل، وإن علم مسافر أنه يقدم غداً أهله، لزمه الصوم.
المبحث السابع ـ ما يفسد الصوم وما لا يفسده:
اختلف الفقهاء في هذا المبحث من ناحيتي الشكل (الصياغة) والموضوع، اختلافاً يقتضي بياناً مستقلاً في كل مذهب على حدة.
الحنفية (2) : ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة.
أولاً ـ مايفسد الصوم ويوجب القضاء فقط دون الكفارة:
وهو سبعة وخمسون شيئاً تقريباً، يمكن تصنيفها في ثلاثة أشياء:
الأول ـ أن يتناول ما ليس بغذاء ولا في معنى الغذاء وهو الدواء: وهو تناول كل شيء لا يقصد به التغذي عادة ولا يميل إليه الطبع، كأن أكل الصائم أرزاً نيئاً، أو عجيناً أو دقيقاً غير مخلوط بشيء يؤكل عادة كالسمن والدبس والعسل والسكر، وإلا وجبت به الكفارة، أو أكل ملحاً كثيراً دفعة واحدة، فإن أكل ملحاً قليلاً، وجبت به الكفارة، أو أكل ثمرة قبل نضجها، أو أكل ما بقي بين أسنانه، وكان قدر الحمصة، فإن كان أقل، فلا يفسد، أو أكل جوزة رطبة.
أو أكل طيناً غير أرمني لم يعتد أكله، أما أكل الطين الأرمني (وهو معروف عند العطارين) فيوجب الكفارة.
__________
(1) المغني: 134/3، غاية المنتهى: 320/1.
(2) الدر المختار: 132/2-153، فتح القدير: 64/2-77، البدائع، 94/2-102، اللباب: 165/1-173، مراقي الفلاح: 109-114، تبيين الحقائق: 322/1-332.(3/82)
أو أكل نواة (بزرة) أو قطناً أو ورقاً، أو جلداً، أو ابتلع حصاة أو حديداً أو تراباً أو حجراً أو درهماً أو ديناراً ونحو ذلك، أو أدخل دخاناً بصنعه، أو أدخل ماء أو دواء في جوفه بواسطة الحقنة في قبل المرأة أو الدبر مطلقاً أو الأنف أو الحلق، أو استعط في أنفه شيئاً (1) أو قطر في أذنه دهناً، لا ماء على الصحيح لعدم سريان الماء، ولضرر الدماغ به، أو دخل حلقه مطر أو ثلج في الأصح، ولم يبتلعه بصنعه.
والخلاصة: اتفق الحنفية على أنه لو أنزل قطرة في قبل المرأة، فسد صومها؛ لأن القطرة كالحقنة. وأما القطرة في إحليل الرجل فلا تفطر في الأظهر، أو على المذهب وهو قول أبي حنيفة ومحمد كما سيأتي في بحث مالا يفسد الصوم ـ رقم11 وقال أبو يوسف: يفطر الصائم.
أو استقاء (تعمد إخراج القيد) من جوفه، أو خرج كرهاً وأعاده بصنعه، إذا كان القيء عمداً ملء الفم أو ولو كان أقل من ملء الفم في حالة الإعادة بقدر حمصة منه فأكثر على الصحيح، وكان ذاكراً لصومه، فإن ذرعه (غلبه) القيء، أو كان القيء حال الاستقاءة أقل من ملء الفم، أو كان ناسياً لصومه، أو كان القيء بلغماً لا طعاماً، لم يفطر في جميع هذه الحالات اتفاقاً، والدليل حديث: «من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» (2) .
الثاني ـ أن يتناول غذاء، أو دواء لعذر شرعي كمرض أو سفر أو إكراه أو خطأ أو إهمال أو شبهة: كأن سبق خطأ ماء المضمضة إلى جوفه، أو داوى جرحاً في رأسه أو بطنه، فوصل الدواء إلى دماغه أو جوفه، أو صب أحد ماء في جوف إنسان نائم، أو أفطرت امرأة خوفاً على نفسها من أن تمرض من الخدمة.
__________
(1) الحقنة: صب الدواء في الدبر أو قبل المرأة، والسعوط: صبه في الأنف.
(2) رواه الخمسة إلا النسائي عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 204/4) .(3/83)
أو أكل أو جامع عمداً لشبهة شرعية بعد أن أكل ناسياً أو جامع ناسياً، أو أكل بعدما نوى نهاراً، ولم يكن قد بيت نيته ليلاً، أو أكل المسافر الذي نوى الصوم ليلاً بعد أن نوى الإقامة، أو أكل أو جامع في حالة السفر بعد أن أصبح مقيماً ناوياً الصوم من الليل، ثم بدأ السفر نهاراً، لشبهة السفر، وإن لم يحل له الفطر.
أو أكل أو شرب أو جامع شاكاً في طلوع الفجر، وهو طالع، ولا كفارة عليه للشبهة؛ لأن الأصل بقاء الليل أو أفطر ظاناً الغروب، والشمس باقية؛ ولا كفارة عليه لغلبة الظن بحدوث الغروب.
ومن جامع قبل طلوع الفجر أو أكل، ثم طلع عليه الفجر، فإن نزع فوراً، أو ألقى ما في فمه، لم يفسد صومه.
الثالث - إذا قضى شهوة الفرج غير كاملة: كأن أنزل المني بوطء ميتة أو بهيمة أو صغيرة لا تشتهى، أو بمفاخذة أو تبطين، أو قبلة أو لمس، أو عبث بباطن الكف، أو وطئت المرأة وهي نائمة، أو قطرت في فرجها دهناً ونحوه.
ويلحق به ما إذا أدخل أصبعه مبلولة بماء أو دهن في دبره، أواستنجى فوصل الماء إلى داخل دبره، أو أدخل في دبره قطنة أو خرقة أو طرف حقنة ولم يبق منه شيء، أو أدخلت المرأة أصبعها مبلولة بماء أودهن في فرجها الداخل، أو أدخلت قطنة أو خشبة أو عوداً وغيبته؛ لأنه تم الدخول، بخلاف ما لو بقي طرفه خارجاً؛ لأن عدم تمام الدخول كعدم دخول شيء بالمرة، فلا يفسد الصوم إذا بقي منه في الخارج شيء بحيث لم يغب كله. وعلى هذا لايفسد عندهم الصوم بالفحص النسائي بإدخال آلة منظار وبقاء طرفها خارجاً، ويفسد بإدخال الإصبع ونحوها، خلافاً للحنابلة في إدخال الإصبع، كما سيأتي.
ومما يلحق به: ما إذا أفسد صوماً غير أداء رمضان بجماع أو غيره، لعدم هتك حرمة الشهر.(3/84)
ثانياً ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معاً:
وهو اثنان وعشرون شيئاً تقريباً، إذا فعل الصائم المكلف منها شيئاً، مبيتاً النية في أداء رمضان، متعمداً، طائعاً، غير مضطر، ولم يطرأ ما يبيح الفطر بعده كمرض، أو قبله كسفر. فلو فعلها صبي، أو لم يبيت النية، أو كان في قضاء ما فاته من رمضان أو في صوم آخر غير رمضان، أو كان ناسياً أو مخطئاً، أو مستكرهاً، أو مضطراً، أو طرأ عليه سفر أو مرض، فلا كفارة عليه، وإنما عليه القضاء فقط.
ويمكن تصنيفها بشيئين:
الأول ـ أن يتناول غذاء أو ما في معناه بدون عذر شرعي: كالأكل والشرب، والدواء، والدخان المعروف، والأفيون والحشيش ونحوهما من المخدرات، لأن الشهوة فيه ظاهرة. والأكل يشمل كل ما هم مأكول عادة، من أنواع الشحوم واللحوم المختلفة، النيئ والمطبوخ والقديد، والفواكه والخضروات ومنها أكل ورق الكرم وقشر البطيخ , والنشويات، ومنها حب الحنطة وقضمها, ولو حبة أو سمسمة أو نحوها من خارج فمه في المختار، إلا إذا مضغت فتلاشت، ولم يصل منها شيئ الى جوفه. ومنها الأكل عمداً بعد أن يغتاب آخر ظناً منه أنه أفطر بالغيبة , أو بعد حجامة أو مس أو قبلة بشهوة أو بعد مضاجعة من غير إنزال، أو دهن شاربه، ظاناً أنه أفطر بذلك، إلا إذا أفتاه فقيه ومن هذا النوع ابتلاع مطر دخل الى فمه، وابتلاع ريق زوجته أو حبيبه للتلذذ به. ومنه اكل الطين الأرمني (مهم معروف عند العطارين) ، والطين غير الأرمني، وهذا معروف كما في حالة الذي اعتاد أكل الطين، ومنه تناول قليل الملح في المختار. والدليل حديث (الفطر مما دخل) (1)
الثاني ـ أن يقضي شهوة الفرج كاملة: وهو الجماع في القبل أو الدبر، سواء الفاعل والمفعول به، ولو بمجرد التقاء الختانين وإن لم ينزل، بشرط أن يكون المفعول به آدمياً حياً يشتهى. وتجب الكفارة اتفاقاً إن مكنت المرأة من نفسها صغيراً أو مجنوناً.
والدليل: حادثة الأعرابي الذي جامع امرأته في نهار رمضان، وإلزام النبي صلّى الله عليه وسلم له بالكفارة (عتق رقبة، ثم صوم شهرين متتابعين إن لم يجد الرقبة، ثم إطعام ستين مسكيناً عند العجز عن الصوم) (2) .
__________
(1) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة بلفظ «إنما الإفطار مما دخل، وليس مما خرج» (نصب الراية: 2/352) .
(2) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 214/4) .(3/85)
ما لا يفسد الصوم عند الحنفية:
هو أربعة وعشرون شيئاً تقريباً:
1ً - الأكل أو الشرب أو الجماع ناسياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» (1) وفي لفظ: «من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة» والجماع في معناهما، فإن تذكر نزع فوراً، فإن مكث بعده، فسد صومه. ولو نزع خشية طلوع الفجر، فأمنى بعد الفجر والنزع، ليس عليه شيء، وإن حرك نفسه ولم ينزع، أو نزع ثم أولج، لزمته الكفارة.
ويجب تذكير الناسي القادر على الصوم ليترك الأكل، ويكره عدم تذكيره، والأولى عدم تذكير العاجز الذي لا قوة له لطفاً به.
2ً - إنزال المني بنظر أو فكر، وإن أدام النظر والفكر؛ لأنه لم يوجد منه صورةالجماع ولا معناه، وهو الإنزال عن مباشرة وإن كان آثماً. وفعل المرأتين (السحاق) بلا إنزال منهما لا يفسد الصوم، لكن الفاعل يأثم، ولا يلزم من الحرمة فيما ذكر الإفطار. وكذا لا يفطر بالاحتلام نهاراً.
3ً - القطرة أو الاكتحال في العين، ولو وجد الصائم الطعم أو الأثر في حلقه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان، وهو صائم (2) .
4ً - الحجامة: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم (3) .
__________
(1) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة (المصدر السابق: ص206) .
(2) أخرجه ابن ماجه عن عائشة، وهو ضعيف (المصدر السابق: ص205) .
(3) رواه أحمد والبخاري عن ابن عباس (المصدر السابق: 202) .(3/86)
5ً - السواك ولو كان مبلولا ً بالماء؛ لأنه سنة.
6ً - المضمضة والاستنشاق، ولو فعلهما لغير الوضوء، لكن لا يبالغ فيهما لئلا يدخل شيء إلى الجوف.
7ً - الاغتسال أو السباحة، أو التلفف بثوب مبتل، للتبرد لدفع الحر، وإدخال عود إلى الأذن.
8ً - الاغتياب، ونية الفطر، ولم يفطر.
9ً - دخول الدخان، أوالغبار ولو غبار الطاحون، أو الذباب، أوأثر طعم الأدوية إلى الحلق، بلا صنع الصائم أي رغماً عنه وهو ذاكر الصوم؛ لأنه لا يمكن الاحتراز أو الامتناع عنها.
لكن لو تبخر ببخور، فآواه إلى نفسه، واشتم دخانه، ذاكراً لصومه، أفطر، لإمكان التحرز عنه. ولا يتوهم أنه كشم الورد ومائه، والمسك، لوجود الفرق بين هواء تطيب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله.
10ً - خلع الضرس، ما لم يبتلع شيئاً من الدم أو الدواء، فيفطر.
11ً - صب ماء أو دهن أو حقنة في الإحليل (مجرى البول في قبل الرجل) ، أو دخول ماء في الأذن بسبب خوض نهر، أو إدخال العود في الأذن وإخراج درن الصماخ؛ لأن الإحليل ليس بمنفذ مفتوح، ودخول الماء في الأذن للضرورة، ولعدم وصول المفطر إلى الدماغ بإدخال العود للأذن، والأولى ترك ذلك كله.
12ً - ابتلاع النخامة، واشتنشاق المخاط عمداً وابتلاعه، لنزوله من الدماغ، لكن الأولى رميه لقذارته، وخروجاً من خلاف من أفسد الصوم بابتلاعه. 13- القيء قسراً عنه، أو عودته قهراً ولو كان ملء الفم، في الصحيح، والاستقاءة عمداً بما هو أقل من ملء الفم على الصحيح، لكن لو أعاد ما قاء أو قدر حمصة منه، وكان أصل القيء ملء الفم، أفطر باتفاق الحنفية ولا كفارة، على المختار، وإن عاد قسراً، لم يفطر، سواء أكان القيء العائد قليلاً أم كثيراً (1) .(3/87)
والخلاصة: أن القيء عامداً ملء الفم أو إعادة القيء مفطر يوجب القضاء فقط دون الكفارة، أما القيء قهراً أو عودة القيء بنفسه أو القيء أقل من ملء الفم فلا يفطر.
14ً - أكل ما بين الأسنان، وكان دون الحمصة، لأنه تبع لريقة. أو مضغ مثل سمسمة من خارج فمه، حتى تلاشت ولم يجد لها طعماً في حلقه، لعدم ابتلاع شيء.
15ً - إذاأصبح جنباً، ولو استمر يوماً بالجنابة؛ لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم للزومها الصوم للضرورة، كما تقدم سابقاً، وإن كان الغسل فرضاً للصلاة، لقوله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} [المائدة:6/5] ولأنه من آداب الإسلام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» (2) .
16ً - الحُقَن في العضل أو تحت الجلد أو في الوريد، والأولى عند الإمكان تأخيرها إلى المساء، أما الحقن الشرجية فتفطر.
17ً - شم الروائح العطرية كالورد أو الزهر والمسك أو الطيب.
__________
(1) الدر المختار: 151/2 ومابعدها، تبيين الحقائق: 325/1 ومابعدها.
(2) رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن علي.(3/88)
المالكية (1) : ما يفسد الصيام نوعان: أحدهما ـ يوجب القضاء فقط، والثاني ـ يوجب القضاء والكفارة.
الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو ما يأتي:
1ً - الإفطار متعمداً في صيام فرض غير رمضان، كقضاء رمضان، والكفارات والنذر غير المعين، وصوم المتمتع والقارن إذا لم يجد الهدي.
أما النذر المعين، كما لو نذر صوم يوم معين، أو أيام معينة، أو شهر معين، فإن أفطر فيه لعذر مانع من صحته كحيض ونفاس وإغماء وجنون، أو لعذر مانع من أدائه كمرض واقع، أو شدة ضرر أو زيادته أو تأخر برئه، فلا يقضى لفوات وقته، وإن زال عذره وبقي منه شيء، وجب صومه.
2ً - الإفطار متعمداً في صيام فرض رمضان إذا لم تتوافر شروط الكفارة، كالإفطار لعذر مبيح كالمرض والسفر، أو لعذر يرفع الإثم كالنسيان والخطأ والإكراه، والإفطار بسبب خروج المذي، أو خروج المني بنظر أو فكر مع لذة معتادة بلا استدامة نظر وكانت عادته الإنزال عند الاستراحة. وفي الجملة: كل فرض أفطر فيه يجب عليه قضاؤه إلا النذر المعين لعذر.
3ً - الإفطار متعمداً في صوم التطوع؛ لأن الشروع في النفل ملزم عندهم، كما تقدم. فإن أفطر فيه ناسياً أو بعذر مبيح، فلا قضاء عليه.
والخلاصة: إن من أفطر عامداً في جميع أنواع الصيام، فعليه القضاء، ولا يكفِّر إلا في رمضان، ومن أفطر في جميعها ناسياً، فعليه القضاء دون الكفارة، إلا في التطوع فلا قضاء ولا كفارة.
أما المفطرات فهي خمسة:
1 - الجماع الذي يوجب الغسل.
2 - إخراج المني أو المذي بالتقبيل أو المباشرة أو النظر أو الفكر المستديمين.
3 - الاستقاءة (تعمد القيء) سواء ملأ الفم أم لا، بخلاف ما إذا غلبه القيء إلا إذا رجع شيء منه ولو غلبة، فيفسد صومه.
4 - وصول مائع إلى الحلق من فم أو أنف أو أذن، عمداً أو سهواً أو خطأ أو غلبة كماء المضمضة أو السواك، وفي حكم المائع: البخور وبخار القِدْر إذا استنشقهما، فوصلا إلى حلقه، والدخان المعروف، والاكتحال نهاراً ودهن الشعر نهاراً إذا وجد طعمهما في الحلق، فإن تحقق عدم وصول الكحل والدهن للحلق فلاشيء عليه، كأن حدث ذلك ليلاً.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص1119،122-124، الشرح الصغير: 698/1-712،715 ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي: 523/1-534، بداية المجتهد: 281/1 ومابعدها.(3/89)
5 - وصول أي شيء إلى المعدة، سواء أكان مائعاً أم غيره من فم أو أنف أو أذن أو عين أو مسام رأس، إذا كان وصوله عمداً أو خطأ أوسهواً أو غلبة. أما الحقنة في الإحليل (وهو ثقبة الذكر) فلا تفسد الصوم، وكذا نبش الأذن بنحو عود لا شيء فيه، ولا يضر ابتلاع ما بين الأسنان من طعام ولو عمداً فلا يفطر.
وهكذا: كل ما وصل للمعدة من منفذ عال سواء أكان مائعاً أم غير مائع موجب للقضاء، سواء أكان ذلك المنفذ واسعاً أم ضيقاً، بخلاف ما يصل للمعدة من منفذ سافل، فإنه يشترط كونه واسعاً كالدبر وقبل المرأة والثقبة. لا كإحليل رجل وجائفة: وهي الخرق الصغير جداً الواصل للبطن، وصل للمعدة أو لا، ويشترط كونه مائعاً لا جامداً، فوصول المائع للمعدة مفسد مطلقاً، سواء أكان المنفذ عالياً أم من الأسفل، ووصول الجامد لها لا يفسد إلا إذا كان المنفذ عالياً. ويجب القضاء على من أفطر في صوم الفرض مطلقاً، أي سواء حدث الفطر عمداً أو سهواً أوغلبة أو إكراهاً، وسواء أكان الفطر حراماً أم جائزاً أم واجباً كمن أفطر خوف هلاك، وسواء وجبت الكفارة أم لا، أو كان الفرض أصلياً أم نذراً.
الثاني ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معاً بالفطر في رمضان فقط دون غيره: هو ما يأتي:
1ً - الجماع عمداً: أي إدخال الحشفة في فرج مطيق ولو بهيمة، وإن لم ينزل المني، إذا انتهك حرمة رمضان بأن كان غير مبال بها بأن تعمدها اختياراً بلا تأويل قريب، احترازاً من الناسي والجاهل والمتأول، وذلك سواء أتى زوجته أو أجنبية، فإن طاوعته المرأة فعليه الكفارة وعليها، وإن وطئها نائمة أو مكرهة كفر عنه وعنها، وإن جامع ناسياً أو مكرهاً أو متأولاً، فلا كفارة عليه.(3/90)
2ً - إخراج المني أو المذي يقظة مع لذة معتادة بتقبيل أو مباشرة فيما دون الفرج، أو بنظر أو تفكر عند الاستدامة أو كانت عادته الإنزال عند الاستدامة، أو كانت عادته الإمناء بمجرد النظر، فمن قبَّل فأمنى فقد أفطر اتفاقاً، وإن أمذى فيفطر عند مالك وأحمد دون غيرهما.
ولا كفارة على الراجح إذا أمنى بتعمد النظر أو الفكر، ولم تكن عادته الإنزال بهما، أو أمنى بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة لهما (1) .
3ً - الأكل والشر ب عمداً، ومثلهما بلع كل ما يصل إلى الحلق من الفم خاصة، ولو لم يغذ كنحو حصاة وصلت الجوف، وتعمد القيء وابتلاع شيء منه ولو غلبة، وتعمد الاستياك بجوزاء (2) نهاراً وابتلاعه ولوغلبة، وذلك قياساً على الجماع والإنزال، لانتهاك حرمة شهر رمضان. ولا تجب الكفارة بالإفطار ناسياً، ولا بما يصل إلى الجوف من غير الفم كالأنف والأذن؛ لأن الكفارة معللة بالانتهاك الذي هو أخص من العمد.
4ً - تجب الكفارة بالإصباح بنية الفطر، ولو نوى الصيام بعده على الأصح، وبفرض النية أي رفعها نهاراً على الأصح.
5ً - تعمد الفطر لغير عذر، ثم مرض أو سافر، أو حاضت المرأة، فتجب الكفارة على المشهور.
ولا تجب الكفارة إلا بالشروط السبعة الآتية المفهومة مما سبق بيانه وهي:
أولاً ـ أن يكون الفطر في أداء رمضان، فلا تجب الكفارة في غيره، كقضاء رمضان وصوم منذور، وصوم كفارة أو نفل.
ثانياً ـ أن يتعمد الفطر: فلا كفارة على ناس، أو مخطئ، أو معذور بعذر كمرض أو سفر.
ثالثاً ـ أن يكون مختاراً: فلا كفارة على مستكره، أو مفطر غلبة.
__________
(1) الحاصل: أنه إذا أمنى بمجرد الفكر أو النظر من غير استدامة لهما، فلا كفارة قطعاً، وإن استدامهما حتى أنزل، فإن كانت عادته الإنزال بهما عند الاستدامة، فالكفارة قطعاً، وإن كانت عادته عدم الإنزال بهما عند الاستدامة، فخالف عادته وأمنى، فلا كفارة على المختار.
(2) الجوزاء: قشر يتخذ من أصول شجر الجوزاء، يستعمله بعض نساء أهل المغرب.(3/91)
رابعاً ـ أن يكون عالماً بحرمة الفطر، فلا كفارة على جاهلها، كحديث عهد بالإسلام، ظن أن الصوم لا يحرم معه الجماع، فجامع، فلا كفارة عليه. ولا كفارة على من جهل حلول رمضان، كمن أفطر يوم الشك قبل ثبوت الهلال.
خامساً ـ أن ينتهك حرمة شهر رمضان أي لا يبالي بها: فلا كفارة على متأول
تأويلاً قريباً: وهو المستند في فطره لأمر موجود، مثل أن يفطر ناسياً أو مكرهاً، ثم أكل أو شرب عمداً، ظاناً عدم وجوب الإمساك عليه، فلا كفارة عليه لاستناده لأمر موجود سابقاً وهوالفطر نسياناً أو بإكراه. ومثل من أفطر بسبب سفر أقل من مسافة القصر، ظاناً أن الفطر مباح له، لظاهر قوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/2-185] ونحو من تعمد الفطر يوم الثلاثين من رمضان منتهكاً للحرمة، ثم تبين أنه يوم العيد، وكذلك الحائض تفطر متعمدة، ثم تعلم أنها حاضت قبل فطرها، فلا كفارة عليها على المعتمد.
أما المتأول تأويلاً بعيداً كمن اعتاد الحُمَّى أو الحيض في يوم معين، فبيت نية الفطر، ولم يحدث العارض، فعليه الكفارة. ومثله من اغتاب ظاناً بطلان صومه فأفطر متعمداً، فعليه الكفارة.
سادساً ـ أن يكون الواصل من الفم: فلو وصل شيء من الأذن أو العين فلا كفارة، وإن وجب القضاء، كما أبنت.
سابعاً ـ أن يكون الوصول للمعدة: فلو وصل شيء إلى حلق الصائم، ورده، فلا كفارة عليه.(3/92)
ما لا يفسد الصوم:
لا يفسد الصوم بأحوال قد يتوهم فيها وهي:
1ً - من غلبه القيء، ولم يرجع منه شيء لحلقه، أو غلبه الذباب أو البعوض، أوغبار الطريق، أو غبار الدقيق لصانعه وهو الطحان والناخل والمغربل والحامل ونحوه في أثناء مزاولة المهنة كحافر القبر وناقل التراب لغرض، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، ولضرورة الصنعة. أما غير الصانع فعليه القضاء.
2ً - الحقنة في الإحليل أي ثقبة الذكر، ولو بمائع، لأنه لا يصل عادة للمعدة.
3ً - دهن الجائفة بالدواء: أي دهن الجرح في البطن أو الجنب الواصل للجوف، لأنه لا يصل لمحل الأكل والشرب، وإلا لمات من ساعته.
4ً - نزع المأكول أو المشروب أو الفرج عند طلوع الفجر، فإن ظن النازع إباحة الفطر، فأفطر، فلا كفارة عليه، لأن فطره بتأويل قريب.
5ً - من غلبه المني أو المذي بمجرد النظر أو الفكر أي غير المستديم.
6ً - من ابتلع ريقه، أو ما بين أسنانه من بقايا الطعام، إلا إذا كان كثيراً عرفاً.
7ً - المضمضة للعطش، والإصباح بالجنابة، والسواك في كل النهار لمقتض شرعي من وضوء وصلاة وقراءة وذكر الله تعالى.
8ً - الحجامة لا تفطر، ولكنها تكره.
الشافعية (1) : ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة.
الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط:
يفسد الصوم ويجب القضاء فقط دون الكفارة بالأمور الآتية، ويجب الإمساك بقية النهار على من أفطر بغير عذر؛ لأنه أفطر بغير عذر.
1- وصول شيء مادي (عين) إلى الجوف وإن قل كسمسمة، أو لم يؤكل
__________
(1) مغني المحتاج: 427/1-432،442 ومابعدها، المهذب: 183/1-185.(3/93)
عادة كحصاة أو تراب، من منفذ مفتوح كالفم والأنف والأذن والقُبُل (الإحليل) والدبر وجرح الدماغ، إذا كان عمداً؛ لأن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا ما أمسك، فمن أكل أو شرب ناسياً، أو مكرهاً، أو جاهلاً بأن ذلك مفطر بسبب قرب عهده بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، لم يفطر، سواء أكان المأكول قليلاً أم كثيراً، لعدم توافر العمد. وعدم الفطر بالإكراه هو الأظهر. ولو وصل جوفَه ذباب أو بعوضة، أو غبار الطريق، ولو تعمد فتح فمه حتى دخل التراب جوفه، أو غربلة الدقيق، أو وصول الأثر كوصول الريح بالشم إلى دماغه، لم يفطر، لعدم توافر القصد، ولما فيه من المشقة الشديدة، ولأنه معفو عن التراب في حال تعمد فتح الفم. لكن لو استخدم مريض الربو بخاخة الهواء عند ضيق النِّفَس، فإنه يفطر؛ لأن ما يعفى عن جنسه كالتراب والهواء مقصور على حالة الابتلاء العام، فإن كان الشيء خاصاً، كتعمد ابتلاع رائحة شواء لحم، فيفطر، لسهولة الاحتراز عنه. ومثل ذلك تناول حب تصلب الشرايين عند الإحساس بالضيق.
ولا يفطر ببلع ريقه الطاهر الخالص من معدنه (وهو الفم جميعه الذي فيه قراره ومنه ينبع) ولو بعد جمْعه ثم ابتلاعه في الأصح وإن أخرجه على لسانه لعسر الاحتراز عنه، ولأنه في حال جمعه لم يخرج عن معدنه، فهوكابتلاعه متفرقاً من معدنه. فإن خرج الريق عن فمه ثم رده وابتلعه؛ أو بلّ خيطاً بريقه، ورده إلى فمه، وعليه رطوبة تنفصل، وابتلعها؛ أو ابتلع ريقه مخلوطاً بغيره، أو متنجساً، أفطر في الحالات الثلاث، أما الأولى فلخروجه عن معدنه فصار كالأعيان الخارجة، وأما الثانية فلأنه لا ضرورة إليه، وأما الثالثة فلأنه أجنبي عن الريق.(3/94)
وكذلك لا يفطر بابتلاع ما بقي من الطعام بين الأسنان من غير قصد إن عجز عن تمييزه ومجه، لأنه معذور فيه غير مقصر، فإن قدر على تمييزه ومجه وابتلعه ولو قليلاً دون الحمصة، فإنه يفطر، فيفطر بجري الريق بما بين الأسنان لقدرته على مجه، ويفطر - كما سيأتي - بالنخامة أيضاً وهي التي تنزل من الرأس أو الجوف، ووصلت إلى حد الظاهر من الفم، فأجراها هو. أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها فلا يفطر للعذر، كما لا يفطر إذا لم تصل إلى حد الظاهر، كأن نزلت من دماغه إلى حلقه، وهي في حد الباطن، ثم إلى جوفه، وإن قدر على مجها، لأنها نزلت من جوف إلى جوف.
ويفطر بتناول الدخان المعروف ونحوه كالتمباك والنشوق، وبوصول شيء إلى باطن الدماغ، والبطن، والأمعاء، والمثانة، وبالحقنة في الإحليل (مخرج البول من الذكر، واللبن من الثدي) ، وبالتقطيرفي باطن الأذن، وبإدخال عود ونحوه لباطن الأذن؛ لأن كل ذلك جوف، وقد وصل إليه من منفذ مفتوح.
ولا يضر وصول الدهن إلى الجوف بتسرب المسام (وهي ثقب البدن) ولا الاكتحال وإن وجد طعم الكحل في حلقه؛ لأن الواصل إليه ليس من منفذ وإنما من المسام، وقد روى البيهقي أنه صلّى الله عليه وسلم «كان يكتحل بالإثمد وهو صائم» فلا يكره الاكتحال للصائم.
2 - ابتلاع النُّخامة: وهي ما ينزل من الرأس أو الجوف، أما لو جرت بنفسها وعجز عن مجها، فلا يفطر، وإن تركها مع القدرة على لفظها، فوصلت الجوف، أفطر في الأصح لتقصيره، كما تقدم بيانه أيضاً.
3 - سبق ماء المضمضة أوالاستنشاق المشروع إلى جوفه، في حال المبالغة في ذلك؛ لأن الصائم منهي عن المبالغة. فإن لم يبالغ فلا يفطر، لأنه تولد من مأمور به بغير اختياره.
وإن سبق الماء غير المشروع إلى جوفه، كما في حال التبرد، أو العبث، أو في المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق، أفطر؛ لأنه غير مأمور بذلك، بل منهي عنه في الرابعة.(3/95)
4 - الاستقاءة أي تعمد القيء، حتى لو تيقن على الصحيح أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، لأن المفطر عينها، لظاهر خبر ابن حبان وغيره: «من ذرَعه القيء (1) ، وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض» هذا إذا كان عالماً بالتحريم عامداً مختاراً لذلك، فإن كان جاهلاً لقرب عهده بالإسلام، أو نشأ بعيداً عن العلماء، أو ناسياً أو مكرهاً، فإنه لا يفطر.
5 - الاستمناء (وهو إخراج المني بغير جماع، محرَّماً كأن أخرجه بيده، أو غير محرَّم كإخراجه بيد زوجته) ، وخروج المني بلمس وقبلة ومضاجعة بلا حائل؛ لأنه إنزال بمباشرة.
ولا يفطر بإنزال المني بفكر (وهو إعمال الخاطر في الشيء) ، أو نظر بشهوة، أو بضم امرأة بحائل بشهوة؛ إذ لا مباشرة، فأشبه الاحتلام، مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل.
6 - أن يتبين الغلط بالأكل نهاراً بسبب طلوع الفجر، أو لعدم غروب الشمس، إذ لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه.
ويحل الإفطار آخر النهار بالاجتهاد بسبب قراءة ورد أو غيره كوقت الصلاة، والاحتياط ألا يأكل آخر النهار إلا بيقين، ويجوز الأكل آخر الليل إذا ظن بقاء الليل أوشك؛ لأن الأصل بقاء الليل. ولو طلع الفجر، وفي فمه طعام، فلفظه، صح صومه، وكذا يصح لو كان مجامعاً فنزع في الحال، فإن مكث بطل الصوم.
7 - يفطر بطروء الجنون والردة والحيض والنفاس، لمنافاة ذلك مع شروط صحة الصوم من العقل والإسلام والطهارة من الدماء الطارئة، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في المرأة، وقد سئل عن نقصان دينها: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» .
الثاني - ما يوجب القضاء والكفارة والتعزير:
يجب القضاء والكفارة مع التعزير وإمساك بقية اليوم، بشيء واحد، وهو الجماع الذي يفسد صوم يوم من رمضان بشروط أربعة عشر وهي:
__________
(1) أي غلب عليه.(3/96)
1ً - أن يكون ناوياً للصوم ليلاً: فلو ترك النية لم يصح صومه، ويجب عليه الإمساك.
2ً، 3ً، 4ً - أن يكون متعمداً مختاراً، عالماً بالتحريم: فلا كفارة على ناس أو مكره، أو جاهل التحريم بسب قرب إسلامه.
5ً - أن يحدث الجماع في نهار رمضان: فلا كفارة على جماع مفسد غير رمضان من نفل أو نذر أو قضاء، أو كفارة، والجماع في نهار رمضان حرام لقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ... {فالآن باشروهن} ـ إلى قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187/2] .
6ً - أن يفسد الصوم بالجماع وحده: فإن أكل ثم جامع، لا كفارة عليه، ولا كفارة بغير الجماع كالأكل والشرب والاستمناء باليد، والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الإنزال. 7ً - أن يكون آثماً بهذا الجماع: فلا كفارة على صبي، ولا على صائم مسافر أو مريض جامع بنية الترخص أو بغيرها في الأصح، لإباحة الفطر له، ولا على من زنى ناسياً للصوم؛ لأنه ناسٍ، ولا على مسافر أفطر بالزنا مترخصاً بالفطر؛ لأن الفطر جائز له.
8ً - أن يكون معتقداً صحة صومه: فلا كفارة على من جامع عامداً بعد الأكل ناسياً وظن أنه أفطر بالأكل، لأنه يعتقد أنه غير صائم، وإن كان الأصح بطلان صومه بهذا الجماع.
9ً - ألا يكون مخطئاً: فلا كفارة على من جامع ظاناً وقت الجماع بقاء الليل، أو دخول المغرب، فتبين أنه جامع نهاراً، لانتفاء الإثم.
10ً - ألا يجن أو يموت بعد الوطء في أثناء النهار الذي جامع فيه قبل الغروب: فلا كفارة على من جن أو مات حينئذ لعدم الأهلية، فحدوث الجنون أو الموت يسقط الكفارة قطعاً، لأنه تبين بطروء ذلك أنه لم يكن في صوم، لمنافاته له، أي أن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقاً، فلم يجب بالوطء فيه كفارة، كصوم المسافر، أو كما لو قامت البينة أنه من شوال.(3/97)
11ً - أن يكون الوطء منسوباً إليه: فلو عَلَتْه امرأة وأنزل بالإدخال، فلا كفارة عليه، إلا إن أغراها بذلك.
12ً - أن يكون الجماع بإدخال الحشفة، أو قدرها من مقطوعها، فلا كفارة على من لم يتحقق منه الإيلاج بالقدر المذكور، ولكن يجب عليه الإمساك.
13ً - أن يتم الجماع في فرج ولو دبراً، أو ميتة أو بهيمة: فلا كفارة على من وطئ في غير فرج. ووطء المرأة في الدبر، واللواط، كالوطء في الفرج.
14ً - أن يكون واطئاً لا موطوءاً: فلا كفارة على المفعول به مطلقاً وإنما الكفارة على الفاعل، وتلزم المرأة بالقضاء فقط.
وحدوث السفر أو المرض أو الإغماء أو الردة بعد الجماع لا يسقط الكفارة، لتحقق هتك حرمة الصوم قبل ذلك؛ لأن المرض والسفر لا ينافيان الصوم، فيتحقق هتك حرمته، وأما طروء الردة فلا يبيح الفطر.
ويجب قضاء اليوم الذي أفسده (يوم الإفساد) على الصحيح مع الكفارة.
وتتعدد الكفارة بتعدد الفساد، فمن جامع في يومين لزمه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة مستقلة، فلا تتداخل كفارتاهما، كحجتين جامع فيهما، ولو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها.
وتلزم الكفارة من انفرد برؤية الهلال، وجامع في يومه.
ما لا يفسد الصوم عند الشافعية:
لا يفسد الصوم بوصول شيء إلى الجوف بنسيان أو إكراه أو جهل يعذر به شرعاً، ولا بما عجز عن مجه كالنخامة وما بين الأسنان من الطعام، ولا بما يشق الاحتراز عنه كغبار الطريق وغربلة الدقيق والذباب والبعوض.
ولا يفسد الصوم أيضاً بالفصدِ، إذ لا خلاف فيه، ولا بالحجامة؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرِم» (1) ، لكنها تكره إلا لحاجة.
ولا يفسد بالاكتحال ولكنه خلاف الأولى على الراجح، ولا بالتقبيل ولكنه
__________
(1) رواه البخاري، وروى النسائي «احتجم وهو صائم محرم» وهو ناسخ لحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» .(3/98)
يكره لمن حركت القبلة شهوته، ولا بالمعانقة والمباشرة، ولا بالإنزال بفكر ونظر بشهوة، ولا بمضغ العلك (اللبان غير المشوب بشيء) أو ذوق الطعام، ولكنهما يكرهان إلا لحاجة، ولا بالسواك، ولكنه يكره بعد الزوال إلا لسبب يقتضيه كأكل بصل نسياناً، ولا بالتمتع بالشهوات من المبصرات والمشمومات والمسموعات، ولكنه يكره.
الحنابلة (1) : إفساد الصوم إما أن يوجب القضاء أو القضاء والكفارة.
الأول ـ ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط: هو مايأتي:
1ً - دخول شيء مادي من منفذ إلى الجوف أو الدماغ عمداً واختياراً، مع تذكر الصوم، ولو جهل التحريم، سواء أكان مغذياً كالأكل والشرب أم غير مغذٍّ كالحصاة وابتلاع النخامة والسعوط (النشوق) والدواء أو الدهن الذي يصل إلى الحلق أو الدماغ، والحقنة في الدبر، وابتلاع الدخان قصداً، لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل. فلا يفطر بوصول شيء غير قاصد الفعل، أو ناسياً أو نائماً أو مكرهاً، لحديث: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وحديث «من نسي وهو صائم ... » .
2ً - الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم» (2) ، ولأن العين منفذ، لكنه غير معتاد، كالواصل من الأنف. فإن لم يتحقق وصوله إلى حلقه، فلا فطر، لعدم تحقق ما ينافي الصوم.
__________
(1) المغني: 102/3-127،135-137، كشاف القناع: 362/2،370-381.
(2) رواه أبو داود والبخاري في تاريخه، من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن سعيد بن هوذة عن أبيه عن جده، لكنه ضعيف.(3/99)
3ً - الاستقاءة أي استدعاء القيء عمداً، فقاء طعاماً أو مراراً، أو بلغماً أو دماً أوغيره، ولو قل، لحديث أبي هريرة المرفوع: «من ذَرَعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض» (1)
4ً - الحجامة: يفطر بها الحاجم والمحجوم إذا ظهر دم، وإلا لم يفطر، لحديث «أفطر الحاجم والمحجوم» (2) وقالوا: إن حديث الجمهور القاضي بعدم الإفطار بالحجامة منسوخ بهذا الحديث، بدليل ما روى ابن عباس أنه قال: احتجم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقاحة بقرن وناب، وهو محرم صائم، فوجد لذلك ضعفاً شديداً، فنهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يحجم الصائم (3) .
5ً - التقبيل والاستمناء واللمس والمباشرة دون الفرج فأمنى، أو أمذى، وتكرار النظر فأمنى لا إن أمذى، إذ فعل ذلك عامداً، وهو ذاكر لصومه: يوجب القضاء بلا كفارة إذا كان صوماً واجباً، لما روى أبو داود عن عمر: أنه قال: «هششت، فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، إني فعلت أمراً عظيماً، قبّلت وأنا صائم، قال: أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس به، قال: فَمهْ» فشبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الفطر، فإن القبلة إذا كان معها نزول، أفطر وإلا فلا، فلا فطر بدون إنزال، لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه» (4) .
والإفطار بتكرار النظر والإمناء، لأنه إنزال بفعل يلتذ به، ويمكن التحرز منه،
__________
(1) رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن غريب، ورواه أيضاً الدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات.
(2) رواه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحد عشر نفساً، منهم رافع بن خديج الذي روى حديثه أحمد والترمذي (نيل الأوطار: 200/4) .
(3) رواه أبو إسحاق الجوزجاني.
(4) رواه البخاري، والإرب: حاجة النفس ووطرها.(3/100)
فأشبه الإنزال باللمس. أما عدم الإفطار بتكرار النظر والإمذاء، فلأنه لانص فيه، والقياس على إنزال المني، لمخالفته إياه في الأحكام.
6ً - الردة مطلقاً، لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/39] .
7ً - الموت يفسد صوم اليوم الذي مات فيه الصائم في صوم النذر والكفارة، فيطعم من تركته مسكين.
8ً - تبين الغلط في الأكل نهاراً: فإن أكل أو شرب شاكاً في غروب الشمس أفطر وقضى؛ لأن الأصل بقاء النهار، أو أكل أو شرب ظاناً بقاء النهار مالم يتحقق أنه كان بعد الغروب؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم إلى الليل، ولم يتمه، أو أكل ظاناً أنه ليل، فبان نهاراً؛ لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم، ولم يتمه. ويقضي أيضاً لو أكل ونحوه ناسياً فظن أنه أفطر، فأكل ونحوه عمداً.
ولا يقضي إن أكل ونحوه ظاناً غروب الشمس، ودام شكه، ولم يتبين له الحال؛ لأن الأصل براءته. أو إن أكل وبان أن أكله كان ليلاً؛ لأنه أتم صومه.
الثاني ـ ما يوجب القضاء والكفارة معاً:
وهو شيء واحد وهو الجماع في نهار رمضان، بلا عذر سابق كمن به مرض، في فرج: قبل أو دبر من آدمي أو غيره كبهيمة، من حي أو ميت، أنزل أم لا.(3/101)
إذا كان عامداً أو ساهياً، أو مخطئاً، أو جاهلاً، أو مختاراً أو مكرهاً، سواء أكره في حال اليقظة أم في حال النوم، لحديث أبي هريرة المتفق عليه في إيجاب الكفارة على المجامع، وأما كون الساهي أو الناسي كالعامد في ظاهر المذهب، والمكره كالمختار، النائم كالمستيقظ، فلأنه صلّى الله عليه وسلم لم يستفصل الأعرابي، ولو اختلف الحكم بذلك لاستفصله؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والسؤال معاد في الجواب، كأنه قال: إذا واقعت في صوم رمضان فكفِّر، ولأنه عبادة يحرم الوطء فيه، فاستوى عمده وغيره كالحج. وأما كونه لا فرق بين أن ينزل أو لا، فلأنه في مظنة الإنزال، وأما الكفارة في حالة الإكراه: فلأن الإكراه على الوطء لا يمكن؛ لأنه لا يطأ حتى ينتشر، ولا ينتشر إلا عن شهوة، فكان كغير المكره.
وأما كونه لا فرق بين كون الفرج قبلاً أو دبراً، من ذكر أو أنثى، فلأنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج، فأوجب الكفارة. وأما الوطء في فرج البهيمة فلأنه وطء في فرج موجب للغسل مفسد للصوم، فأشبه وطء الآدمية، ويفسد صوم المرأة كالرجل بالجماع، لأنه نوع من المفطرات، فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل، وتلزمها الكفارة إذا جومعت بغير عذر؛ لأنها هتكت حرمة صوم رمضان بالجماع، فتلزمها الكفارة كالرجل. ولا تلزمها الكفارة مع العذر، كنوم أو إكراه، أو نسيان، أو جهل؛ لأنها معذورة، ويفسد صومها بذلك، فيلزمها القضاء.
لكن لو استدخلت صائمة ذكر نائم أو صبي أو مجنون، بطل صومها للجماع، فيجب عليها القضاء والكفارة، إن كان في نهار رمضان.
وإن تساحقت امرأتان وإن أنزلا، أوأنزل مجبوب بالسحاق، فسد الصوم: لأنه إذا فسد الصوم باللمس مع الإنزال، ففيما ذكر بطريق الأولى، ولا كفارة عليهما ولا على المجبوب في الأصح؛ لأن ذلك ليس بمنصوص، ولا في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الأصل.(3/102)
وإن جامع في يومين من رمضان واحد، ولم يكفر لليوم الأول، فعليه كفارتان؛ لأن كل يوم عبادة، وكالحجتين، وكيومين من رمضانين، وأما إن جامع ثم جامع في يوم واحد قبل التكفير، فعليه كفارة واحدة بغير خلاف. وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه، فعليه كفارة ثانية، لأنه وطء محرم، وقد تكرر فتتكرر هي كالحج.
وتلزم الكفارة إذا وطئ كل من لزمه الإمساك، كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر، أو نسي النية، أو أكل عامداً، ثم جامع، لهتكه حرمة الزمن به، ولأنها تجب على المستديم للوطء.
وإذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع، فعليه القضاء والكفارة، لأنه ترك صوم رمضان بجماع، أثم به لحرمة الصوم، فوجبت به الكفارة، كما لو وطئ بعد طلوع الفجر.
وإن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر، فعليه القضاء والكفارة، فالنزع جماع، فلوطلع عليه الفجر وهو مجامع، فنزع في الحال، مع أول طلوع الفجر الثاني، فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه يلتذ بالنزع، كما يلتذ بالإيلاج.
ولو جامع يعتقد بقاء الليل، فبان نهاراً وأن الفجر كان قد طلع، وجب عليه القضاء والكفارة؛ لأنه لا فرق بين العامد والمخطئ، كما بينا. ولو جامع في أول النهار، ثم مرض أو جن، أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار، لم تسقط الكفارة؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها كالسفر، ولأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام، فاستقرت الكفارة عليه، كما لولم يطرأ عذر.
وإن جامع دون الفرج عمداً، فأنزل ولومذياً، فسد الصوم، ولا كفارة، لأنه ليس بجماع، وإن لم ينزل لم يفسد صومه، كاللمس والقبلة. ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان، باتفاق أكثر العلماء، لأنه جامع في غير رمضان، فلم تلزمه كفارة، كما لو جامع في صيام الكفارة، ويفارق القضاء الأداء، لأنه متعين بزمان محترم، فالجماع فيه هتك له، بخلاف القضاء.(3/103)
ومن به شبق يخاف أن ينشق ذكره أو أنثياه أو مثانته، جامع وقضى ولا يكفر للضرورة مثل أكل الميتة للمضطر، وإن اندفعت شهوته بغير الجماع كالاستمناء بيده أو يد زوجته ونحوه كالمفاخذة، لم يجز له الوطء، كالصائل يندفع بالأسهل، لا ينتقل إلى غيره.
وحكم المريض الذي ينتفع بالجماع في مرضه حكم من خاف تشقق فرجه في جواز الوطء.
وفي حال الضرورة إلى وطء حائض وصائمة بالغ، يكون وطء الصائمة أولى من وطء الحائض؛ لأن تحريم وطء الحائض بنص القرآن. وإن لم تكن الزوجة بالغاً، وجب اجتناب الحائض، للاستغناء عنه بلا محذور، فيطأ الصغيرة وكذا المجنونة.
وإن تعذر قضاء ذي الشبق لدوام شبقه، فهو ككبير عجز عن الصوم، فيطعم لكل يوم مسكيناً، ولا قضاء إلا مع عذر معتاد كمرض أو سفر.
مالا يفسد الصوم:
لا يفطر الصائم بما يأتي:
1ً - بما لا يمكن الاحتراز عنه: كابتلاع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والتقطير في إحليل ولو وصل مثانته، لعدم المنفذ، وكذا إن جمع الريق ثم ابتلعه قصداً، لم يفطر؛ لأنه يصل إلى جوفه من معدنه (أي فمه) ، فإن خرج ريقه إلى ثوبه، أو بين أصابعه، أو بين شفتيه، ثم عاد فابتلعه، أو بلع ريق غيره، أفطر؛ لأنه ابتلعه من غير فمه، فأشبه ما لو بلع غيره. ولا يفطر ببصق النخامة بلا قصد من مخرج الحاء المهملة، فإن ابتلعها أفطر.
2ً - بالمضمضة والاستنشاق بغير خلاف، سواء أكان في الطهارة أم غيرها وسواء بالغ أم زاد عن الثلاث، بدليل حديث عمر السابق في القبلة، وقياسها على المضمضة، لكن تكره المضمضة عبثاً ولحر أو عطش.
3ً - بمضغ العلك: وهو الذي لا يتحلل منه أجزاء، وإنما الذي يصلب ويقوى كلما مضغه، ولكن يكره مضغه ولا يحرم؛ لأنه يجمع الريق، ويورث العطش.
4ً - بالقبلة واللمس والمفاخذة ونحوها بدون إنزال: فإن أنزل فسد صومه، ولا كفارة عليه؛ لأنه ليس بجماع.(3/104)
5ً - الإمذاء بتكرار النظر، لأنه لا نص فيه، والإمناء بغير تكرار النظر، لعدم إمكان التحرز من النظرة الأولى، وتكرار النظر بغير إنزال. ولا يفطر إن فكر فأمنى أو أمذى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» (1) .
كما لا يفطر إن حصل الإنزال بفكر غالب أي غير اختياري، بأن لم يتسبب فيه، أو احتلم أو أنزل لغير شهوة، كالذي يخرج منه المني لمرض أو لسقطة من موضع عال، أو خروجاً منه لهيجان شهوة من غير أن يمس ذكره بيد، أو أمنى نهاراً من وطء ليل، لأنه لم يتسبب إليه في النهار، أو أمنى ليلاً من مباشرته نهاراً.
6ً - الفصد والشرط، وإخراج الدم برعاف، وجرح الصائم نفسه أو جرحه غيره بإذنه ولم يصل إلى جوفه شيء من آلة الجرح، ولو كان الجرح بدل الحجامة، لأنه لا نص فيه، والقياس لا يقتضيه.
7ً - دخول شيء إلى الجوف غير قاصد الفعل: بأن فعل ذلك ناسياً أو مكرهاً أو نائماً، لأنه لا قصد للنائم، وللحديث المتقدم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» . ويجب على من رأى الصائم إعلامه إذا أراد الأكل أو الشرب ناسياً أو جاهلاً، كإعلام نائم إذا ضاق وقت الصلاة.
8ً - الشك في طلوع الفجر: من أكل أو شرب أو جامع شاكاً في طلوع الفجر، ودام شكه؛ لأن الأصل بقاء الليل، فيكون زمانه الشك منه، ولظاهر الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة:187/2] . لكن يفطر وعليه القضاء إن أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، لأنه يمكن التحرز منه.
__________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة، والطبراني عن عمران بن حصين بلفظ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» هو صحيح (الجامع الصغير: 68/1) .(3/105)
9ً - غلبة القيء: فمن ذرعه القيء (1) فلا شيء عليه، بخلاف من استقاء فعليه القضاء.
10ً - السواك كل النهاروعدم الاغتسال من الجنابة، لكن يستحب الغسل ليلاً قبل طلوع الفجر الثاني لكل من لزمه الغسل من جنابة وحائض ونفساء انقطع دمها، وكافر أسلم، خروجاً من الخلاف.
11ً - الكحل إن لم يجد طعمه في الحلق، وتلطيخ باطن القدم بالحناء، مع وجود طعمه بالحلق.
12ً - إدخال المرأة أصبعها أو غيرها في فرجها ولو مبتلة.
وخلاصة آراء المذاهب في أهم المواضع السابقة: أن الجماع في نهار رمضان موجب للقضاء والكفارة والإمساك بقية النهار، وكذلك الأكل والشرب عمداً عند الحنفيةوالمالكية خلافاً لغيرهم قياساً على الجماع، بجامع انتهاك حرمة الشهر.
ويفطر الصائم بالاتفاق بالقيء عمداً أو بتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمداً، سواء أكان مغذياً أم غير مغذٍّ، ولا يفطر بالفصد اتفاقاً كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسياً، ويفطر عند المالكية، ولا يفطر بالأكل مكرهاً عند الشافعية والحنابلة، ويفطر عند المالكية والحنفية، ولا يفطر عند الحنابلة بغلبة ماء المضمضة ويفطر بها عند المالكية، وأما عند الشافعية فيفطر في حالة المبالغةأو العبث والتبرد أو الزيادة على الثلاث.
ولا يفطر بالاكتحال عند الشافعية والحنفية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة، إن وجد طعم الكحل في الحلق. ولا يفطر عند الجمهور بالحقنة في الإحليل، ويفطر بها عند الشافعية. ولا يفطر عند الجمهور بنبش الأذن بعود أو إدخاله فيها، ويفطر به عند الشافعية.
__________
(1) ذرعه القيء أي خرج منه بغير اختياره.(3/106)
ولا يفطر بالحجامة عند الجمهور وإنما تكره، ويفطر بها عند الحنابلة. ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج، أما في حال تكرار النظر فلا يفطر به عند الحنابلة، ويفطر في رأي المالكية به أو بالتفكر عند الاستدامة، أو الاعتياد. وتتداخل الكفارة فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة عند الشافعية والحنابلة والمالكية (الجمهور) .
المبحث الثامن ـ قضاء الصوم وكفارته وفديته:
وفيه مطالب ثلاثة:
المطلب الأول ـ قضاء الصوم:
أولاً ـ لوازم الإفطار: قال المالكية: يترتب على الإفطار سبعة أمور هي: القضاء، والكفارة الكبرى، والكفارة الصغرى (وهي الفدية) ، والإمساك، وقطع التتابع، والعقوبة، وقطع النية (1) .
ثانياً ـ حكم القضاء: يجب باتفاق الفقهاء القضاء على من أفطر يوماً أو أكثر من رمضان، بعذر كالمرض والسفر والحيض ونحوه، أو بغير عذر كترك النية عمداً أو سهواً (2) ، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/2-185] والتقدير: فأفطر فعدة. وقالت عائشة في حديث سابق: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم» .
__________
(1) القوانين الفقهية: ص122-125.
(2) فتح القدير: 80/2 ومابعدها، بداية المجتهد: 288/1، الشرح الصغير: 703/1، مغني المحتاج: 437/1، كشاف القناع: 389/2، المغني: 135/3.(3/107)
ويأثم المفطر بلا عذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة (1) ، ولا مرض، لم يقضه (2) صوم الدهر كله، وإن صامه» (3) .
والمقضي وجوباً: هو رمضان، وأيام الكفارة، والنذر، وحالة الشروع في التطوع في رأي الحنفية والمالكية، لكن المالكية أوجبوا القضاء على من أفطر في التطوع متعمداً، أما من أفطر فيه ناسياً، أتم ولا قضاء عليه إجماعاً، وإن أفطر فيه بعذر مبيح فلا قضاء.
ووقت قضاء رمضان: ما بعد انتهائه إلى مجيء رمضان المقبل، ويندب تعجيل القضاء إبراء للذمة ومسارعة إلى إسقاط الواجب، ويجب العزم على قضاء كل عبادة إذا لم يفعلها فوراً، ويتعين القضاء فوراً إذا بقي من الوقت لحلول رمضان الثاني بقدر ما فاته، ويرى الشافعية وجوب المبادرة بالقضاء أي القضاء فوراً إذا كان الفطر في رمضان بغير عذر شرعي، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم. وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، فقال الجمهور: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة (الفدية) . وقال الحنفية: لا فدية عليه سواء أكان التأخير بعذر أم بغير عذر. وتتكرر الفدية عند الشافعية بتكرر الأعوام.
ولكن لا يجزئ القضاء في الأيام المنهي عن صومها كأيام العيد، ولا في الوقت المنذور صومه كالأيام الأولى من ذي الحجة، ولا في أيام رمضان الحاضر؛ لأنه متعين للأداء، فلا يقبل صوماً آخر سواه. ويجزئ القضاء في يوم الشك لصحة صومه تطوعاً، كما تقدم.
والقضاء يكون بالعدد، فإذا كان رمضان تسعة وعشرين يوماً، وجب قضاء ذلك المقدار فقط من شهر آخر.
__________
(1) الرخصة في الأمر: خلاف التشديد فيه، والمراد هنا: إجازة تثبت العذر كسفر في طاعة، أو سبب أباح الله له به الفطر.
(2) أي لم يؤد قضاءه بالفعل، ولم يجزه في الواقع.
(3) رواه الترمذي، واللفظ له، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، من حديث أبي هريرة (الترغيب والترهيب: 108/2) .(3/108)
تتابع القضاء: اتفق أكثر الفقهاء (1) على أنه يستحب موالاة القضاء أو تتابعه، لكن لا يشترط التتابع والفور في قضاء رمضان، فإن شاء فرقه وإن شاء تابعه، لإطلاق النص القرآني الموجب للقضاء، إلا إذا لم يبق من شعبان المقبل إلا ما يتسع للقضاء فقط، فيتعين التتابع لضيق الوقت، كأداء رمضان في حق من لاعذر له.
ودليل عدم وجوب التتابع ظاهر قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/2-185] فإنه يقتضي إيجاب العدد فقط، لا إيجاب التتابع.
وشرط الظاهرية والحسن البصري التتابع، لما روي عن عائشة أنها قالت: «نزلت: فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقط: متتابعات.
صوم الولي عن الميت قضاء: من مات وعليه صيام شيء من رمضان فله حالان (2) :
أحدهما ـ أن يموت قبل إمكان الصيام، إما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم، فلا شيء عليه عند أكثر العلماء لعدم تقصيره، ولا إثم عليه؛ لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت، فسقط حكمه إلى غير بدل كالحج. وبناء عليه: إن مات المريض أو المسافر، وهما على حالهما، لم يلزمهما القضاء.
__________
(1) فتح القدير: 81/2، اللباب: 171/1، مراقي الفلاح: ص116، بداية المجتهد: 289/1، مغني المحتاج: 445/1، الحضرمية: ص113، كشاف القناع: 388/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص121، المغني: 150/3.
(2) اللباب: 170/1، فتح القدير: 83/2-85، بداية المجتهد: 290/1، مغني المحتاج: 438/1 ومابعدها، المغني: 142/3 ومابعدها، كشاف القناع: 360/2، القوانين الفقهية: ص121، المهذب: 187/1.(3/109)
الحال الثاني ـ أن يموت بعد إمكان القضاء، فلا يصوم عنه وليه أي لم يجب صومه عند أكثر الفقهاء، ولم يصح صومه عنه عند الشافعية في الجديد؛ لأنه عبادة بدنية محضة، وجبت بأصل الشرع فلم تدخلها النيابة في الحياة وبعد الموت كالصلاة، ولحديث: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّ من حنطة» (1) ويستحب عند الحنابلة للولي أن يصوم عن الميت؛ لأنه أحوط لبراءة الميت.
وهل يجب الإطعام عنه من التركة؟
قال الحنفية والمالكية: إن أوصى بالإطعام، أطعم عنه وليه لكل يوم مسكيناً نصف صاع (2) من تمر أوشعير؛ لأنه عجز عن الأداء في آخر عمره، فصار كالشيخ الفاني، ولا بد من الإيصاء.
وقال الشافعية في الجديد والحنابلة على الراجح: الواجب أن يطعم عنه لكل يوم مد طعام (3) لكل مسكين، للحديث السابق، ولقول عائشة أيضاً: «يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام عنه» (4) ولحديث ابن عمر: «من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً» (5) .
هذا ... ويرى أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية وأبو ثور
__________
(1) قال عنه الحافظ الزيلعي: غريب مرفوعاً، وروي موقوفاً على ابن عباس، وابن عمر، فحديث الأول رواه النسائي، والثاني رواه عبد الرزاق في مصنفه (نصب الراية: 463/2) .
(2) الصاع: أربعة أمداد وهو يساوي 2751 غم.
(3) المد: رطل وثلث بالرطل البغدادي، وبالكيل المصري: نصف قدح من غالب قوت بلده ويساوي 675 غم.
(4) قال الشوكاني عنه: وهو ضعيف جداً.
(5) رواه ابن ماجه.(3/110)
والأوزاعي والظاهرية وغيرهم أنه يصوم الولي عن الميت إذا مات، وعليه صوم، أي صوم كان من رمضان أو نذراً، والولي على الأرجح: هو كل قريب، ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة المتفق عليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» (1) وقيد ابن عباس والليث وأبو عبيد وأبو ثور ذلك بصوم النذر.
المطلب الثاني ـ الكفارة:
وأما الكفارة: فالكلام في موجبها وحكمها ودليلها، وأنواعها وتعددها (2) :
فموجبها: إفساد صوم رمضان خاصة، عمداً قصداً، لانتهاك حرمة الصوم من غير مبيح للفطر، فلا كفارة على من أفطر في قضاء رمضان عند الجمهور، ولا كفارة على الناسي والمكره، ولا تجب في القبلة، ولا على الحائض والنفساء والمجنون والمغمى عليه؛ لأنه من غير فعلهم، ولاعلى المريض والمسافر، والمرهق بالجوع والعطش، والحامل، لعذرهم، ولا على المرتد؛ لأنه هتك حرمة الإسلام، لا حرمة الصيام خصوصاً. وقد سبق بحث الحالات الموجبة للكفارة في المذاهب، وأهمها الجماع بالاتفاق، والإفطار المتعمد بالأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية.
وحكمها: أنها واجبة بالفطر في رمضان فقط دون غيره إن أفطر فيه ـ لدى الحنفية والمالكية ـ منتهكاً لحرمته، أي غير مبال بها، بأن تعمدها اختياراً، بلا تأويل
__________
(1) نيل الأوطار: 235/4-237.
(2) الدر المختار: 150/2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص112، البدائع: 89/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 706/1-715، بداية المجتهد: 289/1-297، القوانين الفقهية: ص122-124، مغني المحتاج: 444/1، المهذب: 184/1، المغني 125/3-134، كشاف القناع: 381/2-382.(3/111)
قريب ـ على حد تعبير المالكية ـ احترازاً من الناسي والجاهل والمتأول، فلا كفارة عليهم، كما أبنت، وكان الفطر بجماع ونحوه، وبأكل ونحوه عند الحنفية والمالكية. واشترط الشافعية لإيجاب هذه الكفارة أن يكون المجامع ذاكراً لصومه، عالماً بالحرمة، غير مترخص بسفر أو مرض. فمن جامع ناسياً أو جاهلاً بالحرمة، أو أفسد صوماً غير صوم رمضان، أو أفطر متعمداً بغير الجماع، أو كان مسافراً، فلا كفارة عليه، وعليه القضاء فقط.
ودليل إيجابها: حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا.
قال: ثم جلس، فأُتي النبي صلّى الله عليه وسلم بعَرَق (1) فيه تمر، قال: تصدق بهذا، قال: فهل على أفقر منا، فما بين لابتيها (2) أهلُ بيت أحوج إليه منا؟! فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: اذهب فأطعمه أهلك (3) .
وفي لفظ ابن ماجه قال: أعتق رقبة؟ قال: لا أجدها، قال: صم شهرين متتابعين؟ قال: لا أطيق، قال: أطعم ستين مسكيناً. وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود في رواية: «وصم يوماً مكانه» .
__________
(1) العرق: الزنبيل، وهو المكتل، يسع خمسة عشر صاعاً، ووقع عند الطبراني في الأوسط: أنه أتي بمكتل فيه عشرون صاعاً، فقال: تصدق بهذا.
(2) اللابتان: تثنية لابة، وهي الحرة، والحرة: الأرض التي فيهاحجارة سود.
(3) رواه الجماعة عن أبي هريرة (نيل الأوطار:214/4) .(3/112)
قال الشوكاني: استدل به على سقوط الكفارة بالإعسار لما تقرر أنها لا تصرف في النفس والعيال، ولم يبين صلّى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعي، وجزم به عيسى بن دينار من المالكية، وقال الجمهور: لاتسقط بالإعسار، قالوا: وليس في الخبر ما يدل على سقوطها عن المعسر، بل فيه ما يدل على استقرارها عليه، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة (نيل الأوطار: 216/4) . قال ابن تيمية الجد: وفيه دلالة قوية على الترتيب. وظاهر لفظ الدارقطني: أن المرأة كانت مكرهة.
ويجب قضاء اليوم مع الكفارة. ويجب القضاء على الزوجة الموطوءة إن لم تجب عليها الكفارة.
أنواع الكفارة: ثلاثة: عتق، وصيام، وإطعام، مثل كفارة الظهار والقتل الخطأ في الترتيب عند الجمهور، فإن عجز عن العتق بأن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صومهما أطعم ستين مسكيناً. والإطعام عند المالكية أفضل الخصال، والكفارة واجبة عندهم على التخيير لا على الترتيب (1) . قال الشوكاني: في حديث أبي هريرة دليل على أنه يجزئ التكفير بواحدة من الثلاث الخصال. وظاهر الحديث أيضاً أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب. قال البيضاوي: لأن ترتيب الخصال بالفاء. وأضاف الشوكاني قائلاً: وقد وقع في الروايات ما يدل على الترتيب والتخيير، والذين رووا الترتيب أكثر، ومعهم الزيادة (2) ، فيكون دليل المالكية العمل برواية أخرى فيها التخيير.
والخلاصة: إن الكفارة مرتبة في رأي الجمهور، وقال المالكية: الكفارة واجبة في ثلاثة أنواع على التخيير، إما إطعام ستين مسكيناً وهو الأفضل، وصيام شهرين متتابعين، أوعتق رقبة.
فالعتق: تحرير رقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية: سليمة من العيوب أي عيوب فوات منفعة البطش والمشي والكلام والنظر والعقل، قياساً في اشتراط الإيمان على كفارة القتل الخطأ، وقال الحنفية: ولو كانت غير مؤمنة، لإطلاق نص الحديث السابق.
__________
(1) الشرح الصغير: 713/1.
(2) نيل الأوطار: 215/4.(3/113)
والصيام عند العجز عن الرقبة: صيام شهرين متتابعين، ليس فيهما يوم عيد، ولا أيام التشريق، ولا يجزئه الصوم إن قدر على العتق قبل البدء بالصوم، فلو قدر على العتق في أثناء الصوم ولو في آخر يوم، لزمه العتق عند الحنفية، ولم يلزمه عند الجمهور الانتقال عن الصوم إلى العتق، إلا أن يشاء أن يعتق، فيجزئه، ويكون قد فعل الأولى أي يندب له عتق الرقبة. فلو أفطر ولو لعذر إلا لعذر الحيض استأنف عند الحنفية الصوم من جديد، ويستأنف الصوم عند المالكية إن أفطر متعمداً.
ولا يستأنف إن أفطر ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدد. وقال الشافعية: لو أفسد يوماً ولو اليوم الأخير ولو بعذر كسفر ومرض وإرضاع ونسيان نية، استأنف الشهرين، لكن لا يضر الفطر بحيض ونفاس وجنون وإغماء مستغرق؛ لأن كلاً منها ينافي الصوم مع كونه اضطرارياً، وقال الحنابلة: لا ينقطع التتابع بالفطر لمرض أو حيض.
والإطعام عند عدم استطاعة الصوم: إطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين عند الجمهور مد من القمح بمد النبي صلّى الله عليه وسلم أو نصف صاع من تمر أوشعير، وعند الحنفية: مدان، أو يغذيهم ويعشيهم غداء وعشاء مشبعين، أو غداءين أو عشاءين، أو عشاء وسحوراً. والمدان أو نصف الصاع: هما من بُر أو دقيقه أو سويقه، أو يعطي كل فقير صاع تمر أوصاع شعير أوزبيب أو يعطي عند الحنفية قيمة نصف الصاع من البر، أو الصاع من غيره من غير المنصوص عليه، ولو في أوقات متفرقة، لحصول الواجب.(3/114)
ولا يجوز للفقير صرف الكفارة إلى عياله، كالزكاة وسائر الكفارات، وأما خبر «أطعمه أهلك» فهو خصوصية، أو أن لغير المكفر الذي تطوع بالتكفير عن غيره صرف الكفارة للمكفر عنه تطوعاً. والأصح عند الشافعية أن له العدول عن الصوم إلى الإطعام لغُلمة (أي شدة الحاجة للنكاح) ؛ لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد يفضيان به إلى الوقاع، ولو في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافها لبطلان التتابع، وهو حرج شديد.
وتشترط النية عند أداء الكفارة في رأي الشافعية، بأن ينوي العتق أو الصوم أو الإطعام عن الكفارة؛ لأنها حق مالي أو بدني يجب تطهيراً كالزكاة والصيام، فلا بد لصحتها من النية.
تعدد الكفارة أو تداخلها بتعدد الإفطار في أيام: إن تكرر الجماع، أو الإفطار بأكل ونحوه في رأي الحنفية والمالكية، قبل التكفير عن الأول، فإما أن يكون في يوم واحد، أو في يومين:
أـ فإن كان في يوم واحد، فكفارة واحدة تجزئه، بالاتفاق.
ب ـ وإن كان في يومين أو أكثر من رمضان: فعليه كفارتان أو أكثر، عند الجمهور؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فإذا وجبت بإفساده، لم تتداخل، كرمضانين وكالحجتين.
وتجزئ كفارة واحدة عند الحنفية عن جماع وأكل متعمد متعدد في أيام لم يتخلله تكفير، ولو من رمضانين على الصحيح، فإن تخلل تكفير لا تكفي كفارة واحدة في ظاهر الرواية؛ لأن الكفارة جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها، والمقصود بها الزجر، فيجب أن تتداخل كالحد، ويحصل بها مقصودها، وفي حال تخلل التكفير لم يحصل الزجر بعوده لانتهاك حرمة الشهر.(3/115)
ومن عجز عن الكفارة، استقرت في ذمته، والمعتبر حاله حين التكفير، فإن قدر على خصلة فعلها.
طروء العذر بعد الإفطار عمداً: إن حدوث السفر أو المرض بعد الجماع، أو الأكل المقيس عليه عند القائلين به، لا يسقط الكفارة عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن العذر معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلم يسقطها، ولأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر عند غير الحنابلة، فلا يؤثر فيما وجب من الكفارة، ولأن المرض، لا ينافي الصوم، فيتحقق هتك حرمته.
ورأى الحنفية أن الكفارة تسقط بعد الإفطار بطروء حيض أو نفاس أو مرض مبيح للفطر في يومه الذي أفسده؛ لأن اليوم لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً للكفارة، فتمكنت الشبهة في عدم استحقاقه من أوله بعروض العذر في آخره، ولا تسقط عمن سوفر به كرهاً أو سافر اختياراً، بعد لزومها في ظاهر الرواية، والفرق بين الحالين أنه في السفر المكره عليه لم يجئ العذر من قبل صاحب الحق، وفي غير السفر تمكنت الشبهة في عدم استحقاق الكفارة من أول اليوم بعروض العذر في آخره؛ لأن الكفارة إنما تجب في صوم مستحق، وهو لا يتجزأ ثبوتاً وسقوطاً.
المطلب الثالث ـ الفدية:
أما الفدية: فالكلام في حكمها، وسببها، وتكررها بتكرر السنين (1) :
فحكم الفدية: الوجوب، لقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/2] أي على الذين يتحملون الصوم بمشقة شديدة الفدية. والفدية عند الحنفية: نصف صاع من بُرّ، أي قيمته، بشرط دوام عجز الفاني والفانية إلى
__________
(1) مراقي الفلاح: ص116، الكتاب مع اللباب: 170/1-171، فتح القدير: 81/2-82، الشرح الصغير: 720/1-722، بداية المجتهد: 289/1، القوانين الفقهية: ص124، مغني المحتاج: 440/1 ومابعدها، المهذب: 178/1،187، المغني: 139/3-143، كشاف القناع:389/2 ومابعدها.(3/116)
الموت. ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور، بقدر ما فاته من الأيام. ومصارف الفدية والنذور المطلقة والكفارات والصدقات الواجبة: هي مصارف الزكاة.
وسببها:
1 - العجز عن الصيام، فتجب باتفاق الفقهاء على من لا يقدر على الصوم بحال، وهو الشيخ الكبير والعجوز، إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة، فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، للآية السابقة: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة:184/2] وقول ابن عباس: «نزلت رخصة للشيخ الكبير» ولأن الأداء صوم واجب، فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء. والشيخ الهمّ (1) له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزاً عن الإطعام أيضاً فلا شيء عليه، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/2] وقال الحنفية: يستغفر الله سبحانه، ويستقبله أي يطلب منه العفو عن تقصيره في حقه.
وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام عنه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء، بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل، حتى مات؛ لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة.
2 - وتجب الفدية أيضاً بالاتفاق على المريض الذي لا يرجى برؤه، لعدم وجوب الصوم عليه، كما تقدم، لقوله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/22] .
3 - وتجب الفدية كذلك عند الجمهور (غير الحنفية) مع القضاء على الحامل
__________
(1) الهم: الشيخ الفاني، والمرأة: هِمَّة.(3/117)
والمرضع إذا خافتا على ولدهما، أما إن خافتا على أنفسهما، فلهما الفطر، وعليهما القضاء فقط، بالاتفاق. ودليله الآية السابقة: {وعلى الذين يطيقونه فدية..} [البقرة:184/2] وهما داخلتان في عموم الآية، قال ابن عباس: «كانت رخصة الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا» (1) ، ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة، فوجبت به الكفارة كالشيخ الهرم.
ولا تجب عليهما الفدية مطلقاً عند الحنفية، لحديث أنس بن مالك الكعبي: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصوم ـ أو الصيام ـ والله لقد قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما أو كليهما» (2) فلم يأمر بكفارة، ولأنه فطر أبيح لعذر، فلم يجب به كفارة كالفطر للمرضى.
ورأي الجمهور أقوى وأصح لدي؛ لأنه نص في المطلوب، وحديث أنس مطلق لم يتعرض للكفارة.
4 - وتجب الفدية أيضاً مع القضاء عند الجمهور (غير الحنفية) على من فرط في قضاء رمضان، فأخره حتى جاء رمضان آخر مثله بقدر ما فاته من الأيام، قياساً على من أفطر متعمداً؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم، ولا تجب على من اتصل عذره من مرض أو سفر أو جنون أو حيض أو نفاس.
__________
(1) رواه أبو داود (نيل الأوطار: 231/4) .
(2) رواه النسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، وبقية الخمسة (أحمد وأبو داود وابن ماجه) (نيل الأوطار: 230/4) .(3/118)
تكرر الفدية: ولا تتكرر الفدية عند المالكية والحنابلة بتكرر الأعوام وإنما تتداخل كالحدود، والأصح في رأي الشافعية: أنها تتكرر بتكرر السنين؛ لأن الحقوق المالية لا تتداخل (1) . وقال الحنفية: لا فدية بالتأخير إلى رمضان آخر، لإطلاق النص القرآني. {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/2-185] فكان وجوب القضاء على التراخي، حتى كان له أن يتطوع، فلا يلزمه بالتأخير شيء ولأنه القياس في الكفارات، غير أنه تارك للأولِى من المسارعة في القضاء.
والفدية والكفارة والنذر وقتها العمر كله، والأولى التعجيل بقدر الإمكان وأن تكون الفدية في رمضان، لأن الثواب فيه أكثر. ويرى الحنابلة أن النذر والكفارة واجبان على الفور؛ لأنه مقتضى الأمر.
باقي لوازم الإفطار: أما إمساك بقية اليوم وعقوبة منتهك حرمة صوم رمضان فقد سبق الكلام عليهما.
وأما قطع التتابع: فهو عند المالكية لمن أفطر متعمداً في صيام النذر والكفارات المتتابعات كالقتل والظهار، فيستأنف، بخلاف من قطع الصوم ناسياً أو لعذر، أو لغلط في العدة، فإنه يبني على ما كان معه. وقد عرفنا رأي بقية المذاهب الأخرى.
وأما قطع النية: فإنها تنقطع بإفساد الصوم أو تركه مطلقاً لعذر أو لغير عذر، ولزوال تحتم الصوم كالسفر، وإن صام فيه، وإنما ينقطع استصحابها حكماً. وهذا عند المالكية الذين يكتفون بنية واحدة أول شهر رمضان.
__________
(1) يؤيده ما يروى بإسناد ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في رجل مرض في رمضان، فأفطر، ثم صح، ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقال: يصوم الذي أدركه، ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه، ويطعم كل يوم مسكيناً» ورواه الدارقطني موقوفاً (نيل الأوطار: 233/4) .(3/119)
ملحق ـ ما يلزم الوفاء به من منذور الصوم والصلاة وغيرهما:
قال الحنفية (1) : إذا نذر الإنسان شيئاً لزمه الوفاء به بشروط أربعة:
1ً - أن يكون من جنسه واجب: فلا تلزم عيادة المريض أو قراءة المولد النبوي، إذ ليس من جنسها واجب، وإيجاب الإنسان شيئاً على نفسه معتبر بإيجاب الله تعالى، إذ له الاتباع، لا الابتداع.
وأجاز الحنفية نذر صوم يوم العيد، لأن صومه عندهم حرام بوصفه، لا بأصله، أي لما يترتب عليه من الإعراض عن ضيافة الله، أما أصل الصوم فمشروع.
2ً - أن يكون مقصوداً لذاته، لا لغيره: فلا يلزم الوضوء بنذره، ولا قراءة القرآن، لكون الوضوء ليس مقصوداً لذاته، لأنه شرع شرطاً لغيره، كحل الصلاة.
3ً - ألا يكون واجباً: فلا يصح نذر الواجبات كالصلوات الخمس؛ لأن إيجاب الواجب محال، ولا يصح نذر الوتر وسجدة التلاوة عند الحنفية القائلين بوجوبهما؛ لأنها واجبة بإيجاب الشارع.
4ً - ألا يكون المنذور محالاً كقوله: لله علي صوم الأمس أو البارحة، إذ لايلزمه.
وبناء عليه يصح نذر الاعتكاف، والصلاة غير المفروضة، والصوم والتصدق بالمال، والذبح، لوجود شيء من جنسها شرعاً كالأضحية. ويصح ـ كما تقدم ـ عند الحنفية نذر صوم العيدين وأيام التشريق في المختار، لكن يجب فطرها وقضاؤها، وإن صامها أجزأه مع الحرمة.
وإن نذر شيئاً مطلقاً كصلاة ركعتين، أو معلقاً بشرط، مثل إن رزقني الله غلاماً، فعلي إطعام عشرة مساكين، ووجد الشرط، لزمه الوفاء به، لقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج:29/22] ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه» (2) .
ويلغى عند الحنفية ماعدا زفر تعيين الزمان والمكان والدرهم والفقير، فيجزئه صوم رجب عن نذره صوم شعبان، ويجزئه صلاة ركعتين بأي بلد، وقد كان نذر أداءهما بمكة، أو المسجد النبوي، أو الأقصى، لأن صحة النذر باعتبار القربة، لا المكان؛ لأن الصلاة تعظيم الله تعالى بجميع البدن، والأمكنة كلها في هذا المعنى سواء، وإن تفاوت الفضل. ويجزئه التصدق بدرهم عن درهم عينه له، والصرف لزيد الفقير بنذره لعمر؛ لأن المقصود من الصدقة سد خلة المحتاج، أو ابتغاء وجه الله، وهذا المعنى حاصل بدون مراعاة زمان ومكان وشخص.
وإن علق النذر بشرط، مثل «إن قدم فلان فلله علي أن أتصدق بكذا» لا يجزئه عنه ما فعله قبل وجود شرطه؛ لأن المعلق بالشرط عدم قبل وجوده، وإنما يجوز الأداء بعد وجود السبب الذي علق النذر به.
وسيأتي في بحث النذر تفصيل آراء المذاهب الأخرى.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص117.
(2) رواه البخاري.(3/120)
الفَصْلُ الثَّاني: الاعتِكَاف
فيه مباحث ستة وهي:
المبحث الأول ـ تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه.
المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف.
المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف.
المبحث الرابع ـ ما يلزم المعتكف وما يجوز له.
المبحث الخامس ـ آداب المعتكف، ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته.
المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد.
وأبدأ ببحثها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الاعتكاف ومشروعيته والهدف منه، ومكانه وزمانه:
تعريفه: الاعتكاف لغة: اللبث وملازمة الشيء أو الدوام عليه خيراً كان أو شراً. ومنه قوله تعالى: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف:138/7] وقوله: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء:53/21] وقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/2] .(3/121)
وشرعاً له تعاريف متقاربة في المذاهب، قال الحنفية (1) : هو اللبث في المسجد الذي تقام فيه الجماعة، مع الصوم، ونية الاعتكاف، فاللبث ركنه؛ لأنه ينبئ عنه، فكان وجوده به، والصوم في الاعتكاف المنذور والنية من شروطه. ويكون من الرجل في مسجد جماعة: وهو ماله إمام ومؤذن، أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، ومن المرأة: في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة، ويكره في المسجد، ولا يصح في غير موضع صلاتها من بيتها.
وقال المالكية (2) : هو لزوم مسلم مميز مسجداً مباحاً لكل الناس، بصوم، كافاً عن الجماع ومقدماته، يوماً وليلة فأكثر، للعبادة، بنية. فلا يصح من كافر، ولا من غير مميز، ولا في مسجد البيت المحجور عن الناس، ولا بغير صوم، أي صوم كان: فرض أو نفل، من رمضان أو غيره، ويبطل بالجماع ومقدماته ليلاً أو نهاراً، وأقله يوم وليلة ولا حد لأكثره، بقصد العبادة بنية، إذ هو عبادة، وكل عبادة تفتقر للنية.
وعبارة الشافعية (3) : هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية.
وعبارة الحنابلة (4) : هو لزوم المسجد لطاعة الله، على صفة مخصوصة، من مسلم عاقل ولو مميزاً، طاهر مما يوجب غسلاً، وأقله ساعة، فلا يصح من كافر ولو مرتداً، ولا من مجنون ولا طفل، لعدم النية، ولا من جنب ونحوه ولو متوضئاً، ولا يكفي العبور، وإنما أقله لحظة.
__________
(1) فتح القدير: 106/2، الدر المختار: 176/2، مراقي الفلاح: ص118، اللباب: 174/1.
(2) الشرح الكبير:541/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 725/1 ومابعدها.
(3) مغني المحتاج: 449/1.
(4) كشاف القناع: 404/2، المغني: 183/3.(3/122)
وأدلة مشروعيته (1) : الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب: قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/2] ومثله {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125/2] فالإضافة في الآية الأولى إلى المساجد المختصة بالقربات، وترك الوطء المباح لأجله، دليل على أنه قربة.
والسنة: لما روى ابن عمر وأنس وعائشة أن «النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى» (2) وقال الزهري: «عجباً من الناس، كيف تركوا الاعتكاف، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفعل الشيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتى قبض» .
وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين} [البقرة:125/2] .
والهدف منه: صفاء القلب بمراقبة الرب والإقبال والانقطا ع إلى العبادة في أوقات الفراغ، متجرداً لها، ولله تعالى، من شواغل الدنيا وأعمالها، ومسلِّماً النفس إلى المولى بتفويض أمرها إلى عزيز جنابه والاعتماد على كرمه والوقوف ببابه، وملازمة عبادته في بيته سبحانه وتعالى والتقرب إليه ليقرب من رحمته، والتحصن بحصنه عز وجل، فلا يصل إليه عدوه بكيده وقهره، لقوة سلطان الله وقهره وعزيز تأييده ونصره. فهو من أشرف الأعمال وأحبها إلى الله تعالى إذا كان عن إخلاص لله سبحانه؛ لأنه منتظر للصلاة، وهو كالمصلي، وهي حالة قرب.
فإذا انضم إليه الصوم عند مشترطيها ازداد المؤمن قرباً من الله بما يفيض على الصائمين من طهارة القلوب، وصفاء النفوس.
وأفضله في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص120، مغني المحتاج: 449/1، المغني: 183/3.
(2) متفق عليه، عبارة الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوسط من رمضان ثم اعتكف العشر الأواخر، ولازمه حتى توفاه الله تعالى» ثم اعتكف أزواجه من بعده. (نيل الأوطار: 264/4) .(3/123)
وزمانه: أنه مستحب كل وقت في رمضان وغيره، وأقله عند الحنفية (1) نفلاً: مدة يسيرة غير محدودة، وإنما بمجرد المكث مع النية، ولو نواه ماشياً على المفتى به؛ لأنه متبرع، وليس الصوم في النفل من شرطه، ويعد كل جزء من اللبث عبادة مع النية بلا انضمام إلى آخر. ولا يلزم قضاء نفل شرع فيه على الظاهر من المذهب؛ لأنه لا يشترط له الصوم.
وأقله عند المالكية (2) : يوم وليلة، والاختيار: ألا ينقص عن عشرة أيام، بمطلق صوم من رمضان أو غيره، فلا يصح من مفطر، ولو لعذر، فمن لا يستطيع الصوم لا يصح اعتكافه.
والأصح عند الشافعية (3) :أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفاً أي إقامة، بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون، بل يكفي التردد فيه.
وأقله عند الحنابلة (4) : ساعة أي ما يسمى به معتكفاً لابثاً، ولو لحظة. فالجمهور على الاكتفاء بمدة يسيرة، والمالكية يشترطون لأقله يوماً وليلة.
ومكانه: عند الحنفية (5) للرجل أو المميز في مسجد الجماعة: وهو ما له إمام ومؤذن، سواء أديت فيه الصلوات الخمس أو لا، وأما الجامع فيصح فيه مطلقاً اتفاقاً، بدليل قول ابن مسعود:
__________
(1) مراقي الفلاح ونور الإيضاح: ص119.
(2) الشرح الكبير والصغير، المكان السابق، القوانين الفقهية: ص125.
(3) مغني المحتاج: 451/1، المهذب: 190/1 ومابعدها.
(4) كشاف القناع: 404/2.
(5) الدر المختار ورد المحتار:176/2.(3/124)
«لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» (1) ،وللمرأة في مسجد بيتها: وهو المعد لصلاتها، الذي يندب لها ولكل أحد اتخاذه.
وعند الحنابلة (2) : لا يجوز الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاة جماعة إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فلا يصح بغير مسجد بلا خلاف، لقوله تعالى: {ولاتباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/2] فلو صح في غيرها لم تختص بتحريم المباشرة؛ إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقاً. وإنما اشترط كون المسجد مما يجمع فيه؛ لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعةالواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيراً مع إمكان التحرز منه، وذلك مناف للاعتكاف: وهو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه.
ويصح الاعتكاف في كل مسجد في الحالات التالية:
1ً - إن كان الاعتكاف مدة غير وقت الصلاة كليلة، أو بعض يوم، لعدم المانع. وإن كانت الجماعة تقام في مسجد في بعض الزمان، جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره.
2ً - إن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور والمرأة والصبي ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه، فله أن يعتكف في كل مسجد؛ لأن الجماعة غير واجبة عليه. ولا يصح للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكماً، ولوجاز لفعلته أمهات المؤمنين، ولو مرة، تبييناً للجواز.
وإذا اعتكفت المرأة في المسجد، استحب لها أن تستتر بشيء؛ لأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن، فضربن في المسجد، ولأن المسجد يحضره الرجال، وخير لهم وللنساء ألا يرونهن ولا يرينهم.
ولا يصح الاعتكاف ممن تلزمه الجماعة في مسجد تقام فيه الجمعة دون الجماعة إذا كان يأتي عليه وقت صلاة، حتى لا يترك الجماعة.
__________
(1) رواه الطبراني (نصب الراية: 490/2) .
(2) المغني: 187/3 - 191، كشاف القناع: 409/2-412.(3/125)
ويلاحظ أن سطح المسجد ورحبته المحطوطة به وعليها باب، ومنارته التي تكون فيه أو التي بابها فيه من المسجد، بدليل منع الجنب من الدخول فيما ذكر.
وكذا كل ما زيد في المسجد حتى في الثواب يعد من المسجد، ولو المسجد الحرام ومسجد المدينة، لما روي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء، كان مسجدي» (1) وقال عمر لما زاد المسجد: «لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة، كان مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم» .
ولو اعتكف من لا تلزمه الجمعة كالمسافر والمرأة في مسجد لا تصلى فيه الجمعة، بطل اعتكافه بخروجه إليها إن لم يشترط الخروج إليها؛ لأنه خروج لازم لا بد له منه.
والأفضل الاعتكاف في المسجد إذا كانت الجمعة تتخلله، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه.
ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فله فعل المنذور من اعتكاف أو صلاة في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعاً، فلم يتعين بالنذر، ولو تعين لا حتاج إلى شد رحل.
وإن نذر الاعتكاف أو الصلاة في أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، لم يجزئه في غيرها، لفضل العبادة فيها على غيرها، فتتعين بالتعيين. وله شد الرحال إلى المسجد الذي عينه من الثلاثة، لحديث أبي هريرة: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» (2) .
وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى (3) ، فإن عين الأفضل منها وهو المسجد الحرام في نذره، لم يجزئه الاعتكاف ولا الصلاة فيما دونه، لعدم مساواته له.
وقال المالكية (4) : مكان الاعتكاف هو المساجد كلها، ولايصح في مسجد البيوت المحجورة،
__________
(1) حديث ضعيف، رواه الزبير بن بكار في أخبار المدينة.
(2) متفق عليه. وقال بعضهم: إلا مسجد قباء؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان يأتيه كل سبت راكباً وماشياً، ويصلي فيه ركعتين» متفق عليه، وكان ابن عمر يفعله.
(3) روى الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» ولأحمد وأبي داود من حديث جابر بن عبد الله مثله، وزاد: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه» .
(4) القوانين الفقهية: ص 125، الشرح الصغير: 725/1، 253/2-255،265.(3/126)
ومن نوى الاعتكاف مدة يتعين عليه إتيان الجمعة في أثنائها، تعين الجامع، لأنه إن خرج إلى الجمعة، بطل اعتكافه. ويلزم الوفاء بالنذر في المكان الذي عينه الناذر، فإذا عين مسجد مكة أو المدينة في نذر الصلاة أو الاعتكاف، وجب عليه الوفاء فيهما. والمدينة عند المالكية أفضل من مكة، ومسجدها أفضل من المسجد الحرام، ويليهما المسجد الأقصى، لما رواه الدارقطني والطبراني من حديث رافع بن خديج: «المدينة خير من مكة» ولما ورد في دعائه صلّى الله عليه وسلم: «اللهم كما أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك» وروى الطبراني عن بلال بن الحارث المزني: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان
فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» .
وكذلك قال الشافعية (1) : إنما يصح الاعتكاف في المسجد، سواء في سطحه أو غيره التابع له، والجامع (2) أولى بالاعتكاف فيه من غيره، للخروج من خلاف من أوجبه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم الجمعة، وكان ممن تلزمه الجمعة، ولم يشترط الخروج لها.
__________
(1) مغني المحتاج: 450/1 ومابعدها، المجموع: 508/6 ومابعدها، المهذب: 190/1 ومابعدها.
(2) سمي الجامع لجمعه الناس واجتماعهم فيه.(3/127)
والجديد أنه لايصح اعتكاف امرأة في مسجد بيتها: وهو المعتزل المهيأ للصلاة؛ لأنه ليس بمسجد بدليل جواز تغييره ومكث الجنب فيه، ولأن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم ورضي عنهن كن يعتكفن في المسجد، ولو كفى بيوتهن لكان لهن أولى.
وإن نذر أن يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة بعينه، جاز - كما قال الحنابلة - أن يعتكف في غيره؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض، فلم يتعين.
وإن نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى) تعين، ولزمه أن يعتكف فيه، لما روى عمر رضي الله عنه، قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: أوف بنذرك» (1) ويقوم المسجد الحرام مقامهما لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به، ولا عكس، فلا يقومان مقام المسجد الحرام؛ لأنهما دونه في الفضل، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى؛ لأنه أفضل منه، ولا عكس، لأنه دونه في الفضل.
والخلاصة: إن المالكية والشافعية يجيزون الاعتكاف في أي مسجد، والحنفية والحنابلة يشترطو ن كونه في المسجد الجامع، ولا يجوز عند الجمهور الاعتكاف في مسجد البيوت، ويجوز ذلك للمرأة عند الحنفية.
المبحث الثاني ـ حكم الاعتكاف وما يوجبه النذر على المعتكف:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ حكم الاعتكاف:
الاعتكاف غير المنذور مستحب باتفاق العلماء، ولكن يحسن بيان الآراء المذهبية لتحديد رتبة السنة على وجه الدقة.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(3/128)
فقال الحنفية (1) : الاعتكاف ثلاثة أنواع: واجب، وسنة مؤكدة، ومستحب.
أما الواجب: فهو المنذور، كقوله: «لله علي أن أعتكف يوماً» أو أكثر مثلاً.
وأما السنة المؤكدة على سبيل الكفاية: فهي اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، لاعتكافه صلّى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه بعده.
وأما المستحب: فهو في أي وقت سوى العشر الأخير، ولم يكن منذوراً، كأن ينوي الاعتكاف عند دخول المسجد، وأقله: مدة يسيرة، ولو كانت ماشياً على المفتى به.
والصوم شرط لصحة الاعتكاف المنذور فقط وغير شرط في التطوع، وأقله يوم، فلو نذر اعتكاف ليلة لم يصح، وإن نوى معها اليوم لعدم محليتها للصوم، أما لو نوى بها اليوم صح، والفرق أنه في الحالة الأولى جعل اليوم تبعاً لليلة، ولما بطل نذره في المتبوع وهو الليلة، بطل في التابع وهو اليوم، وأما في الحالة الثانية، فقد أطلق الليلة، وأراد اليوم مجازاً مرسلاً، باستعمال الليلة في مطلق الزمن وهو اليوم، فكان اليوم مقصوداً.
ولو نذر الاعتكاف ليلاً ونهاراً، وإن لم يكن الليل محلاً للصوم، لأنه يدخل الليل تبعاً.
وقال المالكية (2) : الاعتكاف قربة ونافلة من نوافل الخير ومندوب إليه بالشرع أو مرغب فيه شرعاً للرجال والنساء، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان، ويجب بالنذر.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : الاعتكاف سنة أو مستحب كل وقت، إلا أن يكون نذراً، فيلزم الوفاء به؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه، تقرباً إلى الله تعالى، واعتكف أزواجه بعده معه. فإن نذره وجب الوفاء به على الصفة التي نذرها من تتابع وغيره، لحديث: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (4) وعن عمر أنه قال: «يا رسول الله: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك» (5) .
__________
(1) الدر المختار:177/2، مراقي الفلاح: ص118 ومابعدها، فتح القدير: 105/2 ومابعدها.
(2) الشرح الصغير: 725/1، القوانين الفقهية: ص125، بداية المجتهد: 302/1.
(3) مغني المحتاج: 449/1، المهذب: 190/1، المغني: 184/3، كشاف القناع: 405/2.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه البخاري ومسلم.(3/129)
المطلب الثاني ـ ما يوجبه النذر على المعتكف:
إذا نذر المسلم نذر يوم أو أيام، فهل يدخل معه الليل، وهل يجب التتابع بين الأيام أو لا، ومتى يدخل المعتكف هل قبل الغروب أو قبل طلوع الفجر؟.
الجمهور يرون دخول الليل مع اليوم، ويجب التتابع بين الأيام المنذورة كأسبوع وشهر، ويدخل المعتكف قبل غروب شمس ذلك اليوم، ويخرج بعد الغروب من آخر يوم. والشافعية لا يرون دخول الليلة مع اليوم إلا في العشر الأخير من رمضان، ولا يلزمه التتابع فيه على الأظهر إلا بشرط، ويدخل المعتكف قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس (1) .
وعبارة الحنفية: من أوجب على نفسه اعتكاف يومين فأكثر، لزمه اعتكافها بلياليها؛ لأن الليالي تدخل تبعاً؛ لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يدخل فيها لياليها، ويلزمه تتابعها وإن لم يشترط التتابع؛ لأن مبنى الاعتكاف على التتابع، بخلاف الصوم فإن مبناه على التفرق؛ لأن الليالي غير قابلة للصوم، فيجب على التفرق، أما الاعتكاف فالأوقات كلها قابلة له.
وتدخل الليلة الأولى، ويدخل المسجد قبل الغروب من أول ليلة، ويخرج منه بعد الغروب من آخر أيامه.
ومن نذر اعتكاف الليالي لزمته الأيام، وتلزمه الليالي بنذر اعتكاف أيام متتابعة، ويلاحظ أن الليالي تابعة للأيام التالية إلا ليلة عرفة وليالي النحر فتبع للنُهُر الماضية رفقاً بالناس.
وعبارة المالكية: ولزم المعتكف يوم بليلته المنذورة، وإن نذر ليلة فقط، فمن نذر ليلة الخميس، لزمه ليلته وصبيحتها، ولا يتحقق الصوم الذي هو من شروط الاعتكاف غير المنذور، فيلزم مانواه قل أو كثر بدخوله معتكفه.
__________
(1) فتح القدير: 114/2 ومابعدها، الدر المختار: 186/2 ومابعدها، نور الإيضاح: ص120، اللباب: 176/1، الشرح الصغير: 729/1 ومابعدها، المجموع: 519/6-526، مغني المحتاج: 455/1 ومابعدها، المهذب: 191/1، كشاف القناع: 412/2-413، المغني: 210/3-215.(3/130)
ولزم دخول المعتكف قبل الغروب أو معه، ليتحقق له كمال الليلة. ولزم خروجه من معتكفه بعد الغروب ليتحقق له كمال النهار.
وعبارة الحنابلة: من نذر اعتكاف شهر، لزمه التتابع، ودخلت فيه الليالي، ودخل معتكفه قبل غروب شمس ليلته الأولى، ولا يخرج إلا بعد غروب شمس آخر أيامه.
وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه، ولم تدخل ليلته، ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن الليلة ليست من اليوم، وهي من الشهر، وإطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه، كما لو قال متتابعاً، وكذا إطلاق الشهر يقتضي التتابع، كما لو حلف: «لا يكلم زيداً شهراً» وكمدة الإيلاء والعُنَّة والعدة، بخلاف الصيام. فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك، وإن كان الشهر ناقصاً، وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين جاز؛ وتدخل فيه الليالي؛ لأن الشهر عبارة عنهما، ولا يجزئه أقل من ذلك.
وعبارة الشافعية: إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة، بلا خلاف، فالليلة ليست من اليوم، بل يلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن حقيقة اليوم: ما بين الفجر وغروب الشمس.
وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه اعتكافه ليلاً ونهاراً أي دخلت لياليه، سواء أكان الشهر تاماً أم ناقصاً؛ لأن الشهر عبارة عما بين الهلالين أي جميع الشهر، تم أو نقص إلا أن يستثنيها لفظاَ. وإن نذر اعتكاف نهار الشهر، لزمه النهار دون الليل؛ لأنه خص النهار، فلا يلزمه الليل. وهذا موافق للحنابلة.(3/131)
والراجح عند الأكثرين من الشافعية أنه إن نوى التتابع أو صرح به، لزمته الليلة، وإلا فلا. والصحيح أنه لا يجب التتابع بلا شرط، وأنه لو نذر يوماً لم يجز تفريق ساعاته، وأنه لو عين مدة كأسبوع وتعرض للتتابع فيها لفظاً وفاتته، لزمه التتابع في القضاء، وإن لم يتعرض للتتابع لم يلزمه في القضاء جزماً؛ لأن التتابع فيه لم يقع مقصوداً، بل لضرورة تعين الوقت، فأشبه التتابع في شهر رمضان.
ولو قال: لله علي أن أعتكف العشر الأخير من رمضان، دخلت لياليه، حتى الليلة الأولى، ويجزئه وإن نقص الشهر، لأن هذا الاسم يقع على ما بعد العشرين إلى آخر الشهر، بخلاف قوله: عشرة أيام من آخر الشهر، وكان ناقصاً لا يجزئه؛ لأنه جرَّد القصد إليها، فيلزمه أن يعتكف بعده يوماً.
ولو نذر اعتكاف يوم معين ففاته فقضاه ليلاً، أجزأه. ولو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم ليلاً، فالمعتمد أن يقضي يوماً كاملاً، وذلك إذا قدم حياً مختاراً، فلو قدم فيه ميتاً أو قدم مكرهاً، فلا شيء عليه.
المبحث الثالث ـ شروط الاعتكاف
يشترط لصحة الاعتكاف ما يلي (1) :
1ً - الإسلام: فلا يصح الاعتكاف من الكافر؛ لأنه من فروع الإيمان.
2ً - العقل أو التمييز: فلا يصح من مجنون ونحوه، ولا من صبي غير مميز؛ لأنه ليس من أهل العبادات، فلم يصح منه الاعتكاف كالكافر، ويصح اعتكاف الصبي المميز.
3ً - كونه في المسجد: فلا يصح في البيوت، كما تقدم، إلا أن الحنفية أجازوا للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها: وهو محل عينته للصلاة فيه.
__________
(1) الدر المختار: 177/2-179، فتح القدير: 106/2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص119، القوانين الفقهية: ص125، الشرح الصغير: 725/1 ومابعدها، المهذب: 190/1-192، مغني المحتاج: 453/1 ومابعدها، المغني: 184/3-186، كشاف القناع: 406/2-409.(3/132)
4ً - النية اتفاقاً: فلا يصح الاعتكاف إلا بالنية، للحديث المتقدم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية كالصوم والصلاة وسائر العبادات. وأضاف الشافعية: إن كان الاعتكاف فرضاً، لزمه تعيين النية للفرض، لتميزه عن التطوع.
5ً - الصوم: شرط مطلقاً عند المالكية، وشرط عند الحنفية في الاعتكاف المنذور فقط دون غيره من التطوع، وليس بشرط عند الشافعية والحنابلة فيصح بلا صوم، إلا أن ينذره مع الاعتكاف، ويصح عند الجمهور غير المالكية اعتكاف الليل وحده إذا لم يكن منذوراً.
ودليل المشترطين حديث: «لا اعتكاف إلا بصوم» (1) .
ودليل غير المشترطين حديث عمر أنه قال: «يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له: أوف بنذرك» (2) وفي رواية أنه جعل على نفسه أن يعتكف يوماً.. الخ فلم يشترط له الصيام، ولصحة اعتكاف الليل، لأنه لاصيام فيه، ولحديث ابن عباس: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» (3) .
6ً - الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس: شرط عند الجمهور، إلا أن الخلو من الجنابة شرط عند المالكية لحل المكث في المسجد، لا لصحة الاعتكاف، فإذا احتلم المعتكف وجب عليه الغسل إما في المسجد إن وجد فيه ماء، أوخارج المسجد.
وكذلك قال الحنفية: الخلو من الجنابة شرط لحل الاعتكاف، لا لصحته، فلو اعتكف الجنب، صح اعتكافه مع الحرمة. وأما الخلو عن الحيض والنفاس فهو شرط لصحة الاعتكاف الواجب
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة، إلا أنه ضعيف (نصب الراية: 486/2) .
(2) رواه البخاري ومسلم، والدارقطني عن ابن عمر عن عمر (نصب الراية: 488/2) .
(3) رواه الدارقطني عن ابن عباس، ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه، وأخرجه الحاكم مرفوعاً، وقال: صحيح الإسناد (نيل الأوطار: 268/4) .وهو المنذور؛ لأن الصوم شرط لصحته، ولا يصح الصوم من الحائض والنفساء.(3/133)
7ً - إذن الزوج لزوجته: شرط عند الحنفية والشافعية والحنابلة، فلا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها، ولو كان اعتكافها منذوراً. ورأى المالكية أن اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها صحيح مع الإثم.
وأضاف ابن جزي المالكي شرطاً آخر: وهو الاشتغال بالعبادة على قدر الاستطاعة ليلاً ونهاراً، من الصلاة والذكر والتلاوة خاصة، عند ابن القاسم، ومن سائر أعمال الآخرة عند ابن وهب، فعلى الأول، وهو الراجح، لا يشهد جنازة ولا يعود مريضاً، ولا يدرس العلم، وعلى الثاني: يفعل ذلك.
المبحث الرابع: ما يلزم المعتكف وما يجوز له
اتفق الفقهاء على أنه يلزم المعتكف في الاعتكاف الواجب البقاء في المسجد، لتحقيق ركن الاعتكاف وهو المكث والملازمة والحبس، ولا يخرج إلا لعذر شرعي أو ضرورة أو حاجة.
قال الحنفية (1) :
يجوز للمعتكف الخروج في اعتكاف النفل أو السنة المؤكدة، لأن الخروج ينهي الاعتكاف ولا يبطله، لكن لو شرع في المسنون وهو العشر الأواخر من رمضان بنيته، ثم أفسده، يجب عليه قضاؤه: أي قضاء العشر كله في رأي أبي يوسف، وقضاء اليوم الذي أفسده لاستقلال كل يوم بنفسه، في رأي جمهور الحنفية.
وحرم على المعتكف اعتكافاً واجباً الخروج إلا لعذر شرعي كأداء صلاة الجمعة والعيدين، فيخرج في وقت يمكنه إدراكها مع صلاة سنة الجمعة قبلها، ثم يعود، وإن أتم اعتكافه في الجامع صح وكره.
أو لحاجة طبيعية: كالبول والغائط وإزالة النجاسة، والاغتسال من جنابة باحتلام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة.
أو لحاجة ضرورية: كانهدام المسجد، أو أداء شهادة تعينت عليه، أو خوف على نفسه أو متاعه من المكابرين، أو إخراج ظالم له كرهاً وتفرق أهله. وعليه أن يدخل مسجداً آخر غيره من ساعته.
__________
(1) فتح القدير: 109/2-112، الدر المختار ورد المحتار: 180/2-185، مراقي الفلاح: ص119.(3/134)
فإن خرج ولو ناسياً ساعة بلا عذر، فسد الواجب، وانتهى به غيره، وعليه قضاء الواجب الذي أفسده إلا إذا أفسده بالردة؛ لأنها تسقط ما وجب عليه قبلها. وإن خرج لعذر يغلب وقوعه: وهو الحاجة الطبيعية الشرعية لم يفسد اعتكافه. وإن خرج لعذر نادر كإنجاء غريق وانهدام مسجد، فلا يأثم، لكن يبطل اعتكافه، إذا لم يخرج إلى مسجد آخر مباشرة.
ويفسد اعتكافه بالخروج لعيادة مريض أو تشييع جنازة، وإن تعينت عليه، إلا أنه لا يأثم، كما في المرض. قالت عائشة: «السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (1) .
والأكل والشرب والنوم والعقد المحتاج إليه لنفسه أوعياله كبيع ونكاح ورجعة يكون في معتكفه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن له مأوى إلا المسجد، ولأنه يمكن قضاء هذه الحاجة في المسجد، فلا ضرورة إلى الخروج.
فلا بأس بأن يبيع ويبتاع في المسجد من غير أن يحضر السلعة، لأنه قد يحتاج إلى ذلك بأن لا يجد من يقوم بحاجته، لكن يكره تحريماً البيع لتجارة وإحضار المبيع أو السلعة إلى المسجد، ومبايعة غير المعتكف فيه مطلقاً؛ لأن المسجد محرر عن حقوق العباد، وفيه انشغال بها، وورد حديث: «جنبوا مساجدكم ـ أو مساجدنا ـ صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم ... الحديث» (2) ، وثبت أنه «صلّى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن ينشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة» (3) .
وأما الأكل والشرب والنوم لغير المعتكف في المسجد، فمكروه إلا لغريب، كما في أشباه ابن نجيم، وقال ابن كمال: لايكره الأكل والشرب والنوم فيه مطلقاً مقيماً كان أوغريباً، مضطجعاً أو متكئاً، رجلاه إلى القبلة أو إلى غيرها.
وقال المالكية (4) : لا يخرج من معتكفه إلا لأربعة أمور: لحاجة الإنسان، ولما لابد منه من شراء معاشه، وللمرض، والحيض، وإذا خرج لشيء من ذلك، فهو
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 267/4) .
(2) حديث ضعيف رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه من حديث واثلة بن الأسقع، ورواه الطبراني أيضاً من حديث أبي الدرداء وأبي أمامة، ورواه عبد الرزاق من حديث معاذ (نصب الراية: 491/2-492) .
(3) رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي.
(4) القوانين الفقهية: ص125، الشرح الصغير: 734/1 ومابعدها.(3/135)
في حكم الاعتكاف حتى يرجع. فلا يخرج لعيادة مريض وصلاة جنازة وصعود لأذان أو سطح للمسجد، ويجوز سلامه على من بقربه، وتطيبه بأنواع الطيب وإن كره للصائم غير المعتكف، لأن معه مانعاً يمنعه من إفساد اعتكافه وهو بالمسجد، وجاز له أن يزوج ويتزوج، ويستصحب ثوباً غير الذي عليه، لأنه ربما احتاج له.
وقال الشافعية (1) : لايجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، لقول عائشة: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد، فأرِّجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، إذا كان معتكفاً» (2) فيجوز أن يخرج رأسه وأرجله أو يخرج للحاجة الطبيعية، ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة هذا. فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه؛ لأنه فعل ما ينافي الاعتكاف: وهو اللبث في المسجد.
وله أن يخرج إلى منارة المسجد ليؤذن فيها، ولو كانت على الراجح خارج المسجد وخارج رحبته (وهي ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه) ولا يبطل اعتكافه، ويجوز أن يمضي إلى البيت للأكل، ولا يبطل اعتكافه، في النصوص؛ لأن الأكل في المسجد ينقص المروءة، فلم يلزمه. كما له الخروج لشرب الماء إن عطش ولم يجد الماء في المسجد.
ويخرج لصلاة الجنازة وعيادة المريض في اعتكاف التطوع، ولا يخرج في اعتكاف الفرض، فإن خرج في الحالين بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لصلاة الجمعة إن كان من أهل الفرض، والاعتكاف في غير الجامع؛ لأن الجمعة فرض في الشرع، فلا يجوز تركها بالاعتكاف، ويبطل
__________
(1) المجموع: 528/6-565، المهذب: 192/1-194.
(2) رواه البخاري ومسلم.(3/136)
اعتكافه وتتابعه في الأصح المشهور من نصوص الشافعي؛ لأنه كان يمكنه الاحتراز من الخروج، بأن يعتكف في غير الجامع، فإن لم يفعل بطل اعتكافه.
ويلزمه الخروج لأداء شهادة إن تعين عليه؛ لأنه تعين لحق آدمي، فقدم على الاعتكاف، ولا يبطل اعتكافه على الراجح؛ لأنه مضطر إلى الخروج. وللمعتكفة أن تخرج إذا طلقت لتعتد، ولا يبطل اعتكافها أيضاً، لاضطرارها إلى الخروج.
ومن مرض مرضاً لا يؤمن معه تلويث المسجد كإطلاق الجوف وسلس البول، خرج كما يخرج لحاجة الإنسان ولا ينقطع التتابع على المشهور الصحيح. وإن كان مرضاً يسيراً يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة كالصداع ووجع الضرس والعين ونحوها لم يخرج، فإن خرج بطل اعتكافه. وإن كان مرضاً يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم وتردد الطبيب ونحو ذلك، فيباح له الخروج، والأصح أنه لا ينقطع به التتابع.
وإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه لم يخرج باختياره وإن سكر فسد اعتكافه. وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه.
وإن حاضت المعتكفة، خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام في المسجد، ولم يبطل اعتكافها إن كان في مدة لا يمكن حفظها من الحيض، وإذا طهرت بنَت عليه، كما لو حاضت في صوم شهرين متتابعين. ويبطل اعتكافها إن كان في مدة يمكن حفظهامن الحيض، كما لوحاضت في صوم ثلاثة أيام متتابعة.
ويبطل الاعتكاف بالخروج إلى الحج الذي أحرم به؛ لأن الخروج حدث باختياره لأنه كان يسعه أن يؤخره. وإن خاف من ظالم فخرج واستتر، لم يبطل اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذرو فيه.(3/137)
وإن خرج من المسجد ناسياً أو مكرهاً محمولاً أو أكره حتى خرج بنفسه، أو أخرجه السلطان ظلماً لم يبطل اعتكافه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) فإن أخرجه السلطان بحق، كأن وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه، أو أخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو قصاص أو تعزير ثبت عليه بإقراره، بطل اعتكافه. وإن ثبت عليه بالبينة لم يبطل ولا ينقطع به التتابع، فإذا عاد بنى.
وإن خرج لعذر، ثم زال العذر، وتمكن من العود، فلم يعد، بطل اعتكافه؛ لأنه ترك الاعتكاف من غير عذر، فأشبه إذا خرج من غير عذر.
ويجور للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه غيَّر شيئاً من ملابسه. ويجوز أن يتطيب ويتزين؛ لأنه لو حرم التطيب عليه لحرم ترجيل الشعر كالإحرام، وقد روى الشيخان أن عائشة كانت ترجِّل شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الاعتكاف، فدل على أنه لا يحرم عليه الطيب. ويجوز أن يتزوج ويزوج قياساً على جواز الطيب. ويجوز دراسة العلم وتدريسه، لأن ذلك كله زيادة خير، ويجوز أن يأمر بالأمر الخفيف في ماله وضيعته، ويبيع ويبتاع، لكنه لا يكثر منه؛ لأن المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعاً للبيع والشراء، فإن أكثر من ذلك كره لأجل المسجد، ولم يبطل به الاعتكاف. ويجوز أن يأكل في المسجد؛ لأنه عمل قليل لا بد منه، ويجوز أن يضع فيه المائدة؛ لأن ذلك أنظف للمسجد، ويغسل فيه اليد، وإن غسل في الطست فهو أحسن.
__________
(1) حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس بلفظ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .(3/138)
وقال الحنابلة (1) : المعتكف الذي لزمه تتابع الاعتكاف كمن نذر شهراً أو أياماً متتابعة ونحوه، لم يجز له الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لما لا بد له منه، أو لصلاة الجمعة، لحديث عائشة السابق: «السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد له منه» كحاجة الإنسان من بول وغائط وقيء بغتةً وغسل متنجس يحتاجه، والطهارة عند الحدث كغسل جنابة ووضوء لحدث؛ لأن الجنب يحرم عليه اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء.
ويخرج المعتكف ليأتي بمأكول ومشروب يحتاجه إن لم يكن له من يأتيه به. ولا يجوز خروجه لأجل أكله وشربه في بيته، لعدم الحاجة، لإباحة ذلك في المسجد، ولا نقص فيه.
ويخرج للجمعة إن كانت واجبة عليه؛ لأنه خروج لواجب فلم يبطل اعتكافه، كالمعتدة، أو شرط الخروج إليها، وإن لم تكن واجبة، للشرط، وله التبكير إليها؛ لأنه خروج جائز، فجاز تعجيله، كالخروج لحاجة الإنسان، وله إطالة المقام بعد الجمعة، ولا يكره لصلاحية الموضع للاعتكاف.
ويخرج لنفير متعين إن احتيج إليه؛ لأن ذلك واجب كالجمعة، ولشهادة تعيَّن عليه أداؤها، ولخوف من فتنة على نفسه أو حرمته، أو ماله نهباً أو حريقاً ونحوه كالغرق؛ لأنه عذر في ترك الواجب بأصل الشرع كالجمعة، ولمرض يتعذر معه المقام، أو لا يمكنه المقام معه إلا بمشقة شديدة، بأن يحتاج إلى خدمة فراش، ولا يبطل اعتكافه بخروجه لشيء مما تقدم للحاجة إليه.
ولا يجوز له الخروج إن كان المرض خفيفاً كصداع وحمى خفيفة ووجع ضرس؛ لأنه خروج لما له منه بد، فأشبه المبيت ببيته.
__________
(1) المغني: 191/3-196، 200-210، كشاف القناع: 414/2-420.(3/139)
ولا يبطل اعتكافه أيضاً إن أكرهه السلطان أو غيره على الخروج من معتكفه، بأن حمل وأخرج، أو هدده قادر بسلطنة، أو تغلب كلص وقاطع طريق، فخرج بنفسه؛ لأن مثل ذلك يبيح ترك الجمعة والجماعة، فهو كالمريض والحائض.
ولا يبطل اعتكافه إن خرج من المسجد ناسياً، للحديث السابق «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ويبني على اعتكافه إذا زال العذر في كل ما تقدم مما لا يبطل فيه الاعتكاف.
وتخرج المرأة المعتكفة من المسجد لوجود حيض ونفاس، فإذا طهرت رجعت إلى المسجد؛ لأن اللبث معهما في المسجد حرام. وتخرج أيضاً لعدة وفاة في منزلها، لوجوبها شرعاً كالجمعة، وهو حق لله ولآدمي، لا يستدرك إذا ترك، بخلاف الاعتكاف، ولا يبطل بذلك.
ولا تمنع المستحاضة الاعتكاف؛ لأن الاستحاضة لا تمنع الصلاة، ويجب عليها أن تتحفظ لئلا تلوث المسجد.
ولا يعود المعتكف مريضاً ولا يشهد جنازة، ولا يجهزها خارج المسجد إلا بشرط بأن يشترط ذلك؛ أو وجوب بأن يتعين ذلك عليه، لعدم غيره؛ لأنه لا بد منه إذن.
وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الخروج للفرجة أو النزهة أوالبيع للتجارة، أو التكسب بالصناعة في المسجد؛ لم يجز الشرط؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/2] فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى، والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف أولى، وسائر ما ذكر يشبه ذلك، ولا حاجة إليه. ولا يجوز للمعتكف أن يتجر أو يتكسب بالصنعة، إلا ما لابد له منه، للنهي السابق عن البيع والشراء في المسجد.
ولا بأس أن يتزوج (يعقد عقد الزواج) في المسجد، ويشهد النكاح؛ لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب، فلم تحرم النكاح كالصوم، ولأن عقد النكاح طاعة، وحضوره قربة، ومدته لا تتطاول، فيتشاغل به عن الاعتكاف، فلم يكره فيه، كتشميت العاطس ورد السلام.(3/140)
ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظيف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يرجل رأسه وهومعتكف» وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب، ولكن ليس ذلك بمستحب.
ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد، ويضع سُفْرة كيلا يلوث المسجد، ويغسل يده في الطست، ولا يجوز أن يخرج لغسل يده؛ لأن من ذلك بداً.
والخلاصة: إن الخروج المباح في الاعتكاف الواجب أربعة أنواع:
أحدها: ما لا يوجب قضاء ولا كفارة: وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبهه مما لا بد منه.
والثاني: ما يوجب قضاء بلا كفارة: وهو الخروج للحيض.
والثالث: ما يوجب قضاء وكفارة يمين: وهو الخروج لفتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد، أو على ماله نهباً أو حريقاً. فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياماً معلومة، وقضى ما ترك، وكفر كفارة يمين.
والرابع: ما يوجب قضاء، وفي الكفارة وجهان: وهو الخروج الواجب كالخروج في النفير أو العدة أو أداء الشهادة، ففي قول القاضي أبي يعلى: لا كفارة عليه؛ لأنه واجب لحق الله تعالى، فأشبه الخروج للحيض. وظاهر كلام الخرقي: وجوبها؛ لأنه خروج غير معتاد، فأوجب الكفارة، كالخروج لفتنة.(3/141)
المبحث الخامس ـ آداب المعتكف ومكروهات الاعتكاف ومبطلاته:
آـ آداب المعتكف (1) :
1ً - يستحب للمعتكف التشاغل على قدر الاستطاعة ليلاً ونهاراً بالصلاة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى نحو لا إله إلا الله، ومنه الاستغفار، والفكر القلبي في ملكوت السموات والأرض ودقائق الحكم، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن ودراسة الحديث، والسيرة، وقصص الأنبياء وحكايات الصالحين، ومدارسة العلم، ونحو ذلك من الطاعات المحضة. وعد المالكية ذلك من شروط الاعتكاف على سبيل الندب، لكنهم مع الحنابلة كرهوا اشتغال المعتكف بعلم ولو شرعياً، تعليماً أو تعلماً إن كثر لا إن قل؛ لأن المقصود من الاعتكاف صفاء القلب بمراقبة الرب، وهو إنما يحصل غالباً بالأذكار وعدم الاشتغال بالناس، والكتابة ولو كان المكتوب مصحفاً، لما فيها من اشتغال عن ملاحظة الرب تعالى، وليس المقصود من الاعتكاف كثرة الثواب، بل صفاء مرآة القلب الذي به سعادة الدارين.
2ً - يسن الصيام للمعتكف عند الجمهور (غير المالكية) الذين لا يشترطونه، والمالكية يشترطون الصوم، والحنفية يشترطونه في الاعتكاف المنذور.
3ً - يندب أن يكون الاعتكاف في المسجد الجامع عند المالكية والشافعية الذين لا يشترطون ذلك، كما اشترطه الحنفية والحنابلة، وأفضل المساجد لذلك: المسجد الحرام ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى.
4ً - يند ب الاعتكاف في رمضان، لأنه من أفضل الشهور، لا سيما في العشر الأخير من رمضان بالاتفاق؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ لما بينت وهو ما روي عن عائشة:
__________
(1) الدر المختار: 185/1، القوانين الفقهية: ص125 ومابعدها، الشرح الصغير: 730/1-735، المهذب: 194/1، المغني: 203/3 ومابعدها، كشاف القناع: 422/2.(3/142)
«أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» (1) .
5ً - يندب مكث المعتكف ليلة العيد إذا اتصل اعتكافه بها، ليخرج منه إلى المصلى، فيوصل عبادة بعبادة، ولما ورد من فضل إحياء هذه الليلة: «من قام ليلتي العيد، محتسباً لله تعالى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (2) أي أن الله يثبِّته على الإيمان عند النزع وعند سؤال الملكين وسؤال القيامة.
6ً - يجتنب المعتكف كل مالا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأن من كثر كلامه كثر سَقَطه، وفي الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (3) .
ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففيه أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظور.
ولا يتكلم المعتكف إلا بخير، ولا بأس بالكلام لحاجته، ومحادثة غيره، فإن صفية زوج النبي صلّى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت، فانقلبت، أي رجعت فقام معي ليقلبني ـ وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ـ فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «على رِسْلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً» (4) ، وقال علي رضي الله عنه: «أيما رجل اعتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة ـ أي وهو يمشي ـ ولا يجلس عندهم» (5) .
ب ـ مكروهات الاعتكاف:
إن ترك بعض الآداب المذكورة مكروه، وكذلك يكره ما يلي في المذاهب الفقهية:
يكره تحريماً عند الحنفية (6) : إحضار المبيع في المسجد؛ لأن المسجد محرر من حقوق العباد، فلا يجعله كالدكان.
ويكره عقد ما كان للتجارة، لأن المعتكف منقطع إلى الله تعالى، فلا يشتغل بأمور الدنيا.
ويكره الصمت إن اعتقده قربة؛ لأنه منهي عنه؛ لأنه صوم أهل الكتاب، وقد نسخ.
ويكره عند المالكية ما يأتي (7) :
1ً - أن ينقص عن عشرة أيام أو يزيد عن شهر.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار: 270/4) .
(2) رواه ابن ماجه عن أبي أمامة.
(3) حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذا عن أبي هريرة.
(4) متفق عليه.
(5) رواه الإمام أحمد.
(6) مراقي الفلاح ونور الإيضاح: ص119، الدر المختار: 184/2 ومابعدها.
(7) الشرح الصغير: 732/1-774، الشرح الكبير: 584/1 ومابعدها.(3/143)
2ً -أكله بفناء المسجد أو رحبته التي زيدت لتوسعته، وإنما يأكل فيه على حدة.
3ً - أن يعتكف القادر بدون أكل أو شرب أو لباس حتى لايخرج، فإن اعتكف غير مكفي، خرج لأقرب مكان لشراء ما يحتاجه، وإلا فسد اعتكافه. ويكره اعتكاف ما ليس عنده ما يكفيه.
4ً - دخوله بمنزل به أهله (أي زوجته) أثناء خروجه لقضاء حاجة، لئلا يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه.
5ً - الاشتغال بعلم إن كثر ولو شرعياً، تعليماً أوتعلماً؛ أو بكتابة وإن كان المكتوب مصحفاً؛ لأن المقصود من الاعتكاف رياضة النفس وصفاء القلب بمراقبة الرب، وذلك يحصل بالذكر والصلاة. وأجاز العلامة خليل للمعتكف إقراء القرآن على غيره أو سماعه من الغير، لا على وجه التعليم والتعلم.
6ً - الاشتغال بكل فعل غير ذكر وتلاوة وصلاة، كأن يشتغل بعيادة مريض، وصلاة جنازة ولو لاصقت المعتكف، وصعود لأذان بمنار أو سطح، وإقامة الصلاة، أما الإمامة فلا بأس بها، بل مستحبة، لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يعتكف ويصلي إماماً.
7ً - السلام على الغير إن بعد، وجاز سلامه على من بقربه. ويكره عند الشافعية (1) : الإكثار من اتخاذ موضع للبيع والشراء، أو العمل الصناعي، والحجامة والفصد إن أمن تلويث المسجد، وإلا حرم.
ويكره عند الحنابلة (2) : الاشتغال بإقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه
__________
(1) المهذب: 194/1.
(2) المغني: 204/3، كشاف القناع: 422/2 ومابعدها.(3/144)
ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه. والخوض فيما لا يعنيه من جدال ومراء وكثرة كلام ونحوه، والصمت عن الكلام؛ لأنه ليس من شريعة الإسلام، لحديث علي: «لا صمات يوم إلى الليل» (1) و «دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت» (2) .
