وتتم الصلاة بالإيماء بالركوع والسجود، إلى أي جهة توجهت دابته للضرورة، ولا يشترط استقبال القبلة في الابتداء كما ذكرت، لأنه لما جازت الصلاة إلى غير جهة الكعبة، جاز الافتتاح إلى غير جهتها.
وظاهر المذهب والأصح: أنه تصح الصلاة ولو كان على سرج الدابة أو ركابها نجس كثير.
وقال المالكية (1) : يجوز للمسافر الراكب في السفر الذي يخاف إن نزل لصاً أو سبعاً أن يتنفل بالصلاة ولو بوتر، على الدابة إلى القبلة وغيرها بحسب اتجاه الدابة، ولو كان بمَحْمِل (وهو ما يركب فيه من مِحَفَّة (2) أو هَوْدَج ونحوهما مما يجلس فيه) ويصلي فيه متربعاً.
والراكب يصلي بالإيماء، فيومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يتكلم ولا يلتفت، ولا يشترط طهارة الأرض.
واشترطوا لجواز التنفل صوب السفر شروطاً:
1ً - أن يكون السفر طويلاً سفر قصر (98 كم) ومشروعاً، فلا يتنفل العاصي بسفره.
2ً - وأن يكون راكباً لا ماشياً ولا جالساً. أما الراكب في السفينة فيصلي إلى القبلة، فإن دارت السفينة استدار.
3ً - وأن يكون راكب دابة من حمار أو بغل أو فرس أوبعير، لا سفينة أو راجل.
4ً- وأن يكون ركوبه لها على الوجه المعتاد، لا مقلوباً، أو جاعلاً رجليه معاً لجنب واحد.
ولا تصح صلاة فرض على ظهر الدابة، وإن كان المصلي مستقبلاً القبلة إلا في أحوال أربع هي:
أولها ـ حالة التحام القتال مع العدو الكافر أو غيره، من كل قتال جائز لا يمكن النزول فيه عن الدابة، فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، ولا يعيد الملتحم.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص55، الشرح الصغير:298/1-302.
(2) المحفة: مركب من مراكب النساء كالهَوْدَج، إلا أنها لاتُقبَّب كما تقبب الهوادج.(1/675)
ثانيها ـ حالة الخوف من عدو كسبع أو لص إن نزل عن دابته، فيصلي الفرض على ظهرها إيماء للقبلة إن أمكن، وإن لم يمكن صلى لغير القبلة. فإن أمن الخائف بعد صلاته، أعاد في الوقت.
ثالثها ـ الراكب في خضخاض (قليل) من ماء، لا يطيق النزول فيه أو خشي تلطخ ثيابه، وخاف خروج الوقت الاختياري (المعتاد) أو الضروري (1) ويصلي الفرض على الدابة إيماء، فإن لم يخف خروج الوقت أخر الصلاة لآخر الاختياري.
رابعها ـ حالة مرض الراكب الذي لا يطيق النزول معه، فيؤدي الفريضة إيماء على الدابة للقبلة بعد إيقافها، كما يؤديها على الأرض بالإيماء.
وقال الشافعية (2) : يجوز للمسافر سفراً مباحاً طويلاً أو قصيراً صلاة النافلة على الراحلة، ولا يجوز ذلك للعاصي بسفره والهائم، ولا للماشي، فعليهم إتمام الشروط والأركان كلها من استقبال القبلة وإتمام الركوع والسجود، ولا يمشي الماشي إلا في قيامه وتشهده.
ويومئ المتنفل بركوعه وسجوده، ويكون سجوده أخفض من ركوعه، ويشترط أن يبدأ الصلاة بالاتجاه إلى القبلة إن أمكنه. ولا تصح صلاة الآخذ بزمام الدابة إذا كان بها نجاسة. وإن وطئت نجاسة رطبة أو جافة لم تفارقها بطلت صلاته، وتفصيل ذلك فيما يأتي:
__________
(1) الوقت عند الثلاثة (المالكية والحنفية والشافعية) نوعان: وقت الاختيار: وهو الوقت المعروف لكل صلاة. ووقت الضرورة: هو الذي يمتد أكثر من الوقت الاختياري، وهو الذي يجوز فيه جمع الصلاتين. (انظر القوانين الفقهية: ص43 ومابعدها) .
(2) حاشية الباجوري:148/1 ومابعدها، المهذب: 69/1، المجموع:214/3 ومابعدها. مغني المحتاج:142/1 ومابعدها.(1/676)
أـ إن كان الراكب في مَرْقَد أو هودج (محمل واسع) ، لزمه أن يتوجه إلى القبلة في جميع صلاته وإتمام الأركان كلها أو بعضها الذي هو الركوع والسجود، لتيسره عليه، وإن لم يسهل عليه ذلك، فلا يلزمه إلا التوجه للقبلة في تكبيرة إحرامه إن سهل عليه: بأن تكون الدابة واقفة وأمكنه تحريفها، أو تكون سائرة وبيده زمامها، وهي سهلة القيادة. فإن كانت صعبة أو لم يمكن تحريفها، أو كانت مقطورة لم يلزمه التوجه للقبلة للمشقة واختلال أمر السير عليه. ويحرم انحراف المصلي عن طريقه إلا إلى القبلة.
ودليل اشتراط استقبال القبلة في ابتداء الصلاة: حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا كان في السفر، وأراد أن يصلي على راحلته تطوعاً، استقبل القبلة، وكبر، ثم صلى، حيث توجهت به» (1) .
ب ـ وأما الملاح في سفينة (أي قائدها) فلا يلزمه التوجه للقبلة لمشقة ذلك عليه.
وقال الحنابلة (2) : يجوز للمسافر الراكب لا الماشي، سفراً طويلاً أو قصيراً أن يتطوع في السفر على الراحلة إذا قصد جهة معينة، ويومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع، قال جابر: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع» (3) ولا يسقط الاستقبال إذا تنفل في الحضر كالراكب السائر في مصره أو قريته؛ لأنه ليس مسافراً، وليس للهائم والتائه والسائح التنفل؛ إذ ليس له جهة معينة.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، وأخرجه الشيخان بنحو ما هنا (نيل الأوطار:172/2) .
(2) المغني:432/1-438،600، كشاف القناع:350/1-353.
(3) رواه أبو داود.(1/677)
ويجوز أن يصلي على البعير والحمار وغيرهما، قال ابن عمر: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي على حمار، وهو متوجه إلى خيبر» (1) لكن إن صلى على حيوان نجس، فلا بد أن يكون بينهما سترة طاهرة. وقبلة المصلي: حيث كانت وجهته، ولا يجوز انحرافه عن جهة سيره عند الإمكان إلا إلى القبلة، فإن فعل ذلك مغلوباً أو نائماً فهو على صلاته. وإن كان في مركب أو سفينة كبيرة يدور فيه كيفما شاء، ويتمكن من الصلاة إلى القبلة والركوع والسجود، فعليه استقبال القبلة في صلاته، ويسجد على ماهو عليه إن أمكن ذلك. وإن قدر على الاستقبال دون الركوع والسجود، استقبل القبلة وأومأ بهما.
وإن عجز عن الاستقبال سقط بغير خلاف، كما يسقط الاستقبال لأعذار أخرى كالتحام حرب وهرب من سيل أو نار أو سبع ونحوه، ولو كان العذر نادراً كمريض عجز عن الاستقبال، وكمقعد عجز عمن يديره إلى القبلة وكمربوط ونحوه. وإن عجز عن الاستقبال في ابتداء صلاته، كراكب راحلة لا تطيعه، أو كان في قافلة (قطار) فليس عليه استقبال القبلة في شيء من الصلاة. ولا يلزم الملاح في سفينة الاتجاه إلى القبلة ولو في الفرض، لحاجته إلى تسيير السفينة وإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة، كراكب راحلة منفردة تطيعه، ففي إلزامه التوجه إلى القبلة روايتان عن أحمد:
إحداهما وهي الراجحة: يلزمه، لحديث أنس السابق في مذهب الشافعية، وعلى هذا يلزم الراكب إذا تنفل على راحلته افتتاح النافلة إلى القبلة بالدابة، بأن يديرها إلى القبلة إن أمكنه بلا مشقة، أو يدور بنفسه إلى القبلة إن أمكنه ذلك بلا مشقة.
والثانية: لا يلزمه، لأنه جزء من أجزاء الصلاة، فأشبه سائر أجزائها، ولأن ذلك لا يخلو من مشقة، فسقط، وخبر أنس السابق يحمل على الفضيلة والندب.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي.(1/678)
ويجوز للمسافرالتنفل على الراحلة ولو كانت النافلة وتراً أو غيره من سنن الرواتب وسجود التلاوة. والماشي في السفر لا تباح له الصلاة في حال مشيه، بل يلزمه افتتاح النافلة إلى القبلة، كما يلزمه الركوع والسجود إلى القبلة على الأرض لتيسر ذلك عليه مع متابعة سيره، ويفعل باقي الصلاة إلى جهة سيره.
وأما الصلاة على الراحلة لأجل المرض، ففيه روايتان:
إحداهما: ىجوز؛ لأن المشقة بالنزول في المرض أشد منها بالنزول في المطر. ومن صلى على الراحلة لمرض أو مطر، فليس له ترك الاستقبال.
والثانية: لا يجوز ذلك؛ لأن ابن عمر (كان يُنزل مرضاه) ولأنه قادر على الصلاة أو على السجود، فلم يجز تركه كغير المريض.
والخلاصة: أن الفقهاء اتفقوا على جواز الصلاة على الراحلة في السفر الطويل، وعلى كون الصلاة بالإيماء، واختلفوا في السفر القصير، فأجازها الشافعية والحنابلة، ومنعها المالكية والحنفية.
وليس استقبال القبلة شرطاً عند الحنفية والمالكية، وهو شرط عند الشافعية والحنابلة في بداية الإحرام بالصلاة عند الإمكان، ويسقط بالعجز، بأن لم يمكنه افتتاح النافلة إلى القبلة، بلا مشقة، كأن يكون مركوبه حَرُوناً تصعب عليه إدارته.
ولا يضر اشتمال الدابة على نجاسة عند الحنفية والمالكية، ويضر ذلك عند الشافعية، وتصح الصلاة عند الحنابلة بشرط وجود ساتر، إذ إنه يشترط لصحة التنفل طهارة محل المصلي نحو سرج وإكاف كغيره، لعدم المشقة فيه، فإن كان المركوب نجس العين، أو أصاب موضع الركوب منه نجاسة، وفوقه حائل طاهر، من برذعة ونحوها، صحت الصلاة، وإن وطئت دابته نجاسة، لم تبطل صلاته عند الحنابلة.
ولا تصح صلاة الفرض على الدابة إلا إذا أتى بها كاملة الأركان مستوفية الشروط. ومن صلى في سفينة عليه أن يستقبل القبلة متى قدر على ذلك، وعليه إذا غيرت جهتها أن يدور لو دارت السفينة وهو يصلي.(1/679)
الشرط السادس ـ النية:
النية من شروط الصلاة عند الحنفية والحنابلة، وكذا عند المالكية على الراجح، وهي من فروض الصلاة أو أركانها عند الشافعية ولدى بعض المالكية؛ لأنها واجبه في بعض الصلاة، وهو أولها، لا في جميعها، فكانت ركناً كالتكبير والركوع.
وهي لغة: القصد، وشرعاً: عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى. بأن يقصد بعمله الله تعالى، دون شيء آخر من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح أو نحوه. وهذا هو الإخلاص.
والنية واجبة في الصلاة باتفاق العلماء لتمييز العبادة عن العادة، وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:89/5] ، قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية. ودل الحديث المعروف على إيجابها أيضاً، وهوقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) فلا تصح الصلاة بدون النية بحال.
وكمال النية: أن يستشعر المصلي الإيمان، وينوي التقرب إلى الله بالصلاة، ويعتقد وجوبها وأداءها في ذلك اليوم، ويعينها، وينوي عدد ركعاتها، وينوي الإمامة أو المأمومية (الاقتداء) أو الانفراد، ثم ينوي تكبيرة الإحرام. والواجب باتفاق الفقهاء استصحاب حكم النية دون حقيقتها، بمعنى أنه لا ينوي قطعها، فلو ذهل عنها وعزبت (غابت عنه) في أثناء الصلاة، لم يضر.
__________
(1) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (نصب الراية:301/1) .(1/680)
شروط النية: إن شروط النية: الإسلام، والتمييز، والعلم بالمنوي.
مقارنة النية للتكبير: يشترط اتصال النية بالصلاة بلا فاصل أجنبي عند الحنفية (1) بين النية والتكبيرة، والفاصل عمل لا يليق بالصلاة كالأكل والشرب ونحو ذلك، أما إذا فصل بينهما بعمل يليق بالصلاة كالوضوء والمشي إلى المسجد، فلا يضر، فلونوى، ثم توضأ أو مشى إلى المسجد، فكبر، ولم تحضره النية، جاز، لعدم الفاصل الأجنبي، بدليل أن من أحدث في الصلاة، له البناء عليها بعد تجديد الوضوء.
ويندب اقتران النية بتكبيرة الإحرام، خروجاً من الخلاف، ولا يصح أن تتأخر النية عن التحريمة في الصحيح.
وكذلك يجوز تقديم النية في الحج، فلو خرج من بيته يريد الحج، فأحرم ولم تحضره النية، وكذلك الزكاة تجوز بنية وجدت عند الإفراز.
ولا تجزئ النية المتأخرة عن التكبير في الصلاة، أما الصوم فيجوز تأخيرها عن البدء به للضرورة، ولا ضرورة في الصلاة.
وقال الحنابلة (2) : الأفضل مقارنة النية للتكبير، خروجاً من خلاف من أوجبه، فإن تقدمت النية على التكبير بزمن يسير بعد دخول الوقت في أداء وراتبة، ولم يفسحها، وكان ذلك مع بقاء إسلامه، بأن لم يرتدّ، صحت صلاته؛ لأن تقدم النية على التكبير بالزمن اليسير لا يخرج الصلاة عن كونها منوية، ولا يخرج الفاعل عن كونه ناوياً مخلصاً، ولأن النية من شروط الصلاة، فجاز تقدمها كبقية الشروط، وفي طلب المقارنة حرج ومشقة، فيسقط لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:22/87] ، ولأن أول الصلاة من أجزأئها، فكفى استصحاب النية فيه كسائرها.
__________
(1) تبيين الحقائق:99/1.
(2) كشاف القناع:367/1.(1/681)
وقال المالكية (1) : يجب استحضار النية عند تكبيرة الإحرام، أو قبلها بزمن يسير.
وقال الشافعية (2) : يشترط اقتران النية بفعل الصلاة، فإن تراخى عنه سمي عزماً، ولو قال: «نويت أن أصلي الظهر، الله أكبر، نويت» بطلت صلاته؛ لأن قوله «نويت» بعد التكبيرة كلام أجنبي عن الصلاة، وقد طرأ بعد انعقاد الصلاة، فأبطلها.
تعيين المنوي: يشترط تعيين نوع الفرض الذي يصليه باتفاق الفقهاء، كالظهر أو العصر، لأن الفروض كثيرة، ولا يتأدى واحد منها بنية فرض آخر.
محل النية: محل التعيين هو القلب بالاتفاق، ويندب عند الجمهور غير المالكية التلفظ بالنية، وقال المالكية: يجوز التلفظ بالنية، والأولى تركه في صلاة أو غيرها. والأصح عند الشافعية (3) أيضاً وجوب نية الفرضية، دون الإضافة إلى الله تعالى، فتكون شروط النية عندهم ثلاثة، القصد، والتعيين، والفرضية.
آراء الفقهاء في النية:
تفصيل آراء المذاهب في النية فيما يأتي:
قال الحنفية (4) :
الكلام في النية يتناول مواضع ثلاثة: تفسير النية، وكيفية النية، ووقت النية.
آـ تفسير النية: النية: هي الإرادة، فنية الصلاة: هي إرادة الصلاة لله تعالى، والإرادة عمل القلب، فمحل النية: هو القلب: بأن يعلم بقلبه أي صلاة يصلي، ولا يشترط الذكر باللسان، وإنما يستحب إعانة للقلب الجمع بين نية القلب وتلفظ اللسان.
أما التعيين فهو أفضل وأحوط عموماً، ثم إن كانت الصلاة فرضاً كظهر وعصر مثلاً أو واجباً كالوتر وسجود التلاوة والنذر وصلاة العيدين، فلابد من التعيين، كما لابد من تعيين اليوم أو الوقت في حالة القضاء، ولا يلزم نية القضاء. أما الأداء فلا يلزم قرن النية باليوم أو الوقت، كما لا يلزم تعيين عدد الركعات.
وأما صلاة النفل ولو سنة الفجر والتراويح وغيرها في الصحيح، فيكفيها مطلق النية، والاحتياط: التعيين، فينوي مراعياً صفة النافلة بالتراويح أو سنة الوقت.
__________
(1) الشرح الصغير:305/1.
(2) حاشية الباجوري:149/1.
(3) مغني المحتاج:149/1.
(4) البدائع/127/1 ومابعدها، الدر المختار:406/1 ومابعدها، تبيين الحقائق:99/1 ومابعدها، فتح القدير:185/1 ومابعدها، اللباب:66/1.(1/682)
ولا تبطل نية الصلاة أو الصوم بتعليقها بمشيئة الله، لأن محل النية: القلب.
والمعتمد أن العبادات ذات الأفعال تنسحب نيتها على كلها.
ولو أدرك شخص القوم في الصلاة، ولم يدر أفرض أم تراويح، ينوي الفرض، فإن كانوا هم فيه صح، وإن لم يكن فيه تقع نفلاً.
ب ـ كيفية النية: إن كان المصلي منفرداً: عين نوع الفرض أو الواجب، وإن كان تطوعاً تكفيه نية الصلاة، كما ذكرت.
وإن كان المصلي إماماً: عين كما سبق، ولا يشترط للرجل نية إمامة الرجال، ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم. ويشترط له نية إمامة النساء لصحة اقتدائهن به، والفرق أنه لو صح اقتداء المرأة بالرجل، فربما تحاذيه، فتفسد صلاته، فيلحقه الضرر من غير اختياره، فشرط نية اقتدائها به، حتى لا يلزمه الضرر من غير التزامه ورضاه، وهذا المعنى منعدم في جانب الرجال. والخلاصة: تلزم نية الإمام في صورة واحدة: وهي حالة صلاة الرجل إماماً بالنساء.
وإن كان مقتدياً: عين أيضاً كما سبق، ويحتاج لزيادة نية الاقتداء بالإمام، كأن ينوي فرض الوقت والاقتداء بالإمام فيه، أو ينوي الشروع في صلاة الإمام، أو ينوي الاقتداء بالإمام في صلاته.
جـ ـ وقت النية: يندب أن تكون النية وقت التكبير، أي مقارناً له، ويصح عندهم تقديم النية على التحريمة، إذا لم يوجد بينهما عمل يقطع أحدهما عن الآخر، والقران ليس بشرط.
وقال المالكية (1) :
النية: قصد الشيء، ومحلها القلب، ونية الصلاة فرض والراجح أنها شرط
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي:233/1،520، الشرح الصغير وحاشية الصاوي:303/1-305، القوانين الفقهية: ص57، بداية المجتهد:116/1.(1/683)
بأن يقصد بقلبه أداء فرض الظهر مثلاً، والقصد للشيء خارج عن ماهية الشيء، والأولى ترك التلفظ بها، إلا الموسوس فيستحب له التلفظ ليذهب عنه اللبس، ويجب أن تكون النية مقارنة لتكبيرة الإحرام، فإن تأخرت النية أو تقدمت بوقت كثير، بطلت اتفاقاً، وإن تقدمت بوقت يسير، فقيل وهو المختار: تصح كالحنفية، وقيل: تبطل كالشافعية.
ويجب التعيين في الفرائض، والسنن الخمس (وهي الوتر والعيد والكسوف والخسوف (1) والاستسقاء) وسنة الفجر، دون غيرها من النوافل، كالضحى والرواتب والتهجد، فيكفي فيه نية مطلق نفل، وينصرف للضحى إن كان قبل الزوال، ولراتب الظهر إن كان قبل صلاته، أو بعده، ولتحية المسجد إن كان حين الدخول فيه، وللتهجد إن كان في الليل، وللشفع (سنة العشاء) إن كان قبل الوتر.
ولا يشترط نية الأداء أو القضاء أو عدد الركعات، فيصح القضاء بنية الأداء وعكسه.
ويستثنى من وجوب التعيين صورة واحدة: وهي ما إذا دخل شخص المسجد، فوجد الإمام يصلي، فظن أن صلاته هي الجمعة، فنواها، فتبين أنها الظهر، فتصح، وعكس ذلك باطل.
وتجب نية الانفراد، والمأمومية، ولا تجب نية الإمامة إلا في الجمعة والجمع بين الصلاتين تقديماً للمطر، والخوف، والاستخلاف (2) ، لكون الإمام شرطاً فيها، وزاد ابن رشد: الجنائز، فلو ترك الإمام نية الإمامة في الجمعة بطلت الصلاة
__________
(1) المعتمد فيه: أنه مندوب.
(2) لاستخلاف: أن يقدم الإمام أو المصلون أحد المصلين لمتابعة الصلاة، في حال فساد صلاة الإمام بالحدث وغيره، وذلك قبل خروج الإمام من المسجد.(1/684)
عليه وعلى المأمومين، ولو تركها في صلاة الجمع تقديماً للمطر بطلت الثانية، وإذا تركها في صلاة الخوف تبطل الصلاة على الطائفة الأولى من المأمومين فقط، وتصح للإمام وللطائفة الثانية، ولو تركها في صلاة الاستخلاف، صحت له، وبطلت على المأمومين.
وقال الشافعية (1) :
النية: قصد الشيء مقترناً بفعله، ومحلها القلب، ويندب النطق بها قبيل التكبير. ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله بقلبه أو لسانه، فإن قصد التبرك ووقع الفعل بمشيئة الله تعالى، لم يضره. وإن قصد به التعليق أو الشك، لم يصح. فإن كانت الصلاة فرضاً ولو فرض كفاية كصلاة الجنازة، أو قضاء كالفائتة، أو معادة، أو نذراً، يجب ثلاثة أمور: نية الفرضية (أي يلاحظ ويقصد كون الصلاة فرضاً) ، وقصد إيقاع الفعل (بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال) وتعيين نوع الفرضية من صبح أو ظهر مثلاً: بأن يقصد إيقاع صلاة فرض الظهر مثلاً (2) .
ويشترط أن يكون ذلك مقارناً لأي جزء من أجزاء تكبيرة الإحرام، وهذا هو المقصود عندهم بالاستحضار والمقارنة العرفيين (أي يستحضر قبل التحريمة فعل الصلاة من أقوالها وأفعالها في أولها وآخرها ولو إجمالاً على المعتمد، ويقرن ذلك الاستحضار السريع في الذهن في أثناء تكبيرة الإحرام) . وإن كانت الصلاة نفلاً ذات وقت كسنن الرواتب، أو ذات سبب كالاستسقاء، وجب أمران: قصد فعله، وتعيينه كسنة الظهرأو عيد الفطر أو الأضحى، ولا يشترط نية النفلية على الصحيح.
__________
(1) حاشية الباجوري:149/1 ومابعدها، مغني المحتاج:148/1-150، 252-253، المهذب:70/1، المجموع:243/3-252.
(2) نظمها بعضهم قائلاً:
يا سائلي على شروط النية ... القصد والتعيين والفرضية(1/685)
ويكفي في النفل المطلق (وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب نحو تحية المسجد وسنة الوضوء) : نية فعل الصلاة.
ولا تجب الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادة لاتكون إلا له سبحانه وتعالى، لكن تستحب ليتحقق معنى الإخلاص.
ويستحب نية استقبال القبلة وعدد الركعات خروجاً من الخلاف، فلو أخطأ في العدد، كأن نوى الظهر ثلاثاً أو خمساً، لم تنعقد صلاته، كما يستحب نية الأداء والقضاء.
والأصح أنه يصح الأداء بنية القضاء وعكسه في حالة العذر، كجهل الوقت بسبب غيم أو نحوه، فلو ظن خروج الوقت، فصلاها قضاء، فبان بقاؤه، أو ظن بقاء الوقت فصلاها أداء، فبان خروجه، صحت صلاته.
كذلك تصح صلاته في حالة عدم العذر إذا قصد المعنى اللغوي، لاستعمال كل بمعنى الآخر، تقول: قضيت الدين وأديته، بمعنى واحد، وهو دفعه.
أما إذا فعل ذلك بلا عذر، ولم ينو المعنى اللغوي، لم تصح صلاته لتلاعبه.
ولا يشترط التعرض للوقت، فلو عين اليوم وأخطأ، لم يضر. ومن عليه فوائت لا يشترط أن ينوي ظهر يوم كذا، بل يكفيه نية الظهر مثلاً. ولا يندب ذكر اليوم أو الشهر أو السنة على المعتمد.
والنية شرط في جميع الصلاة، فلو شك في النية، هل أتى بها أو لا، بطلت صلاته.
ولا يشترط للإمام نية الإمامة، بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى. وتشترط نية الإمامة في حالات أربع: في الجمعة، والصلاة المجموعة مع غيرها للمطر جمع تقديم، والصلاة المعادة في الوقت جماعة، والصلاة التي نذر أن يصليها جماعة للخروج من الإثم.(1/686)
ويشترط للمقتدي نية الاقتداء: بأن ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الائتمام أو الجماعة بالإمام الحاضر أو بمن في المحراب ونحو ذلك؛ لأن التبعية عمل، فافتقرت إلى نية، إذ ليس للمرء إلا ما نوى. ولا يكفي إطلاق نية الاقتداء، من غير إضافة إلى الإمام. فلو تابع بلا نية، أو مع الشك فيها، بطلت صلاته إن طال انتظاره.
وقال الحنابلة (1) :
النية: عزم القلب على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى، فلا تصح الصلاة بدونها بحال. ومحلها القلب وجوباً، واللسان استحباباً.
فإن كانت الصلاة فرضاً: اشترط أمران: تعيين نوع الصلاة: ظهراً أو عصراً أو غيرهما، وقصد الفعل، ولا يشترط نية الفرضية (2) بأن يقول: أصلي الظهر فرضاً.
أما الفائتة: فإن عينها بقلبه أنها ظهر اليوم، لم يحتج إلى نية القضاء ولا الأداء، ويصح القضاء بنية الأداء أو عكسه إذا بان خلاف ظنه.
وإن كانت الصلاة نافلة: فيجب تعيينها إن كانت معينة أو مؤقتة بوقت كصلاة الكسوف والاستسقاء، والتراويح والوتر، والسنن الرواتب.
ولا يجب تعيينها إن كانت مطلقة، كصلاة الليل، فيجزئه نية الصلاة لاغير، لعدم التعيين فيها، فهم كالشافعية في هذا.
وقالوا: إذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين إتمامها وقطعها، لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم، وهذا باتفاق الفقهاء. وإن دخل في الصلاة بنية صحيحة، ثم نوى قطعها والخروج منها، بطلت عند الجمهور؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة، وقد قطعها بما حدث. وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك؛ لأنها عبادة صح دخوله فيها، فلم تفسد بنية الخروج منها، كالحج.
__________
(1) المغني:464/1-469،231/2، كشاف القناع:364/1-370.
(2) قال ابن قدامة: والصحيح أنه لابد من التعيين، وتقع الصلاة للمعهود.(1/687)
الشك في النية: إن شك في أثناء الصلاة، هل نوى أو لا؟ أو شك في تكبيرة الإحرام، استأنفها، كما قال الشافعية؛ لأن الأصل عدم ما شك فيه. فإن ذكر أنه كان قد نوى، أو كبر قبل قطعها، فله البناء أي الإكمال؛ لأنه لم يوجد مبطل لها. وإن عمل في الصلاة عملاً مع الشك، بطلت الصلاة، كما قال الشافعية.
تغيير النية: إذا أحرم بفريضة، ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى، بطلت الاثنتان، لأنه قطع نية الأولى، ولم ينو الثانية عند الإحرام، وهذا متفق مع الشافعية أيضاً. فإن حول الفرض إلى نفل ففيه رأيان عند الشافعية والحنابلة، أرجحهما أنها تنقلب نفلاً؛ لأن نية الفرض تتضمن نية النفل، بدليل أنه لو أحرم بفرض، فبان أنه لم يدخل وقته، كانت صلاته نافلة، والفرض لم يصح، ولم يوجد ما يبطل النفل.
ولا يشترط إضافة الفعل إلى الله تعالى في العبادات كلها، بأن يقول: أصلي لله، أو أصوم لله، ونحوه؛ لأن العبادات لا تكون إلا لله، بل يستحب ذلك خروجاً من خلاف من أوجبه. كما لا يشترط أيضاً ذكر عدد الركعات، ولا استقبال القبلة، كما قال الشافعية. ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام، إما مقارنة لها أو متقدمة عليها بزمن يسير، كما قال المالكية والحنفية، لكن الأفضل المقارنة، كما تقدم.
ويشترط لصحة الجماعة: أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم في أول الصلاة إلا في صورتين: الأولى: أن يكون المأموم مسبوقاً، فله أن يقتدي بعد سلام إمامه بمسبوق مثله في غير الجمعة. والثانية: ما إذا اقتدى مقيم بمسافر يقصر الصلاة، فله أن يقتدي بمثله في بقية الصلاة.
الشرط السابع والثامن: الترتيب في أداء الصلاة، وموالاة أفعالها.
الحقيقة أن كلاً منهما شرط لأركان الصلاة.(1/688)
الشرط التاسع: ترك الكلام الأجنبي عن الصلاة:
الصلاة عبادة خالصة لله تعالى، لا يجوز الكلام فيها، فتبطل صلاة من تكلم بحرفين مفهمين ولو لمصلحة الصلاة مثل: قم أو اقعد، أو بحرف مفهم نحو (ق) من الوقاية، و (ع) من الوعي،
و (ف) من الوفاء، و (ش) من الوشي، وكذا مَدَّة بعد حرف في الأصح عند الشافعية، وإن لم يفهم، نحو «آ» والمدُّ: ألف، أو واو، أو ياء، فالممدود في الحقيقة حرفان.
لخبر مسلم عن زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزلت: ـ وقوموا لله قانتين ـ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» .
وخبر معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي الذي قال لمن عطس في الصلاة: «يرحمك الله» فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (1) . وسيأتي في بحث مبطلات الصلاة تفصيل هذا الموضوع.
الشرط العاشر ـ ترك الفعل الكثير من غير جنس الصلاة:
وهو ما يخيل للناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة. وسيأتي تفصيل الكلام فيه في بحث مبطلات الصلاة.
الشرط الحادي عشر ـ ترك الأكل والشرب:
وسيأتي توضيحه في مبطلات الصلاة.
هذا وقد أضاف الشافعية شروطاً خمسة أخرى: وهي العلم بفرضية الصلاة؛ وألا يعتقد فرضاً من فروضها سنة؛ وألا يمضي ركن قولي أو فعلي مع الشك في نية الصلاة: هل نوى أو أتم النية أو أتى ببعض أجزائها أو بعض شروطها؛ وألا ينو قطع الصلاة أو يتردد في قطعها، فمتى نوى قطعها، ولو بالخروج منها إلى أخرى، أو تردد فيه أو في الاستمرار فيها بطلت، لمنافاة ذلك للجزم بالنية؛ وعدم تعليق قطعها بشيء، فإن علقه بشيء ولو محالاً، بطلت، لمنافاته للجزم بالنية.
انتهى الجزء الأول من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود، وقال: (لايحل) مكان (لا يصلح) وفي رواية لأحمد: «إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن» (نيل الأوطار:314/2) .(1/689)
..................................الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ...............................
.........................................الجزء الثاني......................................
الفَصْلُ الخامِس: أركانُ الصَّلاةِ
أركان الصلاة (أو فرائضها) ، وواجباتها عند الحنفية:
بحث الفقهاء تحت عنوان (صفة الصلاة أي كيفيتها) نظام الصلاة، المشتمل على الأركان والشروط، والأبعاض: وهي السنن المجبورة بسجود السهو، والهيئات: وهي السنن التي لا تجبر. والمقصود بكيفية الصلاة: الصورة الوصفية لها.
والركن كالشرط في أنه لا بد منه، إلا أن الشرط: هو الذي يتقدم على الصلاة، ويجب استمراره فيها كالطهر والستر، ونحوهما مما سبق بيانه، والركن: ما تشمل عليه الصلاة، كالركوع والسجود، ونحوهما مما سيبحث هنا، ولا يسقط الركن عمداً ولا سهواً ولا جهلاً، وسمي ركناً تشبيهاً له بركن البيت الذي لا يقوم إلا به؛ لأن الصلاة لا تتم إلا به. وعلى هذا يكون الركن: هو الواجب فعله وكان جزءاً من حقيقة الفعل، والشرط: هو الواجب فعله ولكنه ليس جزءاً من حقيقة الفعل، بل من مقدماته.
وقد اختلف الفقهاء في تصنيف وتعداد مطالب الصلاة الأساسية:
فقال الحنفية (1) : فرائض الصلاة ستة: التحريمة قائماً، والقيام، والقراءة والركوع، والسجود، والقَعْدة الأخيرة مقدار التشهد. هذا ما ذكره القدوري وهو رأي محمد، إلا أن المعتمد عندهم أن تكبيرة الإحرام شرط عندهم كالنية وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، خلافاً لجمهور الفقهاء.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 68/1-77، الدر المختار ورد المحتار: 406/1، 410 ومابعدها، 424-437، مراقي الفلاح: ص37، 39 ومابعدها، فتح القدير: 192/1-226، البدائع:105/1، 160-163.(2/1)
واجبات الصلاة:
واجبات الصلاة ثمانية عشر، والواجب عندهم ما ثبت بدليل فيه شبهة، وحكمه: استحقاق العقاب بتركه عمداً، لكن لا تفسد الصلاة بتركه، ويلزم سجود السهو لنقص الصلاة بترك الواجب سهواً، ويجب إعادة الصلاة بترك الواجب عمداً، أو سهواً إن لم يسجد سجود السهو له. وإن لم يعدها، يكون فاسقاً آثماً، كما هو الحكم في كل صلاة أديت مع كراهة التحريم.
وهذه الواجبات هي ما يأتي:
1 ً - افتتاح الصلاة بلفظ (الله أكبر) لا في صلاة العيدين فقط.
2 ً - قراءة الفاتحة: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (1) وهذا عندهم لنفي الكمال؛ لأنه خبر آحاد، لا ينسخ قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/73] ، فوجب العمل به. ويسجد للسهو بترك أكثرها، لا أقلها؛ لأن الواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف أكثرها، لا كلها.
وقال الجمهور (غير الحنفية) : إن قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة من ركعات الصلاة. إلا أن الشافعية قالوا: هي ركن مطلقاً، وقال المالكية: هي فرض لغير المأموم في صلاة جهرية.
3 ً - قراءة سور ة بعد الفاتحة: يجب قراءة سورة قصيرة كالكوثر ونحوها، وهو ثلاث آيات قصار، تقدر بثلاثين حرفاً، كقوله تعالى: {ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر} [المدثر:21/47-22-23] أو آية طويلة أو آيتان بمقدار ثلاثين حرفاً.
ودليلهم على الوجوب: حديث أبي سعيد الخدري: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر» (2) والأمر للوجوب.
وقال الجمهور: تسن قراءة سورة أو آيات بعد الفاتحة، لقول أبي هريرة: «في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير» (3) .
__________
(1) رواه الأئمة الستة في كتبهم عن عبادة بن الصامت (نصب الراية:365/1) .
(2) رواه أبو داود وابن حبان وأحمد وأبو يعلى الموصلي، رفعه بعضهم ووقفه بعضهم (نصب الراية:364/1) .
(3) حديث موقوف رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة (نصب الراية: 365/1) .(2/2)
4 ً - يجب قراءة السورة في الركعتين الأوليين من الفرض على المذهب، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على القراءة فيهما. ولا يكره تحريماً بل تنزيهاً في الركعتين الأخريين (الثالثة والرابعة) على المختار. ولو ترك السورة في ركعة أو ركعتين من أوليي المغرب أو العشاء، وجب قراءتها في الأصح في أخرى العشاء، وثالثة المغرب مع الفاتحة جهراً بهما على الأصح، ويقدم الفاتحة، ثم يقرأ السورة. ولو ترك الفاتحة لا يكررها في الأخريين. وتجب أيضاً في جميع ركعات الوتر لمشابهته السنة، وفي جميع ركعات النافلة؛ لأن كل شفع (أي ركعتين) من النافلة صلاة على حدة، ولحديث أبي سعيد المتقدم بلفظ «لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وسورة في فريضة أو غيرها» (1) .
5 ً - تقديم الفاتحة على قراءة السورة، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على ذلك. فلو بدأ بالسورة قبل الفاتحة سهواً، ثم تذكر، قطع القراءة، وقرأ الفاتحة، ثم السورة، ويسجد للسهو، كما لو كرر الفاتحة ثم قرأ السورة، لتأخير الابتداء بالفاتحة في الحالة الأولى، ولتأخير القراءة في الحالة الثانية.
ولو تذكر الفاتحة قبل الركوع، قرأها، ثم قرأ سورة، وسجد للسهو.
6 ً - ضم الأنف للجبهة في السجود، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه. ولا تجوز الصلاة بالاقتصار على الأنف في السجود، على الصحيح.
__________
(1) حديث ضعيف رواه ابن عدي في الكامل (نصب الراية: 363/1) .(2/3)
7 ً - مراعاة الترتيب فيما شرع مكرراً من الأفعال في الصلاة وهو السجدة الثانية: والأدق أن يقال: رعاية الترتيب بين القراءة والركوع، وفيما يتكرر في كل ركعة، فيأتي بالسجدة الثانية قبل الانتقال لغيرها من أفعال الصلاة، بدليل المواظبة منه صلّى الله عليه وسلم على مراعاة الترتيب. ومعنى كون الترتيب فيما يتكرر في كل ركعة واجباً: أن الصلاة بعد إعادة ما قدمه لا تفسد بترك الترتيب صورة، الحاصل بزيادة ما قدمه.
فلو نسي سجدة من الركعة الأولى (1) ، قضاها، ولو بعد القعود الأخير، أو بعد السلام قبل الكلام، ثم يعيد التشهد والقعود، ويسجد للسهو بعد التسليمة الأولى، ثم يتشهد.
أما ما لا يتكرر في كل ركعة أو في كل الصلاة ماعدا القراءة كترتيب القيام والركوع والسجود الأول والقعود الأخير، فإن الترتيب فيه فرض، وعلى هذا فترتيب القيام على الركوع، والركوع على السجود فرض. فلو ركع قبل القراءة صح ركوعه، لأنه لا يشترط في الركوع أن يكون مترتباً على قراءة في كل ركعة. بخلاف الترتيب بين الركوع والسجود مثلاً، فإنه فرض، فلو سجد قبل الركوع لم يصح سجود هذه الركعة؛ لأن أصل السجود يشترط ترتبه على الركوع في كل ركعة، كترتيب الركوع على القيام.
__________
(1) سواء أكانت السجدة صُلْبية أي من صلب الصلاة، أو تلاوية وهي السجدة التي تجب بسبب تلاوة آية من آيات السجود.(2/4)
8 ً - الاطمئنان في الأركان: بتسكين الجوارح في الركوع والسجود ونحوهما من الرفع والاعتدال، حتى تطمئن مفاصله قدر تسبيحة في الركوع والسجود والرفع منهما، ويستقر كل عضو في محله، لمواظبته صلّى الله عليه وسلم على ذلك كله، ولحديث المسيء صلاته، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم له: «ارجع فصلّ، فإنك لم تصلِّ» ثم علمه كيفية الطمأنينة: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها» (1) .
9 ً - القعود الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية: لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه، وسجوده للسهو لما تركه وقام ساهياً (2) . ويجب ترك الزيادة فيه كما يجب ترك الزيادة في كلمات التشهد، أو بعد تمام التشهد.
10 ً- قراءة التشهد في القعود الأول، في الصحيح، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحيات لله ... » (3) والأمر للوجوب.
وقال غير الحنفية عن هذين الأمرين: إنهما سنة؛ لأن عدم تداركه من النبي يدل على عدم وجوبه.
11 ً - قراءة التشهد في الجلوس الأخير، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه. أما الجلوس الأخير فهو فريضة. ويسجد للسهو بترك بعض أو كل من التشهدين: الأول والأخير.
12 ً - القيام إلى الركعة الثالثة من غير تراخ بعد قراءة التشهد الأول: فلو زاد عليه بمقدار أداء ركن ساهياً، وأقل الزيادة المفوتة للواجب عن التشهد الأول مقدار (اللهم صل على محمد) فقط على المذهب، سجد للسهو، لتأخير واجب القيام للثالثة.
__________
(1) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 264/2) .
(2) رواه الجماعة عن عبد الله بن بُحَيْنَة (نيل الأوطار: 273/2) .
(3) رواه أحمد والنسائي عن ابن مسعود (نيل الأوطار:271/2) .(2/5)
13 ً - لفظ (السلام) دون (عليكم) مرتين في آخر الصلاة، عن اليمين واليسار، لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأما (عليكم ورحمة الله) فهو سنة. وكل من التسليمة الأولى، والثانية واجب في الأصح، فلو فرغ المقتدي قبل فراغ الإمام، فتكلم أو أكل، فصلاته تامة.
وليس السلام فرضاً، لحديث ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خدِّه» (1) وهو يدل على مشروعية التسليمتين. وقال غير الحنفية: السلام للخروج من الصلاة فرض.
14 ً - جهر (2) الإمام بالقراءة في ركعتي الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ولو قضاء، وفي صلاة الجمعة والعيدين، والتراويح، والوتر في رمضان، لفعله ومواظبته صلّى الله عليه وسلم.
أما المنفرد: فهو مخير بين الجهر والإسرار، والأفضل الجهر، ليكون الأداء على هيئة الجماعة.
والمتنفل بالليل مخير أيضاً بين الجهر والإسرار، ويكتفي بأدنى الجهر لئلا يصير نائماً، لأنه صلّى الله عليه وسلم جهر في التهجد بالليل، وكان يؤنس اليقظان، ولا يوقظ الوسنان. وسئلت عائشة: كيف كانت قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم بالليل؟ فقالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما أسرَّ، وربما جهر (3) .
15 ً - إسرار الإمام والمنفرد في صلاتي الظهر والعصر، وفيما عدا الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، وفي صلاة النفل بالنهار.
__________
(1) رواه الخمسة وصححه الترمذي، وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان، وله ألفاظ، وأصله في صحيح مسلم (نيل الأوطار:292/2) .
(2) الجهر: إسماع الغير ولو واحداً، والإسرار: إسماع النفس، في الصحيح.
(3) رواه الخمسة وصححه الترمذي، ورجاله رجال الصحيح، عن عائشة (نيل الأوطار: 59/3) .(2/6)
16 ً، 17- قنوت الوتر، وتكبيرات العيدين (وهي ثلاث في كل ركعة) ، وتكبيرة القنوت عند أبي حنيفة وعند الصاحبين: هي سنة كالوتر نفسه، وتجب تكبيرة الركوع في الركعة الثانية من صلاة العيد تبعاً لتكبيرات الزوائد فيها، لاتصالها بها، بخلاف تكبيرة الركوع في الركعة الأولى.
18 ً - إنصات المقتدي، ومتابعة الإمام، في صلاة الجماعة.
أركان الصلاة عند غير الحنفية:
قال المالكية كما ذكر العلامة خليل وشرّاح متنه (1) :فرائض الصلاة أربع عشرة فريضة وهي: النية، وتكبيرة الإحرام، والقيام لها في الفرض، وقراءة الفاتحة للإمام والمنفرد، والقيام لها أي (الفاتحة) بفرض، والركوع، والرفع منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والسلام، والجلوس له، والطمأنينة في جميع الأركان. والاعتدال بعد الركوع والسجود، وترتيب الأركان بأن يقدم النية على تكبيرة الإحرام، ثم الفاتحة، ثم الركوع، ثم الاعتدال، ثم السجود.. الخ
ووضع المالكية ضابطاً للأركان فقالوا: الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، فجميع أقوالها ليست بفرائض إلا ثلاثة: تكبيرة الإحرام، والفاتحة والسلام، وجميع أفعالها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، والجلوس للتشهد، والتيامن بالسلام.
وقال الشافعية (2) : أركان الصلاة ثلاثة عشر وهي:
النية، وتكبيرة الإحرام، القيام في الفرض للقادر عليه، والفاتحة لكل مصلي إلا المعذور لسبق أو غيره، الركوع، والسجود مرتين، والجلوس بين السجدتين، التشهد الأخير، القعود في التشهد الأخير، الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير قاعداً، السلام، الترتيب كما ذكر.
__________
(1) الشرح الصغير: 303/1-317، الشرح الكبير:231/1-242، القوانين الفقهية: ص51،57-66.
(2) مغني المحتاج:148/1-184.(2/7)
والفرض لا ينوب عنه سجود السهو، بل إن تذكره وهو في الصلاة أو بعد السلام والزمان قريب أتى به وبنى على صلاته وسجد للسهو.
وقال الحنابلة (1) : أركان الصلاة أربعة عشر وهي:
تكبيرة الإحرام، والقيام في فرض لقادر عليه، وقراءة الفاتحة في كل ركعة للإمام والمنفرد، والركوع، والاعتدال بعده، والسجود، والاعتدال عنه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في هذه الأفعال (الركوع وما بعده) ، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير عند أكثر الحنابلة، والجلوس له وللتسليمتين، والتسليمتان، وترتيب الأركان، على النحو المذكور. والفرض أو الركن لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً.
وسنفصل الكلام في هذه الأركان كلها، علماً بأن النية بحثت في الشروط عملاً بمنهج الحنفية والحنابلة وبعض المالكية (ابن رشد وابن جزي) ، والمعتمد عند المالكية أن النية ركن، وأن الإحرام عبارة عن النية والتكبير.
أركان الصلاة المتفق عليها:
يلاحظ أن الفقهاء اتفقوا على ستة فروض أو أركان وهي: التحريمة، والقيام، والقراءة، والركوع، والسجود، والقعدة الأخيرة مقدار التشهد إلى قوله: «عبده ورسوله» .
الركن الأول ـ التحريمة أو تكبيرة الإحرام:
هي أن يقول المصلي قائماً مسمعاً نفسه: (الله أكبر) (2) إلا في حال العجز عن القيام، وذلك بالعربية، لمن قدر عليها، لا بغيرها من اللغات، وبلا فصل بين المبتدأ والخبر عند المالكية والحنابلة بكلمة أخرى ولا بسكوت طويل.
__________
(1) المغني:460/1-558، كشاف القناع: 450/1-455.
(2) سميت هذه التكبيرة بتكبيرة الإحرام؛ لأنه يحرم على المصلي ما كان حلالاً له قبلها من موانع الصلاة كالأكل والشرب والكلام ونحوذلك، ويقصد بها الذكر الخالص لله تعالى الذي يحرم به المصلي على نفسه الاشتغال بما سوى الله.(2/8)
هذا إذا كان المصلي غير إمام، فأدناه أن يسمع نفسه، فإن كان إماماً يستحب له أن يجهر بالتكبير ليسمع من خلفه (1) والتكبير ركن لا شرط، فلا تنعقد الصلاة إلا بقول (الله أكبر) ، وإن عجز عن التكبير كأن كان أخرس أو عاجزاً عن التكبير بكل لسان، سقط عنه. وإن قدر على الإتيان ببعضه، أتى به، إن كان له معنى (2) .
ودليلهم على اشتراط لفظ (الله أكبر) وأنه ركن: هو قوله تعالى: {وربَّك فكبر} [المدثر:3/74] ، والحديث السابق عن علي: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير» (3) وحديث رفاعة بن رافع: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، فيقول: الله أكبر» (4) ، وقال عليه السلام للمسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر» (5) وقال صلّى الله عليه وسلم أيضاً: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» قرن التكبير بالقراءة، فدل على أنه مثله في الركنية.
__________
(1) المجموع:258/3، المغني:462/1.
(2) الشرح الصغير:305/1 ومابعدها، المغني:460/1-464، كشاف القناع:451/1.
(3) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن علي بن أبي طالب.
(4) رواه أصحاب السنن الأربعة والطبراني.
(5) متفق عليه.(2/9)
وقال الشافعية ومحمد من الحنفية (1) كالمالكية والحنابلة: التكبير ركن لا شرط، إلا أن الشافعية قالوا: لا تضر زيادة لا تمنع اسم التكبير، مثل (الله الأكبر) ؛ لأنه لفظ يدل على التكبير، وعلى زيادة مبالغة في التعظيم، ومثل (الله الجليل أكبر) في الأصح، وكذا كل صفة من صفاته تعالى، إذا لم يطل بها الفصل، لبقاء النظم. ويشترط إسماع نفسه التكبير كالقراءة وسائر الأركان القولية، ويُبين التكبير كما أوضح الشافعية والحنابلة، ولا يمد في غير موضع المد، فإن فعل بحيث تغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة الأولى، فيقول (آلله) أو يمد (آكبر) أو يزيد ألفاً بعد باء (أكبر) ، لم يصح؛ لأن المعنى يتغير به. والأصح عند الشافعية: أن من عجز عن التكبير بالعربية أتى بمدلول التكبير بأي لغة شاء. ووجب التعلم إن قدر عليه. ومن عجز عن النطق بالتكبير كأخرس، لزمه تحريك لسانه، وشفتيه ولهاته ما أمكنه، فإن عجز نواه بقلبه.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف (2) : التحريمة شرط، لا ركن، وقولهما هو المعتمد لدى الحنفية، لقوله تعالى: {وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:87/15] قالوا: المراد بالذكر هنا التحريمة، وهي غير الصلاة، بدليل العطف عليها، والعطف يقتضي المغايرة، ولأن حديث علي السابق «وتحريمها التكبير» أضيف التحريم فيه إلى الصلاة، والمضاف غير المضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه.
__________
(1) مغني المحتاج:150/1 ومابعدها، اللباب:68/1.
(2) فتح القدير:192/1،198 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار: 411/1،421، تبيين الحقائق: 103/1، اللباب، المكان السابق، الدرر شرح الغرر:66/1.(2/10)
وتظهر ثمرة الخلاف بين الشيخين (أبي حنيفة وأبي يوسف) القائلين بالشرطية وبين محمد القائل بفرضية التكبير. فيما لو أحرم حاملاً النجاسة، فألقاها فور فراغه من التكبير، أو كان مكشوف العورة، فسترها عند فراغه من التكبير، أو كان منحرفاً عن القبلة، فاستقبلها عند الفراغ من التكبير، أو شرع في التكبير بالظهر قبل الزوال مثلاً، ثم زالت الشمس بعد فراغه من التكبير، تجوز الصلاة عند الشيخين، ولا تجوز عند محمد.
وكذلك إذا فسدت الفريضة، تنقلب نفلاً عند الشيخين، وعند محمد: لاتنقلب. واتفق الحنفية على أن التحريمة ركن في صلاة الجنازة كبقية تكبيراتها.
وقد عرفنا في بحث واجبات الصلاة: أنه يجب عند الحنفية بدء الصلاة بلفظ (الله أكبر) ويكره تحريماً الشروع بغير هذا اللفظ.
وأجاز أبو حنيفة ومحمد افتتاح الصلاة بكل تعبير خالص لله تعالى، فيه تكبير وتعظيم، كقول المصلي: الله أجل، الله أعظم، وكبير أو جليل، والرحمن أعظم، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، ونحوه، لأن ذلك كله يؤدي معنى التكبير، ويشتمل على معنى التعظيم، فأشبه قوله: (الله أكبر) ولو افتتح الصلاة بـ (اللهم اغفر لي) لا يجوز؛ لأنه مشوب بحاجته، فلم يكن تعظيماً، ولو افتتح بقوله: (اللهم) فالأصح أنه يجزئه؛ لأن معناه: يا الله.
وخص أبو يوسف الافتتاح بالتكبيرومشتقاته، مثل: (الله أكبر) والكبير، والكُبَّار، وتردد في (الله كبير) ومن عجز عن التكبير كالأخرس، سقط عنه ذلك، لتعذر الواجب في حقه، وتكفيه النية عن التحريمة.
وقال أبو حنيفة: إنه يجزئ التكبير بغير العربية، لقول الله تعالى: {وذكر اسم ربه، فصلى} [الأعلى:15/87] ، وهذا قد ذكر اسم ربه.(2/11)
أما الصاحبان فقالا كالشافعية: إن كان لا يحسن العربية أجزأه غيرها، فإن كان يحسنها وكبر بغير العربية لا يجزئه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (1) .
واشترط الحنفية لأداء تكبيرة الإحرام عشرين شرطاً: وهي دخول الوقت، واعتقاد دخوله أو غلبة الظن به، وستر العورة، والطهر من الحدث والنجاسة المانعة عن البدن والثوب والمكان، والقيام لقادر عليه في غير نفل، وفي سنة فجر، ونية اتباع الإمام (وهو في الواقع شرط لصحة الاقتداء لا لصحة التحريمة) ، والنطق بها: (وهو أن يسمع بها نفسه، فمن همس بها أو أجراها على قلبه لا تجزئه، كجميع أقوال الصلاة) ، وتعيين الفرض أنه ظهر أوعصر مثلاً، وتعيين الوجوب كركعتي الطواف والعيدين والوتر والمنذرو وقضاء أفسده، وأن تكون بجملة ذكر خالص لله غير مشوب بحاجته وأهوائه، ولا يصح باستغفار نحو اللهم اغفر لي، وصح بلفظ (اللهم) في الأصح: مثل (الله أكبر) فلا يصير شارعاً بأحدهما في ظاهر الرواية، وألا تكون مع بسملة، وأن تكون بجملة عربية لمن قدر عليها، فلا يصح شروعه بغيرها، إلا إذا عجز، فيصح بالفارسية كالقراءة في الصلاة، والأصح أنه يصح الشروع في الصلاة بالتكبير بغير العربية، وإن قدر عليها اتفاقاً عندهم، بخلاف القراءة، وأن تخلو عن ترك هاء لفظ الجلالة: (الله) ، وترك مد همزة (الله) وهمزة (أكبر) ومد باء (أكبر) وألا يكون هناك فاصل بين النية والتحريمة بكلام مباين ونحوه من أكل وشرب، وألا تسبق النية بتكبيرته، فلو فرغ منه قبل فراغ إمامه، لم يصح شروعه، وأن يؤديها مستقبلاً القبلة إلا لعذر، أو لتنفل راكب خارج البلد.
__________
(1) رواه البخاري وأحمد.(2/12)
واشترط جمهور الفقهاء ألا يكبر المأموم حتى يفرغ إمامه من التكبير، للحديث المتفق عليه: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا» وأجاز الحنفية مقارنة المأموم في التكبير وغيره، فيكبر معه كما يركع معه.
الركن الثاني ـ القيام في الفرض لقادر عليه، وكذا في الواجب كنذر وسنة في الأصح عند الحنفية (1) :
لقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238/2] أي مطيعين وقيل: خاشعين، وقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين: «صل قائماً» (2) .
ولا يجب القيام في النافلة، فتصح مع القدرة على القيام؛ لأن مبنى النوافل على التيسير والأخذ بالرفق، ولأن النوافل كثيرة، فلو وجب فيها القيام شَقَّ وانقطعت النوافل.
ولا يجب أيضاً على المريض العاجز عن القيام، سواء في الفريضة أم النافلة؛ لأن التكليف بقدر الوسع، ومن عجز عن القيام قعد كيف شاء.
وحدّ القيام عند الحنفية: أن يكون بحيث لو مدّ يديه لا ينال ركبتيه. وعند المالكية والحنابلة: ألا يكون في حالة جلوس ولا في حالة انحناء بحيث يصير راكعاً. ولا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق لأنه لا يخرجه عن كونه يسمى قائماً.
__________
(1) تبيين الحقائق:104/1، فتح القدير:192/1،204،278، الشرح الصغير:307/1،312،360، مغني المحتاج:153/1 ومابعدها، كشاف القناع:450/1، المهذب:70/1، الشرح الكبير مع الدسوقي:231/1،237،255-257، غاية المنتهى:138/1، 151.
(2) رواه الجماعة والحاكم عن عمران بلفظ: «كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة، فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» . زاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقياً، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (نصب الراية:175/2) .(2/13)
وعند الشافعية: يشترط نصب فَقَار المصلي (1) ؛لأن اسم القيام دائر معه، ولايشترط نصب رقبته؛ لأنه يستحب إطراق الرأس. فإن وقف منحنياً أو مائلاً يمنة أو يسرة، بحيث لا يسمى قائماً، لم يصح قيامه لتركه الواجب بلا عذر. والانحناء المنافي للقيام: أن يصير إلى الركوع أقرب، فلو كان أقرب إلى القيام أو استوى الأمران صح. فهم إذن كالمالكية والحنابلة.
ومن لم يطق انتصاباً بسبب مرض أو تقوس ظهر بسبب الكبر، فالصحيح أنه يقف كذلك، ويزيد انحناءه إن قدر.
والمقدار المفروض من القيام: هو عند الحنفية بقدر القراءة المطلوبة فيه، وهو بقدر قراءة الفاتحة وسورة وتكبيرة الإحرام.
وعند الجمهور: بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة فقط؛ لأن الفرض عندهم قراءة الفاتحة، وأما السورة بعدها فهي سنة.
هل يشترط الاستقلال في القيام؟
قال الحنفية: يشترط للقادر الاستقلال في الفرض، فمن اتكأ على عصاه، أو على حائط ونحوه، بحيث يسقط لو زال، لم تصح صلاته، فإن كان لعذر صحت.
أما في التطوع أوالنافلة: فلا يشترط الاستقلال بالقيام سواء أكان لعذر أم لا، إلا أن صلاته تكره لأنه إساءة أدب، وثوابه ينقص إن كان لغير عذر.
وقال المالكية: يجب القيام مستقلاً في الفرائض للإمام والمنفرد حال تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والهوي للركوع، وأما حال قراءة السورة فهو سنة، فلو استند إلى شيء بحيث لو أزيل لسقط، فإن كان في غير قراءة السورة، بطلت صلاته؛ لأنه لم يأت بالفرض الركني، وإن كان في حال قراءة السورة لم تبطل وكره استناده، ولو جلس في حال قراءة السورة بطلت صلاته لإخلاله بهيئة الصلاة. وأما المأموم فلا يجب عليه القيام لقراءة الفاتحة، لو استند حال قراءتها لعمود بحيث لو أزيل لسقط، صحت صلاته.
__________
(1) أي فقرات الظهر أو مفاصله(2/14)
وقال الشافعية: لا يشترط الاستقلال في القيام، فلو استند إلى شيء، أجزأه مع الكراهة، لوجود اسم القيام. لكن لو استند إلى شيء بحيث لو رفع قدميه إن شاء، ظل مستنداً ولم يسقط، لم تصح صلاته؛ لأنه لا يسمى قائماً، بل معلقاً نفسه.
وقال الحنابلة: يشترط الاستقلال في القيام للقادر عليه في فرض، فلو استند استناداً قوياً على شيء بلا عذر، بطلت صلاته.
صلاة المريض أو متى يسقط القيام؟
اتفق الفقهاء على أنه يسقط القيام في الفرض والنافلة للعاجز عنه لحديث عمران بن حصين السابق: «صل قائماً، فإن لم تستطع، فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» فإن قدر على بعض القراءة ولو آية قائماً، لزمه بقدرها.
ويسقط القيام أيضاً عند جمهور الفقهاء غير الشافعية للعريان، فإنه يصلي قاعداً بالإيماء إذا لم يجد ساتراً يستر به عورته، كما قدمنا.
ومن حالات العجز المسقطة للقيام: حالة المداواة: كمن يسيل جرحه إذا قام، أو أثناء مداواة العين استلقاء. ومنها: حالة سلس البول: فإذا كان يسيل بوله لو قام، وإن قعد لم يسل، صلى قاعداً، ولا إعادة عليه حتى عند الشافعية في الأصح.
ومنها: حالة الخوف من عدو بحيث إذا قام، رآه العدو، صلى قاعداً ولا إعادة عليه حتى عند الشافعية أيضاً.
ومنها: عند الحنابلة قصر سُقِف لعاجز عن خروج كالحبس، وصلاة خلف إمام حي عاجز.
كيفية صلاة العاجز المريض:
للفقهاء آراء متقاربة في كيفية صلاة المريض، وبعضها أيسر من بعض.
قال الحنفية (1) :
أـ إذا عجز المريض عن القيام، سقط عنه، وصلى قاعداً كيف تيسر له، يركع ويسجد إن استطاع، فإن لم يستطع الركوع والسجود، أو السجود فقط، أو مأ إيماء برأسه، وجعل إيماءه للسجود أخفض من ركوعه، تفرقة بينهما، لحديث عمران بن حصين المتقدم.
__________
(1) اللباب: 1 /100 وما بعدها، فتح القدير: 1 /375 وما بعدها، البدائع 1 /105 وما بعدها، تبيين الحقائق 1 /199 - 204.(2/15)
ولا يرفع إلى وجهه شيئاً مثل الكرسي والوسادة، يسجد عليه، لنهيه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، روى جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم عاد مريضاً، فرآه يصلي على وسادة، فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً ليصلي عليه، فرمى به، وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك (1) .
ب ـ فإن لم يستطع القعود، استلقى على ظهره، وجعل رجليه إلى القبلة، وأومأ بالركوع والسجود.
وإن استلقى على جنبه، ووجهه إلى القبلة، وأومأ، جاز، والكيفية أو الهيئة الأولى هنا أولى؛ لأن إشارة المستلقي تقع إلى هواء الكعبة، وإشارة المضطجع على جنبه تقع إلى جانب قدميه، أي أن الاستلقاء عندهم أولى من الاضطجاع، وعلى الشق الأيمن أولى من الأيسر.
جـ ـ فإن لم يستطع الإيماء برأسه: أخر الصلاة، ولا يومئ بعينيه ولا بقلبه، ولا بحاجبيه؛ لأنه لا عبرة به، عملاً بالحديثين السابقين عن عمران وجابر، ولأن إقامة البدل عن هيئة الصلاة الواجبة شرعاً بالرأي ممتنع، ولا قياس على الرأس؛ لأنه يتأدى به ركن الصلاة، دون العين والحاجبين والقلب.
ولا تسقط عنه الصلاة، ويجب عليه القضاء، ولو كثرت الصلوات إذا كان يفهم مضمون الخطاب، وهو الصحيح كما ذكر في الهداية. وذكر في البدائع وغيرها عدم لزوم القضاء إذا كثرت الصلوات، فزاد المتروك عن صلاة يوم وليلة، وإن كان المصلي يفهم الخطاب الشرعي؛ لعدم القدرة على الصلاة، ومنعاً من الوقوف في الحرج، وهو المختار وعليه الفتوى.
وإن قدر المريض على القيام، ولم يقدر على الركوع والسجود، لم يلزمه القيام، وجاز أن يصلي قاعداً يومئ برأسه إيماء. والأفضل الإيماء قاعداً؛ لأنه أشبه بالسجود، لكون رأسه أخفض إلى الأرض.
__________
(1) أخرجه البزار والبيهقي، وأبو يعلى الموصلي، ورواه الطبراني عن ابن عمر (نصب الراية: 175/2 ومابعدها) .(2/16)
وإن صلى الصحيح بعض صلاته قائماً، ثم حدث به مرض، أتمها قاعداً، يركع ويسجد، أو يومئ إن لم يستطع الركوع والسجود، أو مستلقياً إن لم يستطع القعود؛ لأن بناء الأدنى على الأعلى، وبناء الضعيف على القوي أولى من الإتيان بالكل ضعيفاً.
ومن صلى قاعداً يركع ويسجد لمرض به، ثم صح في خلالها، بنى على صلاته قائماً؛ لأن البناء كالاقتداء، والقائم يقتدي بالقاعد.
وإن كان المريض صلى بعض صلاته بإيماء، ثم قدر في خلالها على الركوع والسجود، استأنف (جدد) الصلاة؛ لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ، فكذا البناء لايجوز.
وقال المالكية (1) :
أـ إذا لم يقدر المصلي على القيام استقلالاً لعجز أو لمشقة فادحة كدوخة في صلاة الفرض، جاز فيه الجلوس، ولا يجوز الاضطجاع إلا لعذر.
ويجوز أداء بعض الصلاة قائماً وبعضه جالساً باتفاق أهل المذهب.
ب ـ ومن قدر على القيام في الفرض، ولكن خاف به ضرراً كالضرر المبيح للتيمم (وهو خوف حدوث مرض من نزلة أو إغماء أو زيادته لمتصف به، أو تأخر برء) ، أو خاف بالقيام خروج حدث كريح، استند ندباً لحائط أو على قضيب أو لحبل معلَّق بسقف البيت يمسكه عند قيامه، أو على شخص غير جنب أوحائض. فإن استند على جنب أو حائض أعاد بوقت ضروري.
وإن صلى جالساً مستقلاً عن غيره، مع القدرة على القيام مستنداً، صحت صلاته.
جـ ـ وإن تعذر القيام بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً) ، جلس وجوباً إن قدر، وإن لم يقدر جلس مستنداً.
وتربع ندباً للجلوس البديل عن القيام: وهو حالة تكبيرة الإحرام، والقراءة والركوع، ثم يغير جلسته في الجلوس بين السجدتين والتشهد.
د ـ وإن لم يقدر على الجلوس بحالتيه (مستقلاً أو مستنداً) ، صلى على شق أيمن ندباً، فأيسر إن عجز عن الأيمن، ثم مستلقياً على ظهر ورجلاه للقبلة، فإن لم يقدر فعلى بطنه ورأسه للقبلة.
__________
(1) الشرح الصغير:358/1-363، الشرح الكبير:257/1-262.(2/17)
والشخص القادر على القيام فقط، دون الركوع والسجود والجلوس، أومأ للركوع والسجود قائماً.
والقادر على القيام مع الجلوس، أومأ للركوع من القيام، وأومأ للسجود من الجلوس، فإن خالف فيهما، بطلت صلاته.
وإذا أومأ للسجود من قيام أوجلوس، حَسَر (رفع) عمامته عن جبهته وجوباً، بحيث لو سجد لأمكن وضع جبهته بالأرض، أو بما اتصل بها من فرش ونحوه. وإن كان بجبهته قروح، فسجد على أنفه، صحت صلاته؛ لأنه أتى بما في طاقته من الإيماء، علماً بأن حقيقة السجود: وضع الجبهة على الأرض.
وإن قدر المصلي على جميع الأركان، في الركعة الأولى، إلا أنه إذا سجد بعد أن أتم الركوع وقراءة الفاتحة، لا يقدر على القيام، صلى الركعة الأولى بسجدتيها، وتمم صلاته جالساً.
هـ ـ إن لم يقدر المصلي على شيء من الأركان إلا على نية، بأن ينوي الدخول في الصلاة ويستحضرها، أو قدر على النية مع إيماء بطرف، وجبت الصلاة بما قدر عليه، وسقط عنه غير المقدور عليه. وإن قدر مع ذلك على (السلام) سلم.
ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بما قدر عليه، مادام المكلف في عقله.
وقال الشافعية (1) :
أـ إن لم يقدر على القيام في الفرض مع نصب عموده الفقري، وقف منحنياً؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.
ب ـ وإن عجز عن القيام أصلاً (بأن لحقته مشقة شديدة لا تحتمل في العادة كدوران رأس راكب السفينة) ، قعد كيف شاء، لخبر عمران بن حصين، وركع محاذياً جبهته قُدَّام ركبتيه، والأفضل أو الأكمل: أن يحاذي موضع سجوده. وكل من ركوعه وسجوده على وزان ركوع القائم في المحاذاة بحسب النظر، لأنه يسن للمصلي النظر إلى موضع سجوده.
وقعوده مفترشاً كهيئة الجالس للتشهد الأول أفضل من تربعه في الأظهر؛
__________
(1) مغني المحتاج: 154/1 ومابعدها، الحضرمية: ص38 ومابعدها، تحفة الطلاب: ص69.(2/18)
لأنها هيئة مشروعة في الصلاة، فكانت أولى من غيرها، ويكره الإقعاء بأن يجلس على وركيه ناصباً ركبتيه، لما فيه من التشبه بالكلب والقرد.
جـ ـ فإن لم يقدر على القعود: بأن نالته المشقة السابقة، اضطجع وجوباً على جنبه، مستقبلاً القبلة بوجهه ومقدم بدنه. والجنب الأيمن أفضل للاضطجاع عليه من الأيسر، والأيسر بلا عذر مكروه.
د ـ فإن لم يقدر على الاضطجاع، استلقى، ويرفع وجوباً رأسه بشيء كوسادة ليتوجه إلى القبلة بوجهه ومقدم بدنه، إلا أن يكون في الكعبة وهي مسقوفة، فيجوز له الاستلقاء على ظهره، وعلى وجهه وإن لم تكن مسقفة؛ لأنه كيفما توجه، فهو متوجه لجزء منها. ويركع ويسجد بقدر إمكانه، فيومئ برأسه للركوع والسجود، وإيماؤه للسجود أكثر، بقدر إمكانه.
هـ ـ فإن لم يقدر، أومأ بطرفه (أي بصره) إلى أفعال الصلاة.
وـ فإن لم يقدر، أجرى الأركان على قلبه، مع السنن، بأن يمثل نفسه قائماً وراكعاً، وهكذا؛ لأنه الممكن.
فإن اعتقل لسانه، أجرى القراءة وغيرها على قلبه كذلك.
ولا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله ثابتاً، لوجود مناط التكليف.
ومتى قدر على مرتبة من المراتب السابقة في أثناء الصلاة، لزمه الإتيان بها.
ز ـ للقادر على القيام، أن يتنفل قاعداً، أو مضطجعاً في الأصح، لا مستلقياً، ويقعد للركوع والسجود ولا يومئ بهما إن اضطجع، لعدم وروده في السنة. وأجر القاعد القادر نصف أجر القائم، والمضطجع نصف أجر القاعد لحديث ثابت في ذلك.
والخلاصة: إن المريض يصلي كيف أمكنه ولو مومياً ولا يعيد، والغريق والمحبوس يصليان موميين ويعيدان.(2/19)
ومذهب الحنابلة (1) كالشافعية، فإنهم قالوا:
أـ يجب أن يصلي المريض قائماً إجماعاً في فرض، ولو لم يقدر إلا بصفة ركوع، لحديث عمران بن حصين مرفوعاً: «صل قائماً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه الجماعة، وزاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقياً» وحديث «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه مااستطعتم» .
ويصلي قائماً ولو بالاستناد إلى شيء آخر بأجرة مثله أو زائدة يسيراً إن قدر عليها، فإن لم يقدر على الأجرة، صلى على حسب ما يستطيع، وهذا يوافق رأي المالكية.
ب ـ فإن لم يستطع المريض القيام أو شق عليه مشقة شديدة لضرر من زيادة مرض، أو تأخر برء ونحوه، فإنه يصلي قاعداً لما تقدم من الخبر، متربعاً ندباً كمتنفل أي كما قال المالكية، وكيف قعد جاز كالمتنفل، ويثني رجليه في ركوع وسجود، كمتنفل.
جـ ـ فإن لم يستطع القعود، أو شق عليه، فيصلي على جنب، لما تقدم في حديث عمران.
والصلاة على الجنب الأيمن أفضل من الصلاة على الجنب الأيسر، لحديث علي مرفوعاً: «يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع، صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً، صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً، رجلاه مما يلي القبلة» (2) فإن صلى على الجنب الأيسر، جاز، لظاهر خبر عمران، ولتحقق استقبال القبلة.
د ـ ويصح أن يصلي على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، مع القدرة على الصلاة على جنبه، لأنه نوع الاستقبال (3) ، مع الكراهة. فإن تعذر عليه أن يصلي على جنبه تعين الظهر، لما تقدم في حديث علي.
ويلزمه الإيماء بركوعه وسجوده برأسه ما أمكنه، لحديث «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه وجوباً، لحديث علي، وليتميز أحدهما عن الآخر.
__________
(1) كشاف القناع:587/1-589، المغني:143/2-149.
(2) رواه الدارقطني.
(3) ولهذا يوجه الميت كذلك عند الموت.(2/20)
هـ ـ فإن عجز عن الإيماء برأسه لركوعه وسجوده كأسير عاجز، أومأ بطرفه (أي عينه) ونوى بقلبه، لما روى زكريا الساجي عن علي بن أبي طالب أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «فإن لم يستطع أومأ بطرفه» .
وـ فإن عجز عن الإيماء بطرفه، فيصلي بقلبه، مستحضراً القول إن عجز عنه بلفظه، ومستحضراً الفعل بقلبه، لقوله تعالى: {وماجعَل عليكم في الدين من حَرج} [الحج:78/22] ، وقوله: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/2] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» .
ولا تسقط الصلاة حينئذ عن المكلف، ما دام عقله ثابتاً، لقدرته على أن ينوي بقلبه، مع الإيماء بطرفه أو بدونه، ولعموم أدلة وجوب الصلاة (1)
والخلاصة: إن أقصى حالات التيسير للمريض هو الإيماء بالرأس عند الحنفية، والإيماء بالطرف (البصر أو العين) أو مجرد النية عند المالكية، وإجراء الأركان على القلب عند الشافعية والحنابلة.
واتفق الكل على أنه لا تسقط الصلاة عن المرء ما دام في عقله، ويجب قضاؤها عند الحنفية إن لم يستطع الإيماء برأسه.
الركن الثالث ـ القراءة لقادر عليها:
الركن عند الحنفية (2) الذي هو فرض عملي في جميع ركعات النفل والوتر، وفي ركعتين من الفرض، للإمام والمنفرد: هو قراءة آية من القرآن، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/73] ، ومطلق الأمر للوجوب، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بقراءة» (3) وأقل الواجب عند أبي حنيفة: هو آية بمقدار ستة أحرف مثل {ثم نظر} [المدثر:21/74] ، ولو تقديراً، مثل {لم يلد} [الإخلاص:3/112] ، إذ أصله {لم يولد} [الإخلاص:3/112] وقال الصاحبان: فرض القراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، بمقدار ثلاث آيات قصيرة.
__________
(1) وأما حديث الدَّارمي وغيره عن ابن عمر مرفوعاً: «يصلي المريض قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع فمستلقياً، فإن لم يستطع فالله أولى بالعذر» فإسناده ضعيف.
(2) الدر المختار ورد المحتار:415/1، فتح القدير:193/1،205، 322 ومابعدها، البدائع:110/1، تبيين الحقائق:104/1 ومابعدها.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة.(2/21)
وأما تعيين القراءة في الركعتين الأوليين من الفرض فهو واجب، لقول علي رضي الله عنه: «القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين» وعن ابن مسعود وعائشة: «التخيير في الأخريين، إن شاء قرأ، وإن شاء سبح» وكذلك قراءة الفاتحة والسورة، أو ثلاث آيات، هو واجب أيضاً (1) .
ليست الفاتحة عندهم فرضاً في الصلاة مطلقاً، لا في السرية ولا في الجهرية، لا على الإمام، ولا على المأموم، بل تكره قراءتها للمأموم.
البسملة عند الحنفية:
ليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور إلا من سورة النمل في أثنائها، لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» (2) .
لكن يقرأ المنفرد بسم الله الرحمن الرحيم مع الفاتحة في كل ركعة سراً، كما أنه يسر بالتأمين، فالتسمية والتأمين يسر بهما القارئ. أما الإمام فلا يقرأ البسملة ولا يسر بها لئلا يقع السر بين جهرين، قال ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ، والتسمية، والتأمين، والتحميد» (3)
وأدلتهم ما يأتي:
1ً - قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/73] هو أمر
__________
(1) قد تفرض القراءة في جميع ركعات الفرض الرباعي: كما لو استخلف الإمام مسبوقاً بركعتين، وأشار أنه لم يقرأ في الركعتين الأوليين.
(2) رواه مسلم وأحمد.
(3) أي ربنا لك الحمد، رواه ابن أبي شيبة عن ابراهيم النخعي.(2/22)
بمطلق قراءة، فتتحقق بأدنى ما يطلق عليه اسم القرآن، وبما أن قراءة القرآن ليست فرضاً خارج الصلاة بالإجماع بدليل سياق الآية، فتعين أن تكون فرضاً في الصلاة.
2ً - لا تجوز الزيادة بخبر الواحد الظني على ما ثبتت فرضيته بالدليل القطعي في القرآن، ولكن خبر الواحد يوجب العمل به، لا فرضيته، فقالوا بوجوب قراءة الفاتحة فقط، أي أن الصلاة تصح بتركها مع الكراهة التحريمية.
3ً - جاء في حديث المسيء صلاته المتقدم: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسرمعك من القرآن» (1) فالواجب هو مطلق القراءة، كما دل القرآن، ولو كانت قراءة الفاتحة فرضاً أو ركناً لعلَّمه إياها، لجهله بالأحكام وحاجته إليها.
4ً - أما حديث «لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» الذي رواه الأئمة الستة عن عبادة بن الصامت (2) ، فهو محمول على نفي الفضيلة، لا نفي الصحة كحديث «لاصلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (3) .
قراءة المقتدي:
أما المقتدي: فلا قراءة عليه عند الحنفية للأدلة الآتية (4) :
1 ً - الكتاب: قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن، فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204/7] ، قال الإمام أحمد: «أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة» وهي تأمر بالاستماع والإنصات، والاستماع خاص بالجهرية، والإنصات يعم السرية والجهرية، فيجب على المصلين أن يستمعوا فيما يجهر به، وأن ينصتوا فيما يسر به. وبما أن الأحاديث تطلب القراءة، فقد أصبحت دلالة الآية مفيدة للوجوب، الذي يقتضي مخالفته كراهة التحريم.
__________
(1) انظر نصب الراية:366/1.
(2) انظر نصب الراية:365/1.
(3) حديث ضعيف رواه الدارقطي عن جابر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما.
(4) البدائع:110/1 ومابعدها، مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين شلتوت والسايس: ص25ومابعدها.(2/23)
2 ً - السنة: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من صلى خلف إمام، فإن قراءة الإمام له قراءة» (1) وهو يشمل السرية والجهرية. وقال عليه السلام أيضاً: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (2) .
وفي حديث آخر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر، فجعل رجل يقرأ خلفه: سبح اسم ربك الأعلى، فلما انصرف، قال: «أيكم قرأ» أو أيكم القارئ، فقال الرجل: أنا، فقال: لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها» (3) أي نازعنيها. وهذا يدل على إنكار القراءة في صلاة سرية، ففي الجهرية أولى.
3 ً - القياس: لو وجبت القراءة على المأموم، لما سقطت عن المسبوق كسائر الأركان، فقاسوا قراءة المؤتم على قراءة المسبوق في حكم السقوط، فتكون غير مشروعة.
وقال الجمهور (4) (غير الحنفية) : ركن القراءة الواجبة في الصلاة: هو الفاتحة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقوله أيضاً: «لا تجزئ صلاة لا يقرأ
__________
(1) رواه أبو حنيفة عن جابر رضي ال عنه.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(3) متفق عليه عن عمران بن حصين.
(4) الشرح الصغير:309/1، بداية المجتهد:119/1 ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي:236/1، مغني المحتاج:156/1-162، المغني:376/1-491، 562-568، كشاف القناع:451/1، المهذب:72/1، المجموع:285/3 ومابعدها، حاشية الباجوري:153/1-156.(2/24)
فيها بفاتحة الكتاب» (1) ، ولفعله صلّى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، مع خبر البخاري: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وأما قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة فهو سنة، وأما المأموم فيقرأ في الصلاة السرية الفاتحة والسورة، ولا يقرأ شياً عند المالكية والحنابلة في الجهرية، ويقرأ الفاتحة فقط في الجهرية عند الشافعية (2) . وفي ظاهر كلام أحمد أنه استحسن قراءة بعض الفاتحة في سكتة الإمام الأولى، ثم يقرأ بقية الفاتحة في السكتة الثانية. ويستمع بينهما لقراءة الإمام.
إلا أن الشافعية قالوا: تتعين قراءة الفاتحة حفظاً أو نظراً في مصحف أو تلقيناً أو نحو ذلك، في كل ركعة للإمام والمأموم والمنفرد، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، فرضاً أم نفلاً، للأدلة المذكورة هنا، ولحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني أراكم تقرءون وراء إمامكم؟! قال: قلنا: يا رسول الله، إي وا لله، قال: لاتفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» (3) فهذا نص صريح خاص بقراءة المأموم دال على فرضيتها، وظاهر النفي متجه إلى الإجزاء، أي لا تجزئ، وهو كالنفي للذات في المآل.
فلو تركها ناسياً لا يجزيه في الجديد؛ لأن ما كان ركناً من الصلاة، لم يسقط فرضه بالنسيان كالركوع والسجود. ولا تسقط عن المصلي إلا لمسبوق في ركعة، فإن الإمام يتحملها عنه. وكالمسبوق: زحمة أو نسيان أنه في الصلاة، أو بطء حركة، بأن لم يقم من السجود إلا والإمام راكع أو قريب من الركوع، أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة الفاتحة فتخلف لها.
__________
(1) رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما.
(2) المجموع:344/3-350.
(3) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان (سبل السلام:170/1) .(2/25)
والبسملة عند الشافعية آية من الفاتحة، لما رواه البخاري في تاريخه أنه صلّى الله عليه وسلم عدّ الفاتحة سبع آيات، وعدّ: بسم الله الرحمن الرحيم آية منها. وروى الدارقطني عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله، فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» (1) ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن، فيدل على أنها آية منها.
وإن كان في صلاة جهرية جهر بها، كما يجهر في سائر الفاتحة، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم (2) ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن، بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ، فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة.
وتشديدات الفاتحة الأربع عشرة شدة هي منها، ثلاث منها في البسملة، فلو خفف منها تشديدة، بطلت قراءة تلك الكلمة، لتغييره النظم.
ويشترط في القراءة: عدم اللحن المخل بالمعنى كضم تاء: أنعمت، أو كسرها ممن يمكنه التعلم، وكقراءة شاذة: وهي غير السبعة إن غيرت المعنى كقراءة {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28/35] برفع الأول ونصب الثاني، أو زادت ولو حرفاً أو نقصت، فمتى فعل شيئاً من ذلك بطلت قراءته.
__________
(1) وهناك أحاديث أخرى في موضوع البسملة، منها ما رواه البخاري ومسلم وابن خزيمة بإسناد صحيح عن أم سلمة. وهذا الحديث رواه الدارقطني وصوب وقفه (سبل السلام:173/1)
(2) رويت أحاديث الجهر بالبسملة إما في البخاري وإما في مسلم وإما فيهما عن ستة من الصحابة: أبي هريرة وأم سلمة وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب رضي الله عنهم (المجموع:302/3) .(2/26)
وقال المالكية (1) : تصح القراءة بالقراءة الشاذة إن وافقت رسم المصحف العثماني، وإن لم تجز القراءة بها. وتصح القراءة بلحن في القراءة ولو بالفاتحة إن لم يتعمد، وأثم الإمام إن وجد غيره ممن يحسن القراءة. وتصح القراءة بغير تمييز بين ضاد وظاء، كما في لغة العرب الذين يقلبون الضاد ظاء. ولا تصح القراءة إن تعمد اللحن أو تبديل الحروف بغيرها، ولا يصح الاقتداء به.