جـ ـ مبطلات الاعتكاف:
يبطل الاعتكاف أو يفسد بما يأتي (3) :
1ً - الخروج بلا عذر شرعي كالخروج للبيع والشراء، أو لغير حاجة طبيعية التي هي كالبول أو الغائط، أو لغير ضرورة التي هي كانهدام المسجد، على التفصيل المذكور في «ما يلزم المعتكف» ويبطل الاعتكاف بالخروج المتعين عند المالكية وإن وجب كالخروج للجهاد المتعين والحبس في دين. فإن خرج لضرورة كشراء مأكول أو مشروب ولطهارة أو قضاء حاجة أو غسل جنابة، أو عذر شرعي كالخروج لصلاة الجمعة، فلا يبطل اعتكافه، من غير زيادة على قدر الضرورة، وإلا بطل.
__________
(1) رواه أبو داود بلفظ «لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل» وأسند أبو حنيفة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن صوم الوصال، وعن صوم الصمت» .
(2) رواه البخاري.
(3) الدر المختار: 185/2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص120، الشرح الكبير: 543/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص126، الشرح الصغير: 728/1، 737 ومابعدها، مغني المحتاج: 452/1-455، المهذب: 193/1 ومابعدها، المغني:196/3-200، كشاف القناع: 409/2-421 ومابعدها.(3/145)
2ً -الجماع، ولو كان عند الجمهور ناسياً أو مكرهاً ليلاً أو نهاراً؛ لأن الوطء في الاعتكاف حرام بالإجماع، لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة:187/2] فإن وطئ في الفرج عمداً أفسد اعتكافه بالإجماع.
وكذا في غير العمد عند الجمهور؛ لأن ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد، ولا كفارة في الوطء عند الحنابلة في ظاهر المذهب، وفي باقي المذاهب، لأن الاعتكاف عبادة لا تجب بأصل الشرع، فلم تجب بإفسادها كفارة كالنوافل.
وقال الشافعية: الجماع المفسد هو المتعمد مع العلم والاختيار، فلا يفسد الاعتكاف بالجماع ناسياً أوجاهلاً أو مكرهاً، كالخروج في هذه الحالات، ولأنها مباشرة لا تفسد الصوم، فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
3ً - الإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ، بالاتفاق، لعموم قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187/2] .
أما لو أمنى بالتفكير أو بالنظر، أو باشر ولم ينزل، فلا يفسد اعتكافه عندالجمهور؛ لأنها مباشرة لا تفسد صوماً ولا حجاً، فلم تفسد الاعتكاف، كالمباشرة لغير شهوة، لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا لم يكن عادة له، فإن كان ذلك عادة له فيفسد الاعتكاف.(3/146)
وقال المالكية: الإمناء بالفكرأو النظر، والمباشرة وإن لم ينزل يفسد الاعتكاف؛ لأنها مباشرة محرمة، فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل، ولا بأس بالمباشرة لغير شهوة اتفاقاً كأن تغسل رأسه أو تناوله شيئاً؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله» (1) .
4ً - الردة: إذا ارتد المعتكف، بطل اعتكافه لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65/39] ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف، ولا يقضي عند الجمهور إذا عاد للإسلام ترغيباً له في الإسلام. ويجب عليه القضاء عند الحنابلة في النذر، وعليه كفارة يمين في نذر أيام معينة كالعشر الأواخر من رمضان.
5ً - السكر نهاراً، وكذا ليلاً إن تعمده عند الجمهور، وإن دخل في الاعتكاف عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، لكن قيد الشافعية السكر بأن يحصل بسبب تعديه.
6ً - الإغماء والجنون الطويلان: فإذا جن المعتكف أو أغمي عليه أياماً بطل اعتكافه عند الجمهور إذا كان متعدياً بالجنون عند الشافعية، لعدم أهليته للعبادة، ويحسب عند الشافعية زمن الإغماء من الاعتكاف، دون زمن الحيض والنفاس والجنابة والجنون. وقال الحنابلة: لا يبطل الاعتكاف بالإغماء كما لا يبطل بالنوم، بجامع بقاء التكليف.
7ً- الحيض والنفاس: فإذا حاضت المرأة أو نفست بطل اعتكافها.
8ً - الأكل عمداً عند المالكية والحنفية مشترطي الصوم، فإذا أكل المعتكف عمداً بطل اعتكافه، ولا يبطل بالأكل ناسياً.
9ً - الوقوع في كبيرة كالغيبة والنميمة والقذف يبطل الاعتكاف عند المالكية في أحد قولين مشهورين، ولا يبطله عند الجمهور وفي قول مشهور آخر عند المالكية.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان عن عائشة رضي الله عنها(3/147)
المبحث السادس ـ حكم الاعتكاف إذا فسد:
للفقهاء تفصيلات في ذلك.
فقال الحنفية (1) : الاعتكاف إذا فسد لا يخلو إما أن يكون واجباً أي منذوراً، وإما أن يكون تطوعاً.
أـ فإن كان واجباً: أي إذا فسد الاعتكاف الواجب، وجب قضاؤه إلا إذا فسد بالردة خاصة، فإن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما فسد ليس غير، ولا يلزمه الاستئناف أي البدء من أول الشهر، كصوم رمضان. وإذا كان اعتكاف شهر بغير عينه، يلزمه الاستئناف من أوله؛ لأنه يلزمه متتابعاً، فيراعى فيه صفة التتابع، وذلك سواء فسد بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع والأكل والشرب في النهار، إلا في الردة، أو فسد بصنعه بعذر، كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج، أو بغير صنعه كالحيض والجنون والإغماء الطويل؛ لأن القضاء يجب جبراً للفائت.
وأما دليل سقوط القضاء في الردة: فقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» (2) .
ومن نذر اعتكاف شهر بعينه كالمحرم، ثم فات كله، قضى الكل متتابعاً؛ لأنه صار الاعتكاف ديناً في ذمته. وإن قدر على قضائه فلم يقضه حتى أيس من حياته، يجب عليه أن يوصي بالفدية لكل يوم طعام مسكين لأجل الصوم، لا لأجل الاعتكاف، كما في قضاء رمضان والصوم المنذور في وقت بعينه. وإن كان مريضاً وقت النذر، فذهب الوقت وهو مريض حتى مات، فلا شيء عليه.
ب ـ وأما اعتكاف التطوع إذا قطعه قبل تمام اليوم، فلا شيء عليه في رواية الأصل.
وقال المالكية (3) : مبطلات الاعتكاف الواجب قسمان:
الأول ـ ما يبطل ما فعل منه ويوجب استئنافه: كالخروج برجليه معاً بغير ضرورة أو لمرض أحد أبويه، أو لصلاة الجمعة وكان معتكفاً في مسجد غير جامع، وكتعمد الفطر أو السكر، والوطء والقبلة بشهوة واللمس ليلاً. فمن نذر أياماً معينة كأسبوع أو ثلاثة أيام، ثم حدث منه ما ذكر مما يبطل اعتكافه، لزمه القضاء واستئناف الاعتكاف من أوله.
__________
(1) البدائع: 117/2، فتح القدير: 114/2.
(2) حديث ضعيف رواه ابن سعد عن الزبير وعن جبير بن مطعم.
(3) الشرح الكبير: 551/1، الشرح الصغير: 726/1-728، 737 ومابعدها.(3/148)
الثاني ـ ما يخص زمنه ولا يبطل ما قبله: وهو ثلاثة أنواع:
أـ مايمنع الصوم فقط: وهو وجود العيد وطروء مرض خفيف، فمن نذر شهر ذي الحجة، فلا يخرج يوم الأضحى، وإلا بطل اعتكافه من أصله، ومن أفطر ناسياً، أو طرأ له مرض خفيف منعه من الصوم، فإنه بعد مضي يوم الفطر، يجب عليه البناء على ما فعله سابقاً.
ب ـ ما يمنع المكث في المسجد: كسلس البول وإسالة جرح أو دمل يخشى معه تلوث المسجد، فيجب عليه الخروج والعودة فوراً بمجرد زوال عذره المانع من البقاء في المسجد، وبنى على اعتكافه السابق.
جـ ـ ما يمنع الصوم والمكث في المسجد معاً: كالحيض والنفاس، وحكمه كالحالة السابقة تماماً.
فإن أخر الرجوع ولو لعذر من نسيان أو إكراه، بطل اعتكافه واستأنفه، إلا إن أخر الرجوع ليلة العيد ويومه، فلا يبطل، لعدم صحة صومه لكل أحد، فإذا حصل للشخص المعتكف حيض أو نفاس أو إغماء أو مرض شديد في أثناء الاعتكاف، فخرج من المسجد للبيت، ثم زال ذلك العذر ليلة العيد، فأخر الرجوع للمسجد حتى مضى يوم العيد، وتالياه في عيد الأضحى، فإن اعتكافه لا يبطل.
أما لوطهرت الحائض أو صح المريض وأخر كل منهما الرجوع، فيبطل الاعتكاف لصحة الصوم بعد زوال العذر.
وقال الشافعية (1) : إذا فعل المعتكف في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة، أو مقام في البيت بعد زوال العذر:
أـ فإن كان ذلك في التطوع، لم يبطل ما مضى من الاعتكاف؛ لأن ذلك القدر لو أفرده واقتصر عليه أجزأه، ولا يجب عليه إتمامه؛ لأنه لا يجب عليه المضي في فاسده، فلا يلزمه بالشروع كالصوم.
ب ـ وإن كان اعتكافه منذوراً: فإن لم يشرط فيه التتابع، لم يبطل ما مضى من اعتكافه، لما ذكر في التطوع، لكن يلزمه هنا أن يتمم المدة المنذورة؛ لأن الجميع قد وجب عليه، وقد فعل البعض، فوجب الباقي.
وإن كان قد شرط التتابع، بطل التتابع، ويجب عليه أن يستأنف ليأتي به على
__________
(1) مغني المحتاج: 454/1 ومابعدها، المهذب: 194/1.(3/149)
الصفة التي وجبت عليه. وعلى هذا يقطع التتابع السكر والكفر وتعمد الجماع وتعمد الخروج من المسجد، لا لقضاء الحاجة، ولا الأكل ولا الشرب إن تعذر الماء في المسجد، ولا للمرض إن شق لبثه فيه، أو خشي تلويثه، ولا الإغماء والجنون إذا حصل أحدهما للمعتكف، ولا إن أكره بغير حق على الخروج، ولا يقطع التتابع الحيض إن لم تسعه مدة الطهر: بأن طالت مدة الاعتكاف بحيث لا ينفك عن الحيض غالباً بأن يكون أكثر من خمسة عشر يوماً.
ولا يقطعه أيضاً خروج مؤذن راتب (متخصص) إلى منارة المسجد المنفصلة عنه لكنها قريبة منه للأذان، لإلفه صعودها للأذان، وإلف الناس صوته، ولا يقطعه الخروج لإقامة حد ثبت عليه بغير إقراره، ولا لأجل عدة ليست بسببها، ولا لأجل أداء شهادة تعين عليها تحملها وأداؤها، للعذر في جميع ذلك، بخلاف أضداده.
وإن خرج المعتكف من المسجد لغير قضاء الحاجة لزمه استئناف النية، فإن خرج لها لا يلزمه استئناف النية.
وقال الحنابلة (1) : إن كان الاعتكاف تطوعاً وخرج من المسجد، لعذر غير معتاد كنفير وشهادة واجبة، وخوف من فتنة ومرض ونحوه وطال خروجه، خيِّر بين الرجوع وعدمه، لعدم وجوبه بالشروع.
وإن كان الاعتكاف واجباً وجب عليه الرجوع إلى معتكفه لأداء ما وجب عليه. ولا يخلو النذر من ثلاثة أحوال بالاستقراء:
أحدها ـ نذر اعتكاف أيام غير متتابعة ولا معينة، كنذر عشرة أيام مثلاً:
وحكمه أنه يلزمه أن يتم ما بقي عليه من الأيام محتسباً بما مضى، ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله، ليكون متتابعاً، ولا كفارة عليه؛ لأنه أتى المنذور على الوجه المطلوب.
__________
(1) كشاف القناع:417/2،419،420.(3/150)
الثاني ـ نذر أيام متتابعة غير معينة، بأن قال: لله علي أعتكف عشرة متتابعة، فاعتكف بعضها، ثم خرج للعذر السابق، وطال خروجه. وحكمه: أنه يخير بين البناء على ما مضى، بأن يقضي ما بقي من الأيام، وعليه كفارة يمين، جبراً لفوات التتابع، وبين الاستئناف بلا كفارة؛ لأنه أتى بالمنذور على وجهه المطلوب، فلم يلزمه شيء.
الثالث ـ نذر أيام معينة، كالعشر الأخير من رمضان: وحكمه أن عليه قضاء ما ترك ليأتي بالواجب، وعليه كفارة يمين، لفوات المحل المنذور.
وإن خرج المعتكف جميعه (1) لما له منه بد مختاراً عمداً، أو مكرهاً بحق كمن عليه دين يمكنه وفاؤه ولم يفعل، فأخرج له، بطل اعتكافه، وإن قل زمن خروجه لذلك؛ لأنه خرج من معتكفه لغير حاجة، كما لو طال.
ثم إن كان في نذر متتابع بشرط أو نية: بأن نذر عشرة أيام متتابعة أو نواها كذلك، ثم خرج لذلك، استأنف؛ لأنه لا يمكنه فعل المنذور على وجهه إلا به، ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه.
وإن كان خرج من معتكفه مكرهاً بغير حق أو ناسياً، لم يبطل اعتكافه ويبني على اعتكافه السابق، لحديث: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
وإن كان المعتكف في نذر معين متتابع كنذر شعبان متتابعاً، أو في نذر معين كشعبان ولم يقيد هـ بالتتابع، استأنف، لتضمن نذره التتابع، وكفر كفارة يمين، لتركه المنذور في وقته المعين بلا عذر. ويكون القضاء في الكل والاستئناف في الكل على صفة الأداء فيما يمكن، فإن كان الأول مشروطاً فيه الصوم، أو في أحد المساجد الثلاثة، أو نحو ذلك، فإن المقضي أو المستأنف يكون كذلك. أما ما لا يمكن، كما لو عين زمناً ومضى، فإنه لا يمكن تداركه.
__________
(1) يفهم منه أنه لو خرج بعض جسده لم يبطل اعتكافه، لقول عائشة: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني رأسه إليَ، فأرجَله متفق عليه.(3/151)
البَابُ الرَّابع: الزَّكاةُ وأنْواعِها
وفيه فصول ثلاثة:
الأول - فريضة الزكاة
الثاني - صدقة الفطر
الثالث - صدقة التطوع
الفَصْلُ الأوَّل: الزَّكاةُ
وفيه مباحث سبعة:
المبحث الأول ـ تعريف الزكاة وحكمتها وفرضيتها وعقاب ما نع الزكاة.
المبحث الثاني ـ سبب الزكاة وركنها وشرطها.
المبحث الثالث ـ وقت وجوب الزكاة ووقت أدائها.
المبحث الرابع ـ أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة.
المبحث الخامس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع وكسب العمل والمهن الحرة؟
المبحث السادس ـ مصارف الزكاة.
المبحث السابع ـ آداب الزكاة وممنوعاتها.
وأبدأ بالبيان على وفق الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الزكاة وحكمتها وفرضيتها وعقاب مانع الزكاة:
أولاً ـ تعريف الزكاة:
الزكاة لغة: النمو والزيادة يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، وقد تطلق بمعنى الطهارة، قال تعالى: {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9/91] أي طهرها عن الأدناس، ومثله قوله سبحانه: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى:14/87] ، وتطلق أيضاً على المدح، قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم:32/53] وعلى الصلاح، يقال: رجل زكيّ، أي زائد الخير، من قوم أزكياء، وزكّى القاضي الشهود: إذا بين زيادتهم في الخير.
وسمي المال المخرج في الشرع زكاة؛ لأنه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات، قال تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43/2] .
وتتمثل هذه المعاني اللغوية في قوله سبحانه: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103/9] فهي تطهر مؤديها من الإثم وتنمي أجره وماله.
والزكاة شرعاً (1) : حق يجب في المال، وعرفها المالكية بأنها: إخراج جزء مخصوص من مال بلغ نصاباً، لمستحقه، إن تم الملك، وحول، غير معدن وحرث. وعرفها الحنفية بأنها: تمليك جزء مال مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص، عينه الشارع لوجه الله تعالى. فقولهم «تمليك»
__________
(1) العناية بهامش الفتح: 481/1، مراقي الفلاح: ص121، الدر المختار: 2/2 ومابعدها، اللباب: 139/1، الشرح الكبير: 430/1، المغني: 572/2، كشاف القناع: 191/2 ومابعدها.
[التعليق]
تنبيه: في المجلد الأخير للكتاب: 10/543
ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول
*أبو أكرم الحلبيّ(3/152)
احترز به عن «الإباحة» فلو أطعم يتيماً ناوياًالزكاة، لا يجزيه، إلا إذا دفع إليه المطعوم، كما لو كساه، ولكن بشرط أن يعقل القبض، إلا إذا حكم عليه بنفقة الأيتام. وقولهم «جزء مال» خرج المنفعة، فلو أسكن فقيراً داره سنة، ناوياً الزكاة، لا يجزيه. والجزء المخصوص: هو المقدار الواجب دفعه، والمال المخصوص: هو النصاب المقدر شرعاً، والشخص المخصوص: هم مستحقو الزكاة. وقولهم «عينه الشارع» هو ربع عشر نصاب معين مضى عليه الحول، فأخرج صدقة النافلة والفطرة. وقولهم «لله تعالى» أي بقصد مرضاة الله تعالى.
وعرفها الشافعية بأنها اسم لما يخرج عن مال وبدن على وجه مخصوص.
وتعريفها عند الحنابلة هو أنها حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص.
والطائفة: هم الأصناف الثمانية المشار إليهم بقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} ـ الآية [التوبة:60/9] والوقت المخصوص: هو تمام الحول في الماشية والنقود (الأثمان) وعروض التجارة، وعند اشتداد الحب في الحبوب، وعند بدو صلاح الثمرة التي تجب فيها الزكاة، وعند حصول ما تجب فيه الزكاة من العسل، واستخراج ما تجب فيه من المعادن، وعند غروب الشمس من ليلة الفطر، لوجوب زكاة الفطر.
وخرج بقوله «واجب» الحق المسنون كابتداء السلام واتباع الجنائز. وبقوله «في مال» رد السلام ونحوه، وبقوله «مخصوص» ما يجب في كل الأموال كالديون والنفقات، وبقوله: «لطائفة مخصوصة» نحو الدية؛ لأنها لورثة المقتول، وبقوله «في وقت مخصوص» نحو النذر والكفارة.(3/153)
وبه يتبين أن الزكاة أطلقت في عرف الفقهاء على فعل الإيتاء نفسه، أي أداء الحق الواجب في المال، وأطلقت أيضاً على الجزء المقدر من المال الذي فرضه الله حقاً للفقراء. وتسمى الزكاة صدقة، لدلالتها على صدق العبد في العبودية وطاعة الله تعالى.
ثانياً ـ حكمة الزكاة:
التفاوت بين الناس في الأرزاق والمواهب وتحصيل المكاسب أمر واقع طارئ يحتاج في شرع الله إلى علاج، قال الله تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} [النحل:71/16] أي أن الله تعالى فضل بعضنا على بعض في الرزق، وأوجب على الغني أن يعطي الفقير حقاً واجباً مفروضاً، لا تطوعاً ولا مِنَّة؛ لقوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/51] .
وفريضة الزكاة أولى الوسائل لعلاج ذلك التفاوت، وتحقيق التكافل أو الضمان الاجتماعي في الإسلام.
فهي أولاً ـ تصون المال وتحصنه من تطلع الأعين وامتداد أيدي الآثمين والمجرمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وأعدّوا للبلاء الدعاء» (1) .
وهي ثانياً ـ عون للفقراء والمحتاجين، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين، وتساعدهم على ظروف العيش الكريم إن كانوا عاجزين، فتحمي المجتمع من مرض الفقر، والدولة من الإرهاق والضعف. والجماعة مسؤولة بالتضامن عن الفقراء وكفايتهم، فقد روي: «إن الله فرض على
__________
(1) رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية والخطيب عن ابن مسعود، ورواه أبو داود مرسلاً عن الحسن، وهو ضعيف.(3/154)
أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أوعروا إلا ما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً» (1) وروي أيضاً «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم، ثم تلا صلّى الله عليه وسلم: واللذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» [المعارج:24/70-25] (2) .
والمصلحة في أداء الزكاة تعود في النتيجة على أرباب الأموال؛ لأنهم بأدائها يسهمون في تنمية ودعم القوة الشرائية للفقراء، فتنمو بالتالي أموال المزكين ويربحون بكثرة المبادلات.
وهي ثالثاً ـ تطهر النفس من داء الشح والبخل، وتعوِّد المؤمن البذل والسخاء، كيلا يقتصر على الزكاة، وإنما يساهم بواجبه الاجتماعي في رفد الدولة بالعطاء عند الحاجة، وتجهيز الجيوش، وصد العدوان، وفي إمداد الفقراء إلى حد الكفاية، إذ عليه أيضاً الوفاء بالنذور، وأداء الكفارات المالية بسبب (الحنث في اليمين، والظهار، والقتل الخطأ، وانتهاك حرمة شهر رمضان) . وهناك وصايا الخير والأوقاف، والأضاحي وصدقات الفطر، وصدقات التطوع والهبات ونحوها. وكل ذلك يؤدي إلى تحقيق أصول التكافل الاجتماعي بين الفقراء والأغنياء، ويحقق معاني الأخوة والمحبة بين أبناء المجتمع الواحد، ويسهم في التقريب بين فئات الناس، ويحفظ مستوى الكفاية للجميع.
وهي رابعاً ـ وجبت شكراً لنعمة المال، حتى إنها تضاف إليه، فيقال: زكاة المال، والإضافة للسببية كصلاة الظهر وصوم الشهر وحج البيت.
__________
(1) رواه الطبراني عن علي، وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 62/3) .
(2) رواه الطبراني عن أنس، وهو ضعيف أيضاً (المصدر السابق) .(3/155)
ثالثاً ـ فرضية الزكاة:
الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وفرض من فروضه، وفرضت في المدينة في شوال السنة الثانية من الهجرة بعد فرض رمضان وزكاة الفطر، ولكن لا تجب على الأنبياء إجماعاً؛ لأن الزكاة طهرة لمن عساه أن يتدنس، والأنبياء مبرؤون منه، ولأن ما في أيديهم ودائع لله، ولأنهم لا ملك لهم، ولا يُورَثون أيضاً، وقرنت بالصلاة في القرآن الكريم في اثنين وثمانين موضعاً، مما يدل على كمال الاتصال بينهما.
وهي واجبة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:43/2] وقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة:103/9] وقوله سبحانه: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] وآي سوى ذلك.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس ... منها إيتاء الزكاة» (1) وبعث النبي صلّى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقال: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» (2) وأخبار أخرى.
وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوب الزكاة، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها، فمن أنكر فرضيتها كفر وارتد إن كان مسلماً ناشئاً ببلاد الإسلام بين أهل العلم، وتجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثاً،
__________
(1) سبق تخريجه، ومثله حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً، فأتاه رجل، فقال: يارسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان» وكان الرجل هو جبريل عليه السلام.
(2) رواه الجماعة عن ابن عباس (نيل الأوطار: 114/4) .(3/156)
فإن تاب وإلا قتل. ومن أنكر وجوبها جهلاً به إما لحداثة عهده بالإسلام، أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار، عُرِّف وجوبها ولا يحكم بكفره؛ لأنه معذور.
رابعاً ـ عقاب مانع الزكاة:
لمانع الزكاة عقاب في الآخرة وعقاب في الدنيا، أما عقاب الآخرة فهو العذاب الأليم، لقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة:34/9-35] .
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالاً، فلم يؤد زكاته، مُثِّل له شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك» . ثم تلا: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم سَيُطَوَّقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير} » [آل عمران:180/3] (1) .
وفي رواية: «مامن صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ـ أي زكاتها ـ إلا إذا كان يوم القيامة، صُفِّحت صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار» .
وأما العقاب الدنيوي للفرد بسبب التقصير والإهمال فهو أخذها منه والتعزير والتغريم المالي وأخذ الحاكم شطر المال قهراً عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أعطاها
ـ أي الزكاة ـ مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عَزْمة من عزمات ربنا
__________
(1) رواه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي عن أبي هريرة (جمع الفوائد: 376/1) .(3/157)
تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء» (1) .
فإن كان مانع الزكاة جاحداً لوجوبها فقد كفر، كما تبين، وقتل كما يقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله عز وجل ضرورة (بداهة) ، فمن جحد وجوبها فقد كذَّب الله تعالى، وكذَّب رسوله صلّى الله عليه وسلم، فحكم بكفره.
وتقاتل الجماعة مانعة الزكاة جحوداً، كما فعل الصحابة في عهد الخليفة الأول ـ أبي بكر رضي الله عنهم، قال أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقاً (2) كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها» (3) وفي لفظ مسلم والترمذي وأبي داود: «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه» وبناء عليه قال العلماء بالاتفاق: إذا منع واحد أو جمع الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم، وإن منعها جهلاً بوجوبها أو بخلاً بها لم يكفر.
المبحث الثاني ـ سبب الزكاة وشروطهاوركنها:
قال الحنفية (4) : سبب الزكاة: ملك مقدار النصاب النامي ولو تقديراً بالقدرة على الاستنماء بشرط حولان الحول القمري لا الشمسي، وبشرط عدم الدين الذي له مطالب من جهة العباد، وكونه زائداً عن حاجته الأصلية.
__________
(1) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، رواه أحمد والنسائي، وأبو داود وقال: وشطر ماله، وهو حجة في أخذها من الممتنع ووقوعها موقعها (نيل الأوطار: 121/4 ومابعدها) .
(2) هو الأنثى من أولاد المعز، وفي الرواية الأخرى: عقالاً، والمراد بالعقال عند جماعة: هو زكاة عام، إذ لايجوز القتال على الحل الذي يعقل به البعير، وقال كثير من المحققين: المراد به الحبل الذي يعقل به البعير، على سبيل المبالغة.
(3) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 119/4) .
(4) الدر المختار: 5/2-12، فتح القدير: 487/1.(3/158)
ويلاحظ أن السبب والشرط يتوقف عليهما وجود الشيء، إلا أن السبب يضاف إليه الوجوب، دون الشرط، فمن لم يملك النصاب لا زكاة عليه، فلا زكاة في الأوقاف، لعدم الملك، ولا فيما أحرزه العدو في ديارهم؛ لأنهم ملكوه بالإحراز.
والمقصود بالنصاب: هو ما نصبه الشارع علامة على وجوب الزكاة من المقادير الآتية في بحث أموال الزكاة، كمائتي درهم أوعشرين ديناراً.
وبناء عليه لا زكاة على مال اشتراه للتجارة قبل قبضه، لعدم الملك التام، ولازكاة باتفاق المذاهب على الحوائج الأصلية من ثياب البدن والأمتعة ودور السكنى (العقارات) وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وسلاح الاستعمال، والكتب العلمية وإن لم تكن لأهلها إذا لم ينو بها التجارة، وآلات المحترفين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أصلاً.
ولا زكاة عند الحنفية أيضاً لعدم النمو في مال مفقود أوضال وجده بعد سنين، ولا في ساقط في بحر استخرجه بعد سنين، ولا في مغصوب لابينة عليه، فلو كانت له بينة تجب الزكاة بعد قبضه من الغاصب لما مضى من السنين، ولا في مدفون ببرية نسي مكانه ثم تذكره، ولا في وديعة منسية عند غير معارفه، أي عند الأجانب، فلو كانت منسية عند معارفه تجب الزكاة لتفريطه بالنسيان في غير محله. ولا في دين جحده المديون سنين ولا بينة له عليه، ثم توافرت له بينة بأن أقر بعدها عند قوم، ولا على ما أخذه مصادرة، أي ظلماً ثم وصل إليه بعد سنين. أما لو كان الدين على مقر مليء أوعلى معسر أو مفلس (محكوم بإفلاسه) أو على جاحد عليه بينة، فعليه الزكاة على ما مضى، على المعتمد في حالة الجاحد، إن وصل إلى ملكه. ودليل الحنفية على عدم وجوب الزكاة في هذه الأحوال: حديث «لا زكاة في مال الضِّمار» (1) أي ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء الملك.
__________
(1) نسب إلى علي، وهو غريب ليس بمعروف، وذكره سبط ابن الجوزي في آثار الإنصاف عن عثمان وابن عمر، ورواه أبو عبيد في الأموال عن الحسن البصري، ورواه مالك عن عمر بن عبد العزيز، وفيه انقطاع، قال مالك: الضمار: المحبوس عن صاحبه. والضمار في اللغة: الغائب الذي لا يرجى، وأصله الإضمار أي التغييب والإخفاء (نصب الراية: 334/2، رد المحتار: 12/2) .(3/159)
ولا زكاة بالاتفاق على ما لم يحل عليه الحول، أي يمضي عليه سنة، كما بينت السنة النبوية الآتي بيانها في الشروط.
ولا زكاة بالاتفاق على سائر الجواهر واللآلئ ونحوها كالياقوت والزبرجد والفيروزج والمرجان، لعدم ورود ما يوجبها في الشرع، ولأنها معدة للاستعمال، إلا أن تكون للتجارة.
ولا زكاة عندالجمهور على المواشي العلوفة والعوامل، وإنما الزكاة على السائمة، وأوجب المالكية الزكاة على المعلوفة والعوامل.
وأما ركن الزكاة: فهو إخراج جزء من النصاب بإنهاء يد المالك عنه، وتمليكه إلى الفقير وتسليمه إليه أو إلى من هو نائب عنه وهو الإمام أو المصدِّق (الجابي) (1) .
شروط الزكاة: للزكاة شروط وجوب وشروط صحة، فتجب بالاتفاق على الحر المسلم البالغ العاقل إذا ملك نصاباً ملكاً تاماً، وحال عليه الحول، وتصح بالنية المقارنة للأداء اتفاقاً.
أما شروط وجوب الزكاة أي فرضيتها، فهي ما يأتي (2) :
1 - الحرية: فلا تجب الزكاة اتفاقاً على العبد؛ لأنه لا يملك، والسيد مالك لما في يد عبده، والمكاتب ونحوه وإن ملك، إلا أن ملكه ليس تاماً. وإنما تجب الزكاة في رأي الجمهور على سيده لأنه مالك لمال عبده، فكانت زكاته عليه كالمال الذي في يد الشريك المضارب والوكيل. وقال المالكية: لا زكاة في مال العبد لا على العبد ولا على سيده؛ لأن ملك العبد ناقص، والزكاة إنما تجب على تام الملك، ولأن السيد لايملك مال العبد.
__________
(1) البدائع: 39/2.
(2) فتح القدير: 481/1-486، الدر المختار: 4/2 ومابعدها، 13، اللباب: 140/1، بداية المجتهد: 236/1، حاشية الدسوقي: 431/1، 459، 463، القوانين الفقهية: ص98 ومابعدها، الشرح الصغير: 589/1 ومابعدها، 629، شرح الرسالة: 317/1، الأم: 125/4، المهذب: 140/1، 143 ومابعدها، المجموع: 293/5-299، المغني: 621/2-628، كشاف القناع: 195/2، 239 ومابعدها، 283،285، حاشية الباجوري: 270/1-275.(3/160)
2 - الإسلام: فلا زكاة على كافر بالإجماع؛ لأنها عبادة مطهرة وهو ليس من أهل الطهر.
وأوجب الشافعية خلافاً لغيرهم على المرتد زكاة ماله قبل ردته، أي في حال الإسلام، ولاتسقط عنه، خلافاً لأبي حنيفة فإنه أسقطها عنه، لأنه يصير كالكافر الأصلي. وأما زكاة ماله حال الردة، فالأصح عند الشافعية أن حكمها حكم ماله، وماله موقوف، فإن عاد إلى الإسلام وتبينا بقاء ماله فتجب عليه، وإلا فلا.
ولم يوجب الفقهاء على الكافر الأصلي الزكاة إلا في حالتين:
إحداهما ـ العشور: قال المالكية والحنابلة والشافعية: يؤخذ العشر من تجار أهل الذمة والحربيين إذا اتجروا إلى بلد من بلاد المسلمين من غير بلادهم، وإن تكرر ذلك مراراً في السنة، سواء بلغ ما بأيديهم نصاباً أم لا.
ويؤخذ عند المالكية نصف العشر منهم مما حملوا إلى مكة والمدينة وقراهما من القمح والزيت خاصة.
واشترط أبو حنيفة فيه النصاب، وقال: إنما يؤخذ من الذمي نصف العشر خاصة، ومن الحربي العشر، على أساس المجازاة أو المعاملة بالمثل.
وقال الشافعي، لا يؤخذ منهم شيء إلا بالشرط، فإن شرط على الحربي العشر حال أخذه أخذ وإلا فلا.
والثانية ـ قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: تضاعف الزكاة على نصارى بني تغلب خاصة (1) ؛ لأنها بديل عن الجزية، وعملاً بفعل عمر رضي الله عنه.
ولا يحفظ عن مالك في ذلك نص.
__________
(1) بنو تغلب: عرب نصارى، همَّ عمر رضي الله عنه أن يضرب عليهم الجزية فأبوا، وقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منا ما يأخذ بعضكم من بعض، يعني الصدقة، فقال عمر: لا، هذه فرض المسلمين، فقالوا: فزذ ما شئت بهذا الاسم، لا باسم الجزية، ففعل وتراضى هو وهم أن يضاعف عليهم الصدقة. وفي رواية: هي جزية سموها ماشئتم (رد المحتار: 37/2) .(3/161)
3 - البلوغ والعقل: شرط عند الحنفية، فلا زكاة على صبي ومجنون في مالهما؛ لأنهما غير مخاطبين بأداء العبادة كالصلاة والصوم.
وقال الجمهور: لا يشترطان، وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ويخرجها الولي من مالهما لحديث «من ولي يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» وفي رواية: «ابتغوا في مال اليتامى، لا تأكلها الزكاة» (1) ، ولأن الزكاة تراد لثواب المزكي، ومواساة الفقير، والصبي والمجنون من أهل الثواب، ومن أهل المواساة، ولهذا يجب عليهما نفقة الأقارب. وهذا الرأي أولى لما فيه من تحقيق مصلحة الفقراء، وسد حاجتهم، وتحصين المال من تطلَّع المحتاجين إليه، وتزكية النفس، وتدريبها على خلُق المعونة والجود.
4 - كون المال مما تجب فيه الزكاة: وهو خمسة أصناف: النقدان ولو غير مضروبين وما يحل محلهما من الأوراق النقدية، والمعدن والركاز، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والأنعام الأهلية السائمة عند الجمهور، وكذا المعلوفة عند المالكية.
__________
(1) حديث ضعيف رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح عن يوسف بن ماهك عن النبي صلّى الله عليه وسلم مرسلاً، ورواه البيهقي عن عمر موقوفاً عليه، وقال: إسناده صحيح (المجموع: 5/792، نصب الراية: 331/2 ومابعدها) .(3/162)
ويشترط كون المال نامياً؛ لأن معنى الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال النامي، وليس المقصود حقيقة النماء، وإنما كون المال معداً للاستنماء بالتجارة أو بالسوم أي الرعي عند الجمهور؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسمن، والتجارة سبب لحصول الربح، فيقام السبب مقام المسبب.
فلا زكاة في الجواهر واللآلئ والمعادن غير الذهب والفضة، ولا في الأمتعة وأصول الأملاك والعقارات، ولا في الخيل والبغال والحمير والفهود والكلاب المعلمة، والعسل والألبان وآلات الصناعة وكتب العلم إلا أن تكون للتجارة.
وأوجب أبو حنيفة الزكاة في الخيل السائمة للتناسل، والمفتى به عدم الزكاة فيها، وأوجبها الحنفية والحنابلة والظاهرية في العسل، ولم يوجبها فيه المالكية والشافعية.
5 - كون المال نصاباً أو مقداراً بقيمة نصاب: وهو ما نصبه الشرع علامة على توفر الغنى ووجوب الزكاة من المقادير الآتية. وسيأتي في بحث أنواع أموال الزكاة بيان الأنصبة الشرعية، وخلاصتها: نصاب الذهب عشرون مثقالاً أو ديناراً، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الحبوب، والثمار بعد الجفاف عند غير الحنفية خمسة أوسق (653 كغ) ، وأول نصاب الغنم أربعون شاة، والإبل خمس، والبقر ثلاثون.
6 - الملك التام للمال: واختلف الفقهاء في المراد بالملك، أهو ملك اليد (الحيازة) أم ملك التصرف أم أصل الملك؟(3/163)
فقال الحنفية (1) : المقصود أصل الملك وملك اليد (2) ، بأن يكون مملوكاً، فلا زكاة في سوائم الوقف والخيل الموقوفة، لعدم الملك، ولا تجب الزكاة في المال الذي استوى عليه العدو وأحرزه بداره؛ لأن الأعداء في رأي الحنفية ملكوه بالإحراز، فزال ملك المسلم عنه، ولا في الزرع النابت في أرض مباحة لعدم الملك، ولا على المدين الذي في يده مال للغير لعدم الملك، وإنما زكاة هذا المال على المالك الأصلي. وأيضاً أن يكون مملوكاً في اليد أي مقبوضاً، فلو ملك شيئاً ولم يقبضه، كصداق المرأة قبل قبضه، فلا زكاة عليها فيه. ولا زكاة في المال الضمار: وهو كل مال غير مقدور الانتفاع به، مع قيام أصل الملك، كالحيوان الضال، والمال المفقود والمال الساقط في البحر، والمال الذي أخذه السلطان مصادرة، والدين المجحود إذا لم يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة، بأن أقر عند الناس، والمال المدفون في الصحراء إذا خفي على المالك مكانه، فإن كان مدفوناً في البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع. وعلى هذا لا زكاة في رأي الحنفية على مايقابل الدين من مال المزكي؛ لأن مقدار الدين هو في الواقع مملوك للدائن لا للمدين.
__________
(1) البدائع: 9/2، رد المحتار: 5/2.
(2) اعتبر صاحب الكنز هذا شرطاً، واعتبره صاحب الدرر سبباً كما أوضحت، وقال القرافي: إنه سبب.(3/164)
وقال المالكية (1) : المقصود أصل الملك والقدرة على التصرف فيما ملك، فلا زكاة على المرتهن فيما تحت يده من شيء غير مملوك له، لعدم الملك، ولا زكاة في مال مباح لعموم الناس، كالزرع النابت وحده في أرض غير مملوكة لأحد، لعدم الملك، ولا زكاة على غير مالك كغاصب ووديع وملتقط.
وتجب الزكاة على المرأة في صداقها بعد قبضه ومضي حول عليه، وتجب الزكاة على الواقف في ملكه إن بلغ نصاباً، أو نقص عن النصاب وكان عند الواقف ما يكمل به النصاب، إن تولى المالك القيام به بأن كان النبات تحت يد الواقف يزرعه ويعالجه حتى يثمر ثم يفرقه؛ لأن الوقف لا يخرج العين عندهم عن الملك. وتجب الزكاة في المغصوب والمسروق والمجحود والمدفون في محل والضال (الضائع) ، وإذا قبضه زكاة لحول واحد، أما الوديعة إذا مكثت أعواماً عند الوديع، فتزكى بعد قبضها لكل عام مضى مدة إقامتها عند الأمين. وتجب الزكاة على المدين في مال النقود الذي بيده لغيره، متى مضى حول عليه، إن كان عنده ما يمكنه أن يوفي الدين منه من عقار أو غيره؛ لأنه بالقدرة على دفع قيمته صار مملوكاً له. فإن كان المال الذي عنده حرثاً (زرعاً أو ثمراً) أو ماشية أو معدناً، فتجب عليه زكاته، ولو لم يكن عنده ما يوفي به الدين.
وقال الشافعية (2) : المطلوب توافر أصل الملك التام والقدرة على التصرف، فلا زكاة على السيد في مال المكاتب؛ لأنه لا يملك التصرف فيه، فهو كمال الأجنبي، ولا زكاة في الأوقاف؛ لأنها في الأصح على ملك الله تعالى، ولا على المال المباح لعموم ملك الناس كزرع نبت بفلاة وحده، دون أن يستنبته أحد؛ لعدم الملك الخاص.
__________
(1) الشرح الكبير: 431/1، 457، 484 ومابعدها، الشرح الصغير: 588/1، 622 ومابعدها، 647.
(2) المجموع: 308/5-318، المهذب: 141/1 ومابعدها، الأم 42/1-43.(3/165)
وتجب الزكاة على المستأجر لأرض الوقف المأجورة، مع أجرة الأرض، وعلى الموقوف عليه المعين في ثمار الأشجار الموقوفة من نخل وعنب. وفي الجديد تجب الزكاة في المال المغصوب والضال، واللقطة في السنة الأولى، والمسروق والساقط في البحر والمال الغائب والشيء المودع بعد عود المال إلى يد المالك؛ لأنه مال مملوك لصاحبه يملك المطالبة به، ويجبر الغاصب على تسليمه إليه، كالمال الذي في يد وكيله.
والصحيح أنه تجب الزكاة على الملتقط إذا مضى عليه حول من حين ملك اللقطة؛ لأنه ملك مضى عليه حول في يد مالكه.
والأصح أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن الزكاة تتعلق بعين المال، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر، كوجود الدين وأرش الجناية. ويؤيده ما رواه مالك في الموطأ: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤدّ زكاته، حتى تحْصُلَ أموالكم، فتؤدون منه الزكاة» .
ويجب على المرأة زكاة صداقها وتخرجها بعد قبضه؛ لأنه في يد زوجها قبيل الدين.
وعلى المدين زكاة المال الذي استدانه من غيره: إذا حال عليه الحول وهو في ملكه؛ لأنه ملكه بالاستقراض ملكاً تاماً.
وقال الحنابلة (1) : لا بد من توافر أصل الملك والقدرة على التصرف حسب اختياره. فلا تجب الزكاة في الموقوف على غير معين كالمساجد والمدارس والمساكين
__________
(1) المغني: 48/3-53.(3/166)
ونحوها، وتجب الزكاة في الموقوف على معين كأرض أو شجر. وتجب على الراجح في المغصوب والمسروق والمجحود والضال إذا قبضه كالدين. وتجب في اللقطة على الملتقط إذ صارت بعد الحول كسائر أمواله، إذا مضى عليها حول بعد تعريفها. والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى؛ لأنه دين، وحكمه كزكاة الديون على مامضى، فإن قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول، فزكته، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، رجع فيها بنصفه، وكانت الزكاة من النصف الباقي لها.
7 - مضي عام أو حَوَلان حول قمري على ملك النصاب: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لازكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (1) ولإجماع التابعين والفقهاء. وحول الزكاة قمري لا شمسي بالاتفاق كباقي أحكام الإسلام من صوم وحج. ولفقهاء المذاهب آراء متقاربة في حولان الحول.
فقال الحنفية (2) : يشترط كون النصاب كاملاً في طرفي الحول، سواء بقي في أثنائه كاملاً أم لا، فإذا ملك إنسان نصاباً في بدء الحول، ثم استمر كاملاً لنهاية الحول، من غير أن ينقطع تماماً في الأثناء، أو يذهب كله في أثناء العام، وجبت الزكاة، وتجب أيضاً إن نقص في أثناء الحول، ثم تم في آخره؛ فنقصان النصاب في الحول لا يضر إن كمل في طرفيه.
والمستفاد ولو بهبة أو إرث في وسط الحول يضم إلى أصل المال، وتجب فيه الزكاة؛ لأنه يعسر مراعاة وضبط الحول لكل مستفاد، وفي ذلك حرج لا سيما إذا كان النصاب دراهم وهو صاحب غلة يستفيد كل يوم درهماً أو درهمين، والحول ما شرط إلا تيسيراً للمزكي.
__________
(1) روي من حديث علي عند أبي داود وهو حسن، ومن حديث ابن عمر وأنس عند الدارقطني وهو إما ضعيف أو موقوف، ومن حديث عائشة عند ابن ماجه وهو ضعيف (نصب الراية: 328/2 ومابعدها) .
(2) مراقي الفلاح: ص121، الدر المختار: 31/2،72، فتح القدير: 510/1، البدائع: 51/2(3/167)
وحولان الحول شرط في غير زكاة الزرع والثمار، أما فيهما فتجب الزكاة عند ظهور الثمرة والأمن عليها من الفساد إذا بلغت حداً ينتفع بها، وإن لم يستحق الحصاد.
وقال المالكية (1) : حولان الحول شرط في العين (الذهب والفضة) والتجارة، والأنعام، وليس بشرط في المعدن والركاز والحرث (2) (الزرع والثمار) ، وإنما تجب في ذلك بطيبه (3) ولو لم يحل الحول.
أما المال المستفاد في أثناء الحول غير ماتجدد من الحيوان: فإن كان من هبة أو ميراث، أو من بيع أو غير ذلك، لم تجب عليه زكاة حتى يحول عليه الحول. وإن كان ربح مال أو تجارة، زكاة لحول أصله، سواء أكان الأصل نصاباً، أم دونه إذا أتم نصاباً بربحه؛ لأن ربح المال مضموم إلى أصله، فإذا نقص النصاب من الذهب أو الفضة في أثناء الحول ثم ربح فيه أو اتجر فربح، وجبت الزكاة، وخلاصة القاعدة عندهم: أن حول ربح المال حول أصله، وكذلك حول نسل الأنعام حول الأمهات.
ويشترط أيضاً مجيء الساعي مع الحول في الماشية، فلا تجب الزكاة فيها قبل مجيئه.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص99، 101، الشرح الصغير: 590/1، بداية المجتهد: 261/1-263، شرح الرسالة: 326/1.
(2) سمي حرثاً: لأنه تحرث الأرض لأجله غالباً، والحرث: الحبوب وذوات الزيوت الأربع، والتمر والزبيب.
(3) تجب الزكاة بإفراك الحب: وهو طيبه وبلوغه حد الأكل منه واستغناؤه عن السقي لا باليبس والحصاد ولا بالتصفية، وطيب الثمر: هو الزهو في بلح النخل، وظهور الحلاوة في العنب (الشرح الصغير: 615/1) هذا ما ذكره الدردير، وجاء في الرسالة (318/1) أن الوجوب يتعلق بيوم الحصاد والجداد وهو المشهور.(3/168)
وقال الشافعية (1) : مثل المالكية: حولان الحول شرط في زكاة الأثمان (النقود) وعروض التجارة والماشية، وليس بشرط في الثمار والزرع والمعادن والركاز. ويشترط مضي حول كامل متوال، فلو نقص النصاب في أثناء الحول ولو لحظة لم تجب الزكاة إلا في نتاج الماشية، فيتبع الأمهات في الحول وإلا في ربح التجارة فيزكى على حول أصله إذا كان الأصل نصاباً، فمتى تخلل زوال الملك أثناء الحول بمعاوضة أو غيرها كالبيع والهبة، استأنف الحول، وإذا كان النصاب كاملاً في بدء الحول ثم نقص في أثنائه، ثم كمل بعد ذلك، لم تجب الزكاة إلا مضي حول كامل من يوم التمام.
وأما المستفاد في أثناء الحول بالبيع أو الهبة أو الإرث أوالوقت ونحوها مما يستفاد لا من نفس المال، فله حول جديد مستقل عن الأصل أي في غير النتاج وربح التجارة كما تقدم، فيستأنف له الحول لتجدد الملك، ولا يجمع إلى ما عنده في الحول.
ويكره، وقيل: يحرم وعليه كثيرون أن يزيل ملكه عما تجب الزكاة في عينه بقصد رفع وجوب الزكاة؛ لأنه فرار من القربة.
وقال الحنابلة (2) : يشترط حولان الحول في زكاة الأثمان (الذهب والفضة) والمواشي وعروض التجارة، ولايشترط في غيرها من الثمار والزروع والمعادن والركاز. والمعتبر وجود النصاب في جميع الحول، ولا يضر النقص اليسير كنصف يوم أو ساعات. فلو نقص النصاب في أثناء الحول وجب بدء حول جديد إلا في النتاج وأرباح التجارة، فإنها تضم إلى أصلها؛ هأنها تبع له ومتولدة منه، والأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات، ويعسر ضبطها، وكذلك النتاج، وقد يوجد ولا يشعر به، فالمشقة أتم لكثرة تكرره.
__________
(1) المهذب: 143/1، المجموع: 328/5 ومابعدها، الحضرمية: ص99.
(2) المغني: 625/2-629.(3/169)
أما المستفاد في أثناء الحول من غير ربح مال التجارة ونتاج السائمة بالبيع أو الهبة أو الميراث أو الاغتنام ونحو ذلك، فله حول مستقل، لا تجب زكاته إلا بمضي حول تام عليه، لأنه يندر ولا يتكرر، فلا يشق ضبط حول له، فإن شق فهو دون المشقة في النتاج والأرباح، فيمتنع قياسه عليها.
والخلاصة: إن حولان الحول شرط متفق عليه، وأن نتاج الماشية وأرباح التجارة تضم إلى أصل النصاب بالاتفاق، أما المستفاد في أثناء الحول من جنس المال غير النتاج والأرباح فيضم إليه ويزكى معه عند الحنفية، تيسيراً على المزكي، ودفعاً للمشقة والعسر عنه، إذ يعسر حساب الحول لكل مستفاد، والحول ما شرط إلا تيسيراً على الناس في إخراج الزكاة.
ويحسب لكل مستفاد حول جديد عند الجمهور، لأنه مقتضى العدل، ولتجدد الملك، فيشترط له الحول كالمستفاد من غير جنس المال الأصلي الذي بدئ به النصاب، ولحديث: «من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول» (1) .
8 - عدم الدين: شرط عند الحنفية في زكاة ماعدا الحرث (الزروع والثمار) ، وعند الحنابلة في كل الأموال، وعند المالكية في زكاة العين (الذهب والفضة) دون زكاة الحرث والماشية والمعادن. وليس بشرط عند الشافعية (2) . وتفصيل الآراء فيما يأتي:
قال الحنفية: الدين الذي له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة سواء أكان لله كزكاة وخراج (ضريبة الأرض) ، أم كان لإنسان، ولو دين كفالة؛ لأن للدائن المكفول له أخذ الدين من أيهم شاء من المدين أو الكفيل، ولو ديناً مؤجلاً، ولو صداق زوجته المؤجل للفراق، أو كان نفقة لزمته بقضاء القاضي أو بالتراضي.
أما الدين الذي ليس له مطالب من جهة العباد كدين النذر والكفارة والحج، فلا يمنع وجوب الزكاة.
__________
(1) حديث موقوف على ابن عمر، رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي (نصب الراية: 330/2) .
(2) الدر المختار: 6/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 647/1-649، القوانين الفقهية: ص99، المهذب: 142/1، المجموع: 313/5 ومابعدها، المغني: 41/3 ومابعدها.(3/170)
ولا يمنع الدين وجوب العشر (زكاة الزروع والثمار) والخراج، والكفارة، أي أن الدين لا يمنع وجوب التكفير بالمال على الأصح.
وقال الحنابلة: الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة وهي الأثمان (النقود) وعروض التجارة، لقول عثمان بن عفان: «هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين، فليؤده، حتى تخرجوا زكاة أموالكم» (1) وفي رواية: «فمن كان عليه دين، فليقض دينه، وليترك بقية ماله» قال ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه، فدل على اتفاقهم عليه.
وكذلك يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة: وهي الأنعام السائمة والحبوب والثمار، فيبتدئ بالدين فيقضيه، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة، فيزكي ما بقي، لما ذكر في الأموال الباطنة.
ويمنع الدين الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه، ولا يجد ما يقضيه سوى النصاب، أو ما لا يستغني عنه، مثل أن يكون عليه عشرون مثقالاً، وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد قضاء له من غير النصاب. فإن كان له ثلاثون مثقالاً وعليه عشرة، فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة، فلا زكاة عليه، أي أن مقدار الدين لا يمنع الزكاة إذا زاد ماله عن الدين، فإن كان الدين مساوياً نصاب الزكاة أو ينقصه، فهذا هو الذي يمنع الزكاة.
وقال المالكية: الدين يسقط زكاة العين (الذهب والفضة) إذا لم يكن عروض تفي به، ولو كان الدين مؤجلاً، أو كان مهراً عليه لامرأته، أو مؤخراً، أو مقدماً، أو نفقة متجمدة عليه لزوجة أو أب أو ابن، أو دين زكاة عليه، لا دين كفارة ليمين أو ظهار أو صوم، ولا دين هدي وجب عليه في حج أو عمرة، فلا يسقطان زكاة العين.
__________
(1) رواه أبو عبيد في الأموال.(3/171)
فإن كانت له عروض تفي بدينه، لم تسقط الزكاة عنه، ويجعل ذلك في نظير الدين الذي عليه، ويزكي ما عليه من العين.
ولا تسقط عنه الزكاة إلا بشرطين:
أولهما ـ إن حال حول العرض عنده:
والثاني ـ أن يكون العرض مما يباع على المفلس، كثياب ونحاس وماشية ولو دابة ركوب أو ثياب جمعة أو كتب فقه، فإن كان ثوب جسده أو دار سكناه فلا يباع، إلا أن يكون ذلك فاضلاً عن حاجته الضرورية. وتعتبر قيمة العرض وقت وجوب الزكاة آخر الحول. وإن كان له دين مرجو الحصول ولو مؤجلاً، فإنه يجعله فيما عليه، ويزكي ماعنده من العين. أما إن كان غير مرجو، كما لو كان على معسر أو ظالم لا تناله الأحكام فلا يجعل بدلاً عن الدين الواجب عليه.
ولا يسقط الدين زكاة الحرث (الزرع والثمر) والماشية والمعدن؛ لأن الزكاة تجب في أعيانها.
ولو وُهب الدين للمدين أو أبرأه الدائن (صاحب الدين) منه، فلا زكاة في الموهوب حتى يحول عليه الحول في يد الموهوب له؛ لأن الهبة إنشاء لملك النصاب الذي بيده، فلا تجب الزكاة فيه إلا إذا استأنف حولاً من الهبة.
وقال الشافعي في الجديد: الدين الذي يستغرق أموال الزكاة أو ينقص المال عن النصاب لا يمنع وجوب الزكاة، فتجب الزكاة على مالك المال؛ لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية.(3/172)
9 - الزيادة عن الحاجات الأصلية: اشترط الحنفية (1) كون المال الواجب فيه الزكاة فارغاً عن الدين وعن الحاجة الأصلية لمالكه؛ لأن المشغول بها كالمعدوم، وفسر ابن ملك الحاجة الأصلية: بأنها ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقاً كالنفقة ودار السكنى وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر أو البرد، أو تقديراً كالدين، فإن المديون محتاج إلى قضاء دينه بما في يده من النصاب، دفعاً عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة وأثاث المنزل، ودواب الركوب وكتب العلم لأهلها؛ فإن الجهل عندهم كالهلاك، فإذا كانت له دراهم مستحقة بصرفها إلى تلك الحوائج، صارت كالمعدومة، كما أن الماء المستحق صرفه إلى العطش، كان كالمعدوم، وجاز عنده التيمم.
شروط صحة أداء الزكاة:
1 ً - النية: اتفق الفقهاء (2) على أن النية شرط في أداء الزكاة، تمييزاً لها عن الكفارات وبقية الصدقات، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وأداؤها عمل، ولأنها عبادة كالصلاة فتحتاج إلى نية لتمييز الفرض عن النفل. وللفقهاء تفصيلات في النية.
قال الحنفية: لا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء إلى الفقير، ولو حكماً، كما لو دفع بلا نية ثم نوى، والمال في يد الفقير، أو نوى عند الدفع للوكيل، ثم دفع الوكيل بلا نية، أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران بالأداء، إلا أن الدفع للفقراء يتفرق فاكتفي بوجودها حالة العزل، تيسيراً على المزكي، كتقديم النية في الصوم. فلو عزل الزكاة ثم ضاعت أو سرقت أو تلفت، لم تسقط عنه، ويغرم بدلها؛ لأنه يمكن إخراج الزكاة من بقية المال، ولو مات ورثت عنه وأخرجت.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 7/2-8
(2) فتح القدير: 493/1، الدر المختار: 4/2، 14-15، البدائع: 40/2، الكتاب: 140/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص99، المهذب: 170/1، المجموع: 182/6 ومابعدها، الحضرمية: ص150، المغني: 638/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 666/1 ومابعدها، 670 ومابعدها.(3/173)
ومن تصدق بجميع ماله، لا ينوي الزكاة، سقط فرضها عنه استحساناً، بشرط ألا ينوي بها واجباً آخر من نذر أوغيره؛ لأن الواجب جزء منه، فكان متعيناً فيه، فلا حاجة إلى التعيين، وعلى هذا لو كان له دين على فقير، فأبرأه عنه، سقط زكاة المبلغ المبرأ عنه، سواء نوى به عن الزكاة أو لم ينو، لأنه كالهلاك.
ولو تصدق ببعض النصاب لم تسقط زكاة ما تصدق به عند أبي يوسف وهو المختار عند صاحب الهداية، فتجب زكاته وزكاة الباقي؛ لأن البعض المؤدى لم يتعين لأداء الواجب. وقال محمد: تسقط زكاة الجزء المؤدى، كما في حالة التصدق بكل المال، للتيقن بإخراج الجزء الذي هو الزكاة.
وقال المالكية: تشترط النية لأداء الزكاة عند الدفع، ويكفي عند عزلها، والصحيح أنها تجزئ من دفعها كرهاً عنه كالصبي والمجنون، وتجزئ نية الإمام أو من يقوم مقامه عن نية المزكي.
وقال الشافعية: تجب النية بالقلب، ولا يشترط النطق بها، فينوي: «هذا زكاة مالي» ولو بدون ذكر الفرض؛ لأن الزكاة لا تكون إلا فرضاً، ونحو ذلك، كهذا فرض صدقة مالي أو صدقة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، أو فرض الصدقة.(3/174)
ويجوز تقديم النية على الدفع بشرط أن تقارن عزل الزكاة، أو إعطاءها للوكيل أو بعده، وقبل التفرقة، كما تجزئ بعد العزل وقبل التفرقة وإن لم تقارن أحدهما، ويجوز تفويضها للوكيل إن كان من أهلها بأن يكون مسلماً مكلفاً لأن الزكاة حق مالي، ويجوز التوكيل في أداء الحقوق المالية، كالتوكيل في دفع الديون والأثمان، وإعادة الودائع والعواري إلى أصحابها، أما نحو الصبي والكافر فيجوز توكيله في أدائها، لكن بشرط أن يعين له المدفوع إليه. وتجب نية الولي في زكاة الصبي والمجنون والسفيه وإلا ضمنها لتقصيره. ولو دفعها المزكي للإمام بلا نية لم تجزئه نية الإمام في الأظهر. وإذا أخذت قهراً من المزكي نوى عند الأخذ منه، وإلا وجب على الآخذ النية.
فإذا لم تتوافر النية عند دفع الزكاة، لم تفد نية الإمام الذي جباها، ولا يعتبر المال المدفوع للفقراء مجزئاً عن الزكاة، وإنما هو صدقة عادية. وكذلك قال الحنابلة: النية أن يعتقد أنها زكاته، أو زكاة ما يخرج عنه كالصبي والمجنون، ومحلها القلب؛ لأن محل الاعتقادات كلها القلب. ويجوز تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات، وإن دفع الزكاة إلى وكيله ونوى هو دون الوكيل، جاز، إذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل. فإن تقدمت النية بزمن طويل لم يجز، إلا إذا نوى حال الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المستحق.
لكن إن أخذ الإمام الزكاة قهراً أجزأت من غير نية؛ لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون.
ولو تصدق الإنسان بجميع ماله تطوعاً، ولم ينو به الزكاة، لم يجزئه عند الجمهور غير الحنفية؛ لأنه لم ينو به الفرض، كما لو تصدق ببعضه، وكما لو صلى مئة ركعة، ولم ينو الفرض بها. وقال الحنفية: تسقط عنه الزكاة استحساناً خلافاً للقياس.(3/175)
2 - التمليك: يشترط التمليك لصحة أداء الزكاة (1) بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، ولا تصرف عند الحنفية إلى مجنون وصبي غير مراهق (مميز) إلا إذا قبض لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما. وذلك لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43/2] والإيتاء هو التمليك، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة بقوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» ـ كما قال الشافعية ـ لام التمليك، كما يقال: «هذا المال لزيد» .
واشترط المالكية (2) لأداء الزكاة شروطاً ثلاثة أخرى:
1 - إخراجها بعد وجوبها بالحول أو الطيب أو مجيء الساعي، فإن أخرجها قبل وقتها، لم تجزه خلافاً لجمهور الفقهاء. وتأخيرها بعد وقتها مع التمكن من إخراجها سبب للضمان والعصيان.
2 - دفعها لمن يستحقها لا لغيره.
3 - كونها من عين ما وجبت فيه.
__________
(1) البدائع: 39/2، الدر المختار: 85/2، أحكام القرآن لابن العربي: 947/2، المهذب: 171/1، المغني: 665/2-667.
(2) شرح الرسالة: 317/1، القوانين الفقهية: ص99.(3/176)
المبحث الثالث ـ وقت وجوب الزكاة ووقت أدائها:
وفيه مطالب أربعة:
المطلب الأول ـ وقت وجوب الزكاة:
اتفق الفقهاء (1) في المفتى به عند الحنفية (2) على وجوب الزكاة فوراً بعد استيفاء شروطها من ملك النصاب وحولان الحول ونحوهما، فمن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها، ويأثم بالتأخير بلا عذر، وترد شهادته عند الحنفية، لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي توجهت المطالبة بالدفع إليه، والأمر بالصرف إلى الفقير ومن معه قرينه الفور؛ لأنها لدفع حاجته، فإذا لم تجب معجلة لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام. والإخراج على الفور بشرطين:
أولاً ـ أن يتمكن من إخراجها، بأن كان المال حاضراً عنده، ثانياً ـ أن يحضر الأصناف المستحقون لها أو نوابهم أو الإمام أو وكيله الساعي.
فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها؛ لأنه أخر ما وجب عليه مع إمكان الأداء، كالوديعة إذا طالب بها صاحبها، ويأثم بالتأخير، لحبسه مال الفقراء عنده بغير حق، وهو حرام، إلا إذا أخر في رأي الشافعية لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج من الحاضرين، بشرط ألا يتضرر الحاضرون بالتأخير ضرراً بليغاً. وعليه لايجوز للجمعيات الخيرية تأخير صرف الزكاة كرصيد مدور لحساب الجمعية؛ لأن دفع الزكاة واجب على الفور.
المطلب الثاني ـ وقت أداء الزكاة:
تؤدى الزكاة بحسب نوع المال الذي تجب فيه.
أـ فزكاة الأموال من النقدين (الذهب والفضة) وعروض التجارة (3) ، والسوائم تدفع منها بعد تمام الحول مرة واحدة في كل عام.
ب ـ وزكاة الزروع والثمار تدفع من غلاتها عند تكرر الإنتاج ولو تكرر مراراً في العام الواحد، فلا يشترط حولان الحول، ولا بلوغ النصاب عند الحنفية، ويشترط النصاب عند الجمهور.
__________
(1) الدر المختار: 16/2 وما بعدها، شرح الرسالة: 317/1، القوانين الفقهية: ص99، بجيرمي الخطيب: 320/2، المجموع: 302/5، 305، المهذب: 140/1، كشاف القناع: 192/2، المغني: 684/2.
(2) لكن يذكر الأصوليون من الحنفية في بحث دلالة الأمر على الفور أو التراخي: أن أداء الزكاة والحج على التراخي على المعتمد (أصول السرخسي 26/1، مسلّم الثبوت 318/1، كتابي في أصول الفقه 229/1-232) .
(3) أي البضائع التجارية على اختلاف أنواعها.(3/177)
أما وقت وجوب العشر في الثمار فمختلف فيه:
قال أبو حنيفة وزفر (1) : يجب عند ظهور الثمرة والأمن عليها من الفساد، وإن لم يستحق الحصاد إذا بلغت حداً ينتفع بها (2) .
وقال الدردير المالكي (3) : وجوب الزكاة بإفراك الحب، أي طيبه وبلوغه حد الأكل منه واستغنائه عن السقي، لا باليبس ولا بالحصاد ولا بالتصفية؛ وبطيب الثمر: وهو الزهو في بلح النحل، وظهور الحلاوة في العنب.
وقال الشافعية (4) : تجب الزكاة ببدو صلاح الثمر، واشتداد الحب؛ لأن الثمر حينئذ ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك حصرم وبلح، والحب حينئذ طعام وهو قبل ذلك بَقْل أي طري. وليس المر اد بوجوب الزكاة بما ذكر وجوب إخراجها في الحال، بل انعقاد سبب وجوب إخراج التمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك. علماً بأن مؤنة الجفاف والتصفية والجذاذ والدياس والحمل وغيرها مما يحتاج إلى مؤنة على المالك ليست من مال الزكاة.
والحنابلة (5) كالشافعية: تجب الزكاة عند اشتداد الحب في الحبوب، وعند بدو صالح الثمرة التي تجب فيها الزكاة.
جـ ـ تجب زكاة العسل في رأي الحنفية والحنابلة عند حصول ما تجب فيه، وزكاة المعادن عند استخراج ما تجب فيه. وزكاة الفطر في رأي غير الحنفية عند غروب الشمس من ليلة الفطر.
__________
(1) رد المحتار: 72/2.
(2) وقال أبو يوسف: عند استحقاق الحصاد، وقال محمد: إذا حصدت وصارت في الجرين (بيدر الحب) .
(3) الشرح الصغير: 615/1، وقال في (شرح الرسالة: 318/1) : الوجوب يتعلق بيوم استحقاق الحصاد والجداد وهو المشهور، فتجب يوم الاستحقاق، وتخرج بحسب الإمكان.
(4) مغني المحتاج: 386/1.
(5) كشاف القناع: 192/2.(3/178)
المطلب الثالث ـ تعجيل الزكاة قبل الحول:
اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب؛ لأنه لم يوجد سبب وجوبها، فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع، والدية قبل القتل (1) .
أما تعجيل الزكاة متى وجد سبب وجوب الزكاة، وهو النصاب الكامل، ففيه رأيان للفقهاء.
1 - قال الجمهور (2) : يجوز تطوعاً تقديم الزكاة على الحول، وهو مالك للنصاب، لأنه أدي بعد سبب الوجوب، ولما روى علي كرم الله وجهه أن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليعجل زكاة ماله قبل محلها، فرخص له في ذلك (3) ، ولأنه حق مال أجِّل للرفق، فجاز تعجيله قبل أجله أو محله، كالدين المؤجل ودية الخطأ، فهي تشبه الحقوق المالية المؤجلة.
وذكر الشافعية أن شرط إجزاء المعجل: أن يبقى المالك أهلاً للوجوب إلى آخر الحول في الحول، ودخول شوال في الفطرة، وأن يكون القابض في آخر الحول أو عند دخول شوال مستحقاً. وإذا لم يجزئه المعجل لفوات أحد هذين الشرطين، استرد من القابض إن علم القابض أنها زكاة معجلة. وإن مات المالك أو القابض قبل ذلك أو ارتد القابض أو غاب أو استغنى بمال غير المعجل كزكاة أخرى ولو معجلة، أو نقص النصاب أو زال عن ملكه وليس مال تجارة، لم يجزئه المعجل لخروجه عن الأهلية عند الوجوب.
__________
(1) المهذب: 166/1، المغني: 631/2.
(2) فتح القدير: 516/1، البدائع: 50/2 ومابعدها، المجموع: 139/6 ومابعدها، المهذب: 166/1 ومابعدها، الحضرمية: ص150، المغني: 629/2 ومابعدها، كشاف القناع: 310/2 ومابعدها.
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي بإسناد حسن، وذكر أبو داود أنه روي عن الحسن بن مسلم مرسلاً وأنه أصح (نيل الأوطار: 149/4) .(3/179)
2 - وقال الظاهرية والمالكية (1) : لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز إخراجها قبل الوقت (2) ، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه، كالنصاب.
المبحث الرابع ـ هلاك المال بعد وجوب الزكاة:
للفقهاء رأيان في سقوط الزكاة بعد وجوبها وهلاك المال:
1 - فقال الحنفية (3) : إن هلك المال بعد وجوب الزكاة، سقطت الزكاة؛ كما أنه يسقط العشر وخراج المقاسمة؛ لأن الواجب جزء من النصاب، وتحقيقاً للتيسير، فإن الزكاة وجبت بقدرة مُيسِّرة أي بقاء اليسر إلى وقت أداء الزكاة، فيسقط الواجب بهلاك محله، سواء تمكن من الأداء أم لا؛ لأن الشرع علق الوجوب بقدرة ميسرة، والمعلق بقدرة ميسرة لا يبقى بدونها، والقدرة الميسرة هنا هي وصف النماء، لا النصاب.
ولا تسقط الزكاة بالاستهلاك، وإن انتفت القدرة الميسرة، لوجود التعدي.
وإن هلك البعض يسقط بقدر الهالك اعتباراً للبعض بالكل.
أما زكاة الفطر ومثلها مال الحج: فلا تسقط بهلاك المال بعد الوجوب، كما لا يبطل الزواج بموت الشهود.
وسبب التفرقة أن الزكاة تتعلق بالنماء، فشرطت له القدرة الميسرة (وهي ما يوجب يسر الأداء على العبد) تيسيراً على الناس إذ الإنسان إنما يخاطب بأداء ما يقدر عليه، ويجوز ألا يكون له مال سواه، أما الفطرة ومثلها مال الحج فلم تتعلق بالنماء وإنما تجب في الذمة فشرطت له القدرة الممكِّنة (وهي ما يشترط للتمكن من الفعل وإحداثه) .
ويلاحظ أن هلاك المال بعد الإقراض والإعارة واستبدال مال التجارة بمال التجارة: هلاك، فلا يضمن الزكاة، وأما استبدال مال التجارة بغير مال التجارة واستبدال الماشية السائمة بالسائمة فهو استهلاك، فيضمن زكاته.
__________
(1) بداية المجتهد: 266/1، الشرح الكبير: 431/1، القوانين الفقهية: ص99، نيل الأوطار: 151/4.
(2) احتج ابن قدامة لهم بحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تؤدي زكاة قبل حلول الحول» .
(3) فتح القدير: 514/1-516، الدر المختار: 28/2 ومابعدها، 100 ومابعدها، البدائع: 15/2.(3/180)
2 - قال الجمهور (1) : إن هلك المال بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة، وإنما يضمنها، فيكون إمكان الأداء شرطاً في الضمان لا في الوجوب؛ لأن من تقرر عليه الواجب لا يبرأ عنه بالعجز عن الأداء كما في صدقة الفطر والحج وديون الناس، والزكاة حق متعين على رب المال، فإن تلف قبل وصوله إلى مستحقه لم يبرأ منه بذلك، كدين الآدمي. ولو عزل قدر الزكاة، فنوى أنه زكاة فتلف، فهو في ضمان رب المال، ولا تسقط الزكاة عنه بذلك، سواء قدر على أن يدفعها إليه أو لم يقدر.
واستثنى المالكية زكاة الماشية؛ لأن وجوبها عندهم إنما يتم بشرط خروج الساعي، مع الحول، فإن تلفت فلا تضمن زكاتها.
هذا وقد ذكر ابن رشد خمسة أقوال فيما إذا أخرج الزكاة فضاعت كأن تسرق أو تحترق: وهي قول: إنه لا يضمن بإطلاق، وقول: إنه يضمن بإطلاق، وقول: وما بعدها. إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وهو مشهور مذهب مالك، وقول: إن فرط ضمن، وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي.
__________
(1) بداية المجتهد: 241/1، المهذب: 144/1، القوانين الفقهية: ص99، المغني: 685/2(3/181)
والقول الخامس: يعد الذاهب من الجميع ويكون المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال (1) .
المبحث الخامس ـ أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة:
تجب الزكاة في أنواع خمسة من المال وهي:
النقود، والمعادن والركاز، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. وأوجب أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه الزكاة في الخيل والمفتى به هو رأيهما، وبحثها في المطالب الستة الآتية:
المطلب الأول ـ زكاة النقود (الذهب والفضة والورق النقدي) :
اتفق الفقهاء (2) على وجوب الزكاة في النقود سواء أكانت سبائك أم مضروبة أم آنية، أم كانت حلياً عند الحنفية، للأدلة السابقة من الكتاب والسنة والإجماع في وجوب الزكاة مطلقاً، ونبحث هنا ما يأتي:
أولاً ـ نصابها والمقدار الواجب فيها:
نصاب الذهب: عشرون مثقالاً (3) أو ديناراً (4) ، كانت تعادل أربع عشرة ليرة ذهبية عثمانية تقريباً، أو خمس عشرة ليرة ذهبية افرنسية، واثنتي عشرة ليرة إنكليزية (5) وتساوي بالمثقال العراقي مئة غرام تقريباً وبالمثقال العجمي ستة وتسعين غراماً، وعند الجمهور 91 و 25/23 غراماً.
والفرق بين نوعي المثقال (2،0) إذ المثقال العجمي (8،4 غم) والمثقال العراقي (5 غرامات) ، ولنعتمد على الأقل من باب الاحتياط، وهو التقدير بـ 85 غراماً باعتبار الدرهم العربي (2.975 غم) وهو الأولى.
ونصاب الفضة: مئتا درهم تساوي عند الحنفية (700) غراماً تقريباً، وعند الجمهور (642) غراماً تقريباً (6) ، والأدق (595 غم) .
ويضم عند الجمهور (غير الشافعية) أحد النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب، فيضم الذهب إلى الفضة وبالعكس بالقيمة، فمن له مئة درهم وخمسة مثاقيل قيمتها مئة، عليه زكاتها؛ لأن مقاصدها وزكاتهما متفقة، فهما كنوعي الجنس الواحد.
وقال الشافعية: لا يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل والبقر، وإنما يكمل النوع
__________
(1) بداية المجتهد: 240/1.
(2) فتح القدير: 519/1-525، الدر المختار: 38/2-46، اللباب: 148/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 620/1، القوانين الفقهية: ص100، مغني المحتاج: 389/1 ومابعدها، المهذب: 157/1 ومابعدها، المغني: 1/3-16، كشاف القناع: 266/2-275، شرح الرسالة: 322/1 ومابعدها.
(3) المثقال عند الحنفية يساوي خمسة غرامات، وحدده بنك فيصل الإسلامي في السودان بـ 457،4 غم، وهو الوسط المعقول، أو 25،4 غم.
(4) يلاحظ أن الدينار عند الحنابلة أصغر من المثقال فيكون النصاب:
ـــــــــ + ــــــــــ 25 دينار.
(5) الليرة الإنكليزية:50،2 درهم، والليرة العثمانية 25،2 درهم، والليرة الافرنسية 2 درهم.
(6) كانت المئتا درهم وزن سبعة مثاقيل، والدينار عشرون قيراطاً، والقيراط خمس شعيرات، فيكون الدرهم الشرعي سبعين شعيرة والمثقال مئة شعيرة، وهناك مطابقة بين المثقال والدينار، والدرهم الشرعي عند الحنفية (50،3 غم) وعند الجمهور (208،3 غم) والدرهم العربي (975،2 غم) .(3/182)
بالنوع من الجنس الواحد وإن اختلفا جودة ورداءة، والرأي الأول هو الواجب الاتباع اليوم في العملات الورقية، وضم نوع منها إلى آخر أصبح ضرورياً ومتعيناً.
سعر الصرف: يجب تقدير نصاب الزكاة في كل زمان بحسب القوة الشرائية للنقد المعاصر، وبحسب سعر الصرف لكل من الذهب والفضة في كل سنة وفي بلد المزكي وقت إخراج الزكاة، فقد أصبح متقلباً غير ثابت دائماً، والشرع حدد مبلغين متعادلين: إما عشرون ديناراً (مثقالاً) أو مئتا درهم، وكانا شيئاً واحداً ولهما سعر واحد.
ويجب أيضاً اعتبار النصاب الحالي كما كان هو المقرر في أصل الشرع، دون النظر إلى تفاوت السعر القائم الآن بين الذهب والفضة. وتقدر الأوراق النقدية في الأرجح دليلاً بسعر الذهب؛ لأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم وعند أهل مكة هو أساس العملة (1) ، وهو أساس تقدير الديات. ويسأل الصراف عن سعر الذهب بالعملة المحلية الرائجة في كل بلد، مثلاً يعادل الجنية المصري ذهباً في وقت من الأوقات (2.5587) غم، ويساوي غرام الذهب في سوريا الآن حوالي 500 ليرة سورية (2) . أما غرام الفضة فيساوي الآن حوالي عشر ليرات سورية. ويرى كثير من علماء العصر أن النقود تقدر بسعر الفضة احتياطاً لمصلحة الفقراء، ولأن ذلك أنفع لهم. وأرى الأخذ بهذا الرأي؛ لأنه يفتى بما هو أنفع للفقراء.
وينبغي لفت النظر إلى أن دفع الزكاة للجمعيات يجب إيصالها بأعيانها
__________
(1) الخراج في الدولة الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 344.
(2) في أواسط عام 1993 م.(3/183)
للمستحقين، ولا يجوز للقائمين على الجمعيات أن يشتروا بأموال الزكاة أغذية أو ألبسة ونحوها يقدمونها للفقراء، لأنهم لم يوكلوهم في هذا، كما لا يجوز لجمعيات المعاهد العلمية الشرعية شراء شيء كالكتب وغيرها من أموال الزكاة، وعلى إدارة الجمعيات أن يحصلوا على تفويض أو توكيل من طلاب العلم، بصرف أموال الزكاة على حوائجهم من طعام وشراب وكتب وأوراق ونحو ذلك، لأن تمليك الزكاة للمستحقين شرط أساسي، ثم يتصرف المستحق بما يحقق مصلحته. ولا يجوز لجمعية أن تقوم بنفسها ببناء مبان أو معامل من أموال الزكاة لصرف ريعها على المستحقين إذ لا وكالة لدى الجمعية من المستحقين في هذا. لكن يجوز للضرورة إيجاد مراكز صحية وتوزيع أدوية للفقراء مثلاً على ألا تأخذ صفة الوقف، حتى يجوز بيعها وتوزيع أثمانها للمستحقين.
مقدار الزكاة: المقدار الواجب في النقدين (الذهب والفضة) ربع العشر أي (2.50%) فإذا ملك الإنسان مئتي درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وفي العشرين مثقالاً نصف دينار.
والدليل: هو أحاديث ثابتة، منها حديث علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت لك مئتي درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» (1) .
ومنها حديث أبي سعيد الخدري: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْد من الإبل صدقة» (2) وروى البخاري: «وفي الرِّقة: ربع العشر» والرقة والورِق: الفضة.
__________
(1) رواه أبو داود والبيهقي بإسناد جيد (نيل الأوطار:138/4) .
(2) رواه الشيخان، واللفظ للبخاري، والورق بكسر الراء: الفضة، والذود: من الثلاثة إلى العشرة، لا واحد له من لفظه، ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق، والمراد بالدرهم: الخالص من الفضة، سواء أكان مضروباً أم غير مضروب (نيل الأوطار: 126/4، 138) .(3/184)
ويدفع عن الذهب ذهباً وعن الفضة فضة، فإن أراد أن يدفع ذهباً عن فضة أو فضة عن ذهب، جاز في الحالتين عند المالكية، ويكون الدفع بالقيمة في المشهور، ولم يجز ذلك عند الشافعية.
ثانياً ـ ما نقص عن النصاب وما زاد عليه:
تجب الزكاة كما عرفنا بالإجماع في الذهب إذا كان عشرين مثقالاً (ديناراًً) قيمتها مئتا درهم. أما ما دون العشرين مثقالاً، فلا زكاة فيه إلا أن يتم بورِق (فضة) أو عروض تجارة.
وأجمع العلماء على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالاً، ولا يبلغ مئتي درهم، فلا زكاة فيه لعدم بلوغ النصاب، وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار قيمتها ولا تقديرها بالفضة (1) ، قال صلّى الله عليه وسلم: «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقل من مئتي درهم صدقة» (2) .
أما الزيادة على النصاب: فلا شيء فيها عند أبي حنيفة (3) حتى تبلغ أربعين درهماً، فيكون فيها درهم، ثم في كل أربعين درهماً درهم، ولا شيء فيما بينهما.
__________
(1) المغني: 4/3، اللباب: 148/1.
(2) رواه أبو عبيد.
(3) اللباب: 149/1، الدر المختار: 42/2، فتح القدير: 520/1.(3/185)
كذلك لا زكاة في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير. وهذا هوالصحيح عند الحنفية، لقول عليه السلام: «من كل أربعين درهماً درهم» (1) .
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (2) : ما زاد على المئتين فزكاته بحسابه، وإن قلَّت الزيادة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهماً درهماً، وليس عليكم شيء حتى يتم مئتين، فإذا كانت مئتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك» (3) وهذا هو المعقول.
ثالثاً ـ حكم المغشوش أو المخلوط بغيره:
المغشوش: هو المخلوط بما هو أدون منه كذهب بفضة، وفضة بنحاس. وللفقهاء في زكاته آراء ثلاثة (4) :
1 - قال الحنفية: غالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب، وإذا كان الغالب عليهما الغش، فهي في حكم العروض التجارية، ولا بد من أن تبلغ قيمتها نصاباً، ولا بد فيها من نية التجارة كسائر العروض، إلا إذا كان يخلص منها فضة تبلغ نصاباً، لأنه لا تعتبر في عين الفضة القيمة، ولا نية التجارة. واختلف في الغش المساوي، والمختار: لزوم الزكاة احتياطاً.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن علي بلفظـ: «قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة من كل أربعين درهماً درهماً، وليس في تسعين ومئة شيء، فإذا بلغت مئتين ففيها خمسة دراهم» (نيل الأوطار: 4/731) .
(2) المغني: 3/6، الشرح الصغير: 1/026، الحضرمية: ص101.
(3) رواه الدارقطني والأثرم، ورواه أبو داود عن علي، وروي ذلك موقوفاً على علي وابن عمر.
(4) اللباب: 1/941، الدر المختار: 2/24، الشرح الصغير: 1/226، مغني المحتاج: 1/093، المغني: 3/5، فتح القدير: 1/325، القوانين الفقهية: ص001 ومابعدها.(3/186)
2 - وقال المالكية: المعتبر هو الرواج، فتجب الزكاة في الكاملة الوزن، والمغشوشة (المخلوطة بنحو نحاس) ، وناقصة الوزن إن راجت كل منهما رواجاً كرواج الكاملة الوزن، فإن لم ترج حُسب الخالص على تقدير التصفية في المغشوشة، واعتبر الكمال في الناقصة بزيادة دينار أو أكثر، فمتى كملت زكيت وإلا فلا. وعلى هذا فإن كانت الدراهم أو الدنانير مخلوطة بالنحاس أو غيره، أسقط وزكي عن الصافي.
3 - وقال الشافعية والحنابلة: لاشيء في المغشوش حتى يبلغ خالصه نصاباً كاملاً، فمن ملك ذهباً أو فضة مغشوشة أو مختلطاً بغيره، فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصاباً، لقوله عليه السلام: «ليس فيما دون خمس أواق من الورِق صدقة» فإن لم يعلم قدر ما فيه منهما، وشك هل بلغ نصاباً أو لا، عمل بالأظهر بحيث يتيقن أن ما أخرجه من الذهب محيط بقدر الزكاة، أو بسبكهما (أي التمييز بينهما بالنار) ليعلم ما فيه منهما، ويخرج الزكاة ليسقط الفرض بيقين.
ولو اختلط إناء من الذهب والفضة، بأن أذيبا وصيغ منهما الإناء، كأن كان وزنه ألف درهم، أحدهما ست مئة والآخر أربع مئة، وجهل أكثرهما، زكى كلاً منهما بفرضه، الأكثر ذهباً أو فضة، احتياطاً. ولا يجوز افتراض كله ذهباً؛ لأن أحد الجنسين لا يجزئ عن الآخر، وإن كان أعلى منه، أو ميَّز بينهما بالنار، ويحصل ذلك بسبك قدر يسير إذا تساوت أجزاؤه.(3/187)
رابعاً ـ زكاة الحلي:
اتفق الفقهاء على وجوب الزكاة ـ كما أبنت ـ في النقدين في المسكوك وغيره، كالسبائك والتبر والأواني والحلي الحرام كحلي الرجل عدا خاتم الفضة وأدوات الاستعمال والزينة في المنزل. ولا زكاة في الحلي من غير الذهب والفضة كالماس واللؤلؤ والياقوت. والحلي الذي تجب فيه الزكاة عند المالكية (1) : هو المتخذ للتجارة بالإجماع، ويعتبر بحسب وزنه دون قيمة صياغته، وكذلك الأواني والمباخر للتجارة والمكحلة والمِرْوَد ولو لامرأة، والمتخذ للادخار ونوائب الزمن وحوادثه لا للاستعمال، وحلي المرأة إذا انكسر في خمس صور:
أحدها ـ أن يتكسر بحيث لا يرجى عوده إلى ما كان عليه إلا بسكبه مرة أخرى.
ثانيها ـ التهشم ونية عدم إصلاحه.
ثالثها ـ التهشم مع نية إصلاحه.
رابعها ـ التهشم مع عدم نية شيء أصلاً، لا إصلاحه ولا عدم إصلاحه.
خامسها ـ عدم التهشم مع نية عدم إصلاحه.
ولا زكاة في الحلي إذا اتخذه الإنسان لأجل الكراء، سواء أكان المتخذ له رجلاً أم امرأة. ولا في الحلي المباح للمرأة كالسوار، ولا في الحلي الجائز للرجل كقبضة السيف المعد للجهاد والخاتم الفضي والأنف والأسنان وحلية المصحف والسيف، والمتخذ لمن يجوز له استعماله كزوجته وابنته الموجودتين عنده حالاً، وكانتا صالحتين للتزين لكبرهن، فإن اتخذه لمن سيوجد أو لمن سيصلح للتزين لصغره الآن فتجب الزكاة.
والحلي الذي تجب فيه الزكاة عند الشافعية (2) : هو الذي يقصد كنزه وادخاره، والأواني، وما يتحلى به الرجل من حلي المرأة، وما تتحلى به المرأة من
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي:460/1، القوانين الفقهية: ص 101، بداية المجتهد: 242/1.
(2) مغني المحتاج: 390/1 ومابعدها، المجموع: 29/6 ومابعدها، المهذب: 158/1 ومابعدها، الحضرمية: ص102.(3/188)
حلي الرجل كسيف، والتبر المغصوب المصوغ حلياً، وحلي النساء الذي بالغن في الإسراف فيه بأن بلغ مئتي مثقال (حوالي 850 غم) وكذلك ما يكره استعماله قياساً على المحرم كضبة الإناء الكبيرة للحاجة، أو الصغيرة للزينة (1) . جاء في إعانة الطالبين (158/2 ومابعدها) : ويحل الذهب والفضة بلاسرف لامرأة وصبي إجماعاً في نحو السوار والخلخال والطوق، ولا تجب الزكاة فيها. أما مع السرف فلا يحل شيء من ذلك كخلخال وزن مجموع فردتيه مئتا مثقال، فتجب فيه الزكاة. والتقدير بمئتي مثقال مأخوذ من أثر عن صحابي.
وتجب الزكاة أيضاً على الراجح في حلي المرأة إذا انكسر بحيث يمنع الاستعمال، ويحتاج إلى سبك وصوغ.
ولا زكاة في الأظهر في الحلي المباح للمرأة، كخلخال وسوار ونحوهما؛ لأنه معدّ لاستعمال مباح، فأشبه العوامل من النعم.
وأما الحلي الذي تجب فيه الزكاة عند الحنابلة (2) : فهو المتخذ للتجارة، والحلي المحرم للمرأة الذي ليس لها اتخاذه، كما إذا اتخذت حلية الرجال المحرَّمة، كحلية السيف والمِنْطقة (النطاق) وسوار الرجل وخاتمه الذهب، وحلية مراكب الحيوان، ولباس الخيل كاللجم والسروج، وقلائد الكلاب، وحلية الركاب، والمرآة والمشط والمكحلة، والميل والمسرحة، والمروحة والمشربة والمدهنة والمسعط والمجمرة والمعلقة والقنديل، والآنية، وحلية كتب العلم بخلاف المصحف، وحلية الدواة والمقلمة، وما أعد للكراء، أو للقُنية والادخار أو النفقة إذا احتاج إليها، أو لم يقصد به شيئاً.
__________
(1) الأصح عند الشافعية تحريم تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب والفضة، وتمويه سقوفها وتعليق قناديلها، ولا خلاف في تحريم تمويه سقف بيته وجداره بذهب أو فضة (المجموع: 39/6) . والضبة: مايشد به الإناء، لإصلاحه.
(2) المغني: 9/3-17، كشاف القناع: 272/2-275(3/189)
وكذا حلي المرأة إذا انكسر واحتاج إلى صوغ، فإن لم يحتج إلى صوغ ونوت إصلاحه، فلا زكاة فيه، ولا زكاة فيما إذا انكسر الحلي كسراً لايمنع الاستعمال واللبس، فهو كالصحيح، إلا أن تنوي كسره وسبكه، ففيه الزكاة حينئذ؛ لأنها نوت صرفه عن الاستعمال.
وليس في حلي المرأة زكاة في ظاهر المذهب إذا كان مما تلبسه أو تعيره، ولا ممن يحرم عليه، كرجل يتخذ حلي النساء لإعارتهن، وامرأة تتخذ حلي الرجال لإعارتهم.
والخلاصة أن الجمهور لا يرون الزكاة في حلي المرأة المعتاد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس في الحلي زكاة» (1) وهو قول ابن عمر وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، ولأنه مرصد للاستعمال المباح، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من الأنعام، وثياب القنية (الاستعمال الشخصي) ولأن الإسلام أوجب الزكاة في المال النامي المغل فقط: وهو ما من شأنه أن ينمى ولو عطله صاحبه، والحلي المباح لا نماء فيه، بخلاف ما إذا اتخذ كنزاً أو كان فيه سرف ظاهر ومجاوزة للمعتاد، أواستعمله الرجال حلية لهم أو استعمل في الآنية والتحف والتماثيل ونحوها، فتجب في كل ذلك الزكاة.
وقال الحنفية (2) : الزكاة واجبة في الحلي للرجال والنساء تبراً كان أو سبيكة، آنية أو غيرها؛ لأن الذهب والفضة مال نام، ودليل النماء موجود: وهو الإعداد للتجارة خِلْقة، بخلاف الثياب، ولأنهما خُلقا أثماناً، فيزكيهما المالك كيف كانا.
__________
(1) رواه الطبراني عن جابر، وقال البيهقي: لا أصل له، إنما روي عن جابر من قوله غير مرفوع (المجموع: 32/6) . وروى الشافعي أن رجلاً سأل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن الحلي، أفيه زكاة؟ فقال: لا.
(2) فتح القدير: 524/1، الدر المختار: 41/2.(3/190)
ويؤيدهم حديث «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لامرأة في يدها سواران من ذهب: هل تعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسوِّرك الله بسوارين من نار؟! (1) » .
والمعتبر عند غير الشافعية في نصاب الحلي الذي تجب فيه الزكاة: الوزن لا القيمة، فلو ملك حلياً قيمته مئتا درهم، ووزنه دون المئتين، لم يكن عليه زكاة، وإن بلغ مئتين وزناً، ففيه الزكاة، وإن نقص في القيمة، للحديث المتقدم: «ليس فيما دون خمس أواق من الورِق صدقة» .
واستثنى الحنابلة أن يكون الحلي للتجارة، فيقوم، فإذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصاباً، ففيه الزكاة؛ لأن الزكاة متعلقة بالقيمة، ومالم يكن للتجارة، فالزكاة في عينه، فيعتبر بلوغ قيمته ووزنه نصاباً، وهو مخير بين إخراج ربع عشر حلية مشاعاً أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها.
فإن كان في الحلي جوهر ولآلئ مرصعة، فالزكاة في الحلي من الذهب والفضة دون الجوهر؛ لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم، كما أبنت، فإن كان الحلي للتجارة قومه بما فيه من الجواهر؛ لأن الجواهر لو كانت مفردة عن الذهب والفضة، وهي للتجارة، لقومت وزكيت، فكذلك إذا كانت في حلي التجارة.
وقال الشافعية: حيث أوجبنا الزكاة في الحلي، واختلفت قيمته ووزنه، فالعبرة بقيمته لا وزنه، بخلاف المحرم لعينه كالأواني، فالعبرة بوزنه لا قيمته، فلو كان له حلي وزنه مئتا درهم، وقيمته ثلاث مئة، تخير بين أن يخرج ربع عشره مشاعاً، ثم يبيعه الساعي بغير جنسه، ويفرق ثمنه على المستحقين، أو يخرج خمسة مصوغة قيمتها سبعة ونصف نقداً، ولا يجوز كسره ليعطي منه خمسة مكسرة؛ لأن فيه ضرراً عليه وعلى المستحقين.
__________
(1) حديث ضعيف رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(3/191)
خامساً ـ زكاة الدين:
المال البالغ نصاباً والذي هو دين لإنسان في ذمة آخر، وحال عليه الحول، تجب زكاته بشروط مفصلة في المذاهب.
قال الحنفية (1) : الدين عند الإمام أبي حنيفة ثلاثة أنواع: قوي، ومتوسط، وضعيف.
فالقوي: هو بدل القرض ومال التجارة كثمن العروض التجارية، إذا كان على مقرٍّ به ولو مفلساً، أو على جاحد عليه بينة، تجب فيه الزكاة إذا قبضه، لما مضى من الأعوام، كلما قبض أربعين درهماً، ففيه درهم واحد؛ لأن مادون الخمس من النصاب عفولا زكاة فيه، وما زاد عن ذلك فزكاته بحسابه.
والمتوسط: هو بدل ما ليس للتجارة أي ما ليس دين تجارة كثمن دار السكنى وثمن الثياب المحتاج إليها، لا يجب فيه الزكاة إلا إذا قبض منه نصاباً (مئتي درهم) فإن قبض مئتي درهم زكى لما مضى، ويعتبر الماضي من الحول من وقت لزومه لذمة المشتري، في صحيح الرواية.
فالدين المتوسط مثل الدين القوي في حولان الحول عليه، فيعتبر حوله من وقت التزام المدين به، لا من وقت القبض في الأصح.
والضعيف: هو بدل ما ليس بمال، كالمهر والميراث والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد، والدية، فإن المهر ليس بدلاً عن مال أخذه الزوج من زوجته، وكذا بدل الخلع ليس بدلاً عن مال تدفعه الزوجة لزوجها. ومثله دين الوصية، والدية وبدل الصلح، والميراث. لا تجب فيه الزكاة مالم يقبض نصاباً ويحول عليه الحول بعد القبض.
والخلاصة: أن الزكاة تجب في كل أنواع الدين المذكورة، لكن الأداء يكون عند القبض، قبض خُمْس النصاب في القوي، وقبض كامل النصاب في المتوسط والضعيف، وبما أن الدين الضعيف كسب جديد، فيجب حولان الحول.
__________
(1) البدائع: 10/2، الدر المختار: 47/2 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص 121.(3/192)
وقال الصاحبان: الديون كلها سواء، وكلها قوية، تجب الزكاة فيها قبل القبض إلا الدية على العاقلة (العصبة) ، فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلاً ما لم تقبض ويحول عليها الحول، لأن تلك الديون ما عدا الدية ملك لصاحبها، لكن لا يطالب بالأداء للحال، وإنما عند القبض.
وقال المالكية (1) : الديون ثلاثة أنواع:
1 - ما يحتاج لحولان الحول بعد القبض: مثل ديون المواريث والهبات والأوقاف والصدقات، والصداق والخلع، وأرش (تعويض) الجناية، والدية، لا زكاة فيه حتى يقبضه ويحول عليه الحول عنده من يوم القبض، فمن ورث مالاً من أبيه عينت له المحكمة حارساً قبل أن يقبضه لسبب ما، واستمر ديناً له أعواماً كثيرة، فإنه لا زكاة عليه في كل تلك الأعوام، حتى يقبضه ويمضي عليه عام عنده بعد قبضه. وهذا هو الدين الضعيف عند الحنفية. ومنه ثمن بيع العروض المقتناة كبيع متاع أو عقار، وهو الدين المتوسط عند الحنفية، فإذا باع دار سكناه بثمن مؤجل للمستقبل، فإنه يزكي على ما قبضه إذا كان المقبوض نصاباً فأكثر وحال عليه الحول.
2 - ما يزكى لعام واحد فقط: وهو دين القرض وديون التجارة، وهو الدين القوي عند الحنفية، تجب فيه الزكاة بشروط أربعة:
أولها ـ أن يكون أصل الدين الذي أعطاه للمدين ذهباً أو فضة، أو ثمن عروض تجارية محتكرة كثياب مثلاً.
ثانيها ـ أن يقبض شيئاً من الدين، فإن لم يقبض شيئاً فلا زكاة عليه.
ثالثها ـ أن يكون المقبوض نقداً (ذهباً أو فضة) : فإن قبض عروضاً تجارية كثياب أو قمح فلا زكاة عليه.
رابعها ـ أن يكون المقبوض نصاباً على الأقل، ولو قبضه لعدة مرات، أو يكون المقبوض أقل من نصاب، ولكن عنده ما يكمل النصاب من ذهب أو فضة حال الحول عليها.
__________
(1) الشرح الكبير: 458/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 264/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 628/1 ومابعدها.(3/193)
3 - دين المدير: وهو التاجر الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر. فإذا كان أصل الدين عروض تجارة، فإنه يزكي الدين كل عام، مع إضافته إلى قيم العروض التي عنده، وإلى ما باع به من الذهب والفضة.
وقال الشافعية (1) : على الدائن زكاة الدين عن الأعوام الماضية عند التمكن من أخذ دينه، إذا كان الدين من نوع الدراهم والدنانير، أو عروض التجارة. فإن كان الدين ماشية أو مطعوماً كالتمر والعنب، فلا زكاة فيه.
ورأى الحنابلة (2) : أنه تجب زكاة الدين، سواء أكان الدين حالاً أم مؤجلاً، وسواء أكان المدين معترفاً به باذلاً له، أم معسراً أم جاحداً أم مماطلاً به، إلا أنه لا يجب إخراج زكاته إلا إذا قبضه، فيؤدي لما مضى فوراً؛ لأنه دين ثابت في الذمة، فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، ولأن الزكاة للمواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، ولأن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها، كسائر الأموال.
أما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده، لأن الوديع نائب عن المودع في حفظه، ويده كيده، ويزكيه لما مضى؛ لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته زكاته كسائر أمواله.
والخلاصة: إن كان الدين حياً: وهو ما كان الدين معترفاً به مستعداً لسداده في وقته أو عند طلبه، فعند جمهور الأئمة: على الدائن زكاته. وإن كان الدين على معسر لا يرجى منه السداد، أو على مماطل أو جاحد له، غير معترف به، فعند أكثر الأئمة: لا زكاة فيه.
وأما زكاة التأمين النقدي: فهي على مالكه، والتأمين النقدي هو الذي يدفعه المستأجر للمالك، فهو مال مملوك للمستأجر عند المالك ضماناً لسداد الأجرة في مواعيدها، تجب زكاته على مالكه لا على المؤجر، إذا توافرت شروط الوجوب.
__________
(1) المهذب: 142/1، المجموع: 313/5.
(2) المغني: 46/3 ومابعدها.(3/194)
سادساً ـ زكاة الأوراق النقدية:
الأوراق النقدية والنقود المعدنية: هي التي يتم التبادل بها بدلاً عن الذهب والفضة، وتعد بمثابة حوالة مصرفية على المصرف المركزي للدولة بما يعادلها ذهباً من الرصيد الذهبي المخزون الذي يغطي العملة المتداولة، إلا أن أغلب الدول حرمت التعامل بالذهب، فلم تعد تسمح بسحب الرصيد المقابل لكل ورقة نقدية أو نقد معدني مصنوع من خلائط معدنية معينة كالبرونز والنحاس وغيرهما، حفاظاً على الرصيد الذهبي في خزانة الدولة. وبما أن هذا النظام ظهر حديثاً بعد الحرب العالمية الأولى، فلم يتكلم فيه فقهاؤنا القدامى، وقد بحث فقهاء العصر حكم زكاة هذه النقود الورقية (1) ، فقرروا وجوب الزكاة فيها عند جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية) ؛ لأن هذه النقود إما بمثابة دين قوي على خزانة الدولة، أو سندات دين، أو حوالة مصرفية بقيمتها ديناً على المصرف.
ولم ير أتباع المذهب الحنبلي الزكاة فيها حتى يتم صرفها فعلاً بالمعدن النفيس (الذهب أو الفضة) قياساً على قبض الدين.
والحق وجوب الزكاة فيها؛ لأنها أصبحت هي أثمان الأشياء، وامتنع التعامل بالذهب، ولم تسمح أي دولة بأخذ الرصيد المقابل لأي فئه من أوراق التعامل، ولا يصح قياس هذه النقود على الدين؛ لأن هذا الدين لا ينتفع به صاحبه وهو الدائن، ولم يوجب الفقهاء زكاته إلا بعد قبضه لاحتمال عدم القبض، أما هذه النقود فينتفع بها حاملها فعلاً كما ينتفع بالذهب الذي اعتبر ثمناً للأشياء، وهو يحوزها فعلاً، فلا يصح القول بوجود اختلاف في زكاة هذه النقود. والقول بعدم الزكاة فيها لاشك بأنه اجتهاد خطأ؛ لأنه يؤدي في النتيجة البينة ألاّ زكاة على أخطر وأهم نوع من أموال الزكاة، فيجب قطعاً أن تزكى النقود الورقية زكاة الدين الحالّ على مليء، كما هو المقرر لدى الشافعية، ويجب فيها ربع العشر (2.50%) .
__________
(1) انظر الفقه على المذاهب الأربعة: 486/1، ط خامسة.(3/195)
ويقدر نصابها ـ كما أبنت ـ بسعر صرف نصاب الذهب المقرر شرعاً وهو عشرون ديناراً أو مثقالاً، ونختار أن يكون وزنها ذهباً 85غراماً، ومن الفضة (595 غراماً) عملاً بالدرهم العربي وهو (975،2 غم) ، والأصح تقدير النصاب الورقي بالذهب؛ لأنه المعادل لنصاب الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ، ولارتفاع مستوى المعيشة وغلاء الحاجيات، وإن كان يرى كثير من علماء العصر تقدير النصاب بالفضة؛ لأنه أنفع للفقراء، وللاحتياط في الدين، ولأن نصاب الفضة مجمع عليه، وثابت بالسنة الصحيحة، وكان يساوي في الماضي ستة وعشرين ريالاً مصرياً وتسعة قروش وثلثي قرش، ونحو خمسين ريالاً في السعودية ودولة الإمارات، ونحو 60 أو 55 روبية في باكستان والهند.
ولا تجب الزكاة على الأوراق النقدية إلا ببلوغها النصاب الشرعي، وبحولان الحول، وبالفراغ من الدين وهو الحق والعدل، وزاد الحنفية: وبأن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجات الأصلية لمالكه من نفقة وكسوة وأجرة سكنى وآلة حرب (1) .
والسندات جمع سند، والسند تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. والسهم: النصيب في رأس المال.
والسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والسند يمثل جزءاً من قرض على شركة أو دولة، وحامله مقرض أو دائن.
والتعامل بالأسهم جائز شرعاً، أما التعامل بالسندات فحرام لاشتمالها على الفائدة الربوية.
وبالرغم من تحريم السندات (2) ، فإنه تجب زكاتها، لأنها تمثل ديناً لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام، عملاً برأي جمهور الفقهاء غير المالكية؛ لأن الدين
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 5/2-8.
(2) تحريم التعامل بالسندات لايمنع من التملك التام فتجب فيها الزكاة، أما المال الحرام كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها، فلا زكاة فيه عند الحنفية خلافاً للجمهور، لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي؛ منعاً من أكل الأموال بالباطل.(3/196)
المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وأما سندات الاستثمار فالأولى أن تزكى كزكاة النقود أي بنسبة 5،2% من قيمتها.
وأما الأسهم: فتجب زكاتها أيضاً بحسب قيمتها الحقيقية في البيع والشراء، كزكاة العروض التجارية، أي تؤدى زكاتها على رأس المال مع أرباحها في نهاية العام بنسبة (5،2% في المئة) إذا كان الأصل والربح نصاباً أو يكمل مع مال مالكها نصاباً، ويعفى الحد الأدنى للمعيشة إذا لم يكن لصاحب الأسهم مورد رزق آخر سواها، كأرملة ويتيم ونحوهما. هذا في الشركات التجارية، أما في الشركات الصناعية كشركات السكر والنفط ونحوها كالمطابع والمصانع، فتقدر الأسهم بقيمتها الحالية مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج.
والخلاصة: أنه تجب زكاة الأسهم والسندات بمقدار ربع العشر أي 5،2% من قيمتها مع ربحها في نهاية كل عام، على ما لكها الذي حال عليه الحول بعد تملكها. أو تؤدى الزكاة جملة واحدة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من صافي الأرباح قياساً على نصاب الزروع والثمار، باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها. ففي الحالة الأولى نعتبر صاحب الأسهم له وصف التاجر، وفي الحالة الثانية نعتبر الشركة لها وصف المنتج.(3/197)
سابعاً ـ تفصيل آراء العلماء في زكاة الأسهم في الشركات:
سبب وجود التعامل بالأسهم والسندات:
إن الإنسان حريص دائماً على تحقيق الأرباح وابتغاء فضل الله من خلال التجارة الفردية أو الخاصة، والجماعية أو العامة، وذلك عملاً بترغيب الشريعة واستجابة لحب النفس الفطري في تنمية المال واستثماره، كيلا تأكله الصدقة، وتستأصل الزكاة أصل رأس المال مع مرور السنوات والأعوام. وقد لا يتمكن رأس المال الخاص في الغالب من تمويل المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية الكبرى، التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، كالشركات المساهمة التي تتطلب أموالاً كثيرة لوجودها، فظهر في العصر الحديث طريقة تجزئة رأس المال الكبير بواسطة ما يسمى بالأسهم التي تطرح في الحياة الاقتصادية، وتسدد قيمتها من المئات أو آلاف الناس. وقد تحتاج الشركة القائمة إلى الاقتراض من الأفراد، فتلجأ إلى ما يسمى بالسندات في مقابل دفع فائدة مقطوعة معينة.
وكل من الأسهم والسندات تسمى في العرف الاقتصادي الحديث بالأوراق المالية، التي يتداولها الناس عامة فيما بينهم، إما بواسطة الاعلان في الجرائد أو الصحف اليومية، وإما في أسواق خاصة تسمى (بورصات الأوراق المالية) .(3/198)
وقد تساءل الناس منذ ظهور الشركات المساهمة في الربع الثاني من القرن العشرين عن حكم التعامل بالأسهم والسندات حلاً وحرمة، وعن حكم الزكاة الواجبة فيها، ومن تجب عليه الزكاة؟ وأفتى علماء العصر بفتاوى متشابهة في مشروعية التعامل بالأسهم وحرمة التعامل بالسندات، لما تشتمل عليه من الربا بسبب دفع فائدة مقطوعة على مبالغ الديون المدونة فيها. واختلفوا في نسبة الواجب في الزكاة أهي ربع العشر أم العشر، كما اختلفوا فيمن تجب عليه زكاة الأسهم، أهو مالك السهم أم الشركة، ولكنهم اتفقوا على وجوب الزكاة في كل من الأسهم والسندات إذا بلغت قميتها النصاب الشرعي، وإن اختلطت السندات بالحرام وصاحبها الربا وخبث الكسب، لأن الحرمة المصاحبة لجزء من المال لا تمنع من فرض الزكاة، بل إنه على العكس لا سبيل إلى التخلص من المال الحرام إلا بالصدقة به. تعريف الأسهم والسندات:
الأسهم: عبارة عن صكوك متساوية القيمة، غير قابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية، وتمثّل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها.
فالسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والأسهم تتصف بالخصائص التالية (1) :
أـ أنها متساوية القيمة الاسمية: فلا يجوز إصدار أسهم بقيمة مختلفة، والقيمة المتساوية هي القيمة الاسمية التي يصدر بها السهم، والتي يحددها القانون بنسبة تتراوح في بعض البلاد كالإمارات بين درهم ومئة درهم.
والقيمة الاسمية للسهم تختلف عن كل من قيمته التجارية والحقيقية، فالقيمة الاسمية هي القيمة المبينة في الصك والتي تدون عليه، ويحسب على أساسها مجموع رأس مال الشركة.
أما القيمة التجارية: فهي قيمة السهم في السوق أو البورصة، وهي قيمة متغيرة بحسب العرض والطلب وأحوال السوق وسمعة الشركة وسلامة مركزها المالي.
وأما القيمة الحقيقية للسهم: فهي القيمة المالية التي يمثلها السهم فيما لو تمت تصفية الشركة وقسمة موجوداتها على عدد الأسهم.
ب ـ أنها غير قابلة للتجزئة: أي لا يمكن أن تتمثل في صورة كسور حين يتعدد مالكو السهم في مواجهة الشركة.
__________
(1) انظر الشركات التجارية للدكتور حسين غنايم: ص 189ومابعدها.(3/199)
جـ ـ أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية: أي يمكن انتقال ملكية الأسهم من شخص إلى آخر بالطرق التجارية المعروفة، ودونما حوالة مدنية من قبل الشركة.
وإن كان السهم إذنياً (أي يصدر لإذن أو أمر المساهم) فإن تداوله يتم بطريق التظهير.
وإن كان السهم لحامله (أي يصدر من دون ذكر صاحبه) فإن تداوله يتم بمجرد التسليم أي المناولة اليدوية.
ومعظم القوانين تستلزم أن تصدر الأسهم اسمية، وبعضها يجيز إصدار الأسهم لحاملها بشروط.
والخلاصة: إن الأسهم تمثل حصصاً في شركة أموال.
أما السندات فهي جمع سند، والسند: صك مالي قابل للتداول يُمنح للمكتتب لقاء المبالغ التي أقرضها، ويخوّله استعادة مبلغ القرض، علاوة على الفوائد المستحقة، وذلك بحلول أجله. وبعبارة أخرى: السند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة.
والسند يشبه السهم من حيث وجود قيمة اسمية لكل منهما، ومن حيث قابليتهما للتداول بالطرق التجارية، وعدم قابليتهما للتجزئة.
والفارق الأساسي بين السهم والسند: أن السهم يمثل حصة في الشركة، بمعنى أن صاحبه شريك، في حين أن السند يمثّل ديناً على الشركة، أو يمثل جزءاً من قرض شركة أو دولة، بمعنى أن صاحبه مقرض أو دائن.
وبناء عليه، يحصل صاحب السهم على أرباح حين تحقق الشركة أرباحاً فقط، أما صاحب السند فيتلقى فائدة ثابتة سنوياً، سواء ربحت الشركة أم لا. وتكون الأسهم في الغالب اسمية، ضماناً لرقابة الدولة على حاملي الأسهم، أما السندات فتكون إما اسمية أو لحاملها.(3/200)
التعامل بالأوراق المالية التجارية:
التعامل بالأسهم جائز شرعاً، لأن أصحاب الأسهم شركاء في الشركة بنسبة ما يملكون من أسهم، عشرة أو عشرين أو مئة مثلاً، أما التعامل بالسندات فحرام شرعاً، لاشتمالها على الفائدة الربوية المقطوعة بغض النظر عن الربح والخسارة، فهي قروض بفائدة، وقد جاء في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403 هـ / 1983 م أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هوعين الربا المحرم شرعاً، وجاء في الاجتماع الأول للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة عام 1403 هـ /1983 م أنه بإجماع الآراء لايصح للبنك الإسلامي استثمار جزء من أمواله في شراء أسهم الشركات التي يكون هدفها التعامل بالربا، لكون موارد تلك الشركات ونفقاتها تشتمل على فوائد مدفوعة وفوائد مقبوضة.
زكاة السندات:
أشير هنا إلى حكم زكاة السندات، لأنه ليس من موضوع بحثي، فأقول: بالرغم من تحريم السندات، فإنه تجب زكاتها، لأنها تمثل ديناً لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام، عملاً برأي جمهور الفقهاء غير المالكية، لأن الدين المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وشهادات الاستثمار أو سندات الاستثمار هي في الحقيقة سندات، وتجب فيها الزكاة، وإن كان عائدها خبيثاً وكسبها حراماً، وتزكى السندات كزكاة النقود أو عروض التجارة، أي بنسبة 5،2% من قيمتها. وذلك لأن تحريم التعامل بالسندات لا يمنع من وجود التملك التام، فتجب فيها الزكاة. أما المال الحرام كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها، فلا زكاة فيه، لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي، منعاً من أكل الأموال بالباطل، فإن بقي في حوزة حائزه وحال عليه الحول، ولم يرد لصاحبه، فتجب فيه زكاته، رعاية لمصالح الفقراء.(3/201)
زكاة أسهم الشركات:
يتناول هذا الموضوع بحث أمور ثلاثة: هي وجوب الزكاة في الأسهم، والنسبة أو المقدار الواجب إخراجه، ومن تجب عليه الزكاة، أهو صاحب السهم أم الشركة؟.
آراء العلماء المعاصرين في زكاة الأسهم:
من الطبيعي أنه ليس للعلماء القدامى رأي في زكاة الأسهم، لأنه موضوع معاصر حديث، وإنما تكلم فيه العلماء المعاصرون، ولم أجد في كلام واحد منهم صواباً شاملاً فيما اجتهد فيه، وإنما وجدت جانباً من الصواب والحق في كل اجتهاد، فلكل عالم بحث هذا الموضوع إصابة في جهة وخطأ في جهة أخرى، وسأعرض هذه الآراء وأبين مدى الإصابة والخطأ فيها، ثم أذكر رأيي نهائياً في الموضوع.
1 - رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى:
يقسم الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه «المعاملات الحديثة وأحكامها» الأسهم إلى نوعين بحسب موضوع استثمارها (1) :
أـ أسهم الشركات الصناعية.
ب ـ أسهم الشركات التجارية.
أما أسهم الشركات الصناعية المحضة التي لا تمارس عملاً تجارياً كشركات الصباغة، وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات السيارات، والمركبات الكهربائية (الترام) ، وشركات النقل البري والبحري، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة فيها، إلا فيما تنتجه هذه الأسهم من ربح، يضم إلى مال المساهم، ويزكيه معها زكاة المال، بعد حولان الحول عليه، وبلوغه النصاب الشرعي، لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني ونحوها.
__________
(1) وقد ذكر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ذلك في كتابه «فقه الزكاة 523/1 ومابعدها، وكذلك الدكتور خليفة بابكر الحسن في كتابه «بحوث ودراسات إسلامية» ص 101.(3/202)
وأما أسهم الشركات التجارية وهي التي تشتري البضائع وتبيعها كشركات التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد والتصدير، وشركات بيع المصنوعات الوطنية، أو التي تقوم بتصنيع بعض المواد الخام أو تشتريها، مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج، وشركات الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة فيها، لأنها تمارس عملاً تجارياً، سواء معه صناعة أو لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، بعد حسم قيمة المباني والالآت والأدوات المملوكة لهذه الشركات، وتقدر هذه القيمة للأصول الثابتة إما بالربع أو أكثر أو أقل.
وهذا يعني أن الشركات التجارية المحضة تجب زكاة أسهمها بحسب قيمتها التجارية في الأسواق، مع أرباحها المقررة لها في نهاية العام، كزكاة العروض التجارية بنسبة 5،2% إذا كان أصل رأس المال والربح نصاباً شرعياً، ولا زكاة على المحل التجاري من حيث البناء والتجهيزات التي فيه.
أما الشركات الصناعية ـ التجارية كشركات السكّر والنفط والمطابع وصناعة السفن والطائرات والسيارات، فتقدر الأسهم بقيمتها التجارية الحالية، مع حسم قيمة المباني والالآت وأداوت الإنتاج.
وهذا الرأي يناسب المقرر في المذاهب الأربعة، وهو أن المصانع والعمارات الاستغلالية لا زكاة فيها، وإنما الزكاة على أرباحها السنوية إذا بلغت النصاب الشرعي وحال الحول عليها (أي مضى عام عليها في يد صاحبها) وهو الرأي الذي أخذ به مجمع الفقه الإسلامي في جدة في دورته الثانية لعام 1406 هـ /1985 م. وقرر فقهاء المذاهب أنه لا زكاة على سلاح الاستعمال وكتب العالم وآلات المحترفين، لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أصلاً، وسبب الزكاة ملك النصاب النامي ولو تقديراً بالقدرة على الاستنماء.(3/203)
وجاء في المعيار المعرب 402/1 لأبي العباس الونشريسي: وسئل عن الصناع يمر عليهم الحول، وبأيديهم من مصنوعاتهم ما إذا قوموها وأضافوها إلى مالهم من النقد، اجتمع فيه نصاب، هل يجب عليهم التقويم، ويزكون ما حضر بأيديهم أم لا؟.
فأجاب بقوله: الحكم في ذلك أن الصناع يزكون ما حال الحول على أصله من النقد الذي بأيديهم إذا كان نصاباً، ولا يقومون صناعاتهم، ويستقبلون بأثمانها الحول، لأنها فوائد كسبهم استفادوها وقت بيعهم، إلا أن ما وضع فيه الصانع صناعته، من جلد أو خشب أو حديد أو نحو ذلك، يقومه المدير، مجرداً من الصناعة، إذا كان اشتراه للتجارة.
وهي فتوى في غاية الدقة، والتيسير على الصناع، كصناع الأحذية والمفروشات والخزائن الحديدية ونحوها. وإني لمؤيد رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى المذكور آنفاً، مع ملاحظة إيجاب الزكاة على الشركات الصناعية إذا كانت منتوجاتها تجارية، معدّة للبيع أو التصدير، بعد استقطاع قيمة الآلة والبناء، فالمطابع مثلاً تزكي كل ما تنتجه في آخر العام من أوراق وكتب مملوكة لها، كما أنها تزكي أرباحها المستفادة من أجور ما تطبعه لحساب المتعاملين معها، وتحسم قيمة آلة الطباعة وآلة التجليد ونحوهما من مجموع رأس المال.
لكن الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي لم يرتض هذا الرأي وأوجب الزكاة في أسهم الشركات جميعها، صناعية وتجارية، وقال عن تفرقة الشيخ عبد الرحمن عيسى بين نوعي الأسهم: هي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين، ثم استصوب الرأي الثاني للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة ومن وافقه الذي لا يفرق بين نوعي الأسهم تبعاً لنوع شركاتها، ورأى أنه أوفق بالنظر إلى الأفراد، وأيسر في الحساب، ثم قال: بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة، وأرادت جمع الزكاة من الشركات، فقد أرى الاتجاه الأول (رأي الشيخ عيسى) أولى وأرجح، والله أعلم (1) .
2 - رأي الأساتذة عبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن ومحمد أبو زهرة (2) :
يرى هؤلاء الأساتذة أن الأسهم والسندات ـ الأوراق المالية ـ إذا كانت قد اتخذت للتجارة، فإنها تكون عروضاً تجارية، يجب فيها ما يجب في عروض
__________
(1) فقه الزكاة للقرضاوي: 525/1، 528.
(2) حلقة الدراسات الاجتماعية الثالثة: ص242، بحث الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، في مجمع البحوث الإسلامية ـ المؤتمر الثاني في القاهرة في أيار «مايو» 1965.(3/204)
التجارة من زكاة أي 5،2%، وتكون الزكاة ربع العشر من الأصل والنماء، على حسب ما قرره جمهور الفقهاء.
ورجح الدكتور القرضاوي هذا الاتجاه قائلاً: ولعل هذا الاتجاه والإفتاء أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه، ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة، وأسهم في أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها بحسب قيمتها، مضافاً إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي.
ولكني أرى أن الاتجاه الأول هو المقرر فقهاً، وهو الذي جرى عليه العمل منذ ظهور الشركات المساهمة وبدء انتشارها في الأربعينات، ولا تعقيد في الأمر، فالمسلم يعرف أن الالآت الصناعية لا زكاة فيها، فإذا وظف ماله بطريق الأسهم في شركات صناعية، يحسم ما يقابل تلك الالآت، وإذا وظف ماله في أسهم شركات تجارية، زكاها كزكاة الأموال التجارية.(3/205)
وللأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأي قديم فيه تفصيل، ورد في تقرير حلقة الدراسات الاجتماعية لجامعة الدول العربية المنعقدة بدمشق سنة 1952، وهو الرأي الذي أعلنه أيضاً في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965، ومفاده: أن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة، أو بغرض المضاربة، وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية، والكسب من تجارتها، تعتبر من عروض التجارة، ويؤخذ منها الزكاة بتقدير قيمتها في أول العام، وقيمتها في آخره، بنسبة 5،2% ربع العشر من الأصل والنماء متى بلغت نصاباً.
أما إذا كانت بغرض الاستثمار وتوظيف الأموال، لا المضاربة والكسب من البيع والشراء، وإنما تقتنى للكسب من عائدها، وما تدرّه عليه من ربح سنوي، فإن الزكاة الواجبة على الشركة، تكفي عن الزكاة على حملة الأسهم (1) .
وهذا الرأي ينظر إلى الأسهم من جهة الشخص الذي يمتلكها، وعلى وفق نيته فيها، هل يقصد الاتجار أم الاستثمار؟ وهو رأ ي ينسجم مع الوقت الذي لم تكن الشركات فيه تزكي أموالها أو تسأل عن كيفية الزكاة.
ولا أرى حاجة لهذا التفصيل، لأن الهدف من شراء الأسهم واحد وهو الاتجار والاسترباح، وأن هذه الأسهم تزكى مثل زكاة عروض التجارة.
3 - فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني:
جاء في الفتوى رقم (17) حول أسس زكاة أسهم بنك فيصل الإسلامي السوداني لهيئة الرقابة الشرعية من غير أن تستفتى، ما يلي:
رأت الهيئة بأغلبية الأعضاء (2) أن يخرج البنك زكاة أسهمه على الأسس التالية:
1- يخرج البنك زكاة الأسهم عند حولان الحول بمقدار ربع العشر 5،2% من النقود الموجودة من المدفوع من قيمة الأسهم، زائداً قيمة عروض التجارة الخاصة بالأسهم، ولا زكاة في عروض القنية (الأصول الثابتة) زائداً ربح الأسهم.
2 - العقارات التي يشتريها البنك بمال الأسهم إن كان اشتراها للتجارة فيها بالبيع والشراء، زكاها زكاة عروض التجارة، أي يضيف قيمتها إلى النقود الموجودة من الأسهم، وإن كان اشتراها ليؤجرها، فإنه يزكيها زكاة الأصول الثابتة بإخراج العشر 10% من أجرتها عندما يتسلمها.
__________
(1) انظر ص137، وأشار إليه الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في كتابه «التطبيق المعاصر للزكاة» ص118، واعتمده في بحثه.
(2) أربعة أعضاء من خمسة، ويرى العضو الخامس الدكتور خليفة بابكر الأخذ بالرأي الذي يعامل الأسهم معاملة الأموال الثابتة، ويزكى ربحها فقط بمقدار العشر أي 10% من الأرباح.(3/206)
3 - إذا كان البنك أعطى بعض مال الأسهم لمن يعمل فيه مضاربة ـ التمويل، زكى رأس المال الذي مول به المضارب ونصيبه من الربح.
4 - إذا كان على البنك ديون تجارة حالّة من مال الأسهم، وله ديون على غيره تزيد على الديون التي عليه، فإنه يطرح الديون التي عليه من الديون الموجودة التي له، ويزكي الباقي، وإذا كانت الديون التي على البنك تزيد عن الديون التي له، طرح الزائد من النقود التي عنده وزكى الباقي، وإذا كانت ديون التجارة التي للبنك مؤجلة ومرجوة، فإنها تقوّم بعرض، ثم يقوّم العرض بنقد حال، وتزكى هذه القيمة.
5 - إذا كان للبنك ديون (قرض) زكاها زكاة النقود الموجودة مادام سدادها مرجواً.
6 - يستفسرمن أصحاب الأسهم الصغيرة التي لا تبلغ النصاب، هل يجب عليهم فيها زكاة إذا ضمت إلى غيرها؟ فإن قالوا: لا تجب فيها الزكاة، لأنهم لايملكون ما يكملها نصاباً، استبعدت قيمتها من جملة الأسهم.(3/207)
هذه الأسس تتفق في جملتها مع الرأي القائل: إن الأسهم تزكى زكاة عروض التجارة، ولكنها تختلف عنها في بعض التفصيلات، حيث إنه في هذه الأسس اعتبرت قيمة الأسهم الحقيقية أي الاسمية، لا القيمة السوقية كما يرى القائلون باعتبارها عروض تجارة، لأن القيمة السوقية تقديرية، والقيمة الحقيقية تمثل الواقع فعلاً، ولا يصح اللجوء إلى التقدير ما دامت معرفة الحقيقة ممكنة، كما أخرجت العقارات المتخذة للاستغلال، وجعلت الزكاة من أجرتها، لا من قيمتها، لأنها ليست عروض تجارة في الواقع.
ومن الواضح أن المدفوع من القسط الأول من الأسهم قد حال عليه الحول، ووجبت زكاته، وعلى البنك أن يستخرجها على الأسس المتقدمة. وإذا كان تطبيق هذه الأسس متعذراً في الوقت الحاضر، فإنه يجوز أن يخرج البنك بالنسبة للقسط الأول 5،2% من المبالغ المدفوعة عنه، بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة، والأسهم التي لا تبلغ النصاب حتى ترد إفادة أصحابها.. على أن يفكر في الطريقة التي تمكن من تطبيق هذه الأسس كاملة مستقبلاً.
وهذا الحل المؤقت لا يختلف عن الرأي القائل باعتبار الأسهم عروض تجارة تؤخذ الزكاة من قيمتها في السوق، مضافاً إليها الربح بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة إلا في ناحيتين:
الأولى ـ اعتبار القيمة الاسمية للسهم.
الثانية: عدم إضافة الربح، لأنه غير معروف، وعدم طرح المنصرفات وإن كانت معروفة، لأن المفروض أن تغطى المنصرفات من الربح، لا من رأس المال، ومادام الربح لم يؤخذ في الاعتبار، فمن العدل ألا تؤخذ المنصرفات أيضاً في الاعتبار، والله أعلم.
ومع تأييدي لهذه الفتوى في الجملة، فإني أعارضها في الأمور التالية:(3/208)
أولاً ـ العقارات المستغلة تزكى من أرباحها بنسبة 5،2%، وليس العشر من أجرتها حينما يتسلمها، وذلك بعد حولان الحول عليها وهي قائمة في يد أصحابها أو لدى البنك. ثانياً ـ تزكى الأسهم في الشركات زكاة الخليطين، ولو كانت أسهم المساهم لا تبلغ نصاباً شرعياً وحدها بالنسبة إليه، كما سيأتي.
ثالثاً ـ تقدر الأسهم بالقيمة التجارية الموجودة في الأسواق (بورصات الأوراق المالية) فإنها أصبحت معروفة، وقد تتجاوز القيمة الاسمية عشرات أو مئات المرات، كما حدث فعلاً في بعض الأسواق. فإذا لم تعرف حالياً تجب زكاتها بمجرد معرفتها.
رابعاً ـ تضاف الأرباح عند معرفتها إلى أصل قيمة الأسهم، إذ ما من شركة إلا وتضع ميزانية شاملة في آخر كل عام، تبين فيها الأصول والخصوم بالتعبير التجاري، أو رأس المال والأرباح والديون.
المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم:
تزكى الأسهم ـ كما عرفنا ـ زكاة عروض التجارة، فيكون مقدار الواجب فيها هو ربع العشر 5،2% من الأصل والنماء أو الربح. وإذا كنا قد استبعدنا التفصيل المذكور في الرأي القديم للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، واعتمدنا رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى، مع ضرورة التمييز بين ما هو تجاري وما هو صناعي، فإن ما قرره المرحوم أبو زهرة من زكاة الأسهم التجارية بنسبة 5،2%، وزكاة الأسهم المتخذة للاستثمار كزكاة الأصول الثابتة 10%، غير مناسب، ومخالف لما قرره فقهاؤنا في رأيهم المشهور من أن نسبة الزكاة في عروض التجارة هي 5،2%. فيكون جعله نسبة زكاة أسهم الاستثمار 10% غير متفق مع المذاهب الفقهية، ولاداعي للتفرقة بين أسهم التجارة وأسهم الاستثمار، وبخاصة فإنه في رأيه الأخير لم يذكر هذا التفصيل، واكتفى بالقول بوجوب الزكاة على الأسهم مثل زكاة عروض التجارة. والخلاصة: تجب زكاة الأسهم والسندات بنسبة ربع العشر 5،2% من قيمتها التجارية مع ربحها في نهاية كل عام، ولا تزكى الأصول الثابتة من صافي الأرباح 10%.(3/209)
من تجب عليه زكاة الأسهم:
يرى الأساتذة أبو زهرة ومن معه أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها، لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها، أما الأسهم للمتّجر فيها فهي أموال نامية باعتبارها عروض تجارة.
وقد انتقد الدكتور القرضاوي بحق هذا الازدواج، لإيجاب الزكاة على الأسهم ذاتها مرتين، باعتبار صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجراً، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعاً ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجاً، فأخذنا من ربح أسهمه أو من إيراد الشركة العشر، والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين: إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي، منعاً للثنيا أو الازدواج.
وأرى أن زكاة الأسهم هي فقط ربع العشر 5،2% من الأصل مع الربح السنوي، وتقوَّم الأسهم كما تقوم عروض التجارة في آخر كل عام بحسب سعرها في السوق وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، وتضم الأسهم التجارية إلى بعضها عند التقويم، ولو اختلفت أجناسها في التجارة، والصناعة بعد حسم قيمة الآلات الصناعية.(3/210)
وتزكي الشركات جميع الأسهم، لأن للشركة ربحاً من الأسهم، فهي شريك للمساهم، ولأن الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة (1) ، وبما أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط فيها التكليف الذي أساسه البلوغ مع العقل، وقياساً على زكاة الماشية في مذهب الشافعية الجديد القائلين بتأثير الخلطة في المواشي وغيرها، وهومذهب المالكية والحنابلة أيضاً في المواشي (2) ، عملاً بعموم الحديث النبوي الثابت في الزكاة: «لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من مال، فهو مال تجب فيه الزكاة، فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي أي غير المواشي من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة، كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً.
وحينئد لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين، ولو كانت حصته سهماً واحداً، وتؤدى الزكاة من صافي مال الشركة المساهمة النامي ونمائه، بنسبة 5،2% ربع العشر، فلا تحتسب قيمة الأموال والأصول الثابتة ـ عروض القنية ـ كالأراضي والمباني والالآت وغيرها، لأن السهم يمثل حصة في صافي الشركة المساهمة من أموال وأصول ثابتة وأموال وأصول متداولة (نقود وعروض تجارة) .
أما القول بزكاة الأسهم كزكاة الأصول الثابتة بنسبة 10% من الأرباح، فهو رأي ضعيف لا تقره آراء فقهائنا القدامى.
ثم إن في إلزام الشركة المساهمة بإخراج زكاة الأسهم جميعها نفعاً محققاً للفقراء.
__________
(1) وهذا رأي الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في التطبيق المعاصر للزكاة: ص 119.
(2) انظر مايأتي في بحث: زكاة الغنم.(3/211)
ويؤيد هذا الرأي أن أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رأى في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965م كما تقدم أنه إذا كانت الأسهم تتخذ للاستثمار، وهي ممثلة في رأس مال شركة مساهمة، فإن دفع الشركة للزكاة يغني عن دفع حامل السهم.
إلا أن مجمع البحوث الإسلامية أوصى بأنه في الشركات المساهمة التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق هذه الأحكام إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة.
لكني أخالف هذا الاتجاه للأسباب السابقة، أما في حال تفرقة الزكاة وتوزيعها فلا مانع من إعطاء صاحب الأسهم زكاته ليتولى تفرقتها بالنيابة عن الشركة، وأصالة عن نفسه.
وقد قررت الجمعية العمومية لحاملي أسهم دار المال الإسلامي في المملكة العربية السعودية إعطاء الحق لمن يريد من المساهمين بسحب الزكاة المستحقة على حصته من الأسهم لتوزيعها بمعرفته الشخصية، وكان القرار ينص على استمرار الدار في مباشرة خصم (حسم) مبالغها (الزكاة) والمستحقة شرعاً.
وعلى كل مساهم يرغب في القيام بصرف ما يخصه من مبالغ طلب ذلك قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة المالية، وذلك حتى تقوم الدار بتسليمها له على وفق الإجراءات التي تقرها هيئة الرقابة الشرعية للدار.
والخلاصة: أرى أن تكون زكاة الأسهم في الشركات بحسب قيمتها التجارية المعلن عنها في الأسواق لا بقيمتها الاسمية فقط، وأن تزكى زكاة عروض التجارة بنسبة 5،2% إذا كانت الشركة تجارية، فإن كانت الشركة صناعية محضة لا تتاجر ولا تنتج سلعاً تجارية، فلا تزكى الأسهم، أما إن نتجت سلعاً تجارية كشركة نتاج الثلاّجات فتزكى الأسهم بعد استقطاع ما يقابل قيمة الآلات الصناعية والمباني. وتقوم الشركة نفسها بتقدير زكاة الأسهم جميعها وتزكيها هي، لا أصحاب الأسهم، ويمكنها أثناء توزيع الزكاة إعطاء صاحب الأسهم زكاتها ليقوم هو بإعطائها للفقراء، والله أعلم.(3/212)
المطلب الثاني ـ زكاة المعادن والركاز:
اختلف الفقهاء في معنى المعدن، والركاز أو الكنز، وفي أنواع المعادن التي تجب فيها الزكاة، وفي مقادير الزكاة في كل من المعدن والركاز. فالمعدن هو الركاز عند الحنفية، وهما مختلفان عند الجمهور، والمعدن الواجب فيه الزكاة: هو الذهب والفضة عند المالكية والشافعية، وهو كل ما ينطبع بالنار عند الحنفية، ويشمل كل أنواع المعادن الجامدة والسائلة عند الحنابلة. وفي المعادن: الخمس لدى الحنفية، وربع العشر عند الشافعية والمالكية والحنابلة، وفي الركاز الخمس بالاتفاق، ويظهر ذلك من التفصيل الآتي، علماً بأن الواجب في المعادن زكاة عند الجمهور، غنيمة عند الحنفية، وأن الواجب في الركاز عند الجمهورغنيمة للمصالح العامة، ويصرف مصارف الزكاة عند الشافعية، ويشترط في المعدن بلوغ النصاب بالاتفاق، ولا يشترط في الركاز بلوغ النصاب عند الجمهور ويشترط ذلك عند الشافعية.
والمعدن والركاز وإن كانا من الذهب والفضة إلا أنهما اعتبرا نوعاً مستقلاً، لتعلق أحكام خاصة بهما، كاشتراط الحول والنسبة المئوية التي تدفع للمستحقين.
1 - مذهب الحنفية (1) :
المعدن، والركاز أو الكنز بمعنى واحد: وهو كل مال مدفون تحت الأرض، إلا أن المعدن هو ما خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض، والركاز أوالكنز: هوالمال المدفون بفعل الناس الكفار.
والمعادن ثلاثة أنواع:
أـ جامد يذوب وينطبع بالنار كالنقدين (الذهب والفضة) والحديد والنحاس والرصاص، ويلحق به الزئبق، وهذا هو الذي يجب فيه الزكاة وهي الخمس، وإن لم يبلغ نصاباً.
ب ـ جامد لا يذوب ولا ينطبع بالنار كالجص والنورة (حجر الكلس) والكحل، والزرنيخ وسائر الأحجار كالياقوت والملح.
جـ ـ مائع ليس بجامد: كالقار (الزفت) والنفط (البترول) .
__________
(1) فتح القدير: 537/1-543، الدر المختار: 59/2-65، البدائع:65/2-68.(3/213)
ولا يجب الخمس إلا في النوع الأول، سواء وجد في أرض خراجية أو عشرية (1) ، ويصرف الخمس مصارف خمس الغنيمة، ودليلهم الكتاب والسنة الصحيحة والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال:41/8] ويعد المعدن غنيمة؛ لأنه كان في محله من الأرض في أيدي الكفرة، وقد استولى عليه المسلمون عنوة.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «العجماء جُبَار ـ أي هدر لا شيء فيه ـ والبئر جبار،
والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» (2) والركاز يشمل المعدن والكنز؛ لأنه من الركز أي المركوز، سواء من الخالق أو المخلوق.
وأما القياس: فهو قياس المعدن على الكنز الجاهلي، بجامع ثبوت معنى الغنيمة في كل منهما، فيجب الخمس فيهما.
والزائد عن الخمس: إن وجد في أرض مملوكة فهو لمالكه. وإن وجد في أرض غير مملوكة لأحد كالصحراء والجبل فهو للواجد.
ووجوب الخمس في الركاز: هو إن كان عليه علامة الجاهلية كوثن أو صليب ونحوهما، فإن كان عليه علامة الإسلام مثل كلمة الشهادة؛ أو اسم حاكم مسلم، فهو لقطة لا يجب فيه الخمس.
__________
(1) الأرض الخراجية: هي كل أرض فتحت عنوة وأقر أهلها عليها، أو صالحهم الإمام على دفع الخراج (ضريبة أهل الكفار) إلا أرض مكة، فإنها فتحت عنوة وتركت لأهلها، ولم يوظف عليها الخراج. والأرض العشرية: هي كل أرض أسلم أهلها عليها قبل أن يقدر عليها، أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين، وأرض العرب كلها أرض عشر، يجب فيها العشر الذي هو وظيفة أرض المسلمين (الكتاب مع اللباب: 137/4 ومابعدها) فالأولى للدولة، والثانية مملوكة.
(2) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن أبي هريرة (نصب الراية: 380/2) .(3/214)
وكذلك لا يجب الخمس عند أبي حنيفة إن وجد المعدن أو الركاز في دار مملوكة؛ لأنه جزء من أجزاء الأرض مركب فيها، ولا مؤنة (ضريبة) في سائر الأجزاء، فكذا في هذا الجزء. وقال الصاحبان: فيه الخمس، لإطلاق الحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» من غير تفرقة بين الأرض والدار. وفرق أبو حنيفة بينهما بأن الدار ملكت خالية عن المؤن (التكاليف) دون الأرض، بدليل وجوب العشر والخراج في الأرض دون الدار، فتكون هذه المؤنة (الخمس) واجبة مثلهما في الأرض دون الدار.
ولا زكاة في النوعين الآخرين من المعادن (ما لا ينطبع بالنار، والمائع) إلا الزئبق من المائع، فإنه يجب فيه الخمس؛ لأنه كالرصاص.
ولا زكاة في الفيروزج الذي يوجد في الجبال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا خمس في الحجر» (1) .
ولا زكاة في اللؤلؤ (مطر الربيع) والعنبر (حشيش يطلع في البحر، أو خثي دابة) ولا في جميع ما يستخرج من البحر من الحلي ولو ذهباً كنزاً؛ لأنه لم يرد عليه القهر، فلم يكن غنيمة، إلا إذا أعد للتجارة.
وأما الكنز أو الركاز: فيجب فيه الخمس إذا وجد في أرض لا مالك لها، للحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» ويلحق به كل ما يوجد تحت الأرض من الأمتعة من سلاح وآلات وثياب ونحو ذلك؛ لأنه غنيمة بمنزلة الذهب والفضة.
ومن دخل دار الحرب بأمان، فوجد في دار بعضهم ركازاً، رده عليهم تحرزاً عن الغدر؛ لأن ما في الدار في يد صاحبها خاصة، وإن لم يرده وأخرجه من دار الحرب ملكه ملكاً خبيثاً، فيتصدق به. وإن وجده في صحراء في دار الحرب، فهو للواجد؛ لأنه ليس في يد أحد على الخصوص، فلا يعد غدراً، ولا شيء فيه؛ لأنه بمنزلة المتلصص في دار الحرب غير المجاهر إذا أخذ شيئاً من أموال الحربيين، وأحرزه بدار الإسلام.
2 - مذهب المالكية (2) :
المعدن غير الركاز، والمعدن: هو ما خلقه الله في الأرض من ذهب أو فضة أو غيرهما كالنحاس والرصاص والكبريت، ويحتاج إخراجه إلى عمل وتصفية.
ملكية المعادن: المعادن أنواع ثلاثة:
__________
(1) قال الزيلعي عنه: غريب، وأخرج ابن عدي في الكامل عن عمرو بن شعيب عن أبيه: «لا زكاة في حجر» وفيه ضعيف أو مجهول. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة: «ليس في حجر اللؤلؤ، ولا حجر الزمرد زكاة، إلا أن يكون للتجارة، فإن كانت للتجارة ففيه الزكاة» (نصب الراية: 283/2) .
(2) القوانين الفقهية: ص102، بداية المجتهد: 250/1، الشرح الصغير: 650/1-656، الشرح الكبير: 486/1-492.(3/215)
الأول ـ أن تكون في أرض غير متملكة: فهي للإمام (الدولة) يقطعها لمن شاء من المسلمين، أو يجعلها في بيت المال لمنافعهم، لا لنفسه.
الثاني ـ أن تكون في أرض مملوكة لشخص معين: هي للإمام أيضاً، ولايختص بها رب الأرض. وقيل: لصاحبها.
الثالث ـ أن تكون في أرض ممتلكة لغير شخص معين كأرض العنوة والصلح: أرض العنوة للإمام، ومعادن أرض الصلح لأهلها، ولا نتعرض لهم فيها ماداموا كفاراً، فإن أسلموا رجع الأمر للإمام. والخلاصة: أن حكم المعدن مطلقاً للإمام (أي السلطان أو نائبه) إلا أرض الصلح ما دام أهلها كفاراً.
الواجب في المعدن: تجب الزكاة في المعدن، وهي ربع العشر إن كان نصاباً، وبشرط الحرية والإسلام كما يشترط في الزكاة، لكن لا حول في زكاة المعدن، بل يزكى لوقته كالزرع، والمعدن الذي تجب فيه الزكاة هو الذهب والفضة فقط، لا غيرهما من المعادن من نحاس ورصاص وزئبق وغيرها إلا إذا جعلت عروض تجارة. وسبب الاختلاف بينهم وبين الحنفية في مقدار الواجب: هو هل اسم الركاز يتناول المعدن أو لا يتناوله؟ الحنفية قالوا: يتناوله، فيعمل بالحديث السابق: «وفي الركاز الخمس» والمالكية قالوا: لا يتناوله فتجب فيه زكاة النقدين ربع العشر، وتصرف مصارف الزكاة.(3/216)
ويضم في الزكاة المعدن المستخرج ثانياً لما استخرج أولاً، متى كان العِرْق واحداً، أي متصلاً بما خرج أولاً، فإن بلغ الجميع نصاباً فأكثر، زكاه، وإن تراخى العمل.
ولا يضم عِرْق لآخر، كما لا يضم معدن لآخر، وتخرج الزكاة من كل واحد على انفراده.
ويستثنى من ذلك ما يسمى بالنَّدْرَة: وهي القطعة الخالصة من الذهب أو الفضة التي يسهل تصفيتها من التراب، فلا تحتاج إلى عناء في التخليص، ويخرج منها الخمس، ولو دون نصاب، وتصرف مصارف الغنيمة وهو مصالح المسلمين، كما قال الحنفية في المعدن الذي ينطبع بالنار.
وأما الركاز أوالكنز: فهو دفين الجاهلية من ذهب أو فضة أو غيرهما، فإن شك في المال المدفون، أهو جاهلي أم غيره، اعتبر جاهلياً.
ملكيته: يختلف حكم ملكية الركاز باختلاف الأرض التي وجد فيها، وهو أربعة أنواع:
الأول ـ أن يوجد في الفيافي، ويكون من دفن الجاهلية: فهو لواجده.
الثاني ـ أن يوجد في أرض مملوكة: فهو لمالك الأرض الأصلي بإحياء أو بإرث منه، لا لواجده، ولا لمالكها بشراء أو هبة، بل للبائع الأصلي أوالواهب إن علم، وإلا فلقطة.
الثالث ـ أن يوجد في أرض فتحت عنوة: فهو لواجده.
الرابع ـ أن يوجد في أرض فتحت صلحاً: فهو لواجده.
هذا كله مالم يكن بطابع المسلمين، فإن كان بطابع المسلمين، فحكمه حكم اللقطة: يُعرَّف عاماً ثم يكون لواجده.
زكاته: يجب الخمس في الركاز مطلقاً، سواء أكان ذهباً أم فضة أم غيرهما، وسواء وجده مسلم أو غيره. ويصرف الخمس كالغنائم في المصالح العامة، إلا إذا احتاج إخراجه إلى عمل كبير أو نفقة عظيمة، فيكون الواجب فيه ربع العشر، ويصرف في مصارف الزكاة.
ولا يشترط في الواجب في الركاز في الحالين بلوغ النصاب، والباقي من الركاز بعد إخراج الواجب يكون للواجد، إلا إذا كان في أرض مملوكة، فيكون لمالك الأرض الأصلي، كما بينت.(3/217)
ولا زكاة فيما لفظه (طرحه) البحر مما لم يكن مملوكاً لأحد، كعنبر ولؤلؤ ومرجان وسمك (1) ، ويكون لواجده الذي وضع يده عليه أولاً، بلا تخميس؛ لأن أصله الإباحة. فإن سبق ملكه لأحد من أهل الجاهلية، فهو لواجده بعد تخميسه؛ لأنه من الركاز. وإن علم أنه لمسلم أو ذمي فهو لقطة، يعرَّف عاماً.
3 - مذهب الشافعية (2) :
المعدن غير الركاز، فالمعدن: ما يستخرج من مكان خلقه الله تعالى فيه، وهو خاص بالذهب والفضة، كما قال المالكية.
ويجب فيه ربع العشر إن كان ذهباً أو فضة، لا غيرهما كياقوت وزبرجد ونحاس وحديد، سواء وجد في أرض مباحة أو مملوكة لحر مسلم، لعموم أدلة الزكاة السابقة، كخبر: «وفي الرِّقَة ربع العشر» ، بشرط كونه نصاباً، كما قال باقي الأئمة، ولا يشترط حولان الحول على المذهب؛ لأن الحول إنما يعتبر لأجل تكامل النماء، والمستخرج من المعدن نماء في نفسه، فأشبه الثمار والزروع.
ويضم بعض المستخرج إلى بعض إن اتحد المعدن المخرج، وتتابع العمل، كما يضم المتلاحق من الثمار، ولا يشترط بقاء الأول على ملك المستخرج، ويشترط اتحاد المكان المستخرج منه، فلو تعدد لم يضم؛ لأن الغالب في اختلاف المكان استئناف العمل. وإذا قطع العمل بعذر كإصلاح الآلة وهرب الأجراء والمرض والسفر، ثم عاد إليه، ضُمَّ، وإن طال الزمن عرفاً لعدم إعراضه. وإذا قطع العمل بلا عذر فلا يضم، لإعراضه عن العمل.
ويضم الخارج الثاني إلى الأول، كما يضم إلى ما ملكه بغير المعدن في إكمال النصاب، وتخرج زكاته عقب تخليصه وتنقيته، فلو أخرج قبل تصفيته لا تجزئ.
وأما الركاز فهو دفين الجاهلية (3) ، ويجب فيه الخمس، كما قرر الحنفية،
__________
(1) وهذا موافق لمذهب الحنفية السابق.
(2) مغني المحتاج: 394/1-396، المهذب: 162/1.
(3) المراد بالجاهلية: ما قبل الإسلام أي قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم.(3/218)
حالاً بشروط الزكاة من حرية وإسلام وبلوغ نصاب، وكونه من النقدين (الذهب والفضة المضروب منهما والسبيكة) ؛ لأنه مال مستفاد من الأرض، فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً ونوعاً كالمعدن، ولا يشترط حولان الحول، ويصرف مصرف الزكاة على المشهور. ودليل قدر الواجب فيه حديث أبي هريرة المتقدم: «وفي الركاز الخمس» .
فإن لم يكن دفين الجاهلية: بأن كان إسلامياً بوجود علامة عليه تدل على إسلاميته، أو لم يعلم أهو جاهلي أو إسلامي: فهو لمالكه أو وارثه إن علم؛ لأن مال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه. وإن لم يعلم مالكه، فلقطة، يعرّفه الواجد، كما يعرّف اللقطة الموجودة على وجه الأرض.
وإذا وجد الركاز في أرض مملوكة لشخص أو لموقوف عليه، فللشخص إن ادعاه، يأخذه بلا يمين، كأمتعة الدار، وإن لم يدعه بأن نفاه أو سكت، فلمن سبقه من المالكين، حتى ينتهي الأمر إلى محيي الأرض.
وإذا وجد الركاز في مسجد أو شارع، فلقطة على المذهب، يفعل فيه ما يفعل باللقطة مما سبق؛ لأن يد المسلمين عليه، وقد جهل مالكه، فيكون لقطة.
ولو تنازع في ملك الركاز بائع ومشتر، أو مُكْر ومكتر، أو معير ومستعير، صُدِّق ذو اليد (أي المشتري والمكتري والمستعير) بيمينه؛ كما لو تنازعا في أمتعة الدار.
4 - مذهب الحنابلة (1) :
المعدن غير الركاز، والمعدن: هو مااستنبط من الأرض مما خلقه الله تعالى وكان من غير جنسها، فليس هو شيء دفن، سواء أكان جامداً أم مائعاً.
ملكيته: المعادن الجامدة كالذهب والفضة والنحاس تملك بملك الأرض التي هي فيها؛ لأنها جزء من أجزاء الأرض، فهي كالتراب والأحجار الثابتة، بخلاف
__________
(1) المغني: 17/3-29.(3/219)
الركاز، فإنه ليس من أجزاء الأرض. فعلى هذا ما يجده الواجد في ملك أو في موات، فهو أحق به، وإن سبق اثنان إلى معدن في موات فالسابق أولى به مادام يعمل، فإذا تركه جاز لغيره العمل فيه، وما يجده في مملوك يعرف مالكه، فهو لمالك المكان.
أما المعادن السائلة كالنفط والزرنيخ ونحو ذلك، فهي مباحة على كل حال، إلا أنه يكره له دخول ملك غيره إلا بإذنه.
صفة المعدن الذي تجب فيه الزكاة: هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها، فإذا أخرج من المعادن من الذهب عشرون مثقالاً، أو من الفضة مئتا درهم (نصاب الزكاة) ، أو قيمة ذلك من الحديد والرصاص والنحاس والزئبق والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والكحل والزرنيخ، وكذلك المعادن السائلة كالقار (الزفت) والنفط والكبريت ونحو ذلك، مما يستخرج من الأرض، ففيه الزكاة فوراً أي من وقت الإخراج.
ودليلهم عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] وأنه معدن، فتعلقت الزكاة بالخارج منه كالأثمان (الذهب والفضة) . وأما الطين فليس بمعدن؛ لأنه تراب، والمعدن: ما كان في الأرض من غير جنسها.
قدر الواجب وصفته: قدر الواجب في المعدن هو ربع العشر، وصفته أنه زكاة، كما قال الشافعية، لما روى أبو عبيد: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القَبَلية (1) في ناحية الفُرْع، قال: فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم» ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى، فكان زكاة كالواجب في الأثمان التي كانت مملوكة له.
__________
(1) قال أبو عبيد: القبلية بلاد معروفة بالحجاز.(3/220)
نصاب المعادن: هو ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالاً، ومن الفضة مئتي درهم، أو قيمة ذلك من غيرهما، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» وقوله: «ليس في تسعين ومئة شيء» وقوله: «ليس عليكم في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالاً» .
ولا يشترط له الحول لحصوله دفعة واحدة، فأشبه الزروع والثمار.
ويعتبر إخراج النصاب دفعة واحدة، أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك إهمال. وترك العمل ليلاً أو للاستراحة أو لعذر من مرض أو لإصلاح الأداة ونحوه لا يقطع حكم العمل.
ويضم ما خرج في العملين بعضه إلى بعض في إكمال النصاب. ولا يضم أحد الأجناس إلى جنس آخر، ويعتبر لكل معدن نصاب مستقل بانفراده؛ لأن المعادن أجناس، فلا يكمل نصاب أحدهما بالآخر كغير المعدن، إلا في الذهب والفضة، فيضم كل منهما إلى الآخر في تكميل النصاب، كما يضم إلى كل منهما معدن آخر، وكما تضم عروض التجارة إلى الأثمان (الذهب والفضة) .
وقت الوجوب: تجب الزكاة في المعدن حين الإخراج وبلوغ النصاب، ولا يعتبر له حول باتفاق المذاهب الأربعة؛ لأنه مال مستفاد من الأرض، فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزرع والثمار والركاز.
شروط إخراج الزكاة في المعادن: يشترط شرطان:
الأول ـ أن يبلغ بعد سبكه وتصفيته نصاباً إن كان ذهباً أو فضة أو تبلغ قيمته نصاباً إن كان غيرهما، كما أوضحت.(3/221)
الثاني ـ أن يكون مخرجه ممن تجب عليه الزكاة، فلا تجب على الذمي أو الكافر أو المدين أو نحو ذلك.
معادن البحر: لا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر والسمك ونحوه، كما قرر باقي المذاهب، لقول ابن عباس: «ليس في العنبر شيء، إنما هو شيء ألقاه البحر» وعن جابر نحوه (1) ، ولأنه قد كان يخرج على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه، فلم يأت فيه سنة، ولا عن أحد من خلفائه، ولأن الأصل عدم الوجوب فيه، ولا يصح قياسه على معدن البر؛ لأن العنبر إنما يلقيه البحر، فيوجد ملقى في البر على الأرض من غير تعب، فأشبه المباحات المأخوذة من البر، وأما السمك فهو صيد، فلم يجب فيه زكاة كصيد البر.
وأما الركاز: فهو دفين الجاهلية، أي مال الكفار المأخوذ في عهد الإسلام، قل أو كثر، ويلحق به ما وجد على وجه الأرض وكان عليه علامة الكفار. وفيه الخمس، كما قرر الحنفية والشافعية والمالكية، للحديث السابق المتفق عليه: «العجماء جُبَار، وفي الركاز الخمس» .
فإن وجد عليه أو على بعضه علامة الإسلام كآية قرآن أو اسم النبي صلّى الله عليه وسلم أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم، فهو لقطة، تجري عليه أحكامها؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه.
وخمس الركاز يوضع في بيت المال ويصرف في المصالح العامة، وباقيه لواجده إن وجده في أرض مباحة، ولمالك الأرض إن وجد في أرض مملوكة، وهو للواجد إن وجده في ملك غيره إن لم يدّعه المالك، فإن ادعاه مالك الأرض فهو له مع يمينه.
وإن وجد الركاز في دار الحرب: فإن لم يقدر إلا بجماعة من المسلمين، فهو غنيمة لهم، وإن قدر عليه بنفسه، فهو لواجده، كما لو وجده في موات في أرض المسلمين.
صفة الركاز الذي فيه الخمس: هو كل ما كان مالاً على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس والآنية وغير ذلك، لعموم الحديث: «وفي الركاز الخمس» .
__________
(1) رواهما أبو عبيد.(3/222)
قدر الواجب في الركاز ومصرفه: أما قدره فهو الخمس، للحديث المتقدم والإجماع، وأما مصرفه على الأصح من الروايتين عن أحمد فهو مصرف الفيء للمصالح العامة، عملاً بفعل عمر في هذا الشأن، ولأنه مال مخمس زالت عنه يد الكافر، فأشبه خمس الغنيمة.
من يجب عليه الخمس: هو كل من وجده من مسلم وذمي وحر وغيره وكبير وصغير وعاقل ومجنون، وهو رأي الجمهور لعموم حديث «وفي الركاز الخمس» ، وقال الشافعية: لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة؛ لأنه زكاة.
ويجوز أن يتولى الإنسان تفرقة الخمس بنفسه، وهو رأي الفقهاء الآخرين؛ لأن علياً أمر واجد الكنز بتفرقته على المساكين.
المطلب الثالث ـ زكاة عروض التجارة:
أبحث فيه المقصود بعروض التجارة، وشروط الزكاة فيها، وتقويم العروض ومقدار الواجب، وحكم ضم الربح والنماء ومال غير التجارة إلى أصل المال، وكيفية زكاة التجارة عند المالكية، وزكاة شركة المضاربة.
أولاً ـ معنى عروض التجارة:
العروض جمع عَرَض (بفتحتين) : حطام الدنيا، وبسكون الراء: هي ما عدا النقدين (الدراهم الفضية والدنانير الذهبية) من الأمتعة والعقارات وأنواع الحيوان والزروع والثياب ونحو ذلك مما أعد للتجارة. ويدخل فيها عند المالكية الحلي الذي اتخذ للتجارة. والعقار الذي يتجر فيه صاحبه بالبيع والشراء حكمه حكم السلع التجارية، ويزكى زكاة عروض التجارة. أما العقار الذي يسكنه صاحبه أو يكون مقراً لعمله كمحل للتجارة ومكان للصناعة، فلا زكاة فيه.
ثانياً ـ شروط زكاة العروض التجارية:
اشترط الفقهاء لوجوب زكاة عروض التجارة شروطاً، أربعة عند الحنفية، وخمسة عند المالكية، وستة عند الشافعية، وشرطين فقط عند الحنابلة (1) ، منها ثلاثة شروط متفق عليها وهي بلوغ النصاب، وحولان الحول، ونية التجارة، ومنها شروط زوائد في بعض المذاهب، وهي ما يأتي:
1 ً - بلوغ النصاب: أن تبلغ قيمة أموال التجارة نصاباً من الذهب أو الفضة المضروبين، وتعتبر في البلد الذي فيه المال، فإن كان في مفازة اعتبرت قيمتها في أقرب الأمصار إلى تلك المفازة.
ودليلهم على هذا الشرط أحاديث مرفوعة وموقوفة تتضمن تقويم مال التجارة، فيؤدى من كل مئتي درهم خمسة دراهم (2) .
__________
(1) البدائع: 21/2، الدر المختار: 45/2، تبيين الحقائق: 280/1، فتح القدير: 526/1-528، اللباب: 150/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 260/1-264، القوانين الفقهية: ص103، الشرح الصغير: 636/1-638، 641 مغني المحتاج: 397/1-400، المهذب: 159/1-161، كشاف القناع: 280/2 ومابعدها، المغني: 29/3-36.
(2) من المرفوعة حديث حسن عند أبي داود عن سمرة بن جندب، ومن الموقوفة حديث عن عمر رواه أحمد وعبد الرزاق والدارقطني (نصب الراية: 375/2-378) .(3/223)
وقال المالكية في هذا الشرط: إن كان التاجر محتكراً وجب أن يبيع من عروض التجارة بنصاب من الذهب أو الفضة. وإن كان مديراً لزم أن يبيع من ذلك بأي شيء منهما ولو درهماً.
والمدير: هو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتاً ولا ينضبط له حول كأهل الأسواق، فيجعل لنفسه شهراً في السنة ينظر فيه ما معه من النقود، ويقوِّم مامعه من العروض ويضمه إلى النقود، ويؤدي زكاة ذلك إن بلغ نصاباً بعد إسقاط الدين إن كان عليه.
وأما المحتكر أو غير المدير: فهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الغلاء. فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها، فإن باعها بعد حول أو أحوال، زكى الثمن لسنة واحدة.(3/224)
والخلاصة: إن الجمهور غير المالكية قالوا: المدير وغير المدير لهما حكم واحد، وأن من اشترى عرضاً للتجارة فحال عليه الحول، قومه وزكاه، فلا يجب على المدير شيء عند الجمهور؛ لأن الحول إنما يشترط في عين المال، لا في نوعه. وأما مالك فأوجب على المدير الزكاة، وإن لم يحل الحول على عين المال، ويكفي حولانه على نوع المال، لئلا تسقط الزكاة رأساً عن المدير، وهذا أخذ بمبدأ المصالح المرسلة التي لا يشترط فيها عند مالك استنادها إلى أصول منصوص عليها.
2 ً - حولان الحول: أن يحول على الأموال (أي القيمة) الحول من وقت ملك العروض، لا على السلعة نفسها. والمعتبر في ذلك عند الحنفية، والمالكية (في غير المدير) : طرفا الحول لا وسطه، أما في الابتداء فلتحقق الغنى، وأما في الانتهاء فللوجوب، فمن ملك في أول الحول نصاباً، ثم نقص في أثنائه، ثم كمل في آخره، وجبت فيه الزكاة، أما لو نقص في أوله أو في آخره فلا تجب فيه الزكاة. والمعتبر عند الشافعية: بلوغ النصاب آخر الحول من البدء بالمتاجرة؛ لأنه وقت الوجوب، لا بطرفيه معاً أي أوله وآخره، وبناء عليه إذا كان مع تاجر في أول الحول ما يكمل به النصاب كمئة درهم اشترى بخمسين منها عرضاً للتجارة، فبلغت قيمته في آخر الحول مئة وخمسين، فإنه تلزمه زكاة الجميع آخر الحول.
والمعتبر عند الحنابلة: بلوغ النصاب في جميع الحول، ولا يضر النقص اليسير في أثنائه كنصف يوم مثلاً، أي أنه لا زكاة قبل اكتمال النصاب في البدء والأثناء والانتهاء.
3 ً - نية التجارة حال الشراء: أن ينوي المالك بالعروض التجارة حالة شرائها، أما إذا كانت النية بعد الملك، فلا بد من اقتران عمل التجارة بنية، ويشترط أيضاً عند الحنفية أن يكون الشيء المتجر فيه صالحاً لنية التجارة، فلو اشترى أرضاً خراجية للتجارة، ففيها الخراج لا الزكاة، ولو اشترى أرضاً عشرىة وزرعها، وجب في الزرع الناتج العشر، دون الزكاة.(3/225)
واشترط الشافعية أن ينوي بالعروض التجارة حال المعاوضة في صلب العقد أو في مجلسه، فإن لم ينو على هذا الوجه فلا زكاة فيها. ويشترط تجديد نية التجارة عند كل معاوضة حتى يفرغ رأس المال.
4 ً - ملك العروض بمعاوضة: اشترط الجمهور غير الحنفية أن تملك العروض بمعاوضة كشراء وإجارة ومهر، فإن ملكت بغير معاوضة كإرث أو خلع أو هبة أو وصية أو صدقة مثلاً، كأن ترك شخص لورثته عروض تجارة، فلا زكاة فيها حتى يتصرفوا فيها بنية التجارة. وزاد المالكية أن يكون ثمن العروض ممتلكاً بمعاوضة مالية أيضاً، لا بنحو هبة أو إرث، ومن كان يبيع العروض بالعرض ولا ينض (يتحول نقداً) له من ثمن ذلك نقد، فلا زكاة عليه عند المالكية إلا أن يفعل ذلك فراراً من الزكاة فلا تسقط، وعليه الزكاة عند المذاهب الأخرى.
5 ً - ألا يقصد بالمال القِنْية (أي إمساكه للانتفاع به وعدم الاتجار به) : هذا شرط ذكره الشافعية والحنابلة والمالكية، فإن قصد ذلك انقطع الحول، وإذا أراد التجارة بعدئذ، احتاج لتجديد نية التجارة.
6 ً - ألا يصير جميع مال التجارة في أثناء الحول نقداً وهو أقل من النصاب: هذا شرط آخر عند الشافعية، فإن صار جميع المال نقداً مع كونه أقل من نصاب، انقطع الحول. ولم يشترط غير الشافعية هذا الشرط.
7 ً - ألا تتعلق الزكاة بعين العرض: هذا شرط عند المالكية، فإن تعلقت الزكاة بعينه كحلي الذهب أو الفضة، وكالماشية (الإبل والبقر والغنم) والحرث (الزرع والثمر) وجبت زكاته إن بلغ نصاباً مثل زكاة النقدين والأنعام والحرث، فإن لم تتعلق الزكاة بعين المال كالثياب والكتب وجبت زكاة التجارة.
والخلاصة: إن الحنابلة اشترطوا لوجوب الزكاة في عروض التجارة شرطين (1) :
الأول ـ أن يملكها بفعله كالشراء، وهو الشرط الرابع لدينا.
الثاني ـ أن ينوي التجارة حال التملك، وهو الشرط الثالث السابق.
والحنفية اشترطوا أربعة شروط:
الأول ـ بلوغ النصاب.
__________
(1) الواقع أن هذين الشرطين اللذين ذكرا في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: 490/1 منقولان عن المغني: 31/3، وكشاف القناع: 280/2، وهما شرطان لتصير العروض للتجارة، وهما مقرران أيضاً لدى الشافعية (المهذب: 159/1) أما بقية الشروط مثل بلوغ النصاب وحولان الحول فيقررهما الحنابلة مثل الشافعية تماماً (انظر المغني: 30/3-32، 36) .(3/226)
والثاني ـ حولان الحول.
والثالث ـ نية التجارة مصحوبة بعمل التجارة فعلاً؛ لأن مجرد النية لا يكفي.
والرابع ـ أن تكون الأموال صالحة لنية التجارة.
والمالكية اشترطوا خمسة شروط:
الأول ـ ألا تتعلق الزكاة في عينه كالثياب والكتب.
الثاني ـ أن يملك العرض بمعاوضة أو مبادلة كشراء، لا بإرث وهبة ونحوهما.
الثالث ـ أن ينوي بالعرض التجارة حال شرائه.
الرابع ـ أن يكون ثمن الشراء الذي اشترى به العرض مملوكاً بمعاوضة مالية أي بشراء، لا بنحو إرث أو هبة مثلاً.
الخامس ـ أن يبيع المحتكر من ذلك العرض نصاباً فأكثر، أو بأي شيء ولو درهماً إذا كان مديراً.
والشافعية اشترطوا ستة شروط:
الأول ـ أن تملك العروض بمعاوضة كشراء، لا بإرث مثلاً.
الثاني ـ أن ينوي بالعروض التجارة في صلب عقد المعاوضة أو في مجلسه، وإلا احتاج لتجديد نية التجارة.
الثالث ـ ألا يقصد بالمال القنية.
الرابع ـ مضي الحول من وقت ملك العروض أي من الشراء.
الخامس ـ ألا يصير جميع مال التجارة نقوداً وكان أقل من نصاب، وعبر عنه الشافعية بقولهم: ألا ينضّ المال في الأظهر أي يصير الكل نقداً من نقود البلد ببيع أو إتلاف من شخص معتد.
السادس ـ أن تبلغ قيمة العروض آخر الحول نصاباً.(3/227)
ثالثاً ـ تقويم العروض ومقدار الواجب في هذه الزكاة وطريقة التقويم:
يقوِّم التاجر العروض أو البضائع التجارية في آخر كل عام بحسب سعرها في وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، ويخرج الزكاة المطلوبة، وتضم السلع التجارية بعضها إلى بعض عند التقويم ولو اختلفت أجناسها، كثياب وجلود ومواد تموينية، وتجب الزكاة بلا خلاف في قيمة العروض، لا في عينها؛ لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها، وواجب التجارة هو ربع عشر القيمة كالنقد باتفاق العلماء، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة: الزكاة إذا حال عليها الحول (1) .
وأدلة وجوب زكاة التجارة ما يأتي (2) :
1ً - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} [البقرة:267/2] قال مجاهد: نزلت في التجارة.
2ً - وقوله صلّى الله عليه وسلم: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البَزّ (3) صدقته» (4) وقال سمرة بن جندب: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرنا
__________
(1) المغني: 29/3.
(2) مغني المحتاج: 397/1، المغني: 30/3، البدائع: 20/2-21.
(3) البز بفتح الباء: الثياب المعدة للبيع عند البزاين، والسلاح، وبما أن زكاة العين (أي اقتطاع جزء من ذات الشيء) لا تجب في السلاح والثياب، فتعين حمل الحديث على زكاة التجارة.
(4) رواه الحاكم بإسنادين صحيحين على شرط الشيخين، والدارقطني، عن أبي ذر.(3/228)
أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع» (1) وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: «أمرني عمر، فقال: أدّ زكاة مالك، فقلت: ما لي مال إلا جعاب وأدم، فقال: قوّمها، ثم أدّ زكاتها» (2) قال ابن قدامة صاحب المغني: وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر، فيكون إجماعاً.
وأما ما حكي عن مالك وداود أنه لا زكاة في التجارة لحديث: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» فالمراد به زكاة العين فلا زكاة في عين الخيل، لازكاة القيمة، بدليل الأخبار التي ذكرتها، ثم إن هذا الخبر عام، والأخبار المذكورة خاصة، فيجب تقديمها. والمقرر عند المالكية هو وجوب زكاة التجارة.
وطريقة تقويم العروض (3) : هي عند الجمهور غير الشافعية أن تقوم السلع إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من ذهب أو فضة احتياطاً لحق الفقراء، ولا تقوم بما اشتريت به. فإذا حال الحول على العروض، وقيمتها بالفضة نصاب، ولا تبلغ نصاباً بالذهب، قومناها بالفضة ليحصل للفقراء منها حظ، ولو كانت قيمتها بالفضة دون النصاب، وبالذهب تبلغ نصاباً قومناها بالذهب لتجب الزكاة فيها، ولا فرق بين أن يكون اشتراؤها بذهب أو فضة أو عروض.
وقال الشافعية: تقوم العروض بما اشتراها التاجر به من ذهب أو فضة؛ لأن نصاب العروض مبني على ما اشتراه به، فيجب أن تجب الزكاة فيه، وتعتبر به، كما لو لم يشتر به شيئاً. وعلى هذا إن ملك العرض بنقد قوِّم به إن ملك بنصاب أو دونه في الأصح، سواء أكان ذلك النقد هو الغالب أم لا، وسواء أبطله السلطان أم لا، لأنه أصل ما بيده، فكان أولى من غيره. وإن ملك العرض بعرض آخر للقنية أو بخلع أو نكاح أو صلح عن دم عمد، فيقوَّم بغالب نقد البلد، من الدراهم والدنانير؛ لأنه لما تعذر التقويم بالأصل، رجع إلى نقد البلد، على قاعدة التقويمات في الإتلاف ونحوه.
فإن حال الحول بمحل لا نقد فيه، كبلد يتعامل فيه بالفلوس أو نحوها، اعتبر أقرب البلاد إليه.
ولو ملك بدين في ذمة البائع أو بنحو سبائك، قوِّم بجنسه من النقد.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد مقارب عن سمرة.
(2) رواه الإمام أحمد وأبو عبيد.
(3) فتح القدير: 527/1، البدائع: 21/2، المغني: 33/3، بداية المجتهد: 260/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 399/1، المهذب: 161/1.(3/229)
فإن غلب نقدان على التساوي في التعامل بالبلد، وبلغ مال التجارة بأحدهما دون الآخر نصاباً، قوم به، لبلوغه نصاباً بنقد غالب. فإن بلغ نصاباً بكل من النقدين الغالبين، قوم بالأنفع منهما للفقراء. وإن ملك العرض بنقد وعرض آخر، كأن اشترى بمئتي درهم وعرض قنية، قوم ما قابل النقد به، والباقي بغالب نقد البلد، كما لو انفرد الشراء بواحد منهما.
ورأي الجمهور أولى لسهولته ومراعاته مصالح الفقراء. وعلى هذا يجب على كل تاجر أن يجرد آخر كل عام ما لديه من بضائع، ويقدر قيمتها وقت الجرد عند الجمهور بالنقود الرائجة، فإن بلغت نصاباً، وجب عليه إخراج ربع عشر قيمة هذه الأموال 5،2%، ويضم الربح إلى رأس المال، ولا يقوَّم الأثاث وموجودات المحل وأدوات التجارة والصناعة والكسب وفروغ المحل.
هل يجوز إخراج الزكاة من عروض التجارة؟
اختلف الفقهاء على رأيين (1) :
فقال الحنفية: يخير التاجر بين العين أو القيمة، فللمالك الخيار عند حولان الحول بين الإخراج من قيمة التجارة، فيخرج ربع عشر القيمة، وبين الإخراج من عينها، فيخرج ربع عشر العين التجارية؛ لأن التجارة مال تجب فيه الزكاة، فجاز إخراجها من عينه كسائر الأموال، وعلى هذا يصح لتاجر القماش مثلاً إخراج الزكاة من أعيان الأقمشة على أن يراعى اختيار الوسط من كل نوع، ويدفع الزكاة من كل نوع، لا أن يخرج الكاسد أو يخرج نوعاً واحداً عن جميع الأنواع.
وقال الجمهور: يجب إخراج القيمة، ولا يجوز الإخراج من عين العروض التجارية؛ لأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال، ولا نسلم أن الزكاة تجب في المال، وإنما وجبت في قيمته.
__________
(1) البدائع: 21/2، مغني المحتاج: 399/1، المغني: 31/3، القوانين الفقهية: ص103.(3/230)
رابعاً ـ حكم ضم الربح والنماء ومال غير التجارة إلى أصل المال:
اتفق فقهاء المذاهب على أنه تضم أرباح التجارة إلى أصل رأس المال في الحول، كما يضم أيضاً عند الحنفية خلافاً لغيرهم المال المستفاد من غير التجارة كعطية وإرث إلى أصل المال، ويتضح ذلك فيما يأتي:
قال الحنفية (1) : يضم الربح الناتج عن التجارة، والولد أو النماء في الماشية، والمال المستفاد من غير التجارة كالإرث والهبة إلى أصل رأس المال، إذا كان مالكاً للنصاب، في أول الحول الذي هو وقت انعقاد سبب إيجاب الزكاة، وبقي في أثناء الحول شيء من النصاب الذي انعقد عليه الحول، ليضم المستفاد إليه، وكان آخر الحول بمقدار النصاب، ويزكى الجميع في تمام الحول؛ لأن المستفاد من جنس الأصل وتبع له؛ لأنه زيادة عليه؛ إذ الأصل يزداد به ويتكثر، والزيادة تبع للمزيد عليه، والتبع لا يفرد بالحكم حتى لا ينقلب أصلاً. أما المستفاد بعد الحول، فلا يضم إلى الأصل في حق الماضي بلا خلاف. والسوائم المختلفة الجنس كالإبل والغنم لا تضم إلى بعضها. والنقدان كما بينت سابقاً يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب.
وقال المالكية (2) : يضم الربح الناتج عن التجارة، وغلة المكترى للتجارة لأصل المال الذي نتج عنه في أثناء الحول، ولو كان الأصل أقل من نصاب.
وأما المستفاد بدون تجارة كالإرث والهبة، فلا يضم إلى أصل رأس المال في الحول، ولو كان نصاباً، بل يبدأ به حولاً جديداً من يوم ملكه.
وأما الماشية المستفادة بإرث أو هبة ونحوهما فتضم إلى الماشية التي عنده إن كانت نصاباً، ولا تضم لها إن كانت أقل من نصاب.
__________
(1) البدائع: 13/2 ومابعدها، فتح القدير: 529/1، الدر المختار: 31/2، تبيين الحقائق: 280/1
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 461/1-463، بداية المجتهد: 263/1، وقالوا: نماء العين ربح وغلة وفائدة، أما الربح فهو ما يزيد عن ثمن المبيع المتجر به على ثمنه الأول ذهباً أو فضة، وحكمه أنه يضم لحول أصله ولو أقل من نصاب. والغلة: ما تجدد من سلع التجارة قبل بيع رقابها (ذواتها) كثمر النخل المشترى للتجارة، وحكمها أنه يبدأ بها حولاً من يوم قبضها. والفائدة: ما تجدد لا عن مال أو عن مال غير مزكى كعطية وميراث وثمن عرض القنية، وحكمها البدء (الاستقبال) بها حولاً من يوم حصولها.(3/231)
ورأى الشافعية (1) في الأصح: أن الربح وولد العرض وثمره كثمر الشجرة وأغصانها وورقها وصوف الحيوان ووبره وشعره، هو مال تجارة يضم لأصل رأس المال، وأن حوله حول الأصل؛ ولو كان الأصل دون نصاب؛ لأن الربح ونحوه جزء من الأصل، فحوله حول الأصل تبعاً كنتاج الماشية السائمة.
وأما المال المستفاد من غير التجارة: فلا يضم إلى مال التجارة في الحول، وإنما له حول مستقل من يوم ملكه.
ومذهب الحنابلة (2) كالشافعية تقريباً إلا في اشتراط كون الأصل نصاباً، فقالوا: إذا كان في ملك إنسان نصاب للزكاة، فاتجر فيه، فنمى، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول، فحول النماء مبني على حول الأصل؛ لأنه تابع له في الملك، فتبعه في الحول كنتاج الماشية. وأما المال المستفاد من غير التجارة فلا يضم إلى حول الأصل، بل له حول مستقل من يوم ملكه.
خامساً ـ كيفية زكاة التجارة عند المالكية:
التاجر عند المالكية إما محتكر أو مدير، أو محتكر ومدير معاً (3) .
أـ أما المحتكر: وهو الذي يشتري السلع، وينتظر بها الغلاء، وحكمه: أنه لا زكاة عليه فيها حتى يبيعها، فإن باعها بعد عام أو أعوام بالنقود، زكى الثمن لسنة واحدة، وإن بقي عنده منها شيء، ضم الثمن إلى ما عنده منها.
__________
(1) مغني المحتاج: 399/1.
(2) المغني: 37/3.
(3) الشرح الصغير: 639/1-642، القوانين الفقهية: ص103.(3/232)
وهذا مخالف لرأي الجمهور غير المالكية، فإنهم يقولون: يزكي المحتكر كل عام وإن لم يبع، ويخير عند الحنفية بين إخراج الزكاة من عين العروض أو قيمتها. ولا يجوز عند الشافعية في الجديد، والحنابلة الإخراج من عين العروض، كما تقدم سابقاً.
ويعتبر مبدأ حول المحتكر عند المالكية: يوم ملك الأصل أو يوم زكاته إن كان قد زكَّاه.
وأما ديون المحتكر التي له من التجارة: فلا يزكيها إلا إذا قبضها، ويزكيها لعام واحد فقط.
ب ـ وأما المدير: فهو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتاً، ولا ينضبط له حول، كأهل الأسواق، فيجعل لنفسه شهراً في السنة، ينظر فيه ما معه من النقود، ويقوَّم ما معه من العروض، ويضمه إلى النقود، ويؤدي زكاة ذلك إن بلغ نصاباً بعد إسقاط الدين إن كان عليه.
فحكم زكاته: أن يقوم في كل عام ما عنده من عروض، ولو كسد سوقها وبقيت عنده أعواماً، ثم يضم قيمتها إلى ما عنده من النقود، ويزكي الجميع.
ويعتبر مبدأ حول المدير من وقت تملك الثمن الذي اشترى به عروض التجارة، أي أن حوله حول أصل المال الذي اشترى به السلع، فيبتدئ الحول من يوم ملك الأصل أو من يوم زكاته، ولو تأخرت الإدارة عنه، كما لو ملك نصاباً أو زكاة في شهر المحرم، ثم أداره في رجب، أي شرع في التجارة على وجه الإدارة في رجب، فحوله من المحرم.
وأما الديون التي للمدير من التجارة: فإن كانت حالة الأداء بأن كانت واجبة الدفع في الحال، أو حل أجل دفعها، وكانت مرجوة الخلاص (أي الدفع) ممن هي عليه، فيضم مقدار الدين إلى أصل المال، ويزكي الكل. وإن كان الدين عرضاً تجارياً أو مؤجلاً مرجو الخلاص، فإنه يقومه ويضم القيمة إلى أصل المال، ويزكي الجميع.
أما إذا كان الدين على فقير معدم لا يرجى خلاصه منه، فلا تجب عليه زكاته إلا إذا قبضه من المدين، فإذا قبضه زكاه لعام واحد فقط.(3/233)
ولا يقوَّم على المدير الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا آلات العمل.
جـ ـ وأما إذا كان التاجر محتكراً لبعض السلع، ومديراً للبعض الآخر: فإن تساويا أو كان الأقل للإدارة والأكثر للاحتكار، زكى المحتكر على حكم الاحتكار، يعني يزكي ثمنه بعد قبضه لعام واحد، وزكى المدير على حكم الإدارة، يعني يقوِّمه كل عام.
وإن كان الأكثر للإدارة والأقل للاحتكار، فالجميع إدارة، وبطل حكم الاحتكار، أي يقوَّم الجميع كل عام، تغليباً لجانب الإدارة على حكم الاحتكار.
سادساً ـ زكاة شركة المضاربة:
يزكي رب المال (المالك) رأس المال وحصته من الربح، ويزكي العامل حصته من الربح، على النحو الآتي عند الفقهاء (1) :
قال أبو حنيفة: يزكي كل واحد من المالك والعامل بحسب حظه أو نصيبه، كل سنة، ولا يؤخر إلى المفاصلة، أي التصفية.
وقال الحنابلة: يزكي رب المال رأس المال والربح الحاصل؛ لأن ربح التجارة حوله حول أصله، فمن دفع إلى رجل ألفاً مضاربة على أن الربح بينهما نصفان، فحال الحول، وقد صار ثلاثة آلاف، فعلى رب المال زكاة ألفين.
وأما العامل: فليس عليه زكاة في حصته حتى يتم اقتسام الربح، ويستأنف حولاً من حينئذ؛ لأن ملك المضارب غير تام، فإذا تحاسب المضارب مع المالك، زكى المضارب إذا حال عليه الحول من حين الحساب؛ لأنه علم مقدار ماله في مال الشركة، ولأنه إذا حدثت خسارة بعد ذلك كانت الخسارة (الوضيعة) على رب المال.
__________
(1) راجع القوانين الفقهية: ص 103-104، الشرح الكبير: 477/1، الشرح الصغير: 642/1، مغني المحتاج: 401/1، المغني: 38/3 ومابعدها.(3/234)
وقال الشافعية: يلزم المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح؛ لأنه مالك لهما. والمذهب أنه يلزم العامل زكاة حصته من الربح؛ لأنه متمكن من التوصل إليه متى شاء بالقسمة، فأشبه الدين الحالّ على مليء، ويبتدئ حول حصته من حين ظهور الربح، ولا يلزمه إخراج الزكاة قبل القسمة على المذهب.
وقال المالكية: إذا كان مال القراض حاضراً ببلد رب المال، ولو حكماً بأن علم حاله في غيبته، تجب عليه زكاته زكاة إدارة، أي يقوم مالديه كل عام من رأس مال وربح، ويزكي رأس ماله وحصته من الربح، قبل المفاصلة أي الحساب والتصفية في ظاهر المذهب، لكن المعتمد أنه لا يزكي إلا بعد المفاصلة، ويزكي حينئد عن السنوات الماضية كلها. وكذلك إن غاب المال ولم يعلم حاله من بقاء أو تلف ومن ربح أو خسران، يزكيه عن السنوات الماضية.
وأما العامل: فإنما يزكي حصته من الربح بعد المفاصلة لسنة واحدة.
المطلب الرابع ـ زكاة الزروع والثمار (أو زكاة النبات أو الخارج من الأرض) :
الكلام في هذا المطلب يتناول فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية، وشروطها، وما تجب فيه هذه الزكاة، والنصاب الذي تبدأ به الزكاة، ومقدار الواجب وصفته، ووقت الوجوب وإخراج الزكاة، وما يضم بعضه إلى بعض، وزكاة الثمار الموقوفة، وزكاة الأرض المستأجرة، وزكاة الأرض الخراجية ـ (الأراضي العشرية والخراجية ونوعا الخراج) العاشر وضريبة العشور، إخراج زكاة الزرع والثمر وإسقاطها.(3/235)
أولاً ـ فرضية زكاة الزروع والثمار وسبب الفرضية (1) :
هذه الزكاة واجبة بدليل من القرآن والسنة والإجماع والمعقول:
أما القرآن: ققوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] قال ابن عباس: حقه: الزكاة المفروضة، وقال مرة: العشر، ونصف العشر، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] والزكاة تسمى نفقة، بدليل قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله} [التوبة:34/9] .
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً (2) العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (3) وقوله: «فيما سقت الأنهار والغَيْم: العشور، وفيما سقي بالسانية (4) نصف العشور» (5) .
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على فرضية العشر.
وأما المعقول: فكما ذكرت في حكمة مشروعية الزكاة؛ لأن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس عن الذنوب وتزكيتها، وكل ذلك لازم عقلاً وشرعاً.
وأما سبب فرضية هذه الزكاة: فهو الأرض النامية بالخارج منها، حقيقة في
__________
(1) البدائع: 53/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 381/1، بداية المجتهد: 245/1، المغني: 689/2 ومابعدها، كشاف القناع: 236/2، فتح القدير: 4/2.
(2) العثري: ما يسقيه المطر أو تشرب عروقه من ماء قريب من غير سقي، وفي لفظ «بعلاً» .
(3) رواه الجماعة إلا مسلماً عن ابن عمر (نيل الأوطار: 139/4 ومابعدها) .
(4) السانية: البعير الذي يستقى به الماء من البئر.
(5) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: الأنهار والعيون، عن جابر (نيل الأوطار: المكان السابق) .(3/236)
حق العشر، أو تقديراً في حق الخراج، فلوأصاب الخارج آفة، فهلك لا يجب فيه العشر في الأرض العشرية، ولا الخراج في الأرض الخراجية، لفوات النماء حقيقة وتقديراً. ولو كانت الأرض عشرية فتمكن من زراعتها، فلم تزرع، لا يجب العشر، لعدم الخارج حقيقة. ولو كانت أرضاً خراجية يجب الخراج، لوجود الخارج تقديراً.
ولا تجب زكاة الزروع إلا بعد انعقاد الحب واشتداده، ولو بعضه. ولا تثبت الزكاة في الثمار إلا بعد بدو صلاحها، أي ظهور نضجها باحمرار أو اصفرار أو تموه أوتلون، بحسب المعهود في كل ثمر، ويكفي ظهور الصلاح في بعض الثمر من جنس واحد، كما سأبين.
ثانياً ـ شروط زكاة الزروع والثمار:
هناك شروط عامة في كل زكاة، ذكرتها سابقاً كالأهلية من البلوغ والعقل، فلا تجب الزكاة عند الحنفية في مال الصبي والمجنون إلا زكاة الخارج من الأرض، وكالإسلام، فلا تجب على الكافر؛ لأن فيها معنى العبادة، والكافر ليس من أهل التكليف بها.
ويضاف لها شروط خاصة بها، مفصلة في المذاهب.
فعند الحنفية (1) يشترط زيادة على الشروط العامة ما يأتي:
1ً - أن تكون الأرض عشرية: فلا تجب الزكاة في الأرض الخراجية؛ لأن العشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة عندهم.
2ً - وجود الخارج: فلو لم تخرج الأرض شيئاً، لم يجب العشر؛ لأن الواجب جزء من الخارج.
3ً - أن يكون الخارج مما يقصد بزراعته نماء الأرض واستثمارها أواستغلالها، فلا تجب هذه الزكاة في الحطب والحشيش ونحوهما؛ لأن الأرض لا تنمو بزراعة ذلك، بل تفسد بها.
ولا يشترط عند أبي حنيفة النصاب لوجوب العشر، فيجب العشر في كثير الخارج وقليله.
__________
(1) البدائع: 57/2-63.(3/237)
واشترط المالكية (1) شرطين:
1ً - أن يكون الناتج من الحبوب، ومن الثمار (التمر والزبيب والزيتون) ولازكاة في الفواكه كالتفاح والرمان، ولا في الخضروات والبقول. وذلك سواء في الأرض الخراجية كأرض مصر والشام التي فتحت عنوة، وخراجها لا يسقط عنها الزكاة، وغير الخراجية: وهي أرض الصلح التي أسلم أهلها عليها، وأرض الموات.
2ً - أن يكون الناتج نصاباً وهو خمسة أوسق (653 كغ) ، والوسق ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو اثنا عشر قنطاراً أندلسية.
واشترط الشافعية ثلاثة شروط (2) :
1ً - أن يكون الناتج الذي تخرجه الأرض مما يقتات ويدخر وينبته الآدميون: فمن الحب: الحنطة والشعير والدُخن والذرة والأرز والعدس والحمص وما أشبه ذلك، ومن الثمار: التمر والزبيب. ولا زكاة في الخضروات والبقول والفواكه كالقثاء والبطيخ والرمان والقصب. والزكاة على الحبوب بعد تصفيتها من القش والتبن.
2ً - أن يكون الناتج نصاباً كاملاً، وهو خمسة أوسق وهي ألف وست مئة رطل بغدادية، وبالدمشقي في الأصح ثلاث مئة واثنان وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل، وهي تساوي 653 كغ.
3ً - أن يكون مملوكاً لمالك معين: فلا زكاة في الموقوف على المساجد على الصحيح، إذ ليس لها مالك معين، ولا زكاة في نخيل الصحراء المباح إذ ليس له مالك معين.
واشترط الحنابلة شروطاً ثلاثة (3) :
1ً - أن يكون الناتج قابلاً للادخار والبقاء مما يجمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس في الحبوب والثمار، مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه، سواء أكان قوتاً كالحبوب، أم من القطنيات كالعدس والحمص والباقلا (الفول) ، أم من المقبِّلات كالكمون والكراويا وحب القثاء وحب الخيار، أم من حب البقول كحب الفجل والقرطم والترمس والسمسم، وسائر الحبوب.
__________
(1) الشرح الصغير: 608/1ومابعدها، القوانين الفقهية: ص105.
(2) المهذب: 156/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 381/1 ومابعدها.
(3) المغني: 690/2-695، كشاف القناع: 239/2-242.(3/238)
وتجب أيضاً في الثمار مما جمع هذه الأوصاف كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق.
ولا زكاة في الفواكه كالخوخ والدراق والكمثرى والتفاح، ولا في الخضر، كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر.
2ً - أن يبلغ الناتج نصاباً وهو خمسة أوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار، وهي (1428و7/4) رطلاً مصرياً أو (50 كيلة) أو 4 أرادب، والأردب المصري 128 لتر ماء، أو 96 قدحاً.
3ً - أن يكون النصاب مملوكاً للحر المسلم وقت وجوب الزكاة فيه: وهو وقت اشتداد الحب وبدو صلاح الثمر، فتجب الزكاة فيما نبت بنفسه مما يزرعه الآدمي، كمن سقط له حب في أرضه، فنبت؛ لأنه يملكه وقت الوجوب، وفعل الزرع ليس شرطاً، ولا زكاة فيما يكتسبه اللقاط، أو يوهب له بعد بدو صلاحه، أو يشتريه ونحوه بعد ذلك، أو يأخذه الحصَّاد ونحوه أجرة لحصاده ودياسه ونحوه، كأجرة تصفيته أو نطارته، ولا فيما يملك من زرع وثمرة بعد بدو صلاحه بشراء أو إرث أو غيرهما كصداق وعوض خلع وإجارة وعوض صلح؛ لأنه لم يكن مالكاً له وقت الوجوب. ولا زكاة فيما يجتنيه من مباح، سواء نبت في أرضه أو أخذه من موات؛ لأنه لا يملك إلا بأخذه، فلم يكن وقت الوجوب في ملكه.
ثالثاً ـ ما تجب فيه الزكاة:
للفقهاء رأيان في زكاة ما تخرجه الأرض، رأي يعمم في كل خارج، ورأي يخصص الخارج فيما يقتات ويدخر (1) .
الرأي الأول ـ لأبي حنيفة: تجب الزكاة في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره إلا الحطب والحشيش والقصب الفارسي (وهو ما يتخذ منه الأقلام، أما قصب السكر ففيه العشر)
__________
(1) فتح القدير: 2/2 ومابعدها، اللباب: 151/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 447/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 609/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص105، مغني المحتاج: 281/1 ومابعدها، المهذب: 156/1، المغني: 690/2 ومابعدها، كشاف القناع: 236/2-238، المجموع: 432/5-442.(3/239)
والسعف والتبن، وكل ما لا يقصد به استغلال الأرض ويكون في أطرافها. أما إذا اتخذ أرضَه مَقْصَبة أو مَشْجَرة أو مَنْبِتا للحشيش، وساق إليه الماء، ومنع الناس عنه، فيجب فيه العشر. وأطلق الوجوب فيما أخرجته الأرض لعدم اشتراط الحول؛ لأن فيه معنى المؤنة (الضريبة) ، ولذا كان للإمام أخذ هذه الزكاة (العشر) جبراً، ويؤخذ من التركة، ويجب مع الدين، وفي أرض الصغير والمجنون والوقف.
ودليله: حديث «ما أخرجته الأرض ففيه العشر» (1) عمم الواجب في كل خارج، والصحيح عند الحنفية ما قاله الإمام، ورجح الكل دليله.
الرأي الثاني ـ للصاحبين وجمهور الفقهاء: لا تجب زكاة الزروع والثمار إلا فيما يقبل الاقتيات والادخار وعند الحنابلة: فيما ييبس ويبقى ويكال، ولا زكاة في الخَضروات (بفتح الخاء) والفواكه. وهذا هو الراجح.
أما الصاحبان من الحنفية فقالا: لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق، وليس في الخضروات (الفواكه كالتفاح والكمثرى وغيرهما، أو البقول كالكراث والكرفس ونحوهما) عندهما عُشْر، لعدم الثمرة الباقية.
وأما المالكية فقالوا: تجب الزكاة في عشرين صنفاً: أما الحبوب فسبعة عشر: القطاني السبعة (وهي الحمص ـ بكسر الميم وفتحها، والفول، واللوبيا والعدس، والتُرمس، والجُلْبان، والبسيلة) والقمح، والسُلت (نوع من الشعير لا قشر له) ، والعلس، والذرة، والدُخن، وأُرْز، وذوات الزيوت الأربعة: وهي الزيتون والسمسم، والقِرطِم (حب العصفر) ، وحب الفجل الأحمر، أما الفجل الأبيض فلا زكاة في حبه، إذ لا زيت له.
__________
(1) قال الزيلعي عنه: غريب بهذا اللفظ، وبمعناه حديث ابن عمر السابق: «فيما سقت السماء والعيون العشر» (نصب الراية: 384/2) .(3/240)
وأما الثمار فثلاثة: التمر والزبيب والزيتون، لقول عمر: «وفي الزيتون العشر» .
ولا تجب الزكاة في الفواكه كالتين والرمان والتفاح ونحوها، ولا في بزر الكتان، والسَّلْجَم (اللفت) ، ولا في جوز ولوز، ولا غير ذلك.
وأما الشافعية: فقرروا أن الزكاة تختص بالقوت، وهو من الثمار: التمر والزبيب (1) ، ومن الحب: الحنطة والشعير والأرزُّ والعدس والماش، وسائر المقتات اختياراً كالحِمِّص، والباقلا (الفول) والذرة، والهرطمان: (حب متوسط بين الحنطة والشعير) وهو الجُلْبانة والكِرْسنة والحِلْبة والخشخاش والسمسم.
ولا زكاة في القثَّاء والبطيخ والرمان، والقَضْب (البرسيم) ؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم عفا عنه. ولا زكاة في الفواكه كخوخ ورمان وتين ولوز وجوز هند وتفاح ومِشْمِشِ، ولا زكاة في حبوب البوادي كحب الحنظل، ولا في الوحشيات من الظباء ونحوها، ولا في الموقوف على المساجد والقناطر والرباطات (الثغور) والفقراء والمساكين، على الصحيح؛ إذ ليس له مالك معين، ولا في الزيتون والزعفران والورس والقِرْطِمُ (حب العصفر) ولا في العسل، في المذهب الجديد.
وقال الحنابلة: تجب الزكاة في كل مقتات مكيل مدخر من الحبوب، كالحنطة والشعيروالسُلت (وهو نوع من الشعير لونه لون الحنطة، وطبعه كالشعير في البرودة) والذرة والقطنيات (2) ، كالباقلاء (الفول) والحمص واللوبيا والعدس والماش والتُرْمس (حب عريض أصغر من الفول) والدخن والأرز والهرطمان (وهو الجلبانة والكرسنة والحلبة والخشخاش والسمسم) والعلس (نوع من الحنطة يدخر في قشره) .
__________
(1) أخرج الترمذي من حديث عتَّاب بن أسَيْد رضي الله عنه: «أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يُخْرَص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً»
(2) بكسر القاف وفتحها وضمها، وتشديد الياء وتخفيفها، سمي بذلك: من قطن يقطن في البيت؛ لأنها تمكث فيه..(3/241)
وتجب الزكاة في بزر البقول كلها: كالهندبا والكرفس والبصل وبزر قَطُونا ونحوها، وبزر الرياحين جميعاً، وبزر الكزبرة والكمون والكراويا والشونيز (يقال له: الحبة السوداء) ، وحب الرازيانج (وهو الشمروالأنيسون وحب القضب) والخَرْدل وبزر الكتان، وبزر القطن واليقطين (وهو القرع) وبزر البقلة والحمقاء، وبزر الباذنجان والخس والجزر.
وفي حب البقول: كالرَّشَاد (1) ، وحب الفجل، والقرطم (حب العصفر) .
وتجب الزكاة في كل ثمر يكال ويدخر، كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق والسماق.
والخلاصة: أن الزكاة تجب في الحبوب والبزور والثمار المدخرة.
والأظهر كما في كتاب الفروع وجوب الزكاة في العُنَّاب والتين والمشمش والتوت؛ لأنه يدخر كالتمر، والمعتمد لا زكاة فيها؛ لأن العادة لم تجر بادخاره وتجب الزكاة في صعتر وأشنان وحب ذلك، وكل ورق مقصود، كورق سدر وخطمي وآسي؛ لأنه نبات مكيل مدخر. ولا تجب الزكاة في قطن وكتان وقنب وزعفران وورس ونيل وجوز الهند، وسائر الفواكه كالخوخ والتفاح أو الإجاص والكمثرى، والسفرجل والرمان والنبق والزعرور والموز؛ لأنها ليست مكيلة، ولا في الجوز؛ لأنه معدود، ولا في قصب السكر.
ولا زكاة في الخضر كبطيخ وقثاء وخيار وباذَنجان ولِفت وسلق وكُرنْب وقنبيط وبصل وثوم وكراث وجزر وفجل ونحوه، لحديث علي: أن النبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) الرشاد: بقلة سنوية من الفصيلة الصليبية، تزرع وتنبت برية، ولها حب حريف يسمى حب الرشاد.(3/242)
قال: «ليس في الخضروات صدقة» (1) . ولا في البقول كالهندَبا والكرَفْس والنعناع والرشاد وبقلة الحمقاء والقرظ والكزبرة والجرجير ونحوه.
ولا في المسك والزهر، كالورد والبنفسج والنرجس واللينوفر والخيري: وهو المنثور، ونحوه كالزنبق، ولافي طلع الفُحَّال (وهو ذكر النخل) ، ولا في السُّعُف (وهو أغصان النخل، أي جريد النخل الذي لم يجرد عنه خوصه، فإن جرد عنه خوصه فجريد) ولا في الخوص (وهو ورق السعف) ، ولا في قشور الحب والتبن والحطب والخشب وأغصان الخلاف، وورق التوت والكلأ، والقصب الفارسي، ولبن الماشية وصوفها ونحو ذلك كالوبر والشعر، وكذا الحرير ودود القز؛ لأن ذلك كله ليس منصوصاً عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، فبقي على أصل العفو.
والخلاصة بالنسبة للزيتون: أنه لا زكاة فيه عند الشافعية في الجديد والمعتمد عند الحنابلة، وفيه الزكاة عند أبي حنيفة والمالكية (2) ونصابه عند المالكية خمسة أوسق زيتون.
زكاة العسل: اختلف الفقهاء في حكم زكاة العسل على رأيين (3) :
فقال الحنفية والحنابلة: فيه العشر، إلا أن أبا حنيفة قال: يجب فيه العشر إذا أخذ من أرض العشر، قل المأخوذ أو كثر وليس في أرض الخارج من أرض الخراج عشر، وقال الحنابلة: نصاب العسل عشرة أفراق، وهي جمع فَرْق، والفرق عندهم ستة عشر رطلاً، فيكون النصاب مئة وستين رطلاً بالبغدادي أو 34و7/2 رطل دمشقي، ومئة وأربعة بالمصري، والرطل عند الحنفية: 130 درهماً، والدرهم الوسطي (975،2 غم) .
ودليلهم على وجوب الزكاة في العسل آثار منها:
__________
(1) وعن عائشة معناه، رواهما الدارقطني، وروى الأثرم في سننه عن موسى بن طلحة حديثاً عن الخضروات: «ليس في ذلك صدقة» وهو مرسل قوي (نيل الأوطار: 142/4.
(2) الأموال: ص504 وما بعدها، المغني: 694/2 ومابعدها، 713، نيل المآرب 185/1.
(3) البدائع: 61/2 وما بعدها، اللباب: 153/1، الأموال لأبي عبيد: 506 ومابعدها، فتح القدير: 5/2، المجموع: 434/5 ومابعدها، مغني المحتاج: 382/1، كشاف القناع: 257/2، المغني: 713/2.(3/243)
ما رواه أبو سيَّارة المُتَعي قال: قلت: «يا رسول الله، إن لي نحلاً، قال: فأدِّ العشور» (1) .
وما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه أخذ من العسل العشر» (2) وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ عن العسل العشر من كل عشر قِرَب قربة.
وروى العقيلي في الضعفاء من طريق عبد الرزاق عن أبي هريرة حديثاً: «في العسل العشر» (3) .
وقال المالكية والشافعية: لا زكاة في العسل، بدليل أمرين:
الأول ـ ما قاله الترمذي: «لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا كبير شيء» وما قاله ابن المنذر: «إنه ليس في وجوب الصدقة فيه خبر يثبت ولا إجماع» .
الثاني ـ أنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع.
ورجح أبو عبيد أن يكون أربابه يؤمرون بأداء صدقته، ويُحثُّون عليها، ويكره لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها، من غير أن يكون ذلك فرضاً عليهم.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود والبيهقي، وهو منقطع (نيل الأوطار: 145/4 ومابعدها) .
(2) رواه ابن ماجه، روي مسنداً ومرسلاً (المرجع السابق) ورواه أيضاً أبو عبيد والأثرم.
(3) قال الزيلعي: لم أجده في مصنف عبد الرزاق بهذا اللفظ، وإنما لفظه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: أن يؤخذ من أهل العسل العشر (نصب الراية: 390/2) .(3/244)
رابعاً ـ النصاب الذي يبدأ به زكاة الزرع والثمر:
قال أبو حنيفة (1) : النصاب ليس بشرط لوجوب العشر، فيجب العشر في كثير الخارج وقليله، لعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] وقوله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بغَرْب أو دالية، ففيه نصف العشر» (2) من غير تفصيل بين القليل والكثير. ولأن سبب الوجوب وهي الأرض النامية بالخارج لا يميز بين القليل والكثير، وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة الزرع من أدوات الحراثة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب بتفاوت المؤنة (التكاليف) ؛ لأنه قال: «ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغَرْب ففيه نصف العشر» وعلى هذا تكون النفقات على الزارع، وتجب الزكاة في كل الخارج بدون أن تحسم منه النفقات.
وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء (3) : النصاب شرط، فلا تجب فيه الزكاة في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق وهي (653 كغ) أو 50
__________
(1) البدائع: 59/2، فتح القدير: 2/2 ومابعدها.
(2) رواه أبو مطيع البلخي عن أبان بن عياش عن رجل عن النبي صلّى الله عليه وسلم، لكن إسناده لا يساوي شيئاً (نصب الراية: 385/2) والغرب: الدلو العظيمة، والدالية: الناعورة يديرها الماء. وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر، وفيما سقي بالنضج نصف العشر» والعثري: ما نبت بالمطر أو امتصاص العروق من نهر مجاور، وهو المسمى بالبَعْل في مقابل زرع السَقْي.
(3) القوانين الفقهية: ص105، الشرح الصغير: 608/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 447/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 382/1 ومابعدها، المغني: 690/2،695-699، المجموع:439/5.(3/245)
كيلة مصرية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (1) والوسق ستون صاعاً، وهذا حديث خاص بهذه الزكاة، يجب تقديمه، وتخصيص عموم أدلة أبي حنيفة، كما خصص قوله: «في سائمة الإبل الزكاة» بقوله في نهاية هذا الحديث: «ليس فيما دون خمسة ذَوْد صدقة» ،وقوله: «في الرِّقة العشر» بقوله «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ، ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكائية، ولأن الصدقة تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدون النصاب، كسائر الأموال الزكائية. وهذا هو الراجح لدي لصحة الحديث.
وإنما لم يعتبر الحول؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غيره من الزكوات؛ لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال. والنصاب معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وكان الصاع مكيال أهل المدينة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وقدره أربعة أمداد، والصاع خمسة أرطال وثلث رطل، والرطل (675غم) وذكر الشافعية والحنابلة أنه يعتبر النصاب تمراً أو زبيباً إن تتمر وتزبب، لحديث مسلم «ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق» وإن لم يتتمر الرطب ولم يتزبب العنب، بأن لم يأت منه تمر ولا زبيب جيدان في العادة، أو كانت تطول مدة جفافه كسنة، اعتبر نصاباً رطباً وعنباً، فيوسق رطباً وعنباً؛ لأن ذلك وقت كماله. فيكمل به نصاب ما يجف من ذلك، وتخرج الزكاة من كل منهما في الحال؛ لأن ذلك أكمل أحوالهما.
ويعتبر الحب خمسة أوسق حال كونه مصفى من تبنه؛ لأنه لا يدخر فيه ولا يؤكل معه.
وأما ما ادخر في قشره كالأَرُزّ والعلس، فنصابه عشرة أوسق، اعتباراً بقشره
__________
(1) رواه الجماعة عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار: 141/4) .(3/246)
الذي يكون ادخاره فيه أصلح له أو أبقى بالنصف، ولا يضم ثمر عام إلى ثمر عام آخر في إكمال النصاب، ولا زرع عام إلى زرع عام آخر كذلك، ويضم ثمر العام بعضه لبعض، وكذلك زرع العام بعضه لبعض، وإن اختلف إدراكه لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة وبرودة. والمراد بالعام هنا: اثنا عشر شهراً عربية.
وذكر المالكية أن المعتبر كون الحب منقى من تبنه وصوانه الذي لا يخزن به، مقدر الجفاف، وكون الرطب تمراً والعنب زبيباً، فإن بيع رطباً أوعنباً فيجب نصف عشر القيمة، ونصف عشر ثمن فول أخضر وحمص مما شأنه ألا ييبس. ويؤخذ نصف العشر من زيت ماله زيت. ويحسب في النصاب الشرعي قشر الأرز والعلس والشعير الذي يخزن به. فلو كان الأرز مثلاً مقشوراً أربعة أوسق، وبقشره خمسة أوسق زكي، وإن كان أقل فلا زكاة.
واتفق الجمهور مع الحنفية على أنه لا ينقص النصاب بمؤنة الحصاد والدياس وغيرهما من نفقات الزرع.
خامساً ـ مقدار الواجب وصفته:
اتفق الفقهاء (1) على أن العشر يجب فيما سقي بغير مؤنة (مشقة) كالذي يشرب من السماء (الأمطار) ، وما يشرب بعروقه: وهوالذي يشرب من ماء قريب منه.
ويجب نصف العشر فيما سقي بالمؤن كالدوالي (النواعير) النواضح.
والدليل لهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عَثَرياً العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر» (2) ، وانعقد الإجماع على ذلك، كما قال البيهقي وغيره. فإن سقي نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة ففيه ثلاثة أرباع العشر، عملاً بمقتضى كل واحد منهما. وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر، اعتبر الأكثر، فوجب مقتضاه، وسقط حكم الآخر.
وسبب التفرقة واضح وهو كثرة المؤنة في أرض السقي، وخفتها في أرض البعل (3) ، كما هو الفرق بين الماشية المعلوفة والسائمة.
__________
(1) البدائع: 62/2-63، القوانين الفقهية: ص106، الشرح الصغير: 610/1-612، مغني المحتاج: 685/1، المغني: 698/2، 702، كشاف القناع: 242/2 وما بعدها.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً عن ابن عمر، وعند مسلم من حديث جابر «فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر» وفي رواية لأبي داود: «إن في البعل العشر» .
(3) قال أهل اللغة: البعل: ما يشرب بعروقه، والعثري: ما سقي بماء السيل الجاري إليه في حفرة، وتسمى الحفرة عاثوراء، لتعثر المار بها إذا لم يعلمها. والسواني: هي النواضح، وهي الإبل التي يستقى بها لشرب الأرض.(3/247)
ولا وقص (لا عفو) في نصاب الحبوب والثمار، بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب، فيخرج العشر أو نصفه، فإنه لا ضرر في تبعيضه، بخلاف الماشية ففي تبعيضها ضرر. وأما صفة الواجب: فهو جزء من الخارج أو قيمته عند الحنفية. وأما عند الجمهور: الواجب عين الجزء ولا يجوز غيره.
هل تحسم النفقات التي تصرف على المزروعات؟
ينفق المزارع عادة على زراعته نفقات مثل ثمن البذار والسماد وأجور الحرث (الفلاحة) والري والتنقية والحصاد وغير ذلك.
جاء في الفتوى رقم (15) في ندوة البركة السادسة في جدة أن هناك آراء ثلاثة في الموضوع، رأي بحسم جميع النفقات، ورأي بعدم حسم التكاليف، ورأي متوسط بإسقاط الثلث من المحصول، ثم إخراج الزكاة من الباقي، وقد
اختار الحاضرون الرأي الثالث المتوسط، ثم يتم حساب الزكاة بإخراج العشر إن كان الريّ بماء السماء، ونصف العشر إن كان بآلة.
وهذا مستمد من كلام ابن العربي في شرح الترمذي، عملاً بحديث النبي صلّى الله عليه وسلم: «دعوا الثلث أو الربع» والذي عليه عمل المسلمين والمذاهب الأربعة كما ذكر ابن حزم في المحلى (258/5)(3/248)
وصرح به الفقهاء أنه لايجوز إسقاط شيء من النفقة؛ لأن الزكاة تعلقت بعين الخارج لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] وهذا ما أرجحه (1) .
سادساً ـ وقت الوجوب:
وقت الوجوب عند أبي حنيفة (2) : وقت خروج الزرع، وظهور الثمر، لقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] أمر الله تعالى بالإنفاق مما أخرجه من الأرض، فدل أن الوجوب متعلق بالخروج. فإن استهلكها صاحبها بعد الوجوب يضمن عشره، وأما قبل الوجوب فلا يضمن، ولو هلك الخارج بنفسه فلا عشر في الهالك.
ووقت الوجوب عند المالكية: في الثمار الطيب (وهو الزهو في بلح النخل، وظهور الحلاوة في العنب) ، وفي الزرع: إفراك الحب، أي طيبه وبلوغه حد الأكل منه، واستغناؤه عن السقي، لا باليبس ولا بالحصاد ولا بالتصفية (3) . وأما عند الشافعية والحنابلة (4) : فتجب الزكاة ببدو صلاح الثمر؛ لأنه حينئذ ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك حصرم وبلح، وببدو اشتداد الحب؛ لأنه حينئذ طعام، وهو قبل ذلك بقل.
وليس المراد بوجوب الزكاة بما ذكر: إخراجها في الحال، بل انعقاد سبب وجوب إخراج الثمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة كذلك.
وبناء على الرأي الأخير إن أتلفها صاحبها أو تلفت بتفريطه أو عدوانه بعد الوجوب، لم تسقط عنه الزكاة. وإن كان قبل الوجوب سقطت، إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة، فيضمنها ولا تسقط عنه.
وإن جذَّها وجعلها في الجرين (موضع تجفيف التمر) ، أو جعل الزرع في البيدر، استقر الوجوب عليه. وإن تلفت بعد ذلك لم تسقط الزكاة عنه، وعليه ضمانها، كما لو تلف نصاب الماشية السائمة أو الأثمان (النقود) بعد الحول.
وإن تلفت الثمرة قبل بدو الصلاح أو الزرع قبل اشتداد الحب، فلا زكاة فيه.
__________
(1) انظر وقارن فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي 394/1 - 397.
(2) البدائع: 63/2.
(3) القوانين الفقهية: ص 106، الشرح الصغير: 615/1، الشرح الكبير: 451/1.
(4) مغني المحتاج: 386/1، كشاف القناع: 245/2، المجموع:454/5، المغني: 702/2-705، المهذب:157/1.(3/249)
ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما، فإن باعه أو وهبه بعد بدو صلاحه، فصدقته على البائع والواهب. وهذا قول الحنابلة والمالكية.
وقال الحنفية: إذا باع الزرع قبل إدراكه، وجبت الزكاة على المشتري. وقال الشافعية: تجب الزكاة على مالك الزرع عند الوجوب.
سابعاً ـ ما يضم بعضه إلى بعض:
لا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والثمار: أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر في تكميل النصاب، فالماشية ثلاثة أجناس: الإبل، والبقر، والغنم، لا يضم جنس منها إلى آخر. والثمار لا يضم جنس إلى غيره، فلا يضم التمر إلى الزبيب، ولا إلى اللوز، والفستق، والبندق. ولا يضم شيء من هذه إلى غيره، ولا تضم الأثمار إلى شيء من السائمة، ولا من الحبوب والثمار.
ولا خلاف بينهم في أن أنواع الأجناس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب.
ولا خلاف بينهم أيضاً في أن العروض التجارية تضم إلى الأثمان (النقود) ، وتضم الأثمان إليها، إلا أن الشافعي لا يضمها إلا إلى جنس ما اشتريت به؛ لأن نصابها معتبر به (1) .
ولا خلاف عند الجمهور غير المالكية في ضم الحنطة إلى العلس؛ لأنه نوع منها، ومثله السلت يضم إلى الشعير؛ لأنه منه، فيضم إليه عند غير الشافعية.
واختلف العلماء في ضم الحبوب بعضها إلى بعض، وفي ضم أحد النقدين إلى الآخر.
فقال الحنفية والشافعية: لا يضم جنس منها إلى غيره، ويعتبر النصاب في كل جنس منها منفرداً؛ لأنها أجناس، فاعتبر النصاب في كل جنس منها منفرداً كالثمار أيضاً والمواشي. لكن يلاحظ أن أبا حنيفة يوجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، ولا يشترط النصاب، فلا تثور مشكلة الضم لديه.
وقال المالكية والقاضي من الحنابلة: إن الحنطة تضم إلى الشعير، وتضم القطنيات بعضها إلى بعض؛ لأن هذا كله مقتات، فيضم بعضه إلى بعض كأنواع الحنطة.
__________
(1) المغني: 730/2. وتفصيل هذه الآراء كما يأتي:(3/250)
قال المالكية (1) : تضم القطاني السبعة (الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجُلْبان والبسيلة) لبعضها بعضاً؛ لأنها جنس واحد في الزكاة، فإذا اجتمع من جميعها أو من اثنين منها ما فيه الزكاة، زكاه، وأخرج من كل صنف منها ما ينوبه. والقمح والشعير والسلت صنف واحد، فتضم لبعضها.
ويجزئ إخراج الأعلى من الأدنى لا عكسه، كقمح وسلت وشعير؛ لأن الثلاثة جنس واحد. ولا يضم شيء منها لعلس (حب طويل يشبه البُرّ باليمن) ؛ لأنه جنس منفرد، ولا يضم شيء منها لذرة ولا دخن ولا أرز؛ لأن كل واحد منها جنس على حدة، فلا يضم واحد منها لآخر، بل يعتبر كل واحد منها جنساً على حدة.
وذوات الزيوت الأربع: وهي الزيتون والسِّمسِم، وبذر الفُجل الأحمر، والقرطم: أجناس، لا يضم بعضها إلى بعض.
وتضم أنواع الجنس الواحد لبعضها، فالزبيب بأصنافه جنس واحد، ولا يضم هو لغيره، والتمر بأصنافه جنس واحد، والقمح بأصنافه الجيد منها والرديء جنس واحد.
وقال الشافعية (2) : لا يكمل جنس بجنس، ويضم النوع إلى النوع، ويخرج من كل من النوعين بقسطه، لعدم المشقة فيه بخلاف المواشي، فإن الأصح أن المزكي يخرج نوعاً منها، بشرط اعتبار القيمة والتوزيع، ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من هذا، لما فيه من المشقة، فإن عسر إخراج جزء من كل نوع لكثرة الأنواع وقلة الحاصل من كل نوع، أخرج الوسط منها، لا أعلاها ولا أدناها، رعاية للجانبين.
ويضم العلس إلى الحنطة؛ لأنه نوع منها، وهو قوت صنعاء اليمن. والسُلْت جنس مستقل، فلا يضم إلى غيره كالشعير.
ولا يضم ثمرة عام وزرعه إلى آخر، ويضم ثمر العام بعضه إلى بعض، وإن اختلف وقت إدراكه، لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة أو برودة. والأظهر في الضم وقوع حصاديهما في سنة.
__________
(1) الشرح الصغير: 613/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص106، الشرح الكبير: 449/1 ومابعدها.
(2) المجموع: 5/344، المهذب: 157/1، مغني المحتاج: 384/1.(3/251)
وقال ابن قدامة من الحنابلة (1) : الصحيح عند القاضي أبي يعلى من الروايات الثلاث عن أحمد: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وتضم القطنيات بعضها إلى بعض، وكذلك يضم الذهب والفضة. وتضم أنواع الجنس من حبوب أو ثمار من عام واحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، كأنواع الماشية والنقدين.
فالسلت نوع من الشعير، فيضم إليه، والعلس: نوع من الحنطة، فيضم إليها.
ويضم زرع العام الواحد، وثمرة العام الواحد إلى بعض، في تكميل النصاب، سواء اتفق وقت زرعه وإدراكه أو اختلف، وسواء اتفق وقت ظهور الثمرة وإدراكها أو اختلف.
وقال البُهوتي في كشاف القناع: تضم أنواع الجنس الواحد من حبوب وثمار من عام واحد، ولا يضم جنس إلى آخركبُر إلى شعير، أو د ُخن أو ذرة أو عدس ونحوه؛ لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها، فلم يضم بعضها إلى بعض، كأجناس الثمار وأجناس الماشية، ولا يصح القياس على ضم العلس إلى الحنطة؛ لأنه نوع منها. ولا تضم النقود أو الأثمان من الذهب والفضة إلى بعضها، ولا إلى شيء من الحبوب أو الثمار أو الماشية؛ لأنها أجناس مختلفة، إلا إلى عروض التجارة، فتضم النقود (الأثمان) إلى قيمتها. وهذا هو المعتمد لدى الحنابلة، فيتفق رأيهم مع المذاهب الأخرى.
والخلاصة: أن الحنطة تضم مع الشعير لدى المالكية والقاضي من الحنابلة، ولا يضمان عند الشافعية وفي المعتمد عند الحنابلة، وأما القطاني فتضم لبعضها عند المالكية والحنابلة، ولا تضم عند الشافعية وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد.
__________
(1) المغني:730/2 ومابعدها، كشاف القناع: 241/2 ومابعدها.(3/252)
ثامناً ـ زكاة الثمار الموقوفة:
للفقهاء رأيان في زكاة الموقوف بالنظر لاشتراط ملك الأرض أو عدم اشتراطه، رأي يوجب الزكاة، ورأي يعفي منها (1) .
قال الحنفية: الشرط ملك الخارج من الأرض، فيجب العشر في الأراضي التي لا مالك لها، وهي الأراضي الموقوفة، لعموم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض} [البقرة:267/2] وقوله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما سقته السماء ففيه العشر، وماسقي بغرب أو دالية، ففيه نصف العشر» ولأن العشر يجب في الشيء الخارج، لا في الأرض نفسها، فكان ملك الأرض وعدمه بمنزلة واحدة.
وقال المالكية كالحنفية: يجب على الواقف أو متولي الوقف زكاة عين: ذهب أو فضة وقفت للسلف أي القرض، إن مر عليها حول من يوم ملكها، أو كانت هي مع ما لم يوقف نصاباً؛ إذ وقفها لا يسقط زكاتها عليه منها كل عام. كما يزكى نبات وقف ليزرع كل عام في أرض مملوكة أو مستأجرة، ويزكى حيوان من الأنعام وقف ليفرق لبنه أو صوفه أو ليحمل عليه أو يركب، ونسله تبع له، ولو سكت عنه، على مساجد أو على فقراء غير معينين أو معينين، إن تولى المالك تفرقته وسقيه وعلاجه بنفسه أو نائبه. فإن لم يتول المالك القيام به، وإنما تولاه المعينون الموقوف عليهم الذين وضعوا أيديهم عليه وحازوه، وصاروا يزرعون النبات ويفرقون ما حصل على أنفسهم، فعليهم الزكاة إن حصل لكل واحد منهم نصاب، وإلا فلا، ما لم يكن عنده ما يضمه له ويكمل به النصاب.
وقال الشافعية: لا تجب الزكاة على الصحيح في ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد والقناطر والرباطات (2) والفقراء والمساكين، إذ ليس لها مالك معين.
وفصل الحنابلة، فأوجبوا الزكاة في موقوف على معين من سائمة أو غلة أرض وشجر، إن بلغت حصة كل واحد نصاباً، ولم يوجبوها في موقوف على غير معين أو مسجد.
__________
(1) البدائع: 56/2، الشرح الكبير: 485/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 382/1، كشاف القناع: 242/2، غاية المنتهى: 266/1 وما بعدها.
(2) الرباطات: المعاهد المبنية والموقوفة للفقراء.(3/253)
تاسعاً ـ زكاة الأرض المستأجرة:
اختلف الفقهاء على رأيين في هذه الزكاة، أهي على المؤجر، أم على المستأجر (1) .
قال أبو حنيفة: زكاة الأرض على المؤجر؛ لأنه من مؤنتها فهي كالخراج الموظَّف؛ لأن بدله وهو الأجرة له، فصار كأنه زرع بنفسه، ولأن الأرض أصل الوجوب.
وخالفه الصاحبان، فقالوا: الزكاة على المستأجر؛ لأن العشر يجب في الخارج، والخارج ملك المستأجر، فكان العشر عليه كالمستعير. لكن الفتوى على قول الإمام، وعليه العمل؛ لأنه ظاهر الرواية. فإن كان إيجاب الزكاة على المستأجر أنفع للفقراء، وجبت عليه، وبه أفتى المتأخرون.
وقال الجمهور: إذا استأجر إنسان أرضاً، فزرعها، أو استعار أرضاً فزرعها، أو غرسها ثمراً تجب فيه الزكاة، فالعشر على المستأجر والمستعير دون مالك الأرض؛ لأنه واجب في الزرع، فكان على مالكه، وهو المستأجر أو المستعير، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر ـ الحديث» وفي إيجاب الزكاة على المالك إجحاف ينافي المواساة، وهي من حقوق الزرع، بدليل أنها لا تجب إن لم تزرع، وتتقيد بقدره.
عاشراً ـ زكاة الأرض الخراجية:
نوعا الأرض: الأراضي نوعان: عشرية وخراجية (2) .
أما العشرية: فهي التي يجب فيها العشر الذي فيه معنى العبادة، وتشمل ما يأتي:
أـ أرض العرب من العُذَيب (قرية من قرى الكوفة) إلى أقصى حدود اليمن
__________
(1) البدائع: 56/2، اللباب: 154/1، المهذب: 157/1، المغني: 728/2، كشاف القناع: 253/2، فتح القدير: 8/2، بداية المجتهد: 239/1.
(2) البدائع: 57/2 ومابعدها، اللباب: 137/4-139، الفتاوى الهندية: 219/2، فتح القدير: 358/4 وما بعدها، بداية المجتهد: 239/1 ومابعدها.(3/254)
وعدن؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يأخذوا من أرض العرب خراجاً، فدل أنها عشرية.
ب ـ والأرض التي أسلم عليها أهلها طوعاً؛ لأنها أرض إسلامية يناسبها ما في معنى العبادة.
جـ ـ والأرض التي فتحت عنوة وقهراً، وقسمت بين الغانمين المسلمين؛ للعلة السابقة.
د ـ دار المسلم إذا اتخذها بستاناً، وكان يسقى بماء العشر، فإن كان يسقى بماء الخراج فهو خراجي.
وأما ماأحياه المسلم من الأرض الميتة بإذن الإمام عند الحنفية والمالكية، فقال أبو يوسف: إن كانت من حيز أرض العشر، فهي عشرية، وإن كانت من حيز أرض الخراج، فهي خراجية، والبصرة عنده عشرية، بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وقال محمد: إن أحياها بماء السماء، ببئر استنبطها، أو بماء الأنهار العظام التي لاتملك مثل دجلة والفرات، فهي عشرية. وإن شق لها نهراً من أنهار الأعاجم، فهي خراجية.
وأما الخراجية: فهي التي يجب فيها الخراج، لأنها في الأصل أرض الكفار، وهي الأراضي التي فتحت عنوة وقهراً، فمنَّ الإمام على أهلها، وتركها في يد أربابها، بعد أن وضع على أشخاصهم الجزية إذا لم يسلموا، وعلى أراضيهم الخراج، أسلموا أو لم يسلموا، مثل أرض سواد العراق والشام ومصر والهند. هذا رأي الحنفية. وقال الجمهور (1) : الأرض الخراجية ثلاثة أنواع:
1ً - ما فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين.
2ً - ما جلا عنها أهلها خوفاً منا.
3ً - ما صولح أهلها عليها على أنها لنا، ونقرها معهم بالخراج الذي يفرضه الإمام عليهم.
والأرض العشرية التي لا خراج عليها؛ لأنها ملك أهلها، وهي الأرض المملوكة خمسة أنواع:
1ً - التي أسلم أهلها عليها كالمدينة المنورة ونحوها كجُواثى من قرى البحرين.
__________
(1) كشاف القناع:255/2 ومابعدها، المغني: 716/2-719، الأحكام السلطانية للماوردى: ص132 ومابعدها، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص130 ومابعدها، الأموال لأبي عبيد: ص68 وما بعدها: 100 وما بعدها.(3/255)
2ً - ما أحياه المسلمون واختطوه، كالبصرة التي بنيت في خلافة عمر رضي الله عنه، في سنة ثمان عشرة، بعد وقف سواد العراق، فدخلت في حده، دون حكمه.
3ً - ماصولح أهلها على أنها لهم بخراج يضرب عليها كاليمن.
4ً - ما أقطعها الخلفاء الراشدون من سواد العراق إقطاع تمليك.
5ً - ما فتح عنوة وقسم بين الغانمين، كنصف خيبر (على نحو أربع مراحل من المدينة إلى جهة الشام) .
نوعا الخراج: والخراج نوعان: خراج وظيفة، وخراج مقاسمة (1) .
أما خراج الوظيفة: فهو الضريبة المفروضة على الأرض، سواء استغلها صاحبها أم تركها. وقد وظفه عمر رضي الله عنه، وكان في كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة قفيز مما يزرع فيها ودرهم (2) . ومبنى هذا الخراج على الطاقة.
وأما خراج المقاسمة: فهو الضريبة المقطوعة من الناتج الزراعي، كأن يؤخذ نصف الخراج أو ثلثه أو ربعه، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر، ويكون ذلك في الخراج كالعشر، إلا أنه يوضع موضع الخراج؛ لأنه خراج حقيقة.
واتفق العلماء على أن الأرض الخراجية إذا كانت ملكاً لغير مسلم، وجب فيها الخراج، ولا عشر فيها، وعلى أن العشرية إذا كانت لغير مسلم، وجب فيها العشر.
زكاة الأرض الخراجية: اختلف الفقهاء في الأرض الخراجية إذا صارت ملكاً لمسلم، هل تبقى وظيفتها الخراج فقط، أو يجتمع فيها العشر والخراج أو يبدل خراجها بعشر؟
1 - قال الحنفية (3) : إن كانت الأرض خراجية يجب فيها الخراج، ولا يجب في الخارج منها العشر، فالعشر والخراج لا يجتمعان في أرض واحدة.
2 - وقال الأئمة الثلاثة (4) : يجتمع في الخارج من أرض الخراج العشر والخراج.
الأدلة:
استدل الحنفية بما يأتي:
أـ ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم» (5) .
ب ـ لم يأخذ أحد من أئمة العدل وولاة الجور من أرض سواد العراق عشراً، فالقول بوجوب العشر مع الخراج يخالف الإجماع، فيكون باطلاً.
جـ ـ إن سبب كل من الخراج والعشر واحد، وهو الأرض النامية، فلا يجتمعان في أرض واحدة، كما لا يجتمع زكاتان في مال واحد، وهي زكاة السائمة والتجارة.
واستدل الجمهور بما يأتي:
أـ بعموم الآيات والأحاديث المتقدمة التي ذكرتها في فرضية زكاة الأرض، والتي تدل على الوجوب، سواء أكانت الأرض خراجية أم عشرية.
ب ـ بأن الخراج والعشر حقان مختلفان ذاتاً ومحلاً وسبباً ومصرفاً ودليلاً، أما اختلافهما ذاتاً فلأن العشر فيه معنى العبادة، والخراج فيه معنى العقوبة، وأما
__________
(1) البدائع: 2/62 وما بعدها، الأحكام السلطانية للماوردي: ص 141.
(2) الجريب: أرض طولها ستون ذراعاً، وعرضها ستون ذراعاً، بذراع كسرى، يزيد على ذراع العامة بقصبة، والقفيز عشر الجريب طولاً، وأما كيلاً فهو اثنا عشر صاعاً.
(3) فتح القدير: 4/365 وما بعدها، البدائع: 2/57، اللباب: 1/154، مقارنة المذاهب في الفقه: ص51 وما بعدها.
(4) الشرح الصغير:609/1، المهذب:609/1، المهذب: 157/1، المغني: 725/2
(5) حديث ضعيف جداً ذكره ابن عدي في الكامل عن يحيى بن عنبسة، قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام النبوة (انظر فتح القدير:366/4، كشاف القناع: 255/2) ويحمل على الخراج الذي هو الجزية.(3/256)
اختلافهما محلاً فلأن العشر يجب في الخارج، والخراج يتعلق بالذمة. أما اختلافهما سبباً فلأن سبب العشر نفس الخارج، فلا يجب بدونه، وسبب الخراج: الأرض النامية أي الصالحة للزراعة، بدليل وجوبه وإن لم تزرع الأرض.
وأما اختلافهما مصرفاً: فلأن مصرف العشر الفقراء، ومصرف الخراج المصالح العامة أو المقاتلة. وأما اختلافهما دليلاً، فلأن دليل العشر النص، ودليل الخراج الاجتهاد المبني على مراعاة المصالح.
وإذا ثبت اختلافهما من هذه الوجوه، فلا مانع من اجتماعهما، فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر، كاجتماع الجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك.
والراجح هو رأي الجمهور بسبب ضعف حديث الحنفية، ولأن الخراج واجب اجتهادي لتقوية جماعة المسلمين وسد الحاجات العامة، وأن العشر واجب ديني على المسلمين، فلا تنافي بينهما. وليس في الخراج معنى العقوبة، إذ لو كان عقوبة لما وجب على المسلم كالجزية.
وصرح الحنفية كابن عابدين (رد المحتار 67/2) وغيره بأن الأراضي الخراجية في مصر والشام، حيث صارت لبيت المال سقط عنها الخراج، لعدم من يجب عليه، والمأخوذ منها الآن أجرة لا خراج، ويصير العشر هو الواجب فيها.
أحد عشر ـ العاشر وضريبة العشور (1) :
العاشر: من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار. فإذا حدث اختلاف بينه وبين التجار، فأنكر أحدهم تمام الحول، أو الفراغ من الدين، كان منكراً لوجوب الزكاة، والقول قول المنكر بيمينه.
وكذا إذا قال: أديتها إلى عاشر آخر، أو أديتها أنا إلى الفقراء في بلدي، صدق بيمينه.
وما صدق فيه المسلم، صدق فيه الذمي، تخفيفاً عنه.
__________
(1) فتح القدير: 530/1-536.(3/257)
ومقدار ما يأخذه العاشر من المسلم: ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر ومن الحربيين العشر، بدليل ما رواه محمد بن الحسن عن زياد بن حَدير، قال: «بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عين التمر مصدِّقاً، فأمرني أن آخذ من المسلمين من أموالهم إذا اختلفوا بها للتجارة ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر» .
والأصل المقرر عند الحنفية في الأخذ من الحربيين: هو المعاملة بالمثل، فإن كانوا لا يأخذون أصلاً لا نأخذ منهم شيئاً، ليتركوا الأخذ من تجارنا، ولأنا أحق بمكارم الأخلاق، وإن مر حربي بخمسين درهماً لم يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلها؛ لأن المأخوذ زكاة أو ضعفها، فلا بد من النصاب. وإن مر حربي بمئتي درهم (وهو نصاب الزكاة) ولا يعلم كم يأخذون منا، نأخذ منه العشر، لقول عمر رضي الله عنه: «فإن أعياكم فالعشر» .
وإن مر حربي على عاشر، فعشره، ثم مرَّ مرة أخرى، لم يعشره حتى يحول الحول؛ لأن الأخذ في كل مرة استئصال المال، وحق الأخذ لحفظه، ولأن حكم الأمان الأول باق، وأما بعد الحول فيتجدد الأمان؛ لأنه لا يمكن من الإقامة في دارنا إلا حولاً، والأخذ بعده لا يستأصل المال.
فإن عشره، فرجع إلى دار الحرب، ثم خرج من يومه ذلك، عشره أيضاً؛ لأنه رجع بأمان جديد، وكذا الأخذ بعده لا يفضي إلى استئصال المال. وإن مر ذمي بخمر أو خنزير بنية التجارة وتبلغ القيمة مئتي درهم، عشر عند أبي حنيفة ومحمد الخمر من قيمتها دون الخنزير؛ لأن حق الأخذ للحماية، والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل، فكذا يحميها على غيره، ولا يحمي خنزير نفسه، بل يجب تسييبه بالإسلام، فكذا لا يحميه على غيره. وقال أبو يوسف: يعشرهما إذا مر بهما جملة، كأنه جعل الخنزير تبعاً للخمر، فإن مر بكل واحد على الانفراد، عشر الخمر دون الخنزير.
وقال الشافعي: لا يعشرهما؛ لأنه لا قيمة لهما.(3/258)
وإن مر الحربي المضارب بمال غيره بمئتي درهم على العاشر، لم يعشرها؛ لأنه ليس بمالك ولا نائب عن المالك في أداء الزكاة، إلا أن يكون في المال ربح يبلغ نصيبه نصاباً، فيؤخذ منه؛ لأنه مالك له.
اثنا عشر ـ إخراج الزكاة وإسقاطها:
أبحث هنا موضوعات:
الأول ـ ركن الإخراج:
هو التمليك، لقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141/6] والإيتاء هو التمليك، لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:277/2] فلا تتأدى بطعام الإباحة، وبما ليس بتمليك من بناء المساجد ونحو ذلك (1) .
الثاني ـ كيفية الإخراج:
لا خلاف بين العلماء في أنه إذا كان المال الذي فيه الزكاة نوعاً واحداً، أخذ منه، جيداً كان أو رديئاً؛ لأن حق الفقراء يجب على طريقة المواساة، فهم بمنزلة الشركاء.
وإن كان أنواعاً، أخذ من كل نوع ما يخصه، في رأي الحنابلة والحنفية، وقال مالك: يؤخذ من الوسط، لا من الأعلى ولا من الأدنى، ولا من كل نوع، للمشقة، إلا أن يتطوع المزكي بدفع الأعلى.
وقال الشافعي: يؤخذ من كل نوع جزء منه، فإن عسر أخرج الوسط.
ولا يجوز اتفاقاً إخراج الرديء، لقوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/2] (2) .
ولا يجوز أخذ الجيد عن الرديء، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إياك وكرائم أموالهم» (3) إلا أن يتطوع رب المال بذلك.
الثالث ـ وقت إخراج الزكاة:
لا تؤخذ زكاة الحبوب إلا بعد التصفية، ولا زكاة الثمار إلا بعد الجفاف، بالاتفاق (4) ؛ لأنه أوان الكمال وحال الادخار، ومؤنة التصفية والحصاد والجفاف إلى حين الإخراج على المالك، ولا يحسب شيء منها من الزكاة بالاتفاق، لأن الثمرة كالماشية، ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها والقيام عليها إلى حين الإخراج على صاحبها.
__________
(1) البدائع: 64/2 وما بعدها.
(2) المغني: 712/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 619/1، مغني المحتاج: 384/1، الشرح الكبير مع الدسوقي:454/1 ومابعدها.
(3) رواه الجماعة عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن.. (نيل الأوطار: 114/4) .
(4) المجموع: 481/5، المغني: 711/2.(3/259)
فإن أخذ الساعي الزكاة قبل التجفيف فقد أساء، ويرده إن كان رطباً بحاله، وإن تلف رد مثله، وإن جففه وكان قدر الزكاة، فقد استوفى الواجب، وإن كان دونه أخذ الباقي، وإن كان زائداً رد الفضل.
وإن كان المخرج لها رب المال، لم يجزه، ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف؛ لأنه أخرج غير الفرض، فلم يجزه، كما لو أخرج الصغير من الماشية عن الكبار.
الرابع - تقدير الواجب في الثمار بالخرص:
الخرص: الحزر والتخمين أي التقدير الظني بواسطة رجل عدل خبير.
وقد أنكر الحنفية الخرص؛ لأنه رجم بالغيب، وظن وتخمين لا يلزم به حكم، كما أنكروا القرعة، وإنما كان الخرص تخويفاً للأكره (الحراثين) لئلا يخونوا (1) .
وقال الجمهور (2) : يسن خرص الثمار (التمر والعنب) دون غيرهما كالزيتون، إذا بدا صلاحها أو طيبها، لا قبله، وينبغي للإمام أن يبعث ساعيه إذا بدا صلاح الثمار ليخرصها ويعرف قدر الزكاة، ويعرِّف المالك ذلك. فإن لم يبعث الإمام أحداً فللمالك أن يأتي بعارف يخرص ما في بستانه من التمر والعنب، سواء أكان من شأنهما اليبس أم لا، كرطب وعنب مصر، ليضبط ما تجب الزكاة فيه منهما.
__________
(1) المغني: 706/2، الأموال: ص493 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير: 452/1، الشرح الصغير: 617/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 389/1 ومابعدها، المغني: 706/1-710.(3/260)
ودليلهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يبعث على الناس من يخرُص عليهم كرومهم وثمارهم» وقال عَتَّاب بن أسيد: «أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يُخْرَص العنب، كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيباً، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً» (1) .
ترك الثلث أو الربع: ويدخل جميع الثمر في الخرص، ويترك الخارص عند الشافعية والحنابلة الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث سهل بن أبي حثمة: «إذا خرصتم فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدَعوا الثلث، فدعوا الربع» (2) ولا يترك عند الحنفية والمالكية شيء؛ لأن في إسناد حديث سهل راوياً لا يعرف حاله، كما قال ابن القطان.
الاكتفاء بخارص واحد: ويجزئ خارص واحد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رَوَاحة، فيخرُص النخل حين يطيب (3) ، ولم يذكر معه غيره، ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاده إليه، فهو كالحاكم والقائف.
شروط الخارص - شرط الخارص: العدالة أو الأمانة؛ لأن الفاسق لا يقبل قوله، والحرية والذكورة؛ لأن الخرص ولاية، وليس الرقيق والمرأة من أهلها. ولابد أن يكون عالماً بالخرص؛ لأن الخرص اجتهاد، والجاهل بالشيء ليس من أهل الاجتهاد فيه.
صفة الخرص - صفة الخرص تختلف باختلاف الثمر: فإن كان نوعاً واحداً، فإنه يطيف بكل نخلة أو شجرة، وينظركم في الجميع رطباً أو عنباً، ثم يقدر ما يجيء منها تمراً. وإن كان أنواعاً، خرص كل نوع على حدته؛ لأن الأنواع تختلف، فمنها ما يكثر رطبه ويقل تمره، ومنها ما يكون بالعكس، وهكذا العنب.
فإذا خرص على المالك وعرَّفه قدر الزكاة، خيره الخارص بين أن يضمن قدر الزكاة، ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره، وبين حفظها إلى وقت الجداد والجفاف.
__________
(1) روى الحديث الأول الترمذي وابن ماجه عن عَتّاب بن أسيد، وروى الثاني أبو داود والترمذي (نيل الأوطار: 143/4) .
(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه (المرجع السابق) وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم وصححاه.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن عائشة (المرجع السابق) .(3/261)
فإن اختار حفظها ثم أتلفها بتفريطه، فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص. وإن أتلفها أجنبي، فعليه قيمة ما أتلف. وإن تلفت بجائحة سماوية، سقط عن الملاك الخرص؛ لأنها تلفت قبل استقرار زكاتها، ويسقط من الزكاة بمقدار التالف، ويزكى الباقي إن لم يتلف الكل، وكان الباقي بمقدار النصاب.
وإن ادعى المالك هلاك الثمار أو تلفها بغير تفريطه، بسبب خفي كالسرقة، أو ظاهر كحريق أو برد أو نهب، صدق قوله بيمينه عند الشافعية، وبغير يمين عند الحنابلة.
خطأ الخارص: إذا أخطأ الخارص التقدير: فزاد أو نقص، يلزم المالك عند الإمام مالك بما قال الخارص، زاد أو نقص، إذا كانت الزكاة متقاربة؛ لأنه حكم واقع لا نقض له (1) .
وقال الشافعية (2) : إن ادعى المالك حيف الخارص أو غلطه بما يبعد، أي لا يقع عادة من أهل المعرفة بالخرص كالربع مثلاً، لم يقبل قوله إلا ببينة. وإن كان بمحتمل، قبل في الأصح، وحط عنه ما ادعاه؛ لأنه أمين، فوجب الرجوع إليه في دعوى نقصه عند كيله؛ لأن الكيل يقين، والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى.
__________
(1) الأموال: ص 494 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 388/1.(3/262)
وقال الحنابلة (1) : إن ادعى رب المال غلط الخارص، وكان ما ادعاه محتملاً، قبل قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملاً مثل أن يدعي غلط النصف ونحوه، لم يقبل منه؛ لأنه لا يحتمل، فيعلم كذبه. وإن قال: لم يحصل في يدي غير هذا، قبل منه بغير يمين؛ لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها.
الخامس ـ ما تسقط به زكاة النبات:
قال الحنفية وغيرهم (2) : تسقط هذه الزكاة بعد الوجوب بهلاك الخارج من غير صنع المالك؛ لأن الواجب في الخارج، فإذا هلك هلك بما فيه، كهلاك نصاب الزكاة بعد الحول.
وإن استهلك الثمر أو الزرع: فإن استهلكه غير المالك، أخذ الضمان منه، وأدي عشره. وإن استهلك بعضه، أدى عشر القدر المستهلك من الضمان. وإن استهلك المالك أو استهلك البعض، بأن أكله، ضمن عشر الهالك، وصار ديناً في ذمته في قول أبي حنيفة.
وتسقط الزكاة عند الحنفية خلافاً لغيرهم بالردة؛ لأن في العشر معنى العبادة، والكافر ليس من أهل العبادة.
وكذلك تسقط هذه الزكاة عند الحنفية خلافاً للجمهور بموت المالك من غير وصية، إذا كان استهلك الخارج، كما في بقية أنواع الزكاة. أما إن كان الخارج قائماً بعينه، فيؤدى العشر منه في ظاهر الرواية عند الحنفية.
المطلب الخامس ـ زكاة الحيوان أو الأنعام:
مشروعيتها، وشروطها، وأنواعها ونصاب كل نوع، وزكاة الخليطين في الماشية وغيرها، وأحكام متفرقة في زكاة الحيوان (هل تجب الزكاة في العين أم في الذمة؟ دفع القيمة في الزكاة، ضم أنواع الأجناس إلى بعضها، كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة، المستفاد في أثناء الحول، الزكاة في النصاب دون العفو، ما يأخذه الساعي العامل أو الجابي) .
أولاً ـ مشروعية زكاة الحيوان:
تقررت فرضية زكاة الحيوان في السنة النبوية في أحاديث صحاح أو حسنة أشهرها اثنان:
الأول ـ حديث أبي بكر (3) المتضمن مقدار زكاة الإبل ونصابها، ومقدار زكاة الماشية ونصابها، وكيفية زكاة الخليطين، وما يخرج من زكاة المواشي وهو أوسط الأنواع، لا الهَرِمة والعوراء، والذكر إلا أن يشاء المصدِّق (4) ، وما يجوز أخذ بعضه عن بعض في الإبل، وكون زكاة الفضة (الرِّقة) ربع العشر.
والثاني ـ حديث معاذ المتضمن نصاب زكاة البقر (5) .
وأجمع العلماء على فرضية الزكاة في الأنعام (6) : الإبل والبقر والغنم
__________
(1) المغني: 708/2.
(2) البدائع: 65/2، مغني المحتاج: 387/1.
(3) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبخاري والدارقطني عن أنس، ورواه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي عن الزهري عن سالم عن أبيه، وهو حديث حسن (نيل الأوطار: 124/4-131، سبل السلام: 121/2-124) .
(4) المصدق: المالك في رأي أبي عبيد، وجميع الرواة يرون أنه العامل.
(5) رواه الخمسة (أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن معاذ، ورواه أيضاً أحمد عن يحيى ابن الحكم أن معاذاً قال ... (نيل الأوطار: 132/4، سبل السلام: 124/2) .
(6) الأنعام: جمع نَعَم، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، يذكر ويؤنث، سميت نعماً لكثرة نعم الله فيهاعلى خلقه، لأنها تتخذ للنماء غالباً لكثرة منافعها.(3/263)
الإنسية، لا في الخيل والرقيق والبغال والحمير والظباء، وأوجب أبو حنيفة الزكاة في الخيل، خلافاً للصاحبين، فإنهما قالا: لا زكاة في الخيل، وبرأيهما يفتى.
ثانياً ـ شروط وجوب زكاة الحيوان:
اشترط الفقهاء لوجوب زكاة الحيوان خمسة شروط، على خلاف في بعضها، وهي ما يأتي (1) :
1ً - أن تكون الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم إنسية، لا وحشية، أما المتولد بين الإنسي والوحشي، كالمتولد من الشاة والظبي أو المتولد من البقر الأهلي والوحشي: فلا زكاة فيه عند الشافعية وفي المشهور عند المالكية؛ لأن الأصل عدم الوجوب، ولا نص ولا إجماع في ذلك إذ لا يطلق عليه اسم الشاة، وهو متولد من وحشي، فأشبه المتولد من وحشيين.
وقال الحنابلة: تجب فيه الزكاة كالمتولد بين سائمة ومعلوفة.
وقال الحنفية: إن كانت الأم أهلية، وجبت فيه الزكاة ويكمل به النصاب، وإلا فلا؛ لأن ولد البهيمة يتبع أمه (2) .
2ً - أن تكون الأنعام بالغة نصاباً شرعياً على النحو المبين في السنة، كما سيوضح في زكاة كل نوع.
__________
(1) الدر المختار:30/2 ومابعدها، فتح القدير:494/1-502،509، الشرح الصغير: 590/1-594، القوانين الفقهية: ص107 ومابعدها، مغني المحتاج: 368/1 ومابعدها،378-380، المهذب:142/1-150، المغني: 575/2-577،591-596،604،625، كشاف القناع:212/2.
(2) البدائع:30/2 وما بعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي:432/1، مغني المحتاج: 369/1، المغني:595/2.(3/264)
3ً، 4ً - أن يحول عليها حول كامل في ملك صاحبها: بأن يمضي على تملكها عام كامل من بدء الملكية، ويبقى الملك فيها جميع الحول، فلو لم يمض الحول في ملكه، لم تجب عليه الزكاة، لحديث: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (1) ، ولأنه لا يتكامل نماء المال قبل تمام الحول، وذلك إلا في النتاج فإنه يتبع الأمهات في الحول.
ولو زال الملك عن الماشية في الحول عن النصاب أو بعضه، ببيع أو غيره، فعاد بشراء أوغيره، أو بادل بمثله مبادلة صحيحة لا للتجارة، كإبل بإبل، أو بجنس آخر كإبل ببقر، استأنف الحول أي بدأ حولاً جديداً لانقطاع الحول الأول بما فعله، فصار ملكاً جديداً، فلا بد من حول جديد للحديث المتقدم.
5ً - كونها سائمة أي راعية في معظم الحول، لا معلوفة، ولا عاملة في حرث ونحوه، وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية، لحديث: «في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون» (2) وحديث «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة: شاة» (3) وتقاس البقر على الإبل والغنم.
والسائمة عندالحنفية والحنابلة: هي التى ترعى العشب المباح في البراري في أكثر العام، بقصد الدر أو النسل أو التسمين، فإن أسامها (رعاها) للذبح أو الحمل أو الركوب أو الحرث، فلا زكاة فيها. وإن أسامها للتجارة ففيها زكاة التجارة. ولا يضر العلف اليسير؛ لأن للأكثر حكم الكل. ولو علفها نصف السنة أو أكثر من نصفها، فلا زكاة فيها.
__________
(1) رواه أبو داود، وللترمذي عن ابن عمر: «من استفاد مالاً، فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» (سبل السلام: 129/2) .
(2) رواه أبو داود وغيره، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، والراوي بهز بن حكيم عن أبيه (سبل السلام: 126/2) .
(3) رواه البخاري في حديث أنس عن أبي بكر المتقدم.(3/265)
أما إن سامت (رعت) بنفسها بدون أن يقصد مالكها ذلك، فلا زكاة فيها عند الحنفية، وفيها الزكاة عند الحنابلة.
والسائمة عند الشافعية: أن يرسلها صاحبها للمرعى في كلأ مباح في جميع الحول أو في الغالبية العظمى منه، ولا يضر علف يسير تعيش بدونه بلا ضرر بيِّن كيوم أو يومين؛ لأن الماشية تصبر اليومين ولا تصبر الثلاثة غالباً، فإن علفت معظم العام، أو في مدة لا تعيش بدونه، أو تعيش في تلك المدة ولكن بضرر بيِّن، فلا تجب زكاتها، لوجود المؤنة (النفقة والمشقة) .
ولو سامت بنفسها، أوبفعل الغاصب أو المشتري شراء فاسداً، أو كانت عوامل في حَرْث ونَضْح (حمل الماء للشرب) ونحوه، فلا زكاة في الأصح، لعدم إسامة المالك، وإنما اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف؛ لأن السوم يؤثر في وجوب الزكاة، فاعتبر فيه قصده، والاعتلاف يؤثر في سقوطها، فلا يعتبر قصده؛ لأن الأصل عدم وجوبها. وبذلك يشترط عند الشافعية: أن يكون كل السوم من المالك، فلا زكاة فيما سامت بنفسها أو أسامها غير المالك.
ومذهب المالكية (1) : أن الزكاة تجب في الأنعام، سواء أكانت سائمة (راعية) أم معلوفة، أم عوامل، لعموم حديث أبي بكر المتقدم في الإبل: «في كل خمس شاة» .