ولو أبدل صاداً بظاء لم تصح في الأصح قراءته لتلك الكلمة، لتغييره النظم واختلاف المعنى.
ويجب ترتيبها (بأن قرأ آياتها على نظمها المعروف) وموالاتها (بأن يصل بعض كلماتها ببعض من غير فصل إلا بقدر التنفس) عملاً بالسنة: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن تخللها ذكر كالتحميد عند العطاس، قطع الموالاة. أما إن كان الفاصل متعلقاً بالصلاة كالتأمين لقراءة الإمام، وفتحه (2) عليه إذا توقف في القراءة، وسؤال الرحمة، والتعوذ من العذاب، وسجود التلاوة لقراءة إمامه، فلا يقطع الموالاة في الأصح. ويقطع الموالاة السكوت الطويل، لإشعاره بالإعراض مختاراً، وكذا اليسير إن قصد به قطع القراءة في الأصح، عملاً بالنية.
وإن جهل إنسان الفاتحة بكمالها بأن لم يمكنه معرفتها لعدم معلم أو مصحف أو نحو ذلك، أجزأه بدلها بما يعادل حروفها في الأصح، من سبع آيات متوالية أو متفرقة، فإن عجز عنها أتى بسبعة أنواع من ذكر أو دعاء يتعلق بالآخرة لا الدنيا بحيث لا ينقص عن حروفها، لما روى أبو داود وغيره «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزيني عنه، فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» .
فإن لم يحسن شيئاً قرآناً ولا ذكراً، وقف بقدر الفاتحة.
__________
(1) الشرح الصغير:437/1.
(2) الفتح على الإمام: هو تلقين الآية عند التوقف فيها، ومحله إذا سكت، فلا يفتح عليه مادام يردد التلاوة.(2/27)
ويسن عقب الفاتحة بعد سكتة لطيفة: (آمين) (خفيفة الميم بالمد، ويجوز القصر) أي استجب، سواء أكان في صلاة أم لا، ولكن في الصلاة أشد استحباباً، لما روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن وائل بن حُجْر، قال: «صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما قال ـ ولا الضالين ـ قال: آمين، ومدّ بها صوته» وروى البخاري عن أبي هريرة: «إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .
ويؤمن مع تأمين إمامه، ويجهر به في الأظهر (1) ، تبعاً لإمامه للاتباع، رواه ابن حبان وغيره وصححوه، مع خبر: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وتسن للإمام والمنفرد قراءة سورة بعد الفاتحة، إلا في الركعتين الثالثة والرابعة في الأظهر، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان، فإن سُبق بهما المأموم من صلاة نفسه، قرأها فيهما حين تداركهما، على النص؛ لأن مافاته المسبوق مع الإمام بالنسبة إليه هو أول صلاته، وما أدركه معه هوآخر صلاته، لئلا تخلو صلاته من سورتين.
ولا يقرأ المأموم سورة في الصلاة الجهرية، إلا إن كان بعيداً لا يسمع الإمام، أو كان به صمم أو سمع صوتاً لا يفهمه. ويقرأ سورة في الصلاة السرية في الأصح، إذ لا معنى لسكوته.
__________
(1) يجهر المأموم خلف الإمام في خمسة مواضع: أربعة مواضع تأمين: يؤمن مع تأمين الإمام، وفي دعائه في قنوت الصبح، وفي قنوت الوتر في النصف الثاني من رمضان، وفي قنوت النازلة في الصلوات الخمس. وإذا فتح على الإمام بآية(2/28)
وقال المالكية على المشهور: والحنابلة: يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة على الإمام والمنفرد، ولا يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية وإنما يستحب أن يقرأها في السرية؛ لأن الأمر القرآني بالاستماع والإنصات للقرآن خاص بالصلاة الجهرية، بدليل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله، قال: فإني أقول: ما لي أنازَع القرآن، فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه من الصلوات بالقراءة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (1) وهذا صريح في كراهة القراءة للمؤتم حالة الجهر.
أما دليلهم على استحباب القراءة في حالة السر: فهو قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أسررت بقراءتي فاقرءوا» (2) .
وألحق الحنابلة بالصلاة السرية: كل ما لا يجهر فيه من حالات عدم السماع لبعد أو آفة أو سكوت الإمام، أي كما قال الشافعية؛ لأن المأموم في كل تلك الأحوال غير سامع للقراءة، فلا يحصل له مقصود الاستماع.
ويظهر لي أن هذا الرأي هو أولى الآراء، توفيقاً بين دلالة الآية على وجوب الاستماع للقرآن، ودلالة الحديث على القراءة في السر، وعدم وجود مسوغ للإنصات في السرية، لكني لا أطمئن إلى ترك الفاتحة مطلقاً، للحديث المتفق عليه والمتواتر عن عبادة وغيره: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» وهودليل واضح على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، ولأن الظاهر فيه بحسب الأصل هو نفي الصحة، لا نفي الكمال والفضيلة.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن.
(2) رواه الدارقطني والترمذي.(2/29)
وليست البسملة عند المالكية آية من الفاتحة، فلا يقرؤها في الصلاة المكتوبة، جهراً كانت أو سراً، لا في الفاتحة، ولا في غيرها من السور. ويجب عند المالكية كغيرهم تعلم الفاتحة إن أمكن التعلم، فإن لم يمكن التعلم لخرس ونحوه، أو لم يجد معلماً أو ضاق الوقت، ائتم وجوباً بمن يحسنها إن وجده، وتبطل إن تركه، وإن لم يجده صلى منفرداً. ويندب الإسرار عندهم بالتأمين لكل مصل طلب منه أي كما قال الحنفية.
وقال الحنابلة: البسملة آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة، لكن يقرأ بها سراً، ولا يجهر بها.
ويلزم المصلي عند الحنابلة كما قال الشافعية بقراءة الفاتحة مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحناً يغير المعنى، فإن ترك ترتيبها أو شدَّة منها، أو لحن لحناً يحيل المعنى، مثل أن يكسر كاف (إياك) أو يضم تاء (أنعمت) أو يفتح ألف الوصل في (اهدنا) لم تصح قراءته، إلا أن يكون عاجزاً عن غير هذا، وإن قطع قراءة الفاتحة بذكر من دعاء أو قراءة أو سكوت يسير أو قال: آمين في أثناء قراءة الإمام، لا تنقطع قراءته. وقال المالكية على المعتمد: إن اللحن لا يبطل الصلاة ولو غيَّر المعنى.
وأقل ما يجزئ في الفاتحة: قراءة مسموعة يسمعها نفسه، أو يكون بحيث يسمعها لو كان سميعاً، كما هو المقرر في تكبيرة الإحرام، فإن ما دون ذلك ليس بقراءة. والمستحب: أن يأتي بها مرتلة معربة يقف فيها عند كل آية، ما لم يؤد ذلك إلى التمطيط، لقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل:4/73] . وقال المالكية: تجزئ القراءة وإن لم يسمع نفسه.(2/30)
وقد أجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ القراءة بغير العربية (1) ، ولا الإبدال بلفظها لفظاً عربياً آخر، سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن، لقوله تعالى: {قرآناً عربياً} [يوسف:2/12] ، وقوله سبحانه: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195/26] ولأن القرآن معجزة بلفظه ومعناه، فإذا غيّر خرج عن نظمه، فلم يكن قرآناً ولامثله، وإنما يكون تفسيراً له، والتفسير غير المفسر، وليس مثل القرآن المعجز المتحدى بالإتيان بسورة مثله. لكن أجاز بعض الحنفية لعاجز عن القراءة بالعربية أن يقرأ الفاتحة بغير العربية (2) .
والتأمين عند الحنابلة وغيرهم سنة للإمام والمأموم للأحاديث السابقة، ويسن عند الحنابلة كالشافعية أن يجهر الإمام والمأموم بالتأمين فيما يجهر فيه بالقراءة، ويخفيه فيما يخفي فيه القراءة.
الركن الرابع ـ الركوع:
الركوع لغة: مطلق الانحناء، وشرعاً: الانحناء بالظهر والرأس معاً حتى تبلغ يداه (أوراحتاه) ركبتيه، وأقله: أن ينحني حتى تنال راحتاه ركبتيه، وأكمله: تسوية ظهره وعنقه (أي يمدّهما بانحناء خالص بحيث يصيران كالصفيحة الواحدة) اتباعاً كما رواه مسلم، ونصب ساقيه وفخذيه، ومساواة رأسه بعجزه، ويكفيه أخذ ركبتيه بيديه وتفرقة أصابعه لجهة القبلة، ولا يرفع رأسه ويكفيه أخذ ركبتيه بيديه وتفرقة أصابعه لجهة القبلة، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه بالنسبة للرجل، أما المرأة
__________
(1) ثبت عن أبي حنيفة أنه رجع عن القول بجواز القراءة بغير العربية، ولم يعمل بقوله السابق أحد من مقلديه أو من غيرهم.
(2) البدائع 1/112.(2/31)
فتضم بعضها إلى بعض، ومن تقوس ظهره يزيد في الانحناء قليلاً إن قدر عليه (1) .
ودليل فرضية الركوع: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا} [الحج:77/22] ، وحديث المسيء صلاته « ... ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» وللإجماع على فرضيته.
ودليل وضع اليدين على الركبتين: ما ذكره أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رأيته إذا ركع، أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» يعني عصره حتى يعتدل.
ودليل مشروعية التفريق بين الأصابع: ما رواه أبو مسعود عقبة بن عمرو: أنه ركع، فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه من وراء ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي» (2) .
ودليل عدم رفع الرأس وعدم خفضه: قول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» (3) وجاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان إذا ركع، لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك» وذلك لاستواء ظهره.
ويشترط عند الشافعية والحنابلة ألا يقصد بركوعه غيره، فلو هوى للتلاوة، فجعله ركوعاً، لم يكفه.
__________
(1) فتح القدير:1 / 193،208 وما بعدها، الدر المختار: 1 / 416، الشرح الصغير: 1 / 313، القوانين الفقهية: ص 62، مغني المحتاج: / 163، وما بعدها، المغني: 1 /499 وما بعدها، كشاف القناع: 1 /452، المهذب: 1 / 74.
(2) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي (نيل الأوطار: 2/243 وما بعدها) .
(3) متفق عليه.(2/32)
الاطمئنان في الركوع: أقل الاطمئنان في الركوع: هو أن يمكث في هيئة حتى تستقر أعضاؤه راكعاً قدر تسبيحة في الركوع والسجود وفي الرفع منهما. وهو واجب عند الحنفية كما بينا لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج:22/77] ولم يذكر الطمأنينة، وفرض عند الجمهور كما أشرنا، لحديث المسيء صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» وروى أبو قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قيل: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولاخشوعها» (1) ، وقال أيضاً: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع والسجود» (2) . إلا أن أبا حنيفة ومحمد قالا: هذه الأحاديث أخبار آحاد، فلا يزاد بها فرض على النص القرآني {اركعوا واسجدوا} [الحج:77/22] لئلا يلزم منه نسخ المتواتر بالآحاد؛ لأن الزيادة على النص نسخ عندهم. وقال أبو يوسف الاطمئنان فريضة.
الركن الخامس ـ الرفع من الركوع والاعتدال:
قال أبو حنيفة ومحمد (3) : القيام من الركوع والاعتدال (الاستواء) والجلوس بين السجدتين واجب لا ركن؛ لأنه من مقتضيات الطمأنينة (تعديل الأركان) ، ولقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [الحج:77/22] ويحصل
__________
(1) رواه أحمد والحاكم عن أبي قتادة الطيالسي، ورواه أيضاً أحمد وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار:268/2) .
(2) رواه البخاري.
(3) رد المختار:433-432/1، فتح القدير:1/210 ومابعدها.(2/33)
الركوع بمجرد الانحناء ولم يأمر الله به وإنما أمر بالركوع والسجود والقيام، فلا يفرض غيره، ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على الاعتدال قائماً، وللأمر به في حديث المسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وهذا يدل على الوجوب لثبوته بخبر آحاد، فلو تركه أو ترك شيئاً منه ساهياً، يلزمه سجود السهو، ولو تركه عمداً كره أشد الكراهة، ويلزمه أن يعيد الصلاة في الوقت، وتكون الإعادة جبراً للأولى؛ لأن الفرض لا يتكرر.
هذا ويلاحظ أن المشهور في مذهب الحنفية هو القول بسنية القيام من الركوع والجلسة بين السجدتين وتعديلهما، وروي وجوبها، وهو الموافق للأدلة. وهو الصواب وقول الكمال بن الهمام ومن بعده من متأخري الحنفية.
وقال أبو يوسف والأئمة الآخرون (1) : الرفع من الركوع والاعتدال قائماً مطمئناً ركن أو فرض في الصلاة، وهو أن يعود إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء أكان قائماً أم قاعداً، أو يفعل مقدوره إن عجز. ولا يقصد غيره، فلو رفع فَزَعاً (خوفاً) من شيء كحية، لم يكف رفعه لذلك عن رفع الصلاة، كما صرح الشافعية.
وإذا سجد ولم يعتدل، لم تصح وبطلت صلاته، لتركه ركناً من أركان الصلاة. لقوله صلّى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وداوم النبي على فعله، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ونفى النبي صلّى الله عليه وسلم كون ما فعل المسيء صلاة، فدل كل ذلك على أن الاعتدال والطمأنينة ركن، ويدخل فيه الرفع من الركوع لاستلزامه له.
__________
(1) رد المختار: المكان السابق، اللباب: 1/73، القوانين الفقهية: ص62، الشرح الصغير: 1/313، 328، مغني المحتاج: 1/165ـ170/ المهذب: 1/75، المغني: 1/508، 514، 516، كشاف القناع: 1/452، بداية المجتهد: 1/130.(2/34)
الركن السادس ـ السجود مرتين لكل ركعة:
السجود لغة: الخضوع والتذلل، أو التطامن والميل، وشرعاً: أقله وضع بعض الجبهة مكشوفة على الأرض أو غيرها من المُصلَّى، لخبر: «إذا سجدت، فمكِّن جبهتك ولا تنقر نقراً» (1) وخبر خباب بن الأرت: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا، أي لم يزل شكوانا» (2) . وأكمل السجود: وضع جميع اليدين والركبتين والقدمين والجبهة مع الأنف.
وهو فرض بالإجماع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج:22/77] ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمره به المسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» ولإجماع الأمة.
والواجب عند المالكية (3) : سجود على أيسر جزء من الجبهة: وهي ما فوق الحاجبين وبين الجبينين. ويندب إلصاق جميع الجبهة بالأرض وتمكينها، ويندب السجود على أنفه أيضاً، ويعيد الصلاة لتركه في الوقت الضروري (وهو في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين لطلوع الفجر وفي الصبح لطلوع الشمس) مراعاة لمن يقول بوجوبه، فلو سجد على جبهته دون أنفه، لم يكفه، والمشهور في المذهب: أنه يجزئ السجود على الجبهة بخلاف الأنف، وإن عجز عن السجود على الجبهة أومأ للسجود، كمن كان بجبهته قروح تؤلمه إن سجد.
وذكر الشافعية والحنفية والحنابلة: أن من منعه الزحام عن السجود على أرض أو نحوها مع الإمام، فله السجود على شيء من إنسان أو متاع أو بهيمة أو نحو ذلك، لقول عمر فيما رواه البيهقي بإسناد صحيح: «إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه» .
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه.
(2) رواه البيهقي بسند صحيح، ورواه مسلم بغير جباهنا وأكفنا.
(3) الشرح الصغير: 1/314، لقوانين الفقهية: ص63، بداية المجتهد: 1/133 ومابعدها.(2/35)
وأما السجود على اليدين والركبتين وأطراف القدمين فهو سنة. ودليلهم حديث العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ـ أعضاء ـ وجههُ وكفّاه وركبتاه وقدماه» (1) .
واتفق العلماء (2) على أن السجود الكامل يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، لحديث ابن عباس: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده على أنفه، واليدين، والرُّكبتين، والقدمين» (3) وفي رواية «أُمِرَ النبي صلّى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعراً ولا ثوباًً (4) : الجبهة واليدين والركبتين، والرِّجلين» والمراد من عدم كف الشعر والثوب: عدم رفع الثوب والشعر عن مباشرة الأرض، فيشبه المتكبرين.
ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب. ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار: 2/257) .
(2) فتح القدير: 1/212ـ214، مراقي الفلاح: ص45، تبيين الحقائق: 1/116 ومابعدها، مغني المحتاج: 1/168ـ170، المغني: 1/515، 2/313، كشاف القناع: 1/453، مغني المحتاج: 1/298، المهذب: 1/75، الدر المختار ورد المحتار: 1/416. (3) متفق عليه بين البخاري ومسلم (نيل الأوطار: 2/258) .
(4) جملة معترضة بين المجمل والمبين، والمراد بالشعر: شعر الرأس، وظاهره أن ترك الكف واجب حال الصلاة، لاخارجها، ورده القاضي عياض؛ بأنه خلاف ماعليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي، سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها، والحكمة من المنع حتى لايشبه المتكبرين.(2/36)
واتفق علماء الحنفية وغيرهم على أنه إن قتصر في السجود على الجبهة دون الأنف، جاز. لكن قال أبو حنيفة: يخير المصلي بين الجبهة وبين الأنف، فإن اقتصر على أحدهما، جاز ويكره، مستدلاً بالرواية السابقة لحديث ابن عباس المذكور؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف، ولأن المأمور به في كتاب الله تعالى هو السجود {واسجدوا} [الحج:77/22] ، والسجود المأمور به: هو وضع بعض الوجه الذي هو محل السجود إجماعاً، وهو يتحقق بالأنف، فاشتراط وضع آخر معه زيادة بخبر الواحد، فوجب أن يجوز الاقتصار عليه كالجبهة، بخلاف الذقن والخد ونحوهما، لأنه ليس بمحل للسجود إجماعاً، لكن ضم الأنف للجبهة في السجود واجب عندهم كما بينت.
وقال الصاحبان: لا يجوز الاقتصار في السجود على الأنف إلا لعذر، للحديث السابق الذي عُدّ فيه الجبهة في الأعضاء السبعة، وهذا هو الراجح عند الحنفية.
ووضع اليدين والركبتين سنة عند الحنفية لتحقق السجود بدونهما. وأما وضع القدمين فهو فريضة في السجود، كما ذكر القدوري.
والخلاصة: إن فرض السجود عند الحنفية والمالكية يتحقق بوضع جزء من الجبهة ولو كان قليلاً، والواجب عند الحنفية وضع أكثرها، ويتحقق الفرض أيضاً بوضع أصبع واحدة من القدمين، فلو لم يضع شيئاً من القدمين لم يصح السجود. وأما تكرار السجود فهو أمر تعبدي، أي لم يعقل معناه على قول أكثر مشايخ الحنفية، تحقيقاً للابتلاء (الاختبار) ولو سجد على كَوْر عمامته إذا كان على جبهته أو فاضل (طرف) ثوبه، جاز عند الحنفية والمالكية والحنابلة، ويكره إلا من عذر لحديث أنس «كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في شدة(2/37)
الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكِّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه» (1) . ولا خلاف في عدم وجوب كشف الركبتين، لئلا يفضي إلى كشف العورة، كما لا يجب كشف القدمين واليدين، لكن يسن كشفها، خروجاً من الخلاف.
ودليل جواز ترك كشف اليدين: حديث عبد الله بن عبد الرحمن قال: «جاءنا النبي صلّى الله عليه وسلم، فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد» (2) .
وقال الشافعية: إن سجد على متصل به كطرف كمّه الطويل أو عمامته، جاز إن لم يتحرك بحركته؛ لأنه في حكم المنفصل عنه. فإن تحرك بحركته في قيام أو قعود أو غيرهما كمنديل على عاتقه، لم يجز. وإن كان متعمداً عالماً، بطلت صلاته، وإن كان ناسياً أوجاهلاً، لم تبطل، وأعاد السجود. وتصح صلاته فيما إذا سجد على طرف ملبوسه ولم يتحرك بحركته. وضعف الشافعية الأحاديث الواردة في السجود على كور العمامة، أو أنها محمولة على حالة العذر (3) .
والشافعية والحنابلة متفقون على وجوب السجود على جميع الأعضاء السبعة المذكورة في الحديث السابق، ويستحب وضع الأنف مع الجبهة عند الشافعية، لكن يجب عند الحنابلة وضع جزء من الأنف. واشترط الشافعية أن يكون السجود على بطون الكفين وبطون أصابع القدمين، أي أنه يكفي وضع جزء من كل واحد من هذه الأعضاء السبعة كالجبهة، والعبرة في اليدين ببطن الكف، سواء الأصابع والراحة، وفي الرجلين ببطن الأصابع، فلا يجزئ الظهر منها ولا الحرف.
الاطمئنان في السجود: يجب أن يطمئن المصلي في سجوده، والطمأنينة فرض عند الجمهور واجب عند الحنفية، لحديث المسيء صلاته: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» كما يجب عند الشافعية: أن ينال ثقل رأسه محل سجوده، للخبر السابق: «إذا سجدت فمكِّن جبهتك» ومعنى ذلك: أن يتحامل بحيث لو فرض تحته قطن أو حشيش لا نكبس، وظهر أثره في يده.
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 2/260) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه، وقال: على ثوبه (نيل الأوطار: 2/261) .
(3) نيل الأوطار: 2/260.(2/38)
يتضح مما سبق أنه يشترط لصحة السجود: الطمأنينة، وكشف الجبهة عند الشافعية، ولا يشترط ذلك عند الجمهور، وكون السجود على الجبهة بالاتفاق، ويضم لها القدمان عند الحنفية، واليدان والركبتان والقدمان عند الشافعية والحنابلة، والأنف أيضاً عند الحنابلة، وأن يكون السجود على ما تستقر عليه جبهة المصلي، والتنكس: وهو استعلاء أسافل المصلي وتسفل أعاليه إلا لزحمة سجد فيها على ظهر مصل آخر، كما أوضح الشافعية والحنفية. وأن يقصده عند الشافعية، فلو سقط لوجهه، وجب العود إلى الاعتدال.
والسنة في هيئة السجود عند الجمهور: أن يضع المصلي على الأرض ركبتيه أولاً، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه. ويرفع أولاً وجهه ثم يديه ثم ركبتيه، لحديث وائل ابن حُجْر قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، وضع رُكبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه، قبل ركبتيه» (1) قال الخطابي: هذا أصح من حديث أبي هريرة الآتي في مذهب مالك. فإن عكس الترتيب المذكور أجزأ، مع مخالفة السنة إلا من عذر.
وقال المالكية: يندب تقديم اليدين على الركبتين عند السجود، وتأخير اليدين عن الركبتين عند القيام للقراءة، لحديث أبي هريرة: «إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه» (2) قال ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح.
وتوسط النووي فقال: لا يظهر لي ترجيح أحد المذهبين.
مكان الصلاة:
قال المالكية: تكره الصلاة على غير الأرض وما تنبته. وقال الحنابلة: تصح الصلاة على الثلج بحائل أو لا، إذا وجد حجمه لاستقرار أعضاء السجود، كما تصح على حشيش وقطن منتفش إذا وجد حجمه، وإن لم يجد حجمه، لم تصح صلاته، لعدم استقرار الجبهة عليه (3) .
الركن السابع ـ الجلوس بين السجدتين:
__________
(1) رواه الخمسة إلا أحمد (نيل الأوطار: 2/253) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وقال الخطابي كما ذكرنا: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا. وقال الترمذي: غريب لانعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه (نيل الأوطار: 2/255) .
(3) القوانين الفقهية: ص49، كشاف القناع: 1/346.(2/39)
الجلوس بين السجدتين مطمئناً ركن عند الجمهور، واجب عند الحنفية (1) ، لحديث المسيء صلاته: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» وفي الصحيحين «كان صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه، لم يسجد حتى يستوي جالساً» .
وأضاف الشافعية: ويجب ألا يقصد برفعه غيره، فلورفع فزعاً من شيء لم يكف، وألا يُطوِّله، ولا الاعتدال؛ لأنهما ركنان قصيران ليسا مقصودين لذاتهما، بل للفصل بين السجدتين.
والسنة في هيئة السجود: أن يجلس بين السجدتين مفترشاً: وهو أن يثني رجله اليسرى، ويبسطها ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى ويخرجها من تحته، ويجعل بطون أصابعه على الأرض معتمداً عليها، لتكون أطراف أصابعه إلى القبلة. وذلك للاتباع، كما سيأتي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم هوى ساجداً» وفي حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (2) .
ويضع يديه على فخذيه قريباً من ركبتيه، منشورتي الأصابع، اليمنى واليسرى سواء.
__________
(1) رد المحتار: 1/432 ومابعدها، الشرح الصغير: 1/314، القوانين الفقهية: ص64، مغني المحتاج: 1/171، المغني: 1/522 ومابعدها، كشاف القناع: 1/453.
(2) متفق عليه (نصب الراية: 1/418) .(2/40)
الركن الثامن ـ القعود الأخير مقدار التشهد:
هذا فرض عند الحنفية إلى قوله: (عبده ورسوله) على الصحيح، فلو فرغ المقتدي قبل فراغ الإمام، فتكلم أو أكل، فصلاته تامة، وهو مع التشهد الأخير والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده قاعداً بمقدار: (اللهم صل على محمد) ركن عند الشافعية والحنابلة. والركن عند المالكية هو بمقدار الجلوس للسلام (1) . ويلاحظ أن التشهد الأول كالأخير واجب عند الحنفية، سنة عند الجمهور، كما أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير سنة عند الحنفية والمالكية.
استدل الحنفية: بحديث ابن مسعود رضي الله عنه حين علّمه النبي التشهد، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا قلت هذا، أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك» (2) أي إذا قلت التشهد أو فعلت القعود، فقد تمت صلاتك. فإنه صلّى الله عليه وسلم علق تمام الصلاة بالفعل، وهو القعود، سواء قرأ التشهد أو لم يقرأ، لأنه علقه بأحد الأمرين من قرادة التشهد والقعود، والقراءة لم تشرع بدون القعود، حيث لم يفعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا فيه، فكان القعود هو المعلق به تمام الصلاة في الحقيقة، لاستلزامه القراءة، وكل ما علق بشيء لا يوجد بدونه، وبما أن تمام الصلاة واجب، أو فرض، وتمام الصلاة لا يوجد بدون القعود، فالقعود واجب أي فرض؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 1/113، البدائع: 1/113، تبيين الحقائق: 1/104، الشرح الكبير: 1/240 ومابعدها، 251، القوانين الفقهية: ص64، مغني المحتاج: 1/172، المغني: 1/532 ومابعدها، كشاف القناع: 1/453 ومابعدها، بداية المجتهد: 1/125.
(2) هذه رواية مدرجة عند الدارقظني، فهي في حكم الموقوف عليه. وهناك لفظ آخر عند أبي دواد وأحمد: ((وإذا قلت هذا، وقضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد)) (نيل الأوطار: 2/298، نصيب الراية: 1/424) وسيأتي في ركن السلام حديث آخر للحنفية.(2/41)
وكون خبر ابن مسعود خبر آحاد أثبت الفرضية، فلأنه بيان لمجمل الكتاب، ويصلح البيان الظني لذلك، بخلاف قراءة الفاتحة مع نص القرآن؛ لأن نص القراءة ليس بمجمل، بل هو خاص، فتكون الزيادة عليه نسخاً بخبر الواحد، وهو لايجوز.
واستدل المالكية على أن التشهد والقعود ليسا بواجب: بأنهما يسقطان بالسهو، فأشبها السنن.
وأما الشافعية والحنابلة فاستدلوا: بأن النبي صلّى الله عليه وسلم فعل الجلوس، وداوم على فعله، وأمر به في حديث ابن عباس، وقال: «قولوا: التحيات لله» (1) وسجد للسهو حين نسيه، وقد قال عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقال ابن مسعود: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لاتقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله..» (2) الخ.
والدلالة منه بوجهين:
أحدهما ـ التعبير بالفرض، والثاني: الأمر به وفرضه في جلوس آخر الصلاة. وأما الجلوس له، فلأنه محله، فيتبعه.
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود (نيل الأوطار: 2/281) .
(2) رواه الدارقطني والبيهقي وقالا: إسناده صحيح.(2/42)
وأما فرضية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فلإجماع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة، فتعين وجوبها فيها، ولحديث «قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ... الخ» (1) وفي رواية «كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا..الخ» (2) والمناسب لها من الصلاة، التشهد آخرها، فتجب فيه، أي بعده. وقد صلى النبي صلّى الله عليه وسلم على نفسه في الوتر، كما رواه أبو عوانة في مسنده، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يخرجها شيء عن الوجوب. ومما يدل على الوجوب حديث علي عند الترمذي وقال: حسن صحيح: «البخيل من ذكرت عنده، فلم يصل علي» وقد ذكر النبي في التشهد، ومن أقوى الأدلة على الوجوب ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم بلفظ: «إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد ... » الحديث.
والصلاة على النبي سنة عند الشافعية على الأظهر في التشهد الأول، لبنائه على التخفيف، ولا تسن على الآل في التشهد الأول، وتسن الصلاة على الآل (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في التشهد الأخير، وقيل: تجب فيه لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» والأمر يقتضي الوجوب.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواها الدارقطني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط مسلم.(2/43)
صفة الجلوس:
صفة الجلوس للتشهد الأخير عند الحنفية، كصفة الجلوس بين السجدتين، يكون مفترشاً كما وصفنا، سواء أكان آخر صلاته أم لم يكن، بدليل حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس ـ يعني للتشهد ـ فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» (1) وقال وائل بن حجر: «قدمت المدينة، لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما جلس ـ يعني للتشهد ـ افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ونصب رجله اليمنى» (2)
وقال المالكية: يجلس متوركاً في التشهد الأول والأخير (3) ، لما روى ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركاً» (4) .
وقال الحنابلة والشافعية: يسن التورك في التشهد الأخير، وهو كالافتراش، ولكن يخرج يسراه من جهة يمينه ويلصق وركه بالأرض، بدليل ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي: «حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخرَّ رجله اليسرى، وقعد على شقه متوركاً، ثم سلَّم» (5) والتورك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى، والوركان: فوق الفخذين كالكعبين فوق العضدين. لكن قال الحنابلة: لا يتورك في تشهد الصبح؛ لأنه ليس بتشهدٍ ثانٍ، والذي تورك فيه النبي بحديث أبي حميد هو التشهد الثاني للفرق بين التشهدين، وما ليس فيه إلا تشهد واحد لا اشتباه فيه، فلاحاجة إلى الفرق.
والخلاصة: إن التورك في التشهد الثاني سنة عند الجمهور، وليس بسنة عند الحنفية.
__________
(1) رواه البخاري، وهو حديث صحيح حسن (نيل الأوطار: 2/275) .
(2) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (نصب الراية: 1/419، نيل الأوطار: 2/273) .
(3) الشرح الصغير: 1/329 ومابعدها.
(4) المغني: 1/533.
(5) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، ورواه البخاري مختصراً (نيل الأوطار: 2/184) .(2/44)
صيغة التشهد:
للتشهد صيغتان مأثورتان:
فقال الحنفية والحنابلة (1) :التشهد هو: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وهو التشهد الذي علَّمه النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه (2) .
وقال الإمام مالك: أفضل التشهد: تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات لله) وسائره كتشهد ابن مسعود السابق.
وقال الشافعية (3) : أقل التشهد: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وأكمل التشهد: ما ورد في حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يُعلِّمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» (4) .
__________
(1) فتح القدير: 1/221، القوانين الفقهية: ص65، المغني: 1/534 ومابعدها/ 539.
(2) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 2/278، نصيب الراية: 1/419) .
(3) مغني المحتاج: 1/174
(4) رواه مسلم وأبو داود بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكَّراً، ورواه ابن ماجه كمسلم لكنه قال: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) (نيل الأوطار: 2/281) .(2/45)
معاني ألفاظ التشهد:
معنى (التحيات لله) : الثناء على الله تعالى بأنه مالك مستحق لجميع التحيات الصادرة من الخلق. وهي جمع تحية يقصد بها البقاء والعظمة والملك، وقيل: السلام. والمباركات: الناميات. والصلوات: الصلوات الخمس وغيرها من العبادات الفعلية. والطيبات: الأعمال الصالحة. والسلام: أي اسم الله عليك، أو السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي. وعلينا: أي الحاضرين من إمام ومأموم وملائكة وغيرهم. والعباد: جمع عبد. والصالحين: جمع صالح، وهو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. ومعنى رسول الله، هو الذي يبلغ خبر من أرسله، وسمي تشهداً لما فيه من النطق بالشهادتين.
الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير:
أقل الصلاة على النبي، الذي هو الركن عند الشافعية والحنابلة في التشهد الأخير: «اللهم صل على محمد» لظاهر الآية: {يا أيها الذين آمنوا، صلوا عليه وسلموا تسليماً} (1) [الأحزاب:56/33] وهي تدل على الوجوب؛ لأن الأمر للوجوب، علماً بأنه قد حصل السلام على النبي في التشهد بقوله: «السلام عليك» وأما الصلاة على الآل فهي سنة.
وأكمل الصلاة على النبي أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
__________
(1) الصلاة من الله على عباده: الرحمة والرضوان، ومن الملائكة: الدعاء والاستغفار، ومن الأمة: دعاء وتعظيم للنبي لإظهار مكانته عند ربه، ولنيل الثواب الجزيل، كما ورد عليه السلام: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) .(2/46)
وقد ثبتت هذه الصيغة عند البخاري ومسلم، بل عند الجماعة عن كعب بن عُجْرة، قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علّمنا الله، كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (1) .
وقال الحنفية والمالكية: الصلاة على النبي سنة كما سيأتي.
التشهد بالعربية:
يشترط موالاة التشهد، وكونه بالعربية، هو وسائر أذكار الصلاة المأثورة، فلا يجوز من قدر على العربية التشهد والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بغيرها، كما ذكرنا في التكبير والقراءة، فإن عجز مؤقتاً حتى يتعلم تشهد بلغته، كالأخرس. ومن قدر على تعلم التشهد والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، لزمه ذلك، لأنه من فروض الأعيان، فلزمه كالقراءة. فإن صلى قبل تعلمه مع إمكانه، لم تصح صلاته. وإن خاف فوات الوقت، أو عجز عن تعلمه، أتى بما يمكنه، وأجزأه للضرورة. وإن لم يحسن بالكلية، سقط كله (2) .
الركن التاسع ـ السلام:
السلام الأول للخروج من الصلاة حال القعود فرض عند المالكية، والشافعية، والتسليمتان: فرض عند الحنابلة (3) ، إلا في صلاة جنازة ونافلة وسجدة تلاوة وشكر، فيخرج منها بتسليمة واحدة، وتنقضي الصلاة عند المالكية والشافعية بالسلام الأول، وعند الحنابلة بالسلام الثاني.
__________
(1) رويت هذه الصيغة وغيرها عن أبي مسعود، وعلي وأبي هريرة وطلحة بن عبيد الله (انظر نيل الأوطار: 2/284 ومابعدها، تفسير ابن كثير: 2/507) .
(2) المغني: 1/545، مغني المحتاج: 1/177.
(3) القوانين الفقهية ص66، مغني المحتاج: 1/177، حاشية الباجوري: 1/163، كشاف القناع: 1/454، المغني: 1/551ـ558، الشرح الصغير: 1/315ـ321، الشرح الكبير: 1/240 ومابعدها.(2/47)
ودليلهم قوله صلّى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» (1) ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يسلم من صلاته» (2) ويديم ذلك، ولا يخل به، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (3) وقال ابن المنذر: «أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائز» .
__________
(1) رواه مسلم، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وهو حديث متواتر رواه سبعة من الصحابة (النظم المتناثر: ص75) .
(2) ثبت ذلك عن النبي ص بأحاديث متعددة منها حديث ابن مسعود: ((أن النبي ص كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده)) رواه الخمسة وصححه الترمذي، ومنها حديث عامر بن سعد عن أبيه، قال: ((كنت أرى النبي ص يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يُرى بياض خده)) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار: 1/292) .
(3) رواه البخاري.(2/48)
وقال الحنفية (1) : السلام ليس بفرض، بل واجب والواجب تسليمتان، فلو قعد قدر التشهد، ثم خرج من الصلاة بسلام أو كلام أو فعل أو حدث، أجزأه ذلك، فالفرض: إنما هو الخروج من الصلاة بصنع المصلي، عملاً بحديث ابن مسعود السابق: «إذا قضيت هذا تمت صلاتك» ولأن السلام لم يذكر في حديث المسيء صلاته. وتنقضي الصلاة عندهم بالسلام الأول قبل قوله (عليكم) .
ومما يدل على عدم فرضية السلام، وأن الفرض في آخر الصلاة هو القعود بمقدار التشهد: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الإمام الصلاة، وقعد، فأحدث قبل أن يتكلم، فقد تمت صلاته، ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة» (2) ويؤيده حديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التشهد، أقبل علينا بوجهه، وقال: من أحدث حدثاً بعد ما يفرغ من التشهد، فقد تمت صلاته» (3) .
صيغة السلام:
أقل ما يجزئ في واجب السلام مرتين عند الحنفية: السلام، دون قوله: «عليكم» ،وأكمله وهو السنة أن يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) مرتين.
وينوي الإمام بالتسليمتين السلام على من يمينه ويساره من الملائكة ومسلمي الإنس والجن. ويسن عدم الإطالة في لفظه والإسراع فيه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود: (حذف التسليم سنة) قال ابن المبارك: معناه ألا يمد مداً.
__________
(1) فتح القدير:225/1، تبيين الحقائق:104/1، الدر المختار:418/1، البدائع:113/1.
(2) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي، وقال عنه الترمذي: هذا حديث ليس له إسناده بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده (نصب الراية:63/2) .
(3) رواه أبو نعيم الأصفهاني، وهو غريب، ورواه غيره مرسلاً، ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي (نصب الراية:63/2) .(2/49)
وأقل ما يجزئ عند الشافعية والحنابلة: (السلام عليكم) مرة عند الشافعية، ومرتين عند الحنابلة وأكمله: (السلام عليكم ورحمة الله) مرتين يميناً وشمالاً، ملتفتاً في الأولى حتى يرى خده الأيمن، وفي الثانية: الأيسر، ناوياً السلام على من عن يمينه ويساره من ملائكة وإنس وجن. وينوي الإمام أيضاً زيادة على ما سبق السلام على المقتدين. وهم ينوون الرد عليه وعلى من سلم عليهم من المأمومين، فينويه المقتدون عن يمين الإمام عند الشافعية بالتسليمة الثانية، ومن عن يساره بالتسليمة الأولى. وأما من خلفه وأمامه فينوي الرد بأي التسليمتين شاء.
ودليل ذلك حديث سمرة بن جندب قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض» (1) .
وقال الحنفية: ينوي المأموم الرد على الإمام في التسليمة الأولى إن كان في جهة اليمين، وفي التسليمة الثانية إن كان في جهة اليسار، وإن حاذاه نواه في التسليمتين. وتسن نية المنفرد الملائكة فقط.
ولا يندب زيادة (وبركاته) على المعتمد عند الشافعية والحنابلة، ودليلهم يتفق مع دليل الحنفية: وهو حديث ابن مسعود وغيره المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خده» .
فإن نكس السلام فقال: (عليكم السلام) لم يجزه عند الشافعية والحنابلة. والأصح عندهم ألا يجزيه: (سلام عليكم) .
نية الخروج من الصلاة بالسلام:
والأصح عند الشافعية: أنه لا تجب نية الخروج من الصلاة، قياساً على
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود.(2/50)
سائرالعبادات، ولأن النية السابقة منسحبة على جميع الصلاة، ولكن تسن خروجاً من الخلاف، وهذا هو مشهور مذهب المالكية وهو المعتمد، ويسن بالتسليمتين معاً نية الخروج من الصلاة عند الحنابلة، لتمييز الصلاة عن غيرها، كما تتميز بتكبيرة الإحرام، فإن لم ينو، بطلت صلاته، والصحيح المنصوص عن أحمد: أنه لاتبطل صلاته. ولا يستحب نصاً الرد على الإمام والمأموم، فإن نوى مع الخروج من الصلاة السلام على الحفظة من الملائكة، والإمام والمأموم، جاز، لحديث سمرة عند أبي داود: «أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» وقال بعض الحنابلة: ينوي بالأولى الخروج من الصلاة، وينوي بالثانية السلام على الملائكة الحفظة والمأمومين إن كان إماماً، والرد على الإمام والملائكة إن كان مأموماً.
وأقل ما يجزئ عند المالكية: (السلام عليكم) بالعربية، ويجزئ (سلام عليكم) وأكمله:
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) لما رواه أبو داود عن وائل بن حُجْر، ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه وابن ماجه من حديث ابن مسعود (1) ويسلّم المأموم عند المالكية ثلاثاً: واحدة يخرج بها من الصلاة، وأخرى يردها على إمامه، والثالثة: إن كان على يساره أحد، رد عليه، في مشهور المذهب.
ويسن رد المقتدي السلام على إمامه، وعلى من يساره إن وجد وشاركه في ركعة فأكثر، لا أقل.
ودليل جواز الاقتصار على تسليمة واحدة عند المالكية والشافعية حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» وحديث
__________
(1) انظر نيل الأوطار:294/2.(2/51)
سلمة بن الأكوع قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلى فسلم تسليمة واحدة» (1) ولأنه بالتسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة، فلم يشرع مابعدها كالثانية. ودليل إيجاب التسليمتين عند الحنفية والحنابلة: حديث ابن مسعود السابق، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخده، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» .
الركن العاشر: الطمأنينة في أفعال معينة:
الطمأنينة ركن أو شرط ركن عند الجمهور (2) في الركوع والاعتدال منه، والسجود، والجلوس بين السجدتين، وواجب عند الحنفية للأمر بها في حديث المسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في الصلاة كلها» (3) ولحديث حذيفة: «أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال له: ما صليت، ولو مِتَّ على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلّى الله عليه وسلم» (4) وظاهره أنها ركن واحد في الكل، لأنه يعم القيام (5) .
والطمأنينة: سكون بعد حركة، أو سكون بين حركتين بحيث ينفصل مثلاً رفعه عن هويه. وأقلها: أن تستقر الأعضاء في الركوع مثلاً بحيث ينفصل الرفع عن الهوي كما قال الشافعية. وذلك بقدر الذكر الواجب لذاكره، وأما الناسي فبقدر أدنى سكون، كما قال بعض الحنابلة، والصحيح من المذهب: أنها السكون وإن قل.
__________
(1) رواهما ابن ماجه.
(2) ركن عند المالكية والحنابلة وبعض الشافعية، وشرط في الركن عند بعض الشافعية.
(3) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار:264/2) .
(4) رواه البخاري.
(5) الدر المختار ورد المحتار:432/1، الشرح الصغير:316/1، حاشية الباجوري: 157/1،159، كشاف القناع:453/1.(2/52)
أو هي تسكين الجوارح قدر تسبيحة في الركوع والسجود، والرفع منهما، كما قال الحنفية.
أو هي استقرار الأعضاء زمناً ما في جميع أركان الصلاة، كما قال المالكية.
الركن الحادي عشر: ترتيب الأركان على النحو المشروع في صفة الصلاة في السنة:
الترتيب ركن عند الجمهور، واجب في القراءة وفيما يتكرر في كل ركعة، وفرض فيما لايتكرر في كل الصلاة أو في كل ركعة كترتيب القيام على الركوع، وترتيب الركوع على السجود، عند الحنفية (1) ،بأن يقدم النية على تكبيرة الإحرام، والتكبيرة على الفاتحة، والفاتحة على الركوع، والركوع على الرفع منه، والاعتدال على السجود، والسجود على السلام، والتشهد الأخير على الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند الشافعية والحنابلة.
والدليل أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الصلاة مرتبة، وعلمها للمسيء صلاته مرتبة بـ «ثم» ، ولأنها عبادة تبطل عند الجمهور غير الحنفية بالحدث، فكان الترتيب فيها ركناً كغيره.
ويترتب على كون الترتيب ركناً عند الجمهور، وكما ذكر الشافعية: أن من تركه عمداً كأن سجد قبل ركوعه، بطلت صلاته إجماعاً لتلاعبه. وإن سها عن الترتيب فما فعله بعد المتروك لغو؛ لوقوعه في غير محله. فإن تذكر المتروك قبل بلوغ مثله من ركعة أخرى، فعله بعد تذكره فوراً، فإن تأخر بطلت صلاته.
وإن لم يتذكر حتى بلغ مثله، تمت به ركعته المتروك آخرها كسجدته الثانية منها، وتدارك الباقي من صلاته؛ لأنه ألغى ما بينهما.
ولو تيقن في آخر صلاته ترك سجدة من الركعة الأخيرة، سجدها وأعاد تشهده.
__________
(1) الدر المختار:429/1-431، الشرح الصغير:317/1، حاشية الباجوري:164/1، مغني المحتاج: 178/1 ومابعدها، كشاف القناع:455/1، الشرح الكبير للدردير:241/1.(2/53)
وإن كانت السجدة من ركعة أخرى غير الأخيرة، أو شك هل ترك السجدة من الأخيرة أو من غيرها، لزمه ركعة؛ لأن الناقصة قد تكمَّلت، بسجدة من الركعة التي بعدها، وألغي باقيها.
وإن قام للركعة الثانية، وتذكر أنه ترك سجدة من الركعة الأولى: فإن كان قد جلس بعد سجدته التي قام عنها ولو للاستراحة، سجد فوراً من قيامه. وإن لم يكن قد جلس، جلس مطمئناً، ثم سجد.
وإن علم في آخر صلاة رباعية ترك سجدتين أو ثلاث، جهل موضعها، وجب عليه ركعتان، أخذاً بأسوأ الافتراضات، فتنجبر الركعة الأولى بسجدة من الثانية، ويلغو باقيها، وتنجبر الركعة الثالثة بسجدة من الرابعة ويلغو باقيها.
وإن علم ترك أربع سجدات، فعليه سجدة وركعتان. فإن كانت خمساً أو ستاً فعليه ثلاث ركعات. وإن كانت سبعاً فعليه سجدة وثلاث ركعات.
وإن تذكر ترك ركن بعد السلام: فإن كانت النية، أو تكبيرة الإحرام، بطلت صلاته، وإن كان غيرهما، بنى على صلاته السابقة إن قرب الفاصل، ولم يأت بمناف للصلاة كمس نجاسة. ولا يضر استدبار القبلة إن قصر زمنه عرفاً، ولا الكلام إن قل عرفاً أيضاً، لأنهما يحتملان في الصلاة. وإن طال الفصل عرفاً استأنف، أي ابتدأ صلاة جديدة.
ويترتب على كون الترتيب واجباً فيما يتكرر في كل ركعة عند الحنفية (1) : أنه لو سجد ثم ركع، لم يعتبر سجوده، ويلزمه سجود آخر، فإن سجده صحت صلاته لتحقيق الترتيب المطلوب، ويلزمه سجود السهو، لتقديمه السجود المفروض.
ولو قعد القعود الأخير، وتذكر سجدة صلبية (2) ، فإنه يسجدها، ويعيد القعود، ويسجد للسهو، لاشتراط الترتيب بين القعود وما قبله، ويبطل القعود بالعود إلى السجدة الصلبية أو التلاوية.
ولو ترك ركوعاً، فإنه يقضيه مع ما بعده من السجود.
ولو تذكر قياماً أو قراءة، صلى ركعة.
ولو نسي سجدة من الركعة الأولى، قضاها ولو بعد السلام قبل الكلام، ثم يتشهد، ثم يسجد للسهو، ثم يتشهد، أي يقرأ التشهد إلى (عبده ورسوله) فقط.
__________
(1) رد المحتار:429/1-432، البدائع:163/1.
(2) السجدة الصلبية: هي السجدة التي هي من صلب الصلاة أي جزء منها، ومثلها في الحكم السجدة التلاوية؛ لأنها لما وقعت في الصلاة أعطيت حكم الصلبية.(2/54)
الفَصْلُ السَّادس: سُنَنُ الصَّلاة وصفتُها ومكروهاتُها والأذكارُ الواردة عقبها
وفيه مباحث سبعة:
ويلاحظ أن أنواع سنن الصلاة: سنن الصلاة قسمان: إما داخل فيها، وإما خارج عنها كالاستياك المذكور سابقاً، وكسترة المصلي وغير ذلك مما يأتي توضيحه.
المبحث الأول ـ سنن الصلاة الداخلة فيها:
سنن الصلاة: هي الأقوال والأفعال التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بل يعاتب ويلام، ولا تنجبر إذا تركت بسجود السهو، ولا تبطل الصلاة بتركها عمداً.
والسنة كما ذكر الحنفية (1) : مافعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطريق المواظبة، ولم يتركها إلا لعذر، كدعاء الثناء، والتعوذ، وتكبيرات الركوع والسجود.
وللصلاة عندهم سنن وآداب، والأدب فيها: ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه، كزيادة التسبيحات في الركوع والسجود على الثلاثة، والزيادة على القراءة المسنونة، وقد شرع لإكمال السنة.
والسنة أو الأدب عندهم دون الواجب، لأن الواجب في الصلاة: ما تجوز الصلاة بدونه، ويجب بتركه ساهياً سجدتا السهو.
وذكروا للصلاة إحدى وخمسين سنة، وسبعة آداب.
__________
(1) فتح القدير والعناية:194/1، البدائع:198/1-220، تبيين الحقائق:106/1-132، الدر المختار:447/1-511، مراقي الفلاح: ص41-44.(2/55)
وذكر المالكية (1) للصلاة أربع عشرة سنة، وثمانية وأربعين أدباً. والسنة عندهم: ما طلبه الشرع وأكد أمره وعظم قدره وأظهره في الجماعة. ويثاب فاعله ولا يعاقب تاركه كالوتر وصلاة العيدين.
والمندوب عندهم: ما طلبه الشرع طلباً غير جازم، وخفف أمره، ويثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، كصلاة أربع ركعات قبل الظهر. ويُسجد سجود السهو لثمان من السنن وهي: السورة، والجهر، والإسرار، والتكبير، والتحميد، والتشهدان، والجلوس لهما.
وسنن الصلاة عند الشافعية (2) نوعان: أبعاض وهيئات.
والأبعاض: هي التي يجبر تركها بسجود السهو وهي ثمانية (3) :
التشهد الأول، والقعود له، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، وعلى آله بعد التشهد الأخير، والقنوت في الصبح ووتر النصف الأخير من رمضان، والقيام للقنوت، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى آله بعد القنوت.
والهيئات: هي أربعون كالتسبيحات ونحوها لا يجبر تركها بسجود السهو.
والسنة أو المستحب عندهم إن تركها المصلي لا يعود إليها بعد التلبس بفرض آخر، فمن ترك التشهد الأول مثلاً، فذكره بعد اعتداله مستوياً، لا يعود إليه لكنه يسجد للسهو، فإن عاد إليه عامداً عالماً بتحريمه، بطلت صلاته، أما إن عاد إليه ناسياً أنه في الصلاة، فلا تبطل صلاته، ويلزم القيام عنه فوراً عند تذكره ثم يسجد للسهو. هذا إن كان المصلي إماماً أو منفرداً.
فإن كان المصلي مأموماً عاد وجوباً لمتابعة إمامه؛ لأن المتابعة آكد من التلبس بالفرض، فإن لم يعد عامداً عالماً، بطلت صلاته إذا لم ينو المفارقة، فإن نواها لم تبطل.
__________
(1) الشرح الصغير:317/1-337، الشرح الكبير:242/1، القوانين الفقهية: ص50 ومابعدها،58، 60.
(2) تحفة الطلاب مع حاشية الشرقاوي،195/1-216،حاشية الباجوري:167/1-181،193 ومابعدها، مغني المحتاج:152/1-184، المهذب:71/1-82، المجموع:356/3.
(3) بل أوصلها الشافعية إلى عشرين بعضاً سنذكرها في بحث سجود السهو، وسميت أبعاضاً تشبيهاً لها بالأبعاض الحقيقية أي الأركان، في مطلق الجبر.(2/56)
وقال الحنابلة (1) : ما ليس بفرض نوعان: واجبات، وسنن. والواجبات: وهي ما تبطل الصلاة بتركه عمداً، وتسقط سهواً أو جهلاً، ويجبر تركها سهواً بسجود السهو، وهي ثمانية:
1 - التكبير (الله أكبر) للانتقال في محله: (وهو ما بين انتهاء فعل وابتداء فعل آخر) لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يكبر كذلك، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، فلو شرع المصلي في التكبير قبل الانتقال، كأن يكبر للركوع أو السجود قبل هُوِّيه إليه، لم يجزئه، ويجزئه فميا بين ابتداء الانتقال وانتهائه.
وهذا التكبير غير تكبيرتي الإحرام، وتكبيرة ركوع مأموم أدرك إمامه راكعاً، فإن الأولى ركن، والثانية سنة للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام.
2 - التسميع: أي قول (سمع الله لمن حمده) لإمام، ومنفرد دون مأموم.
3 - التحميد: أي قول (ربنا لك الحمد) لكل من الإمام والمأموم والمنفرد.
4 - تسبيح الركوع: (سبحان ربي العظيم) .
5 - تسبيح السجود: (سبحان ربي الأعلى) .
6 - دعاء (رب اغفر لي) بين السجدتين. والواجب مرة واحدة في كل ما سبق، والأكمل أن يكرر ذلك مراراً، وأدنى الكمال: ثلاث.
7 - التشهد الأول: لأنه صلّى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به، وسجد للسهو حين نسيه. وأقله: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) .
8 - الجلوس للتشهد الأول. وهذا وما قبله واجب على غير مأموم قام إمامه عنه سهواً.
__________
(1) كشاف القناع:450/1،455-460، المغني:462/1-559(2/57)
وأما السنن: فهي سنن أقوال وأفعال وهيئات. وسنن الأقوال سبع عشرة وهي (الاستفتاح، والتعوذ، والبسملة، والتأمين، وقراءة السورة في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية والثلاثية، وفي صلاة الفجر، والجمعة، والعيدين، وفي التطوع كله، والجهر والإخفات في محلهما، وقول: ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد بعد التحميد في حق الإمام والمنفرد، دون المأموم، وما زاد على المرة من تسبيح الركوع والسجود، ورب اغفر لي: بين السجدتين، والتعوذ في التشهد الأخير، أي قول: أعوذ با لله من عذاب جهنم ... الخ، والدعاء في آخر التشهد الأخير، والصلاة في التشهد الأخير على آل النبي صلّى الله عليه وسلم والبركة فيه، أي قول: وبارك على محمد وعلى آل محمد ... الخ، وما زاد على المجزئ من التشهد الأول، والقنوت في الوتر) . وما سوى ذلك: سنن أفعال وهيئات (1) ، كسكون الأصابع مضمومة ممدودة حال رفع اليدين مبسوطة (ممدودة الأصابع) مضمومة الأصابع مستقبل القبلة ببطونها إلى حذو منكبيه، عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه، وحطهما عقب ذلك.
بيان سنن الصلاة الداخلة فيها:
1 ً - رفع اليدين للتحريمة:
لا خلاف في استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لافتتاح الصلاة، وذلك حَذْو (مقابل) المنكبين عند المالكية (2) والشافعية، ويخير عند الحنابلة في رفعهما إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه. وقال الحنفية: يحاذي الرجل بإبهاميه أذنيه، وترفع المرأة حذاء منكبيها فقط؛ لأنه أستر لها. قال ابن قدامة: ومعناه أن يبلغ بأطراف أصابعه ذلك الموضع. وقال النووي: معناه أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه وابهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه، واعتمد المالكية هذه الكيفية. وأضاف الفقهاء: ويسن إمالة أطراف الأصابع نحو القبلة لشرفها.
ودليل الحنفية: حديث وائل بن حجر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، وكبّر، وصفَّهما حيال أذنيه» (3) وحديث البراء بن عازب: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى، رفع يديه حتى تكون إبهامه حذاء أذنيه» (4) وحديث أنس: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كبر، فحاذى بإبهاميه أذنيه» (5) .
__________
(1) سميت هيئة لأنها صفة في غيرها.
(2) يعتبر ذلك عندهم من الآداب أو الفضائل.
(3) رواه مسلم (نصب الراية:310/1) .
(4) رواه أحمد وإسحاق بن راهويه والدارقطني والطحاوي (نصب الراية:311/1) .
(5) رواه الحاكم والدارقطني (المرجع السابق) .(2/58)
ودليل الشافعية والمالكية: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة» (1) .
ودليل الحنابلة على التخيير: أن كلا الأمرين مروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالرفع إلى حذو المنكبين: في حديث أبي حميد (2) وابن عمرو علي وأبي هريرة. والرفع إلى حذو الأذنين: رواه وائل بن حجر ومالك بن الحويرث (3) .
زمن الرفع: وقت الرفع في الأصح عند الحنفية: أنه يرفع أولاً، ثم يكبر؛ لأن في فعله نفي الكبرياء عن غير الله تعالى.
وقال المالكية: ترفع اليدان مبسوطتين ظهورهما للسماء وبطونهما للأرض على صفة الخائف، عند الشروع في تكبيرة الإحرام، لا عند غيره.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الجماعة إلا مسلماً.
(3) حديث وائل رواه مسلم كما بينا، وحديث مالك رواه مسلم وأحمد (انظر نيل الأوطار:179/2-183) .(2/59)
وقال الشافعية والحنابلة: إنه يرفع مع ابتداء تكبيرة الإحرام، ويكون انتهاؤه مع انقضاء التكبير، ولا يسبق أحدهما صاحبه، فإذا انقضى التكبير حط يديه، فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير لم يرفعهما؛ لأنه سنة فات محلها، وإن ذكره في أثناء التكبير رفع؛ لأن محله باق. فإن لم يمكنه رفع يديه إلى المنكبين، رفعهما قدر ما يمكنه، وإن أمكنه رفع إحداهما دون الأخرى رفعها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، وإن لم يمكنه رفعهما إلا بالزيادة على المسنون رفعهما؛ لأنه يأتي بالسنة.
حالة الأصابع: قال الحنفية والمالكية والشافعية: يسن نشر الأصابع أي ألا
تضم كل الضم، ولا تفرج كل التفريج، بل تترك على حالها منشورة، أي مفرقة تفريقاً وسطاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا كبّر، رفع يديه، ناشراً أصابعه» (1) أي مفرقاً أصابعه.
وقال الحنابلة: يستحب أن يمد أصابعه وقت الرفع، ويضم بعضها إلى بعض، لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًّا» (2) والمد: ما يقابل النشر.
الجهر بتكبيرة الإحرام: قال المالكية (3) : يندب لكل مصل إماماً أو مأموماً أو منفرداً الجهر بتكبيرة الإحرام، وأما تكبيرات الانتقال فيندب للإمام دون غيره الجهر بها، والأفضل لغير الإمام الإسرار بها.
رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام: قال الحنفية والمالكية: لا يسن رفع اليدين في غير الإحرام عند الركوع أو الرفع منه، لأنه لم يصح ذلك عندهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، واستدلوا بما روي عن ابن عمر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم لا يعود» (4) .
واستدلو بفعل ابن مسعود، قال: «ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فصلى، فلم يرفع يديه إلا في أول أمره. وفي لفظ: «فكان يرفع يديه أول مرة، ثم لا يعود» (5)
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة بلفظ «كان إذا كبر للصلاة نشرأصابعه» (نيل الأوطار:176/2) .
(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار:176/2) .
(3) الشرح الكبير مع الدسوقي:244/1، الشرح الصغير وحاشية الصاوي:322/1.
(4) قال الحافظ ابن حجر: وهو مقلوب موضوع (نيل الأوطار:181/2) .
(5) أخرجه أبو داود والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن (نصب الراية:394/1) .(2/60)
وقال أيضاَ: «صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة» (1) .
وقال الشافعية والحنابلة: يسن رفع اليدين في غير الإحرام: عند الركوع، وعند الرفع منه، أي عند الاعتدال، لما ثبت في السنة المتواترة عن واحد وعشرين صحابياً (2) ، منها الحديث المتفق عليه عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحَذْو مِنْكَبيه، ثم يكبّر، فإذا أراد أن يركع، رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك أيضاً، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» (3) .
وأضاف الشافعية في الصواب عندهم كما قال النووي: أنه يستحب الرفع أيضاً عند القيام من التشهد الأول، بدليل حديث نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما: «كان إذا دخل الصلاة، كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ابن عمر ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم» (4) .
والخلاصة: يراعى في رفع اليدين أن تكون الأصابع منشورة مفرقة وسطاً عند الجمهور، مضمومة عند الحنابلة، وأن تكون الأيدي باتفاق الفقهاء في اتجاه القبلة، بحيث يستقبلها المصلي ببطونها، لشرف القبلة.
__________
(1) رواه الدارقطني والبيهقي، وهو ضعيف، والصواب أنه مرسل (المرجع السابق:396/1) .
(2) راجع النظم المتناثر من الحديث المتواتر للسيد محمد جعفر الكتاني: ص58، وقال البخاري في تصنيف له في الرد على منكري الرفع: رواه سبعة عشر من الصحابة، ولم يثبت عن أحد منهم عدم الرفع.
(3) نيل الأوطار:179/2-182.
(4) رواه البخاري في صحيحه (المجموع:424/3) .(2/61)
2 ً - مقارنة إحرام المقتدي لإحرام إمامه:
قال الحنفية: تسن هذه المقارنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كبر ـ أي الإمام ـ فكبر» بشرط ألا يفرغ المقتدي من لفظ (الله أكبر) قبل فراغ الإمام منه.
3 ً - وضع اليد اليمنى على ظهر اليسرى:
قال الجمهور غير المالكية: يسن بعد التكبير أن يضع المصلي يده اليمنى على ظهر كف ورسغ اليسرى، لما رواه وائل بن حجْر أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، وكبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد» (1) ، ومارواه قَبيصة بن هُلب عن أبيه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» (2) وما رواه سهل بن سعد قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» (3) وعن ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ به، وهو واضع شماله على يمينه، فأخذ يمينه، فوضعها على شماله» (4) .
وصفة الوضع عند الحنابلة والشافعية: أن يضع يده اليمنى على كوع اليسرى أو ما يقاربه، لحديث ابن حجر السابق، علماً بأن الكوع طرف الزند مما يلي الإبهام، أما عند الحنفية: فهو أن يجعل باطن كف اليمنى على ظاهر كف اليسرى، محلقاً الرجل بالخنصر والإبهام على الرسغ. أما المرأة فتضع يديها على صدرها من غير تحليق لأنه أستر لها.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والنسائي واللفظ له.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه أبو داود.(2/62)
ويضعهما عند الحنفية والحنابلة تحت السُّرة، لما روي عن علي أنه قال: «من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة» (1) ، وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلّى الله عليه وسلم.
والمستحب عند الشافعية: أن يجعلهما تحت الصدر فوق السرة، مائلاً إلى جهة اليسار؛ لأن القلب فيها، فتكونان على أشرف الأعضاء، وعملاً بحديث وائل بن حجر السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فوضع يديه على صدره، إحداهما على الأخرى» ويؤيده حديث آخر عند ابن خزيمة في وضع اليدين على هذه الكيفية.
وقال المالكية: يندب إرسال اليدين في الصلاة بوقار، لا بقوة، ولايدفع بهما من أمامه لمنافاته للخشوع. ويجوز قبض اليدين على الصدر في صلاة النفل لجواز الاعتماد فيه بلا ضرورة، ويكره القبض في صلاة الفرض لما فيه من الاعتماد أي كأنه مستند، فلو فعله لا للاعتماد، بل استناناً لم يكره، وكذا إذا لم يقصد شيئاً فيما يظهر.
والراجح المتعين لدي هو قول الجمهور بوضع اليد اليمنى على اليسرى، وهو المتفق مع حقيقة مذهب مالك الذي قرره لمحاربة عمل غير مسنون: وهو قصد الاعتماد، أي الاستناد، أو لمحاربة اعتقاد فاسد: وهو ظن العامي وجوب ذلك.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود.(2/63)
4 ً - النظر إلى موضع السجود:
قال الشافعية وغيرهم: يستحب النظر إلى موضع سجود المصلي؛ لأنه أقرب إلى الخشوع، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده» (1) وذلك إلا عند التشهد فينظر إلى سبابته التي يشير بها (2) .
5 ً - دعاء الثناء أو الاستفتاح:
قال المالكية: يكره دعاء الاستفتاح، بل يكبر المصلي ويقرأ، لما روى أنس قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» (3) .
وقال الجمهور: يسن دعاء الاستفتاح بعد التحريمة في الركعة الأولى، وهو الراجح لدي، وله صيغ كثيرة، المختار منها عند الحنفية والحنابلة:
(سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك) لما روت عائشة، قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة، قال: سبحانك اللهم وبحمد ك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك» (4) . وسبحانك: من التسبيح: وهو تنزيه الله تعالى، وتبارك اسمك: من البركة وهي ثبوت الخبر الإلهي في الشيء، وتعالى جَدُّك: الجَدُّ: العظمة، وتعالى: تفاعل من العلو، أي علت عظمتك على عظمة كل أحد غيرك، أو علا جلالك وعظمتك. ومعناه إجمالاً: تنزيهاً لك يارب، وإنما أنزهك بحمدك، دام خبر اسمك في كل شيء، وعلا جلالك، ولا معبود غيرك.
قالوا: ولايخفى أن ماصح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار.
__________
(1) قال النووي: حديث ابن عباس هذا، غريب لا أعرفه، وروى البيهقي أحاديث من رواية أنس وغيره بمعناه، وكلها ضعيفة (المجموع:272/3) لكن روى الجماعة إلا مسلماً والترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهُنَّ أو لتُخطَفَنَّ أبصارهم» وفي حديث مرسل عن ابن سيرين أن تقليب البصر كان سبباً في نزول آية {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:2/23] (نيل الأوطار:189/2) .
(2) روى أحمد والنسائي وأبو داود عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد: وضع يده اليمنى علي فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بالسبابة، ولم يجاوز بصرُه إشارته» (نيل الأوطار:189/2) .
(3) متفق عليه.
(4) رواه أبو داود، وللدارقطني مثله من رواية أنس، وللخمسة مثله من حديث أبي سعيد، وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر به (نيل الأوطار:195/2) .(2/64)
والمختار عند الشافعية صيغة:
(وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومحيايَ ومماتِي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) لما رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن علي ابن أبي طالب (1) وهو آية قرآنية ماعدا مايناسب المسلم في آخره: وهو «من المسلمين» وأصلها (أول المسلمين) كما روى مسلم.
ومعناه: قصدت بعبادتي خالق السموات والأرض، مائلاً إلى الدين الحق وهو الإسلام، مبتعداً عن كل شرك بالله، مخلصاً كل شيء لله، فصلاتي وعبادتي وحياتي وموتي لله، وأنا مسلم.
وأجاز الإمام أحمد الاستفتاح بغير: (سبحانك اللهم) ، وأجاز الحنفية في النافلة الجمع بين الثناء والتوجه، لكن في صلاة الجنازة يقتصر على الثناء فقط.
وإذا شرع الإمام في القراءة الجهرية أو غيرها، لم يكن للمقتدي عند الحنابلة والحنفية على المعتمد (2) أن يقرأ الثناء، سواء أكان مسبوقاً أم مدركاً، أي لاحقاً الإمام بعد الابتداء بصلاته، أو مدركاً الإمام بعد مااشتغل بالقراءة، لأن الاستماع
__________
(1) نيل الأوطار:191/2-192، وفي رواية لمسلم: «وأنا أول المسلمين» قال الشافعي: لأنه صلّى الله عليه وسلم كان أول مسلمي هذه الأمة.
(2) رد المحتار:456/1، المغني:565/1.(2/65)
للقرآن في الجهرية فرض، وفي السرية يسن تعظيماً للقراءة، فكان سنة غير مقصودة لذاتها، وعدم قراءة المؤتم في السرية لا لوجوب الإنصات، بل لأن قراءة الإمام له قراءة. ويستفتح المأموم ويستعيذ عند الحنابلة في الصلاة السرية، أو الجهرية في مواضع سكتات الإمام.
ويجوز عند الشافعية (1) البدء بنحو (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، ونحو (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً) ونحو (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد) .
ويستحب الجمع بين جميع ذلك للمنفرد، ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل. ويزاد على ذلك لهما: (اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لايهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسَعْديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت ربي وتعاليت، فلك الحمد على ماقضيت، أستغفرك وأتوب إليك) .
ويستحب التوجه عند الشافعية في افتتاح الفريضة والنافلة، للمنفرد والإمام والمأموم، حتى وإن شرع إمامه في الفاتحة أو أمَّن هو لتأمين إمامه قبل شروعه فيه، ولكن لايبدأ به إذا بدأ هو بالفاتحة أو بالتعوذ، فإنهم قالوا: لايستحب إلا بشروط خمسة:
أولاً - أن يكون في غير صلاة الجنازة، فليس فيها توجه، وإنما يسن فيها التعوذ.
__________
(1) حاشية الباجوري:171/1 ومابعدها.(2/66)
ثانياً - ألا يخاف فوت وقت الأداء: وهو مايسع ركعة، فلو لم يبق من الوقت إلا مايسع ركعة لم يسن التوجه.
ثالثاً - ألا يخاف المأموم فوت بعض الفاتحة، فإن خاف ذلك لم يسن، وإن بدأ به قرأ بقدره من الفاتحة.
رابعاً - ألا يدرك الإمام في غير القيام، فلو أدركه في الاعتدال مثلاً لم يسن. وإن أدركه في التشهد، وسلَّم الإمام أو قام قبل أن يجلس معه، سن له الافتتاح به.
خامساً- ألا يشرع في التعوذ أو القراءة ولو سهواً، فإن شرع لم يعد له.
6 ً - التعوذ أو الاستعاذة (1) قبل القراءة في الصلاة:
قال المالكية: يكره التعوذ والبسملة قبل الفاتحة والسورة، لحديث أنس السابق: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» .
وقال الحنفية: يتعوذ في الركعة الأولى فقط.
وقال الشافعية والحنابلة: يسن التعوذ سراً في أول كل ركعة قبل القراءة، بأن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وعن أحمد أنه يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) (2) ثم يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) سراً عند الحنفية والحنابلة، وجهراً في الجهرية عند الشافعية كما قدمنا، واستدلوا على سنية التعوذ بقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98/16] .
7 ً - التأمين:
هو أن يقول المصلي إماماً أو مأموماً أو منفرداً: (آمين) أي استجب، بعد الانتهاء من الفاتحة، وذلك عند الحنفية والمالكية سراً، وعند الشافعية والحنابلة: سراً في الصلاة السرية، وجهراً فيما يجهر فيه بالقراءة. ويؤمن المأموم مع تأمين إمامه.
__________
(1) أي الاستجارة إلى ذي منعة، على جهة الاعتصام به من المكروه.
(2) دليله ما رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزه ونفْخه ونَفْثه» وقال ابن المنذر: «جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (نيل الأوطار:196/2 ومابعدها) .(2/67)
ودليلهم حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ماتقدم من ذنبه» وقال ابن شهاب الزهري: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: آمين (1) .
وأضاف الحنابلة (2) : فإن نسي الإمام التأمين أمن المأموم، ورفع صوته، ليذكّر الإمام، فيأتي به؛ لأنه سنة قولية إذا تركها الإمام أتى بها المأموم كالاستعاذة، وإن أخفاها الإمام جهر بها المأموم. وإن ترك المصلي التأمين نسياناً أو عمداً حتى شرع في قراءة السورة لم يأت به؛ لأنه سنة فات محلها.
__________
(1) رواه الجماعة إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب (نيل الأوطار:222/2) .
(2) المغني:490/1.(2/68)
والدليل على كون التأمين سراً عند المالكية والحنفية قول ابن مسعود: «أربع يخفيهن الإمام: التعوذ والتسمية والتأمين والتحميد» (1) أي قول: ربنا لك الحمد.
ودليل الجهر به عند الشافعية والحنابلة: حديث أبي هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا تلا: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول» (2) وحديث وائل بن حُجْر: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين، يُمدُّ بها صوته» (3) .
8 ً - السكتة اللطيفة:
قال الشافعية (4) : ست سكتات لطيفة تسن في الصلاة بقدر: (سبحان الله) إلا التي بين: آمين والسورة، فهي في حق الإمام في الجهرية بقدر قراءة المأموم الفاتحة. ويسن للإمام أن يشتغل فيها بقراءة أو دعاء سراً، والقراءة أولى، فمعنى السكوت فيها: عدم الجهر، وإلا فلا يطلب السكوت حقيقة في الصلاة.
والسكتات الست: هي مابين التوجه والتعوذ، ومابين التحرم والتوجه، وبين التعوذ والبسملة، وبين الفاتحة وآمين، وبين آمين والسو رة، وبين السورة وتكبيرة الركوع، أي ثلاثة قبل الفاتحة وثلاثة بعد الفاتحة. والحكمة من السكتة الرابعة: أن يعلم المأموم أن لفظة (آمين) ليست من القرآن.
وقال الحنابلة (5) : يستحب أن يسكت الإمام عقيب قراءة الفاتحة يستريح فيها، ويقرأ فيها من خلفه الفاتحة، كيلا ينازعوه فيها، كما يستحب السكوت عقب التكبير، وبعد الانتهاء من القراءة، وبعد الفاتحة قبل قوله: «آمين» .
ودليل مشروعية السكتات: حديث سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين، إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها» وفي رواية: «سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: غير المغضوب عليهم ولا الضالين» (6) ففيه دليل على مشروعية سكتات ثلاث: بعد التكبير، وبعد الفاتحة، وبعد القراءة كلها.
__________
(1) فتح القدير:204/1، والقول رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي.
(2) رواه أبو داود وابن ماجه وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتجَّ بها المسجد (نيل الأوطار:224/2) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (المصدر السابق) .
(4) حاشية الباجوري:172/1، مغني المحتاج:163/1.
(5) المغني:491/1،495.
(6) رواه أبو داود وأحمد والترمذي، وابن ماجه بمعناه (نيل الأوطار:239/2) .(2/69)
وقال الحنفية والمالكية: السكتة مكروهة. إلا أن المالكية (1) قالوا في بحث وجوب الفاتحة على المشهور: يندب الفصل بسكوت، أو ذكر وهو أولى بين تكبيرة الإحرام والركوع، لئلا تلتبس تكبيرة الإحرام بتكبيرة الركوع، فإن لم يفصل وركع أجزأه.
وقال الحنفية (2) : يخير مصلي الفريضة (المفترض) على المذهب في الركعتين الأخريين (الثالثة والرابعة) بين قراءة الفاتحة وتسبيح ثلاثاً، وسكوت قدرها، ولايكون مسيئاً بالسكوت، لثبوت التخيير عن علي وابن مسعود، وهو الصارف لمواظبة النبي على الفاتحة عن الوجوب.
9 ً - تفريج القدمين:
قال الحنفية: يسن تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.
وقال الشافعية: يفرق بين القدمين بمقدار شبر، ويكره لصق إحدى القدمين بالأخرى حيث لاعذر؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع.
وقال المالكية والحنابلة: يندب تفريج القدمين، بأن يكون بحالة متوسطة بحيث لايضمهما ولايوسعهما كثيراً حتى يتفاحش عرفاً.
__________
(1) الشرح الكبير:238/1، الشرح الصغير: 310/1.
(2) الدر المختار:477/1.(2/70)
10 ً - قراءة سورة بعد الفاتحة:
هذا واجب عند الحنفية كما بينا، سنة عند الجمهور في الركعتين الأولى والثانية من كل صلاة، ويجهر بهما فيما يجهر فيه بالفاتحة، ويسر فيما يسر بها فيه، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، فإن أبا قتادة روى: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، يسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأوليين من العصر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكان يطول في الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية» (1) وروى أبو برزة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح من الستين إلى المئة» (2) وقد اشتهرت قراءة النبي صلّى الله عليه وسلم للسورة مع الفاتحة في صلاة الجهر، ونقل نقلاً متواتراً وأمر به معاذاً، فقال: «اقرأ بالشمس وضحاها، وبسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى» (3) .
نوع السورة المقروءة: قال الحنفية (4) : لا بأس بأن يقرأ سورة ويعيدها في الثانية، وأن يقرأ في الركعة الأولى من محل، وفي الثانية من محل آخر، ولو كان المقروء من سورة واحدة إن كان بينهما آيتان أو أكثر.
ويكره الفصل بسورة قصيرة، وأن يقرأ منكوساً، بأن يقرأ في الثانية أعلى مما قرأ في الأولى؛ لأن ترتيب السور في القرآن من واجبات التلاوة، وإنما جوز للصغار تسهيلاً لضرورة التعليم، واستثنوا من كراهة التنكيس: أن يختم القرآن، فيقرأ من البقرة.
ولو قرأ في الأولى {الكافرون} [الكافرون:109/1] وفي الثانية {ألم تر} [الفيل:105/1] أو {تبت} [المَسد:111/1] ، ثم تذكر القراءة يتم. ولا يكره في النفل شيء من ذلك.
__________
(1) متفق عليه، ورواه أبو داود، وزاد: قال: فظننا أنه يريد بذلك أن يُدْرِك الناس في الركعة الأولى (نيل الأوطار:226/2) .
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) الدر المختار:510/1-511.(2/71)
وقراءة ثلاث آيات تبلغ قدر أقصر سورة من آية طويلة؛ لأن التحدي والاعجاز وقع بذلك القدر، لا بالآية. والأفضلية ترجع إلى كثرة الثواب. والعبرة الأكثر آيات في قراءة سورة وبعض سورة.
مواطن الجهر والإسرار في القراءة: اتفق الفقهاء على أنه يسن الجهر في الصبح والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين والتراويح ووتر رمضان، ويسر في الظهر والعصر. وللفقهاء في النوافل كالوتر وغيره تفصيل:
فقال الحنفية: يجب الجهر على الإمام في كل ركعات الوتر في رمضان، وصلاة العيدين، والتراويح. ويجب الإسرار على الإمام والمنفرد في صلاة الكسوف والاستسقاء والنوافل النهارية. وأما النوافل الليلية فهو مخير فيها.
ويخير المنفرد بين الجهر والإسرار في الصلاة الجهرية أداء، أو قضاء في وقتها أو غيروقتها، إلا أن الجهر أفضل في الجهرية ليلاً. أما الصلاة السرية فيجب عليه أن يسر بها على الصحيح. ويجب على المأموم الإنصات في كل حال.
وقال المالكية: يندب الجهر في جميع النوافل الليلية، والسر في جميع النوافل النهارية إلا النافلة التي لها خطبة كالعيد والاستسقاء، فيندب الجهر فيها.
ويندب للمأموم الإسرار.
وقال الشافعية: يسن الجهر في العيدين وخسوف القمر والاستسقاء والتراويح ووتر رمضان وركعتي الطواف ليلاً أو وقت الصبح، والإسرار في غير ذلك إلا نوافل الليل المطلقة فيتوسط فيها بين الجهر والإسرار، والتوسط: أن يجهر تارة، ويسر أخرى، اتباعاً للسنة، إن لم يشوش على نائم أو مصل أو نحوه. والعبرة في قضاء الفريضة بوقته أي وقت القضاء على المعتمد. وجهر المرأة دون جهر الرجل. ومحل جهرها إن لم تكن بحضرة أجانب.
وقال الحنابلة: يسن الجهر في صلاة العيد والاستسقاء والكسوف والتواويح والوتر إذا وقع بعد التراويح، ويسر فيما عدا ذلك.
ويخير المنفرد بين الجهر والإسرار في الصلاة الجهرية، كما قال الحنفية.(2/72)
الدعاء أثناء القراءة: يستحب طلب الرحمة والمغفرة عند قراءة آية رحمة، والتعوذ من النار عند المرور بذكره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول عند ذكر الجنة والنار: «أعوذ بالله من النار، ويل لأهل النار» (1) وكان لا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل، ورَغب إليه (2) ، وكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} ؟ [القيامة:40/75] ، قال: «سبحانك، فَبَلى» (3) ، كذلك يسن التسبيح عند آية التسبيح نحو {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة:74/56] وأن يقول عند آخر {والتين} [التين:1/95] وآخر القيامة: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وفي آخر المرسلات: آمنا بالله.
متى وكيف تقرأ السورة؟
قال الشافعية: ولا سورة في الجهرية للمأموم، بل يستمع، فإن بعد، أو كانت الصلاة سرية، قرأ في الأصح؛ إذ لا معنى لسكوته. وغير الشافعية قالوا: لاسورة على المأموم.
وقال المالكية والحنابلة: ويسن أن يفتتح السورة بقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) ويندب كمال سورة بعد الفاتحة، فلا يقتصر على بعضها، ولا على آية أو أكثر، ولو من الطوال، ويندب قراءة خلف إمام سراً في الصلاة السرية، وفي أخيرة المغرب، وأخيرتي العشاء.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه بمعناه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه.
(2) رواه أحمد عن عائشة.
(3) رواه أبو داود عن موسى بن أبي عائشة (راجع نيل الأوطار:323/2) .(2/73)
ويكره تكرير السورة عند الجمهور في الركعتين، بل المطلوب أن يكون في الثانية سورة غير التي قرأها في الأولى، أنزل منها لا أعلى، فلا يقرأ في الثانية (سورة القدر) بعد قراءته في الأولى (سورة البينة) . وقال الحنفية: لا بأس أن يقرأ سورة ويعيدها في الثانية. ويندب عند الجمهور تقصير قراءة ركعة ثانية عن قراءة ركعة أولى في فرض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يندب تطويل الركعة الأولى في الفجر فقط. والفتوى على قول محمد كالجمهور بتطويل الركعة الأولى في كل الصلوات على الثانية، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان في الظهر والعصر، ورواه مسلم في الصبح، ويقاس غير ذلك عليه.
ويندب باتفاق الفقهاء أن يكون ترتيب السور في الركعتين على نظم المصحف، فتنكيس السور مكروه. ولا تكره قراءة أواخر السور وأوساطها؛ لأن أبا سعيد قال: «أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» . وجاز الجمع بين السورتين فأكثر في صلاة النافلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «قرأ في ركعة سورة البقرة وآل عمران والنساء» أما الفريضة: فالمستحب أن يقتصر على سورة مع الفاتحة من غير زيادة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم هكذا كان يصلي أكثر صلاته.
المستحب في مقادير السور في الصلوات: يسن أن تكون السورة لإمام جماعة محصورين رضوا بالتطويل في صلاة الفجر من طوال المفصَّل (1) باتفاق الفقهاء، وفي الظهر أيضاً عند المالكية والحنفية والشافعية، أما عند الحنابلة فمن أوساط المفصل (2) ، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي المغرب من قصار المفصل. وقال المالكية: العصر كالمغرب يقرأ فيه.
__________
(1) سمي بالمفصل لكثرة فواصله، وفصله بالبسملة وهو السبع السابع من القرآن.