ومنشأ الخلاف بين الرأيين كما بين ابن رشد: معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة دليل الخطاب للعموم، ومعارضة القياس لعموم اللفظ، أما المطلق فحديث: «في كل أربعين شاة شاة» وأما المقيد فحديث «في سائمة الغنم الزكاة»
__________
(1) القوانين الفقهية: ص108، بداية المجتهد:244/1، الشرح الكبير: 432/1، الشرح الصغير:592/1.(3/266)
فمن غلب المطلق على المقيد، وهم المالكية، قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة. ومن غلَّب المقيد وهم الجمهور قال: الزكاة في السائمة منها فقط، وتغليب المقيد علي المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد.
وأما دليل الخطاب (مفهوم المخالفة) فحديث «في سائمة الغنم» يقتضي ألا زكاة في غير السائمة، وعموم حديث «في أربعين شاةً شاةٌ» يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة، وقد أخذ المالكية بمبدأ أن عموم اللفظ أقوى من دليل الخطاب.
وأما القياس المعارض لعموم حديث «في أربعين شاة شاة» : فهو أن السائمة هي التي يتحقق مقصود الزكاة فيها وهو النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فالجمهور خصصوا بهذا القياس ذلك العموم، فلم يوجبوا الزكاة في غير السائمة. والمالكية لم يخصصوا ذلك، ورأوا أن العموم أقوى، فأوجبوا الزكاة في الصنفين جميعاً.
ورأيي أن قول الجمهور أصح، لاشتمال آخر الحديث صراحة على كون الماشية سائمة، وهو الذي يجب حمل أول الحديث عن الإبل عليه، إذ لا يعقل تعارض آخر الحديث مع أوله، فحديث أنس المتضمن كتاب أبي بكر في فرائض صدقة المواشي ذكر فيه أولاً مقادير زكاة الإبل، ثم ذكر فيه زكاة الغنم بلفظ «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومئة» .
ثالثاً ـ أنواع الأنعام التي تجب فيها الزكاة ونصاب كل نوع منها:
تجب الزكاة في الإبل والبقر والغنم، وأوجب أبو حنيفة خلافاً لصاحبيه الزكاة في الخيول، والفتوى على قولهما أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتجارة.....(3/267)
زكاة الإبل:
الإبل: الذكور والإناث، الكبار والصغار، والصغار تبع للكبار، والمقصود منها السوائم عند غير المالكية، وكذا المعلوفة عند المالكية: لا زكاة فيما دون خمس من الإبل بإجماع المسلمين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليس عليه فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها» وقال: «ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة» (1) وأجمع العلماء على أن في خمس من الإبل شاةً، وفي العشر شاتين، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه (2) ، لحديث أبي بكر المتقدم. ولا يجزئ في الغنم المخرجة في الزكاة إلا الجَذَع من الضأن والثني من المعز (3) ، فيخرج أحدهما بحسب غالب غنم البلد من المعز والضأن عند المالكية، ولا يتعين عند الجمهور غالب غنم البلد، لخبر «في كل خمس شاة» والشاة تطلق على الضأن والمعز.
وأجمعوا على أنه إذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين (25-35) ففيها بنت مخاض (وهي التي لها سنة من الإبل ودخلت في الثانية) ، وأضاف الشافعية والمالكية: أو ابن لبون له سنتان إن فقدها.
وفي ست وثلاثين إلى خمس وأربعين (36-45) بنت لبون (وهي ماأتمت سنتين ودخلت في الثالثة.
وفي ست وأربعين إلى ستين (46-60) حِقَّة (وهي ما أتمت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة) .
__________
(1) متفق عليه. والذود: وهو من الإبل: من الثلاثة إلى العشرة، لا واحد له من لفظه.
(2) انظر آراء الفقهاء في هذا النوع في فتح القدير: 494/1 وما بعدها، البدائع: 31/2 وما بعدها، الشرح الكبير: 432/1 وما بعدها، الشرح الصغير: 594/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 108، المهذب: 145/1 وما بعدها، مغني المحتاج: 369/1 ومابعدها، المغني: 579/2 ومابعدها، كشاف القناع: 213/2 ومابعدها.
(3) الجذع والثني: هو ما أتم السنة ودخل في الثانية، واشترط الشافعية إتمام المعز سنتين، وأجاز الحنابلة كون الجذع متماً ستة أشهر.....(3/268)
وفي إحدى وستين إلى خمس وسبعين (61-75) جَذَعة (وهي ما أتمت أربع سنين ودخلت في الخامسة) (1) .
وفي ست وسبعين إلى تسعين (76-90) بنتا لبون.
وفي إحدى وتسعين إلى مئة وعشرين (91-120) حقتان، كما دلت كتب السنة في حديث أبي بكر..
وفي مئة وإحدى وعشرين إلى مئة وتسع وعشرين (121-129) ثلاث بنات لبون عند الجمهور.
وعند الحنفية: حقتان وشاة؛ لأنه إذا زادت عن مئة وعشرين تستأنف عندهم الفريضة، فيكون في الخمس من الإبل شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض مع الحقتين، فإذا بلغت مئة وخمسين فيكون فيها ثلاث حِقاق، فإذا زادت عن ذلك تستأنف الفريضة أيضاً على النحو المذكور، ففي الخمس شاة مع ثلاث حقاق إلخ.
ويخير الساعي لا المالك عند المالكية في (121-129) بين حقتين وبين ثلاث بنات لبون إذا وجد الصنفان عند المزكي، أو فقدا، ويتعين عليه أخذ ما وجد عند رب المال من الحقتين أو ثلاث بنات اللبون.
وفي مئة وثلاثين فأكثر: في كل أربعين عند الجمهور بنت لبون، وفي كل خمسة حقة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «فإذا زادت على عشرين ومئة، ففي كل أربعين بنت لبون» (1) وفي رواية الدارقطني: «إلى عشرين ومئة، فإذا زادت واحدة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقه» .
وأما الحنفية فقالوا كما تقدم: إذا زادت عن مئة وعشرين تستأنف الفريضة في مواضع ثلاثة، أي أنه لا يجب فيما زاد على مئة وعشرين حتى تبلغ الزيادة خمساً، فإذا بلغت خمساً كان فيها شاة مع الواجب المتقدم، وهو الحقتان.
الموضع الأول: تستأنف الفريضة بعد الـ 121:
ففي 121-129 تجب حقتان وشاة.
وفي 130-134 تجب حقتان وشاتان.
وفي 135-139 تجب حقتان وثلاث شياه.
__________
(1) يلاحظ أن الحنابلة في تقدير الأعمار لم يشترطوا الدخول في السنة التالية، واكتفوا بإكمال السنة السابقة.....(3/269)
وفي 140-144 تجب حقتان وأربع شياه.
وفي 145-149 تجب حقتان وبنت مخاض.
والموضع الثاني: تستأنف الفريضة من 150.
ففي 150-154 يجب الفريضة من150.
وفي 155-159 يجب ثلاث حقاق وشاة.
وهكذا مع الثلاث حقاق يكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، فإذا بلغت مئة وستاً وتسعين (196) ففيها أربع حقاق، إلى مئتين (200) .
والموضع الثالث: بعد المئتين تستأنف الفريضة أبداً كما تستأنف في الخمسين بعد المئة والخمسين (150) حتى يجب في كل خمسين حقة.
ولا تجزئ عندهم ذكور الإبل إلا بالقيمة للإناث، بخلاف البقر والغنم، فإن المالك مخير. ودليلهم على استئناف الفريضة: ما وجد في كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم المتضمن ما يخرج من فرائض الإبل حتى عشرين ومئة: «فإذا كانت أكثر من عشرين ومئة، فإنها تعاد إلى أول فريضة الإبل» (2) .
اتفق الفقهاء على أن ما بين الفريضتين من الفرائض المتقدمة وهو ما يسمى الأوقاص معفو عنه، فالخمس إلى التسع من الإبل فيها شاة واحدة، ولا شيء في مقابل الزائد عن الخمس، لما روى أبو عبيد عن يحيى بن الحكم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الأوقاص لا صدقة فيها» ولأن العفو مال ناقص عن نصاب.
حالة مصادفة الفرضين: ذكر الشافعية (3) : أنه لو اتفق فرضان في الإبل كمئتي بعير، ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، فالمذهب عندهم: لا يتعين أربع حقاق، بل هن، أو خمس بنات لبون؛ لأن المئتين أربع خمسينات أو خمس أربعينات، لحديث أبي داود وغيره عن كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا كانت مئتين
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي
(2) رواه أبو داود في المراسيل وإسحاق بن راهويه في مسنده والطحاوي في مشكل الآثار عن حماد بن سلمة.
(3) مغني المحتاج: 371/1-373، المهذب: 147/1.....(3/270)
ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أيّ السنَّين وجدت أخذت» فإن وجد المالك بماله أحدهما أخذ منه، وإن لم يجد فله تحصيل ما شاء من النوعين بشراء أو غيره.
وإن وجد الفرضين معاً في ماله تعين الأغبط (أي الأنفع للمستحقين بزيادة قيمة أوغيرها) ، ولا يجزىء غير الأغبط إن دلّس الدافع في إعطائه بأن أخفي الأغبط، وقصر الساعي، وإن لم يدلس الدافع ولم يقصر الساعي، فيجزئ المدفوع عن الزكاة مع وجوب قدر التفاوت بينه وبين قيمة الأغبط؛ لأنه لم يدفع الفرض بكماله، فوجب جبر نقصه.
الجبران حالة فقد أحد الفروض: من فقد واجبه، كأن لزمه بنت مخاض، فلم يجدها عنده، صعد إلى أعلى منه وأخذ من المدفوع له شاتين (1) أو عشرين درهماً (2) ، عملاً بما روى البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر المتقدم، أو نزل إلى أسفل من الواجب بدرجة وأعطى على حسب اختياره شاتين أو عشرين درهماً. وهذا رأي الشافعية والحنابلة (3) ، وقال الحنفية: يدفع المالك في هذه الحالة قيمة ما وجب عليه، أو يدفع ما دون السن الواجبة والفرق المطلوب من الدراهم، أو أخذ الساعي أعلى منها ورد الفضل (4) .
وله صعود درجتين وأخذ جبرانين، كإعطاء بنت مخاض بدل الحقة بشرط تعذر وجود الدرجة القربى في تلك الجهة، فلا يصعد عن بنت المخاض إلى الحقة، أو ينزل عن الحقة إلى بنت المخاض إلا عند تعذر بنت اللبون، لإمكان الاستغناء عن الجبران الزائد.
واتفق الفقهاء على أنه يجوز أن يخرج المالك عن الواجب سناً أعلى من جنسه؛ لأنه زاد على الواجب من جنسه.
__________
(1) أي كالشاتين اللتين تجزئان في الأضحية.
(2) المراد بها الدراهم الشرعية من الفضة الخالصة.
(3) المغني 587/2 ومابعدها، كشاف القناع: 219/2.
(4) الكتاب مع اللباب: 146/1....(3/271)
زكاة البقر:
ثبتت فرضية زكاة البقر كما تقدم بالسنة والإجماع، أما السنة فمنها حديث معاذ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مُسِنَّة، أو عَدْله مَعَافرياً» (1) والتبيع: ذو الحول ذكراً كان أو أنثى، والمسنة: ذات الحولين، والمعافر: الثياب الممعافرية، نسبة إلى حي في اليمن تنسب إليهم هذه الثياب.
ومنها حديث أبي ذر: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا تؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، وأسمن، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها، كلما نفذت أخراها، عادت عليها أولاها، حتى يقضى بين الناس» (2) .
ولا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر، لحديث معاذ السابق، ولا زكاة عند الجمهور في غير السائمة، وعند المالكية: تجب الزكاة في المعلوفة والعوامل، كالإبل. والأرجح كما تقدم رأي الجمهور، لحديث: «ليس في البقر العوامل صدقة» (3) . ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة، ولا يوجد إلا في السائمة.
واتفق الفقهاء (4) عملاً بحديث معاذ على أن أول نصاب البقر ومثله الجاموس ثلاثون، ففي ثلاثين إلى تسع وثلاثين (30-39) بقرة: تبيع أو تبيعة، وهو عند الجمهور: ما أتم السنة ودخل في الثانية، وعند المالكية: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة، وذلك إذا حال عليها الحول.
__________
(1) رواه الخمسة واللفظ لأحمد.
(2) متفق عليه.
(3) رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروى أبو داود عن علي: «ليس على العوامل - أي من البقر - شيء» (سنن أبي داود: 362/1) .
(4) الدر المختار: 24/2، فتح القدير: 499/1 ومابعدها، البدائع: 28/2، الشرح الصغير: 597/1، القوانين الفقهية: ص108، مغني المحتاج: 374/1، المهذب: 128/1، المغني: 592/2، كشاف القناع: 221/2 ومابعدها....(3/272)
وأوجب الحنفية الزكاة في البقر والجاموس ولو متولداً من وحشي وأهلية بخلاف عكسه، أي المتولد من أهلي ووحشية، كما بينت.
وفي أربعين إلى تسع وخمسين (40-59) : مسنّة: وهي عند الجمهور ما أتمت السنتين ودخلت في الثالثة، وهي الثنية. وقال المالكية: هي ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابع. وأجاز الحنفية في هذا النصاب دفع مُسنِّ ذكر أو مسنة.
ثم في كل ثلاثين بدءاً من الستين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ففي (60-69) : تبيعان أو تبيعتان، وفي (70-79) :مسنة وتبيع، يدفع عن 40 مسنة وعن 30 تبيع، وفي (80-89) مسنتان، وفي (90-99) ثلاثة أتبعة، وفي مئة تبيعتان ومسنة، عن 60 تبيعان، وعن 40مسنة، وهكذا يتغير الفرض في كل عشرة من تبيع إلى مسنة، عملاً بحديث معاذ.
وقال المالكية: في مئة وعشرين، يخير الساعي (آخذ الزكاة) بين أخذ ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة إذا وجد الصنفان معاً أو فقدا معاً. فإذا وجد أحدهما فقط عند المالك تعين أخذه.
العفو: وما بين الفريضتين عفو إلا فيما زاد على الأربعين إلى الستين، فيجب عند أبي حنيفة في الزيادة بقدر ذلك، ففي الواحدة: ربع عشر مُسِنَّة، وفي الاثنين: نصف عشر مسنة، وفي الثلاثة: ثلاثة أرباع عُشْر مسنة، وفي الأربع: عُشْر مسنَّة. وقال الصاحبان: وعلى رأيهما الفتوى، وقولهما هو المختار: لا شيء في الزيادة على الأربعين، حتى تبلغ إلى ستين، فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان ولا خلاف في أن الجواميس والبقر سواء لاتحاد الجنسية، إذ هو نوع منه.
ولا يخرج الذكر في الزكاة أصلاً إذا كانت الحيوانات ذكوراً وإناثاً؛ لأن الأنثى أفضل، لما فيها من الدر والنسل، إلا في البقر، لنص حديث معاذ السابق. فإن كان النصاب كله ذكوراً، أجزأ الذكر في جميع أنواع زكاة الحيوان من إبل أو بقر أو غنم؛ لأن الزكاة وجبت مواساة، فلا يكلفها من غير ماله.....(3/273)
زكاة الغنم:
تشمل الضأن والمعز، ذكوراً وإناثاً:
وهي أيضاً واجبة بالسنة والإجماع كما تقدم، أما السنة فحديث أنس في كتاب أبي بكر المذكور فيه: «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاةٍ: شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين، ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاث مئة، ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئةٍ: شاة» .
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصةً عن أربعين شاةً: شاةً واحدةً، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها.
ولا يُجمع بين مُتفرِّق، ولا يُفرَّق بين مُجتَمِِع خشية الصدقة (1) . وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (2) .
ولا يُخرج في الصدقة هَرِمة ولا ذات عُوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدِّق (3) .
وبناء عليه اتفق الفقهاء (4) على أنه ليس فيما دون أربعين من الغنم السائمة أكثر السنة صدقة، لعدم بلوغ النصاب، ولا زكاة عند الجمهور في المعلوفة والعوامل؛ لأنها من الحوائج الأصلية. وسوى المالكية بين المعلوفة والسائمة في وجوب الزكاة.
فإذا كانت أربعين إلى مئة وعشرين (40-120) : شاة، وحال عليها الحول، ففيها شاة واحدة.
وفي مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين (121-200) : شاتان.
وفي مئتين وواحدة إلى ثلاث مئة وتسع وتسعين (201-399) : ثلاث شياه.
وفي أربع مئة (400) : أربع شياه.
ثم في كل مئة: شاة.
ولا خلاف في أن الضأن والمَعِز سواء في النصاب والوجوب وأداء الواجب،
__________
(1) الجمع بين المفترق: أن يكون لكل شريك من ثلاثة شركاء أربعون شاة مقدار النصاب، فلا يجمع بين الحصص لإخراج شاة واحدة فقط. والتفريق بين مجتمع: أن يكون لكل شريك من الشريكين مئة وشاة، فيكون على كليهما ثلاث شياه، فلا يفرق غنمهما، حتى يخرج عن كل واحد منهما سوى شاة واحدة.
(2) معناه أن يكون لشريك مثلاً أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون بقرة، ومالهما مشترك، فيأخذ الساعي عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعاً، ثم يرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه.
(3) المصدق: هو المالك، والاستثناءراجع إلى الأخير وهو التيس.
(4) البدائع:28/2 وما بعدها، فتح القدير: 501/1 وما بعدها، الشرح الكبير: 435/1، القوانين الفقهية: ص108، المهذب:148/1، مغني المحتاج: 374/1، المغني: 596/2 ومابعدها، 605، كشاف القناع: 225/2-227.(3/274)
ولا يؤخذ إلا الثني وهو ما تمت له سنة عند الجمهور، وشرط الشافعية في المعز أن يكون له سنتان، واكتفى الحنابلة في جذع الضأن أن يكون مما له ستة أشهر، فإن تطوع المالك بأفضل منها في السن، جاز، ودليل الحنابلة: ما رواه مالك عن سويد ابن غفلة قال: «أتانا مصدّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز» قال إبراهيم الحربي: إنما أجزأ الجذع من الضأن لأنه يلقح، والمعز لايلقح، إلا إذا كان ثنياً.
واتفق الفقهاء على أن ما بين الفريضتين في كل الأحوال عفو، لا زكاة فيه.
والأصح عند الشافعية: أنه يجوز إخراج ضأن عن معز أو عكسه، بشرط رعاية القيمة، كأن تساوي ثنية المعز في القيمة جَذَعة الضأن، وعكسه، لاتحاد الجنس.
وأجاز الحنابلة أيضاً إخراج ثنية المعز (وهي ما لها سنة كاملة) عن جذع الضأن، وإخراج جذع الضأن (وهو ما له ستة أشهر فأكثر) عن ثنية المعز، ولا يجبر أحدهما عن الآخر بالقيمة، لعدم وروده.
زكاة الخيل والبغال والحمير:
لا شيء من الزكاة في البغال إجماعاً إلا أن تكون للتجارة؛ لأنها تصير من العروض التجارية، وتجب الزكاة أيضاً في الخيل إن كانت للتجارة بلا خلاف.
وأما الخيل غير التجارية: فقال أبو حنيفة (1) : إذا كانت سائمة ذكوراً وإناثاً، أو إناثاً فقط، من أجل الدر والنسل، فتجب فيها الزكاة، وصاحبها بالخيار:
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 145/1 ومابعدها، البدائع: 34/2، فتح القدير: 502/1، الدر المختار: 25/2 وما بعدها.....(3/275)
إن شاء أعطى عن كل فرس ديناراً، وإن شاء قوَّمها، وأعطى عن كل مئتي درهم خمسة دراهم كعروض التجارة، وأما ذكور الخيل السائمة منفردة فلا زكاة فيها، لعدم الرواية في السنة.
ودليله: حديث جابر: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم» (1) ، وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما في صدقة الخيل: أن خيّر أربابها، فإن شاؤوا أدوا من كل فرس ديناراً، وإلا قوِّمْها، وخذ من كل مئتي درهم خمسة دراهم (2) .
وقال الصاحبان، وبقولهما يفتى: لا زكاة في الخيل ولا في شيء من البغال والحمير إلا أن تكون للتجارة. وهذا موافق لرأي بقية الأئمة (3) . بدليل حديث «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه» (4) ، وقال أبو هريرة: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الحمير، فيها زكاة، فقال: ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية الفاذّة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة:7/99-8] (5) وروى علي حديث «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» (6) . وأما عمر فإنما أخذ منهم شيئاً تبرعوا به، وسألوا أخذه، وعوضهم عنه برزق عبيدهم. وهذا الرأي هو الصحيح. وبه يتبين أن ليس في الإسلام زكاة خيل وبغال وحمير.
__________
(1) أخرجه البيهقي والدارقطني، وهو ضعيف جداً (نصب الراية: 357/2 وما بعدها) .
(2) الأثر مروي عند الدارقطني بنحو آخر مقارب للمذكور (نصب الراية: 358/2) .
(3) بداية المجتهد:243/1، الشرح الصغير: 589/1، مغني المحتاج: 369/1، المغني: 620/2.
(4) رواه الجماعة عن أبي هريرة، ولأبي داود: «ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر» (نيل الأوطار: 136/4) .
(5) رواه أحمد عن أبي هريرة، وفي الصحيحين معناه (المصدر السابق) .....
(6) رواه الترمذي عن علي.(3/276)
رابعاً ـ زكاة الخليطين في الماشية وغيرها:
لا يتأثر وجوب الزكاة عند الحنفية بالخلطة أي الشركة؛ لأن ملك كل واحد دون النصاب، كما لو لم يختلط بغيره، فإذا اختلطا في نصابين بأن كان كل واحد منهما يملك أربعين من الغنم، وجبت على كل واحد منهما شاة، للحديث النبوي: «في أربعين شاةً شاةٌ» .
وقال الجمهور: للخلطة في الماشية تأثير في الزكاة، فيزكى الخليطان زكاة المالك الواحد، إلا أن المالكية قالوا: إن اجتمع نصاب من مجموع حصة كليهما فلا زكاة عليهما، والخلطة إنما تؤثر إذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب.
وتفصيل مذاهب الجمهور ما يأتي:
قال المالكية (1) : خلطاء الماشية المتحدة النوع يكون حكمهم حكم المالك الواحد في الزكاة، كثلاثة لكل واحد أربعون من الغنم، فعليهم شاة واحدة، على كل ثلثها، فالخلطة أثرت فأوجذت التخفيف، أما لو كانوا متفرقين فعلى كل واحد شاة. وقد تؤدي الخلطة إلى التثقيل، كما لو كان لأحدهما مئة وشاة وللآخر مئة من الغنم وشاة، فعليهما ثلاث شياه، ولولا الخلطة لكان على كل منهما شاة واحدة، فالخلطة أوجبت الثالثة، فلا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق، خشية الزكاة.
ولا تؤثر الخلطة إلا إذا كان لكل واحد من الخليطين مقدار النصاب لو انفرد بنفسه، فإن اجتمع نصاب من مجموع الحصتين، فلا زكاة عليهما. وإن لم يكمل من مجموعهما نصاب فلا زكاة عليهما إجماعاً. وإن كان لأحدهما نصاب وللآخر أقل من نصاب، فيزكي صاحب النصاب وحده زكاة المنفرد.
والاختلاط المؤثر يكون بتوافر شروط أربعة:
أولها ـ عدم نية الفرار من الزكاة بالاشتراك.
ثانيها ـ أن تكون ماشية كل واحد من الخليطين مما يضم بعضه إلى بعض كالضأن والمعز.
__________
(1) الشرح الصغير: 602/1، القوانين الفقهية: ص108، الشرح الكبير: 439/1.(3/277)
ثالثها ـ أن يكون كل واحد من الشريكين مخاطباً شرعاً بالزكاة: بأن يكون حراً، مسلماً، ملك نصاباً، تم حوله. فإن كان أحدهما تجب عليه الزكاة فقط والآخر كافر مثلاً، وجبت على الأول وحده، حيث توفرت الشروط. وإن حال الحول على ماشية أحدهما دون الآخر، زكى الآخر زكاة المنفرد.
رابعها ـ أن يتم الاختلاط في الراعى والفحل والدلو والمسرح والمبيت. بأن يكن لهما راع واحد أو أكثر، فيشتركان في الرعي، أو يتعاونان ولو لم يحتج لهما، ويتم التلقيح في الجميع بفحل واحد بإذنهما، وتشرب من ماء واحد مملوك لهما أو لأحدهما ولا يمنع الآخر، وتسرح معاً، وتبيت معاً، إلا أنه إذا تعدد المسرح أو المبيت بشرط الحاجة فلا يضر.
وقال الشافعية والحنابلة (1) : إما أن تكون الخلطة أي الشركة في المواشي، أو في غيرها من الأموال.
أـ أما في غير المواشي وهي النقود (الأثمان) والحبوب والثمار وعروض التجارة، فلا تؤثر الخلطة فيها عند الحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» لأنه إنما تكون الخلطة في الماشية، لأن فيها منفعة أحياناً وضرراً أحياناً، أما غير الماشية فلا يتصور فيها غير الضرر برب المال، لأنه تجب فيها الزكاة فيما زاد على النصاب بحسابه، فلا أثر لجمعها، أي لا يعفى منها شيء بعد النصاب، وعليه فتؤخذ من كل واحد منهم زكاته على انفراد إذا كان ما يخصه تجب فيه الزكاة.
__________
(1) المهذب: 150/1-153، مغني المحتاج: 376/1 ومابعدها، المغني: 607/2-619، كشاف القناع: 227/2-235، شرح المجموع: 408/5 ومابعدها.(3/278)
وتؤثر الخلطة على الجديد في مذهب الشافعية في غير المواشي، لعموم الحديث السابق: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» ،ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكاليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً. والخلاصة: إن الحنابلة قالوا: لا منفعة للشركاء في الشركة في غير الماشية، وقال الشافعية: المنفعة متوفرة، فيزكى المالان كالمال الواحد.
ب ـ أما الخلطة في المواشي: بأن اشترك أهل الزكاة في ماشية، فلها تأثير عند الشافعية والحنابلة في الزكاة إيجاباً وإسقاطاً وتشديداً وتخفيفاً، فتصير الأموال كالمال الواحد، للحديث السابق: «لا يجمع بين متفرِّق ولا يُفَرَّق بين مجتمع..» نهى المالك عن التفريق وعن الجمع خشية وجوب الزكاة أو كثرتها، ونهى الساعي عنها خشية سقوطها أو قلتها.
والخلطة الجائزة المؤثرة نوعان: خلطة شيوع أو أعيان، وخلطة مجاورة أو أوصاف.
أما خلطة الأعيان: فهي أن يشترك أهل الزكاة في ماشية من جنس واحد بإرث أوشراء أو هبة أو غيره، وهي نصاب، أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر وداما على ذلك كإرث أخوين أربعين غنمة، أو شراء اثنين معاً ثلاثين بقرة. أو هي أن تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما منها نصيب مشاع، أي أن المالين هنا ممتزجان امتزاج شيوع، فلا يتميز أحدهما عما يملكه الآخر، وإنما لكل منهما جزء غير متعين من المال المملوك بنسبة ما يملك.
وأما خلطة المجاورة أو الأوصاف: وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزاً، فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي نذكرها، سواء تساويا في الحصة أو اختلفا، مثل أن يكون لرجل شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو يكون لأربعين رجلاً أربعون شاة، لكل واحد منهم شاة، أي أن المالين هنا غير ممتزجين، بل هما منفصلان متميزان.(3/279)
فلا يشترط عندهم خلافاً للمالكية أن تكون حصة كل منهم قبل الاشتراك نصاباً، ولا تشترط نية الخلطة؛ لأن خفة المؤنة على الشركاء باتحاد المواقف لا تختلف قصداً وعدمه، أي أن المقصود بالخلطة من الارتفاق يحصل بدونها، ولأن النية لا تؤثر في الخلطة، فلا تؤثر في حكمهما. وإنما اشترط الاتحاد في أمور ليجمع المالان كالمال الواحد، ولتخف المؤنة على المحسن بالزكاة.
وهذه الشركة بنوعيها قد تفيد الشريكين تخفيفاً كالاشتراك في ثمانين شاة على السواء، أو تثقيلاً كالاشتراك في أربعين، أو تخفيفاً على أحدهما وتثقيلاً على الآخر، كأن ملكا ستين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، وقد لا تفيد تخفيفاً ولا تثقيلاً كمئتين على السواء.
وتجب الزكاة في مال الشركة كما تجب في مال الرجل الواحد بشروط:
1ً - أن يكون الشريكان من أهل وجوب الزكاة، ومن المعلوم أنه لا تجب الزكاة إلا على حر مسلم تام الملك.
2ً - أن يكون المال المختلط نصاباً، فلا زكاة على ما لم يبلغ مقدار النصاب.
3ً - أن يمضي عليهما حول كامل، وإلا زكى كل منهما على انفراد بحسب مضي حوله، فإن كان لرجل أربعون شاة، ومضى عليهما بعض الحول، ثم باع بعضها مشاعاً، انقطع حول البائع فيما لم يبع، ويستأنفان حولاً جديداً من حين البيع.
4ً - ألا يتميز مال أحدهما عن الآخر في ستة أوصاف: المسرح، والمبيت (المُراح) والمشرب (مكان الشرب فقط) ، والمحلب (موضع الحلب) ، والفحل (1) ، والراعي؛ لأنه إذا تميز مال كل واحد منهم بشيء مما ذكر، لم يصيرا كمال واحد، والقصد بالخلطة (الشركة) : أن يصير المالان كمال واحد لتخف المؤنة (النفقة) . ويجوز تعدد الرعاة قطعاً بشرط ألا تنفرد هذه عن هذه براع.
__________
(1) المسرح: الموضع الذي تجتمع فيه ثم تساق إلى المرعى، ويستتبع ذلك الاتحاد في المرعى: وهو الموضع الذي ترعى فيه، واتحاد الممر بينهما. والمراح بضم الميم: مأواها ليلاً، واتحاد الفحل أو الفحول: أن تكون مرسلة فيها تنزو على كل من الماشيتين بحيث لا تختص ماشية هذا بفحل عن ماشية الآخر.(3/280)
والأصل في هذه الشروط الحديث السابق: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ولأن المالين صارا كمال واحد في المؤن، فوجب أن تكون زكاته زكاة المال الواحد ويؤيد ذلك حديث آخر: «والخليطان: ما اجتمعا على الفحل والرعي والحوض» (1) فنص على هذه الثلاثة، ونبّه على ما سواها.
ما يأخذه الساعي من مال الشركة (الخلطة) والتراجع فيما بينهم بالحصص:
قال الشافعية في الأصح والحنابلة في ظاهر كلام أحمد (2) : يأخذ الساعي فرض الزكاة من مال أي الخليطين إن شاء، سواء دعت الحاجة إلى ذلك أم لا، مثال الحاجة: أن تكون الفريضة عيناً واحدة، لا يمكن أخذها إلا من أحد المالين، ومثال عدم الحاجة: أن يجد فرض كل واحد من المالين فيه؛ لأن المالين بالخلطة جعلا كالمال الواحد في وجوب الزكاة، فوجب أن يجوز الأخذ منهما.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» وهما خشيتان: خشية رب المال من زيادة الصدقة، وخشية الساعي من نقصانها، فليس لأرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم المتفرقة التي كان الواجب في كل واحد منها شاة، ليقل الواجب فيها، ولا أن يفرقوا أموالهم المجتمعة التي كان فيها باجتماعها فرض، ليسقط عنها بتفرقتها، وليس للساعي أن يفرق بين الخلطاء لتكثر الزكاة، ولا أن يجمعها إذا كانت متفرقة لتجب الزكاة.
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي بإسناد ضعيف عن سعد بن أبي وقاص.
(2) المهذب: 153/1، شرح المجموع: 426/5 ومابعدها، المغني: 614/2 ومابعدها، كشاف القناع: 234/2 ومابعدها.(3/281)
ومتى أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما، رجع على شريكه بقدر حصته من الفرض، وهذا رأي المالكية أيضاً (1) ، عملاً بالحديث السابق عن أنس: «ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» فإذا كان لأحدهما ثلث المال، وللآخر ثلثاه، فأخذ الفرض من مال صاحب الثلث، رجع بثلثي قيمة المخرج على صاحبه، وإن أخذه من الآخر، رجع على صاحب الثلث بثلث قيمة المخرج.
والقول قول المرجوع عليه مع يمينه إذا اختلفا، وعدمت البينة؛ لأنه غارم، فكان القول قوله، كالغاصب إذا اختلف مع المالك في قيمة المغصوب بعد تلفه.
وإن أخذ الساعي أكثر من الفرض بغير تأويل، مثل أن يأخذ شاتين مكان شاة، أو يأخذ جذعة مكان حقة، لم يكن للمأخوذ منه الرجوع إلا بقدر الواجب دون الزيادة؛ لأنه ظلمه، فلا يرجع به على غير الظالم.
وإن أخذ أكثر من الحق بتأويل سائغ، كأن يأخذ الصحيحة عن المراض، والكبيرة عن الصغار، فإنه يرجع على شريكه بنصف ما أخذ منه؛ لأن ذلك اجتهاد من السلطان، فلا ينقض ما فعله باجتهاده. وكذلك يرجع عليه إن أخذ منه قيمة الفرض؛ لأنه أخذها باجتهاده.
خامساً ـ أحكام متفرقة في زكاة الحيوان:
1 - هل تجب الزكاة في العين أو في الذمة؟
للفقهاء رأيان (2) :
أـ قال الحنفية والمالكية والشافعي في مذهبه الجديد: الزكاةتجب في العين دون الذمة، فإذا هلك المال بعد وجوب الزكاة، ولو بعد مَنْع الساعي في الأصح عند الحنفية، سقطت الزكاة عنه، لأنه حق يتعلق بالمال، فيسقط بهلاكه، فيتعلق بعينه، كحق المضارب. وإذا هلك بعض المال سقط حظه من الزكاة.
أما الاستهلاك فلا يسقط الزكاة؛ لأنها بعد الوجوب بمنزلة الأمانة، فإذا استهلكها صاحبها ضمنها كالوديعة.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص.109.
(2) الدر المختار: 27/2 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 148/1، شرح المجموع: 341/5 ومابعدها، 454 ومابعدها، البدائع: 22/2-25، المغني: 678/2-679، القوانين الفقهية: ص 99.(3/282)
ب ـ وقال الحنابلة: تجب الزكاة في الذمة بحلول الحول، وإن تلف المال فرط أو لم يفرط، وإذا حال الحول على مال ولم يؤد زكاته، وجب أداؤها لما مضى.
وفرع الشافعية أيضاً على مبدأ تعلق الزكاة بالعين دون الذمة: أنه إذا باع المالك مال الزكاة بعد وجوبها فيه، سواء أكان تمراً أم حباً أم ماشية أم نقداً أم غيره، قبل إخراجها، كان البيع باطلاً في قدر فرض الزكاة، وقدر الفرض للمساكين، فلا يجوز بيعه بغير إذنهم؛ لأنهم شركاء فيه.
وأجاز الحنفية والحنابلة بيع مال الزكاة، على أن يضمن البائع قدر الزكاة.
2 - دفع القيمة في الزكاة:
أـ قال الحنفية (1) تفريعاً على مبدئهم أن الواجب في الزكاة جزء من النصاب إما صورة ومعنى، أو معنى فقط: يجوز دفع القيمة في الزكاة، وكذا في العشر والخراج وزكاة الفطرة والنذر والكفارة غير الإعتاق، وتعتبر القيمة يوم الوجوب عند الإمام أبي حنيفة، وعند الصاحبين: يوم الأداء، وفي السوائم يوم الأداء بالاتفاق بينهم، ويُقوَّم الواجب في البلد الذي فيه المال، فإن كان في مفازة ففي أقرب الأمصار إليه. ودليلهم أن الواجب أداء جزء من النصاب من حيث المعنى، وهو المالية، وأداء القيمة مثل أداء الجزء من النصاب من حيث إنه مال، ولأن في ذلك تيسيراً على المزكي، وتوفيراً لحرية الفقير في التصرف بالمال بحسب الحاجة.
وقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء (2) ، فغضب على المصدِّق (العامل) ، وقال: ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس (3) ؟ فقال:
__________
(1) البدائع: 25/2، الدر المختار: 29/2، اللباب: 147/1، فتح القدير: 507/1.
(2) أي مُشرفة السنام عاليته، فالكوماء، هي الناقة العظيمة السنام.
(3) ورد النهي عن ذلك في حديث ابن عباس عند الجماعة بلفظ «فإياك وكرائم أموالهم» (نيل الأوطار: 114/4) .(3/283)
أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة، وفي رواية: ارتجعتها، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأخذ البعير ببعيرين يكون باعتبار القيمة (1) .
ب ـ وقال الجمهور (2) : لا يجزئ إخراج القيمة في شيء من الزكاة؛ لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره، كالأضحية لما علقها على الأنعام، لم يجز نقلها إلى غيرها. وبعبارة أخرى: إن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك، فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «في أربعين شاة شاة، وفي مئتي درهم خمسة دراهم» وهو وارد بياناً لمجمل قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:277/2] فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» (3) وهو نص يجب التزامه، ولا يتجاوز عنه إلى القيمة؛ لأنه يكون أخذاً من غير المأمور به في الحديث، ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص، فلم يجزئه، كما لو أخرج الرديء مكان الجيد، وهذا كله يدل على أن الزكاة واجبة في العين.
قال الشافعية: لا يجوز أخذ القيمة في الزكاة إلا في خمس مسائل: زكاة التجارة، والجُبران (وهو شاتان أوعشرون درهماً في الإبل في حال عدم وجود الواجب) ، وفي حالة إخراج الشاة عن الإبل دون الخمسة والعشرين، علماً بأن
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي.
(2) الشرح الكبير: 502/1، بداية المجتهد: 260/1، المهذب: 150/1، شرح المجموع: 401/5 ومابعدها،253/6، تحفة الطلاب للأنصاري: ص95، كشاف القناع: 226/2، المغني: 65/2-66.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 152/4) .(3/284)
الشاة وإن لم تكن قيمة فهي بمعناها، وفي حالة جبر التفاوت بين الأغبط وغيره بنقد أو جزء من الأغبط فيما لو أخذ الساعي في اجتماع فرضين غير الأغبط باجتهاده بلا تقصير منه، ولا تدليس من المالك. وفي حالة صرف الإمام للمستحقين ما أخذه من النقد من المستحق الذي استغنى بدلاً عن زكاة تعجلها، ولم يقع المعجل الموقع المطلوب لاستغناء المستحقين.
وأرجح رأي الحنفية؛ لأن المقصود من الزكاة إغناء الفقير وسد حاجة المحتاج، وهذا يتحقق بأداء القيمة، كما يحصل بأداء جزء من عين المال المزكى، ولأن الفقير يرغب الآن في القيمة أكثر من رغبته في أعيان الأموال، ولأن إعطاء القيمة أهون على الناس وأيسر في الحساب.
3 - ضم أنواع الأجناس إلى بعضها:
لا خلاف بين أهل العلم في ضم أنواع الأجناس، بعضها إلى بعض في إيجاب الزكاة (1) ، فيضم المعز إلى الضأن، والجواميس إلى البقر، والبُخْت (2) من الإبل إلى العِرَاب.
ويخرج المزكي عند الجمهور الزكاة من أي الأنواع أحبَّ، سواء دعت الحاجة إلى ذلك: بأن يكون الواجب واحداً، أو لا يكون أحد النوعين موجباً لواحد، أو لم تدع الحاجة: بأن يكون كل واحد من النوعين يجب فيه فريضة كاملة؛ لأنهما نوعا جنس واحد، من الماشية، فجاز الإخراج من أيهما شاء.
فإن كانت عشرين ضأناً، وعشرين معزاً، أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن ونصف معز.
__________
(1) المغني: 605/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 108، اللباب: 143/1، مغني المحتاج: 374/1 ومابعدها، كشاف القناع: 224/2، الشرح الصغير: 598/1.
(2) البخت: جمع البُختي وهو المتولد بين العربي والعجمي، منسوب إلى بُخْتَ نَصَّر. والعراب: جمع عربي وهي جرد ملس حسان الألوان كريمة.(3/285)
وقال الشافعية: إن اتحد نوع الماشية أخذ الفرض منه، كأن كانت إبله كلها من صفة واحدة أو بقرة كلها جواميس، ويجوز في الأصح أخذ ضأن عن معز أو عكسه بشرط رعاية القيمة. وإن اختلف النوع كضأن ومعز، فالأظهر أن يخرج المالك ما شاء من النوعين، مقسَّطاً عليهما بالقيمة، فإذا وجد ثلاثون عنزاً وعَشْر نَعَجات من الضأن، أخذ الساعي عنزاً، أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز ورُبُع نعجة، وفي عنز بقيمة ثلاثة أرباع نعجة وربع عنز.
وبه يكون الشافعية في الحقيقة كباقي المذاهب إلا في مراعاة فرق القيمة بين المعز والضأن.
4 - كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة:
اتفق أئمة المذاهب الأربعة (1) على أن النتاج أو الفرع ـ أولاد الأنعام يتبع الأمهات في الحول، فكل ما نُتج أو تولد من الأمهات وتم انفصاله قبل تمام حول النصاب الأصلي ولو بلحظة، يزكى بحول الأصل، لقول عمر رضي الله عنه لساعيه: «اعتد عليهم بالسخلة (2) يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها منهم» (3) ، ولأن الحول إنما اشترط لتكامل النماء الحاصل، والنتاج نماء في نفسه، فيجب أن يضم إليه في الحول كأموال التجارة.
فعلى هذا إذا كان عنده مئة وعشرون من الغنم، فولدت واحدة منها سخلة قبل الحول بلحظة، والأمهات كلها باقية، لزمه شاتان.
أما لو انفصل النتاج بعد الحول أو قبله، ولم يتم انفصاله إلا بعده، كجنين خرج بعضه في الحول، ولم يتم انفصاله إلا بعد تمام الحول، لم يكن حول النصاب الأصلي حوله، لانقضاء حول أصله، ولأن الحول الثاني أولى به.
__________
(1) البدائع: 31/2، فتح القدير: 504/1، الدر المختار: 26/2، القوانين الفقهية: ص 109، الشرح الصغير: 591/1، مغني المحتاج: 378/1، المغني: 602/2، 604، الشرح الكبير: 432/1.
(2) السخلة: الصغيرة من أولاد المعز والضأن ما لم تبلغ سنة، وتطلق على الذكر والأنثى.
(3) رواه مالك في الموطأ (نصب الراية: 355/2) .(3/286)
زكاة الصغار: يرى أبو حنيفة ومحمد أنه ليس في الفُصلان والحُملان والعجاجيل زكاة إلا أن يكون معها كبار ولو واحداً، ويجب ذلك الواحد مالم يكن جيداً، فيلزم الوسط، وعلى هذا فإنه يشترط أن تبلغ الماشية سناً يجزئ مثله في الزكاة وهو السنة، بأن تكون كلها أو بعضها مسانّ، لأن السن يتغيربه الفرض، فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد. وخالفهما باقي الأئمة فأوجبوا فيها الزكاة، لأن السخال تعد مع غيرها، فتعد منفردة كالأمهات، والعدد تزيد الزكاة بزيادته بخلاف السن.
5 - الحيوان المستفاد في أثناء الحول:
قال الحنفية والمالكية (1) : من كان له نصاب، فاستفاد في أثناء الحول شيئاً من جنسه بشراء أو هبة أو صدقة، ضمه إليه أي إلى النصاب، وزكاه معه، كربح مال التجارة ونتاج السائمة، ويعتبر حوله حول أصله، لأنه تبع له من جنسه، فأشبه النماء المتصل، وهو زيادة قيمة عروض التجارة. وإن لم يكن من جنسه لا يضم اتفاقاً.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : لا يضم المملوك بشراء أو غيره كهبة أو إرث أو وصية إلى ما عنده، في الحول، وإنما يبدأ له حول جديد؛ لأنه ليس في معنى النتاج؛ لأن الدليل قد قام على اشتراط الحول، واستثني النتاج لقول عمر المتقدم، فبقي ما عداه على الأصل. ثم إن الأولاد والنتاج تابعة في الملك، فتملك بملك الأصل، بخلاف المستفاد.
__________
(1) فتح القدير: 510/1، الدر المختار: 31/2، اللباب: 147/1، الشرح الصغير: 593/1، حاشية الدسوقي: 432/1.
(2) مغني المحتاج: 379/1، المغني: 627/2.(3/287)
ويتفرع على الخلاف: من كان عنده نصاب من النعم كخمس من الإبل، وثلاثين من البقر، وأربعين من الغنم فأكثر، فاستفاد بهبة أو صدقة، أو استحقاق في وقف، أو دين، أو بشراء قدر نصاب آخر أو ما يكمل نصاباً آخر، فإنه على رأي الحنفية والمالكية يضم للأول الذي كان عنده، ويزكيه معه، فيكون عليه شاتان بعد أن كان عليه واحدة مثلاً، أو تبيعان بعد أن كان عليه تبيع، أو حقة مثلاً.
ومثله: من كان عنده نصاب نقدي في بدء الحول، ثم قبض رواتب شهرية، فيضم ما يدخره ولو من آخر راتب إلى أصل النصاب، ويزكيه معه.
أما عند الشافعية والحنابلة، فإنه يكون للمستفاد أو المتجدد من الدخل حول مستقل على حدة، كل متجدد أو مدخر جديد له حوله.
6 - الزكاة في النصاب دون العفو (الأوقاص) :
الأوقاص: جمع وقص: وهو ما بين الفريضتين من كل الأنعام.
لا زكاة في الأوقاص، وهي عفو أي معفو عنها باتفاق المذاهب (1) ، فلا تتعلق به الزكاة، بل تتعلق بالنصاب المقرر شرعاً فقط، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الأوقاص لا صدقة فيها» (2) ، ولأن العفو مال ناقص عن نصاب، يتعلق به فرض مبتدأ، فلم يتعلق به الوجوب قبله، كما لو نقص عن النصاب الأول.
فما دون النصاب عفو، وما فوقه إلى حد آخر عفو، فلو هلك العفو، وبقي النصاب، بقي كل الواجب، كأن كان له تسع من الإبل، أو مئة وعشرون من الغنم، فهلك بعد الحول من الإبل أربع، ومن الغنم ثمانون، لم يسقط من الزكاة شيء.
7 - ما يأخذه الساعي:
الساعي أو العامل أو المصدِّق: هو الموظف المخصص من الحاكم لجمع الزكاة وجبايتها من المالكين.
__________
(1) فتح القدير: 511/1، الشرح الصغير: 599/1، المهذب: 145/1، المغني: 604/2، كشاف القناع: 219/2.
(2) رواه أبو عبيد في الأموال عن يحيى بن الحكم.(3/288)
فإن كان في المال المزكى كرائم ولئام (1) ، وسمان ومهازيل، وصحاح ومراض، وكبار وصغار، وجب الوسط بقدر قيمة المالين، طلباً للتعديل بينهما، وهو عند الحنفية أعلى الأدنى وأدنى الأعلى، فلا يؤخذ من خيار الأموال ولا من شرارها، ولا من الأولاد، فإن كانت كلها جياداً فجيد عند الحنفية (2) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث معاذ المتقدم: «فإياك وكرائم أموالهم» وقوله أيضاً: «إن الله تعالى لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» (3) ، ولأن مبنى الزكاة على المواساة، وأخذ الصحيحة عن المراض مثلاً إخلال بالمواساة، ولأن فيه مراعاة لجانبي المالك والمستحق.
وقد فرع الفقهاء بناء على هذا المبدأ تفريعات:
فقال الحنفية (4) : ليس للساعي أن يأخذ الجيد ولا الرديء إلا من طريق التقويم برضا صاحب المال. ولا يؤخذ الرُّبَّى (التي وضعت وهي تربي ولدها، يعني قريبة العهد بالولادة) ، ولا الماخض (التي قد حان ولادها أي في بطنها ولد) ، ولا الأكولة (التي تسمن للأكل) .
ويأخذ الساعي الوسط، سواء أكان النصاب من نوع واحد، أم من نوعين كالضأن والمعز، والبقر والجواميس، والعراب والبخت، والوسط: هو أن يكون أدنى من الأرفع، وأرفع من الأدون.
__________
(1) الكرائم: جمع كريمة، وهي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن أو جمال صورة أو كثرة لحم أو صوف. واللئام: جمع لئيمة وهي ضد الكريمة.
(2) البدائع: 32/2-34، الدر المختار: 30/2 ومابعدها، فتح القدير: 506/1،510، اللباب: 146/1، الشرح الكبير: 434/1-436، الشرح الصغير: 598/1،604، القوانين الفقهية: ص 108، مغني المحتاج: 375/1 ومابعدها، المهذب: 147/1،150، المغني: 598/2-604، كشاف القناع: 213/2، 219، 223 ومابعدها.
(3) رواه أبو داود.
(4) البدائع، المكان السابق.(3/289)
ولا يأخذ الذكر في زكاة الإبل، فتتعين الأنوثة في الواجب في الإبل من جنسها من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة، ولا يجوز الذكور منها وهو ابن المخاض وابن اللبون والحق والجذع، إلا بطريق التقويم؛ لأن الواجب المنصوص عليه هو الإناث، ودفع القيمة في الزكاة جائز عندهم.
أما في البقر فيجوز فيها الذكر والأنثى، لورود النص بذلك، كما تقدم.
وليس في الصغار والذكور وحدها زكاة، فإذا وجدت الصغار والكبار عدّت مع بعضها، ويجب فيها ما يجب في الكبار وهو المسنة.
وإذا فقد الساعي في مال المالك ما يجب أخذه، بأن وجب عليه سن فلم توجد عنده، أخذ أعلى منها وردّ الفضل (قيمة الزيادة عن المدفوع) ، أو أخذ أدنى منها وأخذ الفضل، ولا يقدر عندهم بشيء؛ لأنه بحسب الأوقات غلاء ورخصاً (1) .
وقال المالكية: يتعين على الساعي أخذ الوسط من الواجب، فلا يؤخذ من خيار الأموال ولا من شرارها، حتى ولو كان عند المزكي خيار فقط أو شرار فقط، إلا أن يرى الساعي أن أخذ المعينة أحظ للفقراء لكثرة لحمها مثلاً. ولا يؤخذ من الأولاد. وإذا تساوى عدد الضأن والمعز أو غيرهما، خيّر الساعي، فإن لم يتساويا أخذ من الأكثر، كثلاثين من الضأن وعشرة من المعز أو عكس ذلك، وكعشرين من البقر وعشرة من الجواميس، فيأخذ من الأكثر؛ لأن الحكم للغالب.
__________
(1) خلافاً للشافعية والحنابلة الذين قدروا الفضل الذي يرد بشاتين أو عشرين درهماً.(3/290)
وقال الشافعية: لا تؤخذ مريضة، ولا معيبة، إلا من مثلها بأن كانت ماشيته كلها منها، ولا يؤخذ ذكر؛ لأن النص ورد في الإناث إلا إذا وجب كابن اللبون والتبيع في البقر، أو كانت ماشيته كلها ذكوراً في الأصح، كما تؤخذ المريضة والمعيبةمن مثلها. ويؤخذ من الصغار صغيرة في المذهب الجديد. ولا تؤخذ الرُّبَّى (الحديثة العهد بالنتاج) ولا الأكولة (المسمنة للأكل) ولا ماخض (حامل) ، ولا فحل الغنم، ولا خِيار، لحديث معاذ السابق «إياك وكرائم أموالهم» ولقول عمر رضي الله عنه: «ولا تؤخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم» إلا برضا المالك في جميع ما ذكر؛ لأنه محسن بالزيادة، وقد قال تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/9] .
وقد عرفنا أنه بالنسبة للجبران: إذا لم يجد الساعي الفرض المطلوب في الإبل كان للمالك الصعود والنزول درجة أو درجتين، فدفع الأعلى أو الأدنى مع أخذ الدافع شاتين أو عشرين درهماً، وذلك تخفيفاً على المالك، حتى لايكلف الشراء، والخيار في الشاتين أو العشرين درهماً للدافع سواء أكان مالكاً أم ساعياً، لحديث أنس في كتاب أبي بكر عند البخاري.
وقال الحنابلة: لايؤخذ في الصدقة تيس (ذكر) ولا هَرِمة، ولا ذات عوار ((معيبة) إلا ما شاء المصدِّق أي العامل، بأن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنس المذكورات، فيكون له أن يأخذ من جنس المال، فيأخذ هرمة (كبيرة) من الهرمات، وذات عوار من أمثالها، وتيساً من التيوس، كما قرر الشافعية، ودليلهم حديث أبي بكر عن أنس المتقدم.
ولا يجوز إخراج المعيبة عن الصحاح، وإن كثرت قيمتها، للنهي عن أخذها، ولما فيه من الإضرار بالفقراء.
ولا تؤخذ الرُّبَّى ولا الماخض ولا الأكولة، كما بينت في مذهب الشافعية، ولا تؤخذ السخلة الصغيرة إلا إذا كانت الماشية كلها صغاراً، فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب، كما قرر الشافعية.(3/291)
ورأيهم في الجبران كالشافعية أيضاً، فمن وجبت عليه سن في الزكاة فعدمها، خيِّر المالك دون الساعي، أو الفقير ونحوه في الصعود إلى ما يليها في ملكه، ثم إلى ما يليه إن عدمه، وفي النزول إلى ما يليها في ملكه ثم إلى ما يليه، إلى درجة ثالثة من فوق أو من أسفل، مع شاتين أو عشرين درهماً ويتضاعف الجبران مع زيادة الدرجة، ولا مدخل للجبران في غير الإبل؛ لأن النص إنما ورد فيها، فيقتصر عليه، وليس غيرها في معناها، لكثرة قيمتها، ولأن الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها، وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين الفريضتين في الإبل، فامتنع القياس.
فمن عدم فريضة البقر أو فريضة الغنم، ووجد دونها، حرم إخراجها، ولزمه تحصيل الفريضة وإخراجها، وإن وجد أعلى منها فدفعها بغير جبران، قبلت منه، وإن لم يفعل أي يدفع الأعلى عن الواجب كُلِّف شراء الفريضة من غير ماله، لكونه طريقاً إلى أداء الواجب.
المبحث السادس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟
أوضحت في بحث زكاة النقود حكم زكاة الأسهم والسندات، ويخصص هذا المبحث لزكاة الدخل أو المورد الذي يحصل عليه الإنسان من طريق المباني المؤجرة والمعامل الصناعية، والأعمال والمهن الحرة. وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ زكاة العمارات والمصانع ونحوها:
اتجه رأس المال في الوقت الحاضر لتشغيله في نواحٍ من الاستثمارات غير الأرض والتجارة، وذلك عن طريق إقامة المباني أو العمارات بقصد الكراء، والمصانع المعدة للإنتاج، ووسائل النقل من طائرات وبواخر (سفن) وسيارات، ومزارع الأبقار والدواجن وتشترك كلها في صفة واحدة هي أنها لا تجب الزكاة في عينها وإنما في ريعها وغلتها أو أرباحها.(3/292)
وبالرغم من أن جمهور فقهائنا لم ينصوا على وجوب الزكاة في هذا النوع من المستغلات، وقالوا: لا زكاة في دور السكنى وأثاث المنزل وأدوات الحرفة ودواب الركوب، كما ذكرت سابقاً، فإني أرى ضرورة الزكاة في غلة العقارات بشروطها الآتية، لوجود علة وجوب الزكاة فيها وهي النماء، والحكم يدورمع علته وجوداً وعدماً، ولتوفر حكمة تشريع الزكاة فيها أيضاً وهي التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، ومواساة المحتاجين، والمساهمة في القضاء على الفقر الذي يشغل أنظمة العالم الحاضرة.
وقد قرر مؤتمر علماء المسلمين الثاني ومؤتمر البحوث الإسلامية الثاني عام 1385هـ /1965 م: أن الأموال النامية التي لم يرد نص ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها حكمها كالآتي: لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما أشبهها، بل تجب في صافي غلتها عند توافر شروط النصاب، وحولان الحول.
ومقدار الزكاة: هو ربع العشر في نهاية الحول، أي ربع عشر صافي الغلة في نهاية الحول (أي 5،2%) كزكاة التجارة والنقود. وفي الشركات لا ينظر إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة.
وهذا القرار يتفق مع المروي عن الإمام أحمد الذي يرى أنه تزكى هذه المستغلات من غلتها وإيرادها، ومع رأي بعض المالكية الذين يرون تزكية فوائد المستغلات عند قبضها (1) .
ويرى ابن عقيل الحنبلي والهادوية من الزيدية وجوب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، فيشمل العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة أي يقوم رأس المال في كل عام ويزكى زكاة التجارة (2) .(3/293)
المطلب الثاني ـ زكاة كسب العمل والمهن الحرة:
العمل: إما حر غير مرتبط بالدولة كعمل الطبيب والمهندس والمحامي والخياط والنجار وغيرهم من أصحاب المهن الحرة.
وإما مقيد مرتبط بوظيفة تابعة للدولة أو نحوها من المؤسسات والشركات العامة أو الخاصة، فيعطى الموظف راتباً شهرياً كما هو معروف. والدخل الذي يكسبه كل من صاحب العمل الحر أو الموظف ينطبق عليه فقهاً وصف «المال المستفاد» (3) .
والمقرر في المذاهب الأربعة أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يبلغ نصاباً ويتم حولاً، ويزكى في رأي غير الشافعية المال المدخر كله ولو من آخر لحظة قبل انتهاء الحول بعد توفر أصل النصاب.
ويمكن القول بوجوب الزكاة في المال المستفاد بمجرد قبضه، ولو لم يمض عليه حول، أخذاً برأي بعض الصحابة (ابن عباس وابن مسعود ومعاوية) وبعض التابعين (الزهري والحسن البصري ومكحول) ورأي عمر بن عبد العزيز، والباقر والصادق والناصر، وداود الظاهري. ومقدار الواجب: هو ربع العشر، عملاً بعموم النصوص التي أوجبت الزكاة في النقود وهي ربع العشر، سواء حال عليها الحول، أم كانت مستفادة. وإذا زكى المسلم كسب العمل أو المهنة عند استفادته أو قبضه لايزكيه مرة أخرى عند انتهاء الحول.
وبذلك يتساوى أصحاب الدخل المتعاقب مع الفلاح الذي تجب عليه زكاة الزروع والثمار بمجرد الحصاد والدياس.
المبحث السابع ـ مصارف الزكاة:
فيه مطلبان: الأول ـ مستحقو الزكاة، والثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة.
المطلب الأول ـ من هم مستحقو الزكاة؟
أولاً ـ دليل تحديدهم:
نصت الآية القرآنية 60 من سورة التوبة على أصناف ثمانية تستحق الزكاة وهي قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/9] فدلت على أنه تصرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية.
__________
(1) المغني:29/3،47، شرح الرسالة:329/1.
(2) بدائع الفوائد لابن القيم: 143/3، البحر الزخار: 147/2.
(3) انظر فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 487/1-250.(3/294)
وروى الجماعة عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن «.. فإن هم أطاعوك لذلك ـ أي الإقرار بوجوب الزكاة عليهم ـ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم..» دل على أن الزكاة تؤخذ من قبل الإمام من أغنياء المسلمين، وتصرف في فقرائهم، وكونها في فقرائهم استدل به لمذهب مالك وغيره بأنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد.
ثانياً ـ هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟
قال الشافعية (1) : يجب صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال إلى ثمانية أصناف، عملاً بالآية الكريمة {إنما الصدقات..} [التوبة:60/9] أضافت الآية جميع الصدقات إلى هذه الأصناف بلام التمليك، وشركت بينهم بواو التشريك، فدلت على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام، قسمها على ثمانية أسهم، منها سهم العامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه على وجه العوض، وأما غيره فيأخذه على وجه المواساة. وإن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، وصرفت إلى الأصناف السبعة الباقية إن وجدوا، وإلا فللموجودين منهم، والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع لاثنين ضمن نصيب الثالث إلا العامل، فإنه يجوز أن يكون واحداً إن حصلت به الكفاية.
والغالب وجوده الآن في البلاد أربعة: الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل. وأجاز جمع من الشافعية دفع زكاة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، واختار الرُّوياني من الشافعية صرف الزكاة إلى ثلاثة من أهل السهمان، قال: وهو الاختيار من حيث الفتوى لتعذر العمل بمذهبنا.
__________
(1) المهذب:170/1-173، حاشية الباجوري: 291/1-294، مغني: 116/3 ومابعدها.(3/295)
ومذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (1) : جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وأجاز الحنفية والمالكية صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف. وندب عند المالكية صرفها إلى المضطر أي أشدهم حاجة على غيره. ويستحب صرفها في الأصناف الثمانية خروجاً من الخلاف وتحصيلاً للإجزاء يقيناً، ولا يجب الاستيعاب.
ودليلهم أن الآية تعني عدم جواز صرفها لغير هذه الأصناف، وأما فيهم فهي تدل على التخيير، أي إنها لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم، لا لتعيين الدفع فيهم.
وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرف بأل «الفقراء..» ينبغي حملها على المجاز، وهو جنس الفقير، الذي يتحقق بواحد، لتعذر حملها على الحقيقة: وهو الاستغراق، أي الشمول لجميع الفقراء، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو غير معقول.
ثالثاً ـ بيان الأصناف الثمانية:
مستحقو الزكاة هم ثمانية أصناف: وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل (2) .
1 - أما الفقراء: أصحاب السهم الأول: فهم جمع فقير، والفقير في رأي الشافعية والحنابلة: هو من ليس له مال ولا كسب يقع موقعاً من كفايته، أو حاجته. فليس له زوج ولا أصل ولا فرع يكفيه نفقته، ولا يحقق كفايته مطعماً وملبساً ومسكناً كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا ثلاثة، حتى وإن كان صحيحاً يسأل الناس أو كان له مسكن وثوب يتجمل به.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 156/1، فتح القدير: 14/2، البدائع: 46/2، الدر المختار: 84/2، القوانين الفقهية: ص110 ومابعدها، بداية المجتهد: 267/1، المغني: 668/2، الشرح الصغير: 664/1، كشاف القناع: 335/2 ومابعدها.
(2) البدائع: 43/2-46، الدر المختار: 79/1-84، فتح القدير: 14/2-20، الشرح الكبير: 492/1-497، الشرح الصغير: 657/1-664، بداية المجتهد: 266/1-269، القوانين الفقهية: ص109 -111، المهذب: 170/1-173، كشاف القناع: 316/2-332، المغني: 665/2 ومابعدها.(3/296)
2 - وأما المساكين أصحاب السهم الثاني فهم جمع مسكين: والمسكين: هو الذي يقدر على كسب ما يسد مسداً من حاجته، ولكن لا يكفيه، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده ثمانية لا تكفيه الكفاية اللائقة بحاله من مطعم وملبس ومسكن.
فالفقير عند الشافعية والحنابلة: أسوأ حالاً من المسكين، فالفقير: هو من لا مال له ولا كسب أصلاً، أو كان يملك أو يكتسب أقل من نصف ما يكفيه لنفسه ومن تجب عليه نفقته (ممونه) من غير إسراف ولا تقتير. والمسكين: هو من يملك أو يكتسب نصف ما يحتاجه فأكثر، ولكن لم يصل إلى قدر كفايته. والمراد بالكفاية في حق المكتسب: كفاية يوم بيوم، وفي حق غيره: ما بقي من عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة.
ودليلهم على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين: بداءة الله تعالى بذكر الفقراء، وإنما يبدأ عادة بالأهم فالأهم. وقال تعالى: {أما السفنية فكانت لمساكين
يعملون في البحر} [الكهف:79/18] فأخبر أن لهم سفينة يعملون فيها، وقد سأل النبي المسكنة واستعاذ من الفقر، فقال: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» (1) ، ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة، ويستعيذ من حالة أصلح منها. ولأن الفقير هو المفقور لغة: وهو الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فانقطع صلبه.
وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالاً من الفقير، كما نقل عن بعض أئمة اللغة، ولقوله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد:16/90] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، مما يدل على غاية الضرر والشدة (2) ، ولأن المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، لأنه لا مسكن له، مما يدل على شدة الضرر والبؤس.
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) ناقشهم الفريق الأول بأنه يجوز التعبير عن الفقير بالمسكين مطلقاً، وأن هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة. وناقش الفريق الثاني استدلال الأولين بآية السفينة بأنه قيل لهم: مساكين ترحماً.(3/297)
3 - والصنف الثالث ـ العاملون عليها: وهم السعاة لجباية الصدقة، ويشترط فيهم العدالة والمعرفة بفقه الزكاة، ويدخل العاشر والكاتب وقاسم الزكاة بين مستحقيها وحافظ المال، والحاشر: الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف: الذي يعرف أرباب الاستحاق. وعدّاد المواشي والكيال والوزان والراعي، وكل من يحتاج إليه في الزكاة لدخولهم في مسمّى «العامل» غير قاض ووال لاستغنائهما بمالهما في بيت المال. أما أجرة الكيل والوزن في حال تسليم الزكاة من المالك ومؤنة دفعها، فعلى المالك؛ لأن تسليمها عليه، فكذلك مؤنته. أما مؤنة ذلك حال الدفع إلى جباة الزكاة، فمن سهم العمال.
والذي يعطى للعامل: هو بمثابة الأجرة على العمل، فيعطاها ولو كان غنياً، أما لو اعتبرت زكاة أو صدقة لما حلت للغني.
4 - والصنف الرابع ـ المؤلفة قلوبهم: منهم ضعفاء النية في الإسلام، فيعطون ليتقوى إسلامهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار.
أما الكفار فصنفان: صنف يرجى خيره، وصنف يخاف شره. وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى قوماً من الكفار، يتألف قلوبهم ليسلموا، ففي صحيح مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مئة من الإبل. وأعطى أيضاً علقمة ابن علاثة من غنائم حنين (1) .
واختلف العلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حال كونهم كفاراً، فقال الحنابلة والمالكية: يعطون ترغيباً في الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين» .
__________
(1) نيل الأوطار: 166/4.(3/298)
وقال الحنفية والشافعية: لا يعطى الكافر من الزكاة لا لتأليف ولا لغيره، وقد كان إعطاؤهم في صدر الإسلام في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد أعز الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» .
وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف يعطون بسبب احتياجنا إليهم:
1 - ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم.
2 - الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وجماعة ممن ذكر، وأعطى الرسول صلّى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما.
3 - المقيم في ثغر في ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال.
4 - من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.
وقد اختلف العلماء في بقاء سهم المؤلفة قلوبهم بعد النبي صلّى الله عليه وسلم: فقال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وغلبته؛ لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم وعن استمالتهم إلى الدخول فيه. فيكون عدد الأصناف سبعة لا ثمانية، وذلك بإجماع الصحابة. قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام.(3/299)
وقال الجمهور منهم خليل من المالكية: حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فيعطون عند الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم: على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، كما ذكرت، ولأن المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام.
5 - والصنف الخامس ـ في الرقاب: وهم عند الحنفية والشافعية: المكاتبون (1) المسلمون الذي لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب؛ لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده قوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون.
وقال المالكية والحنابلة: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق؛ لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب هو كونه مسلماً، محتاجاً.
وبما أنه لا يوجد الآن في العالم رقيق، لإلغائه وتحريمه دولياً، فإن هذا السهم لا وجود له حقيقة، وما قد يوجد ليس له طريق شرعي جائز.
__________
(1) المكاتب: من كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفاها صار حراً. والكتابة مندوبة لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور:33/24] من أجل تحرير الرقاب.(3/300)
6 - والصنف السادس ـ الغارمون: وهم المدينون، سواء استدان المدين عند الشافعية والحنابلة لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في طاعة أم معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيراً، وإن استدان لإصلاح ذات البين ولو بين أهل ذمة، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنياً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليهم، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» (1) .
وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا يملك نصاباً فاضلاً عن دينه. وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها؛ لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناوياً الأخذ من الزكاة، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده.
لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(3/301)
7 - والصنف السابع - في سبيل الله: وهم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، ولقوله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} [الصف:4/61] وقوله: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة:190/2] وغير ذلك، فيدفع إليهم لإنجاز مهمتهم وعونهم ولو كانوا عند الجمهور أغنياء؛ لأنه مصلحة عامة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى؛ لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به.
لكن لا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو (يجاهد) بزكاة ماله، ولا يُحَج بها عنه، ولا يُغْزى بها عنه لعدم الإيتاء المأمور به.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيراً.
والحج عند الحنابلة وبعض الحنفية من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة، لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله» فيأخذ مريد الحج من الزكاة إن كان فقيراً، ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة، أو يستعين به في أداء الفرضين؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض. وأما التطوع فله عنه مندوحة.
8 - والصنف الثامن ـ ابن السبيل: هو المسافر أو من يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة.
يعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده، إذا كان محتاجاً في سفره، ولو كان غنياً في وطنه.(3/302)
رابعاً ـ هل تعطى الزكاة لغير هذه الأصناف؟
اتفق جماهير فقهاء المذاهب (1) على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والجسور والقناطر والسقايات وكري الأنهار وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى، وقضاء الدين، والتوسعة على الأضياف، وبناء الأسوار وإعداد وسائل الجهاد، كصناعة السفن الحربية وشراء السلاح، ونحو ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى مما لا تمليك فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/9] وكلمة «إنما» للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ماعداه، فلا يجوز صرف الزكاة إلى هذه الوجوه؛ لأنه لم يوجد التمليك أصلاً.
لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله. بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجاً؛ لأن «في سبيل الله» عام في الملك، أي يشمل عمارة المساجد ونحوها مما ذكر، وفسر بعض الحنفية «سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنياً» . قال أنس والحسن: «ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة ماضية» .
وقال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافاً في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 81/2، 83، 85، البدائع: 45/2، الشرح الكبير: 497/1، المهذب: 170/1، 173، المغني: 667/2، القوانين الفقهية: ص111، أحكام القرآن لابن العربي: 957/2.(3/303)
خامساً ـ مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة:
اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين (1) :
فقال الشافعية والحنابلة: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته أو كفايته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة، أو بضاعة يتجر فيها، حتى ولو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له، ويحسن التجارة فيها؛ لأن الله أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم، فالمقصود من الزكاة سد الخلة ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يحقق حاجته وهو كفاية سنة. وقال صلّى الله عليه وسلم في حديث قبيصة عند مسلم: «فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو سِداداً من عيش» والسداد: الكفاية.
وكره أبو حنيفة إعطاء إنسان نصاب الزكاة وهو قدر مئتي درهم، ويجزئ إعطاء أي قدر.
وأجاز مالك إعطاء نصاب، ويرد الأمر إلى الاجتهاد، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنياً. لكن لا يعطى عند المالكية أكثر من كفاية سنة.
ودليل أبي حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد من الأصناف.
وأما مقدار ما يعطى للعامل: فاتفق الفقهاء (2) على أنه يدفع إليه الإمام بقدر عمله، أي ما يسعه أو يكفيه وأعوانه بالوسط، مدة ذهابهم وإيابهم، لكن قيد الحنفية ذلك بألا يزاد على نصف ما يقبضه.
وأما ما يعطى للغارم: فبقدر ما عليه من الدين إذا كان في طاعة وفي غير سرف، بل في أمر ضروري.
وكذلك ابن السبيل: يعطى ما يوصله إلى بلده (3) .
سادساً ـ من سأل الزكاة وكان غير مستحق:
هذه مسألة تشترك فيها الأصناف الثمانية كلها (4) ، وهي من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقاً، لم يجز له صرف الزكاة إليه. وإن علم استحقاقه، جاز الصرف إليه بلا خلاف.
__________
(1) الدر المختار: 88/2،93، فتح القدير: 28/2، الشرح الكبير مع الدسوقي: 494/1، أحكام القرآن لابن العربي: 961/2، المجموع: 202/6، المهذب: 171/1، مغني المحتاج: 114/3، بداية المجتهد:268/1 ومابعدها، كشاف القناع: 317/2 ومابعدها.
(2) الكتاب مع اللباب: 155/1، الشرح الكبير: 495/1، بداية المجتهد: 269/1، المهذب: 171/1، كشاف القناع: 322/2، الدر المختار: 81/2.
(3) بداية المجتهد: 268/1 ومابعدها.
(4) المجموع: 214/6 ومابعدها، وانظر الشرح الصغير: 668/1، كشاف القناع: 334/2.(3/304)
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية:
فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيها ببينة لعسرها، فلو عرف له مال، وادعى هلاكه، لم يقبل إلا ببينة، ولو ادعى عيالاً فلا بد من البينة في الأصح.
والجلي: نوعان: أحدهما ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا، استرد منهما ما أخذا، ويترصد للخروج بحسب المعتاد على وجه التقريب.
والثاني ـ يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا النوع يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب والغارم. وأما المؤلف قلبه: فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام، قبل قوله؛ لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة. قال الرافعي من الشافعية: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة.
سابعاً ـ شروط المستحقين أو أوصافهم:
اشترط الفقهاء في مستحق الزكاة شروطاً خمسة هي ما يأتي (1) :
1 - أن يكون فقيراً إلا العامل فإنه يعطى ولو كان غنياً لأنه يستحقه أجرة ولأنه فرغ نفسه لهذا العمل، فيحتاج إلى الكفاية، وإلا ابن السبيل إذا كان له في
__________
(1) البدائع: 43/2-48، فتح القدير: 21/2-29، الفتاوى الهندية: 176/1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 81/2-90، 94، الشرح الكبير: 494/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 267/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 659/1-668، مغني المحتاج: 112/3، بجيرمي الخطيب: 319/2، المهذب: 174/1-175، المجموع: 244/6-248، حاشية الباجوري: 295/1، كشاف القناع: 317/2-344، المغني: 646/2-650، 661، أحكام القرآن لابن العربي: 945/2-963.(3/305)
وطنه مال، فهو بمنزلة الفقير؛ لأن الحاجة هي المعتبرة، وهو الآن فقير يداً، وإن كان غنياً ظاهراً، وإلا المؤلف والغازي في رأي الشافعية والحنابلة.
والفقر شرط عام لصرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة كالعشور والكفارات والنذور وصدقة الفطر، لعموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/9] .
وعليه لا يجوز صرف الزكاة وغيرها من الواجبات لغني، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتحل الصدقة لغني، ولا ذي مِرّة سوي» (1) وجاز دفع الزكاة لأربعة أو خمسة من الأغنياء: وهم العامل، والمؤلف، والغازي، والغارم لإصلاح ذات البين عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل، أو رجل اشتراها بماله، أوغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو مسكين تُصدِّق عليه منها فأهدى منها لغني» (2) .
والغني عند الحنفية (3) : هو من ملك قدر نصاب فارغ عن حاجته الأصلية من أي مال. فيعطى من الزكاة من كان يملك أقل من نصاب شرعي، ولو كان صحيحاً قوياً قادراً على الكسب؛ لأنه فقير والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب، فلا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن،
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن العاص. والمرّة: القوة والشدة، والسوي: المستوي الخلْق، التام الأعضاء.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه.
(3) الدر المختار: 88/2،96، البدائع: 48/2، فتح القدير: 27/2 ومابعدها، قالوا: لو دفع الزكاة إلى أخته، ولها على زوجها مهر يبلغ نصاباً، وهو ملي مقر، ولو طلبت لا يمتنع عن الأداء، لا تجوز، وإلا جاز.(3/306)
وكتب العلم إن كان من أهله؛ لأن هذه الأشياء من الحوائج الأصلية اللازمة التي لابد منها للإنسان، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مئتي درهم، حرم عليه أخذ الصدقة. ويجوز أداء الزكاة للمكاتب وإن حصل نصاباً زائداً عن بدل الكتابة، ولا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصاباً من أي مال كان؛ لأن الغنى الشرعي مقدر به.
والغني عند المالكية (1) : هو من ملك كفايته لمدة سنة، والفقير: هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة، فيعطى من الزكاة ولو ملك نصاباً فأكثر لكنه لا يكفيه لعامه، ولو كان قوياً قادراً على الكسب أي كسب ما يكفيه بصنعة تارك لها وغير مشتغل بها، ولو كان تركه التكسب بها اختياراً على المشهور. ومن لم يجد كفاية سنة ويقوم بالإنفاق عليه نحو والد أو بيت مال بمرتب لا يكفيه من أكل وكسوة، أو من صنعة لا تكفيه، فيعطى من الزكاة.
والغني عند الشافعية (2) : من كانت عنده الكفاية في عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة، إلا إذا كان له مال يتجر فيه، فيعتبر ربحه في كل يوم، فإن كان أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم، فهو فقير. وكذا إذا جاوز العمر الغالب فالعبرة بكل يوم على حدة، فإن كان له مال أو كسب لا يكفيه في نصف اليوم فهو فقير.
والفقير: هو من لا مال له أصلاً ولا كسب حلال، وله مال أو كسب حلال لا يكفيه بأن كان أقل من نصف الكفاية، ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج بالنسبة للزوجة. والمعتبر: كسب يليق بحاله ومروءته، وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم. وتحل الزكاة لطالب العلوم الشرعية؛ لأن تحصيل العلم فرض كفاية، ويخاف من الإقبال على الكسب الانقطاع عن التحصيل.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 494/1.
(2) المجموع: 197/6-202، مغني المحتاج: 107/3-108،246.(3/307)
والمسكين: هو من قدر على مال أو كسب حلال يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب.
ولا يعطى الفقير أو المسكين من الزكاة إذا كان قادراً على الكسب، للحديث السابق عند أبي داود بإسناد صحيح: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» .
لكن تعطى الزكاة للعبد المكاتب ولو مع القدرة والكسب.
والخلاصة: لا يمنع الفقير مسكنه وثيابه وماله الغائب في مسافة مرحلتين (مسافة القصر) ودينه المؤجل وكسب لا يليق به، ولايشترط فيه الزمانة ولا التعفف عن المسألة في الجديد، والمكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيراً في الأصح. ولو اشتغل بعلم والكسب يمنعه من اشتغاله بذلك، فهو فقير.
والغني عند الحنابلة (1) في أظهر الروايتين عن أحمد: هو من ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك، لحديث أبي داود والترمذي: «الغنى: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» والفقير: من لا يجد شيئاً البتة (أي قطعاً) ،أو يجد شيئاً يسيراً من الكفاية دون نصفها من كسب أو غيره، مما لا يقع موقعاً من كفايته، كدرهمين من عشرة. والمسكين: من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره. فيعطى كل منهما كفايته مع عائلته سنة. ولا يعطى كل منهما من الزكاة إذا كان قادراً على الاكتساب إذ إنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، كما روى أبو داود. لكن إذا تفرغ القادر على التكسب لطلب العلم، وتعذر الجمع بين طلب العلم والتكسب، يعطى من الزكاة، ولا يعطى إذا تفرغ للعبادة، لقصور نفعها.
__________
(1) كشاف القناع: 317/2، 319، 334 ومابعدها، المغني: 661/2.(3/308)
والخلاصة: أن المانع من الصدقة وهو الغنى: هو أقل ما ينطلق عليه الاسم عند الشافعية والحنابلة أخذاً بالمعنى اللغوي للكلمة، وهو ملك النصاب عند الحنفية أخذاً بالمعنى الشرعي؛ لأن الشرع اعتبر في حديث معاذ مالك النصاب هو الغني. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الاجتهاد، وذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة.
ويحرم سؤال الزكاة أو صدقة التطوع أو الكفارة ونحوها، وله ما يغنيه أي يكفيه؛ لأنه لا يحل له أخذها إذن، ووسائل المحرم محرمة.
الإعلام بكون المدفوع زكاة: إذا دفع المسلم الزكاة إلى من يظنه فقيراً أو رآه ظاهر الحاجة، لم يحتج إلى إعلامه أنها زكاة.
إذا ظهر كونه غنياً أو غير مستحق: إن دفعت إلى من ظاهره الفقر أو يظنه فقيراً، فبان غنياً، أو ظنه مسلماً، فبان كافراً، لم يجزه ذلك عن الفرض ويجب ردها منه، في رأي المالكية والشافعية وفي الراجح عند الحنابلة (1) ؛ لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة، كديون الآدميين. ثم إن كان المال باقياً، استرجع منه، ودفع إلى فقير، وإن كان فائتاً، أخذ البدل، وصرف إلى فقير. فإن لم يكن للمدفوع إليه مال، لم يجب على رب المال ضمانه؛ لأنه إذا دفعه إلى الإمام، سقط الفرض عنه بذلك، ولا يضمنه الإمام؛ لأنه أمين غير مفرط. وإن كان الدافع هو رب المال نفسه، فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة، لم يكن له أن يرجع، لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع. وإن كان قد بين أنها زكاة، رجع فيها.
__________
(1) المهذب: 175/1، المغني: 667/2 ومابعدها، كشاف القناع: 344/2، الشرح الصغير: 668/1، غاية المنتهى: 315/1 ومابعدها.(3/309)
والخلاصة: إن الجمهور يقررون أنه لا تجزئ الزكاة إذا دفعت لغير مستحق إلا الإمام، ومثله عند المالكية نائب القاضي والوصي، فإنها تجزئ إن تعذر ردها؛ لأنهم يدفعونها بالاجتهاد. واستثنى الحنابلة حالة الدفع لغني ظنه فقيراً، فإنها تجزئه.
وقال الحنفية (1) : إذا دفع الزكاة لإنسان ثم بان أنه غني أو ذمي، أو أنه أبوه أو ابنه أو امرأته أو هاشمي، لا يعيد الدفع؛ لأنه أتى بما في وسعه، أي أتى بالتمليك الذي هو ركن الأداء على قدر وسعه، إذ ليس مكلفاً بأكثر من التحري والبحث، فلو دفع بلا تحرٍ، لم يجز؛ لأنه أخطأ.
2 - أن يكون مستحق الزكاة مسلماً: إلا المؤلفة قلوبهم في رأي المالكية والحنابلة: فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر بلا خلاف، لحديث معاذ رضي الله عنه المتقدم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم.
وأما ما سوى الزكاة من صدقة الفطر والكفارات والنذور، فلا شك في أن صرفها إلى فقراء المسلمين أفضل؛ لأن الصرف إليهم يقع إعانة لهم على الطاعة. وهل يجوز صرفها إلى أهل الذمة؟
قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء، فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة:271/2] من غير تفرقة بين فقير وفقير، وعموم هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم، إلا أنه خص منه الزكاة لحديث معاذ، وقوله تعالى في
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 93/2، الكتاب مع اللباب: 157/1.(3/310)
الكفارات: {فكفارته إطعام عشرة مساكين..} [المائدة:89/5] من غير تفرقة بين مسكين ومسكين، إلا أنه خص منه الحربي بدليل حتى لا يكون ذلك إعانة لهم على قتالنا، ولأن صرف الصدقة إلى أهل الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ... } [الممتحنة:8/60] .
وقال أبو يوسف وزفر والشافعي والجمهور: لا يجوز صرف غير الزكاة أيضاً إلى الذميين قياساً على الزكاة، وعلى الحربي.
3 - ألا يكون المستحق من بني هاشم: لأن آل البيت تحرم عليهم الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس، ولهم من خمس الخمس في البيت ما يكفيهم، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد» (1) .
وبنو هاشم الذين تحرم عليهم الصدقات عند الكرخي من الحنفية والحنابلة (2) : آل العباس، وآل علي وآل جعفر وآل عقيل بني أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، لعموم الحديث المتقدم (3) وكذلك قال الشافعية (4) : هم
__________
(1) رواه مسلم في حديث طويل من رواية عبد المطلب بن ربيعة مرفوعاًً، وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أبي رافع: «إن الصدقة لا تحل لنا» (نصب الراية: 403/2، نيل الأوطار: 174/4) .
(2) البدائع: 49/2، كشاف القناع: 339/2.
(3) الهاشمي: من لهاشم عليه ولادة، كأولاد العباس وحمزة وأبي طالب وأبي لهب، وأولاد فاطمة، وقد أدخل الحنابلة آل أبي لهب بن عبد المطلب؛ لأنه ثبت أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسر صلّى الله عليه وسلم بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنيناً والطائف ولهما عقب عند أهل النسب (نيل الأوطار: 172/4) وهاشم: هو ثاني أجداد النبي صلّى الله عليه وسلم، فهو أبو عبد المطلب.
(4) شرح المجموع: 244/6 وما بعدها.(3/311)
بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» (1) .
وقال أبو حنيفة والمالكية (2) : هم بنو هاشم فقط، وأما بنو المطلب أخو هاشم فليسوا عندهم من آل البيت، فيعطون من الزكاة على المشهور.
هذا ... وقد نقل عن أبي حنيفة وعن المالكية وبعض الشافعية: جواز إعطاء الهاشميين من الزكاة، لأنهم حرموا من بيت المال سهم ذوي القربي، منعاً لتضييعهم ولحاجتهم، عملاً بالمصالح المرسلة. وإعطاؤهم ـ كما قال الدسوقي المالكي ـ حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم. وتحل صدقة التطوع لهم عند الأكثرين.
4 - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات ولو في العدة: لأن ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكاً للفقير من كل وجه، بل يكون صرفاً إلى نفسه من وجه، فهو يجلب لنفسه نفعاً، وهو منع وجوب النفقة عليه. فلا تدفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا (أي الأجداد) والمولودين وإن سفلوا (أي الأحفاد والأسباط) ، ولا إلى الزوجات (حتى ولو كانت الزوجة مبانة في العدة ولو بثلاث في مذهب الحنفية) ؛ بصفة الفقر أو المسكنة؛ لأن نفقتهم واجبة على المزكي، والزكاة للحاجة،،ولا حاجة مع وجوب النفقة، ولأن أحدهم ينتفع بمال الآخر، بل ولا يجوز دفعها عند الشافعية لشخص لا تلزم المزكي نفسه نفقته، وإنما تلزم غيره؛ لأنه غير محتاج، كمكتسب كل يوم قدر كفايته. وأجاز الحنفية دفع الزكاة لامرأة فقيرة وزوجها غني؛ لأنها لا تستحق على زوجها إلا مقدار النفقة، فلا تعد بذلك القدر غنية، ولا يجوز عندهم دفع زكاة الزاني لولده من الزنا إلا إذا كان الولد من ذات زوج معروف.
__________
(1) رواه البخاري عن جبير بن مطعم.
(2) الشرح الصغير: 659/1، الشرح الكبير: 493/1.(3/312)
لكن يجوز دفعها لمن ذكر بصفة كونهم غارمين أو غزاة مجاهدين مثلاً. وأجاز الشافعية كما في المجموع للنووي والمالكية وابن تيمية إعطاء الزكاة لولد أو والد لاتلزم المزكي نفقته، إذا كان فقيراً؛ لأنه حينئذ كالأجنبي، وأباح المالكية للمرأة دفع زكاة فطرها - لا الزكاة الواجبة - إلى زوجها الفقير.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: «ولا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء؛ لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة» .
وقال النووي عن الأصحاب: ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة إذا كانوا بهذه الصفة. ولا يجوز أن يدفع إليه من سهم المؤلفة إن كان ممن يلزمه نفقته؛ لأن نفعه يعود إليه، وهو إسقاط النفقة، فإن كان ممن لا يلزمه نفقته، جاز رفعه إليه (1) . وعلى هذا من استقل من الأولاد بكسب لا يكفيه، وليس في منزل أبيه، يجوز إعطاؤه من الزكاة عند الشافعية.
وهل يجوز دفع الزوجة إلى زوجها زكاتها؟
قال أبو حنيفة، والحنابلة على الراجح (2) : لا يجوز؛ لأن الزكاة تعود إليها بإنفاقه عليها.
وقال الصاحبان والشافعية، والمالكية على الصحيح (3) : يجوز له ولأولادها، لحديث زينب امرأة ابن مسعود:
__________
(1) المجموع للنووي: 247/6.
(2) الدر المختار: 86/2-90، البدائع: 40/2، كشاف القناع: 338/2 وما بعدها، الكتاب مع اللباب: 156/1.
(3) البدائع: 40/2، أحكام ابن العربي: 960/2، المجموع: 247/6، حاشية الصاوي: 658/1.(3/313)
«زوجُك وولدك أحق من تصدقت عليهم به» (1) ، ولأن نفقة الزوج والأولاد غير واجبة على الزوجة والأم.
ويجوز دفع الزكاة إلى بقية الأقارب الفقراء غير المذكورين كالأخ والأخت والعمة والعم والخالة والخال ونحوهم، لحديث الطبراني عن سلمان بن عامر: «الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» بل إن القرابة أحق بزكاة المزكي، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول.
ويجوز دفع الزكاة لزوجة أبيه وابنه وزوج ابنته (الصهر) . ولم يجز المالكية دفع الزكاة لمن كانت نفقته لازمة عليه أو كان له مرتب في بيت المال يكفيه. وكذلك لم يجز الحنابلة دفع الزكاة إلى عمودي النسب في حال تجب نفقتهم فيه عليه أو لا تجب نفقتهم فيه، ورثوا أو لم يرثوا، حتى ذوي الأرحام منهم، كأبي الأم وولد البنت.
أما صدقات التطوع (2) : فيجوز دفعها للأصول والفروع والزوجات والأزواج، والدفع إليهم أولى؛ لأن فيه أجرين: أجر الصدقة وأجر الصلة.
وتجوز صدقة التطوع للأغنياء والكفار، ولهم أخذها، وفيه أجر، لقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان:8/76] ولم يكن الأسير يومئذ إلا كافراً، وكسى عمر خاله مشركاً حلة كان النبي صلّى الله عليه وسلم كساه إياها، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر التي استفتته في صلة أمها وهي مشركة: «صلي أمك» (3) ، لكن يستحب للغني عن السؤال، مع وجود حاجتهم، فقال: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273/2] فإن أخذها الغني مظهراً للفاقة، حرم عليه ذلك، وإن كانت تطوعاً، لما فيه من الكذب والتغرير.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) البدائع: 50/2، أحكام القرآن لابن العربي: 960/2، المجموع: 258/6 ومابعدها، كشاف القناع: 345/2 ومابعدها.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.(3/314)
وإذا أخطأ المزكي كأن دفع الزكاة في ظلمة مثلاً، فأداها إلى أحد أصوله أو فروعه، من غير أن يعلم، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه الإعادة عند أبي يوسف والشافعي وأحمد.
5 - أن يكون بالغاً عاقلاً حراً: فلا تجزئ لعبد اتفاقاً، ولا تجزئ عند الحنفية (1) لصغير غير مراهق (ما دون السابعة) ولا مجنون إلا إذا قبض عن الصغير والمجنون لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما، وتجوز عندهم لصبيان أقاربه المميزين في مناسبة عيد أوغيره، ولا يجوز دفع الزكاة لولد الغني إذا كان صغيراً، لأن الولد الصغير يعد غنياً بغنى أبيه، ويجوز إعطاؤها له إذا كان كبيراً فقيراً؛ لأنه لايعد غنياً بمال أبيه، فكان كالأجنبي، كما لا يعد الأب غنياً بغنى ابنه، ولا الزوجة بغنى زوجها، ولا الطفل بغنى أمه.
واشترط الشافعية (2) أن يكون قابض الزكاة رشيداً: وهو البالغ العاقل حسن التصرف، فلا تجزئ لصبي أو مجنون أو سفيه ديانة كتارك الصلاة إلا أن يقبضها له وليه لسفهه أو قصوره.
واشترط المالكية (3) أن يكون عامل الزكاة بالغاً، فلا تعطى الزكاة لقاصر.
أما الحنابلة (4) : فأجازوا دفع الزكاة إلى الكبير والصغير، سواء أكل الطعام أو لم يأكل، والمجنون، لكن يقبضها ولي الصغير والمجنون عنهما، أو القيِّم عليهما، روى الدارقطني عن أبي جحيفة قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم ساعياً، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فردها في فقرائنا، وكنت غلاماً يتيماً لا مال لي، فأعطاني قَلُوصاً» أي ناقة شابة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 81/2، 85، 90 ومابعدها، البدائع: 47/2.
(2) مغني المحتاج: 112/3.
(3) الشرح الكبير: 494/1.
(4) المغني: 646/2.(3/315)
وبناء على هذه الشروط: لا يجوز دفع الزكاة لغني بمال أو كسب، ولا لعبد، ولا لبني هاشم، وبني المطلب عند الجمهور غير المالكية وأبي حنيفة في الأخير، ولا لكافر، ولا لمن تلزم المزكي أو غيره نفقته، ولا للصغار والمجانين بأنفسهم، ولا لمن ليس في بلد الزكاة كما سأبين في مسألة نقل الزكاة. وأضاف الحنفية: لا يجوز صرف الزكاة لأهل البدع كالمشبهة في ذات الله أو في الصفات. وأجاز الحنفية دفع الزكاة للفقراء في المواسم والأعياد، أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها.
المطلب الثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة:
أولاً ـ دفع الزكاة إلى الإمام وإخراج الإنسان زكاة نفسه:
دل قوله تعالى: {والعاملين عليها} [التوبة:60/9] على أن أخذ الزكوات إلى الإمام، إذ لو جاز للمالك أداء الزكاة إلى المستحقين، لما احتيج إلى عامل لجبايتها. ويؤكده قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/9] .
ويجب على الإمام (1) أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال، ولا يعرف ما يجب عليه، وفيهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ.
ولا يبعث الإمام إلا ساعياً حراً عدلاً ثقة؛ لأن هذا ولاية وأمانة، والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية. ولا يبعث إلا فقيهاً؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له من مسائل الزكاة وأحكامها.
وهناك آية تجيز لأرباب الأموال دفع الزكاة بأنفسهم إلى المستحقين وهي قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} [المعارج:24/70-25] لأنه إذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليهما مباشرة.
وعملاً بما دلت عليه الآيات فصل العلماء في بيان تفرقة الزكاة.
__________
(1) المهذب: 168/1.(3/316)
أـ فإن كان مال الزكاة خفياً أو باطناً: وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها، جاز للمالك أن يفرقها بنفسه، أو أن يدفعها إلى الإمام، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم طالب بزكاته، وتبعه في ذلك أبو بكر وعمر، ثم طالب بها عثمان لمدة، ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجاً على الأمة، فوض الأداء إلى أربابها. ودفعها إلى الإمام لأنه نائب عن الفقراء، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم، ولأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهراً وباطناً، لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول التهمة عنه.
ب ـ وإن كان مال الزكاة ظاهراً: وهو المواشي والزروع والثمار والمال الذي يمر به التاجر على العاشر، فيجب عند الجمهور منهم الحنفية والمالكية (1) دفعها إلى الإمام، فإن فرقها بنفسه، لم يحتسب له ما أدى، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/9] أمر الله نبيه بأخذ الزكاة، فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ. ودل ذكر «العاملين عليها» في المصارف على أن للإمام مطالبة أرباب الأموال بالصدقات.
وكان النبي يبعث المصدِّقين (الجباة) إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها (2) .
وتابعه على ذلك الخلفاء الراشدون، وقال أبو بكر رضي الله عنه لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لحاربتهم عليه» (3) .
لكن المالكية قالوا: إذا كان الإمام عدلاً، وجب دفع الزكاة إليه، وإن كان غير عدل، فإن لم يتمكن المزكي صرفها عنه، دفعت إليه وأجزأت. وإن تمكن صرفها عنه دفعها صاحبها لمستحقها. ويستحب ألا يتولى دفعها بنفسه خوف الثناء.
__________
(1) البدائع: 35/2، الشرح الصغير: 670/1، القوانين الفقهية: ص111.
(2) ثبت ذلك في حديث أنس عن أبي بكر عند أحمد والنسائي وأبي داود والبخاري، وعند الخمسة عن معاذ بن جبل، وعن رواة آخرين (نيل الأوطار: 124/4 ومابعدها، 132 ومابعدها) .
(3) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 119/4) .(3/317)
وقال الشافعي في الجديد (1) : يجوز للمزكي أن يفرق زكاة الأموال الظاهرة بنفسه كزكاة الباطن؛ لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن.
وقال الحنابلة (2) : يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أم الباطنة. قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. ودليلهم أن المزكي دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأن المال الظاهر أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر، ولتوفير أجر العُمالة (رزق العامل) .
ولكن للإمام أخذها، وهذا لا خلاف فيه، لدلالة الآية: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/9] ، ومطالبة أبي بكر لهم بها بكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها.
وعلى كل حال فالواقع أن إخراج الزكاة أصبح منوطاً بأرباب الأموال، ويطلب اليوم سن تشريعات فريضة الزكاة، وقيام الدولة بجبايتها، بسبب تقصير الكثير عن أدائها، على أن تصرف في المصارف الشرعية، وأن يكون الحاكم عادلاً أميناً على مصالح المسلمين.
__________
(1) المهذب: 168/1.
(2) المغني: 641/2.(3/318)
ثانياً ـ التوكيل في أداء الزكاة:
اتفق الفقهاء (1) على أنه يجوز التوكيل في أداء الزكاة، بشرط النية من الموكل أو المؤدي، فلو نوى عند الأداء أو الدفع للوكيل عند الحنفية والشافعية، أو قبل الأداء بزمن يسير عند الحنابلة، أو عند العزل لدى المالكية والحنفية والشافعية، ثم أداها الوكيل إلى الفقير بلا نية جاز؛ لأن تفرقة الزكاة من حقوق المال، فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين. وللوكيل أن يوكل غيره بلا إذن ولو نوى الوكيل ولم ينو الموكل، لم يجز؛ لأن الفرض يتعلق به، والإجزاء يقع عنه، وإن دفعها إلى الإمام ناوياً ولم ينو الإمام حال دفعها إلى الفقراء، جاز.
وبناء عليه يجوز في رأي الحنفية توكيل الذمي غير المسلم بأداء الزكاة للفقراء؛ لأن المؤدي في الحقيقة هو المسلم. ولو قال الموكل: هذا تطوع أوعن كفارتي، ثم نواه عن الزكاة قبل دفع الوكيل، صح. وللوكيل أن يدفع الزكاة لولده الفقير أو زوجته الفقيرة إذا لم يأمره بالدفع إلى شخص معين، ولا يجوز له أن يأخذ الزكاة لنفسه إلا إذا قال له الموكل: ضعها حيث شئت.
وإن أمره بالدفع إلى شخص معين، فدفعها الوكيل لغيره، فيه قولان عند الحنفية: قول بأنه لا يضمن، كمن نذر أن يتصدق على فلان معين، له أن يتصدق على غيره، وقول رجحه ابن عابدين: يضمن؛ لأن الوكيل يستمد سلطته بالتصرف من الموكل، وقد أمر بالدفع إلى فلان، فلا يملك الدفع إلى غيره، كمن أوصى لزيد بكذا، ليس للوصي الدفع إلى غيره.
__________
(1) البدائع: 40/2 ومابعدها، الدر المحتار: 14/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 666/1 ومابعدها، المهذب: 168/1، المغني: 63/8/2 ومابعدها.(3/319)
ثالثاً ـ شرط المال المؤدى:
يشترط أن يكون المؤدى مالاً متقوماً على الإطلاق، سواء أكان عند الحنفية (1) منصوصاً عليه أم لا، من جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة أم من غير جنسه، والأصل عندهم أو القاعدة: أن كل مال يجوز التصدق به تطوعاً، يجوز أداء الزكاة منه، ومالا فلا. وعليه: لو أعطى الفقير سلعة من السلع كقماش أوخبز أوسكر أو سمن أو حذاء، ناوياً الزكاة صح. وعند غير الحنفية: يتعين أداء المنصوص عليه، وقد بحث الموضوع في إخراج القيمة في الزكاة.
رابعاً ـ نقل الزكاة لبلد آخر غير بلد المزكي:
القاعدة العامة أن تفرَّق صدقة كل قوم فيهم، لحديث معاذ المتقدم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» ، والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال، والمعتبر في صدقة الفطر: المكان الذي فيه المتصدق اعتباراً بسبب الوجوب فيهما، وللفقهاء تفصيل في نقل الزكاة من بلد إلى آخر (2) .
قال الحنفية: يكره تنزيهاً نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحاويج ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها أوأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز؛ لأن المصرف مطلق الفقراء.
وقال المالكية: لا يجوز نقل الزكاة لبلد لمسافة القصر، فأكثر، إلا لمن هو أحوج إليها، ويجوز نقلها لمن هو دون مسافة القصر (89 كم) ؛ لأنه في حكم موضع الوجوب، ويتعين تفرقتها فوراً بموضع الوجوب: وهو في الحرث (الزرع والثمر) والماشية: الموضع الذي جبيت منه، وفي النقود وعروض التجارة: موضع المالك، حيث كان، ما لم يسافر، ويوكل من يخرج عنه ببلد المال.
__________
(1) البدائع: 41/2.
(2) الدر المختار: 93/2-95، الفتاوى الهندية: 178/1، الكتاب مع اللباب: 158/1، فتح القدير: 28/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص111، الشرح الصغير: 667، أحكام القرآن لابن العربي: 963/2، المجموع: 237/6، مغني المحتاج: 118/3، بجيرمي الخطيب: 318/2، المهذب: 173/1، المغني: 671/2-674.(3/320)
وقال الشافعية: الأظهر منع نقل الزكاة، ويجب صرفها إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال، لحديث معاذ المتقدم، فإن لم توجد الأصناف في البلد الذي وجبت فيه الزكاة، أو لم يوجد بعضهم، أو فضل شيء عن بعض وجد منهم، نقلت إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب.
وقال الحنابلة: المذهب أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلد مال الزكاة إلى بلد
مسافة القصر، أي يحرم نقلها إلى مسافة القصر، ولكن تجزئه. ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها، ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان.
خامساً ـ أخذ البغاة والخوارج الزكاة:
إذا تغلبت فئة الخوارج والبغاة على بلد إسلامي، فأخذوا زكواتهم وعشور أراضيهم وخراجها، ثم استعادها الإمام منهم أو أخذ السلطان الجائر الزكاة، أجزأ المدفوع عن أصحابه ولا يثنّى عليهم، وأجزأ دفع الخراج عن المكلف به، سواء عدل الآخذ فيما أخذ أو جار، وسواء أخذها قهراً أو دفعت إليه اختياراً. وذلك عملاً بفعل الصحابة، ولأن المعطي دفعها إلى أهل الولاية، ولأن حق الأخذ للإمام لأجل الحفظ والحماية، ولم يوجد ذلك منه، فجاز دفعها لغيره (1) . لكن قال الحنفية: إلا أن المعطين يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشور ثانياً. وقالوا أيضاً: لو أخذ السلطان الصدقات أو الجبايات أو أخذ مالاً مصادرة إن نوى المأخوذ منه الصدقة عند الدفع، جاز وبه يفتى، أو إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة يجزئ، والأحوط الإعادة.
__________
(1) البدائع: 36/2، فتح القدير: 512/1، المغني: 644/2 ومابعدها، الدر المختار: 33/2.(3/321)
سادساً ـ الحيلة لإسقاط الزكاة:
يحرم التحايل لإسقاط الزكاة كأن يهب المال المزكى لفقير ثم يشتريه منه، أو يهبه لقريب قبل حولان الحول ثم يسترده منه فيما بعد.
ولو أبدل النصاب بغير جنسه كإبدال الماشية بدراهم، فراراً من الزكاة، أو أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، أو جعل السائمة علوفة، لم تسقط عنه الزكاة عند الحنابلة والمالكية (1) سداً للذرائع، لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، ولقوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم} [القلم:17/68-20] فعاقبهم الله تعالى بذلك، لفرارهم من الصدقة. قال أبو يوسف: لا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب.
وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة؛ لأنه نقص قبل تمام حوله، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو أتلف لحاجته.
سابعاً ـ هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟
لا تجزئ أصلاً الضريبة عن الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم شكراً لله تعالى وتقرباً إليه، والضريبة التزام مالي محض خال عن كل معنى للعبادة والقربة، ولذا شرطت النية في الزكاة ولم تشرط في الضريبة، ولأن الزكاة حق مقدر شرعاً، بخلاف الضريبة فإنها تخضع لتقدير السلطة، ولأن الزكاة حق ثابت دائم، والضريبة مؤقتة بحسب الحاجة، ولأن مصارف الزكاة هي الأصناف الثمانية: الفقراء والمساكين المسلمون إلخ، والضريبة تصرف لتغطية النفقات العامة للدولة. وللزكاة أهداف روحية وخلقية واجتماعية إنسانية، أما الضريبة فلا يقصد بها تحقيق شيء من تلك الأهداف (2) .
__________
(1) المغني: 676/2، مغني المحتاج: 379/1، حاشية ابن عابدين: 45/2، الخراج لأبي يوسف: ص80.
(2) فقه الزكاة للقرضاوي: 997-1003.(3/322)
ثامناً ـ حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو هل تسقط الزكاة بالموت؟
اختلف الفقهاء في ذلك (1) ، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: من وجبت عليه زكاة وتمكن من أدائها، فمات قبل أدائها، عصى، ووجب إخراجها من تركته، وإن لم يوص بها، ولا تسقط بموته؛ لأنها حق واجب تصح الوصية به، أو حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. ولكن تنفذ من ثلث التركة كالوصية في مشهور مذهب المالكية، ومن رأس مال التركة كلها في رأي الشافعي وأحمد.
وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي، مثال الأول: زكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد حرمي وغير ذلك، فالأصح عند الشافعية تقديم دين الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الزكاة بالموت، إلا أن يوصي بها وصية، فتخرج من الثلث، ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت؛ لأنها عبادة من شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه كالصوم.
فتكون مسقطات الزكاة عند الحنفية ثلاثة: موت من عليه الزكاة من غير وصية، والردة، وهلاك النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده، خلافاً للشافعي وغيره في الأمور الثلاثة.
تاسعاً ـ إسقاط الدين لا يقع عن الزكاة:
يترتب على اشتراط تمليك الزكاة للفقراء ونحوهم (2) أن المسامحة بالدين لا
__________
(1) بداية المجتهد: 241/1 ومابعدها، المهذب: 175/1، المجموع: 250/6 وما بعدها، المغني: 683/2 ومابعدها، 80/3 ومابعدها، البدائع: 52/2 وما بعدها.
(2) البدائع: 39/2، الدر المختار: 85/2، الفتاوى الهندية: 178/1، كشاف القناع: 337/2.(3/323)
تجزئ عند الحنفية عن الزكاة، وإنما يجب إعطاء الزكاة للفقير، ويمكن استيفاء الدين منه بعد ذلك فيعطيه الزكاة، ثم بعد أن يستلمها يقول له: أعطني ديني، وكذلك أجاز الحنابلة الإعطاء للمدين ثم يستوفي منه حقه، ما لم يكن حيلة أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه. ولو اشترى بالزكاة طعاماً، فأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم يدفع عين المال إليهم لايجوز، لعدم التمليك، ولو دفع الزكاة للفقير لا يتم الدفع ما لم يقبضها بنفسه أو يقبضها له وليه أو وصيه.
ولو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه، لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه، وملكها للغريم الدائن.
عاشراً ـ الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة:
هذا الموضوع: «الإبراء من الدين» ليقع عن الزكاة يثار البحث حوله من قديم، وتبرز الحاجة إلى معرفة حكمه بنحو متميز في عصرنا حيث تلكأ الناس عن دفع الزكاة المفروضة، وأهملوا إخراجها، ولجأ بعضهم إلى بعض الحيل للتخلص من أدائها.(3/324)
وقبل التعرف على الحكم الواجب الاتباع، يجب التذكر بأن منهج العالم وإفتائه يكون بما ترجح دليله، وظهر وجه الحق فيه، كما قرر العلماء، كما أن ما أيدته القواعد الشرعية الكثيرة، واطمأن إليه العقل وارتاحت له النفس، أو قال به أكثر العلماء، يكون مرجحاً الأخذ به. ويفرح بعض الناس اليوم كلما وجد رأياً في رحاب وزوايا الفقه الإسلامي، فيدعو للأخذ به، وإن كان شاذاً أو ضعيفاً، من غير حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة، علماً بأنه ما أكثر الآراء والخلافات! فلا تكاد تخلو مسألة من قولين فأكثر قد تصل إلى عشرة أقوال، وليس التجديد أو الترجيح أو الاجتهاد بإحياء الآراء الشاذة.
وهذه المسألة موضوع البحث قد يبدو فيها لأول وهلة دون مراعاة قواعد الشريعة، الميل للأخذ بما تيسر على الناس، فيؤدي الغني زكاة ماله عن طريق إبراء ما له من ديون في ذمم الآخرين المستحقين، واعتبار المدفوع زكاة معجلة على رأي جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية، الذين يجيزون تعجيل الزكاة قبل الحول، ولعام واحد لا لعامين، وبعد ملك النصاب الشرعي؛ لأنه أداء بعد سبب الوجوب.
وهبة الدين لمن هو عليه يسمى إبراء؛ لأن الهبة الحقيقية تكون لغير من عليه الدين (1) .
وأبين في هذا البحث آراء العلماء وأدلتهم، وما ترجح لدي منها بعد مناقشتها.
آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من الزكاة:
للفقهاء رأيان في هذا الموضوع، رأي بالجواز والإجزاء، ورأي بعدم الجواز والإجزاء.
أما الرأي الأول: فهو للظاهرية وبعض التابعين (الحسن البصري وعطاء) والشيعة الجعفرية.
وأما الرأي الثاني: فهو للجمهور الأعظم: أئمة المذاهب الأربعة، والإباضية والزيدية وسفيان الثوري وأبي عبيد.
وأبدأ ببيان الرأي الأول ذاكراً مقولة أنصاره وأدلتهم:
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 649/1.(3/325)
أـ فقال ابن حزم الظاهري: من كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه بدينه قبله، ونوى بذلك أنه من زكاته، أجزأه ذلك، وكذلك لو تصدق بذلك الدين على من يستحقه، وأحاله به على من هو له عنده، ونوى بذلك الزكاة، فإنه يجزئه.
برهان ذلك: أنه مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة، فقد أجزأه. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: «أصيب رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تصدّقوا عليه..» (1) .
لكن الحديث واضح في بذل الصدقات وأداء المال بالفعل من القادرين الأغنياء لهذا الرجل المديون الذي استغرقت الديون ماله، سواء أكان المتصدق دائناً له أم لا. ولا شك بأن دفع المال صدقة يختلف عن الإبراء من الدين الذي هو إسقاط الدين، فإن الصدقات سبيل للإغناء، وتمكين من وفاء الديون، وعون للمدين على التخلص من أزمة الدين أو الإفلاس، بسداد الديون لأصحابها مما تجمع لديه من الصدقات، والإبراء من الدين إسقاط لا تمليك عند أكثر الفقهاء كما سيأتي، وهو إن اعتبر صدقة تطوع على المدين المعسر، إلا أنه يتعذر اعتباره زكاة؛ لاشتراط كون النية عند أداء الزكاة مقارنة للأداء، كما سيأتي:
__________
(1) المحلى لابن حزم: 105/6 ومابعدها، ف/698، ط دار الآفاق الجديدة بيروت.(3/326)
ب ـ وقال بعض التابعين (الحسن البصري وعطاء) : يجزئ جعل الدين عن الزكاة لمدين معسر؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه، جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة، ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا، فمن أراد ترك الدين الذي هو عليه، وأن يحسبه من زكاة ماله الذي في يده، أجزأه عن الزكاة، بشرط أن يكون الذي عليه الدين من أهل الزكاة الذين يصح دفعها إليهم. قيل لعطاء بن أبي رباح: لي على رجل دين، وهو معسر، أفأدعه له، وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال: نعم.
وكان الحسن لا يرى بذلك بأساً إذا كان ذلك من قرض، ثم قال: فأما بيوعكم هذه فلا (1) ، أي إذا كان الدين ثمناً لسلعة، فلا يراه الحسن مجزئاً، حتى لا يكون ذلك ذريعة للتجار باحتساب ما تعذر اقتضاؤه من الدين، وجعله من الزكاة.
لكن ناقش الحافظ أبو عبيد هذا الرأي قائلاً: وإنما نرى الحسن وعطاء كانا يرخصان في ذلك، أي في احتساب الدين من الزكاة، لمذهبهما الخاص في الزكاة، وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإنْ على المليء، وإن الحسن كان ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار: وهو الغائب الذي لا يرجى وصوله، فإذا رجي فليس بضمار (2) ، وهذا الذي على المعسر هو ضمار، لايرجوه، فاستوى قولهما ههنا، فلما رأيا أنه لا يلزم ربّ المال حقّ الله في ماله هذا.
__________
(1) المجموع للنووي: 157/6، مكتبة الإرشاد ـ جدة، الأموال لأبي عبيد: ص 533، 611، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر بمصر.
(2) ومن جملته: المال المفقود، والآبق: والضال، والمغضوب إذا لم يكن عليه بينة، والدين الذي جحده المدين.(3/327)
قال علي رضي الله عنه: «لا زكاة في المال الضمار» ولأن السبب هو المال النامي، ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة عليه. الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها، فأنفذها إلى هذا المعسر، وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها، فرأياه مجزئاً عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحداً يعمل به، ولا يذهب إليه أحد من أهل الأثر وأهل الرأي (1) .
وإذا كان في هذا القول تيسير على صاحب الدين وعلى المدين جميعاً، فإن محل التيسير وحالته شرط ضروري لكل يسر، فالصلاة تقصر في حال السفر، مثلاً، والصيام لا يطلب من المسافر والمريض، لوجود ظرف السفر والمرض، فإن لم يتوافر للتيسير مجال أو محل أو حالة مقبولة شرعاً كما في هذا الإبراء عن دين المعسر، كان ذلك عبثاً في شرع الله ودينه، كما أن فيه إخلالاً بأحكام الزكاة وشروطها.
جـ ـ وقال الشيعة الإمامية (الجعفرية) : إذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحق للزكاة، جاز له أن يقاصّه من الزكاة، وكذلك إن كان الدين على ميت، جاز له أن يقاصّه منها. سأل رجل جعفر الصادق قائلاً: لي دين على قوم قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزكاة: هل لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم (2) .
وهذا رأي يحتاج إلى الدليل، وقواعد الشرع تأباه؛ لأنه لا يعدو أن يكون دين المعسر مالاً ساقطاً ضائعاً يتعذر الوفاء به، فيجعل أداة لإجزائه عن الزكاة، وحيلة لإغنائه عنها، وهو في جميع الأحوال مال ميؤوس من الحصول عليه.
__________
(1) الأموال، المرجع السابق 533.
(2) الفقه على المذاهب الخمسة: ص 175 ومابعدها للأستاذ محمد جواد مغنيِّة، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين ـ بيروت، فقه الإمام جعفر، للأستاذ مغنيِّة: 88/2، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى لشيخ الطائفة محمد بن الحسن علي الطوسي (385-460 هـ) ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت: ص188.(3/328)
وأما أنصار الرأي الثاني وهم الجمهور الأعظم فيقولون: إن الإبراء من الدين عن المدين المعسر أو إسقاط الدين أو المسامحة بالدين لا يقع عن الزكاة بحال، ولا يجزئ عنها، وإنما يجب إعطاء الزكاة فعلاً للفقير، كما لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة، لأنه لا يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه. لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلاً عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة لنفسه، وملّكها للغريم الدائن.
وأذكر عبارة كل مذهب من هؤلاء:
أـ قال الحنفية: تتعلق الزكاة بعين المال المزكى، كتعلق حق الرهن بالمال المرهون، ولا يزول هذا الحق إلا بالدفع إلى المستحق (1) . ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران، إلا أن الدفع يتفرق، فاكتفي بوجودها ـ أي النية ـ حالة العزل تيسيراً كتقديم النية في الصوم.
وعلى هذا لو كان لشخص دين على فقير، فأبرأه عنه، ناوياً به الأداء عن الزكاة، لم يجزئه؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط ليس بمال، فلا يجزئ أن يكون الساقط عن المال الواجب في الذمة، وبناء عليه قالوا: لا يجوز الأداء في صورتين، يهمنا منهما الصورة الأولى:
__________
(1) وقال الشافعية والمالكية والإمامية: إن الزكاة تجب في عين المال، والفقير شريك حقيقي للمالك، بدليل قوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} [الذاريات:19/51] وقد تواترت الأحاديث أن الله أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال، ولكن قد أجاز الشرع رفقاً بالمالك أن يؤدي هذا الحق من الأموال الأخرى التي لا زكاة فيها.(3/329)
الأولى ـ أداء الدين عن العين، كجعله ما في ذمة مديونه زكاة لماله الحاضر بخلاف ما إذا أمر فقيراً بقبض دين له على آخر عن زكاة دين عنده، فإنه يجوز: لأنه عند قبض الفقير يصير عيناً، فكان عيناً عن عين، أي فكان قبض الدين الذي تحول بالقبض إلى شيء معين مجزئاً عن قبض عين مال الزكاة المستحق للفقير في مال الغني.
الثانية ـ أداء دين عن دين سيقبض: كما لوأبرأ الفقير عن بعض النصاب ناوياً به الأداء عن الباقي؛ لأن الباقي يصير عينا بالقبض، فيصير مؤدياً بالدين عن العين (1) .
ب ـ وكذلك قال المالكية: تجب نية الزكاة عند الدفع إلى الفقير، ويكفي عند عزلها، ولا يجب إعلام الفقير، بل يكره، لما فيه من كسر قلب الفقير، وأضافوا أنه لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز إخراجها قبل الوقت، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه، كالنصاب، ويكره تقديم الزكاة أو تعجيلها قبل وجوبها بنحو شهر فقط، لا أكثر في عين (ذهب أو فضة) وما شية، لا ساعي لها، فتجزئ مع الكراهة، بخلاف ما لها ساع، وبخلاف الحرث، فلا تجزئ. وقالوا أيضاً: لو سرق مستحق بقدر الزكاة، فلا تكفي، لعدم النية (2) .
وجاء في المعيار المعرب للونشريسي بعنوان: لا يقتطع الدين الذي على الفقراء في الزكاة: وسئل عمن له دين على فقراء، هل يقطعه عليهم فيما وجب له عليهم من زكاته، أم لا؟ فأجاب: لا يجوز فعله، ولا يجزئ إن فعل (3) .
__________
(1) البدائع: 39/2، فتح القدير: 169/2-171، ط دار الفكر ـ بيروت، حاشية ابن عابدين: 270/2-271، الطبعة الثانية، طبعة البابي الحلبي بمصر، الفتاوى الهندية: 178/1.
(2) الشرح الصغير: 666/1،669،671، الشرح الكبير: 431/1، بداية المجتهد: 266/1، القوانين الفقهية: ص 99.
(3) المعيار المعرب: 389/1.(3/330)
جـ ـ وقال الشافعية أيضاً: تجب النية عند الدفع إلى الفقير أو عند التفريق، ولو عزل مقدار الزكاة، ونوى عند العزل، جاز، فإن لم ينو المالك عند الدفع للسلطان، لم يجزئ على الصحيح (1) .
وجاء في المجموع للنووي (2) : إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته، وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان حكاهما صاحب البيان: أصحهما: لا يجزئه، وبه قطع الصيمرى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد: لأن الزكاة في ذمته، فلا يبرأ إلا بإقباضها. والثاني يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه ... الخ ما ذكر سابقاً.
أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق، ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق، ممن صرح بالمسأله القفّال في الفتاوى وصاحب التهذيب في باب الشرط في المهر، وصاحب البيان هنا، والرافعي وآخرون. ولو نويا ذلك، ولم يشرطاه، جاز بالاتفاق، وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه.
قال البغوي: ولو قال المدين: ادفع إلي عن زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل أجزأه عن الزكاة، وملكه القابض، ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه، فإن دفعه أجزأه.
قال القفال: ولو قال رب المال للمدين: اقض ما عليك على أن أرده عليك عن زكاتي، فقضاه، صح القضاء، ولا يلزمه رده إليه، وهذا متفق عليه. وذكر
__________
(2) السراج الوهاج شرح المنهاج: ص134، ط دار المعرفة ـ بيروت.
(2) المجموع: 157/6.(3/331)
الرُّوياني في البحر: أنه لو أعطى مسكيناً زكاة، وواعده أن يردها إليه ببيع أو هبة أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه، ففي كونه قبضاً صحيحاً احتمالان: قلت ـ أي النووي ـ الأصح لا يجزئه، كما لو شرط أن يرد إليه عن دينه عليه. قال القفال: ولو كانت له حنطة عند فقير وديعة، فقال: كُلْ منها لنفسك كذا، ونوى ذلك عن الزكاة، ففي إجزائه عن الزكاة وجهان: وجه المنع: أن المالك لم يَكِلْه، وكَيْل الفقير لا يعتبر، ولو كان وكّله بشراء ذلك القدر، فاشتراه وقبضه، ثم قال له الموكل: خذه لنفسك، ونواه زكاة، أجزأه؛ لأنه لا يحتاج إلى كيله. والله تعالى أعلم.
د ـ وقال الحنابلة: تشترط النية في أداء الزكاة، ويجوز تقديمها على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات فلا بد من نية مقارنة أو مقاربة، ويجب إعطاء الزكاة للفقير، لكن لو أعطى المدين، ثم استوفى منه حقه، جاز، ما لم يكن حيلة، أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه (1) ، كما ذكر النووي.
قال في كشاف القناع: ولا يكفي إبراء من دينه بنية الزكاة، سواء كان المخرج عنه ديناً أو عيناً، ولا تكفي الحوالة بها؛ لأن ذلك ليس إيتاء لها، وكذا الحوالة عليها؛ لأنه لا دين له يحيل عليه، إلا أن تكون بمعنى الإذن في القبض (2) .
هـ ـ وقال الإباضية: إن قال الدافع أي الذي لزمته الزكاة، وكان بصدد دفعها للمدين: قضيت لك مالي عليك من دين أو تباعة، فاقبله ولا تعطه ـ أي الدين ـ لي، أو على فلان، فخذه منه في زكاة مالي أي لزكاة أو بدل زكاة مالي، لم تجزه أيضاً عند بعض؛ إذ ذلك كبيع دين بدين، وهو لا يجوز إن شاء الله تعالى، وإن
__________
(1) المغني: 638/2 ومابعدها، كشاف القناع: 337/2 - ط مكة، الشرح الكبير مع المغني: 533/2.
(2) كشاف القناع: 269/2، ط عالم الكتب ـ بيروت.(3/332)
قضاه ثم تصدق به عليه جاز. وقيل: يجزيه إذ هي كالهبة لما في الذمة، وهبة ما في الذمة جائزة، والأول مختار «الديوان» وقيل: يجزيه إذا قال: قضيت ما لي عليك، بشرط أن يجد من أين يتخلص مما عليه، وإن لم يجد فقولان أيضاً (1) .
وـ وقال الزيدية: ولا يجوز ولا يجزئ الإبراء للفقير عن دين عليه لرب المال بنية جعل الدين زكاة المبري، بل يقبضه رب المال من الفقير، ثم يصرفه فيه، أو يوكله بقبضه من نفسه، ثم يصرفه في نفسه أو يوكل الفقير رب المال بأن يقبض له زكاة من نفسه، ثم يقبضه عن دينه، ويحتاج إلى قبضين: الأول للزكاة، والثاني للقضاء. والعلة في عدم إجزاء الإبراء: أنه أخرج من غير العين، ومن شرطه أيضاً التمليك، ولأن الدين ناقص، فلا يجزئ عن الكامل، يعني لا تصير زكاة. وأما الفقير فقد برئ من الدين، ولا يقال: هو على غرض ولم يحصل، لأن الغرض من جهة نفسه لا يمنع حصوله من صحة البراءة. وقيل: هو لا يبرأ إذ هو في مقابلة الإجزاء ولم يحصل، إلا أن يبرئه عالما ًبعدم الإجزاء، فتصح البراءة.
وشرطوا في صرف رب المال ما يقبضه من الفقير المدين في الدين: أن يكون المقبوض من جنس الدين، وأما إذا كان من غير جنسه، فهو بيع، فلا يصح أن يتولى الطرفين واحد. وقيل: يصح مطلقاً، وغايته: أن يكون فاسداً، وهو يملك بالقبض (2) .
ز ـ كان سفيان الثوري يكره احتساب الدين من الزكاة، ولا يراه مجزئاً، كما ذكر أبو عبيد (3) .
__________
(1) شرح النيل وشفاء الغليل للعلامة محمد بن يوسف أطَّفَيِّش: 251/3 وما بعدها.
(2) شرح الأزهار لأبي الحسن عبد الله بن مفتاح: 541/1-542، مطبعة حجازي بالقاهرة.
(3) الأموال لأبي عبيد: ص 533.(3/333)
ح ـ كذلك لم ير أبو عبيد إجزاء الزكاة بجعلها عن الدين، واستدل على ذلك بأدلة ثلاثة هي:
الأول ـ أن سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصدقة (الزكاة) كانت على خلاف هذا الفعل؛ لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر أيدي الأغنياء (أي مقبوضاً منهم) ثم يردها في الفقراء. وكذلك كانت الخلفاء بعده، ولم يأتنا أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يتداينون في دهرهم.
الثاني ـ أن هذا مال تاو (والتوى: الهلاك والضياع والخسارة) غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين، ثم يستأنف الوجه الآخر، فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل؟ أي لأن حقوق العباد مبنية على المشاحّة، وحقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة.
الثالث ـ أن هذا المزكي لا يؤمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين الذي قد يئس منه، فيجعله ردءاً لماله يقيه به، إذا كان منه يائساً، وليس يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً (1) .
الترجيح: تبين لنا ضعف الأدلة التي اعتمد عليها أنصار الرأي الأول الذين يرون احتساب الدين من الزكاة، وأدركنا قوة أدلة الرأي الثاني الذين يرون أن إسقاط الدين أو الإبراء منه لا يقع عن الزكاة، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يأتي:
1 - كون الدين في الذمة غير مملوك للمزكي الدائن؛ لأن الدين لا يملك إلا بالقبض.
2 - عدم توافر القبض الذي يحقق معنى إعطاء الزكاة للمستحقين.
3 - يشترط في الزكاة وغيرها مقارنة النية للأداء دائماً.
__________
(1) الأموال لأبي عبيد: ص 533-534.(3/334)
4 - التمليك شرط لصحة أداء الزكاة بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» لام التمليك. والدّين لا يملك إلا بالقبض، كما قال الإمامية أنفسهم (1) .
والإبراء عند الحنفية والحنابلة إسقاط لا تمليك، وإذا كان الإبراء عند المالكية نقلاً للملك، وتمليكاً للمدين ما في ذمته في الجديد عند الشافعية، فإن هذا لا ينطبق عندهم على حالة الإبراء من الدين لاحتسابه من الزكاة، كما قرروا فيما سبق؛ لأن المسامحة بالدين لا تعد تمليكاً.
5 - إن هذا الإبراء يعد حيلة للتهرب من الزكاة، وطريقاً للتخلص من حقوق الفقراء.
6 - يعد هذا الإبراء مثل بيع دين في دين، كما ذكر الإباضية، وهو لا يجوز.
7 - هذا عمل مخالف للسنة النبوية ولفعل الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين.
8 - إن المال الموجود عند المدين مال تاو، أي تالف ضائع هالك.
9 - أراد المزكي وقاية ماله بهذا الدين الذي صار ميئوساً منه.
10 - قد تتحول صفة القبض كالهبة للوديع أو المستعير دون حاجة لتجديد القبض كماذكر الحنفية، لكن يتعذر القول بهذا في الزكاة لفوات وقت النية، وهو مقارنتها للأداء والإقباض. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الثامن ـ آداب الزكاة وممنوعاتها:
قال ابن جزي المالكي (2) : ممنوعات الزكاة ثلاثة:
1 - أن تبطل بالمن والأذى؛ لأن المن بالصدقة يحبطها أي يمنع ثوابها لآية: {ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة:264/2] كذلك لا يستعظم مقدارها؛ لأن ذلك محبط للأعمال.
2 - وأن يشتري الرجل صدقته.
3 - وأن يحشر المصدِّق (الساعي) الناس إليها، بل يزكيهم بمواضعهم.
__________
(1) الفقه على المذاهب الخمسة للأستاذ محمد جواد مغنية: ص 167.
(2) القوانين الفقهية: ص 99 وما بعدها.(3/335)
ووافق الحنابلة المالكية في الممنوع الثاني قائلين (1) : ليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت إليه، لما روي عن عمر أنه قال: «حَمَلتُ على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، وظننت أنه باعه برخص، فأردت أن أشتريه» فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» (2) .
وقال الشافعي وغيره: يجوز استرداد الزكاة بالشراء وغيره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم السابق: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل ابتاعها بماله ... » (3) قال النووي (4) عن حديث عمر: هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر أو نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه أو يهبه أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه، فلا كراهة فيه.
وأضاف ابن جزي قائلاً: إن آداب الزكاة ستة:
1 - أن يخرجها طيبة بها نفسه.
2، 3 - وأن تكون من أطيب كسبه ومن خياره، أي أحله وأجوده وأحبه إليه، لكن يأخذ الساعي ـ كما بينت ـ أوسط المال.
4 - أن يسترها عن أعين الناس، وهذا رأي الحنفية أيضاً، فالإسرار بإخراجها أفضل، لكونه أبعد عن الرياء، وعن إذلال الفقير، إلا إذا كان غنياً، ليقتدي به غيره من الأغنياء.
__________
(1) المغني: 651/2.
(2) متفق عليه عن زيد بن أسلم عن أبيه: ومعنى «حملت ... » أي تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، أي قصر في القيام بعلفه ومؤنته (شرح مسلم: 62/11) .
(3) رواه أبو داود وغيره.
(4) شرح مسلم: 62/11.(3/336)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : الأفضل في الزكاة: إظهار إخراجها، ليراه غيره، فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به وذلك بالنسبة للمالك في غير الأموال الباطنة، وللإمام مطلقاً. أما صدقة التطوع فالأفضل الإسرار بها اتفاقاً، لحديث السبعة الذين يستظلون بظل العرش، والذي منهم: «من أخفى صدقته حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (2) وأضاف الشافعية: إنْ أظهرها مقتدى به ليقتدى به، ولم يقصد رياء ولا سمعة ولا تأذى به الآخذ، كان الإظهار أفضل.
5 - وأن يوكل في إخراجها، خوف الثناء.
6 - وأن يدعو المزكي عند دفعها، فيقول: «اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً» ويقول الآخذ والعامل: «آجَرَك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً» .
ويمكن إضافة آداب أخرى منها (3) .
7 - أن يختار لأداء الزكاة من اتصف بالتقوى والعلم وإخفاء الفقر والقرابة أو الرحم؛ لأن في إعطاء المال عوناً على طاعة الله، وتحصيل العلم، وتحقيق التعفف، ولأن الصدقة على الأقارب فيها أجران لكونها صدقة وصلة.
8 - المبادرة لإخراج الزكاة، امتثالاً لأمر الله، علماً بأنها تجب على الفور، فلو أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها من ذي قرابة أو ذي حاجة شديدة، قال الحنابلة: فإن كان شيئاً يسيراً، فلا بأس، وإن كان كثيراً، لم يجز. قال أحمد: «لا يجزي على أقاربه من الزكاة في كل شهر» يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئاً. فإن عجلها فدفعها إليهم أو إلى غيرهم متفرقة أو مجموعة، جاز؛ لأنه لم يؤخرها عن وقتها.
9 - يندب عند الحنفية الدفع إلى الفقير بما يغنيه عن سؤال جميع ما يحتاجه في يومه لنفسه وعياله.
10 - لا حاجة لإعلام الفقير بكون المدفوع له هو زكاة، كما ذكر سابقاً.
__________
(1) المجموع: 253/6، غاية المنتهى: 302/1.
(2) رواه مالك والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد، ورواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة ورواه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد معاً.
(1) غاية المنتهى: 314/1، المغني: 685/2، الدر المختار: 95/2، فتح القدير: 28/2.(3/337)
مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة:
1 ً - سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة:
إن من الثمار اليانعة للصحوة الإسلامية المباركة العناية بفريضة الزكاة وترشيد صرفها إلى المستحقين المحتاجين أو الذين هم نتاج نمو الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم، للدلالة على إسهام شريعة الله تعالى في تحقيق التكافل أو التضامن الاجتماعي، وحل مشكلات الاقتصاد العالمية والمحلية، على أساس من الوعي الديني الصحيح، والدافع الذاتي القوي المتفاعل مع تطلعات واحتياجات المجتمع، دون حاجة إلى الإجبار والإكراه، أو القسر والضغط والتهديد بعقوبات رادعة زاجرة.
وإذا كان من أصول السياسة الشرعية الحكيمة وجود قواعد الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، فإن من أهم تطبيقاتها تخصيص أحد مصارف الزكاة الثمانية، وهو سهم المؤلفة قلوبهم، لعلاج ظاهرة اجتماعية وهي الحاجة إلى تثبيت الإىمان والإسلام في قلوب الذين يدخلون حديثاً في الإسلام، أو استمالة نفوس بعض المترددين في الاعتقاد الذي ينتظرون من يقدم لهم شيئاً من الأموال والمنافع والخدمات، أو تسخير طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل الدفاع عن حرمات الإسلام ومبادئه وقضايا الأمة المصيرية في معركتها المستمرة مع الأعداء الحاقدين، والكتاب المغرضين، وأصحاب المواقف المشبوهة.
__________
[التعليق]
تنبيه: في المجلد الأخير للكتاب: 10/543
ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول
*أبو أكرم الحلبيّ(3/338)
وإني أبين هنا بكل وضوح حقيقة مصرف «المؤلفة قلوبهم» أحد مصارف الزكاة الثمانية التي نصت عليها الآية (60) من سورة التوبة، وهي: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فريضةً من الله، والله عليم حكيم} [التوبة:60/9] .
خطة البحث:
1 - معنى المؤلف قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟
2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان.
3 - تأليف قلوب الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية.
4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد.
5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها.
6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات.
7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين.
وأبدأ ببيان هذه العناصر تباعاً.
1 - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو مازال باقياً لم ينسخ؟
المؤلفة قلوبهم: هم قوم من الكفار يراد بإغراء المال استمالة قلوبهم إلى الإسلام فيرجى خيرهم، أو منع أذاهم وضررهم بسبب الخوف من شرهم، أو جماعة من المسلمين ضعفاء النية في الإسلام يعطون من الزكاة لتقوية إسلامهم وتثبيتهم على الدين، أو ترغيب نظرائهم في الإسلام، أو لجباية الصدقات من قومهم، أو لقتال من يليهم ويجاورهم من الكفار (1) . أو هم كما قال الحسن وابن جريح: الذين كانوا يتألفون بالعطية، ولا حسبة لهم في الإسلام (2) .
__________
(1) المجموع للنووي: 206/6 وما بعدها.
(2) الأموال: ص 606.(3/339)
وعرفهم الطبري بأنهم قوم كانوا يتألفون على الإسلام، ممن لم تصح نصرته، استصلاحاً به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس ونظرائهم من رؤساء القبائل، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل (1) .
وعرفهم القرطبي بقوله: هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (2) .
وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله عز وجل، منها إعطاؤه صلّى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، ومالك بن عوف النضري وحكيم بن حزام وغيرهم، كل إنسان منهم مئة من الإبل (3) إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كل رجل منهما خمسين. وهؤلاء جميعاً قوم من رؤساء قريش وصناديد العرب الطلقاء لهم شوكة وقوة وأتباع كثيرون، بعضهم أسلم حقيقة، وبعضهم أسلم ظاهراً لا حقيقة وكان من المنافقين، وبعضهم كان من المسالمين.
وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم أعطى عَلْقمة بن عُلاَثة مئة من الإبل، ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه، «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟» ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا؟ «إنما فعلت ذلك لأتألفهم» كما في صحيح مسلم (4) .
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن يُسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» .
__________
(1) تفسير الطبري: 112/10.
(2) تفسير القرطبي: 178/8.
(3) نيل الأوطار: 166/4، فتح القدير: 14/2.
(4) المرجع السابق والمكان السابق.(3/340)
وأخرج أحمد والبخاري عن عمرو بن تَغْلِب: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب، فوالله ما
أحب أن لي بكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم حُمْر النعم» . وقال الزهري حينما سئل عن المؤلفة قلوبهم: هم من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنياً (1) .
تدل هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يعطي بعض الكفار ومن لم يرسخ الإيمان في قلبه من الزكاة مال الله عز وجل. ثم امتنع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من إعطاء المؤلفة قلوبهم، أما أبو بكر فامتنع من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس، وقال عمر: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» .
وفي ضوء هذا الواقع برز خلاف بين العلماء في مدى بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، هل ما زال باقياً لم ينسخ، أو أنه نسخ بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم؟
انقسم العلماء في هذا الشأن فريقين: فريق يقول بالنسخ: وأنه لا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها. وفريق آخر يقول بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فهم في كل زمان ولهم حق في الصدقات (2) .
ويحتاج الأمر إلى إيراد آراء المذاهب، كل مذهب على حدة، لوجود الخلاف أحياناً في المذهب الواحد، ووجود تفصيل في بعض المذاهب.
ذهب الحنفية (3) إلى سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وانتساخ سهمهم وذهابه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، إما لزوال علة الحكم وهي إعزاز الدين والحاجة إليهم في صدر الإسلام حال ضعف المسلمين، فبعد أن اعتز الإسلام زالت الحاجة، فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته
__________
(1) تفسير الطبري: 112/10.
(2) المرجع السابق: ص 113.
(3) البدائع: 44/2، رد المحتار على الدر المختار: 82/2-83، فتح القدير مع الهداية: 2/41.(3/341)
الغائية التي كان لأجلها الدفع أو الإعطاء، فإن الدفع كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، كما قال ابن عابدين نقلاً عن البحر الرائق. وقال المرغيناني في الهداية: وقد سقط سهم المؤلفة قلوبهم، لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم، وعلى ذلك انعقد الإجماع.
أو سقط سهمهم، لأن الحكم نسخ بقوله صلّى الله عليه وسلم لمعاذ في آخر الأمر عن الزكاة: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» (1) .
__________
(1) رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويروى أن عمر بن الخطاب حين جاءه عُيينة بن حصن قال: {الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيكْفُرْ} [الكهف:29/18] .(3/342)
أو لأن الناسخ كما ذكر الكاساني هو إجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاؤوا إلى أبي بكر، واستبدلوا الخط منه لسهامهم (أي إصدار كتاب رسمي بحقوقهم) فبدل لهم الخط، ثم جاؤوا إلى عمر رضي الله عنه، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: «إن رسول الله كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم، فقد أعز الله دينه، فإن ثَبَتُّم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف» فانصرفوا إلى أبي بكر، فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما، وقالوا: «أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو» ، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك الصحابة، فلم ينكروا، فيكون إجماعاً منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا سماهم الله «المؤلفة قلوبهم» والإسلام يومئذ في ضعف، وأهله قلة، وأولئك كثير، ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عزّ الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاّء. والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى.
يعني: ليس اليوم مؤلفة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: «إنما كانت المؤلفة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما ولّي أبو بكر انقطعت» .(3/343)
ويرى بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب وصححه ابن بشير وابن الحاجب واعتمده العلامة خليل في مختصره: «أن حكم المؤلَّف قلبه (وهو كافر يعطى من الزكاة ليسلم، وقيل: مسلم حديث عهد بإسلام ليتمكن إسلامه) باق لم ينسخ، أي أن تأليفه بالدفع إليه ما يزال معمولاً به، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لأجل إنقاذ مهجته من النار» .
والمشهور من المذهب والراجح انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم، بعزة الإسلام، لأن المقصود من دفع الزكاة إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إعانتهم لنا.
هذا إذا كان المؤلف كافراً يعطى ترغيباً له في الإسلام، فإن كان حديث عهد بإسلام، فحكمه باق اتفاقاً، ليتمكن إسلامه (1) .
وعليه، فإن المالكية يوافقون الحنفية في القول بنسخ سهم المؤلفة للكفار، ويخالفونهم فيما إذا كانوا حديثي العهد بالإسلام، فالحكم باق فيهم. وهو قول عمروالحسن البصري والشعبي وغيرهم، فإنهم قالوا: (نقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره) (2) ، وهو أيضاً رأي الإباضية الذين قالوا: هو عندنا سقوطه ما دام الإمام قوياً، وعنهم غنياً، وجاز إن نزل قوم بالإسلام منزلة خيف منهم ضعفه، تألفهم لدفع شرهم عنه وجلب نفعهم له (3) .
ومذهب الشافعية كالمالكية في التفصيل، فإنهم قالوا: إن المؤلفة قلوبهم من الكفار لا يعطون شيئاً من الزكاة بلا خلاف لكفرهم، والصحيح أنهم لا يعطون شيئاً البتة من خمس الخمس الآتي من الغنائم والفيء، والمرصد للمصالح العامة؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله عن تألف الكفار، والنبي صلّى الله عليه وسلم إنما أعطاهم حين كان الإسلام ضعيفاً، وقد زال ذلك، والله أعلم.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 495/1، الشرح الصغير: 660/1.
(2) تفسير القرطبي:181/8.
(3) شرح النيل:233/3.(3/344)
وأما مؤلفة الإسلام، فصنف دخلوا في الإسلام، ونيتهم ضعيفة، فيعطون تألفاً ليثبتوا، وصنف آخر لهم شرف في قومهم نطلب بتأليفهم إسلام نظائرهم، وصنف إن أعطوا جاهدوا من يليهم أو يقبضوا الزكاة من مانعيها، والمذهب أنهم يعطون، والله أعلم (1) .
وذهب الحنابلة إلى أن حكم المؤلف باق: وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره كخوارج، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، أو دفع عن المسلمين، أو نصح في الجهاد، ويعطى ما يحصل به التأليف، ويقبل قوله في ضعف إسلامه، أي أنه يعطى عند الحاجة.
ودليلهم واضح وهو العمل بنص الآية في مصارف الزكاة، والنبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» وكان يعطي المؤلفة كثيراً في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما لا يصح النسخ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم. ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزِّبْرِقان بن بدر، ولأن المقصود من دفعها إليهم
__________
(1) كفاية الأخيار: 381/1، ط قطر، المهذب: 172/1.(3/345)
ترغيبهم في الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام (1) . قال الزهري: لا أعلم شيئاً نسخ حكم المؤلفة.
ويوافق الشيعة الجعفرية والزيدية على هذا الرأي وهو أن حكم المؤلفة باق لم ينسخ ولم يبدل (2) .
والخلاصة: أن المؤلفة الكفار يعطون من الزكاة في رأي، ولا يعطون منها في رأي آخر، وأما المؤلفة المسلمون فيعطون من الزكاة اتفاقاً إذا كانوا حديثي عهد بإسلام ليتمكن الإسلام في نفوسهم كما ذكر الدسوقي، لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق منقوض بمخالفة الحنفية الذين قالوا بنسخ سهم المؤلفة قلوبهم مطلقاً كما تقدم.
والراجح لدي أن سهم المؤلفة باق لم ينسخ، ويعطون من الزكاة أو من سهم المصالح عند الحاجة، سواء أكانوا مسلمين أم كفاراً. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: وأما ما قال الحسن وابن شهاب، فعلى أن الأمر ماض أبداً، وهذا هو القول عندي، لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخاً من كتاب ولا سنة (3) .
وقال الشوكاني رحمه الله: والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة، وقد عدّ ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد، فبلغوا نحو الخمسين نَفْساً (4) .
__________
(1) المغني: 666/2، كشاف القناع: 325/2، غاية المنتهى: 310/1، نيل المآرب: 319/1.
(2) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص 83، البحر الزخار: 179/2-180.
(3) الأموال: ص 607.
(4) نيل الأوطار: 166/4 وما بعدها.(3/346)
وقال الطبري بعد أن أورد الخلاف بين العلماء في بقاء أو نسخ سهم المؤلفة: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين:
أحدهما ـ سد خَلَّة المسلمين، والآخر ـ معونة الإسلام وتقويته، فما كان في معرفة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنياً كان أو فقيراً للغزو ـ الجهاد ـ لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء، بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت (1) .
2 - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان:
المؤلفة قلوبهم كما ذكر النووي وغيره قسمان: مسلمون وكفار (2) . أما الكفار فنوعان: نوع يرجى خيره، وآخر يخاف شره. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطيهم، وقد أوضحت أن الراجح دوام إعطائهم عند الحاجة بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، إذ لم يثبت النسخ بدليل معتبر، والحاجة تتكرر في كل زمان، وتقتضيها أحوال النفوس في القوة والضعف.
وأما المسلمون فهم أربعة أنواع:
أحدها ـ قوم لهم شرف وهم السادة المطاعون في عشائرهم: فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم.
__________
(1) تفسير الطبري: 113/10.
(2) المجموع: 206/6 وما بعدها، كشاف القناع: 325/2 وما بعدها، ونقل ذلك السيد رشيد رضا في تفسير المنار: 574/10 وما بعدها.(3/347)
والثاني ـ قوم أسلموا، ونيتهم في الإسلام ضعيفة: فيعطون لتقوى نيتهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، لكل منهم مئة من الإبل، كما تقدم. ويعطون بعد النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلّى الله عليه وسلم.
والثالث ـ قوم يليهم قوم من الكفار أن أعطوا قاتلوهم.
والرابع ـ قوم يليهم قوم من أهل الصدقات أن أعطوا جبوا الصدقات.
والخلاصة: يكون مجموع الفريقين ستة أصناف.
يتبين من هذا أن أحوال استعمال سهم المؤلفة قلوبهم كثيرة، ويقدر ولي الأمر المسلم المصلحة في إعطائهم في كل زمان أخذاً برأي الحنابلة والشيعة مطلقاً، وعملاً باتفاق الفقهاء إذا كانوا مسلمين حديثي عهد بالإسلام، ليتمكن الإسلام في قلوبهم.
ويمكن إيراد أمثلة واقعية في عصرنا لأحوال المؤلفة:
أولاً ـ درء المخاطر والمفاسد عن المسلمين: إذا كان بعض غير المسلمين في موقع استراتيجي حيوي يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ويدخلوا إلى بلاد الإسلام، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة لدفع الأخطار وحماية البلاد ورعاية المصالح الإسلامية. فقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة إذا كان يرجى بعطائهم النصح في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين، بأن كانوا في الثغور أطراف بلاد الإسلام، أو كف شرهم كالخوارج ونحوهم. ثانياً ـ الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد: إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بغيرهم في الحروب، إما لضعف في المسلمين، أو لتوافر خبرة فنية عسكرية في غيرهم، أو لأغراض حربية أخرى، فيجوز صرف جزء من الزكاة في هذا المجال، للضرورة والمصلحة.(3/348)
ثالثاً ـ جباية الصدقات ونحوها: إذا تعذرت جباية الصدقات ونحوها من ضرائب الخراج والعشور (الرسوم الجمركية) وأمكن استيفاؤها من طريق بعض الكفار، فلا مانع من إعطائهم شيئاً من الزكاة، لأن بهذا العطاء يحصل المسلمون على أموال أخرى متعذرة التحصيل أو ميئوسة الدفع. والفقهاء نصوا على إعطاء المؤلفة إذا كان لهم قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بالتخويف والتهديد.
رابعاً ـ نشر الدعوة الإسلامية ومقاومة وسائل التبشير: إن إرساليات التبشير بالنصرانية وحملات التنصير في بعض البلاد الإسلامية كأفريقيا وأندونيسيا وغيرها، تحتاج لمزيد من المقاومة والحد منها وإيقاف أنشطتها بمختلف الوسائل، وحينئذ يمكن صرف جزء كبير من الزكاة في هذا المجال، كما يجوز إعطاء الزكاة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بمختلف الطرق، سواء بالمبعوثين المتخصصين، أم بطباعة الكتب الصغيرة التي تعرّف بالإسلام وترد على اتهامات ودسائس وشبهات المغرضين، لأن الهدف الأصلي من تشريع سهم المؤلفة هو الترغيب في الإسلام وتثبيت عقيدته بين الناس.
خامساً ـ الإسهام في تخفيف ويلات الكوارث من زلازل وفيضانات ومجاعات على أن تكون مقرونة بالدعوة إلى الإسلام: إذا كان المبشرون وبعض الدول النصرانية يستغلون هذه الحالات، ويبادرون إلى تقديم بعض المساعدات المادية والغذائية للمحتاجين، فأولى بنا نحن المسلمين أن نسهم بأقصى ما وسعنا من الدعم المادي المقرون ببيان سريع لفضائل الإسلام وبساطة عقيدته ويسر أحكامه في أوقات الشدة والرخاء، لأن المقصود من الزكاة سد حاجة المحتاجين، وإعانة المسلمين وتقوية الإسلام.(3/349)
سادساً ـ إغراء رؤساء الدول الفقيرة أو الأقوام المتخلفة، أو القبائل والعشائر البائسة ببعض المنح والمبالغ المالية أو الهدايا، لتأليف قلوبهم أو رجاء إسلامهم أو كف شرهم، أو تقليد رعاياهم واتِّباعهم لهم في الدخول بالإسلام، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلم مع رؤساء قريش وصناديد العرب، كما تقدم. وقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة رجاء إسلام نظرائهم، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن نياتهما وإسلامهما، رجاء إسلام نظرائهما.
سابعاً ـ تقوية ضعاف الإيمان: نص فقهاؤنا ومنهم الحنابلة على أنه يعطى سهم المؤلفة لمسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، لما روى أبو بكر في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/9] قال: «هم قوم كانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه» (1) .
3 ـ تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية:
إن الهدف الأصلي من تخصيص سهم المؤلفة في مصارف الزكاة هو نشر الدعوة الإسلامية بإغراءات مالية تجتذب بعض النفوس الضعيفة التي يستهويها المال وحب النفع المادي، ويكثر هذا الصنف في المجتمعات الفقيرة أو الضعيفة أو قليلة الإنتاج أو محدودة الدخل.
فإذا لوحظ وجود هذا الميل عند بعض الأفراد الذين يرجى إسلامهم، أو كان لهم شيء من النفوذ والتأثير في مجتمعاتهم لصالح الدعوة الإسلامية، لزمت المبادرة لإعطائهم شيئاً من مال الله تعالى، سواء على مستوى بعض الحكومات غير المسلمة، أو بعض الهيئات والتجمعات والقبائل، أو بعض الأفراد العاديين، أو الخطباء والكتاب ونحوهم ممن يرجى تأثيرهم في توجيه المجتمع نحو دعوة الله للحق والخير والتوحيد.
__________
(1) تفسير الطبري: 112/10.(3/350)
ونص فقهاؤنا كما تقدم على أن من أنواع المؤلفة: من يعطى ليقوى إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين ونحوه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطي من الزكاة صنفاً أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا (1) .
4 - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد:
يجوز للمزكي دفع الزكاة لوكيل عنه يتولى صرفها في بعض أو جميع مستحقيها أو مصارفها المنصوص عليهم في القرآن الكريم، لكن يجب دفع الزكاة على الفور باتفاق الفقهاء.
وبناء عليه يمكن تخصيص أو إيجاد مؤسسات عامة ينفق عليها من سهم العاملين، وتتولى تفقد أحوال المسلمين الجدد في أنحاء العالم، وإمدادهم بما يحتاجون، ورعايتهم مادياً ومعنوياً، صحياً وثقافياً، بإعطائهم شيئاً من أموال الزكاة، لتثبيتهم على الدين وتشجيعهم وإشعارهم بالنصرة والعون أمام أقوامهم، لأن المهم هو رعاية من أسلم والحفاظ عليه.
قال أبو عبيد: فإذا كان قوم، هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث ـ إحداهن ـ الأخذ بالكتاب والسنة.
والثانية ـ البقيا على المسلمين.
__________
(1) كشاف القناع: 326/2، المجموع: 209/6، تفسير ابن كثير: 365/2.(3/351)
والثالثة ـ أنه ليس بيائس أن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم (1) .
وقال السيد رشيد رضا: الأولى من المرابطين في الثغور وحدود بلاد الأعداء بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهماً للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفون لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها!! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم (2) .
5 - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها:
إن أي دعم للإسلام والمسلمين أمر مطلوب شرعاً، سواء فيما يتعلق باعتناق الإسلام ديناً، أو رعاية المسلمين، والحفاظ على وجودهم وأمنهم وهويتهم الشخصية الذاتية، أو حماية المصالح الإسلامية بنشر الدعوة إلى الله، وإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتوفير مختلف الإمكانات لتعليم القرآن، ونشر التربية الإسلامية، وتوعية الشباب والفتيات، وتحذيرهم من مخاطر ذوبان الشخصية الإسلامية، والتأثر بتقاليد وعادات غير المسلمين.
لذا كان مشروعاً إنفاق المال في هذا السبيل، وإعطاء شيء من المساعدات من الزكاة وغيرها لبعض الحكومات والدول غير الإسلامية لحماية الجاليات الإسلامية وتحقيق الأمن لها وتمكينها من ممارسة شعائر الإسلام، وإبقاء الصبغة الإسلامية في الأسماء، والممارسات السلوكية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا الزواج والطلاق والأيمان والنذور ونحوها من الأمور الخاصة اللصيقة بالشخصية، والمميزة لأوضاع المسلمين عن غيرهم.
__________
(1) الأموال: ص 607.
(2) تفسير المنار: 574/10.(3/352)
كما يكون مشروعاً تقديم بعض المعونات لبعض الدول غير الإسلامية للسماح للمسلمين بإقامة بعض المشاريع الإسلامية على أرضها، كبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية، ففي ذلك حماية للمسلمين أنفسهم من الضياع والانحراف وتشوه الصبغة الإسلامية النقية، وحفظ الطابع الإسلامي والعقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها، فإن أخطر ما يهدد وجود الجاليات الإسلامية في أمريكا وأوربا وغيرهما من بلاد العالم هو ذوبان الصبغة الإسلامية من نفوس الجيل الثاني الذي ولد أو تربى في تلك البلاد غير الإسلامية. أما الآباء والأمهات الذين هاجروا إلى تلك البلاد (المغتربون) وهم الجيل الأول، فيغلب عليهم تمسكهم بشيء من الدين والأخلاق الإسلامية أو العربية، والاعتزاز باللغة العربية في كلامهم وكتاباتهم.
6 - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات:
إن تحسين العلاقات بين المسلمين وغيرهم في مختلف البلاد غير الإسلامية أمر محمود في مضمار السياسة الشرعية؛ لأن تحسن العلاقات يخدم المصالح الإسلامية، وتعكر العلاقات وتوترها يضر بمصلحة المسلمين، وعلى التخصيص في حال الضعف، وفي ظروفنا الراهنة. وإذا كان الهدف من الجهاد في الإسلام هو الوصول إلى توطيد العلاقات السلمية، وحماية الأوضاع والظروف الأمنية، وإقرار المصالح المشروعة عن طريق المعاهدات، فإن كل ما يؤدي إلى هذه الغاية يكون جائزاً شرعاً.
لكن نظراً لكون فريضة الزكاة ذات صلة وثقى وأصيلة برعاية أحوال المسلمين المحتاجين وتحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وكونها مصبوغة بصبغة العبادات، فإنه يقتصر بقدر الإمكان على هذه النواحي وعلى مصارف الزكاة المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم، ولا يصح حينئذ دفع شيء من أموال الزكاة لتخفيف كوارث الأمم الأخرى.(3/353)
لكن لا مانع شرعاً من دفع شيء من أموال المسلمين العامة من غير الزكاة لغيرهم لدفع شرهم ورفع ضررهم ورجاء خيرهم، كما صرح الفقهاء، فيجوز أن ندفع شيئاً من أموالنا بصفة تبرعات في أوقات المحن والأزمات، والكوارث والنكبات كالزلازل والفيضانات، ففي ذلك نوع من الوقاية وسد الذرائع. وقد أجاز بعض الشافعية إعطاء الكفار من موارد بيت المال العامة، لتأليف قلوبهم، وهو خمس الخمس من الفيء وغيره، لأنه مرصد للمصالح العامة، وهذا منها.
وأما غير الشافعية الذين أجازوا دفع الزكاة للكفار لتأليف قلوبهم عند الحاجة، فلا ينطبق قولهم على هذه الأحول، وإنما أرادوا أن يكون التأليف مؤدياً بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الدخول في الإسلام، قال قتادة: «المؤلفة قلوبهم: هم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان نبي الله صلّى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا» (1) . ويبعد في تصور المنكوبين وحكوماتهم المعاصرة في الغالب الاتجاه نحو الإسلام من قريب أو بعيد في مثل هذه الأحوال، كل ما في الأمر أنهم يقدرون الدوافع الإنسانية الخيِّرة في المشاركة في التبرعات من أجل تخفيف وطأة الكوارث العامة، وتوجه عادة خطابات شكر دبلوماسية على تلك المبادرات الطيبة المصحوبة بالشعور الإنساني الكريم والعاطفة الأخوية بين أبناء المجتمع الإنساني، لأن الخلْق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله تعالى أنفعهم لعياله، كما ثبت في السنة النبوية، ولأن الإسلام دين الرحمة العامة للعالمين.(3/354)
7 - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين:
نحن اليوم في العالم المعاصر نتأثر كثيراً بأساليب الدعاية والإعلام وبما يكتبه مشاهير الكتاب، وتتصدره الصحف اليومية والمجلات المتداولة، لذا كان لزاماً علينا أن نتفاعل بمعطيات العصر، ونستفيد منها في الإيجابيات والسلبيات، فنعرض أجمل ما لدينا من أفكار ومبادئ ونظريات وقيم خلقية شخصية واجتماعية، إنسانية ومادية، ونحارب كل مايحاك ضد شريعتنا وأخلاقنا ونظمنا من مؤامرات، ويوجه إليها من مفتريات واتهامات، ويعرض في ثناياها من شبهات وتأويلات باطلة.
ونكون في الحالين إيجاباً وسلباً في حركة جهاد يمليه علينا الواجب ويقتضيه الدين، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» .
ولا مانع بالإضافة لما تجود به نفوس المسلمين بالتبرع بالأموال في سبيل الله، من صرف جزء من أموال الزكاة من سهم «في سبيل الله» أو من سهم «المؤلفة قلوبهم» لأصحاب الأقلام والألسنة لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين، وبيان حكمة التشريع، والدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين الوطنية والاجتماعية في أنحاء العالم ضد الافتراءات والاتهامات، ولتفنيد الشبهات، وصد التيارات وغزوات الفكر والثقافة المشوهة، وقد تبين سابقاً أن الطبري أجاز صرف سهم المؤلفة لتقوية الإسلام.
ويفضل شرعاً أن يكون صرف شيء من أموال المسلمين في الجانب الدعائي أو الإعلامي من موارد بيت المال العامة؛ لأن تلك الموارد مرصدة للمصالح العامة.
__________
(1) تفسير الطبري: 112/10.(3/355)
والخلاصة: إن صرف شيء من أموال الزكاة في أي مجال يحتاج لتقدير واع من ولي الأمر العادل، واستشارة العلماء المتخصصين أهل الرأي والمشورة. وإذا أهملت الحكومات هذا الجانب، جاز للجمعيات أو المؤسسات الإسلامية العامة، لا للأفراد، القيام بهذا الواجب وتأليف غير المسلمين بالأساليب المختلفة للدفاع عن الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية ورعاية أموال المسلمين الجدد.
2 ً - مصرف الزكاة (في الرقاب) :
إن لفريضة الزكاة شأناً كبيراً في الإسلام، وهي تقترن دائماً بفريضة الصلاة، لتصلح العلاقة مع الله تعالى بالصلاة، والعلاقة مع أبناء المجتمع المسلم بالزكاة، ولا يكون أداء الزكاة محقِّقاً الهدف المنشود منها ما لم يلتزم المزكي صرفها حسبما أمر الله تعالى به في قوله: {إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، فريضةً من الله والله عليم حكيم} [التوبة:60/9] .
ومصرف «وفي الرقاب» هو المصرف الخامس من مصارف الزكاة الثمانية التي حددتها الآية، وأبانت أوصاف مستحقي الزكاة.
وبالرغم من أن الغالب وجوده الآن في عصرنا في البلاد الإسلامية أربعة أنواع وهم الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل، فإن هناك حاجة ماسة للتعرف على مصرف «في الرقاب» بعد إلغاء الرق من العالم في العصر الحديث، ووجود حالات تقتضي صرف الزكاة فيها مثل استعباد الشعوب الإسلامية، وإنقاذ المسلمين من أشكال الاستعمار المختلفة، ومن أهمها الاستعمار الاستيطاني، ومساعدة الأسرى على الافتداء من براثن العدو، وإطلاق سراح السجناء والمسلمين من معتقلات الأعداء الجماعية والفردية وما فيها من معاملة وحشية منافية لأبسط مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان، كما في فلسطين المحتلة من قبل اليهود الذين أقاموا فيها على حساب الشعب الفلسطيني دولة إسرائيل بالتعاون مع الدول الكبرى، وبالدعم المتواصل لها.(3/356)
خطة البحث:
يمكن بحث مصرف «في الرقاب» في ضوء الخطة التالية:
1 - معنى: في الرقاب.
2 - غياب الرق في العصر الحالي.
3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين.
4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» .
5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق.
6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟
1 - معنى في الرقاب:
إن ظاهر الكلمة وإطلاقها يقتضي تعميم المعنى بحيث يشمل تحرير الأنفس البشرية وعتقها وتخليصها من قيد العبودية للبشر، وفك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، كما ذكر الزمخشري في الكشاف (1) .وقال الزجاج في قوله تعالى: «وفي الرقاب» : وفيه محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب (2) .
وإنما عبر الله تعالى في الأصناف الأربعة الأولى باللام: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} [التوبة:60/9] وفي الأصناف الأربعة الأخيرة بـ «في» : {وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة:60/9] للإيذان بأن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن «في» كما جاء في الكشاف للوعاء، فنبّه على
__________
(1) الكشاف: 198/2، طبع طهران.
(2) تفسير الرازي: 114/16، ط دار الفكر في بيروت....(3/357)
أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنّة لها ومصبّاً (1) . وكذلك في فك الغارمين من الغرم تخليص لهم وإنقاذ، وهكذا الشأن في مصرف: «في سبيل الله» إنقاذ جماعي للأمة بالجهاد، وكذا «ابن السبيل» ننقذه من أزمة وقوعه في الإفلاس، وانقطاعه في أثناء السفر إلى بلده.
وقال البجيرمي الشافعي: أضاف الله تعالى في الآية الكريمة الصدقات إلى الأصناف الأربعة بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ «في» الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجع، بخلافه في الأولى (2) .
وقال الرازي في تفسيره: ولما ذكر الله تعالى الرقاب أبدل بحرف اللام حرف «في» فقال: «وفي الرقاب» فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا، وأما «في الرقاب» فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق، ولا يدفع إليهم، ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بل يوضع «في الرقاب» بأن يؤدى عنهم. وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو، وابن السبيل كذلك. والحاصل: أن في الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة (3) أي أنه لا يشترط التمليك.
وأكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] المكاتبون (4) المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع توافر القدرة والقوة والكسب، لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتباً، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/24] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون.
__________
(1) الكشاف، المرجع والمكان السابق.
(2) بجيرمي علي الخطيب: 313/2، ط دار المعرفة في بيروت.
(3) التفسير الكبير: 115/16، المجلد 8.
(4) المكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفّاها صار حراً. والكتابة مندوبة لتحرير العبيد وإعتاقهم لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور:33/24] أي من أجل تحرير الرقاب.(3/358)
ويرى الإمامان مالك وأحمد وغيرهما أنه يشترى بسهم «في الرقاب» رقيق، فيتعين، لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها. والعتق والتحرير لا يتصور إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلماً محتاجاً، كما تقدم بيانه.
وتخصيص سهم للرقاب في الزكاة دليل واضح على تشوف وتعطش الإسلام إلى التحرير والحرية أو فك الرقاب من قيد العبودية؛ ومن حكمة الله تعالى أنه نص في القرآن على التحرير أو العتق، ولم ينص على الاسترقاق، لأن الإسلام أول من نادى بتخليص العالم من ظاهرة الرق بفتح منافذ العتق والترغيب فيه؛ لأن الإنسان خلق حراً، فإذا طرأ في الماضي بعض الأحوال العارضة التي تقتضي المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقاً، جاز الرق على سبيل المعاملة بالمثل مع الأعداء، إذ لا يعقل ألا يسترق المسلمون أحياناً بعض الأسرى، والأعداء يسترقون أسرى المسلمين.
2 - غياب الرق في العصر الحالي: كان الرق مشروعاً عند الأمم القديمة والفلاسفة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان الرومان أول من استعبد الأسرى وسخر الشعوب المغلوبة، وكانت وجوه الاسترقاق عندهم بالذات متعددة.
وكان الرق عماد الحركة التجارية والزراعية، وعدّ نظاماً أساسياً في حياة الشعوب القديمة ودعامة في كيانها الاقتصادي والاجتماعي.
ولم ير أهل الإسلام المجتهدون ـ والحالة هذه - إلغاء الرق في العالم، حتى لا تصطدم دعوة الإسلام مع مألوف النفوس، ولئلا تضطرب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فيكثر المجادلون والمعارضون، وينتشر الفقر والعوز في المجتمع، وتتعدد حينئذ جرائم العبيد قبل تحريرهم.(3/359)
وبما أن الأصل في الإنسان وفي تشريع الإسلام هو الحرية، وأن الحرية مما يحرص الإسلام على وجودها وحمايتها، فإن الإسلام عالج قضية الرق بالتدريج، وهيأ أسباباً للقضاء على الرق، ومنع سائر مصادره ما عدا رق الأسر بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، ومعاملة بالمثل، وما عدا الرق بسبب الوراثة، ثم فتح منافذ عديدة لإنهاء الرق ورغَّب فيها من طريق العتق والتحرير إما قربة مجردة لله تعالى وطريق نجاة في الآخرة، وإما كفارة عن كثير من الجرائم والذنوب كالقتل واليمين التي حنث بها الحالف، والظهار من الزوجة، وجعل مصير الأسرى في الغالب إما المن (إطلاق السراح بدون مقابل) وإما الفداء أو المفاداة (تبادل الأسرى) . وأوصى بمعاملة الرقيق بالحسنى، وخصص سهماً من الصدقات التي تجبى لتنفق في سبيل تحرير الرقاب.
وأثمرت توجيهات الإسلام في تهيئة الضمير البشري للإحساس بهذه الظاهرة المرضية والعمل على القضاء عليها تدريجاً، بدلاً من مفاجأة العالم بالتحريم الفوري البات.
وأدى هذا إلى إثبات حقيقة واضحة ماثلة للعيان هي أن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم، بل يحض عليه، ويرغب في استئصال موارده، علماً بأنه لا يجوز استرقاق حر أصلاً، ويمقت ما عرف بتجارة الرقيق والنخاسة، ويحرم كل ما كان حاصلاً في أواسط أفريقيا من اصطياد الرقيق ومعاملتهم أسوأ المعاملة، ولا يقر بحالٍ استعبادَ الشعوب واستعمارها الذي حل بصفة جماعية محل الرق الفردي، كما لا يجيز بديلاً آخر لدى أمريكا وبريطانيا وهو التفرقة العنصرية بين الأبيض والأسود.(3/360)
وهكذا ظل نظام الرقيق معمولاً به في العصور الوسطى وما بعدها إلى أن استنكرت الدول الأوربية الإتجار في الرقيق بصفة عامة في مؤتمر فيينا سنة 1815م، ووقعت اتفاقيات كثيرة بعد هذا التاريخ، آخرها اتفاقية جنيف الإضافية في 7 أيلول (سبتمبر) 1956 التي ألغت الرق وتجارة الرقيق والحالات المماثلة للرق (1) .
3 - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين:
رغب الإسلام في العتق وتحرير الرقاب بصفة عامة، وجعل أساس النجاة في الآخرة فك رقبة، قال الله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة} [البلد:11/90-13] . وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما مؤمن أعتق مؤمناً في الدنيا، أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضواً من النار» (2) .
وبادر الصحب الكرام كأبي بكر الصديق إلى إعتاق نفوس المسلمين المستضعفين الذين كانوا يعذبون من قبل زعماء قريش في صدر الإسلام، مثل بلال الحبشي وكذلك فعل عبد الله بن عمر، فإنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة.
ولجأ بعض الخلفاء المسلمين إلى استخدام مصرف «في الرقاب» في إعتاق الرقيق غير المكاتبين، كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين (3) .
ولا شك بأن هذا الفعل أصبح في تقديري قدوة فعلية سار على منواله أئمة المسلمين وعامتهم في العصور المختلفة.
وسيأتي بيان وقائع أخرى في هذا الموضوع في بحث أدّلة المذاهب على كيفية صرف سهم «في الرقاب» .
__________
(1) راجع كتابي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي ـ دراسة مقارنة: ص 441-445.
(2) رواه الطبراني عن عمرو بن عَبْسة بلفظ: «.. وأيما رجل أعتق مسلماً، فكل عضو من المعتِق بعضو من المعتَق فداء له من النار» .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم: ص 59، ط مكتبة وهبة بمصر.....(3/361)
4 - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» :
يحسن في هذا الموضوع بيان آراء العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم بصفة عامة، ثم بيان المذاهب الفقهية وأدلتها.
آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة:
للعلماء أقوال أربعة في تفسير الرقاب (1) :
القول الأول: إن المراد بقوله «في الرقاب» في فك الرقاب، فهذا السهم موضوع لعتق الرقاب، يشترى به عبيد فيعتقون، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن، وأبي عبيد، ومذهب مالك وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن العنبري، فيجوز للإمام أن يشتري رقاباً من مال الصدقة، يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين في رأي المالكية.
وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز.
والقول الثاني: إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، فلا يبتاع من الرقاب صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجرّ ولاء. وهذا قول أبي موسى الأشعري ومقاتل وسعيد بن جبير والليث بن سعد وابن وهب وابن زيد، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، ورواية عن مالك. واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنها أنه قال: قوله تعالى {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] يريد المكاتب، وتأكد هذا بقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/24] .
قال القرطبي: والصحيح الأول: لأن الله عز وجل قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات، كان له أن يشتري رقبة، فيعتقها، ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في
__________
(1) تفسير الرازي: 114/16 وما بعدها، ط دار الفكر في بيروت، تفسير القرطبي: 182/8 ومابعدها، طبع دار الكاتب العربي بالقاهرة، تفسير ابن كثير: 365/2. أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي: 470/2 وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الأموال لأبي عبيد: ص 797 وما بعدها، ط مكتبة الكليات الأزهرية.....(3/362)
سبيل الله، فإذا كان له أن يشتري فرساً بالكمال من الزكاة، جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك.
والقول الثالث: قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي: أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعتق منها في رقبة، ويعان بها مكاتب، أي أنها لإعتاق العبد المبعض والمكاتب؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك ينافي كونه تاماً فيه. والأولى جعل القولين الثاني والثالث قولاً واحداً.
والقول الرابع: قول الزهري، قال: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الصلاة. وهو رأي أبي عبيد.
وأضاف الشافعية أصحاب القول الثاني إلى ما سبق قولهم: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك، وهو قوله: {إنما الصدقات للفقراء ... } [التوبة:60/9] .
والخلاصة: إن العلماء ما عدا المالكية والحنابلة اتفقوا على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق العبد المكاتب، واختلفوا في أمرين: إعتاق الرقاب، وفك الأسارى. أما إعتاق الرقاب فقال الكيا الطبري: إن العتق إبطال ملك، وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وهذا رأي الحنفية والشافعية، فلا يصرف شيء من الزكاة في إعتاق العبد القن (الخالص العبودية)(3/363)
ورأى المالكية والحنابلة أنه يمكن المساهمة بشيء من الزكاة في إعتاق الرقاب مطلقاً. وإليه مال البخاري وابن المنذر. قال القرطبي: قد ورد حديث ينص على جواز عتق الرقبة، وإعانة المكاتب معاً، أخرجه أحمد والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «دلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة: فقال: يا رسول الله، أوليستا واحدة؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها» . وناقشه الحنفية بقولهم: ليس فيه ما يستلزم كون هذا هو معنى «وفي الرقاب» المذكور في الآية.
ويؤيده في المكاتب حديث آخر رواه الخمسة إلا أبا داود (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» .
وأما فك الأسارى: فقال أصبغ وابن القاسم: لا يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسرى. والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك أسير، وهذا قول الحنفية والشافعية. وقال ابن حبيب وابن عبد الحكم: يجوز؛ لأنها رقبة ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فك الرقاب الذي بأيدينا؛ لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة، وجائزاً من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله. وهذا قول الحنابلة.
تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم:
اتجهت المذاهب الفقهية اتجاهين في بيان سهم «في الرقاب» الاتجاه الأول المضيق للحنفية والشافعية: وهو قصر صرف هذا السهم على المكاتبين، والاتجاه الثاني الموسع ـ للمالكية والحنابلة: وهو صرف هذا السهم في تحرير الرقاب وإعتاق
__________
(1) الخمسة: أحمد وأصحاب السنن الأربعة. ورواه أيضاً الحاكم.(3/364)
العبيد مطلقاً، سواء في مذهب الحنابلة أكانوا مكاتبين أم خالصي العبودية. أما صرف شيء منه في فكاك الأسرى فأجازه الحنابلة دون المالكية في المشهور لديهم.
وأذكر خلاصة رأي كل مذهب على حدة ثم أعقبه بأدلة الاتجاهين:
1 - قال الحنفية (1) : الصنف الخامس «في الرقاب» هم المكاتبون غير الهاشميين، فيعان المكاتبون من الزكاة في فك رقابهم، وإن ملك المكاتب نصاباً زائداً على بدل الكتابة.
2 - وقال الشافعية (2) : الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون كتابة صحيحة لغير مزك، فيعطون، ولو بغير إذن ساداتهم، أو قبل حلول النجوم (الأقساط) ما يعينهم على العتق، إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم. أما مكاتب المزكي فلا يعطى من زكاته شيئاً لعود الفائدة إليه مع كونه ملكه.
3 - وقال المالكية (3) : تصرف الزكاة لرقيق مؤمن لا كافر، يعتق منها، بأن يشترى منها رقيق فيعتق، أو يكون عنده عبد أو أمة يقوِّمه قيمة عدل ويعتقه عن زكاته، وهذا معنى قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] .
ويشترط في الرقيق أن يكون خالصاً، لم تنعقد حرىة فيه كمكاتب، ومدبر، ومعتق لأجل، وأم ولد، وإلا فلا يجزئ، والمشهور أن العتق صحيح، وإن لم يجزئ عن الزكاة.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:125/3، ط بيروت، فتح القدير: 263/2، ط دار الفكر في بيروت، حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار) : 341/2، ط البابي الحلبي بمصر.
(2) شرح المجموع للنووي: 146/6 وما بعدها، مطبعة المدني بالقاهرة، بجيرمي علي الخطيب:313/2 وما بعدها، ط دار المعرفة في بيروت.
(3) مواهب الجليل للحطاب: 350/2، الطبعة الثانية 1978، الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه: 661/1.(3/365)
ويشترط أيضاً ألا يعتق الرقيق بالملك نفسه على رب المال، كالأبوين والأولاد والحواشي القريبة: الإخوة والأخوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سمرة ـ «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» . فإن اشترى رب المال من زكاته من يعتق عليه فلا يجزئه إلا أن يدفعها الإمام، فيشتري بها والد ربّ المال ولده، ويعتقه، فيجزئ حيث لا تواطؤ.
ويكون ولاء المعتق إذا عتق من الزكاة للمسلمين، سواء صرح المعتق بذلك أو سكت، بل ولو شرطه لنفسه، وأما لو قال: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين، فلا تجزئه عن الزكاة، والعتق لازم، والولاء له؛ لأن الولاء لمن أعتق.
والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك الأسير، وقال ابن حبيب: هو أحق وأولى من فك الرقاب التي بأيدينا، ووافقه ابن عبد الحكم.
4 - ومذهب الحنابلة (1) كما ذكروا في كتبهم المعتمدة: أن الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب، لعموم قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] . قال في المبدع: لا يختلف المذهب أنهم، أي المكاتبون من الرقاب، بدليل قوله: أعتقت رقابي، فإنه يشملهم؛ وفي قوله تعالى: {فكاتبوهم} [النور:33/24] إشعار به ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان الإعطاء له إعطاء لسيده، لا في الرقاب.
وللمكاتب الأخذ قبل حلول نجم (قسط) لئلا يؤدي إلى فسخ الكتابة عند حلول النجم، ولا شيء معه.
والأولى دفع الزكاة إلى سيد المكاتب، من دفع الزكاة إلى المكاتب.
__________
(1) كشاف القناع للبهوتي: 279/2 وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الروض المربع بشرح زاد المستنقع للشيخ منصور بن يونس البهوتي: ص 151، المغني والشرح الكبير: 709/2.(3/366)
ويجوز أن يشتري المزكي من الزكاة رقبة لا تعتق عليه. فيعتقها، لقول ابن عباس. ويجوز أن يعتق قِنّه أو مكاتَبه عنها؛ لأنه فك رقبة الأسير، فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولأن فيه إعزازاً للدين، أشبه ما يدفع إلى الغارم لفك رقبته من الدين.
والولاء عند الحنابلة للمعتق: لما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما الولاء لمن أعتق» . أما ما أعتقه الساعي من الزكاة أو الإمام منها، فولاؤه للمسلمين، لأنه نائب عنهم.
أدلة المذاهب:
أدلة الاتجاه الأول للحنفية والشافعية ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على أن سهم «في الرقاب» يصرف في مساعدة المكاتبين على تحرير أنفسهم بما يلي:
1 - إن قوله عز وجل: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] ، كقوله تعالى: {وفي سبيل الله} [التوبة:60/9] وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب، ولا يكون دفعاً إليهم إلا على مذهبنا أي للمكاتبين.
وأما من قال: يشترى به عبيد، فليس بدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى ساداتهم، ولأن في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه، فينبغي أن يكون كذلك هنا، ولأن ما قالوه يؤدي إلى تعطيل هذا السهم في حق كثير من الناس؛ لأن من الناس من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشتري به رقبة يعتقها، وإن أعتق بعضها قوِّم عليه الباقي، ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة إلى الإمام بالإجماع، فيؤدي إلى تفويته. وأما على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم، ولو كان درهماً.
وتخصص كلمة «في الرقاب» بالمكاتبين لعدم وجود قرينة لصرف الزكاة إلى القن، وقد وجدت القرينة في الكفارة بالعبد القن، وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن، ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا، فحملناه على المكاتبين لما ذكرناه أولاً (1) .
__________
(1) شرح المجموع:146/6 - 147.(3/367)
وخلاصة هذا الدليل اشتراط التمليك لمستحق الزكاة، وهذا يتصور في المكاتب دون العبد القن (الخالص العبودية) فلا تصرف الزكاة في الإعتاق، أي إعتاق الرقبة من الزكاة، وإنما يعان المكاتبون من الزكاة على الكتابة. ويلاحظ أن اختلاف التعبير بين الأصناف الأربعة الأولى وبين الأربعة الأخيرة دليل على عدم اشتراط التمليك المطلق في الأخيرة كما ذكر الرازي.
2 - إن عتق الرقبة لا يسمى صدقة، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة، لأن بائعها أخذه ثمناً لعبد، فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب، فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ (1) .
وأيضاً فإن الصدقة تقتضي تمليكاً، والعبد لم يملك شيئاً بالعتق، وإنما سقط عن رقبته، وهو ملك للمولى، ولم يحصل ذلك الرق للعبد، لأنه لو حصل له، لوجب أن يقوم فيه مقام المولى، فيتصرف في رقبته، كما يتصرف المولى، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى، وإنه لم يملك بذلك شيئاً، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزياً من الصدقة، إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه.
وأيضاً فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير، ولذلك ثبت ولاؤه منه، فغير جائز وقوعه عن الصدقة. ولما قامت الحجة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص الرازي: 135/3.(3/368)
وجب ألا يكون الولاء لغيره، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق، ثبت أن المراد به المكاتبون (1) . والجواب عن اشتراط التمليك ذكر سابقاً.
3 - روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته، أو مجاهداً في سبيله، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا، وذلك موافق لقوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] .
فلما قال: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق، وليس هو ابتياعها وعتقها؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائْع، وليس في ذلك قربة (2) ، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة، لأنه قبلها يحصل للمولى، وإذا كان مكاتباً فما يأخذه لا يملكه المولى، وإنما يحصل للمكاتب، فيجزي من الزكاة (3) .
4 - إن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبته من غير تمليك، ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره، فلا يجزي من زكاته، وإن دفعه إلى الغارم، فقضى به دين نفسه، جاز، كذلك إذا دفعه إلى المكاتب، فملكه، أجزأه عن الزكاة، وإذا أعتقه لم يجزه؛ لأنه لم يملكه، وحصل العتق بغير قبوله ولا إ ذنه (4) .
5 - أخرج عن الحسن البصري والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالوا: في الرقاب هم المكاتبون (5) .
__________
(1) المرجع والمكان السابق.
(2) وهذا كلام عجيب، أليس بذل المال في سبيل إعتاق الرقيق من أعظم القربات عند الله تعالى؟ قال الله تعالى: {وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة} [البلد:12/90-13] .
(3) المرجع السابق....
(4) المرجع السابق.
(5) فتح القدير: 263/2.(3/369)
6 - أخرج الطبري في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حث الناس عليّ، فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة، وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتماً حتى ألقى الناس عليه سواداً كبيراً، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه، ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرد على الناس. وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب.
وهذا في تقديري لا يمنع من صرف الزكاة في إعتاق الرقبة.
أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق الرقيق بما يأتي:
1 - أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري المزكي رقبة فيعتقها استقلالاً، فهو تعبير مطلق يؤخذ فيه على إطلاقه.
2 - لو اختصت الرقاب بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين؛ لأنه غارم.
3 - إن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب؛ لأنه قد يعان ولا يعتق، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة.(3/370)
الرأي الراجح:
يتبين من مقارنة أدلة المذاهب المتقدمة رجحان رأي أصحاب الاتجاه الثاني؛ لأن قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه. والذي أرجحه من الآراء هو قول ابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري وأبي عبيد ومذهب الحنابلة: وهو جعل «في الرقاب» في معونةالمكاتبين وفي عتق الأرقاء جميعاً وفي فكاك الأسرى، عملاً بإطلاق التعبير القرآني: «في الرقاب» . قال ابن عباس: الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة. ولا خوف من أن يصير إلى المزكي ميراث عتيقة بالولاء، لأن صاحب الولاء يتحمل دية وأرش وتعويض الجنايات التي يرتكبها المعتَق، فيكون أحدهما بالآخر، أي الغنم بالغرم. وإذا كان يجوز عود الزكاة إلى الأقارب ميراثاً للمزكي في سنة النبي صلّى الله عليه وسلم، فلا مانع من رجوع الولاء للمزكي، قال أبو عبيد: فإذا كانت السعة منه صلّى الله عليه وسلم في رجوع الصدقة بعينها ميراثاً للمزكي، فرجوع وراثة الولاء أوسع وأحرى بالجواز (1) .
وهذا الاتجاه يجمع بين الآراء المختلفة، وهو الظاهر وهو الحق، لأن الآية تحتمل الأمرين (المكاتب والرقيق القن) وحديث البراء المتقدم فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة، والمبعدة من النار.
__________
(1) الأموال: ص 799.(3/371)
5 - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق:
رغب الله تعالى في كتابة العبد على أقساط معينة مؤجلة ليتمكن من عتق نفسه واسترداد حريته، في قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور:33/24] وقد أخرج النسائي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعاً أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «في الآية ربع الكتابة» (1) . وقد فسر قوله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة:60/9] بإعانة المكاتبين. وأخرج ابن جرير وغيره عن علي رضي الله عنه أنه قال: أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وقد أوردتُ أحاديث في أدلة المذاهب لعون المكاتب. وعملاً بهذا الأمر الإلهي والأحاديث الواردة في ترغيب السيد بمكاتبة عبده، بادر الناس في الماضي إلى مساعدة المكاتب من الزكاة وغيرها لتحرير رقبته من العبودية، حتى وإن ملك نصاباً زائداً على بدل الكتابة، كما يرى الحنفية، وبشرط ألا يكون مع المكاتب ما يفي بنجومه (أقساطه) كما يرى الشافعية والحنابلة، فيعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب ولو قبل حلول أجل ميعاد تسديد النجم (القسط) . ويعطى من الصدقات غير الزكاة في مذهب المالكية.
والتطبيق الفعلي لسهم «في الرقاب» وصرفه في المكاتبين كان في الغالب يتم بإعطائهم من الزكاة النقدية أو العينية، كالزروع والثمار والأنعام، أو من الصدقات، كما دل عليه الحديث السابق في أدلة المذاهب عن الحسن البصري أن مكاتباً قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، عارضاً حاجته،
__________
(1) وليس في الآية تعرض لمقدار ما يعطى المكاتب، إنما فيها الأمر بالمساعدة، ولهذا قال النسائي: والصواب وقفه.(3/372)
وطلب حث الناس على مساعدته، فاستجاب أبو موسى لطلبه، وأمر الناس بمعاونته، فبادروا إلى إلقاء بعض أمتعتهم عليه، فجمعت ثم بيعت وأعطى ـ أبو موسى ـ المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل الزائد في مكاتبين آخرين، ولم ترد الأمتعة على الناس.
والقصد من المساعدة واضح وهو تمكين المكاتب من تحرير نفسه من الرق، وتصفية آثار العبودية؛ لأن الإسلام شجع على العتق، وتخليص الأرقاء من الرق. ولا سبيل إلى التحرير إذا لم يعتقه سيده إلا بالمعاوضة، أي الكتابة على أقساط معينة، أخرج أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» .
6 - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟
الاصطلاح الشرعي لكلمة «الرقاب» واضح في أن المراد بهم تحرير الأرقاء من العبودية، فردا كانوا أو جماعة. أما الاستعمار وأشكاله العنصرية البغيضة فلا ينطبق عليه مفهوم الاسترقاق أو الرق المعروف، لذا يصعب القول بأن الاستعمار كالاسترقاق، أو أن تعطى الشعوب المستعمرة من سهم «الرقاب» لتحرير نفسها من الاستعمار. ولكن رأينا السيد الشيخ رشيد رضا يجيز إعطاء الشعوب المستعمرة من الزكاة للتحرر من الاستعباد وإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، إذا لم يكن مصرف «في الرقاب» مستعملاً في تحرير الأفراد بسبب إلغاء الرق من العالم (1) . وتابعه على ذلك أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه: «الإسلام عقيدة وشريعة» وسبب هذا الاتجاه أن الصرف حينئذ
__________
---
(1) تفسير المنار: 515/10، ط دار المعرفة في بيروت.(3/373)
يعد إنقاذاً للمسلمين من رق الكفار، وما الزكاة المعطاة إلا بذل العشر أو ربع العشر مما فضل عن حاجة الأغنياء.
وهذا توسع في فهم مدلول «الرقاب» ومجاز في توجيه الكلمة نحو نظام مستحدث يختلف شرعاً وعملاً عن الرق المألوف، وإن أشبهه في عيوبه ومثالبه، فليس للمستعمرين أي حكم شرعي من أحكام الرق يمكن تطبيقه ما عدا وجوب جهادهم وطردهم من البلاد.
ويمكن مساعدة الشعوب المضطهدة أو المستعمرة أو التي احتلت أراضيها بالقوة والظلم والاغتصاب من مصرف «في سبيل الله» أي مصرف الجهاد، ولكن بقدر محدود ومن الصدقات الأخرى الحرة، ومن موارد الدولة العامة التي تنفق على المصالح العامة وتجبى على أساس آخر غير الزكاة.
خاتمة البحث
تبين من البحث أن مصرف «في الرقاب» أحد مصارف الزكاة يشمل بإطلاقه تحرير الأرقاء من الرق، ومعونة المكاتبين على تحرير أنفسهم، وفكاك الأسرى المسلمين من قيد الأسر وأغلال الحبس في بلاد الكفار.
وبما أن الرق انتهى ولله الحمد من العالم، فيمكن تخصيص جزء من الزكاة لفك الأسرى المسلمين أخذاً بمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه؛ لأنه فيه فك رقبة من الأسر.
كما يمكن إعانة الشعوب المستعمرة من مصرف الجهاد: «في سبيل الله» لتتمكن من طرد المستعمرين وتحرير البلاد من رجسهم، وتخليصهم من ويلات الاستعمار.(3/374)
الفَصْلُ الثَّاني: صَدَقَةُ الفِطْرِ
وفيه مباحث خمسة:
المبحث الأول ـ مشروعيتها وحكمها ومن يؤمر بها.
المبحث الثاني ـ وقت وجوبها وحكم تعجيلها وتأجيلها.
المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره.
المبحث الرابع ـ مندوباتها ومباحاتها.
المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها.
المبحث الأول ـ مشروعية صدقة الفطر وحكمها ومن يؤمر بها:
شرعت زكاة الفطر في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، عام فرض صوم رمضان، قبل الزكاة، وأدلة وجوبها أخبار، منها:
1 - خبر ابن عمر: فيما رواه الجماعة إلا ابن ماجه: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» والصاع قدح وثلث بالكيل المصري الحالي، وبالقديم قدحان، أو ثُمن مد دمشقي وهو المعروف بالثمنية ويساوي (2751 غم) وعند الحنفية (3800 غم) ، وفي الخبر دليل على اشتراط الإسلام في وجوب الفطرة، فلا تجب على الكافر.
2 - وخبر أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أَقِط، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت» (1) والمراد بالطعام هنا الحنطة، والأقط: لبن يابس غير منزوع الزبد، كما فسره الشوكاني. والمشهور أنه منزوع الزبد.
3 - وخبر ابن عباس: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهْرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعْمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصَّدَقات» (2) . والرفث: الفحش من الكلام، والطعمة: هو الطعام الذي يؤكل. وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة.
4 - وخبر عبد الله بن ثعلبة: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، فقال: أدّوا صاعاً من بُرّ أو قمح أو صاعاً من تمر أو شعير عن كل حر أو عبد صغير أو كبير» (3) .
وهي تدل على أن مقدار الفطرة صاع من حنطة أو شعير أو تمر، وخصص بعضهم هذه الأخبار بأحاديث أخرى تدل على الاكتفاء بنصف صاع من قمح، منها حديث ابن عباس مرفوعاً عند الحاكم، بلفظ: «صدقة الفطر: مدان من قمح» وأخرج نحوه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً أيضاً، وغير ذلك (4) .
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 179/4) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه (المرجع السابق: 184/4) .
(3) أخرجه عبد الرزاق. ورواه أبو داود وغيره عن الزهري من وجوه (نصب الراية: 406/2) .
(4) انظر نيل الأوطار: 183/4.(3/375)
وحكمتها: جبر نقص الصوم، وإغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد، قال وكيع بن الجراح: (زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة) ، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السجود نقصان الصلاة) وورد (أغنوهم عن الطوف في هذا اليوم) (1) أي أغنوا الفقراء عن السؤال في يوم العيد.
وحكمها: الوجوب على كل حر مسلم، قادر عليها وقته (2) ، للأوامر السابقة في الأحاديث، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض. وقال إسحاق: هو كالإجماع من أهل العلم.
وقال بعض الحنفية (3) : واجبات الإسلام سبعة: الفطرة، ونفقة ذي الرحم، ووتر، وأضحية، وعمرة، وخدمة أبويه، والمرأة لزوجها. والمعنى أن هذه السبعة من واجبات الإسلام، وهناك واجبات أخرى كصلاة الجماعة والعيدين وغيرهما.
والمأمور بها أو من تجب عليه: هو عند الحنفية (4) : كل حر مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى، عاقل أو مجنون، إذا كان مالكاً لمقدار النصاب (من أي مال كان) الفاضل عن حاجته الأصلية: (من مسكن وثياب وأثاث ـ متاع البيت ـ وفرس وسلاح وخادم، ومن حوائج عياله أيضاً، ومن دينه كذلك) . وعلى الجد أن يخرج صدقة الفطر عن أولاد ابنه دون أولاد ابنته إذا كانوا فقراء عند فقد أبيهم.
فيشترط لوجوبها أمور ثلاثة (5) : الإسلام والحرية وملك النصاب الفاضل
__________
(1) رواه الدارقطني وابن عدي والحاكم في علوم الحديث عن ابن عمر. (2)
الدر المختار: 98/2 وما بعدها، الفتاوى الهندية: 179/1، الشرح الصغير: 627/1، بداية المجتهد: 269/1، مغني المحتاج: 402/1، المهذب: 163/1، المغني: 55/3، كشاف القناع: 287/2.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 109/2.
(4) الكتاب مع اللباب: 159/1 ومابعدها، الدر المختار: 99/2، 101.
(5) فتح القدير: 29/2-31، الدر المختار: 99/2، الفتاوى الهندية: 179/1-181.(3/376)
عن حاجته الأصلية، أما الأمران الأول والثاني فللأحاديث السابقة، وأما ملك النصاب، فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» (1) وقدر اليسار بالنصاب؛ لأن الشرع قدره به، فاضلاً عما ذكر من الحوائج الأصلية؛ لأن المستحق بالحاجة الأصلية كالمعدوم.
ويؤديها من وجبت عليه عن نفسه وأولاده الصغار، والمعتوهين والمجانين الفقراء، وعن مماليكه للخدمة، لا للتجارة، ويؤدي المولى المسلم الفطرة عن عبده الكافر؛ لأن السبب قد تحقق، والمولى من أهل الوجوب.
ولا يجب عليه أن يؤديها عن أبيه وأمه، وإن كانا في عياله؛ لأن لا ولاية له عليهم كالأولاد الكبار. ولا يجب أن يؤدي عن إخوته الصغار؛ ولا عن قرابته، وإن كانوا في عياله. ولا يؤدي عن زوجته ولا عن أولاده الكبار، وإن كانوا في عياله، لكن لو أدى عنهم أو عن زوجته بغير أمرهم، أجزأهم استحساناً.
وعدم أدائها عن الزوجة لقصور الولاية والمؤنة، فإنه لا يليها في غير حقوق الزواج، ولا يمونها في غير النفقات الدورية كالمداواة، والأصل العام عندهم: أن صدقة الفطر متعلقة بالولاية والمؤنة، فكل من كان عليه ولايته ومؤنته ونفقته، فإنه تجب عليه صدقة الفطر فيه، وإلا فلا.
وقال الجمهور (2) : زكاة الفطر على كل حر صغير أو كبير، ذكر أو أنثى من المسلمين، أي كما قال الحنفية، فلا فطرة على كافر، إلا عند الشافعية والمالكية في عبده وقريبه المسلم في الأصح، ولا فطرة عند المالكية والشافعية على رقيق، لا عن
__________
(1) رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة، وهو في الصحيحين «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (نصب الراية: 411/2) .
(2) الشرح الكبير: 504/1-506، مغني المحتاج: 402/1-404، 407، كشاف القناع: 287/2-290، المغني: 69/3،71،76.(3/377)
نفسه ولا عن غيره، لعدم ملكه. وعليه الفطرة عند الحنابلة، لعموم الحديث السابق: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين» وتجب عند الجمهور خلافاً للحنفية على كل من ملك قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، فمن ملك فاضلاً عما يحتاجه لنفسه ولمن تلزمه مؤنته من مسكن وخادم يحتاج إليه ودابة وثياب ونحوها من الحاجات الأصلية، وجبت عليه الفطرة، حتى عند المالكية لو كان قادراً على الفطرة بالاستدانة مع رجاء الوفاء؛ لأنه قادر حكماً.
ومن لزمه فطرة نفسه، لزمه فطرة من تلزمه نفقته بقرابة كوالديه الفقيرين، أو زوجية أو ملك رقيق إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي عنهم، لحديث مسلم: «ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر» والباقي بالقياس عليها، ولا تلزم المسلم فطرة القريب والزوجة والعبد الكفار، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الخبر السابق: «من المسلمين» وذلك خلافاً للحنفية في العبد الكافر.
ويظل الأب ملزماً بفطرة أولاده الصغار حتى البلوغ، وعند المالكية: يستمر الإلزام للإناث حتى وقت الدخول بالأزواج أو طلب الدخول من غير مانع. وذكر الحنابلة أن الفطرة تجب في مال الصغير إذا لزمته مؤنة نفسه لغناه بمال أو كسب، ويخرجها أبوه منه.(3/378)
ويشمل ذلك عند المالكية والحنابلة زوجة الأب الفقير وخادمه أيضاً، وخادم الزوجة إن لزمته نفقته: لأن الفطرة تابعة للنفقة، لعموم حديث ابن عمر عند الدارقطني: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم بصدقة الفطر: عن الصغير والكبير، والحر والعبد، ممن تمونون» . وقال الشافعية: لا يلزم في الأصح الابن فطرة زوجة أبيه، وإن وجبت نفقتها على الولد؛ لأن الولد يتحمل ما يلزم الأب حال إعساره وهو النفقة، أما الفطرة فلا تلزم حال الإعسار، ولو أخرج الرجل من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز، كأجنبي أذن، أما الكبير فلا بد من إذنه. ولا خلاف في أن من وجبت فطرته على غيره كالزوجة عند غير الحنفية تؤدى عنها ولو من غير إذن، سواء أكان حاضراً أم غائباً علمت حياته.
هل تجب زكاة الفطر عند الحنفية بقدرة ممكّنة أو ميسِّرة؟
القدر الممكِّنة: هي ما يجب بمجرد التمكن من الفعل، فلا يشترط بقاؤها لبقاء الوجوب.
والقدر الميسرة: هي ما يجب بعد التمكن بصفة اليسر، فيشترط بقاؤها لبقاء الوجوب.
قال الحنفية (1) : تجب الفطرة والأضحية، ونفقة المحارم على الراجح بقدرة ممكنة، فلا يشترط بقاء هذه القدرة وهي النصاب الشرعي هنا لبقاء الوجوب؛ لأنها شرط محض، لا بقدرة ميسرة، فلا تسقط الفطرة وكذا الحج بهلاك المال بعد الوجوب، فلو هلك المال بعد فجر يوم الفطر لا تسقط الفطرة، بخلاف الزكاة والعشر والخراج فإنها تسقط بهلاك المال، لاشتراط بقاء القدرة الميسرة: وهي وصف النماء.
لكن إذا مات من عليه زكاة أو فطرة أو كفارة أو نذر، لم يؤخذ من تركته إلا أن يتبرع ورثته بذلك، وهم من أهل التبرع، فإن امتنعوا لم يجبروا عليه، وإن أوصى بذلك يجوز، وينفذ من ثلث ماله.
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 99/2 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 182/1.(3/379)
وقال الجمهور (1) : إن مات من وجبت عليه الفطرة قبل أدائها، أخرجت من تركته؛ لأن حق الله سبحانه وحق الآدمي إذا تعلقا بمحل واحد، فكانا في الذمة أو كانا في العين، تساويا في الاستيفاء، أي إن الزكاة حق مال لزم في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. وهذا هو الراجح عندي.
المبحث الثاني ـ وقت وجوب زكاة الفطر وحكم تعجيلها وتأجيلها:
للفقهاء رأيان في وقت وجوب الفطرة وما يتبعه، فقال الحنفية (2) :تجب الفطرة بطلوع الفجر من يوم عيد الفطر؛ لأن الصدقة أضيفت إلى الفطر، والإضافة للاختصاص، والاختصاص للفطر باليوم دون الليل؛ إذ المراد فطر يضاد الصوم، وهو في اليوم دون الليل؛ لأن الصوم فيه حرام. فمن مات قبل ذلك أي طلوع الفجر، لم تجب فطرته، ومن أسلم أو ولد بعد طلوع الفجر لم تجب فطرته.
ويصح تعجليها وتأخيرها، فيجوز أداء صدقة الفطر إذا قدمه بعد دخول رمضان على وقت الوجوب وهو يوم الفطر، أو تأخيره عنه، أما جواز التقديم فلوجود سبب الوجوب، فصار كأداء الزكاة بعد وجوب النصاب، ولا تفصيل فيه بين مدة ومدة. وأما جواز الأداء بعد يوم الفطر فلأنه قربة مالية معقولة المعنى، فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كالزكاة. والخلاصة: أنه يجوز تقديمها قبل يوم الفطر ولو قبل دخول رمضان، وإن أخروها عن يوم الفطر لم تسقط، وكان عليهم إخراجها، وكونها قبل دخول رمضان هو ظاهر الرواية، لكن المفتى به اشتراط دخول رمضان، فلا يجوز تقديمها عن رمضان.
__________
(1) المغني: 80/3 ومابعدها، المهذب: 175/1.
(2) تبيين الحقائق: 310/1 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 179/1، فتح القدير: 41/2، اللباب: 161/1 ومابعدها، الدر المختار: 106/2.(3/380)
وقال الجمهور (1) : تجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلةعيد الفطر، أي أول ليلة العيد؛ لأنها مضافة في الأحاديث المتقدمة إلى الفطر من رمضان، فكانت واجبة به؛ لأن الإضافة تقتضي الاختصاص، وأول فطر يقع من جميع رمضان ولا صوم بعده بمغيب الشمس من ليلة الفطر، وانقضاء الصوم بغروب الشمس، وسبب الخلاف بين الجمهور والحنفية: هل زكاة الفطر عبادة متعلقة بيوم العيد؛ أو بخروج شهر رمضان؛ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان.
فمن مات بعد الغروب تجب عليه، أما من ولد أو أسلم بعد الغروب أو كان معسراً وقت الوجوب ثم أيسر بعده، فلا فطرة عليه عند الجمهور، لعدم وجود سبب الوجوب وعليه الفطرة عند الحنفية. ولا تسقط عند الجمهور بعد وجوبها بموت ولا غيره، وتبقى في ذمته أبداً حتى يخرجها.
أما تعجيلها: فيجوز عند الشافعية تقديم الفطرة من أول شهر رمضان؛ لأنها تجب بسببين:
صوم شهر رمضان، والفطر منه، فإذا وجد أحدهما، جاز تقديمها على الآخر، كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول، ولا يجوز تقديمها على شهر رمضان؛ لأنه تقديم على السببين، فلا يجوز كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب.
ويجوز عند المالكية والحنابلة تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين، لا أكثر من ذلك، لقول ابن عمر: «كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين» (2) ولا تجزئ قبل ذلك، لفوات الإغناء المأمور به في
__________
(1) بداية المجتهد: 273/1، القوانين الفقهية: ص 112، الشرح الصغير: 677/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 401/1 ومابعدها، المهذب: 165/1، كشاف القناع: 294/2، المغني: 67/3-69، الشرح الكبير: 508/1.
(2) رواه البخاري.(3/381)
قوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» (1) ، بخلاف زكاة المال.
وأما تأخيرها عن صلاة العيد:
فقال الشافعية: المستحب ألا تؤخر عن صلاة العيد، للأمر بها قبل الخروج إليها في الصحيحين، فإن أخرت استحب الأداء أول النهار للتوسعة على المستحقين، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذر، كغيبة ماله أو المستحقين، لفوات المعنى المقصود، وهو إغناؤهم عن الطلب في يوم السرور، فلو أخر بلا عذر، عصى وقضى، لخروج الوقت على الفور، لتأخيره من غير عذر. أما تأخير زكاة المال عن التمكين فتكون أداء، والفرق أن الفطرة مؤقتة بزمن محدود كالصلاة.
وقال الحنابلة مثل الشافعية: آخر وقت الفطرة: غروب الشمس يوم الفطر، للحديث المتقدم: «أغنوهم عن الطلب هذا اليوم» فإن أخرها عن يوم العيد، أثم لتأخيره الواجب عن وقته، ولمخالفته الأمر، وعليه القضاء؛ لأنها عبادة، فلم تسقط بخروج الوقت، كالصلاة. والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة أو قدرها في موضع لا يصلى فيه العيد، كما سأوضح.
وقال المالكية: يجوز إخرجها بعد صلاة العيد يوم الفطر، ولا تسقط الفطرة بمضي زمنها، بل هي باقية في الذمة أبداً حتى يخرجها، كغيرها من الفرائض، وأثم إن أخرها عن يوم الفطر مع القدرة، فإن مضى زمنها مع العسر تسقط عنه.
__________
(1) رواه الدارقطني.(3/382)
المبحث الثالث ـ جنس الواجب وصفته ومقداره:
قال الحنفية (1) : تجب زكاة الفطر من أربعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقدرها نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير أو تمر أو زبيب، والصاع عند أبي حنيفة ومحمد ثمانية أرطال بالعراقي، والرطل العراقي مئة وثلاثون درهماً، ويساوي 3800 غراماً؛ لأنه عليه السلام كان يتوضأ بالمد رطلين، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال (2) ، وهكذا كان صاع عمر رضي الله عنه (3) وهو أصغر من الهاشمي، وكانوا يستعملون الهاشمي.
ودليلهم على تقدير الفطرة بصاع أو نصفه: حديث ثعلبة بن صعير العذري أنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بُرّ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير» (4) .
دفع القيمة عندهم: يجوز عند الحنفية أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم أو دنانير أو فلوساً أو عروضاً أو ما شاء؛ لأن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم» والإغناء يحصل بالقيمة، بل أتم وأوفر وأيسر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، فيتبين أن النص معلل بالإغناء.
__________
(1) البدائع: 72/2 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 179/1، فتح القدير: 36/2-41، الكتاب مع اللباب: 147/1،160، تبيين الحقائق: 308/1 وما بعدها.
(2) روي من حديث أنس عند الدارقطني من ثلاثة طرق، ومن حديث جابر عند ابن عدي، وهو ضعيف، والصحيح ما روي عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل إلى خمسة أمداد، كما ذكر البيهقي (نصب الراية: 430/2) .
(3) رواه ابن أبي شيبة عن حسن بن صالح (المرجع السابق) .
(4) رواه أبو داود، وروي أيضاً عن ابن عباس في معناه (نيل الأوطار: 183/4، نصب الراية: 406/2 وما بعدها، 418) وهو حديث معلول مضطرب، بسبب الاختلاف في اسم أبي صعير، وفي اللفظ.(3/383)
وقال الجمهور (1) : تؤدى زكاة الفطر من الحبوب والثمار المقتاتة وهي صاع، وتفصيل كلامهم ما يأتي.
يرى المالكية: أنها تجب من غالب قوت البلد من أصناف تسعة فقط: قمح أو شعير أو سُلت (نوع من الشعير) أو ذرة أو دَخَن أو تمر أو زبيب أو أقط: وهو يابس اللبن المخرج زبده، فيتعين الإخراج مما غلب الاقتيات منه من هذه الأصناف التسعة، ولا يجزئ الإخراج من غيرها، ولا منها إن كان غالب القوت غيره، إلا أن يخرج الأحسن، كالقمح بدل الشعير. وزكاة الفطر صاع (أربعة أمداد) والمد: حفنة ملء اليدين المتوسطتين.
وذهب الشافعية إلى أنها تجب من غالب قوت البلد أو المحل؛ لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي، والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة، ويجزئ الأعلى عن الأدنى، لا العكس، وذلك بزيادة الاقتيات في الأصح لا بالقيمة، فالبُرّ خير من التمر والأرُزّ، والأصح أن الشعير خير من التمر، وأن التمر خير من الزبيب، ولا يبعَّض الصاع المخرج عن الشخص الواحد من جنسين، ولو كان في بلد أقوات لا غالب فيها تخير، والأفضل أشرفها، والواجب: الحب السليم، فلا يجزئ المسوس والمعيب وإن كان يقتاته. ومقدارها صاع وهو في الأصح ست مئة درهم وخمسة وثمانون درهماً وخمسة أسباع درهم (685 و 8/5) أو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وأربعة أرطال ونصف وربع رطل وسبع أوقية بالمصري.
وقرر الحنابلة: أنه يجب المنصوص عليه من البر والشعير والتمر والزبيب والأقط، فإن لم توجد هذه الأصناف يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار، ولايجزئ المقتات من غيرها كاللحم واللبن. وظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها، سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن، ويجوز إخراج الدقيق والسويق. ولا يجوز إخراج الخبز، ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز، وإن لم يكن قوتاً له، أو كان قوته غالب قوت البلد.
ومقدارها صاع عراقي وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل القامة؛ لأنه الذي أخرج به في عهده صلّى الله عليه وسلم، ويقدر كما سبق عند الجمهور بـ (1572 غم) وعند جماعة: (6712 غم) وهو ما اعتمدته في تقدير الأوسق الخمسة.
__________
(1) الشرح الصغير: 675/1 وما بعدها، بداية المجتهد: 272/1، القوانين الفقهية: ص112، مغني المحتاج: 405/1-407، المهذب: 165/1، المغني: 60/3-65،كشاف القناع: 295/2-297.(3/384)
ودليل الجمهور: الأحاديث السابقة، وهي أصح من أحاديث الحنفية، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: «كنا نخرج زكاة الفطر، إذ كان فينا النبي صلّى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أوصاعاً من زبيب، أوصاعاً من أقط» وروى الدارقطني عن مالك بن أنس أن صاع النبي صلّى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث بالعراقي.
دفع القيمة عندهم: لا يجزئ عند الجمهور إخراج القيمة عن هذه الأصناف، فمن أعطى القيمة لم تجزئه، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر، وصاعاً من شعير» (1) فإذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض.
المبحث الرابع ـ مندوباتها ومباحاتها:
اتفق الفقهاء (2) على أنه يستحب إخراج صدقة الفطر يوم الفطر بعد الفجر قبل الصلاة، لحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 179/4) .
(2) فتح القدير: 42/2، اللباب: 162/1، حاشية ابن عابدين: 107/2، القوانين الفقهية: ص 112، الشرح الصغير: 677/1، المهذب: 165/1، مغني المحتاج: 402/1، كشاف القناع: 294/2، المغني: 66/3 ومابعدها.(3/385)
الصلاة» (1) ولحديث ابن عباس: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (2) والمراد بالزكاة: صدقة الفطر، والمراد بالصدقة: أنها التي يتصدق بها في سائر الأوقات، وأمر القبول فيها متوقف على مشيئة الله تعالى.
إلا أن أكثرية الفقهاء ذهبوا إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر، فمن أخرها عن الصلاة، ترك الأفضل؛ لأن المقصود منها الإغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم، لحديث: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» فمتى أخرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه، لا سيما في وقت الصلاة، فدل على أن تأخيرها عن الصلاة مكروه تنزيهاً، وأن الأمر بإخراجها قبل الصلاة للندب. ويحرم بالاتفاق تأخيرها عن يوم العيد؛ لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها.
وذكر المالكية أنه يندب إخراجها من قوته الأحسن من قوت أهل البلد. وندب عدم زيادة على الصاع، بل تكره الزيادة؛ لأن الشارع إذا حدد شيئاً كان ما زاد عليه بدعة، والبدعة تارة تقتضي الفساد، وتارة تقتضي الكراهة، ومحل الكراهة إن تحققت الزيادة، وإلا فيتعين أن يزيد ما يزيل به الشك.
__________
(1) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار: 183/4) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 184/4) .(3/386)
المبحث الخامس ـ مصرفها أو من يأخذها:
اتفق الفقهاء (1) على أن مصرف زكاة الفطر هو مصارف الزكاة المفروضة؛ لأن صدقة الفطر زكاة، فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة، فتدخل في عموم قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة:60/9] ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، ولا يجوز عند الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) دفعها إلى ذمي؛ لأنها زكاة، فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين، كزكاة المال، ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على ألا يجزئ أن يعطى من زكاة المال أحد من أهل الذمة.
وقال الحنفية: صدقة الفطر كالزكاة في المصارف وفي كل حال، إلا في جواز الدفع إلى الذمي مع الكراهة، وعدم سقوطها بهلاك المال، لكن الفتوى على قول أبي يوسف وهو عدم جواز صرفها للذمي، كزكاة الأموال، للحديث المتقدم في الزكاة: «صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» .
وعليه: تدفع صدقة الفطر بالاتفاق لكل حر مسلم فقير، غير هاشمي لشرفه وتنزهه عن أوساخ الناس، لكن في الوقت الحاضر تعطى الزكوات للهاشمي لانقطاع موردهم من بيت المال.
فإن لم يقدرالمسلم إلا على بعض الصاع ـ بعض الفطرة، أوبعض ما وجب عليه إن وجب أكثر من فطرة، أخرجه وجوباً، محافظة على الفطرة بقدر الإمكان، ويبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ويقدم ممن يعول عند الجمهور الزوجة لأن نفقتها آكد، والأظهر عند المالكية والحنابلة تقديم الوالد على الولد، ودليل الترتيب قوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» (2) ولأن الفطرة تنبني على النفقة، فكما يبدأ بنفسه في النفقة، فكذلك في الفطرة.
ويقدم عند الشافعية نفسه ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الأب، ثم الأم، ثم الولد الكبير، لخبر مسلم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك» .
ويجوز أن يعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله، ولا يعطي منها غنياً، ولا ذا قربى تجب عليه نفقته، ولا أحداً ممن منع أخذ زكاة المال. ويجوز صرفها في الأصناف الثمانية؛ لأنها صدقة، فأشبهت صدقة المال.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 107/1-108، بداية المجتهد: 273/1، القوانين الفقهية: ص 112، الشرح الصغير:677/1 ومابعدها، المهذب: 170/1، حاشية الباجوري: 291/1، المغني: 74/3، 78، 79، مغني المحتاج: 405/1.
(2) هذا مجموع حديثين: الشق الأول منه رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر، والثاني مروي عن حكيم بن حزام عند الطبراني، وعن طارق المحاربي عند النسائي (نيل الأوطار: 321/6، 327) .(3/387)
وظاهر المذهب الشافعي أنه يجب دفعها للأصناف الثمانية، وفيه عسر، واختار بعض الشافعية صرفها إلى واحد، ولا بأس بتقليده في زماننا هذا، كما قال الباجوري، وقال بعضهم: لو كان الشافعي حياً لأفتى به.
وأجازالفقهاء دفع صاع واحد لمساكين يقتسمونه، وأباح غير الشافعي دفع آصع متعددة لواحد من الفقراء، ودفع كل شخص فطرته إلى مسكين أو مساكين، أي إن الجمهور أجازوا إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، والجماعة ما يلزم الواحد، أي دفع صدقة جماعة إلى مسكين واحد، لكن لا خلاف بين الفقهاء في إعطاء
الجماعة ما يلزم الواحد؛ لأنه صرف صدقته إلى مستحقها، فبرئ منها كما لو دفعها إلى واحد.
أما إعطاء الواحد صدقة الجماعة: فإن الشافعي أوجب تفرقة الصدقة على ستة أصناف، ودفع حصة كل صنف إلى ثلاثة منهم، كما ذكر في مصارف الزكاة. والراجح رأي الجمهور؛ لأنها صدقة لغير معين، فجاز صرفها إلى واحد، فيجوز أن يأخذ الواحد زكاة أكثر من واحد.(3/388)
الفَصْلُ الثَّالث: صَدَقَةُ التَّطوّع
الكلام عن أحكام صدقة التطوع: يشمل استحبابها، الإسرار بها، التصدق بجميع المال، الأولى في الصدقة، المتصدق عليه (الغني، الكافر، القريب، صاحب الحاجة الشديدة، الصدقة على الميت) صدقة المديون ومن عليه نفقة، نية جميع المؤمنين، التصدق من المال الحرام، كراهة استرداد الصدقة بشراء أو غيره، وحرمة السؤال لغير حاجة، وكراهة السؤال بوجه الله تعالى.
أولاً ـ حكم صدقة التطوع:
صدقة التطوع مستحبة في جميع الأوقات، وسنة بدليل الكتاب والسنة (1) . أما الكتاب: فقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} [البقرة:245/2] وأمر الله سبحانه بالصدقة في آيات كثيرة. وأما السنة: فأحاديث عديدة منها قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أطعم جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ، سقاه الله عز وجل يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كسا مؤمناً عارياً، كساه الله من خُضْر الجنة» (2) .
__________
(1) مغني المحتاج: 120/3، المغني: 81/3.
(2) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد، وخضر الجنة بضم الخاء وإسكان الضاد: ثيابها الخضر.(3/389)
ومنها قوله عليه السلام: «إن العبد إذا تصدَّق من طيِّب، تقبلها الله منه، وأخذها بيمينه، فرباها كما يُربِّي مُهْره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق بالُّلقْمة فتربُو في يد الله، أو في كف الله، حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا» (1) وقد تصبح الصدقة حراماً: كأن يعلم أن آخذها يصرفها في معصية. وقد تجب الصدقة: كأن وجد مضطراً، ومعه ما يطعمه فاضلاً عن حاجته.
ثانياً ـ الإسرار بها ودفعها في رمضان:
صدقة السر أفضل من صدقة العلانية أو الجهر، فالأفضل الإسرار بصدقة التطوع بخلاف الزكاة، لقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم} [البقرة:271/2] ، ولما في الصحيحين عن أبي هريرة في خبر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وروى الطبراني في الصغير: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» .
ودفعها في رمضان أفضل من دفعها في غيره، لما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان» ولأن الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب الصوم، ولأن الحسنات تضاعف فيه.
وتتأكد في الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد، وكذا في الأماكن الشريفة كمكة والمدينة، وفي الجهاد والحج، وعند الأمور المهمة كالكسوف والمرض والسفر.
وتتأكد الصدقة بالماء إن كان الاحتياج إليه أكثر من الطعام؛ لخبر أبي داود: «أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء» ، فإن كانت الحاجة إلى الطعام فهو أفضل، وتتأكد أيضاً بالمنيحة: وهي الشاة اللبون ونحوها يعطيها المحتاج يشرب لبنها ما دامت لبوناً ثم يردها إليه، لما في ذلك من مزيد البر والإحسان.
ويستحب الإكثار من الصدقة في أوقات الحاجات، لقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} [البلد:14/90] .
__________
(1) رواه ابن خزيمة عن أبي هريرة، ورواية البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ «من تصدَّق بعِدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربِّيها، لصاحبها، كما يربِّي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» وعدل: مقدار، والأخذ باليمين معناه القبول والرضا، والمهر: هو الفلو، والفصيل: هو ولد الناقة إذا فطم. والله طيب: أي منزه عن النقائض.(3/390)
ويسن التصدق عقب كل معصية، وتسن التسمية عند التصدق؛ لأن الصدقة عبادة (1) .
ثالثاً ـ التصدق بجميع المال:
إن كان الرجل وحده، أو كان مسؤولاً عمن يمون كفايتهم، فأراد الصدقة بجميع ماله، وكان ذا مكسب، أو كان واثقاً من نفسه بحسن التوكل، والصبر على الفقر، والتعفف عن المسألة، فهو حسن، وإلا فلا يجوز بل يكره (2) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: «أي الصدقة أفضل؟ قال: سرّ إلى فقير أو جَهْد من مُقلّ» (3) ، وروي عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله، فأتاه أبو بكر بكل
ماعنده، فقال له: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله، فقلت: لا أسابقك إلى شيء بعده أبداً (1) . فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر رضي الله عنه، لقوة يقينه وكمال إيمانه، وكان أيضاً تاجراً ذا مكسب.
رابعاً ـ الأولى في الصدقة:
الأولى أن يتصدق المرء من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام، وإن تصدق بما ينقص من مؤنة من يمونه أثم (5) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الأولى: «خير الصدقة: ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» (6) أي عن غنى النفس وصبرها على الفقر، ولقوله عليه السلام في حالة الإثم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» (7) .
خامساً ـ استحباب التصدق بما فضل عن الحاجة:
يستحب أن يتصدق بما فضل عما يلزمه من النفقات (8) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» (9) .
__________
(1) مغني المحتاج: 121/3، 123، المغني: 82/3، المجموع: 258/6-260.
(2) الدر المختار: 96/2، مغني المحتاج: 122/3، المغني: 83/3.
(3) رواه أحمد والطبراني عن أبي أمامة، وفي إسناده علي بن يزيد (الترغيب والترهيب: 32/2) .
(4) رواه الترمذي وصححه.
(5) المجموع: 253/6، ومابعدها، المهذب: 175/1، الدر، ومغني المحتاج، المغني: المكان السابق.
(6) متفق عليه، وروى القسم الأول منه أبو داود وصححه الحاكم.
(7) حديث حسن رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة، والقوت: مايقوم به بدن الإنسان من الطعام.
(8) المجموع: 255/6 ومابعدها، المهذب: 175/1.
(9) حديث صحيح رواه مسلم عن جرير بن عبد الله.(3/391)
سادساً ـ التصدق بما تيسر:
يستحب أن يتصد ق بما تيسر، ولا يستقله، ولا يمتنع من الصدقة به لقلته وحقارته، فإن قليل الخير كثير عند الله تعالى، وما قبله الله تعالى وبارك فيه، فليس هو بقليل (1) ، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة:7/99] ، وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة: «يا نساء المسلمات لا تحقرِنَّ جارة أن تهدي لجارتها ولو فِرْسن شاة» والفرسن من البعير والشاة كالحافر من غيرهما. وروى النسائي وابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة: «سَبَق درهم مئة ألف درهم، فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: رجل له مال كثير أخذ من عُرْضه - جانبه- مئة ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به» .
سابعاً ـ التصدق على الصلحاء:
يستحب أن يخص بصدقته الصلحاء، وأهل الخير والمروءات والحاجات (2) .
ثامناً ـ المتصدق عليه (3) :
أـ الأقارب: الأفضل أن يخص بالصدقة الأقارب، ثم الجيران، فهم أولى من الأجانب، لقوله تعالى: {يتيماً ذا مقربة} [البلد:15/90] ولقوله صلّى الله عليه وسلم لزينب
__________
(1) المجموع: 261/6.
(2) المجموع: 261/6.
(3) المجموع: 258/6-262، المهذب:176/1، مغني المحتاج: 120/3 ومابعدها، المغني: 82/3.(3/392)
امرأة عبد الله بن مسعود: «زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» (1) ، ولقوله عليه السلام في حديث حسن رواه أحمد وابن ماجه والترمذي: «الصدقةعلى المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» » ولخبر البخاري عن عائشة: «إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ فقال: إلى أقربهما منك باباً» وهكذا الحكم في الزكوات والكفارات والنذور والوصايا والأوقاف وسائر جهات البر، يستحب فيها تقديم الأقارب إذا كانوا مستحقين. ويستحب أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة ليتألف قلبه ويرده إلى المحبة والألفة.
ب ـ صاحب الحاجة الشديدة: تستحب الصدقة على من اشتدت حاجته لقول الله تعالى: {أو مسكيناً ذا متربة} [البلد:16/90] .
جـ ـ الغني والهاشمي والكافر والفاسق: تحل الصدقة لغني ولو من ذوي القربى، لقول جعفر بن محمد عن أبيه: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: «إنما حرَّم الله علينا الصدقة المفروضة» (2) ، وأقر النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين عن أبي هريرة صدقة رجل على سارق وزانية وغني، وفيه: «أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر، وينفق مما آتاه الله تعالى» . لكن يستحب للغني التنزه عنها، ويكره له التعرض لأخذها.
وأما الصدقة على الهاشمي: فقد عرفنا في الزكاة جوازها في رأي أكثرية العلماء، فهي تحل للهاشميين دونه صلّى الله عليه وسلم تشريفاً له.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، وفيه جواب عن وضع الصدقة في زوجها وبني أخ لها يتامى: «نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة» (نيل الأوطار:176/4) .
(2) رواه الشافعي والبيهقي.(3/393)
وتحل الصدقة أيضاً على فاسق، وكافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي، ذمي أو حربي، لقوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان:8/76] ومعلوم أن الأسير حربي. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة فيمن سقى الكلب العطشان: «في كل كبد رطبة أجر» وأما حديث: «لا يأكل طعامك إلا تقي» فأريد به الأولى.
د ـ الصدقة على الميت: ينفع الميت ـ كما قدمنا في الجنائز ـ صدقة عليه من أكل أو شرب أو كسوة أو درهم أو دينار، وينفعه أيضاً دعاء له بنحو: «اللهم اغفر له» «اللهم ارحمه» بالإجماع، ولا يتصدق عليه بالأعمال البدنية كأن تهب له ثواب صلاة أو صوم (1) ، وأما قراءة القرآن كالفاتحة، فقال مالك والشافعي، لا ينتفع بها، ورأي الأكثرين: أنه ينتفع.
تاسعاً ـ صدقة المديون ومن عليه نفقة (2) :
يستحب ألا يتصدق من عليه دين، أو من تلزمه نفقة لنفسه أو عياله، حتى يؤدي ما عليه. والأصح عند الشافعية تحريم الصدقة من مدين لا يجد لدينه وفاء، أو من ملزم بنفقة بما يحتاج إليه لنفقته أو نفقة من عليه نفقته في يومه وليلته؛ لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع، فيقدم الدين لأن أداءه واجب، فيتقدم على المسنون، فإن رجا له وفاء من جهة أخرى ظاهرة، فلا بأس بالتصدق به، إلا إن حصل بذلك تأخير، وكان الواجب وفاء الدين على الفور بمطالبة أو غيرها. وأما تقديم ما يحتاجه للنفقة، فللحديث السابق: «كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يقوت،
__________
(1) الشرح الصغير: 580/1.
(2) الدر المختار 96/2، مغني المحتاج: 122/3، المجموع: 253/6، المهذب: 175/1.(3/394)
وابدأ بمن تعول» (1) ، ولأن كفاية العيال فرض، وهو مقدم على النفل، والضيافة كالصدقة.
وأما خبر الأنصاري الذي نزل به الضيف، فأطعمه قوته وقوت صبيانه، فمحمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حاجة شديدة حينئذ إلى الأكل. وأما الرجل والمرأة فتبرعا بحقهما، وكانا صابرين، وإنما قال فيه لأمّهم: نوميهم خوفاً من أن يطلبوا الأكل على عادة الصبيان في الطلب من غير حاجة.
عاشراً ـ نية جميع المؤمنين:
الأفضل أن ينوي بالصدقة النافلة جميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء (2) .
أحد عشر ـ التصدق من المال الحرام:
قال الحنفية (3) : إذا تصدق بالمال الحرام القطعي، أو بنى من الحرام بعينه مسجداً ونحوه مما يرجو به التقرب، مع رجاء الثواب الناشئ عن استحلاله، كفر؛ لأن استحلال المعصية كفر، والحرام لا ثواب فيه. ولا يكفر إذا أخذ ظلماً من إنسان مئة، ومن آخر مئة، وخلطهما، ثم تصدق به؛ لأنه ليس بحرام بعينه قطعاً لاستهلاكه بالخلط، ولأنه ملكه بالخلط، ثم يضمنه. والخلاصة: أن شرط الكفر شيئان: قطعية الدليل، وكونه حراماً لعينه مثل لحم الميتة، أما مال الغير فهو حرام لغيره، لا لعينه، فلا يكون أخذه عند الحنفية حراماً محضاً، وإن كان لا يباح الانتفاع به قبل أداء البدل.
اثنا عشر ـ ما يحرم وما يكره وما يستحب في الصدقة:
يحرم السؤال على الغني بمال أو كسب، ويحرم عليه إظهار الفاقة وإن لم يسأل (4) ، وعلى هذا المعنى الأخير حملوا خبر الذي مات من أهل الصُّفة، وترك دينارين، فقال صلّى الله عليه وسلم: «كيَّتان من نار» .
والمن بالصدقة يحبطها، أي يمنع ثوابها، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة:264/2] .
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه مسلم بمعناه.
(2) الدر المختار ورد المحتار: 97/2.
(3) المرجع السابق: 35/2.
(4) مغني المحتاج: 120/3، الحضرمية: ص109.(3/395)
ويكره تعمد الصدقة بالرديء، لقول الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة:267/2] ، ويستحب تعمد أجود ماله وأحبه إليه (1) ، لقوله سبحانه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران:92/3] .
وتكره الصدقة بما فيه شبهة، ويستحب أن يختار أجل ماله وأبعده عن الحرام والشبهة (2) ، لحديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين: «من تصدق بعِدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» .
ويستحب أن تكون الصدقة مقرونة بطيب نفس وبشر، لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب. وتسن التسمية عند الرفع إلى المتصدق عليه؛ لأنها عبادة، قال العلماء: ولا يطمع المتصدق في الدعاء من المتصدق عليه، لئلا ينقص أجر الصدقة، فإن دعا له استحب أن يرد عليه مثلها لتسلم له صدقته (3) .
ويكره لمن تصدق بصدقةأو دفع لغيره زكاة أو كفارة أو عن نذر وغيرها من وجوه الطاعات: أن يأخذ صدقته أو يتملك ممن أعطاه ببيع أو معاوضة أو هبة، أو غيره، ولا يكره تملكه منه بالإرث، ولا يكره أيضاً أن يتملكه من غيره إذا انتقل إليه، لحديث عمر السابق في الصحيحين: «حَمَلتُ على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» .
ويلاحظ أن من دفع إلى وكيله أو ولده أوغلامه أو غيرهم شيئاً يعطيه لسائل أو غيره صدقة تطوع، لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه، فإن لم يدفعه إلى من عينه، استحب له ألا يعود فيه، بل يتصدق به على غيره، فإن استرده وتصرف فيه، جاز؛ لأنه باق على ملكه (4) .
ويكره للإنسان أن يسأل بوجه الله غير الجنة، وأن يمنع من سأل بالله، وتشفع به (5) ، لخبر «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» (6) وخبر: «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، حتى تعلموا أن قد كافأتموه» (7) أي جازيتموه.
__________
(1) المجموع: 262/6.
(2) المرجع والمكان السابق.
(3) مغني المحتاج: 123/3، الحضرمية: ص109.
(4) المجموع: 263/6.
(5) مغني المحتاج:122/3.
(6) رواه أبو داود والضياء في المختارة عن جابر بن عبد الله، وهو صحيح.
(7) رواه أبو داود، والنسائي واللفظ له، وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، من حديث عبد الله بن عمرو.(3/396)
البَابُ الخامسُ: الحجّ والعُمْرة
فيه فصول ثلاثة:
الفصل الأول ـ أحكام الحج والعمرة.
الفصل الثاني ـ خصائص الحرمين ـ مكة والمدينة.
الفصل الثالث ـ آداب السفر للحج وغيره وآداب الحاج العائد بعد رجوعه من سفره.
ويلاحظ أنني أخرت بحث الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين ولشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة لها في أكثر المواضع في القرآن، ثم الصوم لتكرره كل سنة، وأما الحج ففي العمر مرة.
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الحجّ والعُمرة
وهو يشتمل على أمور ثلاثة:
الأول ـ بيان مقدمات هذه العبادة بمعرفة حكم كل من الحج والعمرة وشروطهما.
والثاني ـ مقومات الحج والعمرة وهي الأفعال المطلوبة والمتروكات بالإحرام، وفيه توضيح الأركان والواجبات والسنن.
والثالث ـ اللواحق وهي أحكام الأفعال التابعة للإحرام، من إحصار وفوات، وجزاء جنايات، وهدي. وهذا الفصل هو صلب موضوع هذا الباب الذي خصصته لبيان الدعامة الرابعة من دعائم الإسلام بعد بيان الدعامات الثلاث: وهي الصلاة والصوم والزكاة.
ويمكن بحث موضوعاته في المباحث الثلاثة عشر التالية:(3/397)
المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما.
المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة (شروط الوجوب والصحة أو الأداء) وموانعهما. المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية.
المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم وعمرته.
المبحث الخامس ـ أركان الحج والعمرة.
المبحث السادس ـ واجبات الحج.
المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة.
المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة.
المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج.
المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام ومباحاته.
المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات في الحج أو العمرة.
المبحث الثاني عشر ـ الإحصار والفوات.
المبحث الثالث عشر ـ الهدي.
وأبدأ ببيانها على الترتيب المذكور.
المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما:
أولاً ـ تعريف الحج والعمرة:
الحج لغة: القصد مطلقاً، وعن الخليل قال: الحج: كثرة القصد إلى من تعظمه.
وشرعاً: قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص في زمن مخصوص بفعل مخصوص. والزيارة: هي الذهاب. والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ولكل فعل زمن خاص، فالطواف مثلاً عند الجمهور: من فجر النحر إلى آخر العمر، والوقوف بعرفة: من زوال الشمس يوم عرفة لطلوع فجر يوم النحر. والفعل المخصوص: أن يأتي مُُحْرماً بنية الحج إلى أماكن معينة (1) .
وتاريخ مشروعيته على الصحيح: أن الحج فرض في أواخر سنة تسع من الهجرة، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران:97/3] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي أكثر العلماء، وأنه صلّى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج بعد فرضه عاماً واحداً، وإنما أخره عليه السلام للسنة العاشرة لعذر، وهو نزول الآية بعد فوات الوقت (2) ، فكان حجه بعد الهجرة حجة واحدة سنة عشر، كما روى أحمد ومسلم.
والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل في العمر كله. وشرعاً: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (3) . ولايغني عنها الحج وإن اشتمل عليها.
__________
(1) الدر المختار:189/2، اللباب: 177/1، فتح القدير: 120/2، مغني المحتاج: 459/1 ومابعدها، المغني: 217/3، الشرح الكبير مع الدسوقي: 2/2، كشاف القناع: 437/2.
(2) حاشية ابن عابدين نقلاً عن ابن القيم: 190/2.
(3) مغني المحتاج: 460/1، كشاف القناع:436/2 وما بعدها.(3/398)
ثانياً ـ مكانة الحج والعمرة في الإسلام وحكمتهما:
الحج: هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله تعالى على المستطيع، والعمرة مثله، فهما أصلان عند الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى:
{وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] وهي سنة عند المالكية والحنفية، كما سأبين، وقد اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم أربع عُمَر، كلهن في ذي القعْدة إلا التي مع حَجَّته (1) : الأولى من الحديبية سنة ست من الهجرة، والثانية سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة سنة ثمان عام الفتح، والرابعة مع حجته سنة عشر، وكان إحرامها في ذي القعدة وأعمالها في ذي الحجة.
قال القاضي حسين من الشافعية: الحج أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وقال الحليمي: الحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا، ولأنا دعينا إليه، ونحن في أصلاب الآباء كالإيمان الذي هو أفضل العبادات.
والراجح عند الشافعية والحنابلة أن الصلاة أفضل منه (2) ؛ لأن الصلاة عماد الدين.
__________
(1) رواه مسلم عن أنس (شرح مسلم: 234/8 وما بعدها) .
(2) المرجعان والمكانان السابقان رقم (3) .(3/399)
وهل الحج أفضل من الجهاد؟
اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها، فتارة تجعل الأفضل الجهاد، وتارة الإيمان، وتارة الصلاة، وتارة غير ذلك، من هذه الأحاديث: حديث الشيخين عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور» ،ومنها حديث الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة أيضاً: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» والمبرور: المقبول، ورجح النووي أنه الذي لا يخالطه شيء من الإثم.
قال الشوكاني (1) : وأحق ما قيل في الجمع بين الأحاديث: أن بيان الفضيلة يختلف باختلاف المخاطب، فإذا كان المخاطب ممن له تأثير في القتال، وقوة مقارعة الأبطال، قيل له: أفضل الأعمال: الجهاد، وإذا كان كثير المال، قيل له: أفضل الأعمال: الصدقة، ثم كذلك يكون الاختلاف على حسب اختلاف المخاطبين.
وقال المالكية (2) : الحج ولو تطوّعاً أفضل من الجهاد، إلا في حالة الخوف من العدو، فيفضل الجهاد على حج التطوع.
حكمة المشروعية: يتحقق بالحج والعمرة فرض الكفاية وهو إحياء الكعبة كل سنة بالعبادة، وتمتاز العمرة عن الحج بإمكانها في كل أيام العام أو العمر، فهي أيسر من الحج الذي يتقيد بأيام معلومات.
__________
(1) نيل الأوطار: 282/4 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير: 10/2.(3/400)
وللحج فوائد شخصية وجماعية، أما أهم فوائده الشخصية فهي ما يأتي: يكفِّر الحج الذنوب الصغائر ويطهر النفس من شوائب المعاصي، وقال بعض العلماء كبعض الحنفية: والكبائر أيضاً، بدليل الحديث السابق: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخل الجنة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «من حج، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» (1) أي بغير ذنب.
وقال عليه السلام: «الحجاج والعُمَّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» (2) وقال أيضاً: «يُغْفَر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (3) .
قال القاضي عياض: أجمع أهل السنة أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، ولا قائل بسقوط الدين، ولو حقاً لله تعالى، كدين الصلاة والزكاة.
فالحج يغفر الذنوب، ويزيل الخطايا إلا حقوق الآدميين، فإنها تتعلق بالذمة، حتى يجمع الله أصحاب الحقوق، ليأخذ كل حقه، ومن الجائز أن الله تعالى يتكرم، فيرضي صاحب الحق بما أعد له من النعيم وحسن الجزاء، فيسامح المدين تفضلاً وتكرماً، فلا بد من أداء حقوق الآدميين، أما حقوق الله فمبنية على تسامح الكريم الغفور الرحيم.
والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.
ويقوي الحج الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيج العواطف نحو بيت الله العتيق.
__________
(1) رواه عن أبي هريرة البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، والترمذي إلا أنه قال: «غفر له ماتقدم من ذنبه» والرفث: الفحش من القول، وقيل: هو الجماع. والفسق: المعصية.
(2) رواه عن أبي هريرة النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظهما: «وفد الله ثلاثة: الحاج، والمعتمر، والغازي» .
(3) رواه البزار والطبراني في الصغير، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، ولفظهما: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» .(3/401)
ويذكر الحج المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلّى الله عليه وسلم والسلف الصالح الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
والحج كغيره من الأسفار يعوِّد الإنسان على الصبر وتحمل المتاعب، ويعلم الانضباط والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
وبالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ويغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الصادق الأكيد لشرع الله ودينه، قال الكاساني (1) : في الحج إظهار العبودية وشكر النعمة، أما إظهار العبودية فهو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه يظهر الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه. وأما شكر النعمة: فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلا استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
وأما أهم فوائد الحج الجماعية: فهو أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، وإمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم، والمذاكرة في شؤون المسلمين العامة، وتعاونهم صفاً واحداً أمام أعدائهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} [الحج:28/22] .
__________
(1) البدائع: 118/2.(3/402)
ويُشعر الحج بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض المعبر عنها في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10/49] ويحس الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
ويساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام.
وأما الاعتماد على موسم الحج ليكون مؤتمراً شعبياً عاماً لمخاطبة المؤمنين، فهو غير مطلوب شرعاً؛ لأن المعول في السياسة الإسلامية على رأي أهل الخبرة والاختصاص والمشورة، فهم المرجع والمقصد، ولأن كثرة المسلمين الهائلة تمنع تحقيق الفائدة المرجوة، ولأن تخطيط السياسة ووضع المنهج الإسلامي منوط برأي الحكام المسلمين، ولم يعد بيد أحد من الأفراد العاديين شيء من النفوذ أو السلطة لتحقيق شيء يذكر.
ثالثاً ـ حكم الحج والعمرة:
اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر، بدليل الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران:97/3] روي عن ابن عباس: «ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب» وقال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] وقال سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً، وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:27/22-28] .
وأما السنة: فقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (1) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(3/403)
كون فريضة الحج مرة: الدليل على فرضية الحج مرة واحدة في العمر بأصل الشرع: هو حديث أبي هريرة، قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجَبَت ولما استطعتم» (1) وحديث ابن عباس بمعناه، وفيه تعيين الرجل وهو الأقرع بن حابس، وفيه أيضاً «من زاد فهو تطوع» (2) ، ويؤكده أن الأمر لا يقتضي التكرار، فلا يكون الأمر القرآني مفيداً تكرار الحج.
وأما حديث البيهقي وابن حبان الآمر بالحج في كل خمسة أعوام فمحمول على الندب، ونصه عن الخدري: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: إن عبداً صحّحت له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام، لا يَفِد إلي لمحروم» أي من جمع له الصحة والقوة واليسار مندوب له الحج كل خمس سنين، وإلا كان محروماً من الأجر ومطروداً من رضوان الله تعالى.
وأجمع العلماء على أن الحج لا يجب إلا مرة (3) ، والزائد عن ذلك تطوع، قال صلّى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خَبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (4) .
وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارض: كنذر بأن يقول: لله علي حجة؛ لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند إفساد التطوع.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار: 279/4، شرح مسلم: 101/9) .
(2) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(3) شرح مسلم:101/9، المجموع:8/7، نيل الأوطار: 280/4، الدر المختار: 190/2، فتح القدير: 122/2.
(4) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.(3/404)
وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه (1) ، كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن، فيكره خروجه بلا إذنهم أي الأب والدائن. والكراهة عند الحنفية تحريمية.
وذكر المالكية والشافعية والحنفية أنه مع عصيان الحاج بمال حرام، فإنه يصح الحج فرضاً أو نفلاً بالمال الحرام كالصلاة في الأرض المغصوبة، ويسقط عنه الفرض والنفل، إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان. وخالف الحنابلة فلم يجيزوا الحج بالمال الحرام، إذ لا تصح عندهم الصلاة في الأرض المغصوبة.
نوع الفرضية: النُسُك إما فرض عين، وهو على من لم يحج بالشروط الآتية، وإما فرض كفاية: وهو إحياء الكعبة كل سنة بالحج والعمرة، وإما تطوع محض، ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان، وإما مندوب كل خمس سنوات.
تكرار العمرة: لا بأس عند الشافعية والحنابلة والحنفية أن يعتمر في السنة مراراً (2) ؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» .
وكره المالكية تكرار العمرة في السنة، وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعله.
__________
(1) البدائع: 223/2، مغني المحتاج: 460/1،470، الشرح الكبير: 10/2.
(2) المغني:226/3، شرح مسلم: 118/9.(3/405)
هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟
للعلماء في ذلك اتجاهان:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية في أرجح القولين والحنابلة (1) : يجب الحج بعد توافر الاستطاعة وبقية الشروط الآتية على الفور في العام الأول، أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وترد شهادته بتأخيره سنيناً؛ لأن تأخيره معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأن الفورية ظنية، بسبب كون دليلها ظنياً كما قال الحنفية، ويدل عليه أنه لو تراخى كان أداء، وإن أثم بموته قبله، وقالوا: لو لم يحج حتى أتلف ماله، وسعه أن يستقرض ويحج، ولو غير قادر على وفائه، ويرجى ألا يؤاخذه الله بذلك إذا كان ناوياً الوفاء لو قدر. وذكر الحنابلة أن من فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. واستدلوا بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] وقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] والأمر على الفور عندهم.
واستدلوا أيضاً بأحاديث منها: «حجوا قبل أن لا تحجوا» (2) وحديث «تعجَّلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرِض له» (3) وحديث «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحج، فليمت
__________
(1) الدر المختار: 191/2 ومابعدها، البدائع: 119/2، الشرح الصغير: 4/2، كشاف القناع: 465/2، المغني: 208/3، 241.
(2) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي.
(3) رواه أحمد وأبو القاسم الأصبهاني عن ابن عباس، وفي سنده أبو إسرائيل ضعيف الحفظ (نيل الأوطار:284/4) .(3/406)
إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً» (1) ورواية الترمذي: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (:2) [آل عمران:97/3] وهي مع غيرها تدل على وجوب الحج على الفور، فإنه ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان؛ لأنه قال: «من ملك.. فلم يحج» والفاء للتعقيب بلا فصل، أي لم يحج عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل.
وقال الشافعية (3) ومحمد من الحنفية: وجوب الحج على التراخي، وليس معناه تعين التأخير، بل بمعنى عدم لزوم الفور، ويسن لمن وجب عليه الحج أوالعمرة بنفسه أو بغيره ألا يؤخر ذلك عن سنة الإمكان، مبادرة إلى براءة ذمته، ومسارعة إلى الطاعات، لقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148/2] ولأنه إذا أخره عرّضه للفوات ولحوادث الزمان. ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة؛ لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى سنة عشر من غير عذر، فلو لم يجز التأخير لما أخره.
وهذا الرأي أولى ليسره على الناس وعدم الحكم بالتأثيم، ولأن الأحاديث التي احتج بها الجمهور كلها ضعيفة، والحج فرض سنة ست عند نزول سورة آل عمران، كما حقق الشافعية، ومن قال: إنه فرض سنة عشر فقد أخطأ؛ لأن السورة نزلت قبلها قطعاً، لكن تعجيل الحج ضروري للاحتياط.
__________
(1) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعاً، وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف (المرجع السابق) .
(2) قال الترمذي: غريب، في إسناده مقال، وفيه ضعف.
(3) شرح المجموع: 82/7 ومابعدها، المهذب: 199/1، الإيضاح: ص 17، مغني المحتاج: 460/1، 470.(3/407)
حكم العمرة: قال الحنفية على المذهب والمالكية على أرجح القولين (1) : العمرة سنة (مؤكدة) مرة واحدة في العمر؛ لأن الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعداد فرائض الإسلام لم يذكر منها العمرة، مثل حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس» فإنه ذكر الحج مفرداً، وروى جابر أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» (2) وفي رواية «أولى لك» .
وروى أبو هريرة: «الحج جهاد والعمرة تطوع» (3) .
وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة (4) : العمرة فرض كالحج، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] أي ائتوا بهما تامين ومقتضى الأمر الوجوب، ولخبر عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (5) .
ويظهر لي أن الرأي الثاني أصح، لدلالة هذه الآية، ولضعف أحاديث الفريق الأول.
__________
(1) الدر المختار: 206/2، فتح القدير: 306/2، البدائع: 226/2، مراقي الفلاح: ص126، الشرح الصغير: 4/2، القوانين الفقهية: ص142، بداية المجتهد: 1312/1. ويلاحظ أن الكاساني في البدائع اختار القول بوجوب العمرة كصدقة الفطر والأضحية والوتر.
(2) رواه الترمذي وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد (نيل الأوطار: 281/4) لكن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وتصحيح الترمذي له فيه نظر؛ لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعفه.
(3) رواه الدارقطني والبيهقي وابن حزم، وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر، وقال أيضاً: ولا يصح من ذلك شيء (نيل الأوطار، المكان السابق) .
(4) مغني المحتاج: 460/1، الإيضاح في مناسك الحج للنووي، ص 71، المغني:223/3 ومابعدها.
(5) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة.(3/408)
وذكر الحنابلة عن أحمد: أنه ليس على أهل مكة عمرة، بدليل أن ابن عباس كان يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت. وروي أيضاً عن عطاء، لأن ركن العمرة ومعظمها بالطواف بالبيت، وهم يفعلونه، فأجزأ عنهم.
المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة وموانعهما:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ شروط الحج والعمرة:
الشروط: إما عامة للرجال والنساء، أو خاصة بالنساء، وهي إن توفرت وجب الحج وأداؤه، وإلا فلا.
أما الشروط العامة: فمنها ما هو شرط وجوب وصحة أو أداء: وهو الإسلام والعقل، ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وليس بشرط للصحة: وهو البلوغ والحرية، ومنها ما هو شرط للوجوب فقط: وهو الاستطاعة.
وهذه الشروط هي ما يأتي (1) :
1 - الإسلام: فلا يجب الحج على الكافر وجوب مطالبة به في الدنيا حال كفره، ولا يصح منه، لعدم أهليته لأداء العبادة، فلو حج الكافر، ثم أسلم يجب عليه حجة الإسلام، ولا يعتد بما حج في حال الكفر. وكذا لا يجب عند الحنفية على الكافر في حق أحكام الآخرة، فلا يؤاخذ بالترك، لعدم خطاب الكافر بفروع الشريعة، ويؤاخذ عند الجمهور، لأنه مخاطب بالفروع.
__________
(1) البدائع: 120/2-123،160، فتح القدير:120/2 ومابعدها، الد ر المختار:193/2-199، اللباب:177/1، القوانين الفقهية: ص127، الشرح الصغير:6/2-13، بداية المجتهد:308/1 وما بعدها، المجموع:17/7-25، مغني المحتاج:461/1-465، المهذب:195/1،198 كشاف القناع:440/2-450، المغني: 208/3-222،241، 248-250، متن الإيضاح للنووي: ص99، المجموع: 17/1-47، غاية المنتهى:350/1-361.(3/409)
ويرى المالكية أن الإسلام شرط صحة لا وجوب، فيجب الحج على الكافر ولا يصح منه إلا بالإسلام. والشافعية أوجبوا الحج على المرتد ولا يصح منه إلا إذا أسلم، أما الكافر الأصلي فلا يجب عليه.
2 - التكليف أي البلوغ والعقل: فلا يجب على الصغير والمجنون؛ لأنهما غير مطالبين بالأحكام الشرعية، فلا يلزمهما الحج، ولا يصح الحج أو العمرة أيضاً من المجنون؛ لأنه ليس أهلاً للعبادة، ولو حجّا ثم بلغ الصغير، وأفاق المجنون، فعليهما حجة الإسلام، وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعاً. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» (1) ، وقال أيضاً: «أيُّما صبي حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله، فمات، أجزأت عنه، فإن أُعتق فعليه الحج» (2) .
ولا يبطل الإحرام بالجنون والإغماء والموت والسكر والنوم كالصوم.
ولو حج الصبي، صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام.
ولو حج المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز) لم يصح أداؤه منهما، لأن أداءه يتوقف على العقل.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن، وهو من رواية علي.
(2) ذكره أحمد مرسلاً، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (نصب الراية: 6/3، نيل الأوطار: 293/4) ورواه أيضاً الشافعي وسعيد بن منصور.(3/410)
إحجاج الصغير والمجنون:
أـ قال الشافعية والمالكية والحنابلة (1) : للولي من أب أو جد مثلاً حلالاً كان أو محرماً، حج عن نفسه أم لا، أن يحرم عن الصغير المميز أو عن غير المميز، أو عن المجنون، فينوي الولي بقلبه جعل كل منهما محرماً، أو يقول: أحرمت عنه، ولا يشترط حضورهما ولا مواجهتهما بالإحرام، ولا يصير الولي بذلك محرماً. ولا يجوز الإحرام عن المغمى عليه والمريض.
والدليل على جواز الإحرام عن الصغير والمجنون: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لقي رَكْباً بالرَّوْحاء، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرَفَعت إليه امرأة صبياً، فسألت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر» (2) .
إذن الولي: لا يجوز للصبي المميز أن يحرم إلا بإذن وليه وهو الأب، أو الجد عند عدم الأب، والوصي والقيم كالأب على الصحيح عند الشافعية، ولا يتولاه الأخ والعم والأم على الأصح عندهم إذا لم يكن له إيصاء ولا ولاية من الحاكم.
وللولي أن يأذن لمن يحرم عن الصبي.