(2) دليلهم ما كتبه عمر إلى أبي موسى أن: «اقرأ في الصبح بطوال المفصَّل، واقرأ في الظهر بأوساط المفصل، واقرأ في المغرب بقصار المفصل» رواه أبو حفص.(2/74)
والدليل حديث أبي هريرة قال: «ما رأيت رجلاً أشبه صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان بن يسار: فصليت خلفه، فكان يقرأ في الغداة بطوال المفصل، وفي المغرظ بقصاره، وفي العشاء بوسط المفصل» (1) والحكمة في إطالة القراءة في الفجر والظهر: طول وقتهما، وليدركهما من كان في غفلة بسبب النوم آخر الليل وفي القيلولة. والتوسط في العصر لانشغال الناس بالأعمال آخر النهار، وفي العشاء لغلبة النوم والنعاس. والتخفيف في المغرب لضيق وقته.
والحديث الجامع للقراءة في الصلوات عن جابر بن سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان
__________
(1) رواه أحمد والنسائي، ولفظه له.(2/75)
يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} [ق:50/1] ونحوها، وكان صلاته بعد إلى تخفيف. وفي رواية: كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحوَ ذلك، وفي الصبح أطولَ من ذلك» (1) وفي رواية: «كان إذا دحَضَت ـ مالت ـ الشمس، صلى الظهر، وقرأ بنحو من: والليل إذا يغشى، والعصر كذلك، والصلوات كلِّها كذلك إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» (2) .
وروى ابن ماجه عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد» ويندب للإمام التخفيف عموماً، لحديث جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ، أفتَّانٌ أنت؟! أو قال: أفاتن أنت، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» (3) وفي رواية عند البخاري وغيره: «من أمَّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة» .
تحديد مقادير السور: للفقهاء آراء في تحديد السور الطوال والأوساط والقصار:
قال الحنفية في المعتمد عندهم (4) : طوال المفصل: من سورة الحجرات إلى آخر البروج (أو قدر أربعين أو خمسين آية) وأوساط المفصل: من الطارق إلى أول البينة (أو مقدار خمس عشرة آية) ، وقصار المفصل: من البينة إلى آخر القرآن الكريم (أو مقدار خمس آيات في كل ركعة) .
__________
(1) رواهما أحمد ومسلم.
(2) رواه أبو داود (نيل الأوطار:231/2) .
(3) متفق عليه (نيل الأوطار:235/2) .
(4) الدر المختار ورد المحتار:504/1، تبيين الحقائق:130/1.(2/76)
وقال المالكية (1) : طوال المفصل: من الحجرات إلى سورة النازعات. وأوسط المفصل من عبس إلى سورة: والليل. وقصاره من سورة (والضحى) إلى آخر القرآن.
وقال الشافعية (2) : طوال المفصل: من الحجرات إلى النبأ (عمَّ) ، وأوسطه من النبأ إلى الضحى، وقصاره: من الضحى إلى آخر القرآن. ويقرأ في الركعة الأولى من صبح الجمعة {الم تنزيل} [السجدة:32/1] وفي الثانية: {هل أتى} [الإنسان:76/1] لما ثبت من حديث أبي هريرة (3) .
وقال الحنابلة (4) : أول المفصل سورة {ق} [ق:50/1] وقيل: الحجرات.
وأوضح الحنابلة أنه يقرأ بما وافق مصحف عثمان، وهو ماصح تواتره وسنده ووافق اللغة، ولا تصح الصلاة ويحرم قراءة بما يخرج عن مصحف عثمان، كقراءة ابن مسعود وغيرها من القراءات الشاذة (وهي التي اختل فيها ركن من أركان القراءة المتواترة الثلاثة: موافقة العربية ولو بوجه، وموافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً، وصح إسنادها) (5) .
حد الجهر والإسرار: قال الحنفية: أقل الجهر إسماع غيره ممن ليس بقربه كأهل الصف الأول، فلو سمع واحد أو اثنان لا يجزئ. وأقل المخافتة إسماع نفسه أو من بقربه من رجل أو رجلين.
وقال المالكية: أقل جهر الرجل أن يسمع من يليه، وأقل سره: حركة اللسان. أما المرأة فجهرها إسماع نفسها. وقال الشافعية والحنابلة: أقل الجهر: أن يسمع من يليه ولو واحداً، وأقل السر أن يسمع نفسه، أما المرأة فلا تجهر بحضرة أجنبي.
11 ً - التكبير عند الركوع والسجود والرفع منه، وعند القيام:
بأن يقول: (الله أكبر) وهو ثابت بإجماع الأمة، لقول ابن مسعود: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يكبّر في كل رفع وخفض، وقيام وقعود» (6) وهو يدل على مشروعية التكبير في هذه الأحوال إلا في الرفع من الركوع، فإنه يقول: سمع الله لمن حمده. وقد قال الحنابلة بوجوب التكبير، كوجوب (سمع الله لمن حمده) وقول (ربي اغفر لي) بين السجدتين، والتشهد الأول.
ويسن في الركوع ما يأتي:
أـ أخذ الركبتين باليدين وتمكين اليدين من الركبتين، وتسوية الظهر أثناء الركوع، وتفريج الأصابع للرجل، أما المرأة فلا تفرجها، ونصب الساقين، وتسوية الرأس بالعجز، وعدم رفع الرأس أو خفضه، ومجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، بدليل حديث أبي مسعود عقبة بن عَمْرو: «أنه ركع فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي» (7) وحديث مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي، فطبَّقت بين كفَّيَّ، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني عن ذلك، وقال: كنا نفعل هذا، وأمرنا
__________
(1) الشرح الصغير:325/1، الشرح الكبير:247/1.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب:205/1، شرح المحلي على المنهاج:154/1.
(3) رواه الجماعة إلا الترمذي وأبا داود (نيل الأوطار:277/3) .
(4) كشاف القناع:399/1 ومابعدها،402.
(5) نيل الأوطار:237/2.
(6) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار:240/2) وفي معناه حديث آخر عن أبي موسى رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود (المرجع السابق: ص241 ومابعدها) .
(7) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (المصدر السابق: ص243 ومابعدها) .(2/77)
أن نضع أيدينا على الركب» (1) وحديث أبي حميد الساعدي في بيان صفة صلاة الرسول صلّى الله عليه وسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه، ووَتَر يديه فنحاهما عن جنبيه» (2) وحديث وابصة بن معبد عند ابن ماجه: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فكان إذا ركع، سوَّى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر» وحديث عائشة عند مسلم: «وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» .
ب ـ أن يقول: (سبحان ربي العظيم) وهو الحد الأدنى، وأدنى الكمال ثلاثاً عند الجمهور، ولا حد له عند المالكية، ويضيف المالكية والشافعيةوالحنابلة (وبحمده) . والدليل حديث حذيفة قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما مرَّت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ منها» (3) وحديث عقبة بن عامر أنه قال: «لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم» وحديث ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا ركع أحدكم، فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه» (4) .
ولا يزيد الإمام عن التسبيحات الثلاث، ويكره له ذلك، تخفيفاً على المأمومين. ولكن عند الشافعية: يزيد المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي» (5) .
__________
(1) رواه الجماعة (المصدر السابق: ص244) .
(2) حديث صحيح رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، ورواه البخاري مختصراً (المرجع السابق: ص184) .
(3) رواه الخمسة وصححه الترمذي (المرجع السابق: ص245) .
(4) رواهما أبو داود وابن ماجه وأحمد (المرجع السابق: ص246) .
(5) رواه مسلم ما عدا الجملة الأخيرة، فقد زادها ابن حبان في صحيحه.(2/78)
وقال الحنفية: وكره تحريماً إطالة ركوع، أو قراءة لإدراك الجائي إن عرفه، وإلا فلابأس به، وهذا موافق لبقية الأئمة، والاطمئنان في الركوع واجب في المذاهب الأربعة كما بينا سابقاً.
12 ً - التسميع والتحميد:
أي قول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد (1) : للإمام سراً في التحميد وللمنفرد عند الحنفية وفي المشهور عند الحنابلة، وأما المقتدي فيقول فقط عند الحنابلة وعلى المعتمد عند الحنفية: (ربنا لك الحمد) أو (ربنا ولك الحمد) أو (اللهم ربنا ولك الحمد) والأول عند الشافعية أولى لورود السنة به، وأفضله عند الحنفية الأخير، ثم (ربنا ولك الحمد) ثم الأول. والأفضل عند الحنابلة والمالكية: (ربنا ولك الحمد) .
وعند المالكية: الإمام لا يقول: (ربنا لك الحمد) والمأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده) والمنفرد يجمع بينهما حال القيام، لا حال رفعه من الركوع، إذ الرفع يقترن بـ (سمع الله) ، فإذا اعتدل قال: (ربنا ... ) الخ.
والخلاصة: إن المقتدي عند الجمهور يكتفي بالتحميد.
ويسن عند الشافعية: الجمع بين التسميع والتحميد في حق كل مصل، منفرد وإمام ومأموم.
والدليل على الجمع لدى الشافعية: حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبِّر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد ... » الحديث متفق
__________
(1) أي ربنا استجب لنا، ولك الحمد على هدايتك إيانا.(2/79)
عليه، وفي رواية لهما: «ربنا لك الحمد» (1) .
ودليل التفرقة بين الإمام والمأموم لدى الجمهور: حديث أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» (2) .
ويسن عند الشافعية والحنابلة القول: (ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد) أي بعدهما كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يعلمه إلا هو، ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين رضوا بالتطويل: (أهلَ الثناء والمجد (3) ، أحقُّ ما قال العبد (4) ، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ) (5) .
ودليلهم حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربَّنا لك الحمد، مِلء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ماشئت بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ» (6) وكذلك حمله الحنفية على حال الانفراد (7) .
13 ً - وضع الركبتين، ثم اليدين، ثم الوجه عند الهوي للسجود، وعكس ذلك عند الرفع من السجود.
هذا عند الجمهور غير المالكية، لحديث وائل بن حجر السابق: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» .
وقال المالكية: يضع يديه، ثم ركبتيه عند السجود، ويرفع ركبتيه ثم يديه عند الرفع منه، لحديث أبي هريرة: «إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه ثم ركبتيه» وقد سبق بيان ذلك ولا ترجيح بين الكيفيتين.
__________
(1) متفق عليه (نيل الأوطار:249/2 ومابعدها) .
(2) متفق عليه (المرجع السابق: ص251) .
(3) أي يا أهل المدح والعظمة.
(4) مبتدأ، خبره: (لا مانع لما أعطيت) وأما قوله: (وكلنا لك عبد) فهو جملة معترضة.
(5) أي لا ينفع ذا الغنى عندك أو ذا الحظ في الدنيا، حظه في العقبى، إنما ينفعه طاعتك.
(6) رواه مسلم والنسائي (نيل الأوطار:251/2) .
(7) منية المصلي للجلبي: ص318.(2/80)
14 ً - هيئات السجود الأخرى:
أـ وضع الوجه بين الكفين عند الحنفية، وتوجيه الأصابع مضمومة مكشوفة نحو القبلة باتفاق المذاهب، ووضع اليدين حذو (مقابل) المنكبين في أثناء السجود عند غير الحنفية وإبرازهما من ثوبه والاعتماد على بطونهما، والتفرقة بقدر شبر بين القدمين والركبتين والفخذين عند الشافعية.
وعلى هذا يكون توجيه أصابع الرجلين نحو القبلة سنة.
دليل الحالة الأولى: حديث وائل بن حجر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع وجهه بين كفيه» (1) .
والحكمة من ضم أصابع اليدين هو التوجه نحو القبلة لشرفها، ولأن في السجود تنزل الرحمة، وبالضم ينال أكثر (2) ، ودليل الضم وتوجيه الأصابع للقبلة: حديث أبي حميد الساعدي: «فإذا سجد، وضع يديه غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة» (3) .
ودليل الحالة الثالثة: حديث أبي حميد الساعدي: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع كفيه حذو منكبيه» (4) .
__________
(1) رواه مسلم، وأبو داود.
(2) رد المحتار والدر المختار:465/1،470.
(3) رواه البخاري (نصب الراية:388/1) .
(4) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه.(2/81)
ودليل إبراز اليدين من الثوب حديث أبي هريرة: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يشتمل الصمَّاء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه، يعنى شيء» (1) .
وأما الاعتماد على بطون اليدين فلكونه أعون على الحركة وأبلغ في الخشوع والتواضع، وأما التفرقة بين القدمين ونحوهما فلا تباع السنة في ذلك.
ب ـ مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن جنبيه، وذراعيه عن الأرض في السجود في غير زحمة، وتفريقه بين ركبتيه ورجليه.
أما المرأة فتضم بطنها إلى فخذيها وفي جميع أحوالها؛ لأنه أستر لها (2) .
ودليل حالة الرجل أحاديث: منها:
حديث ميمونة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت» (3) .
وحديث عبد الله بن بُحَيْنة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد يُجنِّح في سجوده، حتى يُرى وَضَحُ إبطيه» (4) أي بياض إبطيه.
وحديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا سجد فَرَّج بين فخذيه، غير حامل بطنَه على شيء من فخذيه» (5) .
__________
(1) متفق عليه، واشتمال الصماء: أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً ولا يبقي ما تخرج منه يده (نيل الأوطار:76/2) .
(2) وتسمى حالة الرجل: التخوية، وحالة المرأة: التطامن. ويعبر بعض الفقهاء بعبارة للرجل: (ومجافاة ضَبْعيه جنبيه وسطاً) والضبع: ما فوق المرفق إلى الإبط.
(3) رواه مسلم. والبهيمة: صغار أولاد الضأن والمعز (نصب الراية:387/1) .
(4) متفق عليه (نيل الأوطار:256/2) .
(5) رواه أبو داود (المصدر السابق: ص257) .(2/82)
وحديث أنس في النهي عن ترك المجافاة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسُطُ أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» (1) .
جـ ـ تجب الطمأنينة باتفاق المذاهب كما بينا، ويستحب وضع الأنف مع الجبهة كما ذكرنا، لحديث أبي حميد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه» (2) .
د ـ التسبيح في السجود: بأن يقول: «سبحان ربي الأعلى» مرة في الحد الأدنى، وثلاثاً وهو أدنى الكمال، وهو سنة بالاتفاق لحديث ابن مسعود السابق: « ... وإذا سجد، فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات» .
وحديث حذيفة: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سجد، قال: «سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات» (3) .
قال الحنفية: ولا يزيد الإمام على ذلك تخفيفاً على المأمومين، ولا حد للتسبيح عند المالكية.
وزاد المالكية والشافعية والحنابلة: (وبحمده) ويزيد عند الشافعية المنفرد وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: (سُبُّوح قدُّوس رب الملائكة والروح، اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) .
__________
(1) رواه الجماعة (المصدر السابق: ص256) ومعنى «لايبسط، ولا يفترش في رواية» واحد، أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالفراش والبساط، قال القرطبي: ولا شك في كراهة هذه الهيئة، ولا في استحباب نقيضها. وفي رواية: «افتراش الكلب» بدل: (انبساط الكلب) ومعناهما واحد.
(2) رواه أبو داود والترمذي وصححه (نيل الأوطار:257/2) .
(3) رواه ابن ماجه، وأبو داود، ولم يقل (ثلاث مرات) .(2/83)
ودليلهم على الجملة الأولى حديث عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح» (1) وسبّوح قُدُّوس: من صفات الله، والمراد: المسبَّح والمقدس، فكأنه يقول: مسبح مقدس، ومعنى (سبّوح) المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالألوهية. وقدوس: المطهر من كل مالا يليق بالخالق.
وبقية التسبيح رواه مسلم.
هـ ـ الدعاء في السجود (2) : قال الحنفية: لا يأتي المصلي في ركوعه وسجوده بغير التسبيح، على المذهب، وما ورد محمول على النفل، ويندب الدعاء في السجود عند المالكية بما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا، أو الآخرة، له أو لغيره، خصوصاً أو عموماً، بلا حدّ، بل بحسب ما يسر الله تعالى. ولا بأس عند الحنابلة بالدعاء المأثور أو الأذكار.
ويتأكد طلب الدعاء في السجود عند الشافعية.
ودليلهم خبر مسلم وغيره: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، فقِمِن أن يستجاب لكم» (3) أي أكثروا الدعاء في سجودكم، فحقيق أن يستجاب لكم.
وعن أبي سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يا معاذ، إذا وضعت وجهك ساجداً، فقل: اللهم أعني على شكرك وحسن عبادتك» .
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار:246/2) .
(2) الدر المختار:472/1، تبيين الحقائق:118/1، الشرح الصغير:329/1، المغني:522/1، حاشية الباجوري:177/1، مغني المحتاج:181/1
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود(2/84)
وقال علي رضي الله عنه: «أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد، وهو ساجد: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» (1) .
وعن أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيته وسره» (2) .
15 ً - الجلوس بين السجدتين، مطمئناً مفترشاً الرجل رجله اليسرى، وناصباً اليمنى، موجهاً أصابعه نحو القبلة، واضعاً يديه على فخذيه، بصورة مبسوطة، بحيث تتساوى رؤوس الأصابع مع الركبة.
أما المرأة فتتورك عند الحنفية، بأن تجلس على أليتها، وتضع الفخذ على الفخذ، وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها اليمنى؛ لأنه أستر لها.
والدليل على هيئة الجلوس هذه للرجل: حديث أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم هوى ساجداً» وحديث عائشة: «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (3) .
وقال ابن عمر: «من سنة الصلاة: أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة» (4) .
ويكره الإقعاء: وهو أن يفرش قدميه، ويجلس على عقبيه، لحديث علي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لاتُقْعِ بين السجدتين» وحديث أنس: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقع كما يقعي الكلب» (5) .
__________
(1) رواهما سعيد بن منصور في سننه.
(2) رواه مسلم وأبو داود ومعنى «دقة وجله» قليله وكثيره (نيل الأوطار:289/2) . (3) متفق عليه.
(4) رواه النسائي.
(5) رواهما ابن ماجه.(2/85)
ويسن عند الشافعية والحنابلة الاعتماد بيديه على الأرض عند القيام عن سجود أو قعود اتباعاً للسنة، والنهي عن ذلك ضعيف (1) .
16 ً - الدعاء بين السجدتين:
ليس عند الحنفية (2) بين السجدتين دعاء مسنون، كما ليس بعد الرفع من الركوع دعاء، ولا في الركوع والسجود على المذهب كما قدمنا، وما ورد محمول على النفل أو التهجد.
ولم يذكر المالكية هذا الدعاء من مندوبات الصلاة، وذكره ابن جزي فيما يقال بين السجدتين.
والدعاء مشروع عند الشافعية والحنابلة؛ بل قال الحنابلة: إنه واجب، وأدناه أن يقول مرة: (رب اغفر لي) وأدنى الكمال عندهم أن يقول ذلك: ثلاث مرات كالكمال في تسبيح الركوع والسجود.
وصيغة هذا الدعاء عند الشافعية والمالكية والحنابلة: (رب اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني، واهدني، وعافني) وقال الحنابلة: لايجوز في الصلاة، بغير الوارد في السنة، ولايجوز بما ليس من أمر الآخرة، كحوائج الدنيا وملاذها، وتبطل الصلاة به.
ودليل المشروعية: ماروى حذيفة: «أنه صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي» (3) .
وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني» (4) .
وفي رواية لمسلم: «أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله كيف أقول حين أسأل ربي، قال: قل: اللهم اغفر لي وارحمني، وارزقني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك» أي لأن الغفر الستر، والعافية: اندفاع البلاء عن الإنسان، والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم.
جلسة الاستراحة: المشهور عند الشافعية (5) : سنُّ جلسة خفيفة بعد السجدة الثانية تسمى جلسة الاستراحة، في كل ركعة يقوم عنها فلا تسن عقب سجدة التلاوة، اتباعاً لما ثبت في السنة عند البخاري. وروى الجماعة إلا مسلماً وابن ماجه عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعداً» (6) .
ولا تستحب جلسة الاستراحة عند الجمهور، إذ لم تذكر في حديث أبي حميد الساعدي في بيان صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم (7) .
17 ً - التشهد الأول، والافتراش له كالجلوس بين السجدتين، والتورك في التشهد الأخير:
وصيغة التشهد عند الشافعية كما تقدم: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) .
وقد اتفق الفقهاء على مشروعية التشهد الأول والجلوس له، على أنهما سنتان عند الجمهور، وواجبان عند الحنفية، بدليل الأمر به وسقوطه بالسهو، قال ابن مسعود: «إن محمداً صلّى الله عليه وسلم قال: إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبَه إليه، فليدع ربه عز وجل» (8) .
__________
(1) شرح الحضرمية:46.
(2) الدر المختار:472/1، تبيين الحقائق:118/1.
(3) رواه النسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:263/2) .
(4) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، إلا أنه قال: «في صلاة الليل» ، وقال أبو داود فيه (وعافني) مكان (واجبرني) (نيل الأوطار: 263/2، سبل السلام:184/1) .
(5) مغني المحتاج:171/1 ومابعدها.
(6) رواه الجماعة إلا مسلماً وابن ماجه (نيل الأوطار:269/2) .
(7) نيل الأوطار:184/2.
(8) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار:271/2) وهذه هي الصيغة المفضلة عند الحنفية والحنابلة، وقد عرفنا الصيغة المختارة عند الشافعية، وعند المالكية، وعبارة: ثم ليتخير: فيها الإذن بكل دعاء أراد المصلي أن يدعو به من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثماً. وهو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: لايجوز إلا بالدعوات المأثورة في القرآن والسنة.(2/86)
واستدل الحنابلة على وجوبه بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم ومداومته على فعله، وأمره به في حديث ابن عباس، فقال: «قولوا: التحيات لله» وسجد للسهو حين نسيه، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولاتستحب عند الجمهور الزيادة على هذا التشهد ولا تطويله، وقال الحنابلة أيضاً: إذا أدرك المسبوق بعض الصلاة مع الإمام، لم يزد المأموم على التشهد الأول، بل يكرره حتى يسلم الإمام.
ويسن أن يضم إليه عند الشافعية: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في آخره، فيقول: (اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي) .
ويلاحظ أن كلاً من التشهد الأول والأخير سنة عند المالكية، والتشهدان واجبان عند الحنفية، وكذا القعود الأول ولو في نفل في الأصح، والأول سنة أو
بعض، والأخير فرض عند الشافعية، والأول واجب والأخير فرض عند الحنابلة. ويسن باتفاق الفقهاء الإسرار بقراءة التشهد، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به، قال ابن مسعود: «من السنة إخفاء التشهد» (1) ولأنه ذكر غير القراءة كالتسبيح، فاستحب إخفاؤه.
وأما صفة الجلوس للتشهد الأول: فهي الافتراش عند الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو أن يجلس على كعب يسراه بعد أن يضجعها، وينصب يمناه. وتتورك المرأة عند الحنفية؛ لأنه أستر لها، ودليل الافتراش حديث عائشة: «وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى» (2)
وحديث وائل بن حجر: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي، فسجد، ثم قعد فافترش رجله اليسرى» (3) وحديث أبي حميد «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس ـ للتشهد ـ فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» (4) وحديث رفاعة بن رافع «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للأعرابي: إذا سجدت، فمكِّن لسجودك، فإذا جلست فاجلس على رجلك اليسرى» (5) .
وقال المالكية: يجلس متوركاً في التشهد الأول والأخير، لما بينا، ولما روى ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركاً» (6) .
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه مسلم وأحمد وأبو داود (المصدر السابق:275/2) .
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وفي لفظ لسعيد بن منصور قال: صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما قعد، وتشَهَّد، فرش قدمه اليسرى على الأرض وجلس عليها (نيل الأوطار:273/2) .
(4) رواه البخاري (نيل الأوطار:275/2) .
(5) رواه أحمد (المرجع السابق) .
(6) المغني:533/1(2/87)
وقال الحنفية: الجلوس للتشهد الأخير كالتشهد الأول، يكون مفترشاً، لحديث أبي حميد.
وقال الشافعية والحنابلة: يسن التورك للتشهد الأخير، وهو كالافتراش، لكن يخرج يسراه من جهة يمينه، ويلصق وَرِكَه بالأرض، بدليل حديث أبي حميد: «حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخَّر رِجْله اليسرى، وقعد على شقه متوركاً، ثم سلم» (1) .
والأصح عندهم: يفترش المسبوق والساهي.
والخلاصة: أنه يسن التورك في التشهد الأخير عند الجمهور، ولا يسن عند الحنفية، إلا أن الحنابلة قالوا: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، فلايتورك في تشهد الصبح.
18 ً - وضع اليدين على الفخذين:
بحيث تكون رؤوس أصابعهما على الركبتين، ورفع الإصبع السبابة من اليمنى فقط عند الشهادة في التشهد:
قال الحنفية (2) : يضع يمناه على فخذه اليمنى، ويسراه على اليسرى، ويبسط أصابعه، كالجلسة بين السجدتين، مفرجة قليلاً، جاعلاً أطرافها عند ركبتيه، ولا يأخذ الركبة في الأصح، والمعتمد أنه يشير بسبابة يده اليمنى عند الشهادة، يرفعها عند نفي الألوهية عما سوى الله تعالى، بقوله: (لا إله) ، ويضعها عند إثبات الألوهية لله وحده، بقوله: (إلا الله) ليكون الرفع إشارة إلى النفي، والوضع إشارة إلى الإثبات، ولا يعقد شيئاً من أصابعه.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي (نيل الأوطار:184/2) .
(2) الدر المختار: 474/1.(2/88)
ودليلهم رواية في صحيح مسلم عن ابن الزبير تدل على ذلك؛ لأنه اقتصر فيها على مجرد الوضع والإشارة (1) .
وقال المالكية (2) : ترسل اليد اليسرى، ويعقد من اليد اليمنى في حال تشهده ما عدا السبابة والإبهام: وهو الخنصر والبنصر والوسطى، بجعل رؤوسها باللُّحْمة التي بجنب الإبهام، مادَّاً إصبعه السبابة كالمشير بها، فتصير الهيئة هيئة التسعة والعشرين؛ لأن مدَّ السبابة مع الإبهام صورة عشرين، وقبض الثلاثة تحت الإبهام صورة تسع.
ويندب دائماً تحريك السبابة تحريكاً وسطاً من أول التشهد إلى آخره، يميناً وشمالاً، لا لجهة: فوق وتحت، واستدلوا بحديث وائل بن حجر: أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثم قعد فافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه، وركبته اليسرى، وجعل حد مِرْفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق حَلْقةً، ثم رفع أُصبعه، فرأيته يحركها (3) ، يدعو بها» (4) .
وقال الشافعية والحنابلة (5) السنة وضع اليدين على الفخذين في الجلوس
__________
(1) نيل الأوطار:283/2.
(2) الشرح الصغير:330/1.
(3) قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك: الإشارة بها، لا تكرير تحريكها، حتى لا يعارض حديث ابن الزبير عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه بلفظ: «كان يشير بالسبابة ولا يحركها، ولا يجاوز بصره إشارته» قال ابن حجر: وأصله في مسلم دون قوله: «ولا يجاوز بصره» (نيل الأوطار:283/2) .
(4) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي (المصدر السابق) وروى البيهقي حديثاً ضعيفاً عن ابن عمر: «تحريك الأصبع في الصلاة مذعرة للشيطان» .
(5) مغني المحتاج:172/1 ومابعدها، حاشية الباجوري:177/1، المغني:534/1.(2/89)
للتشهد الأول والأخير، يبسط يده اليسرى منشورة، مضمومة الأصابع في الأصح عند الشافعية، بحيث تسامت رؤوسها الركبة، مستقبلاً بجميع أطراف أصابعها القبلة، فلا تفرج الأصابع؛ لأن تفريجها يزيل الإبهام عن القبلة.
ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويقبض منها الخنصر والبنصر، وكذا الوسطى في الأظهر عند الشافعية، أما عند الحنابلة: فإنه يحلق الإبهام مع الوسطى.
ويشير بالسبابة (أو المُسبِّحة) ، ويرفعها عند قوله: «إلا الله» ولا يحركها، لفعله صلّى الله عليه وسلم، ويديم نظره إليها، لخبر ابن الزبير السابق.
والأظهر عند الشافعية والحنابلة: ضم الإبهام إلى السبابة، كعاقد ثلاثة وخمسين، بأن يضعها تحتها على طرف راحته. ولو أرسل الإبهام والسبابة معاً، أو قبضهما فوق الوسطى، أو حلَّق بينهما برأسهما أو وضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإبهام، أتى بالسنة، لورود جميع ذلك، لكن الأول أفضل كما قال الشافعية؛ لأن رواته أفقه.(2/90)
ودليلهم حديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» (1) ، ودليلهم على عدم تحريك الأصبع: حديث عبد الله بن الزبير: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا، ولايحركها» (2) وحديث سعد بن أبي وقاص قال: «مرَّ علي النبي صلّى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصابعي، فقال: أحد، أحد، وأشار بالسبابة» (3) .
19 ً - قراءة الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة من الصلوات المفروضة:
تسن على الصحيح عند الحنفية ولو ضم إليها سورة لا بأس به؛ لأن القراءة في هاتين الركعتين مشروعة من غير تقدير. وهي فرض عند الشافعية، وواجبة للإمام والمنفرد عند المالكية والحنابلة.
دليل الحنفية: هو أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة، وتجزئ قراءة آية من القرآن في أي موضع كان، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/73] {فاقرؤوا ما تيسر منه} [المزمل:20/73] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» ، ولأن الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام، فكذا في الصلاة. وقد وردت آثار عن بعض الصحابة (علي وابن مسعود) بسنيتها، فصرف الوجوب الظاهر من الأحاديث للمواظبة على الفاتحة إلى السنية، وهو أدنى ما تدل عليه الأحاديث.
ودليل الجمهور: حديث عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (4) ، وبما أن القراءة (أي قراءة شيء من القرآن» فرض أو ركن في الصلاة، فكانت معينة كالركوع والسجود.
وأما خبر المسيء صلاته فمقيد بما روى الشافعي بإسناده عن رفاعه بن رافع أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «ثم اقرأ بأم القرآن، وما شاء الله أن تقرأ» (5) فهو محمول على الفاتحة، وما تيسر معها من القرآن مما زاد عليها.
__________
(1) رواه مسلم. وكون هذه الكيفية ثلاثة وخمسين طريقة لبعض الحاسبين، وأكثرهم يسمونها تسعة وخمسين، وآثر الفقهاء الأول تبعاً للفظ الخبر.
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان.
(3) رواه النسائي.
(4) متفق عليه بين أحمد وأصحاب الكتب الستة.
(5) ورواه أيضاً أبو داود (نيل الأوطار:232/2) .(2/91)
20 ً- الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى آله في التشهد الأخير:
قال الحنفية (1) : الصلاة على النبي وعلى آله ـ الصلوات الإبراهيمية: سنة وكذلك قال المالكية (2) : تسن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، كما أن كل تشهد (أول أو أخير ولو في سجود سهو) هو سنة مستقلة.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : تجب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، أما الصلاة على الآل فيه فهي سنة عند الشافعية، واجبة عند الحنابلة.
ودليل الوجوب عند الحنابلة: حديث كعب بن عُجرة السابق: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا الله كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» (4) ، وروى الأثرم عن فضالة بن عبيد: «سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد ربه، ولم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم لِيَدْعُ بعد بما شاء» والأمر يقتضي الوجوب، وصفة الصلاة على النبي وآله: تكون على النحو المذكور في حديث كعب.
__________
(1) الدر المختار:478/1.
(2) الشرح الصغير:319/1.
(3) مغني المحتاج:173/1 ومابعدها، المغني:541/1.
(4) متفق عليه بين أحمد والشيخين.(2/92)
واستدل الشافعية على وجوب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بالأمر القرآني: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب:56/33] وبالحديث السابق، وبحديث آخرفي معناه رواه الدارقطني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط مسلم، وبحديث أبي مسعود عند أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه (1) . .وأقل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، وآله: اللهم صل على محمد وآله، والزيادة إلى «مجيد» سنة.
وأما كون الصلاة على الآل سنة، فلخبر أبي زرعة: «الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم أمر، من تركها أعاد» ولم يذكر الصلاة على آله.
ودليل الحنفية والمالكية على السنية مطلقاً (الصلاة على النبي وآله) : أن الأوامر المذكورة في الأحاديث تعلم كيفيته، وهي لا تفيد الوجوب. قال الشوكاني (2) : إنه لم يثبت عندي من الأدلة ما يدل على مطلوب القائلين بالوجوب، وعلى فرض ثبوته، فترك تعليم المسيء للصلاة، لا سيما مع قوله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» قرينة صالحة لحمله على الندب. ويؤيد ذلك قوله لابن مسعود بعد تعليمه التشهد: «إذا قلت هذا، أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد» (3) .
الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في غير الصلاة: أما الصلاة على النبي في غير الصلاة فهي مندوبة، لا واجبة، فقد حكى الطبري الإجماع على أن محمل الآية على الندب. وقال الحنفية (4) : هي فرض مرة واحدة في العمر، والمذهب أنه تستحب على التكرار كلما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، ولو اتحد المجلس في الأصح وعليه الفتوى.
__________
(1) نيل الأوطار:284/2 ومابعدها.
(2) نيل الأوطار:288/2.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني.
(4) الدر المختار:480/1، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي:108/1.(2/93)
السيادة لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قال الحنفية والشافعية (1) : تندب السيادة لمحمد في الصلوات الإبراهيمة؛ لأن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب، فهو أفضل من تركه. وأما خبر «لا تسودوني في الصلاة» فكذب موضوع (2) . وعليه: أكمل الصلاة على النبي وآله: «اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد» (3) .
21 ً - الدعاء بعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم:
يدعو المصلي بما هو مأثور عن الرسول صلّى الله عليه وسلم عند الحنفية، أو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة عند الأئمة الآخرين، والمأثور أفضل. ويندب تعميم الدعاء؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، ومن الدعاء العام: (اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزماً) أي جزماً.
ومن الدعاء المأثور: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) ومنه: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (4) ومنه
__________
(1) الدر المختار:479/1، حاشية الباجوري:162/1، شرح الحضرمية: ص47.
(2) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب للحوت البيروتي: ص253.
(3) خص إبراهيم بالذكر، لأن الرحمة والبركة لم يجتمعا في القرآن لنبي غيره، قال تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود:73/11] وآل سيدنا محمد: هم بنو هاشم وبنو المطلب. وآل سيدنا إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما.
(4) رواه البخاري ومسلم، اللفظ للبخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (نيل الأوطار:287/2) .(2/94)
أيضاً: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال) (1) ومنه: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) ومنه: (اللهم اغفر لي ما قدمت وماأخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) (2) .
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يدعو بكلمات، منها: «اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبادك الصالحون، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد» (3) . وعن معاذ ابن جبل قال: لقيني النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (4) وعن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى فجعل يقول في صلاته أو في سجوده: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً» (5) .
__________
(1) رواه الشيخان واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، وأوجب بعض العلماء هذا الدعاء (سبل السلام:194/1) .
(2) رواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه.
(3) رواه الأثرم.
(4) رواه أحمد ومسلم وأبو داود، قال الحافظ ابن حجر: سنده قوي (نيل الأوطار:291/2) .
(5) مختصر من صحيح مسلم (نيل الأوطار:292/2)(2/95)
قال الحنفية: ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يشبه كلام الناس، مثل (اللهم ارزقني كذا) مثلاً، أو بما لا يستحيل حصوله من الناس مثل: (اللهم زوجني فلانة) مثلاً، وهومكروه تحريماً، ويُبطل الصلاة إن وجد قبل القعود للتشهد الأخير وقدر التشهد، ويفوت الواجب لوجوده بعد القعود قبل السلام بخروجه به من الصلاة دون السلام.
وقد استدلوا بحديث مسلم السابق: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» .
وأجاز غير الحنفية الدعاء بماشاء الإنسان، بدليل ما ثبت في السنة عن بعض الصحابة كابن مسعود وأبي هريرة (1) وغيرهما، وبدليل حديث ابن مسعود السابق في التشهد: «ثم ليختر من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به» ، وفي رواية: «ثم يتخير من المسألة ما شاء» ، وفي رواية «ليتخير بعد من الكلام ما شاء» (2) .
الدعاء بالعربية: يكون الدعاء بالعربية باتفاق الفقهاء، قال الحنفية: الدعاء بغير العربية حرام، لكن تصح أذكار الصلاة عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه بغير العربية، مع الكراهة التحريمية. وقال الشافعية: ويترجم للدعاء والذكر المندوب العاجز عنه بالعربية لعذره، لا القادر عليه في الأصح لعدم عذره (3) .
__________
(1) قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ أخرى، منها ما روى أبو داود عن ابن مسعود «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الدعاء بعد التشهد: اللهم ألف على الخير بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش والفتن، ماظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا» . وأخرج أبو داود أيضاً عن أبي هريرة: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهَّد، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال صلّى الله عليه وسلم: حول ذلك ندندن أنا ومعاذ» وفيه أنه يدعو الإنسان بأي لفظ شاء من مأثور وغيره (سبل السلام:195/1) .
(2) الرواية الأولى والثانية عن أحمد، والثالثة عند البخاري (نصب الراية:428/1) .
(3) مغني المحتاج:177/1، الدر المختار:486/1.(2/96)
22 ً - الالتفات يميناً ثم شمالاً بالتسليمتين:
عرفنا أن السلام واجب عند الحنفية، ركن عند الجمهور، ويسن عند الجميع الالفتات يميناً وشمالاً حتى يرى بياض خده، قائلاً عند الجمهور: «السلام عليكم ورحمة الله» ويزيد عند المالكية «وبركاته» والأول هو الواجب عند المالكية والشافعية، والتسليمتان واجبتان عند الحنفية والحنابلة.
ودليل سنية الالتفات: حديث مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: «كنت أرى النبي صلّى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده» ، وفي رواية الدارقطني: «كان يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خده، وعن يساره حتى يرى بياض خده» .(2/97)
ودليل إضافة (وبركاته) عند المالكية حديث ابن مسعود ووائل بن حجر السابقين. وقد عرفنا أنه ينوي بالسلام من عن يمينه ويساره من ملائكة وإنس وجن. وينوي الإمام السلام على المقتدين، وهم ينوون الرد عليه، إلا أنه عند الحنفية ينوون الرد عليه في التسليمة الأولى إن كانوا في جهة اليمين، وفي التسليمة الثانية إن كانوا في جهة اليسار، وعند الشافعية بالعكس.
قال القفال الشاشي الكبير: والمعنى في السلام أن المصلي كان مشغولاً عن الناس وقد أقبل عليهم» (1) .
استقبال القبلة في السلام: يرى الحنفية أنه يسن التيامن في التسليمة الأولى، ثم يسلم عن يساره في الثانية. ويرى المالكية أن المأموم يندب له التيامن كلياً بتسليمة التحليل من الصلاة. أما الإمام والمنفرد، فيشير عند النطق بالتسليمة للقبلة، ويختمها بالتيامن عند النطق بالكاف والميم من (عليكم) حتى يرى من خلفه صفحة وجهه.
وقال الشافعية والحنابلة: يبتدئ السلام مستقبل القبلة، قائلاً «السلام عليكم» ثم يلتفت ويتم سلامه قائلاً: (ورحمة الله) لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يسلم تلقاء وجهه» معناه ابتداء السلام، ورحمة الله: يكون في حال التفاته.
23 ً - خفض التسليمة الثانية عن الأولى:
يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة؛ لأن الأولى للإعلام، فيجهر بها، وقد حصل العلم بالجهر بها، فلا يشرع الجهر بغيرها.
وقال المالكية: يسن الجهر بتسليمة التحليل فقط دون تسليمة الرد، بل يندب السرفيها، أي يسن للإمام والمأموم والمنفرد الجهر بالتسليمة يخرج بها من الصلاة، ويندب السر في تسليمة المقتدي للرد على إمامه وعلى من يساره من إمام ومأموم. وقال الحنابلة: يجهر الإمام بالتسليمة الأولى فقط، ويسر غيره التسليمتين.
__________
(1) مغني المحتاج:177/1.(2/98)
24 ً - مقارنة المقتدي لسلام الإمام:
يسن ذلك عند أبي حنيفة موافقة للإمام، كما تسن مقارنته في غير التسليم من تكبير الإحرام وتكبيرات الانتقال.
وأما الصاحبان والشافعية: فإنه يسن عندهم في التسليم المعاقبة والبعدية عن الإمام، لئلا يسرع المأموم بأمور الدنيا.
وأضاف الشافعية القول: إنه تنقضي القدوة بسلام الإمام، فللمأموم أن يشتغل بدعاء ونحوه، ثم يسلم. ولو اقتصر الإمام على تسليمة، فللمأموم أن يسلم ثنتين، لإحراز فضيلة الثانية، ولزوال المتابعة بالأولى.
25 ً - انتظار المسبوق فراغ الإمام من التسليمتين، لوجوب المتابعة، حتى يعلم ألا سهو عليه. وهذه سنة عند الحنفية.
26 ً - ذكر الشافعية أنه يسن الخشوع وتدبر القراءة والأذكار، ودخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب من الشواغل الدنيوية؛ لأنه أعون على الخضوع والخشوع.
آداب الصلاة عند الحنفية:
عرفنا أن الأدب: ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم مرة أو مرتين، ولم يواظب عليه كزيادة التسبيحات في الركوع والسجود، والزيادة على القراءة المسنونة. وقد شرع لإكمال السنة. ومن هذه الآداب عند الحنفية ما يأتي (1) :
1ً - إخراج الرجل كفيه من كميه عند تكبيرة الإحرام، لقربه من التواضع إلا لضرورة، كبرد. أما المرأة فتستر كفيها حذراً من كشف ذراعيها.
2ً - نظر المصلي إلى موضع سجوده قائماً، وإلى ظاهر قدميه راكعاً، وإلى أرنبة أنفه ساجداً، وإلى حجره جالساً، وإلى منكبيه مسلِّماً، تحصيلاً للخشوع في الصلاة، ملاحظاً قوله صلّى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» (2) .
هذا تفصيل لبعض الحنفية، والمنقول في ظاهر الرواية: هو النظر إلى محل سجوده، كما قال الشافعية.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص44، الدر المختار:446/1 ومابعدها، تبيين الحقائق:108/1 ومابعدها.
(2) سأل جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الإحسان: فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يرا ك» رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه.(2/99)
3ً - إمساك فمه عند التثاوب، فإن لم يقدر غطاه بظهر يده اليسرى، أو كمه؛ لأن التغطية بلا ضرورة مكروهة.
4ً - دفع السعال ما استطاع؛ لأنه بلا عذر مفسد للصلاة.
5ً - قيام الإمام والمؤتم في حالة الإقامة عند القول: «حي على الفلاح» لأنه أمر به فيجاب. هذا إذا كان الإمام حاضراً بقرب المحراب. فإن لم يكن حاضراً يقوم كل صف حين ينتهي إليه الإمام على الأظهر. وإن دخل الإمام من قدام، قاموا حين يقع بصرهم عليه. وإن أقام الإمام بنفسه في مسجد، فلا يقف المؤتمون حتى يتم إقامته.
ويشرع الإمام في الصلاة مذ قيل: (قد قامت الصلاة) ولو أخر حتى أتمها، لا بأس به إجماعاً. وهو قول أبي يوسف والأئمة الثلاثة غير الحنفية، وهو أعدل المذاهب.
التبليغ خلف الإمام:
اتفق الفقهاء على أنه يسن (وعند المالكية: يندب) للإمام الجهر بقدر الحاجة بالتكبير والتسميع والسلام، لإعلام من خلفه، فإن عجز جاز التبليغ من غيره؛ لأن أبا بكر في مرض النبي صلّى الله عليه وسلم كان يبلِّغ المؤتمين تكبيره. أما المؤتم والمنفرد فيسمع نفسه، وقال المالكية: يندب لكل مصلٍ الجهر بتكبيرة الإحرام، كما بينا.
فإن كان من خلف الإمام يسمعه، كره التبليغ من غيره لعدم الحاجة إليه.
ويجب أن يقصد المبلِّغ سواء أكان إماماً أم غيره الإحرام للصلاة بتكبيرة الإحرام، فلو قصد الإعلام فقط، لم تنعقد صلاته، وكذا لاتنعقد عند الشافعية إذا أطلق، فلم يقصد شيئاً، فإن قصد مع الإحرام الإعلام، صحت الصلاة عند الشافعية والحنفية. أما غير تكبيرة الإحرام من تكبيرة الانتقال والتسميع والتحميد: فإن قصد بها التبليغ فقط، فلا تبطل صلاته عند الجمهور، وإنما يفوته الثواب.(2/100)
لكن قال الحنفية (1) : إن قصد بذلك مجرد إعجاب الناس بتبليغه، فسدت صلاته على الراجح، كما أن من رفع صوته زيادة على الحاجة، فقد أساء، والإساءة دون الكراهة.
وقال الشافعية: إذا قصد بذلك مجرد التبليغ، أو لم يقصد شيئاً، بطلت صلاته إن كان غير عامي، أما العامي فلا تبطل صلاته، ولو قصد الإعلام فقط.
ودليل مشروعية التبليغ: الحديث المتفق عليه عن جابر، قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه، فإذا كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا» .
سنن الصلاة إجمالاً في كل مذهب:
يحسن تعداد سنن الصلاة في المذاهب كلاً على حدة، لما فيها من اختلافات بسبب عد بعض الفرائض في مذهب، سنة في مذهب آخر.
مذهب الحنفية:
للصلاة آداب ذكرناها مستقلة، وسنن إحدى وخمسون (2) وهي ما يأتي (3) :
1ً - رفع اليدين للتحريمة حذاء الأذنين للرجل، وحذاء المنكبين للمرأة الحرة.
2ً - ترك الأصابع على حالها بحيث لا يضمها ولا يفرقها.
3ً - مقارنة إحرام المقتدي لإحرام إمامه.
4ً - وضع الرجل يده اليمنى على اليسرى تحت سرته، ووضع المرأة يديها على صدرها.
5ً، 6ً، 7ً - الثناء، والتعوذ للقراءة، والتسمية سراً أول كل ركعة قبل الفاتحة.
8ً، 9ً، 10ً - التأمين، والتحميد، والإسرار بهما وبالثناء والتعوذ والتسمية.
11ً - الاعتدال عند ابتداء التحريمة وانتهائها من غير طأطأة الرأس.
12ً - جهر الإمام بالتكبير والتسميع والسلام.
13ً - تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع.
__________
(1) رد المحتار:443/1 ومابعدها،551، مغني المحتاج:165/1، المغني:462/1، الشرح الصغير:448/1.
(2) يلاحظ أنه قد ينقص الترقيم عن هذا العدد؛ لأنه قد تضم سنتان فأكثر تحت رقم واحد.
(3) مراقي الفلاح: ص41-44.(2/101)
14ً - أن تكون السورة بعد الفاتحة من طوال المفصل في الفجر والظهر، ومن أوساطه في العصر والعشاء، ومن قصاره في المغرب إن كان مقيماً، ويقرأ أي سورة شاءإن كان مسافراً.
15ً - إطالة القراءة في الركعة الأولى في كل الصلوات، على المفتى به عند الحنفية، وهو قول محمد.
16ً، 17ً - تكبير الركوع والسجود عند كل خفض ورفع، إلا في الرفع من الركوع فيسن التسميع، والتسبيح فيهما ثلاثاً: سبحان ربي العظيم في الركوع، سبحان ربي الأعلى في السجود.
18ً - أخذ ركبتيه بيده حال الركوع.
19ً - تفريج الرجل أصابع يديه في الركوع، والمرأة لا تفرجها.
20ً،21ً - بسط ظهره في الركوع، وتسوية رأسه بعجزه.
22ً،23ً - الاعتدال مطمئناً أو الرفع من الركوع والسجود.
24ً - وضع الركبتين ثم اليدين ثم الوجه عند النزول للسجود، وعكسه عند الرفع منه.
25ً - كون السجود بين كفيه، ووضع يديه حذو منكبيه.
26ً - مجافاة أو مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه، ومرفقيه عن جنبيه، وذراعيه عن الأرض في حال السجود.
27ً - إلصاق المرأة بطنها بفخذيها في السجود.
28ً - الجلوس بين السجدتين، والأصح أنه واجب عند الحنفية.
29ً - وضع اليدين على الفخذين في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد.
30ً - افتراش الرجل رجله اليسرى، ونصب اليمنى، مع توجيه أصابع القدم للقبلة في جلوس السجدتين والتشهد.
31ً - تورك المرأة: أن تجلس على أليتيها، وتضع إحدى فخذيها على الأخرى، وتخرج رجلها اليسرى من تحت وركها اليمنى، لأنه أستر لها.
32ً - الإشارة بالسبابة عند الشهادة فقط، برفعها عند (لا إله) ووضعها عند: (إلا الله) .(2/102)
33ً - قراءة الفاتحة فيما بعد الركعتين الأولين.
34ً - الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في الجلوس الأخير، والمختار في صفتها (1) : «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» وهي الموافقة لما في الصحيحين وغيرهما.
35ً - الدعاء بعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بما يشبه ألفاظ القرآن والسنة.
36ً - الالتفات يميناً ثم شمالاً بالتسليمتين.
37ً - أن ينوي الإمام بالتسليمتين من خلفه من المصلين والملائكة الحفظة (2) وصالحي الجن.
38ً - أن ينوي المأموم الرد على إمامه في السلام في الجهة التي هو فيها، فإن كان في جهة اليمين نوى فيها، وإن كان في جهة اليسار نوى فيها، وإن حاذاه نواه في التسليمتين، مع القوم والملائكة وصالح الجن.
39ً - أن ينوي المنفرد بسلامه الملائكة فقط؛ إذ ليس معه غيرهم.
40ً - أن يخفض صوته في سلامه الثاني عن الأول.
41ً - مقارنته لسلام الإمام.
42ً - أن يبدأ باليمين في سلامه.
43ً - أن ينتظر المسبوق فراغ إمامه من سلامه الثاني، حتى يعلم أنه ليس عليه سجود سهو.
__________
(1) رد المحتار:478/1.
(2) الحفظة: أي الكرام الكاتبون. والحفظة تتغير، لحديث الصحيحين: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر..» وكاتب السيئات يفارق الإنسان عند جماع وخلاء وصلاة (الدر المختار ورد المحتار:493/1) .(2/103)
مذهب المالكية:
للصلاة سنن ومندوبات، وسننها أربع عشرة وهي ما يأتي (1) :
1ً - قراءة آية بعد الفاتحة في الركعتين الأولى والثانية من الفرض الوقتي المتسع وقته. ويقوم مقام الآية بعض آية طويلة له بال نحو: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة:255/2] ، وإتمام السورة مندوب.
2ً - القيام لقراءة ما زاد على الفاتحة في الفرض، فلو استند لشيء حال قراءتها بحيث لو أزيل لسقط، لم تبطل صلاته، أما إن جلس فقرأها جالساً، فتبطل لإخلاله بهيئة الصلاة؛ لأن القيام في الفريضة فرض. أما القيام في النفل فهو سنة.
3ً - الجهر في الصبح والجمعة وأولتي المغرب والعشاء.
4ً - الإسرار في الظهر والعصر وأخيرة المغرب وأخيرتي العشاء. ويتأكد الجهر والإسرار بالفاتحة دون السورة بعدها.
وهذه السنن الأربع مخصوصة بالفرض، فلا تسن في النفل. وأقل جهرالرجل، والمرأة حيث لا أجانب: إسماع من يليه فقط، لو فرض أن بجانبه أحداً متوسط السمع. وأقل السر للرجل والمرأة: حركة اللسان.
5ً - كل تكبيرة غير تكبيرة الإحرام.
6ً - كل لفظ «سمع الله لمن حمده» لإمام ومنفرد حال رفعه من الركوع، لا مأموم، فلا تسن في حقه، بل يكره له قولها.
7ً - كل تشهد، سواء أكان الأول أم غيره، ولو في سجود سهو.
8ً - كل جلوس تشهد.
9ً - الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، بأي لفظ كان، وأفضلها: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد) .
10ً - السجود على صَدْر القدمين، وعلى الركبتين والكفَّيْن. والمشهور عند المالكية أن السجود الواجب إنما يكون على الجبهة.
11ً - رد المقتدي السلام على إمامه، وعلى من يساره إن وجد، إن شاركه في ركعة فأكثر، لا أقل. ويجزئ في سلام الرد: «سلام عليكم» أو «وعليكم السلام» .
12ً - جهر بتسليمة التحليل (2) فقط، دون تسليمة الرد.
13ً - إنصات المقتدي للإمام في حالة الجهر، حتى ولو سكت الإمام أو لم يسمعه المأموم.
14ً - الزائد على الطمأنينة الواجبة بقدر ما يجب.
__________
(1) الشرح الصغير:317/1-322.
(2) هي التسليمة التي يحل بها كل ما كان ممنوعاً في الصلاة.(2/104)
وبه يتبين أن المالكية يتفقون مع الحنفية في تحديد السنن فيما عدا القيام للقراءة
والتشهد والجلوس له، والسجود على الأعضاء الستة، وإنصات المقتدي لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية.
ومندوبات الصلاة عند المالكية ثمانية وأربعون (1) ، أهمها ما يأتي:
1ً - نية الأداء في الحاضرة، والقضاء في الفائتة.
2ً - نية عدد الركعات.
3ً - الخشوع، وهو استحضار عظمة الله تعالى وهيبته وأنه لا يعبد ولا يقصد سواه. واستحضار امتثال أمره بتلك الصلاة وهذا هو المندوب، وأما أصل الخشوع فواجب.
4ً - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام فقط، لا عند غيرها من ركوع ورفع منه.
5ً - إرسال اليدين بوقار، وجاز قبضهما على الصدر في النفل، وكره القبض في الفرض، لما فيه من الاعتماد، أي كأنه مستند إلى شيء.
6ً - إكمال سورة بعد الفاتحة، فلا يقتصر على بعضها، ولا على آية ولو طويلة.
7ً - قراءة سورة في الركعة الثانية غير التي قرأها في الركعة الأولى، في صلاة الفرض، لا في النفل. ويكره تكريرالسورة في الركعتين في الفرض، كما يكره فيه قراءة سورتين في ركعة. ويجوز بالنفل قراءة أكثر من سورة بعد الفاتحة. والمعتمد أنه يكره أيضاً تكرير السورة في الركعة في النفل.
8ً - تطويل قراءة الصبح والظهر على أن تكون قراءة الظهر دون الصبح. وأول المفصل على المعتمد: الحجرات. والتطويل لمنفرد، وإمام جماعة محصورين طلبوا التطويل، وإلا فالتقصير في حق الإمام أفضل؛ لأن الناس قد يكون فيهم الضعيف وذو الحاجة.
9ً - تقصير القراءة في العصر والمغرب، فيقرأ فيهما من قصار المفصَّل بدءاً من سورة: والضحى.
10ً - توسط القراءة في العشاء، وأوسط المفصل: عبس، وآخره سورة: والليل.
__________
(1) الشرح الصغير:323/1-337.(2/105)
11ً - تقصير الركعة الثانية عن الركعة الأولى في الزمن. وتجوز المساواة مع خلاف الأولى. ويكره تطويل الثانية عن الأولى.
12ً - إسماع المصلي نفسه في السر؛ لأنه أكمل، وللخروج من خلاف من أوجبه.
13ً - قراءة المأموم خلف الإمام في الصلاة السرية، وأخيرة المغرب، وأخيرتي العشاء.
14ً - تأمين المنفرد والمأموم مطلقاً أي في السرية والجهرية بعد: «ولا الضالين» إن سمع المأموم إمامه، وتأمين الإمام في الصلاة السرية فقط.
15ً - الإسرار بالتأمين لكل مصل.
16ً - تسوية ظهر المصلي في الركوع.
17ً - وضع اليدين على الركبتين في الركوع، وتمكين اليدين من الركبتين فيه أيضاً.
18ً - نصب الركبتين في الركوع، فلا يحنيهما قليلاً.
19ً - التسبيح في الركوع بأن يقول: (سبحان ربي العظيم وبحمده) وفي السجود بأن يقول: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) ولا يدعو ولا يقرأ في الركوع، ويدعو مع التسبيح في السجود.
20ً - مباعدة (مجافاة) الرجل مِرْفقيه عن جنبيه، بأن يُجنِّح بهما تجنيحاً.
21ً - التحميد للمنفرد والمقتدي بأن يقول بعد (سمع الله لمن حمده) : (اللهم ربنا ولك الحمد) وجاز حذف الواو، وإثباتها أولى. فالإمام لا يقول حال القيام: (ربنا ولك الحمد) كما لا يقول المأموم: (سمع الله لمن حمده) وإنما يقول بعد الاعتدال قائماً: (ربنا) الخ، ويجمع المنفرد بينهما.
22ً - التكبير حال الخفض للركوع أو السجود، وحال الرفع من السجود في السجدة الأولى، وحال القيام من التشهد الأول.
23ً - تمكين الجبهة والأنف من الأرض في السجود. ويعتبر كالأرض ما اتصل بها من سطح كسرير أو سقف ونحوهما.
24ً - تقديم اليدين على الركبتين حال الانحطاط للسجود، وبالعكس عند القيام للقراءة.
25ً - وضع اليدين حذْو (أي قبالة) الأذنين أو قربَهما في سجوده، بحيث تكون أطراف أصابعهما حذو الأذنين.
26ً - ضم أصابع اليدين ورؤوسها لجهة القبلة.(2/106)
27ً - مجافاة (مباعدة) الرجل في السجود بطنه عن فخذيه، فلا يجعل بطنه عليهما ومجافاة مِرْفقيه عن رُكْبتيه، وضبْعيه (ما فوق المرفق إلى الإبط) عن جنبيه مباعدة وسطاً في الجميع.
وأما المرأة: فتكون منضمة في جميع أحوالها، ستراً لها.
28ً - رفع العجز عن الرأس في السجود، فإن تساويا أو كان الرأس أعلى، لم تبطل الصلاة عند المالكية، وتبطل في الأصح عند الشافعية، والحنفية.
29ً - الدعاء في السجود بما يتعلق بأمور الدين أو الدنيا أو الآخرة لنفسه أو لغيره خصوصاً أو عموماً، بلا حدّ، بل بحسب ما يسر الله تعالى، كالتسبيح فيه، يندب بلا حد، ويقدم على الدعاء.
30ً - الإفضاء (الافتراش) في الجلوس بين السجدتين أو في التشهد الأول أو الأخير: وهو جَعْل الرجل اليسرى مع الإلية على الأرض، وقدم اليسرى جهة الرِجْل اليمنى، ونَصْبُ قدم اليمنى على قدم اليسرى خلفها، وجعل باطن إبهام اليمنى على الأرض.
31ً - وضع الكفين في الجلوس على رأس الفخذين بحيث تكون رؤوس أصابعهما على الركبتين.
32ً - تفريج الرجل الفخذين في الجلوس، فلا يلصقهما، بخلاف المرأة.
33ً - عقد ما عدا السبابة والإبهام وهو الخنصر والبنصر والوسطى من اليمنى في جلوس التشهد مطلقاً (الأخير أو غيره) تحت الإبهام، مع مدّ السبابة والإبهام، وتحريك السبابة دائماً يميناً وشمالاً، من أول التشهد إلى آخره، تحريكاً وسطاً.
34ً - القنوت (1) في صلاة الصبح بأي لفظ نحو: (اللهم اغفر لنا وارحمنا)
__________
(1) أي الدعاء والتضرع.(2/107)
ومحله قبل الركوع في الركعة الثانية، وندب إسراره ككل دعاء في الصلاة. وندب لفظه الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره الإمام مالك رضي الله عنه، وهو: «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونَخْنَع لك، ونخلع (1) ونترك من يَكْفُرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد (2) ، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجدَّ (3) بالكافرين ملحق» (4) .
35ً - الدعاء قبل السلام وبعد الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم: بما أحب.
36ً - إسرار الدعاء كالتشهد؛ لأن كل دعاء يندب إسراره.
37ً - تعميم الدعاء؛ لأن التعميم أقرب للإجابة. ومن الدعاء العام: (اللهم اغفر لنا (5) ولوالدينا ولأئمتنا ولمن سبقنا بالإيمان مغفرة عزماً) أي جزماً. (اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، ربناآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) أي أعطنا هداية وعافية وصلاح حال في الدنيا، ولحوقاً بالأخيار وإدخالاً تحت شفاعة النبي المختار، في الآخرة، واجعل بيننا وبين النار وقاية، حتى لا ندخلها.
وأحسن الدعاء: ما ورد في الكتاب أو السنة، ثم ما فتح به على العبد.
38ً - تيامن المأموم بتسليمة التحليل كلها فقط. وأما الإمام والمنفرد فيشير عند النطق بها للقبلة، ويختمها بالتيامن عند النطق بالكاف والميم من (عليكم) حتى يرى من خلفه صفحة وجهة.
__________
(1) نخنع: أي نخضع ونذل لك. ونخلع: نترك كل شاغل يشغل عنك لقوله تعالى: {ففروا إلى الله} [الذاريات:50/51] .
(2) نحفد: نجدّ لحضرتك.
(3) الجدُّ: أي الحق.
(4) هذه رواية الإمام مالك. وملحق: اسم فاعل أو اسم مفعول أي لاحق بهم أو ملحق.
(5) أي معاشر الحاضرين في الصلاة.(2/108)
39ً - سترة لإمام ومنفرد على الراجح. وأما المأموم: فالإمام سترته. والسترة: ما يجعله المصلي أمامه لمنع المارين بين يديه. وسنفصل الكلام فيها.
مذهب الشافعية:
السنن عندهم كما ذكرنا نوعان: أبعاض ثمانية سردناها، بل هي عشرون نذكرها في بحث سجود السهو. وهيئات منها أربعون (1) أهمها ما يأتي، علماً بأنهم كالحنابلة لا يفرقون بين السنة والمندوب والمستحب.
1 - رفع يديه حذو (مقابل) منكبيه في تحرُّم وركوع ورفع منه، كما روى الشيخان، ومعناه: أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه. والأصح رفع يديه مع ابتداء التكبير والتسميع.
2 - إمالة أطراف الأصابع نحو القبلة، وتفريجها.
3 - وضع يمين على شمال، وجعلهما تحت صدره وفوق سرته، اتباعاً للسنة كما روى ابن خزيمة.
4، 5 - دعاء افتتاح وتعوذ بفرض أو نفل، والافتتاح نحو «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين» (2) .
6، 7 - جهر وإسرار بقراءة الفاتحة والسورة في محلهما المعروف، اتباعاً كما روى الشيخان، وفي الصبح والجمعة والعيدين وخسوف القمر والاستسقاء وأوَّلَتي العشاءين، والتراويح، ووتر رمضان، وركعتي الطواف ليلاً، أو وقت الصبح. والإسرار في غير ذلك إلا نوافل الليل المطلقة فيتوسط فيها بين الجهر والإسرار، إن لم يشوش على نائم أو مصل أو نحوه.
والعبرة في قضاء الفريضة بوقت القضاء على المعتمد. والتوسط في نافلة الليل، أي بين الجهر والإسرار، لقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء:110/17] ، وجهر المرأة دون جهر الرجل إذا لم تكن بحضرة أجانب.
__________
(1) تحفة الطلاب للأنصاري: ص44-49، حاشية الشرقاوي على التحفة:199/1-215، مغني المحتاج:152/1-184.
(2) رواه مسلم إلا لفظ (مسلماً) فابن حبان.(2/109)
8 - تأمين عقب قراءة الفاتحة، وجهر به في جهرية. أما السرية فيسر كل مصل به.
ويلاحظ أن هناك أحوالاً خمسة يجهر فيها المأموم خلف الإمام: وهو التأمين مع إمامه، ودعاؤه في قنوت الصبح، وفي قنوت الوتر في النصف الأخير من رمضان، وفي قنوت النازلة في الصلوات الخمس، وإذا فتح على إمامه.
9 - قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين (1) للإمام وغيره، إلا المأموم في الجهرية إذا جهر إمامه، فتكره السورة له، وإلا فاقد الطهورين ذا الحدث الأكبر، ومصلي الجنازة، وإلا المسبوق، فله القراءة في الركعتين الثالثة والرابعة من صلاة نفسه؛ لأن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته.
وأقل القراءة: آية طويلة أو ثلاث آيات كالكوثر.
ويسن تطويل قراءة الركعة الأولى عن الثانية، كما يسن كون السورتين متواليتين، وعلى ترتيب المصحف، وعكسه خلاف الأفضل.
ويحصل أصل السنة بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أحب، وإن كانت أقصر، إلا في التراويح فقراءة بعض السورة الطويلة أفضل؛ لأن السنة فيها القيام بجميع القرآن.
والمتنفل بركعتين تسن له السورة أيضاً، فإن تنفل بأكثر من ركعتين، فالأصح الذي أفتى به الأكثرون عدم استحباب السورة في الركعتين الثالثة والرابعة كالفريضة، وهذا خلافاً للحنفية.
ويستحب في ركعتي سنة الصبح التخفيف، فيقرأ في الأولى: {قولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا…} (الآية:136 من البقرة) ، وفي الثانية: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء…} (الآية: 64 من آل عمران) كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه الشيخان في الظهر والعصر، وقيس بهما غيرهما.(2/110)
وفي رواية لمسلم: «يقرأ فيهما: قل: ياأيه االكافرون، وقل: هو الله أحد» (1) .
ويسن لصبح الجمعة في الأولى: {الم} [السجدة:1/32] ، وفي الثانية: {هل أتى} [الإنسان:1/76] ، اتباعاً للسنة (2) . فإن ترك {الم} في الأولى، سن أن يأتي بها في الثانية. وأن اقتصر على بعضهما، أو قرأ غيرهما، خالف السنة. وإن ضاق الوقت عنهما، أتى بالممكن، ولوآية السجدة، وبعض {هل أتى} . وقال بعض الشافعية: لا تستحب المداومة عليهما ليعرف أن ذلك غير واجب.
10 - التكبير في كل خفض ورفع من غير ركوع (3) ، إلا تكبيرة الإحرام فإنها فرض.
11 - وضع راحتيه على ركبتيه في الركوع، وتفرقة أصابعه للقبلة حالة الوضع (4)
12- التسبيح في الركوع ثلاثاً: (سبحان ربي العظيم) (5) مع زيادة «وبحمده» وهو أدنى الكمال.
13 - التسميع أي قول: (سمع الله لمن حمده) (6) لكل مصل إماماً أو غيره عند رفعه من الركوع، ويسن الجهر به للإمام والمبلِّغ إن احتيج إليه؛ لأنه من أذكار الانتقال، ولا يجهر بقوله: (ربنا لك الحمد) كالتسبيح وغيره من الأذكار. لكن قد عمت البلوى بالجهر به، وترك الجهر بالتسميع؛ لأن أكثر الأئمة والمؤذنين صاروا جهلة بسنة سيد المرسلين.
وإذا انتصب المصلي معتدلاً قائماً أرسل يديه، وقال: «ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد» (7) ، ويزيد المنفرد وإمام جماعة التطويل: «أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد» (8) .
__________
(1) المجموع:349/1-352.
(2) رواه الشيخان.
(3) ثبت ذلك في الصحيحين من فعله صلّى الله عليه وسلم.
(4) الأول رواه الشيخان، والثاني رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي.
(5) رواه أبو داود.
(6) أي تقبل منه حمده، وجازاه عليه، وقيل: غفر له، رواه الشيخان مع خبر «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
(7) أخرجه البخاري ومسلم من رواية رفاعة بن رافع.
(8) رواه مسلم.(2/111)
14 - أن يضع في سجوده ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه (1) .
15 - التسبيح في السجود ثلاثاً: «سبحان ربي الأعلى» (2) مع إضافة «وبحمده» وهو أدنى الكمال.
16 - وضع يديه حِذْو منكبيه في السجود، وضم أصابعه منشورة نحو القبلة (3) .
17 - مجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه في ركوعه وسجوده. أما المرأة والخنثى فلا يجافيان، بل يضمان بعضهما إلى بعض؛ لأنه أستر لها، وأحوط للخنثى. ويسن أيضاً تفرقة ركبتيه وكذا قدميه بشبر (4) .
18 - توجيه المصلي رجلاً كان أو غيره أصابع رجليه نحو القبلة (5) .
19 - الدعاء في الجلوس بين السجدتين: بأن يقول: (ربي اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني واهدني وعافني) (6)
20 - الافتراش في جلوسه بين سجدتيه، وفي جلوس تشهد أول: بأن يجلس على يسراه، وينْصِبَ يمناه (7) .والحكمة: أن المصلي مستوفز للحركة غالباً، والحركة عن الافتراش أهون.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.
(2) رواه بلا تثليث مسلم، ورواه أبو داود بالتثليث.
(3) الأول رواه أبو داود وصححه النووي. والضم والنشر رواه البخاري.
(4) ثبت في الأحاديث الصحيحة.
(5) رواه البخاري.
(6) روى بعضه أبو داود، وباقيه ابن ماجه.
(7) رواه الترمذي وصححه في الجلوس بين السجدتين، ورواه البخاري في جلوس التشهد.(2/112)
14 - أن يضع في سجوده ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه (1) .
15 - التسبيح في السجود ثلاثاً: «سبحان ربي الأعلى» (2) مع إضافة «وبحمده» وهو أدنى الكمال.
16 - وضع يديه حِذْو منكبيه في السجود، وضم أصابعه منشورة نحو القبلة (3) .
17 - مجافاة الرجل عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه في ركوعه وسجوده. أما المرأة والخنثى فلا يجافيان، بل يضمان بعضهما إلى بعض؛ لأنه أستر لها، وأحوط للخنثى. ويسن أيضاً تفرقة ركبتيه وكذا قدميه بشبر (4) .
18 - توجيه المصلي رجلاً كان أو غيره أصابع رجليه نحو القبلة (5) .
19 - الدعاء في الجلوس بين السجدتين: بأن يقول: (ربي اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، وارزقني واهدني وعافني) (6)
20 - الافتراش في جلوسه بين سجدتيه، وفي جلوس تشهد أول: بأن يجلس على يسراه، وينْصِبَ يمناه (7) .والحكمة: أن المصلي مستوفز للحركة غالباً، والحركة عن الافتراش أهون.
21- جلوس استراحة: بعد سجدة ثانية يقوم عنها مفترشاً (8) ، وذلك بقدر الطمأنينة، ولا يضر زيادتها على قدر الجلوس بين السجدتين على المعتمد. ويأتي بها المأموم وإن تركها الإمام.
22- الاعتماد على الأرض بيديه عند قيامه من جلوسه (9) ، أو سجوده؛ لأنه أبلغ في الخشوع والتواضع، وأعون للمصلي.
23- رفع يديه عند قيامه من تشهد أول (10) .
24- تورك في التشهد الأخير: بأن يلصق وركه الأيسر بالأرض، وينصب رجله اليمنى (11) ، إلا أن يريد سجود سهو، أو يطلق بأن لم يرده ولا عدمه، فيفترش، لاحتياجه إلى السجود بعد.
25- وضع يديه على فخذيه، وقبض أصابع يده اليمنى، إلا المسبّحة، فيشير بها منحنية عند ((إلا الله)) بلا تحريك، وينشر أصابع اليسرى مضمومة (12) .
26- ألا يجاوز بصرُه إشارته بالمسبحة (13) .
27- التعوّذ من العذاب بعد التشهد الأخير (14) ، ويسن الدعاء بغير ذلك كاللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً كبيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.
(2) رواه بلا تثليث مسلم، ورواه أبو داود بالتثليث.
(3) الأول رواه أبو داود وصححه النووي. والضم والنشر رواه البخاري.
(4) ثبت في الأحاديث الصحيحة.
(5) رواه البخاري.
(6) روى بعضه أبو داود، وباقيه ابن ماجه.
(7) رواه الترمذي وصححه في الجلوس بين السجدتين، ورواه البخاري في جلوس التشهد.
(8) رواه البخاري في الاستراحة. وأما الافتراش فرواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(9) رواه البخاري.
(10) رواه الشيخان.
(11) رواه البخاري.
(12) رواه مسلم إلا ((عدم التحريك)) فأبو داود.
(13) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(14) لخبر مسلم السابق: ((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) .(2/113)
29،28 - التسليمة الثانية (1) ، ونية الخروج من الصلاة من أول التسليمة الأولى، فلو نوى الخروج قبل ذلك، بطلت صلاته، وإن نواه في أثنائها أو بعدها لم تحصل السنة.
30 - تحويل وجهه يميناً وشمالاً في تسليمتيه، حتى يرى في الأولى خده الأيمن، وفي الثانية خده الأيسر (2) . وينوي السلام على من عن يمينيه وشماله ومحاذيه من ملائكة ومؤمني إنس وجن. ويسن أن يدرج السلام ولا يمده، وأن يسلم المأموم بعد سلام الإمام، ولو قارنه جاز كبقية الأركان إلا تكبيرة الإحرام.
31 - الاستياك ولو بِخرقة لا أصبعه عند قيامه إلى الصلاة (3) ولو لفاقد الطهورين إلا بعد الزوال للصائم، فيكره له. وقد سبق تفصيل الكلام في السواك، وهو من السنن الخارجة عن الصلاة.
32 - الخشوع في الصلاة كلها: وهو حضور القلب وسكون الجوارح: بأن يستحصر أنه بين يدي الله تعالى، وأن الله مطلع عليه، لقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1/23-2] ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بوجهه وقلبه إلا وجبت له الجنة» (4) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (5) .
33 - تدبر القراءة: أي تأملها؛ لأن بذلك يحصل مقصود الخشوع والأدب، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها} [سورة سيدنا محمد:24/47] ويسن ترتيل القراءة: وهو التأني فيها، ويكره تركه والإسراع في القراءة.
ويسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ منه (6) ، أو بآية تسبيح أن يسبح، أو بآية مَثَل أن يتفكر. وإذا قرأ: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين:8/95] ، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ وإذا قرأ: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [المرسلات:50/77] قال: آمنت بالله؛ وإذا قرأ: {فمن يأتيكم بماء معين؟} [الملك:30/67] ، قال: الله رب العالمين.
34 - تدبر الذِّكر: قياساً على القراءة.
35 - دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب من الشواغل الدنيوية: للذم على ترك الأول، قال تعالى في صفة المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة، قاموا كسالى} [النساء:142/4] ، والكسل: الفتور عن الشيء والتواني فيه، وضده النشاط، ولأن فراغ القلب أعون على الخضوع والخشوع.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه ابن حبان في صحيحه.
(3) لخبر الصحيحين السابق: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» أي أمر إيجاب.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه الترمذي: وهو ضعيف.
(6) روى أحمد عن عائشة قالت: «كنت أقوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه» (نيل الأوطار:323/2) .(2/114)
ويكره أن يفكر في صلاته في أمر دنيوي أو مسألة فقهية. أما التفكر في أمور الآخرة، فلا بأس به، وأما فيما يقرؤه فمستحب.
36 - تنبيه الإمام على الخطأ في صلاته ونحو ذلك (1) :
يسن للرجل الذي نابه شيء في صلاته، كتنبيه إمامه لنحو سهو، وإذنه لداخل استأذن في الدخول عليه، وإنذاره أعمى مخافة أن يقع في محذور أو نحو ذلك كغافل وغير مميز، ومن قصد ظالم أو نحوسبع: أن يسبح فيقول: «سبحان الله» بشرط ألا يقصد التنبيه وحده، وإلا بطلت الصلاة.
وأما المرأة: فتصفق بضرب بطن اليمين على اليسار، أو عكسه.
والدليل هو خبر الصحيحين: «من نابه شيء في صلاته، فليسبح، وإنما التصفيق للنساء» (2) ومثلهن الخناثى..
وهذه سنة متفق عليها، إلا أن المالكية قالوا: الشأن لمن نابه شيء وهو يصلي التسبيح (سبحان الله) ويكره التصفيق للمرأة.
الأمور التي تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة: ذكر الشافعية أربعة أمور تخالف فيها المرأة الرجل في الصلاة يمكن ملاحظتها مما سبق، وهي ما يأتي (3) :
1ً - الرجل يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه في الركوع والسجرد. والمرأة تضم بعضها إلى بعض، فتلصق بطنها بفخذيها وتضم ركبتيها وقدميها في ركوعها وسجودها؛ لأنه أستر لها.
__________
(1) مغني المحتاج:197/1 ومابعدها، المغني:17/2ومابعدها، كشاف القناع:444/1، فتح القدير:285/1، الشرح الصغير:342/1.
(2) رواه أيضاً النسائي وأبو داود (نيل الأوطار:320/2) .
(3) حاشية الباجوري:178/1-181.(2/115)
2ً - يجهر الرجل في موضع الجهر، ويسر في موضع الإسرار، كما بينا سابقاً، وتخفض المرأة صوتها إن صلت بحضرة الرجال الأجانب، بحيث لا يسمعها من صلت بحضرته من الأجانب، دفعاً للفتنة، وإن كان الأصح أن صوتها ليس بعورة، فلا يحرم سماع صوت المرأة ولو مغنية، إلا عند خوف الفتنة، بأن كان لو اختلى الرجل بها، لوقع بينهما مُحرَّم.
3ً - إذا ناب الرجل شيء في الصلاة سبَّح، فيقول: «سبحان الله» بقصد الذكر فقط أو مع الإعلام، أو أطلق، ولا تبطل صلاته، لكن إن قصد الإعلام فقط بطلت صلاته.
أما المرأة إذا نابها شيء في الصلاة، فتصفق، وإن كانت خالية عن الرجال الأجانب على المعتمد، بضرب بطن اليمين على ظهر الشمال، فلو ضربت بطناً ببطن بقصد اللعب، ولو قليلاً، مع علم التحريم، بطلت صلاتها، فلو لم تقصد اللعب لم تبطل صلاتها. والخنثى كالمرأة في التصفيق والضم وغيرهما.
ولا يضر التصفيق وإن كثر وتوالى حيث كان بقدر الحاجة. وكذا لو صفق الرجل فإنه لا يضر وإن كثر وتوالى، ولا تبطل الصلاة؛ لأن الفعل خفيف، فأشبه تحريك الأصابع في سبحة، أو لنحو جرب.
ولا تبطل الصلاة بالتصفيق ولو بقصد الإعلام، ولو من الرجل على المعتمد، بخلاف التسبيح بقصد الإعلام فإنه يبطل الصلاة؛ لأن التسبيح لفظ يصلح لقصد الذكر، والتصفيق فعل لا يصلح له.
أما التصفيق خارج الصلاة فيكره بلا قصد اللعب على المعتمد عند الرملي، ولو بقصد اللعب على المعتمد عند ابن حجر، وذلك منعاً من التشبه بالعرب في الجاهلية: {وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكاءً وتصدية، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} (1) .
4ً - عورة الرجل: ما بين سرته وركبته في الصلاة والطواف وأمام الرجال الأجانب والنساء المحارم. أما عند النساء الأجانب فعورته جميع بدنه، وعورته في الخلوة: السوأتان فقط. والأمة كالرجل.
__________
(1) الآية35 من الأنفال. والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.(2/116)
وليست السرة والركبة من العورة، لكن يجب ستر جزء منهما ليتحقق ستر العورة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
وجميع بدن المرأة الحرة في الصلاة عورة إلا وجهها وكفيها، أما خارج الصلاة فعورتها جميع البدن.
مذهب الحنابلة:
سنن الصلاة عندهم ثلاث وسبعون، وهي قسمان: قولية وفعلية (1) . السنن القولية سبع عشرة، وقد ذكرناها في بدء البحث، والسنن الفعلية ست وخمسون تقريباً أهمها ما يأتي، علماً بأنهم كالشافعية لا يفرقون بين السنة والمندوب والمستحب.
1، 2، 3 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام: بأن تكون مبسوطة (ممدودة الأصابع) مضمومة الأصابع، مستقبل القبلة ببطونها إلى حذو منكبيه عند الإحرام.
4 - جهر الإمام بتكبيرة الإحرام، بحيث يسمع المأمومون ليكبروا، فإنهم لا يجوزون التكبير إلا بعد تكبيره.
5، 6 - رفع اليدين على الهيئة السابقة عند الركوع وعند الرفع من الركوع، وحطهما عقب ذلك.
7، 8 - وضع اليمين على كوع (2) الشمال، حال القيام والقراءة، وجعلهما تحت سرته بعد إحرامه.
9 - نظر المصلي إلى موضع سجوده حال قيامه.
10، 11 - ترتيل القراءة والتخفيف فيها للإمام، للحديث السابق: «من أم بالناس فليخفف» .
12، 13 - إطالة الركعة الأولى، وتقصير الركعة الثانية في غير صلاة الخوف.
14 - تفريج المصلي بين قدميه حال قيامه يسيراً.
15، 16 - قبض ركبتيه بيديه حال الركوع، مفرجتي الأصابع.
17، 18 - مد ظهره مستوياً، وجعل رأسه حيال ظهره، فلا يخفضه ولا يرفعه.
19 - مجافاة عضديه عن جنبيه في الركوع.
20، 21 - البدء في سجوده بوضع ركبتيه قبل يديه، ورفع يديه أولاً في القيام من السجود.
22، 23 - تمكين كل أعضاء السجود من الأرض، أي تمكين كل جبهته،
__________
(1) كشاف القناع:450/1،457-460، المغني:462/1-559.
(2) الكوع: هو العظم الذي يلي إبهام اليد، والبوع: العظم الذي يلي إبهام الرجل، والكرسوع: العظم الذي يلي خنصر اليد، والرسغ: المفصل بين الكف والساعد.(2/117)
وكل أنفه وأطرافه، ومباشرة المصلَّى بيديه وجبهته بأن لا يكون ثم حائل متصل به، وعدم المباشرة بركبتيه.
24 - مجافاة عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه في السجود.
25 - التفريق بين ركبتيه في سجوده، ونصب قدميه، وجعل بطون أصابعهما على الأرض مفرقة في السجود وفي الجلوس بين السجدتين أو للتشهد.
26 - وضع يديه في السجود حذو منكبيه، مبسوطة الأصابع.
27 - توجيه أصابع يديه في السجود مضمومة نحو القبلة.
28 - القيام من السجود إلى الركعة الثانية على صدور قدميه، معتمداً بيديه على ركبتيه في النهوض لبقية صلاته، إلا أن يشق عليه، فيعتمد على الأرض.
29، 30، 31 - الافتراش في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول، والتورك في التشهد الثاني.
32 - 35 - وضع اليدين على الفخذين، مبسوطتين، مضمومتي الأصابع، مستقبلاً بها القبلة، في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول والثاني.
36 - قبض الخنصر والبنصر من يده اليمنى، وتحليق إبهامه مع الوسطى في التشهد مطلقاً.
37 - الإشارة بالسبابة عند ذكر الله تعالى في التشهد.
38، 39 - ضم أصابع اليسرى في التشهد، وجعل أطراف أصابعها جهة القبلة.
40- الإشارة بوجهه نحو القبلة في ابتداء السلام.
41، 42- الالتفات يميناً وشمالاً في تسليمه، وزيادة التفات اليمين على الشمال.
43- أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة، كما قال الشافعية.