وحيث صار الصبي غير المميز أو المجنون محرماً فعل الولي ما لا يتأتى منه، ولا يكفي فيه فعل الولي فقط، بل لابد من استصحابه معه، فيطوف به ويسعى، ولكن يركع عنه ركعتي الإحرام والطواف، وإن أركبه الولي في الطواف والسعي، فليكن سائقاً أو قائداً للدابة، فإن لم يفعل لم يصح طوافه.
ويجب على الصغير طهارة الخبث وستر العورة في الطواف، ولا يشترط طهارة الحدث (الوضوء) .
ويحضر الولي الصغير والمجنون المواقف، وجوباً في الواجبة، وندباً في المندوبة، فإن قدر الصغير ونحوه على الرمي رمى وجوباً، وإن عجز عن تناول الأحجار، ناولها له وليه. وإن عجز عن الرمي، استحب للولي أن يضع الحجر في يده، ثم يرمي به بعد رميه عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه، وقع الرمي عن نفسه، وإن نوى به الصبي.
__________
(1) مغني المحتاج:461/1 ومابعدها، الإيضاح: ص 99، المجموع:34/7 ومابعدها، الشرح الصغير:10/2، المغني: 252/3-254.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 293/4) وفي معناه حديث ضعيف عن جابر، قال: «حججنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم» ، رواه الترمذي وابن ماجه، وعن ابن عمر قال: «كنانحج بصبياننا، فمن استطاع منهم رمى، ومن لم يستطع رمي عنه» .(3/411)
والخلاصة: إن كل ما أمكن الصبي فعله بنفسه، لزمه فعله، ولا ينوب غيره عنه، كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما، وما عجز عنه، عمله الولي عنه.
ولو فرَّط المميز في شيء من أعمال الحج، كان وجوب الدم في مال الولي، ويجب عليه منعه من محظورات الإحرام. أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظوراً على أحد.
والنفقة الزائدة بسبب السفر في مال الولي في الأصح؛ لأنه المورط له في ذلك.
وإذا جامع الصبي في حجه، فسد وقضى ولو في حال الصبا، كالبالغ المتطوع بجامع صحة إحرام كل منهما، فيعتبر فيه لفساد حجه ما يعتبر في البالغ، من كونه عامداً عالماً بالتحريم، مختاراً مجامعاً قبل التحللين.
ويكتب للصبي ثواب ما عمل من الطاعات، ولا يكتب عليه معصية بالإجماع. ب ـ وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: لا يصح حج الصبي، للحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ..» الخ وقياساً على النذر، فإنه لا يصح منه، ولأنه لا يجب عليه، ولا يصح منه، ولأنه لو صح منه لوجب عليه قضاؤه إذا أفسده، ولأنه عبادة بدنية، فلا يصح عقدها من الولي للصبي كالصلاة.
3 - الحرية: فلا يجب الحج على العبد؛ لأنه عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد.
حكم الحج حال الصبا والرق: وبناء على هذا الشرط وما قبله (1) : من حج وهو غير بالغ، فبلغ، أو كان عبداً فعتق، بعد انتهاء وقت عرفة، فعليه الحج كما تقدم، للحديث السابق: «أيما صبي حج به أهله ... فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله ... فإن أعتق فعليه الحج» .
وإن بلغ الصبي، أو عتق العبد قبل الوقوف بعرفة، فأحرما ووقفا بعرفة، وأتما المناسك، أجزأهما عن حجة الإسلام، بلا خلاف؛ لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج، ولا فعلا شيئاً منها قبل وجوبه.
__________
(1) البدائع:121/2، الشرح الصغير:10/2، المجموع:43/7-47، المغني:248/3-250، كشاف القناع:442/2، اللباب: 177/1 ومابعدها.(3/412)
وإن حدث البلوغ قبل الوقوف بعرفات أو في حال الوقوف، وهما محرمان، أجزأهما الحج عند الشافعية والحنابلة أيضاً عن حجة الإسلام؛ لأن الواحد منهما أدرك الوقوف حراً بالغاً، فأجزأه، كما لو أحرم تلك الساعة.
ولم يجزئهما عند المالكية والحنفية؛ لأنه يشترط لأداء الحج أن يكون المحرم وقت الإحرام حراً مكلفاً (أي بالغاً عاقلاً) ، وإحرامهما انعقد لأداء النفل، فلا ينقلب لأداء الفرض.
لكن قال الحنفية: لو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف بأن لبى أو نوى حجة الإسلام وأتم أعمال الحج من وقوف وطواف زيارة وسعي وغيرها، جاز، أما العبد لو فعل ذلك فلم يجز؛ لأن إحرام الصبي وقع صحيحاً غير لازم، لعدم الأهلية، فكان محتملاً للانتقاض، فإذا جدد الإحرام بحجة الإسلام، انتقض. وأما إحرام العبد فإنه وقع لازماً، لكونه أهلاً للخطاب، فانعقد إحرامه تطوعاً، فلا يصح إحرامه الثاني إلا بفسخ الأول، وإنه لايحتمل الانفساخ. وبه يختلف إحرامهما عن الكافر والمجنون، فإنه لا ينعقد إحرامهما أصلاً لعدم الأهلية.
الإذن للصبي وللعبد وللزوجة: ليس للصبي المميز الإحرام بالحج إلا بإذن وليه ولا يصح إحرامه بغير إذنه؛ لأنه يؤدي إلى لزوم ما لم يلزم، فلم ينعقد عند غير الحنفية بنفسه كالبيع.
وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده بلا خلاف، لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب، فإن فعل انعقد إحرامه صحيحاً؛ لأنها عبادة بدنية، فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده، كالصلاة والصوم، ولسيده تحليله في الأصح عند الشافعية والحنابلة (1) ؛ لأن في بقائه عليه تفويتاً لحقه من منافعه بغير إذنه، فلم يلزم ذلك سيده كالصوم المضر ببدنه، ويكون حينئذ كالمحصر.
__________
(1) المجموع: 36/7-41، كشاف القناع:442/2-449، المغني: 250/3.(3/413)
وليس للزوجة الإحرام نفلاً (تطوعاً) إلا بإذن زوج، لتفويت حقه، وللزوج إن أحرمت زوجته بغير إذنه تحليلها منه؛ لأن حقه لازم، فملك إخراجها من الإحرام كالاعتكاف، وتكون كالمحصر؛ لأنها في معناه.
وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر، ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما فيه، أي في ترك الحج الواجب أو التحليل، وكذا في كل ما وجب، كصلاة الجماعة، والجُمَع، والسفر للعلم الواجب؛ لأنها فرض، فلم يعتبر إذن الأبوين فيها، كالصلاة.
4 - الاستطاعة البدنية والمالية والأمنية الموجبة للحج: وهي القدرة على الوصول إلى مكة، لقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] ، لكن للفقهاء بعض الاختلافات في حدود ووجوه الاستطاعة.
قال الحنفية (1) : الاستطاعة أنواع ثلاثة: بدنية ومالية وأمنية، أما الاستطاعة البدنية: فهي صحة البدن، فلا حج على المريض والزَّمِن والمُقْعَد والمفلوج والأعمى وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه، والمحبوس، والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى الحج؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج، والمراد منها استطاعة التكليف: وهي سلامة الأسباب ووسائل الوصول. ومن جملة الأسباب: سلامة البدن عن الآفات المانعة من القيام بما لا بد منه في سفر الحج، فسر ابن عباس {من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] أن السبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب.
__________
(1) البدائع:121/2-125، اللباب: 177/1، الدر المختار: 194/2-199.(3/414)
وأما الاستطاعة المالية: فهي ملك الزاد والراحلة، بأن يقدر على الزاد ذهاباً وإياباً، وعلى الراحلة ـ وسيلة الركوب، زائداً ذلك عن حاجة مسكنه وما لا بد منه كالثياب وأثاث المنزل والخادم ونحو ذلك؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وزائداً أيضاً عن نفقة عياله الذين تلزمه نفقاتهم إلى حين عودته.
ويشترط في القدرة على الراحلة شروط:
أـ أن تكون مختصة به، فلا يكفي القدرة على راحلة مشتركة يركبها مع غيره على التعاقب. والقدرة اليوم بالاشتراك في السيارات أو البواخر أو الطائرات.
ب ـ أن تكون بحسب أحوال الناس: فمن لا يستطيع الركوب على القتَب (وهو الرَّحْل أو الإكاف الصغير حول سنام البعير) ولم يجد شيئاً آخر كالهودج أو المحمل، لايجب عليه الحج.
جـ ـ أن تطلب بالنسبة للآفاقي: وهو من كان بعيداً عن مكة بثلاثة أيام فأكثر. أما المكي أو القريب من مكة (وهو من كان بينه وبين مكة أقل من ثلاثة أيام) ، فيجب عليه الحج متى قدر على المشي.
وأما الاستطاعة الأمنية: فهي أن يكون الطريق آمناً بغلبة السلامة ولو بالرشوة؛ لأن استطاعة الحج لا تثبت بدونه، وهو شرط وجوب، في المروي عن أبي حنيفة. وقال بعضهم: إنه شرط أداء.
وأمن المرأة: أن يكون معها أيضاً مَحْرم بالغ عاقل أو مراهق مأمون غير فاسق، برحم أو صِهْريّة، أو زوج، يحج بها على نفقتها، ويكره تحريماً أن تحج المرأة بغير المحرم أو الزوج، إذا كان بينها وبين مكة مدة سفر: وهي مسيرة ثلاثة أيام ولياليها فصاعداً، فلو حجت بلا محرم جاز مع الكراهة، والأصح أنه لا يجب عليها التزوج عند فقد المحرم، ووجود المحرم شرط وجوب، وقيل: شرط أداء. لكن لاتسافر المرأة مع أخيها رضاعاً في زماننا لغلبة الفساد، لكراهة الخلوة بها كالصهرة (الحماية) الشابة.(3/415)
والذي اختاره الكمال بن الهمام في الفتح أن وجود المحرم مع توافر الصحة وأمن الطريق شروط وجوب الأداء، فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق، أو لم يوجد زوج ولا محرم.
ثم إن شرط وجوب الحج من الزاد والراحلة وغير ذلك يعتبر وجودها وقت خروج أهل بلده، فإن جاء وقت الخروج والمال في يده، فليس له أن يصرفه في غيره.
وقال المالكية (1) : الاستطاعة: هي إمكان الوصول إلى مكة بحسب العادة، إما ماشياً أو راكباً، أي الاستطاعة ذهاباً فقط، ولا تعتبر الاستطاعة في الإياب إلا إذا لم يمكنه الإقامة بمكة أو في أقرب بلد يمكنه أن يعيش فيه، ولا يلزم رجوعه لخصوص بلده.
وتكون الاستطاعة بثلاثة أشياء، وهي:
أـ قوة البدن: أي إمكان الوصول لمكة إمكاناً عادياً بمشي أو ركوب، ببرّ أو بحر، بلا مشقة فادحة، أي عظيمة خارجة عن العادة، أما المشقة المعتادة فلا بد منها، إذ السفر قطعة من العذاب. والاستطاعة بالقدرة على المشي مما تفرد به المالكية. حتى إن الأعمى القادر على المشي يجب عليه الحج إذا وجد قائداً يقوده. ويكره للمرأة الحج بمشي بعيد.
ب ـ ووجود الزاد المبلِّغ بحسب أحوال الناس وبحسب عوائدهم، ويقوم مقام الزاد الصنعة إذا كانت لا تزري بصاحبها وتكفي حاجته.
ويدل ذلك على أن المالكية لم يشترطوا وجود الزاد والراحلة بالذات، فالمشي يغني عن الراحلة لمن قدر عليه، والصنعة التي تدر ربحاً كافياً تغني عن اصطحاب الزاد أو النفقة عليه.
__________
(1) الشرح الكبير: 5/2-10، الشرح الصغير:10/2-13، بداية المجتهد:309/1، القوانين الفقهية: ص127.(3/416)
وتتحقق الاستطاعة بالقدرة على الوصول إلى مكة، ولو بثمن شيء يباع على المفلس من ماشية وعقار وكتب علم وآلة صانع ونحوها، أو حتى ولو صار فقيراً بعد حجه، أو ولو ترك أولاده ومن تلزمه نفقته للصدقة عليهم من الناس إن لم يخش عليهم هلاكاً أو أذىً شديداً، بأن كان الشأن عدم الصدقة عليهم أو عدم من يحفظهم.
ولا يجب الحج بالاستدانة ولو من ولده إذا لم يرج وفاء، وبالعطية من هبة أو صدقة بغير سؤال، ولا بالسؤال مطلقاً أي سواء أكانت عادته السؤال أم لا، لكن الراجح أن من عادته السؤال بالحضر، وعلم أو ظن الإعطاء في السفر ما يكفيه، يجب عليه الحج، أي أن معتاد السؤال في بلده يجب عليه الحج بشرط ظن الإعطاء، وإلا فلا يجب عليه.
جـ ـ توافر السبيل: وهي الطريق المسلوكة بالبر أو بالبحر متى كانت السلامة فيه غالبة، فإن لم تغلب فلا يجب الحج إذا تعين البحر طريقاً. ويكره للمرأة الحج في ركوب بحر إلا أن تختص بمكان في السفينة.
وهذا يتطلب كون الطريق آمناً على النفس والمال من غاصب وسارق وقاطع طريق: إذا كان المال ذا شأن بالنسبة للمأخوذ منه، فقد يكون الدينار ذا بال بالنسبة لشخص، ولا شأن له بالنسبة لآخر. ويزاد في حق المرأة: أن يكون معها زوج أو محرم بنسب أو رضاع أو صهرية (1) من محارمها، أو رفقة مأمونة عند عدم الزوج أو المحرم في حج الفرض ومنه النذر والحنث، سواء أكانت الرفقة نساء فقط، أم مجموعاً من الرجال والنساء. وإذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة وجب عليها البقاء في بيت العدة، فلو فعلت صح حجها مع الإثم.
وقال الشافعية (2) : للاستطاعة المباشرة بالنفس بحج أو عمرة لمن كان بعيداً عن مكة مسافة القصر (89 كم) شروط سبعة تشمل أنواع الاستطاعة الثلاثة السابقة:
__________
(1) لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلة إلا ومعها مَحْرم» .
(2) مغني المحتاج:463/1-0470، المهذب:196/1-198، الإيضاح للنووي: ص16-17.(3/417)
الأول ـ القدرة البدنية: بأن يكون صحيح الجسد، قادراً أن يثبت على الراحلة بلا ضرر شديد أو مشقة شديدة، وإلا فهو ليس بمستطع بنفسه. وعلى الأعمى الحج والعمرة إن وجد قائداً يقوده ويهديه عند نزوله، ويركبه عند ركوبه. والمحجور عليه بسفه يجب عليه الحج كغيره، لكن لا يدفع المال إليه لئلا يبذره، بل يخرج معه الولي بنفسه إن شاء لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو يرسل معه شخصاً ثقة ينوب عن الولي، ولو بأجرة مثله، إن لم يجد متبرعاً كافياً، لينفق عليه بالمعروف.
الثاني ـ القدرة المالية: بوجود الزاد وأوعيته، ومؤنة (كلفة) ذهابه لمكة وإيابه (أي رجوعه منها إلى بلده، وإن لم يكن له فيها أهل وعشيرة) .
فإن كان يكتسب كل يوم ما يفي بزاده، وسفره طويل (مرحلتان فأكثر أي 98 كم) ، لم يكلف الحج، حتى ولو كسب في يوم كفاية أيام؛ لأنه قد ينقطع عن
الكسب لعارض، وإذا قدر عدم الانقطاع، فالجمع بين تعب السفر والكسب، فيه مشقة عظيمة. وذلك خلافاً لمذهب المالكية السابق في الاكتفاء بالصنعة أثناء السفر. أما إن كان السفر قصيراً، كأن كان بمكة، أو على دون مرحلتين منها، وهو يكتسب في يوم كفايةأيام، كُلِّف الحج، لقلة المشقة حينئذ.
الثالث ـ وجود الراحلة (وسيلة الركوب) الصالحة لمثله بشراء بثمن المثل، أو استئجار بأجرة المثل، لمن كان بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، قدر على المشي أم لا، خلافاً للمالكية، ولكن يستحب للقادر على المشي الحج خروجاً من خلاف من أوجبه. وهذا الشرط من القدرة المالية أيضاً.(3/418)
ومن كان بينه ومن مكة دون مرحلتين، وهو قوي على المشي، يلزمه الحج، فإن ضعف عن المشي، بأن عجز أو لحقه ضرر ظاهر، فهو كالبعيد، فيشترط في حقه وجود الراحلة.
ويشترط كون الزاد والراحلة فاضلين عن دينه الحال أو المؤجل، لآدمي أم لله تعالى كنذر وكفارة، وعن مؤنة (1) أي نفقة من تلزمه نفقته مدة ذهابه وإيابه، لئلا يضيعوا، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (2) .
والأصح كون الزاد والراحلة فاضلين أيضاً عن مسكنه اللائق به وعن خادمه المحتاج إليه لمنصب أو عجز، لاحتياجه لهما في الحال.
والأصح أنه يلزم المرء صرف مال تجارته إلى الزاد والراحلة وتوابعهما. ويلزم من له مستغلات (أماكن أو دور للاستثمار) يحصل منها نفقته أن يبيعها ويصرفها لما ذكرفي الأصح، كما يلزمه صرفها لوفاء دينه.
الرابع ـ وجود الماء والزاد وعلف الدابة في المواضع المعتاد حمله منها، بثمن المثل: وهو القدر المناسب به في ذلك الزمان والمكان، وإن غلت الأسعار. فإن لم يوجدوا، أو وجد أحدهم، أو وجد بأكثر من ثمن المثل، لم يلزمه النسك (الحج والعمرة) . وهذا شرط أيضاً في القدرة المالية.
الخامس ـ الاستطاعة الأمنية: أمن الطريق ولو ظناً على نفسه وماله في كل مكان بحسب ما يليق به، والمراد هو الأمن العام، فلو خاف على نفسه أو زوجه أو ماله سبعاً أو عدواً أو رَصديّاً (وهو من يرصد أي يرقب من يمر ليأخذ منه شيئاً) ، ولا طريق له سواه، لم يجب الحج عليه، لحصول الضر.
وإذا تحقق الأمن بالخفارة أو الحراسة في غالب الظن، وجب استئجار الحارس على الأصح، إن كان قادراً على أجر المثل.
__________
(1) التعبير بالمؤنة: أي الكلفة يشمل النفقة والكسوة والخدمة والسكنى وإعفاف الأب (تزويجه) ، وكذا أجرة الطبيب وثمن الأدوية للقريب المحتاج إليها.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.(3/419)
السادس ـ أن يكون مع المرأة زوج، أو مَحْرم بنسب أو غيره، أو نسوة ثقات؛ لأن سفرها وحدها حرام، وإن كانت في قافلة أو مع جماعة، لخوف استمالتها وخديعتها، ولخبر الصحيحين: «لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم» ولا يشترط كون الزوجة والمحرم ثقة؛ لأن الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي.
وأما النسوة فيشترط فيهن الثقة لعدم الأمن، والبلوغ، لخطر السفر، ويكتفى بالمراهقات في رأي المتأخرين، وأن يكنَّ ثلاثاً غير المرأة؛ لأنه أقل الجمع، ولا يجب الخروج مع امرأة واحدة. وهذا كله شرط للوجوب. أما الجواز فيجوز للمرأة أن تخرج لأداء حجة الإسلام (الفرض) مع المرأة الثقة على الصحيح. والأصح أنه لا يشترط وجود محرم لإحداهن، والأصح أنه يلزم المرأة أجرة المحرم إذا لم يخرج إلا بها. أما حج التطوع وغيره من الأسفار التي لا تجب، فليس للمرأة أن تخرج إليه مع امرأة، بل ولا مع النسوة الخلص، لكن لو تطوعت بحج، ومعها محرم، فمات، فلها إتمامه، ولها الهجرة من بلاد الكفر وحدها.
السابع ـ إمكان المسير: وهو أن يبقى من وقت الحج بعد القدرة بأنواعها ما يكفي لأدائه. وتعتبر الاستطاعة عند دخول وقته وهو شوال إلى عشر ذي الحجة، فلا يجب الحج إذا عجز في ذلك الوقت.
وقال الحنابلة (1) : الاستطاعة المشترطة: هي القدرة على الزاد والراحلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، فوجب الرجوع إلى تفسيره: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة» (2) روى ابن عمر: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مايوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» (3) .
واتفق الشافعية في الأصح والحنابلة على أنه لا يلزم الحج إذا بذل المال ولد أو أجنبي، ولا يجب قبوله، لما في قبول المال من المنة.
__________
(1) المغني:218/3-222، كشاف القناع:450/2-454.
(2) رواه الدارقطني عن جابر وابن عمر وابن عمرو وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
(3) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(3/420)
ورأى الحنابلة كالشافعية أن من تكلف الحج ممن لا يلزمه، وأمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة ونحوها، ولايسأل الناس، استحب له الحج، لقوله تعالى: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} [الحج:27/22] فقدم الرجال أي المشاة، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز وجل، وخروجاً من الخلاف. ويكره الحج لمن حرفته السؤال.
والزاد المشروطة عند الحنابلة كالشافعية: وهو ما يحتاج إليه في ذهابه
ورجوعه، من مأكول ومشروب وكسوة، ويلزمه شراؤه بثمن المثل، أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله.
ويلزمه حمل الزاد والماء وعلف البهائم إن لم يجده في طريقه، فإن وجده في المنازل المعتادة، لم يلزمه حمله؛ لأن هذا يشق عليه ولم تجر العادة به.
ويشترط أيضاً القدرة على وعاء الزاد والماء؛ لأنه لا بد منه.
ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه؛ لأنه لا بد منه، فإن لم يحتج إليه لم يعتبر.
وأما الراحلة أو المركوب: فيشترط أن تكون صالحة لمثله، إما بشراء أو بكراء لذهابه ورجوعه، وأن يجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله. ويطلب وجود الراحلة مع بعد المسافة فقط عن مكة، ولو قدر على المشي، لأن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وبعد المسافة: ما تقصر فيه الصلاة، أي مسيرة يومين معتدلين، ولا تعتبر الراحلة فيما دون مسافة القصر، من مكي وغيره بينه وبين مكة دون المسافة، ويلزمه المشي للقدرة على المشي فيها غالباً، ولأن مشقتها يسيرة، ولا يخشى فيها المشي للقدرة على المشي فيها غالباً، ولا يخشى فيها عطب إذا حدث انقطاع بها، إلا مع عجز لكبر ونحوه كمرض، فتعتبر الراحلة، حتى فيما دون المسافة للحاجة إليها إذن. ولا يلزمه السير حبواً وإن أمكنه لمزيد مشقته.(3/421)
ويشترط أن يكون الزاد والراحلة فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤونتهم في مضيه ورجوعه، دون ما بعد رجوعه؛ لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين، وهم أحوج، وحقهم آكد، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (1) .
وأن يكون ذلك فاضلاً عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لابد منه، وأن يكون فاضلاً عن قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين، فهو آكد.
وإن احتاج إلى الزواج وخاف على نفسه العنت (الإثم والأمر الشاق) قدم التزويج، لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه، فهو كنفقته، وإن لم يخف قدم الحج؛ لأن الزواج تطوع، فلا يقدم على الحج الواجب.
ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه، أو سكنى عياله، أو يحتاج إلى أجرته، لنفقة نفسه أو عياله، أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها، لم يكفهم، أو سائمة يحتاجون إليها، لم يلزمه الحج، فإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته، لزمه بيعه في الحج. وإن كان له كتب يحتاج إليها، لم يلزمه بيعها في الحج، وإن كانت مما لا يحتاج إليها، باع منها ما يكفيه للحج.
وإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج، لزمه الحج؛ لأنه قادر، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه، لم يلزمه.
ويشترط أيضاً أمن الطريق بحيث لا يوجد مانع من عدو ونحوه. ووجود زوج أو محرم للمرأة، فلا يجب عليها الحج ما لم يكن معها أحدهما. وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إلى الحج (2) . وهذا موافق لمذهبي الحنفية والشافعية أيضاً، لكن عند الحنابلة روايتان في هذين الشرطين: رواية أنهما من شرائط الوجوب كالحنفية والشافعية، فلا يجب الحج بدونهما، ورواية أنهما من شرائط لزوم السعي إلى الحج، فمن مات يجب الحج
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو.
(2) البدائع: 123/2-124.....(3/422)
عنه بعد موته لثبوته في ذمته، أما على الرواية الأولى فلم يجب عليه شيء، وهذا هو المذهب.
وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام عند أكثر العلماء، وهو قول للشافعي؛ لأنه فرض، فلم يكن له منعها منه، كصوم رمضان والصلوات الخمس. ويستحب أن تستأذنه في ذلك، فإن أذن وإلا خرجت بغير إذنه. فأما حج التطوع فله منعها منه.
وقال الشافعية: للزوج منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأن حقه على الفور، والنسك على التراخي، وليس له منعها من الصوم والصلاة، والفرق: طول مدة الحج، بخلافهما.
الشروط الخاصة بالنساء: أما الشروط الخاصة بالنساء فهي اثنان تفهم مما سبق بيانه في المذاهب وهما:
أحدهما ـ أن يكون معها زوجها أو مَحْرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. وهذا متفق عليه للحديث السابق: «لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم» (1) ولحديث: «لا تحجن امرأة إلا ومعها زوج» (2) ، وأوجب الشافعية على المرأة الحج مع نسوة ثقات، لا مع واحدة فقط، وأوجب المالكية عليها الحج مع رفقة مأمونة من النساء فقط أو الرجال فقط، أو المجموع من الجنسين. ودليل الشافعية والمالكية عموم آية: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] فإذا أمنت المرأة الفساد على نفسها لزمها الحج.
__________
(1) متفق عليه عند البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار:290/4) .
(2) رواه الدارقطني وصححه أبو عوانة (نيل الأوطار: 491/4) .(3/423)
وضابط المحرم عند العلماء: من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها أي بنسب أو رضاع أو مصاهرة. فخرج بالتأبيد: زوج الأخت وزوج العمة، وخرج بالمباح: أم الموطوءة بشبهة وبنتها، وخرج بحرمتها: الزوجة الملاعنة (1) هذا ويلاحظ أن الخلاف بين الشافعية والمالكية وبين باقي الفقهاء محصور في سفر الفريضة ومنه سفر الحج، فلا يقاس عليه سفر الاختيار بالإجماع، خطب النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق، فحج مع امرأتك» (2) .
والثاني ـ ألا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله عز وجل: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} [الطلاق:1/65] ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر، فأما العدة فإنها تجب في وقت مخصوص وهو ما بعد الطلاق أو الوفاء مباشرة، فكان الجمع بين الأمرين أولى.
ويلاحظ أن هذين الشرطين مع شروط سلامة البدن من الآفات المانعة من السفر كالمرض والعمى، وزوال المانع الحسي كالحبس، وأمن الطريق هي شروط وجوب الأداء عند الحنفية وهي خمسة، أما شروط الوجوب أو الفرضية فهي ثمانية عندهم: وهي الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد ولو بمكة، والقدرة على الراحلة والقوة بلا مشقة.
ولو تكلف واحد ممن له عذر فحج عن نفسه، أجزأه عن حجة الإسلام إذا كان عند الحنفية بالغاً عاقلاً حراً؛ لأنه من أهل الفرض، إلا أنه لم يجب عليه، دفعاً للحرج عنه، فإذا تحمل الحرج وقع الحج موقعه.
ومنع الحنابلة خروج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة، وأجازوا لها الخروج في عدة الطلاق المبتوت؛ لأن لزوم المنزل والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة، والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك. وأما عدة الرجعية إن خرجت للحج فتوفي زوجها، رجعت لتعتد في منزلها إن كانت قريبة، ومضت في سفرها إن كانت بعيدة.
__________
(1) نيل الأوطار: 291/4.
(2) متفق عليه عن ابن عباس، واللفظ لمسلم (سبل السلام:183/2) .(3/424)
النيابة في الحج والحج عن الغير (1) :
بحث هذا الموضوع يقتضي ما يأتي:
أولاً ـ ما يقبل النيابة من العبادات وما لا يقبلها:
العبادات أنواع ثلاثة (2) :
أـ عبادة مالية محضة كالزكاة والكفارة وتوزيع الأضاحي: يجوز النيابة فيها بالاتفاق في حالتي الاختيار والضرورة؛ لأن المقصود انتفاع أهلها بها، وذلك حاصل بأي شخص، أصيل أو نائب.
ب ـ عبادة بدنية محضة كالصلاة والصوم: لا تجوز النيابة فيها؛ لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل بالإنابة.
جـ ـ عبادة مركبة ـ بدنية ومالية معاً ـ كالحج: يجوز فيها عند الجمهور (غير المالكية) النيابة عند العجز أو الضرورة؛ لأن المشقة المقصودة تحصل بفعل النفس، وتحصل أيضاً بفعل الغير إذا كان بماله، فهذه العبادة تختلف عن الصلاة باشتمالها على القربة المالية غالباً بالإنفاق في الأسفار.
__________
(1) قال بعض أئمة النحاة: منع قوم إدخال أل على غير وكل وبعض؛ لأن هذه لا تتعرف بالإضافة فلا تتعرف بالألف واللام، وقال ابن عابدين: إنها تدخل عليها؛ لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف، ولكنها المعاقبة للإضافة. (رد المحتار:323/2) .
(2) فتح القدير:308/2 ومابعدها، البدائع:212/2 ومابعدها، تبيين الحقائق:83/2-85، الدر المختار:326/2 ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي:10/2، الشرح الصغير:14/2-15، القوانين الفقهية: ص 128، الفروق للقرافي:205/2، مغني المحتاج: 468/1، متن الإيضاح: ص 17، غاية المنتهى:358/1، القواعد لابن رجب: ص 318، المغني:227/3-230.(3/425)
وقال المالكية على الصحيح: لا تجوز النيابة عن الحي في حج الفرض أو النفل، بأجرة أو لا، والإجارة فيه فاسدة، لأنه عمل بدني لا يقبل النيابة، كالصلاة والصوم، إذ المقصود منه تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد، من لبس المخيط وغيره لتذكر المعاد والآخرة والقبر، وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع، وإظهار الانقياد من الإنسان لما لم يعلم حقيقته، كرمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة وغيرهما، وهذه مصالح ومقاصد لا تتحقق إلا لمن باشرها بنفسه.
أما الميت إذا أوصى بالحج فيصح عنه مع الكراهة، ويكره التطوع عنه بالحج.
ثانياً ـ إهداء ثواب الأعمال للميت:
اتفق العلماء على وصول ثواب الدعاء والصدقة والهدي للميت، للحديث السابق: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له» (1) .
وقال جمهور أهل السنة والجماعة (2) : للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو تلاوة قرآن، بأن يقول: اللهم اجعل ثواب ما أفعل لفلان، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم «ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته، ممن أقر بوحدانية الله تعالى، وشهد له بالبلاغ» (3) فإنه جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته. ولما روي أن رجلاً سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؛ فقال له عليه الصلاة والسلام: إن من البر بعد البر: أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك» (4) .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة (رياض الصالحين: ص 347) .
(2) المراجع السابقة.
(3) روي فيه سبعة أحاديث وهي عن عائشة وأبي هريرة، وجابر وأبي رافع وحذيفة بن أسيد الغفاري وأبي طلحة الأنصاري وأنس، فحديث عائشة وأبي هريرة رواه ابن ماجه (انظر نصب الراية:151/2-154) .
(4) رواه الدارقطني، ويؤكده مارواه أيضاً عن علي: «من مر على المقابر وقرأ: قل هو الله أحد، إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات» وروى أبو داود عن معقل بن يسار: «اقرؤوا على موتاكم سورة يس» .(3/426)
وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم:39/53] فيراد به: إلا إذا وهبه له، كما حققه الكمال بن الهمام، أو أنه ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، ويؤكده مضمون آية أخرى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذ ريتَهم} [الطور:21/52] .
وأما حديث «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» فلا يدل على انقطاع عمل غيره. وأما حديث: «لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد» فهو في حق الخروج عن العهدة، لا في حق الثواب.
وليس في ذلك شيء مما يستبعد عقلاً، إذ ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر
لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل.
وقال المعتزلة: ليس للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، ولا يصل إليه، ولاينفعه، لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى} [النجم:39/53-40] ولأن الثواب هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً عن غيره.
وقال مالك والشافعي: يجوز جعل ثواب العمل للغير في الصدقة والعبادة المالية وفي الحج، ولا يجوز في غيره من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره.(3/427)
ثالثاً ـ مشروعية النيابة في الحج وأقوال الفقهاء فيما يجوز منها:
يجوز الحج عن الغير الذي مات ولم يحج، أو عن المريض الحي الذي عجز عن الحج لعذر وله مال، وآراء الفقهاء هي ما يأتي (1) :
قال الحنفية: من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض ونحوه، وله مال، يلزمه أن يُحج رجلاً عنه، ويجزئه عن حجة الإسلام، أي أنه تجوز النيابة في الحج عند العجز فقط لا عند القدرة، بشرط دوام العجز إلى الموت. وأما المقصر الذي مات فتصح منه بل تجب الوصية بالإحجاج عنه ويكون من بلده، إن لم يعين مكاناً آخر، فهما حالتان: العجز وبعد الموت بالوصية.
والمعتمد عند المالكية: أن النيابة عن الحي لا تجوز، ولا تصح مطلقاً إلا عن ميت أوصى بالحج، فتصح مع الكراهة وتنفذ من ثلث ماله. ولا حج على المعضوب إلا أن يستطيع بنفسه، للآية {من استطاع إليه سبيلاً} [آل عمران:97/3] وهذا غير مستطيع.
وأجاز الشافعية الحج عن الغير في حالتين:
أـ حالة المعضوب: وهو العاجز عن الحج بنفسه لكبر أو زمانة أو غير ذلك، الذي لا يثبت على الراحلة. بل يلزمه الحج إن وجد من يحج عنه بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن حاجاته المذكورة فيمن حج بنفسه، لكن لا يشترط نفقة العيال ذهاباً وإياباً؛ لأنه مستطيع بغيره؛ لأن الاستطاعة كما تكون بالنفس تكون ببذل المال وطاعة الرجال، فيجب على من عجز عن الحج بنفسه لهرم أو مرض لا يرجى برؤه الاستنابة إن قدر عليها بماله أو بمن يطيعه بأن كان متبرعاً موثوقاً به.
ب ـ وحالة من يأتيه الموت ولم يحج، فيجب على ورثته الإحجاج عنه من تركته، كما يقضى منها دينه، ويلزمهم أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه، بالنفقة الكافية ذهاباً وإياباً.
__________
(1) البدائع: 124/2، 212، الدر المختار: 326/2-333، الشرح الصغير:15/2، بداية المجتهد:309/1، مغني المحتاج: 468/1 ومابعدها، المغني: 227/3 ومابعدها، كشاف القناع: 241-244، 455/2-459.(3/428)
والخلاصة: إن الاستطاعة للحج نوعان عند الشافعية: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره، أما الأولى فيشترط لها الأمور السابقة: الراحلة لمن كان بينه وبين مكة مسافة القصر (مرحلتان) فصاعداً، والزاد، وأمن الطريق، وصحة البدن، وإمكان المسير: وهو أن يبقى من الزمان بعد وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير المعهود إلى الحج.
وأما الثانية: فهي أن يعجز عن الحج بنفسه بموت أو كبر، أو زمانة أو مرض لايرجى زواله أو هرم بحيث لا يستطيع الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة. وهذا العاجز الحي يسمى معضوباً.
وتجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته، ولم يحج، إذا كان له تركة، وإلا فلا يجب على الوارث. ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصى به أم لا.
وأما المعضوب فلا يصح عنه الحج بغير إذنه، وتلزمه الاستنابة إن وجد مالاً يستأجر به من يحج عنه فاضلاً عن حاجته يوم الاستئجار خاصة، سواء وجد أجرة راكب أو ماش، بشرط أن يرضى بأجر المثل. وإن لم يجد مالاً ووجد من يتبرع عنه بالحج من أولاده الذكور أو الإناث، لزمه استنابته.
وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح.
ولو استناب المعضوب من يحج عنه، ثم زال العضب وشفي، لم يجزه على الأصح، بل عليه أن يحج (1) .
وعلى هذا: من وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات ينظر:
إن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه، ولم يجب القضاء.
وإن مات بعد التمكن من الأداء، لم يسقط الفرض، ويجب قضاؤه من تركته، ويجب قضاؤه عنه من الميقات؛ لأن الحج يجب من الميقات، ويجب من رأس المال؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي. وإن اجتمع الحج ودين الآدمي، والتركة لا تتسع لهما، الأصح أنه يقدم الحج (2) .
__________
(1) كتاب الإيضاح للنووي: ص16 ومابعدها، طبعة الجمالية بمصر، المهذب:199/1.
(2) المهذب:199/1، المجموع:89/7 ومابعدها.(3/429)
وأجاز الحنابلة كالشافعية الحج عن الغير في حالتين أيضاً:
1 - المعضوب: وهو من عجز عن السعي إلى الحج والعمرة لكبر أو زمانة، أو مرض لا يرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه الركوب على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة، أو أيست المرأة من محرم.
يلزم كل من هؤلاء الحج إن وجد من ينوب عنه حراً، ومالاً يستنيبه به، فيحج عنه ويعتمر على الفور من بلده، أو من الموضع الذي أيسر منه إن كان غير بلده.
ويجوز أن يكون النائب رجلاً عن امرأة وبالعكس: امرأة عن رجل، بلا خلاف بين العلماء، لكن يكره عند الحنفية إحجاج المرأة لاشتمال حجها عادة على نوع من النقصان، فإنها لا ترمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة، ولاتحلق.
وإن لم يجد مالاً يستنيب به، فلا حج عليه بغير خلاف؛ لأن الصحيح (غير المريض) لو لم يجد ما يحج به، لم يجب، فالمريض أولى. وإن وجد مالاً ولم يجد من ينوب عنه، فعلى الروايتين السابقتين في إمكان المسير: هل هو من شرائط الوجوب وهو المذهب، فلا يجب عليه شيء بعد الموت. أم من شرائط لزوم السعي للحج، فيجب الحج عنه بعد موته.
ومن يرجى زوال مرضه وفك حبسه، ليس له أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه؛ لأنه يرجو القدرة على الحج بنفسه، فلم يكن له الاستنابة، ولا تجزئه إن فعل كالفقير.
وإن عوفي المعضوب قبل إحرام النائب لم يجزئه حج النائب عنه اتفاقاً للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل، كالمتيمم يجد الماء. ومتى أحج المعضوب عن نفسه، ثم عوفي، لم يجب عليه حج آخر؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ. وقال الشافعية والحنفية: يلزمه حج آخر؛ لأن هذا بدل إياس، فإذا برأ تبينا أنه لم يكن مأيوساً منه، فلزمه الأصل، كالآيسة إذا اعتدت بالشهور، ثم حاضت، لا تجزئها تلك العدة.(3/430)
ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضاً كان أو تطوعاً؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة.
2 - الميت الذي وجب عليه الحج: من وجب عليه الحج، لاستكمال الشرائط السابقة المطلوبة، ثم توفي قبله، فرّط في الحج بأن أخره لغير عذر، أو لم يفرط كالتأخير لمرض يرجى برؤه أو لحبس أو أسر أو نحوه، أخرج عنه من جميع ما له حجة وعمرة، ولو لم يوص به. ويكون الإحجاج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء، بل يجب ألا يكون النائب من خارج بلده التي تبعد فوق مسافة القصر، ويجوز من نائب من بلد آخر دون مسافة القصر؛ لأن ما دونها في حكم الحاضر. وإن مات من وجب عليه الحج في الطريق أو مات نائبه في الطريق، حج عنه من حيث مات هو أو نائبه، فيما بقي مسافة وقولاً وفعلاً.
ويسقط الحج عن الميت بحج أجنبي عنه، ولو بلا إذن وليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم شبَّهه بالدين، أي إن الحج عن الميت يجوز عنه بغير إذنه واجباً كان أو تطوعاً، بخلاف الحي؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت، مع العلم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة.
وإن وصى المسلم بحج نفل ولم يعين محل الاستنابة، جاز أن يحج عنه من الميقات أي ميقات بلد الموصي، ما لم تمنع منه قرينة بأن يوصي أن يحج بقدر يكفي للنفقة من بلده، فيتعين منها، فإن ضاق ماله عن الحج من بلده بأن لم يخلف مالاً يفي به، أو كان عليه دين، أخذ للحج بحصته، وحج به من حيث يبلغ، لشبهه بالدين.
والخلاصة: إن المالكية والحنفية يجيزون الحج عن الميت إذا أوصى وتنفذ الوصية من ثلث المال، وأجاز الجمهور غير المالكية عن الحي العاجز لمرض ونحوه. وحج النائب يكون عند الحنفية والحنابلة من بلد المنوب عنه، وعند الشافعية من الميقات.
وتنفذ الوصية عند الشافعية والحنابلة من رأس المال، لا من الثلث فقط.(3/431)
وحج النائب عن الميت يكون على الفور عند الجمهور، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران:97/3] والأمر على الفور، وعند الشافعي: على التراخي، وللنائب تأخيره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمّر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة، لا محارباً ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج، فدل على أن وجوبه على التراخي.
أدلة المشروعية: استدل الفقهاء على مشروعية النيابة في الحج بحديث ابن عباس وغيره: «أن امرأة من خَثْعَم، قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؟ قال: فحُجِّي عنه» (1) فدل على جواز الحج عن الوالد غير القادر على الحج، علماً بأن ذلك كان في حجة الوداع.
وعن ابن عباس أيضاً: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دين أكنت قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (2) .
ورواه الدارقطني بلفظ: «أتى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه، أقضيتَه عنه؟ قال: نعم، قال: فاحجُجْ عن أبيك» . دل على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وشبَّهه بالدين، ودلت روايات أخرى على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره، إذ فيها «إن أختي نذرت أن تحج» ولم يستفصله أوارث هو أم لا؟
__________
(1) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عباس، وروى أحمد والترمذي وصححه مثله عن علي، ورواه أحمد، والنسائي بمعناه عن عبد الله بن الزبير بلفظ «جاء رجل من خثعم» يصف حال أبيه الكبير (نيل الأوطار:285/4 وما بعدها، سبل السلام: 181/2) ........
(2) رواه البخاري، والنسائي بمعناه عن ابن عباس (المرجعان السابقان:286/4، و182/2) .(3/432)
ودلت السنة أيضاً على اشتراط كون النائب قد حج عن نفسه، عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبّيك عن شُبْرمة، قال: من شُبْرمة؟ قال: أخ لي، أوقريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حجَّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» (1) .
رابعاً ـ الاستئجار على الحج:
لم يجز متقدمو الحنفية (2) الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه من القربات الدينية لاختصاص فاعلها بها، فلو قال رجل لآخر: «استأجرتك على أن تحج عني بكذا» لم يجز حجه، والمذهب وقوع الحج عن المحجوج عنه. وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة، وتكون له نفقة مثله بطريق الكفاية؛ لأنه فرغ من نفسه لعمل ينتفع به المستأجر. وإنما جاز الحج عنه؛ لأنه لما بطلت الإجارة، بقي الأمر بالحج. والزائد عن نفقة المثل في الطريق وغيره يرد على الآمر إلا إذا تبرع به الورثة، أو أوصى الميت بأن الفضل للحاج.
ودليلهم على عدم جواز الإجارة على الحج وبقية الطاعات: أن أبي بن كعب كان يعلِّم رجلاً القرآن، فأهدى له قوساً، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له:
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، وقال: «فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة» والدارقطني وفيه قال: «هذه عنك وحج عن شبرمة» (نيل الأوطار:292/4) .
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين:329/2.(3/433)
«إن سرك أن تتقلد قوساً من نار، فتقلدها» (1) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» (2) ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة والصوم.
وأجاز جمهور الفقهاء (3) ومتأخرو الحنفية: الإجارة على الحج وبقية الطاعات، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتابُ الله» (4) ، وأخذ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم الجُعْل على الرُّقية بكتاب الله، وأخبروا بذلك النبي، فصوبهم فيه (5) ، ولأنه يجوز أخذ النفقة على الحج، كما أقر متقدمو الحنفية أنفسهم، فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر.
وفائدة الخلاف بين الرأيين: أنه متى لم يجز أخذ الأجرة على الحج، فلا يكون إلا نائباً محضاً، وما يدفع إليه من المال، يكون نفقة لطريقه، فلو مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق، لم يلزمه الضمان لما أنفق؛ لأنه إنفاق بإذن صاحب المال. وما يلزم من الدماء للنائب بفعل محظور، فعليه في ماله؛ لأنه لم يؤذن له في الجناية، فكان موجبها عليه، كمالو لم يكن نائباً. وإن أفسد الحجة فالقضاء عليه، ويرد ما أخذ؛ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته، وكذلك إن فاته الحج بتفريطه. أما إن فاته بغير تفريط احتسب له بالنفقة؛ لأنه لم يفت بفعله، فلم يكن مخالفاً، كما لو مات. وإن مات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى، وما فضل معه من المال، رده، إلا أن يؤذن له في أخذه، وينفق على نفسه بقدر الحاجة ولاتقتير. وإذا سلك النائب طريقاً يمكنه سلوك أقرب منه، ففاضل النفقة في ماله، وإن أقام بمكة مدة القصر، بعد إمكان السفر راجعاً، أنفق من مال نفسه.
__________
(1) رواه ابن ماجه (نيل الأوطار:286/5) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه (المرجع السابق) .
(3) القوانين الفقهية: ص 128، الشرح الصغير: 15/2، مغني المحتاج:469/1 ومابعدها، المغني:231/3 ومابعدها.
(4) رواه البخاري عن ابن عباس (المرجع السابق: ص289) .
(5) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري (المرجع السابق) .(3/434)
وإن جاز الاستئجار على الحج عن حي أو ميت، اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة، وعقد الإجارة، وما يأخذه أجرة له يملكه، ويباح له التصرف فيه، والتوسع به في النفقة وغيرها، وما فضل فهو له. وإن أحصر أو ضل الطريق، أو ضاعت النفقة منه، فهو في ضمانه والحج عليه. وإن مات انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه تلف، فانفسخ العقد، كما لو ماتت البهيمة المستأجرة، ويكون الحج أيضاً من موضع بلغ إليه النائب، وما لزمه من الدماء فعليه؛ لأن الحج عليه.
الإجارة على الحج عند المالكية: هؤلاء وإن أجازوا الإجارة على الحج عن الميت الذي أوصى به، لكنهم قالوا بكراهة إجارة الإنسان نفسه في عمل لله تعالى، حجاً أو غيره، كقراءة وإمامة وتعليم علم، إلا تعليم كتاب الله تعالى، وتصح إن أجر نفسه. والإجارة على الحج عندهم نوعان:
الأول ـ إجارة بأجرة معلومة تكون ملكاً للأجير، كسائر الإجارات، فما عجز عن كفايته، وفاه من ماله، وما فضل كان له. الثاني ـ البلاغ: وهو أن يدفع إليه المال ليحج عنه، فإن احتاج إلى زيادة، أخذها من المستأجر، وإن فضل شيء رده إليه.
وإذا أوصى الميت أن يحج عنه من ماله، وكان صَرُورة (لم يحج) ، نفذت الوصية من ثلث ماله، وإن لم يوص سقط عنه.
وينوي الأجير الحج لمن حج عنه، ويجوز أن يكون الأجير على الحج لم يحج حجة الفريضة عندهم وعند الحنفية، خلافاً للشافعية والحنابلة، كما سأبيِّن في الشروط.
خامساً ـ شروط الحج عن الغير:
اشترط الحنفية (1) عشرين شرطاً للحج عن الغير أذكرها مع آراء الفقهاء الآخرين:
1 - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لاعن نفسه، فلا بد من نيته، والأفضل أن يقول بلسانه: أحرمت عن فلان، ولبيت عن فلان، فيقول مثلاً: نويت الحج عن فلان وأحرمت به لله تعالى، ولبيك عن فلان، كما إذا حج عن نفسه، ولو نسي اسمه فنوى عن الأصيل صح، وتكفي نية القلب. وهذا الشرط متفق عليه.....(3/435)
2 - أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه، وله مال. فإن كان قادراً على الأداء، بأن كان صحيح البدن، وله مال، لا يجوز حج غيره عنه. وهذا باتفاق الجمهور غير المالكية، أما المالكية فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقاً، وعليه: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً.
وأجاز الكل الحج عن الميت، لكن إذا أوصى عند الحنفية والمالكية، أو وإن لم يوص عند الآخرين، ويجب الحج عنه إن كان قادراً ومات مفرطاً عند الشافعية والحنابلة.
3 - أن يستمر العجز كالحبس والمرض إلى الموت: وهذا باتفاق الحنفية والشافعية؛ فلو زال العجز قبل الموت، لم يجزئه حج النائب؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى برؤه، فيتقيد الجواز به.
وقال الحنابلة: يجزئه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يزل عذره.
4 - وجوب الحج: فلو أحج الفقير أو غيره ممن لم يجب عليه الحج عن الفرض، لم يجز حج غيره، وإن وجب بعد ذلك.
5 - وجود العذر قبل الإحجاج: فلو أحج صحيح غيره، ثم عجز، لا يجزيه. وهذان الشرطان مفهومان بداهة.
6 - أن تكون النفقة من مال الأصيل، كلها أو أكثرها عند الحنفية، إلا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه، تبرأ ذمة الميت، إذا لم يكن قد أوصى بالإحجاج عنه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:327/2-333، فتح القدير:317/2-321، البدائع:212/2 ومابعدها، الشرح الصغير:15/2، الشرح الكبير:18/2، القوانين الفقهية: ص128، شرح المحلي: 90/2، كتاب الإيضاح: ص17،18، المهذب: 1/199، المجموع: 7/98، مغني المحتاج: 1/470وما بعدها، المغني: 3/230،243-245، كشاف القناع: 2/462 وما بعدها.....(3/436)
فإن تطوع النائب بالحج من مال نفسه، لم يقع عند الحنفية عن الميت، وكذا إذا أوصى الميت المورث أن يحج عنه بماله، ومات، فتطوع عنه وارثه بمال نفسه، لايجزئ الميت؛ لأن الفرض تعلق بماله، فإذا لم يحج بماله، لم يسقط عنه الفرض. وأجاز الشافعية والحنابلة التطوع بالحج من الوارث أو الأجنبي عن الغير مطلقاً، سواء أوصى الميت أم لم يوص أو لم يأذن الوارث للأجنبي، كمن يتبرع بقضاء دين غيره.
7 - أن يحرم من الميقات على النحو الذي طالب به الأصيل: فلو اعتمر، وقد أمره بالحج، ثم حج من مكة، لا يجوز، ويضمن، أي لو أمره بالإفراد بالحج، فتمتع بالعمرة، لم يقع حجه عنه، ويضمن باتفاق الحنفية، ولو أمره بالإفراد فقرن بالحج والعمرة فهو مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة، ويجوز ذلك عند الصاحبين عن الأصيل استحساناً.
وإن أوصى الميت بالحج، وحدد المال أو المكان، فالأمر على ما حدده وعينه، وإن لم يحدد شيئاً فيحج عنه من بلده قياساً لا استحساناً، والعمل على القياس.
وقال الشافعية: يجب على النائب الحج من ميقات الأصيل؛ لأن الحج يجب من الميقات. ولو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر، فيقع ذلك عن الآمر كما قال الصاحبان. أما إذا أمره بالإفراد فتمتع عن الآمر، لم يقع حجه عنه، ولايجوز ذلك عن حجة الإسلام، كما قال الحنفية. وسوى المالكية بين القران والتمتع إذا فعلا، وكان الإفراد يجزئ، إن كان الشرط من الوصي لا الأصيل.............(3/437)
وقال الحنابلة: يجب على النائب الحج من بلد الأصيل؛ لأن الحج واجب على العاجز أو الميت من بلده، فوجب أن ينوب عنه منه؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء، كقضاء الصلاة والصيام. وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء. وصحح الحنابلة الحج عن الأصيل في كل الحالات إفراداً وقراناً وتمتعاً، ويرجع على الأجير بفرق أجرة المسافة، أو توفير الميقات. فإن كان للأصيل وطنان، استنيب من أقربهما. وإن خرج الشخص للحج، فمات في الطريق، حج عنه من حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه، فلم يجب ثانياً. وكذلك إن مات نائبه، استنيب من حيث مات كذلك.
ولو أحرم شخص بالحج، ثم مات، صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك؛ سواء أكان إحرامه لنفسه أم لغيره؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها، قضى عنه باقيها كالزكاة.
فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج من بلده، حج عنه من حيث تبلغ.
وإن أوصى ميت بحج تطوع، فلم يف ثلثه بالحج من بلده، حج به من حيث بلغ، أو يعان به في الحج. ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد، إلا أن يرضى الورثة بزيادة، أو يكون قد أوصى بشيء، فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث.
8 - الأمر بالحج: شرط الحنفية أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير بغير إذنه، إلا الوارث، فإنه يجوز أن يحج عن المورث بغير إذنه، وتبرأ ذمة الميت إذا لم يكن أوصى بالحج عنه، ودليلهم حديث الخثعمية السابق. وفي نطاق المشيئة الإلهية: لو حج عنه أجنبي تسقط عنه حجة الإسلام إن شاء الله تعالى؛ لأنه إيصال للثواب، وهو لا يختص بأحد من قريب أو بعيد، قال أبو حنيفة: يجزيه إن شاء الله، وبعد الوصية يجزيه من غير المشيئة.....................(3/438)
9 - وشرط الحنفية أيضاً عدم اشتراط الإجرة، فلا يجوز كما تقدم عندهم الاستئجار على الحج، فلو استأجر رجلاً، بأن قال: استأجرتك على أن تحج عني بكذا، لم يجز حجه عنه والمعتمد أنه يقع عنه، وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة. وأجاز الجمهور كما بينا الاستئجار على الحج. وأبان الحنابلة أنه يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أبا رزين فقال: «حج عن أبيك واعتمر» و «سألت امرأة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج، فقال: حج عن أبيك» وعن جابر: «من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً، بعث يوم القيامة مع الأبرار» . (1)
ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما؛ لأن الأم مقدمة في البر، قال أبو هريرة: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (2) . وإن كان الحج واجباً على الأب دون الأم، بدأ به؛ لأنه واجب، فكان أولى من التطوع.
وقال الحنفية: من أهل بحجة عن أبويه، يجزيه أن يجعله عن أحدهما؛ لأن من حج عن غيره بغير إذنه، يجعل ثواب حجه له بعد أداء الحج، فلغت نيته قبل أدائه، وصح جعل ثوابه لأحدهما بعد الأداء، بخلاف المأمور بالحج، كما تقدم.
10 - أهلية النائب لصحة الحج: بأن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً) بالاتفاق وأجاز الحنفية كون النائب مميزاً (مراهقاً) فلا يصح عندهم إحجاج صبي غير مميز.
حج الصَّرُورة: الصرورة: من لم يحج عن نفسه، أجاز الحنفية مع الكراهة التحريمية حج الصرورة ولم يشترطوا أن يكون النائب قد حج عن نفسه، عملاً بإطلاق حديث الخثعمية: «حجي عن أبيك» من غير استفسار عن سبقها الحج عن نفسها، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب.
__________
(1) روى الدارقطني كل تلك الأحاديث.
(2) رواه مسلم والبخاري.(3/439)
أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج.
وكذلك قال المالكية: يكره الحج عن غيره أي في حالة الوصية بالحج قبل أن يحج عن نفسه، بناء على أن الحج واجب على التراخي، وإلا منع على القول بأنه على الفور وهو المعتمد عندهم.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح الحج عن الغير ما لم يكن النائب قد حج عن نفسه حجة الإسلام، للحديث السابق الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً يلبي عن شبرمة، فقال له: «حج عن نفسك، ثم عن شبرمة» ويحمل ترك الاستفصال في حديث الخثعمية على علمه عليه السلام بأنها حجت عن نفسها أولاً، وإن لم يرو لنا طريق علمه بذلك، جمعاً بين الأدلة كلها، كما قال الكمال بن الهمام.
ويؤيده حديث آخر: «لا صرورة في الإسلام» (1) .
كذلك لا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة، وعليه فرضهما، ولا يحج ولا يعتمر عن النذر، وعليه فرض حجة الإسلام؛ لأن النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام، فلا يجوز تقديمهما عليها، كحج غيره على حجه. فإن أحرم عن غيره، وعليه فرضه، انعقد إحرامه لنفسه عما عليه، للرواية السابقة عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمن يحج عن شبرمة: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة» .
وعليه لو اجتمع على إنسان حجة الإسلام وقضاء ونذر، قدمت حجة الإسلام، ثم القضاء ثم النذر، ولو أحرم بغيرها وقع عنها، لا عما نوى.
11 - أن يحج النائب راكباً؛ لأن المفروض عليه هو الحج راكباً، فينصرف
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح، بعضه على شرط مسلم، وباقيه على شرطه البخاري، قال الشافعي: أكره أن يسمى من لم يحج صرورة. وسمي صرورة؛ لأنه صرّ بنفسه عن إخراجها في الحج. وكذلك قال الحنابلة: تكره تسمية من لم يحج صرورة، للحديث المذكور: «لا صرورة في الإسلام» .(3/440)
مطلق الأمر بالحج إليه، فإذا حج ماشياً فقد خالف، فيضمن النفقة، فمن أمر غيره بالحج عنه، فحج ماشياً، ضمن النفقة.
والمعتبر عند الحنفية: ركوب أكثر الطريق، إلا إن ضاقت النفقة، فحج ماشياً، جاز. وكون وجوب الحج راكباً هو رأي الجمهور غير المالكية. أما المالكية فيوجبون الحج ماشياً بلا مشقة شديدة، كما عرفنا.
12 - أن يحج النائب عن الأصيل من وطنه إن اتسع ثلث التركة، في حالة الوصية بالحج، وإن لم يتسع يحج عنه من حيث يبلغ. هذا رأي الحنفية.
ورأى الشافعية والحنابلة أنه يحج عنه من جميع مال الميت؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال، كدين الآدمي.
13 - أن يحج النائب بنفسه إن عينه الأصيل، بأن قال: يحج عني فلان، لا غيره، فلا يجوز حج غيره، ولا يقع الحج عن الميت، ويضمن الحاج الأول والثاني نفقة الحج. أما إن فوض الأصيل النائب، فقال له: اصنع ماشئت، فله حينئذ أن يدفع المال إلى غيره، ويقع الحج عن الآمر.
14 - ألا يفسد النائب حجه: فلو أفسده، لم يقع عن الآمر، وإن قضاه عند الحنفية، كما سأبين؛ لأنه أمره بحجة صحيحة: وهي الخالية عن الجماع، ولم يفعل ذلك، فصار مخالفاً، فيضمن ما أنفق، ويقع الحج له لا عن الأصيل؛ لأن من أفسد حجة يلزمه قضاؤه.(3/441)
15 - عدم المخالفة: فلو أمره بالإفراد، فقرن أو تمتع، ولو عن الميت، لم يقع عنه، ويضمن النفقة. ولو أمره بالعمرة فاعتمر، ثم حج عن نفسه، أو بالحج، فحج، ثم اعتمر عن نفسه، جاز، إلا أن نفقة إقامته للحج أو العمرة عن نفسه في ماله، فإذا فرغ عادت في مال الميت، وإن عكس لم يجز. 16 - أن يحرم بحجة واحدة: فلو أهل بحجة عن الآمر، ثم بأخرى عن نفسه، لم يجز، إلا إن رفض الثانية.
17 - أن يفرد الحج عن واحد لو أمره رجلان بالحج، فلو أهل عنهما، ضمن.
18، 19 - إسلام النائب والأصيل وتوفر العقل لديهما، فلا يصح الحج من المسلم للكافر، ولا من المجنون لغيره، ولا عكسه، لكن لو وجب الحج عن المجنون قبل طروء جنونه، صح الإحجاج عنه.
20 - عدم الفوات أي عدم تفويت الوقوف بعرفة، كما سيأتي.
الحج النفل عن الغير: هذه الشرائط كلها عند الحنفية في الحج الفرض، أما الحج النفل عن الغير، فلا يشترط فيه شيء منها إلا الإسلام والعقل والتمييز، وكذا الاستئجار عليه، لاتساع باب النفل، فإنه يتسامح في النفل ولا يتسامح في الفرض (1) .
سادساً ـ مخالفة النائب:
الأصل في النائب بالحج عن الغير أن يلتزم ما وكله به الأصيل أو أمره به، فإذا خالف الأمر، ما الحكم؟
قال الحنفية (2) : يصير المأمور بالحج مخالفاً في الحالات التالية:
أـ إذا أمره بحجة مفردة أو بعمرة مفردة، فقرن بينهما: فهو مخالف ضامن عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يأت بالمأمور به؛ لأنه أمر بسفر على نحو معين، لا غير، ولم يأت به، فخالف أمر الآمر، فضمن. وقال الصاحبان: يجزئ ذلك عن الآمر استحساناً، ولا يُضمن فيه دم القران على الحاج؛ لأنه فعل المأمور به، وزاد خيراً، فكان مأذوناً في الزيادة دلالة، فلم يكن مخالفاً، فهي مخالفة إلى خير.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 329/2.
(2) البدائع: 213/2-216.(3/442)
ب ـ لو أمره بالحج عنه، فاعتمر: ضمن؛ لأنه خالف. ولو اعتمر، ثم حج من مكة، يضمن النفقة باتفاق الحنفية، لأمره له بالحج بسفر، وقد أتى بالحج من غير سفر.
جـ ـ لوأمره أن يعتمر، فأحرم بالعمرة واعتمر، ثم أحرم بالحج عن نفسه، لم يكن مخالفاً؛ لأنه فعل ما أمر به: وهو أداء العمرة بالسفر، وحجه عن نفسه بعدئذ كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها، لكن النفقة في حجه تكون من ماله، لأنه عمل لنفسه.
د - إذا أمره أن يحج عنه، فحج عنه ماشياً، يضمن؛ لأنه خالف؛ لأن الأمر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف في الشرع وهوالحج راكباً؛ لأن الله تعالى أمر بذلك، فعند الإطلاق ينصرف إليه. فإذا حج ماشياً، فقد خالف.
هـ ـ لو أمره اثنان بالحج عنهما، فأحرم عنهما معاً، فهو مخالف، ويقع الحج عنه، ويضمن النفقة لهما إن أنفق من مالهما؛ لأن كل واحد منهما أمره بحج تام ولم يفعل، فصار مخالفاً لأمرهما، فلم يقع حجه عنهما، فيضمن لهما. ووقع الحج عن الحاج؛ لأن الأصل أن يقع كل فعل عن فاعله، وإنما يقع لغيره بجعله، فإذا خالف لم يصر لغيره، فبقي فعله له.
وإن أحرم بحجة عن أحدهما بعينه، وقع عنه، ويضمن للآخر النفقة، وإن أحرم بحجة عن أحدهما بغير تعيين، فله أن يجعله عن أحدهما أيهما شاء، ما لم يتصل بها الأداء. وكذلك لو أحرم الابن بالحج عن أحد أبويه، صح وإن لم يكن معيناً، ثم يعين أحدهما؛ لأن الإحرام ليس من الأداء، بل هو شرط جواز أداء أفعال الحج.
وإن أمره أحدهما بحجة، وأمره الآخر بعمرة: فإن أذنا له بالجمع وهو القران، فجمع، جاز. وإن لم يأذنا له بالجمع، فجمع، جاز عند الكرخي، ولم يجز عند القدوري وهو الأرجح؛ لأنه خالف؛ لأنه أمره بسفر ينصرف كله إلى الحج، وقد صرفه إلى الحج والعمرة، فصار مخالفاً.(3/443)
جزاء المخالفة: إذا فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم (ذبح شاة مثلاً) أو غيره، فهو عليه. ولو قرن عن الآمر بأمره، فدم القران عليه. والحاصل: أن جميع الدماء المتعلقة بالإحرام في مال الحاج، إلا دم الإحصار خاصة، فإنه في مال المحجوج عنه؛ لأنه هو الذي أدخل الحاج في هذه العهدة، فكان من جنس النفقة والمؤنة، وذلك من مال المحجوج عنه.
فإن جامع الحاج القائم بالحج عن غيره قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، ويمضي فيه، والنفقة في ماله، ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك، وعليه القضاء من مال نفسه.
وـ من حج عن غيره، فمرض في الطريق، لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت إلا أن يكون أذن له في ذلك؛ لأنه مأمور بالحج، لا بالإحجاج.
ز ـ لو أحج رجلاً يؤدي الحج، ويقيم بمكة، جاز؛ لأن فرض الحج، صار مؤدىً بالفراغ عن أفعاله. والأفضل أن يحج، ثم يعود إليه، لأنه كلما كانت النفقة أكثر، كان الثواب للآمر أكثر وأوفر. وإذا فرغ المأمور بالحج من الحج، ونوى الإقامة خمسة عشر يوماً فصاعداً، أنفق من مال نفسه؛ لأن نية الإقامة قد صحت، فصار تاركاً للسفر، فلم يعد مأذوناً بالإنفاق من مال الآمر، ولو أنفق ضمن؛ لأنه أنفق مال غيره بغير إذنه.
فإن أقام أياماً بمكة من غير نية الإقامة: فإن أقام إقامة معتادة كثلاثة أيام، فالنفقة في مال المحجوج عنه، وإن زاد على المعتاد، فالنفقة من ماله.
والإقامة للتجارة والإجارة لا يمنعان جواز الحج، ويجوز حج التاجر والأجير والمكاري، لقوله عز وجل: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة:198/2] .(3/444)
وقال الحنابلة (1) :
أـ إذا أمره بحج، فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات، ثم حج: فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج، جاز ولا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي أيضاً؛ لأنه إذا أحرم من الميقات، فقد أتى بالحج صحيحاً من ميقاته. وإن أحرم بالحج من مكة، فعليه دم لترك ميقاته، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة؛ لأن إخلاله كان بما يجبره الدم، فلم تسقط نفقته، كما لو تجاوز الميقات غير محرم، فأحرم دونه.
ب ـ وإن أمره بالإفراد، فقرن، لم يضمن شيئاً عند الحنابلة والشافعية، وهو رأي الصاحبين، خلافاً لرأي أبي حنيفة المتقدم؛ لأنه مخالف. ودليلهم أنه أتى بما أمر به وزيادة، فصح ولم يضمن، كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً.
ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج، ففعلها، فلا شيء عليه، وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها.
جـ ـ وإن أمره بالتمتع، فقرن، وقع عن الآمر عند الحنابلة والشافعية؛ لأنه أمر بهما، وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة، فأحرم به من الميقات، ولا يرد شيئاً من النفقة.
وإن أفرد، وقع عن الأصيل أيضاً، ويرد نصف النفقة؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وقد أمره به، وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئاً.
د ـ إن أمره بالقران، فأفرد أو تمتع، صح،،ووقع النسكان عن الآمر، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات.
هـ ـ إن استنابه رجلان: أحدهما للحج والآخر للعمرة، وأذنا له في القران، ففعل، جاز؛ لأنه نسك مشروع. وإن قرن من غير إذنهما، صح ووقع عنهما، خلافاً للحنفية، ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها؛ لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما، وقد أتى بما أمر به، وإنما خالف في صفته، لا في أصله، فأشبه من أمر بالتمتع فقرن.
وإن أذن أحدهما دون الآخر، رد على غير الآمر نصف نفقته وحده.
__________
(1) المغني: 234/3-236.(3/445)
ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه، لعدم الإذن في سببه. ويكون الدم على من وكلاه، إن أذنا، لوجود الإذن في سببه. فإن أذن أحدهما دون الآخر، فعلى الآذن نصف الدم، ونصفه على النائب.
وـ إن أمر بالحج، فحج، ثم اعتمر لنفسه، أو أمره بعمرة، فاعتمر، ثم حج عن نفسه، صح، ولم يرد شيئاً من النفقة؛ لأنه أتى بما أمر به على وجهه. وإن أمره بالإحرام من ميقات، فأحرم من غيره، جاز؛ لأنهما سواء في الإجزاء.
وإن أمره بالإحرام من بلده، فأحرم من الميقات، جاز؛ لأنه الأفضل.
وإن أمره بالإحرام من الميقات، فأحرم من بلده، جاز؛ لأنه زيادة لا تضر.
وإن أمره بالحج في سنة، أو بالاعتمار في شهر، ففعله في غيره، جاز؛ لأنه مأذون فيه في الجملة.
ز ـ إن استنابه اثنان في نسك، فأحرم به عنهما، وقع عن نفسه دونهما، كما قال الحنفية؛ لأنه لا يمكن وقوعه عنهما، وليس أحدهما بأولى من صاحبه.
وإن أحرم عن نفسه وغيره، وقع عن نفسه؛ لأنه إذا وقع عن نفسه أيضاً، ولم ينوها، فمع نيته أولى.
وإن أحرم عن أحدهما غير معين، احتمل أن يقع عن نفسه أيضاً؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر، فأشبه ما لو أحرم عنهما. واحتمل أن يصح؛ لأن الإحرام يصح بالمجهول، فصح عن المجهول، وإلا صرفه إلى من شاء منهما. فإن لم يفعل حتى طاف شوطاً، وقع عن نفسه، ولم يكن له صرفه إلى أحدهما؛ لأن الطواف لا يقع عن غير معين.
المطلب الثاني ـ موانع الحج:
يفهم من المطلب السابق في شروط الحج أن هناك موانع للحج هي ما يأتي (1) :
1 ً - الأبوة: للأبوين وإن علا أحدهما منع الولد غير المكي من الإحرام بتطوع حج أو عمرة، وليس لهما المنع من الفرض؛ لأن خدمة الأبوين جهاد كما في الصحيحين. ويسن استئذانهما في الفرض أيضاً.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص140 ومابعدها، الحضرمية: ص136 ومابعدها، كشاف القناع:446/2-450، المغني: 240/3، البدائع:120/2، الدر المختار: 200/2.(3/446)
2 ً - الزوجية: للزوج عند الشافعية منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأنه حقه على الفور، والنسك عندهم على التراخي، ويسن لها أن تحرم بغير إذنه. وقال الجمهور: ليس للزوج منع الزوجة من الفرض؛ لأنه واجب على الفور، ولو أحرمت بالفرض لم يكن له تحليلها إلا أن يضر ذلك به.
3 ً - الرق: للسيد منع عبده من الحج الفرض والمسنون، ويتحلل إذا منعه كالمحصر، وليس له منعه من الإتمام إذا أحرم بإذنه، ودليل جواز المنع أن منافع العبد مستغرقة للسيد.
4 ً - الحبس ظلماً أو بدين وهو معسر، فله التحلل.
5 ً - استحقاق الدين: للمستحق الدائن منع الموسر من السفر، وليس له التحليل، وليس للمدين أن يتحلل، بل يؤدي الدين. فإن كان الدين مؤجلاً لم يمنعه الدائن من السفر.
6 ً - الحجر: فلا يحج السفيه إلا بإذن وليه أو وصيه. وقد ذكر المالكية دون غيرهم هذه الحالة.
7 ً - الإحصار بسبب عدو بعد الإحرام: بأن يمنع المحرم عن المضي في نسكه من جميع الطرق إلا بقتال أو بذل مال، فللمحصر التحلل إجماعاً بعد أن ينتظر مدة يرجى فيها كشف المانع.
فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه عند المالكية، وإن كان معه هدي نحره. وقال الجمهور: يتحلل بذبح ما يجزئ في الأضحية: شاة أو سُبْع بقرة أو سُبْع بدنة، ويحلق أو يقصر عند الشافعية، ولا قضاء عليه عندهم، ولا عمرة، فإن كان صرورة (لم يحج) فعليه حجة الإسلام. وعليه الحلق إن كان في الحرم، ولا حلق عليه إن كان الإحصار في الحل عند الحنفية، وعليه القضاء عندهم وعند المالكية والحنابلة، كما سيأتي بيانه، ولا حلق عليه في الراجح عند الحنابلة. ويتحلل بالنية أيضاً عند الشافعية والحنابلة.(3/447)
وللمحصر خمس حالات كما ذكر المالكية: يصح الإحلال في ثلاث: وهي أن يكون العذر طارئاً بعد الإحرام، أو متقدماً ولم يعلم به، أوعلم وكان يرى أنه لايصده. ويمتنع الإحلال في حالة رابعة، وهي إن صد عن طريق وهو قادر على الوصول من غيره.
ويصح في حالة خامسة: وهي إن شرط التحلل لفراغ زاد، أو مرض أو شك هل يصدونه أو لا، أو غير ذلك.
8 ً - المرض: من أصابه المرض بعد الإحرام، لزمه عند المالكية والحنابلة والشافعية أن يقيم على إحرامه حتى يبرأ، وإن طال ذلك.
وأجاز الحنفية التحلل بالمرض كالمحصر بالعدو.
المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ وقت الحج والعمرة:
1 - وقت الحج: للحج وقت معين، أشار إليه القرآن الكريم في آية: {يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج} [البقرة:189/2] وقوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:179/2] أي معظمه في أشهر معلومات.
وأشهر الحج عند المالكية (1) : هي الأشهر الثلاثة كلها: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة (2) ، فهي كلها محل للحج، لعموم قوله سبحانه: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/2] فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة. ويبتدئ وقت الإحرام من أول شوال في أول ليلة عيد الفطر، ويمتد لفجر يوم النحر (الأضحى) ، فمن أحرم قبل فجر الأضحى بلحظة، وهوبعرفة، فقد أدرك الحج، وبقي عليه طواف الإفاضة والسعي بعدها؛ لأن الركن عندهم الوقوف بعرفة ليلاً، وقد حصل.
ويكره الإحرام قبل بدء شوال، لكنه ينعقد ويصح عندهم، كما يكر هـ الإحرام قبل مكانه المخصص له الآتي بيانه. والسبب في صحة الإحرام قبل ميقاته الزماني والمكاني: أنه وقت كمال، لا وقت وجوب.
__________
(1) بداية المجتهد:315/1، الشرح الصغير: 17/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 21/2 ومابعدها.
(2) قال عمر وابنه وابن عباس: «أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة» .(3/448)
ويجزئ تأخر طواف الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة.
فالمدة من بدء شوال لما قبيل فجر يوم الأضحى: وقت لجواز ابتداء الإحرام بالحج. ومن طلوع فجر الأضحى لآخر ذي الحجة: وقت لجواز التحلل من الحج. والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول ذي الحجة على المعتمد.
وأشهر الحج عند الحنفية والحنابلة (1) : شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لما روي عن العبادلة الأربعة (ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير) ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يوم الحج الأكبر: يوم النحر» (2) ، فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره؟ ولأن يوم النحر فيه ركن الحج، وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج، كرمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع إلى منى، ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات.
وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/2] شهران وبعض الثالث، لا كله. وما بعد عشر ذي الحجة ليس من أشهره؛ لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه، فهو كالمحرَّم.
ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث، كالقروء الثلاثة يحتسب منها الطهر الذي طلقها فيه، وقوله تعالى في الآية السابقة: {فمن فرض فيهن الحج} أي في أكثرهن.
فإن قدم الإحرام بالحج على هذه الأشهر، جاز إحرامه، وانعقد حجاً، ولا ينقلب عمرة، لعموم قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2]
__________
(1) فتح القدير: 220/2 ومابعدها، الكتاب مع اللباب: 198/1، المغني: 271/3، 295، كشاف القناع: 472/2.
(2) رواه أبو داود، وروى البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر: «هذا يوم الحج الأكبر» .(3/449)
لكن لا يجوز له شيء من أفعال الحج إلا في أشهره، فمتى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، ولأن الإحرام عند الحنفية شرط، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء، وذلك يصح في كل زمان، فصار كتقديم الإحرام على الميقات المكاني، فهم شبهوا ميقات الزمان بميقات المكان، وعلى كل: يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يُحرَم بالحج إلا في أشهر الحج» .
وأما الشافعية (1) فقالوا كالحنفية والحنابلة: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة: وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، لكنهم رأوا أنه إن أحرم شخص بالحج في غير أشهره، انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنها عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها، انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بهاقبل الزوال، فإنه ينعقد إحرامه بالنفل، فهم شبهوا ميقات الزمان بوقت الصلاة، فلا يقع الحج قبل الوقت. ودليلهم الآية: {الحج أشهرٌ معلومات} [البقرة:197/2] تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته، لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات.
ولا يصح في السنة الواحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى.
2 - وقت العمرة: اتفق العلماء (2) على أن العمرة تجوز في أي وقت من أوقات السنة، في أشهر الحج وغيرها، أي إن ميقات العمرة الزماني جميع العام، فهو وقت لإحرام العمرة، لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) مغني المحتاج: 471/1، المهذب: 200/1.
(2) اللباب:215/1، بداية المجتهد: 315/1، المجموع: 133/7 ومابعدها، المهذب: 200/1، مغني المحتاج: 471/1، كشاف القناع: 472/2، المغني: 226/3، القوانين الفقهية: ص130.(3/450)
اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (2) وقال فيما رواه مسلم: «دخلت العمرة في الحج ـ مرتين، لا بل لأبد أبد» ومعناه في أصح الأقوال أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، والمقصود به إبطال ماكانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.
تفصيل القول في تكرار العمرة: لا يكره عند الجمهور تكرار العمرة في السنة، فلا بأس أن يعتمر في السنة مراراً، لحديث عائشة السابق من اعتماره عليه السلام عمرتين في ذي القعدة وشوال، أي في آخر شوال وأول ذي القعدة.
وحديث أنس في الصحيحين: «اعتمر صلّى الله عليه وسلم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة التي مع حجته» وحديث أبي هريرة في الصحيحين أيضا: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» وبناء عليه قال الشافعية: يسن الإكثار من العمرة، ولو في اليوم الواحد، إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد، لكن حديث عائشة هو أقوى الأدلة، وأما الأحاديث الأخرى فليست دلالاتها ظاهرة من سنة واحدة.
وقال المالكية: تكره العمرة في السنة أكثر من مرة؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرة، كالحج. ونوقش ذلك بأن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة، والعمرة غير مؤقتة، فتصور تكرارها كالصلاة.
متى تكره العمرة؟ يكره فعل العمرة كراهة تحريم عند الحنفية في يوم عرفة (الوقفة) ويوم النحر (العيد) وأيام التشريق الثلاثة عقب العيد؛ لأنها أيام الحج، فكانت متعينة له.
__________
(1) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عائشة.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أم معقل الصحابية رضي الله عنها، ورواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.(3/451)
وقال المالكية: يستثنى المحرم بحج من كون وقت العمرة جميع العام، فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعال الحج من طواف وسعي ورمي لجميع الجمرات، إن لم يتعجل، وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، أي إنه لا يصح إحرامه بالعمرة إلا بعد الفراغ بالفعل من رمي اليوم الرابع إن لم يتعجل، أو بقدره إذا تعجل بأن قدم طوافه وسعيه.
وكره الإحرام بعد رميه اليوم الرابع إلى الغروب منه، فإن أحرم بها بعد الرمي في اليوم الرابع وقبل الغروب صح إحرامه ووجب عليه تأخير طوافه وسعيه بعد الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب، وأعادهما بعده، وإلا فهو باق على إحرامه أبداً.
وقال الشافعية: يمتنع على الحاج الإحرام بالعمرة، ما دام عليه شيء من أعمال الحج، كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء الإحرام نفسه، ولا تكره في وقت، ولا يكره تكرارها كما تقدم بيانه.
ورأى الحنابلة: أنه لا كراهة للعمرة بالإحرام بها يوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق، كالطواف المجرد؛ إذ الأصل عدم الكراهة، ولا دليل عليها.
المطلب الثاني ـ ميقات الحج والعمرة المكاني:
الميقات لغة: الحد، وشرعاً: موضع وزمان معين لعبادة مخصوصة. ولا يجوز للإنسان أن يجاوز الميقات إلا محرماً بحج أو عمرة، وإلا وجب عليه دم أو العودة إليه. فإن قدم الإحرام على الميقات جاز بالاتفاق. وهو أفضل عند الحنفية إن أمن اقتراف المحظورات. ودليل الجواز والأفضلية قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما قال علي وابن مسعود، ولأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر.(3/452)
ويختلف نوع الميقات بين من كان بمكة وبين الآفاقي: القادم لمكة من غير أهلها (1) .
أولاً ـ ميقات من كان مقيماً بمكة: من كان بمكة مكياً أو آفاقياً فميقاته في الحج: الحَرم ـ مكة نفسها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من جوف مكة، فقال: «حتى أهل مكة يهلّون منها» (2) ومثله من منزله في الحرم خارج مكة، وندب إحرامه في المسجد الحرام.
وميقاته في العمرة: من أدنى الحِلّ ولو بأقل من خطوة من أي جانب شاء، ليتحقق وقوع السفر؛ لأن أداء الحج في عرفة، وهي في الحل، فيكون الإحرام من الحرم، وأداء العمرة في الحرم. فيكون الإحرام من الحِلّ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، إذ هو شرط في كل إحرام. فإن أحرم بها في الحرم، انعقد وعليه دم إلا إن خرج بعد إحرامه إليه.
وأفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة: الجِعْرانة عند الشافعية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر منها، كما روى الشيخان، ثم التنعيم لأمره صلّى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار منه، ثم الحديبية (3) . وأفضلها عند الحنفية والحنابلة: التنعيم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر
__________
(1) فتح القدير: 131/2-134، البدائع: 163/2- 167، اللباب: 178/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 130، حاشية الباجوري: 328/1، الشرح الكبير: 22/2، الشرح الصغير: 18/2-25، مغني المحتاج: 473/1-476، المهذب: 202/1-204، كشاف القناع: 466/2-469، المغني: 257/3-267.
(2) رواه الشيخان. وروى مسلم عن جابر: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم من الأبطح» (نصب الراية: 16/3) .
(3) الجعرانة: قرية في طريق الطائف على ستة فراسخ من مكة. والتنعيم: المكان المعروف بمساجد عائشة. والحديبية: بئر بين طريقي جدة والمدينة على ستة فراسخ من مكة.(3/453)
عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة من التنعيم» (1) لأنها أقرب الحل إلى مكة، ثم الجعرانة، ثم الحديبية.
وللشخص عند المالكية: أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم.
ثانياً ـ أهل الحل:
وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة كأهل بستان بني عامر وغيرهم، فهم داخل المواقيت وخارج الحرم.
قال المالكية: من كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة.
وقال الشافعية والحنابلة: من سلك طريقاً لا ينتهي إلى ميقات، أحرم من محاذاته في بر أو بحر، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن لم يحاذ ميقاتاً أحرم على مرحلتين من مكة. ومن مسكنه بين مكة والميقات، فيمقاته مسكنه.
ومن جاوز ميقاتاً وهو غير مريد للنسك، ثم أراده، فميقاته موضعه.
وقال الحنفية: ميقات أهل الحل للحج أو العمرة دويرة أهلهم، أو من حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم، لقوله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] وقد فسرها علي وابن مسعود بأن تحرم بهما من دويرة أهلك. فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين. والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشيء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل.
والخلاصة: إن ميقات الحج والعمرة لمن كان داخل المواقيت هو بالاتفاق: الحل وذلك من أماكنهم، ويجوز لهم عند الحنفية دخول مكة لحاجة من غير إحرام.
ثالثاً ـ الآفاقي أو أهل الآفاق:
وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم ولمن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة رسول ُ الله صلّى الله عليه وسلم وهي خمسة، كما في حديث الصحيحين عن ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، وقال: فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة،
__________
(1) متفق عليه.(3/454)
فمن كان دونهن فمهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها» (1) فإنه شمل أربعة مواقيت.
وأما ذات عرق: ففي صحيح مسلم عن جابر مرفوعاً قال: «مَهَلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطريقِ الآخر من الجحفة، ومَهلُّ أهل العراق من ذات عِرْق» (2) .
هذه هي المواقيت الخمسة لغير المقيم بمكة، منقسمة بحسب جهات الحرم، ولا يجوز أن يتجاوزها الإنسان مريداً مكة بالحج أو بالعمرة، إلا محرماً بأحد هذين النسكين وهي ما يأتي:
1 - ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة (آبار علي) : مكان على ستة أميال من المدينة، وعشر مراحل من مكة، فهو أبعد المواقيت (460 كم) .
2 - ميقات أهل الشام ومصر والمغرب كله: الجُحفة (رابغ) : موضع على ثلاث مراحل من مكة (187 كم) . وبما أن أهل الشام الآن يمرون بميقات أهل المدينة وبهذا الميقات، فيخيرون بالإحرام منهما؛ لأن الواجب على من مرّ بميقاتين ألا يتجاوز آخرهما إلا محرماً، ومن الأول أفضل.
3 - ميقات أهل العراق وغيرهم من أهل المشرق: ذات عِرْق: قرية على مرحلتين من مكة مشرفة على وادي العقيق، في الشمال الشرقي من مكة (194كم) .
4 - ميقات أهل اليمن وتهامة والهند: يَلَمْلَم: جبل جنوبي مكة على مرحلتين منها.
5 - ميقات أهل نجد والكويت والإمارات والطائف: قَرْن المنازل: جبل على مرحلتين من مكة، ويقال له أيضاً قرن الثعالب. وهو قريب من المكان المسمى الآن بالسيل (94 كم) .
ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه الدم إلا إذا عاد إليه، ولا يسقط عنه الدم عند المالكية، وإن رجع إليه بعد إحرامه، على تفصيل سيأتي. وإذا تجاوز الميقات بنية الإقامة في مكان غير الحرم، جاز له ذلك إذا نوى الإقامة مدة خمسة عشر يوماً عند الحنفية، فهي أقل مدة الإقامة في مذهبهم؛ لأن حكم الوطن لا يثبت إلا بنية الإقامة لتلك المدة.
__________
(1) نيل الأوطار: 295/4.
(2) نيل الأوطار: 295/4.(3/455)
من حاذى الميقات ومن لم يحاذه: من سلك طريقاً في بر أو بحر أو جو بين ميقاتين، فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب، ويحرم من محاذاة أقرب الميقاتين إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة. فإن استويا في القرب إليه، أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة. وإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه، احتاط فأحرم من بعد، بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرماً؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لا شك فيه. وإن لم يحاذ ميقاتاً مما سبق، أحرم على مرحلتين (89 كم) من مكة، إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر.
حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر: قال الشافعية (1) : من حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته، ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كزيارة أوتجارة أو رسالة، أو كان مكياً مسافراً، فأراد دخولها عائداً من سفره، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟ فيه تفصيل:
أـ إن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أوالمباح، أو دخلها خائفاً من ظالم أو غريم يمسه، وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام (2) ؛ لأنه كان لا يأمن أن يقاتل.
ب ـ يستحب لكل داخل إلى مكة لا يتكرر دخوله الإحرام، ويكره الدخول بغير إحرام، فمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر كالتجارة والزيارة وعيادة المريض، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الإحرام، ولا يجب مطلقاً. وقال مالك وأحمد: يلزمه، وقال أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة، جاز دخوله بلا إحرام، وإلا فلا.
جـ ـ من كان يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقّاء والبريد والسائقين ونحوهم، يجوز دخوله بغير نسك، لما روى ابن عباس: «لا يدخل أحد
__________
(1) المجموع: 10/7-16، المهذب: 195/1، الدر المختار: 212/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 24/2، المغني: 268/3 وما بعدها.
(2) رواه مسلم والنسائي عن جابر (نيل الأوطار: 300/4) .(3/456)
مكة إلامحرماً، ورخص للحطابين» (1) ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة.
وأما أهل الحرم: فلا إحرام عليهم بالدخول إلى مكة بلا خلاف، كما لا تشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع آخر منه.
ومن أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة، فحكمه حكم دخول مكة، على التفصيل والخلاف السابق.
وإذا وجب الإحرام لدخول الحرم، فدخل بغير إحرام، عصى، ولا يلزمه القضاء عند الشافعية على المذهب، خوفاً من التسلسل، قال بعض الشافعية: كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا الإحرام لدخول مكة، وإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان، فمن ترك مع أنه يجب عليه إمساكه، لم يلزمه قضاء الإمساك ولا الكفارة.
وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء؛ إذ يجب قضاء كل الواجبات.
د ـ من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر، وأرادوا الإحرام: فإنهم عند الحنابلة والمالكية يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام معه، فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها.
ويجب على جميعهم الدم عند الشافعية؛ لأن كل واحد منهم ترك الواجب عليه.
وقال الحنفية: لا دم على الكافر الذي يسلم، والصبي الذي يبلغ، وأما العبد فعليه دم.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة، وفيه راو ضعيف (المرجع السابق، نصب الراية: 15/3) .(3/457)
هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟
قال الحنفية (1) : الإحرام من بلده أفضل إن كان في أشهر الحج، وأمن على نفسه، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} [البقرة:196/2] قال علي وابن مسعود: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أوعمرة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة» (2) ، ولأنه أكثر عملاً، وأحرم عمر من إيليا (القدس) ، وقال للضبِّي بن معبد الذي أحرم من داره: «هديت لسنة نبيك صلّى الله عليه وسلم» (3) .
وقال جمهور الفقهاء (4) : الإحرام من الميقات أفضل، لأنه الموافق للأحاديث الصحيحة، ولفعل النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الفضل، وأحرم النبي بحجة الوداع من الميقات بالإجماع، وكذا في عمرة الحديبية، كما رواه البخاري في المغازي، ولأن في مصابرة الإحرام بالتقدم عن الميقات عسراً وتغريراً بالعبادة، وإن كان جائزاً.
ويدل له قوله صلّى الله عليه وسلم: «يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» (5) ، وروى الحسن «أن عمران بن حصين أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر، فغضب: وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحرم من مصره» وقال: «إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم
__________
(1) البدائْع: 164/2، اللباب: 178/1.
(2) رواه أبو داود وأحمد عن أم سلمة، وفي لفظ رواه ابن ماجه: «من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له» وهو ضعيف (نيل الأوطار: 298/4) .
(3) رواه النسائي وأبو داود.
(4) بداية المجتهد: 314/1، مغني المحتاج: 475/1، المغني: 264/3.
(5) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب.(3/458)
على عثمان، لامه فيما صنع، وكرهه له» (1) قال البخاري: «كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان» .
وهذا هو الأرجح لدي دفعاً للمشقة عن النفس، وبعداً عن التعرض لفعل محظورات الإحرام. وأما حديث الإحرام من بيت المقدس فيه ضعف، وأما قول عمر للضبي: «هديت لسنة نبيك» فإنه يعني في القران بين الحج والعمرة، لا في الإحرام من قبل الميقات، فإن سنة النبي صلّى الله عليه وسلم الإحرام من الميقات. وأما قول عمر وعلي: «إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك» فمعناه أن تنشئ لها سفراً من بلد ك، تقصد له، ليس أن تحرم بها من دويرة أهلك. وهذا ما فسره به سفيان وأحمد، ولا يصح أن يفسر بالإحرام نفسه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم.
جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام: لو جاوز الشخص ميقاتاً من المواقيت الخمسة، يريد الحج أو العمرة، بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم، وأحرم من الميقات، وجاوزه محرماً، لا يجب عليه دم بالإجماع؛ لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم، وأحرم، التحقت تلك المجاوزة بالعدم، وصار هذا ابتداء إحرام منه.
أما لو أحرم بعدما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئاً من أفعال الحج، ثم عاد إلى الميقات، ففيه آراء للفقهاء (2) ، علماً بأن هذه الآراء تنطبق عند الحنفية على المكي الذي ترك ميقاته، فأحرم للحج من الحل، والعمرة من الحرم:
1 - قال أبو حنيفة: إن عاد إلى الميقات، ولبى، سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط، لقول ابن عباس للذي أحرم بعد الميقات: «ارجع إلى الميقات، فلبّ، وإلا فلا حج لك» أوجب التلبية من الميقات، فلزم اعتبارها.
__________
(1) رواهما سعيد والأثرم.
(2) البدائع: 165/2-167، الشرح الصغير: 24/2 ومابعدها، الشرح الكبير: 24/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 474/1 وما بعدها، المغني: 261/3، 266.(3/459)
2 - قال الصاحبان والشافعية والحنابلة: من جاوز الميقات، فأحرم، لزمه دم إن لم يعد، وإن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك كالطواف سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، علم تحريم ذلك أو جهله؛ لأن حق الميقات في مجاوزته إياه محرماً، لا في إنشاء الإحرام منه، وسقوط الدم عنه لما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من ترك نسكاً، فعليه دم» (1) . وإن تجاوز الميقات بغير إحرام لزمه العود ليحرم منه، إلا إذا ضاق الوقت أو كان الطريق مخوفاً.
وينطبق هذا على المكي بالحرم إن لم يخرج إلى الميقات، وأتى بأفعال العمرة، عليه دم، وأجزأته، فلو خرج إلى الحل بعد إحرامه سقط الدم، كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرماً.
ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه، لم يسقط عنه الدم عند الحنابلة والشافعية. وقال الحنفية: يسقط؛ لأن القضاء واجب.
3 - وقال المالكية: من تجاوز الميقات وأحرم، لم يلزمه الرجوع إليه، وعليه الدم، لتعديه الميقات حلالاً، ولا يسقط عنه رجوعه له بعد الإحرام، لتعديه.
فإن لم يكن أحرم وجب الرجوع للميقات إلا لعذر كخوف فوات لحجة لو رجع، أو فوات رفقة، أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة على الرجوع، فلا يجب عليه الرجوع حينئذ، ويجب عليه الدم لتعديه الميقات حلالاً.
__________
(1) روي موقوفاً ومرفوعاً، والموقوف رواه مالك وغيره بإسناد صحيح، بلفظ: «من نسي من نسكه شيئاً أو تركه، فليهرق دماً» .(3/460)
المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي وعمرته:
أولاً ـ أعمال الحج: عشرة وهي ما يأت (1) :
1 - الإحرام: نية الحج أو العمرة أو هما، بأن يقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به أو بها لله تعالى. وإن حج أو اعتمر عن غيره، قال: نويت الحج أو العمرة عن فلان، وأحرمت به أو بها لله تعالى. ثم يلبي عقيب صلاة ركعتي الإحرام.
2 - دخول مكة من أعلاها وهي كَدَاء، ثم دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، ثم طواف القدوم بالابتداء بالركن الأسود.
3 - الطواف: وهو ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
4 - السعي بين الصفا والمروة.
5 - الوقوف بعرفة وبمنى: يخرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية (2) ، فيصلي فيها الظهر والعصر، ويبيت بها، ثم يروح إلى عرفة بعد طلوع الشمس، فيجمع في اليوم التاسع بين الظهر والعصر مع الإمام في مسجد نمرة أو في غيره، ثم يقف بعرفة حيث يقف الناس.
6 - المبيت بمزدلفة: وهي ما بين منى وعرفة، ويجمع الحجاج بالمزدلفة بين المغرب والعشاء مقصورة بعد مغيب الشفق في ليلة العيد. ويصلون الفجر في المشعر الحرام: وهو آخر أرض المزدلفة، ويقفون للتضرع والدعاء، ثم يدفعون منها قبل طلوع الشمس إلى منى.
7 - رمي الجمار: يرمي الحاج يوم النحر بمنى جمرة العقبة (وهي الجمرة الكبرى) بعد طلوع الشمس قدر رمح، بسبع حصيات.
ويرمي سائر الجمرات الثلاث في أيام منى: وهي ثاني العيد وثالثه ورابعه، كل جمرة سبع حصيات، مبتدئاً بالجمرة الأولى (الصغرى) وهي التي تلي مسجد الخيف من جهة عرفات، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، بين الزوال والغروب.
8 - الحلق أو التقصير، والأول أفضل للرجال. وتقص المرأة ولا تحلق، وتقطع من جميع شعرها نحو الأنملة، ويدعو عند الحلق، وذلك يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة والذبح إن كان معه هدي. ثم يأتي مكة، فيطوف طواف الإفاضة وهو المفروض.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص131-135.
(2) سمي يوم التروية، لأن إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ولده، رأى ليلة التروية، فلما أصبح تروى في نفسه، أي فكر من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان، فسمي ذلك اليوم يوم التروية، أو لأن الناس يتزودون فيه بالماء للري في عرفة.(3/461)
9 - الذبح: يذبح بعد رمي الجمرة الكبرى، ويجوز الحلق قبل الذبح، والذبح قبل الجمرة. ويجوز ذبح الهدي قبل طلوع الشمس.
10 - طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور.
ولا يؤمر به أهل مكة ولا من أقام بها من غير أهلها.
وإذا حاضت المرأة بعد الإفاضة خرجت قبل الوداع عند المالكية.
ثانياً ـ أعمال العمرة: أربعة وهي:
الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
ثالثاً ـ عمرة النبي صلّى الله عليه وسلم:
روى الشيخان وأحمد عن أنس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر (1) في ذي القَعْدة إلا التي اعتمر مع حَجَتَّه: عُمرَته من الحُدَيْبِية، ومن العام المُقْبل، ومن الجِعْرانة حيث قسم غنائم حنين، وعمرته مع حَجته» فهي أربع عمر: عمرة الحديبية لزيارة البيت الحرام في السنة السادسة من الهجرة، وعمرة القضاء من السنة السابعة، وعمرة الجعرانة في السنة الثامنة في وادي حنين بين مكة والطائف، على بعد ثلاث ليال من مكة، والعمرة التي مع حجة الوداع في السنة التاسعة.
رابعاً ـ حجة النبي صلّى الله عليه وسلم ـ حجة الوداع:
روى مسلم وغيره (2) صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وأحكام الفقه التي بلغت نيفاً وخمسين نوعاً، كما ذكر الإمام النووي رحمه الله عن أبي بكر بن المنذر رحمه الله.
ونص الحديث: قال جعفر بن محمد عن أبيه: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرِّي الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثَدْيي، وأنا يؤمئذ غلام شاب، فقال: مرحباً بك ياابن أخي، سل عما شئت، فسألته: وهو أعمى، وحَضَر وقت الصلاة، فقام في نَسَاجة (3) ملتحفاً بها كلما وضعها على مَنْكبه، رجع طرفاها إليه من صغَرها، ورداؤه إلى جَنْبه على المِشْجَب (4) ،
__________
(1) ثبت مثل هذا من حديث عائشة وابن عمر عند البخاري وغيره (نيل الأوطار: 298/4) .
(2) رواه أيضاً أبو داود والنسائي والدارمي وابن أبي شيبة (انظر شرح مسلم: 170/8-195) .
(3) هي ثوب مُلفَّق على هيئة الطيلسان.
(4) المشجب: اسم لأعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت.(3/462)
فصلى بنا (1) فقلت: أخبرني عن حَجَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2) ، فقال بيده، فعقد تِسْعاً فقال:
إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدِم المدينةَ بشر كثير، يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله (3) .
فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماءُ بنت عُمَيس محمد بن أبي بكر، فأرسلتْ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي (4) .
فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد (5) ، ثم ركب القَصْواء (6) ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرتُ إلى مدّ بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثلَ ذلك، وعن يساره مثلَ ذلك، ومن خلفه مثلَ ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به. فأهَلَّ بالتوحيد (7) : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد
__________
(1) هذا المقطع ترحيب بالزائر وملاطفة له مما يليق به وتأنيسه.
(2) المراد حجة الوداع.
(3) هذا يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم أحرم بالحج.
(4) الاستثفار: هو أن تشد المرأة في وسطها شيئاً وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها.
(5) فيه استحباب ركعتي الإحرام.
(6) قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلّى الله عليه وسلم نوق: القصواء (التي قطع طرف أذنها) والجدعاء (التي قطع من أذنها أكثر من القصواء) والعضباء (مشقوقة الأذن) ، وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(7) يعني قوله: «لبيك لا شريك لك» . والتلبية معناها: إجابة إلى الدعاء، وإشعار للإقامة عليها.(3/463)
والنعمة لك والمُلك، لا شريك لك. وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به، فلم يردَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئاً منه، ولزم رسول لله صلّى الله عليه وسلم تلبيته (1) .
قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة (2) ، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن (3) ، فَرَمل ثلاثاً، ومشى أربعاً (4) ، ثم نَفَذ إلى مَقَام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {واتخِذوا من مقام إبراهيم مُصَلَّى} [البقرة:125/2] ، فجعل المَقَام بينه وبين البيت (5) .
فكان أبي يقول ـ ولا أعلم ذكَره إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ في الركعتين: {قل: هو الله أحد} [الإخلاص:1/112] و {قل: يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/109] . ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا (6) ، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة:2/158] ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرَقَى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبَّره، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده،
__________
(1) فيه دليل على استحباب الاقتصار على تلبية رسول الله، كما قال أكثر العلماء منهم مالك والشافعي. دون زيادة، كقول ابن عمر: لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل. وعن أنس: لبيك حقاً تعبداً ورقاً.
(2) فيه دليل لمن قال بترجيح الإفراد.
(3) أي مسح الحجر بيده، في بدء الطواف. وفيه أن يسن لمن دخل مكة قبل الوقوف بعرفات طواف القدوم.
(4) فيه سنية الرمل في الأشواط الثلاثة الأول والمشي على العادة في الأربع الأخيرة. والرمل: أسرع المشي مع تقارب الخطا.
(5) فيه سنية صلاة ركعتي الطواف خلف المقام، أو في الحِجْر أو في المسجد، أو في مكة وسائر الحرم.
(6) فيه استحباب العود بعد صلاة ركعتي الطواف لاستلام الحجر، ثم يخرج من باب الصفا ليسعى.(3/464)
وهزم الأحزاب وحده (1) ، ثم دعا بين ذلك، قال مثلَ هذا ثلاثَ مرات.
ثم نزل إلى المَرْوة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى، حتى إذا صعدتا، مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا (2) .
فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرتُ، لم أسق الهدي (3) ، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هَدْي، فلَيحِلَّ وليَجْعلْها عمرة.
فقام سراقة بن مالك بن جُعْشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج (4) ـ مرتين، لا بل لأبد أبد.
وقدم علي من اليمن ببُدْن النبي صلّى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة ممن حَلَّ، ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها (5) . فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مُحَرِّشاً على فاطمة، للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما ذَكَرت عنه، فأخبرتُه أني أنكرت ذلك عليها، فقالت: صَدقَتْ صدقت، ماذا قلتَ حين فَرَضْتَ الحج (6) ؟ قال: قلتُ: اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولك (7) ،قال: فإن معي الهدي، فلا تحِلَّ.
__________
(1) معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم. والأحزاب: الذين تحزبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق في شوال سنة أربع هجرية.
(2) فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثلما يسن على الصفا.
(3) أي لو علمت آخراً ما علمت أولاً لما سقت الهدي.
(4) معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، فأبطل ذلك عادة العرب وزعمهم أن العمرة في أشهر الحج ممنوعة (شرح مسلم: 166/8 ومابعدها) .
(5) فيه جواز إنكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقص في دينها، لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره.
(6) أي أوجبته على نفسك، والمقصود: ماذا نويت؟
(7) فيه جواز تعليق الإحرام بإحرام كإحرام فلان.(3/465)
قال: فكان جماعةُ الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم مئةً، قال: فحلَّ الناس كلُّهم، وقصَّروا (1) ، إلا النبي صلّى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي.
فلما كان يوم التروية (2) ، توجَّهوا إلى منى، فأهلُّوا بالحج (3) ، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصلَّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر (4) ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقُبَّة من شَعَر تضرب له بنمِرة (5) .
فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية (6) ، فأجاز رسول الله صلّى الله عليه وسلم (7) حتى أتى عرفة (8) ، فوجد القبَّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها (9) ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرُحِلَت له (10) ، فأتى بطن الوادي (11) ، فخطب الناس (12) وقال:
__________
(1) كلهم أي معظمهم؛ لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي. والتقصير مع أن الحلق أفضل لإبقاء شعر يحلق في الحج.
(2) هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
(3) فيه أن الأفضل لمن كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أن يحرم يوم التروية، وهومذهب الشافعي وموافقيه.
(4) فيه سنية أداء الصلوات الخمس بمنى.
(5) نمرة: موضع بجنب عرفات وليست من عرفات.
(6) معناه أن قريشاً كانت في الجاهلية تقف في المشعر الحرام: وهو جبل في المزدلفة، يقال له: قزح؛ لأن المزدلفة من الحرم.
(7) أي جاوز المزدلفة، ولم يقف بها، وتوجه إلى عرفات.
(8) أي قارب عرفات، بدليل إقامة القبة له في نمرة.
(9) أي بنمرة، وفيه أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جمعاً خلاف السنة.
(10) أي جعل عليها الرحل بعد زوال الشمس أي دخول وقت الظهر.
(11) هو وادي عُرَنة، ليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء إلا مالكاً فقال: هي من عرفات.
(12) فيه استحباب الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع، وهو سنة باتفاق جماهير العلماء إلا المالكية.(3/466)
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) ، ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضَع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مُسْتَرضَعاً في بني هُذَيل، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ـ ربا عبَّاس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله (2) .
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله (3) ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله (4) ، ولكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح (5) ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (6) .
وقد تركت فيكم ما لَنْ تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتابُ الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت. فقال بإصبِعَه السبَّابة يرفعها إلى السماء، وينكُتُها إلى الناس (7) : اللهم اشهد، ثلاث مرات.
ثم أذَّن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً (8) .
__________
(1) معناه متأكدة التحريم شديدته.
(2) فيه إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض. وقوله عليه السلام: «تحت قدمي» إشارة إلى إبطاله. وكون الربا موضوع كله: معناه الزائد على رأس المال باطل يرد إلى أصحابه، فالوضع: الرد والإبطال.
(3) فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف.
(4) أي بإباحة الله، والكلمة: قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء:3/4] .
(5) المراد ألا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء أكان أجنبياً أم أحداً من محارم الزوجة أو امرأة. والضرب غير المبرح أي الذي ليس بشديد ولا شاق.
(6) فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها.
(7) أي يقلبها ويرددها إلى الناس، مشيراً إليهم.
(8) فيه مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بإجماع الأمة في ذلك اليوم، وهو إما بسبب النسك عند أبي حنيفة أو بسبب السفر عند الشافعي.(3/467)
ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف (1) ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخَرَات (2) ، وجعل حَبْل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة (3) ، فلم يَزَل واقفاً حتى غَرَبت الشمسه (4) ، وذهبت الصُّفْرة قليلاً حتى غاب القُرْص، وأردف أسامة خلفه (5) ، ودفَع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد شَنَق للقصواء الزِّمام، حتى إن رأسها ليُصيب مَوْرِك رَحْله (6) ، ويقول بيده اليمنى:
أيها الناس، السكينةَ السكينةَ، كلما أتى حَبْلاً من الحبال (7) ، أرخى لها قليلاً حتى تَصْعَد.
حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبِّح بينهما شيئاً (8) .
ثم اضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر (9) ، وصلى الفجر حتى تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة.
__________
(1) أي مكان الوقوف بعرفة مقابل الصخرات أمام الجبل.(3/468)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(2) يستحب أن يقف عند الصخرات المفترشات في أسفل جبل الرحمة: وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات.
(3) فيه استحباب استقبال الكعبة في الوقوف. وحبل المشاة: أي مجتمعهم.
(4) يندب الوقوف إلى ما بعد المغرب، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفرداً، بل لا بد من الليل وحده.
(5) فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة.
(6) شنق: ضم وضيق. ومورك الرحل: هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب. وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة.
(7) أي ألزموا السكينة، وهي الرفق والطمأنينة. ففيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة، فإذا وجد فرجة أسرع، كما في الحديث الآخر. والحبل: التل اللطيف من الرمل الضخم.
(8) فيه استحباب جمع التأخير بين المغرب والعشاء، وهو عند أبي حنيفة بسبب النسك فيجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم، وعند الشافعية بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر مسافة مرحلتين. ومعنى «لم يسبح» لم يصل بينهما نافلة، والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح.
(9) فيه أن المبيت بالمزدلفة نسكٌ واجب، والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلي بها الصبح إلا الضعفة فالسنة لهم الدفع قبل الفجر.(3/469)
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام (1) ، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبَّره وهلَّله ووحدَّه، فلم يزل واقفاً حتى أسفر (2) جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عبَّاس، وكان رجلاً حسن الشَّعْر أبيض وسيماً (3) ، فلما دفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مرَّت به ظُعُن (4) يجرين، فطفِق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل (5) ، فحوَّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر، فحوَّل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن مُحَسِّر (6) ، فحرَّك قليلاً.
ثم سلك الطريق الوسطى (7) التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة (8) . فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخَذْف (9) ، رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما
__________
(1) هو جبل معروف في المزدلفة وهو قُزَح، وقال جمهور المفسرين وأهل السير والحديث: المشعر الحرام جميع المزدلفة.
(2) يعود الضمير إلى الفجر ومعناه إسفاراً بليغاً.
(3) أي حسناً والمقصود أنه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه.
(4) الظعن جمع ظعينة، وأصل الظعينة، البعير الذي عليه امرأة، ثم تسمى به المرأة مجازاً لملابستها البعير.
(5) فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات وغضهن عن الرجال الأجانب.
(6) سمي بذلك لأن فيه أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيا وكل.
(7) فيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة.
(8) الجمرة الكبرى: هي جمرة العقبة وهي التي عند الشجرة، وفيه أن السنة البدء بهذه الجمرة، ولا يفعل شيئاً قبل رميها.
(9) هو نحو حبة الباقلاء، وينبغي ألا تكون أكبر ولا أصغر، بشرط كونها حجراً وهو رأي الجمهور، جوز أبو حنيفة الرمي بكل ما كان من أجزاء الأرض ولو من المعادن.(3/470)
غبرَ (1) ، وأشركه في هَدْيه (2) ، ثم أمَر من كل بَدَنة بِبضْعة، فجعلت في قِدْر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مَرَقها (3) .
ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت (4) ، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزِعوا بني عبد المطلب (5) ، فلولا أن يغلِبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم (6) ، فناولوه دَلْواً فشرب منه (7) .
__________
(1) أي ما بقي، وفيه استحباب تكثير الهدي، واستحباب ذبح المهدي بنفسه، وجواز الاستنابة فيه، وذلك جائز بالإجماع إذا كان النائب مسلماً. ويجوز عند الشافعية كون النائب كتابياً بشرط نية المهدي عند الدفع إليه أو عند ذبحه. والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة، وأعطى علياً البدن التي جاءت معه من اليمن.
(2) ظاهره أنه أشركه في نفس الهدي، وقال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكاً حقيقة، بل أعطاه قدراً يذبحه.
(3) البضعة: القطعة من اللحم، وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته.
(4) هذا طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين، وأول وقته عند الشافعية: من نصف ليلة النحر.
(5) أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (الحبل) ، ويسقون على زمزم: معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبِّلونه للناس. وزمزم: البئر المشهورة في المسجد الحرام، بينها وبين الكعبة ثمانية وثلاثون ذراعاً.
(6) معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم.
(7) فيه استحباب شرب ماء زمزم.(3/471)
خامساً ـ أحكام أعمال الحج عند الفقهاء:
للحج عند الفقهاء: أركان وواجبات وسنن، أذكرها هنا بإيجاز ثم أعقبها بجدول مقارن بين المذاهب.
المذهب الأول ـ قال الحنفية (1) :
ركن الحج نوعان: الوقوف بعرفة، وهو الركن الأصلي للحج، وطواف الإفاضة (الزيارة) . وفوت الركن يوجب الفساد والبطلان، والركن أو الفرض: هو ما ثبت بدليل مقطوع به. أما الواجب: فهو ما ثبت بدليل ظني، فإن تركه لعذر فلا شيء عليه، وإن تركه لغير عذر لزمه دم.
وواجبات الحج كثيرة أهمها خمسة: السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بمزدلفة ولو بمقدار لحظة في النصف الثاني من الليل، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الصَّدَر (الوداع) . علماً بأن الحلق والطواف بالبيت بعد الذبح، والذبح يختص بأيام النحر لا يجوز قبلها.
وسنن الحج: غسل الإحرام والتطيب له (2) ، والنطق بما نوى بأن يقول المفرد: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، ويقول المعتمر: اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي، وتقبلها مني، ويقول القارن: اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني.
والتلبية عقب كل صلاة فريضة أو نافلة بأن يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» وهي تلبية رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ودخول مكة ليلاً أو نهاراً، ثم دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة، والقول عند رؤية الكعبة في الخفاء: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، اللهم هذا بيتك عظمته وشرفته وكرمته فزده تعظيماً وتشريفاً وتكريماً» .
__________
(1) البدائع: 125/2، 133، 143 ومابعدها، 148.
(2) البقاء على التطيب لا يسمى تطيباً فلا يكره.(3/472)
ويبدأ غير المكي المفرد أو القارن بطواف القدوم من الحجر الأسود، مستقبلاً له، مكبراً رافعاً يديه كما يرفعهما في الصلاة، حذو منكبيه، والأفضل أن يقبله اتباعاً للنبي صلّى الله عليه وسلم إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، وإلا استقبله وكبر وهلل وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم كما يصلي عليه في الصلاة.
ثم يطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول، ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية، ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحداً، ولَيس استلام الركن اليماني سنة، لكن إن استلمه فحسن، أي فهو مستحب وليس بسنة عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد.
ثم يصلي ركعتين في نهاية المطاف عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر عليه من المسجد، وركعتا الطواف صلاة واجبة عند الحنفية خلافاً لغيرهم.
ومن السنن: خطبة الإمام في ثلاثة مواضع: في اليوم السابع قبل يوم التروية، ويوم عرفة، وفي اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، وهي خطبة واحدة بعد صلاة الظهر إلا خطبة عرفة فهي خطبتان بعد الزوال قبل الصلاة.
وصفة الخطبة: هي أن يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويكبر ويهلل، ويعظ الناس، فيأمرهم بما أمر الله عز وجل وينهاهم عما نهاهم الله عنه، ويعلمهم مناسك الحج من الوقوف بعرفة والإفاضة منها والوقوف بمزدلفة.
ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ولم يتنفل قبلهما ولا بعدهما، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. ويخفي الإمام القراءة فيهما بخلاف الجمعة والعيدين، فإنه يجهر فيهما بالقراءة، وذلك سواء المكي المحرم وغيره. ثم يروح الإمام والناس إلى عرفات، عقيب الصلاة، يقفون فيها حتى غروب الشمس، يكبرون ويهللون ويحمدون الله تعالى ويثنون عليه ويصلون على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويسألون الله تعالى حوائجهم ويتضرعون إليه بالدعاء.(3/473)
ومن السنن: البقاء في المزدلفة حتى يسفر ضوء النهار.
ومنها المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة (يوم عرفة) وأداء خمس صلوات فيها، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وكذلك المبيت بمنى ليلتين: ليلة الأول من أيام التشريق والثاني من أيام الرمي، ويكره أن يبيت في غير منى من أيام منى، فإن فعل لا شيء عليه، ويكون مسيئاً؛ لأنه البيتوتة بمنى ليست واجبة، بل هي سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية (1) .
والسنة أن يرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس من يوم النحر قبل الزوال بسبع حصيات مثل حصى الخذف، بوضع كل حصاة على السبابة والإبهام، كأنه يخذف بها.
وترمى الجمرات الثلاث بعد الزوال من اليوم الثاني والثالث، ويكبر مع كل حصاة، مبتدئاً بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم الكبرى جمرة العقبة، فإذا فرغ منها عند كل جمرة يقف عندها فيكبر ويهلل ويحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه.
وتؤخذ الجمار من مزدلفة أو من الطريق، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه وقد أساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه البخاري ومسلم ـ «ارم ولا حرج» مطلقاً.
__________
(1) حديث متفق عليه عن ابن عباس (نيل الأوطار: 79/5) .(3/474)
وتقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة (1) .
ومن السنن: التحصيب: وهو النزول بوادي المحصب أو الأبطح، وهو موضع بين منى ومكة عند مدخل مكة بين الجبلين، إلى المقبرة المسماة بالحجون، ينزل به ساعة، فإنه سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم نزلوا بالأبطح (2) .
أعمال العمرة: وأما العمرة عند الحنفية (3) : فركنها الطواف، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] .
وواجباتها اثنان: السعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
وسنتها: أن يقطع التلبية إذا استلم الحجر عند أول شوط من الطواف.
المذهب الثاني ـ مذهب المالكية (4) :
للحج أركان وواجبات وسنن ومندوبات. والركن أو الفرض: هو ما لاتحصل حقيقة الحج أو العمرة إلا به، والواجب: ما يحرم تركه اختياراً لغير ضرورة، ولا يفسد النسك بتركه وينجبر بالدم.
أركان الحج أربعة:
1 - الإحرام: وهو النية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق. والأرجح أنه ينعقد بمجرد النية.
2 - السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط: وهو كما ذكر الأجهوري أفضل من الوقوف بعرفة، لقربه من البيت، وتبعيته للطواف الأفضل من الوقوف، لتعلقه بالبيت المقصود بالحج.
3 - الحضور بعرفة ليلة النحر، ولو بالمرور بها، إن علم أنه عرفة ونوى الحضور الركن.
4 - طواف الإفاضة سبعة أشواط بالبيت.
وأركان العمرة ثلاثة:
إحرام من المواقيت أو من الحل، وطواف بالبيت سبعاً، وسعي بين الصفا والمروة سبعاً. وأما حلق الرأس فهو واجب، ويكره تكرارها في العام الواحد.
وللإحرام واجبات وسنن ومندوبات، علماً بأنه لا دم في ترك السنن:
__________
(1) مفهوم من حديث جابر الطويل في حجة الوداع، ورواه البيهقي صراحة عن ابن مسعود (نصب الراية: 79/2) .
(2) أخرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون بالأبطح (المرج السابق: ص88) ورواه الزهري عن سالم، ولكن ورد عن عائشة: «نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمحَ لخروجه إذا خرج» (نيل الأوطار: 83/5-84) .
(3) البدائع: 226/2 ومابعدها.
(4) الشرح الصغير: 16/2، 39، 53، 60، 72، ومابعدها، القوانين الفقهية: ص131-134.(3/475)
أما واجباته: فهي التجرد من المخيط وكشف الرأس للذكر، والتلبية، ووصلها بالإحرام، فمن تركها رأساً أو فصل بينها وبين الإحرام بفاصل طويل، فعليه دم.
وسنن الإحرام: غسل متصل به، ولبس إزار وسطه، ورداء على كتفيه، ونعلين في رجليه، فلو التحف برداء أو كساء أجزأ وخالف السنة.
ويسن ركعتان بعد الغسل وقبل الإحرام، ويجزئ عنهما الفرض، وفاته الأفضل. ويندب للراكب الإحرام إذا استوى على ظهر دابته، وللماشي إذا مشى.
ويندب للمحرم إزالة شعثه قبل الغسل، بأن يقص أظفاره وشاربه ويحلق عانته، وينتف شعر إبطه، ويرجل شعر رأسه أو يحلقه إذا كان من أهل الحلق، ليستريح بذلك من ضررها، وهو محرم.
ويندب الاقتصار على تلبية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك» (1) .
ويندب تجديدها لتغير حال، كقيام وقعود وصعود وهبوط ورحيل وحط ويقظة من نوم أو غفلة، وخلف صلاة ولو نافلة، وعند ملاقاة رفاق.
وندب توسط في علو صوته، فلا يسرُّها، ولا يرفع صوته جداً.
وندب توسط في تردادها، فلا يترك حتى تفوته الشعيرة، ولا يوالي حتى يلحقه الضجر.
ويلبي المحرم من مكة في المكان الذي أحرم منه، سواء في المسجد أم في غيره.
ويلبي الآفاقي المعتمر من الميقات وكذا المعتمر الذي فاته الحج لإحصار أو مرض إلى أن يصل إلى الحرم المكي العام.
ويلبي المعتمر من دون الميقات كالجعرانة إلى أن يصل لبيوت مكة.
ويلبي المحرم من الميقات بالحج ولو قارناً حتى يصل لبيوت مكة أو حتى يبدأ بطواف القدوم.
__________
(1) رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومعناه: إجابة بعد إجابة، أي أجبتك الآن كما أجبتك حين أذن إبراهيم به في الناس، وحين خاطبت الأرواح بـ «ألست بربكم» والأحسن ما قاله النووي في المجموع: معنى لبيك: إجابة لك بعد إجابة، في جميع أمرك وكل خطاباتك.(3/476)
وواجب السعي: أن يسعى بعد طواف واجب كالقدوم والإفاضة. وأن يقدمه على الوقوف بعرفة إن وجب عليه طواف القدوم، وإلا أخره عقب طواف الإفاضة.
ويجب طواف القدوم بشروط ثلاثة: على المفرد أو القارن المحرم من الحِلّ، إذا لم يزاحمه الوقت وخشي فوات الحج لو اشتغل به، ولم يردف الحج على العمرة بحرم، أي لم ينو الحج بعد الإحرام بالعمرة قبل الشروع في طوافها. ويعذر الحائض والنفساء والمغمى عليه والمجنون في ترك طواف القدوم، كما في حالةالخوف من فوات الحج.
وواجب الطواف: ركعتان بعد الفراغ منه، يقرأ فيهما ندباً بعد الفاتحة بالكافرون في الركعة الأولى، وبالإخلاص في الثانية. وندب إيقاع الركعتين في مقام إبراهيم.
ويجب ابتداء الطواف من الحجر الأسود، والمشي لقادر عليه كالسعي، وإلا لزمه دم.
وندب دعاء بعد تمام الطواف قبل الركعتين بالملتزم: حائط البيت بين الحجر الأسود وباب البيت، يضع صدره عليه، ويفرش ذراعيه عليه، ويدعو بما شاء، ويسمى الحطيم أيضاً.
وندب كثرة شرب ماء زمزم، لأنه بركة، بنية حسنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» (1) ، وندب نقله إلى بلده وأهله للتبرك به.
وسنن الطواف:
1 - تقبيل الحجر، بلا صوت، ندباً، أوله قبل الشروع فيه إذا لم تكن زحمة، وإلا لمس باليد أو بالعود، ووضعا على الفم، ويندب أن يكبر مع كل تقبيل ونحوه قائلاً: (بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد) ص (^*^) .
2 - واستلام الركن اليماني أول شوط، بأن يضع يده اليمنى عليه، ويضعها على فمه.
__________
(1) رواه عن جابر: احمد وابن ماجة والبيهقي وابن أبي شيبة.
[التعليق]
(^*^)
(بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد)
1- رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: أُخْبِرْتُ {أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ: إذَا اسْتَلَمْنَا؟ قَالَ: قُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ إيمَانًا بِاَللَّهِ، وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ} ، قُلْت: وَهُوَ فِي الْأُمِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالدُّعَاءِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرَوَى الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا: أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَسْتَلِمُهُ، وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مَرْفُوعًا.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالدُّعَاءِ عَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ إذَا مَرَّ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَرَأَى عَلَيْهِ زِحَامًا، اسْتَقْبَلَهُ، وَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك.
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 1026 - 1026 - (19) (3/199)
2- عن علي أن كان إذا استلم الحجر قال اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحارث وهو ضعيف وقد وثق.
وعن نافع قال كان ابن عمر إذا استلم الحجر قال اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك وسنة نبيك ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه الطبراني في الاوسط ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد: (3/240)
(^*^) أبو أكرم الحلبي عضو في ملتقى أهل الحديث.(3/477)
3 - ورمَل ذَكَر ولوغير بالغ في الأشواط الثلاثة الأول فقط في غير زحمة، لمن أحرم من الميقات، والرمل: الإسراع في المشي دون الجري، وذلك في طواف القدوم وطواف العمرة إن أحرم من الميقات. فإن لم يحرم من الميقات فيندب الرمل في طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان.
4 - الدعاء بما يحب من طلب عافية وعلم وتوفيق وسعة رزق بما يفتح عليه، دون تحديد في ذلك. والأولى الدعاء بقوله تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة:201/2] وبالمأثور مثل «اللهم إني آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فاغفر لي ما قدمت وماأخرت» (1) .
وسنن السعي أربع:
1ً - تقبيل الحجر الأسود قبل الخروج له وبعد صلاة ركعتي الطواف.
2ً - الصعود على الصفا والمروة. وتصعد المرأة إن خلا الموضع من الرجال.
3ً - الإسراع بين الميلين الأخضرين فوق الرمَل ودون الجري، في الذهاب إلى المروة، وفي العودة إلى الصفا.
4ً - الدعاء على الصفا والمروة، سواء رقي أو لم يرقَ، قام أو جلس.
ومندوبات الطواف: رمل في الثلاثة الأول لمحرم من دون المواقيت كالتنعيم والجعرانة، في طواف الإفاضة إن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان. وتقبيل الحجر الأسود واستلام الركن اليماني في غير الشوط الأول.
ومندوبات السعي: شروط الصلاة من طهارة وستر عورة، ووقوف على الصفا والمروة، والجلوس مكروه أو خلاف الأولى.
وواجب الوقوف بعرفة: طمأنينة، أي استقرار بقدر الجلسة بين السجدتين، قائماً أو جالساً أو راكباً، والركوب أفضل.