44- الخشوع في الصلاة: للآية السابقة: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:2/23]
وللحديث السابق وقول النبي صلى الله عليه وسلم في العابث بلحيته: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»
والخشوع: معنى يقوم في االنفس يظهر منه سكون الأطراف.
والمرأة فيما فيما تقدم كالرجل إلا أنها لا يسن لها المجافاة السابقة في الركوع والسجود، بل السنة لها أن تجمع نفسها، وتجلس مسدلة رجلها عن يمينها، وهو الأفضل. ويجب عليها الإسرار بالقراءة إن كان يسمعها أجنبي. والخنثى المشكل كالأنثى.
المبحث الثاني ـ سنن الصلاة الخارجة عنها:
للصلاة سنن قبلها كالاستياك والأذان والإقامة، واتخاذ السترة، وهنا نبحث الأخير وقد سبق بحث ما قبله:
1- تعريف سترة المصلي:
هي ما يجعله المصلي أمامه لمنع المرور بين يديه.
2- حكم سترة المصلي:
هي سنة مشروعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صل أحدكم فليصل إلى سترة، ولْيَدْن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن جاء أحد يمر، فليقاتله، فإنه شيطان» (1)
وليست واجبة باتفاق الفقهاء؛ لأن الأمر باتخاذها للندب، إذ لا يلزم من عدمها بطلان الصلاة وليست شرطاً في الصلاة، ولعدم التزام السلف اتخاذها، ولو كان واجباً لالتزموه، ولأن الإثم على المار أمام المصلي، ولو كانت واجبة لأثم المصلي، ولأن «النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء» رواه البخاري.
3 - وحكمتها:
منع المرور أمام المصلي بين يديه، مما يقطع خشوعه، وتمكين المصلي من حصر تفكيره في الصلاة، وعدم استرساله في النظر إلى الأشياء، وكف بصره عما وراء سترته لئلا يفوت خشوعه.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أب سعيد الخدري (نصب الراية: 2/80) .(2/118)
4 - آراء الفقهاء في السترة:
للفقهاء رأيان في اتخاذها مطلقاً أو في حالة خشية مرور أحد: فقال المالكية والحنفية (1) : السترة في الفرض أو النفل مندوبة للإمام والمنفرد إن خشيا مرور أحد بين يديهما في محل سجودهما فقط، وأما المأموم فسترة الإمام سترة له؛ لأنه عليه السلام صلى ببطحاء مكة إلى عَنَزة (2) ، ولم يكن للقوم سترة (3) . ولا بأس بترك السترة إذا أمن المصلي المرور، ولم يواجه الطريق. فالمستحب لمن صلى بالصحراء أن ينصب بين يديه عوداً أو يضع شيئاً، ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط؛ لأن المقصود وهو الحيلولة بينه وبين المار لا يحصل به.
__________
(1) فتح القدير:288/1 ومابعدها، الدر المختار:610/1، البدائع:317/1، الشرح الصغير:334/1، القوانين الفقهية: ص56 هذا وقد ذكر الدردير أن المعتمد استحباب السترة. وذكر غيره أن المشهور السنية عند المالكية (الشرح الكبير:244/1) .
(2) العنزة: أطول من العصا، وأقصر من الرُّمح.
(3) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي جحيفة عن أبيه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها» (نصب الراية:84/1) .(2/119)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة، سواء أكان في مسجد أم بيت، فيصلي إلى حائط أو سارية (عمود) ، أم في فضاء، فيصلي إلى شيء شاخص بين يديه كعصا مغروزة أو حربة، أو عرض البعير أو رحله عند الحنابلة، فإن لم يجد خطَّ خطاً قبالته، أو بسط مصلَّى كسجادة كما ذكر الشافعية.
ودليلهم حديث أبي جحيفة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم ركزت له العَنَزة، فتقدم وصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع» (2) وحديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤَخَّرة الرحل، فليصل، ولا يبال من مر وراء ذلك» (3) .
وسترة الإمام سترة لمن خلفه بالاتفاق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى، كما ذكر في رأي المالكية والحنفية.
وفي حديث عن ابن عباس قال: «أقبلت راكباً على حمار أتان، والنبي صلّى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض أهل الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر علي أحد» (4) .
وذكر الحنابلة: أنه لا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم فيما ذكر أحمد ـ «أنه صلى ثَمَّ، ليس بينه وبين الطواف سترة» أي كأن مكة مخصوصة.
__________
(1) مغني المحتاج:200/1، المغني:237/1-244، شرح الحضرمية: ص56 ومابعدها.
(2) متفق عليه.
(3) أخرجه مسلم.
(4) متفق عليه.(2/120)
5 - صفة السترة وقدرها:
للفقهاء آراء متقاربة في ذلك فقال الحنفية: أدنى السترة طول ذراع (2،46سم) فصاعداً وغلظ أصبع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل، فلا يضر ك من مر بين يديك» (1) وقدرت العنزة التي كان يصلي إليها النبي صلّى الله عليه وسلم في الصحراء بذراع طولاً. ويعتبر الغرز دون الإلقاء والخط كما بينا. ويجوز عندهم الاستتار بظهر آدمي جالس أو قائم، أو بدابة لا إلى مصحف أو سيف، وحيلة الراكب: أن ينزل فيجعل الدابة بينه وبين المصلي، فتصير سترة، فيمر. ومن احتاج إلى المرور بين يدي المصلي، ألقى شيئاً بين يدي المصلي، ثم يمر من ورائه.
وقال المالكية أيضاً: أقلها طول الذراع في غلظ الرمح، بشرط أن تكون بشيء ثابت، طاهر، وكره النجس، لا يشوش القلب، فلا يستر بصبي لا يثبت، ولا بامرأة، ولا إلى حلقة المتكلمين، ولا بسوط وحبل ومنديل ودابة غير مربوطة، ويجوز الاستتار بالإبل والبقر والغنم المربوطة؛ لأنها عندهم طاهرة الفضلة، ولايجوز الاستتار بخط في الأرض ولا حفرة. بدليل ما روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا خرج يو م العيد، يأمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها الناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر» (2) وعن أبي جحيفة قال: «وبين يديه عَنَزة» وهي عصا قصيرة فيها زُجّ (3) . وأما حديث أبي هريرة في الخط فهو ضعيف مضطرب (4) .
ويكره عندهم الاستتار بظهر امرأة أجنبية أو كافر، ويجوز من غير كراهة الاستتار برجل غير كافر، أو بامرأة محرم على الراجح.
وقال الشافعية: يستحب أن يصلي إلى شاخص قدر ثلثي ذراع طولاً وإن لم يكن له عرض كسهم، لخبر: «استتروا في صلاتكم ولو بسهم» (5) ، ولا يستتر بدابة.
وقال الحنابلة كالحنفية والمالكية: قدر السترة في طولها ذراع أو نحوه، وأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد له عندهم، فيجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة، وغليظة كالحائط، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يستتر بالعنزة.
واستدل الشافعية والحنابلة على إجزاء الخط بحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينْصِب عصاً، فإن لم يكن معه عصا، فليخط خطاً، ولا يضره ما مر بين يديه» (6) .
__________
(1) أخرجه مسلم عن طلحة بن عبيد الله، وأخرج أيضاً عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل» .
(2) متفق عليه (نيل الأوطار:2/3) .
(3) الزج: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(4) انظر نيل الأوطار:4/3.
(5) رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم.
(6) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان وصححه، والبيهقي، وصححه أحمد وابن المديني. وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والبغوي وغيرهم، وأورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب، قال ابن حجر: ونوزع في ذلك (نيل الأوطار:4/3) .(2/121)
وصفة الخط عند الشافعية: أنه مستقيم طولاً. وعند الحنابلة: أنه مثل الهلال عرضاً كالقنطرة، وقال بعض الحنابلة: كيفما خطه أجزأه، إن شاء معترضاً وإن شاء طولاً.
وإن كان معه عصا، فلم يمكنه نصبها، ألقاها عند الجمهور عرضاً؛ لأن هذا في معنى الخط، فيقوم مقامه. وقال المالكية: لا بد من وضعها منصوبة.
وأجاز الحنابلة أن يستتر ببعير أو حيوان أو إنسان، وفعله ابن عمر وأنس، بدليل ماروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلَّى إلى بعير» (1) وفي لفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرض راحلته، ويصلي إليها» قال: قلت: فإذا ذهب الركاب؟ قال: يعرض الرحل، ويصلي إلى آخرته، فإن استتر بإنسان، فلا بأس، فإنه يقوم مقام غيره من السترة. وعن نافع قال: «كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد، قال: ولّني ظهرك» .
وروي عن حميد بن هلال قال: «رأى عمر بن الخطاب رجلاً يصلي، والناس يمرون بين يديه، فولاه ظهره، وقال بثوبه هكذا، وبسط يديه هكذا، وقال: صل ولاتعجل» (2) .
والخلاصة: يصح الاستتار بظهر آدمي أو امرأة عند الحنفية والمالكية، وقال الحنابلة: يصح الاستتار بالآدمي مطلقاً بظهره أو غيره، وقال الشافعية: لا يصح الاستتار بالآدمي مطلقاً، ويصح عند الجمهور الاستتار بسترة مغصوبة ولا يصح بها وتكره الصلاة إليها عند الحنابلة، ويصح الاستتار عند الجمهور بالسترة النجسة، ولا يصح ذلك عند المالكية، ويصح بالاتفاق الاستتار بجدار.
6 - استقبال وجه الإنسان أو الصلاة إلى نار أو صورة أو امرأة تصلي (3) :
اتفق الفقهاء على أنه يكره أن يصلي مستقبلاً وجه إنسان؛ لأن عمر رضي الله عنه أدَّب على ذلك، وفي حديث عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي حذاء وسط السرير، وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم، فاستقبله، فأنسل انسلالاً» (4) ، وأنه شبه السجود لذلك الشخص. والكراهة فيه عند الحنفية تحريمية.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواهما البخاري بإسناده.
(3) المغني:242/1 ومابعدها، المهذب:69/1.
(4) متفق عليه.(2/122)
ويكره اتفاقاً أن يصلي إلى نار من تنور، وسراج وقنديل وشمع ومصباح ونحوها؛ لأن النار تعبد من دون الله، فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها.
وتكره الصلاة إلى صورة منصوبة في وجهك؛ لأن الصورة تعبد من دون الله، وقد روي عن عائشة قالت: «كان لنا ثوب فيه تصاوير، فجعلته بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي، فنهاني: أو قالت: كره ذلك» (1) ولأن التصاوير تشغل المصلي بالنظر إليها، وتذهله عن صلاته، قال أحمد: يكره أن يكون في القبلة شيء معلق، مصحف أو غيره، ولا بأس أن يكون موضوعاً على الأرض. وقال الحنفية: لا بأس بأن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق؛ لأنهما لا يعبدان. ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير، لاستهانته بها.
ويكره أن يصلي، وأمامه امرأة تصلي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «أخروهن من حيث أخرهن الله» (2) . أما في غير الصلاة، فلا يكره لخبر عائشة المتقدم. وروى أبو حفص بإسناده عن أم سلمة قالت: «كان فراشي حيال مصلَّى النبي صلّى الله عليه وسلم» .
7 - مدى بُعْد السترة عن المصلي:
يستحب عند الجمهور أن يقرب من سترته قدر ثلاثة أذرع فأقل من ابتداء قدميه، لحديث بلال: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فصلى وبينه وبين الجدار نحوٌ من ثلاثة أذرع» (3) وروى الاسماعيلي عن سلمة: «كان المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز» وممر العنز: ثلاثة أذرع.
__________
(1) رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده.
(2) أخرجه رزين (كنوز الحقائق للمناوي بهامش الجامع الصغير:12/1) .
(3) رواه أحمد والنسائي، ومعناه للبخاري من حديث ابن عمر (نيل الأوطار: 3/3) .(2/123)
وقال المالكية: يجعل بينه وبينها قدر ممر الهر أو الشاة، وقيل: ثلاثة أذرع. للحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد: «كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة» .
8 - موقف المصلي من السترة:
السنة باتفاق المذاهب الأربعة: أن يميل المصلي عن السترة يميناً أو يساراً، بحيث لا يقابلها، ولا يصمُد لها صمداً (أي لا يجعلها تلقاء وجهه) ، لما روى أبو داود عن المقداد بن الأسود، قال: «ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلَّى إلى عود أو إلى عمود، ولا شجرة، إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُد له صَمْداً» (1) .
9 - المرور بين يدي المصلي:
قال الحنفية (2) : يكره تحريماً المرور بين يدي المصلي، ويأثم المار في موضع سجود المصلي، إذا اتخذ سترة، دون أن يكون بينهما حائل كعمود أو جدار، وتحاذت بعض أعضاء المار أعضاء المصلي كمحاذاة رأس المار قدمي المصلي، وذلك إذا كان يصلي في الصحراء. ولو مر رجلان، فالإثم على من يلي المصلي.
__________
(1) الصمد: القصد (نيل الأوطار:5/3) .
(2) فتح القدير:287/1 ومابعدها، البدائع:217/1، رد المحتار:594/1.(2/124)
فإن مر إنسان فيما بعد موضع سجود المصلي، أو لم يكن المصلي متخذاً سترة، أو وجد حائل ولو ستارة، أو لم تتحاذ كل أعضاء المار مع أعضاء المصلي بأن مشى جانبه، أو مر في المسجد وراء السترة، لم يحرم المرور ولم يأثم المار؛ لأن المؤثم المرور بين يدي المصلي، ولأن المسجد كبقعة واحدة، ويجوز المرور بين يدي المصلي لسدّ فرجة في الصف.
كذلك يكره للمصلي أن يتعرض بصلاته لمرور الناس بين يديه، بأن يصلي بدون سترة في طريق مثلاً، فيأثم بمرور الناس بين يديه بالفعل، لا بترك السترة، فلو لم يمر أحد لا يأثم؛ لأن اتخاذ السترة في ذاته ليس واجباً.
ومن الذي يأثم؟ المصلي أم المار؟ هناك صور أربع: الأولى: إثم المار وحده: أن يكون للمار مندوحة عن المرور بين يدي المصلي، ولم يتعرض المصلي لذلك، فيختص المار بالإثم إن مر. الثانية: إثم المصلي وحده: وهي عكس الأولى: أن يكون المصلي تعرض للمرور وليس للمار مندوحة عن المرور، فيختص المصلي بالإثم دون المار. الثالثة: أن يتعرض المصلي للمرور ويكون للمار مندوحة، فيأثمان. الرابعة: ألا يتعرض المصلي ولا يكون للمار مندوحة، فلا يأثم واحد منهما.
وقال المالكية (1) : يأثم المار بين يدي المصلي فيما يستحقه من محل صلاته، سواء صلى لسترة أم لا، ما لم يكن محرماً بصلاة، فيجوز له المرور لسد فرجة بصف أو لغسل رعاف، وما لم يكن طائفاً بالبيت الحرام، فلا حرمة على الطائف والمصلي إذا مرّا بين يدي المصلي، ولو كان لهما مندوحة، أي سعة وطريق يمران فيهما. وحرمة المرور هذه إذا كان للمار مندوحة أي سعة وطريق آخر يمر فيه. فإن لم يكن له طريق إلا ما بين يدي المصلي، فلا إثم عليه إن احتاج للمرور، وإلا أثم.
ويأثم مصل تعرَّض بصلاته من غير سترة في محل يظن به المرور، ومرَّ بين يديه أحد.
__________
(1) الشرح الصغير:336/1.(2/125)
وقد يأثمان معاً إن تعرض بغير سترة، وكان للمار مندوحة.
وقد يأثم أحدهما، فيأثم المصلي إن تعرض، ولا مندوحة للمار، ويأثم المار إن كان له مندوحة ولم يتعرض المصلي، أي إن قصر أحدهما دون الآخر أثم وحده.
وقد لا يأثم واحد منهما إن اضطر المار، ولم يتعرض المصلي.
وقال الشافعية (1) : الصحيح تحريم المرور إن اتخذ المصلي سترة، ولو لم يجد المار سبيلاً آخر، لخبر أبي جهم الأنصاري: «لو يعلم المار بين يدي المصلي (أي إلى السترة) ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خريفاً، خيراً له من أن يمر بين يديه» (2) .
ويكره تعرض المصلي بصلاته في موضع يحتاج للمرور فيه.
وقال الحنابلة (3) : يأثم المار بين يدي المصلي، ولو لم يكن له سترة، لحديث أبي جهم الأنصاري السابق. ويكره تعرض المصلي لمكان فيه مرور، كما قال الشافعية.
المرور أمام المصلي في أثناء الطواف: اتفق الفقهاء على أنه يجوز المرور بين يدي المصلي للطائف بالبيت أو داخل الكعبة أوخلف مقام إبراهيم عليه السلام، وإن وجدت سترة، وأضاف الحنابلة أنه لا يحرم المرور بين يدي المصلي في مكة كلها وحرمها.
__________
(1) مغني المحتاج:200/1.
(2) رواه الشيخان إلا (من الإثم) فالبخاري، وإلا (خريفاً) فالبزار، وانظر أحاديث السترة في (شرح مسلم:216/4-228) .
(3) المغني:245/1 ومابعدها.(2/126)
10 - موضع حرمة المرور:
قال الحنفية (1) : إ ن كان يصلي في الصحراء أو في مسجد كبير، فيحرم المرور في الأصح بين يديه، من موضع قدمه إلى موضع سجوده. وإن كان يصلي في بيت أو مسجد صغير (وهو ما كان أقل من أربعين ذراعاً على المختار) ، فإنه يحرم المرور من موضع قدميه إلى حائط القبلة؛ لأنه كبقعة واحدة، إن لم يكن له سترة.
فلو كانت له سترة لا يضر المرور وراءها.
ولا يجعل المسجد الكبير أو الصحراء كمكان واحد؛ لأنه لو جعل كذلك، لزم الحرج على المارة، فاقتصر على موضع السجود.
وقال المالكية (2) : إن صلى لسترة حرم المرور بينه وبين سترته، ولا يحرم المرور من ورائها، وإن صلى لغير سترة، حرم المرور في موضع قيامه وركوعه وسجوده فقط.
وقال الشافعية (3) : يحرم المرور فيما بين المصلي وسترته بقدر ثلاثة أذرع فأقل.
وقال الحنابلة (4) : إن اتخذ المصلي سترة حرم المرور بينه وبينها ولو بعدت، وإن لم يتخذ سترة حرم المرور في مسافة بقدر ثلاثة أذرع من قدمه.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:593/1.
(2) الشرح الكبير:246/1، حاشية الصاوي على الشرح الصغير:335/1.
(3) مغني المحتاج:200/1، المهذب:69/1، المجموع:230/3.
(4) المغني:239/2، كشاف القناع:439/1.(2/127)
11 - دفع المار بين يدي المصلي:
يرى أكثر العلماء أن للمصلي منع المار بين يديه ودفعه، لما ثبت في السنة من الأحاديث الصحيحة، منها ما رواه ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمرّ بين يديه، فإن أبى فلْيقاتلْه، فإن معه القَرين» (1) .
ومنها حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلَّى أحدكم إلى شيء يستُره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» (2) .
ولكن اختلف الفقهاء في أفضلية دفع المار:
فقال الحنفية (3) : هو رخصة، والأولى تركه، والعزيمة ترك التعرض له. أما الأمر بمقاتلة المار، فكان في بدء الإسلام حين كان العمل في الصلاة مباحاً، فهو منسوخ.
وإذا أراد الرجل الدفع عملاً بالرخصة: دفع بالإشارة، أو التسبيح، أو الجهر بالقراءة، ولا يزاد عليها، ويكره الجمع بينهما. وتدفع المرأة بالإشارة أو بالتصفيق لابباطن الكفين، وإنما ببطن اليمنى على ظهر اليسرى.
ودليل الدفع بالإشارة: ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلم بولدي أم سلمة رضي الله عنها (4) . ودليل الدفع بالتسبيح حديث: «من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء» (5) .
وقال المالكية (6) : يندب للمصلي أن يدفع المار بين يديه دفعاً خفيفاً فإن كثر أبطل صلاته، ولو دفعه فأتلف له شيئاً، كما لو خرق ثوبه أو سقط منه مال، ضمن على المعتمد، ولو دفعه دفعاً مأذوناً فيه.
وقال الشافعية والحنابلة (7) : يسن للمصلي أن يدفع المار بينه وبين سترته، عملاً بالأحاديث الثابتة المتقدمة، ويضمن المصلي المار إن قتله أو آذاه، هذا ولا يرد المار بين يدي المصلي في مكة والحرم، بدليل ماروى أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن المُطّلِب بن وَدَاعة: «أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم يصلِّي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سُترة» .
12 - هل المرور بين يدي المصلي يقطع الصلاة؟
اتفق أئمة المذاهب الأربعة على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطعها ولا يبطلها، وإنما ينقص الصلاة إذا لم يرده (8) ، لقول صلّى الله عليه وسلم: «لا يقطع صلاة المرء شيء، وادرؤوا ما استطعتم» (9) .
وروي عن ابن مسعود: «أن ممر الرجل يضع نصف الصلاة، وكان عبد الله إذا مر بين يديه رجل التزمه حتى يرده» (10) . قال القاضي أبو يعلى الحنبلي: ينبغي أن يحمل نقص الصلاة على من أمكنه الرد، فلم يفعله، أما إذا رد فلم يمكنه الرد، فصلاته تامة، لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة، فلا يؤثر فيها ذنب غيره.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. والقرين: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه (نيل الأوطار:5/3) .
(2) رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وإطلاق الشيطان على المار من الإنس ذائع شائع، والسبب هنا أنه فعل فعل الشيطان (المصدر السابق) .
(3) الدر المختار:596/1 ومابعدها، البدائع:217/1، فتح القدير:289/1 ومابعدها.
(4) رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم سلمة (نصب الراية:85/2) .
(5) أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد (نصب الراية:75/2 ومابعدها) .
(6) القوانين الفقهية: ص56، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:246/1.
(7) مغني المحتاج:200/1، المغني:245/2 ومابعدها، كشاف القناع:438/1 ومابعدها.
(8) رد المحتار:593/1، القوانين الفقهية: ص56، المهذب:69/1، المغني:231/2، كشاف القناع:439/1.
(9) رواه أبو داود بإسناد ضعيف من رواية أبي سعيد الخدري (المجموع:227/3، نصب الراية:76/3) .
(10) رواه البخاري بإسناده.(2/128)
وقال الإمام أحمد: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم (1) ، قال معاذ ومجاهد: الكلب الأسود شيطان، وهو يقطع الصلاة.
وقال الظاهرية: يقطع الصلاة مرور المرأة والكلب والحمار، لحديث أبي هريرة: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل» (2) وحديث أبي ذر: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قال عبد الله بن الصامت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يابن أخي، سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان» (3)
واقتصر الحنابلة على بطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود، لمعارضة هذين الحديثين بحديث الفضل بن عباس عند أبي داود المتضمن صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم أمام حمار، وحديث عائشة السابق المتضمن صلاة الرسول عليه السلام وهي معترضة بينه وبين القبلة، وحديث ابن عباس المتفق عليه الذي مر راكباً على حمار، ثم نزل وترك الأتان ترتع بين الصفوف، فبقي الكلب الأسود خالياً عن معارض، فيجب القول به لثبوته، وخلوه عن معارض.
__________
(1) البهيم: الذي ليس في لونه شيء سوى السواد.
(2) رواه أحمد ومسلم واللفظ له، وابن ماجه.
(3) رواه الجماعة إلا البخاري، يعني أحمد ومسلماً وأصحاب السنن كلهم.(2/129)
ورد النووي على هذه الأحاديث الصحيحة لدى الحنابلة والظاهرية بما أجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين: بأن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر، للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة (1) .
تقديم العَشَاء على صلاة العشاء:
إذا حضر العشاء في وقت الصلاة، فالمستحب عند الشافعية والحنابلة أن يبدأ بالعَشَاء قبل الصلاة إذا كانت نفسه تتوق إلى الطعام كثيراً، ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه. روى مسلم وغيره عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قُرِّب العَشَاء، وحضرت الصلاة فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم» وقالت عائشة: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضور طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» أي البول والغائط. ولا فرق بين كون الصلاة جماعة أو غير جماعة، لما رواه مسلم عن ابن عمر: «إذا قرِّب عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشَاء، ولا يعجلن حتى يفرغ منه» أي وأقيمت الجماعة.
وقال مالك: تبدأ الجماعة بالصلاة إلا أن يكون طعاماً خفيفاً (2) .
المبحث الثالث ـ صفة الصلاة أو كيفيتها:
صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
عن أبي حميد الساعدي أنه قال وهو في عَشَرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدُهم أبو قتادة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: ماكنتَ أقدم منا له صُحبة، ولا أكثَرنا له إتياناً؟ قال: بلى، قالوا: فاعرض (3) ، فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً، ورفع يديه، حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، ثمَ يكبر، فإذا أراد أن يركع، رفع يديه، حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، ثم قال: الله أكبر، وركع.
ثمّ اعتدل، فلم يُّصوِّب رأسه ولم يُقْنِع (4) ، ووضع يديه على ركبتيه، ثمّ قال: سمع الله لمن حمِدَه، ورفع يديه واعتدل، حتى يرجِع كل عظم في موضعه معتدلاً (5) .
ثم هوى (6) إلى الأرض ساجداً، ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد عليها (7) ، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض.
ثم صتع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين، كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع كذلك، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته، أخَّر رجله اليسرى، وقعد على شقه متورِّكاً (8) ، ثمَّ سلَّم.
قالوا: صدقت، هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (9) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصّلي» (10) .
__________
(1) المجموع:232/3.
(2) المغني:629/1.
(3) عرض الكتاب: قرأه عن ظهر قلب.
(4) أي لم يبالغ في خفضه وتنكيسه، ولم يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره.
(5) أي حتى يقر كل عظم في موضعه. وفي رواية البخاري: «حتى يعود كل فقار» .
(6) الهويّ: السقوط من علو إلى أسفل.
(7) هذه تسمى قعدة الاستراحة.
(8) التورك في الصلاة: القعود على الورك اليسرى، والوركان: فوق الفخذين، كالكعبين فوق العضدين.
(9) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، ورواه البخاري مختصراً (نيل الأوطار: 1/184)
(10) رواه البخاري عن مالك بن الحويرث (سب السلام: 1/200) .(2/130)
توضيح كيفية الصلاة:
يتبين من هذا الحديث ومما ذكرناه من شروط الصلاة وأركانها وسننها وآدابها ومندوباتها في المذاهب المختلفة أن صفة الصلاة على النحو التالي (1) :
يراعي المصلي شروط الصلاة من ستر العورة وطهارة البدن والثوب والمكان وغيرهما، ثم يتوضأ للصلاة، ثم يؤذن لها ويقيم بعد دخول وقتها، ثم يستقبل القبلة، ثم يشرع في الصلاة ناوياً بقلبه، مكبراً للافتتاح، ويسن التلفظ بالنية عند الجمهور (غير المالكية) ، قائلاً وجوباً بلا مد: «الله أكبر» جاهراً بها عند المالكية، رافعاً يديه مع ابتداء التكبير، مخرجاً كفيه من كميه، بخلاف المرأة، مفرجاً أصابعه عند الجمهور (غير الحنابلة) ، مستقبلاً بها القبلة، محاذياً بإبهاميه شحمتي أذنيه عند الحنفية، وحذو منكبيه عند غيرهم وعند الحنفية للمرأة، كماثبت في السنة، ثم يضع عند الجمهور (غير المالكية) كفَّه اليمنى على اليسرى تحت سرته عند الحنفية والحنابلة، وتحت صدره عند الشافعية، ويرسلهما عند المالكية.
وينظر المصلي إلى موضع سجوده، ثم يقرأ الثناء (2) عند الحنفية والحنابلة، والتوجه (3) عند الشافعية، ولا يقرؤهما عند المالكية، ثم يتعوذ سراً للقراءة بالاتفاق، ويسمي سراً عند الحنفية والحنابلة، ويجهر بالبسملة عند الشافعية، ولايسمي عند المالكية، ثم يقرأ الفاتحة، ويؤمِّن المصلي بعد {ولا الضالين} [الفاتحة:7/1] سراً عند المالكية والحنفية، جهراً عند الشافعية والحنابلة، ثم يقرأ
__________
(1) انظر اللباب شرح الكتاب:68/1-77، القوانين الفقهية: ص57-66، المهذب:70/1-80، كشاف القناع:381/1-459، مغني المحتاج:148/1-184، مراقي الفلاح: ص44-46.
(2) وهو أن يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك) .
(3) وهو (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) .(2/131)
سورة أو آيات بعد الفاتحة من طوال المفصل في الفجر والظهر، ومن أوساطه في العصر والعشاء، وكذا في الظهر عند الحنابلة، ومن قصاره في المغرب، وكذا في العصر عند المالكية، ويجهر بالقراءة ليلاً، ويسر بها نهاراً.
ثم يكبر للركوع مع ابتداء الانحناء وينهيه بانتهائه، رافعاً يديه عند الجمهور غير الحنفية، آخذاً ركبتيه بيديه، مطمئناً، مفرجاً أصابعه، باسطاً ظهره مستقيماً، مسوياً رأسه بعجزه، غير رافع رأسه ولا خافضه، ناصباً ساقيه، مجافياً مرفقيه عن جنبيه، قائلاً ثلاثاً: (سبحان ربي العظيم) مع إضافة (وبحمده) عند غير الحنفية.
ثم يرفع رأسه من الركوع قائلاً: (سمع الله لمن حمده) ، ويقول المقتدي فقط سراً عند الجمهور غير الشافعية: (ربنا لك الحمد) ، ويجمع بينهما عند الشافعية كالإمام ولا يجهر بالتحميد، كما يجمع بينهما المنفرد عند المالكية. ويجمع بينهما الإمام عند الحنفية والحنابلة، ولا يحمد الإمام عند المالكية، رافعاً يديه عند غير الحنفية، مطمئناً بالاتفاق حال الاعتدال، ولا يرفع يديه عند الحنفية إلا في التكبيرة الأولى.
ثم يهوي للسجود واضعاً عند غير المالكية ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويقدم اليدين عند المالكية، ناصباً قدميه، موجهاً أصابعها نحو القبلة، واضعاً عند الحنفية وجهه بين كفيه، مجافياً بطنه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، والمرأة لاتجافي؛ لأنه أستر لها، واضعاً عند غير الحنفية كفيه حذو منكبيه، ناشراً أصابعهما مضمومة للقبلة، معتمداً عليهما، مطمئناً في سجوده، ويقول ثلاثاً: (سبحان ربي الأعلى) ويضيف عند غير المالكية: (وبحمده) .(2/132)
ثم يرفع رأسه مكبراً، ويجلس بين السجدتين مطمئناً، مفترشاً رجله اليسرى ويجلس عليها، ناصباً رجله اليمنى، واضعاً يديه على فخذيه، ويقول عند غيرالحنفية: (رب اغفر لي) . ثم يكبر للسجود، ويسجد السجدة الثانية، كالأولى.
ثم يكبر للنهوض إلى الركعة الثانية، ويقوم عند الحنفية على صدور قدميه (1) ، ولا يقعد، ولا يعتمد بيديه على الأرض، وإنما يعتمد عندهم على ركبتيه إلا أن يشق عليه فيعتمد على الأرض، ولا يجلس للاستراحة عند غير الشافعية. ويعتمد بيديه على الأرض عند الشافعية والحنابلة، ويجلس للاستراحة ويرفع يديه حالة النهوض عند الشافعية.
فإذا استوى قائماً لم يقرأ الاستفتاح بالاتفاق، وإنما يتعوذ سراً عند الشافعية والحنابلة، ولا يتعوذ عند الحنفية والمالكية، ولا يبسمل عند المالكية، وكذا عند الحنفية إذا كان إماماً، ويبسمل عند الجمهور، ويقرأ الفاتحة وسورة، ويقصر قراءة الركعة الثانية عن الأولى.
ثم يركع ويسجد كما فعل في الركعة الأولى، ويقنت في صلاة الصبح قبل الركوع عند المالكية وهو أفضل، ويجوز بعده، وبعده عند الشافعية، وبعده في الوتر في جميع السنة عند الحنابلة، كما سنبين.
فإذا أتم السجدة الثانية من الركعة الثانية، جلس للتشهد الأول مفترشاً عند الجمهور (غير المالكية) متوركاً عند المالكية، كما بينا، موجهاً أصابعه نحو القبلة، واضعاً يديه على فخذيه، باسطاً أصابعه عند الحنفية، باسطاً اليسرى، قابضاً ما عدا السبابة والإبهام عند المالكية، وما عدا السبابة فقط عند الشافعية، ويحلِّق الإبهام مع الوسطى عند الحنابلة. ويشير بالسبابة عند الحنفية عند قوله: (لا إله) ثم يضعها عندهم عند (إلا الله) ، ويشير في رأي الشافعية والحنابلة عند قوله: (إلا الله) بلا تحريك، ومع التحريك والإشارة بها من أول التشهد عند المالكية.
__________
(1) وذلك بأن يقوم وأصابع القدمين على هيئتها في السجود.(2/133)
ثم يقرأ التشهد بإحدى الصيغ الثلاث السابقة إلى قوله «عبده ورسوله» (1) ، دون أن يضم إليه عند الجمهور (غير الشافعية) أي زيادة في القعدة الأولى، ويضم إليه عند الشافعية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فقط. أما في التشهد الأخير فيضم إليه الصلاة الإبراهيمة.
ويتورك عند غير الحنفية في التشهد الأخير، ثم يدعو عند الحنفية بالمأثور من القرآن والسنة، أو بما شاء عند الجمهور.
ثم يسلم عن يمينه وشماله في الصلاة الثنائية، قائلاً: (السلام عليكم ورحمة الله) ويضيف عند المالكية (وبركاته) دون أن يمده مداً أي لا يطيله ويسرع فيه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حذف التسليم سنة» (2) قال ابن المبارك: معناه ألا يمد مداً.
فإن كانت الصلاة ثلاثية، أتى بركعة ثالثة، ثم يتشهد ويسلم، وإن كانت الصلاة رباعية، أتى بركعتين، ثم يتشهد ويسلم. ولا يقرأ غير الفاتحة في الفريضة في الركعتين الثالثة والرابعة، ويقرأ فيهما سورة عند الحنفية في النافلة وجميع ركعات الوتر، ولا يقرأ فيهما كالفرض سورة عند الشافعية.
__________
(1) صيغة التشهد عند الحنفية والحنابلة: (التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) وعند المالكية: (التحيات لله، الزكيات لله، الطيبات الصلوات لله..الخ ما سبق) . وعند الشافعية: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) .
(2) رواه أحمد وأبو داود، ورواه الترمذي موقوفاً وصححه (نيل الأوطار:295/2) .(2/134)
المبحث الرابع ـ مكروهات الصلاة:
فيه أربعة مطالب: ما يكره في الصلاة، والأماكن التي تكره الصلاة فيها، مالايكره فعله، ما تحرم الصلاة فيه.
والكراهة عند الجمهور تنزيهية، وعند الحنفية إما تنزيهية: وهي خلاف الأولى. وإما تحريمية وهي المقصودة عند الإطلاق، وهي ما نهي عنه شرعاً بدليل ظني الثبوت وليس فيه صارف عن التحريم. فإن وجد الصارف له عن التحريم فهي تنزيهية.
وترك السنة المؤكدة يكره تحريماً، وترك السنة غير المؤكدة كترك صلاة الضحى تنزيهاً، وترك المستحب أو المندوب خلاف الأولى. ويستحب عند الفقهاء لمن أتى بالصلاة على وجه مكروه إعادتها ما دام الوقت باقياً.
المطلب الأول ـ ما يكره في الصلاة:
يكره في الصلاة ما يأتي (1) :
1ً - يكره تحريماً عند الحنفية ترك واجب من واجبات الصلاة عمداً: كترك قراءة الفاتحة أو قراءة سورة بعدها، أو جهر في صلاة سرية أو إسرار في جهرية، وتصح الصلاة بترك الواجب، لكن يجب إعادتها، ويكره عندهم رفع اليدين عند إرادة الركوع والرفع منه، ولا تفسد الصلاة على الصحيح.
2ً - ترك سنة من سنن الصلاة عمداً: كترك دعاء الثناء أو التوجه، أو التسبيح في الركوع أو السجود، أو التكبير والتسميع والتحميد، أو رفع الرأس أو خفضه في الركوع، أو تحويل أصابع قدميه أو يديه عن القبلة، وهذا متفق عليه.
3ً - يكره عند المالكية تعوذ وبسملة قبل الفاتحة والسورة بفرض، ويجوزان بنفل، وتركهما أولى ما لم يراع الخلاف، فالإتيان بالبسملة أولى خروجاً من الخلاف.
4ً - يكره عند المالكية دعاء قبل القراءة للفاتحة أو السورة، وأثناءها أي القراءة.
5ً - تطويل القراءة في الركعة الثانية على الأولى، وقدره الحنفية بأكثر من ثلاث آيات.
6ً - تكرار سورة واحدة في ركعة واحدة، أو في ركعتين في الفرض، أما النفل فلا يكره عند الحنفية. ولا يكره عند الحنابلة تكرار سورة في ركعتين، لما روى زيد بن ثابت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما» (2) ، وإنما يكره تكرار الفاتحة في ركعة؛ لأنها عندهم ركن. قال الحنفية (3) : يكره أن يتخذ سورة بعينها للصلاة لا يقرأ فيها غيرها.
7ً - القراءة بعكس ترتيب القرآن وهذا متفق عليه: كأن يقرأ في الركعة الأولى «اللهب» أو «الكافرون» ؛ لأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في الركعة الثانية بسورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى في النظم القرآني، وروي عن ابن مسعود «أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوساً؟ قال: ذلك منكوس القلب» وفسره أبو عبيدة: بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى، هي قبلها في النظم.
__________
(1) فتح القدير:1/290-297، البدائع:1/215-220، الدر المختار:1/597-613، الشرح الصغير:1/337-342، القوانين الفقهية: ص 51 ومابعدها، مغني المحتاج:1/201-203، المهذب:1/88 ومابعدها، كشاف القناع:1/431-446، المغني:1/495.
(2) رواه سعيد بن منصور في سننه.
(3) الكتاب مع اللباب:1/79.(2/135)
8ً - يكره عند المالكية وغيرهم القراءة في ركوع أو سجود أو إتمام قراءة السورة في الركوع، وإتمام الفاتحة في الركوع مبطل للصلاة حيث كانت الفاتحة فرضاً، وقال الحنفية بالكراهة التحريمية؛ لأن الفاتحة ليست فرضاً عندهم. واستثنى المالكية: أن يقصد في السجود الدعاء فلا يكره، كأن يقول: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران:8/3] ويكره الدعاء في الركوع، وقبل التشهد الأول أو الأخير، ويكره الجهر بالتشهد مطلقاً، كما يكره للمأموم بعد سلام الإمام الجهر بالدعاء المطلوب في الصلاة في سجود أو غيره.
ويكره أيضاً تخصيص دعاء دائماً لا يدعو بغيره، فالأفضل أن يدعو تارة بالمغفرة، وتارة بسعة الرزق، وتارة بصلاح النفس أو الولد أو الزوجة، وتارة بغير ذلك من أمور الدنيا والآخرة، والله ذو الفضل العظيم. ومن أعظم الدعوات الجامعة أن يقول: «اللهم إني أسألك من كل خير سألك منه محمد نبيك ورسولك صلّى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من كل شر استعاذك منه محمد نبيك ورسولك صلّى الله عليه وسلم» .
9ً - العبث القليل بيده (1) بالثياب أو البدن أو اللحية، أو وضع يده على فمه أو تغطية أنفه (وهو التلثم) بدون حاجة، والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية، بدليل ما رواه القضاعي عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً: «إن الله كره لكم ثلاثاً: العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، والضحك في المقابر» فإن كان لحاجة كإزالة العرق
__________
(1) العبث لغة: عمل ما لا فائدة فيه، والمراد هنا: فعل ما ليس من أفعال الصلاة؛ لأنه ينافي الصلاة.(2/136)
عن وجهه أو التراب المؤذي، أو للتثاؤب، فلا يكره. ومن العبث: «فرقعة الأصابع، وتقليب الحصى، وتسويتها في مكان سجوده» للنهي الصحيح عنه، روى الجماعة عن مُعَيقب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد: «إن كنت فاعلاً فواحدة» (1) وروى أبو داود عن أبي ذر مرفوعاً: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمس الحصى، فإن الرحمة تواجهه» .
ودليل كراهة العبث هو النهي عنه في السنة، ولمنافاته لهيئة الخشوع، وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم بقوله سبحانه: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:1-2/23] ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن فرقعة الأصابع فقال: «لا تفرقع أصابعك وأنت في الصلاة» (2) وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة» ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة، لأن وجه المرأة ليس بعورة، فهي كالرجل.
وصرح الحنابلة (3) بأنه لا بأس بالعمل اليسير في الصلاة للحاجة، كأن يحمل الرجل ولده في الصلاة الفريضة، لحديث أبي قتادة وحديث عائشة: «أنها استفتحت الباب، فمشى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في الصلاة حتى فتح لها» (4) ، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب (5) . فإذ رأى العقرب، خطا إليها، وأخذ النعل وقتلها، ورد النعل إلى موضعها، وهذا جائز بلا كراهة اتفاقاً.
__________
(1) أجاز الحنفية تسوية الحصى مرة لسجوده، وتركها أولى؛ لأنه إذا تردد الحكم بين سنة وبدعة، كان ترك السنة راجماً على فعل البدعة، مع أنه يمكن التسوية قبل الشروع في الصلاة (رد المحتار 600/1) .
(2) رواه ابن ماجه عن علي بلفظ «لا تفقِّع أصابعك في الصلاة» (نيل الأوطار:330/2) .
(3) المغني:247/2-249.
(4) حديث عائشة رواه أحمد وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وحسنه الترمذي.
(5) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم.(2/137)
وقال أحمد: وإذا رأى صبيين يقتتلان يتخوف أن يلقي أحدهما صاحبه في البئر، فإنه يذهب إليهما، فيخلصهما، ويعود إلى صلاته.
ويرجع في تحديد الفعل الكثير واليسير إلى العرف، وكل ما شابه فعل النبي صلّى الله عليه وسلم فهو يسير.
وإن فعل أفعالاً متفرقة، لو جمعت كانت كثيرة، وكل واحد منها بمفرده يسير، فهي في حد اليسير، بدليل حمل النبي صلّى الله عليه وسلم لأمامة، في كل ركعة، ووضعها. لكن قال الحنفية: يكره حمل الطفل، وما ورد منسوخ بحديث «إن في الصلاة لشغلاً» وما كثر وزاد على فعل النبي صلّى الله عليه وسلم أبطل الصلاة، سواء أكان لحاجة أم غيرها، إلا أن يكون لضرورة، فيكون بحكم الخائف، فلا تبطل صلاته به. وقال المالكية: يكره قتل برغوث ونحوه في الصلاة، والحنفية كالحنابلة فإنهم قالوا: يكره كل عمل قليل بلا عذر كتعرض لقملة قبل الأذى. ويكره أيضاً رفع أو جمع الثوب باليدين في الركوع والسجود، وجمع الشعر وضمه، لحديث: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوباً ولا شعراً» (1) والكراهة تحريمية. كما يكره مسح غبار الجبهة قبل الانصراف من الصلاة، لما رواه ابن ماجه: «إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته» عند الحنفية.
10ً - تشبيك الأصابع، والتخصر: وهو أن يضع يده على خاصرته. وهذا متفق عليه، لحديث أبي سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يُشَبِّكنَّ، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة، ما دام
__________
(1) رواه الشيخان واللفظ لمسلم.(2/138)
في المسجد حتى يخرج منه» (1) وروى ابن ماجه عن ابن عمر أنه قال ـ في الذي يصلي وقد شبك أصابعه ـ «تلك هي صلاة المغضوب عليهم» .
وحديث أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن التخصر في الصلاة» (2) وفرقعة الأصابع وتشبيكها ولو منتظراً الصلاة أو ماشياً إليها، والتخصر مكروه تحريماً عند الحنفية، وكذلك يكره تنزيهاً التخصر خارج الصلاة، ولا يكره التشبيك والفرقعة خارج الصلاة.
11ً - تغميض العينين إلا لخوف وقوع بصره على ما يشغله عن صلاته، روى ابن عدي في حديث بسند ضعيف: «إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه» لأن السنة النظر إلى موضع سجوده وفي التغميض تركها، والكراهة تنزيهية بالاتفاق.
12ً - الالتفات في الصلاة بلا حاجة مهمة، ولو بجميع جسده ما دامت رجلاه للقبلة، وإلا بطلت الصلاة. هذا ما قاله المالكية.
وقال الحنفية: يكره تنزيهاً الالتفات بالعنق فقط أي بالوجه كله أو ببعضه، وببصره، ولا تفسد الصلاة بتحويل صدره على المعتمد. أما لو نظر بمؤخر عينه يمنة أو يسرة من غير أن يلوي عنقه، لا يكره، قال ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» (3) .
__________
(1) رواه أحمد، وروى أحمد وأبو داود والترمذي حديثاً آخر في معناه عن كعب بن عُجرة، وروى ابن ماجه أيضاً حديثاً آخر عن كعب بن عجرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم فرج بين أصابع رجل كان قد شبك أصابعه في الصلاة (نيل الأوطار:328/2-330) .
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار:330/2) .
(3) أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه (نصب الراية:89/1) .(2/139)
وقال الشافعية: يكره الالتفات بالوجه إلا لحاجة، فلا يكره؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كان في سفر، فأرسل فارساً إلى شِعْب، من أجل الحرس، فجعل يصلي، وهويلتفت إلى الشعب» (1) . فإن حول صدره عن القبلة بطلت صلاته، لانحرافه عن القبلة.
وقال الحنابلة: يكره في الصلاة التفات يسير بلا حاجة. وتبطل الصلاة إن استدار المصلي بجملته أو استدبر القبلة، لتركه الاستقبال بلاعذر، ما لم يكن في الكعبة، أو في شدة خوف، أو إذا تغير اجتهاده، فلا تبطل إن التفت بجملته، أو استدبر القبلة، لسقوط الاستقبال حينئذ، وفي حالة تغير الاجتهاد؛ لأنها صارت قبلته. ولا تبطل الصلاة لو التفت بصدره ووجهه؛ لأنه لم يستدر بجملته.
ودليل كراهة الالتفات لغير حاجة باتفاق المذاهب: حديث عائشة، قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التَّلفُّت في الصلاة، فقال: اختلاس يختلِِسه الشيطان من العبد» (2) وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لايزال الله مقبلاً على العبد في صلاته، مالم يلْتفِت، فإذا صرَف وجهه، انصرف عنه» (3) وحديث أنس قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إيَّاك والالتفاتَ في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة فإن كان لابُدّ، ففي التطوع، لا في الفريضة» (4) وفي العبارة الأخيرة الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض، ومما يجيز الالتفات لحاجة حديث علي بن شيبان: «قال: قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلم وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لايقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» (5) .
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(2) رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار:327/2، نصب الراية:89/2) .
(3) رواه أحمد والنسائي وأبو داود (المصدران السابقان) .
(4) رواه الترمذي وصححه (المصدران السابقان) .
(5) رواه ابن حبان في صحيحه.(2/140)
من العبد» (1) وحديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته، ما لم يلْتفِت، فإذا صرَف وجهه، انصرف عنه» (2) وحديث أنس قال: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إيَّاك والالتفاتَ في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة، فإن كان لابُدّ، ففي التطوع، لا في الفريضة» (3) وفي العبارة الأخيرة الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض، ومما يجيز الالتفات لحاجة حديث علي بن شيبان: «قال: قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلم وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: لا صلاة لمن لا يقيم صلبه» (4) .
13ً - رفع البصر إلى السماء: وهذا متفق عليه، لحديث أنس، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟! فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهين عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم» (5) .
لكن قال المالكية: إن كان ذلك للموعظة والاعتبار بآيات السماء، فلا يكره. واستثنى الحنابلة حالة التجشي، فلا يكره.
14ً - القيام على رجل واحدة، أو رفع رجل عن الأرض واعتماد على الأخرى إلا لضرورة أو عذر، كوجع الأخرى فلا كراهة حينئذ؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع.
وأضاف المالكية: وكره إقران القدمين دائماً في جميع صلاته. وذكر الشافعية أنه يكره تقديم رجل على الأخرى، ولصق رجل بالأخرى، حيث لا عذر؛ لأنه تكلف ينافي الخشوع. ولا بأس بالاستراحة على إحدى الرجلين لطول القيام أو نحوه.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار:327/2، نصب الراية:89/2) .
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود (المصدران السابقان) .
(3) رواه الترمذي وصححه (المصدران السابقان) .
(4) رواه ابن حبان في صحيحه.
(5) رواه البخاري.(2/141)
15ً - الصلاة حاقناً بالبول، أو حاقناً بالغائط، أو حازقاً بالريح إن وسع الوقت، أو مع توقان الطعام الحاضر أو القريب الحضور، أي اشتهائه بحيث يختل الخشوع لو قدم الصلاة عليه، وهذا متفق عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة ـ أي كاملة ـ بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (1) أي البول والغائط. والشرب كالأكل. والصلاة مع مدافعة الأخبثين مكروهة تحريماً عند الحنفية.
وتكره الصلاة حال النعاس الشديد وهو الذي لا يأمن ضبط قراءته والسهو فيها، لحديث الشيخين عن عائشةرضي الله عنها قالت: «إذا نَعَس أحدكم وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» .
16ً - البصاق أو التنخم في غير المسجد أمامه، أو عن يمينه، لحديث الشيخين وأحمد: «إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنما يناجي ربه، فلا يبزُقن بين يديه، ولا عن يمينه» زاد البخاري: «فإن عن يمينه ملكاً، ولكن يساره أو تحت قدمه» .
ويكره البصاق أيضاً وهو في غير الصلاة عن يمينه وأمامه إذا كان متوجهاً إلى القبلة، إكراماً لها.
17ً - قال المالكية: يكره التفكر في أمر دنيوي، أو حمل شيء بكم أو فم إذا لم يمنعه مخارج الحروف، وإلا منع وبطلت، أو حمد لعاطس أو بشارة بشر بها وهو يصلي، بأن يقول: الحمد لله، أو حكّ جسد لغير ضرورة إن قل، والكثير مبطل، وكره تبسم قليل اختياراً، والكثير مبطل ولو اضطراراً.
وقال الحنابلة: يكره حمله ما يشغله عن إكمال صلاته؛ لأنه يذهب بالخشوع. ويكره إخراج لسانه وفتح فمه، ووضعه فيه شيئاً؛ لأن ذلك يخرجه عن هيئة الصلاة. ولا يكره وضع شيء في يده وكمه، إلا إذا شغله عن كمال الصلاة، فيكره.
__________
(1) رواه مسلم عن عائشة.(2/142)
18ً - التثاؤب؛ لأنه من التكاسل والامتلاء ومن الشيطان، والأنبياء محفوظون منه، فإن غلبه فليكظم ما استطاع لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» (1) وفي رواية لمسلم: «فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخله» ، ويكره التمطي أيضاً، لأنه يخرجه عن هيئة الخشوع ويؤذن بالكسل، ولحديث الدارقطني عن أبي هريرة: «نهى أن يتمطى الرجل في الصلاة، أو عند النساء إلا عند امرأته أو جواريه» والكراهة هنا تنزيهية عند الحنفية إلا إن تعمده فيكره تحريماً؛ لأنه عبث، والعبث مكروه تحريماً في الصلاة، وتنزيهاً خارجها.
19ً - قال الشافعية والحنابلة: يكره الاستناد إلى جدار أو نحوه مما يسقط بسقوطه إذا ظل قائماً، إلا لحاجة إليه، فلا يكره معها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «لما أسنَّ وأخذه اللحم، اتخذ عموداً في مصلاه يعتمد عليه» (2) .
فإن سقط المصلي لو أزيل، أو كان يمكنه رفع قدميه عن الأرض، بطلت صلاته؛ لأنه بمنزلة غير القائم.
ويكره الاعتماد على يده في جلوسه، لقول ابن عمر: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهومعتمد على يده» (3) .
20ً - يكره تنزيهاً عند الحنفية رد السلام بالإشارة باليد أو الرأس؛ لأنه سلام، حتى لو صافح بنية التسليم، تفسد صلاته، ويكره كل إشارة بالعين أو اليد ونحوها.
ويستحب عند الشافعية حتى للناطق رد السلام بالإشارة، ولمن عطس أن يحمد الله، ويسمع نفسه. ولو قال المأموم: استعنا بالله بعد قراءة الإمام {إياك نستعين} [الفاتحة:5/1] ، بطلت صلاته إن لم يقصد تلاوة أو دعاء.
ولا يكره عند المالكية رد السلام بالإشارة على مسلّم عليه، وإنما هو مطلوب.
__________
(1) رواه الشيخان، وفي رواية للترمذي: «فليضع يده على فمه» وألحق الكم باليد.
(2) رواه أبو داود (نيل الأوطار:331/2) .
(3) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار:331/2) .(2/143)
ولكن يكره عندهم إشارة للرد برأس أو يد على مشمِّت شمته وهو يصلي قائلاً له: (يرحمك الله) إذا ارتكب المكروه، وحمد لعطاسه.
وتجوز عندهم الإشارة الخفيفة لأي حاجة، كما يجوز عند الحنفية تكليم المصلي وإجابته برأسه، كما لو طلب منه، فأومأ بنعم أو لا.
أما الرد بالكلام فمبطل للصلاة اتفاقاً.
21ً - قراءة سورة أو آية في الركعتين الأخيرتين من الفريضة. واستثنى الشافعية المسبوق الذي سبق بالأولى والثانية، فله أن يقرأ السورة في الأخيرتين من صلاة الإمام؛ لأنهم أولياه، إذ إن ما أدركه المأموم هو أول صلاته. فإن لم يمكنه قراءتها فيهما قرأ في أخيرتيه، لئلا تخلو صلاته من السورة. ولو سبق بالأولى فقط قرأها في الثانية والثالثة.
22ً - الجهر بالقراءة في موضع الإسرار، والإسرار في موضع الجهر، والجهر عند الشافعية خلف الإمام. ويحرم الجهر إن شوش على غيره. ويسجد حينئذ على المشهور عند المالكية سجود السهو (1) .
23ً - يكره عند الشافعية: الزيادة في جلسة الاستراحة على قدر الجلوس بين السجدتين، وإطالة التشهد الأول، ولو بالصلاة على الآل فيه، والدعاء فيه، لبنائه على التخفيف، وترك الدعاء في التشهد الأخير خروجاً من خلاف من أوجبه، ومقارنة الإمام في أفعال الصلاة وأقوالها، للخلاف في صحة صلاته حينئذ.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص78.(2/144)
وهذه الكراهة الأخيرة تفوت فضيلة الجماعة، كالانفراد عن الصف، وترك فرجة فيه مع سهولة سدها، وهو مكروه أيضاً عند الحنفية، وتبطل الصلاة عند الحنابلة إن صلى وحده، والعلو على الإمام، والانخفاض عنه لغير حاجة ولو في المسجد، والاقتداء بالمخالف ونحو الفاسق والمبتدع، واقتداء المفترض بالمتنفل، ومصلي الظهر بمصلي العصر مثلاً وعكسه (1) ، ويكره تنزيهاً أيضاً عند الحنفية ارتفاع الإمام بما يقع به الامتياز عن المأمومين وعكسه، لما أخرجه الحاكم: «أنه صلّى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق، ويبقى الناس خلفه» وعللوه بأنه تشبه بأهل الكتاب، فإنهم يتخذون لإمامهم دكاناً أي مرتفعاً.
24ً - عقص الشعر (2) وتشمير الكم. وقيد المالكية كراهة تشمير الكم: بأن يكون لأجل الصلاة.
ودليل كراهة العقص ما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي رافع قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والكراهة تنزيهية بالاتفاق. وقيد الحنفية كراهة التشمير تحريماً برفع الكم إلى المرفقين، فلا يكره مادونهما، وكذا مادونهما كما في كتاب البحر.
25ً - الإقعاء: وهو أن يضع أليتيه على الأرض، وينصب ركبتيه. وقال المالكية: إنه محرم بهذا المعنى، ولا يبطل الصلاة على الأظهر، والمكروه عندهم له صور أربع، منها: أن يجعل بطون أصابعه للأرض، ناصباً قدميه، جاعلاً أليتيه على عقبيه، أو يجلس على القدمين، وظهورهما للأرض.
__________
(1) شرح الحضرمية: ص56.
(2) أي ليه وإدخال أطرافه في أصوله، وبعبارة أخرى: ضفره.(2/145)
ودليل كراهة الإقعاء: حديث أبي هريرة: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقر الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» (1) ، وعن علي، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تُقْع بين السجدتين» وعن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا رفعت رأسك من السجود، فلا تُقْع كما يُقْعي الكلب» (2) .
ويكره تنزيهاً التربع بغير عذر في الصلاة، لترك الجلسة المسنونة، ولا يكره خارجها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان جل جلوسه مع أصحابه التربع، وكذا عمر رضي الله عنه.
26ً - افتراش ذراعيه: أي مدُّهما كما يفعل السبع. لحديث عائشة في صحيح مسلم: «وكان ينهى عن عُقْبة الشيطان (3) ، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع» والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية.
27ً - قال المالكية كما بينا: يكره التصفيق في صلاة ولو من امرأة لحاجة تتعلق بالصلاة كسهو إمامه، أو سلامه بعد ركعتين في رباعية، أو بغير الصلاة كمنع مارّ بين يدي المصلي، أو تنبيه على أمر ما. والشأن المطلوب شرعاً لمن نابه شيء ـ وهو يصلي ـ التسبيح بأن يقول: سبحان الله.
وتكره في المذهب المالكي الصلاة على غير الأرض وما تنبته، كما ذكرنا سابقاً.
28ً - الصلاة في ثياب البِذْلة (التي يلبسها في بيته) ، والمهنة (أي الخدمة) إن كان له غيرها، وإلا فلا يكره. لقوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31/7] أي صلاة. والكراهة هنا تنزيهية اتفاقاً.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (نصب الراية:92/2) .
(2) رواهما ابن ماجه.
(3) وهو الإقعاء وهو أن يضع أليتيه على عَقِبيه بين السجدتين، وهذا معناه عند العرب. أما عند أهل الحديث: فهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه.(2/146)
29ً - الصلاة في السراويل أو الإزار مع القدرة على لبس القميص، والصلاة حاسراً (كاشفاً) رأسه، للتكاسل، ولا بأس به بقصد التذلل، لأن مبنى الصلاة على الخشوع. والكراهة هنا تنزيهية اتفاقاً، والمستحب شرعاً أن يصلي الرجل في ثوبين: قميص ورداء، أو قميص وسراويل، لما روى أبو داود وغيره عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له، فمن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل اشتمال اليهود» كما يستحب تغطية الرأس.
30ً - الصلاة بثياب فيها تصاوير الحيوان أو الإنسان (1) ، لقول أبي طلحة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة» (2) ولأنه يشبه حامل الصنم، ولحديث عائشة عن البخاري عن أنس قال: «كان قِرام ـ ستر رقيق ـ لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: أميطي عنك قرامك، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي» وكونه غير حرام أن زيد بن خالد روى الحديث الأول عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقال في آخره: «إلا رقما في ثوب» (3) .
وتكره الصلاة إلى صورة منصوبة أو تمثال فوق رأسه أو بين يديه أو بحذائه يمنة أو يسرة، ولوفي وسادة منصوبة لا مفروشة؛ لأنه يشبه سجود الكفار إليها، والتشبه بعبادة الأوثان والأصنام.
__________
(1) المغني:590/1، كشاف القناع:432/1، غاية المنتهى:103/1، المهذب:66/1، المجموع:185/3.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.(2/147)
ويكره السجود على الصورة ولو كانت صغيرة عند الحنابلة والشافعية، وقال الحنفية (1) : لا يكره إن كانت تحت قدميه؛ لأنه مهانة، أو محل جلوسه، أو في يده؛ لأنها مستورة بثيابه، أوعلى خاتمه بنقش غير مستبين، ولا يكره المستتر بكيس أو صورة أو ثوب آخر. والكراهة هنا تحريمية عند الحنفية، وأبان الحنفية أنه لا تكره الصلاة مع وجود صورة صغيرة لا تتبين تفاصيل أعضائها للناظر قائماً، وهي على الأرض، ولا الصورة المقطوعة الرأس أو الوجه أو ممحوة عضو لا تعيش بدونه، ولاصورة شيء غير ذي روح من النبات ونحوه؛ لأن كل هذه المذكورات لا تعبد. وخبر مسلم عن جبريل «إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب أو صورة» مخصوص بغير المهانة.
وقال الحنفية: لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق؛ لأنهما لا يعبدان. ولا بأس أن يصلي على ثوب فيه تصاوير، لأنه فيه استهانة بالصور. ولا تكره الصلاة لو كانت الصورة على وسادة ملقاة، أو على بساط مفروش.
ويكره الصليب في ثوب، لحديث عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه» (2) .
31ً - قال الحنفية: يكره تنزيهاً قيام بجملته في المحراب، لا سجوده فيه مع وجود قدميه خارجه، لئلا يمتاز الإمام عن المأمومين في المكان؛ لأن المحراب في معنى بيت آخر، وذلك صنيع أهل الكتاب؛ إلا إذا ضاق المكان، فلا كراهة.
وقالوا أيضاً: يكره تنزيهاً عد الآي والسور والتسبيح باليد في الصلاة مطلقاً، فرضاً أو نفلاً؛ لأن ذلك ليس من أعمال الصلاة، ولا يكره خارجها، ويكره أن يصلي أمام متحدثين تصدر عنهم أصوات، أو شغل، أو نائمين يخشى خروج شيء منهم مضحك.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:606/1 ومابعدها، فتح القدير:294/1 ومابعدها، البدائع:115/1.
(2) رواه أبو داود وأحمد (نيل الأوطار:102/2) .(2/148)
ويكره أيضاً السجود على كور عمامته إذا أصابت الجبهة الأرض، وإلا لم تصح الصلاة. ويكره الاعتجار: وهو لَفّ العمامة على الرأس وترك وسطه مكشوفاً.
وقالوا: لا بأس باتخاذ المسبحة لغير رياء.
32ً - الصلاة إلى نار موقدة، لما فيها من التشبه بالمجوس عبدة النار، وهذا كما قدمنا في بحث السترة متفق عليه، والكراهة تنزيهية اتفاقاً، إلا أن الشافعية لم يذكروا ذلك من المكروهات.
33ً - السدل في الصلاة: أي إرسال الثوب أو الرداء على الكتفين بلا لبس معتاد (كالحرام والملاءة) بدون أن يرد أحد طرفيه على الكتف الآخر. وهو عند غير المالكية مكروه بلا عذر، وإلا فلا يكره (1) ، لحديث أبي هريرة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن السَّدْل في الصلاة، وأن يُغطِّي الرجل فاه (2)
والكراهة تحريمية عند الحنفية. وقال المالكية: إلقاء الرداء على الكتفين مندوب، بل يتأكد لإمام المسجد (كالبرنس المغربي) المعروف.
34ً - اشتمال الصمَّاء: وهو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانباً، ولايبقي ما تخرج منه يده. وفسره بأن يلتحف بثوب واحد، ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجه. فعلى هذا التفسير يكون النهي للتحريم، وتفسد الصلاة معه (3) .
فإن لم يظهر الفرج بأن اشتمل بالثوب (كالحِرام ونحوه) بحيث لا يدع منفذاً يخرج منه يديه، كان مكروهاً اتفاقاً، والكراهة تحريمية عند الحنفية. لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه نهى عن لبستين: اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين فرجه وبين السماء شيء» (4) .
قال الشيرازي في المهذب: ويكره اشتمال الصماء: وهو أن يلتحف بثوب، ثم يخرج يده من قبل صدره (5) .
__________
(1) الدر المختار:597/1 ومابعدها، البدائع:218/1 ومابعدها، المجموع:183/3، كشاف القناع:319/1، غاية المنتهى:101/1، المغني:584/1.
(2) رواه أبو داود، ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة النهي عن السدل، ولابن ماجه: النهي عن تغطية الفم (نيل الأوطار:77/2 ومابعدها) وذكر للسدل معنى آخر كالإسبال: وهو إرسال الثوب حتى يصيب الأرض.
(3) المغني:584/1، نيل الأوطار:76/2.
(4) نيل الأوطار:76/2.
(5) المجموع:182/3، المهذب:65/1.(2/149)
35ً - قال الحنابلة (1) : تكره الصلاة في الثوب الأحمر، كما يكره للرجال لبسه: لما روى أحمد عن بعض الصحابة: «نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن لبس الحمرة» وعن عبد الله بن عمرو، قال: «دخل على النبي صلّى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلم» (2) .وقال الحنفية (3) : يكره تنزيهاً لبس المعصفر والمزعفر: الأحمر والأصفر للرجال، ولا بأس بسائر الألوان للنساء.
وقال مالك: يكره الثوب الأحمر لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في المهنة والبيوت. وأباح الشافعي لبس الثياب المصبوغة بالأحمر (4) .
36ً - قال المالكية (5) : يكره لباس مُحدِّد للعورة لرقته أو لضيقه وإحاطته، كسراويل، ولو بغير صلاة؛ لأنه ليس من زي السلف.
37ً - الاضطباع: وهو أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، ثم يلقي طرفه على كتفه الأيسر، ويترك الآخر مكشوفاً. وهو داخل في كيفية اشتمال الصماء المنهي عنه في الحديث السابق.
38ً - الإتيان بأذكار الانتقال كالتكبير والتسميع والتحميد في غير محلها، كأن يكبر للركوع بعد أن يتم ركوعه، أو يقول: سمع الله لمن حمده، بعد تمام القيام؛ لأن السنة أن يكون ابتداء الأذكار عند ابتداء الانتقال.
وقال الحنابلة: إن ذلك مبطل للصلاة إن تعمده.
__________
(1) المغني: 586/1.
(2) رواه الترمذي وأبو داود (جامع الأصول: 11/-28) .
(3) الدر المختار:252/5.
(4) القسطلاني شرح البخاري:430/8.
(5) الشرح الكبير:217/1 ومابعدها.(2/150)
وقال المالكية: إن ذلك خلاف المندوب.
39ً - ترك اتخاذ السترة أمام المصلي، كما بينا.
وأخيراً.. قال الحنفية: يكره تحريماً استقبال القبلة بالفرج في بيت الخلاء، للنهي عنه في السنة، ويكره الاستدبار، لما فيه من ترك التعظيم لها. وحديث النهي: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غربوا» (1) .
وهذا من المكروهات خارج الصلاة، وقد قدمنا الكلام عليه في بحث آداب قضاء الحاجة.
المطلب الثاني ـ الأماكن التي تكره الصلاة فيها:
حرم الحنابلة الصلاة في هذه الأماكن، وكره الشافعية والحنفية ذلك (2) والكراهة تحريمية عند الحنفية، لثبوت النهي عنها في السنة، ويذكرونها عادة في شروط الصلاة عند طهارة المكان، روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة، والمَجْزرة، والمَقْبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي أعطان الإبل، وفوق ظهر بيت الله» (3) وهو إن صح يدل على تحريم الصلاة في هذه المواطن وهو رأي الحنابلة. وحكمة النهي وتفصيل الحكم فيها يتجلى فيما يأتي:
__________
(1) رواه الأئمة عن أبي أيوب الأنصاري (نصب الراية:102/2) .
(2) البدائع:115/1 ومابعدها، الشرح الصغير:267/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص49،52، مغني المحتاج:203/1، حاشية قليوبي وعميرة:120/1، المهذب: 63/1، المجموع:164/3-168، المغني:67/2-76، كشاف القناع:341/1-349.
(3) رواه عبد بن حميد في مسنده، وابن ماجه والترمذي، وقال: إسناده ليس بذاك القوي، ففيه راو ضعيف (نيل الأوطار:138/2) .(2/151)
1ً - الصلاة في قارعة الطريق، أي أعلاه أو أوسطه: مكروهة عند الحنفية والشافعية (1) ؛ لأن الطريق ممر الناس، فلا يؤمن من المرور، ولا من النجاسة، إذ لا تخلو من الأرواث والأبوال، فينقطع الخشوع بممر الناس، فإن صلى فيه، صحت الصلاة؛ لأن المنع لترك الخشوع، أو لمنع الناس من الطريق، وذلك لا يوجب بطلان الصلاة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً:» وفي لفظ: «فحيثما أدركتك الصلاة، فصل، فإنه مسجد» وفي لفظ: «أينما أدركتك الصلاة فصل، فإنه مسجد» (2) . وذكر الشافعية: أن الصلاة تكره في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد.
وقال المالكية: تجوز الصلاة بلا كراهة في محجة الطريق والمزبلة والمقبرة والحمام والمجزرة، أي وسطها إن أمنت النجاسة. فإن لم تؤمن بأن كانت محققة أو مظنونة فهي باطلة، وإن كانت مشكوكة أعيدت على الأرجح في الوقت، إلا إذا صلى في الطريق لضيق المسجد وشك في الطهارة فلا إعادة عليه.
ولكن تظل الكراهة إن صلى بطريق من يمر بين يديه.
وقال الحنابلة: تحرم الصلاة ولا تصح في قارعة الطريق (3) والمزبلة والمقبرة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل، كما لا تصح الصلاة في أسطحتها؛ لأن الهواء تابع للقرار فيها، بدليل أن الجنب يمنع من اللبث على سطح المسجد، وأن من حلف لا يدخل داراً يحنث بدخول سطحها.
ولا تصح الصلاة في ساباط على طريق؛ لأن الهواء تابع للقرار فيها، ولا على سطح نهر؛ لأن الماء كالطريق لا يصلى عليه.
__________
(1) المعتمد عند الشافعية: الكراهة في طريق البنيان لا البرية.
(2) متفق عليه.
(3) قارعة الطريق: يعني التي تقرعها الأقدام. ومحجة الطريق: الجادة المسلوكة التي تسلكها السابلة أي المارة.(2/152)
واستثنوا صلاة الجنازة في المقبرة وعلى سطحها، فإنها تصح، كما استثنوا طريق البيوت القليلة وما علا عن جادة الطريق يمنة ويسرة، فتصح الصلاة فيه بلا كراهة، لأنه ليس بمحجة. وتجوز الصلاة في هذه الأماكن لعذر، كأن حبس فيها.
وقالوا: المنع من هذه المواضع تعبدي، لا لعلة معقولة بوهم النجاسة ونحوه. ودليلهم العمل بنص رواية ابن عمر. هذا ماذكر في كشاف القناع. وقال ابن قدامة في المغني: الصحيح أنه لا بأس بالصلاة إلى شيء من هذه المواضع إلا المقبرة؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجداً» يتناول الموضع الذي يصلي فيه من هي في قبلته. لكن يكره أن يصلي إلى هذه المواضع، فإن فعل صحت صلاته. وعليه يكون رأي الحنابلة كالجمهور.
ودليلهم على استثناء المقابر: حديثان صحيحان وهما: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك، وقال: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) فلا تصح الصلاة إلى القبور للنهي عنها، ويصح إلى غيرها لبقائها في عموم الإباحة، وامتناع قياسها على ما ورد النهي فيه.
2ً - الصلاة في داخل الحمام: مكروهة عند الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنها مأوى الشياطين، ومظنة انكشاف العورات، ومصب الغسالات والنجاسات عادة.
3ً - الصلاة في معاطن الإبل، أي مباركها (2) : مكروهة عند القائلين بنجاسة أبوالها وأرواثها، وهم الحنفية والشافعية، أو لما فيها من النفور، فربما نفرت، وهو في الصلاة، فتؤدي إلى قطعها، أو أذى يحصل له منها، أو تشويش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة.
__________
(1) الحديث الأول رواه مسلم والنسائي عن جندَب بن عبد البَجَلي. والثاني رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (نيل الأوطار:136/2، الجامع الصغير:80/2) .
(2) أي موضع بروكها عند شربها، والمعاطن: جمع معطن، والعطن: مبرك الإبل حول الماء.(2/153)
وتكره الصلاة في مبارك الإبل عند المالكية أيضاً، للعلة السابقة غير النجاسة، ولا تكره في مرابض (مجالس) الغنم والبقر، بدليل حديث أبي هريرة: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» (1) وعدم كراهة الصلاة في مرابض الغنم متفق عليه.
وتعاد الصلاة في الوقت عندهم إن صليت في معاطن الإبل، وإن أمنت النجاسة، أو فرش فراش طاهر، تعبداً على الأظهر.
4ً - الصلاة في المزبلة والمجزرة: مكروهة عند غير المالكية، لمجاورة النجاسة، أو مظنة وجودها، فالأولى موضع النجاسة، ومجمع الأوساخ والنفايات والذباب والثانية: موضع ذبح الحيوان. وذلك إذا بسط على الموضع طاهراً وصلى عليه، وإلا لم تصح الصلاة؛ لأنه مصل على نجاسة، وتكره عند الشافعية على الحائل إذا كانت النجاسة محققة، فإن بسطه على ما غلبت فيه النجاسة، لم تكره.
والْحُش (2) المعد لنجاسة أولى بمنع الصلاة فيه من بابه وموضع الكنيف (مجمع الأوساخ) ، وسطحه؛ لأنه لما منع الشرع من ذكر الله والكلام فيه، كان منع الصلاة فيه من باب أولى.
5ً - الكنيسة (معبد النصارى) والبِيعة (معبد اليهود) ونحوهما من أماكن الكفر: تكره الصلاة فيها عند الجمهور وابن عباس، مطلقاً عامرة أو دارسة؛ إلا لضرورة كحر أو برد أو مطر، أو خوف عدو أو سبع، فلا كراهة.
وحكمة الكراهة: أنها مأوى الشياطين، لأنها لا تخلو من التماثيل والصور، ولأنها موضع فتنة وأهواء، مما يمنع الخشوع.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وصححه (نيل الأوطار:137/2) والمرابض للغنم كالمعاطن للإبل فهي المراقد.
(2) بفتح الحاء وضمها: وهو ما أعد لقضاء الحاجة، ولو مع طهارته من النجاسة. وأصله لغة: البستان، ثم أطلق على محل قضاء الحاجة؛ لأن العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، وهي الحشوش، فسميت الأخلية في الحضر حشوشاً.(2/154)
وقالت الحنابلة: لا بأس بالصلاة في الكنيسة النظيفة، وقد رخص فيها الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وروي أيضاً عن عمر وأبي موسى الأشعري. واستدلوا: بأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وفيها صور (1) ، وهي داخلة في عموم قوله عليه السلام: «فأينما أدركتك الصلاة، فصل، فإنه مسجد» .
قال النووي في المجموع: وتكره الصلاة في مأوى الشياطين كالخمارة وموضع المكس ونحو ذلك من المعاصي الفاحشة.
6ً - الصلاة في المقبَرة: مكروهة عند الجمهور غير المالكية، لنجاسة ما تحتها بالصديد ولما فيها من التشبه باليهود، كما في الحديث السابق: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجداً» ، ولهم تفصيل في شأن الصلاة في المقابر:
قال الحنفية: تكره الصلاة في المقبرة إذا كان القبر بين يدي المصلي، بحيث لو صلى خاشعاً وقع بصره عليه. أما إذا كان خلفه أو فوقه أو تحته فلا كراهة على التحقيق، كما لا كراهة في الموضع المعد للصلاة بلا نجاسة ولا قذر، ولا تكره الصلاة مطلقاً في أماكن قبور الأنبياء.
وقال الشافعية: تكره الصلاة في المقبرة التي لم تنبش، سواء أكانت القبور أمامه أم خلفه أم عن يمينه أم شماله، أم تحته، إلا مقابر الأنبياء وشهداء المعركة؛ لأن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وإنما هم أحياء في قبورهم يصلون، كما أن الشهداء أحياء، إلا إن قصد تعظيمهم فيحرم. أما المقبرة المنبوشة فلاتصح الصلاة فيها بغير حائل ومعه تكره.
وقال الحنابلة: المقبرة: ما احتوت على ثلاثة قبور فأكثر في أرض موقوفة للدفن، فإن لم تحتو على ثلاثة فالصلاة فيها صحيحة بلا كراهة إن لم يستقبل القبر، وإلا كره.
__________
(1) حقق ابن القيم في زاد المعاد أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم فتح مكة، فأزال الصور منها، ثم كبر في جهاتها الأربع، ولم يصل.(2/155)
ولا تصح الصلاة عندهم في المقابر، لحديث أبي سعيد مرفوعاً: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» (1) وتكره الصلاة إلى المقبرة بلا حائل لحديث أبي مَرْثد الغَنَوي: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها» (2) .
وحديث ابن عمر: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً» (3) .
وذلك سواء حدث المسجد بعد المقبرة أم حدثت المقبرة بعده، حوله أو في قبلته.
7ً - الصلاة فوق الكعبة: مكروهة لما فيها من ترك التعظيم المأمور به، ولعدم وجود السترة الثابتة بين يدي المصلي، لأنه مصلٍ على البيت لا إلى البيت. ولكن تصح الصلاة على ظهر الكعبة أو في الكعبةإذا كانت نافلة بالاتفاق، ولا تصح الفريضة فيهما عند المالكية والحنابلة، وتصح فيهما الصلاة مطلقاً فرضاً أو نفلاً عند الحنفية والشافعية، كما بينا في شرط استقبال القبلة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم (صلى في البيت ركعتين) إلا أنه إن صلى تلقاء الباب، أو على ظهرها وكان بين يديه شيء من بناء الكعبة متصل بها، صحت صلاته عند الحنابلة، فإن لم يكن بين يديه شاخص، لا تصح صلاته عندهم؛ لأنه غير مستقبل لشيء منها.
لكن قال ابن قدامة (4) : والأولى أنه لا يشترط كون شيء منها بين يديه؛ لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها، دون حيطانها، بدليل ما لو انهدمت الكعبة، صحت الصلاة إلى موضعها، ولو صلى على جبل عال يخرج عن مسامتتها، صحت صلاته إلى هوائها، فكذا ههنا.
المطلب الثالث ـ ما لايكره فعله في الصلاة:
تبين مما سبق أن الصلاة لا تكره في الأفعال الآتية عند الحنفية (5) :
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي، وأخرجه أيضاً الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، روي مرسلاً (نيل الأوطار:133/2) .
(2) رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه (نيل الأوطار:134/2) .
(3) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار:135/2) .
(4) المغني:74/2.
(5) مراقي الفلاح: ص59.(2/156)
1 - لا بأس بالصلاة إلى ظهر إنسان قائم أو قاعد، ولو كان يتحدث ما لم يكن منه تشويش للصلاة؛ لأن ابن عمر ربما كان يستتر بمولاه (نافع) في بعض أسفاره.
2 - ولا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لايعبدان.
3 - لا يكره السجود على بساط فيه تصاوير لذي روح، لم يسجد عليها؛ لأن فيه استهانة بالصور بالوطء عليها.
4 - لا يكره باتفاق العلماء قتل حية وعقرب ونحوهما من كل حيوان مؤذ، ولو بضربتين، ما لم يقتض ذلك عملاً كثيراً، ولو أدى إلى الانحراف عن القبلة، لحديث أبي هريرة السابق: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة: العقرب والحية» (1) .
5 - لا مانع من نفض ثوبه بعمل قليل، كيلا يلتصق بجسده في الركوع، تحاشياً عن ظهور الأعضاء.
6 - لا بأس باتفاق العلماء بالفتح على الإمام من المأموم إذا أرتج عليه، أو غلط في التلاوة، لما فيه من التنبيه إلى ما هو مشروع في الصلاة، كما سيأتي في بحث مبطلات الصلاة.
7 - المراوحة بين الرِجْلين: بأن يعتمد مرة على هذه، ومرة على هذه، لأنه أدعى لطول القيام، وتكره إذا كثرت، لدلالتها على الملل وهو مكروه.
المطلب الرابع ـ ما تحرم الصلاة فيه (الصلاة في الموضع المغصوب) :
الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع؛ لأن اللبث فيها يحرم في غير الصلاة، فلأن يحرم في الصلاة أولى (2) .
وهل تصح الصلاة في المكان المغصوب؟
__________
(1) رواه الخمسةوصححه الترمذي (نيل الأوطار:336/2) .
(2) المجموع:169/3، المهذب:64/1، البدائع:116/1، المغني:588/1، و74/2، كشاف القناع:313/1، 343-346.(2/157)
قال الجمهور غير الحنابلة: الصلاة صحيحة؛ لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها، كما لو صلى وهو يرى غريقاً يمكنه إنقاذه، فلم ينقذه، أو حريقاً يقدر على إطفائه فلم يطفئه، أو مطلَ غريمه الذي يمكن إيفاؤه وصلى. ويسقط بها الفرض مع الإثم، ويحصل بها الثواب، فيكون مثاباً على فعله، عاصياً بمقامه، وإثمه إذن للمكث في مكان مغصوب.
وقال الحنابلة في الأرجح عندهم: لا تصح الصلاة في الموضع المغصوب، ولو كان جزءاً مشاعاً، أو في ادعائه الملكية، أو في المنفعة المغصوبة من أرض أو حيوان أو بادعاء إجارتها ظالماً، أو وضع يده عليها بدون حق؛ لأنها عبادة أتى بها على الوجه المنهي عنه، فلم تصح، كصلاة الحائض وصومها؛ لأن النهي يقتضي تحريم الفعل واجتنابه والتأثيم بفعله، فكيف يكون مطيعاً بما هو عاص به، ممتثلاً بما هو محرم عليه، متقرباً بما يبعد به؟! فإن حركاته وسكناته من القيام والركوع والسجود أفعال اختيارية، هو عاص بها منهي عنها. ويختلف الأمر عن إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق؛ لأن أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها.
وأضاف الحنابلة: أنه يصح الوضوء والأذان وإخراج الزكاة والصوم والعقود كالبيع والنكاح وغيرهما، والفسوخ كالطلاق والخلع، في مكان مغصوب؛ لأن البقعة ليست شرطاً فيها، بخلاف الصلاة.
وتصح الصلاة في بقعة أبنيتها غصب، ولو استند إلى الأبنية لإباحة البقعة المعتبرة في الصلاة.
وتصح صلاة من طولب برد وديعة أو رد غصب، قبل دفعها إلى صاحبها، ولو بلا عذر؛ لأن التحريم لا يختص بالصلاة. ولو صلى على أرض غيره ولو كانت مزروعة بلا ضرر ولا غصب، أو صلى على مصلاه بلا غصب ولا ضرر، جاز وصحت صلاته.
وإن صلى في غصب من بقعة أو غيرها جاهلاً أو ناسياً كونه غصباً، صحت صلاته؛ لأنه غير آثم.
وإذا حبس في مكان غصب، صحت صلاته، لحديث: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .(2/158)
الأرض المسخوط عليها: وتصح الصلاة في الأرض المسخوط عليها، كأرض الخسف، وكل بقعة نزل فيها عذاب، كأرض بابل، وأرض الحِجْر (1) ، ومسجد الضرار (2) ، وتكره الصلاة في هذه المواضع؛ لأن هذا المسجد موضع مسخوط عليه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم يوم مر بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم» (3) .
ملحق بأنواع اللباس في الصلاة:
ذكر الشافعية والحنابلة أنواعاً أربعة للباس (4) :
1 - ما يجزئ من اللباس:
هو ثوب واحد يستر العورة، وبعضه ـ عند الحنابلة ـ أو غيره على عاتقه لما روى عمرو بن سلمة «أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، في بيت أم سلمة، قد ألقى طرفيه على عاتقه» (5) ، وعن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإذا كان ضيقاً، فائتزر به» (6) وغير ذلك من الأحاديث.
ويجب ستر العورة بما لا يصف البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو ورق، فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة من ثوب رقيق، لم يجز؛ لأن الستر لا يحصل بذلك.
2 - ثياب الفضيلة:
__________
(1) ديار ثمود بين المدينة والشام، وهم قوم صالح عليه السلام.
(2) هو مسجد بناه المنافقون، مجاور لمسجد قباء في المدينة، ليكون مركزاً للمؤامرات، وفيه نزلت الآيات: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل ... } (الآية107من سورة التوبة) .
(3) تفسير ابن كثير:556/2.
(4) المغني:582/1-588، المهذب:64/1-66.
(5) متفق عليه.
(6) رواه البخاري وغيره.(2/159)
وهو أن يصلي الرجل في ثوبين أو أكثر، فإنه أبلغ وأعم في الستر، روي عن عمر أنه قال: «إذا أوسع الله فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه، صلى رجل في إزار وبرد، أو في إزار وقميص، في إزار وقباء، في سراويل ورداء، في سراويل وقميص، في سراويل وقباء، في تُبّان وقميص» (1) ، وقال عمر أيضاً: «إذا كان لأحدكم ثوبان، فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب واحد، فليتزر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود» (2) .
والمستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: خمار تغطي به الرأس والعنق، ودِرْع تغطي به البدن والرجلين، وملحفة صفيقة، تستر بها الثياب، لقول عمر رضي الله عنه: «تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار» ولقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: «تصلي في الدرع، والخمار والملحفة» .
والمستحب أن تكثف المرأة جلبابها، حتى لايصف أعضاءها، وتجافي الملحفة عنها في الركوع والسجود، حتى لايصف ثيابها.
3 - الثياب المكروهة:
اشتمال الصماء:
وهو أن يلتحف بثوب، ثم يخرج يديه من قبل صدره، كالعباءة اليوم. وقيل: أن يضطبع بالثوب ليس عليه غيره. ومعنى الاضطباع: أن يضع وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على منكبيه الأيسر، ويبقى منكبه الأيمن مكشوفاً. وقد سبق بيان ذلك في مكروهات الصلاة.
ويكره السدل أيضاً: وهو أن يلقي طرف الرداء من الجانبين، ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، ولا يضم الطرفين بيديه، كالحرام أو الملاءة الآن. وقد سبق بيانه.
__________
(1) رواه البخاري، والتُبَّان: بالضم والتشديد: سروال صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة، وقد يكون للملاَّحين.
(2) رواه أبو داود.(2/160)
ويكره أيضاً إسبال القميص والإزار والسراويلات على وجه الخيلاء، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» (1) وقوله أيضاً: «من أسبل إزاره في صلاته خيلاء، فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام» (2) .
ويكره أن يغطي الرجل وجهه أو فمه، لما ذكرنا من حديث أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى أن يغطي الرجل فاه» .
وروي عن الحنابلة في كراهة التلثم على الأنف روايتان: إحداهما: يكره لأن ابن عمر كرهه. والأخرى: لا يكره: لأن النهي ورد في تغطية الفم.
وتكره الصلاة في الثوب المزعفر للرجل، وكذلك المعصفر؛ لأن «النبي صلّى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر» (3) وروى مسلم عن علي قال: «نهاني النبي صلّى الله عليه وسلم عن لباس المعصفر» وقال عبد الله بن عمرو: «رأى النبي صلّى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: إن هذا من ثياب الكفار، فلا تلبسهما» .
ولا يكره شد الوسط بمنطقة أو مئزر أو ثوب أو شد قباء.
ويكره للرجال عند الحنابلة لبس الثوب الأحمر والصلاة فيه، لحديث عبد الله ابن عمرو السابق: أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يرد السلام على رجل عليه بردان أحمران، قال ابن القيم: وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم من غير معارض النهي عن لبس المعصفر والأحمر (4) .
4 - ما يحرم لبسه والصلاة فيه:
وهو قسمان:
أـ قسم يعم الرجال والنساء: وهو نوعان: الأول: النجس: فلا تصح الصلاة فيه ولا عليه؛ لأن الطهارة من النجاسة شرط.
والثاني: المغصوب، وتصح الصلاة فيه عند الجمهور، ولا تصح فيه عند الحنابلة كما بينا.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أبو داود عن ابن مسعود، ورواه أيضاً الترمذي والنسائي عن ابن عمر، وقال الترمذي: حديث صحيح.
(3) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) .
(4) زاد المعاد:441/1، ط الرسالة.(2/161)
ب ـ ما يختص تحريمه بالرجال دون النساء: وهو الحرير، والمنسوج بالذهب، والمموه به، يحرم لبسه وافتراشه في الصلاة وغيرها. لقوله صلّى الله عليه وسلم: «حرم لباس
الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم» (1) وقوله أيضاً: «لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة» (2) .
ولا خلاف في تحريم الحرير على الرجال إلا لعارض أو عذر. وسيأتي مزيد بيان لذلك في بحث الحظر والإباحة.
5 - ما تخالف فيه المرأة الرجل:
يسن للمرأة مخالفة الرجل في ستة أمور ذكرها الشافعية:
أولاً ـ تضم بعضها إلى بعض في السجود، بأن تضم مرفقيها إلى جنبيها وتلصق بطنها بفخذيها، أما الرجل فيباعد مرفقيه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، لحديث رواه البيهقي في المرأة (3) .
ثانياً ـ تخفض المرأة صوتها في حضرة الرجال الأجانب، أما الرجل فيسن له الجهر في الصلاة الجهرية.
ثالثاً ـ تصفق المرأة بيدها اليمنى على ظهر كف اليسرى إذا نابها شيء أثناء الصلاة، أما الرجل فيسبح بصوت مرتفع، لحديث رواه الشيخان عن سهل بن سعد (4) .
رابعاً ـ جميع بدن المرأة عورة إلا الوجه والكفين، أما الرجل فعورته ما بين سرته وركبته، كما تقدم في شروط الصلاة.
خامساً ـ تسن الإقامة للمرأة دون الأذان، فيكره لها رفع صوتها به، أما الرجل فيسن له الأذان والإقامة عند كل صلاة مكتوبة في مذهب الشافعية.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي موسى، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3) نصه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين تصليان، فقال: «إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل» .
(4) نصه: «من رابه شيء في صلاته فليسبِّح، فإنه إذا سبَّح التُفت إليه، وإنما التصفيق للنساء» .(2/162)
سادساً ـ تقف المرأة وسط النساء في إمامتهن، وخلف الرجال في إمامة الرجل، أما الرجل فيتقدم المأمومين، ويقف الرجال في الصف الأول (1) .
المبحث الخامس ـ الأذكار الواردة عقب الصلاة:
يسن ذكر الله والدعاء المأثور عقب الصلاة، إما بعد الفريضة مباشرة إذا لم يكن لها سنة بعدية كصلاة الفجر وصلاة العصر، وإما بعد الانتهاء من السنة البعدية كصلاة الظهر والمغرب والعشاء؛ لأن الاستغفار يعوض نقص الصلاة، والدعاء سبيل الحظوة بالثوا ب والأجر بعد التقرب إلى الله بالصلاة.
ويأتي بالأذكار سراً على الترتيب التالي إلا الإمام المريد تعليم الحاضرين فيجهر إلى أن يتعلموا، ويقبل الإمام على الحاضرين، جاعلاً يساره إلى المحراب (2) ،قال سمرة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى أقبل علينا بوجهه» (3) .
1ً - يقول: (أستغفر الله) ثلاثاً، أو (استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه) ثلاثاً. ثم يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، وإليك السلام، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام) لما روى ثوبان أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان إذا سلم ـ وفي لفظ إذا انصرف من صلاته ـ استغفر ثلاثاً، ويقول: اللهم أنت السلام
__________
(1) الحضرمية: ص33، 46، 51، 68.
(2) الدر المختار:595/1، القوانين الفقهية: ص66، الشرح الصغير:410/1 ومابعدها، المهذب:80/1، المغني:559/1 ومابعدها، كشاف القناع:426/1 ومابعدها.
(3) رواه البخاري: وروى مسلم وأبو داود عن البراء بن عازب قال: «كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه» (نيل الأوطار:306/2) .(2/163)
ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (1) .
ثم يقول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» لحديث معاذ ابن جبل، قال: «لقيني النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة ـ أو في دبر كل صلاة ـ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (2) .
2ً - يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/112] ، والمعوذتين {قل أعوذ برب الفلق} [الفلق:1/113] ، {قل أعوذ برب الناس} [الناس:1/114] والفاتحة؛ لما روى الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي في د ُ بُر الصلاة المكتوبة، كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى» (3) ، ولخبر أبي أمامة: «من قرأ آية الكرسي، وقل: هو الله أحد، دُبُر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» (4) .
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار:300/2) وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلَّم، لم يقعد، إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (المصدر السابق: ص305) .
(2) رواه أحمد والنسائي، وأبو داود، ولفظ الأخير: «في دُبُر كل صلاة» أي بعدها على الأقرب. وتخصيص الوصية بهذه الكلمات، لأنها مشتملة على جميع خير الدنيا والآخرة (نيل الأوطار:291/2) .
(3) رواه الطبراني.
(4) إسناده جيد، وقد تكلم فيه، رواه النسائي والطبراني، وزاد: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:112/11] ، وابن حبان في صحيحه. والدبر: نقيض القبل من كل شيء، عقبه ومؤخره (سبل السلام:200/1) .(2/164)
ولما روي عن عقبة بن عامر، قال: «أمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات (1) دبر كل صلاة» (2) .
3ً - يسبح الله يقول (سبحان الله) ، ويحمده يقول (الحمد لله) ، ويكبره يقول (الله أكبر) ثلاثاً وثلاثين، ثم يختم تمام المئة بقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» لحديث أبي هريرة، قال: «من سبَّح الله دُ بُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحَمِد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسع وتسعون ـ عدد أسماء الله الحسنى ـ وقال: تمام المئة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفرت خطاياه، ولو كانت مثلَ زَبَد البحر» (3) وورد أيضاً: «أن يسبح ويكبر ويحمد عشراً عشراً» (4) .
وعن المغيرة بن شُعبة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت (5) ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ» (6) ، وروى مسلم عن ابن الزبير نحوه، وزاد بعد (قدير) : «ولا حول ولا قوة إلا بالله،
__________
(1) تشمل الإخلاص من باب التغليب، فيراد بها الإخلاص والمعوذتان.
(2) له طرق، وهو حديث حسن أو صحيح، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: غريب. قال بعض الحنابلة: وفي هذا سر عظيم في دفع الشر من الصلاة إلى الصلاة.
(3) رواه مسلم، وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة: «أن التكبير أربع وثلاثون» وبه تتم المئة (سبل السلام:198/1) .
(4) رواه الخمسة وصححه الترمذي عن عبد الله بن عمر (نيل الأوطار:301/2) .
(5) ووقع عند عبد بن حميد بعده: (ولا راد لما قضيت) .
(6) متفق عليه، زاد الطبراني: «له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير» ورواته موثقون. (نيل الأوطار:300/2، سبل السلام:197/1) .(2/165)
لا إله إلاالله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» .
4ً - يقول ـ قبل القراءة والتحميد وغيرهما من المذكور في الرقمين السابقين ـ بعد صلاتي الصبح والمغرب، وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم، عشر مرات: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير» لخبر أحمد عن عبد الرحمن بن غُنم مرفوعاً (1) .
ويقول أيضاً وهو على الصفة المذكوة سبع مرات: (اللهم أجرني من النار) لحديث مسلم بن الحارث التميمي عن أبيه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أسرَّ إليه، فقال: إذا انصرفت من صلاة المغرب، فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات» وفي رواية: «قبل أن تكلم أحداً، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك، كتب لك جواراً منها، وإذا صليت الصبح، فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من يومك، كتب لك جواراً منها، قال الحارث: أسر بها النبي صلّى الله عليه وسلم، ونحن نخص بها إخواننا» (2) .
5ً - ثم يدعو المصلي لنفسه وللمسلمين بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وخصوصاً بعد الفجر والعصر، لحضور ملائكة الليل والنهار فيهما، فيؤمِّنون على الدعاء، فيكون أقرب للإجابة. وأفضل الدعا هو المأثور في السنة، مثل ما روى سعد بن أبي وقاص: أنه كان يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يُعلِّم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كا ن يتعوَّذ بهن دُبُر الصلاة: اللهم إني أعوذ
__________
(1) رواه أيضاً الترمذي والنسائي، وقال الأول: حسن صحيح، وفي بعض رواته كلام سيء جداً، ولم يذكر النسائي: المغرب.
(2) رواه أبو داود وأحمد وابن حبان في صحيحه، وفي راو لا يعرف.(2/166)
بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبْن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر» (1) .
ومن أهم آداب الدعاء (2) :
رفع اليدين حتى يرى بياض إبطيه، وغاية الرفع إلى حذو المنكبين إلا إذا اشتد الأمر، ثم مسح الوجه بهما، اتباعاً للسنة، روى أبو داود بإسناد حسن عن مالك ابن يسار مرفوعاً: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها» ، وتكون اليدان مضمومتين لما روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه، وجعل بطونهما مما يلي وجهه» لكن ضعفه في المواهب.
ثم يبدأ الدعاء بالحمد لله والثناء عليه، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء» (3) وأفضل تحري مجامع الحمد مثل: (الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك) .
ويختم دعاءه بالحمد لله، لقوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس:10/10] كما يختم دعاءه بالآية الكريمة: {سبحان ربك رب
__________
(1) رواه البخاري والترمذي وصححه. والمراد بالبخل: منع ما يجب إخراجه من المال شرعاً، أو عادة. والجبن: مهابة الأشياء والتأخر عن فعلها. وفتنة الدنيا: الاغترار بشهواتها المفضي إلى ترك القيام بالواجبات. وهي فتنة المحيا في حديث التعوذ من أربع في الصلاة، وخصت هذه الأمور بالتعوذ منها لأنها من أعظم الأسباب المؤدية إلى الهلاك باعتبار ما يتسبب عنها من المعاصي المتنوعة (نيل الأوطار:2/303) .
(2) انظر أيضاً الإحياء للغزالي: (1/274-278) .
(3) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه.(2/167)
العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين} [الصافات:182/37] ، قال علي كرم الله وجهه: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» (1) .
ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم أول الدعاء وآخره، لخبر جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «لاتجعلوني كقَدَح الراكب (2) ، فإن الراكب يملأ قدحه، ثم يضعه، ويرفع متاعه، فإن احتاج إلى شراب شرب، أو لوضوء توضأ، وإلا أهراقه، ولكن اجعلوني في أول الدعاء، وأوسطه، وآخره» (3) .
ويستقبل الداعي غير الإمام القبلة؛ لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة. ويكره للإمام استقبال القبلة، بل يستقبل الإمام المأمومين للحديث السابق: أنه صلّى الله عليه وسلم كان ينحرف إليهم إذا سلم.
ويلحُّ الداعي في الدعاء مع الخشية، لحديث: «إن الله يحب الملحِّين في الدعاء» (4) وحديث: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل» (5) ويكرر الدعاء ثلاثاً؛ لأنه نوع من الإلحاح، قال ابن مسعود: «كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً» (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) أي لا تؤخروني في الذكر؛ لأن الراكب يعلِّق قدحه في آخر رحله من تَرْحاله، ويجعله خلفه. (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير) .
(3) رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 155/10) .
(4) رواه الترمذي وابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة (الفتح الكبير:355/1) .
(5) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: غريب، ورواه أحمد والحاكم وغيرهما أيضاً.
(6) رواه مسلم وأصله متفق عليه (تخريج أحاديث الإحياء للعراقي:276/1) .(2/168)
ويكون متطهراً، ويقدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار.
والدعاء سراً أفضل منه جهراً، لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف:55/7] لأنه أقرب إلى الإخلاص. ويكره رفع الصوت بالدعاء في الصلاة وغيرها إلا لحاج لحديث: «أفضل الحج: العَجّ والثجّ» (1) .
ويعم بالدعاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي عمم» .
ويكون دعاؤه بتأدب في هيئته وألفاظه، وخشوع وخضوع، وعزم ورغبة، وحضور قلب ورجاء، للحديث السابق: «لا يستجاب من قلب غافل» وشرط الدعاء: الإخلاص.
ويتوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده، ويقدم بين دعائه صدقة، ويتحرى أوقات الإجابة وهي:
الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام المنبر يوم الجمعة، حتى تنقضي الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من يوم الجمعة. ويوم عرفة ويوم الجمعة، وعند نزول الغيث، وعند زحف الصفوف في سبيل الله تعالى، وحالة السجود.
وينتظر الإجابة، للحديث السابق: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ولا يَعْجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي» لما في الصحيح مرفوعاً: «يستجاب لأحدكم، ما لم يَعْجل، قالوا: وكيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: قد دعوت، فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك» .
ولا يكره عند الحنابلة رفع بصره إلى السماء (2) ، ولا بأس أن يخص نفسه بالدعاء، لحديث أبي بكرة، وأم سلمة، وسعد بن أبي وقاص، إذ أولها: «اللهم إني أعوذ بك وأسألك» فهو يخص نفسه الكريمة صلّى الله عليه وسلم، ولحديث عائشة: «أفضل الدعاء: دعاء المرء لنفسه» (3) .
ويستحب أن يخفف الدعاء؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى عن الإفراط في الدعاء» (4) والإفراط يشمل كثرة الأسئلة.
ويدعو بدعاء مأثور، إما من القرآن أو السنة أو عن الصحابة أو التابعين، أو الأئمة المشهورين. من ذلك ما روته أم سلمة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً» (5) .
__________
(1) رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه البيهقي والحاكم وابن ماجه عن أبي بكر، ورواه أبو يعلى عن ابن مسعود، وهو ضعيف.
(2) كشاف القناع:430/1، واستدل بحديث المقداد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني» ويعارضه حديث أبي هريرة عند البزار، ورجاله ثقات: «لينتهين ناس عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء حتى تخطف ـ يعني تخطف أبصارهم» (مجمع الزوائد:167/10) .
(3) رواه الحاكم عن عائشة، وهو صحيح.
(4) ذكره في كشاف القناع:431/1.
(5) رواه أحمد وابن ماجه وابن أبي شيبة (نيل الأوطار:304/2) .
[التعليق]
(1) * العَجُّ: رفعُ الصَّوت بالتّلْبِيةِ.
الثَّجُّ: سَيلان دماء الهدْي والأضاحي. (انظر النهاية في غريب الأثر لابن الأثير)
* أبو أكرم الحلبي(2/169)
ومن الأدعية المأثورة الجامعة: (اللهم إني أسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل والفشل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودَرْك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء) .
ما يستحب للمصلي بعد انتهاء الصلاة المفروضة:
استحب الفقهاء بعد انتهاء الفريضة مايأتي (1) :
1ً - يستحب الانتظار قليلاً أو اللبث للإمام مع المصلين، إذا كان هناك نساء، حتى ينصرف النساء ولا يختلطن بالرجال، لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلَّم، قام النساء، حتى يقضي تسليمَه، وهو يمكث في مكانه يسيراً، قبل أن يقوم، قالت: فنُرى ـ والله أعلم ـ أن ذلك كان لكي ينصرف النساء، قبل أن يُدركَهن الرجال (2) .
2ً - وينصرف المصلي في جهة حاجته إن كانت له يميناً أو شمالاً، فإن لم تكن له حاجة، انصرف جهة يمينه، لأنها أفضل، لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظاً من صلاته، يرى حقاً عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثيراً ما ينصرف عن شماله» (3) وعن قبيصة بن هُلْب عن أبيه: «أنه صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان ينصرف عن شقيه» (4) .
__________
(1) المهذب:81/1، المغني:560/1-562.
(2) رواه البخاري وأحمد (نيل الأوطار:309/2) .
(3) رواه مسلم.
(4) رواه أبو داود وابن ماجه.(2/170)
3ً - يندب أن يفصل المصلي بين الفرض والسنة بكلام أو انتقال من مكانه، والفصل بالانتقال أفضل، للنهي عن وصل ذلك إلا بعد المذكور، والانتقال أفضل تكثيراً للبقاع التي تشهد له يوم القيامة. ويفصل بين الصبح وسنته باضطجاع على جنبه الأيمن أو الأيسر، اتباعاً للسنة.
وقال أحمد: لا يتطوع الإمام في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة، كما قال
علي رضي الله عنه. وقال أحمد أيضاً: من صلى وراء الإمام، فلا بأس أن يتطوع مكانه، كما فعل ابن عمر. روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي فيه بالناس» (1) وذكر الشافعية (2) أن النفل الذي لا تسن فيه الجماعة صلاته في البيت أفضل منه بالمسجد، للخبر الصحيح: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» لتعود بركة صلاته على منزله.
المبحث السادس ـ القنوت في الصلاة:
يندب القنوت (3) في الصلاة، لكن الفقهاء اختلفوا في تحديد الصلاة التي يقنت فيها على آراء، فقال الحنفية والحنابلة: يقنت في الوتر، قبل الركوع عند الحنفية، وبعد الركوع عند الحنابلة، ولا يقنت في غيره من الصلوات.
وقال المالكية والشافعية: يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع، والأفضل عند المالكية قبل الركوع، ويكره عند المالكية على الظاهر القنوت في غير الصبح.
__________
(1) المغني:562/1.
(2) شرح الحضرمية: ص49.
(3) القنوت: الدعاء والتضرع.(2/171)
ويستحب عند الحنفية والشافعية والحنابلة: القنوت في الصلوات المفروضة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وحصرها الحنابلة في صلاة الصبح، والحنفية في صلاة جهرية.
وتفصيل الكلام عن كل مذهب ما يأتي:
أولاً ـ قنوت الوتر أو الصبح:
قال الحنفية (1) : يقنت المصلي في صلاة الوتر، فيكبر بعد الانتهاء من القراءة، ويرفع يديه كرفعه عند الافتتاح، ثم يضعهما تحت سرته، ثم يقنت، ثم يركع، ولا يقنت في صلاة غير الوتر إلا لنازلة في الصلاة الجهرية، وأما قنوت النبيصلّى الله عليه وسلم في الفجر شهراً فهو منسوخ بالإجماع، لما روى ابن مسعود: أنه عليه السلام قنت في صلاة الفجر شهراً ثم تركه (2) .
وحكمه عندهم: أنه واجب عند أبي حنيفة، سنة عند الصاحبين، كالخلاف الآتي في الوتر.
ومحل أدائه: الوتر في جميع السنة قبل الركوع من الركعة الثالثة، بدليل ماروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وهم (عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب) أن قنوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في الوتر قبل الركوع (3) .
ومقداره كمقدار: إذا السماء انشقت، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في القنوت: اللهم إنا نستعينك، أو اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، وكلاهما على مقدار هذه السورة.
__________
(1) البدائع:273/1 ومابعدها، اللباب:78/1 ومابعدها، فتح القدير:309/1 ومابعدها، الدر المختار:626/1-628.
(2) رواه البزار والطبراني وابن أبي شيبة والطحاوي (نصب الراية:127/2) وروى أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه عن أبي مالك الأشجعي أن أباه صلى خلف الرسول صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم يقنت واحد منهم. وروى أحمد عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه. وروى البخاري عن أنس: «كان القنوت في المغرب والفجر» وروى أحمد والبخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا على مضر، حتى أنزل الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران:128/3] ، وروى أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن البراء بن عازب: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة المغرب والفجر» (نيل الأوطار:338/2-344) .
(3) نصب الراية:123/2 ومابعدها.(2/172)
وصيغة الدعاء المفضلة عندهم وعند المالكية: (اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلَع ونترك من يفجُرُك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلحق) (1) وهوالدعاء المشهور لابن عمر، ولا مانع من صحة نسبته لكل من عمر وابنه.
وذلك بدليل ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن خالد بن أبي عمران، قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعو على مضر، إذ جاءه جبريل، فأومأ إليه أن اسكت، فسكت، فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعَّاناً، وإنما بعثك رحمة للعالمين، ليس لك من الأمر شيء، ثم علّمه القنوت: اللهم إنا نستعينك ... إلخ» (2) ولأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا القنوت، فالأولى أن يقرأه. ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه غيره، كان حسناً. والأولى أن يقرأه بعدما علَّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما في قنوته: اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلى آخره (3) . ثم بعده يصلي فيه على النبي صلّى الله عليه وسلم وآله، على المفتى به، فيقول: «وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم» .
ومن لا يحسنه بالعربية أو لا يحفظه، إما أن يقول: يا رب أو اللهم اغفر لي ثلاثاً أو {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار} [البقرة:201/2] ، والآية الأخيرة أفضل.
__________
(1) معنى: (نخلع) نلقي ونترك، ونحفد: أي نبادر ونسرع في تحصيل عبادتك بنشاط، كالمشي إلى المسجد، والجد: الحق، أي ضد الهزل، وملحق أي لاحق بهم، أو ملحق بهم، بكسر الحاء وفتحها، والكسر أفصح.
(2) نصب الراية:135/2 ومابعدها.
(3) رواه الترمذي وأبو داود (المجموع: 477/2) .(2/173)
وصفته من الجهر والإسرار: المختار أنه يخفيه الإمام والمقتدي.
وحكمه حال نسيانه: إذا نسي المصلي القنوت حتى ركع، ثم تذكر بعدما رفع رأسه من الركوع، لا يعود إليه، ويسقط عنه القنوت، كما يسقط في ظاهر الرواية إذا تذكره في الركوع، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته قبل السلام، لفوات القنوت عن محله، فإن عاد إليه وقنت، ولم يعد الركوع، لم تفسد صلاته، لكون ركوعه بعد قراءة تامة.
ويأتي المأموم بقنوت الوتر، ولو اقتدى بشافعي يقنت بعد الركوع، لأنه مجتهد فيه.
وإذا أدرك المقتدي الإمام في ركوع الثالثة من الوتر، كان مدركاً للقنوت حكماً، فلا يأتي به في آخر صلاته.
وقالوا أخيراً: إذا قنت الإمام في صلاة الفجر، سكت من خلفه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهو الأظهر؛ لأنه منسوخ ولا متابعة فيه، وقال أبو يوسف: يتابعه؛ لأنه تبع لإمامه، والقنوت مجتهد فيه.
مذهب المالكية:
يندب عند المالكية (1) قنوت سراً في الصبح فقط، لا في الوتر وغيره فيكره، وذلك قبل الركوع، وهو أفضل، ويجوز بعد الركوع. ولفظه المختار: اللهم إنا نستعينك..إلخ كالحنفية، ولا يضم إليه: اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلخ على المشهور.
ويقنت الإمام والمأموم والمنفرد سراً، ولا بأس برفع اليدين فيه.
__________
(1) الشرح الصغير: 331/1، الشرح الكبير: 248/1، القوانين الفقهية: ص 61.(2/174)
مذهب الشافعية:
يسن عندهم (1) القنوت في اعتدال ثانية الصبح، وصيغته المختارة هي: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت (2) ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك) (3) ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ويقنت الإمام بلفظ الجمع؛ فيقول: اللهم اهدنا.. إلخ؛ لأن البيهقي رواه بلفظ الجمع، فحمل على الإمام، وعلله النووي في «أذكاره» بأنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء لخبر: «لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم» (4) .
ودليلهم على اختيار هذه الصيغة: ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة
__________
(1) مغني المحتاج: 166/1، المجموع: 474/2 - 490، المهذب: 81/1، حاشية الباجوري: 168/1 ومابعدها.
(2) هذا آخر الدعاء، وما بعدها الثناء، فيؤمن المقتدي في الدعاء، ويقول الثناء سراً، أو يقول: أشهد.
(3) معناه إجمالاً: اللهم دلني على الطريق التي توصل إليك، مع من دللته إلى الطريق التي توصل إليك، وعافني من البلايا مع من عافيته منها، وتول أموري وحفظي مع من توليت أموره وحفظه، وأنزل يا الله البركة: وهي الخير الإلهي فيما أعطيته لي، واحفظني مما يترتب على ما قضيته من السخط والجزع، وإلا فالقضاء المحتم لابد من نفوذه. وأنت تحكم ولا يحكم عليك، ولا معقب لحكمه، ولا يحصل لمن واليته ذل، ولا يحصل لمن عاديته عز، تزايد برك وإحسانك وارتفعت عما لا يليق بك. ويقول «ربنا» بصيغة الجمع ولو كان منفرداً اتباعاً للوارد. لك الحمد من حيث نسبته إليك؛ لأنه لا يصدر عنك إلا الجميل، وإنما يكون شراً بنسبته لنا، أستغفرك من الذنوب وأتوب إليك.
(4) رواه الترمذي وحسنه.(2/175)
رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية، رفع يديه، فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت..إلخ ما تقدم (1) . وزاد البيهقي فيه عبارة: «فلك الحمد على ما قضيت (2) ..إلخ» .
وقال أنس بن مالك: «ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقنت في الفجر، حتى فارق الدنيا» (3) وكان عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم.
والصحيح سن الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر القنوت للأخبار الصحيحة في ذلك. كما يسن الصلاة على الآل، وسن رفع اليدين فيه كسائر الأدعية، اتباعاً للسنة (4) .
ويسن في الدعاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء. وقد أفتى بعض الشافعية بأنه لا يسن ذلك عند قوله في القنوت: (وقني شر ما قضيت) لأن الحركة في الصلاة ليست مطلوبة.
والصحيح أنه لا يمسح بيديه وجهه، لعدم وروده، كما قال البيهقي. والإمام يجهر بالقنوت، اتباعاً للسنة (5) ، ويؤمن المأموم للدعاء (6) إلى قوله: (وقني شر ما قضيت) ، ويجهر به كما في تأمين القراءة، ويقول الثناء سراً بدءاً من قوله: (فإنك تقضي..) إلخ؛ لأنه ثناء وذكر، فكانت الموافقة فيه أليق، أو يقول: أشهد، والأول أولى، وقال بعضهم: الثاني أولى. فإن لم يسمع الإمام قنت ندباً معه سراً كسائر الدعوات والأذكار التي لا يسمعها.
__________
(1) قال عنه الحاكم: صحيح.
(2) رواه البيهقي عن ابن عباس (سبل السلام: 187/1) وزاد البيهقي والطبراني «ولا يعز من عاديت» (المصدر السابق: ص186) .
(3) رواه أحمد وعبد الرازق، والدارقطني وإسحاق بن راهويه (نصب الراية: 131/2 ومابعدها) .
(4) رواه البيهقي بإسناد جيد. وأما المذكور في سائر الأدعية فرواه الشيخان وغيرهما.
(5) رواه البخاري وغيره. قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهر القراءة.
(6) رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح.(2/176)
وهل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم من قبيل الدعاء، فيؤمن فيها، أو من قبيل الثناء فيشارك فيها؟ المعتمد هو الأول، لكن الأولى الجمع بينهما. ولا يرد على اقتصاره على التأمين قوله صلّى الله عليه وسلم: «رغم أنف امرئ ذكرت عنده، فلم يصل علي» (1) لأنه في غير المصلي، على أن التأمين في معنى الصلاة عليه.
ويصح الدعاء بغير هذه الصيغة، بكل ذكر مشتمل على دعاء وثناء، مثل: «اللهم اغفر لي ياغفور» فقوله: «اغفر لي» دعاء، وقوله: «ياغفور» ثناء، ومثل «وارحمني يارحيم» أو «والطف بي يا لطيف» والأولى أن يقول: «اللهم اهدني..» السابق.
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة، وهو صحيح.(2/177)
ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، لكن يستحب له الجمع بين قنوت النبي صلّى الله عليه وسلم «اللهم اهدني..إلخ» وقنوت عمر أو ابنه: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك» السابق. والجمع لمنفرد وإ مام جماعة التطويل، وإن اقتصر فليقتصر على الأول.
ويزاد عليهما: (اللهم عذب الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسولك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح ذات بينهم، وألِّف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبِّتهم على ملة رسولك، وأوزعهم (أي ألهمهم) أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم) .
والقنوت كما سنبين من أبعاض الصلاة، فإن تركه كله أو بعضه، أو ترك شيئاً من قنوت عمر إذا جمعه مع قنوت النبي عليه السلام، أو ترك الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، سجد للسهو. كما يسجد للسهو إن ترك القنوت تبعاً لإمامه الحنفي، أو تركه إمامه المذكور وأتى به هو.
مذهب الحنابلة:
يسن القنوت عندهم (1) كالحنفية، في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السنة، بعد الركوع، كما قال الشافعي في وتر النصف الأخير من رمضان، فإن قنت قبل الركوع فلا بأس، لما روى ابن مسعود: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع» (2) وروى حميد، قال: سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح؟ فقال: «كنا نقنت قبل الركوع وبعده» (3) .
ويقول في قنوته جهراً إن كان إماماً أو منفرداً: «اللهم إنا نستعينك.. إلخ» «اللهم اهدنا فيمن هديت» والثاني أولى كما ذكر ابن قدامة، لما روى الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت..إلخ (4) . وعن عمر رضي الله عنه: أنه قنت في صلاة الفجر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك..إلخ ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى آله. ولا بأس أن يدعو في قنوته بما شاء غير ما تقدم.
__________
(1) المغني: 151/1-155، كشاف القناع: 490/1-494.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه ابن ماجه.
(5) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، ولا نعرف عن النبي صلّى الله عليه وسلم في القنوت شيئاً أحسن من هذا، ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه (الخمسة) (سبل السلام: 186/1، نصب الراية: 122/2) .(2/178)
وإذا أخذ الإمام في القنوت أمَّن من خلفه، ويرفع يديه، ويمسح وجهه بيديه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك، ولا تدع بظهورها، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك» (1) ، وروى السائب بن يزيدعن أبيه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دعا، رفع يديه، ومسح بهما وجهه» (2) . ويؤمن المأموم بلا قنوت إن سمع، وإن لم يسمع دعا.
ولا يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر، كما قال الحنفية، لما روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت شهراً، يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» (3) .
ثانياً ـ القنوت أثناء النوازل:
قال الحنفية والشافعية والحنابلة (4) : يشرع القنوت للنازلة لا مطلقاً، في الجهرية فقط عند الحنفية، وفي سائر الصلوات المكتوبة عند غيرهم إلا الجمعة عند الحنابلة اكتفاءً في خطبتها (5) ، ويجهر في دعائه في هذا القنوت. والنازلة: أن ينزل بالمسلمين خوف أو قحط أو وباء أو جراد، أو نحوها، اتباعاً للسنة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة (6) وعن أبي هريرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع..» (7) .
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه.
(2) رواه أبو داود من رواية ابن لهيعة.
(3) رواه مسلم، وروى أبو هريرة وأبو مسعود وأبو مالك الأشجعي عن النبي صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، كما قدمنا في مذهب الحنفية.
(4) اللباب:79/1، حاشية الباجوري: 168/1، مغني المحتاج: 168/1، المغني: 155/1، كشاف القناع: 494/1، المهذب: 82/1، المجموع: 486/3.
(5) هذا ما ذكر في كشاف القناع وقال ابن قدامة: ولا يقنت في غير الصبح من الفرائض.
(6) رواه الشيخان، مع خبر «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
(7) رواه أحمد والبخاري (نيل الأوطار:343/2) .(2/179)
وكون القنوت عند النازلة لم يشرع مطلقاً بصفة الدوام، على المشهور عند الشافعية، فلأنه صلّى الله عليه وسلم لم يقنت إلا عند النازلة.
ويدعو بنحو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في القنوت: (اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك) .
ولا يسن السجود لترك قنوت النوازل؛ لأنه ـ كما قال الشافعية ـ ليس من أبعاض الصلاة.(2/180)
المبحث السابع ـ صلاة الوتر:
الكلام عن الوتر في بيان حكمه أوصفته واجب أم سنة، ومن يجب عليه، ومقداره، ووقته، صفة القراءة فيه، القنوت فيه، ومحل القنوت (1) .
1 - حكم الوتر أو صفته:
الوتر مطلوب بالإجماع، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يا أهل القرآن أو تروا فإن الله وتر يحب الوتر» (2) ، وكان واجباً على النبي صلّى الله عليه وسلم، لحديث: «ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم: الضحى، والأضحى، والوتر» (3) .
__________
(1) فتح القدير: 300/1-310، الكتاب مع اللباب: 78/1 ومابعدها، البدائع: 270/1-274 الشرح الصغير: 411/1-414، الشرح الكبير: 315/1-318، المهذب 83/1، مغني المحتاج: 221/1-223، المغني: 150/2-165،القوانين الفقهية: ص89 كشاف القناع: 486/1-488
(2) رواه أبو داود وصححه الترمذي.
(3) أخرجه الحاكم وأحمد عن ابن عباس، قال الذهبي: سكت الحاكم عنه، وهو غريب منكر (نصب الراية: 115/2) .(2/181)
وهو واجب كصلاة العيدين عن أبي حنيفة، سنة مؤكدة وآكد السنن عند الصاحبين وبقية الفقهاء.
استدل أبو حنيفة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى زادكم صلاة، ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» (1) وهو أمر والأمر للوجوب، وإنما لم يكفر جاحده باتفاق الحنفية؛ لأن وجوبه ثبت بسنة الآحاد، وهو معنى ما روي عنه أنه سنة. وبناء عليه لا يجوز عنده أداؤه قاعداً أو على الدابة بلا عذر.
ويؤيده أحاديث أخرى، منها حديث أبي أيوب: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» (2) .
وحديث بريدة: «الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا» (3) .
واستدل الجمهور على سنيته بأحاديث كثيرة منها: «قوله صلّى الله عليه وسلم للأعرابي، حين سأله عما فرض الله عليه من الصلاة؟ قال: خمس صلوات، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوَّع» (4) .
وكذَّب عبادة بن الصامت رجلاً يقول: الوتر واجب، وقال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» (5) .
وعن علي قال: «الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنه سنة سنها النبي صلّى الله عليه وسلم» (6) .
ولأنه يجوز فعله على الراحلة من غير ضرورة، فأشبه السنن، وروى ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره» (7) .
وهذا الرأي هو الحق؛ لأن أحاديث أبي حنيفة إن صحت فهي محمولة على التأكيد، وقد تكلم المحدثون فيها، فحديث «من لم يوتر فليس منا» فيه ضعيف، وحديث أبي أيوب «الوتر حق» وإن كان رواته ثقاتاً، فمحمول على تأكيد الاستحباب، لقول الإمام أحمد: «من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة» .
2 - من يجب عليه الوتر عند أبي حنيفة:
الوتر عند أبي حنيفة كالجمعة والعيدين واجب على كل مسلم، ذكر أم أنثى، بعد أن يصبح أهلاً للوجوب، لحديث أبي أيوب السابق: «الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليوتر» (8) .
وهو عند الجمهور سنة مؤكدة على كل مسلم.
__________
(1) روي عن ثمانية من الصحابة: خارجة بن حذافة، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وأبي بصرة الغفاري، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، روى أبو داود والترمذي وابن ماجه حديث خارجة، وقال عنه الترمذي: حديث غريب: وأخرجه الحاكم، وقال حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، لتفرد التابعي عن الصحابي (نصب الراية: 108/2-111) .
(2) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه (نصب الراية: 112/2) .
(3) رواه أحمد.
(4) متفق عليه، ومثله حديث معاذ في الصحيحين: «إن الله افترض عليكم خمس صلوات في اليوم والليلة» (نصب الراية: 114/2) .
(5) رواه أبو داود وأحمد.
(6) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
(7) متفق عليه.
(8) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم، وقال: على شرطهما (نصب الراية: 112/2) .(2/182)
3 - مقداره وكيفيته:
الوتر عند الحنفية ثلاث ركعات، لا يفصل بينهن بسلام، وسلامه في آخره،
كصلاة المغرب، حتى لو نسي قعود التشهد الأول، لا يعود إليه، ولو عاد فسدت الصلاة. لحديث عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، لا يسلم إلا في آخرهن» (1) .
ولا يجوز بدون نية الوتر، فينويه ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة وسورة في الركعات الثلاث، ويتشهد تشهدين: الأول والأخير، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح في بداية الركعة الثالثة، ويكبر ويرفع يديه ثم يقنت بعد القراءة قبل ركوع الثالثة، وبانتهائه يسلم يميناً وشمالاً، ففيه تكبيرة إحرام واحدة وسلام واحد.
وقال المالكية: الوتر ركعة واحدة، يتقدمها شَفْع، (سنة العشاء البعدية) . ويفصل بينهما بسلام، يقرأ فيها بعد الفاتحة: الإخلاص والمعوذتين.
وكذلك قال الحنابلة (2) : الوتر ركعة، قال أحمد: إنا نذهب في الوتر إلى ركعة، وإن أوتر بثلاث أو أكثر فلا بأس.
وقال الشافعية: أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة، والأفضل لمن زاد على ركعة الفصل بين الركعات بالسلام، فينوي ركعتين من الوتر ويسلم، ثم ينوي ركعة من الوتر ويسلم، لما روى ابن حبان: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر» .
__________
(1) رواه الحاكم، وقال: إنه على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه، ورواه النسائي بلفظ: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر» ، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عباس (نصب الراية: 118/2 ومابعدها) .
(2) المغني: 150/2(2/183)
ودليل المالكية والحنابلة وهو دليل الشافعية على أقل الوتر: خبر مسلم عن ابن عمر وابن عباس: «الوتر ركعة من آخر الليل» وروى أبو داود من حديث أبي أيوب السابق: «من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» ، وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم أوتر بواحدة» .
وأدنى الكمال ثلاث، وأكمل منه خمس، ثم سبع، ثم تسع، ثم إحدى عشرة فأكثره إحدى عشرة للأخبار الصحيحة، منها خبر عائشة: «ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» فلا تصح الزيادة عليها كسائر الرواتب. وفي رواية لمسلم عن عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خِفْت الصبح، فأوتر بواحدة» (1) .
والوتر بخمس ثابت في حديث أبي أيوب السابق: «الوتر حق واجب على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليوتر..» ، وروي عن زيد بن ثابت: أنه كان يوتر بخمس، لا ينصرف إلا في آخرها. وفي حديث عائشة المتفق عليه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس، لايجلس في شيء منها إلا في آخرها» وروي مثل ذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم (2) ، وعن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا توتروا بثلاث، أو تروا بخمس أو سبع، ولاتشبَّهوا بصلاة المغرب» (3) .
والوتر بسبع أو تسع ثبت في حديث عائشة عند مسلم وأبي داود، وأيدها بذلك ابن عباس.
والوتر بإحدى عشرة ثبت أيضاً في حديث عائشة المتقدم في الصحيحين.
قال أحمد رحمه الله: الأحاديث التي جاءت «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أو تر بركعة» كان قبلها صلاة متقدمة.
__________
(1) متفق عليه.
(2) انظر المغني: 159/2.
(3) رواه الدارقطني بإسناده، وقال: كلهم ثقات (نيل الأوطار: 35/3) .(2/184)
4 - وقت الوتر:
أصل الوقت، والوقت المستحب:
وقته عند الجمهور: ما بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا يصح أداؤه قبل صلاة العشاء، فلو أوتر قبل العشاء عمداً أو سهواً لم يعتد به.
وعند أبي حنيفة: وقته وقت العشاء، إلا أنه شرع مرتباً عليه، فلا يجوز أداؤه قبل صلاة العشاء، مع أنه وقته، لعدم شرطه، وهو الترتيب، إلا إذا كان ناسياً، فلو صلاه قبل العشاء ناسياً لم يعده. وقال الصاحبان وغيرهما: يعيد، بدليل الخبر: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حُمْر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم من العشاء إلى طلوع الفجر» (1) .
ودليل امتداد وقته في الليل: حديث عائشة قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السَّحر» (2) وحديث أبي سعيد: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أوتروا قبل أن تصبحوا» (3) .
ووقته الاختياري عند المالكية: إلى ثلث الليل، ووقته الضروري من طلوع الفجر لتمام صلاة الصبح، فإن صلاها خرج وقته الضروري وسقط، لأنه لا يقضى عندهم من النوافل إلا سنة الفجر، فتقضى للزوال، وكره تأخيره لوقت الضرورة بلا عذر. والأفضل الوتر آخر الليل.
ومن أوتر أول الليل، ثم تنفل فلا يعيد الوتر عندهم وهو رأي الجمهور؛ إذ لا وتران في ليلة.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي (نيل الأوطار: 39/3) .
(2) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 40/3) .
(3) رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود (المصدر والمكان السابق) .(2/185)
ووقته المختار عند الشافعية إلى نصف الليل، والباقي وقت جواز، وإذا جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم، كان له أن يوتر وإن لم يدخل وقت العشاء. ويسن جعله آخر صلاة الليل، ولو نام قبله، لخبر الشيخين: «اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً» . فإن كان له تهجد، أخرَّ الوتر إلى أن يتهجد، وإلا أوتر بعد فريضة العشاء وسنتها الراتبة إذا لم يثق بيقظته آخر الليل، وإلا بأن وثق من اليقظة فتأخيره أفضل، لخبر مسلم: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة» وذلك أفضل، وعليه يحمل خبر مسلم أيضاً: «بادروا الصبح بالوتر» (1) .
فإن أوتر، ثم تهجد، لم يعد الوتر أي لا يسن له إعادته لخبر: «لا وتران في ليلة» (2) .
ووقته المستحب عند الحنفية: آخر الليل، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: تارة كان يوتر في أول الليل، وتارة في وسط الليل، وتارة في آخر الليل، ثم صار وتره في آخر عمره في آخر الليل (3) . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يصلي أحدكم مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح، صلى واحدة، فأوترت له ماصلى من الليل» (4) .
__________
(1) وأما خبر أبي هريرة: «أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» فمحمول على من لم يثق بيقظته آخر الليل.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والضياء عن طلق بن علي، وهو ضعيف، وصححه ابن حبان (نيل الأوطار: 45/2) .
(3) رواه أبو داود في سننه بلفظ آخر (نصب الراية: 145/2) .
(4) روي في الصحيحين عن ابن عمر (نصب الراية: 145/2) .(2/186)
وكذلك الأفضل عند الحنابلة: فعل الوتر في آخر الليل، فهذا متفق عليه، لخبر مسلم السابق: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل..» وخبر الشيخين السابق: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً، فإن خاف ألا يقوم من آخر الليل استحب أن يوتر أوله» وهذا متفق عليه أيضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء بالوتر قبل النوم، وقال: «من خاف ألا يقوم آخر الليل، فليوتر من أوله» (1) .
ومن أوتر من الليل، ثم قام للتهجد، فالمستحب عند الحنابلة أن يصلي مثنى مثنى، ولا ينقض وتره، ومعناه أنه إذا قام للتهجد صلى ركعة تشفع الوتر الأول، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر في آخر التهجد، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» وهذا مخالف لرأي الجمهور السابق.
وذكر الحنابلة أنه إذا صلى شخص مع الإمام , وأحب متابعته في الوتر، وأحب أن يوتر آخر الليل، فإنه إذا سلم الإمام لم يسلم معه، وقام فصلى ركعة أخرى , يشفع بها صلاته مع الإمام.
5- صفة القراءة في الوتر:
القراءة تجب عند الحنفية في كل ركعات الوتر، ويندب عندهم أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الكافرون وفي الثالثة سورة الإخلاص لحديث أبي ابن كعب «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد، ولا يسلِّم إلا في آخرهن» (2) .
__________
(1) وهذه كلها صحاح رواها مسلم وغيره.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 34/2،42) ، وعن ابن عباس مثله، رواه ابن ماجه.(2/187)
ويندب عند المالكية القراءة في وتر الركعة الواحدة بالإخلاص والمعوذتين بعد الفاتحة، ويقرأ في الشفع بسبِّح اسم ربك الأعلى في الأولى، والكافرون في الثانية بعد الفاتحة فيهما، ويفصل بينهما بسلام، إلا في حالة الاقتداء لمن يواصل، فيوصله معه، وينوي بالأوليين الشفع، وبالأخيرة الوتر، وكره وصل الوتر بالشفع بغير سلام لغير مقتد يواصل، وكره وتر بواحدة من غير تقدم شفع، ولو لمريض أو مسافر.
ويستحب عند الشافعية لمن أوتر بثلاث: أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث بعد الفاتحة: في الأولى بسبح، وفي الثانية {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:1/109] وفي الثالثة {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/112] والمعوذتين، وينبغي لمن زاد على الثلاثة أن يقرأ فيها ذلك، لحديث عائشة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى من الوتر بفاتحة الكتاب، وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية: يقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: يقل هو الله أحد، والمعوذتين (1) : الفلق ثم الناس.
واستحب الحنابلة الاقتصار في الثالثة على سورة الإخلاص لحديث أبي بن كعب السابق، قائلين: إن حديث عائشة في هذا لا يثبت، فإنه يرويه يحيى بن أيوب، وهو ضعيف، وقد أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين.
6 - قنوت الوتر:
قال الحنفية والحنابلة (2) : يقنت المصلي في الوتر في جميع السنة، إلا أن الحنفية قالوا: يقنت في الثالثة قبل الركوع أداء وقضاء؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قنت قبل
__________
(1) رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه (نصب الراية: 118/2) .
(2) المغني 151/2-153.(2/188)
الركوع (1) ، وكيفيته: أن يكبر ويرفع يديه ثم يقنت، لحديث علي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يقنت كبر وقنت. وهذا رأي المالكية أيضاً في الصبح لا في الوتر كما تقدم.
وقال الحنابلة: يقنت بعد الركوع، لما رواه مسلم عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع» ، ولحديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أنس وغيره: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع (2) . وطعنوا في حديث أبي بأنه قد تكلم فيه، وفي حديث ابن مسعود بأن فيه متروك الحديث.
وصيغة القنوت عند الحنفية: هي الدعاء المشهور عن عمر وابنه: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك.. إلخ» ، ما ذكرناه في بحث القنوت، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم في آخره، على المفتى به.
والأولى عند الحنابلة دعاء: «اللهم اهدني فيمن هديت» ، وللمصلي الدعاء بـ «اللهم إنا نستعينك» والأصح عند الحنفية أن يكون الدعاء مخافتاً فيه (3) ،
وعند الحنابلة: يجهر به الإمام والمنفرد.
__________
(1) روي عن أربعة من الصحابة: أبي بن كعب عند النسائي وابن ماجه، وابن مسعود عند الدارقطني وابن أبي شيبة، وابن عباس عند أبي نعيم في الحلية، وابن عمر عند الطبراني، لكن في حديث ابن مسعود متروك، وحديث ابن عباس غريب، وحديث ابن عمر تفرد بروايته سعيد بن سالم (نصب الراية: 123/2) .
(2) متفق عليه.
(3) واستدلوا بحديث «خير الدعاء الخفي» .(2/189)
وقال الشافعية: يندب القنوت في آخر الوتر في النصف الثاني من رمضان بعد الركوع، وهو كقنوت الصبح، ويقول بعده في الأصح: «اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك.. إلخ» ، لما روى أبو داود والبيهقي: «أن أبي بن كعب كان يقنت في النصف الأخير من رمضان حين يصلي التراويح» (1) .
الذكر بعد الوتر:
ويستحب أن يقول بعد الوتر: سبحان الملك القدوس ثلاثاً، ويمد صوته بها في الثالثة، لما روى أبي بن كعب، قال: «كان ر سول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سلم من الوتر، قال: سبحان الملك القدوس» (2) وروى عبد الرحمن بن أَبْزى: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم يرفع صوته بها في الثالثة» (3) .
الدعاء بعد الوتر:
عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (4) .
صفة وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نُعِدُّ له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات (5) ، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده، ويدعوه ثم ينهض ولا يسلِّم.
ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليماً يُسمعنا. ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم، وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يابني.
فلما أسنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذه اللحم، أو تر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بُنيَّ.
وكان نبي الله إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجَع عن قيام الليل، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان (6) .
وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود نحوه، وفيها: فلما أسنَّ وأخذه اللحم، أوتر بسبع ركعات، لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة.
وفي رواية للنسائي قالت: فلما أسن وأخذه اللحم، صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن.
__________
(1) قال عنه الحنابلة: فيه انقطاع.
(2) رواه أبو داود.
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند.
(4) رواه الخمسة (نيل الأوطار: 42/2) .
(5) فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا يسلم إلا في آخرها، ويقعد في الثامنة ولا يسلم.
(6) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار:37/2) .(2/190)
الفَصْل ُالسَّابع: مُبْطِلاتُ الصَّلاة أو مُفْسِداتُها
الصلاة عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة كما عرفنا، ويجب أداؤها مستوفية شرائطها وأركانها لتكون صحيحة على النحو الذي بينه النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمر به المسلمين فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (1) .
فإذا اشتملت الصلاة على أمر مخالف للكيفية المشروعة، فسدت أو بطلت، والفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد باتفاق الفقهاء، أما في المعاملات كالبيع فهما عند الحنفية مفترقان بمعنى مختلف.
وإذا فسدت العبادة وجب إعادتها، والفساد أو البطلان: هو خروج العبادة عن كونها عبادة بسبب فوات بعض الفرائض.
والصلاة قد تبدأ فاسدة بترك شرط من شروطها الصحيحة كالطهارة وستر العورة، أما كشف العورة في أثناء الصلاة فمفسد لها عند الحنفية إذا دام قدر أداء ركن وهو مقدار ثلاث تسبيحات، كما قد تكون فاسدة بترك فريضة من فرائضها كتكبيرة الإحرام، وقد يطرأ الفساد بترك ركن من أركانها كترك الركوع أو السجود.
__________
(1) سبق تخريجه.(2/191)
أولاً ـ مفسدات الصلاة عند الفقهاء:
إن أهم مفسدات الصلاة عند الفقهاء هي مايأتي (1) ، علماً بأن الحنفية ذكروا ثمانية وستين أمراً مفسداً للصلاة، والمالكية حوالي ثلاثين، والشافعية سبعة وعشرين، والحنابلة حوالي ستة وثلاثين.
1- الكلام: أي النطق بحرفين ولو لم يفهما أو حرف مفهم أجنبي عن الصلاة، عمداً أو سهواً؛ لخبر زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلّم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه حتى نزلت: وقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» (2) وخبر معاوية بن الحكم السُّلَمي: «بينما أنا أصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ عطَس رجل من القوم، فقلت: يرحمُك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمَّاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبأبي وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله، ما كهرني (انتهرني) ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (3) .
ومن الكلام المبطل: التنحنح بلا عذر إذا صحبه حرفان فأكثر، ومنه التأوه والأنين والتأفف والبكاء إذا اشتمل على حروف مسموعة، إلا إذا نشأ من مرض أو
__________
(1) الدر المختار: 574/1-593، البدائع: 233/1-242، مراقي الفلاح: ص 52-54، الشرح الصغير 343/1 ـ 356، حاشية الباجوري: 182/1-186، القوانين الفقهية: ص 51، مغني المحتاج: 194/1 ـ 200، المهذب: 86/1 ـ 88، كشاف القناع: 465/1-470، المغني: 1/2-5، 44-62.
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار: 311/2) .
(3) رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود (المصدر السابق: ص 314 وما بعدها) .(2/192)
قوله لكني سكت، قال المنذري: يريد لم أتكلم لكني سكت. من خشية الله، ومنه تشميت العاطس، ورد السلام ومنه الدعاء بما يشبه كلام الناس، غير أن للفقهاء تفصيلات في ذلك يحسن إيرادها:
قال الحنفية (1) : تفسد الصلاة بالكلام عمداً أو سهواً، أو جاهلاً، أو مخطئاً، أو مكرهاً، على المختار، وذلك بالنطق بحرفين أو حرف مفهم، مثل (عِ) و (قِِ) ، وكما لو سلم على إنسان، أو رد السلام بلسانه، لا بيده، ويكره ذلك على المعتمد، أو شمَّت عاطساً، أو نادى إنساناً بقوله (يا) ولو ساهياً، لكن لو سلم ساهياً للخروج من الصلاة قبل إتمامها على ظن إكمالها، فلا تفسد الصلاة، ولو صافح بنية السلام، تفسد، لأنه عمل كثير. ولو استعطف كلباً أو هرة أو ساق حماراً بما ليس من حروف الهجاء لا تفسد صلاته؛ لأنه صوت لا هجاء له.
ومن ارتفع بكاؤه لمصيبة بلغته، فسدت صلاته، لأنه تعرض لإظهارها.
وتبطل بالتنحنح بحرفين بلا عذر، فإن وجد عذر، كأن نشأ من طبعه فلا تفسد، كما لا تفسد إن كان لغرض صحيح كتحسين الصوت، أو ليهتدي إمامه إلى الصواب، أو للإعلام أنه في الصلاة، فلا فساد على الصحيح، وهكذا فإن التنحنح عن عذر لا يفسد الصلاة. وتفسد بالدعاء بما يشبه كلام الناس: وهو ما ليس في القرآن ولا في السنة، ولا يستحيل طلبه من العباد، وبالأنين (هو قوله: أه) ، والتأوه (هو قوله: آه) والتأفف (أف أو تف) ، والبكاء بصوت يحصل به حروف، لوجع أو مصيبة في الحالات الأربع الأخيرة، إلا لمرض لا يملك نفسه عن أنين وتأوه؛ لأنه حينئذ كعطاس وسعال وجشاء وتثاؤب، وإن ظهرت حروف للضرورة.
__________
(1) الدر المختار: 574/1-593، البدائع: 220/1، 232-242، فتح القدير: 280/1-286.(2/193)
والنفخ بصوت مسموع يفسد الصلاة سواء أراد به التأفف أو لم يرد عند أبي حنيفة ومحمد، لقول ابن عباس: «النفخ في الصلاة كلام» (1) .
ولا تفسد بالدعاء لذكر جنة أو نار عند قراءة الإمام، فجعل يبكي ويقول: بلى أو نعم، لدلالته على الخشوع.
وتفسد بجواب خبر سوء، بالاسترجاع على المذهب، أي بقوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة:156/2] ، لأنه يقصد الجواب، فصار ككلام الناس.
وتفسد بكل ما قصد به الجواب، كأن قيل: هل مع الله إله؟ فقال: (لا إله إلا الله) أو قيل: ما مالك؟ فقال: الخيل والبغال والحمير. أو سئل: من أين جئت؟ فقال: وبئر معطلة وقصر مشيد.
وتفسد بالخطاب كقوله لمن اسمه يحيى أو موسى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) أو (وما تلك بيمينك يا موسى) أو لمن بالباب: (ومن دخله كان آمنا) .
وتفسد إن قصد الجواب: إذا قال عند سماع اسم الله تعالى: (لا إله إلا الله) أو قال: (جل جلاله) ، أو عند ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، فصلى عليه، أو عند قراءة الإمام، فقال: صدق الله ورسوله. أما إن لم يقصد الجواب، بل قصد الثناء والتعظيم، فلا تفسد؛ لأن تعظيم الله تعالى بذاته، والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم لا ينافي الصلاة.
ولا تفسد الصلاة بالنظر إلى مكتوب وفهمه، غير أنه مكروه، أما القراءة من المصحف فتفسد الصلاة عند أبي حنيفة؛ لأن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير، ولأنه يشبه التلقين من الآخرين. وقال الصاحبان: لا تفسد وإنما تكره؛ لأن القراءة من المصحف عبادة انضافت إلى عبادة أخرى. وتكره لأنه تشبه بأهل الكتاب.
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه (نيل الأوطار: 317/2) وروي نحوه عن أبي هريرة، لكن قال ابن المنذر: لا يثبت عنهما(2/194)
وقال المالكية (1) : يشترط لصحة الصلاة ترك الكلام إلا بما هو من جنسها، أو مصلح لها. وتبطل بتعمد كلام أجنبي ولو كلمة، نحو «نعم» أو «لا» لمن سأله عن شيء، لغير إصلاح الصلاة، فإن كان الكلام لإصلاح الصلاة وبقدر الحاجة لا تبطل الصلاة إلا إن كان كثيراً، كأن يسلم الإمام بعد ركعتين في صلاة رباعية، أو يقوم لركعة خامسة، ولم يفهم بالتسبيح، فقال له المأموم: أنت سلمت من ركعتين أو قمت لخامسة، لم يضر عملاً بقصة ذي اليدين، روى أبو هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، إما الظهر، وإما العصر، فسلم في ركعتين، ثم أتى جِذْعاً في قبلة المسجد، فاستند إليها مغضباً، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سَرْعانُ الناس (أي المتسرعون) ، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق، لم تصل إلا الركعتين، فصلى ركعتين، وسلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم (2) . ومن تلا وقصده التفهيم لشخص لم يضره كقوله: (ادخلوها بسلام) .
وتبطل أيضاً بتعمد تصويت خال عن الحروف، كصوت الغراب، وبتعمد نفخ بفم، لا بأنف، وبتعمد سلام في حال العلم أو الظن أو الشك بعدم إكمال الصلاة.
__________
(1) الشرح الصغير: 344/1، القوانين الفقهية: ص 50.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، كما أخرجاه عن عمران بن حصين، وأخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر (نصب الراية: 67/2 وما بعدها) .(2/195)
وقال الشافعية (1) : تبطل الصلاة بالنطق بكلام البشر بحرفين مفهمين ولو لمصلحة الصلاة كقوله: لا تقم أو اقعد، أم بحرف مفهم، أو بمدَّة حرف في الأصح؛ لأن الممدود في الحقيقة حرفان. والأصح أن التنحنح والبكاء والأنين، والنفخ إن ظهر به حرفان مبطل للصلاة. ويعذر في يسير الكلام إن سبق لسانه إليه، أو نسي الصلاة عملاً بقصة ذي اليدين السابقة، أو جهل تحريم الكلام في الصلاة إن قرب عهده بالإسلام، وتبطل بكثير الكلام (2) في الأصح، ويعذر في اليسير عرفاً من التنحنح ونحوه كالسعال والعطاس وإن ظهر به حرفان ولو من كل نفخة ونحوها، لغلبة كل ما ذكر عليه فلا تقصير منه، أو لتعذر القراءة الواجبة وغيرها من الأركان القولية في حال التنحنح للضرورة، والجهر بالقراءة لا يصلح في الأصح عذراً ليسير التنحنح. ولو أكره المصلي على الكلام اليسير في صلاته بطلت صلاته في الأظهر؛ لأنه أمر نادر كالإكراه على الحدث.
وقال الحنابلة (3) : تبطل الصلاة بكلام الآدميين (وهو ما انتظم حرفين فصاعداً) ، لغير مصلحة الصلاة، كقوله: يا غلام اسقني، ونحوه. ولا تبطل إن تكلم من سلَّم قبل إتمام صلاته سهواً بكلام يسير عرفاً لمصلحة الصلاة، عملاً بقصة ذي اليدين، سواء أكان إماماً أم مأموماً. ولا تبطل إن تكلم مغلوباً على الكلام، بأن خرجت الحروف منه بغير اختياره، كأن سلم سهواً أو نام فتكلم لرفع القلم عنه، أو سبق على لسانه حال قراءته كلمة لا من القرآن، لأنه لا يمكنه التحرز عنه، أو غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب، فبان منه حرفان.
__________
(1) مغني المحتاج: 194/1 وما بعدها.
(2) مرجع القليل والكثير إلى العرف على الأصح، وقدروا الكلام اليسير بنحو سبع كلمات كما ورد في قصة ذي اليدين.
(3) كشاف القناع: 469/1 وما بعدها، المغني: 575/1، 44/2 - 54.(2/196)
وتبطل الصلاة بالنفخ إن بان منه حرفان، لقول ابن عباس السابق: «من نفخ في صلاته فقد تكلم» وبالنحيب (هو رفع الصوت بالبكاء) إذا بان منه حرفان، لا من خشية الله، وبالتنحنح من غير حاجة، فبان منه حرفان، فإن تنحنح لحاجة لم تبطل.
وأجاز الحنابلة القراءة في أثناء الصلاة في المصحف، ويكره ذلك لمن يحفظ؛ لأنه يشغل عن الخشوع والنظر إلى موضع السجود لغير حاجة، كما يكره في الفرض على الإطلاق؛ لأن العادة أنه لا يحتاج إلى ذلك فيها، وتباح في غير هذين الموضعين للحاجة إلى سماع القرآن والقيام به. والدليل على الجواز أن «عائشة كان يؤمها عبد لها في المصحف» (1) ، وسئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف؟ فقال: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف.
الفتح على غير الإمام وعلى الإمام: أي إرشاده إلى الصواب في القراءة. تبطل الصلاة بإرشاد المأموم غير إمامه إلى صواب القراءة لأنه تعليم وتعلم، فكان من جنس كلام الناس، أما إرشاد المأموم إمامه ففيه تفصيل بين الفقهاء:
قال الحنفية (2) : إذا توقف الإمام في القراءة أو تردد فيها، قبل أن ينتقل إلى آية أخرى، جاز للمأموم أن يفتح عليه أي يرده إلى الصواب، وينوي الفتح على إمامه دون القراءة على الصحيح؛ لأنه مرخص فيه، أما القراءة خلف الإمام فهي ممنوعة مكروهة تحريماً. فلو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى، تفسد صلاة الفاتح، وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله، لوجود التلقين والتلقن من غير ضرورة.
وينبغي للمقتدي ألا يعجل الإمام بالفتح، ويكره له المبادرة بالفتح، كما يكره للإمام أن يلجئ المأموم إليه، بل يركع حين الحرج إذا جاء أوان التردد في القراءة، أو ينتقل إلى آية أخرى.
__________
(1) رواه أبو بكر الأثرم وابن أبي داود عن عائشة.
(2) فتح القدير: 283/1 وما بعدها، الدر المختار: 581/1 وما بعدها.(2/197)
وتبطل الصلاة إن فتح المأموم على غير إمامه إلا إذا قصد التلاوة لا الإرشاد، ويكون ذلك مكروهاً تحريماً.
كما تبطل الصلاة بإرشاد غير المصلي له، أو بامتثال أمر الغير، كأن يطلب منه غيره سد فرجة، فامتثل وسدها، وإنما ينبغي أن يصبر زمناً ثم يفعل من تلقاء نفسه.
ودليل جواز الفتح على الإمام: حديث المُسَوَّر بن يزيد المكي قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله، آية كذا وكذا، قال: فهلاّ ذكّرْتنيها؟» (1) وحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقرأ فيها، فَلَبَس عليه، فلماانصرف، قال لأبي: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟» (2) .
وقال المالكية (3) : تبطل الصلاة بالفتح على غير الإمام سواء من المصلي أو من غيره، بأن سمعه يقرأ، فتوقف في القراءة، فأرشده للصواب؛ لأنه من باب المكالمة، أما الفتح على الإمام إذا وقف وتردد في القراءة، ولو في غير الفاتحة فجائز لا يبطل الصلاة، بل هو واجب، فإن وقف ولم يتردد كره الفتح عليه.
وقال الشافعية (4) : الفتح على الإمام: هو تلقين الآية عند التوقف فيها. ويفتح عليه إذا سكت، ولا يفتح عليه ما دام يردد التلاوة وسؤال الرحمة والاستعاذة من عذاب، لقراءة آيتهما. والفتح في حالة السكوت لا يقطع في الأصح موالاة قراءة المأموم، أما في حالة التردد فيقطع موالاة قراءته، ويلزمه استئناف القراءة.
ولا بد لمن يفتح على إمامه أن يقصد القراءة وحدها أو يقصدها مع الفتح، فإن قصد الفتح وحده، أو لم يقصد شيئاً أصلاً، بطلت صلاته على المعتمد. أما الفتح على غير إمامه فيقطع موالاة القراءة.
__________
(1) ر واه أبو داود وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه (نيل الأوطار: 322/2) .
(2) رواه أبو داود (المصدر السابق) .
(3) الشرح الصغير:347/1، القوانين الفقهية: ص 74.
(4) مغني المحتاج:158/1 0(2/198)
وقال الحنابلة (1) : للمصلي أن يفتح على إمامه إذا أُرْتِج عليه (منع من القراءة) أو غلط في قراءته، فرضاً كانت الصلاة أو نفلاً. ويجب الفتح على إمامه إذا أرتج عليه أو غلط في الفاتحة، لتوقف صحة صلاته على ذلك، كما يجب تنبيهه عند نسيان سجدة ونحوها من الأركان.
وإن عجز المصلي عن إتمام الفاتحة بالإرتاج عليه، فكالعاجز عن القيام في أثناء الصلاة، يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه، ولا يعيدها.
وقال ابن قدامة في المغني: والصحيح أنه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة فإن صلاته تفسد؛ لأنه قادر على الصلاة بقراءتها، فلم تصح صلاته بدون ذلك، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .
ويكره للمصلي الفتح على من هو في صلاة أخرى، أو على من ليس في صلاة؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته، ولا تبطل صلاته، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلاً» (2) .
2 - الأكل والشرب: هذا مبطل للصلاة على تفصيل في جزئيات يسيرة بين الفقهاء.
قال الحنفية: تبطل الصلاة بالأكل والشرب عامداً أم ناسياً، سواء أكان المأكول قليلاً أم كثيراً؛ لأنه ليس من أعمال الصلاة، إلا إذا كا بين أسنانه مأكول دون الحِمِّصة، فابتلعه، فلا تبطل صلاته لمشقة الاحتراز عنه دائماً، كما هو الحال في الصوم.
أما المضغ الكثير بأن كان ثلاثاً متواليات فمفسد، وكذا لو ابتلع ذوب سكرأو حلوى في فمه.
وقال المالكية: تبطل الصلاة بتعمد أكل ولو لقمة بمضعها، وتعمد شرب ولو قلّ، ولا تبطل بأكل يسير مثل الحبة بين أسنانه، كما لا تبطل بأكل أو شرب سهواً على الراجح، ويسجد له بعد السلام. فإن اجتمع الأكل والشرب، أو وجد أحدهما مع السلام سهواً، فتبطل الصلاة.
__________
(1) كشاف القناع: 442/1، المغني: 56/2 - 60.
(2) رواه البخاري ومسلم أبو داود وأحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه عن ابن مسعود، وهو صحيح.(2/199)
وقال الشافعية والحنابلة: تبطل الصلاة بتعمد تناول قليل الأكل، لشدة منافاته للصلاة؛ لأن ذلك يشعر بالإعراض عنها، ولا تبطل بتناول قليل الأكل ناسياً أو جاهلاً تحريمه، وتبطل بكثير الأكل ولو مع النسيان والجهل في الأصح، ولو مفرقاً، بخلاف الصوم، فإنه لا يبطل بذلك.
كما تبطل بكثير المضغ، وإن لم يصل إلى الجوف شيء من الممضوغ.
وتبطل في الأصح ببلع ذوب سُكَّرة بفمه، لمنافاته للصلاة.
ولا يضر ما وصل مع الريق إلى الجوف من طعام بين أسنانه، إذا عجز عن تمييزه ومجه.
3 - العمل الكثير المتوالي:
اتفق الفقهاء على بطلان الصلاة بالعمل الكثير المتوالي، ولو سهواً؛ لأن الحاجة لا تدعو إليه.
قال الحنفية: تبطل الصلاة بكل عمل كثيرليس من أعمالها ولا إصلاحها، كزيادة ركوع أو سجود، وكمشي لغير تجديد الوضوء لمن سبقه الحدث. ولا تفسد برفع اليدين في تكبيرات الزوائد ولكنه يكره. والعمل الكثير: هو الذي لا يشك الناظر لفاعله أنه ليس في الصلاة. فإن اشتبه فهو قليل على الأصح.
وقال المالكية: تبطل الصلاة بالفعل الكثير عمداً أو سهواً كحك جسد، وعبث بلحية، ووضع رداء على كتف، ودفع مارّ وإشارة بيد. ولا تبطل بالفعل القليل أو اليسير جداً كالإشارة وحك البشرة، أما المتوسط بين الكثير والقليل، كالانصراف من الصلاة، فيبطل عمده دون سهوه.
وقال الشافعية والحنابلة: تبطل الصلاة بكثير من العمل عمداً أو سهواً، لا بقليله، وتعرف الكثرة بالعرف والعادة، فالخُطوتان والضربتان قليل، والثلاث المتواليات عند الشافعية كثير. ومعنى التوالي: ألا تعد إحداها منقطعة عن الأخرى.
وتبطل بالوثبة الفاحشة وهي النطة لمنافاتها الصلاة، لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سُبْحة أو عِقْد، أو حكّ أو نحو ذلك في الأصح، كتحريك لسانه أو أجفانه أو شفتيه أو ذكره مراراً ولاء، فلا تبطل بذلك.(2/200)
ولا يضر العمل اليسير عادة من غير جنس الصلاة، لفتح النبي صلّى الله عليه وسلم الباب لعائشة، وحمله أمامة ووضعها (1) ، كما لايضر العمل المتفرق وإن كثر، ولا الحاصل بعذر كمرض يستدعي حركة لا يستطيع الصبر عنها زمناً يسع الصلاة.
ويكره العمل الكثير غير المتوالي بلا حاجة. ولا يقدر عند الحنابلة العمل الكثير بثلاث ولا بعدد.
وأضاف الشافعية (2) : أن العمل الكثير في العرف يضبط بثلاثة أفعال فأكثر، ولو بأعضاء متعددة، كأن حرك رأسه ويده. ويحسب ذهاب اليد وعودها مرة واحدة، ما لم يسكن بينهما، وكذا رفع الرجل، سواء عادت لموضعها الذي كانت فيه أو لا. أما ذهابها وعودها فمرتان. وقد عرفنا أن الوثبة الفاحشة كالعمل الكثير، وكذا تحريك كل البدن، أو معظمه ولو من غير نقل قدميه.
ومحل البطلان بالعمل الكثير: إن كان بعضو ثقيل، فإن كان بعضو خفيف، فلا بطلان، كما لو حرك أصابعه من غير تحريك كفه في سُبْحة أو حل عِقْد، أو تحريك لسان وأجفان وشفة أو ذكر ولو مراراً؛ إذ لا يخل ذلك بهيئة الخشوع والتعظيم، فأشبه الفعل القليل.
ولو تردد في فعل، هل هو قليل أو كثير، فالمعتمد أنه لا يؤثر.
والفرق بين الكلام في أن الصلاة تبطل بقليله وكثيره، وبين العمل في الصلاة لا تبطل إلا بكثيره: هو أن العمل يتعذر الاحتراز عنه، فعفي عن القليل؛ لأنه لا يخل بالصلاة، بخلاف الكلام العمد عند الشافعية، وأما غير العمد فلا يضر قليله، كما تقدم. وتبطل الصلاة عند أبي حنيفة بالقراءة في مصحف لسببين:
أحدهما ـ أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير.
والثاني ـ أن تلقن من المصحف كما تلقن من غيره، وجوزه الصاحبان بالكراهة، وجوزه الشافعي وأحمد بلا كراهة.
__________
(1) ثبت «أنه صلّى الله عليه وسلم صلَّى وهو حامل أمامة بنت بنته، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها» رواه الشيخان. وأمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب، وخلع نعليه في صلاته.
(2) حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي: 184/1.(2/201)
المشي في الصلاة: لا تبطل الصلاة إن مشى مستقبل القبلة بنحو متقطع يفصل بين تقديم كل رجل والأخرى بقدر أداء ركن، فيقف، ثم يمشي وهكذا وإن كثر ما لم يختلف المكان، بأن خرج من المسجد، أو تجاوز الصفوف إن كانت الصلاة في الصحراء.
4 - استدبار القبلة: بتحويل الصدر عنها بغير عذر، عند الحنفية والشافعية، فإن كان بعذر، كاستدبار القبلة للذهاب إلى الوضوء، فلا تبطل لأنه مغتفر. ومن العذر عند الشافعية: انحراف الجاهل والناسي إن عاد عن قرب.
ولا تبطل الصلاة عند المالكية ما لم تتحول قدما المصلي عن مواجهة القبلة. وعند الحنابلة: ما لم يتحول المصلي بجملته عن القبلة.
5 - كشف العورة عمداً أو انكشافها بنحو ريح ومضي مقدار أداء ركن أو مقدار ثلاث تسبيحات عند الحنفية إذا انكشف ربع عضو من أعضاء العورة، وإن سترها حالاً لم تبطل صلاته عند الشافعية والحنابلة. وتبطل الصلاة عند المالكية بمجرد انكشاف العورة المغلظة مطلقاً، لا غيرها والمعتبر في ستر العورة من الجوانب، لا من الأسفل، فإن ظهرت عورته من أسفل سقيفة أو سدّة مثلاً لم يضر.
6 - طروء الحدث الأصغر أو الأكبر ولو من فاقد الطهورين عمداً أو سهواً، ولو من دائم الحدث غير حدثه الدائم. لكن لو شك في الحدث استمر. ومن الحدث: نوم غير المتمكن مقعدته من الأرض. والمفسد للصلاة عند الحنفية: هو الحدث العمد بعد الجلوس الأخير قدر التشهد، أو قبل ذلك، فإن سبقه الحدث قبل السلام بعد الجلوس الأخير صحت الصلاة عندهم. كما أنه يبني على صلاته استحساناً إن سبقه الحدث من غير قصد في أثناء الصلاة: وهو ما يخرج من بدنه من بول أو غائط أو ريح أو رعاف أو دم سائل من جرح أو دمل به بغير صنعه.(2/202)
7 - حدوث النجاسة التي لا يعفى عنها في البدن والثوب والمكان: فمن تنجس جسده أو ثوبه، أو سجد على شيء نجس بنجاسة لا يعفى عنها، أو سالت نجاسة داخل فمه أو أنفه أو أذنه، بطلت صلاته. ولا تبطل الصلاة بالنجاسة التي يعفى عنها، ولا بما إذا وقع على ثوبه نجاسة يابسة فنفض ثوبه حالاً.
8 - القهقهة: أي الضحك بصوت، تفسد الصلاة عند الجمهور (غير الحنفية) إن ظهر بها حرفان فأكثر، أو حرف مفهم. فالبطلان فيها من جهة الكلام المشتملة عليه.
وفرق الحنفية (1) : بين الضحك والقهقهة، فالأول: هو ما يكون مسموعاً للمصلي فقط دون جيرانه، وحكمه أنه يفسد الصلاة فقط، ولا يبطل الوضوء. وأما القهقهة: فهي ما يكون مسموعاً للمصلي ولجيرانه، وحكمه: أنه يفسد الصلاة ويبطل الوضوء. أما التبسم وهو ماخلا عن الصوت فلا يفسد شيئاً.
ودليل الحنفية حديث: مضمونه: ألا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الصلاة والوضوء جميعاً (2) .
وتبطل الصلاة عند الحنفية بالقهقهة، كما تبطل بالحدث العمد إذا حصلت قبل القعود الأخير قدر التشهد، فإن كانت بعده فلا تبطل الصلاة التي تمت بها، وإن نقض الوضوء. ويفسد الجزء الذي حصلت فيه، كما يفسد مثله من صلاة المسبوق، فلا يمكن بناؤه الفائت عليه؛ لأن الجزء الذي لا بسته القهقهة، أفسدته من وسط صلاة المأمومين، فإذا فسد الجزء، فسدت الصلاة.
__________
(1) الهداية للمرغيناني: 6/1، البدائع: 232.
(2) فيه أحاديث مسندة وأحاديث مرسلة، أما المسندة فرويت من حديث أبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعمران بن الحصين، وأبي المليح. وحديث أبي موسى رواه الطبراني قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي بالناس، إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد ـ وكان في بصره ضرر ـ فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة» (نصب الراية: 47/1 - 54) .(2/203)
9 - الردة (وهي قطع الإسلام بقول أو فعل) والموت والجنون والإغماء.
10 - تغيير النية: تبطل الصلاة بفسخ النية أو تردده فيها، أو عزمه على إبطالها أو نية الخروج من الصلاة، أو إبطالها وإلغاء ما فعله من الصلاة، أو شكه هل نوى أم لا، فعمل مع الشك عملاً. وهذا متفق عليه. وتبطل الصلاة أيضاً عند الحنفية (1) بالانتقال من صلاة إلى مغايرتها، كأن ينوي الانتقال من صلاته التي هو فيها إلى صلاة أخرى: كمن صلى ركعة من الظهر، ثم افتتح بتكبير العصر أو التطوع، فقد نقض الظهر؛ لأنه صح شروعه في غيره، فيخرج عنه. ولو كان يصلي منفرداً في فرض، فكبر ناوياً الشروع في الاقتداء بإمام، أو كبر ناوياً إمامة النساء، فسدت الصلاة الأولى، وصار شارعاً في الصلاة الثانية.
وكذا لو نوى نفلاً أو واجباً، أو شرع في جنازة، فجيء بأخرى، فكبر ينويهما، أو كبر ناوياً الصلاة على الثانية، بطل ما مضى، ويصير شارعاً في الثانية.
__________
(1) فتح القدير 285/1، الدر المختار ورد المحتار: 583/1، تبيين الحقائق: 158/1.(2/204)
لكن لو بدأ صلاة الظهرمثلاً، فصلى ركعة أو دونها أو فوقها، ثم كبر ناوياً استئناف الظهر بعينها، لا يفسد ما أداه، وتحتسب الركعة أو غيرها التي صلاها، لعدم صحة الشروع في الثانية، إذ إنه نوِى الشروع في عين ما هو فيه، فلغت نيته، إلا إذا كبر ينوي إمامة النساء أو الاقتداء بالإمام، أو كان مقتدياً، فكبر ينوي الانفراد، فحينئذ يكون شارعاً فيما كبر له، ويبطل ما مضى من صلاته.
وإن تلفظ بنية جديدة يصير مستأنفاً مطلقاً، أي سواء انتقل إلى صلاة مغايرة أو متحدة؛ لأن التلفظ بالنية كلام مفسد للصلاة الأولى، فصح الشروع الثاني.
والخلاصة: إذا كبر المصلي ينوي الاستئناف (أي البدء بصلاة جديدة) ينظر:
فإن كانت الثانية التي نوى الشروع فيها هي الأولى بعينها من كل وجه، ولم تخالفها في شيء، لا تبطل صلاته، ويجتزئ بما مضى من صلاته، إلا إذا تلفظ أو اقتدى بإمام أو نوى إمامة النساء.
وإن كانت تخالفها تبطل صلاته، ويستأنف، سواء نوى بقلبه أو تلفظ. هذا وقد أجاز الشافعية تحويل الصلاة المفروضة إلى نفل مطلق، دون أن يبطل ما مضى من الصلاة كما سنبين.