__________
(1) رواه البخاري.(3/478)
وسنن الوقوف بعرفة:
1ً - خطبتان كالجمعة بعد الزوال بمسجد نمرة، يعلمهم الخطيب بهما بعد الحمد والشهادتين ما عليهم من المناسك، قبل الأذان للظهر، من جمع وقصر ورمي الجمار وطواف الإفاضة والتقاط الجمرات من المزدلفة والمبيت بها وصلاة الصبح فيها، والنفر إلى الوقوف بالمشعر الحرام إلى قرب طلوع الفجر، ثم السير لمنى لرمي جمرة العقبة، والإسراع ببطن محسر، ثم الحلق أو التقصير، والذبح أو نحر الهدايا.
2ً - الجمع بين الصلاتين جمع تقديم بين الظهر والعصر في نمرة وقصرهما ما عدا أهل عرفة فيتمون. والجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة وقصرهما إلا أهل مزدلفة، فيتمون. والحاصل أن أهل مكة ومنى ومزدلفة وعرفة يتمون الصلاة في محلهم ويقصر غيرهم.
ومندوبات الوقوف بعرفة:
1ً - الوقوف بجبل الرحمة: مكان معلوم شرقي عرفة عند الصخرات العظام.
2ً - الوقوف مع الناس؛ لأن في جمعهم مزيد الرحمة والقبول.
3ً - الركوب حال الوقوف، ثم القيام على القدمين إلا لتعب فيجلس.
4ً - الدعاء بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، والتضرع إلى الله، أي الخشوع والابتهال، حتى الغروب؛ لأنه أقرب للإجابة.
أما الوقوف بالمزدلفة فواجب بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء فيها من أكل أو شرب، فإن لم ينزل فدم.
ومندوباته:
1 - المبيت بها، وارتحاله منها بعد صلاة الصبح فيها بغلس قبل أن تتعارف الوجوه.
2 - والوقوف بالمشعر الحرم (محل يلي مزدلفة جهة منى) للدعاء بالمغفرة وغيرها والثناء على الله للإسفار مستقبلاً للبيت جهة المغرب؛ لأن هذه الأماكن كلها شرقي مكة.
3 - والإسراع ببطن مُحَسِّر (واد بين المشعر الحرام ومنى، بقدر رمية الحجر بالمقلاع من قويّ) .(3/479)
ومندوبات الرمي بمنى وما بعده:
1 - رمي العقبة ولو راكباً بمجرد الوصول لها أول يوم النحر من طلوع الشمس إلى الزوال، بسبع حصيات يلتقطها من المزدلفة مثل حصى الخذف، ورمي غير العقبة إثر الزوال قبل صلاة الظهر متوضئاً، مبتدئاً بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم العقبة، فإن خالف هذا الترتيب لم يصح الرمي.
2 - مشي الرامي في غير جمرة العقبة يوم النحر.
3 - التكبير بأن يقول: (الله أكبر) أو (بسم الله، الله أكبر، رغماً للشيطان وحزبه، ورضاء الرحمن) مع رمي كل حصاة من العقبة أوغيرها، والوقوف على يسار الجمرة الوسطى والدعاء والثناء على الله مستقبلاً القبلة قدر قراءة سورة البقرة إثر رمي الجمرتين الأولى والوسطى، والانصراف بعد جمرة العقبةلضيق محلها.
4 - تتابع الحصيات بالرمي: فلا يفصل بينهما شاغل من كلام أو غيره.
5 - التقاط الحصى بنفسه أو غيره من أي مكان، إلا حصى العقبة فمن المزدلفة.
6 - ذبح الهدي والحلق قبل الزوال إن أمكن.
7 - تأخير الحلق أو التقصير عن الذبح. أما التقصير بقدر الأنملة فللمرأة من جميع شعرها، ويجزئ الرجل إما قريباً من أصل الشعر، أو من الأطراف، بنحو الأنملة. ولا يجزئ حلق بعض شعر الرأس للذكر، ولا تقصير البعض للأنثى.
8 - التحصيب: نزول غير المتعجل بعد رمي جمار اليوم الثالث بالمحصب (بطحاء خارج مكة) ليصلي فيه أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وأما المتعجل فلا يندب له ذلك. فإذا رمى العقبة ونحر وحلق أو قصر، نزل من منى لمكة لطواف الإفاضة. ولا تسن صلاة العيد بمنى ولا بالمسجد الحرام؛ لأن الحاج لا عيد له. وما يقع الآن من صلاة العيد بالمسجد الحرام بعد رمي جمرة العقبة، فعلى غير مذهب المالكية.
واجبان في رمي العقبة: الواجب تقديم رمي العقبة على الحلق؛ لأنه إذا لم يرمها لم يحصل له تحلل، فلا يجوز له حلق ولا غيره من محرمات الإحرام.(3/480)
ويجب تقديم الرمي المذكور أيضاً على طواف الإفاضة. فإن أخر الرمي عن الحلق أو على الإفاضة فعليه دم. أما تقديم الرمي على النحر، وتقديم النحر أو الحلق على الإفاضة، فليس بواجب بل مندوب.
والحاصل أن الذي يفعل يوم النحر أربعة: الرمي، فالنحر، فالحلق، فالإفاضة.
ومندوبات طواف الإفاضة:
أن يفعل في ثوبي إحرامه، ليكون جميع أركان الحج بهما.
وأن يفعل عقب الحلق بلا تأخير إلا بقدر قضاء حاجته.
المذهب الثالث ـ مذهب الشافعية (1) :
أعمال الحج ثلاثة أنواع: أركان وواجبات وسنن. أما الأركان: فلا يتم الحج ولا يجزئ حتى يأتي بجميعها، ولا يحل من إحرامه مهما بقي منها شيء، حتى لو أتى بالأركان كلها إلا أنه ترك طوفة من السبع، أو مرة من السعي، لم يصح الحج، ولم يحصل التحلل الثاني، وكذا لو حلق شعرتين لم يتم حجه، ولا يحل حتى يحلق أو يقصر شعرة ثالثة. ولا يجبر شيء من الأركان بدم ولا غيره، بل لا بد من فعلها.
والطواف والسعي والحلق: لا آخر لوقتها، بل لا تفوت مادام حياً، ولا يختص الحلق بمنى والحرم، بل يجوز في الوطن وغيره.
والترتيب بين الأركان واجب، فيقدم الإحرام على جميعها، والوقوف على طواف الإفاضة والحلق، ويشترط كون السعي بعد طواف صحيح، ويصح السعي بعد طواف القدوم. ولا يجب الترتيب بين الطواف والحلق.
وأما الواجبات: فمن ترك شيئاً منها لزمه دم، ويصح الحج بدونه، سواء تركها عمداً أوسهواً، لكن يأثم العامد.
وأما السنن: فمن تركها لا شيء عليه، لا إثم ولا دم ولا غيره، لكن فاته الكمال والفضيلة وعظيم ثوابها.
__________
(1) حاشية الباجوري: 323/1-334، كتاب الإيضاح للنووي: ص69-70، مغني المحتاج: 513/1.(3/481)
1 - الأركان: أركان الحج خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير (1) .
وأركان العمرة أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير.
2 - الواجبات: واجبات الحج خمسة: أولها ـ الإحرام من الميقات الزماني والمكاني، فميقات الحج الزماني: (شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة) ، وميقات العمرة: جميع السنة، فإن كل أجزاء العام وقت لإحرامها. والميقات المكاني للحج: مكة نفسها للمقيم بها مكياً كان أو آفاقياً، وأما غير المقيم فيحرم من أحد المواقيت الخمسة السابق ذكرها (ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، ويلملم لأهل اليمن، وقَرْن المنازل لأهل نجد، وذات عِرْق لأهل المشرق) .
وثانيها ـ رمي الجمار الثلاث: يبدأ بالأولى الصغرى (2) وهي التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة (وهي التي تلي مكة) ، في كل يوم من أيام التشريق. ورمي جمرة العقبة فقط يوم النحر.
وثالثها ـ المبيت في المزدلفة، وهذا على الراجح في المذهب أنه واجب لا سنة.
رابعها ـ المبيت بمنى، وهذا على الراجح في المذهب.
خامسها ـ طواف الوداع عند إرادة الخروج من مكة لسفر، حاجاً كان أو لا، طويلاً كان السفر أو قصيراً، والقول بوجوبه هو الأظهر.
3 - السنن: سنن الحج العامة ثمانٍ أو أكثر: وهي كل ما عدا الأركان والواجبات:
أحدها ـ الإفراد: وهو تقديم الحج على العمرة، بأن يحرم أولاً بالحج من ميقاته ثم يفرغ منه، ثم يحرم بالعمرة من أدنى الحل، وأفضل بقاعه ـ كما تقدم ـ الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية.
ثانيها ـ التلبية: ولفظها: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن
__________
(1) اعتبار الحلق ركناً عند الشافعية هو القو ل المشهور والمعتمد في المذهب، فلا يجبر تركه بدم كالطواف، ويتوقف التحلل عليه.
(2) يلاحظ أن الجمرة الكبرى هي جمرة العقبة، وورد في بعض كتب الشافعية والحنابلة خطأ أن الأولى هي الكبرى.(3/482)
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) (1) ومن لا يحسنها بالعربية يأتي بها بغيرها، وتجوز الترجمة عنها بغير العربية، مع القدرة على العربية، على الأوجه. ويسن الإكثار منها في أثناء الإحرام، ويرفع الرجل صوته بها.
وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، وسأل الله الجنة ورضوانه، واستعاذ به من النار.
ثالثها ـ طواف القدوم: للحاج الذي دخل مكة قبل الوقوف بعرفة. أما المعتمر إذا طاف للعمرة أجزأه عن طواف القدوم.
رابعها ـ ركعتا الطواف بعد الفراغ منه، خلف المقام، يسر بالقراءة فيهما نهاراً، ويجهر بهما ليلاً. فإذا لم يصلهما خلف المقام ففي الحِجْر (حجر إسماعيل) ، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره.
خامسها ـ التجرد عند إرادة الإحرام (2) عن المخيط من الثياب وعن منسوجها ومعقودها ولو بعضو من أعضاء البدن، وعن غير الثياب من خف ونعل ساتر أصابع الرجلين، بخلاف ما لا يستر ذلك. ثم لبس إزار ورداء أبيضين جديدين وإلا فنظيفين، لخبر «البسوا من ثيابكم البياض» وخبر أبي عوانة في صحيحه: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» .
سادسها ـ إلقاء الإمام أربع خطب (3) : الأولى ـ يوم السابع من ذي الحجة، يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر. والثانية ـ يوم عرفات ببطن عرنة، وتحدث
__________
(1) المعنى: أنا مقيم على إجابتك حيث دعوتنا للحج، إجابة بعد الإجابة، وإقامة بعد إقامة.
(2) يلاحظ أن التجرد عن المخيط ونحوه حالة الإحرام واجب على المعتمد، أما السنية فهي عند إرادة الإحرام.
(3) شرح مسلم للنووي: 182/8، مغني المحتاج: 495/1 وما بعدها.(3/483)
عادة في مسجد نمرة، والثالثة ـ يوم النحر. والرابعة ـ في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد صلاة الظهر، يعلمهم فيها فيها جواز النفر وما بعدها من طواف الوداع وغيره، ويودعهم ويحثهم على طاعة الله تعالى، وعلى أن يختموا حجهم بالاستقامة، والثبات على طاعة الله تعالى، وأن يكونوا بعد الحج خيراً منهم قبله، وألا ينسوا ما عاهدوا الله عليه من خير. ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى.
وكل هذه الخطب أفراد أي خطبة واحدة، وبعد صلاة الظهر، إلا التي يوم عرفات، فإنها خطبتان قبل الصلاة.
سابعها ـ الأغسال المسنونة في الحج وهي سبعة:
يسن الغسل لأحد أمور سبعة: 1 - للإحرام (1) ، فإن عجز مريد الإحرام عن الغسل لفقد الماء أو عدم قدرته على استعماله تيمم. 2، 3 - ولدخول الحرم ولدخول مكة ولو حلالاً (2) . 4 - وللوقوف بعرفة، والأفضل كونه بنمرة. 5 - وللوقوف بمزدلفة عند المشعر الحرام بعد فجر يوم النحر. 6 - ولكل يوم من أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال للرمي لآثار وردت فيها، ولأنها مواضع اجتماع كغسل الجمعة. 7 - ولدخول المدينة.
ثامنها ـ شرب ماء زمزم ولو لغير حاج ومعتمر، والتضلع منه واستقبال القبلة عند شربه، وأن يقول: (اللهم إنه بلغني عن نبيك صلّى الله عليه وسلم أن ماء زمزم لما شرب له، وأنا أشربه لسعادة الدنيا والآخرة، اللهم فافعل) .
__________
(1) أي عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما، من رجل أو امرأة ولو حائضاً أو نفساء، رواه الترمذي، وحسنه.
(2) رواه الشيخان في المحرم، والشافعي في الحلال.(3/484)
وكان ابن عباس إذا شرب يقول: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء» (1) ويسن أن يسمي الله تعالى ويشرب ويتنفس ثلاثاً، وأن ينضح منه على رأسه ووجهه وصدره.
وهناك سنن أخرى خاصة في كل عمل من أعمال الحج:
أولاً ـ سنن الإحرام (2) :
يسن الغسل له كما تقدم، وتطييب البدن، وكذا الثوب في الأصح، وأن تخضِّب المرأة يديها، وأن يصلي ركعتين للإحرام قبله، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم كما روى الشيخان، يقرأ في الأولى «الكافرون» وفي الثانية الإخلاص، والأفضل أن يحرم الشخص بمجرد التحرك بسير الدابة ونحوها إذا كان راكباً، وببدء المشي إذا كان ماشياً، والإكثار من التلبية ورفع الصوت بها وعند تغاير الأحوال كركوب ونزول وصعود وهبوط واختلاط رُفْقة. ويسن عند الشافعيةاستقبال القبلة عند بدء الإحرام، ويقول: (اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي) .
ثانياً ـ سنن الطواف (3) :
أن يطوف ماشياً ولو امرأة اتباعاً للسنة كما روى مسلم، ويستلم أول طوافه وفي كل طوفة الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبّله ويضع جبهته عليه، اتباعاً للسنة كما روى الشيخان، فإن عجز أشار إليه بيده. ولا يستلم الركنين الشاميين (وهما اللذان عند الحِجْر) ولا يقبلهما، لما في الصحيحين عن ابن عمر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجَر والركن اليماني» ويستلم بيده الركن اليماني ولا يقبله؛ لأنه لم ينقل.
ويقول عند بدء الطواف مقابل الحجَر: (بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم) .
ويقول قبالة باب الكعبة: (اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك. وهذا مقام العائذ بك من النار) أي هذا الملتجئ المستعيذ بك من النار.
ويقول بين الركنين اليمانيين، أي اليماني وركن الحجَر: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» .
ويدعو في جميع طوافه بما شاء، ومأثور الدعاء أفضل من غير المأثور، والقرآن أفضل الذكر.
__________
(1) قال الحاكم: صحيح الإسناد.
(2) مغني المحتاج: 478/1-483.
(3) مغني المحتاج: 487/1-492.(3/485)
ويرمل في الأشواط الثلاثة الأولى في كل طواف يعقبه سعي، بأن يسرع الطائف مشيه مقارباً خطاه، ويمشي في الباقي من طوافه على هينته، لما روى الشيخان عن ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت طواف الأول خبَّ ثلاثا، ومشى أربعاً» وليقل أثناء الرمل: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً» .
ويضطبع الذَّكَر ولو صبياً في الطواف، والسعي على الصحيح اتباعاً للسنة كما رواه أبو داود: وهو جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع.
ويوالي بين الطوفات السبع خروجاً من خلاف من أوجبها، فيكره التفريق بلا عذر، ومن الأعذار: إقامة الجماعة وعروض حاجة لا بد منها، ويكره قطع الطواف المفروض لصلاة جنازة أو سنة راتبة.
ويقرب من البيت لشرفه، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل. والقرب من البيت بلا رمَل عند الزحمة أولى من البعد عنه، والرمل مع البعد أولى من القرب. ويصلي بعد الطواف ركعتين خلف المقام، لما ثبت في الصحيحين «أنه صلّى الله عليه وسلم صلاهما خلف المقام، وقال: خذوا عني مناسككم» يقرأ في الركعة الأولى «الكافرون» وفي الثانية «الإخلاص» ويجهر ليلاً بهما.
ويكثر من دخول الحِجْر والصلاة فيه والدعاء. وتسن النية في طواف النسك، وتجب في طواف لم يشمله نسك وفي طواف الوداع.
ثالثاً ـ سنن السعي:
يسن أن يستلم الساعي بيده الحجر الأسود بعد انتهاء الطواف وصلاة ركعتيه (1) ، ثم يخرج من باب الصفا للسعي بين الصفا والمروة (2) .
ويستحب أن يرقى الذكَر على الصفا والمروة قدر قامة إنسان معتدل، وأن يشاهد البيت؛ لأنه «صلّى الله عليه وسلم رقى على كل منهما حتى رأى البيت» (3) .
فإذا رقى قال: (الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير) (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون) .
ثم يدعو بما يشاء ديناً ودنيا، ويعيد الذِّكْر والدعاء السابقين، ثانياً وثالثاً (4) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم. وباب الصفا: هو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.(3/486)
ويسن أن يمشي أول السعي وآخره، ويعدو الذكَر (يسعى سعياً شديداً فوق الرمل) في الوسط الذي بين الصفا والمروة بين الميلين الأخضرين (1) .
ويقول الذكر في عدوه: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) .
رابعاً ـ سنن الوقوف بعرفة (2) :
يسن أن يخطب الإمام بعد زوال اليوم التاسع (أي بعد الظهر) خطبتين، ثم يصلي بالناس الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم اتباعاً للسنة كما رواه مسلم.
ويسن الوقوف إلى الغروب (3) ، والأفضل كونه بعد الغروب حتى تزول الصفرة قليلاً.
ويسن أن يذكر الحجاج الله تعالى ويدعونه، وأن يكثروا التهليل لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (4) وزاد البيهقي: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري» .
ويسن الإكثار من الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يتكلف السجع في الدعاء، ولا بأس بالسجع إذا كان محفوظاً، أو كان من غير قصد له.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مغني المحتاج: 496/1 ومابعدها.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو.(3/487)
ويسن قراءة القرآن. ويستحب أن يكثر من قراءة سورة الحشر في عرفة، وقراءة سورة الإخلاص، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ قل هو الله أحد ألف مرة يوم عرفة، أُعطي ماسأل» (1) .
ويسن رفع اليدين في الدعاء (2) ، وأن يقف مستقبل القبلة متطهراً، ولا يُفرط في الجهر بالدعاء أو غيره.
والأفضل للرجل أن يقف راكباً، على الأظهر.
ولا فضيلة في صعود جبل الرحمة.
ومن أدعية عرفة المختار: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم انقلني من ذلّ المعصية إلى عز الطاعة، واكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، واهدني وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير، اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) .
وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (3) .
__________
(1) من كتاب الدعوات للمستغفري عن ابن عباس مرفوعاً. قال الحسن البصري: الدعاء مستجاب في مواضع: في الطواف، وعند الملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعلى الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفات، والمزدلفة، وعند الجمرات.
(2) لخبر: «ترفع الأيدي في سبعة مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين» .
(3) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.(3/488)
يجب المبيت بمزدلفة بعد الدفع من عرفة اتباعاً للسنة (1) ، فإن لم يكن بها في النصف الثاني أراق دماً، ويسن جمع المغرب والعشاء فيها جمع تأخير (2) اتباعاً للسنة (3) .
خامساً ـ سنن الوقوف بمزدلفة:
ويسن تقديم النساء والضَّعَفة بعد نصف الليل إلى منى، ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مُغلِّسين، اتباعاً للسنة (4) ، ثم يدفعون إلى منى، ويأخذون من مزدلفة حصى الجمار وهي سبعون حصاة، لما روى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن الفضل بن العباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر: التقط لي حصى، قال: فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف» ، ولأن بها جبلاً في أحجاره رخاوة، ولأن السنة أنه إذا أتى إلى منى لا يعرج على غير الرمي، فسنَّ له أن يأخذ الحصى من مزدلفة، حتى لا يشغله عنه.
ويسن الوقوف عند المشعر الحرام في الطريق إلى منى، مع ذكر الله تعالى، والدعاء إلى الإسفار مستقبلين القبلة للاتباع (5) ، ويكثرون من قولهم: (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) ويضيف له: (اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم} [البقرة:198/2-199] ) .
ويقول أيضاً: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد) .
ثم يسير الحجاج قبل طلوع الشمس بسكينة ووقار، وشعارهم التلبية والذكر، ويكره تأخير السير حتى تطلع الشمس.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مغني المحتاج: 498/1-501.
(3) رواه الشيخان.
(4) تقديم الضعفة رواه الشيخان عن عائشة، وقال ابن عباس: «أنا ممن قدم النبيُ صلّى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» . والتغليس رواه الشيخان أيضاً، وهو مستحب كل يوم وليس خاصاً بمزدلفة. والتغليس: السير بغلس ـ وهو ظلمة آخر الليل.
(5) رواه مسلم.(3/489)
ويسرعون في وادي مُحَسِّر (1) سواء أكان الحاج ماشياً أم راكباً.
سادساً ـ سنن الرمي في منى:
يرمي كل شخص بعد طلوع شمس يوم النحر سبع حصيات جمرة العقبة (الجمرة الكبرى) (2) . ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي، وهذا الرمي تحية منى، فلا يبتدئ فيها بغيره.
والسنة لرامي هذه الجمرة أن يستقبلها، ويجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ويكبر مع كل حصاة بدل التلبية (3) ، فيقول:
(الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد) .
ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعاً لها حتى يرى بياض إبطيه، ولا ترفع المرأة، ولا يقف الرامي للدعاء عند هذه الجمرة.
ويسن الترتيب في يوم العيد بين هذه الأمور الأربعة: الرمي للعقبة، ثم الذبح (ذبح الهدي) ، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، ويدخل وقت هذه الأمور بنصف ليلةالنحر، ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر. ويختص الذبح بوقت الأضحية. ولا آخر لوقت الحلق والطواف والسعي.
__________
(1) وادي محسر: خمس مئة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً وهو موضع فاصل بين مزدلفة ومنى، والإسراع فيه رواه مسلم، لنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، وسمي به لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيا.
(2) للاتباع، رواه مسلم، وهذه الجمرة ليست من منى، بل حد منى من الجانب الغربي جهة مكة.
(3) للاتباع رواه مسلم.(3/490)
ويرمي الحاج أيضاً الجمرات الثلاث كل جمرة سبع حصيات في أيام التشريق الثلاثة، وهي حادي عشر الحجة وتالياه (1) ، بعد زوال الشمس من كل يوم إلى الغروب، مبتدئاً بالأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، التي هي ليست من منى، بل منى تنتهي إليها.
والسنة أن يرمي بقدر حصى الخذف: وهو دون الأنملة طولاً وعرضاً في قدر الباقلاء، فلو رمى بأكبر منه أو بأصغر، كره، وأجزأه.
المذهب الرابع ـ مذهب الحنابلة (2) :
أركان الحج أربعة:
1 - إحرام وينعقد بمجرد النية 2 - ووقوف بعرفة 3 - وطواف زيارة، فلو تركه وخرج من مكة، رجع معتمراً 4 - وسعي بين الصفاة والمروة.
وأركان العمرة ثلاثة: 1 - إحرام، 2- وطواف، 3- وسعي.
فمن ترك ركناً لم يصح الحج أو العمرة أو لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه.
وواجبات الحج سبعة:
إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل إن وافاها قبله، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً يبدأ بالأولى، ثم الثانية (الوسطى) ثم الثالثة (جمرة العقبة) ، وحلق أو تقصير، وطواف وداع (وهو طواف الصَّدر) (3) .
وواجبات العمرة: شيئان:
حلق أو تقصير، وإحرام من الحل أو الميقات.
فمن ترك واجباً ولو سهواً أو جهلاً، فعليه دم، فإن عجز عنه صام عشرة أيام كالمتمتع.
والسنن:
كمبيت بمنى ليلة عرفة، وطواف قدوم، ورمل، واضطباع، وتلبية، واستلام الركنين (الأسود واليماني) ، وتقبيل الحجر، ومشي وسعي في مواضعهما، وخطب وأذكار، ودعاء، ورقي بصفا ومروة، واغتسال، وتطيب في بدن، وصلاة ركعتين قبل الإحرام، وعقب طواف، واستقبال قبلة عند رمي.
ولا شيء في ترك ذلك كله، ويجب بالنذر.
وسنن الإحرام (4) :
الغسل، أو التيمم عند العجز أو العذر كما ذكر في غاية المنتهى، وأخذ الشعر والظفر وقطع الرائحة الكريهة، وتطيب بنحو مسك وعود وماء ورد، وخضاب للمرأة بحناء.
ولبس إزار ورداء أبيضين نظيفين، ونعلين، بعد تجرد الذكَر عن المخيط، والإحرام بعد صلاة فرض أو ركعتين نفلاً.
__________
(1) للاتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة، مع خبر «خذوا عني مناسككم» .
(2) كشاف القناع: 605/2، غاية المنتهى: 421/1 وما بعدها، المحرر في الفقه الحنبلي لابن تيمية: ص 242-245.
(3) سمي بذلك، لأن الصدر رجوع المسافر من مقصده، ولأنه يفعل بعده.
(4) غاية المنتهى: 365/1 ومابعدها، 371، كشاف القناع: 488/2 ومابعدها.(3/491)
والتلبية عقب الإحرام على الأصح، والإكثار منها (1) في الارتفاع والهبوط ودبر الصلوات المكتوبات، وعند إقبال الليل وإدبار النهار، ولقاء الرفقة، ورفع الصوت بها (2) ، ولكن لا يجهد نفسه في رفعه زيادة عن الطاقة خشية ضرر يصيبه. ويسن الدعاء بعد التلبية، فيسأل الله الجنة، ويعوذ به من النار (3) ، ويدعو بما أحب، ويسن عقبها الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله تعالى، فشرعت فيه الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم كالصلاة، ولا يرفع صوته بالدعاء والصلاة على النبي عقب التلبية، لعدم وروده. وكره لأنثى الجهر بها بأكثر مما تسمع رفيقتها، ولطائف بالبيت.
وصفة التلبية بالإجماع: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ولا تستحب الزيادة عليها، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولا تشرع التلبية بغير العربية لقادر على العربية، لأنه ذكر مشروع، فإن عجز عن العربية، لبى بلغته كالتكبير في الصلاة.
__________
(1) لخبر سهل بن سعد: «ما من مسلم يلبي إلا لبّى ما عن يمينه وشماله، من شجر أو حجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا» رواه الترمذي بإسناد جيد، وابن ماجه.
(2) لقول أنس: «سمعتهم يصرخون بها صراخاً» رواه البخاري.
(3) لما رواه الدارقطني عن خزيمة بن ثابت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته، سأل الله مغفرته ورضوانه، واستعاذ برحمته من النار» .(3/492)
وسنن الطواف (1) :
استلام الحجر بيده اليمنى، وتقبيله ونحوه، واضطباع، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى (وهو سرعة المشي ومقاربة الخطا) ، ومشي في مواضعه ودعاء وذكر ودنو من البيت، وصلاة ركعتين بعده. والرمل أولى من الدنو للبيت، ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير طواف الإفاضة.
فإن شق تقبيل الحجر استلمه بيده اليمنى وقبلها، فإن شق الاستلام أشار إليه بيده أو بشيء ولا يقبله.
ويسن استقبال الحجر بوجهه، ويقول: «بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم» يقول ذلك كلما استلمه، وزاد جماعة «الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .
ويقرب طائف جانبه الأيسر للبيت.
ويستلم الركن اليماني (2) ولا يقبله، وذلك في كل شوط، ولا يستلم الشامي والغربي.
ويقول بين الركنين اليماني والأسود: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار} [البقرة:201/2] .
ويقول في بقية طوافه: (اللهم اجعله حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، ربنا اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم) ، ويذكر ويدعو بما أحب، وسن قراءة فيه.
__________
(1) غاية المنتهى: 399/1-402.
(2) الطائف عن يسار البيت أول ركن يمر به يسمى الشامي والعراقي (وهو جهة الشام) ، ثم يليه الركن الغربي (وهو جهة الغرب) ، ثم اليماني (جهة اليمن) .(3/493)
وسنن السعي (1) :
كما ذكر عند الشافعية، يخرج للسعي من باب الصفا (وهو طرف جبل أبي قبيس) ويرقى الذكَرالصفا ليرى البيت، فيستقبله، ويكبر ثلاثاً، ويقول ثلاثاً: (الحمد لله على ما هدانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له..إلخ) المذكور سابقاً ويدعو بما أحب، ثم ينزل من الصفا، ويمشي ثم يرمل بين الميلين الأخضرين. ثم يرقى المروة، ويقول عليها ما قال على الصفا. ولا ترقى المرأة ولا ترمل.
وخلاصة سننه: طهارة حدث وخبث وستر عورة، وذكر ودعاء، وإسراع ومشي بمواضعه، ورقي، وموالاة بينه وبين طواف. فإن طاف بيوم، وسعى في آخر، فلا بأس.
وسنن الوقوف بعرفة (2) :
كالمذكور عند الشافعية أيضاً، وأهمها خطبة الإمام بنمرة (قبيل عرفة) خطبة قصيرة (3) مفتتحة بالتكبير، يعلمهم فيها الوقوف بعرفة ووقته، والدفع منه، والمبيت بمزدلفة ونحوه، والجمع تقديماً بين الظهر والعصر.
ويسن الوقوف راكباً بخلاف سائر المناسك، مستقبل القبلة عند الصخرات الكبار المفترشة أسفل جبل الرحمة، ولا يشرع صعوده.
ويكثر من الدعاء مع رفع الأيدي، والاستغفار، والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف، والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثاً. ويكثر من قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له..إلخ» المذكور عند الشافعية.
__________
(1) غاية المنتهى: 404/1-406.
(2) المرجع السابق: 407/1 ومابعدها، 412، 415.
(3) يخطب الإمام أيضاً بمنى يوم النحر، وفي ثاني أيام التشريق. ويدعو بما أحب، ويكثر البكاء مع ذلك، فهناك تسكب العبرات، وتقال العثرات.(3/494)
وسنن الوقوف بمزدلفة (1) :
الدفع إليها بعد غروب اليوم التاسع بسكينة واستغفار، علماً بأنه يجب المبيت بها لنصف الليل، وجمع العشاءين بها جمع تأخير، وصلاة الصبح بها بغلس، ثم إتيان المشعر الحرام (2) ، فيرقى عليه أو يقف عنده مع حمد الله وتكبيره، والدعاء إليه إلى الإسفار جداً، كما ذكر عند الشافعية: (اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا..إلخ) .
والإسراع في وادي محسِّر، ماشياً أو راكباً.
ويأخذ الحاج من المزدلفة سبعين حصاة أكبر من الحمص ودون البندق، كحصى الخَذْف، ويكره أخذ الحصى من منى وسائر الحرم. ولا يسن غسل غير نجس، وتجزئ حصاة نجسة مع الكراهة.
وسنن الرمي في منى (3) :
البدء برمي جمرة العقبة بسبع حصيات وهو تحية منى، بعد نصف ليلة النحر كالطواف. ويندب الرمي بعد الشروق، وأن يكبر مع كل حصاة قائلاً:
(اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً) وأن يستبطن الوادي، ويستقبل القبلة، ويرمي على جانبه الأيمن، ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه، ولا يقف عندها، بل يرميها ماشياً، وله رميها من فوقها، ويقطع التلبية عند أول الرمي.
ويسن الحلق بعد ذبح الهدي، والحلق أفضل من التقصير، والسنة ترتيب أربعة أمور يوم النحر: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، كما وصف جابر في حج النبي صلّى الله عليه وسلم (4) ، فإن أخل بترتيبها ناسياً أو جاهلاً بالسنة، فلا شيء عليه في قول أكثر العلماء، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه يوجب الدم إن قدم الحلق على الرمي، أو على النحر.
ويسن أخذ ظفر وشارب وشعر إبط وأنف وعانة، وتطيب عند تحلل من الحج.
وتسن الخطبة يوم عرفة.
ويندب أن يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير ويعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي.
ويسن رمي الجمرات في أيام التشريق قبل أداء صلاة الظهر، مع وجوب البدء بالجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف وأبعدهن عن مكة، فيجعلها عن يساره مستقبلاً القبلة، ويرمي، ثم يتقدم قليلاً، لئلا يصيبه حصى.
ثم يقف يدعو دعاء طويلاً رافعاً يديه.
ثم يرجم الجمرة الوسطى، فيجعلها عن يمينه مستقبلاً القبلة، ثم يقف عندهم فيدعو. ثم يرجم جمرة العقبة ويجعلها عن يمينه مستقبلاً القبلة، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها. وترتيب رجمها شرط.
ويندب أن يخطب الإمام ثاني أيام التشريق، خطبة يعلمهم حكم التعجيل والتأخير، وتوديعهم، ويحثهم.
ويجوز لغير الإمام التعجيل في اليوم الثاني، وهو النفر الأول، فإن غربت الشمس وهو في منى لزمه مبيت ورمي من غد. ويسقط رمي اليوم الثالث عن متعجل، ويدفن حصاه في المرمى.
ويسن إذا نفر من منى النزول بالأبطح (وهو المحصَّب: وهو مابين الجبلين إلى المقبرة) فيصلي به الظهرين والعشاءين، ويهجع يسيراً، ثم يدخل مكة.
__________
(1) غاية المنتهى: 409/1 ومابعدها.
(2) جبل صغير بالمزدلفة، هو جبل قزح، وتسمى المزدلفة كلها مشعراً.
(3) غاية المنتهى: 410/1 ومابعدها، 414 ومابعدها.
(4) المغني: 446/3.(3/495)
....................جدول بأهم أحكام أعمال الحج في المذاهب.........................
........العمل.........................الحنفية..........المالكية........الشافعية........الحنابلة
1-حكم الحج.......فرض فوراً على المستطيع ... فرض فوراً ... فرض على التراخي ... فرض فوراً
2-حكم العمرة ... سنة مؤكدة....سنة مؤكدة على المشهور ... فرض على التراخي ... فرض فوراً
3-الإحرام بالحج (نيته) .................شرط...........ركن.............ركن.........ركن
4-الإحرام بالعمرة (بيتها) ...............شرط...........ركن.............ركن.........ركن
5-الإحرام من الميقات.................واجب..........واجب..........واجب.......واجب
6-اقتران الإحرام بالتلبية..............واجب..........واجب............سنة..........سنة
7-الغسل للإحرام......................سنة.............سنة.............سنة..........سنة
8-التطيب للإحرام.....................سنة.............سنة.............سنة..........سنة
9-التلبية.............................واجبة...........واجبة.............سنة..........سنة
10-طواف القدوم للمفرد والقارن....سنة.....واجب على الأصح.......سنة...........سنة
11-نية الطواف......................شرط............واجب...........سنة...........سنة
12-بدء الطواف من الحجر الأسود....واجب..........واجب..........شرط..........شرط
13-جعل البيت عن يسار الطائف.....واجب..........شرط............شرط..........شرط
14-المشي في الطواف للقادر عليه....واجب...........واجب...........سنة...........شرط
15-الطهارة من الحدثين في الطواف ... واجب...........شرط...........شرط..........شرط
16-طهارة البدن والثوب والمكان......سنة.............شرط...........شرط..........شرط
17-كون الطواف من وراء الحطيم أو الحجر ... واجب ... شرط..........شرط..........شرط
18-كون الطواف في المسجد.........شرط.............شرط..........شرط..........شرط
19-كون الطواف سبعة أشواط......واجب............شرط..........شرط...........شرط
20-الموالاة بين أشواط الطواف.......سنة.............واجب...........سنة..........واجب
21-ستر العورة في الطواف.........واجب.............شرط...........شرط..........شرط
22-ركعتا الطواف.................واجب...........واجب...........سنة............سنة
23-طواف العمرة..................ركن..............ركن...........ركن............ركن
24-السعي بين الصفا والمروة.......واجب.............ركن..........ركن.............ركن
25-وقوع السعي بعد الطواف.....واجب............واجب.........شرط............شرط
26-نية السعي....................واجب.............شرط...........شرط...........شرط
27-بدء السعي بالصفا وحتمه بالمروة ... واجب........شرط...........شرط...........شرط
28-المشي في السعي للقادر........واجب............واجب..........سنة.............شرط
29-كون السعي سبعة أشواط.....واجب.............شرط..........شرط............شرط
30-الموالاة بين أشواط السعي.......سنة..............شرط..........سنة..............شرط
31-الحلق أو التقصير في العمرة ... واجب............واجب....ركن على المشهور.....واجب
32-المبيت بمنى ليلة عرفة...........سنة..............سنة..............سنة.............سنة
33-الوقوف بعرفة................ركن..............ركن.............ركن............ركن
34-وقت الوقوف بعرفة ... من بعد الزوال من يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر بالاتفاق (1)
35-امتداد الوقوف لما بعد الغروب إن وقف نهاراً ... واجب ... واجب....سنة...........واجب
36-الدفع من عرفة مع الإمام أو نائبه..............واجب ... واجب....سنة...........واجب
37-الجمع بمزدلفة بين المغرب والعشاء تقديماً.......واجب....سنة.....سنة.............سنة
38-الوقوف بمزدلفة ... واجب ولو لحظة......واجب ويكفي ... واجب ويكفي ... المبيت واجب
.......................بعد الفجر......مقدار حط الرحال.....لحظة في ... لما بعد منتصف الليل
.......................******....وجمع الصلاتين وتناول شيء ... النصف الثاني......******
....................******....من الطعام والشراب، والمبيت مندوب ... من الليل....******
39-الوقوف بمزدلفة عندالمشعر ... مستحب ... مندوب والمعتمد أنه سنة....سنة..........سنة
الحرام من الفجر إلى الشروق..............................................................
40-رمي جمرة العقبة يوم النحر......واجب..........واجب..........واجب.......واجب
41-الحلق أو التقصير في الحج.......واجب.....ركن على المعتمد.....واجب.......واجب
42-الترتيب بين الرمي والذبح والحلق ... واجب......سنة..............سنة...........سنة
43-طواف الإفاضة ... أكثره ركن (ثلاثة وأكثر الرابع) ... ركن..........ركن..........ركن
44-كون طواف الإفاضةفي أيام النحر ... واجب ... واجب في ذي الحجة ... سنة ... سنةيوم العيد
45-تأخير طواف الإفاضة عن رمي العقبة ... سنة......واجب..........سنة.........واجب
46-رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق....واجب....واجب.........واجب.......واجب
47-عد تأخير الرمي إلى الليل..............سنة......واجب...........سنة......واجب على......................******......******........******غير سقاة ورعاة فيرمون ليلاً ونهاراً
48-المبيت بمنى ليالي التشريق ... سنة ... واجب إلا لراعي الإبل والسقَّاء ... واجب لغير ... واجب
.....................******.......******...................الرعاء وأهل السقاية ... ******
49-طواف الوداع............واجب..........مندوب..........واجب على المعتمد ... واجب
50-أداء العمرة في أيام التشريق ... مكروه تحريماً ... لا يصح ويكره ... يصح بغير كراهة ... يصح
..............****** ... بعد رمي اليوم الرابع إلى الغروب ... بعد إنهاء أعمال الحج ... بغير كراهة
51-ترتيب الجمار............سنة.............واجب............واجب..............واجب
(الأولى فالوسطى فالعقبة) ...................................................................
__________
(1) اتفقوا على آخر وقت الوقوف، واختلفوا في بدئه، فقال الحنابلة: يبدء الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة (المغني: 415/3) .(3/496)
المبحث الخامس - أركان الحج والعمرة:
أركان الحج: عرفنا أن للحج عند الحنفية ركنين فقط هما: الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة. وأركان الحج عند المالكية والحنابلة أربعة: الإحرام والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي. وأركانه عند الشافعية خمسة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف والسعي، والحلق أو التقصير.
أركان العمرة: ركن العمرة عند الحنفية: الطواف بالبيت.
وللعمرة عند المالكية والحنابلة أركان ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسعي.
وأركانها عند الشافعية أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير.
ويلاحظ أن الحلق أو التقصير عند الجمهور غير الشافعية واجب لا ركن.
وأبحث هذه الأمور تفصيلاً:
المطلب الأول ـ الإحرام:
حقيقته: الدخول في الحرمة، والمراد هنا نية الدخول في النسك من حج أو عمرة، أو الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها. وإذا تم الإحرام لا يخرج عنه إلا بعمل النسك الذي أحرم به، فإن أفسده وجب قضاؤه، وإن فاته الوقوف بعرفة أتمه عمرة، وإن أحصر أي منع عن إكماله، ذبح هدياً وقضاه.
والكلام فيه يشمل ما يصير به الشخص محرماً، صفة الإحرام، والإحرام كإحرام فلان، مكان الإحرام وزمانه، ومايفعله مريد الإحرام، ومايحرم به من حج أو عمرة أو بهما، وإضافة الإحرام إلى الإحرام، وإدخال العمرة على الحج وعلى العكس، وفسخ الإحرام.
أولاً - مايصير به الشخص محرماً:
لا خلاف في أنه إذا نوى حجاً أو عمرة، وقرن النية بقول أو فعل من خصائص الإحرام، يصير محرماً، بأن لبى ناوياً به الحج، أو العمرة، أو بهما معاً.
ولا خلاف بين الشافعية والحنابلة وفي الأرجح عند المالكية أن الإحرام ينعقد بمجرد النية، لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية، والتجرد من المخيط ونحوه، حين النية. أما قرن النية بقول أو فعل، فقال الحنفية:
لا يصيرشارعاً في الإحرام بمجرد النية، ما لم يأتِ بالتلبية، أي أن الإحرام لايثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول أوفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله، والنية ليست بركن عندهم، بل هي شرط، وإذا لبى ناوياً فقد أحرم عندهم.
وعبارة المالكية: الإحرام: ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج، كالتلبية والتوجه إلى الطريق، لكن الأرجح أنه ينعقد بمجرد النية، ويلزمه دم في ترك التلبية والتجرد من المخيط حين النية.
وعبارة الشافعية والحنابلة: الإحرام: بأن ينوي الدخول في النسك، فلا ينعقد بدون النية، فإن اقتصر على النية، ولم يلب، أجزأه، وإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه ولا يشترط قرن النية بالتلبية؛ لأنها من الأذكار، فلم تجب في الحج كسائر الأذكار.
والحاصل أن الإحرام ينعقد بالنية عند الجمهور، ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية وإنما لا بد من قرنه بقول أوفعل من خصائص الإحرام، كالتلبية أو التجرد من المخيط ونحوه (1) .
ولا يصح الإحرام إلا بالنية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) ولأنه عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصوم والصلاة.
ومحل النية: القلب، والإحرام: النية بالقلب، والأفضل عند أكثر العلماء أن ينطق بما نواه؛ لما روى أنس رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لبيك بحجة وعمرة» (3) ولأنه إذا نطق به كان أبعد عن السهو.
__________
(1) البدائع: 161/2 ومابعدها، فتح القدير: 134/2 ومابعدها، اللباب: 179/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 131، الشرح الصغير: 16/2 وما بعدها، 25، مغني المحتاج: 476/1-478، المهذب: 204/1 ومابعدها، غاية المنتهى: 365/1، المجموع: 226/7 ومابعدها، المغني: 281/3-288.
(2) رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم، قيل: وقع الاشتباه لأنس، لا لمن دونه، في القران بين الحج والعمرة.(3/497)
فيقول: نويت الحج أو العمرة وأحرمت به أو بها لله تعالى، أو يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فيسره لي وتقبله مني. وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج، ثم يجب أن يلبي عند الحنفية عقيب صلاته، لأنه صلّى الله عليه وسلم «لبى في د ُبُر صلاته» ويستحب التلبية عند الجمهور بعد الإحرام أي مع النية.
وإن حج أو اعتمر عن غيره قال: «نويت الحج أو العمرة عن فلان وأحرمت به أو بها لله تعالى» .
وإن كان مفرداً الإحرام بالحج نوى بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة، والأعمال بالنيات.
والتلبية كما بينت في المبحث السابق أن يقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلْك، لا شريك لك» وهي المنقولةعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات، لأنه هو المنقول باتفاق الرواة، فلا ينقص عنه، فإن زاد عليها جاز بلا كراهة.
ثانياً ـ صفة الإحرام تعييناً وإطلاقاً وإحالة واشتراطاً (1) :
الأفضل أن يعين المحرم ما أحرم به من حج أو عمرة أو هما معاً، فالتعيين أفضل من الإطلاق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين، فقال فيما روته عائشة: «من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» (2) .
__________
(1) البدائع: 163/2، الشرح الصغير: 25/2 ومابعدها، المهذب: 205/1، مغني المحتاج: 1/674-874، المغني: 284/3-487، الشرح الكبير: 26/2 وما بعدها.
(2) متفق عليه عن عائشة (نيل الأوطار: 308/4 ومابعدها) ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية من قولهم: استهل الصبي: إذا صاح، والأصل فيه: أنهم كانوا إذا رئي الهلال صاحوا، فيقال: استهل الهلال، ثم قيل لكل صائح: مستهل.(3/498)
ورأى الحنفية: أنه لو أحرم بالحج، ولم يعين حجة الإسلام، وعليه حجة الإسلام، يقع عنها استحساناً؛ لأن الظاهر من حاله أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع، ويبقي نفسه في عهدة الفرض، فيحمل على حجة الإسلام بدلالة حاله، فكان الإطلاق فيه تعييناً كما في صوم رمضان. ولو نوى التطوع يقع عن التطوع؛ لأن دلالة حاله لا تفيد مع التعيين الصريح.
وكذلك قال الشافعية: ليس التعيين شرطاً في انعقاد النسك، فلو أحرم بنسك نفل وعليه نسك فرض، انصرف إلى الفرض.
وينعقد الإحرام معيناً: بأن ينوي حجاً أو عمرة أو كليهما بالإجماع، ولحديث عائشة المتقدم، وينعقد أيضاً مطلقاً بألا يزيد على الإحرام نفسه، بأن ينوي الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة، أو يقتصر على قوله: «أحرمت» ، بدليل ما روى الشافعي: «أنه صلّى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه مهلِّين ينتظرون القضاء (أي نزول الوحي) فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجاً» .
وفي حالة الإطلاق هذه قال الحنفية: يمضي في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطاً، فإن طاف شوطاً، كان إحرامه عن العمرة؛ لأن الطواف ركن في العمرة، وطواف القدوم سنة، فإيقاعه عن الركن أولى، وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده.(3/499)
وقال المالكية: إن أبهم نية الإحرام بأن لم يعين شيئاً بأن نوى النسك لله تعالى من غير ملاحظة حج أو عمرة أو هما، ندب صرفه أي تعيينه لحج فيكون مفرداً، والقياس صرفه لقران؛ لأنه أحوط لاشتماله على النسكين كالناسي لما عينه.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أحرم مطلقاً في أشهر الحج، صرفه بالنية إلى ما شاء من الأنساك، ثم اشتغل بالأعمال، فلو طاف ثم صرفه للحج وقع طوافه عند الشافعية عن القدوم، وإن أطلق الإحرام في غير أشهر الحج، فالأصح عند الشافعية انعقاده عمرة، فلا يصرفه إلى الحج في أشهره.
والأولى عند الحنابلة: صرف الإحرام إلى العمرة؛ لأنه إن كان في غير أشهر الحج، فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع، والأول أرجح عندهم، وإن كان في أشهر الحج، فالعمرة أولى؛ لأن التمتع عندهم أفضل، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يجعله عمرة.
تعليق الإحرام أو الإحرام بما أحرم به فلان (1) أو إبهام الإحرام: يصح إبهام الإحرام: وهو أن يحرم به بما أحرم به فلان، لما روى أبو موسى قال: «قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: كيف أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: حل» (2) . فإن لم يكن فلان محرماً، انعقد إحرامه مطلقاً، وإن كان محرماً بنسك معين انعقد إحرامه كإحرامه، وإن تعذر معرفة إحرامه بموته كان حكمه كالناسي.
__________
(1) هذا هو المراد بالإحالة أي بإحالة الإحرام على إحرام فلان، وهو أن يحرم بإحرام كإحرام فلان، فيصير محرماً مثل إحرام فلان (شرح مسلم 198/8 ومابعدها) .
(2) متفق عليه (شرح مسلم 198/8 ومابعدها) .(3/500)
حكم نسيان ما عينه: إذا أحرم بنسك، ثم نسي ما عينه، أهو حج أو عمرة أو هما، قبل الطواف، فله عند الحنابلة صرفه إلى أي نسك شاء. ويكون قراناً عند المالكية والحنفية والشافعية في الجديد؛ لأنه تلبس بالإحرام يقيناً، فلا يتحلل إلا بيقين الإتيان بالمشروع فيه، فيعمل أعمال النسكين ليتحقق الخروج عما شرع فيه، فتبرأ ذمته من الحج بعد إتيانه بأعماله، ولا تبرأ ذمته من العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج، ويمتنع إدخالها عليه ولا دم عليه، فيبرأ من الحج فقط، وعليه عند المالكية تجديد نية الحج.
ومنشأ الخلاف بين الرأيين: هو فسخ الحج إلى العمرة، فإنه جائز عند الحنابلة، وغير جائز عند الجمهور.
الاشتراط في الإحرام (1) : أجاز الشافعية والحنابلة الاشتراط في الإحرام، وهو التحلل لمانع مرضي ونحوه، ولا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط، بدليل حديث ابن عباس: «أن ضُبَاعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله، إني امرأة ثقيلة (2) ، وإني أريد الحج، فكيف تأمرني؟ فقال: أَهِلِّي واشتراطي أن مَحِلِّي (3) حيث حبستني، قال: فأدْركَت» (4) .
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح الاشتراط، عملاً برأي ابن عمر، وقالا عن الأحاديث: إنها قصة عين، وإنها مخصوصة بضباعة. ومنشأ الخلاف: هل خطابه صلّى الله عليه وسلم لواحد يكون غيره فيه مثله أو لا؟
من أحرم بحجتين أو عمرتين: إن أحرم، انعقد بإحداهما، ولغت الأخرى عند الحنابلة؛ لأنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، فلو أفسد حجته أو عمرته، لم يلزمه إلا قضاؤها.
__________
(1) نيل الأوطار: 4/803، المغني: 282/3 وما بعدها.
(2) في رواية عائشة «وجيعة» .
(3) أي مكان إحلالي.
(4) رواه الجماعة إلا البخاري، وللنسائي في رواية «فإن لكِ على ربِّك ما استثنيت» (نيل الأوطار: 307/4) وله روايات أخرى: عن عائشة في المتفق عليه، وعن عكرمة عند أحمد.(3/501)
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: ينعقد بهما، وعليه قضاء إحداهما، لأنه أحرم بها ولم يتمها، وإن أفسد ما نواه يلزمه قضاؤهما معاً بناء على صحة إحرامه بهما.
ثالثاً ـ مكان الإحرام وزمانه:
مكان الإحرام: هو المسمى بالميقات. وزمان الإحرام هو وقت الحج والعمرة وقد بحثت الأمرين في المبحث الثالث.
وتبيَّن فيه أن وقت العمرة بالاتفاق: جميع أجزاء السنة ما عدا يوم العيد (عيد النحر) وأيام التشريق عند الحنفية والمالكية.
ووقت الحج في أشهر ثلاثة معينة: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عند الجمهور، وذو الحجة كله عند المالكية.
والناس في حق المواقيت أصناف ثلاثة (1) :
الصنف الأول ـ أهل الآفاق: وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهي خمسة ثابتة في السنة، وهي ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن المنازل لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق.
والصنف الثاني ـ أهل الحل: وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم كأهل بستان بني عامر وغيرهم، وميقاتهم دويرة أهلهم، أو حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم.
والصنف الثالث ـ أهل مكة الحرم: وميقاتهم للحج الحرم، وللعمرة الحل، فيحرم المكي من دويرة أهله للحج، أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أوغيره.
رابعاً ـ ما يفعله مريد الإحرام:
إذا أراد الشخص الإحرام يفعل السنن المذكورة سابقاً في بحث أعمال الحج وأهمها ما يأتي (2) . أما ما يجتنبه المحرم من اللباس والحذاء وغيرهما فيعرف في بحث محظورات الإحرام.
__________
(1) البدائع: 163/2-167.
(2) فتح القدير: 134/2-140، اللباب: 179/1 ومابعدها، 188، القوانين الفقهية: ص 131، الشرح الصغير: 29/2 ومابعدها، مغني المحتاج: 478/1-482، 501، المهذب: 204/1 ومابعدها، المجموع: 211/7-226، المغني: 270/3-275، 288-293، 301، 325، 430، غاية المنتهى: 365/1 ومابعدها.(3/502)
1 - يغتسل تنظفاً، أو يتوضأ، والغسل أفضل؛ لأنه أتم نظافة، ولأنه عليه الصلاة والسلام اغتسل لإحرامه (1) ، وهو للنظافة لا للطهارة، ولذا تفعله المرأة الحائض والنفساء، لما روى ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «أن النفساء والحائض تغتسل وتُحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت» (2) وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس، وهي نفساء أن تغتسل (3) .
فدل على أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام، كما يشرع للرجال؛ لأنه نسك، وهو في حق الحائض والنفساء آكد، لورود الخبر فيهما.
وهذا متفق عليه. فإن لم يجد ماء تيمم عند الشافعية؛ لأن الغسل يراد للقربة والنظافة، فإذا تعذر أحدهما يبقى الآخر، ولأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فعن المندوب أولى. ولو وجد ماء لا يكفيه للغسل ويكفيه للوضوء، توضأ به وتيمم عن الغسل.
ولا يسن له التيمم في رأي ابن قدامة؛ لأنه غسل مسنون، فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة، والفرق بين الواجب والمسنون؛ أن الواجب يراد لإباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة، والتيمم لا يحصِّل هذا، بل يزيد شعثاً وتغييراً، والراجح عند الحنابلة جواز التيمم كما في غاية المنتهى.
ويستحب التنظيف أيضاً بأزالة الشَّعَث (الوسخ من غبار وغيره) وقطع
__________
(1) رواه الدارمي والترمذي وغيرهما عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه (نصب الراية: 17/3) .
(2) رواه أبو داود والترمذي عن ابن عباس (نيل الأوطار: 303/4) .
(3) رواه مسلم عن جابر.(3/503)
الرائحة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة وترجيل الشعر؛ لأن الإحرام أمر يسن له الاغتسال والطيب، فيسن له هذا كالجمعة.
2 - يتجرد الذكر من المخيط، ويلبس ثوبين نظيفين: إزاراً ورداءاً جديدين ثم مغسولين، ونعلين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فلْيلبَس خُفَّين، ولْيَقْطَعهما أسفل من الكعبين» (1) ، ولا يلزم قطعهما في المشهور عن أحمد، لحديث ابن عباس: «ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين» (2) .
والمرأة: إحرامها في كشف وجهها باتفاق الفقهاء، فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها عند الحنابلة تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لفعل عائشة ومحرمات أخريات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (3) .
3 - يتطيب في بدنه قبل الإحرام عند الجمهور، لا في الثوب عند الحنفية والحنابلة، لأنه مباين له، وكذا في ثوبه في الأصح عند الشافعية، لحديث عائشة: «كنت أطيِّب النبي صلّى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيبِ ما أجد» (4) أي في وقت إحرامه. ولابأس باستدامة أثر الطيب بعد الإحرام، لحديث الصحيحين عن عائشة: «كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلّى الله عليه وسلم» والوبيص: هو البريق، والمفرق: وسط الرأس.
__________
(1) رواه أحمد عن ابن عمر، والكعبان: العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم (نيل الأوطار: 305/4) .
(2) متفق عليه، فيكون هذا ناسخاً لحديث ابن عمر المتقدم (نيل الأوطار: 4/5) .
(3) رواه أبو داود والأثرم عن عائشة.
(4) رواه البخاري ومسلم، وللنسائي: حين أراد الإحرام.(3/504)
ولا يتطيب عند المالكية، ويكره الطيب قبل الغسل أو بعده بما تبقى رائحته، لما روي أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم، يعني ساعة، ثم قال «: اغسل الطيب الذي بك ـ ثلاث مرات ـ وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك» (1) ، ولأنه يمنع من ابتداء الطيب، فمنع استدامته كاللبس.
والظاهر جواز التطيب قبل الإحرام؛ لأن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر، فيكون ناسخاً للحديث الأول، وفعل النبي صلّى الله عليه وسلم حجة على ابن عمر الذي كان ينهى عن الطيب عند الإحرام.
ويسن عند الشافعية والحنابلة أن تخضب المرأة للإحرام يديها إلى الكوع (الرسغ) بالحناء، لما روى ابن عمر أن ذلك من السنة.
4 - يصلي صلاة ركعتي الإحرام بعد الغسل وقبل الإحرام بالاتفاق، أو يكون الإحرام عند المالكية والحنابلة عقب صلاة مفروضة، أما الأول فلما روى الشيخان أنه «صلّى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم» (2) . ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم مكة، ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/109] وفي الثانية: (الإخلاص) .
وأما الإحرام عقب صلاة مكتوبة وهو الأولى عند الحنابلة، فلما روى أبو داود والأثرم عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: «أوجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته..» .
ويجوز عند الحنابلة على السواء الإحرام عقيب الصلاة، أو إذا استوت به راحلته، أو بدأ بالسير، فإذا استوى على راحلته لبى.
__________
(1) متفق عليه عن يعلى بن أمية.
(2) نصب الراية: 20/3 ومابعدها.(3/505)
والأفضل عند المالكية والشافعية أن يحرم إذا سارت به راحلته، لما رواه الشيخان، أو إذا توجه لطريقه ماشياً، لما روى مسلم عن جابر: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما أهللنا ـ أي أردنا أن نهل ـ أن نحرم إذا توجهنا» .
5 - يلبي، والتلبية عقيب الصلاة عند الحنفية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «لبى في دُبُر صلاته» (1) وهو الأفضل، ويلبي بعد ما استوت به راحلته، ثم ينوي، فإن كان مفرداً الإحرام بالحج، نوى بتلبيته الحج؛ لأنه عبادة، والأعمال بالنيات.
ويلبي عند الشافعية مع النية، لخبر مسلم: «إذا توجهتم إلى منى، فأهلوا بالحج» والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، والعبرة بالنية لا بالتلبية، فلو لبى بغير مانوى، فالعبرة بما نوى.
ويلبي عند المالكية والحنابلة إذا استوى على راحلته، وأخذ في المشي، لما روى البخاري عن أنس وابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما ركب راحلته، واستوت به أهلَّ» وقال ابن عباس: «أوجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته، واستوت به قائمة، أهل» يعني لبى، ومعنى الإهلال: رفع الصوت بالتلبية.
ويجدد التلبية عند كل هبوط وصعود، وحدوث حادث ولقاء رفقة، وخلف الصلوات، وعند سماع من يلبي.
ويستحب إكثار التلبية، ورفع الصوت بها أثناء إحرامه دون إسراف إلا للنساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عباس (نصب الراية: 21/3) .(3/506)
«أفضل الحج: العج والثج» (1) فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدم.
وصيغة التلبية كما سبق: (لبيك اللهم (2) لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) والمستحب ألا يزيد عليها، فإن زاد فيها، جاز.
فإذا لبى ناوياً فقد أحرم عند الحنفية.
متى يقطع التلبية؟ يقطع التلبية عند المالكية إذا أخذ في الطواف، ويعاودها بعد الفراغ من السعي، إلى أن يقطعها إذا زالت الشمس من يوم عرفة، عملاً بما روي عن علي وأم سلمة: أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة. ويقطع التلبية عند الجمهور (غير المالكية) عند ابتداء الرمي لجمرة العقبة يوم العيد بأول حصاة يرميها؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يزل ملبياً حتى رماها (3) ، ولأنه يتحلل بالرمي.
هذا عند الحنفية إن رمى قبل الحلق، فإن حلق قبل الرمي، قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل.
أما المعتمر فيقطع التلبية عند الشروع بالطواف.
خامساً ـ ما يحرم به من حج أو عمرة أو بهما:
اتفق الفقهاء على أن أوجه أداء الحج والعمرة، أو ما يحرم به في الأصل، ثلاثة أنواع: الإفراد، والتمتع، والقران، أي أداء الحج وحده، والعمرة وحدها، والعمرة مع الحج، والأشخاص المحرمون ثلاثة: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وجامع بينهما، الأول: هو المفرد، والثاني: المتمتع، والثالث: القارن.
والمفرد بالحج: هو الذي يحرم بالحج لا غير، فيؤدي الحج أولاً، ثم يحرم بالعمرة.
والمتمتع: هو الذي يحرم بالعمرة أولاً في أشهر الحج ويتمها، ثم يحرم بالحج في سنته وأشهره.
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر، ورواه الترمذي عن أبي بكر الصديق، ورواه أبو القاسم الأصبهاني عن جابر، ورواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى عن ابن مسعود (نصب الراية: 34/3) .
(2) أصله يا الله، حذف حرف النداء، وعوض عنه الميم.
(3) رواه الشيخان من حديث الفضل بن عباس.(3/507)
والقارن: هو الآفاقي (غير المكي) الذي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة وهو الطواف، فيأتي بالعمرة أولاً، ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير، سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول، فلو أحرم بالعمرة، ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة (أو أكثره عند الحنفية) كان قارناً، لوجود معنى القران: وهو الجمع بين الإحرامين، ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارناً، بل يكون متمتعاً، لوجود معنى التمتع: وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله عند الحنفية وهو الطواف، والسعي بعده عند الجمهور، والحلق أو التقصير أيضاً عند الشافعية على المعتمد (1) .
واختلف فقهاء المذاهب في الأفضل من هذه الأوجه على أقوال ثلاثة:
1 - فقال الحنفية (2) : القران (وهو الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر واحد) أفضل من التمتع والإفراد؛ لأن فيه استدامة الإحرام بهما من الميقات إلى أن يفرغ منهما، ولا كذلك التمتع، فكان القران أولى منه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) البدائع: 167/2، القوانين الفقهية: ص135، مغني المحتاج: 513/1 ومابعدها، غاية المنتهى: 366/1 ومابعدها.
(2) فتح القدير: 199/2 ومابعدها، اللباب مع الكتاب: 192/1 ومابعدها، تبيين الحقائق: 40/2 ومابعدها.(3/508)
«أهلُّوا يا آل محمد بعمرة في حجة» (1) . وقال أنس: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة يقول: لبيك عمرة وحجة» (2) .
2 - وقال المالكية والشافعية (3) : الإفراد بالحج أفضل من القران والتمتع، إن اعتمر عامه؛ لأنه لا يجب معه هدي، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم حج مفرداً على الأصح، قالت عائشة: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهَلَّ بعمرة، ومنا من أّهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالحج» (4) ، وروي الإفراد عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر.
ثم القران عند المالكية يلي الإفراد في الفضل، وللقران صورتان:
أولاهما ـ بأن ينوي القران أو العمرة والحج بنية واحدة، ويجب تقديم العمرة في النية والملاحظة إن رتب بينهما، ويندب تقديمها في اللفظ إن تلفظ.
والثانية ـ أن ينوي العمرة، ثم يبدو له فيردف الحج عليها، ولا يصح إرداف عمرة على حج، لقوته، فلا يقبل غيره.
والتمتع عند الشافعية بعد الإفراد، ثم القران؛ لأن المتمتع يأتي بعملين كاملين غير أنه لا ينشئ لهما ميقاتين. وأما القارن فإنه يأتي بعمل واحد من ميقات واحد. فالشافعية ينظرون لكثرة الأعمال.
__________
(1) أخرجه الطحاوي عن أم سلمة (نصب الراية: 99/3) .
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أنس (المرجع السابق) .
(3) الشرح الصغير: 34/2، القوانين الفقهية: ص135، بداية المجتهد: 324/1، مغني المحتاج: 514/1، المهذب:200/1 ومابعدها، المجموع: 137/7-199، الشرح الكبير: 27/2-29.
(4) رواه البخاري ومسلم.(3/509)
3 - وقال الحنابلة (1) : التمتع أفضل، فالإفراد، فالقران، أي عكس الترتيب عند الشافعية بين الأول والثاني. والتمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج في عامه من أين شاء بعد فراغه منها.
ودليلهم أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعاً، لما قال ابن عمر: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة» (2) .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» (3) .
هذه هي أقوال الفقهاء في بيان الأفضلية بين هذه الأنواع، والسبب في اختلافهم: اختلافهم فيما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك، ولكل رأي ما يؤيده من الروايات الصحيحة، وأرجح الرأي الثاني؛ لأن رواة أحاديثه أكثر، ولأن جابراً منهم أقدم صحبة وأشد عناية بضبط المناسك، وبالإجماع على أنه لا كراهة في الإفراد، وبأن التمتع والقران يجب فيهما بالدم جبراً للنقص، بخلاف الإفراد. قال النووي في المجموع (4) : والصواب الذي نعتقده أنه صلّى الله عليه وسلم أحرم بحج، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا، وعلى الأصح لا يجوز لنا، وجاز للنبي صلّى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة، وأمر به في قوله: «لبيك عمرة في حجة» (5) .
__________
(1) غاية المنتهى: 366/1.
(2) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر (نصب الراية: 113/3) .
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله (جمع الفوائد: 469/1 ومابعدها) .
(4) المجموع: 150/7.
(5) رواه مسلم عن أنس.(3/510)
سادساً ـ إضافة الإحرام إلى الإحرام وإدخال الحج على العمرة وبالعكس وفسخ الحج إلى العمرة:
إضافة الإحرام إلى الإحرام:
قال الحنفية (1) : إضافة الإحرام إلى الإحرام من المكي ونحوه جناية، وكذلك إضافة إحرام العمرة إلى إحرام الحج من الآفاقي جناية أيضاً توجب الدم. أما إضافة الحج إلى العمرة فجائز لا جناية فيه. وتفصيل الكلام كما يأتي:
1 - ضم الحج إلى العمرة: إذا أحرم المكي بعمرة، فأدخل عليها إحرام حجة، فهناك ثلاثة احتمالات:
أـ إما أن يدخله قبل أن يطوف، فترتفض عمرته اتفاقاً بين أئمة الحنفية، ولو فعل هذا آفاقي (غير مكي) كان قارناً.
ب ـ أو يدخله بعد أن يطوف أكثر الأشواط، فترتفض حجته اتفاقاً، ولو فعل هذا آفاقي كان متمتعاً إن كان الطواف في أشهر الحج.
جـ ـ أو يدخله بعد أن يطوف الأقل من الأشواط كثلاثة مثلاً، فهي محل خلاف بين الإمام وصاحبيه، قال أبو حنيفة: يرفض الحج، لما يلزم رفض العمرة من إبطال العمل، وقد تأكد إحرام العمرة بأداء شيء من أعمالها، وإحرام الحج لم يتأكد، ورفض غير المتأكد أيسر.
وقال الصاحبان: ترفض العمرة، لأنها أدنى حالاً، إذ ليس من جنسها فرض، بخلاف الحج، ولأن العمرة أقل أعمالاً، وأيسر قضاء لعدم توقيتها وقلة أعمالها.
ولو فعل هذا آفاقي كان قارناً. وكل من رفض نسكاً فعليه دم، لما روى أبو حنيفة عن عبد الملك بن عمير عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر لرفضها العمرة بدم» .
وفي رفض العمرة قضاؤها فقط، وفي رفض الحج قضاء الحج والعمرة جميعاً، أما قضاء الحج فلأنه صح شروعه فيه ثم رفضه، وأما العمرة فهي في معنى فائت الحج، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، وقد تعذر التحلل بأفعالها ههنا؛ لأنه في العمرة، والجمع بين العمرتين منهي عنه، فيجب عليه قضاء الحج والعمرة جميعاً.
وإذا لم يرفض المكي ومن بمعناه العمرة أو الحج، ومضى عليهما وأداهما، أجزأه؛ لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما، غير أنه منهي عنهما، أي عن إحرام الحج وإحرام العمرة جميعاً؛ لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة، والنهي لا يمنع تحقق الفعل، وعليه دم لجمعه بينهما، لارتكابه المنهي عنه ووجود النقصان في عمله.
2 - ضم الحج لحجة أخرى: من أحرم بالحج، ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى:
__________
(1) فتح القدير: 288/2-294، تبيين الحقائق: 74/2-76.(3/511)
أـ فإن حلق في الحجة الأولى، لزمته الأخرى ولا شيء عليه؛ لأنه حل من الأول وأحرم للثاني بعده.
ب ـ وإن لم يحلق في الأولى، لزمته الأخرى ويقضيها، وعليه دم لصحة شروعه فيه سواء عند أبي حنيفة حلق بعد الإحرام الثاني أو لم يحلق؛ لأنه إن حلق يكون جانياً على الإحرام الثاني، وإن لم يحلق يكون مؤخراً للحلق في الحج الأول عن أيام النحر، وهو يوجب الدم عنده. وقال الصاحبان: إن لم يحلق أو يقصر بعد ما أحرم بالحج الثاني، فلا شيء عليه؛ لأن تأخير الحلق عندهما عن أيام النحر لا يوجب شيئاً عندهما، وإن حلق بعد الإحرام بالثاني يجب عليه الدم، لجنايته عليه.
3 - ضم العمرة إلى العمرة: من فرغ من عمرته إلا التقصير، فأحرم بأخرى، فعليه دم باتفاق الحنفية، لإحرامه قبل الوقت؛ لأن وقته بعد الحلق للإحرام الأول، ولم يوجد، ولأنه جمع بين إحرامي العمرة، وهكذا مكروه، فيلزمه دم، وهو دم جبر وكفارة.
4 - ضم العمرة إلى الحج: من أهل بالحج، ثم أحرم بالعمرة، لزمه الاثنان، لأن الجمع بينهما مشروع في حق الآفاقي، فيصير قارناً، لكنه أخطا السنة فيصير مسيئاً؛ لأن السنة إدخال الحج على العمرة، لا إدخال العمرة على الحج، قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ... } [البقرة:2/196] الآية، جعل الحج آخر الغايتين، لكن لما لم يؤد الحج صح.
ومن أحرم بحج، ثم بعمرة، ثم وقف بعرفات قبل أن يدخل مكة، فقد رفض عمرته بالوقوف، وإن لم يقف بعرفة لا يصير رافضاً؛ لأنه يصير قارناً بالجمع بين الحج والعمرة، وهو مشروع في حق الآفاقي، لكنه مسيء بتقديم إحرام الحج على إحرام العمرة، لكونه أخطأ السنة؛ لأن السنة في القران: أن يحرم بهما معاً، أو يقدم إحرام العمرة على إحرام الحج.(3/512)
وإن طاف للحج طواف القدوم، ثم أحرم بعمرة، ومضى عليهما بأن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، وجب عليه دم، لجمعه بينهما؛ لأنه قارن، ولكنه أساء أكثر من الأول حيث أخر إحرام العمرة عن طواف الحج. ويستحب أن يرفض عمرته؛ لأن إحرام الحج قد تأكد بشيء من أعماله، وإذا رفض عمرته يقضيها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها. وإن أهلَّ الحاج بعمرة يوم النحر أو في أيام التشريق، لزمته العمرة، ولزمه رفضها: لأنه قد أدى ركن الحج، فيصير بانياً أفعال العمرة على أفعال الحج من كل وجه، فكان خطأ محضاً لكراهة العمرة في هذه الأيام تعظيماً لأمر الحج، فترفض العمرة، وإذا رفضها وجب عليه دم للتحلل منها قبل أوانه. ويجب عليه قضاؤها لصحة الشروع فيها. فإن مضى على العمرة التي أحرم لها يوم النحر وأدى أفعالها أجزأه، وعليه دم لجمعه بين أعمالها وأعمال الحج الباقية إن كان الإحرام بها بعد الحلق، أو لجمعه بينهما في الإحرام إن كان الإحرام بها قبل الحلق.
ومن فاته الحج، فأحرم بعمرة أو بحجة، فإنه يرفض التي أحرم بها؛ لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، من غير أن ينقلب إحرامه إحرام العمرة، فيصير جامعاً بين العمرتين في الأفعال، وهو بدعة، فيرفضها، كما لو أحرم بحجتين، وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، وعليه دم لرفضها بالتحلل قبل أوانه.
رأي الجمهور في إدخال الحج على العمرة وبالعكس:
أجاز جمهور الفقهاء (1) إدخال الحج على العمرة بشرط أن يكون الإدخال قبل الشروع في طواف العمرة، وبشرط كونه عند الحنفية قبل أداء أربعة أشواط من طواف العمرة، ويكون قارناً بلا خلاف. فإن أدخله على العمرة بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارناً؛ لأنه شارع في التحلل من العمرة، فلم يجز إدخال الحج عليها.
ودليلهم: فعل ابن عمر الذي أحرم بعمرة، ثم جمع معها حجة، ثم قال: هكذا صنع النبي صلّى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) نيل الأوطار: 318/4، الشرح الصغير: 35/2، المغني: 484/3، اللباب: 193/10.
(2) متفق عليه عن نافع (نيل الأوطار: 317/4) .(3/513)
ولا يجوز إدخال العمرة على الحج، كما أبنت في مذهب الحنفية، لكنه عندهم يصير قارناً، وعند الجمهور: لا يصح الإدخال ولا يصير قارناً؛ لما رواه الأثرم أن علياً منع من أراد ذلك، ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيد إلا ما أفاده الإحرام الأول كتكرر الاستئجار على عمل في المدة.
فسخ الحج إلى العمرة:
أي تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة. اتفق العلماء على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أصحابه عام حجه بفسخ الحج إلى العمرة وقال: «أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصِّروا وأقيموا حلالاً.. إلى أن قال: لولا أني سُقْت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يَحِلّ مني حَرام حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه» (1) والرواية المشهورة: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» فإنه عليه السلام أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله بالحج إلى العمرة. ثم اختلف العلماء في هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة في تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة (2) ؟.
فقال الحنابلة والظاهرية: ليس خاصاً، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأفعالها.
وقال الجمهور، منهم (المالكية والحنفية والشافعية) : هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، بدليل حديث أبي ذر عند مسلم: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم» يعني فسخ الحج إلى العمرة.
__________
(1) هذا لفظ رواية مسلم عن موسى بن نافع (شرح مسلم: 166/8) .
(2) شرحُ مسلم: 167/8، بداية المجتهد: 322/1، المغني: 287/3.(3/514)
وفي كتاب النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة.
وقال عمر: متعتان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النساء (زواج المتعة) ، ومتعة الحج.
وقال عثمان أيضاً: متعة الحج كانت لنا، وليست لكم.
وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج، ثم يفسخه في عمرة.
ويؤكد ذلك ظاهر قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] .
المطلب الثاني ـ الطواف
أنواعه وحكم كل نوع، وشروطه (ومنها مكانه، وزمانه، ومقداره) وسننه.
أولاً ـ أنواع الطواف وحكم كل نوع (1) :
الأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة (أو الزيارة، أو طواف الركن) ، وطواف الوداع (أو طواف الصَّدَر) وهو طواف آخر العهد بالبيت، سمي بذلك لأنه يودّع البيت ويصدُرُ به. وما زاد على هذه الأطوفة فهو نفل. أما السعي فواحد، ولا يكون السعي إلا بعد طواف، فإن سعى مع طواف القدوم لم يسْع بعده، وإن لم يسْع معه، سعى مع طواف الزيارة.
هذا.. وقد أجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة. كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف العمرة، فليس عليه طواف قدوم. وأجمعوا على أن المتمتع عليه طوافان: طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج، يوم النحر.
__________
(1) البدائع:127/2 ومابعدها، 142 ومابعدها، اللباب: 184/1، 189، 191، شرح المجموع: 12/8 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص 132، الشرح الكبير: 33/2 وما بعدها، الشرح الصغير: 42/2، 60، 70، مغني المحتاج: 484/1، 503، 509 ومابعدها، المغني: 370/3، 440، 442، 444، 458-465، حاشية الباجوري: 334/1، كتاب الإيضاح للنووي: ص 76-77، غاية المنتهى: 395/1، 413، 416 ومابعدها، بداية المجتهد: 332/1.(3/515)
أما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد يوم النحر، ويجب عليه عند المالكية القدوم أيضاً إن اتسع الوقت له، ويسن ذلك عند الجمهور.
وأما القارن فيجزئه عند الجمهور طواف واحد وسعي واحد، عملاً بمذهب ابن عمر وجابر، وقال الحنفية: على القارن طوافان وسعيان عملاً بمذهب علي وابن مسعود.
وأجمعوا على أن الواجب من هذه الأطوفة الثلاثة الذي يفوت الحج بفواته: هو طواف الإفاضة، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:92/22] وأنه لا يجزئ عنه دم.
وأجمعوا ما عدا طائفة من المالكية على أنه لا يجزئ طواف القدوم عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة، لكونه قبل يوم النحر.
ورأى جمهور العلماء أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة؛ لأنه طواف بالبيت معمول في وقت الوجوب الذي هو طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة.
والحاصل أن العمرة ليس فيها طواف قدوم، وإنما فيها طواف واحد، يقال له طواف الفرض وطواف الركن، وإذا طاف للعمرة أجزأه عن طواف القدوم وطواف الفرض.
والقارن والمفرد بالحج يطوف ثلاثة أطوفة: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. وهناك طواف رابع متطوع به غير ما ذكر، ولا يكفي القارن عند الحنفية طواف واحد، بل عليه طوافان للعمرة وللحج وطواف القدوم للمفرد والقارن إذا كانا قد أحرما من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفة.
أما طواف القدوم: فهو سنة عند جمهور الفقهاء لحاج دخل مكة قبل الوقوف بعرفة، سواء أكان مفرداً أم قارناً، وليس على أهل مكة طواف القدوم، لانعدام القدوم في حقهم، وأما غير أهل مكة فسنة لهم بدليل الثابت في خبر الصحيحين، ولا يسن للحاج بعد الوقوف بعرفة، ولا للمعتمر؛ لأنه دخل وقت طوافهما المفروض.(3/516)
وعليه فيسقط طواف القد وم عن ثلاثة: المكي ومن في حكمه وهو من كان منزله دون المواقيت، والمعتمر والمتمتع ولو آفاقياً، ومن قصد عرفة رأساً للوقوف. وقال المالكية: يجب على من أحرم من الحِلّ ولو كان مكياً، وتجب الفدية على من قصد عرفة وترك طواف القدوم وكان الوقت متسعاً، وقال الحنابلة: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة، ثم يطوف طواف الإفاضة.
ويسن أيضاً عند الشافعية طواف القدوم للحلال (غير المحرم) الداخل إلى مكة؛ لأنه يسمى طواف القادم والورود والوارد والتحية.
والحكمة منه: أن الطواف تحية البيت، لا المسجد، فيبدأ به لا بصلاة تحية المسجد؛ لأن القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف. ولا يبدأ بالطواف إذا خاف فوات الصلاة المفروضة، أو السنة المؤكدة، أو وجد جماعة قائمة، أو تذكر فائتة مكتوبة، فإنه يقدم ذلك على الطواف.
ولو أقيمت الصلاة وهوفي أثناء الطواف قطعه وصلى، وكذا لو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلاً.
ويستحب للمحرم أول دخوله مكة ألا يعرج على استئجار منزل أو غيره قبل أن يطوف طواف القدوم.
لكن لو قدمت امرأة نهاراً هي ذات جمال أو شرف، وهي التي لا تبرز للرجال، سنَّ لها أن تؤخره إلى الليل.
ولو دخل المسجد الحرام وقد منع الناس من الطواف، صلى تحية المسجد.
ولا يفوت طواف القدوم بالجلوس في المسجد، كما تفوت به تحية المسجد، لكنه يفوت بالوقوف بعرفة، لا بالخروج من مكة.
ويطوف القارن عند الحنفية طواف القدوم بعد إنهاء أعمال العمرة، أي بعد طواف العمرة والسعي بين الصفا والمروة.(3/517)
وقال المالكية: يجب طواف القدوم لمن دخل المسجد الحرام، وينوي وجوبه ليقع واجباً، فإن نوى بطوافه نفلاً، أعاده بنية الوجوب، وأعاد السعي الذي سعاه بعد النفل ليقع بعد واجب، وذلك ما لم يخف فوتاً لحجه إن اشتغل بالإعادة، فإن خاف الفوات ترك الإعادة لطوافه وسعيه، وأعاد السعي بعد الإفاضة، وعليه دم لفوات طواف القدوم إن كان الوقت متسعاً، فإن خشي فوات الوقوف لو اشتغل بطواف القدوم سقط عنه ولا فدية عليه.
والحاصل: أن طواف القدوم واجب عند المالكية بشروط ثلاثة: إن أحرم المفرد أو القارن من الحل ولو كان مقيماً بمكة؛ ولم يزاحمه الوقت بحيث يخشى فوات الحج إن اشتغل بالقدوم، فإن خشيه خرج لعرفة وتركه؛ ولم يُردف الحج على العمرة في حرم. فإن اختل شرط من الثلاثة لم يجب عليه طواف القدوم ولادم عليه. ووجوب الدم على من ترك طواف القدوم بشرطين: أولهما ـ أن يقدم السعي بعد ذلك الطواف على الإفاضة. وثانيهما ـ ألا يعيد سعيه بعد الإفاضة حتى رجع لبلده. فإن أعاده بعد الإفاضة، فلا دم عليه.
وأما طواف الإفاضة أوالزيارة (1) : فهو ركن باتفاق الفقهاء، لا يتم الحج إلا به، لقوله عز وجل: {وليطًّوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج، لا خلاف في ذلك بين العلماء. وقالت عائشة: «حججنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا» (2) فدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، ولأن الحج أحد النسكين، فكان الطواف ركناً كالعمرة.
__________
(1) سمي طواف الإفاضة: لأنه يؤتى به عند الإفاضة من منى إلى مكة، وسمي طواف الزيارة لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم، وإنما يبيت بمنى.
(2) متفق عليه (نيل الأوطار: 88/5) .(3/518)
فمن ترك طواف الزيارة، رجع من بلده متى أمكنه محرماً، لا يجزئه غير ذلك، لقصة صفية المتقدمة، فإنه صلّى الله عليه وسلم قال بعد أن حاضت: «أحابستنا هي؟ قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذاً» . فهذا يدل على أن هذا الطواف لا بد منه، وأنه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل ورفض إحرامه، لم يحل بذلك؛ لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج. وعلى هذا فإذا فات طواف الإفاضة عن أيام النحر لا يسقط، بل يجب أن يأتي به؛ لأن سائر الأوقات وقته.
وأما طواف الوداع (1) لمن أراد الخروج من مكة: فهو مندوب عند المالكية؛ لكل من خرج من مكة ولو كان مكياً؛ لأنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجباً لوجب عليهما كطواف الزيارة.
وواجب عند باقي المذاهب يجبر تركه بدم، لما قال ابن عباس: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» (2) وفي لفظ لمسلم «كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد، حتى يكون آخر عهده بالبيت» ، وأخرج الترمذي عن عمر: «من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيَّض، ورخص لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (3) ، وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوِّز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها.
جزاء ترك الوداع: إذا ثبت وجوبه، فإنه ليس بركن بغير خلاف، ويجبر تركه بدم كسائر الواجبات، فلو خرج الحاج من مكة أو منى بلا وداع عامداً أو ناسياً أو جاهلاً بوجوبه، وعاد بعد خروجه قبل مسافة القصر من مكة، وطاف للوداع، سقط وجوبه عند الشافعية والحنابلة؛ لأن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، وهو معدود من حاضري المسجد الحرام، وروي أن عمر «رد رجلاً من مَرّ الظهران إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت» (4) وعليه أن
__________
(1) سمي بذلك لأنه لتوديع البيت، وسمي بطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ورجوعهم إلى وطنهم.
(2) متفق عليه.
(3) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذلك رواه النسائي والحاكم، والشافعي وزاد فيه: «فإن آخر النسك: الطواف بالبيت» (نصب الراية: 89/3) .
(4) رواه سعيد بن منصور في سننه.(3/519)
يرجع إن كان قريباً من مكة، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، وإن كان بعيداً بعث بدم، والبعيد: من بلغ مسافة القصر.
شرائطه: لطواف الوداع شرائط وجوب، وصحة أو جواز.
فمن أهم شرائط الوجوب اثنان:
1 - أن يكون من أهل الآفاق: فليس عند الحنفية على أهل مكة ومن في حكمهم وهو من كان منزله داخل المواقيت طواف وداع إذا حجوا؛ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعاً للبيت. وقال الحنابلة: من كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريباً منه فلا يخرج حتى يودع، لعموم الحديث السابق: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» (1) وقال الشافعية: يجب الوداع لكل من أراد الخروج من مكة لسفر ولو مكياً سواء أكان السفر طويلاً أم قصيراً، لحديث ابن عباس المتقدم: «لا ينفرن أحد..» . ولحديث أنس: «أنه صلّى الله عليه وسلم لما فرغ من أعمال الحج طاف للوداع» وهذا العموم للمكي مندوب عند المالكية كما عرفنا.(3/520)
2 - الطهارة من الحيض والنفاس: فلا يجب على الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما الدم بتركه، للحديث السابق: «رخص للحيَّض» ترك هذا الطواف، لا إلى بدل، فدل على أنه ليس واجباً عليهن، إذ لو كان واجباً لما جاز تركه إلا إلى بدل، وهو الدم، فإذا حاضت المرأة قبل أن تودع، خرجت ولا وداع عليها ولا فدية بالاتفاق، لحديث عائشة المتقدم: أن صفية حاضت، فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلم أن تنصرف بلا وداع.
ولم يشترط لوجوب هذا الطواف الطهارة عن الحدث والجنابة، وإنما يجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة.
وشرطا صحة طواف الوداع:
1ً - النية؛ لأنه عبادة، فلا بد له من النية. لكن تعيين النية ليس بشرط عند الحنفية، فلو طاف بعد طواف الزيارة، دون أن يعين شيئاً، أو نوى تطوعاً، كان طواف صدر؛ لأن الوقت تعين له، فينصرف مطلق النية إليه كصوم رمضان.
2ً - أن يكون بعد طواف الزيارة: فلو طاف بعد النفر من عرفات لا ينوي شيئاً، أو نوى تطوعاً أو نوى طواف الصدر، وقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له، وطواف الصدر مرتب عليه.
ويتأدى طواف الوداع عند المالكية بطواف الإفاضة وطواف العمرة، وحصل له ثوابه إن نواه بهما كتحية المسجد تؤدى بالفرض.
قدره وكيفيته وسننه: كسائر الأطوفة التي سأذكرها.
وقته: بعد فراغ المرء من جميع أمور الحج، وحين إرادته السفر من مكة، ليكون آخر عهده بالبيت.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وفي رواية متفق عليها: «أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفّف عن المرأة الحائض» ، وروى أحمد عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة.(3/521)
وهذا عند الحنفية بيان الوقت المستحب أو الأفضل، فلو أطال الإقامة بمكة ولم يستوطنها صح طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف، ويجوز طواف الوداع عند الحنفية في أيام النحر وبعدها، ويكون أداء لا قضاء.
وقال الجمهور (غير الحنفية) : يكون طواف الوداع عند خروج الحاج ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة وإقامة، فعليه إعادته، للحديث المتقدم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ، ولأنه إذا أقام بعده، خرج عن أن يكون وداعاً في العادة، فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر.
فأما إن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في طريقه، لم يعد؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت.
مكانه: حول البيت، لا يجوز إلا به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت، فليكن آخر عهده به الطواف» والطواف بالبيت: هو الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات عند الحنفية، ومن دون مسافة القصر عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه ترك طوافاً واجباً، وأمكنه أن يأتي به من غير حاجة إلى تجديد الإحرام. وإن جاوز الميقات عند الحنفية أو مسافة القصر عند الشافعية والحنابلة، لا يجب عليه الرجوع، والأولى ألا يرجع، ويريق دماً مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه، لما فيه من دفع مشقة السفر، وضرر التزام الإحرام بعمرة، لأنه إذا رجع أحرم بعمرة، فطاف طواف العمرة، وسعى، ثم يطوف الوداع، ولا شيء عليه عند الحنفية، والحنابلة في الأصح، لتأخيره عن مكانه.
ولا يسقط عنه الدم على الصحيح عند الشافعية والقاضي أبي يعلى الحنبلي. إن عاد بعد مسافة القصر؛ لأنه قد استقرعليه الدم بالسفر الطويل، أي بلوغه مسافة القصر.(3/522)
صلاة ركعتين، والوقوف في الملتزم والحطيم والدعاء وشرب ماء زمزم وتقبيل الحجر بعد طواف الوداع:
إذا فرغ المودع من طوافه سبعاً ومن جميع أموره، صلى ركعتين كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ويستحب أن يقف المودع في الملتزم (وهو ما بين الركن ـ الحجر الأسود ـ والباب قدر أربعة أذرع) فيلتزمه ملصقاً به صدره ووجهه ويبسط يديه عليه، ويجعل يمينه نحو الباب ويساره نحو الحجر، ويدعو الله عز وجل، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم (1) .
ويأتي الحطيم أيضاً: وهو تحت الميزاب، ثم يشرب من زمزم، ويستلم الحجر ويقبله.
قال منصور: سألت مجاهداً إذا أردتُ الوداع كيف أصنع؟ قال: تطوف بالبيت سبعاً، وتصلي ركعتين خلف المقام، ثم تأتي زمزم، فتشرب من مائها، ثم تأتي الملتزم ما بين الحجَر والباب، فتستلمه، ثم تد عو، ثم تسأل حاجتك، ثم تستلم الحجر، وتنصرف.
وقال الفقهاء (2) : يقول في دعائه عند الملتزم: «اللهم هذا بيتُك وأنا عبدك وابن عبدك، حملْتني على ما سخَّرت لي من خلْقِك، وسيرتني في بلادك، حتى بلَّغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنْتَني على أداء نُسُكي، فإن كنت رضيتَ عني، فازدد عني رضاً، وإلا فمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي، غير مستَبدِل بك ولا ببَيْتك، ولا راغبٍ عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصْحِبني العافيةَ في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير» .
أما المرأة إذا كانت حائضاً، فلا تدخل المسجد، ووقفت على بابه، فدعت بذلك.
__________
(1) رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن صفوان، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) هو من كلام الإمام الشافعي، أخرجه البيهقي.(3/523)
كيفية الرجوع: المذهب الصحيح عند الشافعية وباقي المذاهب: أن المودع يخرج ويولي ظهره إلى الكعبة، ولا يمشي قهقرى، كما يفعله كثير من الناس، قالوا: بل المشي قهقرى مكروه، فإنه ليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي، وما لا أصل له لا يعرج عليه. قال مجاهد: إذا كدت تخرج من باب المسجد، فالتفت، ثم انظر إلى الكعبة، ثم قل: اللهم لا تجعله آخر العهد.
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من حج أو عمرة أو غزو يقول: «آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
أخذ شيء من الحرم: لا يجوز أخذ شيء من تراب الحرم وأحجاره معه إلى بلاده ولا إلى غيره من الحل، ولا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة، لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئاً من ذلك لزمه رده إليها؛ ولا يجوز قطع شيء من سترة الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل من ذلك شيئاً لزمه رده.
ويحرم إتلاف صيد الحرم على الحلال والمحرم وتملكه وأكله.
ويجوز إخراج ماء زمزم من جميع مياه الحرم ونقله إلى جميع البلدان؛ لأن الماء يستخلف، بخلاف التراب والحجر.(3/524)
ثانياً ـ شروط الطواف أو واجباته:
يشترط لصحة الطواف خمسة شروط عند الحنفية، وسبعة شروط عند المالكية، وثمانية شروط عند الشافعية، وأربعة عشر شرطاً عند الحنابلة:
أما شروط الطواف عند الحنفية، فهي ما يلي (1) :
1ً - نية الطواف: يشترط توافر أصل النية بالطواف دون حاجة لتعيين النية حال وجود الطواف في وقته، فلو لم ينو أصلاً، بأن طاف هارباً، أو طالباً لغريم، لم يجز. والفرق بين الطواف وبين الوقوف بعرفة في اشتراط النية للأول دون الثاني: هو أن الوقوف ركن يقع في حال قيام الإحرام نفسه، فتكفيه النية السابقة وهي نية الحج، كالركوع والسجود في الصلاة. أما الطواف فلا يؤتى به في حال قيام الإحرام نفسه، لأنه يقع به التحلل من الحج، ولا إحرام حال وجود التحلل.
2ً - أن يطوف القادر ماشياً، لا راكباً إلا من عذر: فلو طاف راكباً من غير عذر فعليه الإعادة ما دام بمكة، وإن عاد إلى أهله يلزمه دم، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] والراكب ليس بطائف حقيقة، فأوجب ذلك نقصاً فيه، فوجب جبره بالدم.
3ً - مكانه: أن يقع حول البيت في المسجد، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] والطواف بالبيت هو الطواف حوله، فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريباً من البيت أو بعيداً عنه، بشرط أن يكون في المسجد، فلو طاف من وراء زمزم قريباً من حائط المسجد، أجزأه، لوجود الطواف بالبيت. ولو طاف حول المسجد وبينه وبين البيت حيطان المسجد، لم يجز؛ لأن حيطان المسجد حاجزة، فلم يطف بالبيت، لعدم الطواف حوله.
ويطوف من خارج الحطيم؛ لأن الحطيم من البيت على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) البدائع: 128/2-132، فتح القدير: 180/2-182.(3/525)
4ً - زمانه: زمان طواف الإفاضة يبدأ حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر، فلا يجوز قبله، وليس لآخره زمان معين موقت به فرضاً، بل جميع الليالي والأيام وقته فرضاً، فلو أخره عن يوم النحر لا شيء عليه، لإطلاق حديث: «افعل ولا حرج» ، لكن عليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند أبي حنيفة. وإن رجع إلى أهله رجع إلى مكة بإحرامه الأول، ولا يحتاج إلى إحرام جديد، وعليه دم لتأخيره. وأما إنه لا يجوز قبل فجر النحر فلأن ليلة النحر وقت ركن آخر وهو الوقوف بعرفة، فلا يكون وقتاً للطواف؛ لأن الوقت الواحد لا يكون وقتاً لركنين.
5ً - مقداره المفروض منه هو أكثر الأشواط: وهو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع، فأما الإكمال إلى سبعة أشواط فواجب، وليس بفرض.
أما الطهارة عن الحدث والجنابة والحيض والنفاس فليست بشرط عند الحنفية لجواز الطواف، وليست بفرض، بل واجبة، حتى يجوز الطواف بدونها، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] أمر بالطواف مطلقاً عن شرط الطهارة، ولايجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد، فيحمل حديث: «الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام» (1) على التشبيه، كما في قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب:6/33] أي كأمهاتهم، ومعناه الطواف كالصلاة، إما في الثواب، أو في أصل الفرضية.
فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة، لجبر الشيء بجنسه، وإن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه، وإن أخره عنها فعليه دم عند أبي حنيفة. وإن لم يعد ورجع إلى أهله فعليه الدم، غير أنه إن كان محدثاً فعليه شاة لكون النقصان يسيراً، وإن كان جنباً فعليه بدنة، لكون النقصان فاحشاً.
وأما الموالاة في الطواف فليست بشرط عند الحنفية، فلو صلى الطائف صلاة جنازة أو مكتوبة أو ذهب لتجديد الوضوء، ثم عاد، بنى على طوافه، ولا يلزمه الاستئناف، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] مطلقاً عن شرط الموالاة.
__________
(1) رواه ابن حبان والحاكم عن ابن عباس بلفظ: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله قد أحل فيه النطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» وأخرجه الترمذي بلفظ: «الطواف حول البيت مثل الصلاة» (نصب الراية: 57/3) .(3/526)
وليس الابتداء من الحجر الأسود بشرط أيضاً عند الحنفية، بل هو سنة في ظاهر الرواية، فلو افتتح من مكان آخر من غير عذر، أجزأه مع الكراهة، لقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] مطلقاً عن شرط الابتداء بالحجر الأسود.
ولا بأس أن يطوف وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرتين، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه طاف مع نعليه، كما ذكر الكاساني.
وشروط الطواف عند المالكية سبعة هي ما يلي (1) :
1ً - الطهارة من الحدث والنجس وستر العورة كالصلاة، إلا أنه يباح فيه الكلام.
2ً - الموالاة بلا فصل كثير بين الأشواط، فإن فصل كثيراً لحاجة أو لغيرها ابتدأه من أوله.
ويجب أن يقطع طوافه لإقامة صلاة فريضة مع إمام راتب: وهو إمام مقام إبراهيم، وهو المعروف بمقام الشافعي. ولا يقطعه مع إمام غير راتب. وإذا أقيمت الصلاة أثناء شوط، ندب له كمال الشوط الذي هو فيه، بأن ينتهي للحجَر ليبني على طوافه المتقدم من أول الشوط، فإن لم يكمله ابتدأ من موضع خروجه، ويبني على ما فعله من طوافه بعد سلامه، وقبل تنفله.
والحاصل: أن صلاة الفريضة لا تبطل الطواف، وتبطله النافلة والجنازة، ولايبطله الفصل لعذر كرعاف، فإنه يبني على ما سبق بعد غسل الدم بشرط ألا يتعدى موضعاً قريباً لأبعد منه، وألا يبعد المكان في نفسه، وألا يطأ نجاسة.
3ً - الترتيب: وهو أن يجعل البيت عن يساره ويبتدئ بالحجر الأسود.
4ً - أن يكون بجميع بدنه خارجاً عن البيت، فلا يمشي على الشاذروان ولا على الحِجْر.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 132، الشرح الصغير: 46/2-48،60، بداية المجتهد: 330/1 ومابعدها.(3/527)
5ً - أن يطوف بداخل المسجد: فلا يجزئ خارجه.
6ً - كون الطواف سبعة أشواط من الحجر الأسود إلى الحجر، فلا يجزئ أقل من سبعة، فلو اقتصر على ستة مثلاً لم تجزه. فإن شك في عدد الأشواط هل طاف ثلاثة أو أربعة، بنى على الأقل.
7ً - صلاة ركعتين بعد الطواف.
أما المشي لقادر عليه: فهو واجب عند المالكية كالمشي في السعي، فإن لم يمش بأن ركب أو حمل، فعليه دم إن لم يُعدْه وقد خرج من مكة، فإن أعاده ماشياً بعد رجوعه له من بلده، فلا دم عليه. ولا دم على العاجز عن المشي ولا إعادة عليه.
وكذلك الابتداء من الحجر الأسود واجب عند المالكية، فإن ابتدأ من غيره لزمه دم.
وأما وقت طواف الإفاضة عند المالكية فهو من طلوع فجر يوم النحر، كما قال الحنفية، فلا يصح قبله، كما لا يصح رمي جمرة العقبة قبل فجر النحر.
وواجبات الطواف عند الشافعية بما يشمل الشروط والأركان ثمان وهي ما يأتي (1) :
1ً - ستر العورة كسترها في الصلاة: لما في الصحيحين: «لا يطوف بالبيت عريان» . فإن عجز عنها، طاف عارياً، وأجزأه كما لو صلى كذلك.
2ً و 3ً - طهارة الحدث والنجس في الثوب والبدن والمكان؛ لأن الطواف في البيت صلاة، كما نطق به الخبر المتقدم، فلو أحدث أو تنجس بدنه أو ثوبه أو مطافه بغير معفو عنه، أو عري مع القدرة على الستر في أثناء الطواف، تطهر وستر عورته، وبنى على طوافه، حتى وإن تعمد ذلك وطال الفصل، إذ لا تشترط الموالاة فيه عندهم كالوضوء، ويسن الاستئناف.
لكن غلبة النجاسة في المطاف أصبحت مما عمت به البلوى، فيعفى عما يشق الاحتراز عنه أيام الموسم وغيره، بشرط ألا يتعمد المشي عليها، وألا يكون فيها رطوبة.
والأوجه أن للمتيمم والعاجز عن الماء طواف الركن ليستفيدا به التحلل، ثم إن عادا إلى مكة، لزمتهما إعادته.
__________
(1) مغني المحتاج: 485/1-487،504.(3/528)
4ً - أن يجعل الطائف البيت عن يساره، مارّاً تلقاء وجهه إلى جهة الباب، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم، مع خبر: «خذوا عني مناسككم» فإن خالف ذلك لم يصح طوافه لمعارضته الشرع. ولو طاف مستلقياً على ظهره، أو على وجهه، مع مراعاة كون البيت عن يساره، صح.
5ً - الابتداء من الحجر الأسود: اتباعاً للسنة كما رواه مسلم، ومحاذاته له بجميع بدنه، أي جميع شقه الأيسر بحيث لا يتقدم من الشق الأيسر على جزء من الحجر، فلو لم يحاذه أو لم يحاذ بعضه بجميع شقه، كأن جاوزه ببعض شقه إلى جهة الباب، لم يصح طوافه. فإذا انتهى إليه، ابتدأ منه.
ويشترط أن يكون الطواف خارج البيت وحجر إسماعيل والشاذَرْوَان (1) ، فلو مشى على الشاذَرْوَان أو مسّ الجدار الكائن في موازاته، أوأدخل جزءاً منه في هواء الشاذروان أو دخل من إحدى فتحتي الحِجْر (2) وخرج من الفتحة الأخرى، أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع، واقتحم الجدار، وخرج من الجانب الآخر، لم يصح طوافه. أما كون الطواف في غير الحجر، فلقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29/22] وإنما يكون طائفاً به إذا كان خارجاً عنه، وإلا فهو طائف فيه.
وأما الحِجْر: فلأنه صلّى الله عليه وسلم إنما طاف خارجه، وقال: «خذوا عني مناسككم» ولخبر مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «سألت رسول الله عن الحِجْر، أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما بالهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض لفعلت» وظاهر الخبر أن الحِجرجميعه من البيت، لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع تتصل بالبيت، ومع ذلك يجب الطواف خارجه؛ لأن الحج باب اتباع.
__________
(1) هو القدر الذي ترك من عرض الأساس خارجاً عن عرض الجدار، مرتفعاً عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع أي هو الجدار القصير المسنم بين الركنين الغربي واليماني، تركته قريش لضيق النفقة، وهو جزء من البيت.
(2) هو ما بين الركنين الشاميين من جهة الشمال، المحوط بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة، والآن أغلقت الفتحة الغربية، وهو قدر ستة أذرع.(3/529)
وبعبارة أخرى: هو الجزء الأسفل اللاصق لجدار البيت والذي هو محاذٍ لجدارها كالرصيف، وهو ما فضل منها عند بنائها. ويلاحظ أن من قبَّل الحجر الأسود، فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت، فيلزمه أن يقر قدميه في محلهما حتى يفرغ من التقبيل ويعتدل قائماً.
6ً - أن يطوف بالبيت سبعاً ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها للاتباع، فلو ترك من السبع شيئاً، وإن قل، لم يجزه، فلو شك في العدد أخذ بالأقل، كعدد ركعات الصلاة.
7ً - أن يكون الطواف داخل المسجد: للاتباع أيضاً، فلا يصح حوله بالإجماع. ويصح داخل المسجد وإن وسِّع، وحال حائل بين الطائف والبيت كالسواري، ويصح على سطح المسجد، وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت، كالصلاة على جبل أبي قبيس، مع ارتفاعه عن البيت، وهذا هو المعتمد.
8ً - نية الطواف إن استقل: بأن لم يشمله نسك كسائر العبادات، كالطواف المنذور والمتطوع به. أما الذي شمله نسك وهو طواف الركن للحج أو العمرة وطواف القدوم، فلا يحتاج إلى نية، لشمول نية النسك له.
ولا بد لطواف الوداع من نية؛ لأنه يقع بعد التحلل، ولأنه ليس من المناسك عند الشيخين (الرافعي والنووي) . ولا بد في النية من التعيين.
أما وقت طواف الإفاضة ومثله رمي العقبة والذبح والحلق فيدخل بنصف ليلة النحر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» (1) .
وأما المشي في الطواف فليس عند الشافعية شرطاً بل هو سنة، كما رواه مسلم، ويسن أن يكون حافياً في طوافه عند عدم العذر.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله عنها.(3/530)
وأما صلاة ركعتي الطواف فسنة عندهم. وللطواف واجبات دينية: منها أن يصون نفسه عن كل مخالفة في وقت الطواف، ومنها ـ أن يصون قلبه عن احتقار من يراه، ومنها ـ أن يلتزم الأدب، ومنها ـ أن يحفظ يده وبصره عن كل معصية.
وشروط الطواف عند الحنابلة: أربعة عشر (1) :
إسلام وعقل، ونية معينة، ودخول وقت، وستر عورة لقادر، وطهارة حدث لا لطفل، وطهارة خبث، وتكميل السبْع يقيناً، فإن شك أخذ باليقين، ويقبل في بيان عدد الأشواط قول عدلين، وجعل البيت عن يساره، غير متقهقر، ومشي لقادر، وموالاته، وكونه داخل المسجد لا يخرج عنه، وأن يبتدئه من الحجر الأسود فيحاذيه، وألا يدخل في شيء من البيت كالحِجْر والشاذروان.
أما وقت طواف الإفاضة: فيدخل من نصف ليلة النحر، كما قال الشافعية.
وأما ركعتا الطواف فسنة كما قرر الشافعية.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط الطواف:
يمكن تلخيص ماسبق من بيان الآراء الفقهية في شروط الطواف على النحو التالي:
1 - الطهارة عن الحدث والنجس ليست بشرط عند الحنفية، وإنما هي واجب، وشرط عند باقي المذاهب.
2 - نية الطواف: أصل النية لا تعيينها شرط عند الحنفية، وليست بشرط عند المالكية، والنية مع التعيين شرط عند الشافعية إن استقل الطواف عن نسك يشمله، والنية المعينة شرط عند الحنابلة.
3 - المشي للقادر شرط عند الحنفية والحنابلة، واجب عند المالكية، وليس بشرط عند الشافعية، وإنما هو سنة.
4 - كون الطواف في المسجد شرط بالاتفاق.
5 - الابتداء بالحجر الأسود: ليس بشرط وإنما هو واجب عند الحنفية، وعند المالكية، وشرط عند الشافعية والحنابلة. وترك الواجب يوجب الدم فيما لو ابتدأ من غير الحجر.
__________
(1) غاية المنتهى: 402/1، المغني: 440/3 ومابعدها.(3/531)
6 - الترتيب أو جعل البيت عن يسار الطائف: واجب لدى الحنفية يلزم دم بتركه، وشرط عند باقي المذاهب؛ لأن الطائف كالمؤتم بالكعبة، والواحد يقف عن يمين الإمام، ويساره له.
7 - الموالاة: ليست شرطاً عند الحنفية والشافعية، وشرط عند المالكية والحنابلة.
8 - كون الطواف سبعة أشواط: شرط عند الجمهور (غير الحنفية) واجب لاشرط عن الحنفية، وإنما الفرض أكثر الأشواط.
9 - زمان طواف الإفاضة: بعد فجر يوم النحر في مذهبي الحنفية والمالكية، ويجوز بعد منتصف ليلة النحر في مذهبي الشافعية والحنابلة.
10- صلاة ركعتي الطواف: واجب عند المالكية، وواجب في وقت مباح فيه الصلاة لا كراهة فيه، عند الحنفية. وسنة عند الشافعية والحنابلة.
حج المرأة الحائض:
إذا حاضت المرأة أو نفست عند الإحرام اغتسلت للإحرام وأحرمت وصنعت كما يصنعه الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وإذا حاضت المرأة أو نفست فلا غسل عليها بعد الإحرام، وإنما يلزمها أن تشد الحفاظ الذي تضعه كل أنثى على محل الدم، لمنع تسربه للخارج. ثم تفعل سائر مناسك الحج إلا الطواف بالبيت؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت (1) . وقال في حديث صحيح لأسماء بنت عميس: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» .
وعلى هذا فلا تلزم بطواف القدوم ولا بقضائه؛ لأنه سنة عند الجمهور (غير المالكية) وإذا كانت متمتعة ثم حاضت قبل الطواف للعمرة، لم يكن لها أن تطوف بالبيت؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وهي ممنوعة من دخول المسجد، فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج مع عمرتها، وتصير قارنة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة وتهل بالحج، عملاً بحديث عائشة عند مسلم: «انقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج، ودعي العمرة» ثم قال عليه السلام لها بعد أن اعتمرت من التنعيم: «وهذه عمرة مكان عمرتك» فدل كل هذا على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج.
__________
(1) متفق عليه عن جابر، وروى مسلم عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمرها بالإعراض عن أفعال العمرة، وأن تحرم بالحج، فتصير قارنة وتقف بعرفات، وتفعل المناسك كلها إلا الطواف، فتؤخره حتى تطهر (شرح مسلم: 134/8-140، نيل الأوطار: 318/4) .(3/532)
وحجة الجمهور: حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تهل بالحج، فأصبحت قارنة، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، وبالصفا والمروة. ثم قال لها: «قد حللت من حجتك وعمرتك» والاعتمار من التنعيم لم يأمرها به النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما فعلت ذلك زيارة زارت بها البيت، وإدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات، فمع خشية الفوات أولى. ولا يصح الخروج من الحج أو العمرة بعد الإحرام بنية الخروج، وإنما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها. ومعنى «دعي العمرة» أي ارفضي العمل فيها، وإتمام أفعالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس، فإنها تدخل في أفعال الحج.(3/533)
وإذا حاضت المرأة بعد الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولاشيء عليها لطواف الصدَر، فليس على المرأة الحائض وداع ولا فدية إذا حاضت قبل أن تودع، باتفاق فقهاء الأمصار، بدليل حديث صفية المتقدم حين قالوا: «يارسول الله، إنها حائض! فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذاً» ولم يأمرها بفدية ولا غيرها. وفي حديث ابن عباس السابق: «إلا أنه ـ أي طواف الوداع ـ خفف عن المرأة الحائض» والنفساء مثل الحائض في الحكم؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط. وإذا اضطرت المرأة اضطراراً شديداً لمغادرة مكة قبل انتهاء مدة الحيض أو النفاس، ولم تكن قد طافت طواف الإفاضة، فتغتسل وتشد الحفاظ الموضوع في أسفل البطن شداً محكماً، ثم تطوف بالبيت سبعاً طواف الإفاضة، ثم تسعى بين الصفا والمروة سبعاً، وعليها ذبح بدنة (وهي ما أتم خمس سنين من الإبل أو أتم سنتين من البقر) وذلك تقليداً للحنفية الذين يقولون بصحة الطواف حينئذ، مع الحرمة، ووجوب إهداء البدنة (1) .
ثالثاً ـ سنن الطواف:
أبنت سنن الحج في كل مذهب على حدة، وألخص هنا منها سنن الطواف (2) :
__________
(1) راجع الموضوع في شرح مسلم: 139/8 وما بعدها، بداية المجتهد:331/1، فتح القدير: 222/2-224، مغني المحتاج: 514/1، المغني: 461/3، 481 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 227/2-233، البدائع: 131/2، مراقي الفلاح: ص 124، القوانين الفقهية: ص132، الشرح الصغير: 48/2-52، الإيضاح: ص 34-44، مغني المحتاج: 487/1-492، غاية المنتهى: 402/1، المغني: 372/3-376،379،383.(3/534)
1 ً - استلام الحجر الأسود (أي لمسه بيده اليمنى أو بكفيه) أول طوافه وفي بدء كل شوط وتقبيله بلا صوت، ووضع جبهته عليه عند الشافعية بلا إيذاء، إذا لم تكن زحمة، فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استلم بعود ونحوه مع استقباله بجميع بدنه، فإن عجز أشار بيده، ثم وضع العود أو يده على فيه بعد اللمس بأحدهما بلا صوت، فإذا أظهر الصوت جاز على الأرجح عند المالكية، وكره مالك السجود وتمريغ الوجه على الحجر، ويسن عند الشافعية أن يكون التقبيل ووضع الجبهة ثلاثاً.
ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم.
ودليل التقبيل فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم، كما رواه الشيخان، ودليل وضع جبهته عليه اتباع السنة كما رواه البيهقي. ودليل الاستلام باليد دون إيذاء: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ياعمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر، فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة، وإلا فهلل وكبر (1) » . ولأن ترك الإيذاء واجب، وتقبيل ما استلمه به من يد أو نحو عصا، لخبر الصحيحين: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولما روى مسلم بن نافع قال: «رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ويقول: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعله» .
وتكرار الاستلام والتقبيل في كل طوفة من الطوفات السبع، لحديث «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة» (2) .
ولو استقبل الحجر مطلقاً، ونوى الطواف عند من اشترط النية وهم الحنفية والحنابلة، كفى في تحقيق المقصود الذي هو الابتداء من الحجر.
__________
(1) رواه الشافعي وأحمد عن عمر رضي الله عنه.
(2) رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما.(3/535)
ولا يستلم بيده الركنين الشاميين (وهما اللذان عندهما الحِجْر) ولا يقبلهما، ويستلم الركن اليماني (وهو الذي يسبق ركن الحجر) في آخر كل شوط، ولايقبله، لأنه لم ينقل، لما في الصحيحين عن ابن عمر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحَجَر والركن اليماني» .
ويستحب للمرأة عند الحنابلة إذا قدمت مكة نهاراً تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه.
2 ً - الدعاء: وليس بمحدود ويدعو بما يشاء. وأفضله الدعاء المأثور، فيقول في أول كل طوفة: (بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك (1) ، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلّى الله عليه وسلم.
وليقل قبالة باب الكعبة: (اللهم إن البيت بيتك، والحرمَ حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار (2)) .
وليقل بين الركنين اليمانيين: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) .
ومأثور الدعاء أفضل من قراءة القرآن، للاتباع، والقراءة أفضل من غير مأثور الدعاء؛ لأن الموضع موضع ذكر، والقرآن أفضل الذكر، وفي الحديث القدسي يقول الرب سبحانه وتعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ماأعطي السائلين، وفضلُ كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه» (3) ، لكن تكره القراءة عند المالكية.
ويسن الإسرار بالذكر والقراءة؛ لأنه أجمع للخشوع.
ويراعي ذلك أيضاً في كل طوفة اغتناماً للثواب، والدعاء في الأولى ثم في الأوتار آكد، كتقبيل الحجر واستلامه، لحديث: «إن الله وتر يحب الوتر» .
__________
(1) وهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى علينا بامتثال أمره واجتناب نهيه.
(2) أي نفس الداعي: أي هذا الملتجئ المستعيذ بك من النار.
(3) رواه الترمذي وحسنه.(3/536)
ويكره إنشاد الشعر، والتحدث في الطواف للحديث السابق: «الطواف بالبيت صلاة فأقلوا في الكلام» وفي رواية «فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير» ولأن ذلك يشغله عن الدعاء.
3 ً - الرَّمَل (1) للرجال أو الصبيان دون النساء في الأشواط الثلاثة الأُوَل، وهو عند الحنفية والشافعية سنة في كل طواف يعقبه سعي بأن يكون بعد طواف قدوم أو ركن يعقبه سعي، وهذا هو المشهور، ولا يرمل إذا كان طاف طواف القدوم أو اللقاء، وسعى عقيبه. فإن كان لم يطف طواف القدوم أو كان قد طاف لكنه لم يسع عقبيه، فإنه يرمل من طواف الزيارة، وطواف العمرة.
وقال المالكية: يسن الرمل لمحرم بحج أو عمرة في طواف القدوم وطواف العمرة؛ لأن ما رمل فيه النبي صلّى الله عليه وسلم كان للقدوم وسعى عقبه.
ومحل استنان الرمل إن أحرم بحج أو عمرة أو بهما من الميقات بأن كان آفاقياً أو كان من أهله، وإلا فيندب. أي يندب لمحرم بحج أو عمرة من دون المواقيت كالتنعيم والجعرانة، وفي طواف الإفاضة لمن لم يطف طواف القدوم لعذر أو نسيان، وأحرم من الميقات. ولا يندب الرمل في طواف تطوع ووداع.
وكذلك قال الحنابلة مثل المالكية: لا يسن الرمل في غير طواف القدوم أو طواف العمرة.
__________
(1) الرمل أو الخبب: الإسراع في المشي دون الجري أو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطو من غير عدو فيه ولا وثب، وهذا الرمل مما زال سببه وبقي حكمه، فإن سببه رفع التهمة عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قدموا مكة بعمرة، فكان كفار مكة يظنون فيهم الضعف بسبب حمى المدينة، وكانوا يقولون: قد أوهنتهم حمى يثرب، فأمروا بالرمل في ابتداء الأشواط، لمنع تهمة الضعف.(3/537)
ويمشي في الأشواط الباقية من طوافه على هينته، لما رواه الشيخان عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبَّ ثلاثاً، ومشى أربعاً» وروى مسلم عنه قال: «رمل النبي صلّى الله عليه وسلم من الحَجَر ومشى أربعاً» .
فإن طاف راكباً أو محمولاً، حرك الدابة، ورمل به الحامل، ويكره ترك الرمل بلا عذر، ولو تركه في شيء من الثلاثة، لم يقضه في الأر بعة الباقية؛ لأن هيئتها السكون، فلا يغير، كما لو ترك الجهر في الركعتين الأوليين، فلا يقضى بعدهما لتفويت سنة الإسرار.
وليقل في أثناء الرمل: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً» .
4 ً - الاضطباع عند الجمهور غير مالك: وهو جعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى، ورد طرفيه على كتفه اليسرى، وإبقاء كتفه اليمنى مكشوفة. لما روى يعلى ابن أمية: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً» (1) ، وروى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجِعْرانة، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» (2) .
وهو سنة عند الحنفية والشافعية والحنابلة كالرمل في جميع كل طواف يرمل فيه، ولا يسن في طواف لا رمل فيه، وكذا يضطبع عند الشافعية على الصحيح في السعي قياساً على الطواف بجامع قصد مسافة مأمور بتكريرها، سواء اضطبع في الطواف قبله أم لا. ولا يستحب في الأصح في ركعتي الطواف، لكراهة الاضطباع في الصلاة، فيزيله عند إرادتها، ويعيده عند إرادة السعي.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح وابن ماجه، والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 38/5) .
(2) رواه أحمد وأبو داود، وقوله: تحت آباطهم: أن يجعله تحت عاتقه الأيمن، وقذفوها أي طرحوا طرفيها، وعواتقهم جمع عاتق وهو المنكب (نيل الأوطار: 38/5) .(3/538)
ولا يضطبع عند الحنفية والحنابلة في غير الطواف، فإن فرغ من الطواف سوى رداءه؛ لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة، ولا في السعي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يضطبع فيه، والسنة في الاقتداء به.
ولا ترمُل المرأة ولا تضطبع، أي لا يطلب منها ذلك؛ لأن بالرمل تتبين أعطافها، وبالاضطباع ينكشف ما هو عورة منها.
وليس على أهل مكة رمل، عملاً بقول ابن عباس وابن عمر.
5 ً - الدنو أو القرب من البيت للذكور: لشرفه ولأنه المقصود، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل. والأولى كما قال بعضهم أن يجعل بينه وبين البيت ثلاث خطوات ليأمن مرور بعض جسده على الشاذَرْوان. وإن تأذى غيره بنحو زحمة، فالبعد أولى.
أما المرأة والخنثى فيكونان في حاشية المطاف، فإن طافا خاليين فكالرجل في استحباب القرب.
وهذا مستحب عند الشافعية والحنابلة، لكن الرمل عند الشافعية مع البعد أولى من الدنو، فإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً أو يخاف صدم النساء أو الاختلاط بهن، فالدنو أولى.
ومن سنن الطواف المؤكدة أيضاً عند الشافعية والحنابلة: المشي لقادر عليه، وصلاة ركعتي الطواف بعده خلف مقام إبراهيم، ثم في الحِجْر تحت الميزاب، ثم في المسجد الحرام، ثم في الحرم حيث شاء من الأمكنة في أي زمان. وهذان واجبان عند المالكية والحنفية. وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف عند الحنابلة؛ لأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام، ولا تجزئ عنهما المكتوبة عند الحنفية والمالكية كركعتي الفجر.
ومن سننه أيضاً الموالاة بين الأشواط عند الحنفية والشافعية، وهي شرط عند المالكية والحنابلة.
وتسن النية عند الشافعية في طواف النسك، وتجب في طواف لم يشمله نسك وفي طواف وداع.(3/539)
المطلب الثالث ـ السعي:
السعي واجب عند الحنفية، ركن عند باقي الأئمة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» و «كتب عليكم السعي فاسعوا» (1) وأما قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما} [البقرة:158/2] فهو لرفع الإثم على من تطوف بهما، رداً على ما كان في الجاهلية من التحرج من السعي بينهما، لأنه كان عليهما صنمان.
وأبحث هنا واجباته، وسننه وحكم تأخره عن وقته الأصلي (2) .
أولاً ـ واجبات السعي أو شروطه:
للسعي بين الصفا والمروة شروط أو واجبات هي:
1 ً - أن يتقدمه طواف صحيح بحيث لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة، اتباعاً للسنة، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» ولأن السعي تبع للطواف. ومن سعى بعد طواف قدوم لم يُعده، والأفضل للقارن عند الحنفية تقديم السعي.
وأجاز الحنفية أن يكون السعي بعد وجود أكثر الطواف قبل تمامه؛ لأن للأكثر حكم الكل.
ويصح كونه بعد طواف مطلقاً ولو مسنوناً عند الجمهور، وأن يكون بعد طواف ركن أو قدوم عند الشافعية.
2 ً - الترتيب: بأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم بدأ بالصفا، وقال:
__________
(1) رواهما أحمد، الأول عن حبيبة بن أبي تِجراة، والثاني عن صفية بنت شيبة (نيل الأوطار: 50/5) .
(2) البدائع:134/2 ومابعدها، الدر المختار:234/2، الشرح الصغير:50/2 ومابعدها، الشرح الكبير:41/2، القوانين الفقهية: ص132، مغني المحتاج:493/1 ومابعدها، الحضرمية: ص 128، الإيضاح: ص 44-47، غاية المنتهى: 404/1-406، المغني:385-389.(3/540)
«ابدؤوا بما بدأ الله به» (1) وهو قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة:158/2] فإذا بدأ بالمروة إلى الصفا لا يعتد بذلك الشوط.
3 ً - أن يكون سبعة أشواط: بأن يقف على الصفا أربع مرات، وعلى المروة أربعاً ويختم بها، ويحسب الذهاب إلى المروة مرة، والعود منها إلى الصفا مرة أخرى. فإن شك في العدد بنى على الأقل. ودليل هذا المقدار: إجماع الأمة، وفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2) .
4 ً - استيعاب ما بين الصفا والمروة: يجب أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، اقتداء بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
5 ً - الموالاة بين الأشواط: شرط عند المالكية والحنابلة، سنة عند غيرهم، كالطواف.
وأضاف الحنابلة شروطاً أخرى فتصبح شروط السعي عندهم تسعة وهي:
إسلام، وعقل، ونية معينة، ومشي لقادر.
وأما الطهارة عن الجنابة والحيض: فليست بشرط للسعي كالوقوف بعرفة، فيجوز سعي الجنب والحائض بعد أن كان طوافه بالبيت في حال طهارة عن الجنابة والحيض؛ لأن هذا نسك غير متعلق بالبيت.
ثانياً ـ سنن السعي:
يسن للسعي بين الصفا والمروة ما يأتي:
1ً - استلام الحجر الأسود وتقبيله بعد الانتهاء من الطواف وصلاة ركعتي الطواف، ثم الخروج من باب الصفا (وهو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين) للسعي بين الصفا والمروة، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم.
2ً - اتصاله بالطواف: أي الموالاة بين الطواف والسعي، وكذا الموالاة في مرات السعي. ويكره للساعي أن يقف أثناء سعيه لحديث أو غيره، فإن طاف بيوم وسعى في آخر، جاز، ولا تسن عقبه صلاة.
3ً - الطهارة له من الحدث والخبث وستر العورة.
4ً - المشي للقادر لا الركوب.
__________
(1) رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، وهو في مسلم بلفظ «أبدأ» على الخبر لا الأمر، ورواه أصحاب السنن الأربعة بلفظ «نبدأ» .
(2) رواه الشيخان.(3/541)
5ً - الصعود للذكر دون غيره على الصفا والمروة بحيث يرى الكعبة من الباب، وذلك بقدر قامة عند الشافعية. ويسن الصعود للمرأة إن خلا الموضع من الرجال، وإلا وقفت أسفلهما. 6ً - الدعاء بما شاء والأذكار، وتكرارها ثلاثاً بعد كل مرة عند الشافعية، مستقبلاً البيت، داعياً بصوت مرتفع، رافعاً يديه إلى نحو السماء (1) ، والدعاء بالمأثور أفضل، فيكبر ويهلل ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويقول:
«الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا (2) ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده (3) الخير، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. «اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول» .
ثم يدعو بما شاء من أمري الدين والدنيا، ويستحب فيه قراءة القرآن.
7ً - الإسراع (أو العَدْو) للذكور في وسط المسعى ما بين الميلين الأخضرين الملاصقين لجدار المسجد، فوق الرمَل، ودون الجري (4) ، في ذهابه إلى الصفا، وعودته من المروة، اتباعاً للسنة كما رواه مسلم. وأما الأنثى والخنثى فتمشي في الكل.
ويقول الذكر في عدوه، وكذا المرأة والخنثى في محله: (رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم) وإن كان راكباً، حرك المركوب من غير أن يؤذي أحداً.