11 - اللحن في القراءة، أو زلة القارئ: للحنفية (1) في هذا رأيان: رأي المتقدمين، ومعهم الشافعية في الجملة، وهو الأحوط، ورأي المتأخرين، وهو الأيسر.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:589/1 -593.(2/205)
ويتلخص رأي المتقدمين فيما يأتي:
تبطل الصلاة بكل ما غيَّر المعنى تغيراً يكون اعتقاده كفراً، وبكل مالم يكن مثله في القرآن، والمعنى بعيد متغير تغيراً فاحشاً، كهذا الغبار مكان {هذا الغراب} [المائدة:5/31] ، وبكل مالم يكن له مثل في القرآن، ولا معنى له، كالسرائل مكان {السرائر} ، وتبطل أيضاً عند أبي حنيفة ومحمد بما له مثل في القرآن، والمعنى بعيد، ولم يكن متغيراً تغيراً فاحشاً. ولا تبطل عند أبي يوسف؛ لعموم البلوى. فإن لم يكن له مثل في القرآن، ولم يتغير به المعنى، كقيامين مكان {قوامين} فعكس الخلاف السابق: لا تبطل عند الطرفين، وتبطل عند أبي يوسف.
وقال المتأخرون: إن الخطأ في الإعراب لا يفسد الصلاة مطلقاً، ولو كان اعتقاده كفراً؛ لأن أكثر الناس لا يميزون بين وجوه الإعراب.
وإن كان الخطأ بإبدال حرف مكان حرف: فإن أمكن الفصل بينهما بلا كلفة، كالصاد مع الطاء، بأن قرأ الطالحات مكان {الصالحات} فتفسد الصلاة اتفاقاً. وإن لم يكن الفصل إلا بمشقة، فالأكثر على عدم الفساد، لعموم البلوى، كالصاد مع السين، كالسراط بدل {الصراط} .
ولا تفسد الصلاة بتخفيف مشدّد ولا عكسه (تشديد مخفّف) ، كما لو قرأ {أفعيينا} بالتشديد، و {اهدنا الصراط} بإظهار اللام، كما لا تفسد بزيادة حرف فأكثر نحو (الصراط الذين) ، أو بوصل حرفٍ بكلمة نحو (إياكنعبد) ، أو بوقف وابتداء، وإن غيَّر المعنى.
لكن تفسد الصلاة بعدم تشديد {ربّ العالمين} و {إيّاك نعبد} [الفاتحة:1/5] .
ولا تفسد لو زاد كلمة، أو نقص كلمة، أو نقص حرفاً أو قدمه أو بدله بآخر، نحو (من ثمره إذا أثمر واستحصد) و (تعال جدّ ربنا) و (انفرجت) بدل «انفجرت» و (إياب) بدل (أواب) إلا إذا تغير المعنى.
ولا تفسد لو كرر كلمة وإن تغير المعنى، مثل (رب رب العالمين) .(2/206)
وتفسد لو بدل كلمة بكلمة، وغير المعنى، مثل: (إن الفجار لفي جنات) و (لعنة الله على الموحدين) وكتغيير النسب نحو (عيسى بن لقمان) بخلاف موسى ابن لقمان، ونحو (مريم بنت غيلان) . فإن لم يتغير المعنى، مثل الرحمن بدل الكريم لم تفسد اتفاقاً.
وقال الحنابلة (1) : إن أحال اللحان المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الائتمام به إلا أن يتعمده، فتبطل صلاتهما. أما إن أحال المعنى في الفاتحة فتبطل الصلاة مطلقاً.
12 - ترك ركن بلا قضاء، وشرط بلا عذر: الأول: مثل ترك سجدة من ركعة، وسلم قبل الإتيان بها. والثاني: كترك ستر العورة بلا عذر، فإن وجد عذر كعدم وجود ساتر أو مطهر للنجاسة، وعدم قدرة على استقبال القبلة، فلا فساد.
13 - أن يسبق المقتدي إمامه عمداً بركن لم يشاركه فيه: كأن يركع ويرفع قبل أن يركع مع الإمام. فإن كان سهواً، رجع لإمامه ولا تبطل صلاته، لكن
الحنفية قالوا: تبطل الصلاة ولو سبق سهواً إن لم يعد ذلك مع الإمام، أو بعده ويسلم معه، فإن أعاده معه أو بعده وسلم معه، فلا تبطل.
وقال الشافعية: لا تبطل صلاة المأموم إلا بتقدمه عن الإمام بركنين فعليين بغير عذر، كسهو مثلاً، وكذا لو تخلف عنه عمداً من غير عذر، كبطء قراءة.
14 - محاذاة المرأة الرجل في الصلاة من غير فرجة تسع مكان مصلٍ، أو من غير حائل، سواء أكانت المرأة مَحْرماً كأخت أو بنت، أم غير محرم كزوجة.
وتتحقق المحاذاة عند الحنفية بالشروط الآتية:
أولاً ـ أن تكون المحاذاة بالساق والكعب.
ثانياً ـ أن تكون الصلاة مشتركة بينهما في التحريمة، والأداء، ونية الإمام إمامتها، أو باقتدائها مع الرجل بإمام آخر، أو باقتدائها برجل، ولم يشر إليها لتتأخر عنه. فإن لم ينو الإمام إمامتها، لا تكون معه في الصلاة، وإن لم تتأخر بإشارته فسدت صلاتها هي، لا صلاته.
ثالثاً ـ أن يكون مكانهما متحداً ولا حائل بينهما.
__________
(1) المغني:198/2.(2/207)
رابعاً ـ أن تكون المرأة مشتهاة.
ومقدار المحاذاة المفسدة: أداء ركن عند محمد، أو قدره عند أبي يوسف، ويقدر بمقدار ثلاث تسبيحات.
15 - إذا وجد المتيمم ماء قدر على استعماله وهو في الصلاة: تبطل الصلاة عند الحنابلة والحنفية بمجرد رؤية الماء، إلا أن الحنفية قالوا: تبطل إذا رأى الماء قبل القعود الأخير قدر التشهد، وإلا فلا تبطل؛ لأن الصلاة تكون قد تمت عندهم. ولا تبطل الصلاة برؤية الماء عند المالكية والشافعية، إلا إذا كان عند المالكية ناسياً للماء الموجود معه، ثم تذكره، فتبطل الصلاة حينئذ إذا اتسع الوقت لإدراك ركعة من الصلاة بعد استعماله.
16 - القدرة على الساتر لعورته: إذا وجد العريان ثوباً ساتراً لعورته أثناء الصلاة واحتاج إلى عمل كثير لإحضاره، بطلت صلاته. إلا أن المالكية قالوا: لاتبطل إن كان بعيداً عنه أكثر من نحو صفين من صفوف الصلاة غير صفه، وإنما يكمل الصلاة، ويعيدها في الوقت فقط.
17 - أن يسلم عمداً قبل تمام الصلاة: فإن سلم سهواً، لم تبطل صلاته إذا لم يعمل عملاً كثيراً، ولم يتكلم كلاماً كثيراً على الخلاف السابق في بحث (السلام) .
18 - المسائل الاثنتا عشرة عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين (1) :
تفسد الصلاة عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله باثنتي عشرة مسألة وهي:
رؤية المتيمم الماء، وتمام مدة المسح على الخفين، وتعلم الأمي آية ما لم يكن مقتدياً بقارئ، ووجدان العاري ساتراً، وقدرة المومي على الركوع والسجود، وتذكر فائتة إن كان من أصحاب الترتيب (2) ، واستخلاف من لا يصلح إماماً كالمرأة، وطلوع الشمس في صلاة الفجر، وزوال الشمس في صلاة العيدين، ودخول وقت العصر في الجمعة، وسقوط الجبيرة عن برء، وزوال عذر المعذور.
__________
(1) رد المحتار:588/1.
(2) وهذا متفق مع المالكية إن تذكرها قبل عقد ركعة، فيقطع الصلاة إن كان إماماً أو منفرداً، أما المأموم فيتبع إمامه، ولا تبطل بتذكر الفائتة عند الشافعية.(2/208)
ودليله أن هذه المذكورات مغيرة للفرض، فاستوى حدوثها في أول الصلاة وفي آخرها.
وقال الصاحبان: لا تفسد الصلاة بهذه المذكورا ت إن حدثت بعد الجلوس الأخير بقدر التشهد، عملاً بحديث ابن مسعود السابق: «إذا قلت هذا أوفعلت هذا، فقد تمت صلاتك» فإنه نص على أن تمام الصلاة بالقعود، فلا شيء يفترض بعد ذلك، وافتراضه زيادة على هذا النص، وهذه الأمور وإن كانت مفسدة للصلاة، إلا أنها حدثت بعد تمام الفرائض والأركان، فلا تفسد الصلاة.
وهناك مبطلات أخرى نادرة مذكورة فيما يأتي من آراء المذاهب.
ثانياً - مبطلات الصلاة في كل مذهب على حدة:
مذهب الحنفية:
تبطل الصلاة بثمانية وستين سبباً (1) :
الكلام ولو سهواً أو خطأ، والدعاء بما يشبه كلام الناس، مثل: اللهم ارزقني فلانة أو ألبسني ثوباً، والسلام بنية التحية ولو ساهياً، ورد السلام بلسانه أو بالمصافحة.
والعمل الكثير، وتحويل الصدر عن القبلة، وأكل شيء من خارج فمه ولو قل، وأكل ما بين أسنانه: وهو قدر الحِمَّصه، والشرب. ولو مضغ العلْك في الصلاة فسدت صلاته؛ لأن الناظر إليه من بُعْد لا يشك أنه في غير الصلاة.
والتنحنح بلا عذر، والتأفيف كنفخ التراب والتضجر والأنين والتأوه بأن يقول «آه» ، وارتفاع البكاء من وجع أو مصيبة، لا من ذكر جنة أو نار.
__________
(1) مراقي الفلاح: ص52-54، الدر المختار:574/1-589، البدائع:233/1- 242.(2/209)
وتشميت عاطس بقوله (يرحمك الله) ، وجواب مستفهم عن شريك أو ندّ لله بقوله: (لا إله إلا الله) وعن خبر السوء بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وعن بشارة بقوله: (الحمد لله) وعن تعجب بقوله: (لا إله إلا الله) أو (سبحان الله) ، وكل شيء قصد به الجواب مثل: (يا يحيى خذ الكتاب) لمن طلب كتاباً ونحوه، وقوله: (آتنا غداءنا) لمستفهم عن شيء يأتي به، وقوله (تلك حدود الله فلا تقربوها) لمن استأذن في الأخذ. وإذا لم يرد بذلك الجواب، بل أراد الإعلام بأنه في الصلاة، لاتفسد.
ورؤية المتيمم ماء قدر على استعماله قبل قعوده قدر التشهد الأخير. وتمام مدة المسح على الخفين، ونزع الخف، وتعلم الأمي آية ما لم يكن مقتدياً، وقدرة المومي على الركوع والسجود، وتذكر فائتة إذا كان من أهل الترتيب، وكان الوقت متسعاً، واستخلاف من لا يصلح إماماً، ووجدان العاري ساتراً، وطلوع الشمس في الفجر، وزوالها في العيدين ودخول وقت العصر في الجمعة، وسقوط الجبيرة عن برء، وزوال عذر المعذور إذا حدث كل ذلك من المسائل الاثنتي عشرة قبل الجلوس الأخير قدر التشهد.
والحدث عمداً، أو بصنع غيره كوقوع ثمرة أدمته، والإغماء، والجنون، والجنابة بنظر أو احتلام نائم متمكن.(2/210)
ومحاذاة المرأة المشتهاة للرجل بساقها وكعبها في الأصح، ولو محرماً له أو زوجة، أو عجوزاً شوهاء، في أداء ركن عند محمد، أو قدره عند أبي يوسف، في صلاة ذات ركوع وسجود، فلا تبطل صلاة الجنازة، إذ لا سجود لها، اشتركت معه بتحريمة باقتدائها بإمام، أو اقتدائها به، في مكان متحد، بلا حائل قدر ذراع أو فرجة تسع رجلاً، ولم يشر إليها لتتأخر عنه، فإن لم تتأخر بإشارته، فسدت صلاتها، لاصلاته، ولا يكلف بالتقدم عنها لكراهته. وأن يكون الإمام قد نوى إمامتها، فإن لم ينوها لا تكون في الصلاة، فلم تتحقق المحاذاة. فهذه شروط تسعة للمحاذاة المبطلة أوجزناها سابقاً بخمسة.
وظهور عورة من سبقه الحدث في ظاهر الرواية، ولو اضطر إليه ككشف المرأة ذراعها للوضوء، أو عورة الرجل بعد سبق الحدث، على الصحيح.
وقراءة من سبقه الحدث وهو ذاهب للوضوء أو عائد منه، لإتيانه بركن مع الحدث، ومكثه قدر أداء ركن بعد سبق الحدث مستيقظاً، بلا عذر، فلومكث لزحام أو لقطع رعاف، لا تبطل.
ومجاوزة ماء قريب لغيره بأكثر من صفين، وخروج المصلي من المسجد لظن الحدث، لوجود النافي بغير عذر، فإن لم يخرج من المسجد فلا تفسد.
وانصرافه عن مقامه للصلاة، ظاناً أنه غير متوضئ، أو أن مدة مسحه انقضت، أو أن عليه فائتة، أو نجاسة، وإن لم يخرج من المسجد.
وفتح المأموم على غير إمامه لتعليمه، بلا ضرورة. أما فتحه على إمامه فهو جائز، ولو قرأ المقدار المفروض في القراءة. وأخذ المصلي بفتح غيره، وامتثال أمر الغير في الصلاة.(2/211)
والتكبير بنية الانتقال لصلاة أخرى غير صلاته، كما إذا نوى المنفرد الاقتداء بغيره، أوالعكس، أو انتقل بالتكبير من فرض لفرض، أو من فرض إلى نفل، وبالعكس. وذلك إذا حصل قبل القعود الأخير قدر التشهد، وإلا فلا تفسد على المختار، فإن عرض المنافي قبيل السلام بعد القعود، فالمختار صحة الصلاة؛ لأن الخروج منها بفعل المصلي واجب على الصحيح. ومدُّ الهمزة في التكبير، وقراءة ما لا يحفظه في المصحف، أو يلقنه غيره القراءة. وأداء ركن كركوع أو مضي زمن يسع أداء ركن مع كشف العورة أو مع نجاسة مانعة من الصلاة، وأن يسبق المقتدي إمامه بركن لم يشاركه فيه، ومتابعة المسبوق إمامه في سجود السهو بعد تأكد انفراده (1) (أي المسبوق) بأن قام إلى الإتيان بما فاته بعد سلام الإمام أو قبله بعد قعوده (أي الإمام) قدر التشهد (2) ، وقيد ركعته (أي المسبوق) بسجدة، فتذكر الإمام سجود سهو، فتابعه، فتفسد صلاته؛ لأنه اقتدى بعد وجود الانفراد ووجوبه.
وعدم إعادة الجلوس الأخير بعد أداء سجدة صلبية أو تلاوية تذكرها بعد الجلوس.
وعدم إعادة ركن أداه نائماً.
وقهقهة إمام المسبوق أو حدثه العمد، أي إذا قهقه الإمام وإن لم يتعمد، أو أحدث عمداً بعد قعوده قدر التشهد تمت صلاته، وصلاة المدرك خلفه، وفسدت صلاة المسبوق خلفه، لوقوع المفسد قبل تمام أركانه، إلا إذا قام قبل سلام إمامه وقيد الركعة بسجدة، لتأكد انفراده.
والسلام على رأس الركعتين في الرباعية أو الثلاثية، إذا ظن أنه مسافر أو يصلي غيرها، كأن كان يصلي الظهر، فظن أنه يصلي الجمعة أو التراويح، أو كان قريب عهد بالإسلام، فصلى الفرض ركعتين.
وتقدم المأموم على الإمام بقدمه، أما مساواته فلا تبطل.
__________
(1) أما قبله فتجب متابعته.
(2) والسبب في ذلك: أنه إن كان قبل قعود الإمام قدر التشهد لم يجزه؛ لأن الإمام بقي عليه فرض، لا ينفرد به المسبوق.(2/212)
والقراءة بالألحان، وزلة القارئ أي اللحن في القراءة بما يغير المعنى، مثل: (فما لهم يؤمنون) بترك (لا) على الصحيح. فإن لم تغير المعنى مثل (وجزاء سيئة مثلها) بترك (سيئة) الثانية، لا تفسد.
ولا تفسد الصلاة بالنظر إلى مكتوب وفهمه، لعدم النطق بالكلام، ولا بأكل ما بين أسنانه بقدر الحمصة، لعسر الاحتراز عنه، ولا بمرور بين يدي المصلي في بيت أو مسجد كبير أو صغير، أو صحراء أو في مكان أسفل من موضع المصلي، ولو كان المار امرأة أو كلباً، وإن كان المرور بمحل السجود في الأصح مكروهاً، كما سبق بيانه.
مذهب المالكية:
تبطل الصلاة بحوالي ثلاثين سبباً (1) وهي:
رفض النية (أي تركها، وإبطالها وإلغاء وقطع ما فعله منها) ، ترك ركن أو شرط من أركان وشروط الصلاة عمداً، وترك ركن سهواً حتى سلم وطال تركه عرفاً، زيادة ركن فعلي عمداً كركوع أو سجود، بخلاف زيادة ركن قولي كالقراءة، زيادة تشهد بعد الركعة الأولى أو الثالثة عمداً في حالة الجلوس.
القهقهة عمداً أو سهواً، تعمد أكل ولو لقمة بمضغها، أو شرب ولو قل، الكلام عمداً لغير إصلاح الصلاة، فإن كان لإصلاحها، فإن الصلاة تبطل بكثيره دون يسيره، التصويت عمداً، كصوت الغراب، النفخ بالفم عمداً، القيء عمداً، ولو كان قليلاً.
السلام عمداً حال الشك في تمام الصلاة، طروء ناقض للوضوء أو تذكره، كشف العورة المغلظة أو شيء منها، لا غيرها، طروء نجاسة على المصلي أو علمه بها أثناء الصلاة.
فتح المصلي على غير الإمام، الفعل الكثير عمداً أو سهواً الذي ليس من جنس الصلاة، كحك جسد وعبث بلحية ووضع رداء على كتف ودفع مارّ دفعاً قوياً وإشارة بيد، فإن كان الفعل قليلاً لم تبطل.
__________
(1) الشرح الصغير:343/1-357، القوانين الفقهية: ص51.(2/213)
طروء شاغل عن إتمام فرض كاحتباس بول يمنع من الطمأنينة مثلاً، أو هم كثير أو غثيان (فوران النفس) ، أو وضع شيء في فمه.
تذكر أولى الصلاتين المشتركتي الوقت في الصلاة الثانية، كالظهر والعصر. فإذا كان يصلي العصر، فتذكر أنه لم يصل الظهر، بطلت صلاته، لأنه يجب عليه ترتيبها.
زيادة أربع ركعات سهواً على الصلاة الرباعية ولو في السفر، أو على الثلاثية، وزيادة ركعتين على الثنائية كالصبح والجمعة، أو على الوتْر، وزيادة مثل النفل المحدود كالعيد والاستسقاء والكسوف.
سجود المسبوق الذي لم يدرك ركعة مع الإمام، سجود سهو، سواء أكان السجود قبل السلام أم بعده؛ لأن سجوده لا يلزم ذلك المسبوق؛ لأنه ليس بمأموم حقيقة، فسجوده معه محض زيادة في الصلاة. فإن أدرك معه ركعة بسجدتيها، سجد معه السجود القبلي، وقام لقضاء ما عليه بعد سلامه، وأخر السجود البَعْدي لتمام صلاته، فإن قدمه قبل إتمام ما عليه، بطلت صلاته.
السجود قبل السلام لترك سنة خفيفة كتكبيرة أو تسميعة، أو لترك مستحب أو فضيلة كالقنوت. ترك ثلاث سنن من سنن الصلاة سهواً، مع ترك السجود لها، حتى سلم، وطال الأمر عرفاً.
الردة، والاتكاء حال قيامه على حائط أو عصا لغير عذر، بحيث لو أزيل عنه متكَؤه، لسقط.
الجهل بالقبلة، وصلاة الفريضة في الكعبة أوعلى ظهرها، وتذكر المتيمم الماء في صلاته، واختلاف نية المأموم والإمام، وفساد صلاة الإمام بغير سهو.
مذهب الشافعية:
تبطل الصلاة بسبعة وعشرين سبباً وهي ما يأتي (1) :
1، 2 - طروء الحدث الأصغر أو الأكبر، ولو بلا قصد، واتصال النجاسة التي لا يعفى عنها بالبدن أو الملبوس، والمكان، إلا إن نحاها حالاً.
__________
(1) حاشية الباجوري:182/1 -186، تحفة الطلاب للأنصاري: ص50 -52، حاشية الشرقاوي على التحفة المذكورة:217/1-226، مغني المحتاج:194/1-200،206-207.(2/214)
3 - الكلام العمد الذي يخاطب به البشر بحرفين، أو حرف مفهم، ولو لمصلحة الصلاة، كما لو قال لإمامه إذا قام لركعة زائدة: لا تقم أو اقعد، أو هذه خامسة. أما كلام الله تعالى أو الذكر أو الدعاء فلا تبطل به الصلاة، كما لا تبطل بخطاب الرسول عند ذكره، قائلاً: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) ، أما لو نطق بالقرآن بقصد آخر، كأن استأذنه شخص في أخذ شيء، فقال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم:12/19] فإن قصد القراءة، ولو مع التفهيم، لم تبطل صلاته، وإلا بطلت.
وكما لا تبطل الصلاة بالذكر والدعاء بلا خطاب لمخلوق غير النبي صلّى الله عليه وسلم، لا
تبطل بالتلفظ بقربة بلا تعليق ولا خطاب لمخلوق غير النبي كالنذر؛ لأنه من جنس الدعاء، ولا تبطل بالسكوت الطويل بلا عذر، لأنه لا يخل بنظم الصلاة.
ولو قرأ الإمام: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:1/5] فقال المقتدي: استعنا بالله، بطلت صلاته، إلا إن قصد بذلك الدعاء.
ولو قال: (صدق الله العظيم) لم تبطل صلاته؛ لأنه ثناء.
ومن المبطلات: البكاء والأنين والضحك والتنحنح إن ظهر فيه حرفان وإن لم يكونا مفهمين، والذكر والدعاء إن قصد به مخاطبة الناس، كقوله لإنسان: يرحمك الله.
4 - تناول مفطر للصائم من أكل، أو شرب، قليل أو كثير، ولو بالإكراه إلا أن يكون الشخص في هذه الحالة جاهلاً تحريم ذلك.(2/215)
5 - الفعل الكثير المتوالي من غير جنس الصلاة، كثلاث خطوات وذهاب اليد وعودها ثلاث مرات، وحركة البدن كله، وقفزة، في غير صلاة شدة الخوف ونفل السفر، عمداً كان ذلك أو سهواً، إذ لا مشقة في الاحتراز عنه. أما الفعل القليل كتحريك أصابعه في سبحة، فلا يفسد، لخبرالصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلم صلَّى وهوحامل أمامة، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
وكذلك لا تفسد الصلاة بالفعل الكثير إذا كان لشدة جرب، أو كان منفصلاً لاتوالي فيه.
6، 7، 8 - القهقهة، والردة، والجنون في الصلاة.
9، 10 - ترك استقبال القبلة حيث يشترط أي في غير صلاة الخوف، بتحول الصدر عنها، وكشف عورة عمداً مع القدرة على سترها، أو قهراً ولم يسترها حالاً، فإن كشفها الريح، فسترها في الحال، لم تبطل صلاته.
11 - أن يجد من يصلي عارياً ثوباً بعيداً منه: بأن احتاج في المضي إليه إلى أفعال كثيرة، أو طالت مدة الكشف. أما لو كان قريباً منه: فإن استتر به حالاً بلا أفعال كثيرة دامت صلاته على الصحة، وإلا بطلت.
12 - فعل ركن من أركان الصلاة أو مضي زمن يسع ركناً، مع طروء الشك في النية، أو في شروط الصلاة كالطهارة، أو الشك في كيفية النية: هل نوى ظهراً أو عصراً مثلاً؟(2/216)
13 - تغيير النية إلى صلاة أخرى، أي صرف الفرض إلى غيره: فلو قلب صلاته التي هو فيها صلاة أخرى عالماًَ عامداً بطلت صلاته، إلا إذا قلب فرضاً نفلاً مطلقاً ليدرك جماعة مشروعة، وهومنفرد، فسلم من ركعتين ليدركها، لم تبطل صلاته، بل يندب له القلب إن كان الوقت متسعاً، فإن ضاق الوقت حرم القلب. ولو قلبها نفلاً معيناً كركعتي الضحى لم تصح لافتقاره إلى التعيين حال النية، أو كانت الجماعة غير مشروعة، كما لو كان يصلي الظهر، فوجد من يصلي العصر، فلا يجوز له القلب، وكما لو كان الإمام ممن يكره الاقتداء به، فلا يندب القلب، بل يكره. ولو قام للركعة الثالثة من الثلاثية أو الرباعية لم يندب القلب، بل يباح، كما يباح ولا يندب لو كان في الركعة الأولى ولو من الصلاة الثنائية؛ لأن النفل المطلق يجوز فيه الاقتصار على ركعة.
14، 15، 16 - نية الخروج من الصلاة قبل تمامها أو العزم على قطعها، والتردد في قطع الصلاة والاستمرار فيها، وتعليق قطعها بشيء ولو كان محالاً في العادة كعدم قطع السكين، كأن قال بقلبه: إن جاء زيد، قطعت الصلاة. أما إن علق الخروج من الصلاة على محال عقلي، كالجمع بين الضدين، فلا يضر.
17، 18، 19 - ترك ركن من أركان الصلاة ولو قولياً عمداً، فإن تركه سهواً لعذر لا تبطل ويتداركه، وتكرير ركن فعلي عمداً لتلاعبه، وتقديمه على غيره؛ لأن ذلك يخل بصورة الصلاة، أما تكرير الركن القولي عمداً كالفاتحة والتشهد وتقديمه على غيره، أو تكرير الركن الفعلي سهواً، فلا يفسد الصلاة على المعتمد.
21،20 - ظهور بعض ما يستر بالخف من الرِجل، أو الخِرَق (جمع خرقة) ، وخروج وقت مسحه، لبطلان بعض طهارته.
22 - اقتداء بمن لا يقتدى به، لكفر أو غيره، ولو مع الجهل بحاله في بعض الصور، بأن اقتدى به بعد تحرّم صحيح.(2/217)
23 - تطويل ركن قصير عمداً: بأن يزيد في الاعتدال (الرفع من الركوع) على الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة، أو أن يزيد في الجلوس بين السجدتين على الدعاء الوارد فيه بقدر التشهد.
ويستثنى من ذلك تطويل الاعتدال في الركعة الأخيرة من سائر الصلوات لأنه معهود في الصلاة في الجملة، كما في صلاة النازلة، وتطويل الجلوس بين السجدتين في صلاة التسابيح، كما سيأتي في النوافل.
24 - سبق المأموم إمامه بركنين فعليين أو تأخره عنه بهما من غير عذر.
25 - التسليم عمداً قبل محله.
26 - تكرير تكبيرة الإحرام مرة ثانية بنية الافتتاح.
27 - العود بعد الانتصاب للتشهد الأول عامداً عالماً بتحريمه؛ لأنه زاد قعوداً عمداً. فإن عاد ناسياً أنه في صلاة أو جاهلاً بتحريم العود، فلا تبطل في الأصح.
مذهب الحنابلة:
عدوا مبطلات الصلاة بحوالي ستة وثلاثين وهي ما يأتي (1) ، وهي تشبه كثيراً المبطلات عند الشافعية:
طروء ناقض للطهارة، واتصال نجاسة به إن لم يزلها حالاً، واستدبار القبلة حيث شرط استقبالها، وكشف عورة إلا إن كشفتها الريح فسترها حالاً، ووجود سترة بعيدة لعريان، واستناد قوي على شيء بلا عذر بحيث لو أزيل سقط.
ترك ركن مطلقاً، وترك واجب عمداً، وتعمد زيادة ركن فعلي كركوع، وتقديم بعض الأركان على بعض عمداً، ورجوعه للتشهد الأول بعد الشروع في القراءة إن كان عالماً ذاكراً للرجوع.
السلام عمداً قبل تمام الصلاة وسلام المأموم قبل إمامه عمداً، أو سهواً ولم يعده بعد سلام إمامه، والتلحين في القراءة لحناً يغير المعنى مع قدرته على إصلاحه، كضم تاء {أنعمت} [الفاتحة:7/1] .
فسخ النية بأن ينوي قطع الصلاة، والتردد في الفسخ، والعزم على الفسخ، وإن لم يفسخ بالفعل، والشك في النية هل نوى أوعين، وعمل عملاً مع الشك كأن ركع أو سجد، والشك في تكبيرة الإحرام.
مرور الكلب الأسود البهيم (2) بين يدي المصلي، للحديث السابق الذي رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي ذر: «الكلب الأسود شيطان» .
تسبيح ركوع وسجود بعد اعتدال، وجلوس وسؤال مغفرة بعد سجود، والدعاء بملاذ الدنيا كأن يسأل عروساً حسناء مثلاً.
__________
(1) غاية المنتهى:150/1- 151، المغني:1/2 ومابعدها، 44 -62،67،249.
(2) المراد بالبهيم: الذي ليس في لونه شيء سوى السواد.(2/218)
الكلام مطلقاً ولو قل، أو سهواً أو مكرهاً أو تحذيراً من مهلكة، والنطق بكاف الخطاب لغير الله تعالى ورسوله أحمد صلّى الله عليه وسلم، والقهقهة مطلقاً، والتنحنح بلا حاجة، والنفخ إذا بان منه حرفان، والبكاء لغير خشية الله تعالى إذا بان منه حرفان، إلا إذا غلبه، وكلام النائم غير الجالس والقائم.
العمل المتوالي الكثير عادة من غير جنس الصلاة بلا ضرورة كخوف وهرب من عدو ونحوه، ولو سهواً أو جهلاً، ولا يقدر العمل اليسير بثلاث، ولا غيرها من العدد، وإشارة الأخرس كفعله.
الأكل والشرب إلا اليسير لناسٍ (ساهٍ) وجاهل، وبلع ذوب نحو سكر بفم أي ما يتحلل منه إلا إن كان يسيراً من ساه وجاهل.
ومن علم ببطلان الصلاة ومضى فيها أدّب.
ولا تبطل الصلاة بعمل يسير، أو كثير غير متوال، وكره بلا حاجة. ولا يشرع له سجود، ولا تبطل ببلع ما بين أسنان عمداً بلا مضغ، ولو لم يجر به ريق، ولايبطل النفل بيسير شرب عمداً، ولا بإطالة نظر لشيء، ولو لكتاب، وقرأ ما فيه بقلبه، ولا بعمل قلبي ولو طال (1) ، فلا تبطل صلاة من غلبة وسواس على أكثرها، ولا تبطل إذا غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب وإن بان منها حرفان، ولا تبطل بكلام النائم القليل إذا كان نوماً يسيراً، وكان جالساً أو قائماً.
وتبطل الصلاة عند الحنابلة كما بينا في المقبرة وموضع الخلاء والحمام وفي أعطان الإبل (مباركها) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة (2) »
__________
(1) بدليل حديث، أبي هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضُراط حتى لا يسمع الأذان.. ثم ذكر سجدتي السهو» متفق عليه، قال عمر فيما رواه البخاري: «إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة» (نيل الأوطار:337/2) .
(2) رواه أبو داود.(2/219)
وحديث «لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين» (1) والنهي يقتضي التحريم، ولأن بعض هذه الأماكن موضع نجاسة، أوتعري.
ثالثاً ـ ما تقطع الصلاة لأجله:
قد يجب قطع الصلاة لضرورة، وقد يباح لعذر (2) .
أما ما يجب قطع الصلاة له لضرورة فهو ما يأتي:
1ً - تقطع الصلاة ولو فرضاً باستغاثة شخص ملهوف، ولو لم يستغث بالمصلي بعينه، كما لو شاهد إنساناً وقع في الماء، أو صال عليه حيوان، أو اعتدى عليه ظالم، وهو قادر على إغاثته.
ولا يجب عند الحنفية قطع الصلاة بنداء أحد الأبوين من غير استغاثة؛ لأن قطع الصلاة لا يجوز إلا لضرورة.
2ً - وتقطع الصلاة أيضاً إذا غلب على ظن المصلي خوف تردي أعمى، أو صغير أو غيرهما في بئر ونحوه. كما تقطع الصلاة خوف اندلاع النار واحتراق المتاع ومهاجمة الذئب الغنم؛ لما في ذلك من إحياء النفس أوالمال، وإمكان تدارك الصلاة بعد قطعها، لأن أداء حق الله تعالى مبني على المسامحة.
وأما ما يجوز قطع الصلاة له ولو فرضاً لعذر فهو ما يأتي:
1ً - سرقة المتاع، ولو كان المسروق لغيره، إذا كان المسروق يساوي درهماً فأكثر.
2ً - خوف المرأة على ولدها، أو خوف فوران القدر، أواحتراق الطعام على النار. ولو خافت القابلة (الداية) موت الولد أو تلف عضو منه، أو تلف أمه بتركها، وجب عليها تأخير الصلاة عن وقتها، وقطعها لو كانت فيها.
3ً - مخافة المسافر من اللصوص أو قطاع الطرق.
4ً - قتل الحيوان المؤذي إذا احتاج قتله إلى عمل كثير.
5ً - رد الدابة إذا شردت.
6ً - مدافعة الأخبثين (البول والغائط) وإن فاتته الجماعة.
7ً - نداء أحد الأبوين في صلاة النافلة، وهولا يعلم أنه في الصلاة، أما في الفريضة فلا يجيبه إلا للضرر، وهذا متفق عليه.
__________
(1) رواه أبو داود عن البراء بن عازب، وروى مسلم مثله عن جابر بن سمرة، وروى أحمد مثله عن أسيد بن حضير.
(2) مراقي الفلاح: ص60.(2/220)
الفَصْلُ الثَّامِن: النَّوافِل أو صَلاةُ التَّطوّع
التطوع في الأصل: فعل الطاعة: وشرعاً وعرفاً، طاعة غير واجبة.
فصلاة التطوع: هي ما طلب فعلها من المكلف زيادة على الفرائض طلباً غير جازم. وتكمل به صلاة الفرض يوم القيامة، إن لم يكن المصلي أتمها، وفيه حديث صحيح مرفوع رواه أحمد في المسند (1) ، وهو أن فريضة الصلاة والزكاة وغيرهما إذا لم تتم تكمل بالتطوع.
وحكمها: أنه يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها.
وهي إما أن تكون مستقلة عن الفرائض المكتوبة كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والخسوف والتراويح. وقال الحنفية: صلاة العيدين واجبة، وقال الحنابلة: صلاة العيدين فرض كفاية.
وإما أن تكون تابعة للفرائض كالسنن القَبْلية والبَعْدية.
والنوافل جمع نافلة، والنفل والنافلة في اللغة: الزيادة، والتنفل: التطوع، وشرعاً: عبارة عن فعل مشروع ليس بفرض ولا واجب ولا مسنون (2) .
__________
(1) كشاف القناع:481/1
(2) اللباب شرح الكتاب:91/1(2/221)
وعند الشافعية: النوافل: ما عدا الفرائض، سمي النفل بذلك لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى (1) . وقد ثبتت مشروعية النوافل بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم. «روى مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود» .
وأفضل عبادات البدن: الصلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» (2) ولأنها تجمع من القرَب ما لا يجمع غيرها، من الطهارة واستقبال القبلة، والقراءة، وذكر الله عز وجل، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويمنع فيها من كل ما يمنع منه في سائر العبادات، وتزيد عليها بالامتناع عن الكلام، والمشي، وسائر الأفعال. وتطوعها أفضل التطوع (3) .
وللمذاهب الفقهية اصطلاحات في تقسيم النوافل، يحسن ذكرها في كل مذهب على حدة:
النوافل عند الحنفية:
تنقسم النوافل عند الحنفية قسمين: مسنونة ومندوبة (4) ، والسنة: هي المؤكدة التي واظب الرسول صلّى الله عليه وسلم على أدائها، ولم يتركها إلا نادراً، إشعاراً بعدم فرضيتها.
والمندوب: هو السنة غير المؤكدة التي فعلها الرسول صلّى الله عليه وسلم أحياناً وتركها أحياناً.
أولاً ـ السنن المؤكدة: هي ما يأتي:
1 ً - ركعتان قبل صلاة الفجر (الصبح) ، وهما آكد (آقوى) السنن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (5) ، وقالت عائشة: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر» (6) .
__________
(1) مغني المحتاج:219/1.
(2) رواه أحمد في مسنده وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان، ورواه ابن ماجه أيضاً والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ورواه الطبراني أيضاً عن سلمة بن الأكوع، وهو صحيح. ورواه ابن ماجه عن أبي أمامة، والطبراني عن عبادة بن الصامت بلفظ «استقيموا ونعمَّا استقمتم، وخير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» .
(3) المهذب:82/1.
(4) فتح القدير:314/1 -335، تبيين الحقائق:/171-180، اللباب:91/1 -94، الدر المختار:630/1 -664.
(5) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن عائشة مرفوعاً (نيل الأوطار:19/3، سبل السلام:4/2) .
(6) متفق عليه، وروى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة: «لا تدعوا ركعتي الفجر، ولو طردتكم الخيل» (المصدران السابقان) .(2/222)
وبناء عليه قالوا: لا يجوز أن يؤديهما قاعداً أو راكباً بدون عذر. ولا يقضى شيء من السنن سوى الفجر، إذا فاتت معه، وقضاه من يومه قبل الزوال، فإن صلى الفرض وحده، لا يقضيان. ووقتهما وقت صلاة الصبح. والسنة أن يقرأ في أولاهما سورة الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص. وأن يصليهما في بيته في أول الوقت. وإذا قامت صلاة الجماعة لفرض الصبح قبل أن يصليهما: فإن أمكنه إدراكهما بعد صلاتهما ولو في الركعة الثانية، فعل، وإلا تركهما، وأدرك الجماعة، ولا يقضيهما بعد ذلك. والإسفار بسنة الفجر أفضل.
2 ً - أربع ركعات قبل صلاة الظهر أو قبل الجمعة، بتسليمة واحدة، لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة» (1) أي سنة الفجر. وهذه آكد السنن بعد سنة الفجر، ثم الكل الباقي سواء.
ترتيب أفضلية النوافل: تبين مما ذكر أن آكد السنن: سنة الفجر اتفاقاً، ثم الأربع قبل الظهر في الأصح، ثم الكل سواء.
3 ً - ركعتان بعد الظهر، ويندب أن يضم لها ركعتين، وأربع بعد الجمعة بتسليمة واحدة، لقوله صلّى الله عليه وسلم بالنسبة للظهر: «من صلى أربع رَكَعات قبل الظهر، وأربعاً بعدها، حرَّمه الله على النار» (2) ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يركع من قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن، وأربعاً بعدها» (3) .
4 ً - ركعتان بعد المغرب: ويسن إطالة القراءة فيهما، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل.
5 ً - ركعتان بعد فرض العشاء: والدليل على تأكد هذه السنن قوله صلّى الله عليه وسلم: «من صلَّى في يوم وليلة ثِنْتَي عشرة ركعة سوى المكتوبة بنى الله له بيتاً في الجنة» (4) ولفظ مسلم: «من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُني له بهن بيت في الجنة» ورواية الترمذي: «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر» وذكر النسائي «ركعتين قبل العصر» ولم يذكر ركعتين بعد العشاء» .
__________
(1) رواه البخاري، ويؤيده حديث أبي أيوب عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة بلفظ: «أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء» وحديث أنس عند الطبراني في الأوسط: «أربع قبل الظهر كعِدلهن بعد العشاء، وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر» (سبل السلام:4/2) .
(2) رواه الخمسة عن أم حبيبة، وصححه الترمذي (نيل الأوطار:16/3) .
(3) رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه، لكن سنده واه جداً (نصب الراية:206/2) .
(4) رواه الجماعة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان (المصدر السابق: ص138) .(2/223)
ومشروعية السنن القبلية لقطع طمع الشيطان: بأن يقول: إنه لم يترك ما ليس بفرض، فكيف يترك ما هو بفرض؟ والسنن البَعْدية لجبر النقصان أي ليقوم في الآخرة مقام ما ترك منها لعذر كنسيان.
6 ً - صلاة التراويح: التراويح سنة مؤكدة للرجال والنساء لمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين عليها، ويسن فيها الجماعة، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلاها جماعة في رمضان في ليالي الثالث والخامس والسابع والعشرين، ثم لم يتابع خشية أن تفرض على المسلمين، وكان يصلي بهم ثمان ركعات، ويكملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز كأزيز النحل (1) .
__________
(1) رواه الخمسة عن جبير بن نُفَير عن أبي ذر، وصححه الترمذي، وأخرجه الشيخان عن عائشة (نيل الأوطار:50/3 وما بعدها، نصب الراية:152/2) .(2/224)
ووقتها: في رمضان بعد صلاة العشاء إلى الفجر، قبل الوتر وبعده في الأصح عند الحنفية. ويستحب تأخيرها إلى ثلث الليل أو نصفه، ولا تكره بعده في الأصح عند الحنفية. ولا تقضى عندهم إذا فاتت أصلاً، فإن قضاها، كانت نفلاً مستحباً، وليس بتراويح، كسنة مغرب وعشاء؛ لأن القضاء من خصائص الواجبات كالوتر والعيدين.
والجماعة فيها سنة على الكفاية في الأصح، فلو تركها أهل مسجد أثموا، وكل ما شرع بجماعة، فالمسجد فيه أفضل، والمتخلف عن الجماعة إذا أقامها البعض تارك للفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة روي عنهم التخلف.
وتؤدى أيضاً فرادى، والأفضل فيها الجماعة، ويسن أن يختم فيها القرآن كله مرة خلال شهر رمضان. وإذا مل الناس سن قراءة ما تيسر من القرآن بقدر ما لا يثقل عليهم، كآية طويلة أو ثلاث قصار، ولا يكره الاقتصار على آية أو آيتين، بشرط الترتيل، والاطمئنان في الركوع والسجود مع التسبيح، ولا يترك دعاء الثناء والتعوذ والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في كل تشهد.(2/225)
وعدد ركعاتها عشرون ركعة، تؤدى ركعتين ركعتين، يجلس بينهما، مقدار الترويحة، بعشر تسليمات ثم يوتر بعدها، ولا يصلى الوتر بجماعة في غير شهر رمضان. ودليلهم على العدد فعل عمر رضي الله عنه كما أخرج مسلم في صحيحه، حيث إنه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك، ولم يخالفهم بعد الراشدين مخالف، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (1) . وأخرج البيهقي عن ابن عباس «كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر» (2) . وقد سئل أبو حنيفة عما فعله عمر رضي الله عنه فقال: التراويح سنة مؤكدة، ولم يتخرجه عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعاً، ولم يأمر به إلا عن أصل لديه، وعهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
لكن قال بعض أهل الحديث: إن العدد الثابت عنه صلّى الله عليه وسلم في صلاته في رمضان هو ثمان ركعات، بدليل ما أخرجه البخاري وغيره عن عائشة أنها قالت: «ماكان النبي صلّى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلم: «صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر» (3) .
ثانياً ـ أما المندوب أو السنن غير المؤكدة: فهي ما يأتي، ولا يعني كونها غير مؤكدة تركها، بل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصليها غالباً، ويتركها أحياناً:
1 ً - ركعتان أخريان إلى سنة الظهر البعدية، كما بينا.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2) زاد سليم الرازي في كتاب الترغيب له «ويوتر بثلاث» قال البيهقي: تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف (نيل الأوطار:53/3) .
(3) نيل الأوطار، المكان السابق.(2/226)
2 ً - أربع ركعات قبل العصر بتسليمة واحدة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر» (1) . أما جواز صلاة ركعتين فقط قبل العصر، فيشملها حديث «بين كل أذانين صلاة» (2) .
3 ً - أربع ركعات قبل صلاة العشاء وأربع بعدها بتسليمة واحدة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العشاء أربعاً، ثم يصلي بعدها أربعاً، ثم يضطجع (3) .
وإن شاء اقتصر على الركعتين المؤكدتين بعدها، عملاً بالحديث السابق: «من ثابر على ثنتي عشر ركعة ... » .
4 ً - صلاة الأوابين (4) : وهي ست ركعات بعد المغرب، بتسليمة أو ثنتين أو ثلاث، والأول أدوم وأشق، لقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين غفوراً} [الإسراء:17/25] ، ولما روي عن عمار بن ياسر: «من صلى بعد المغرب ست ركعات، غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبَد البحر» (5) .
واستحب الكمال بن الهمام كالشافعية والحنابلة ركعتين خفيفتين قبل المغرب لخبر الصحيحين عن عبد الله المزني: «صلوا ركعتين قبل المغرب» ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) وهذه النوافل تابعة للفرائض، أما النوافل المستقلة فهي ما يأتي:
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه (سبل السلام:5/2) .
(2) رواه البزار وفيه راو متكلم فيه (مجمع الزوائد:231/2) .
(3) هذا ما ذكر في مراقي الفلاح: ص64، وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: ما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلم العشاء قط، فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات (نصب الراية:145/2 وما بعدها، نيل الأوطار:18/3) .
(4) الأوابين: جمع أواب، أي رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار.
(5) رواه الطبراني (مجمع الزوائد:230/2) وروى ابن ماجه وابن خزيمة والترمذي عن أبي هريرة في موضوعه (الترغيب والترهيب:404/1) .(2/227)
5 ً - صلاة الضحى: وهي أربع ركعات على الصحيح إلى ثمانية، وأقلها ركعتان، ووقتها من بعد طلوع الشمس قدر رمح أي حوالي ثلث أو نصف ساعة إلى قبيل الزوال، لحديث عائشة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربع ركعات، لا يفصل بينهن بكلام» (1) ورواية مسلم: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله» وثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة «وركعتي الضحى» ووقتها المختار: بعد ربع النهار.
6 ً - ركعتا الوضوء قبل جفافه للحديث السابق: «ما من أحد يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، يقبل عليهما بقلبه، إلا وجبت له الجنة» (2) .
7 ً - تحية المسجد: يندب ركعتان لمن دخل المسجد تحية لرب المسجد، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين» (3) . يصليهما عند الحنفية في غير وقت الكراهة، وأداء الفرض أو غيره ينوب عنهما بلا نية. وتكفيه لكل يوم مرة إذا تكرر دخوله لعذر، ولا تسقط بالجلوس عندهم، لحديث ابن حبان في صحيحه: «يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما» وأما الحديث السابق: «إذا دخل أحدكم..» فهو بيان للأولى.
ويستثنى من المساجد المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف.
ومن لم يتمكن من تحية المسجد لحدث أو غيره يقول ندباً كلمات التسبيح الأربع: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) .
__________
(1) رواه أبو يعلى الموصلي (نصب الراية:146/2، سبل السلام:16/2) .
(2) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
(3) رواه الجماعة عن أبي قتادة، وابن ماجه عن أبي هريرة.(2/228)
8 ً - صلاة التهجد (الليل) : يندب الصلاة ليلاً خصوصاً آخره، وهي أفضل من صلاة النهار، لقوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة:17/32] وقوله سبحانه: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [السجدة:16/32] ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم ـ فيما روى مسلم في صحيحه ـ «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» ، وروى الطبراني مرفوعاً: «لابد من صلاة بليل، ولو حلب شاة، وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل» ، وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بصلاة الليل، فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم» .
وعدد ركعاتها من ركعتين إلى ثمانية.
ويندب إحياء ليالي العيدين (الفطر والأضحى) ، وليالي العشر الأخير من رمضان لإحياء ليلة القدر، وليالي عشر ذي الحجة، وليلة النصف من شعبان، ويكون بكل عبادة تعم الليل أو أكثره، للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك (1) .
ويندب الإكثار من الاستغفار بالأسحار، وسيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء (أعترف) لك بنعمتك، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت) .
__________
(1) قال صلّى الله عليه وسلم: «من أحيا ليلة العيد أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب» «وروت عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر» وقال عليه السلام: «ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتعبد فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر» وقال عن ليلة النصف: «إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، حتى يطلع الفجر» .(2/229)
ويكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي في المساجد وغيرها؛ لأنه لم يفعله النبي صلّى الله عليه وسلم ولا الصحابة.
كما يكره الاجتماع على صلاة الرغائب التي تفعل في أول جمعة من رجب، وإنها بدعة.
وطول القيام أفضل من كثرة السجود، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» (1) أي القيام، ولأن القراءة تكثر بطول القيام، وبكثرة السجود يكثر التسبيح، والقراءة أفضل منه.
9 ً - صلاة الاستخارة: أي طلب ما فيه الخير، وتكون في الأمور المباحة التي لايعرف وجه الصواب فيها، وهي ركعتان، يدعو بعدهما بالدعاء المأثور، روى الجماعة إلا مسلماً (2) عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل:
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر، ورواه الطبراني عن أبي موسى وعن عمرو بن عبسة بن عمير بن قتادة الليثي، وهو صحيح.
(2) الترغيب والترهيب:480/1.(2/230)
«اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته» أي عند قوله: (هذا الأمر) .
ويستحب افتتاح هذا الدعاء وختمه بالحمد لله، والصلاة على النبي. ويقرأ في الركعة الأولى: الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص.
وينبغي ـ أي إذا لم يبن له الأمر ـ أن يكررها سبعاً، لما روى ابن السني: يا أنس، إذا هممت بأمر، فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه. ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء.
10 ً - صلاة التسبيح: وفضلها عظيم، وفيها ثواب لا يتناهى.
ويفعلها المسلم في كل وقت لا كراهة فيه، أو في كل يوم وليلة مرة، وإلا ففي كل أسبوع، أو جمعة، أو شهر، أو العمر. وحديثها حسن لكثرة طرقه، ووهم من زعم وضعه.
وهي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، وسورة، بتسليمة أو تسليمتين، يقول فيها ثلاث مئة مرة: «سبحان الله والحمد لله ولاإله إلا الله والله أكبر» في كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة.
فبعد الثناء: خمس عشرة، ثم بعد القراءة، وفي الركوع، والرفع منه، وكل من السجدتين، وفي الجلسة بينهما: عشر تسبيحات، بعد تسبيح الركوع والسجود. وهذه الكيفية هي التي رواها الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المبارك أحد أصحاب أبي حنيفة. وهي المختار من الروايتين.(2/231)
ولا يعد المصلي التسبيحات بالأصابع إن قدر أن يحفظ بالقلب (1) .
11 ً - صلاة الحاجة: وهي أربع ركعات بعد العشاء، وقيل: ركعتان. ورد في الحديث المرفوع أنه يقرأ في الأولى الفاتحة مرة وآية الكرسي ثلاثاً، وفي كل من الثلاثة الباقية: يقرأ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين مرة مرة، فإن قرأهن كن له مثلهن من ليلة القدر.
وأخرج الترمذي عند عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت له إلى الله حاجة، أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ وليُحسن الوضوء، وليصلّ ركعتين، ثم ليُثن على الله، وليُصلِّ على النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا همَّاً إلا فرَّجته (2) ، ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين» (3) .
أحكام فرعية لصلاة النافلة (4) :
أـ كيفية أداء نوافل النهار والليل: إن شاء صلى في النهار ركعتين بتسليمة واحدة، وإن شاء أربعاً، وتكره الزيادة على ذلك (أي على الأربع من غير تسليمة) . أما نوافل الليل، فقال أبو حنيفة: إن صلى ثماني ركعات بتسليمة واحدة جاز، وتكره الزيادة على ذلك (أي على الثمانية من غير تسليمة) والأفضل عنده رباع أي أربعاً أربعاً ليلاً ونهاراً.
__________
(1) انظر الترغيب والترهيب:469/1، وهناك كيفية أخرى عن ابن عباس: يسبح خمس عشرة مرة بعد القراءة، والعشرة الأخيرة بعد السجدة الثانية (الترغيب والترهيب:467/1) .
(2) ثم ليثن: أي يحمده ويكثر من تسبيحه وتكبيره، والصلاة على حبيبه صلّى الله عليه وسلم، ويستغفر مئات، وموجبات رحمتك: موصلات باعثة إلى الجنة. وعزائم مغفرتك: أي الأسباب التي يعزم له بها الغفران ويحققه. والغنيمة: الفوز. والسلامة: النجاة من كل ذنب. فرجته: أزلته.
(3) رواه الترمذي وابن ماجه (الترغيب والترهيب:476/1) .
(4) فتح القدير:318/1 -332، اللباب شرح الكتاب:92/1 -94، الدر المختار:644/1 -658، مراقي الفلاح: ص 65،67 وما بعدها.(2/232)
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يزيد ـ من حيث الأفضلية ـ بالليل على ركعتين بتسليمة واحدة، والأفضل في الليل مثنى مثنى، وفي النهار: أربع أربع. وبرأي الصاحبين يفتى عند الحنفية اتباعاً للحديث.
دليل أبي حنيفة: الحديث السابق عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلم صلى أربعاً بعد العشاء، وأنه عليه السلام كان يواظب على الأربع في الضحى، ولأنه أدوم تحريمة، فيكون أكثر مشقة وأزيد فضيلة. ودليل الكراهة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يزد على ثمان ركعات، ولولا الكراهة لزاد، تعليماً للجواز.
ودليل الصاحبين: الاعتبار بالتراويح، كل ركعتين بتسليمة واحدة.
ب ـ القراءة واجبة في جميع ركعات النفل، وفي جميع الوتر؛ أما النفل فلأن كل شفع منه صلاة على حدة، والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة، ولهذا لا يجب بالتحريمة الأولى إلا ركعتان على المشهور، وأما الوتر فللاحتياط.
أما القراءة في الفرض فهي ـ كما بينا ـ واجبة في الركعتين الأوليين فقط، والمصلي مخير في الأخريين: إن شاء قرأ الفاتحة، وإن شاء سكت مقدار ثلاث تسبيحات وإن شاء سبَّح ثلاثاً، وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم، إلا أن الأفضل أن يقرأ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام داوم على ذلك، ولهذا لايجب السهو بترك القراءة في ظاهر الرواية.(2/233)
وبناء على ما ذكر في النفل: إن صلى أربعاً، ولم يقرأ فيهن شيئاً أعاد عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن ترك القراءة في الأوليين يوجب بطلان التحريمة: وعند أبي يوسف: يقضي أربعاً؛ لأن ترك القراءة في الشفع الأول لا يوجب بطلان التحريمة، وإنما يوجب فساد الأداء؛ لأن القراءة ركن زائد، وفساد الأداء لا يزيد على تركه، فلا يبطل التحريمة. جـ ـ الشروع في النفل صلاة أو صوماً ملزم عند الحنفية، خلافاً للشافعي فإنه قال: المتنفل متبرع فيه أي في فعل النفل، ولا لزوم على المتبرع لقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل} [التوبة:91/9] فالسنن لا تلزم بالشروع عند الشافعية، إلا في الحج والعمرة، أو فرض كفاية على الصحيح، فتلزم في الجهاد وصلاة الجنازة والحج والعمرة (1) . ودليل الحنفية قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [سورة سيدنا محمد:33/47] فيحرم قطع الصلاة وغيرها.
فيلزم النفل عندهم بالشروع في تكبيرة الإحرام، أو بالقيام للركعة الثالثة وقد أدى الشفع الأول صحيحاً، فإذا فسد الثاني لزم قضاؤه فقط، ولا يسري إلى الأول؛ لأن كل شفع صلاة على حدة.
وبناء عليه: من دخل في صلاة النفل، ثم أفسدها، قضاها. وإن صلى أربع ركعات، وقعد في الأوليين، ثم أفسد الأخريين قضى ركعتين.
ويستثنى من ذلك ما لو شرع متنفلاً خلف مفترض ثم قطعه، أو شرع في فرض ظاناً أنه عليه، ثم تذكر أنه ليس عليه، فلا قضاء عليه.
د ـ يقتصر المتنفل في الجلوس الأول من الرباعية المؤكدة (وهي التي قبل الظهر والجمعة وبعدها) على التشهد، ولا يأتي في الثالثة بدعاء الاستفتاح على الأصح. أما الرباعية المندوبة (غير المؤكدة) ، فإنه يقرأ في القعود الأول التشهد والصلاة الإبراهيمية ويأتي بالاستفتاح والتعوذ في ابتداء الثالثة، أي في ابتداء كل شفع من النافلة.
هـ ـ إذا صلى نافلة أكثر من ركعتين، ولم يجلس إلا في آخرها، صح
__________
(1) مغني المحتاج:259/1.(2/234)
استسحاناً؛ لأنها صارت صلاة واحدة من ذوات الأربع، وفيها الفرض وهو الجلوس الأخير، ويجبر ترك القعود الأول ساهياً بالسجود، ويجب العود إليه بتذكره بعد القيام ما لم يسجد.
وـ صلاة النفل قاعداً أو راكباً: يجوز ـ كما بينا في بحث القيام في الصلاة ـ النفل قاعداً مع القدرة على القيام، لكن له نصف أجر القائم إلا لعذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد» (1) . وأجاز الشافعية في الأصح التنفل مضطجعاً، مطلقاً وأباحه بقية المذاهب لعذر.
وكيفية القعود في النفل كالمتشهد، على المختار وعليه الفتوى عند الحنفية والشافعية، ويندب التربع عند المالكية والحنابلة. ويجوز للقادر على القيام إتمام نفله قاعداً، بعد افتتاحه قائماً، بلا كراهة على الأصح.
ويصح أداء النوافل ولو كانت مؤكدة كسنة الفجر (2) على الراحلة راكباً خارج البلاد، ويومئ إلى الركوع والسجود، إلى أية جهة توجهت دابته، للحاجة، وإذا نزل عن الدابة أتم صلاته. ولا يشترط عجزه عن إيقافها لتكبيرة الإحرام في ظاهر الرواية. وإذا حرك رجله أو ضرب دابته، فلا بأس به، إذا لم يصنع شيئاً كثيراً.
ودليل التنفل على الراحلة: حديث جابر المتقدم: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته، يومئ إيماء، ولكنه يخفض السجدتين من الركعتين» (3) .
والصلاة في المحمل على الدابة كالصلاة عليها، سواء أكانت سائرة أم واقفة، إلا إذا استقر المحمل على الأرض، فتصح الصلاة فيه ولو فرضاً.
__________
(1) أخرجه الجماعة إلا مسلماً عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) لكن الأولى أن ينزل لسنة الفجر: لأنها آكد من غيرها.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه.(2/235)
ولا يمنع صحة الصلاة على الدابة نجاسةٌ عليها، ولو كانت في السرج والركابين على الأصح. ولا تصح صلاة الماشي اتفاقاً.
ويجوز للمتطوع الاتكاء على شيء إن تعب، بلا كراهة، وإن كان بغير عذر كره في الأظهر، لإساءة الأدب.
ز ـ صلاة الفرض والواجب على الدابة: ولا يصح على الدابة صلاة الفرائض والواجبات، كالوتر والمنذورة، وقضاء ما شرع فيه نفلاً فأفسده، ولا صلاة الجنازة، أو سجدة تليت آيتها على الأرض، إلا للضرورة أو العذر، كخوف لص أو سبع على نفسه أو دابته، أو ثيابه، لو نزل، أو وجود طين ومطر في المكان، أو لعجز لمرض أو كسر ولم يوجد من يركبه.
ح ـ الصلاة في السفينة، ومثلها الطائرة والسيارة: تجوز صلاة الفريضة في السفينة والطائرة والسيارة قاعداً، ولو بلا عذر عند أبي حنيفة، ولكن بشرط الركوع والسجود.
وقال الصاحبان: لا تصح إلا لعذر، وهو الأظهر. والعذر كدوران الرأس، وعدم القدرة على الخروج.
ويشترط التوجه للقبلة في بدء الصلاة، ويستدير إليها كلما استدارت السفينة، ولو ترك الاستقبال لا تجزئه الصلاة، وإن عجز عن الاستقبال يمسك عن الصلاة حتى يقدر على الإتمام مستقبلاً.
والسفينة المربوطة في لجة أو عرض البحر التي تحركها الريح الشديدة كالسائرة، فإن لم تحركها فهي كالواقفة على الأصح. والمربوطة بالشط أوالمرفأ لا تجوز الصلاة فيها قاعداً اتفاقاً.
والثابت في السنة وجوب القيام على من يصلي في السفينة، ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق، لقول ابن عمر: «سئل النبي صلّى الله عليه وسلم، كيف أصلي في السفينة؟ قال: صلِّ فيها قائماً، إلا أن يخاف الغرق» (1) .
__________
(1) رواه الدارقطني والحاكم على شرط الصحيحين عن ميمون بن مهران (نيل الأوطار:199/3) .(2/236)
التطوعات عند المالكية:
التطوعات عند المالكية ثلاثة أنواع: سنة، وفضيلة، ونافلة (1) .
أما السنة: فهي عشر صلوات:
الوتر، وهي ركعة يقرأ فيها بالفاتحة والإخلاص والمعوذتين، وهي آكد السنن، وندب الجهر بوتر، وركعتا الفجر، وتسمى عند المالكية رغيبة (2) : أي مرغب فيها، وهي ما فوق المندوب ودون السنة، ووقتها كالصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ثم تقضى إلى الزوال فقط، فإن صلى الصبح قبلها كره فعلها إلى مابعد طلوع الشمس بقدر رمح (21 شبراً متوسطاً) ولا يقضى نفل خرج وقت سواها، أي كما قال الحنفية. ويند ب صلاتها في المسجد لمن أراد التوجه للمسجد لصلاة الفريضة، ويقرأ في الأولى الكافرون وفي الثانية الإخلاص.
وصلاة عيد الفطر، وصلاة عيد الأضحى، وصلاة كسوف الشمس، وكسوف القمر، وصلاة الاستسقاء، وسجود التلاوة، وركعتا الطواف، وركعتا الإحرام بالحج.
وترتيبها: الوتر ثم العيد، ثم الكسوف، ثم الاستسقاء. وذكر العلامة خليل في متنه أن صلاة خسوف القمر مندوب.
وأما الفضائل فهي عشر أيضاً.
وهي ركعتان بعد الوضوء، وركعتا تحية المسجد لداخل يريد الجلوس به لا المرور فيه، وإن في وقت النهي، وتتأدى بفريضة، والضحى وهي مؤكدة وأقلها ركعتان وأكثرها ثمانٍ، وقيام الليل ويندب جهراً، وهو مؤكد، وأفضله الثلث الأخير (3) ، وهو عشر غير الشفع والوتر، وأكثره لا حد له، وقيام رمضان وهي التراويح سنة مؤكدة، عشرون ركعة، يسلم من كل ركعتين، غير الشفع والوتر، وهي آكد من قيام الليل، وندب ختم القرآن فيها، بأن يقرأ كل ليلة جزءاً يفرقه على العشرين ركعة. فإن لزم على الانفراد بها تعطيل المساجد عنها، فالأولى إيقاعها في المساجد جماعة، فدل على أنه يندب لأعيان (وجهاء) الناس فعلها في المساجد؛ لأن الشأن الاقتداء بهم، فإذا لم يصلوها في المساجد تعطلت المساجد.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص42، الشرح الصغير:401/1 -411.
(2) وليس لهم رغيبة إلا هي.
(3) روى الديلمي في مسند الفردوس عن جابر: «ركعتان في جوف الليل يكفران الخطايا» وسكت السيوطي عن تصحيحه.(2/237)
ويتأكد النفل قبل صلاة الظهر وما بعدها، وقبل صلاة العصر، وبعد صلاة المغرب، والعشاء، بلا تحديد بعدد معين، فيكفي في تحصيل الندب ركعتان، والأولى بعد كل صلاة عدا المغرب أربع ركعات، وبعد المغرب ست ركعات.
ويندب فصل الشفع (المراد به الركعتان قبل الوتر) عن الوتر، بسلام، وكره وصله به من غير سلام، وكره الاقتصار على الوتر من غير شفع، وصح الوتر من غير شفع، خلافاً لمن قال بعدم صحته إلا بشفع.
ويندب القراءة في الشفع بسبّح اسم ربك الأعلى عقب الفاتحة في الركعة الأولى، والكافرون في الثانية.
ويندب الإسرار بسنة الفجر وسائر نوافل النهار. ويندب الجهر بالوتر وفي سائر نوافل الليل.
وتندب تحية المسجد قبل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده عليه السلام، وتحية مسجد مكة: الطواف بالبيت سبعاً، إلا المكي فيكفيه الركعتان.
وأما النوافل فهي قسمان:
1- مالا سبب له: وهي التطوع في الأوقات الجائزة غير الخمسة المكروهة المذكورة سابقاً.
2- وماله سبب: وهي عشر: الصلاة عند الخروج إلى السفر، وعند الرجوع منه، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وصلاة الاستخارة ركعتان (1) ، وصلاة الحاجة ركعتان (2) ، وصلاة التسبيح أربع ركعات (3) ، وركعتان بين الأذان والإقامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة» والمراد باللأذانين: الأذان والإقامة.
وأربع ركعات بعد الزوال، وركعتان عند التوبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يُذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم.. الآية [آل عمران: 135/3] » (4) ، زاد ابن حبان والبيهقي وابن خزيمة: «ثم يصلي ركعتين»
وزاد بعض المالكية ركعتين عند الدعاء، وركعتين لمن قدم للقتل اقتداء بخبيب ابن عدي رضي الله عنه.
ما يكره في أداء النوافل عند المالكية (5) :
يكره تأخير الوتر للوقت الضروري وهو من طلوع الفجر لصلاة الصبح، بلاعذر من نوم أو غفلة أو نحوهما.
وكره كلام بالأمور الدنيوية بعد صلاة الصبح، لا بعد سنة الفجر وقبل الصبح.
وكره ضِجْعة: بأن يضطجع على شقه الأيمن بعد سنة الفجر قبل الصبح إذ لم يصحبها عمل أهل المدينة. وهذا متفق مع مذهب الحنفية (6) ، أخذاً برأي ابن عمر، إذ لم يفصل بالضجعة، وقال: وأي فصل أفضل من السلام؟! أي سلام سنة الفجر؛ لأن السلام إنما ورد للفصل، وهو أفضل ما يخرج به من الصلاة من الفعل والكلام.
وكره جمع كثير لصلاة النفل في غير التراويح؛ لأن شأن النفل الانفراد به، كما يكره صلاة النفل في جماعة قليلة بمكان مشتهر بين الناس.
النوافل عند الشافعية:
النوافل نوعان: نوع تسن له الجماعة، ونوع لا تسن له الجماعة (7) .
__________
(1) خرجهما البخاري.
(2) خرجهما الترمذي عن عثمان بن حنيف أن الرسول علّمها رجلاً أعمى وقال له: فانطلق فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم قل: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبي محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري، اللهم شفعه في، وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره» (الترغيب والترهيب: 1/473)
(3) خرجهما أبو داود، وخرجهما الترمذي عن عبد الله بن أبي، وضعف سنده.
(4) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي، وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد (الترغيب والترهيب: 1/472) .
(5) الشرح الصغير:414/1.
(6) رد المحتار:637/1.
(7) المهذب:82/1- 85، مغني المحتاج:219/1 -228، حاشية الباجوري:135/1 -140، تحفة الطلاب: ص74-78.(2/238)
1 ً - ما تسن له الجماعة: سبع صلوات مسنونات هي:
العيدان أي صلاة عيد الفطر وعيد الأضحى، والكسوفان: أي صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر، والاستسقاء، والتراويح، لخبر الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أنه صلّى الله عليه وسلم صلاها ليالي، فصلوها معها، ثم تأخر وصلاها في بيته باقي الشهر، وقال: خشيت أن تفرض عليكم (1) ، فتعجزوا عنها» وروى ابنا خزيمة وحبان عن جابر قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات، ثم أوتر، فلما كانت الليلة القابلة، اجتمعنا في المسجد، ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا» الحديث. وكان جابر إنما حضر في الليلة الثالثة والرابعة، ولأن عمر جمع الناس على قيام شهر رمضان: الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان ابن أبي حَثْمة (2) .
وكان قد انقطع الناس عن فعلها جماعة في المسجد إلى زمن عمر رضي الله عنه، وإنما صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك فرادى خشية الافتراض، كما مرَّ، وقد زال ذلك المعنى.
والتراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات في كل ليلة من رمضان بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، اتباعاً للسنة (3) ، مع مواظبة الصحابة عليها.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً (4) ، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
__________
(1) أي افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطاً في صحة التنفل بالليل. بدليل حديث زيد بن ثابت: «خشيت أن تكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم» فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقاً عليهم من اشتراطه.
(2) رواه البيهقي.
(3) رواه الشيخان عن عائشة، كما سبق.
(4) إيماناً: تصديقاً بأنه حق، واحتساباً: إخلاصاً لله تعالى.(2/239)
وينوي الشخص بكل ركعتين: التراويح أو قيام رمضان، ولو صلى أربع ركعات منها بتسليمة واحدة لم تصح، ووقتها بين صلاة العشاء وطلوع الفجر.
وتندب الجماعة في الوتر عقب التراويح جماعة، إلا إن وثق باستيقاظه آخر الليل، فالتأخير أفضل، لخبر مسلم: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة» أي تشهدها ملائكة الليل والنهار.
وهذا النوع أفضل مما لا تسن له الجماعة؛ لأنها تشبه الفرائض في سنة الجماعة، وأوكد ذلك صلاة العيد؛ لأنها راتبة بوقت كالفرائض، ثم صلاة الكسوف، لأن القرآن دل عليها، ثم صلاة الاستسقاء. لكن الأصح تفضيل الراتبة على التراويح، لمواظبته صلّى الله عليه وسلم على الراتبة لا التراويح.
2 - ما لا تسن له الجماعة: وهو نوعان:
أـ الرواتب مع الفرائض: أي السنن التابعة للفرائض، ويعبر عنها بالسنة الراتبة وهي سبع عشرة ركعة:
ركعتا الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وثلاث بعد العشاء يوتر بواحدة منهن. والواحدة هي أقل الوتر، وأكثره إحدى عشرة ركعة. ووقته بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، فلو أوتر قبل العشاء عمداً أو سهواً لم يعتد به.
ويسن قبل الجمعة أربع كما قبل الظهر، وبعدها أربع وهو الأكمل (1) .
ب - غير الراتبة أي المستقلة عن الفرائض: وهي الصلوات التي يتطوع بها الإنسان في الليل والنهار.
__________
(1) المجموع:503/3.(2/240)
وأفضلها التهجد أو قيام الليل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلوات بعد المفروضة: صلاة الليل» (1) ، ولأنها تفعل في وقت غفلة الناس وتركهم للطاعات، فكان التهجد أفضل.
والنفل المطلق في الليل أفضل من النفل المطلق في النهار، والنفل وسط الليل أفضل، ثم آخره أفضل، إذا قسم المسلم الليل أثلاثاً. فإن قسمه أنصافاً فالنفل في آخره أفضل منه في أوله. والأفضل من ذلك كله: أن يقسمه أسداساً، فينام ثلاثة أسداس، ويقوم السدس الرابع والخامس، وينام السادس ليقوم للصبح بنشاط.
ويكره أن يقوم الليل كله، لما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتصوم النهار؟ فقلت: نعم، وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (2) .
وأفضل تطوع النهار: ما كان في البيت، لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» (3) .
والسنة أن يسلم في تهجده من كل ركعتين؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة» (4) .
وإن جمع ركعات بتسليمة واحدة، جاز، لما روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس، يجلس في الركعة الأخيرة ويسلم، وإنه أوتر بسبع
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم (راجع المجموع:534/3،539) .
(4) رواه البخاري ومسلم (المجموع:540/3) ورواه أيضاً أصحاب السنن الأربعة، وأخرجه أبو نعيم من حديث عائشة، ورواه إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن أبي هريرة (نصب الراية:143/2-145) .(2/241)
وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام» (1) .
وإن تطوع بركعة واحدة، جاز، لما روي أن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، فصلى ركعة، فتبعه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، إنما هي تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص (2) .
ويستحب أن ينوي الشخص القيام عند النوم، وأن يمسح المستيقظ النوم عن وجهه، وأن ينظر إلى السماء، وأن يقرأ: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران:190/3] ، وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين. والسنة أن يتوسط في نوافل الليل بين الجهر والإسرار، وإطالة القيام فيها أفضل من تكثير عدد الركعات، وأن ينام من نعس في صلاته، ويتأكد بإكثار الدعاء والاستغفار في جميع ساعات الليل، وفي النصف الأخير آكد، وعند السحر أفضل.
ومن غير الراتبة: صلاة الضحى، وأقلها ركعتان، وأكثرها اثنتا عشرة، لخبر مسلم: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما من الضحى» ، وأدنى الكمال أربع، وأكمل منه ست، وأفضلها ثماني ركعات، لما روت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلاها ثماني ركعات (3) .
__________
(1) حديث صحيح، بعضه في الصحيحين، وبعضه في مسلم بمعناه (المجموع:540/3 ومابعدها) .
(2) أثر عمر رواه الشافعي ثم البيهقي بإسنادين ضعيفين (المجموع:541/3) .
(3) رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري (المجموع:531/3) .(2/242)
وكون أكثرها ثنتا عشرة ركعة لخبر أبي داود: «إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين أو أربعاً كتبت من المحسنين، أو ستاً كتبت من القانتين، أو ثمانياً كتبت من الفائزين، أو عشراً لم يكتب عليك ذلك اليوم ذنب، أو ثنتي عشرة بنى الله لك بيتاً في الجنة» (1) .
ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى زوالها.
ومن غير الراتبة: تحية المسجد ركعتين، والأصح أنها تتكرر بتكرر الدخول في المسجد مراراً، لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (2) . فإن دخل وقد أقيمت الجماعة، لم يصل التحية، لقوله صلّى الله عليه وسلم «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة» (3) ، ولأنه يحصل بها التحية. وتحصل التحية بفرض أو نفل آخر، وإن لم تنو؛ لأن القصد بها ألا ينتهك المسجد بلا صلاة. وعلى هذا فإنها تكره إذا وجد المكتوبة تقام، أو دخل المسجد الحرام ففعلها قبل الطواف، أو خاف فوت الصلاة. ولا تسن التحية للخطيب إذا خرج من مكانه للخطبة، ولا لمن لو فعلها فاته أول الجمعة مع الإمام.
ومنها: صلاة التوبة: لخبر أبي داود وغيره وحسنه الترمذي: «ليس عبد يذنب ذنباً، فيقوم فيتوضأ، ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله، إلا غفر له» .
ومنها: صلاة التسبيح أربع ركعات، يقول في كل ركعة بعد القراءة: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر» خمس عشرة مرة، ويقول في كل من الركوع والرفع منه والسجدتين والجلوس بينهما وجلسة الاستراحة، وما قبل التشهد عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة (4) .
ومنها: صلاة الاستخارة ركعتان، لخبر البخاري السابق عن جابر: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ... » الحديث في النوافل عند الحنفية. ويقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون:109/1] ، وفي الثانية: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1/112] .
__________
(1) ورواه البيهقي، وقال: في إسناده نظر، وضعفه النووي في المجموع، المكان السابق. والمعتمد عند جماعة: أن أكثر الضحى ثمان.
(2) رواه البخاري ومسلم (المجموع:543/3) .
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة (المجموع:544/3) .
(4) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه، لكن قال النووي: وفي سنية صلاة التسبيح نظر؛ لأن فيها تغيير الصلاة، وحديثها ضعيف. لكن رد بعضهم هذا بأن حديثها حسن أو صحيح، ولو سلم ضعفه فهو في فضائل الأعمال.(2/243)
ومنها: ركعتا الزوال عقبه، يقرأ فيهما بعد الفاتحة (الكافرون والإخلاص) فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وأمر بفعله. وهو حديث غريب أي من حيث روايته؛ لأنه انفرد به راو واحد.
ومنها: ركعتان عند الرجوع من سفره في المسجد قبل دخوله بيته. اتباعاً للسنة، رواه الشيخان.
ومنها: ركعتا الوضوء ولو مجدَّداً، لخبر الصحيحين «من توضأ فأسبغ الوضوء، وصلى ركعتين، لم يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه» .
ومنها: صلاة الأوابين وتسمى صلاة الغفلة لغفلة الناس عنها بسبب عشاء أو نوم أو نحو ذلك، وهي عشرون ركعة بين المغرب والعشاء، وأقلها ركعتان لحديث الترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء، كتب الله له عبادة اثنتي عشرة ركعة» .
المؤكد وغير المؤكد من النوافل عند الشافعية:
أولاً ـ السنن المؤكدة:
أـ عشر ركعات من الراتب التابع للفرض: وهي ركعتا الفجر، وركعتا قبل الظهر أو الجمعة، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء (1) .
ويقرأ في ركعتي المغرب والفجر سورتي الإخلاص: في الأولى: قل ياأيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد (2) .وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم قرأ في الأولى من ركعتي الفجر: {قولو آمنا بالله وما أنزل إلينا} ـ الآية التي في البقرة:136،وفي الثانية: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} ـ الآية ال عمران: 64.
والخلاصة: يقرأ في أولى ركعتي الفجر والمغرب والاستخارة وتحية المسجد وركعتي الإحرام والزوال: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: الإخلاص.
ويسن أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه باضطجاع أو كلام أو نحوه، لحديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج» (3) وهذا موافق لمذهب الحنابلة أيضاً، وخالف المالكية والحنفية في ذلك كما بينا.
__________
(1) اتباعاً للسنة، رواها الشيخان ما عدا المغرب عند مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.(2/244)
ب ـ الوتر: إذا أراد أن يصليه ثلاثاً فالأفضل أن يصليها مفصولة بسلامين لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه، ولكثرة العبادات، فإنه تتجدد فيه النية، ودعاء التوجه والدعاء في آخر الصلاة، والسلام وغير ذلك.
جـ ـ ثلاث نوافل غير راتبة أي تابعة للفرائض: صلاة الليل (التهجد) وصلاة الضحى، وصلاة التراويح.
ترتيب أفضليتها: وآكد السنن الراتبة مع الفرائض: سنة الفجر والوتر؛ لأنه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما، والمذهب الجديد وهو الصحيح أن الوتر أفضل من الفجر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر» وقوله عليه السلام «من لم يوتر فليس منا» (1) .
والأصح تفضيل الراتبة على التراويح، ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب والتراويح: الضحى، ثم ما يتعلق بفعل كركعتي الطواف، وركعتي الإحرام، وتحية المسجد، ثم سنة الوضوء. (2)
وقت الرواتب: ما يفعل قبل الفرائض من سنن الرواتب يدخل وقتها بدخول وقت الفرض، ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض. وما كان بعد الفرض يدخل وقتها بالفراغ من الفرض، ويبقى وقتها إلى أن يذهب وقت الفرض، ويعد فعل القبلية بعد الفرض أداء، والاختيار ألا تؤخر عن وقتها إلا لمن حضر والصلاة تقام أو نحوه، وفعل البعدية قبله لا تنعقد. ويسن فعل السنن الراتبة في السفر، سواء أقصر أم أتم، لكنها في الحضر آكد (3) .
__________
(1) الحديث الأول رواه ثمانية من الصحابة، والثاني رواه أبو داود والحاكم وصححه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه (نصب الراية:108/2-113) .
(2) المجموع:521/3 وما بعدها.
(3) المجموع:505/3، المهذب:83/1، مغني المحتاج:224/1.(2/245)
قضاء النوافل: لو فات النفل المؤقت، ندب قضاؤه في الأظهر (1) ، لحديث الصحيحين: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ولأنه صلّى الله عليه وسلم «قضى ركعتي الفجر لما نام في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس» (2) «وقضى ركعتي سنة الظهر المتأخرة بعد العصر» (3) ، ولأنها صلاة مؤقتة، فقضيت كالفرائض، سواء في السفر والحضر.
ثانياً ـ السنن غير المؤكدة:
أـ اثنتا عشرة ركعة: ركعتان قبل الظهر، سوى المؤكدتين، وركعتان بعدها كذلك، والجمعة كالظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، ويسن تخفيفهما وفعلهما بعد إجابة المؤذن لحديث «بين كل أذانين صلاة» والمراد الأذان والإقامة كما قدمنا، وركعتان قبل العشاء.
ب ـ كل النوافل الأخرى غير المؤكدة مما ذكر سابقاً في السنن غير الراتبة.
جـ ـ النفل المطلق: وهو ما لا يتقيد بوقت ولا سبب، أي لا حصر لعدده ولا لعدد ركعاته، قال صلّى الله عليه وسلم لأبي ذر: «الصلاة خير موضوع، استكثر أو أقلّ» (4) .
فإن أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في كل ركعتين، والصحيح منعه في كل ركعة. وإذا نوى عدداً، فله أن يزيد وينقص بشرط تغيير النية قبلهما، وإلا فتبطل، فلو نوى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة سهواً، فالأصح أنه يقعد، ثم يقوم للزيادة إن شاء الزيادة، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته لزيادة القيام.
وقد بينا سابقاً أن نفل الليل أفضل، وأوسطه أفضل، ثم آخره.
__________
(1) مغني المحتاج:224/1.
(2) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفي مسلم نحوه.
(3) رواه الشيخان.
(4) رواه ابن ماجه.(2/246)
ويسلم في النفل من كل ركعتين، ويكره قيام كل الليل دائماً، وتخصيص ليلة الجمعة بقيام (1) ، وترك تهجد اعتاده بلا عذر، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «ياعبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل ثم تركه» (2) .
النوافل عند الحنابلة:
يتشابه المذهب الحنبلي مع الشافعي في النوافل إلى حد كبير، فقالوا (3) :
التطوعات قسمان:
أحدهما: ما تسن له الجماعة، وهو صلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح.
والثاني: ما يفعل على الانفراد، وهي قسمان: سنة معينة، ونافلة مطلقة.
فأما السّنّة المعيّنة فتتنوّع أنواعاً:
النوع الأول ـ السنن الرواتب مع الفرائض أي المؤكدة: وهي ركعة الوتر: يتأكد فعلها، ويكره تركها، ولا تقبل شهادة من داوم عليه ثم تركه، لسقوط عدالته، قال أحمد: من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل شهادته.
وعشر ركعات: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويخير في السفر بين فعلها وبين تركها؛ لأن السفر مظنة المشقة، ولذلك جاز في القصر، إلا سنة الفجر وسنة الوتر، فيفعلان فيه، لتأكدهما.
وفعل الرواتب في البيت أفضل، بل السنن كلها سوى ما تشرع له الجماعة، لحديث ابن عمر: «حفظت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يُدخل فيها على النبي صلّى الله عليه وسلم حدثتني حفصة:
__________
(1) لخبر مسلم «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي» أما إحياؤها بغير صلاة فلا يكره.
(2) رواه الشيخان.
(3) المغني:120/2 -163، كشاف القناع:495/1 -521.(2/247)
أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» (1) ولمسلم «بعد الجمعة سجدتين» ولم يذكر ركعتين قبل الصبح» .
ويسن تخفيف ركعتي الفجر، لحديث عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب؟» (2) .
ويسن الاضطجاع بعدهما على جنبه اليمين قبل الفرض، لقول عائشة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع» وفي رواية: «فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع» (3) قالوا: واتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله وفعله أولى من اتباع من خالفه كائناً من كان.
ويسن أن يقرأ في ركعتي الفجر والمغرب (الكافرون) و (الإخلاص) لما روى أبو هريرة وغيره في الفجر، وابن مسعود في المغرب (4) ، أو يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى {قولوا آمنا بالله ... } من البقرة:136،وفي الثانية: {قل: يا أهل الكتاب تعالوا ... } من آل عمران: 64، للخبر المتقدم.
ويجوز فعل ركعتي الفجر والوتر وغيرها راكباً، لحديث مسلم عن ابن عمر في الفجر، وللبخاري «إلا الفرائض» .
وآكد هذه الركعات: ركعتا الفجر، لحديث عائشة السابق: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن على شيء أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» (5) .
ووقت السنن الرواتب القبلية: وقت الفرض قبله، والبعدية بعده، ولا يقضى منها شيء إلا ركعتا الفجر، اختار أحمد أن يقضيهما من الضحى، أي كما قال الحنفية والمالكية، وقال: إن صلاهما بعد الفجر أجزأ. ويجوز قضاء السنن الراتبة بعد العصر، في حديث أم سلمة، وقضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها في حديث عائشة، والاقتداء بما فعله النبي صلّى الله عليه وسلم متعين؛ ولأن النهي بعد العصر خفيف.
__________
(1) متفق عليه، وكذا أخبرت عائشة وصححه الترمذي.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه، وروى الترمذي مثله عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن.
(4) حديث أبي هريرة رواه مسلم، وروى مسلم أيضاً مثله عن ابن عباس، وروى الترمذي مثله عن ابن عمر، وحديث ابن مسعود أخرجه الترمذي وابن ماجه.
(5) متفق عليه، وروى مسلم: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» وروى أبو داود عن أبي هريرة: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» .(2/248)
وقال في كشاف القناع: تقضى جميع السنن، إذ يقاس الباقي على سنة الفجر والعصر، قال ابن حامد: تقضى جميع السنن الرواتب في جميع الأوقات إلا أوقات النهي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قضى بعضها، وقسنا الباقي عليه، أي كما قال الشافعية.
النوع الثاني ـ السنن غير الرواتب، وهي تطوعات مع الرواتب أي غير مؤكدة: وهي عشرون: أربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع قبل صلاة العصر،
وأربع بعد صلاة المغرب، وأربع بعد صلاة العشاء. ويباح أن يصلي ركعتين قبل المغرب.
وأدلة ذلك: في الظهر: حديث أم حبيبة «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار» (1) . وفي العصر: «رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً» (2) ، وعن علي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وأربعاً قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعاً بعدها، وأربعاً قبل العصر بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين» (3) .
وفي المغرب: «من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم بينهن بسوء عدلن له بعبادة اثنتي عشرة سنة» (4) .
وفي العشاء: سأل شريح بن هانئ عائشة عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشاء قط، إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات (5) .
وأما سنة قبل المغرب: فلحديث أنس: «كنا نصلي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فسئل أنس: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما، فلم يأمرنا ولم ينهنا» (6) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وروى أبو أيوب عن النبيص قال: «أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم، تفتح لهن أبواب السماء» .
(2) رواه أبو داود، وروي مثله عن عائشة.
(3) رواه ابن ماجه.
(4) رواه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وضعفه البخاري جداً.
(5) رواه أبو داود.
(6) متفق عليه، وفي حديث آخر متفق عليه «صلوا قبل المغرب ركعتين» وأخرج مسلم عن أنس: «أن الناس بالمدينة إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين» وروى مسلم أيضاً عن عبد الله بن المغفل: «بين كل أذانين صلاة ـ قالها ثلاثاً ـ لمن شاء» وقال عقبة: «كنا نفعله على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم» .(2/249)
وقال في كشاف القناع (1) : ولا سنة راتبة للجمعة قبلها، وأقل السنة الراتبة بعدها: ركعتان، لما في رواية متفق عليها عن ابن عمر: «وركعتين بعد الجمعة في بيته» ، وأكثرها ست. وفعل سنة الجمعة في المسجد مكانه أفضل.
أما صلاة ركعتين بعد الوتر: فظاهر كلام أحمد: أنه لا يستحب فعلهما، وإن فعلهما إنسان جاز. والصحيح أنهما ليستا بسنة؛ لأن أكثر من وصف تهجد النبي صلّى الله عليه وسلم لم يذكرهما، منهم ابن عباس وزيد بن خالد وعائشة.
ويسن أن يفصل بين كل فرض وسنة بقيام أو كلام، لقول معاوية: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة، حتى نتكلم أو نحرج» (2) .
النوع الثالث ـ صلوات معينة مستقلة:
1 ً - صلاة التراويح أو قيام شهر رمضان:
عشرون ركعة، وهي سنة مؤكدة، وأول من سنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه» (3) ،وقالت عائشة: «صلى النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم ـ قال: وذلك في رمضان» (4) .
__________
(1) 496/1.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أصحاب الكتب الستة، وهو صحيح.
(4) رواه مسلم.(2/250)
ودليل كونها عشرين: ما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: «كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة» والسر فيه: أن الراتبة عشر، فضوعفت في رمضان؛ لأنه وقت جدّ، وهذا مظنة الشهرة بحضرة الصحابة، فكان إجماعاً. وروى أبو بكر عبد العزيز في كتابه الشافي عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة» ، وأن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة. وعن علي «أنه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة» وهذا كالإجماع.
وثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث.
ويجهر فيها الإمام بالقراءة لفعل الخلف عن السلف. وفعلها جماعة أفضل من فعلها فرادى، لحديث أبي ذر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم جمع أهله وأصحابه، وقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة» (1) ، وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة. وروى البيهقي عن علي: أنه كان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً. وكان علي وجابر وعبد الله يصلونها جماعة. وقد أجمع الصحابة على ذلك.
هذا ... وللعلماء في عدد التراويح ثلاثة أقوال: قول كثير من العلماء إنها عشرون وهو السنة، لعمل المهاجرين والأنصار، وقوله آخرين: إنها ست وثلاثون غير الشفع والوتر وهو ماكان في زمن عمر بن عبد العزيز، وعمل أهل المدينة القديم (2) ، وقالت طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة» قال ابن تيمية: والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وأنه
__________
(1) رواه أحمد وصححه الترمذي.
(2) الشرح الكبير للدردير315/1.(2/251)
لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره (1) ، وقال الشوكاني: دلت الأحاديث على مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى، فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين، وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة (2) .
القراءة في التراويح:
قال أحمد رحمه الله: يقرأ الإمام بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، ولا سيما في الليالي القصار، والأمر على ما يحتمله الناس. وقال القاضي أبو يعلى: لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر، ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه.
وعقب صاحب المغني على ذلك: والتقدير بحال الناس أولى، فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل، كما روى أبو ذر قال: «قمنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ يعني السحور» .
ويستحب أن يبتدئ التراويح بسورة العلق {اقرأ باسم ربك} [العلق:1/96] ؛ لأنها أول ما نزل من القرآن، فإذا سجد للتلاوة في آخرها قام فقرأ من البقرة.
نية التراويح:
وينوي في كل ركعتين، فيقول سراً ندباً، أصلي ركعتين من التراويح المسنونة، أو من قيام رمضان، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ، ويستريح بعد كل أربع بجلسة يسيرة.
__________
(1) فتاوى ابن تيمية112/23 -113.
(2) نيل الأوطار53/3.(2/252)
ولا بأس بترك الجلسة بعد كل أربع، ولا يدعو إذا استراح، لعدم وروده، ولا يكره الدعاء بعد التراويح لعموم قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} [الانشراح:7/94] .
وقت التراويح:
ووقتها بعد صلاة العشاء وبعد سنتها قبل الوتر إلى طلوع الفجر الثاني، فلا تصح قبل صلاة العشاء، فمن صلى العشاء ثم التراويح، ثم ذكر أنه صلى العشاء محدثاً، أعاد التراويح؛ لأنها سنة تفعل بعد مكتوبة، فلم تصح قبلها، كسنة العشاء. وإن طلع الفجر، فات وقتها، ولا تقضى. وإن صلى التراويح بعد العشاء، وقبل سنتها، صح جزماً، ولكن الأفضل فعلها بعد السنة، على المنصوص.
فعلها في المسجد:
وفعلها في المسجد أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلاها مرة ثلاث ليال متوالية» كما روته عائشة، ومرة «ثلاث ليال متفرقة» كما رواه أبو ذر، وقال عليه السلام: «من قام مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» (1) ، وكان أصحابه يفعلونها في المسجد أوزاعاً في جماعات متفرقة في عهده، وجمع عمر الناس على أبي، وتابعه الصحابة على ذلك ومن بعدهم.
وفعلها أول الليل أفضل؛ لأن الناس كانوا يقومون على عهد عمر أوله.
الوتر بعد التراويح:
ويوتر بعدها في الجماعة بثلاث ركعات، لما تقدم عن مالك عن يزيد بن رومان.
__________
(1) حديث عائشة رواه مسلم وغيره، وحديث ابي ذر رواه ابو داود والاثرم وابن ماجة، والحديث الاخير في رواية ابي ذر.(2/253)
فإن كان له تهجد جعل الوتر بعده استحباباً لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» (1) . وإن لم يكن له تهجد صلى الوتر مع الإمام لينال فضيلة الجماعة. فإن أحب من له تهجد متابعة الإمام في وتره، قام إذا سلم الإمام، فشفعها أي ركعة الوتر بأخرى، ثم إذا تهجد أوتر، فينال فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، وفضيلة جعل وتره آخر صلاته.
ومن أوترفي جماعة أو منفرداً، ثم أراد الصلاة تطوعاً بعد الوتر، لم ينقض وتره أي لم يشفعه بركعة، كما قال الشافعية، لقول عائشة ـ وقد سئلت عن الذي ينقض وتره ـ «ذاك الذي يلعب بوتره» (2) ، وصلى شفعاً ما شاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لأنه قد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين» ، ولم يوتر اكتفاء بالوتر الذي قبل تهجده، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» (3) .
التطوع بين التراويح وبعدها:
ويكره التطوع بين التراويح، ولا يكره طواف بينها، ولا طواف بعدها، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعاً، ويصلون ركعتي الطواف. ولا يكره تعقيب التطوع بعد التراويح وبعد الوتر في جماعة، سواء طال الفصل أو قصر.
2 ً - صلاة الضحى:
وهي مستحبة أي غير مؤكدة، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد» (4) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه سعيد وغيره.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن قيس بن طلق عن أبيه، وقيس فيه لين.
(4) متفق عليه، ورويا مثله حديثين آخرين عن أبي الدرداء، وأبي ذر.(2/254)
وأكثرها ثمان ركعات، لما روت أم هانئ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل بيتها، يوم فتح مكة، وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» (1) .
ووقتها: إذا علت الشمس واشتد حرها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الأوابين حتى ترمَض الفصال» (2) .
وقال بعض الحنابلة: لا تستحب المداومة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يداوم عليها، قالت عائشة: «ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط» (3) ، ولأن في المداومة عليها تشبيهاً بالفرائض.
وقال بعض آخر (أبو الخطاب) : تستحب المداومة عليها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أوصى بها أصحابه، وقال: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» (4) ، ولأن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه.
3 ً - صلاة التسبيح:
ليست مستحبة عند الإمام أحمد إذ لم يثبت له الحديث المروي فيها (5) ، وإن فعلها إنسان فلا بأس بها، فإن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها.
4 ً - صلاة الاستخارة:
سنة لحديث جابر السابق عند البخاري.
5 ً - صلاة الحاجة:
سنة لحديث عبد الله بن أبي أوفى السابق عند الترمذي، وقال حديث غريب.
6 ً - صلاة التوبة:
سنة لحديث علي السابق عند أبي داود والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
7 ً - تحية المسجد:
سنة لحديث أبي قتادة المتقدم، المتفق عليه.
8 ً - صلاة الزوال:
مستحبة لحديث علي المتقدم في مذهب الشافعية.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم. أي حتى يجد الفصيل حر الشمس من الرمضاء.
(3) متفق عليه.
(4) قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث النهاس بن قهم.
(5) وهو الحديث السابق في المذاهب الثلاثة المروية عن ابن عباس عند أبي داود والترمذي.(2/255)
النَّفْلُ المُطلَق:
تشرع النوافل المطلقة في الليل كله، وفي النهار، فيما سوى أوقات النهي، وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار، قال أحمد: ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل. وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك، قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء:79/17] ، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» (1) .
وأفضل التهجد جوف الليل الآخر، لما روى عمدو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت» (2) .
والتطوع في البيت أفضل، لحديث «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» (3) .
ويستحب أن يتسوك قبل التهجد، لما روى حذيفة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» (4) .
ويستحب أن يفتح تهجده بركعتين خفيفتين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» (5) .
عدد التهجد:
واختلف في عدد ركعات تهجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ففي حديث زيد بن خالد وابن عباس: إنه ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر ثلاثاً (6) ، وفي حديث عائشة: إنه إحدى عشرة ركعة، منها الوتر ثلاثاً (7) . قال ابن قدامة الحنبلي: يحتمل أنه صلى في ليلة ثلاث عشرة، وفي ليلة إحدى عشرة.
قراءة المتهجد:
يستحب أن يقرأ المتهجد جزءاً من القرآن في تهجده، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعله. وهو مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها، إلا أنه إن كان الجهر أنشط له
__________
(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(2) رواه أبو داود، ورويت أحاديث كثيرة في صفة تهجد النبي صلّى الله عليه وسلم، منها عن ابن عباس: في منتصف الليل، ومنها عن عائشة في السحر، ومنها عن أبي هريرة في ثلث الليل الآخر، وهي كلها متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أحمد ومسلم، وهو صحيح.
(6) أخرجهما مسلم.
(7) متفق عليه.(2/256)
في القراءة، أو كان بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها، فالجهر أفضل. وإن كان قريباً منه من يتهجد أو من يستضر برفع صوته، فالإسرار أولى. وإن لم يكن لا هذا ولا هذا، فليفعل ما شاء (1) .
قضاء التهجد:
ومن كان له تهجد ففاته، استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر (2) .
التنفل بين المغرب والعشاء:
يستحب التنفل بين المغرب والعشاء، لما روي عن أنس بن مالك في هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية [السجدة:16/32] ، قال: «كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون» (3) .
التطوع مثنى مثنى:
وصلاة التطوع في الليل مثنى مثنى كالشافعية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» (4) . وإن تطوع بأربع في النهار فلا بأس. والأفضل في تطوع النهار: أن يكون مثنى مثنى، كصلاة الليل.
التطوع جالساً:
لا خلاف في إباحة التطوع جالساً، وإنه في القيام أفضل، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (5) ، وفي لفظ مسلم: «صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة» .
__________
(1) روي في ذلك أحاديث كثيرة، منها ما رواه الترمذي عن عائشة، ومنها ما رواه أبو داود عن أبي هريرة وعن ابن عباس وعن أبي قتادة وأبي سعيد.
(2) أخرج مسلم حديثين في ذلك عن عائشة وغيرها.
(3) رواه أبو داود، وروى الترمذي حديثاً غريباً عن عائشة: «من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة» .
(4) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن ابن عمر.
(5) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عمران بن حصين.(2/257)
ويستحب للمتطوع جالساً: أن يكون في حال القيام متربعاً، كما قال المالكية؛ لأن القيام يخالف القعود، فينبغي أن تخالف هيئته في بدله هيئة غيره، كمخالفة القيام غيره، وهو مع هذا أبعد من السهو والاشتباه.
الدعاء عند اليقظة من النوم:
يستحب أن يقول الشخص عند انتباهه: «ما رواه عبادة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: من تعارَّ (1) من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، استجيب له، فإن توضأ وصلى، قبلت صلاته» (2) .
وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال: اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلّى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت
__________
(1) أي استيقظ.
(2) رواه البخاري.(2/258)
وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» (1) .
قراءة القرآن وحفظه (2) :
القرآن أفضل الذكر:
القرآن أفضل من سائر الذكر لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الرب سبحانه وتعالى: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين، وفضلُ كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه» (3) . لكن الاشتغال بالمأثور من الذكر في محله كأدبار الصلوات أفضل من الاشتغال بتلاوة القرآن في ذلك المحل. والقرآن أفضل الكتب والصحف السماوية، وبعض القرآن أفضل من بعض، إما باعتبار الثواب، أو باعتبار متعلقه، كما يدل عليه ما ورد في (قل هو الله أحد والفاتحة وآية الكرسي) .
حفظ القرآن:
ويستحب حفظ القرآن إجماعاً، وحفظه فرض كفاية إجماعاً، ويجب أن يحفظ منه ما يجب في الصلاة أي الفاتحة على المشهور، أو الفاتحة وسورة. ويبدأ ولي الصبي بتعليمه إياه قبل البلوغ، فيقرؤه كله إلا أن يعسر عليه حفظ كله، فيقرأ ماتيسر منه. ويقدم المكلف العلم بأحكام الشريعة بعد القراءة الواجبة.
الاستماع للقرآن:
يجب الاستماع للقراءة مطلقاً؛ لأن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، لكن الاستماع للقرآن فرض كفاية؛ لأنه لإقامة حقه، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيع، وذلك يحصل بإنصات البعض، كما في رد السلام (4) .
القراءة في الطريق:
ولا بأس بقراءة القرآن وهو ماش في الطريق، والإنسان مضطجع أو جالس أو راكب، بدليل ما ثبت عن جماعة من السلف قراءة الكهف وغيرها في الطريق، وعن عائشة قالت: «إني لأقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري» رواه الفرياني، وروى الشيخان عن عائشة أيضاً: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن» .
__________
(1) متفق عليه.
(2) المغني:173/2-176، كشاف القناع:502/1-509.
(3) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) الدر المختار ورد المحتار 509/1 ومابعدها.(2/259)
ويستحب أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ليكون له ختمة في كل أسبوع، روى أبو داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في سبع، ولا تزيدن على ذلك» .
ختم القرآن:
ويكره أن يؤخر ختمة القرآن أكثر من أربعين يوماً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «سأله عبد الله بن عمر: في كم تختم القرآن؟ قال: في أربعين يوماً، ثم قال: في شهر، ثم قال: في عشرين، ثم قال: في عشر، ثم قال: في سبع، لم ينزل علي من سبع» (1) .
وإن قرأه في ثلاث فحسن، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن بي قوة؟ قال: «اقرأه في ثلاث» (2) ويكره أن يقرأه في أقل من ثلاث، لما رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث» (3) .
ترتيله وتلحينه:
والترتيل أفضل من قراءة الكثير مع العجلة، وتفهم القرآن وتدبره بالقلب أفضل من إدراجه؛ لأن الله تعالى قال: {ورتل القرآن ترتيلاً} [المزمل:4/73] ، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص:29/38] ويستحب تحسين القراءة وترتيلها وإعرابها، ويمكّن حروف المد واللين من غير تكلف، للأمر السابق بترتيله. قال الإمام أحمد: يُحسِّن القارئ صوته بالقرآن، ويقرؤه بحزن وتدبر، فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه إذالم يفض إلى زيادة حرف فيه أو تغيير لفظه، لقول أبي موسى الأشعري للنبي صلّى الله عليه وسلم: «لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبَّرته لك تحبيراً» (4) وقال عبد الله بن المغفل: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح، قال: فقرأ ابن المغفل ورجَّع في قراءته» (5) فلا يكره الترجيع وتحسين القراءة، بل ذلك مستحب لحديث أبي هريرة: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به» (6) وقال عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم» (7) «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (8) .
__________
(1) أخرجه أبو داود.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي.
(4) يريد تحسين الصوت وتحزينه.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه البخاري.
(7) رواه أحمد والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن البراء، وروي عن غيره أيضاً، وهو صحيح.
(8) رواه البخاري عن أبي هريرة، ورواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن سعد، وأبو داود عن أبي لبابة، والحاكم عن ابن عباس وعائشة.(2/260)
ويكره قراءة القرآن بالألحان، وهي بدعة، أي إذا جعل الحركات حروفاً، ومدَّ في غير موضع المد؛ لأن القرآن معجز في لفظه ونظمه، والألحان تغيره، فإن حصل مع الألحان تغير نظم القرآن، وجَعْل الحركات حروفاً، حرم.(2/261)
آداب التلاوة:
يستحب التعوذ قبل القراءة؛ لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل:98/16] ، ويستحب حمد الله تعالى عند الفراغ من القراءة على توفيقه ونعمه.
ومن آداب القراءة: البكاء، فإن لم يبك فليتباك، وأن يسأل الله عند آية الرحمة، ويتعوذ عند آية العذاب. ولا يقطع القراءة لحديث الناس إلا لحاجة. وأن تكون قراءته على العدول الصالحين العارفين بمعناها، وأن يتطهر ويستقبل القبلة إذا قرأ قاعداً، ويتحرى أن يعرضه كل عام من هو أقرأ منه، ويفصل كل سورة مما قبلها بالوقف أو التسمية، ويترك المباهاة، وأن يطلب به الدنيا بل ما عند الله تعالى، وينبغي أن يكون ذا سكينة ووقار وقناعة بما قسم الله له، وألا يجهر بين مصلين أو نيام، أو تالين جهراً يؤذيهم.
وقراءة القرآن أول النهار بعد الفجر أفضل من قراءته آخره، لقوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء:78/17] ، ويجوز تنوع الكلمة بقراءات السبع.
ولا تكره القراءة مع حدث أصغر (نقض الوضوء) وبنجاسة بدن وثوب، وحال مس الزوجة والذكر.
وتكره القراءة في المواضع القذرة تعظيماً للقرآن، وتكره استدامتها حال خروج الريح، وإنما يمسك حتى تنقضي، ويكره جهره بالقراءة مع الجنازة لأنه إخراج لها مخرج النياحة، ولا تمنع نجاسة الفم القراءة. وكره ابن عقيل القراءة في الأسواق يصيح أهلها فيها بالنداء والبيع.
وتستحب القراءة في المصحف، ويستحب الاستماع لها؛ لأنه يشارك القارئ في أجره، ويكره الحديث عند القراءة بما لا فائدة فيه، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:7/204] ، ولأنه إعراض عن الاستماع الذي يترتب عليه الأجر بما لا طائل تحته.(2/262)
ويدعو عقب ختم القرآن لفعل أنس: «كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا» (1) ، ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، لحديث أنس: «خير الأعمال: الحل والرحلة، قيل: وما هما؟ قال: افتتاح القرآن وختمه» . ويسن أن يكبر فقط، فلا يستحب التهليل والتحميد لختمه آخر كل سورة من آخر الضحى إلى آخره، لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلّى الله عليه وسلم فأمره بذلك (2) ، ويكرر سورة الصمد، ولا يقرأ الفاتحة وخمس آيات من أول البقرة عقب الختم؛ لأنه لم يثبت فيه أثر.
ويستحب الإكثار من التلاوة في الأماكن الفاضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، اغتناماً للزمان والمكان.
ويجوز تفسير القرآن بمقتضى اللغة العربية؛ لأنه عربي، ولقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزّل إليهم} [النحل:16/44] ، وندد الله بالأعراب فقال: {وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} [التوبة:9/97] أي الأحكام.
تفسير القرآن:
ولا يجوز تفسير القرآن بالرأي، من غير لغة ولا نقل، فمن قال في القرآن أي فسره برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده (3) من النار، وأخطأ ولو أصاب، لقول ابن عباس مرفوعاً: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار» (4) ، وعن جندب مرفوعاً: «من قال في القرآن برأيه، فأصاب فقد أخطأ» (5) ، ويلزم الرجوع إلى تفسير الصحابي؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا التأويل، فهو أمارة ظاهرة، ولا يلزم الرجوع إلى تفسير التابعي؛ لأن قوله ليس بحجة على المشهور.
ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام، مثل أن يرى رجلاً جاء في وقته، فيقول: {ثم جئت على قدر يا موسى} [طه:40/20] .
وذكر المالكية (6) : أنه يكره الاجتماع على قراءة سورة مثل سورة «يس» كما يكره بالاتفاق الجهر بالقراءة في المسجد لما فيه من التشويش على الآخرين، ولمظنة الرياء.
__________
(1) رواه ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة عن أنس.
(2) رواه القاضي أبو يعلى بإسناده في الجامع.
(3) أي لينزل منزله.
(4) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
(5) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: غريب، وفيه ضعيف.
(6) الشرح الصغير:433/1.(2/263)
الفَصْلُ التَّاسِع: أَنواعٌ خاصَّة من السّجود وقضاء الفوائت
وفيه مبحثان:
المبحث الأول ـ أنواع خاصة من السجود (سجود السهو، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر) :
هنا سجدات ثلاث ليست من صلب الصلاة هي: سجود السهو والتلاوة والشكر.
المطلب الأول ـ سجود السهو: حكمه، أسبابه، محله وصفته:
السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عن الشيء: تركه مع العلم به.
والفرق بين الناسي والساهي: أن الناسي إذا ذكرته تذكر، بخلاف الساهي.
أولاً ـ حكم سجود السهو:
لا مرية في مشروعية سجود السهو، قال الإمام أحمد: نحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلم خمسة أشياء: سلم من اثنتين فسجد، سلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة، والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد. وقال الخطابي: المعتمد عليه عند أهل العلم: هذه الأحاديث الخمسة: يعني أحاديث ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بُحينة، وعمران بن حصين.
أما حديث أبي سعيد الخدري فهو كما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً، أم أربعاً، فلْيطْرح الشك، وليَبْن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفَعْن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان» (1) .
وشرع سجود السهو جبراً لنقص الصلاة، تفادياً عن إعادتها، بسبب ترك أمر غير أساسي فيها أو زيادة شيء فيها.
ولا يشرع سجود السهو في حالة العمد، لما رواه الطبراني عن عائشة: «من سها قبل التمام، فليسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم» ، فعلق السجود على السهو؛ ولأنه يشرع جبراناً للنقص أو الزيادة، والعامد لا يعذر، فلا ينجبر خلل صلاته بسجوده، بخلاف الساهي.
وسجود السهو واجب على الصحيح عند الحنفية، سنة في الجملة في المذاهب الأخرى (2) . قال الحنفية: يجب سجود السهو على الصحيح، يأثم المصلي بتركه، ولا تبطل صلاته؛ لأنه ضمان فائت، وهو لا يكون إلا واجباً، وهو يرفع الواجب من قراءة التشهد والسلام، ولا يرفع القعدة لأنها ركن.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم (نيل الأوطار:116/3) . قال ابن المنذر: حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب.
(2) انظر كل ما يتعلق بالسهو في فتح القدير:355/1 -374، البدائع: 163/1 -179، اللباب:95/1 -100، مراقي الفلاح: ص79 - 81، الشرح الصغير:377/1 -400، القوانين الفقهية: ص73-79، مغني المحتاج:204/1-214، كشاف القناع:459/1 -481.(2/264)
وإنما يجب على الإمام والمنفرد، أما المأموم (المقتدي) إذا سها في صلاته، فلا يجب عليه سجود السهو (1) ، فإن حصل السهو من إمامه، وجب عليه أن يتابعه، وإن كان مدركاً أو مسبوقاً في حالة الاقتداء (2) ، وإن لم يسجد الإمام سقط عن المأموم؛ لأن متابعته لازمة، لكن المسبوق يتابع في السجود دون السلام.
ووجوب سجود السهو إذا كان الوقت (أو الحالة) صالحاً للصلاة، فلو طلعت الشمس بعد السلام في صلاة الفجر، أو احمرت الشمس في صلاة العصر، سقط عنه السهو؛ لأن السهو جبر للنقص المتمكن كالقضاء، ولا يقضى الناقص. وإذا فعل فعلاً يمنعه من البناء على صلاته: بأن تكلم أو قهقه، أو أحدث متعمداً أو خرج عن المسجد أو صرف وجهه عن القبلة وهو ذاكر له، سقط عنه السهو ضرورة، لأنه فات محله وهو تحريمة الصلاة.
والأولى ترك سجود السهو في الجمعة والعيدين إذا حضر فيهما جمع كبير، لئلا يشتبه الأمر على المصلين. وإذا سها في سجود السهو فلا سجود عليه.
ودليل وجوب سجود السهو: حديث ابن مسعود: «وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» (3) . وحديث ثوبان: «لكل سهو سجدتان بعدما يسلم» (4) ، فيجب تحصيلهما تصديقاً للنبي صلّى الله عليه وسلم في خبره، ولمواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته عليه، والمواظبة دليل الوجوب،
__________
(1) لأنه إذا سجد وحده كان مخالفاً لإمامه، وإن تابعه ينقلب الأصل تبعاً.
(2) المدرك: هو الذي أدرك الإمام أول صلاته، وفاته بعضها بعد الشروع بسبب النوم أو الحدث السابق، بأن نام خلف الإمام، ثم انتبه وقد سبقه الإمام بركعة. والمسبوق: الذي سبقه الإمام بركعة أو أكثر. وإن سها المسبوق فيما يتمه يسجد له، وإن سبق له سجود مع الإمام.
(3) رواه الجماعة إلا الترمذي (نصب الراية:167/2، نيل الأوطار:117/3) .
(4) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وهو ضعيف.(2/265)
ولأنه شرع جبراً لنقصان العبادة، فكان واجباً كدماء الجبر في الحج، تحقيقاً لكمال أداء العبادة.
وقال المالكية: سجود السهو سنة مؤكدة للإمام والمنفرد. أما المأموم حال القدوة فلا سجود عليه بزيادة أو نقص لسنة مؤكدة أو سنتين خفيفتين؛ لأن الإمام يتحمله عنه. فلو سها فيما يقضيه بعد سلام الإمام، سجد لنفسه.
وأما المسبوق الذي أدرك ركعة مع إمامه، فيسجد مع إمامه السجود القَبْلي المترتب على الإمام، قبل قضاء ما عليه، إن سجد الإمام، وإن لم يسجد الإمام، وتركه، سجد المأموم لنفسه، قبل قضاء ما عليه، وأخَّر السجود البَعْدي الذي ترتب على إمامه، ويسجده بعد سلامه، فإن قدمه بطلت صلاته.(2/266)
وقال الشافعية: سجود السهو سنة للإمام والمنفرد، أما المأموم فلا يسجد لسهو نفسه خلف إمامه المتطهر، ويتحمل الإمام عنه سهوه في حال قدوته، كما يتحمل عنه القنوت وغيره، أما المحدث فلا يتحمل عنه، ولا يلحقه سهوه، إذ لا قدوة في الحقيقة.
ويجب سجود السهو في حالة واحدة: وهي حالة متابعة المقتدي لإمامه ولو كان مسبوقاً، فإن سجد لسهو وجب أن يسجد تبعاً لإمامه؛ لأن المتابعة لازمة، فإن لم يسجد بطلت صلاته، ووجب عليه إعادتها إن لم يكن قد نوى المفارقة، إلا إن علم المأموم خطأ إمامه في السجود للسهو، فلا يتابعه. ولو اقتدى مسبوق بمن سها بعد اقتدائه أو قبله في الأصح، فالصحيح أنه يسجد معه، ويستحب أن يسجد أيضاً في آخر صلاته، لأنه محل السهو الذي لحقه.
وإذا ترك الإمام سجود السهو، لم يجب على المأموم أن يسجد، بل يندب. ولو سها إمام الجمعة وسجدوا، فبان فوتها، أتموا ظهراً وسجدوا ثانياً آخر الصلاة؛ لأنه تبين أن السجود الأول ليس في آخر الصلاة.
ولو ظن المصلي أو اعتقد سهواً، فسجد، فبان عدم السهو، سجد في الأصح، لأنه زاد سجدتين سهواً. وضابط هذا: أن السهو في سجود السهو لايقتضي السجود، والسهو به يقتضيه.
وقال الحنابلة: سجود السهو واجب، وقد يكون مندوباً، وقد يصبح مباحاً. ويجب سجود السهو لما يأتي:
أـ لكل ما يبطل عمده في الصلاة بالزيادة أو النقص كترك ركن فعلي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر به في حديث أبي سعيد وابن مسعود، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
ب ـ لترك كل واجب سهواً كترك التسبيح في الركوع أو السجود.
جـ ـ للشك في الصلاة في بعض صوره كالشك في ترك ركن أو في عدد الركعات.
د ـ لمن لحن لحناً يغير المعنى، سهواً أو جهلاً.
ويندب سجود السهو: إن أتى بقول مشروع في غير موضعه غير سلام سهواً أوعمداً كالقراءة أو القعود، وكالتشهد في القيام، وكقراءة سورة في الركعتين الأخريين.
ويباح سجود السهو لترك سنة من سنن الصلاة.
هذا التفصيل بالنسبة للإمام والمنفرد، أما المأموم فيجب عليه متابعة إمامه في السجود ولو كان مباحاً، فإن لم يتابعه بطلت صلاته. وعلى المسبوق أيضاً متابعة إمامه في السجود، وإن كان سبب السجود قبل أن يدركه، وإن سجد المسبوق إحدى سجدتي السهو مع إمامه، يأتي بالسجدة الثانية من سجدتي السهو إذا سلم إمامه، ليوالي بين السجدتين.(2/267)
ثانياً ـ أسباب سجود السهو:
اختلف الفقهاء في تعداد أسباب سجود السهو، يحسن بيانها في كل مذهب.
مذهب الحنفية:
يسجد للسهو بترك شيء عمداً أو سهواً، أو زيادة شيء سهواً، أو تغيير محله سهواً، وذلك في الأحوال التالية:
1ً - لا يسجد للسهو في العمد إلا في ثلاث: ترك القعود الأول أو تأخيره سجدة من الركعة الأولى إلى آخر الصلاة، أو تفكره عمداً حتى شغله عن مقدار ركن.
2ً - يسجد للسهو بترك واجب من واجبات الصلاة سهواً إما بتقديم أو تأخير أو زيادة أو نقص، وهي أحد عشر واجباً، منها ستة واجبات أصلية، وهي مايلي:
الأول - ترك قراءة الفاتحة أو أكثرها في الركعتين الأوليين من الفرض.
الثاني - ترك سورة أو ثلاث آيات قصار أو آية طويلة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الفريضة.
الثالث - مخالفة نظام الجهر والإسرار: فإن جهر في الصلاة السرية نهاراً وهي الظهر والعصر، وخافت في الصلاة الجهرية ليلاً وهي الفجر والمغرب والعشاء، سجد للسهو. الرابع ـ ترك القعدة الأولى للتشهد الأول في صلاة ثلاثية أو رباعية.
الخامس ـ ترك التشهد في القعدة الأخيرة.
السادس ـ عدم مراعاة الترتيب في فعل مكرر في ركعة واحدة، وهو السجدة الثانية في كل ركعة، فلو سجد سجدة واحدة سهواً، ثم قام إلى الركعة التالية، فأداها بسجدتيها، ثم تذكر السجدة المتروكة في آخر صلاته، فسجدها، فيجب عليه سجود السهو بترك الترتيب؛ لأنه ترك الواجب الأصلي ساهياً، فوجب سجود السهو.(2/268)
أما عدم رعاية الترتيب فيما لا يتكرر، كأن أحرم فركع ثم رفع ثم قرأ الفاتحة والسورة، فيوجب عليه إعادة الركوع، ويسجد للسهو. وكذلك ترك سجدة التلاوة عن موضعها، يوجب سجود السهو. وكل تأخير أو تغيير في محل فرض، كالقعود محل القيام وعكسه يوجب سجود السهو.
السابع ـ ترك الطمأنينة الواجبة في الركوع والسجود، فمن تركها ساهياً وجب عليه سجود السهو على الصحيح.
الثامن ـ تغيير محل القراءة في الفرض: بأن قرأ الفاتحة بعد السورة، أو قرأ السورة في الركعتين الأخريين من الرباعية، أو في الثانية والثالثة فقط، وجب عليه سجود السهو.
التاسع ـ ترك قنوت الوتر: ويتحقق تركه بالركوع قبل الإتيان به، فمن تركه سجد للسهو.
العاشر ـ ترك تكبير القنوت.
الحادي عشر ـ ترك تكبيرات العيدين أو بعضها، أو تكبيرة ركوع الركعة الثانية من صلاة العيد، فإنها واجبة، بخلاف التكبيرة الأولى.
3ً - زيادة فعل في الصلاة ليس من جنسها وليس منها؛ كأن ركع ركوعين، فإنه يسجد للسهو.
العود إلى ما سها عنه: من سها عن القعدة الأولى، ثم تذكر، وهو إلى حال القعود أقرب، عاد، فجلس وتشهد، وإن كان إلى حال القيام أقرب لم يعد، ويسجد للسهو. ومن سها عن القعدة الأخيرة، فقام إلى الخامسة، رجع إلى القعدة ما لم يسجد وألغى الخامسة، ويسجد للسهو. فإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه، وتحولت صلاته نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وكان عليه أن يضم ركعة سادسة ندباً. وإن قعد في الرابعة قدر التشهد، ثم قام ولم يسلّم يظنها القعدة الأولى، عاد إلى القعود ما لم يسجد في الخامسة، ويسلم، وإن قيد الخامسة بسجدة ضم إليها ركعة أخرى استحباباً، وقد تمت صلاته لوجود الجلوس الأخير في محله، والركعتان الزائدتان: له نافلة.(2/269)
الشك في الصلاة: إذا سها في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً؟ فإن كان ذلك أول ما سها (أي أن السهو لم يصر عادة له، لا أنه لم يسه في عمره قط) ، استقبل الصلاة، وبطلت، أي استأنفها وأعادها، والسلام قاعداً أولى، لحديث «إذا شك أحدكم في صلاته، أنه كم صلى، فليستقبل الصلاة» (1) ، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر، قال في الذي لا يدري كم صلى، أثلاثاً، أو أربعاً؟ قال: يعيد حتى يحفظ، ولأنه لو استأنف أدى الفرض بيقين كاملاً، ولو بنى على الأقل ما أداه كاملاً. وإن حدث الشك المذكور بعد السلام، فلا إعادة عليه، كما لا إعادة عليه إن شك بعد قعوده قدر التشهد قبل السلام.
فإن كان الشك يعرض له كثيراً، بنى على غالب ظنه، إذا كان له ظن يرجح أحد الطرفين؛ لأن في استئناف الصلاة مع كثرة عروضه حرجاً، ولقوله عليه السلام: «من شك في صلاته، فليتحر الصواب» (2) .
وإن لم يكن له ظن أو رأي، أخذ بالأقل أي بنى على اليقين؛ لأنه المتيقن، ويقعد في كل موضع ظنه موضع قعوده، لئلا يصير تاركاً فرض القعود أو واجبه مع تيسير الوصول إليه، فإذا وقع الشك في صلاة رباعية أن الركعة هي الأولى أو الثانية عمل بالتحري، فإن لم يقع تحريه على شيء بنى على الأقل، فيجعلها أولى، ثم يقعد لجواز أنها الركعة الثانية، والقعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد. ودليل الأخذ بالأقل حديث أبي سعيد الخدري: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: أثلاثاً صلى أم أربعاً، فليلغ الشك، وليبن على الأقل» (3) .
مذهب المالكية:
يسجد للسهو بأسباب ثلاثة: نقص فقط، وزيادة فقط، ونقص وزيادة.
أما النقص: فهو ترك سنة مؤكدة داخلة في الصلاة سهواً أو عمداً، كالسورة إذا تركها عن محلها سهواً، أو ترك سنتين خفيفتين فأكثر كتكبيرتين من تكبيرات الصلاة سوى تكبيرة الإحرام، أو ترك تسميعتين أو تكبيرة وتسميعة. ومن أمثلة ترك سنة أيضاً: ترك جهر بفاتحة فقط ولو مرة، أو بسورة فقط في الركعتين بفرض كالصبح، لا نفل كالوتر والعيدين، مع اقتصار على حركة اللسان الذي هو أدنى السر، وترك تشهد ولو مرة لأنه سنة خفيفة. ويسجد للنقصان قبل السلام.
__________
(1) قال الزيلعي عنه: حديث غريب (نصب الراية:173/2) .
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود مرفوعاً بلفظ: «وإذا شك أحدكم، فليتحر الصواب، فليتم عليه» (المصدر السابق) .
(3) أخرجه مسلم (المصدر السابق:174/2) .(2/270)
فإن نقص ركناً عمداً بطلت صلاته، وإن نقصه سهواً أجبره ما لم يفت محله، فإن فات ألغى الركعة وقضاها.
وأما الزيادة: فهي زيادة فعل غير كثير (1) ليس من جنس الصلاة، أو من جنسها.
مثال الأول: أكل خفيف أو كلام خفيف سهواً.
ومثال الثاني: زيادة ركن فعلي من أركان الصلاة كالركوع والسجود، أو زيادة بعض من الصلاة كركعة أو ركعتين، أو أن يسلم من اثنتين. ويسجد للزيادة بعد السلام.
أما زيادة القول سهواً: فإن كان من جنس الصلاة فمغتفر، وإن كان من غيرها سجد له.
وأما الزيادة والنقص معاً: فهو نقص سنة ولو غير مؤكدة، وزيادة ما تقدم في السبب الثاني، كأن ترك الجهر بالسورة وزاد ركعة في الصلاة سهواً، فقد اجتمع له نقص وزيادة. ويسجد للزيادة والنقصان قبل السلام، ترجيحاً لجانب النقص على الزيادة.
العود لما سها عنه: من قام إلى ركعة زائدة في الفريضة، رجع متى ذكر، وسجد بعد السلام، وكذلك يسجد إن لم يذكر حتى سلم. أما المأموم: فإن اتبع عالماً عامداً بالزيادة، بطلت صلاته. وإن اتبعه ساهياً أو شاكاً، صحت صلاته. ومن اتبعه جاهلاً أو متأولاً ففيه قولان. ومن لم يتبعه وجلس، صحت صلاته.
__________
(1) إذ زيادة الكثير مبطل، ولو كان الفعل واجباً كقتل حية أو عقرب أو إنقاذ أعمى أو نفس أو مال. وإن كان يسيراً جداً فمغتفر كابتلاع شيء بين أسنانه، والتفاتة ولو بجميع خده إلا أن يستدبر القبلة، وتحريك الأصابع لحكة.(2/271)
ومن قام إلى ثالثة في النافلة: فإن تذكر قبل الركوع، رجع وسجد بعد السلام. وإن تذكر بعد الرفع من الركوع، أضاف إليها ركعة وسلَّم من أربع، وسجد بعد السلام لزيادة الركعتين.
ومن ترك الجلسة الوسطى: فإن ذكر قبل أن يفارق الأرض بيديه أمر بالرجوع إلى الجلوس، فإن رجع فلا سجود عليه في المشهور، لخفته، وإن لم يرجع سجد. وإن ذكر بعد مفارقته الأرض بيديه، لم يرجع على المشهور. وإن ذكر بعد أن استقل قائماً، لم يرجع وسجد للسهو، فإن رجع فقد أساء، ولا تبطل صلاته على المشهور، أي خلافاً في هذا للحنفية؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه عندهم.
ومن شك في صلاته، هل صلى ركعة أو اثنتين، فإنه يبني على الأقل، ويأتي بما شك فيه، ويسجد بعد السلام.
مذهب الشافعية:
يسجد للسهو عند ترك مأمور به في الصلاة، أوفعل منهي عنه فيها. والسنة إن تركها المصلي لا يعود إليها بعد التلبس بالفرض، فمن ترك التشهد الأول مثلاً، فتذكره بعد قيامه مستوياً، لم يعد له، فإن عاد إليه عالماً بتحريمه عامداً، بطلت صلاته، وإن عاد إليه ناسياً لم تبطل، وكذا إن عاد إليه جاهلاً في الأصح، ويسجد للسهو عنها. ودليل عدم العود للتشهد: حديث ابن بحينة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى، فقام في الركعتين فسبَّحوا به، فمضى، فلما فرغ من صلاته، سجد سجدتين ثم سلم» (1) .
__________
(1) رواه النسائي (نيل الأوطار:119/3) .(2/272)
والذي يقتضي سجود السهو أمران: زيادة ونقصان، وتنحصر أسباب سجود السهو في ستة أمور: تيقن ترك بعض من الأبعاض، تيقن فعل منهي عنه سهواً مما يبطل عمده فقط، الشك في ترك بعض معين، الشك في فعل منهي عنه مع احتمال الزيادة، نقل مطلوب قولي إلى غير محله بنيته، الاقتداء بمن يترك أحد الأبعاض.
الأول ـ ترك الإمام أو المنفرد عمداً أو سهواً سنة مؤكدة: وهي التي تسمى بأبعاض الصلاة، وهي ستة: وهي التشهد الأول، وقعوده، والقنوت في الصبح وفي آخر الوتر في النصف الثاني من رمضان، والقيام للقنوت، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأول، والصلاة على الآل في التشهد الأخير (1) .
الثاني ـ نقل ركن قولي لغير محله: كأن يعيد الفاتحة في الجلوس، وأن يسلم في غير موضع السلام ناسياً، وكذلك نقل السنة القولية كأن يقرأ السورة في غير موضع القراءة، فيسجد للسهو؛ لأنه قول في غير موضعه، فصار كالسلام. ويستثنى من ذلك قراءة السورة قبل الفاتحة، فلا يسجد لها.
الثالث ـ فعل شيء سهواً، يبطل عمده فقط: كتطويل الركن القصير في الأصح، بأن يطيل الاعتدال أو الجلوس بين السجدتين. ومثله الكلام القليل سهواً، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلم سلَّم من اثنتين وكلم ذا اليدين، وأتم صلاه، وسجد سجدتين (2) .
وأما ما يبطل عمده وسهوه ككلام كثير وأكل، فيبطل الصلاة ولا يسجد له في الأصح.
وأما ما لا يبطل عمده ولا سهوه كالتفات بالعنق ومشي خطوتين، فلا يسجد لسهوه ولا لعمده.
__________
(1) الأبعاض ستة إجمالاً عشرون تفصيلاً:14 منها في القنوت وهي قنوت الصبح ووتر النصف الثاني من رمضان، والقيام له والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد القنوت، والقيام لها، والسلام على النبي صلّى الله عليه وسلم بعدها، والقيام له، والصلاة على الآل، والقيام لها، والصلاة على الصحب، والقيام لها، والسلام على الآل، والقيام له، والسلام على الصحب، والقيام له. وستة منها في التشهد: وهي التشهد الأول، والقعود له، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بعده، والقعود له، والصلاة على الآل بعد الأخير، والقعود لها (حاشية الباجوري:167/1 -168، حاشية الشرقاوي:196/1) فحصر الأبعاض في ستة أو في ثمانية هو حصر إضافي.
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار:107/3) .(2/273)
الرابع ـ الشك في الزيادة: فلو شك أصلَّى ثلاثاً أم أربعاً، أتى بركعة وسجد، والأصح أنه يسجد، وإن زال شكه قبل سلامه. وكذلك يسجد لما يصليه متردداً، واحتمل كونه زائداً، للتردد في زيادته، وإن زال شكه قبل سلامه. ولو شك بعد السلام في ترك فرض لم يؤثر على المشهور.
ودليل السجود للشك في صلاته: حديث عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر أواحدةً صلى أم ثِنْتين، فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً، فليجعلها ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهوجالس، قبل أن يسلم سجدتين» (1) وعليه إذا شك المصلي في عدد ما أتى به من الركعات، كمن شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً، بنى على اليقين وهو الأقل كالثلاثة في هذا المثال وأتى بركعة، ويسجد للسهو، ولا ينفعه غلبة الظن أنه صلى أربعاً ولا يعمل بقول غيره له: إنه صلى أربعاً، ولوبلغ ذلك القائل عدد التواتر.
الخامس ـ الشك في ترك بعض معين من أبعاض الصلاة: كأن شك في ترك القنوت لغير النازلة، أو ترك بعض مبهم (غير معين) كأن لم يدر: هل ترك القنوت أو الصلاة على النبي في القنوت.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وفي رواية: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من صلى صلاة يشك في النقصان، فليصل حتى يشك في الزيادة» رواه أحمد (المصدر السابق: ص113 وما بعدها) .(2/274)
السادس ـ الاقتداء بمن في صلاته خلل: ولوفي اعتقاد المأموم، كالاقتداء بمن ترك القنوت في الصبح، أو بمن يقنت قبل الركوع، أو بمن يترك الصلاة على النبي في التشهد الأول، فيسجد بعد سلام الإمام وقبل سلام نفسه.
والخلاصة: الزيادة الموجبة للسهو نوعان: قول وفعل، فالقول كالسلام في غير موضعه ناسياً، أوالكلام ناسياً. والفعل: كأن يزيد سهواً في صلاته ركعة أو ركوعاً أو سجوداً أو قياماً أو قعوداً، أويطيل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت، أو يقعد للتشهد في غير موضع القعود على وجه السهو، فيسجد للسهو، بدليل ما روى ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ فقالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعدما سلم» (1) .
وأما النقصان: فهو أن يترك سنة مقصودة، وهو أمران: الأول: أن يترك التشهد الأول ناسياً فيسجد للسهو، لحديث ابن بحينة المتقدم. والثاني: أن يترك القنوت ساهياً، فيسجد للسهو؛ لأنه سنة مقصودة في محلها، فتعلق السجود بتركها، كالتشهد الأول.
وإن ترك سنة غير مقصودة كالتكبيرات والتسبيحات، والجهر والإسرار والتورك والافتراش، وما أشبهها، لم يسجد؛ لأنه ليس بمقصود في موضعه، فلم يتعلق بتركه الجبران.
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار: 3 / 121) .(2/275)
ويلاحظ أن التشهد الأخير إلى قوله: «وأن محمداً رسول الله، أوعبده ورسوله، أو رسوله» هو الواجب، وهذا هو السنة مع الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد الأول، أما الصلاة على الآل في التشهد الأخير فهي سنة، وفي التشهد الأول خلاف الأولى على المعتمد، وقيل: مكروهة، فلا يسجد للسهو لترك ذلك، ولا لفعله (1) .
مذهب الحنابلة:
أسباب السهو ثلاثة: زيادة، ونقص، وشك في بعض صوره (2) ، كالشافعية، إذا حصل ذلك سهواً، فإن حصل عمداً تبطل الصلاة به إن كان فعلياً، ولا تبطل إن كان قولياً في غير محله. ولا سجود للسهو في صلاة جنازة، وسجود تلاوة، وشكر.
1 - أما الزيادة في الصلاة: فمثل أن يزيد المصلي سهواً فعلاً من جنس الصلاة، قياماً أو قعوداً ولو قدر جلسة الاستراحة في غير موضع الاستراحة، أو ركوعاً، أو سجوداً، أو أن يقرأ الفاتحة مع التشهد أو يقرأ التشهد مع الفاتحة، فيسجد للسهو وجوباً في الزيادة الفعلية وندباً في الزيادة القولية، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته، فليسجد سجدتين» (3) ، ولأن الزيادة سهو، فتدخل في قول الصحابي: «سها النبي صلّى الله عليه وسلم فسجد» بل هي نقص في المعنى، فشرع لها السجود، لينجبر النقص.
ومتى ذكر من زاد في صلاته، عاد إلى ترتيب الصلاة بغير تكبير، لإلغاء الزيادة، وعدم الاعتداد بها. وإن زاد ركعة كثالثة في صبح أورابعة في مغرب أو خامسة في ظهر أو عصر أو عشاء، قطع تلك الركعة، بأن يجلس في الحال متى ذكر بغير تكبير، وبنى على فعله قبل تلك الزيادة، ولا يتشهد، إن كان تشهد، ثم سجد للسهو، وسلم، ولا تحتسب الركعة الزائدة من صلاة مسبوق.
__________
(1) حاشية الشرقاوي: 1 / 196 وما بعدها.
(2) كشاف القناع: 1 /461 -465،467،471 -478.
(3) رواه مسلم.(2/276)
وإن كان الذي زاد إماماً أو منفرداً، فنبهه ثقتان فأكثر ـ ويلزمهم تنبيه الإمام على ما يجب السجود لسهوه، لارتباط صلاتهم بصلاته، بحيث تبطل ببطلانها ـ لزمه الرجوع، سواء نبهوه لزيادة أو نقص، ولو ظن خطأهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم رجع إلى قول أبي بكر وعمرفي قصة ذي اليدين.
والمرأة كالرجل في تنبيه الإمام.
فإن لم يرجع إمام إلى قول الثقتين المنبهين له:
أـ فإن كان عدم رجوعه لجبران نقص، بأن قام قبل أن يتشهد التشهد الأول، لم تبطل صلاته، لحديث المغيرة بن شعبة: «أنه نهض في الركعتين، فسبَّح به من خلفه، فمضى، فلما أتم صلاته وسلم، سجد سجدتي السهو، فلما انصرف، قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يصنع كما صنعت» (1) .
ب ـ وإن لم يرجع عمداً لغير جبران نقص: بطلت صلاته وصلاة المأموم.
وإن كان عدم رجوع الإمام إلى قول الثقتين لغير جبران نقص سهواً، بطلت صلاته وصلاةالمأموم الذي اتبعه عالماً ببطلان صلاته ذاكراً؛ لأنه اقتدى بمن يعلم بطلان صلاته، كما لو اقتدى بمن يعلم حدثه. ولا تبطل صلاة المأموم الذي اتبعه جاهلاً أو ناسياً؛ لأن الصحابة تابعوا النبي صلّى الله عليه وسلم في الخامسة حيث لم يعلموا، أو توهموا النسخ، ولم يؤمروا بالإعادة.
ووجبت مفارقة الإمام القائم إلى زائدة على من علم ذلك، لاعتقاده خطأه، ويتم المفارق صلاته لنفسه للعذر.
2 - وأما النقص في الصلاة: فمثل ترك الركوع أو السجود أو قراءة الفاتحة ونحو ذلك سهواً، ويجب عليه تداركه والإتيان به إذا تذكره، ويجب أن يسجد للسهو في آخر صلاته.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح (نيل الأوطار: 3 /119) .(2/277)
وإن نسي التشهد الأول، لزمه الرجوع والإتيان به جالساً، ما لم ينتصب قائماً، وهذا متفق عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قام أحدكم من الركعتين، فلم يستتم قائماً، فليجلس ويسجد سجدتي السهو» (1) .
ولأنه أخل بواجب وذكره قبل الشروع في ركن، فلزمه الإتيان به، كما لو لم تفارق ركبتاه الأرض. ويلزم المأمومين متابعته، ولو بعد قيامهم وشروعهم في القراءة، لحديث «إنما جعل الإمام ليؤتم به» (2) .
وإن استتم قائماً، ولم يقرأ، فعدم رجوعه أولى، لحديث المغيرة السابق، ويتابعه المأموم، ويسقط عنه التشهد. وإن قرأ ثم ذكر التشهد، لم يجز له الرجوع، لحديث المغيرة، ولأنه شرع في ركن مقصود، كما لو شرع في الركوع، وتبطل صلاة الإمام إذا ركع بعد شروعه فيها، إلا أن يكون جاهلاً أو ناسياً. وعليه سجود السهو لذلك، لحديث المغيرة، ولقوله صلّى الله عليه وسلم سابقاً: «إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين» .
وكذلك حكم التسبيح في الركوع والسجود، ودعاء (رب اغفر لي) بين السجدتين، وكل واجب تركه سهواً، ثم ذكره، فيرجع إلى تسبيح الركوع قبل الاعتدال لا بعده.
3 - وأما الشك في الصلاة الذي يقتضي سجود السهو في بعض صوره: فهو مثل أن يشك في ترك ركن من الأركان، أو في عدد الركعات، فيبني على المتيقن، ويأتي بما شك في فعله، ويتم صلاته، ويسجد للسهو وجوباً، لحديث أبي سعيد السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: كم صلى؟ وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» (3) .
ولا يسجد للسهوحالة الشك في ترك واجب كتسبيح الركوع أوالسجود، وإنما يسجد لترك الواجب سهواً.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، من رواية جابر الجعفي، وقد تكلم فيه (المصدر السابق) .
(2) متفق عليه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 3 /139) .
(3) رواه مسلم وأحمد.(2/278)
كما لا يسجد للسهو إذا أتم الركعات، وشك وهو في التشهد في زيادة الركعة الأخيرة؛ لأن الأصل عدم الزيادة. أما إن شك في زيادة الركعة الأخيرة قبل التشهد، فإنه يجب عليه سجود السهو. ومثل ذلك الشك في زيادة سجدة، علي هذا التفصيل.
قصة ذي اليدين فيمن سلم من نقصان، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة:
استدل جمهور العلماء (1) من السلف والخلف بقصة ذي اليدين على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام، لا يوجب بطلانها، ولو سلم التسليمتين، وأن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكذا كلام من ظن التمام. والقصة هي ما يأتي:
«عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِي (2) ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليه وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سَرْعانُ الناس (3) فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلّى الله عليه وسلم ذا اليدين (4) ، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تُقْصر (5) ، فقال: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر» (6) .
__________
(1) وقال الحنفية: التكلم في الصلاة ناسياً أو جاهلاً يبطلها، مستدلين بحديث ابن مسعود وحديث زيد ابن أرقم في النهي عن التكلم في الصلاة، وقالوا: هما ناسخان لهذا الحديث.
(2) ما بين زوال الشمس وغروبها، وقد عينها أبو هريرة في رواية لمسلم أنها الظهر، وفي أخرى أنها العصر.
(3) هم المسرعون إلى الخروج.
(4) رجل يقال له الخِرْباق بن عمرو، لقب بذي اليدين، لطول كان في يديه، وفي الصحابة رجل آخر يقال له: ذو الشمالين، هو غير ذي اليدين، ووهم الزهري فجعلهما واحداً.
(5) أي في ظني.
(6) متفق عليه، واللفظ للبخاري (سبل السلام:203/1، نيل الأوطار: 3 /107) .(2/279)
اجتماع سهوين أو أكثر: لاخلاف بين العلماء في أنه إذا سها المصلي سهوين أو أكثر، كفاه للجميع سجدتان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم سلم من اثنتين، وكلم ذا اليدين، واقتصر على سجدتين، وللحديث السابق: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» وهذا يتناول السهو في موضعين.
النافلة كالفرض: حكم النافلة حكم الفرض في سجود السهو، في قول جمهور أهل العلم، لعموم الحديث السابق: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود، فيسجد لسهوها كالفريضة.
تنبيه الإمام على السهو: قال مالك وأبو حنيفة: من سها يسبح له، وقال الشافعي وأحمد: التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» (1) وهذا يرجح الرأي الثاني.
ثالثاً ـ محل سجود السهو وصفته:
سجود السهو عند الحنفية بعد السلام، وعند الشافعية على العكس قبل السلام، وعند المالكية قد يكون قبل السلام وقد يكون بعده، ويتخير المصلي بين الأمرين لدى الحنابلة.
قال الحنفية: محل سجود السهو المسنون بعد السلام مطلقاً، سواء أكان السهو بسبب زيادة أم نقصان في الصلاة، ولو سجد قبل السلام أجزأه ولا يعيده.
__________
(1) رواه الجماعة عن أبي هريرة، وروى البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود عن سهل بن سعد: «من نابه شيء في صلاته، فليسبح فإنما التصفيق للنساء» وروى أحمد عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يسبح له في صلاته، حينما يستأذنه بالدخول (نيل الأوطار: 2 /320وما بعدها) .(2/280)
وصفته: أن يسجد سجدتين بعد أن يسلم عن يمينه التسليمة الأولى فقط، ثم يتشهد بعدهما وجوباً، ويأتي بالصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم والدعاء في قعدة السهو على الصحيح؛ لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة.
استدلوا على محله بعد السلام بحديث المغيرة السابق: أنه لما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم، كما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1) ، وحديث ابن مسعود المتقدم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيدَ في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ فقالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلم» (2) .
ودليلهم على صفته: «حديث عمران بن حصين: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم» (3) ، وحديث ثوبان السابق: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» (4) .
والمذكور في هذا الموضوع هو الصحيح الراجح عند الحنفية.
وقال المالكية: محل السجود المسنون قبل السلام إن كان سببه النقصان، أو النقصان والزيادة معاً. وبعد السلام إن كان سببه الزيادة فقط، وينوي وجوباً للسجود البعدي، ويكبر في خفضه ورفعه، ويسجد سجدتين جالساً بينهما، ويتشهد استناناً، ولا يدعو ولا يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم خلافاً للحنفية، ثم يسلم وجوباً، فتكون واجباته خمسة: وهي النية، والسجدة الأولى، والثانية، والجلوس بينهما، والسلام، لكن السلام واجب غير شرط، وأما التكبير والتشهد بعده فسنة.
وإن أخر السجود القبلي عمداً كره ولا تبطل الصلاة، وإن قدم السجود البعدي على السلام أجزأه على المذهب، وأثم أي يحرم تقديمه عمداً، وتصح الصلاة، فإن لم يتعمد التأخير أو التقديم لم يكره ولم يحرم.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وصححه (نيل الأوطار:119/3) .
(2) رواه الجماعة (المصدر السابق: ص 121) .
(3) رواه أبو داود والترمذي (المصدر نفسه: ص 121) .
(4) أخرجه أبو داود وابن ماجه (نصب الراية:167/2) .(2/281)
وقال الشافعية في الجديد: محل سجود السهو بين التشهد والسلام، فإن سلم عمداً فات في الأصح، وإن سلم سهواً وطال الفصل فات أيضاً، في الجديد، وإن لم يطل الفصل، فلا يفوت، ويسجد، وإذا سجد صار عائداً إلى الصلاة في الأصح. ولو سها إمام الجمعة وسجدوا فبان فوت وقتها، أتموا ظهراً وسجدوا، ولو ظن سهواً فسجد فبان عدمه، سجد في الأصح.
وصفته: سجدتان كسجود الصلاة في واجباته ومندوباته كوضع الجبهة والطمأنينة والتحامل والتنكيس (رفع الأسافل) والافتراش في الجلوس بينهما، والتورك بعدهما.
ويحتاج لنية بقلبه، فإن نوى بلسانه بطلت صلاته.
وحكى بعضهم أنه يندب أن يقول فيهما: (سبحان من لا ينام ولا يسهو) وقال بعضهم: والظاهر أنه كالذكر (التسبيح) في سجود الصلاة. ودليلهم على محله قبل السلام حديث أبي سعيد الخدري السابق عند مسلم وأحمد: «ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» وحديث ابن بحينة المتقدم عند النسائي: «فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم» .
ودليلهم على صفته: اقتصاره صلّى الله عليه وسلم على السجدتين في قصة ذي اليدين، وغيرها من الأحاديث.
وقال الحنابلة (1) : لا خلاف في جواز السجود قبل السلام وبعده، وإنما الخلاف عندهم في الأفضل والأولى، والأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأنه إتمام للصلاة، فكان فيها كسجود صلبها، إلا في حالتين:
إحداهما ـ أن يسجد لنقص ركعة فأكثر، وكان قد سلم قبل إتمام صلاته، لحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في قصة ذي اليدين (2) ففي حديث عمران: «فصلى ركعة ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم» .
الثانية ـ أن يشك الإمام في شيء من صلاته، ثم يبني على غالب ظنه، فإنه يسجد للسهو بعد السلام ندباً نصاً؛ لحديث علي وابن مسعود مرفوعاً: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم ما عليه، ثم ليسجد سجدتين» (3) وفي البخاري: (بعد التسليم) .
وصفته: أن يكبر للسجود والرفع منه، سواء أكان قبل السلام أم بعده، ثم يسجد سجدتين كسجود الصلاة، فإن كان السجود بعدياً يأتي بالتشهد كتشهد الصلاة قبل السلام ثم يسلم، وإن كان قبلياً لم يتشهد، ويسلِّم عقبه.
__________
(1) كشاف القناع:479/1-481، المغني:34/2.
(2) نيل الأوطار: 107/3، 113.
(3) متفق عليه.(2/282)
ويقول في سجود السهو ما يقول في سجود صلب الصلاة، لأنه سجود مشروع في الصلاة، فأشبه سجود صلب الصلاة.
ومن ترك السجود الواجب للسهو عمداً، بطلت صلاته بترك ما محله قبل السلام؛ لأنه ترك الواجب عمداً كغيره من الواجبات، ولا تبطل بترك ما محله بعد السلام؛ لأنه جبر للعبادة خارج منفرد عنها، فلم تبطل بتركه، كجبرانات الحج.
وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل، لم تبطل الصلاة؛ لأنه جابر للعبادة بعدها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
وإن طال الفصل لم يسجد، وإلا سجد.
المطلب الثاني ـ سجدة التلاوة:
الكلام فيها في دليل مشروعيتها، وحكمها، وشروطها، مفسداتها، أسبابها وصفتها، المواضع التي تطلب فيها من القرآن، هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة، ما يتعلق بها من أحكام فرعية.
أولاً ـ دليل مشروعية سجدة التلاوة:
ذم الله تعالى تارك السجود بقوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق:21/84] ، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلم في شأنها أحاديث كثيرة منها: خبر ابن عمر رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة، فيقرأ السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته» (1) وخبره أيضاً: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يَقْرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد وسجدنا معه» (2) .
__________
(1) متفق عليه، ولمسلم في رواية: «في غير صلاة» (نيل الأوطار:100/3) .
(2) رواه أبو داود والحاكم، وفي رواية أبي داود ضعيف، وراويه عند الحاكم ثقة، وقال: على شرط الشيخين، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر (نيل الأوطار:103/3) .(2/283)
وسجودها دليل الإيمان، وطريق الجنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: ياويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود، فعصيت، فلي النار» (1) .
ويسجد القارئ والسامع، لخبر ابن مسعود: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ: «والنجم، فسجد فيها، وسجد معه الجن والإنس، إلا أمية بن خلف، فقتل يوم بدر مشركاً» (2) .
وطلب السجود في القرآن العظيم: إما أن يكون بصيغة الأمر الصريح، مثل {واسجد واقترب} [العلق:19/96] ، وإما أن يكون حكاية عن امتثال الأنبياء، أو سائر المخلوقات، مثل قوله سبحانه: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجَّداً وبكياً} [مريم:58/19] ، وقوله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد:15/13] .
ثانياً ـ حكمها الفقهي:
سجدة التلاوة واجبة بالتلاوة على القارئ والسامع عند الحنفية، سنة عند بقية الفقهاء (3) ، سواء عند الحنفية والشافعية قصد السامع سماع القرآن أو لم
__________
(1) رواه مسلم، وابن ماجه (نصب الراية: 2 / 178) .
(2) متفق عليه في الصحيحين.
(3) انظر ما يتعلق بالسجدة: فتح القدير: 1 / 380 - 392، البدائع: 1 / 179 - 195، الدر المختار: 1 / 715 - 730،، اللباب: 1 / 103 - 105، الشرح الصغير: 416/1-422، القوانين الفقهية: ص 90 وما بعدها، مغني المحتاج: 1 / 214 - 217، المهذب: 1 / 85 وما بعدها، المغني: 1 / 616 - 627، كشاف القناع: 1 / 521 - 526.(2/284)
يقصد، أي فتطلب من القارئ والمستمع (وهو قاصد السماع) والسامع (وهو من لم يقصد السماع) ، أما الحائض والنفساء، فلا تطلب منهما بالاتفاق، وأما عند المالكية والحنابلة فإن السجود يسن فقط للتالي والمستمع، دون السامع غير القاصد للسماع، فلا يستحب له.
استدل الحنفية على الوجوب بحديث: «السجدة على من سمعها، وعلى من تلاها» (1) وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد، وبقوله تعالى: {فمالهم لايؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق:20/84-21] ولايذم إلا على ترك واجب: ولأنه سجود يفعل في الصلاة، فكان واجباً، كسجود الصلاة.
ودليل الجمهور على سنية التلاوة: ما روى زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي صلّى الله عليه وسلم النجم، فلم يسجد منا أحد» (2) ، ولأنه إجماع الصحابة، وروى البخاري والأثرم عن عمر: «أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر» وفي لفظ: «إن الله لم يفرض علينا السجود، إلا إن نشاء» (3) . وعلى هذا فمن سجد فحسن، ومن ترك فلا شيء عليه.
أما دليل طلب السجدة من السامع: فهو حديث ابن عمر السابق، ولأنه
__________
(1) قال عنه الزيلعي: حديث غريب، والصحيح أنه مروي عن عثمان وابن عمر (نصب الراية:178/2) .
(2) هذا لفظ الدارقطني، رواه الجماعة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار: 3 / 101) .
(3) نيل الأوطار: 3 / 102.(2/285)
سامع للسجدة، فكان عليه السجود كالمستمع، وإن كان السجود للمستمع آكد. ودليل المالكية والحنابلة على عدم مطالبة السامع بالسجدة: فعل عثمان وابن عباس وعمران، وقال عثمان: «إنما السجدة على من استمع» .
هل تجب عند الحنفية على الفور أو على التراخي؟
تجب سجدة خارج الصلاة على التراخي، في وقت غير معين، إذا كان التالي أو السامع أهلاً للوجوب، سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد، بشرط كون المسموع منه آدمياً عاقلاً يقظان، ولو جُنُباً أو حائضاً أو نفساء، أو كافراً، أو صبياً مميزاً أو سكران، فلو سمعها من طير كالببغاء أو صدى كآلات التسجيل لا تجب عليه، ولو سمعها من نائم أو مغمى عليه، أو مجنون أو غير مميز، فالأصح من الروايتين لا تجب عليه، لعدم صحة التلاوة بفقد التمييز.
أما في الصلاة فتجب وجوباً مضيقاً؛ لأنها وجبت بما هو من أفعال الصلاة وهو القراءة، فالتحقت بأفعال الصلاة، وصارت جزءاً منها. فإن أنهى قراءته بآية السجدة: فإما أن يسجد بها سجوداً مستقلاً، ثم يعود للقراءة، وإما أن يضمنها في ركوعه أو سجوده، إن نواها في ركوعه، وسواء نواها أو لم ينوها في سجوده.
وإذا لم ينه قراءته بآية السجدة، وتابع فقرأ بعدها ثلاث آيات فأكثر، وجب أن يسجد لها مستقلاً، غير سجود الصلاة، ويستحب أن يعود للقراءة، فيقرأ ثلاث آيات فأكثر، ثم يركع، ويتم صلاته.
متابعة الإمام في السجدة وسماعها من غير المصلي: قال الحنفية: إذا تلا الإمام آية السجدة، سجدها معه المأموم، لالتزامه متابعته. وإن تلا المأموم لم يسجد الإمام ولا المأموم، لا في الصلاة ولا خارجها، لأن المقتدي محجوز عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه. وإن سمع المصلي وهو في الصلاة آية سجدة من رجل في غير الصلاة لم يسجد لها في الصلاة، وسجدها بعد الصلاة، فإن سجدها في الصلاة لم يجزه، ولم تفسُد صلاته؛ لأن مجرد السجدة لا ينافي إحرام الصلاة.(2/286)
وكذلك قال غير الحنفية: يلزم متابعة الإمام في السجدة، فإن سجد الإمام فتخلف المقتدي، أو سجد المأموم دون إمامه، بطلت صلاته ولا يسجد المصلي لقراءة غيره بحال، ولا يسجد مأموم لقراءة نفسه، فإن فعل بطلت صلاته؛ لأنه زاد فيها سجوداً.
ثالثاً ـ شروط سجود التلاوة:
1 ً - شرائط الوجوب:
يشترط لوجوب سجدة التلاوة عند الحنفية: أهلية وجوب الصلاة من الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحيض والنفاس، فلا تجب على الكافر والصبي والمجنون والحائض والنفساء.
ولا تسن عند المالكية للمستمع إلا إن صلح القارئ للإمامة، بأن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً، وإلا فلا سجود عليه، بل على القارئ وحده.
وتسن عند الشافعية ولو كان القارئ صبياً مميزاً، والمستمع رجلاً، أو محدثاً، أو كافراً، ولا تسن لقراءة جنب وسكران؛ لأنها غير مشروعة لهما.
ويشترط لسجود المستمع عند الحنابلة: أن يكون القارئ يصلح إماماً للمستمع له، أي يجوز اقتداؤه به، أي كما قال المالكية، لما روى عطاء: «أن رجلاً من الصحابة قرأ سجدة، ثم نظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إنك كنت إمامنا، فلو سجدت، سجدنا معك» (1) ، وقال ابن مسعود لتميم بن حَذْلم وهو غلام: اقرأ، فقرأ عليه سجدة، فقال: «اسجد، فإنك إمامنا فيها» (2) ، فلا يسجد المستمع قُدَّام القارئ، ولا عن يساره، مع خلو يمينه، ولا يسجد رجل لتلاوة امرأة وخنثى؛ لأن القارئ لا يصلح إماماً له في هذه الأحوال.
ويسجد المستمع لتلاوة أمي وزمِن (مريض) وصبي؛ لأن اقتداء الرجل بالصبي يصح في النفل، وقراءة الفاتحة والقيام ليسا بواجب في النفل.
2 ً - شرائط الجواز أو الصحة:
يشترط لصحة سجدة التلاوة ما يشترط لصحة الصلاة: من طهارة الحدث (وهي الوضوء والغسل) وطهارة النجس (وهي طهارة البدن والثوب ومكان السجود والقيام والقعود) ، وستر العورة، واستقبال القبلة والنية. وهذه شروط متفق عليها، واختلفوا فيما عداها.
__________
(1) رواه الشافعي مرسلاً، وفيه إبراهيم بن يحيى، وفيه كلام.
(2) رواه البخاري تعليقاً.(2/287)
فقال الحنفية: لا يشترط لها التحريمة ونية تعين الوقت، كما لا يشترط لها السلام كالصلاة. وتجب آية السجدة على خطيب الجمعة والعيدين، وعلى السامعين، لكن يكره للإمام الإتيان بها فوق المنبر، فينزل ويسجد ويسجد الناس معه.
وقال المالكية أيضاً: لا إحرام ولا تسليم. ويشترط في المستمع شروط ثلاثة، كما قدمنا:
أولاً ـ أن يكون القارئ صالحاً للإمامة في الفريضة: بأن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً مسلماً متوضئاً.
فلو كان القارئ امرأة أو مجنوناً أو صبياً أو كافراً أو غير متوضئ، فلا يسجد المستمع ولا السامع، ويسجد القارئ فقط إن كان امرأة أو صبياً.
ثانياً ـ ألا يقصد القارئ إسماع الناس حسن صوته: فإن كان ذلك فلا يسجد المستمع.
ثالثاً ـ أن يكون قصد السامع من السماع أن يتعلم من القارئ القراءة أو أحكام التجويد من مدّ وقصر وإخفاء وإدغام ونحو ذلك. ولا سجود في صلاة الجنازة، ولا في خطبة الجمعة.
وقال الشافعية: يشترط مع النية تكبيرة الإحرام على الصحيح، كماأخرجه أبو داود، لكن بإسناد ضعيف، وقياساً على الصلاة، ويشترط السلام أيضاً في الأظهر بعد القعود كالصلاة، ولا يشترط التشهد في الأصح.
وتشترط شروط أخرى في المصلي وغيره:
أولاً ـ أن تكون القراءة مشروعة: فإن كانت محرمة كقراءة الجنب، أو مكروهة كقراءة المصلي في حال الركوع مثلاً، فلا يسن السجود للقارئ ولا للسامع.
ثانياً ـ أن تكون مقصودة: فلو صدرت من ساهٍ ونحوه كالطير وآلة التسجيل، فلا يشرع السجود.
ثالثاً ـ أن يكون المقروء كل آية السجدة: فلو قرأ بعضها، لم يسجد.
رابعاً ـ أن تكون قراءة آية السجدة بدلاً من قراءة الفاتحة لعجزه عنها.(2/288)
خامساً ـ ألا يطول الفصل بين قراءة الآية والسجود، وألا يعرض عنها: فإن طال وأعرض عنها، فلا سجود. والطول: أن يزيد على مقدار صلاة ركعتين بقراءة متوسطة.
سادساً ـ أن تكون قراءة آية السجدة من شخص واحد: فلو قرأ واحد بعض الآية، وكملها آخر، فلا سجود.
سابعاً ـ يشترط لها ما يشترط للصلاة من طهارة وغيرها كما بينا مما هو متفق عليه. وبناء عليه: لا يسجد السامع لقراءة النائم والجنب والسكران والساهي والطيور المعلمة.
ويشترط في المصلي شرطان آخران:
أولاً ـ ألا يقصد بقراءة الآية السجود، فإن قصده بطلت الصلاة، إلا قراءة سورة السجدة في صبح الجمعة، فإنها سنة، وإلا المأموم فيسجد إن سجد إمامه. وكما لا يصح قصد آية السجدة في الصلاة بقصد السجود، لا يصح قصد قراءتها في وقت الكراهة، فإن قصدها فلا يسجد لحرمتها.
ثانياً ـ أن يكون هو القارئ: فإن كان القارئ غيره وسجد فلا يسجد، فإن سجد بطلت صلاته، إن كان عالماً عامداً. ولا سجود في صلاة الجنازة، ويسجد خطيب الجمعة لما يقرأ، دون المصلين، فيحرم عليهم السجود، للإعراض عن الخطبة. ويشترط للسامع سماع الآية بكاملها كالقراءة، فلا يكفي كلمة السجدة ونحوها، فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر السجدة، ولو بحرف واحد لم يجز.
وقال الحنابلة: يزاد على الشروط المتفق عليها في المستمع شرطان كما قدمنا:
أولاً ـ أن يصلح القارئ للإمامة: فلو سمع الآية من امرأة أو غير آدمي كالببغاء وآلة التسجيل لا يسن له السجود.
ثانياً ـ أن يسجد القارئ: فإذا لم يسجد فلا يسن للمستمع.(2/289)
رابعاً ـ مفسدات سجود التلاوة:
يبطل سجدة التلاوة كل ما يبطل الصلاة: من الحدث والعمل الكثير، والكلام والقهقهة، وعليه إعادتها. إلا عند الحنفية: لا وضوء عليه في القهقهة، ولا يفسدها محاذاة المرأة الرجل فيها، وإن نوى إمامتها، لانعدام الشركة، إذ هي مبنية على التحريمة، ولا تحريمة لهذه السجدة عندهم. وبناء عليه: يشترط بالاتفاق الكف عن مفسدات الصلاة، كالأكل ودخول وقت السجود، بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها.
خامساً ـ أسباب سجدة التلاوة وصفتها:
تتردد أسباب سجود التلاوة لآية سجدة، والسماع لها، والاستماع، كما هو موضح في المذاهب.
فقال الحنفية: أسباب سجدة التلاوة ثلاثة أمور:
الأول ـ التلاوة: فتجب على التالي، ولو لم يسمع نفسه كأن كان أصم.
الثاني ـ سماع آية سجدة أو الاستماع إليها، والاستماع يكون بقصد دون السماع.
الثالث ـ الاقتداء، فلو تلاها الإمام، وجبت على المقتدي، وإن لم يسمعها. وصفة السجود عندهم: أن يكبر للوضع، دون رفع يديه كسجدة الصلاة، ويسجد بين كفيه، واضعاً جبهته على الأرض للسجود، ثم يكبر للرفع، وكل من هاتين التكبيرتين سنة، ويرفع رأسه. ولا يقرأ التشهد، ولا يسلم، لعدم وجود التحريمة. ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة، على الأصح وهو: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً.
وقال المالكية: سبب سجدة التلاوة أمران فقط: التلاوة والاستماع بشرط أن يقصده، كما ذكر في شروطها.
وصفتها: هي سجدة واحدة، بلا تكبير إحرام ولا سلام، بل يكبر للسجود، ثم للرفع منه استحباباً في كل منهما. ويكبر القائم من قيام ولا يجلس، والجالس من جلوس، وينزل لها الراكب، إلا إذا كان مسافراً، فيسجدها صوب سفره بالإيماء؛ لأنها نافلة. ويسبح فيها كالصلاة: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً.(2/290)
فيكون مذهب المالكية قريباً في بيان الصفة من الحنفية. ويزيد في سجوده ما ورد في الحديث الصحيح: «اللهم اكتب لي بها أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود» (1)
وقال الشافعية: سبب سجود التلاوة: التلاوة والسماع والاستماع، كما قال الحنفية، بالشروط المتقدمة.
ولها ركنان: النية لغير المأموم، أما المأموم فتكفيه نية الإمام. وسجدة واحدة، كسجدة الصلاة. والمصلي ينوي بالقلب.
وغير المصلي: يزاد له ثلاثة أركان: تكبيرة الإحرام، والجلوس بعد السجدة، والسلام. ويسن له التلفظ بالنية.
وصفتها: أن يكبر للهُوي، وللرفع، ولا يسن له رفع يديه في الصلاة، ويسن الرفع خارج الصلاة، ولا يجلس للاستراحة في الصلاة. ويقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى ثلاثاً) ، ويضيف قائلاً: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين) ويقول أيضاً: «اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود» (2) .
ويندب كما ثبت عن الشافعي: أن يقول: (سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً) ولو قال ما يقوله في سجوده فقط، جاز وكفى.
ويقوم مقام سجود التلاوة ما يقوم مقام تحية المسجد، فمن لم يرد فعلها قال أربع مرات: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر) .
__________
(1) رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي (نيل الأوطار: 3/ 103) .
(2) رواهما الحاكم وصححهما، وروى الأول الترمذي أيضاً عن عائشة وقال: هذا حديث حسن صحيح، وروى الثاني أيضاً وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وهو حسن (نيل الأوطار: 3/ 103 - 104) .(2/291)
وقال الحنابلة: سببها: التلاوة والاستماع بالشروط المتقدمة. وبشرط ألا يطول الفصل عرفاً بينها وبين سببها. فإن كان القارئ أو السامع محدثاً، ولا يقدر على استعمال الماء تيمم. ولا يسجد المقتدي إلا لمتابعة إمامه. ويكره للإمام سجوده لقراءة سجدة في صلاة سرية، لئلا يخلط على المأمومين، فإن فعل خير المأموم بين المتابعة وتركها؛ لأنه ليس بتال ولا مستمع، والأولى السجود متابعة للإمام.
وأركانها ثلاثة: السجود والرفع منه، والتسليمة الأولى، أما الثانية فليست بواجبة، أما التكبير للهوي والرفع من السجود والذكر في السجود فهو واجب، كما في سجود صلب الصلاة. والجلوس للتسليم مندوب. والأفضل سجوده عن قيام، لما روى إسحاق بن راهويه عن عائشة: «أنها كانت تقرأ في المصحف، فإذا انتهت إلى السجدة، قامت، فسجدت» وتشبيهاً له بصلاة النفل.
وصفتها: أن يكبر إذا سجد وإذا رفع، ويرفع يديه مع تكبيرة السجود إن سجد في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، كما قال الشافعية. أما في الصلاة فقياس المذهب ألا يرفع يديه، لأن في حديث ابن عمر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان لا يفعله في السجود» (1) يعني رفع يديه، ويسلم إذا رفع.
ويقول في سجوده ما يقول في سجود الصلاة، ويزيد ما زاده الشافعية (سجد وجهي ... ) (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً ... ) 0.