__________
(1) ترفع الأيدي إلى الله تبارك وتعالى في سبعة مواطن: في الإحرام بالصلاة، وأول ما ينظر إلى الكعبة، وعلى الصفا، وعلى المروة، وبعرفات، وبالمزدلفة، وعند الجمرتين الأولى والوسطى.
(2) من نعمه التي لا تحصى.
(3) أي قدرته.
(4) وهذه هي الهرولة.(3/542)
8ً - الأفضل ـ كما ذكر النووي ـ أن يتحرى زمن الخلوة لسعيه وطوافه، وإذا كثرت الزحمة، فينبغي أن يتحفظ من إيذاء الناس، وترك هيئة السعي أهون من إيذاء المسلم ومن تعريض نفسه إلى الأذى. وإذا عجز عن السعي الشديد في موضعه بين الميلين للزحمة، تشبه في حركته بالساعي، كما هو الشأن في الرمل.
ثالثاً ـ حكم تأخير السعي عن وقته الأصلي:
إذا أخر السعي عن وقته الأصلي وهي أيام النحر، بعد طواف الزيارة (1) :
أـ فإن كان لم يرجع إلى أهله، فإنه يسعى، ولا شيء عليه؛ لأنه أتى بما وجب عليه، ولا يلزمه بالتأخير شيء؛ لأنه فعله في وقته الأصلي: وهو ما بعد طواف الزيارة. ولا يضره عند الحنفية إن كان قد جامع لوقوع التحلل بطوف الزيارة، إذ السعي ليس بركن عندهم حتى يمنع التحلل.
ب ـ وإن كان رجع إلى أهله، فعليه عند الحنفية دم، لتركه السعي بغير عذر، والسعي عندهم واجب لا ركن، وإن أراد أن يعود إلى مكة، يعود بإحرام جديد؛ لأن إحرامه الأول قد ارتفع بطواف الزيارة لوقوع التحلل به، فيحتاج إلى تجديد الإحرام، وإذا عاد وسعى، سقط عنه الدم؛ لأنه تدارك الترك.
والسعي ـ كما بينت ـ ركن عند الجمهور لا يتم الحج إلا به، ولا يجبر تركه بدم.
__________
(1) البدائع:135/2.(3/543)
المطلب الرابع ـ الوقوف بعرفة:
حكمه، مكانه، زمانه، مقداره، سننه، حكمه إذا فات عن وقته (1) .
أولاً ـ حكم الوقوف بعرفة:
أجمع العلماء على أنه الركن الأصلي من أركان الحج، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (2) أي الحج: الوقوف بعرفة، وأجمعت الأمة على كون الوقوف ركناً في الحج، لا يتم إلا به.
فمن فاته فعليه حج من عام قابل، والهدي في قول أكثرهم.
ثانياً ـ مكان الوقوف:
عرفة كلها موقف، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «قد وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» (3) فمن وقف بعرفة في أي مكان، والأفضل عند جبل الرحمة، فقد تم حجه مطلقاً من غير تعيين موضع دون موضع. إلا أنه ينبغي ألا يقف في بطن عرنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وأخبر أنه وادي الشيطان، قال النبي: «كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة» (4) فليس وادي عُرَنة من الموقف، ولا يجزئ الوقوف قبل عرفة كنمرة مثلاً، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء عل أن من وقف به لا يجزئه.
وحد عرفة: من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر. وهي الآن معروفة بحدود معينة، وليس منها عرنة ولا نَمِرة ومسجد إبراهيم عليه السلام، فإن آخره منها وصدره عن عرنة.
والمستحب أن يقف عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، ويستقبل القبلة، لما جاء في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل منها جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» .
__________
(1) البدائع:125/2-127، الدر المختار: 237/2 ومابعدها، اللباب: 191/1 وما بعدها، الشرح الصغير: 53/2-57، القوانين الفقهية: ص 133، بداية المجتهد: 235/1-337، مغني المحتاج: 496/1،513، الإيضاح: ص 47، المغني: 407/3-416، غاية المنتهى:408/1.
(2) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه.
(4) رواه ابن ماجه.(3/544)
ثالثاً ـ زمان الوقوف:
يقف الحاج بالاتفاق من حين زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة بعد الزوال وقال: خذوا عني مناسككم. وقال الحنابلة: يبدأ وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» (1) .
فن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال لا يعتد بوقوفه بالإجماع، وفاته الحج إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو جزءاً من ليلة النحر قبل طلوع الفجر.
ومن وقف بعرفات ولو مروراً أو نائماً أو مغمى عليه، ولم يعلم أنها عرفة، في هذا الوقت، أجزأه ذلك عند الحنفية عن الوقوف. قال عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد، فقالوا: يارسول
__________
(1) رواه الخمسةعن عروة بن مضرس، والمشهور أن التفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة.(3/545)
الله، كيف الحج؟ قال: الحج عرفة. فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع، فقد تم حجه» (1) .
واشترط المالكية في المار شرطين وهما أن يعلم أنه عرفة، وأن ينوي الحضور الركن، وأجازوا كون الواقف نائماً أو مغمى عليه كالحنفية.
واشترط الشافعية والحنابلة كون الواقف عاقلاً أهلاً للعبادة، سواء فيه الصبي والنائم وغيرهما؛ لأن النائم في حكم المستيقظ. وأما المغمى عليه والسكران فلا يصح وقوفهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، وكل منهما زائل العقل بغير نوم، فمن كان من أهل العبادة وحصل في جزء يسير من أجزاء عرفات في لحظة لطيفة من وقت الوقوف المذكور (وهو ما بين زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر عند الجمهور، ومن طلوع فجر يوم عرفة عند الحنابلة) صح وقوفه، سواء حضر عمداً أو وقف مع الغفلة، أو مع البيع والشراء، أو التحدث واللهو، أو في حال النوم، أو اجتاز بعرفات ماراً في وقت الوقوف، وهو جاهل لا يعلم أنها عرفات، ولم يلبث أصلاً، بل اجتاز مسرعاً في طرف من أرضها المحدودة، أو اجتازها في طلب غريم هارب أو بهيمة شاردة أو كان نائماً على بعيره، فانتهى به البعير إلى عرفات، فمر بها البعير، أو غير ذلك مما هو في معناه، يصح وقوفه في جميع ذلك، ولكن يفوته كمال الفضيلة.
ويجب عند الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس، في حديث جابر السابق. وفي حديث علي وأسامة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس» فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح تام عند أكثر أهل العلم، وعليه دم.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه، وليلة جمع: هي ليلة المبيت بالمزدلفة (نيل الأوطار: 59/5) .(3/546)
وقال الشافعية: يسن الجمع بين الليل والنهار فقط، اتباعاً للسنة، فلا دم على من دفع من عرفة قبل الغروب، وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح: «أن من أتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه» (1) ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، نعم، يسن له دم، وهو دم ترتيب وتقدير، خروجاً من خلاف من أوجبه.
وقال المالكية: الركن الحضور بعرفة ليلة النحر، على أي حالة كانت، ولو بالمرور بها، إن علم أنه عرفة، ونوى الحضور، وهذان شرطان في المار فقط كما تقدم، أو كان مغمى عليه. فمن وقف بعرفة بعد الزوال، ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فعليه حج قابل، إلا أن يرجع قبل الفجر. لكن إن دفع من عرفة قبل الإمام وبعد غروب الشمس أجزأه. وبهذا يكون شرط صحة الوقوف عندهم: هو أن يقف ليلاً، ودليلهم أنه صلّى الله عليه وسلم وقف بعرفة حين غربت الشمس، وروى ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل، فقد فاته الحج، فليحل بعمرة، وعليه الحج من قابل» .
ونوقش الدليل الأول بأن فعله عليه السلام على جهة الأفضل؛ لأنه كان مخيراً بين ذلك. وأن الحديث الثاني هو بيان آخر وقت الوقوف.
والحاصل أن الجمهور يقولون: يجزئ الوقوف ليلاً أو نهاراً بعد الزوال، وقال المالكية: الواجب الوقوف ليلاً، فمن تركه فينجبر بالدم، كما أن الحنفية والحنابلة يوجبون الدم على من ترك الوقوف ليلاً، والشافعية قالوا: يسن له الدم فقط.
__________
(1) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن عروة بن مُضَرِّس بن أوس. وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف (نيل الأوطار: 58/5) لكن قرر العلماء على أن المراد بقوله عليه السلام في هذا الحديث «نهاراً» أنه بعد الزوال. ويلاحظ أن الحنابلة أجازوا الوقوف من الفجر يوم عرفة، عملاً بظاهر هذا الحديث.(3/547)
رابعاً ـ مقدار الوقوف:
اتفق العلماء على أنه يكفي الوقوف في جزء من أرض عرفة، ولو في لحظة لطيفة، وأوجب المالكية الطمأنينة بعد الغروب في الوقوف أي الاستقرار بقدر الجلسة بين السجدتين قائماً أو جالساً أو راكباً. فالقدر المفروض من الوقوف: هو وجوده بعرفة ساعة من هذا الوقت، سواء أكان عالماً بها أم جاهلاً، نائماً أم يقظان مفيقاً، أم مغمى عليه أم سكران أم مجنوناً في رأي الحنفية والمالكية، وسواء وقف بها أو مرَّ، وهو يمشي أو على الدابة، أو محمولاً؛ لأنه أتى بالقدر المفروض: وهو وجوده كائناً بها، للحديث السابق: «من وقف بعرفة، فقد تم حجه» . والمشي والسير لا يخلو عن وقفة، سواء نوى الوقوف أم لم ينو.
ولا خلاف في أنه لا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال القبلة ولانية، فيصح كون الواقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو نفساء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من وقف الوقوف بعرفة غير طاهر مدرك للحج، ولا شيء عليه.
بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلم لعائشة: «افعلي ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت» ووقفت عائشة بعرفة حائضاً بأمر النبي، لكن يستحب كما سأبين أن يكون طاهراً.
خامساً ـ حكم الحاج إذا فاته الوقوف:
إذا فات الوقوف بعرفة، فات الحج في تلك السنة، ولا يمكن استداركه فيها، لأن ركن الشيء ذاته، وبقاء الشيء مع فوات ذاته محال.
وذكر النووي في الإيضاح (ص 54) : إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة نظر: إن غلطوا بالتأخير، فوقفوا في العاشر من ذي الحجة، أجزأهم وتم حجهم، ولا شيء عليهم، سواء بان الغلط بعد الوقوف أو في حال الوقوف.
ولو غلطوا فوقفوا في الحادي عشر، أو غلطوا في التقديم، فوقفوا في الثامن من ذي الحجة، أوغلطوا في المكان، فوقفوا في غير أرض عرفات، فلا يصح حجهم بحال.
ولو وقع الغلط بالوقوف في العاشر لطائفة يسيرة، لا للحجيج العام، لم يجزهم على الأصح.(3/548)
ولو شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة، فردت شهادتهم، لزم الشهود الوقوف في التاسع عندهم، وإن كان الناس يقفون بعده.
سادساً ـ سنن الوقوف بعرفة وآدابه:
يسن الاتجاه أو الرواح إلى منى في يوم التروية ـ الثامن من ذي الحجة ـ والمكث أو المبيت بها إلى فجر عرفة، ثم الرواح إلى عرفات بعد طلوع الشمس، فيقيم الحجاج بنمرة قرب عرفات اتباعاً للسنة كما روى مسلم، ولا يدخلون عرفات، وقال الحنابلة: إن شاؤوا أقاموا بعرفة حتى تزول الشمس، ثم يخطب الإمام قبل صلاة الظهر خطبتين كالجمعة، يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف ووقته والدفع من عرفات، ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار، لحديث جابر المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك.
ثم يؤذن المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر والعصر جمع تقديم مع قصرهما اتباعاً للسنة كما روى مسلم، بأذان وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يفصل بينهما بشيء، ولا يصلى عند الحنفية بعد أداء العصر في وقت الظهر. وهذا الجمع نسك من أعمال الحج عند الحنفية، فيشمل المقيم والمسافر، لكن لو كان مقيماً كإمام مكة صلى بهم صلاة المقيمين، ولا يجوز له القصر، ولا للحجاج الاقتداء به.
ورأى المالكية أيضاً أنه يسن الجمع بين الظهرين جمع تقديم حتى لأهل عرفة. ويسن قصرهما إلا لأهل عرفة بأذان ثان وإقامة للعصر من غير تنفل بينهما، ومن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله.
وأجاز الحنابلة أيضاً الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره، أما قصر الصلاة فلا يجوز لأهل مكة. والحاصل أن الجمهور يرون جواز هذا الجمع لكل حاج، أما القصر فلا يجوز لأهل عرفة وأهل مكة، وأجاز المالكية القصر لأهل مكة.(3/549)
ورأى الشافعية: أن هذا الجمع والقصر وفي المزدلفة أيضاً للسفر لا للنسك، فهما جائزان للمسافر فقط، ويختصان بسفر القصر، فيأمر الإمام المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر (89كم) بالإتمام وعدم الجمع، كأن يقول لهم بعد السلام: ياأهل مكة ومن سفره قصير أتموا، فإنا قوم سَفْر. وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعة أيام لزمهم الإتمام، فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى، ونووا الذهاب إلى أوطانهم عنذ فراغ مناسكهم، كان لهم القصر من حين خرجوا؛ لأنهم أنشؤوا سفراً تقصر فيه الصلاة.
ثم بعد الفراغ من الصلاة يذهبون إلى الموقف، ويعجلون السير إليه، وسنن الوقوف وآدابه: هي ما يأتي (1) :
1ً - الاغتسال بنمرة.
2ً - ألا يدخل أحد عرفات إلا بعد الزوال والصلاتين.
3ً - أن يخطب الإمام خطبتين ويجمع الصلاتين، كما تقدم.
4ً - تعجيل الوقوف عقب الصلاتين.
5ً - الأفضل كون الوقوف عند الصخرات الكبار في أسفل جبل الرحمة.
6ً - ينبغي أن يبقى في الموقف حتى تغرب الشمس، فيجمع في وقوفه بين الليل والنهار، بل هو واجب عند الجمهور غير الشافعية.
7ً - الأفضل أن يقف راكباً، وهو أفضل من الماشي، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولأنه أعون على الدعاء، وهو المهم في هذا الموضع.
8ً - استقبال القبلة مع التطهير وستر العورة ونية الوقوف بعرفة (2) ، فلو وقف محدثاً أو جنباً أو حائضاً أو عليه نجاسة، أو مكشوف العورة، صح وقوفه، وفاتته الفضيلة.
9ً - الأفضل للواقف ألا يستظل، بل يبرز للشمس، إلا لعذر، بأن يتضرر أو أن ينقص دعاؤه واجتهاده.
10ً - أن يكون مفطراً؛ لأن الفطر أعون على الدعاء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف مفطراً.
11ً - أن يكون حاضر القلب، فارغاً من الشواغل عن الدعاء.
__________
(1) الإيضاح: 51-54.
(2) سبب التفرقة عند الحنفية والحنابلة بين الطواف والوقوف باشتراط النية في الطواف دون الوقوف: أن النية عند الإحرام تضمنت جمبع ما يفعل فيه، والوقوف يفعل في حالة الإحرام، وأما الطواف فيقع به التحلل، فاشترط فيه عند الحنفية أصل النية دون تعيينها.(3/550)
12 - الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح، بل ينبغي أن يحترز عن الكلام المباح ما أمكنه، فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني.
13 - الاستكثار من عمل الخير في يوم عرفة وسائر أيام ذي الحجة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منه في هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه، فلم يرجع بشيء» (1) .
14 - الإكثار من الدعاء والتهليل وقراءة القرآن والاستغفار والتضرع والخشوع وإظهار الضعف والافتقار، والإلحاح في الدعاء، وتكرار الدعاء ثلاثاً، والتسبيح والتحميد والتكبير، ويكثر البكاء مع ذلك، فهنالك تسكب العبرات، وتقال العثرات.
وأفضل ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» .
وفي كتاب الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف:
«اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك ربي تراثي» .
__________
(1) رواه البخاري عن ابن عباس. وأيام العشر: هي الأيام المعلومات. وأيام التشريق هي المعدودات، وقال ابن جزي المالكي في قوانينه: ص143: الأيام المعلومات: هي أيام النحر الثلاثة، والأيام المعدودات: هي أيام منى، وهي أيام التشريق: وهي الثلاثة بعد يوم النحر، فيوم النحر معلوم غير معدود، والثاني والثالث معلومان معدودان، والرابع معدود غير معلوم.(3/551)
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح.
ومن الأدعية المختارة: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم اغفر لي مغفرة من عندك تصلح بها شأني في الدارين، وارحمني رحمة منك أسعد بها في الدارين، وتب علي توبة نصوحاً لا أنكثها أبداً، وألزمني سبيل الاستقامة لا أزيغ عنها أبداً، اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة، وأغنني بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، ونور قلبي وقبري، وأعذني من الشر كله، واجمع لي الخير كله، استودعتك ديني وأمانتي وقلبي وبدني وخواتيم عملي، وجميع ما أنعمت به علي وعلى جميع أحبائي والمسلمين أجمعين) .
ويستحب أن يكثر من التلبية رافعاً بها صوته، ومن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يأتي بهذه الأنواع كلها، فتارة يدعو، وتارة يهلل، وتارة يكبر، وتارة يلبي، وتارة يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتارة يستغفر ويدعو منفرداً، ومع جماعة.
وليدع لنفسه ووالديه وأقاربه وشيوخه وأصحابه وأحبابه وأصدقائه وسائر من أحسن إليه وسائر المسلمين.
ويستحب الإكثار من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات، مع الاعتقاد بالقلب، وأن يكثر من البكاء مع الذكر والدعاء، فهناك تسكب العبرات وتستقال العثرات وترتجى الطلبات.(3/552)
وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله المخلصين وخواصه المقربين، وهو أعظم مجامع الدنيا، وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله تعالى فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء» .
المبحث السادس - واجبات الحج:
واجبات الحج والعمرة التي يجزئ الدم بتركها مختلف فيها بين الفقهاء كما عرفنا: فواجبات الحج عند الحنفية اثنان وعشرون وأوصلها في كتاب اللباب إلى خمسة وثلاثين، منها:: السعي، والوقوف بالمزدلفة ولو بمقدار لحظة في النصف الثاني من الليل، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الوداع. وذلك عند الحنفية للآفاقي غير الحائض، أي من هو خارج المواقيت.
وواجبات العمرة عندهم اثنان: السعي، والحلق أو التقصير.
وواجبات الحج عند المالكية خمسة: طواف القدوم على الأصح، والوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير على المشهور والمبيت بمنى، وواجب العمرة هو الحلق أو التقصير.
وواجبات الحج عند الشافعية خمسة: الإحرام من الميقات الزماني والمكاني، ورمي الجمار، والمبيت في المزدلفة أي الوقوف فيها، والمبيت بمنى على الراجح، وطواف الوداع. وأعمال العمرة كلها أركان عندهم، إلا الإحرام من الحل فإنه واجب، كما أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة على المشهور.
وواجبات الحج عند الحنابلة ستة: إحرام من الميقات، ووقوف بعرفة نهاراً للغروب، ومبيت بمزدلفة لبعد نصف الليل، ومبيت بمنى، ورمي الجمرات مرتباً، وحلق أو تقصير، وطواف وداع.
وواجبات العمرة اثنان: حلق أوتقصير، وإحرام من الحل. وقد بينت أحكام الإحرام من الميقات، والسعي، وأنواع الطواف، وبقي علينا بحث الواجبات الأخرى فيما يلي:(3/553)
المطلب الأول ـ الوقوف بالمزدلفة:
صفته الشرعية، ركنه، مكانه، زمانه، حكم فواته عن وقته، سننه (1) .
أولاً ـ صفة الوقوف بالمزدلفة:
الوقوف بالمزدلفة واجب باتفاق المذاهب لا ركن، فمن تركه لزمه دم، والمبيت بها واجب عند الحنابلة، سنة عند الحنفية، والمالكية، وعند الشافعية قولان: واجب أو سنة، والراجح عند النووي والسبكي الوجوب، ومحل القولين: حيث لا عذر، أما المعذور فلا دم عليه جزماً، ومن المعذورين: من جاء عرفة ليلاً فاشتغل بالوقوف عنه، ومن أفاض من عرفة إلى مكة وطاف للركن وفاته الوقوف بمزدلفة، قال الأذرعي: وينبغي حمله على من لم يمكنه الدفع إلى المزدلفة، أي بلا مشقة، فإن أمكنه وجب جمعاً بين الواجبين. ومن المعذورين: ما لو خافت المرأة طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة بالطواف. وفي كفاية الاختيار: المبيت بالمزدلفة سنة، وقدر الواجب عند الحنفية: ساعة ولو لطيفة ولو ماراً، كما في عرفة، وقدر السنة: امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً.
وعند الحنابلة: البقاء بها لما بعد منتصف الليل، فإن دفع بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وعند الشافعية: الحصول بها لحظة فيما بعد منتصف الليل.
وعند المالكية: بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل أو شرب فيها. ورأي الجمهور غير الحنابلة أيسر المذاهب الذي يسع الناس الآن لكثرة الحجيج وصعوبة المبيت.
وأما إتيان المشعر الحرام: وهو جبل قُزَح في المزدلفة فهو مستحب عند الحنفية، سنة على المعتمد عند المالكية، وسنة عند الشافعية والحنابلة.
__________
(1) البدائع:135/2 ومابعدها،155 ومابعدها، الدر المختار:214/2-245، فتح القدير:169/2-173، اللباب:186/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 57/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص133، الإيضاح: ص55 ومابعدها، مغني المحتاج:499/1 ومابعدها،409/1 ومابعدها، المغني:417/2-426،450-456، شرح المجموع: 120/8، كفاية الاختيار: 430/1.(3/554)
ودليل وجوب المبيت بالمزدلفة: قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/2] وقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه ـ أي صلاة الفجر ـ ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وصححه الترمذي.
وللمزدلفة أسماء: مزدلفة وجَمْع والمشعر الحرام، وحد المزدلفة: من مأزمي عرفة إلى قرن محسِّر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب، ففي أي موضع منها وقف أجزأه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «المزدلفة موقف» (1) .
ثانياً ـ ركن الوقوف بالمزدلفة:
قال الحنفية: ركنه: كينونته بمزد لفة، سواء أكان بفعل نفسه أم فعل غيره، بأن يكون محمولاً بأمره، أو بغير أمره وهو نائم أومغمى عليه، أو مجنون أو سكران، نواه أو لم ينو، علم بها أو لم يعلم، ولو ماراً كالوقوف بعرفة.
وقال المالكية: يجب النزول بالمزدلفة بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من أكل أو شرب فيها، فإذا لم ينزل فدم، والوقوف بالمشعر الحرام سنة على المعتمد.
وقال الشافعية: الواجب الذي يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة، كالوقوف بعرفة، فيكفي المرور بها، وإن لم يمكث، ووقته بعد نصف الليل. ويسن تقديم النساء والضعََفَة بعد نصف الليل إلى منى، وشعارهم: التلبية والتكبير تأسياً به صلّى الله عليه وسلم (2) ، ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغلِّسين.
وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل منتصف الليل، فإن دفع بعده فلا شيء عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه، قال ابن عباس: «كنت فيمن قدم النبي صلّى الله عليه وسلم في ضَعَفة أهله من مزدلفة إلى منى» وكذلك رخص لأسماء (3) .
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه.
(2) رواه الشيخان (نصب الراية:72/3) .
(3) متفق عليه.(3/555)
ولا تشترط الطهارة عن الجنابة والحيض، ولأنه عبادة لا تتعلق بالبيت، فتصح من غير طهارة كالوقوف بعرفة ورمي الجمار.
ثالثاً ـ مكان الوقوف بالمزدلفة:
المزدلفة (وهي ما بين منى وعرفة) كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو واد بين منى ومزدلفة) ، فيصح الوقوف في أي جزء من أجزاء مزدلفة، وينزل في أي موضع شاء منها إلا وادي محسر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «عرفات كلها موقف، إلا بطن عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» (1) .
__________
(1) رواه خمسة من الصحابة: جابر عند ابن ماجه، وجبير بن مطعم عند أحمد، وابن عباس عند الطبراني والحاكم، وابن عمر عند ابن عدي، وأبو هريرة عند ابن عدي، وهو ضعيف إلا حديث ابن عباس قال عنه الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ويراجع، ولفظه «عرفه كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر» (نصب الراية: 60/3 ومابعدها) .(3/556)
ويكره النزول في المحسر عند الحنفية، لكن لو وقف به أجزأ مع الكراهة.
والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو جبل قُزَح (المشعر الحرام وهو آخر المزدلفة) ؛ لأنه روي أنه صلّى الله عليه وسلم وقف عليه، وقال: «خذوا عني مناسككم» (1) .
رابعاً ـ زمان الوقوف بالمزدلفة:
للفقهاء رأيان:
1 - رأي الحنفية: هو أن زمان الوقوف هو ما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر وابن عمر دفع قبل طلوع الشمس، فمن وقف بها قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس لا يعتد به. وقد ر الواجب منه ساعة ولو لطيفة، وقدر السنة: امتداد الوقوف إلى الإسفار جداً، والسنة أن يبيت ليلة النحر بمزدلفة، والبيتوتة ليست بواجبة، إنما الواجب هو الوقوف، والأفضل أن يكون وقوفه بعد الصلاة، فيصلي صلاة الفجر بغلس، ثم يقف عند المشعر الحرام، فيدعو الله تعالى، ويسأله حوائجه إلى أن يسفر، ثم يفيض منها قبل طلوع الشمس إلى منى، ولو أفاض بعد طلوع الفجر قبل صلاة الفجر، فقد أساء ولا شيء عليه لتركه السنة.
2 - ورأي الجمهور: هو أن زمان الوقوف هو الليل، وتفصيل ذلك ما يأتي:
قال المالكية: زمان الوقوف في أي جزء من أجزاء الليل بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين وتناول شيء من الأكل أو الشرب. والسنة: المبيت بالمزدلفة ليلة النحر، فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس، ثم نهضوا إلى المشعر الحرام (وهو آخر المزدلفة وجبل صغير فيها) وذلك سنة على المعتمد، فيقفون للتضرع والدعاء إلى الإسفار، ثم يدفعون منها قبل طلوع الشمس إلى منى، ويسرعون في وادي محسر.
وقال الشافعية: وقت الوقوف بالمزدلفة بعد نصف الليل، فمن لم يكن فيها في النصف الثاني، أراق دماً.
__________
(1) رواه جابر في حديثه الطويل المتقدم.(3/557)
وقال الحنابلة: المبيت بالمزدلفة حتى يطلع الفجر واجب، من تركه فعليه دم، فإذا صلى الصبح في أول وقته وقف عند المشعر الحرام، فيرقى عليه إن أمكنه، وإلا وقف عنده فذكر الله تعالى ودعا واجتهد، لقوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة:198/2] وفي حديث جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام، فرقى عليه، فدعا الله، وهلله وكبره، ووحده» . ومن بات بالمزد لفة لم يجز له الدفع قبل نصف الليل، فإن دفع بعده فلا شيء عليه.
خامساً ـ حكم فوات الوقوف بالمزدلفة عن وقته:
قال الحنفية: إن فات الوقوف فإن كان لعذر، فلا شيء عليه، لأنه صلّى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله، ولم يأمرهم بالكفارة، وإن كان فواته لغير عذر، فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب من غير عذر، وإنه يوجب الكفارة.
وقال الجمهور: ترك الوقوف بالمزدلفة يوجب الدم.
سادساً ـ سنن الوقوف بالمزدلفة:
يستحب في المزدلفة ما يأتي:
1ً - الاغتسال فيها بالليل للوقوف بالمشعر الحرام وللعيد، ولما فيها من الاجتماع، فمن لم يجد ماء تيمم، كما ذكر النووي في الإيضاح.
2ً - الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، كجمع التقديم في نمرة، ويجمع منفرداً أو مع الإمام.
3ً - إحياء هذه الليلة بالعبادة من الصلاة والتلاوة والذكر والدعاء والتضرع.
4ً - التأهب بعد نصف الليل وأخذ حصى الجمار من المزدلفة، لجمرة العقبة يوم النحر وهي سبع حصيات، ولأيام التشريق الثلاثة ثلاثاً وستين حصاة، فصار المجموع سبعين حصاة، بقدر حصى الخَذْف وهي دون أنملة، نحو حبة الباقلا، ويكره أن يكون أكبر من ذلك، ويكره كسر الحجارة له إلا لعذر بل يلتقطها صغاراً، وقد ورد نهي عن كسرها ههنا، لأنه يفضي إلى الأذى.(3/558)
ومن أي موضع أخذ جاز، لكن يكره من المسجد ومن المواضع النجسة ومن الجمرات التي رمي بها، لقول ابن عباس: «ما تقبل منها رفع، وما لم يتقبل ترك، ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين» .
ولا يكره غسل حصى الجمار، واستحب النووي وبعض الحنابلة أن يغسلها، لأنه روي عن ابن عمر أنه غسله، وقال في غاية المنتهى للحنابلة: لا يسن غسل غير نجس.
5ً - الوقوف بالمشعر الحرام، والصعود عليه إن أمكنه، وإلا وقف عنده أو تحته.
6ً - صلاة الصبح في أول وقتها، والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليتسع الوقت لوظائف أخرى، فإنها كثيرة في هذا اليوم، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه.
7ً - الوقوف عند المشعر الحرام بعد صلاة الفجر مستقبل الكعبة، فيدعو ويحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويوحده ويكثر من التلبية، ويستحب أن يقول في دعائه:
(اللهم كما أوقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق: {فإذا أفضتم من عرفات، فاذكروا الله عند المشعر الحرام، واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم} [البقرة:198/2-199] ، ويقول أيضاً: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) .
ويقف حتى يسفر جداً، لما في حديث جابر المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل واقفاً حتى أسفر جداً» ثم يدفع قبل طلوع الشمس اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، وشعاره التلبية والذكر، للآية السابقة:(3/559)
{فإذا أفضتم من عرفات ... } [البقرة:198/2] ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة (1) .
8ً - تقديم الضَّعَفة من النساء وغيرهن قبل طلوع الفجر إلى منى ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس، ويكون تقديمهم بعد نصف الليل. وهذه هي السنة عند الشافعية.
أما غيرهم فيمكثون حتى يصلوا الصبح بمزدلفة، كما سبق، فإذا صلوها، دفعوا متوجهين إلى منى.
9ً - الإسراع في وادي مُحَسِّر (وهو واد فاصل بين مزدلفة ومنى) (2) إن كان ماشياً، وتحريك دابته من كان راكباً، بقدر رمية حجر، حتى يقطعوا عرض الوادي، للاتباع في الراكب، كما روى مسلم، ويقاس الماشي عليه، ولنزول العذاب فيه على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت.
وفيما عدا ذلك المستحب الإتيان إلى المزدلفة والدفع منها بالسكينة والوقار لما في حديث جابر السابق: «أيها الناس السكينة السكينة» (3) .
المطلب الثاني ـ رمي الجمار في منى وحكم المبيت فيها:
أما الرمي فأبين معناه، ووجوبه والإنابة فيه، ووقته، ومكانه، وشروطه، أو عدد الجمار وقدرها وجنسها ومأخذها، ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع، وكيفية الرمي وما يسن في ذلك وما يكره، وحكمه إذا تأخر عن وقته (4) . ثم أبيّن حكم المبيت بمنى.
أولاً ـ معنى رمي الجمار وحكمته وحد منى:
رمي الجمار في اللغة: هو القذف بالأحجار الصغار وهي الحصى، إذ الجمار جمع جمرة، والجمرة: هي الحجر الصغير وهي الحصاة، وفي الشرع: هو القذف بالحصى في زمان مخصوص ومكان مخصوص وعدد مخصوص كما سيأتي. فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزئ، لعدم الرمي وهو القذف. وإن طرحها طرحاً أجزأه، لوجود الرمي، إلا أنه رمي خفيف، يقصد به رجم إبليس.
__________
(1) متفق عليه عن الفضل بن عباس.
(2) ويسمى وادي النار أيضاً، وهو خمس مئة ذراع وخمسة وأربعون ذراعاً.
(3) وروى البخاري عن ابن عباس: «أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» .
(4) البدائع:136/2-139،156-159، الدر المختار:245/2-249، القوانين الفقهية: ص134، اللباب:188/1-190، الشرح الصغير: 58/2 ومابعدها، 63-69، مغني المحتاج: 501/1، 504، 506-509، الإيضاح: ص58-60، المغني: 424/3-430، غاية المنتهى: 410/1-411، 414.(3/560)
وحكمته: أنه عمل رمزي يمثل مقاومة الشيطان الذي يريد إيقاع الناس بالمعاصي، بالفعل المادي، ليس في وقته فحسب وإنما في كل وقت؛ لأن المحسوس يدل على المعقول، وهو أيضاً اقتداء بفعل سيدنا إبراهيم عليه السلام وزوجته هاجر وابنه إسماعيل حينما أوحي إلى إبراهيم بذبح ولده، فكان كل منهم يرمي إبليس بحصيات لإنهاء وساوسه بألا يفعل الذبح، ولتحقيق امتثال أمر الله، دون تردد أو تثبيط عنه.
وحد منى: ما بين وادي مُحْسِّر وجمرة العقبة، ومنى: شِعْب طوله نحو ميلين، وعرضه يسير، أما الجبال المحيطة به فما أقبل منها عليه فهو من منى، وما أدبر منها فليس من منى.
والجمرات ثلاث: الأولى (أو الصغرى) ، والوسطى، وجمرة العقبة (أو الكبرى أو الأخيرة) ، والأولى تلي مسجد الخَيْف، ومسجد الخيف أو مسجد إبراهيم عليه السلام على أقل من ميل عن مكة. وجمرة العقبة: في آخر منى من جهة مكة، وليست العقبة التي تنسب إليها هذه الجمرة من منى، وهي الجمرة التي بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الأنصار عندها قبل الهجرة وهي صخرة عظيمة في أول منى بالنسبة للآتي من مكة، وهي كلها تقع في وسط الشارع. وتبعد الأخيرة عن الوسطى نحو 551 متراً، ويبدأ الحاج بالأولى، ويختم بالثالثة.
ثانياً ـ وجوب الرمي والإنابة فيه:
رمي الجمار (جمرة العقبة يوم النحر، والجمار الثلاث أيام التشريق) واجب اتفاقاً، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، قال جابر: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجّ بعد حَجَّتي هذه» (1) .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار:65/5) .(3/561)
وتجوز الإنابة في الرمي لمن عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس، أو كبر سن أو حمل المرأة، فيصح للمريض بعلة لا يرجى زوالها قبل انتهاء وقت الرمي، وللمحبوس وكبير السن والحامل أن يوكل عنه من يرمي عنه الجمرات كلها، ويجوز التوكل عن عدة أشخاص، على أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً كل جمرة من الجمرات الثلاث، ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر، ويكبر هو، فيقول: (الله أكبر ـ ثلاثاً ـ لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) كما نقل عن الشافعي رحمه الله.
ولكن يجب عند المالكية على الموكل دم، وفائدة الاستنابة: سقوط الإثم عن الموكل، ويبقى ملزماً بإراقة دم. وتوكيل المرأة غيرها في حال الزحمة الشديدة أولى من المرض في تقديري.
ثالثاً ـ وقت الرمي:
أـ رمي جمرة العقبة (أو الكبرى) : يدخل وقته عند الشافعية والحنابلة من نصف ليلة النحر، والأفضل أن يكون بعد طلوع الشمس؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (1) . ورميها هو تحية منى فلا يبتدأ فيها بغيره.
ووقته عند المالكية والحنفية: بعد طلوع الشمس يوم العيد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا ترموا حتى تطلع الشمس» (2) ويقطع المفرد بالحج والقارن التلبية عند الجمهور عند ابتداء رمي هذه الجمرة عند أول حصاة، لما رواه الجماعة عن الفضل بن عباس
__________
(1) رواهاه أبو داود.
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن ابن عباس، وصححه الترمذي ولفظه: «قدَّم ضعَفَة أهله، وقال: لا ترموا حتى تطلع الشمس» (نيل الأوطار: 67/5) .(3/562)
قال: «كنت رديف النبي صلّى الله عليه وسلم من جَمْع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (1) والمعتمر يقطع التلبية عند بدء الطواف.
وقال المالكية: تقطع التلبية إذا زالت الشمس من يوم عرفة إذا راح إلى الموقف. ويستمر وقت رمي هذه الجمرة إلى آخر النهار - نهار العيد، لما روى البخاري: «أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إني رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج» والمساء: بعد الزوال.
ب ـ رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق: بعد زوال الشمس في كل يوم أي بعد الظهر بالاتفاق، لقول ابن عباس: «رمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس» (2) فلا يجوز الرمي قبل الزوال، ويستمر الوقت للغروب.
وإن أخر الرمي إلى الليل كان قضاء عند المالكية، لخروج وقت الأداء وهو النهار الذي يجب فيه الرمي، وعليه دم بالتأخير، والواجب دم واحد في تأخير حصاة فأكثر.
وقال الحنفية: إن أخر الرمي إلى الليل، ورمى قبل طلوع الفجر، جاز، ولا شيء عليه؛ لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي. ويجوز عند أبي حنيفة الرمي في اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو اليوم الرابع من أيام الرمي، قبل الزوال، لقول ابن عباس: «إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي» .
وقال الحنابلة: لا يجزئ رمي إلا نهاراً بعد الزوال، غير سقاة ورعاة فيرمون ليلاً ونهاراً.
وقال الشافعية: وقت الرمي: من الزوال إلى الغروب، فلو ترك رمي يوم تداركه في باقي الأيام، وعلى هذا يبقى وقت الرمي في أيام التشريق إ لى الغروب من كل يوم، ولكن لو أخر رمي يوم ومنه رمي جمرة العقبة إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء، فلا يخرج وقت الرمي بالغروب على المعتمد.
__________
(1) نيل الأوطار: 322/4.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي (نيل الأوطار: 79/5) .(3/563)
ولرعاء الإبل وأهل السقاية (1) تأخير الرمي عن وقت الاختيار يوماً فقط، ويؤدونه في تاليه قبل رميه، لا رمي يومين متواليين.
وإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، فأراد أن ينفر من منى إلى مكة، وهو المراد من النفر الأول، فله ذلك، لقوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة:2/203] أي بترك الرمي في اليوم الثالث، والأفضل ألا يتعجل، بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث منها، فيستوفي الرمي في الأيام كلها، ثم ينفر، وهو معنى النفر الثاني في قوله تعالى: {ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة:203/2] .
قال ابن عباس في هذه الآية: «فمن تعجل في يومين غفر له، ومن تأخر غفر له» .
وكذا قال ابن مسعود في قوله تعالى: {فلا إثم عليه} [البقرة:203/2] : رجع مغفوراً له، وذلك مشروط بالتقوى، لقوله تعالى: {لمن اتقى} [البقرة:203/2] .
ووقت التعجيل عند الجمهور في ثاني أيام التشريق، وهو النفر الأول، يكون قبل غروب الشمس للآية السابقة، وحديث عبد الرحمن بن يعمر عند أبي داود وابن ماجه: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» واليوم: اسم للنهار، فمن أدركه الليل، فما تعجل في يومين، فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال.
__________
(1) أهل السقاية: موضع بالمسجد الحرام يسقى فيه الماء، ويجعل في حياض يسبل للشاربين، فيسقط عنهم المبيت، لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى، لأجل السقاية، رواه الشيخان.(3/564)
وقال الحنفية: للحاج أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع من أيام العيد، فإذا طلع الفجر، لم يكن له أن ينفر لدخول وقت الرمي (1) .
رابعاً ـ مكان الرمي:
الرمي في يوم النحر: عند جمرة العقبة، وفي الأيام الأخر عند ثلاثة مواضع: عند الجمرة الأولى، والوسطى، والعقبة، بشروط وقوع ذلك كله مكان وقوع الجمرة، لا مكان الرمي، فلو رمى الجمرة من مكان بعيد، فوقعت الحصاة عند الجمرة، أجزأه، وإن لم تقع عندها، لم تجزئه، إلا إذا وقعت عند الحنفية بقرب منها؛ لأن ما يقرب من ذلك المكان، كان في حكمه، لكونه تبعاً له.
خامساً ـ شروط الرمي: يشترط لصحة الرمي مطلقاً ما يأتي:
1ً - أن يكون الرمي بيد، ويكون المرمي عند الجمهور حجراً اتباعاً للسنة، فلا يكفي الرمي بقوس، ولا الرمي بالرجل ولا بالمقلاع، ولا بالطين، ولا بغير الحصى كجوهر وذهب وزبرجد وفيروزج وياقوت ونحاس وغير ذلك من المعادن. وقال الحنفية: يجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر والطين وكل ما يجوز التيمم به، ولو كفاً من تراب، فيقوم مقام حصاة واحدة، ولا يجوز بخشب وعنبر ولؤلؤ وجواهر؛ لأنه إعزاز لا إهانة، ولا بذهب وفضة، لأنه يسمى نثاراً لا رمياً، ولا بعر؛ لأنه ليس من جنس الأرض.
2ً - أن يكون الحصى كحصى الخذف (2) : وهو أكبر من الحمص ودون البندق، كالفولة أو النواة، ولا يجزئ صغير جداً كالحمصة ويكره كبير ويجزئ. وهذا شرط عند المالكية، سنة عند غيرهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يرموا بمثل حصى الخذف (3) .
__________
(1) فتح القدير: 298/2، الشرح الصغير: 64/2، السراج الوهاج: ص 165، كشاف القناع: 511/2، طبع بيروت، المغني والشرح الكبير: 479/3، ط بيروت.
(2) الخذف: هو رمي الحصى بالأصبعين.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) وصححه الترمذي عن جابر (نيل الأوطار: 64/5) .(3/565)
3ً - أن يسمى الفعل رمياً: فلا يكفي الوضع في المرمى؛ لأنه لا يسمى رمياً، ولأنه خلاف الوارد، ويشترط قصد الجمرة (1) بالرمي، فلو رمى إلى غيرها كأن رمى في الهواء، فوقع في المرمى، لم يكف. ولو وقع الرمي على الحائط الذي بجمرة العقبة، كما يفعله كثير من الناس فأصابه، ثم وقع في المرمى لا يجزئ. كما لا يجزئ لو وقعت الحصاة دون الجمرة التي هي محل الرمي، ولم تصل الحصاة إليها، ولو وقعت الحصاة في شق من بناء الجمرات أجزأت على التحقيق.
4ً - أن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه، لم يجزئه بالاتفاق؛ لأنه مأمور بالرمي ولم يرم.
5ً - رمي السبع واحدة واحدة أي سبع رميات، وترتيب الجمرات بأن يبدأ بالجمرة التي تلي مسجد الخيف، وهي أولاهن من جهة عرفات، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، اتباعاً للسنة، كما روى البخاري. وهذا عند الجمهور، فلو خالف الترتيب بأن قدم العقبة أو الوسطى، لم يجزئ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم رتبها في الرمي، وقال: «خذوا عني مناسككم» وليس عدد السبع شرطاً عند الحنابلة، فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس.
وقال الحنفية: الترتيب بين الجمرات سنة.
وإن شك في عدد الحصيات السبع، بنى على الأقل، وحقق المطلوب يقيناً، وإن رمى دفعة واحدة لم يجزئ، وحُسب ذلك واحدة.
6ً - أن يكون الرمي من المُحرم بنفسه، ويستنيب لعجزه كما بينت، ويشترط في النائب أن يكون رمى عن نفسه أولاً، فلو لم يرم وقع عن نفسه كأصل الحج، ويندب أن يناول النائب الحصى، ويكبر إن أمكن، وإلا تناولها النائب وكبر بنفسه.
ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، ولا كون الرامي خارجاً عن الجمرة، ولا الطهارة، ولا طهارة الحصى، فتجزئ حصاة نجسة مع الكراهة.
__________
(1) الجمرة: هي البناء أو السارية الآن وما حوله من موضع الحصى.(3/566)
مأخذها: وتؤخذ حصى الجمار من مزدلفة أو من الطريق من محسر وغيره أو من أي مكان غير نجس، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة (1) ، وعليه فعل المسلمين. وأخذ الحصى من مزدلفة: سنة فقط. ويكره عند الحنابلة أخذ الحصى من منى وسائر الحرم، ومن المرحاض.
وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه مع الكراهة عند الحنفية، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين: «ارم ولا حرج» مطلقاً، والكراهة لأنها مردودة لما روي: «من قبلت حجته رفعت جمرته» .
ولا يجزئه في رأي الفقهاء الآخرين؛ لأنها حصى مستعملة، ولأن ما تقبِّل رفع، كما ورد وشوهد (2) ، ولولا ذلك لسد الحصى على التوالي الأزمان المتطاولة ما بين الجبلين.
مقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع: ترمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، وترمى كل جمرة من الجمرات الثلاث في أيام التشريق بسبع حصيات، فيكون المرمي في كل يوم إحدى وعشرين حصاة. ففي حديث جابر عند مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها» . وفي حديث ابن عمر عند البخاري «أنه صلّى الله عليه وسلم رمى كل جمرة بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة» .
سادساً ـ كيفية الرمي وسننه:
1 - يرفع الرجل أو الصبي يده بالرمي حتى يرى بياض إبطه، بخلاف المرأة والخنثى.
2 - يكون الرمي باليد اليمنى.
3 - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويستقبل العقبة، ثم يرمي، ولا يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعده، والأصل أن كل رمي بعده رمي يقف عنده، ويدعو، وما ليس بعده رمي لا يقف عنده، عملاً
__________
(1) رواه ابن عدي وأحمد والحاكم والنسائي (نصب الراية: 76/3) ، وروى أحمد ومسلم عن الفضل ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة» (نيل الأوطار:62/5) .
(2) روى الدارقطني والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «قلت: يارسول الله، هذه الجمار التي نرمي بها كل عام، فنحسب أنها تنقص، فقال: إن مايقبل منها رفع، ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال» وقال ابن عباس: «أما علمت أن من يقبل حجه يرفع حصاه» (نصب الراية: 78/3 ومابعدها) .(3/567)
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (1) . ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء.
4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً» . وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (2) » . وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً.
5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (3) . وإن قال: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك.
ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي
__________
(1) روى البخاري عن ابن عمر قال مبيناً فعل النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رماها بحصاة، ثم ينصرف، ولا يقف عندها» (نصب الراية: 77/3) .
(2) رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل، ورواه أحمد عن ابن عمر.
(3) نصب الراية:76/3 ومابعدها.(3/568)
بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (1) . ويستقبل القبلة في رمي الجمرات أيام التشريق، ويرمي الجمرتين الأوليين من علوّ، ويدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، وفي حال الاستقبال تكون مكة جهة يساره ومنى جهة يمينه. والحاصل أنه يرمي الجمرتين الأوليين من فوقهما، والعقبة من أسفلها، ويدعو بعد الجمرة الأولى والثانية وينصرف بعد جمرة العقبة من غير دعاء.
4 - يرمي عند الشافعية راجلاً، لا راكباً إلا في يوم النفر، فالسنة أن يرمي راكباً لينفر عقبه، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أنه يرمي راكباً إن كان أتى منى راكباً» . وقال الحنابلة: يرميها راكباً أو راجلاً كيفما شاء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «رماها على راحلته (2) » . وقال الحنفية والمالكية: الأفضل الرمي ماشياً، أو راكباً.
__________
(1) روى البخاري عن ابن عمر قال مبيناً فعل النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رماها بحصاة، ثم ينصرف، ولا يقف عندها» (نصب الراية: 77/3) .
(2) رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل، ورواه أحمد عن ابن عمر.(3/569)
5 - يكبر مع كل حصاة، فيقول:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ودليل التكبير: ما ثبت في أحاديث جابر المتقدم وابن مسعود وابن عمر (1) . وإن قال: «اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً» فحسن؛ لأن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك.
ثم يقف مستقبل القبلة ويدعو، ويذكر الله تعالى، ويهلل ويسبح بعد رمي الجمرة الأولى، بقدر قراءة سورة البقرة، وكذا بعد رمي الثانية، لا الثالثة، بل يمضي في طريقه بعد رميها للاتباع في ذلك، كما روى البخاري، إلا بقدر سورة البقرة، فرواه البيهقي من فعل ابن عمر.
6 - يقطع التلبية عند الجمهور مع أول حصاة في رمي جمرة العقبة، إن رمى قبل الحلق، وإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل كما ثبت في حديث جابر الطويل المتقدم وغيره. وقال المالكية كما بينا: يقطع التلبية من ظهر يوم عرفة.
7 - يستحب أن يكون الحجر عند الجمهور مثل حصى الخذف، لا أكبر ولا أصغر. وشرط المالكية ذلك، فلو رمى بأكبر منه كره وأجازه بالاتفاق، وكذا لو رمى بأصغر منه أجزأه مع الكراهة عند الجمهور، ولا يجزئ صغير جداً عند المالكية.
8 - ويستحب أن يكون الحجر طاهراً، فلو رمى بنجس كره وأجزأه. ويكره أن يرمي بما أخذه من المسجد أو من الحرم أو من الموضع النجس، أو بما رمى به غيره، ولو رمى بشيءٍ من ذلك أجزأه.
ويندب عند المالكية وغيرهم تتابع الحصيات بالرمي، فلا يفصل بينها بشاغل من كلام أو غيره، ولا تجب موالاة الرمي.
سابعاً ـ حكم تأخيرر الرمي عن وقته:
رمي الجمار واجب كما عرفنا، فإن تأخرعن وقته أو فات، وجب دم، على النحو المقرر فقهاً، فقال الحنفية (2) : إذا ترك من جمار يوم النحر حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً إلى الغد، فإنه يرمي ما ترك أو يتصدق لكل حصاة نصف صاع من حنطة (3) إلا أن يبلغ قدر الطعام دماً فينقص ما شاء. والأصل أن ما يجب في جميعه دم يجب في أقله صدقة، فلو ترك الرمي كله إلى الغد، كان عليه دم عند أبي حنيفة، فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة إلا أن يبلغ دماً، وإن ترك الأكثر منها فعليه دم في قول أبي حنيفة؛ لأن في جميعه دماً عنده، فكذا في أكثره.
وإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أىام الرمي، وهو اليوم الرابع، فإنه يرميها فيه على الترتيب، وعليه دم عند أبي حنيفة؛ لأن الرمي مؤقت عنده.
__________
(1) نصب الراية:76/3 ومابعدها.
(2) البدائع: 2/138، اللباب: 1/205.
(3) الصاع الشرعي أو البغدادي 2751 غراماً.(3/570)
ولو ترك رمي الكل وهو الجمار الثلاث لزمه دم عند أبي حنيفة؛ لأن جنس الجناية واحد، حظرها إحرام واحد، فيكفيها دم واحد، كما لو حلق ربع رأسه، فإنه يجب عليه دم واحد، ولو حلق جميع رأسه يلزمه دم واحد أيضاً، وكذا لو طيب عضواً واحداً أو طيب أعضاءه كلها، أو لبس ثوباً واحداً أو لبس ثياباً كثيرة، لا يلزمه في ذلك كله إلا دم واحد.
فإذا ترك رمي الكل حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق وهو آخر أيام الرمي، يسقط عنه الرمي، وعليه دم واحد باتفاق الحنفية، لفوات وقته، وتعذر القضاء، وتركه الواجب عن وقته.
وقال المالكية (1) : إذا أخر رمي حصاة فأكثر من الجمار لليل أو ليوم بعده، وجب عليه دم، لخروج وقت الأداء وهو النهار، ودخول وقت القضاء.
ويقضي رمي جمرة العقبة أو اليوم الثاني أو الثالث قبل غروب شمس اليوم الرابع، سواء أخره لعذر أم لا، أو خالف ترتيب الجمرات، وعليه دم.
ويفوت الرمي بغروب الرابع، وعليه دم. ويلزم الدم أيضاً العاجز إذا استناب في الرمي، ويأثم أيضاً إذا لم يستنب لتقصيره، وعلى النائب دم ثان إن أخر الرمي لليل لغير عذر.
__________
(1) الشرح الصغير: 63/2، 68، الشرح الكبير مع الدسوقي: 47/2 ومابعدها.(3/571)
وقال الشافعية (1) : إذا ترك رمي يوم أو رمي جمرة العقبة يوم النحر، تداركه في باقي الأيام من أيام التشريق في الأظهر، عملاً بنص الحديث المبيح لتأخير الرمي للرعاء وأهل السقاية، وبالقياس عليهم في غيرهم، إذ لا فرق بين المعذور وغيره، كما في الوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة، ولا دم عليه إن تداركه لحصول الانجبار بالمأتي به، وإن لم يتداركه فعليه دم في رمي يوم أو يومين أو ثلاثة أو يوم النحر مع أيام التشريق، لاتحاد جنس الرمي، فأشبه حلق الرأس. والمذهب وجوب دم كامل في ترك ثلاث حصيات؛ لأن الثلاث أقل الجمع، كما لو أزال ثلاث شعرات متواليات، وروى البيهقي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال: «من ترك نسكاً فعليه دم» وفي ترك الحصاة الواحدة مدّ، وفي الثنتين مدّان.
وقال الحنابلة (2) : إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده، أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق، ترك السنة، ولا شيء عليه، كما قال الشافعية، إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني، ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق وقت للرمي، فإن أخره من أول وقته إلى آخره، لم يلزمه شيء، كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته، ولأنه وقت يجوز الرمي فيه، فجاز في آخره كاليوم الأول.
ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء وإنما هو أداء، مع ترك الأفضل؛ لأنه وقت واحد.
فإن ترك الرمي أو خالف ترتيب الجمرات، وجب دم.
وإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس، ولا ينقص أكثر من ذلك، قال ابن عمر: «ما أبالي رميت بست أو سبع» .
__________
(1) مغني المحتاج: 508/1 ومابعدها.
(2) المغني: 455/3 ومابعدها، غاية المنتهى: 410/1، 414، 415، 421.(3/572)
حكم المبيت بمنى: المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة سنة اتفاقاً، لكن للفقهاء رأىان في المبيت بمنى في ليالي التشريق: رأي أنه سنة، ورأي أنه واجب (1) .
أما الرأي الأول فهو للحنفية، فإنهم قالوا: المبيت بمنى ليلة الثامن من ذي الحجة سنة، وكذلك المبيت بمنى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة سنة أيضاً، فإن أقام بمنى لأجل الرمي فعل الأفضل، وإن تركه لا شيء عليه، ويكون مسيئاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية، كما أوضحت سابقاً.
وأما الرأي الثاني فهو للجمهور: وهو أن المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب، فمن تركه كان عليه دم عند المالكية والشافعية، وتفصيل رأي كل مذهب ما يأتي:
قال المالكية: المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر واجب، لكن رخص مالك جوازاً لراعي الإبل فقط بعد رمي العقبة يوم النحر أن ينصرف إلى رعيه، ويترك المبيت في هاتين الليلتين، ويأتي اليوم الثالث من أيام النحر، فيرمي لليومين، اليوم الثاني الذي فاته، وهو في رعيه، والثالث الذي حضر فيه، ثم إن شاء أقام لرمي الثالث من أيام الرمي.
وكذا رخص لصاحب السقاية في ترك المبيت خاصة، فلا بد من أن يأتي نهاراً للرمي، ثم ينصرف؛ لأن ذا السقاية ينزع الماء من زمزم ليلاً، ويفرغه في الحياض.
وقال الشافعية: المبيت بمنى ليلتي التشريق واجب اتباعاً للسنة مع خبر «خذوا عني مناسككم» والواجب معظم الليل، خلافاً للمبيت بمزدلفة الذي يكتفى فيه بساعة في النصف الثاني بمزدلفة، للتخفيف في أداء المناسك في تلك الليلة، فمن ترك المبيت في منى وجب عليه دم.
ويسقط مبيت منى ومزدلفة والدم عن المعذورين وهم الرِّعاء وأهل السقاية؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت بمنى، وقيس بمنى مزدلفة، ولأنه صلّى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى، لأجل السقاية، كما روى الشيخان.
__________
(1) فتح القدير:، اللباب: 183/2، الشرح الصغير وحاشيته: 65/2، مغني المحتاج: 505/1 ومابعدها، المغني: 449/3، الإيضاح: ص 66 ومابعدها.(3/573)
ويسقط مبيت منى ومزدلفة أيضاً عمن له عذرآخر كمن له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه أو مال معه أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يكون به مرض يشق معه المبيت أو نحو ذلك.
ويسقط مبيت مزدلفة لوانتهى ليلة العيد إلى عرفات، فاشتغل بالوقوف عن المبيت فيها، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون.
وقال الحنابلة: السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع، فصلى الظهر بمنى» (1) وقالت عائشة: «أفاض رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» (2) .
والمبيت بمنى ليالي منى واجب، لكن إن ترك المبيت بمنى، فلا شيء عليه كما قال الحنفية؛ لأن الشرع لم يرد فيه بشيء. وروي عن أحمد أيضاً: في الليالي الثلاث دم، لقول ابن عباس: «من ترك من نسكه شيئاً، أو نسيه فليهرق دماً» .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أبو داود.(3/574)
المطلب الثالث ـ الحلق أو التقصير:
هو إزالة شعر الرأس أو التقصير في حج أو عمرة في وقته.
وأبحث هنا وجوبه، مقدار الواجب، زمانه ومكانه، أثره المترتب عليه، حكم تأخيره عن زمانه ومكانه (1) .
أولاً ـ وجوب الحلق أو التقصير: رأى الجمهور: أن الحلق أو التقصير نسك واجب، لقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج:29/22] والتفث ـ كما قال ابن عمر: «حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك» ، ولما روى أنس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» (2) ، وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمُحلِّقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: وللمقصرين (3) » .
ورأى الشافعية: أن الحلق أو التقصير ركن في الحج والعمرة؛ لأنه نُسُك على المشهور؛ لأن الحلق أفضل من التقصير للذكر، والتفضيل إنما يقع في العبادات دون المباحات، وروى ابن حبان في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل من حلق رأسه، بكل شعرة سقطت: نور يوم القيامة» .
ولا حلق على المرأة بالاتفاق، وإنما عليها التقصير، فهو سنة المرأة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس على النساء الحلق، إنما على النساء التقصير» (4) وأخرج الترمذي عن علي حديث: «نهى أن تحلق المرأة رأسها» (5) وتقصيرها بأن تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة، لما روي عن عمر رضي الله عنه حينما قيل له: «كم تقصر المرأة؟ فقال: مثل هذه» ، وأشار إلى أنملته.
وليس على الحاج عند الحنفية إذا حلق أن يأخذ شيئاً من لحيته؛ لأن الواجب حلق الرأس بالنص وهو قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلِّقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح:27/48] وقال الشافعية: يسن أن يأخذ من شاربه أو لحيته شيئاً، ليكون قد وضع من شعره شيئاً لله تعالى.
والأصلع الذي لا شعر على رأسه يجب عند الحنفية أن يُمر الموسى على رأسه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم» (6) فصاحب الشعر يجب عليه إزالته، وإمرار الموسى على رأسه، فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر، فإذا عجز عن تحقيق الحلق، فلم يعجز عن التشبه بالحالقين.
__________
(1) البدائع: 140/2-142، بداية المجتهد: 340/1، الشرح الكبير: 46/2، الشرح الصغير: 59/2، 62، 73، مغني المحتاج: 502/1، 513، المغني: 434/3-439، غاية المنتهىِ: 412/1، القوانين الفقهية: ص 134، الإىضاح: ص 58، 63.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود (نيل الأوطار: 68/5) .
(3) متفق عليه (نيل الأوطار: 69/5) .
(4) رواه الدارقطني وأبو داود عن ابن عباس (نيل الأوطار: 70/5) .
(5) وروت عائشة مثله: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تحلق رأسها» .
(6) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، ولفظه: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به ... » .(3/575)
ويستحب عند الجمهور إمرار الموسى على رأس الأصلع، لقول ابن عمر: «من جاء يوم النحر، ولم يكن على رأسه شعر، أجرى الموسى على رأسه» .
ثانياً ـ مقدار الواجب:
الأفضل حلق جميع الرأس بالاتفاق، لقوله تعالى: {مُحَلِّقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح:27/48] فإن العرب تبدأ بالأهم والأفضل، ولحديث أبي هريرة المتقدم، الذي جعل فيه التقصير في المرتبة الثالثة بعد الحلق.
والرأس يقع على جميعه، فإن حلق بعض الرأس لم يجزه عند الحنفية أقل من الربع، وإن حلق ربع الرأس أجزأه مع الكراهة؛ لأن ربع الرأس يقوم مقام كله في القربات المتعلقة بالرأس، كمسح ربع الرأس في الوضوء، والكراهة لترك المسنون: وهو حلق جميع الرأس.
وأما تقدير التقصير: فهو عند المالكية والحنابلة بقدر الأنملة أو أزيد أو أنقص بيسير، والأنملة: رأس الأصبع من المفصل الأعلى.
وأوجب الحنفية ما يزيد على قدر الأنملة، حتى يحقق التقصير من جميع الشعر، ويتيقن من استيفاء قدر الواجب، فيخرج عن العهدة بيقين.
وقال الشافعية: أقل إزالة شعر الرأس أو التقصير: ثلاث شعرات، لقوله تعالى: {محلِّقين رؤوسكم} [الفتح:27/48] أي شعر رؤوسكم؛ لأن الرأس لا يحلق، والشعر جمع، وأقله ثلاث، أو أن يقدر لفظ الشعر منكراً فيكتفى في الوجوب بمسمى الجمع. ولو لم يكن هناك إلا شعرة وجب إزالتها.
والإزالة: إما حلقاً أو تقصيراً وإحراقاً أو نتفاً.
ومن لا شعر برأسه يستحب إمرار الموسى عليه، وعند الحنفية: يجب كما تقدم.(3/576)
ثالثاً ـ زمان الحلق ومكانه:
يرى أبو حنيفة: أن الحلق يختص بالزمان والمكان، فزمانه: أيام النحر، ومكانه الحرم، فلو أخر الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم، يجب عليه دم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم حلق في أيام النحر في الحرم، فصار فعله بياناً لمطلق الكتاب، ويجب عليه بتأخيره دم؛ لأن تأخير الواجب بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر.
وقال المالكية: لو أخر الحلق ولو سهواً لبلده، ولو قربت، فعليه دم.
أما لو أخر الحلق عن أيام الرمي الثلاثة بعد يوم النحر، ففي قول ضعيف عليه دم، والمقرر في المدونة ألا دم عليه، فإن حلق بمكة أيام التشريق، أو بعدها، أو حلق في الحل في أيام منى، فلا شيء عليه.
وقال الشافعية، والحنابلة في الراجح من الروايتين عندهم: يدخل وقت الرمي والذبح والحلق بنصف ليلة النحر، لكن السنة تقديم رمي، فنحر، فحلق، فطواف إفاضة.
والحلق والطواف والسعي لا آخر لوقتها، فلا دم على من أخر الحلق عن أيام منى أو قدمه على رمي، أو نحر أو طاف قبل رمي ولو كان عالماً، ودليلهم أن الله تعالى بيَّن أول وقت الحلق بقوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه} [البقرة:196/2] ،ولم يتبين آخره، فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي، ولأن الأصل عدم التأقيت، ويبقى الحاج محرماً حتى يأتي بما عليه من الحلق والطواف والسعي، لكن الأفضل فعلها يوم النحر، ويكره تأخيرها عن يوم النحر، ويكون تأخيرها عن أيام التشريق أو عن خروجه عن مكة أشد كراهة.(3/577)
رابعاً ـ الأثر المترتب على الحلق أو التقصير أو حكمه:
حكم الحلق أو التقصير: صيرورة المحرم حلالاً، فيحل له كل شيء إلا النساء عند الحنفية، أي إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق، حل له كل ما كان محظوراً بالإحرام إلا النساء، فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة، وعقد الزواج عند الجمهور غير الحنفية، ويحل له ماسواه، فإن حلق أو قصر ورمى العقبة، حل له عندهم كل شيء إلا النساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب، وكل شيء إلا النساء» (1) وفي لفظ «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، وحلق رأسه، فقد حل له كل شيء إلا النساء» (2) ، أي الوطء والمباشرة فيما دون الفرج.
وقال الشافعية والحنابلة: يحل كل شيء بالرمي والحلق إلا عقد النكاح (3) ، والوطء، والمباشرة فيما دون الفرج، لحديث: «إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» (4) .
وقال المالكية: يحل بالرمي والحلق كل شيء إلا النساء والصيد والطيب، ولا يحل شيء من هذه الأمور إلا بطواف الإفاضة.
ويقال للتحلل بعد الحلق: التحلل الأول، وبعد الطواف: التحلل الأكبر كما سنبين.
خامساً ـ حكم تأخير الحلق عن الزمان والمكان:
إذا أخر الحلق عن زمانه أو مكانه، وجب الدم عند أبي حنيفة، ويجب الدم عند المالكية فقط إذا رجع إلى بلده جاهلاً أو ناسياً، والراجح ألا يجب شيء بالتأخير عن أيام التشريق الثلاثة بعد يوم النحر، ما لم يرجع لبلده.
وقال الشافعية والحنابلة وأبو يوسف: لا يجب الدم بتأخير الحلق عن أيام الرمي، أو لما بعد العودة إلى البلد، كما تقدم.
__________
(1) رواه سعيد عن عائشة.
(2) رواه الأثرم وأبو داود، إلا أنه قال: هو ضعيف.
(3) وهذا على الأظهر عند الشافعية، كما رجح النووي رحمه الله.
(4) رواه النسائي بإسناد جيد.(3/578)
المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة:
ذكرت تفصيلاً سنن الحج والعمرة في كل مذهب، وأهم هذه السنن إجمالاً:
1ً - الغسل، والتطيب للإحرام، وركعتا الإحرام.
2ً - التلبية عقب الإحرام وبعد كل صلاة.
3ً - طواف القدوم عند الجمهور، وقال المالكية: إنه واجب.
4ً - ركعتا الطواف عند الشافعية والحنابلة، وأداؤها واجب عند الحنفية والمالكية.
5ً - المبيت بمنى ليلة يوم عرفة وأداء خمس صلوات بمنى يوم التروية، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، اتباعاً للسنة.
6ً - المبيت بالمزدلفة ليلة يوم النحر والإسفار بها قبل طلوع الشمس سنة عند الحنفية، وإنما الواجب عندهم الوقوف بالمزدلفة بعد الفجر، اتباعاً للسنة في حديث جابر المتقدم. وقال الحنابلة: المبيت واجب، وقال المالكية: الوجوب بمقدار حط الرحال، وقال الشافعية: يكفي في المبيت بالمزدلفة لحظة في النصف الثاني من الليل.
7ً - المبيت بمنى ليالي التشريق سنة عند الحنفية، واجب عند الأئمة الآخرين، لغير ذوي الأعذار، اتباعاً لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود.
8ً - التحصيب: وهو النزول بوادي المحصَّب بعد النفر من منى إلى مكة فيما بين الجبلين عن طريق مقبرة الحجون، سنة عند الحنفية والحنابلة، مستحب عند غيرهم، مع الاتفاق أنه ليس من المناسك التي يلزم فعلها.
ودليل السنية: قول أسامة بن زيد في حجة النبي صلّى الله عليه وسلم: «قلت: يا رسول الله، أين تنزل غداً؟ قال: هل ترك لنا عقيل منزلا ً؟» ثم قال: «نحن نازلون بخيف بني كنانة حيث قاسمت قريش على الكفر» (1) والخيف: هو المحصب أي الوادي.
ودليل الاستحباب حديث عائشة: «إنما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم المحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله، ومن شاء لم ينزله» (2) .
9ً - خطب الحج: هي خطبة واحدة بعد الظهر، إلا خطبة عرفة فهي خطبتان بعد الزوال قبل الصلاة. وللفقهاء رأيان في عدد خطب الحج (3) : رأي إنها ثلاثة،
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، والمقاسمة: هي تحالف قريش وبني كنانة على ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبايعوهم، ولا يؤوهم حتى يسلِّموا إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم (نيل الأوطار: 84/5) .
(2) متفق عليه (نيل الأوطار: 83/5 ومابعدها) .
(3) البدائع: 151/2 ومابعدها، الدر المختار: 236/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص133، الشرح الصغير: 54/2، مغني المحتاج: 495/1 وما بعدها، الإيضاح: ص 47، غاية المنتهى: 412/1، 315، المغني: 407/3، 445، 456، المحرر: 249/1.(3/579)
ورأي إنها أربعة. أما الرأي الأول فهو للحنفية والمالكية والحنابلة: أن الخطب ثلاثة:
الخطبة الأولى ـ في السابع من ذي الحجة: تسن هذه الخطبة في مكة عند الكعبة في سابع ذي الحجة بعد صلاة الظهر، وهي خطبة واحدة لا يجلس فيها بالاتفاق، وهي أول الخطب، يعلمهم فيها الإمام مناسك الحج.
وكون هذه الخطبة هي الأولى هو مذهب الجمهور، بدليل حديث ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم، خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم» (1) .
واعتبر الحنابلة خطبة يوم عرفة هي الأولى.
وإذا كان يوم التروية يوم جمعة، خرج بهم الإمام عند الشافعية قبل الفجر؛ لأن السفر يومها بعد الفجر وقبل الزوال حرام، وإذا كان يوم عرفة يوم جمعة، جاز خروج الحجاج بعد الفجر، ولم يصل النبي صلّى الله عليه وسلم الجمعة بعرفة، مع أنه قد ثبت في الصحيحين أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي صلّى الله عليه وسلم كان يوم جمعة.
وجاز الخروج مطلقاً يوم التروية وغيره عند الحنابلة، سواء قبل الفجر أم قبل الزوال، فإن شاء الحاج خرج، وإن شاء أقام حتى يصلي.
الخطبة الثانية ـ يوم عرفة:
وهي خطبتان خفيفتان بعرفات قبل الصلاة اتفاقاً، يجلس بينهما الخطيب كما في الجمعة، يعلمهم في الأولى المناسك من موضع الوقوف بعرفة ووقته والدفع
__________
(1) أخرجه البيهقي بإسناد جيد.(3/580)
من عرفات، ومبيتهم في المزدلفة، وأخذ الحصى لرمي الجمار، ويحثهم على إكثار الذكر والدعاء بالموقف، لحديث جابر المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك.
قال المالكية والشافعية: يبدأ المؤذن والإمام يخطب أو بعد فراغه من الخطبة، ويفرغ من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن، وقال الحنابلة: يأمر الإمام بالأذان بعد الخطبة.
ثم يصلي الإمام بالناس الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم، اتباعاً للسنة كما روى مسلم، وذلك بأذان واحد وإقامتين وقراءة سرية، دون أن يصلي بينهما شيئاً من السنن، ولا بعد أداء العصر في وقت الظهر عند الحنفية.
الخطبة الثالثة عند الشافعية وهي الثانية عند الحنابلة: يوم النحر (العيد) بمنى:
وهي خطبة واحدة، يعلم الإمام فيها الناس مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي، لما روى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، يعني بمنى» (1) .
وعن رافع بن عمرو المزني قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء، وعلى بعير عنه، والناس بين قائم وقاعد» (2) .
ولأن يوم النحر تكثر فيه أفعال الحج، ويحتاج الناس إلى تعلم أحكام ذلك، فكانت الخطبة محتاجاً إليها لأجل هذا الغرض، كيوم عرفة.
الخطبة الثالثة عند الجمهور، وهي الرابعة عند الشافعية: ثاني أيام منى:
وهي خطبة واحدة متفق عليها، يعلم الإمام فيها الناس حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم، لما روي عن رجلين من بني بكر قالا:
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) رواه أبو داود.(3/581)
«رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب بين أوساط أيام التشريق، ونحن عند راحلته» (1) ، ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم: كيف يتعجلون، وكيف يودعون، بخلاف اليوم الأول من أيام منى.
والخلاصة: إن الخطب أربعة عند الشافعية وهي خطبة السابع، وخطبة التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، ويوم العيد بمنى، وفي اليوم الحادي عشر: ثاني أيام التشريق بمنى.
وهي ثلاثة عندالحنابلة: يوم عرفة، ويوم النحر، وثاني أيام منى.
وكذلك هي ثلاثة عند الحنفية والمالكية: سابع ذي الحجة في المسجد الحرام، ويوم عرفة بعد الزوال قبل الصلاة، وفي اليوم الحادي عشر.
وكلها مفردة إلا خطبة يوم عرفة فهي خطبتان، ومتفق عليها كما يلاحظ.
المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة:
عرفنا أن أداء الحج والعمرة له حالات ثلاث: الإفراد، التمتع، القران (2) ، وبينت الأفضل منها في المذاهب في بحث أركان الحج والعمرة.
أولاً ـ كيفية الإفراد: الإفراد أن يحرم بالحج وحده، ثم لا يعتمر حتى يفرغ من حجه.
وكيفيته: أن يغتسل أو يتوضأ قبل الإحرام، والغسل أفضل منه، ويلبس ثوبين جديدين أوغسيلين إزاراً ورداء، ويتطيب، ويصلي ركعتي الإحرام، في غير وقت الكراهة، ويقول: (اللهم إني أريد الحج فيسِّره لي وتقبله مني) ، ثم يلبي عقب صلاته، ناوياً بتلبيته الحج، ويكثر من التلبية عقيب الصلوات، وفي الصعود والنزول والركوب ولقاء الرفقة، وبالأسحار.
فإذا لبى ناوياً فقد أحرم، فيمتنع عما نهى الله عنه من الرَّفث والفسوق والجدال (3) ، ولا يقتل صيداً ولا يشير إليه، ولا يدل عليه، ولا يلبس مخيطاً ولا خفاً، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، ولا يمس طيباً، ولا ينتف أو يقص شعراً ولا ظفراً.
ولا بأس أن يغتسل بغير صابون؛ لأنه نوع طيب، وله أن يستظل بالبيت والمظلة، وأن يشد في وسطه الهِمْيان (وهو ما يجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط) ومثله المنطقة.
فإذا دخل مكة ابتدأ بالمسجد الحرام بعد تأمين أمتعته، داخلاً ـ كماذكر الحنفية ـ من باب السلام خاشعاً متواضعاً، ملاحظاً عظمة البيت وشرفه، فإذا عاين البيت كبر الله تعالى وهلل ثلاثاً ودعا بما أحب، فإنه من أرجى مواضع الإجابة.
ثم يطوف غير المكي طواف القدوم؛ لأنه تحية البيت، مبتدئاً بالحجر الأسود، مستقبلاً له، مكبراً مهللاً (4) ، رافعاً يديه كرفعهما للصلاة، مستلماً له بباطن كفيه، ثم مقبِّلاً له إن استطاع من غير أن يؤذي مسلماً (5) ، ثم يدور حول الكعبة عن
__________
(1) رواه أبو داود، وروى الدارقطني مثله عن سرَّاء بنت نبهان.
(2) راجع فتح القدير: 134/2-224، اللباب شرح الكتاب: 179/1-199، القوانين الفقهية: ص 131-135، المهذب: 220/1-232، غاية المنتهى: 407/1-412.
(3) الرفث: الجماع، أو الكلام الفاحش، والفسوق: المعاصي: والجدال: الخصام مع الرفقة وغيرهم.
(4) يقول: (لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، فحينا ربنا بالسلام، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمدصلّى الله عليه وسلم) .
(5) يقول في أثناء الطواف: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) .(3/582)
يساره، ويطوف بالبيت سبعة أشواط، من وراء الحطيم (الحِجْر) ، ويستلم الحجَر والركن اليماني في كل شوط يمر بهما، ويختم الطواف بالاستلام كما ابتدأ به، ثم يصلي عند مقام إبراهيم أو حيث تيسر من المسجد، في وقت مباح غير مكروه.
وليس على أهل مكة طواف القدوم، وإذا لم يدخل المحرم مكة وتوجه إلى عرفات ووقف بها، سقط عنه طواف القدوم، ولا شيء عليه لتركه.
ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعاً، يصعد على كل منهما، ويستقبل البيت، مكبراً مهللاً، مصلياً على النبي صلّى الله عليه وسلم، داعياً الله تعالى بحاجته، ويرمل بين الميلين الأخضرين، مبتدئاً بالصفا، مختتماً بالمروة.
ثم يقيم بمكة محرماً، يطوف بالبيت كلما بدا له، ثم يخرج في ثامن ذي الحجة إلى منى، فيبيت فيها، ويصلي فيها خمس صلوات (الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) .(3/583)
وفي اليوم التاسع يتوجه إلى عرفات، فيصلي مع الإمام أو منفرداً في مسجد نمرة صلاة الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين جمع تقديم، مستمعاً للخطبة بأذان واحد وإقامتين. ويستحب أن يغتسل قبل الوقوف.
ثم يتوجه إلى الموقف، فيقف بقرب الجبل، وعرفات كلها موقف إلا بطن عُرَنة، وينبغي للإمام أن يقف بعرفة على راحلته، ويدعو، ويعلم الناس المناسك، ويستحب أن يجتهد في الدعاء. ومن أدرك الوقوف بعرفة ما بين زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحج. ومن مرَّ بعرفة وهو نائم أو مغمى عليه، أو لم يعلم أنها عرفة، أجزأه ذلك عند الحنفية عن الوقوف.
فإذا غربت الشمس، أفاض الإمام والناس معه على هينتهم على طريق المأزمين، حتى يأتوا المزدلفة، فينزلوا بها. والمستحب أن ينزل بقرب جبل قُزَح وهو المشعر الحرام. ويصلي الإمام بالناس المغرب والعشاء جمع تأخير مع قصر العشاء، بأذان واحد، وإقامة واحدة عند الحنفية، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد أن يصلي المغرب في الطريق إلى المزدلفة، وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر.
فإذا طلع الفجر يوم النحر، صلى الإمام بالناس الفجر بغَلَس لأجل الوقوف، ثم وقف بمزدلفة وجوباً عند الحنفية ولو لحظة، ووقته من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقف الناس معه، فدعا وكبر وهلل ولبى وصلى على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويلتقط حصى الرمي سبعين من المزدلفة.
والمزدلفة كلها موقف إلا بطن مُحَسِّر (وهو وادٍ بين منى ومزدلفة) .
ثم أفاض الإمام والناس معه قبل طلوع الشمس حتى يأتوا منى، فيرمي جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حَصَيات مثل حصى الخذف، ويكبر مع كل حصاة، ولا يقف عندها؛ لأنه لا رمي بعدها، ويقطع التلبية مع أول حصاة (1) ،إن رمى قبل الحلق، فإن حلق قبل الرمي قطع التلبية؛ لأنها لا تثبت مع التحلل.
__________
(1) هذا رأي الجمهور، وقال المالكية: تقطع التلبية بزوال الشمس من يوم عرفة.(3/584)
ثم يذبح تطوعاً إن أحب لأنه مفرد، ثم يحلق أو يقصر بمقدار الأنملة، والحلق أفضل من التقصير، فيحل له حينئذ كل شيء إلا النساء، وإلا الصيد والطيب عند المالكية.
ثم يأتي مكة يوم العيد أو بعده بيوم أو يومين، فيطوف طواف الزيارة (وهو طواف الفرض) سبعة أشواط، ثم يسعى بين الصفا والمروة، إن لم يكن سعى عقيب طواف القدوم، ويرمل الذكر في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، ويضطبع (1) فيه إن سعى الآن؛ لأن الرمل والاضطباع مشروعان في كل طواف بعده سعي.
ويكره تأخير الطواف عن الأيام الثلاثة (وهي يوم العيد ويومان بعده) ، فإن أخره عنها، لزمه دم عند أبي حنيفة.
ثم يعود إلى منى، فيقيم بها لأجل الرمي ووقته ما بعد الزوال من اليوم الثاني من أيام النحر، مبتدئاً برمي الجمرة التي تلي مسجد الخَيْف بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو؛ لأن بعده رمي، ثم يرمي الجمرة الوسطى، ويقف عندها ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة، ولكنه لا يقف عندها؛ لأنه ليس بعدها رمي.
ثم يرمي في اليوم الثالث الجمار الثلاث بعد زوال الشمس، وله أن يتعجل النفر إلى مكة بعدئذ أو يقيم لرمي الجمار الثلاث في اليوم الرابع بعد الزوال بعد طلوع الفجر. وينزل بالمُحَصَّب (2) عند نفره إلى مكة.
وإذا أراد الحاج مغادرة مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط لا يرمل فيها طواف الوداع أو الصَّدَر، وهو واجب عند الجمهور غير المالكية إلا على أهل مكة، ثم يعود إلى أهله، لفراغه من أعمال الحج.
والمرأة والخنثى المشكل في جميع ماسبق كالرجل، غير أنها لا تكشف رأسها، وتكشف وجهها، ولا ترفع صوتها بالتلبية، ولا ترمُل في الطواف،
__________
(1) الرمل: أن يسرع الطائف مشيه مقارباً خطاه، والاضطباع: جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويكشفه إن تيسر، ويلقي طرفيه على عاتقه الأيسر، ولا يسن ذلك في ركعتي الطواف لكراهته في الصلاة، ثم يعيده عند إرادة السعي.
(2) يقال له: الأبطح وخيف بن كنانة.(3/585)
ولاتهرول بين الميلين الأخضرين، ولا تحلق رأسها، ولكن تقصِّر، وتلبس المخيط والخفين. وإذا كانت حائضاً أو نفساء فعلت كل أفعال الحج غير الطواف بالبيت، فإنها تنتظر حتى تطهر.
وإن حاضت المرأة عند الإحرام اغتسلت وأحرمت، وإن حاضت بعد الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، انصرفت من مكة، ولا شيء عليها لترك طواف الصدر.
ثانياً ـ كيفية التمتع:
التمتع لغة: الانتفاع، وشرعاً عند الحنفية: الجمع بين إحرام العمرة وأفعالها، أو أكثرها، وإحرام الحج وأفعاله، في أشهر الحج، من غير إلمام صحيح بأهله.
والمتمتع نوعان عند الحنفية: متمتع يسوق الهدي، ومتمتع لا يسوق الهدي. وحكم الأول كالقارن إذا دخل مكة طاف وسعى، ولا يتحلل بعد العمرة، بل يظل محرماً، حتى يحرم بالحج يوم التروية، وينحر الهدي يوم النحر، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث جابر المتقدم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» فهذا يفيد أن التحلل لا يتأتى إلا بإفراد العمرة، وعدم سوق الهدي، ولو كان التحلل يجوز مع سوق الهدي لاكتفى بقوله: «لجعلتها عمرة» وتحللت (1) . وإذا أراد المتمتع أن يسوق الهدي، أحرم، وساق هديه.
وصفة التمتع: أن يبتدئ من الميقات، فيحرم بعمرة، ويدخل مكة، فيطوف للعمرة، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ويتحلل من عمرته بما فعل، ويقطع التلبية إذا ابتدأ بالطواف، ويقيم بمكة حلالاً.
فإذا كان يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) أحرم بالحج من المسجد الحرام ندباً، ويشترط أن يحرم من الحرم؛ لأن المتمتع في معنى المكي، وميقات المكي في الحج: الحرم، كما تقدم في المواقيت. ثم يفعل ما يفعله الحاج المنفرد.
والأفضل أن يقدم الإحرام قبل يوم التروية، لما فيه من المسارعة وزيادة المشقة.
__________
(1) فتح القدير: 214/2.(3/586)
وعليه دم التمتع (1) ، فإن لم يجد الدم، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، أي فرغ من أداء نسكه، ولو قبل وصوله إلى أهله.
فإذا حلق يوم النحر، فقد حل من الإحرامين جميعاً؛ لأن الحلق مُحلِّل في الحج كالسلام في الصلاة، فيتحلل به عنهما.
وليس لأهل مكة عند الجمهور تمتع ولا قران، وإنما لهم الإفراد خاصة، وقال الحنفية: يكره القران للمكي.
بطلان التمتع: يبطل تمتع المتمتع إذا عاد إلى بلده بعد فراغه من العمرة، ولم يكن ساق الهدي؛ لأنه ألم بأهله بين النسكين إلماماً صحيحاً. أما إذا كان قد ساق الهدي، فلا يكون إلمامه صحيحاً، ولا يبطل تمتعه عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه يجب عليه عند الأول، ويندب عند الثاني العود إلى الحرم لأجل الحلق؛ لأنه مقيد بالحرم، والعود يمنع صحة الإلمام.
أما القارن فلا يبطل قرانه بالعود إلى بلده باتفاق الحنفية. فيكون الفرق بين القران والتمتع عند الحنفية: هو أن التمتع يشترط فيه عدم الإلمام بأهله، والقران لايشترط فيه عدم الإلمام بأهله.
متى يكون المحرم بالعمرة قبل أشهر الحج متمتعاً؟ قال الحنفية: من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، فطاف لعمرته أقل من أربعة أشواط ثم لم يتمها حتى دخلت أشهر الحج، فتمَّمها في أشهره، وأحرم بالحج، كان متمتعاً؛ لأن الإحرام عندهم شرط لا ركن، فيصح تقديمه على أشهر الحج كما بينت، وإنما يعتبر أداء الأفعال في أشهر الحج، وقد وجد الأكثر، وللأكثر حكم الكل.
أما إن طاف لعمرته قبل أشهر الحج أربعة أشواط فصاعداً، ثم حج من عامه ذلك، لم يكن متمتعاً؛ لأنه أدى الأكثر قبل أشهر الحج، فصار كما إذا تحلل منها قبل أشهر الحج.
والحاصل أن الأكثر له حكم الكل عند الحنفية، فإذا حصل الأكثر قبل أشهر الحج، فكأنها حصلت كلها، والمتمتع: هو الذي يتم العمرة والحج في أشهر الحج.
__________
(1) وهو عند الحنفية دم شكر، فيأكل منه.(3/587)
ثالثاً ـ كيفية القران:
القران لغة: الجمع بين الشيئين مطلقاً، وشرعاً: الجمع بين إحرام العمرة والحج في سفر واحد.
وصفة القران: أن يهل بالعمرة والحج معاً من الميقات، إما حقيقة بنية الأمرين معاً، وإما حكماً عند الحنفية خلافاً لغيرهم: بأن أحرم بالعمرة أولاً، ثم بالحج قبل أن يطوف لها أكثر الطواف؛ لأن الجمع قد تحقق؛ لأن الأكثر منها قائم، ويصح العكس عند الجمهور: بأن يحرم بالحج، ثم يدخل العمرة عليه، لكنه مكروه عند الحنفية.
وإدخال الحج على العمرة عند الجمهور (غير الحنفية) يكون قبل شروع المحرم في الطواف، فإن شرع فيه ولو بخطوة، فلايجوز إدخال الحج على العمرة. ويلحق القران عند الحنفية التمتع إذاساق المتمتع الهدي، كما أوضحت، فلا يتحلل بعد العمرة، كما هو شأن المتمتع، بل يظل محرماً حتى ينحر الهدي يوم النحر.
ويقول القارن عقيب صلاة ركعتي الإحرام: (اللهم إني أريد الحج والعمرة، فيسرهما لي، وتقَّبلهما مني) لبيك اللهم لبيك ... إلخ.
فإذا دخل القارن مكة، طاف بالبيت سبعة أشواط، يرمل في الثلاث الأُول منها، ويسعى بعدها بين الصفا والمروة. وهذه أفعال العمرة.
ثم يشرع عند الحنفية بأفعال الحج كالمُفرِد، ويطوف بعد السعي المذكور طواف القدوم، ويطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى أيضاً بين الصفا والمروة كالمفرد، لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة:196/2] وتمامها أن يأتي بأفعالهما على الكمال، ولم يفرق بين القارن وغيره.
ويدل له أن صبيّ بن معبد لما طاف طوافين وسعى سعيين، قال له عمر: «هديت لسنة نبيك» (1) ، وقال علي في القارن: «إذا أهللت بالحج والعمرة، فطف لهما طوافين، واسع لهما سعيين بالصفا والمروة» . (2) .
وقال الجمهور (3) : يكفي للقارن طواف واحد وسعي واحد، لما روى الترمذي وصححه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد،
__________
(1) قال الزيلعي: هذا الحديث لم يقع هكذا، فقد أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الصبيّ بن معبد الثعلبي، قال: «أهللت بهما معا ً» ، فقال عمر: «هديت لسنة نبيك» (نصب الراية: 109/3) .
(2) رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار (نصب الراية: 111/3) .
(3) المغني: 456/3 ومابعدها، مغني المحتاج: 514/1.(3/588)
وسعي واحد، حتى يحل منهما جميعاً» (1) لكن يطوف القارن كالمفرد طواف القدوم قبل طواف الإفاضة، ويسعى بعده إن لم يكن سعى عقب طواف القدوم.
وقالت عائشة: « ... وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحدا» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم لعائشة لما جمعت بين الحج والعمرة: «يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك» (3) .
دم التمتع والقران: اتفق العلماء على أن المتمتع والقارن يلزمهما إذا أحرما بالحج الهدي (4) ، لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فما استيسر من الهدي} [البقرة:196/2] .
ودم القران والتمتع: دم شكر فيأكل منه صاحبه عند الحنفية، ولا يأكل منهما عند الشافعية. وإن لم يدخل القارن مكة، وتوجه إلى عرفات، فقد صار عند الحنفية رافضاً لعمرته بالوقوف، وسقط عنه دم القران، وعليه دم لرفضه عمرته، وهو دم جبر لا يجوز أكله منه، ووجب عليه قضاؤها؛ لأنه بشروعه فيها أوجبها على نفسه، ولم يوجد منه الأداء، فلزمه القضاء.
ويسقط عند الشافعية دم التمتع إن عاد لإحرام الحج إلى الميقات.
واختلف الفقهاء في وقت ذبح دم التمتع والقران (5) :
فقال الجمهور: يجب ذبح شاة أو بقرة أو بدنة أو سُبْع بدنة أيام النحر بمنى بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد وقبل الحلق؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم نحر هديه على هذه الصفة.
__________
(1) وأخرجه أيضاً ابن ماجه عن ابن عمر، ورواه أحمد بلفظ «من قرن بين حجة وعمرة، أجزأه بهما طواف واحد» (نصب الراية: 108/3) .
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم.
(3) أخرجه مسلم.
(4) المغني: 469/3، مغني المحتاج: 516/1.
(5) اللباب: 193/1، الشرح الصغير: 120/2، مغني المحتاج: 516/1، المغني: 475/3.(3/589)
وقال الشافعية: الأفضل الذبح يوم النحر للاتباع وخروجاً من خلاف الأئمة الثلاثة، لكن وقت وجوب الدم هو الإحرام بالحج؛ لأنه حينئذ يصير متمتعاً بالعمرة إلى الحج، والأصح جواز ذبحه إذا فرغ من العمرة. ويختص ذبح الهدي بالحرم، والقدرة على الذبح في الحرم أيضاً، سواء أقدر عليه في بلده أم في غيره أم لا.
فإن لم يجد هَدْياً يجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحج، آخرها يوم عرفة، ثم يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، وإن صامها بمكة بعد فراغه من الحج، جاز.
وللفقهاء آراء في وقت الصيام البديل عن الهدي عند العجز عنه، وفي تتابع الأيام وغير ذلك:
فقال الحنفية (1) : يجوز الصوم ولو كانت الأيام متفرقة، فلا يشترط تتابعها، ووقت صيام الأيام الثلاثة وقت أشهر الحج بعد الإحرام بالعمرة، لقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/2] أي في أشهره؛ لأن نفس الحج لا يصلح ظرفاً للصيام، لكن الأفضل أن يصوم قبل يوم التروية بيوم، ويجوز قبل يوم عرفة، فإن فاته صوم الأيام الثلاثة في أيام الحج، حتى جاء يوم النحر، لم يُجْزه إلا الدم؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، والآية خصت الصوم بوقت الحج، فمن تأخر عن الصيام إلى يوم النحر، تحلل، ولزمه دمان: دم التمتع ودم التحلل قبل نحر الهدي.
وله أن يصوم الأيام السبعة بعد تمام أيام الحج في أي مكان شاء، لقوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/2] أي فرغتم من أفعال الحج، لكن في غير أيام التشريق.
وجاز صوم الأيام الثلاثة قبل الشروع في أعمال الحج.
__________
(1) الدر المختار: 264/2 ومابعدها، اللباب: 193/1 ومابعدها.(3/590)
وقال المالكية (1) : تجب متابعة الأيام الثلاثة وكذا السبعة في الصوم، وصوم الثلاثة يكون في أيام الحج آخرها يوم عرفة. ومن جهل أو نسي، صام أيام منى الثلاثة. ويكون صوم السبعة بعد ذلك إن شاء تعجلها في طريقه لأهله، وإن شاء أخرها إلى بلده. ولا يجوز صوم الثلاثة قبل الشروع في أعمال الحج.
وقال الشافعية (2) : يندب تتابع صوم الثلاثة وكذا السبعة. ولو فاتته الثلاثة في الحج، فالأظهر أنه يلزمه قضاؤها؛ لأنه صوم مؤقت، فيقضى كصوم رمضان، ويلزمه أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة، بقدر أربعة أيام (يوم النحر وأيام التشريق) وبقدر إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة، كما في الأداء، فلو صام عشرة أيام ولاء، حصلت الثلاثة، ولا يعتد بالبقية لعدم التفريق.
والصوم يكون عند العجز عن الهدي حساً بأن فقده، وفقد ثمنه، أو للعجز عنه شرعاً بأن وجده بأكثر من ثمن مثله، أو كان محتاجاً إليه، أو إلى ثمنه أوغاب عنه ماله أو نحو ذلك.
ووقت صوم الأيام الثلاثة: بعد الإحرام بالحج، للآية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/2] فلا يجوز تقديمها على الإحرام بخلاف الدم؛ لأن الصوم عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة، والدم عبادة مالية فأشبه الزكاة.
وتستحب قبل يوم عرفة؛ لأن صومه في الحج مكروه، ويصوم بعد الثلاثة سبعة إذا رجع إلى وطنه وأهله في الأظهر، إن أراد الرجوع إليهم، لقوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة:196/2] ولقوله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 140، بداية المجتهد: 357/1.
(2) مغني المحتاج: 516/1 ومابعدها.(3/591)
«فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» (1) ،فلا يجوز صومها في الطريق لذلك. فإن أراد الإقامة بمكة، صامها بها.
وفصل الحنابلة رأيهم في الصوم فقالوا (2) : لا يجب التتابع في صوم الأيام. ولكل من صوم الثلاثة والسبعة وقتان: وقت جواز، ووقت استحباب.
فوقت الاستحباب أو الاختيار لصوم الثلاثة: هو أن يصومها ما بين إحرامه بالحج ويوم عرفة، ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة، للحاجة إلى الصوم في هذا الوقت، وإن كان صومه غير مستحب.
وأما وقت جواز صوم الثلاثة: فهو إذا أحرم بالعمرة، كما قال الحنفية، خلافاً للمالكية والشافعية القائلين بأنه لا يجوز الصوم إلا بعد الإحرام بالحج. ودليل الأولين: أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع، فجاز الصوم بعده كإحرام الحج كتقديم الكفارة على الحنث. ودليل الآخرين آية: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة:196/2] .
وأما وقت الاختيار لصوم السبعة: فهو إذا رجع إلى أهله، للآية والحديث المتقدمين. وأما وقت الجواز: فمنذ تمضي أيام التشريق سواء في الطريق أو بمكة كيف شاء؛ لأن كل صوم لزمه وجاز في وطنه، جاز قبل ذلك كسائر الفروض، وأما الآية {إذا رجعتم} [البقرة:196/2] فإن الله تعالى جوز له تأخير الصيام الواجب، فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله، كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله سبحانه: {فعدة من أيام أخر} [البقرة:184/2] ، ولأن الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه، فأجزأه كصوم المسافر والمريض.
__________
(1) رواه الشيخان عن ابن عمر.
(2) المغني: 476/3-478.(3/592)
وإذا لم يصم المتمتع الأيام الثلاثة في الحج، صامها بعد ذلك ولو في أيام منى، كما قال المالكية والشافعية خلافاً للحنفية؛ لأنه صوم واجب، فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان، والآية تدل على وجوبه لا على سقوطه، ويصح الصوم في أيام منى لقول عمر وعائشة: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لم يجد الهدي» (1) وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي صلّى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج، ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام، فيتعين الصوم فيها، فإذا صام هذه الأيام، فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر.
وإذا صام عشرة أيام، لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة، خلافاً للشافعية؛ لأنه صوم واجب في زمن يصح الصوم فيه، فلم يجب تفريقه، كسائر الصوم.
ووقت وجوب الصوم: وقت وجوب الهدي؛ لأن الصوم بدل، فكان وقت وجوبه وقت وجوب المبدل، كسائر الأبدال.
المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج:
اتفق الفقهاء على أن في الحج تحللين: تحلل أصغر أو أول، وتحلل أكبر أو ثاني، لكنهم اختلفوا فيما يباح بالتحلل الأول على النحو الآتي (2) :
أما التحلل الأول: فيحصل بفعل اثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة، ويحل به كل شيء إلا النساء أي جماعهن ودواعيه عند الحنفية والشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) رواه البخاري.
(2) البدائع: 159/2، الدر المختار: 250/2 ومابعدها، الشرح الصغير: 58/2-60، القوانين الفقهية: ص 138، المهذب: 230/1، مغني المحتاج: 505/1، غاية المنتهى: 412/1، المغني: 438/3 ومابعدها، كشاف القناع: 585/2.(3/593)
«إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» (1) فيبقى ما كان محرماً عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة، وكذا عقد النكاح عند الشافعية والحنابلة، ويحل له ما سواه، كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار.
ويحل بهذا التحلل عند المالكية كل شيء إلا النساء والصيد والطيب لقول عمر: «إذا رميتم الجمرة، وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء» (2) ولقول الله تعالى: {لاتقتلوا الصيد وأنتم حرم} [المائدة:95/5] وهذا حرام.
وأما التحلل الثاني أو الأكبر: فيحصل بفعل الشيء الثالث من الأشياء السابقة، فإذا كان قد رمى الجمرة وحلق، ثم طاف طواف الإفاضة، حل له كل شيء من المحرَّمات، وخرج عن إحرامه بالكلية بالإجماع، ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الرمي بالاتفاق، والمبيت بمنى عند الجمهور غير الحنفية، مع أنه غير محرم، كما أنه يخرج من الصلاة بالتسليمة الأولى، ويطلب منه التسليمة الثانية، لكن المطلوب في الحج على سبيل الوجوب، وفي الصلاة على سبيل الندب.
ويستحب تأخير الوطء عن باقي أيام الرمي ليزول عنه أثر الإحرام.
المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام أو ممنوعاته، ومباحاته:
المحظورات: هي ما يحرم على المحرم بحج أوعمرة حتى يحلق رأسه بمنى. وهي أنواع كثيرة ترجع إلى أصول أربعة: هي لبس المخيط، وترفيه البدن وتنظيفه، والصيد، والنساء.
وهي أيضاً نوعان: نوع لا يوجب فساد الحج وهي الأصول الثلاثة الأولى، ونوع يوجب فساد الحج وهو الجماع.
__________
(1) رواه سعيد بن منصور عن عائشة رضي الله عنها، ورواه الأثرم وأبو داود بلفظ «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حل له كل شيء إلا النساء» قال أبو داود، هذا حديث ضعيف (نصب الراية: 80/3-81) وأخرجه النسائي وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» .
(2) هذا منقطع، وقال عبد الله بن الزبير: «من سنة الحج: إذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء والطيب، حتى يزور البيت» رواه الحاكم وقال: على شرط الشيخين (نصب الراية: 81/3-82) .(3/594)
وتفصيل الكلام في هذه المحظورات وآراء الفقهاء فيها على النحو التالي (1) :
الأصل الأول ـ لبس المخيط: يختلف الحكم بحسب كون المحرم رجلاً أو امرأة.
أـ أما الرجل: فيحرم عليه بمجرد الإحرام ستر جميع رأسه أو بعضه بكل ما يعد ساتراً، سواء أكان مخيطاً أم غيره، فلا يجوز أن يضع على رأسه ووجهه عمامة ولا خرقة ولا قلنسوة، ولا يغطيه بثوب وإن بدت البشرة من ورائه، ولا يعصبه بعصابة ونحوها، لخبر الصحيحين: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر عن بعيره ميتاً: لا تختمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (2) . وذلك كله إلا لحاجة كمداواة أو حر أو برد، فيجوز التغطية، وتجب الفدية.
أما ما لا يعد ساتراً فلا بأس به، مثل أن يتوسد عمامة أو وسادة أو ينغمس في ماء أو يستظل بمحمل أو نحوه. ولا يضر وضع يده على رأسه ولو طال، ولا يضر شد خيط عليه لصداع أو غيره. ولو وضع على رأسه حملاً أو زنبيلاً ونحوه، كره، ولا يحرم في الأصح عند الشافعية. ويجوز الاستظلال بمظلة أو بيت أو سيارة أو شجر أو خيمة.
ومنع الحنابلة من الاستظلال بمحمل ونحوه، وبنحو ثوب، ويجوز لعذر ويفدي.
ويحرم أيضاً ستر الوجه وباقي الجسد بغير إزار ورداء، فلا يلبس جبة ولا قميصاً ولا سراويل ولا
__________
(1) البدائع: 183/2-206، 216-219، القوانين الفقهية: ص 136-138، الشرح الصغير: 74/2-110، الإيضاح: ص 23-31، مغني المحتاج: 518/1-524، المهذب: 204/1-212، المغني: 295/3-344، كشاف القناع: 491/2-510، غاية المنتهى: 373/1-382.
(2) رواه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس (نيل الأوطار: 8/5) .(3/595)
خفاً ولا نعلاً مخيطاً، وإنما يلبس نعلاً (1) غير مخيطة أو قبقاباً ونحوه بحيث يظهر أغلب الأصابع، فإن لم يجدها أو لم يجد ثمنها فليلبس السراويل إذا لم يجد الإزار، والخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين في رأي الحنفية والمالكية. وقال الحنابلة في المشهور والشافعية: لا يلزمه قطع الخفين.
ودليل جواز لبس السراويل والخفين عند العذر: ما رواه ابن عباس قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل» (2) ولا فدية عليه في لبسهما عند الحنابلة والشافعية وعليه الفدية عند الحنفية والمالكية لحديث ابن عمر: «أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يلبس القميص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسَّه الزعفران ولا الورس» (3) .
__________
(1) وهو ما يكون مفتوحاً من قدام، أما الحذاء أو الخف الذي له حاجز يستر مقدم الرجل فلايجوز.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.(3/596)
ودليل الحنابلة والشافعية على عدم لزوم قطع الخفين (1) : حديث ابن عباس السابق: «من لم يجد نعلين، فليلبس خفين» وهو متأخر عن حديث ابن عمر المتقدم، لكونه في خطبة عرفات، فيكون ناسخاً له؛ لأنه لو كان القطع واجباً لبينه للناس، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، والمفهوم من إطلاق لبسِهما لبسُهما على حالهما من غير قطع، والأولى قطعهما عملاً بالحديث الصحيح، وخروجاً من الخلاف وأخذاً بالاحتياط.
ودليل الحنابلة على إسقاط الفدية بلبس السراويل والخفين: خبر ابن عباس أيضاً، لأنه أمر بلبسه، ولم يذكر فدية.
وضابط ما يحرم لبسه: هو الملبوس والمعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به، إما بخياطة، وإما بغير خياطة، فيشمل القميص والسراويل والجبة والقباء والخف، والقميص المنسوج غير المخيط، والدرع والجورب والملزق بعضه ببعض، والمعقود في سائر أجزاء بدنه.
والأصح عند الشافعية تحريم المداس: وهو الذي لا يستر الكعبين ويستر مقدم الرِجْل.
والمعتبر في اللبس: العادة في كل ملبوس، إذ به يحصل الترفه، فلو ارتدى بالقميص أو القباء أو التحف بهما أو اتزر بالسراويل فلا بأس ولا فدية. ولو ألقى على جسده قَباء (2) أو عباءة وكان بحيث لو قام أو قعد، لم يستمسك عليه إلا بمزيد عناية، لم تلزمه الفدية، فله أن يجعل المخيط على ظهره من غير لباس، ملتحفاً به أو مرتدياً. ويمنع عند المالكية غير المخيط إذا كان فيه رفاهية كجلد حيوان مسلوخ.
__________
(1) بناء عليه: يجوز لبس الحذاء الحالي (الجزمة أو الصَّباط) إن قطعه من الأمام من أعلى الأصابع، لا من مؤخرته من الوراء لأن الحذاء لا يستر عادة الكعبين، فتحقق قطع الخفين أسفل من الكعبين، ولا فدية حينئذ اتفاقاً.
(2) كساء منفرج من أمام يلبس فوق الثياب.(3/597)
ولا يجوز عند الشافعية عقد الرداء ولا أن يزره ولا يخله بخلال أو مسلة ولا يربط خيطاً في طرفه، ثم يربطه في طرفه الآخر، فلو زرَّ الإزار أو خاطه، حرم ولزمه الفدية. وله أن يعقد إزاره لستر العورة، لا رداءه، وله أن يغرز طرف ردائه في إزاره. وقال الحنفية: يكره أن يخلل الإزار بالخلال وأن يعقد الإزار.
وله عند الشافعية والحنفية والحنابلة أن يتقلد السيف للحاجة (1) ، ويشد على وسطه الهِمْيان (2) والمِنْطقة، ويلبس الخاتم والساعة.
ولا يلبس ثوباً مصبوغاً بوَرْس (3) ولا زعفران ولا عُصْفُر (4) ، للحديث الصحيح: «ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» .
ومن أحرم وعليه قميص، فنزعه في الحال فلا فدية عليه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب: «أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» (5) فلم يأمر الرجل بفدية، أما إن استدام اللبس بعد إمكان نزعه، فعليه الفدية؛ لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر الرجل بنزع جبته (6) .
__________
(1) روى البخاري وأحمد عن البراء وعن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم اتفق مع أهل مكة في عمرة القضاء ألا يحمل سلاحاً عليهم إلا السيوف (نيل الأوطار: 9/5) .
(2) وهو ما يجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط. والمنطقة: حزام يجعل كالكيس يوضع فيه الدراهم.
(3) الورس: نبت أصفر يزرع في اليمن، ويصبغ به، ويطيب به الطعام.
(4) لأن لها رائحة طيبة.
(5) متفق عليه.
(6) قال ابن قدامة الحنبلي: وإنما لم يأمره بفدية لما مضى، فيما نرى، لأنه كان جاهلاً بالتحريم، فجرى مجرى الناسي.(3/598)
ب ـ وأما المرأة: فتستر بالمخيط رأسها وسائر بدنها سوى الوجه، فالوجه في حقها كرأس الرجل، وإحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته في إحرامها، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه باتفاق العلماء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولا تنتقب المرأة ولاتلبس القفازين» (1) وقوله: «إحرام المرأة في وجهها» .
لكن قال الحنابلة: ولا خلاف في أن المرأة إذا احتاجت أحياناً إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها (2) . لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» (3) ، ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة.
وأباح المالكية للمرأة ستر وجهها عند الفتنة بلا غرز للساتر بإبرة ونحوها، وبلا ربط له برأسها، بل المطلوب سدله على رأسها ووجهها، أو تجعله كاللثام وتلقي طرفيه على رأسها بلا غرز ولا ربط (4) .
وأجاز الشافعية والحنفية (5) ذلك بوجود حاجز عن الوجه فقالوا: للمرأة أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة من حر أو برد أو خوف فتنة ونحوها، أو لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها ورفعته في الحال، فلا فدية. وإن كان عمداً وقعت بغير اختيارها فاستدامت، لزمتها الفدية. وقال الشافعية: وإن ستر الخنثى المشكل وجهه فقط أو رأسه فقط، فلا فدية عليه، وإن سترهما معاً، لزمته الفدية. والصحيح عند الشافعية ألا فدية على المرأة إن اختضبت ولفت على يدها خرقة أو لفتها بلا خضاب.
ويحرم على الرجل لبس القفازين في يده، ويحرم ذلك أيضاً على المرأة، على الأصح عند الشافعية، ويلزمهما بلبسه الفدية.
لبس المعذور: يلاحظ أن تحريم اللبس والستر هو إذا لم يكن عذر، فإذا لبس أو ستر شيئاً مما يجب كشفه، أثم ولزمته الفدية. أما المعذور الذي يحتاج لستر رأسه أو لبس المخيط لحر أو برد أو مداواة أو نحوها، أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها، فيجوز له وعليه الفدية.
والخلاصة: يحرم على الرجل لبس ما يحيط بالبدن أو الكف أو أي عضو إلا الخاتم والمنطقة والساعة ونحوها، وحكم المرأة في ذلك كله كالرجل إلا في ثلاثة أمور تجوز لها السترة وهي لبس المخيط والخفين وتغطية رأسها.
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) المغني: 325/3-326.
(3) رواه أبو داود والأثرم.
(4) الشرح الصغير: 75/2.
(5) الإيضاح: ص 24، البدائع: 186/2.(3/599)
الأصل الثاني ـ ترفيه البدن بالطيب وإزالة الشعر وتقليم الظفر ونحوهما مما يجري مجرى الطيب:
أما الطيب: فيحرم على المحرم استعماله في ثوب أو بدن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولايلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» والورس طيب. وكذا يحرم عند الشافعية دهن الرأس أو اللحية ولو من امرأة، ولو كان الدهن غير مطيب كزيت وشمع مذاب، لما فيه من التزين المنافي لحال المحرم فإنه أشعث أغبر، كما ورد في الخبر: «المحرم: الأشعث الأغبر» (1) ولقوله صلّى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصت به ناقته: «لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيباً» فإن تطيب أو ادهن فعليه فدية.
وقال أبو حنيفة: لو ادهن بدهن مطيب كدهن البنفسج والورد والزئبق، فعليه دم إذا بلغ عضواً كاملاً، وكذا لو ادهن بغير مطيب كالزيت والشيرج.
وضابط حرمة الطيب عند الحنفية: هو مس الطيب بحيث يلزَق شيء منه بثوبه أو بدنه كاستعمال ماء الورد والمسك وغيرهما.
ولابأس عند الحنفية أن يغتسل المحرم ويدخل الحمام لأنه طهارة، فلا يمنع منها، وله أن يكتحل؛ لأن الكحل ليس له رائحة طيبة، فلا يكون طيباً، ولكن لا يغسل رأسه ولا لحيته بالخِطمي؛ لأنه نوع طيب، ولأنه يقتل هوام الرأس.
__________
(1) أخرج الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر قال: «قام رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: من الحاج؟ فقال: الشعث التفل» .(3/600)
وضابط حرمة الطيب عند المالكية كالحنفية: هو مس الطيب، ويكره شمه بلا مسّ له ولا يدهن مطلقاً بطيب لغير علة، وإلا جاز؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولابدهن غير مطيب، ولا يكتحل إلا من ضرورة، فيكتحل بما لا طيب فيه، ولا يأكل طعاماً فيه طيب لم تمسه النار، ولا يصحب طيباً فيكره، ولا يستديم شمه فيكره. ولا يدخل الحمام للتنظيف، ويجوز للتبرد أو الجنابة، وعليه الفدية كالشافعية وأبي حنيفة بدهن شيء من جسده أو شعره بدهن ولو بغير مطيب لغير ضرورة كعلة مرضية، فإن وجدت علة جاز الادهان ببطن كف أو بطن رجل ولا فدية اتفاقاً، وهناك قولان بالفدية وعدمها في دهن ظاهر الجسد (1) .
ورأي الشافعية كالحنفية والمالكية في الاستعمال المحرم للطيب: وهو أن يلصق الطيب ببدنه أو ثوبه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب، فلو طيب جزءاً من بدنه بمسك أو نحوه لزمته الفدية، سواء في ظاهر البدن أو باطنه، بأن أكله أو احتقن به أو استعط. ولا يحرم أن يجلس في حانوت عطار أو موضع يبخر أو عند الكعبة وهي تبخر. ويكره في الأصح قصد اشتمام الرائحة. ولا فدية في الأصح إن مس طيباً فلم يعلق به شيء من عينه (ذات الطيب) ولو شم الورد فقد تطيب، ولوشم ماء الورد فليس متطيباً. ولو حمل مسكاً في زجاجة مغلقة، أو خرقة مشدودة أو كيس، فلا إثم عليه ولافدية، وإن وجد رائحته.
وتحريم استعمال الطيب هو في حالة القصد، فإن تطيب ناسياً لإحرامه أو جاهلاً بتحريم الطيب أو مكرهاً، فلا إثم ولا فدية. وكذا لا إثم ولا فدية إذا جهل كون المستعمل طيباً، والأظهر عدم وجوب الفدية لو مس طيباً يظنه يابساً لا يعلق منه شيء، فكان رطباً.
ومتى ألصق طيباً ببدنه أو ثوبه على وجه يقتضي التحريم، عصى ولزمه الفدية، ووجب عليه المبادرة إلى إزالته.
__________
(1) الشرح الكبير: 59/2-61.(3/601)
وإن استهلك الطيب في المخالط له بأن لم يبق له ريح ولا طعم ولا لون، كأن استعمل في دواء وأكله، جاز ولا فدية، فإن بقيت له رائحة في المستهلك فدى، ويجوز أكل ما فيه ريح طيبة كالتفاح والأترج. وإن بقي اللون دون الرائحة والطعم لم يحرم الدهن المستهلك على الأصح.
ويحرم كما بينت عندهم دهن شعر الرأس واللحية بكل دهن، سواء أكان مطيباً أم غير مطيب كالزيت والسمن ودهن الجوز واللوز. ولا بأس أن يدهن الأقرع رأسه، أو يدهن الأمرد ذقنه. ويجوز استعمال هذا الدهن في جميع البدن سوى الرأس واللحية، ولو شعرة أو بعضها، وبقية شعور الوجه كاللحية على المعتمد.
ولا يكره عند الشافعية غسل البدن والرأس بخطمي ونحوه كسدر وصابون من غير نتف، والأولى تركه، وترك الاكتحال الذي لا طيب فيه. والمعتمد عندهم كراهة ترجيل (تسريح) الشعر، وحك الشعر بالظفر.
وتشدد الحنابلة فقالوا: يحرم تعمد الطيب مساً وشماً واستعمالاً، فمتى طيب محرم ثوبه أو بدنه، أو استعمل في أكل أو شرب أو ادهان أواكتحال أو استعاط أو احتقان طيباً يظهر طعمه أو ريحه، أو قصد شم دهن مطيب أو مسك أو عنبر أو زعفران أو ورس أو بخور عود أو نحوه، أو ما ينبته آدمي لطيب ويتخذ منه كورد وبنفسج ومنثور وياسمين وزنبق، وشمه أو مس ما يعلق به كماء ورد، حرم وعليه الفدية.
ولا يحرم إن شم بلا قصد، أو مس ما لا يعلق بالجسد كقطع المسك، أو شم الفواكه أو النباتات الصحراوية كالخزامى والقيصوم والنرجس والإذخر، أو ما ينبته آدمي لا بقصد طيب كحناء وعصفر وقرنفل، أو ادهن للحاجة بغير مطيب كزيت وشيرج، ولو في رأسه أو بدنه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعله (1) ، أو شم بلا قصد بسبب الجلوس عند عطار. وإذا تطيب ناسياً أو عامداً لزمه إزالته بما أمكن من الماء وغيره من المائعات. ولا يضر بقاء اللون دون الرائحة والطعم من الدهن المطيب في أكل أو شرب، لذهاب المقصود.
وللمحرم غسل رأسه وبدنه في حمام وغيره، بلا تسريح؛ لأن تسريحه تعريض لقطع الشعر، وله مع الكراهة الغسل بسدر وخطمي ونحوهما كصابون وأشنان. وله غسل ثياب الإحرام.
والخلاصة: تحريم مسّ الطيب بالاتفاق، وكذا قصد شمه عند الحنابلة، ويكره عند غيرهم، وتحريم الادهان بالزيوت مطلقاً عند أبي حنيفة والمالكية، وبالدهن
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث ابن عمر مرفوعاً، وهو ضعيف.(3/602)
المطيب عند الحنابلة، دون غير المطيب، ودهن الشعر والرأس فقط مطلقاً عند الشافعية ولو بغير مطيب. ويجوز الاغتسال ولو بالصابون عند الشافعية والحنابلة، ولا يجوز بالصابون ونحوه عند الحنفية، ويغتسل عند المالكية للتبرد لا للتنظيف.
وأما إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بالحلق أو النتف وتقليم الأظفار: فحرام بالاتفاق لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة:196/2] وقيس سائر البدن على الرأس؛ لأنه في معناه، إذ حلقه يؤذن بالرفاهية، وهو ينافي الإحرام، والمحرم أشعث أغبر. وقيس النتف والقلع على الحلق؛ لأنهما في معناه، وإنما عبر النص بالحلق لأنه الغالب.
فلا يقلم أظفاره ولا ينتف إبطه ولا يحلق عانته ولا شاربه وغيرهما من شعور البدن، ولا يقص شعره وشعر غيره، ولا يزيل الشعث والوسخ، ولا يطرح التفث (وهو الظفر المنكسر والشعر المنتوف وشبهه) ولا يقتل قملة ولا برغوثاً ولا يطرحهما عن نفسه، ولا يطرح القراد عن دابته، ولا يحك ما لا يراه من بدنه حكاً عنيفاً لئلا يكون فيه قملة فتقع، وذلك كله بغير عذر، فإن كان بعذر فلا إثم.(3/603)
أما الفدية ففيها تفصيل آراء الفقهاء:
قال الحنفية: إن حلق رأسه أو ربع رأسه أو ثلثه من غير عذر، فعليه دم لا يجزئه غيره؛ لأنه ارتفاق كامل من غير ضرورة، وإن حلقه لعذر، فعليه أحد الأشياء الثلاثة، لقوله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً أوبه أذى من رأسه، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/2] . وإن حلق دون الربع فعليه الصدقة عند أبي حنيفة.
وإن حلق شاربه فعليه صدقة؛ لأن الشارب تبع للحية. وإذا نتف أحد الإبطين أو كليهما فعليه كفارة واحدة وهو الدم. وإذا قلم ظفراً عليه نصف صاع لكل ظفر، وإن قلم أظافير يد أو أو رجل من غير عذر وضرورة، فعليه دم؛ لأنه ارتفاق كامل، فتكاملت الجناية، فتجب كفارة كاملة. ويجب الجزاء بالحلق والتقليم العمد والسهو والطوع والكره.
وقال المالكية: في إزالة الشعر والظفر الواحد والشعرات الأظفار العشرة لغير إماطة الأذى: حفنة من طعام، وفي قتل القَمْلة والقَملات إلى العشرة أو طرحها بلا قتل لا لإماطة الأذى حفنة من طعام يعطيها لفقير، فإن زاد عن العشرة ففدية تلزمه.
ولا شيء في طرح بُرْغوث ونحوه من كل ما يعيش بالأرض كدود ونمل وبعوض وقراد، إذا لم يقتله، ولا شيء في دخول حمام ولو طال مكثه فيه، إلا أن يزيل الوسخ عن جسده، فتلزمه الفدية حينئذ.
ولا يحرم إزالة ما تحت أظفاره وغسل يديه بمزيل الوسخ كالأشنان. ولا شيء بتساقط شعر من لحية أو رأس أو غيرهما بسبب وضوء أو غسل.
والأظهر عند الشافعية أن في الشعرة الواحدة مد طعام، وفي الشعرتين مدين، وتكمل الفدية في ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار، ولو كان ناسياً أوجاهلاً على الأصح، ولو بواسطة كحجامة وحك بنحو ظفر وتحريك رجل راكب على برذعة أو قتَب، وامتشاط، فيحرم ذلك إن علم إزالة الشعر به. وتجب الفدية، وإلا فيكره ولا فدية. ومنع الحنفية والمالكية الامتشاط مطلقاً.(3/604)
وللمعذور في الحلق لإيذاء أو وسخ أو حر أو جراحة أو نحو ذلك أن يحلق ويفدي، لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه، ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة:196/2] ، وفي الصحيحين عن كعب بن عُجْرة قال: «فيَّ نزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: ادن فدنوت، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال ابن عوف: وأظنه قال: نعم، قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك» (1) .
ولكن يجوز قلع شعرة نبتت داخل جفنه وتأذى بها، ولا فدية، وكذا يجوز قطع شعر حاجبه أو رأسه إذا غطى عينه، ولا فدية، وكذا قطع ما انكسر من ظفره وتأذى به، ولا يقطع معه من الصحيح شيئاً.
والمعتمد كراهة ترجيل (تسريح الشعر) وحك الشعر بالظفر، ولا يكره كما بينت غسل بدنه ورأسه بخطمي وسدر من غير نتف شعر؛ لأن ذلك ليس للتزين، بل لإزالة الوسخ، لكن الأولى تركه، وللمحرم الاحتجام والفصد ما لم يقطع بهما شعراً، والأولى ترك الاكتحال الذي لا طيب فيه، وأما ما فيه طيب فهو حرام. ولا شيء بسقوط الشعر وحده دون نتف أو إزالة أو حك بنحو ظفر أو أثناء حجامة أو امتشاط.
وقال الحنابلة كالشافعية: يجب إطعام مسكين فيما دون ثلاث من شعر أو ظفر، وتجب الفدية في ثلاث منها أو في التطيب واللبس، ولو في أثناء التمشيط أو تخليل اللحية، أو كان ناسياً أو مكرهاً. ويباح حك بدنه برفق بلا قطع شعره.
ولا فدية إن تفلى أو قتل قملاً، فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملاً كثيراً، ولم يجب عليه لذلك شيء، وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر، ولأن القمل لا قيمة له، فأشبه البعوض والبراغيث، ولأنه ليس بصيد ولا هو مأكول. وله قلم الظفر إذا انكسر بقدر المنكسر من غير فدية تلزمه، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر، ولأن
__________
(1) نيل الأوطار: 11/5.(3/605)
ما انكسر يؤذيه ويؤلمه، فأشبه الشعر النابت في عينه، والصيد الصائل عليه. فإن قص أكثر مما انكسر فعليه الفدية لذلك الزائد.
ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء كإزالة شعث أو تسوية شعر أو شيء من الزينة، لحديث «إن المحرم الأشعث الأغبر» وفي حديث آخر: «إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته، فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي قد أتوني شعثاً غبراً ضاحين» أو كما جاء لفظ الحديث. ولافدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال، وإنما ذلك أدب لا شيء على تاركه. وله النظر في المرآة لحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعر نبت في جفنه ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله. والخلاصة: يكره النظر لزينة، ويجوز لحاجة.
الأصل الثالث ـ النساء:
وهذا يشمل أمرين: عقد الزواج، والجماع ومقدماته.
أما عقد الزواج: فيحرم ولا يصح عند الجمهور إلا في حق النبي صلّى الله عليه وسلم ـ إن ثبت تزوجه ميمونة وهو محرم ـ ولا فدية فيه، فلا يتزوج المحرم ولو بوكيل غير محرم، ولا يزوج بولاية أو وكالة، فإن فعل فالزواج باطل. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يَنْكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب» (1) ، ولأن الإحرام يحرم الطيب، فيحرم النكاح كالعدة. ومتى تزوج المحرم أو زوج، أو زُوِّجت محرمة، فالنكاح باطل؛ لأنه منهي عنه.
وتكره الخطبة للمحرم، وخطبة المحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب لحلال (غير محرم) ، للحديث السابق «ولا يخطب» ولأنه تسبب إلى الحرام، فأشبه الإشارة إلى الصيد.
والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات؛ لأن حكمه باق في وجوب ما يجب في الإحرام، فكذلك ما يحرم به.
__________
(1) رواه مسلم.(3/606)
وأجاز الحنفية الزواج والخطبة للمحرم، لما روى ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» (1) . ورد الجمهور بحديث ميمونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً، وبنى بها حلالاً، وماتت بسَرف في الظلة التي بنى بها فيها» (2) وبحديث أبي رافع قال: «تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما» (3) وميمونة وأبو رافع أعلم بذلك من ابن عباس، وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيراً، فكيف وقد كان صغيراً لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف عليها، وقد أنكر عليه هذا القول، وقال سعيد بن المسيب: «وَهِم ابن عباس، ما تزوجها النبي صلّى الله عليه وسلم إلا حلالاً» . ثم إن حديث «لا ينكح المحرم ... » قول، فيقدم على الفعل المروي عن ابن عباس، وهو آكد، لأن الفعل يحتمل أن يكون مختصاً بما فعله عليه السلام.
وأما الجماع ومقدماته: فيحرم بالاتفاق ولو لبهيمة، ويحرم على المرأة الحلال تمكين زوجها المحرم من الجماع؛ لأنه إعانة على معصية، ويحرم على الرجل الحلال جماع زوجته المحرمة.
وبناء عليه: يحرم على المحرم الوطء في الفرج، ومقدمات الجماع من تقبيل ولمس بشهوة ومباشرة وجماع فيما دون الفرج، لقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة:197/2] والرفث: ما يكنى به عن الجماع وجميع حاجات الرجال إلى النساء.
ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه الله عنه في هذه الآية من الرفث (الجماع) والفسوق وهو السباب، والجدال: وهو المراء والمجادلة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أبو داود والأثرم.
(3) قال الترمذي: هذا حديث حسن، وميمونة أعلم بنفسها، وأبو رافع صاحب القصة، وهو السفير فيها.(3/607)