ولا يقوم الركوع مقام السجود عند غير الحنفية؛ لأنه سجود مشروع، فلا ينوب عنه الركوع، كسجود الصلاة.
__________
(1) متفق عليه.(2/292)
سادساً ـ المواضع التي تطلب فيها السجدة:
عدد السجدات عند المالكية (1) في المشهور: إحدى عشرة، منها عشر بالإجماع: وهي في سورة الأعراف الآية (206) ، والرعد (15) ، والنحل (49) ، والإسراء (107) ، ومريم (58) ، وفي أول الحج (18) ، وفي الفرقان (60) ، وفي النمل (25) ، وفي الم السجدة (15) ، وفي فصّلت (38) ، وفي ص (24) .
واتفق الحنفية (2) مع المالكية على سجدة (ص) وهي عندهم أربع عشرة، بإضافة ثلاث أخر: في سورة النجم (62) ، وإذا السماء انشقت (21) ، واقرأ باسم ربك الذي خلق (19) . أما سجدة الحج الثانية فإنها للأمر بالصلاة بدليل اقترانها بالركوع. والأحاديث الواردة بتفضيل سورة الحج بسجدتين فيها راويان ضعيفان.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 90 وما بعدها، الشرح الصغير: 1 / 418.
(2) الكتاب مع اللباب: 1 / 103.(2/293)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : السجدات أربع عشرة، منها سجدتان في سورة الحج، وفي أولها وآخرها (77) ، أما سجدة ص فهي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، وتحرم في الصلاة على الأصح وتبطلها، لما روى البخاري عن ابن عباس، قال: «ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يسجد فيها» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكراً» (2) .
ويؤيد هذا الرأي حديث عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصَّل، وفي الحج سجدتان» (3) فدل على أن السجدات خمس عشرة، منها سجدتان في الحج، وفي ص.
وحجة المالكية على نفي سجدات المفصل (النجم، الانشقاق، العلق) : حديث ابن عباس عند أبي داود وابن السكن في صحيحه بلفظ: «لم يسجد النبي صلّى الله عليه وسلم في شيء من المفصَّل منذ تحول إلى المدينة» (4) .
واستدل الجمهور (غير المالكية) على إثبات سجدات المفصل بحديث أبي هريرة قال: «سجدنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم في: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق:1/84] ، و {اقرأ باسم ربك} [العلق:1/96] (5) علماً بأن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة.
واستدلوا بحديث ابن مسعود المتقدم أيضا: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ والنجم، فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعدُ قتل كافراً» (6) .
سابعاً ـ هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة؟
تتكرر السجدة بتكرر التلاوة عند الجمهور، ولا تتكرر عند الحنفية إن كانت التلاوة لآية في مجلس واحد.
قال الحنفية (7) : من كرر تلاوة آية سجدة واحدة في مجلس واحد، أجزأته سجدة واحدة، وفعلها بعد الأولى أولى، وقيل: التأخير أحوط، أي أنه يشترط اتحاد الآية والمجلس.
أما إن كرر آية السجدة في عدة أماكن، أي اختلف المجلس، فيجب تكرار السجود.
فإن قرأ عدة آيات فيها سجدات مختلفة، فيجب لكل آية سجدة سواء اتحد المجلس أم اختلف.
__________
(1) مغني المحتاج: 1 / 214 وما بعدها، كشاف القناع: 1 / 524.
(2) رواه النسائي.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه.
(4) لكن في إسناده ضعيفان، وإن كانا من رجال مسلم، قال النووي: حديث ابن عباس ضعيف الإسناد لا يصح الاحتجاج به. وعلى فرض صحته فالأحاديث الأخرى مثبتة، وهي مقدمة على النفي.
(5) رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار:98/3) .
(6) متفق عليه.
(7) مراقي الفلاح: ص 84 وما بعدها، الدر المختار ورد المحتار: 726/1 -728.(2/294)
ويتبدل المجلس بالانتقال منه بثلاث خطوات في الصحراء والطريق، وبالانتقال من غصن شجرة إلى غصن، وبسباحة في نهر أو حوض كبير في الأصح. ولا يتبدل بزوايا البيت الصغير، والمسجد ولو كان كبيراً، ولا بسير سفينة أو سيارة، ولا بركعة وبركعتين، وشربة وأكل لقمتين، ومشي خطوتين، ولا باتكاء وقعود وقيام وركوب ونزول في محل تلاوته، ولا بسير دابته مصلياً.
ويتكرر الوجوب على السامع بتبديل مجلسه، وإن اتحد مجلس القارئ، فلو كررها راكباً يصلي، وغلامه يمشي، تتكرر على الغلام، لا الراكب، ولا تتكرر على السامع في عكسه وهو تبدل مجلس القارئ دون السامع على المفتى به (1) ، ومن تلا آية سجدة، فلم يسجد لها، حتى دخل في الصلاة، فتلاها، وسجد لها، أجزأته السجدة عن التلاوتين.
وإن تلاها في غير الصلاة، فسجد لها، ثم دخل في الصلاة، فتلاها، سجد لها، ولم تُجْزه السجدة الأولى. وإذا تلا آية سجدة في الصلاة ثم أعادها بعد سلامه، يسجد سجدة أخرى. ولا تقضى السجدة التي تتلى في الصلاة خارجها؛ لأن لها مزية، فلا تتأدى بناقص، وعليه التوبة.
وقال المالكية: إذا كرر المعلم أو المتعلم آية السجدة، فيسن السجود لكل منهما عند قراءتها أول مرة فقط دفعاً للمشقة. ويسجد إن تجاوز آية السجدة تجاوزاً يسيراً كآية أو آيتين، فإن كان التجاوز كثيراً أعاد آية السجدة وسجد، ولو كان في صلاة فرض، ولكن لا يسجد في الفرض إذا لم ينحن للركوع.
وقال الشافعية: لو كرر آية في مجلسين، أوفي مجلس في الأصح، سجد لكل من المرتين عقبها، والركعة كمجلس واحد، والركعتان كمجلسين. فإن لم يسجد وطال الفصل عرفاً ولو بعذر، لم يسجد أداء؛ لأنه من توابع القراءة.
وقال الحنابلة: إذا كرر تلاوة الآية أو استماعها، يسن له تكرار السجود بمقدار ذلك، لتعدد السبب.
__________
(1) أما الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلم فتتكرر على الراجح وهو رأي متأخري الحنفية بتكرر ذكره، وإن اتحد المجلس. وأما العطاس: فالأصح أنه إن زاد على الثلاث لا يشمته.(2/295)
ثامناً ـ أحكام فرعية لسجدة التلاوة:
قال الحنفية (1) :
أـ يكره تحريماً ترك آية سجدة، وقراءة باقي السورة؛ لأن فيه قطع نظم القرآن وتغيير تأليفه الإلهي، واتباع النظم والتأليف مأمور به. ولا يكره عكسه: وهو قراءة آية السجدة من بين السورة؛ لأنها من القرآن، وقراءة ما هو من القرآن طاعة، كقراءة سورة من بين السور، ولكن يندب ضم آية أو آيتين إليها قبلها أو بعدها، لدفع وهم التفضيل، إذ الكل من حيث إنه كلام الله في رتبة واحدة، وإن كان لبعضها زيادة فضيلة باشتماله على صفاته تعالى.
ب ـ يستحسن إخفاء آية السجدة عن سامع غير متهيء للسجود. والراجح وجوب السجود على متشاغل بعمل، وقد سمع آية السجدة، زجراً له عن تشاغله عن كلام الله.
ويكره للإمام أن يقرأ آية سجدة في صلاة سرية لئلا يشتبه على المقتدين، وفي نحو جمعة وعيد، إلا أن تكون بحيث تؤدى بركوع الصلاة أو سجودها، ولو تلا على المنبر آية سجدة سجد الإمام فوق المنبر مع الكراهة أو تحته وسجد السامعون.
جـ - لو سمع شخص آية السجدة من قوم، من كل واحد منهم حرفاً، لم يسجد لأنه لم يسمعها من تال، لأن اتحاد التالي شرط.
د ـ يندب القيام ثم السجود لآية السجدة، ويندب ألا يرفع السامع رأسه من السجود قبل رفع رأس التالي لآية السجدة، ولا يؤمر التالي بالتقدم، ولا السامعون بالاصطفاف، وإنما يسجدون كيف كانوا.
هـ ـ قيل: من قرأ آي السجدة كلها في مجلس، وسجد لكل منها، كفاه الله ما أهمه. وظاهره أنه يقرؤها ولاء، ثم يسجد، ويحتمل أن يسجد لكل آية بعد قراءة الكل، وهو غير مكروه.
__________
(1) الدر المختار: 729/1-732، مراقي الفلاح: ص 85.(2/296)
وقال المالكية (1) :
أـ يكره الاقتصار على قراءة الآية للسجود، كما قال الحنفية؛ كأن يقرأ {إنما يؤمن بآياتنا} . [السجدة:15/32] وعلى القول بالكراهة: لو قرأها لا يسجد.
ب ـ يكره لمصلٍ تعمد السجدة، بأن يقرأ ما فيه آيتها، بفريضة، ولو صبح جمعة على المشهور، لا في نفل، فلا يكره. فإن قرأها بفرض عمداً أو سهواً سجد لها، ولو بوقت نهي، أما إن قرأها في خطبة جمعة أو غيرها فلا يسجد لها، لاختلال نظامها.
جـ ـ يندب لإمام الصلاة السرية كالظهر الجهر بآية السجدة، ليسمع المأمومون فيتبعوه في سجوده، فإن لم يجهر بها، بل قرأها سراً وسجد، اتبعه المقتدون؛ لأن الأصل عدم السهو، فإن لم يتبعوه صحت صلاتهم؛ لأن اتباعه واجب غير شرط؛ لأن السجدة ليست من الأفعال المقتدى به فيها أصالة، وترك الواجب الذي ليس بشرط لا يوجب البطلان.
د ـ من تجاوز السجدة في القراءة بآية أو آيتين، يسجد، بلا إعادة القراءة لمحل السجدة. وإن تجاوز بكثير يعيدها، أي يعيد القراءة لآية السجدة، سواء في الصلاة ولو بفرض أم في غيرها. ويسجد لها ما لم ينحن بقصد الركوع في نفل أو فرض، فإن ركع بالانحناء فات تداركها. ويندب إعادة القراءة بالنفل لافي الفرض في الركعة الثانية، إذا لم تكن قراءتها في الثانية. والظاهر إعادتها قبل الفاتحة لتقدم سببها.
هـ ـ يندب لساجد السجدة في الصلاة قراءة شيء من القرآن قبل الركوع ولو من سورة أخرى، ليقع ركوعه عقب قراءة.
ولو قصد أداء السجدة بعد قراءة محلها، وانخفض بنيتها، فركع ساهياً صح ركوعه عند الإمام مالك، بناء على أن الحركة للركن لا تشترط، ثم يسجد للسهو لهذه الزيادة بعد السلام إن اطمأن بركوعه، فإن لم يطمئن سجدها، ولا سجود سهو عليه.
__________
(1) الشرح الصغير: 1 /419- 422.(2/297)
وقال الحنابلة (1) :
أـ لا يسجد المرء سجدة التلاوة في الأوقات المنهي عنها التي لا يجوز فيها التطوع بالصلاة، خلافاً للشافعية، لعموم قوله عليه السلام: «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» وهذا مروي عن ابن عمر، وعن أبي بكر وعمر وعثمان.
ب ـ إن قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة: فإن شاء ركع، وإن شاء سجد، ثم قام فركع، قال ابن مسعود: «إن شئت ركعت، وإن شئت سجدت» .
جـ ـ إن كان القارئ على الراحلة في السفر، جاز أن يومئ بالسجود حيث كان اتجاهه، كصلاة النافلة. وهذا متفق عليه بين المذاهب (2) . لما روى ابن عمر «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب، والساجد في الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده» (3) .
د ـ يكره اختصار السجود: وهو أن ينتزع الآيات التي فيها السجود، فيقرؤها ويسجد فيها؛ لأنه ليس بمروي عن السلف فعله، بل كراهته. وقد قدمنا جوازه عند الحنفية.
هـ ـ يكره للإمام السجدة في صلاة سرية، وإن قرأ لم يسجد؛ لأن فيها إبهاماً على المأموم. وهذا متفق مع رأي الحنفية، ولم يكرهه الشافعي؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سجد في الظهر، ثم قام فركع، فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة» (4) . وذكر المالكية أن الإمام يجهر بالسجدة حينئذ كما أسلفنا.
المطلب الثالث ـ سجدة الشكر:
تستحب سجدة الشكر عند الجمهور، وتكره عند المالكية، وعبارات الفقهاء في شأنها ما يأتي:
قال الحنفية (5) : هي مكروهة عند أبي حنيفة لعدم إحصاء نعم الله تعالى. وهي قربة يثاب عليها، لما روى الأئمة الستة إلا النسائي عن أبي بكرة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره، أو بشر به، خر ساجداً» وهيئتها: مثل سجدة التلاوة.
__________
(1) المغني: 1 /623، 626،627.
(2) انظر أيضاً مغني المحتاج: 1 /219.
(3) رواه أبو داود (نيل الأوطار: 3 /102) .
(4) رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار: 3 /100) .
(5) الدر المختار ورد المحتار: 1 /344،731، مراقي الفلاح: ص 85 وما بعدها.(2/298)
والمفتى به أنها مستحبة، لكنها تكره بعد الصلاة؛ لأنه الجهلة يعتقدونها سنة أو واجبة، وكل مباح يؤدي إلى هذا الاعتقاد فهو مكروه. وعلى هذا ما يفعل عقب الصلاة من السجدة مكروه إجماعاً؛ لأن العوام يعتقدون أنها واجبة أو سنة، وكل
جائز أدى إلى اعتقاد ذلك كره. وإذا نواها ضمن ركوع الصلاة أو سجودها، أجزأته.
ويكره أن يسجد شكراً بعد الصلاة في الوقت الذي يكره فيه النفل، ولا يكره في غيره.
وقال المالكية (1) : يكره سجود الشكر عند سماع بشارة، والسجود عند زلزلة، وإنما المستحب عند حدوث نعمة أو اندفاع نقمة: صلاة ركعتين؛ لأن عمل أهل المدينة على ذلك.
وأجاز ابن حبيب المالكي سجد ة الشكر لحديث أبي بكر السابق (2) .
وقال الشافعية (3) : سجدة الشكر لا تدخل في الصلاة. وتسن لهجوم نعمة، كحدوث ولد أو جاه أو اندفاع نقمة كنجاة من حريق أو غريق، أو رؤية مبتلى في بدنه أو غيره، أو رؤية عاص يجهر بمعصيته، ويظهرها للعاصي، لا للمبتلى.
وهي كسجدة التلاوة، والأصح جوازهما على الراحلة للمسافر بالإيماء لمشقة النزول، فإن سجد الراكب لتلاوة صلاة، جاز الإيماء على الراحلة قطعاً تبعاً للنافلة كسجود السهو.
وأدلتهم في حالة تجدد نعمة أو اندفاع نقمة: حديث أبي بكرة السابق، وحديث عبد الرحمن بن عوف، قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم، فتوجه نحو صَدَفَته (4) ،
__________
(1) الشرح الصغير: 1 /422.
(2) قال الترمذي عنه: هو حسن غريب، وفي إسناده بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن جده، وهو ضعيف عند العقيلي وغيره. وقال ابن معين: إنه صالح الحديث (نيل الأوطار: 3 / 104 وما بعدها) .
(3) مغني المحتاج: 1 /219.
(4) الصدفة: من أسماء البناء المرتفع، فهي كل بناء عظيم مرتفع.(2/299)
فدخل، فاستقبل القبلة، فخر ساجداً، فأطال السجود، ثم رفع رأسه، وقال: إن جبريل أتاني، فبشرني، فقال: إن الله عز وجل يقول لك: «من صلى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه، فسجدت شكراً لله» (1) .
وروى أبو داود بإسناد حسن «أنه صلّى الله عليه وسلم قال: سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فسجدت شكراً لربي، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي، فأعطاني ثلث أمتي، فسجدت شكراً لربي، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي فأعطاني الثلث الآخر، فسجدت شكراً لربي» .
ودليلهم لحالة رؤية المبتلى: حديث رواه البيهقي، وشكر الله على سلامته. وأما حالة رؤية العاصي: فلأن المصيبة في الدين أشد منها في الدنيا، قال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا» ، وعند رؤية الكافر أولى.
وقال الحنابلة (2) : يستحب سجود الشكر عند تجدد النعم، واندفاع النقم لحديث أبي بكرة السابق، وسجد الصديق حين فتح اليمامة.
ويشترط لسجود الشكر ما يشترط لسجود التلاوة. ولا يسجد للشكر وهو في الصلاة؛ لأن سبب السجدة ليس منها، فإن فعل بطلت صلاته، إلا أن يكون ناسياً أو جاهلاً بتحريم ذلك.
المبحث الثاني ـ قضاء الفوائت:
معناه وحكمه شرعاً، أعذار سقوط الصلاة وتأخيرها، كيفية القضاء سفراً وحضراً سراً وجهراً، الترتيب في قضاء الفوائت، متى يسقط الترتيب، القضاء إن جهل العدد، القضاء في وقت النهي عن الصلاة.
أولاً ـ معنى القضاء وحكمه شرعاً:
الأداء: فعل الواجب في وقته، وبإدراك التحريمة يكون أداء عند الحنفية والحنابلة، أما عند الشافعية والمالكية: فبإدراك ركعة من الصلاة، كما بينا في بحث أوقات الصلاة.
__________
(1) رواه أحمد ورواه أيضاً البزار وابن أبي عاصم، والعقيلي في الضعفاء، والحاكم (نيل الأوطار:105/3) .
(2) المغني: 1 /627 وما بعدها.(2/300)
والإعادة: فعل مثل الواجب في وقته، لخلل غير الفساد، قال الحنفية: كل صلاة أديت مع كراهة التحريم تعاد وجوباً في الوقت، وخارج الوقت.
والقضاء: فعل الواجب بعد وقته (1) . أو إيقاع الصلاة بعد وقتها.
والشأن في المسلم ديناً وعقلاً أن يبادر إلى أداء الصلاة في وقتها، ويأثم بتأخيرها عن وقتها بغير عذر، كما بينا في فضل الصلاة، لقوله تعالى: {فإذا اطمأننتم، فأقيموا الصلاة، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [النساء:103/4] . وتأخير الصلاة من غير عذر معصية كبيرة لا تزول بالقضاء وحده، بل بالتوبة أو الحج بعد القضاء.
ومن أخر الصلاة عن وقتها لعذر مشروع فلا إثم عليه، ومن العذر: خوف العدو، وخوف القابلة موت الولد، أو خوف أمه إذا خرجه رأسه، لأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق: قال ابن مسعود: «إن المشركين شغلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالاً فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» (2) .
ومن شغلت ذمته بأي تكليف لا تبرأ إلا بتفريغها أداء أو قضاء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فدين الله أحق أن يقضى» (3) . فمن وجبت عليه الصلاة، وفاتته بفوات الوقت المخصص لها، لزمه قضاؤها (4) فهو آثم بتركها عمداً، والقضاء عليه واجب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: {أقم الصلاة لذكري} [طه:14/20] (5) وللبخاري: «من نسي صلاة، فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ومجموع الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» فمن فاتته الصلاة لنوم أو نسيان قضاها، وبالأولى من فاتته عمداً بتقصير يجب عليه قضاؤها.
وعليه: يجب القضاء بترك الصلاة عمداً أو لنوم أو لسهو، ولوشكاً. ولا يجب القضاء عند المالكية لجنون أو إغماء أو كفر، أو حيض أو نفاس، أو لفقد الطهورين.
__________
(1) الدر المختار: 1 / 676 -679.
(2) رواه الترمذي والنسائي وأحمد، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة (راويه عن أبيه عن ابن مسعود) لم يسمع من أبيه. ورواه النسائي أيضاً عن أبي سعيد الخدري، ورواه البزار عن جابر ابن عبد الله (نصب الراية: 2 /164- 166) .
(3) رواه البخاري والنسائي عن ابن عباس. وهناك أحاديث أخرى في الحج في معناه (نيل الأوطار:285/4 وما بعدها) .
(4) الكتاب مع اللباب: 1 / 88، الشرح الصغير: 1 /364، مغني المحتاج: 1 /127، المهذب: 1 / 54، المجموع: 3 /72 وما بعدها، المغني: 2 /108، بداية المجتهد:175/1.
(5) رواه مسلم عن أنس بن مالك (نيل الأوطار: 2 /25) .(2/301)
ولا يأثم من أخر الصلاة لعذر النوم أو النسيان، لحديث أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلّى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة، فقال: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها» (1) .
ثانياً ـ أعذار سقوط الصلاة وتأخيرها:
أـ أعذار سقوط الصلاة:
اتفق العلماء على أن الصلاة تسقط عن المرأة أيام الحيض والنفاس، فلا يجب عليها قضاء ما فاتها من الصلوات أثناء الحيض أو النفاس، كما لاقضاء على الكافر الأصلي والمجنون اتفاقاً.
وذكر الحنفية (2) : أن الصلاة تسقط عن المجنون والمغمى عليه إذا استمر الجنون أو الإغماء أكثر من خمس صلوات، أما إن استمر أقل من ذلك، خمس صلوات فأقل، وجب عليهما القضاء لصلاة ذلك الوقت إذا بقي من الوقت ما يسع أكثر من التحريمة. فلو لم يبق من الوقت ما يسع قدر التحريمة، لم تجب عليهما صلاة ذلك الوقت. وأما المرتد: فلا يقضي ما فاته زمن الردة ولا ما قبلها إلا الحج؛ لأنه بالردة يصير كالكافر الأصلي. ويعذر حربي أسلم بدار الحرب بالجهل، فلا يقضي ما عليه إذا مكث مدة؛ لأن العلم بالخطاب شرط التكليف.
وبينا أن المالكية قالوا: لا يجب القضاء في حال الجنون والإغماء والكفر والحيض والنفاس وفقد الطهورين (3) .
__________
(1) رواه النسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 2 /27) .
(2) الدر المختار ورد المحتار: 1 /330،688.
(3) الشرح الصغير: 1 /364.(2/302)
وقال الشافعية (1) : لا تجب الصلاة على الحائض والنفساء كغيرهم من المذاهب، أما الكافر الأصلي إذا أسلم فلا يخاطب بقضاء الصلاة، لقوله عز وجل: {قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38/8] ولأن في إيجاب ذلك عليه تنفيراً عن الإسلام، فعفي عنه. وأما المرتد إذا أسلم: فيلزمه قضاء الصلاة، لأنها وجبت عليه، واعتقد وجوبها، وقدر على التسبب إلى أدائها فهو كالمحدث، حتى إنه إن جن حال الردة ففاته صلوات، لزمه قضاؤها.
ومن زال عقله بجنون أو إغماء أو مرض أو بسب مباح: فلا تجب عليه الصلاة ولا قضاء عليه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة» فنص على المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسب مباح. أما من زال عقله بسبب محرم كمن شرب المسكر، أو تناول دواء من غير حاجة، فزال عقله، فيجب عليه القضاء إذا أفاق؛ لأنه زال عقله بمحرم، فلم يسقط عنه الفرض..
وقال الحنابلة (2) : لا تجب الصلاة على صبي ولا كافر ولا حائض أو نفساء. أما الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره، بغير خلاف للآية السابقة: {قل للذين كفروا..} [الأنفال:38/8] وأسلم في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم خلق كثير وبعده، فلم يؤمر أحد منهم بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيراً عن الإسلام، فعفي عنه، كما قال الشافعية.
وأما المرتد: ففي وجوب القضاء عليه روايتان عن أحمد:
إحداهما كالحنفية: لا يلزمه؛ لأن عمله قد حبط بكفره بدليل قوله تعالى: {لئن أشركت ليَحْبطنَّ عملُك} [الزمر:65/39] ، ولو حج لزمه استئناف حجه. فصار كالكافر الأصلي في جميع أحكامه.
__________
(1) المهذب: 1 / 50 وما بعدها.
(2) المغني: 1 /398 -401.(2/303)
والثانية كالشافعية: يلزمه قضاء ما ترك من العبادات في حال ردته، وإسلامه قبل ردته، ولا يجب عليه إعادة الحج؛ لأن العمل إنما يحبط بالإشراك مع الموت، لقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} [البقرة:217/2] .
والمجنون غير مكلف، ولا يلزمه قضاء ما ترك في حال جنونه، إلا أن يفيق في وقت الصلاة، فيصير كالصبي يبلغ، ولا خلاف في ذلك، للحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» (1) ، ولأن مدته تطول غالباً، فوجوب القضاء عليه يشق، فعفي عنه.
والمغمى عليه: يقضي جميع الصلوات التي كانت عليه في حال إغمائه، فحكمه حكم النائم، لا يسقط عنه قضاء شيء من الواجبات التي يجب قضاؤها كالصلاة والصيام. بدليل ما روى الأثرم أن عماراً أغمي عليه ثلاثاً، فقضى ما عليه، وأن سمرة بن جندب سئل عن صلاة المغمى عليه فقال: «ليصليهن جميعاً» وهذا الرأي خلاف ما عليه الحنفية والمالكية والشافعية كما بينا.
ومن شرب دواء فزال عقله به نظر: فإن كان زوالاً لا يدوم كثيراً فهو كالإغماء، وإن كان يتطاول فهو كالجنون.
وأما السكر ومن شرب محرماً يزيل عقله وقتاً دون وقت: فلا يؤثر في إسقاط التكليف، وعليه قضاء ما فاته في حال زوال عقله، بلا خلاف، ولأنه إذا وجب عليه القضاء بالنوم المباح، فبالسكر المحرم أولى.
__________
(1) أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.(2/304)
إسقاط الصلاة والصوم وغيرهما عن المريض العاجز الذي مات:
قال الحنفية (1) : إذا مات المريض الذي عجز في الحياة عن الصلاة بالإيماء برأسه، لا يلزمه الإيصاء بها، وإن قلت.
وكذا المسافر والمريض إن أفطرا في الصوم، وماتا قبل الإقامة والصحة، فلا يلزمهما الإيصاء به. لكن تكون الوصية مستحبة بفدية الصلاة والصيام ونحوها.
ومن مات وعليه صلوات فائتة بغير عذر بأن كان يقدر على أدائها ولو بالإيماء، فيلزمه الإيصاء بالكفارة عنها، وإلا فلا يلزمه وإن قلّت بأن كانت دون ست صلوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع فالله أحق بقبول العذر منه» .
وكذلك من أفطر في رمضان ولو بغير عذر، يلزمه الوصية بفدية ما عليه بما قدر عليه، ويبقى في ذمته، ويخرجه عنه وليه من ثلث تركته. وللولي التبرع بالفدية إن لم يوص أو لم يترك مالاً.
ومقدار الكفارة عن الصلاة ومنها الوتر عند الحنفية، والصوم: أن يعطى لكل صلاة وصوم يوم نصف صاع من بُرّ (ربع مد دمشقي من غير تكريم، بل قدر مَسْحة) ، كفطرة الصيام لكل من الصلاة والصوم على حدة، وتقدر بـ 1087,5غم.
وتؤخذ الكفارة وفدية الصوم: من ثلث مال المتوفى. فإن لم يكن له مال يستقرض وارثه نصف صاع مثلاً، ويهبه للفقير، ثم يهبه الفقير لولي الميت ويقبضه، ثم يدفعه الولي للفقير، فيسقط من الصلاة والصوم بقدره، وهكذا حتى يتم إسقاط ما كان عليه من صلاة وصوم.
__________
(1) الدر المختار: 1 / 685وما بعدها، 5 /458، مراقي الفلاح: ص 74وما بعدها.(2/305)
لكن يلاحظ أن مثل هذه الحيلة غير مقبولة؛ لأن الصلاة عبادة بدنية، ولا تسقطها شكليات فارغة وطقوس جوفاء.
ويجوز إعطاء فدية صلوات لواحد جملة، بخلاف كفارة اليمين، كما يجوز إعطاء الفقير أقل من نصف صاع. ولا يصح للمرء في حال حياته أن يفدي عن صلاته في مرضه، فلا فدية في الصلاة حال الحياة بخلاف الصوم فإنه يجوز بل تجب الفدية عنه. ولا يجوز للورثة قضاء الصلاة عن الميت بأمره؛ لأن الصلاة عبادة بدنية شخصية، بخلاف الحج فإنه يقبل النيابة.
ب ـ أعذار تأخير الصلاة عن وقتها:
عرفنا سابقاً أن تأخير الصلاة بعذر كالنوم والنسيان والغفلة، يوجب القضاء ويسقط الإثم، للحديث السابق عن أبي قتادة «إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة» إلا أن الشافعية قالوا: يكون النسيان عذراً إذا لم يكن ناشئاً عن تقصير، فإن نسي الصلاة لاشتغاله بلعب مثلاً فلا يكونن معذوراً ويأثم بتأخير الصلاة عن وقتها.
ثالثاً ـ كيفية قضاء الفائتة أو صفتها:
قال الحنفية (1) : تقضى الصلاة على الصفة السابقة التي فاتت عليها حضراً أو سفراً، فمن فاتته صلاة مقصورة في السفر، قضاها ركعتين ولو في الحضر. ومن فاتته صلاة تامة في الحضر، قضاها أربعاً ولو في السفر.
أما صفة القراءة في القضاء سراً أو جهراً، فيراعى نوع الصلاة: فإن كانت سرية كالظهر، يسر في القراءة، وإن كانت جهرية يجهر فيها إن كان إماماً، ويخير بين الجهر والإسرار إن كان منفرداً.
ويجب القضاء فوراً، ويجوز تأخيره لعذر السعي على العيال وفي الحوائج على الأصح، كما أن أداء سجدة التلاوة خارج الصلاة والنذر المطلق وقضاء رمضان موسع يجوز تأخيره للعذر السابق.
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 1 /110، فتح القدير: 1 /405.(2/306)
وقال المالكية (1) كالحنفية: يقضيها بنحو ما فاتته سفراً أو حضراً، جهراً أو سراً، فوراً، ويحرم عليه تأخير القضاء، ولو كان وقت نهي كطلوع شمس وغروبها وخطبة جمعة، إلا وقت الضرورة كوقت الأكل والشرب والنوم الذي لا بد منه، وقضاء حاجة الإنسان، وتحصيل ما يحتاج له في معاشه.
وعلى هذا تقضى الحضرية كاملة ولو قضاها في السفر، وتقضى النهارية سراً ولو قضاها ليلاً، وتقضى الليلية جهراً ولو قضاها نهاراً؛ لأن القضاء يحكي ما كان أداء.
وقال الشافعية والحنابلة (2) : ينظر لمكان القضاء ووقت القضاء، فيقضي المسافر الصلاة الرباعية ركعتين، سواء فاتته في السفر أم في الحضر، فإن كان في الحضر فيقضي الرباعية أربعاً، وإن فاتته في السفر، لأن الأصل الإتمام، فيرجع إليه في الحضر، ولأن سبب القصر هو السفر وليس متوفراً في الحضر.
وفائتة السفر تقضى قصراً في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية، نظراً لوجود السبب.
ويسر ويجهر في الصلاة بحسب الوقت، فإن صلى في النهار من طلوع الشمس إلى غروبها أسر، وإن صلى في الليل من مغيب الشمس إلى طلوعها جهر. إلا أن الحنابلة قالوا: إن كان القضاء ليلاً يجهر الإمام لتشابه القضاء مع الأداء، فإن كان منفرداً أسر مطلقاً، قال الإمام أحمد: إنما الجهر للجماعة.
__________
(1) الشرح الصغير: 1 /365، الشرح الكبير مع الدسوقي: 1 /263، القوانين الفقهية: ص 71.
(2) مغني المحتاج: 1 /127/1، 162،263، المغني: 1 /569 وما بعدها،614، و 2 / 282 وما بعدها.(2/307)
قضاء الفائتة بجماعة، وقضاء السنن: وأضاف الحنابلة: أنه يستحب قضاء الفوائت في جماعة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق، حينما فاتته صلوات أربع، فقضاهن في جماعة. ولا يكره قضاء السنن الرواتب قبل الفرض، ويستحب أن يقضي ركعتي الفجر قبل الفريضة، لما روى أبو هريرة قال: عرَّسْنا ـ نزلنا ليلاً ـ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل منكم برأس راحلته، فإن هذا منزل حضر فيه الشيطان، قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء فتوضأ، ثم سجد سجدتين، ثم أقيمت الصلاة، فصلى الغداة (1) .
القضاء على الفور:
ويجب أن يكون القضاء فوراً باتفاق الفقهاء، سواء فاتت الصلاة بعذر أم بغير عذر.
إلا أن الشافعية فصلوا في الأمر فقالوا: يبادر بالفائت ندباً إن فاته بعذر كنوم ونسيان، ووجوباً إن فاته بغير عذر، على الأصح فيهما، تعجيلاً لبراءة ذمته، ودليل إيجاب الفورية قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه:14/20] ولأن تأخير الصلاة بعد الوقت معصية يجب الإقلاع عنها فوراً.
رابعاً ـ الترتيب في قضاء الفوائت ومتى يسقط الترتيب؟
يجب ترتيب قضاء الفوائت عند الجمهور، وهو سنة عند الشافعية، على التفصيل التالي:
قال الحنفية (2) : الترتيب بين الفروض الخمسة والوتر وبين الفائتة والوقتية مستحق لازم إلا أن يخاف فوات صلاة الوقت، فيقدم صلاة الوقت ثم يقضي الفائتة. بدليل قول ابن عمر: «من نام عن صلاة أو نسيها، فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل التي هو فيها، ثم ليصل التي ذكرها، ثم ليعد التي صلى مع الإمام» (3) .
ومن فاتته صلوات رتبها في القضاء، كما وجبت عليه في الأصل؛ لأن النبيصلّى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق، فقضاهن مرتباً، ثم قال «صلوا كما رأيتموني أصلي» (4) إلا أن تزيد الفوائت على ست صلوات غير الوتر، فيسقط الترتيب بينها، كما سقط فيما بينها وبين الوقتية؛ لأن الفوائت قد كثرت، ولخروج وقت الصلاة السادسة، ولا يعود الترتيب بعودها إلى القلة، على المختار.
__________
(1) متفق عليه، وروى نحوه أبو قتادة وعمران بن حصين.
(2) البدائع: 1 / 131 وما بعدها، الدر المختار: 1 /679 - 685، الكتاب مع اللباب:89/1، مراقي الفلاح: ص 75 وما بعدها، فتح القدير: 1 /346 -352.
(3) أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر بلفظ «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليتم صلاته، فإذا فرغ من صلاته فليعد التي نسي، ثم ليعد التي صلاها مع الإمام» والصحيح أنه من قول ابن عمر (نصب الراية: 2 /162) .
(4) روي الحديث عن ابن مسعود والخدري وجابر: وقد سبق تخريجه (نصب الراية:164/2-166) .(2/308)
وقال صاحب الهداية: يعود الترتيب عند البعض، وهو الأظهر.
وبناء عليه: لو صلى فرضاً ذاكراً فائتة، ولو كانت وتراً، فسد فرضه فساداً موقوفاً، فلو فاتته صلاة الصبح، ثم صلى الصبح، ثم صلى الظهر بعدها، وهو ذاكر فسدت صلاة الظهر فساداً موقوفاً، ولو صلى العصر قبل قضاء الصبح وقعت صلاة العصر فاسدة فساداً موقوفاً كذلك، وهكذا إلى خروج وقت صلاة صبح اليوم التالي، فإن قضى فائتة صبح اليوم الأول قبل ذلك، فسدت فرضية كل ما صلاه، وانقلب نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولزمه إعادته (1) .
وتوضيح الأمر: أن فساد أصل الصلاة بترك الترتيب موقوف عند أبي حنيفة سواء ظن وجوب الترتيب أو لا، وعند الصاحبين: الفساد بات.
وعلى رأي أبي حنيفة: إن كثرت الفوائت، وصارت الفواسد مع الفائتة ستاً، ظهر صحتها، بخروج وقت الخامسة التي هي سادسة الفوائت. وإن لم تصر ستاً، لا تظهر صحتها، بل تصير نفلاً.
__________
(1) وهكذا يقال: صلاة واحدة تفسد خمساً، وأخرى تصحح خمساً، فالمتروكة تفسد الخمس بقضائها في وقت الخامسة من المؤديات، والسادسة من المؤديات تصحح الخمس قبلها. والحقيقة: خروج وقت الخامسة هو المصحح لها.(2/309)
فإذا فاتته صلاة ولو وتراً، فكلما صلى بعدها، وهو ذاكر لتلك الفائتة، فسدت تلك الوقتية فساداً موقوفاً على قضاء تلك الفائتة، فإن قضاها قبل أن يصلي بعدها خمس صلوات، صار الفساد باتاً، وانقلبت الصلوات التي صلاها قبل قضاء المقضية نفلاً. وإن لم يقضها حتى خرج وقت الخامسة، وصارت الفواسد مع الفائتة ستاً، انقلبت صحيحة؛ لأنه ظهرت كثرتها، ودخلت في حد التكرار المسقط للترتيب.
ويسقط الترتيب بأحد ثلاثة أمور:
الأول ـ أن تصير الفوائت ستاً، كما بينا، ولا يدخل الوتر في العدد المذكور.
الثاني ـ ضيق الوقت المستحب عن أن يسع الفائتة والوقتية الحاضرة.
الثالث ـ نسيان الفائتة وقت الأداء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» (1) .
وقال المالكية (2) : يجب الترتيب مع التذكر والقدرة بأن لا يكره على عدمه. والترتيب شرط في صلاتين حاضرتين مشتركتي الوقت وهما الظهران والعشاءان، فمن تذكر الظهر وهو في أثناء العصر، فالعصر باطلة، وكذا العشاء مع المغرب؛ لأن ترتيب الحاضرة واجب شرطاً. ويقطع الحاضرة إن لم يتم ركعة، ويندب أن يضم إليها ركعة أخرى إن أتم ركعة ويجعلها نفلاً.
ويجب الترتيب مع الشرطين السابقين (التذكر والقدرة) بين الفوائت اليسيرة والصلاة الحاضرة، فتقدم الفائتة على الحاضرة، كمن عليه المغرب والعشاء والصبح، يجب تقديمها على الصبح الحاضرة، وإن خرج وقت الحاضرة، بتقديمه يسير الفوائت الواجب تقديمه عليها. وهذا واجب لا شرط، فلو خالفه لا تبطل المُقدَّمة على محلها، ولكنه يأثم، ولا إعادة عليه لخروج وقتها بمجرد فعلها، فإن قدمها ناسياً أو مكرهاً صحت ولا إثم عليه. ويندب إعادة الحاضرة لو قدمها على يسير الفائتة ولو عمداً، بوقت ضروري (وهو في الظهرين للاصفرار، وفي العشاءين لطلوع الفجر) .
__________
(1) رواه ابن ماجه عن أبي ذر، ورواه الطبراني والحاكم عن ابن عباس، ورواه الطبراني أيضاً عن ثوبان، وهو صحيح.
(2) الشرح الكبير: 1 / 265 وما بعدها، الشرح الصغير:366/1 -370،374، القوانين الفقهية: ص 71 وما بعدها، بداية المجتهد: 1 /177.(2/310)
ويسير الفوائت: خمس فأقل، فيصليها قبل الحاضرة ولو ضاق وقتها.
ولو تذكر المصلي اليسير من الفوائت في أثناء فرض الصلاة، ولو صبحاً أو جمعة، إماماً أو غيره، قطع صلاته وجوباً إذا لم يتم ركعة بسجدتيها، إذا كان منفرداً أو إماماً، ويتبعه المأموم. فإن كان مأموماً فلا يقطع الفوائت في وقت ضروري.
فإن كان قد أتم ركعة بسجدتيها، ندب له أن يضم إليها ركعة أخرى بنية النفل، وسلم، ورجع للفائتة.
وإن تذكر بعد ركعتين من الثنائية، أو الثلاثية، أو بعد ثلاث من الرباعية أتمها؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه، ثم صلى الفوائت، ثم يعيد الحاضرة ندباً في وقتها إن كان باقياً.
وإن تذكر يسير الفوائت وهو في نفل أتمه مطلقاً، إلا إذا خاف خروج وقت الصلاة الحاضرة، ولم يكن قد أكمل ركعة، فيقطعه حينئذ، ويصلي الفرض.
وإذا كانت الفوائت كثيرة أكثر من خمس، فلا يجب تقديمها على الحاضرة، بل يندب تقديم الحاضرة إن اتسع وقتها، فإن ضاق قدمها وجوباً.(2/311)
وقال الحنابلة على الصحيح من المذهب (1) : الترتيب بين الفوائت في نفسها كثيرة أو قليلة، أو بينها وبين الحاضرة واجب إن اتسع الوقت لقضاء الفائتة، فإن لم يتسع سقط الترتيب. ولايسقط الترتيب في ظاهر المذهب من أجل إدراك الجماعة للصلاة الحاضرة، لأنه آكد من الجماعة، بدليل اشتراطه لصحة الصلاة، بخلاف الجماعة، كما لايسقط الترتيب بجهل وجوبه؛ لأنه ترتيب واجب في الصلاة، ولا عذر بالجهل بالأحكام الشرعية.
فإن صلى العصر قبل الظهر الفائتة، لم تصح المتقدمة على محلها. وإن تذكر الأولى في أثناء الثانية، بطلت الثانية، لكن من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، أتمها، وقضى المذكورة، وأعاد التي كان فيها إذا كان الوقت باقياً، وذلك سواء أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً.
والدليل على إتمامها قوله تعالى: {ولاتبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] . ودليل إيجاب الترتيب: ما روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم فاته يوم الخندق أربع صلوات، فقضاهن مرتبات» .
وإذا كثرت عليه الفوائت يتشاغل بالقضاء ما لم يلحقه مشقة في بدنه أو ماله.
ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، أعاد صلاة يوم وليله، عند أكثر أهل العلم؛ لأن التعيين شرط في صحة الصلاة المكتوبة، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بإعادة الصلوات الخمس.
ويندب عموماً تقديم صلاة الظهر؛ لأنها أول فريضة ظهرت في الإسلام، ما لم يعلم أن أول ما تركه غير الظهر.
__________
(1) المغني: 1 / 607-613، كشاف القناع: 1 /304 وما بعدها.(2/312)
وقال الشافعية (1) : يسن ترتيب الفائت، وتقديمه على الحاضرة التي لا يخاف فوت وقتها، عملاً بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم يوم الخندق، وخروجاً من خلاف من أوجبه، فترتيب الفائتة وتقديمها على الحاضرة مشروط بشرطين:
الأول ـ ألا يخشى فوات الحاضرة، بعدم إدراك ركعة منها في الوقت.
الثاني ـ أن يكون متذكراً للفوائت قبل الشروع في الحاضرة. فإن لم يتذكرها حتى شرع في الحاضرة، وجب إتمامها، ضاق الوقت أو اتسع، ولو شرع في فائتة معتقداً سعة الوقت، فبان ضيقه عن إدراكها أداء، وجب قطعها لئلا تصير فائتة، والأفضل أن يقلبها نفلاً بعد أداء ركعتين. ولو خاف فوت جماعة حاضرة، فالأفضل الترتيب، للخلاف في وجوبه.
وترتيب الحاضرتين المجموعتين تقديماً واجب، وأما تأخيراً فهو سنة.
خامساً ـ القضاء إن جهل عدد الفوائت:
قال الحنفية (2) : من عليه فوائت كثيرة لا يدري عددها، يجب عليه أن يقضي حتى يغلب على ظنه براءة ذمته. وعليه أن يعين الزمن، فينوي أول ظهر عليه أدرك وقته ولم يصله، أو ينوي آخر ظهر عليه أدرك وقته ولم يصله، وذلك تسهيلاً عليه.
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (3) : يجب عليه أن يقضي حتى يتيقن براءة ذمته من الفروض، ولا يلزم تعيين الزمن، بل يكفي تعيين المنوي كالظهر أو العصر مثلاً.
سادساً ـ القضاء في وقت النهي عن الصلاة:
قال الحنفية: ثلاثة أوقات لا يصح فيها شيء من الفرائض والواجبات التي لزمت في الذمة قبل دخولها: عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع وتبيضّ قدر رمح أو رمحين. وعند استواء الشمس في وسط السماء إلى أن تزول أي تميل إلى جهة المغرب. وعند اصفرار الشمس إلى أن تغرب، لقول عقبة بن عامر رضي الله عنه:
__________
(1) مغني المحتاج: 1 / 127 وما بعدها، المهذب: 1 / 54.
(2) مراقي الفلاح: ص 76.
(3) القوانين الفقهية: ص 72، مغني المحتاج: 1 / 127، كشاف القناع: 1 / 305.(2/313)
ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، وأن نقبر موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند زوالها حتى تزول، وحين تتضيف للغروب حتى تغرب» (1) .
وما عدا ذلك يجوز فيه القضاء ولو بعد العصر والصبح.
ويصح أداء ما وجب في هذه الأوقات كجنازة حضرت، وسجدة آية تليت فيها، كما صح عصر اليوم عند الغروب مع الكراهة كما بينا.
لكن ـ كما بينا سابقاً ـ يكره تحريماً صلاة النافلة ولو كان لها سبب كالمنذورة وركعتي الطواف في الأوقات الثلاثة. كما يكره التنفل بعد الفجر بأكثر من سنته وبعد صلاته، وبعد صلاة العصر، وقبل صلاة المغرب، وعند خروج الخطيب إلى الخطبة حتى يفرغ من الصلاة. وعند إقامة الصلاة إلا سنة الفجر، وقبل صلاة العيد ولو تنفل في المنزل، وكذا يكره التنفل بعد العيد في المسجد، وبين الجمعين في عرفة ولو بسنة الظهر، وجمع مزدلفة ولو بسنة المغرب على الصحيح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يتطوع بينهما.
وعند ضيق وقت المكتوبة لتفويته الفرض عن وقته، وفي حال مدافعة الأخبثين، وحضور طعام تتوقه نفسه، وما يشغل البال ويخل بالخشوع (2) .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة (3) : يجوز قضاء الفرائض الفائتة في جميع أوقات النهي وغيرها، روي ذلك عن علي رضي الله عنه وغير واحد من الصحابة، وللحديث السابق: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (4) ولحديث أبي قتادة السابق: «إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها» (5) .
وخبر النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة السابقة مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين، وبعصر يومه، فنقيس محل النزاع على المخصوص.
ولو طلعت الشمس وهو في صلاة الصبح، أتمها، لحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أدرك سجدة من صلاة العصر، قبل أن تغيب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس، فليتم صلاته» (6) . وهذا نص في المسألة يقدم على عموم غيره.
وقال الحنفية: تفسد الصلاة حينئذ؛ لأنها صارت في وقت النهي.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) مراقي الفلاح: ص 31.
(3) الشرح الصغير: 1 / 365، مغني المحتاج: 1 / 129، المغني: 2 / 102.
(4) متفق عليه.
(5) متفق عليه.
(6) متفق عليه.(2/314)
الفَصْلُ العَاشِر: أَنْواعُ الصَّلاة
وفيه مباحث ثمانية:
المبحث الأول ـ صلاة الجماعة وأحكامها (الإمامة والاقتداء) :
وفيه بحث صلاة المسبوق، والاستخلاف والبناء على الصلاة. الكلام في هذا المبحث يتناول المطالب الخمسة الآتية:
الجماعة، الإمامة، القدوة، الأمور المشتركة بين الإمام والمأموم، الاستخلاف في الصلاة.
المطلب الأول ـ الجماعة:
تعريفها، مشروعيتها وفضلها وحكمتها، حكمها، أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة، أفضل الجماعة، إدراك ثوابها، إدراك الفريضة، المشي للجماعة والمبادرة إليها مع الإمام، تكرار الجماعة في المسجد، الإعادة مع الجماعة، وقت استحباب القيام للصلاة، أعذار ترك الجماعة والجمعة.
أولاً ـ تعريف الجماعة:
الجماعة: هي الارتباط الحاصل بين صلاة الإمام والمأموم. وقد شرع الإسلام عدة مناسبات ولقاءات اجتماعية بين المسلمين لأداء العبادة في أوقات معلومة، منها أداء الصلوات الخمس في اليوم والليلة، ومنها صلاة الجمعة في الأسبوع، ومنها صلاة العيدين في السنة مرة لأهل كل بلد، ومنها عام للبلاد كلها وهو الوقوف بعرفة في السنة مرة، لأجل التواصل والتوادد وعدم التقاطع.
ثانياً ـ مشروعية الجماعة وفضلها وحكمتها:
الجماعة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة..} [النساء:102/4] الآية. أمر الله بالجماعة في حالة الخوف أثناء الجهاد، ففي الأمن أولى، ولو لم تكن مطلوبة لرخص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها.
وأما السنة: فقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، بسبع وعشرين درجة» (1) وفي رواية: «بخمس وعشرين درجة» (2)
وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة على مشروعيتها بعد الهجرة. جاء في الإحياء للغزالي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: لا يفوِّت أحد صلاة الجماعة إلا بذنب أذنبه، وكان السلف يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، وسبعة أيام إذا فاتتهم الجماعة.
__________
(1) رواه الجماعة إلا النسائي وأبا داود عن ابن عمر، والفذ: الفرد (جامع الأصول: 10 / 250) .
(2) هذه رواية أبي هريرة. ورواه البخاري أيضاً عن أبي سعيد الخدري، وأحمد عن ابن مسعود (نيل الأوطار: 3 / 126 وما بعدها) قال في المجموع: ولا منافاة لأن القليل لاينفي الكثير، أو أنه أخبر أولاً بالقليل ثم أعلمه الله تعالى بزيادة الفضل، فأخبر بها، أو أن ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين كثرة وقلة. قال الشوكاني: والراجح عندي أولها لدخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع.(2/315)
وفضلها: كما ذكر في الحديث السابق أنها أفضل من صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، وأن بكل خطوة إليها حسنة ورفع درجة، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلّى الله عليه وسلم سنن الهدى، وأنهن من سُنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم صلّى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطُّهور، ثم يَعْمَد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف» (1) .
وأنها أيضاً نور المسلم يوم القيامة، كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «بشر المشاءين في الظُلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (2) .
وآكد الجماعات في غير الجمعة: جماعة الصبح ثم العشاء (3) ثم العصر، للحديثين الآتيين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير، لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمة والصبح لأتوهما، ولو حَبْوا» (4) .
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود (نصب الراية: 2 / 21 - 22، جامع الأصول: 6 / 370) ، ويهادى: يرفد أو يعان من جانبيه. وفي رواية: «ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم» .
(2) رواه أبو داود والترمذي عن بريدة، وابن ماجه والحاكم عن أنس وعن سهل بن سعد، وهو صحيح.
(3) المجموع: 4 / 91.
(4) رواه البخاري ومسلم. والاستهام: الاقتراع، والتهجير: التبكير إلى الصلاة، والعتمة: العشاء.(2/316)
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح جماعة، فكأنما صلى الليل كله» (1) . أما العصر فلأنها الصلاة الوسطى.
وحكمتها: تحقيق التآلف والتعارف والتعاون بين المسلمين، وغرس أصول المحبة والود في قلوبهم، وإشعارهم بأنهم إخوة متساوون متضامنون في السراء والضراء، دون فارق بينهم في الدرجة أو الرتبة أو الحرفة أو الثروة والجاه، أو الغنى والفقر.
وفيها تعويد على النظام والانضباط وحب الطاعة في البر والمعروف، وتنعكس آثار ذلك كله على الحياة العامة والخاصة، فتثمر الصلاة جماعة أطيب الثمرات، وتحقق أبعد الأهداف، وتربي الناس على أفضل أصول التربية، وتربط أبناء المجتمع بأقوى الروابط؛ لأن ربهم واحد، وإمامهم واحد، وغايتهم واحدة، وسبيلهم واحدة.
قال في الدر المختار: ومن حِكَمها: نظام الألفة وتعلم الجاهل من العالم. والألفة بتحصيل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران.
ثالثاً ـ حكم صلاة الجماعة:
صلاة الجماعة إما سنة مؤكدة أو فرض.
فقال الحنفية والمالكية (2) : الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج، فلا تجب على النساء والصبيان والمجانين والعبيد والمقعد والمريض والشيخ الهرم ومقطوع اليد والرجل من خلاف.
__________
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، وفي رواية الترمذي: «ومن صلى العشاء والفجر في جماعة» .
(2) وهو رأي أيضاً لبعض الشافعية. فتح القدير:243/1، الدر المختار:515/1، اللباب: 80/1، تبيين الحقائق: 132/1، الشرح الصغير: 424/1، بداية المجتهد: 136/1، المهذب: 93/1.(2/317)
وكونها سنة؛ لأن ظاهر الحديث السابق «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة» يدل على أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد، والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء. ويؤكده ما روي من حديث آخر: «الجماعة من سنن الهدى، لا يتخلف عنها إلا منافق» (1) . وهذا الرأي ليسره أولى من غيره، خصوصاً في وقتنا الحاضر، حيث ازدحمت الأشغال والارتباط بمواعيد عمل معينة، فإن تيسر لواحد المشاركة في الجماعة، وجب تحقيقاً لشعائر الإسلام.
وقال الشافعية في الأصح المنصوص (2) : الجماعة فرض كفاية، لرجال أحرار مقيمين، لا عراة، في أداء مكتوبة، بحيث يظهر الشعار أي شعار الجماعة بإقامتها، في كل بلد صغير أو كبير. فإن امتنعوا كلُّهم من إقامتها قوتلوا (أي قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس) ، ولا يتأكد الند ب للنساء تأكده للرجال في الأصح. بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان (3) ، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (4) .
__________
(1) قال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ، وفي معناه حديث مسلم السابق عن ابن مسعود (نصب الراية: 21/1) .
(2) مغني المحتاج: 229/1 وما بعدها، المهذب: 93/1، المجموع: 88/4 وما بعدها.
(3) أي غلب.
(4) رواه أبو داود والنسائى وصححه ابن حبان والحاكم.(2/318)
وقال الحنابلة (1) : الجماعة واجبة وجوب عين، للآية السابقة: {وإذا كنت فيهم..} [النساء:102/4] ويؤكده قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43/2] ، وحديث أبي هريرة: «أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر ... » ، وفي حديثه أي أبي هريرة أيضاً: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم» (2) ، وحديث الأعمى المشهور: وهو «أن رجلاً أعمى، قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد!! فسأل النبي صلّى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب» (3) ، وحديث ابن مسعود السابق: «لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق..» وحديث جابر وأبي هريرة: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (4) .
ويعضد وجوب الجماعة: أن الشارع شرعها حال الخوف على صفة لا تجوز إلا في الأمن، وأباح الجمع لأجل المطر، وليس ذلك إلا محافظة على الجماعة، ولو كانت سنة لما جاز ذلك.
لكن ليست الجماعة شرطاً لصحة الصلاة، كما نص الإمام أحمد.
__________
(1) المغني: 176/2 وما بعدها، كشاف القناع: 532/1 وما بعدها.
(2) متفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم، ورواه أيضاً مالك وأبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول: 369/6) .
(3) رواه مسلم، وروى مثله أبو داود بإسناد صحيح أو حسن عن ابن أم مكتوم.
(4) رواه الدارقطني، وهو حديث ضعيف، ورواه البيهقي عن علي موقوفاً عليه.(2/319)
رابعاً ـ أقل الجماعة أو من تنعقد به الجماعة:
أقل الجماعة اثنان: إمام ومأموم ولو مع صبي عند الشافعية والحنفية (1) ، ولا تنعقد الجماعة مع صبي مميز عند المالكية والحنابلة (2) ؛ لكن عند الحنابلة في فرض لانفل فتصح به؛ لأن الصبي لا يصلح إماماً في الفرض، ويصح أن يؤم صغيراً في نفل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمَّ ابن عباس، وهو صبي في التهجد.
ودليلهم على أقل الجماعة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقها جماعة» (3) .
خامساً ـ أفضل الجماعة، وحضور النساء المساجد:
الجماعة في المسجد لغير المرأة أو الخنثى أفضل منها في غير المسجد، كالبيت وجماعة المرأة (4) ، لخبر الصحيحين: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» أي فهي في المسجد أفضل؛ لأن المسجد مشتمل على الشرف والطهارة وإظهار الشعائر وكثرة الجماعة.
وقد رتب الفقهاء أفضلية المساجد التي تقام فيها الجماعة:
فقال الحنابلة (5) : إن كان البلد ثغراً؛ وهو المكان المخوف، فالأفضل لأهله
__________
(1) الدر المختار: 517/1، المجموع: 93/4 وما بعدها، مغني المحتاج: 229/1، 233، البدائع: 156/1.
(2) كشاف القناع: 532/1، المغني: 178/1، الشرح الكبير: 321/1، الشرح الصغير: 427/1 وما بعدها.
(3) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي والعقيلي عن أبي موسى الأشعري. وأخرجه البيهقي عن أنس، وأخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه ابن عدي من حديث الحكم بن عميرة، وكلها ضعيفة (نصب الراية: 198/2) .
(4) مغني المحتاج: 230/1، المغني: 179/2.
(5) كشاف القناع: 536/1، المغني: 179/1.(2/320)
الاجتماع في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة. والأفضل لغيرهم: الصلاة في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره؛ لأن فيه تحصيل ثواب عمارة المسجد، وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه، وذلك معدوم في غيره، أو تقام فيه الجماعة بدون حضوره، لكن فيه جبر قلوب الإمام أو الجماعة. ثم المسجد العتيق؛ لأن الطاعة فيه أسبق.
ثم الأفضل من المساجد: ما كان أكثر جماعة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل مع الرجل أولى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أولى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله» (1) .
ثم المسجد الأبعد أفضل من الصلاة في الأقرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أعظم الناس في الصلاة أجراً أبعدهم فأبعدهم ممشى» (2) ولكثرة حسناته بكثرة خطاه.
وفضيلة أول الوقت أفضل من انتظار كثرة الجمع. وتقدم الجماعة مطلقاً على أول الوقت؛ لأنها واجبة، وأول الوقت سنة، ولا تعارض بين واجب ومسنون.
وقال الشافعية (3) : الجماعة للرجال في المساجد أفضل إلا إذا كانت الجماعة في البيت أكثر. وما كثرت جماعته أفضل، إلا إذا تعطل عن الجماعة مسجد قريب، فالجماعة القليلة أفضل.
وقال المالكية (4) : لا نزاع في أن الصلاة مع العلماء والصلحاء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرها، لشمول الدعاء وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة.
حضور النساء إلى المساجد:
أما حضور النساء إلى المساجد: فيجوز للعجوز، ويكره للشابة خوفاً من الفتنة والأولى للمرأة مطلقاً الصلاة في بيتها، وتتلخص آراء الفقهاء فيما يأتي:
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان عن أبي بن كعب.
(2) رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً.
(3) الحضرمية: ص 64، مغني المحتاج: 262/1.
(4) الشرح الكبير: 320/1.(2/321)
قال أبو حنيفة وصاحباه (1) : يكره للنساء الشوابّ حضور الجماعة مطلقاً، لما فيه من خوف الفتنة، وقال أبو حنيفة: ولا بأس بأن تخرج العجوز في الفجر والمغرب والعشاء؛ لأن فرط الشبق حامل (باعث) فتقع الفتنة، وفي غير هذه الأوقات الفساق نائمون في الفجر والعشاء، ومشغولون بالطعام في المغرب، وأجاز الصاحبان لها أن تخرج في الصلوات كلها؛ لأنه لا فتنة، لقلة الرغبة فيهن.
والمذهب المفتى به لدى المتأخرين: أنه يكره للنساء حضور الجماعة ولو لجمعة وعيد ووعظ، مطلقاً، ولو عجوزاً ليلاً، لفساد الزمان، وظهور الفسق.
وقال المالكية (2) : يجوز خلافاً للأولى خروج امرأة متجالَّة لا أرب للرجال فيها للمسجد ولجماعة العيد والجنازة والاستسقاء والكسوف، كما يجوز خروج شابة غير مُفتنة لمسجد وجنازة قريب من أهلها، أما مخشية الفتنة فلا يجوز لها الخروج مطلقاً. قال ابن رشد: تحقيق القول في هذه المسألة عندي: أن النساء أربع:
أـ عجوز انقطعت حاجة الرجال منها: فهذه كالرجل، فتخرج للمسجد للفرض، ولمجالس الذكر والعلم، وتخرج للصحراء للعيدين والاستسقاء ولجنازة أهلها وأقاربها ولقضاء حوائجها.
ب ـ ومتجالة لم تنقطع حاجة الرجال منها بالجملة: فهذه تخرج للمسجد للفرائض ومجالس العلم والذكر، ولا تكثر التردد في قضاء حوائجها، فيكره لها ذلك. وكلام العلامة خليل: أن هذه كالأولى.
جـ ـ وشابة غير فارهة في الشباب والنجابة: تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعة، وفي جنازة أهلها وأقاربها، ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس ذكر أو علم.
د ـ وشابة فارهة في الشباب والنجابة: فهذه لها الاختيار، فلها ألا تخرج أصلاً.
__________
(1) الكتاب مع اللباب:83/1، فتح القدير:529/1، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 529/1.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي:335/1، الشرح الصغير:446/1 وما بعدها.(2/322)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : يكره للحسناء أو ذات الهيئة شابة أو غيرها حضور جماعة الرجال؛ لأنها مظنة الفتنة، وتصلي في بيتها. ويباح الحضور لغير الحسناء إذا خرجت تَفِلة (غير متطيبة) بإذن زوجها، وبيتها خير لها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن» وفي لفظ «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد، فأذنوا لهن» (2) أي إذا أمن المفسدة. ولقوله صلّى الله عليه وسلم في هيئة خروجها: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلات» (3) أي غير متطيبات. وعن أم سلمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» (4) .
والخلاصة: لاتخرج المرأة الجميلة للمساجد، وتخرج العجوز.
__________
(1) مغني المحتاج:230/1، كشاف القناع:535/1،551،569، المغني:202/2 ومابعدها.
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه. والرواية الأولى لأحمد وأبي داود عن ابن عمر (نيل الأوطار: 130/3) .
(3) رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة (المصدر السابق) .
(4) رواه أحمد (نيل الأوطار:131/3) .(2/323)
سادساً ـ إدراك ثواب الجماعة:
الثواب الأكمل يحصل لمن أدرك الصلاة مع الإمام من أولها إلى آخرها، فإن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام فضيلة، لحديث رواه الترمذي عن أنس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» (1) ، وروي: «لكل شيء صفوة، وصفوة الصلاة: التكبيرة الأولى، فحافظوا عليها» (2) ولحديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا» (3) إذ الفاء للتعقيب.
والصحيح عند الشافعية: إدراك فضيلة الجماعة ما لم يسلِّم الإمام، وإن لم يقعد معه، بأن انتهى سلامه عقب تحرّمه، وإن بدأ بالسلام قبله، لإدراكه ركناً معه، لكنه دون فضل من يدركها من أولها. واستثنوا صلاة الجمعة فإن جماعتها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام.
وقال الحنابلة والحنفية (4) : من كبر قبل سلام الإمام التسليمة الأولى، أدرك الجماعة، ولو لم يجلس معه؛ لأنه أدرك جزءاً من صلاة الإمام، فأشبه ما لو أدرك ركعة.
وقال المالكية (5) : إنما يحصل فضل الجماعة الوارد به الخبر المتضمن كون ثوابها بخمس أو بسبع وعشرين درجة، بإدراك ركعة كاملة يدركها مع الإمام، بأن يمكّن يديه من ركبتيه أو مما قاربهما قبل رفع الإمام وإن لم يطمئن إلا بعد رفعه. أما مدرك ما دون الركعة فلا يحصل له فضل الجماعة، وإن كان مأموراً بالدخول مع الإمام، وأنه مأجور بلا نزاع.
والخلاصة: تدرك صلاة الجماعة عند الجمهور بالتحريمة، وبركعة عند المالكية.
__________
(1) حديث منقطع، قالوا: لكنه من الفضائل فيتسامح فيه.
(2) رواه البزار من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء مرفوعاً.
(3) مغني المحتاج:231/1.
(4) المغني:540/2،546.
(5) الشرح الكبير:320/1.(2/324)
سابعاً ـ إدراك الفريضة مع الإمام:
اتفق أئمة المذاهب (1) على أن من أدرك الإمام راكعاً في ركوعه، فإنه يدرك الركعة مع الإمام، وتسقط عنه القراءة كما بينا سابقاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام، فقد أدرك الصلاة» (2) فإن ركع بعد رفع الإمام رأسه من الركوع، لم تحسب الركعة. لكن المالكية قالوا: إنما تدرك الركعة مع الإمام بانحناء المأموم في أول ركعة له مع الإمام قبل اعتدال الإمام من ركوعه، ولو حال رفعه، ولو لم يطمئن المأموم في ركوعه إلا بعد اعتدال الإمام مطمئناً، ثم يكبر لركوع أو سجود بعد تكبيرة الإحرام، ولايؤخر الدخول مع الإمام في أي حالة من الحالات حتى يقوم للركعة التي تليها، وإن شك هل ركع قبل اعتدال الإمام أو بعده لم تحسب له الركعة.
وقال الحنابلة: من أدرك الإمام راكعاً، أجزأته تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع نصاً، لأنه فعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة، ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد، فأجزأ الركن عن الواجب، كطواف الزيارة والوداع.
واشترط الشافعية كالمالكية تكبيرة الركوع عدا تكبيرة الإحرام ليدرك جزءاً من القيام.
وهل يركع من أدرك الإمام راكعاً دون الصف؟
قال المالكية (3) : يحرم (أي يكبر تكبيرة الإحرام) من خشي فوات ركعة برفع الإمام من ركوعه إن لم يحرم، دون الصف، إن ظن إدراكه قبل رفع رأس الإمام من الركوع. فإن لم يظن إدراك الصف قبل رفع الإمام، تابع مشيه بلا خَبَب (هرولة) ، إلا أن تكون الركعة الأخيرة من صلاة الإمام، فإنه يحرم في مكانه دون الصف، لئلا تفوته الصلاة، ثم مشى، حتى يدخل في الصف.
__________
(1) فتح القدير:344/1، تبيين الحقائق:184/1، مراقي الفلاح: ص78، الشرح الصغير:426/1،463، كشاف القناع:540/1.
(2) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار:151/3) .
(3) الشرح الصغير: 461/1 وما بعدها.(2/325)
وقال الحنابلة وغيرهم من بقية الفقهاء (1) : لا يركع دون الصف إلا إذا مشى ودخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو يأتي آخر فيقف معه. وجملة ذلك: أن من ركع دون الصف ثم دخل فيه لايخلو من ثلاثة أحوال:
آـ إذا صلى ركعة كاملة، فلا تصح صلاته، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لفرد خلف الصف» (2) .
ب ـ أن يمشي راكعاً حتى يدخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو أن يأتي آخر، فيقف معه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، فإن صلاته تصح، لأنه أدرك مع الإمام في الصف ما يدرك به الركعة.
جـ ـ إذا دخل في الصف بعد رفع رأسه من الركوع: فمتى كان جاهلاً بتحريم ذلك، صحت صلاته، وإن علم لم تصح، بدليل ما روى البخاري وغيره: «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد» (2) ، فلم يأمره بإعادة الصلاة ونهاه عن العود.
ثامناً - المشي للجماعة والمبادرة إليها مع الإمام:
المشي للجماعة:
يستحب لمن قصد الجماعة أن يمشي إليها، وعليه السكينة والوقار (3) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولاتسرعوا، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» (4) .
وذكر المالكية (5) : أنه يجوز الإسراع لإدراك الصلاة مع الجماعة، بلا خَبَب (أي هرولة: وهي ما دون الجري) وتكره الهرولة؛ لأنها تذهب الخشوع، والجري أولى.
المبادرة للاقتداء مع الإمام:
يبادر المصلي للاقتداء بالإمام، سواء أكان قائماً أم راكعاً أم ساجداً أم نحوه.
وهل له أن يصلي النافلة؟
__________
(1) المغني:234/2 وما بعدها.
(2) رواه أحمد وابن ماجه عن علي بن شيبان (نيل الأوطار:184/3) .
(3) رواه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائى، ورواية أبي داود بلفظ: «أن أبا بكرة جاء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم راكع، فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة، قال: أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فقال أبو بكرة: أنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً، ولا تعد» (نيل الأوطار: 184/3) . (2) المهذب:94/1، كشاف القناع:378/1 وما بعدها.
(4) رواه الجماعة إلا الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد والشيخان في معناه عن أبي قتادة (نيل الأوطار:134/3) .
(5) الشرح الصغير:445/1.(2/326)
قال المالكية (1) : يحرم على المتخلف ابتداء صلاة، فرضاً أو نفلاً بجماعة أو لا، بعد إقامة الصلاة لإمام راتب. وإن أقيمت تلك الصلاة بمسجد، والمصلي في صلاة فريضة أو نافلة بالمسجد أو رحبته: فإن خشي فوات ركعة مع الإمام، قطع صلاته، ودخل مع الإمام مطلقاً، سواء أكانت نافلة أم فرضاً غير الصلاة المقامة، وسواء عقد ركعة أم لا، ويقطع صلاته بسلام أو مناف للصلاة ككلام ونية إبطال.
وإن لم يخش فوات ركعة: فإن كانت الصلاة نافلة أتمها ركعتين، ويندب أن يتمها جالساً. وإن كانت الصلاة التي هو بها هي المقامة نفسها ـ بأن كان في العصر، فأقيمت للإمام ـ انصرف عن شفع ولا يتمها، فلو صلى ركعة ضم لها أخرى، وإن كان في الثانية كملها، وإن كان في الثالثة قبل كمالها بسجودها، رجع للجلوس فتشهد، وسلم. هذا إن كان في صلاة رباعية.
فإن كان في صلاة صبح أو مغرب، فأقيمت، قطع صلاته، ودخل مع الإمام، لئلا يصير متنفلاً بوقت نهي. وإن أتم ثانية المغرب، أو الثالثة، أو ثانية الصبح، كملها بنية الفريضة.
وقال الشافعية (2) : إن كان المصلي في صلاة نافلة، ثم أقيمت الجماعة: فإن لم يخش فوات الجماعة، أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة.
وإن خشي فوات الجماعة، قطع النافلة؛ لأن الجماعة أفضل.
وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة: فالأفضل أن يقطع، ويدخل في الجماعة. وفي المذهب الجديد وهو الأصح: له أن ينوي الدخول في الجماعة من غير أن يقطع صلاته؛ لأنه لما جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً، ثم يصير إماماً، بأن يجيء من يأتم به، جاز أن يصلي بعض صلاته منفرداً، ثم يصير مأموماً، ومن المقرر عندهم أنه يجوز أن يغير ترتيب صلاته بالمتابعة، كالمسبوق بركعة.
__________
(1) الشرح الصغير: 431/1، القوانين الفقهية: ص68.
(2) المهذب: 94/1، المجموع: 105/4-110.(2/327)
وإن حضر وقد أقيمت الصلاة، لم يشتغل عنها بنافلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة» (1) .
وقال الحنابلة (2) : إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة التي يريد الصلاة مع إمامها، عملاً برواية ابن حبان بلفظ «إذا أخذ المؤذن في الإقامة» ، فلا صلاة إلا المكتوبة، فلا يشرع في نفل مطلق ولا سنة راتبه من سنة فجر أو غيرها، في المسجد أو غيره ولو ببيته، لعموم الحديث السابق: «إذا أقيمت الصلاة ... » ، فإذاشرع في نافلة بعد الشروع في الإقامة، لم تنعقد، لما روي عن أبي هريرة «وكان عمر يضرب على كل صلاة بعد الإقامة» .
وإن أقيمت الصلاة، وهو في النافلة، ولو كان خارج المسجد، أتمها خفيفة، ولو فاتته ركعة، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] ولا يزيد على ركعتين، فإن كان شرع في الركعة الثالثة، أتمها أربعاً، لأنها أفضل من الثلاث. فإن سلَّم من ثلاث ركعات، جاز نصاً في المسألتين، إلا أن يخشى المتنفل فوات ما تدرك به الجماعة، فيقطعها؛ لأن الفرض أهم.
وللحنفية تفصيل خاص، يشبه في قطع الفريضة مذهبي المالكية والشافعية في الجملة، ويستقل في ضرورة صلاة سنة الفجر، وهو ما يأتي (3) :
__________
(1) متفق عليه بين الشيخين عن أبي هريرة.
(2) كشاف القناع:539/1 وما بعدها.
(3) فتح القدير:335/1-342، تبيين الحقائق:180/1-184. مراقي الفلاح: ص77 ومابعدها.(2/328)
إذا شرع المصلي في أداء فرض أو قضائه منفرداً، ثم أقيمت الجماعة: فإن شرع في صلاة الفجر أو المغرب: فإن كان في الركعة الأولى، ولو بعد السجود، فعليه أن يقطع صلاته بتسليمة، ثم يدخل في الجماعة. وإن كان في الركعة الثانية، قطعها أيضاً إن كان قبل السجود، وأتمهامنفرداً إن كان بعد السجود.
وإن شرع في صلاة رباعية كالظهر أو العصر: فإن كان المنفرد قبل السجود في الركعتين الأولى (1) ، قطع صلاته ولحق الإمام. وإن كان بعد السجود أتم الركعتين أي صلى شفعاً وسلم، ودخل مع الجماعة إحرازاً لفضيلة الجماعة، وصار ما صلاه نفلاً، صيانة للمؤدى عن البطلان.
وإن قام للثالثة، فأقيمت الجماعة قبل سجوده، قطع قائماً بتسليمة واحدة. أما إن أتم الركعة الثالثة من الرباعية أو من المغرب، فإنه يتم صلاته منفرداً؛ لأن للأكثر حكم الكل. ثم يصلي مع الجماعة نافلة؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد، بدليل ما قال يزيد بن الأسود: شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم حَجَّتَه، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، انحرف، فإذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا، فقال: عليَّ بهما، فجيء بهما تُرعَد فرائصُهما (2) ، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله، إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلة (3) .
__________
(1) عبارتهم في ذلك: ثم لم يقيد الركعة الأولى بالسجدة، يقطع ويشرع مع الإمام، وهو الصحيح.
(2) الفرائص: جمع فريصة: وهي اللحمة من الجنب والكتف التي لا تزال ترعد أي تتحرك من الدابة، واستعير للإنسان؛ لأن له فريصة، وهي ترجف عند الخوف. وسبب ارتعاد فرائصهما: ما اجتمع في رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة، لكل من رآه، مع كثرة تواضعه.
(3) رواه الخمسة إلا ابن ماجه (نيل الأوطار:92/3) .(2/329)
ومن دخل المسجد، والصلاة تقام، اشترك مع الجماعة ويترك السنة، لأنه يؤديها بعد الفرض والسنة البعدية، إلا سنة الفجر، فإنه يصليها عند باب المسجد، ثم يدخل، إذا لم يخف فوت الجماعة، لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين. فإن خشي فوت الجماعة، دخل مع الإمام في الفريضة؛ لأن ثواب الجماعة أعظم، والوعيد بالترك ألزم.
وإذا فاتته ركعتا الفجر، لا يقضيهما قبل طلوع الشمس؛ لأنه يبقى نفلاً مطلقاً، وهو مكروه بعد الصبح، ولا بعد ارتفاع الشمس عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الأصل في السنة ألا تقضى، لاختصاص القضاء بالواجب، والرسول صلّى الله عليه وسلم إنما قضى السنة تبعاً للفرض غداة طلوع الشمس عليه ليلة التعريس (1) في الوادي، فبقي ما عداه على الأصل: وهو عدم القضاء، وعلى هذا فلا تقضى سنة الفجر إلا تبعاً للفرض إذا فاتت مع الفرض.
وقال محمد: أحب إلي أن يقضيهما (أي ركعتي الفجر) إلى وقت الزوال، لأنه عليه السلام قضاهما بعد ارتفاع الشمس غداة ليلة التعريس.
وإن شرع في سنة الظهر القبلية، فأقيمت الجماعة، أو في سنة الجمعة فصعد الخطيب المنبر، سلم بعد ركعتين وهو الأوجه، ثم قضى السنة أربعاً بعد أداء الفرض والسنة البعدية، حتى لا يفوت فرض الاستماع والأداء على وجه أكمل. وهذا رأي أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: تقضى قبل السنة البعدية. قال الشلبي (2) : والأولى تقديم الركعتين أي السنة البعدية؛ لأن الأربع أي السنة القبلية فاتت عن الموضع المسنون، فلا تفوت الركعتان أيضاً عن موضعهما قصداً بلا ضرورة.
__________
(1) التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل يقعون فيه وقعة للاستراحة ثم يرتحلون.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق:183/1.(2/330)
تاسعاً ـ تكرار الجماعة في المسجد:
عرفنا في مكروهات الصلاة سابقاً أن الحنفية (1) قالوا: يكره تكرار الجماعة بأذان وإقامة في مسجد مَحِلِّة، إلا إذا صلى بهما فيه أولاً غير أهله، أو أهله لكن بمخافته الأذان، أو كرر أهله الجماعة بدون الأذان والإقامة، أو كان مسجد طريق، أو مسجداً لا إمام له ولا مؤذن، ويصلي الناس فيه فوجاً فوجاً، والأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة.
والمراد بمسجد المحلة: ما له إمام وجماعة معلومون. والكراهة إذا تكرر الأذان، فلو صلى جماعة في مسجد المحلة بغير أذان أبيح، لكن ظاهر الرواية عند الحنفية أنه مكروه، فما يفعل في بعض المساجد من الصلاة بأئمة متعددة وجماعات مترتبة مكروه عندهم.
ودليلهم: أنه عليه الصلاة والسلام كان قد خرج، ليصلح بين قوم، فعاد إلى المسجد، وقد صلى أهل المسجد، فرجع إلى منزله، فجمع أهله وصلى. ولو جاز ذلك لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. ولأن ذلك حامل على تكثير الجماعة، فلو أبيح التكرار بدون كراهة لا يجتمع الناس، لعلمهم أن الجماعة لا تفوتهم.
أما مسجد الشارع، فالناس فيه سواء، لا اختصاص له بفريق دون فريق. وعلى هذا لا يكره تكرار الجماعة في مساجد الطرق: وهي ما ليس لها إمام وجماعة معينون.
وقال المالكية (2) : يكره تكرار الجماعة في مسجد له إمام راتب، وكذلك
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:516/1.
(2) الشرح الصغير:432/1،442 وما بعدها.(2/331)
يكره إقامة الجماعة قبل الإمام الراتب، ويحرم إقامة جماعة مع جماعة الإمام الراتب. والقاعدة عندهم: أنه متى أقيمت الصلاة مع الإمام الراتب، فلا يجوز إقامة صلاة أخرى فرضاً أو نفلاً، لا جماعة ولا فرادى. ومن صلى جماعة مع الإمام الراتب، وجب عليه الخروج من المسجد، لئلا يؤدي إلى الطعن في الإمام. وإذا دخل جماعة مسجداً، فوجدوا الإمام الراتب قد صلى، ندب لهم الخروج ليصلوا جماعة خارج المسجد، إلا المساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى) ، فيصلون فيها فرادى، إن دخلوها؛ لأن الصلاة المنفردة فيها أفضل من جماعة غيرها.
وإذا تعدد الأئمة الراتبون، بأن يصلي أحدهم بعد الآخر، كره على الراجح. ويكره تعدد الجماعات في وقت واحد، لما فيه من التشويش.
ولا يكره تكرار الجماعة في المساجد التي ليس لها إمام راتب.
وقال الشافعية (1) : يكره إقامة الجماعة في مسجد بغير إذن من الإمام الراتب مطلقاً قبله أو بعده أو معه، ولا يكره تكرار الجماعة في المسجد المطروق في ممر الناس، أو في السوق، أو فيما ليس له إمام راتب، أو له وضاق المسجد عن الجميع، أو خيف خروج الوقت؛ لأنه لا يحمل التكرار على المكيدة.
وقال الحنابلة (2) : يحرم إقامة جماعة في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، لأنه بمنزلة صاحب البيت، وهو أحق بها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمَّنَّ الرجل الرجل في بيته إلا بإذنه» (3) ، ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه، وكذلك يحرم إقامة جماعة أخرى
__________
(1) مغني المحتاج:234/1، المهذب:95/1.
(2) كشاف القناع:536/1-539، المغني:180/1.
(3) رواه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم» (نيل الأوطار:159/3) .(2/332)
أثناء صلاة الإمام الراتب، ولا تصح الصلاة في كلتا الحالتين. وعلى هذا فلا يحرم ولا تكره الجماعة بإذن الإمام الراتب؛ لأنه مع الإذن يكون المأذون نائباً عن الراتب، ولا تحرم ولا تكره أيضاً إذا تأخر الإمام الراتب لعذر، أو ظن عدم حضوره، أو ظن حضوره ولم يكن يكره أن يصلي غيره في حال غيبته.
ولا يكره تكرار الجماعة بإمامة غير الراتب بعد انتهاء الإمام الراتب، إلا في مسجدي مكة والمدينة فقط، فإنه تكره إعادة الجماعة فيهما، رغبة في توفير الجماعة، أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى، وذلك إلا لعذر كنوم ونحوه عن الجماعة، فلا يكره لمن فاتته إعادتها بالمسجدين.
ويكره تعدد الأئمة الراتبين بالمسجدين المذكورين، لفوات فضيلة أول الوقت لمن يتأخر، وفوات كثرة الجمع، وإن اختلفت المذاهب.
ويكره للإمام إعادة الصلاة مرتين، بأن يؤم بالناس مرتين في صلاة واحدة، بأن ينوي بالثانية عن فائتة أو غيرها، وبالأولى فرض الوقت. والأئمة متفقون على أنه بدعة مكروهة.
عاشراً ـ إعادة المنفرد الصلاة جماعة:
اتفق الفقهاء على أنه يجوز لمن صلى منفرداً أن يعيد الصلاة في جماعة وتكون الثانية نفلاً، عملاً بما ثبت في السنة في حديث يزيد بن الأسود السابق، وفي حديث آخر: أن رجلاً جاء إلى المسجد بعد صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم العصر، فقال: «من يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ فصلى معه رجل من القوم» (1) .
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده جيد.(2/333)
ولكن للفقهاء تفصيل في إعادة الصلاة:
قال الحنفية (1) : يجوز للمنفرد إعادة الصلاة مع إمام جماعة، وتكون صلاته الثانية نفلاً بدليل حديث يزيد بن الأسود السابق في بحث إدراك الفريضة. والذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلم لرجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه صلاة الظهر: «إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة» . وإذا كانت نفلاً، أعطيت حكم النافلة، فتكره إعادة صلاة العصر؛ لأن النفل ممنوع بعد العصر، وتكره صلاة النفل خلف النفل إذا كانت الجماعة أكثر من ثلاثة، وإلا فلا تكره إن أعادوها بدون أذان، وتكره مطقاً إن أعادوها بأذان. وتجوز إذا كان إمامه يصلي فرضاً، لا نفلاً؛ لأن صلاة النافلة خلف الفرض غير مكروهة.
وقال المالكية (2) : من صلى في جماعة لم يعد في أخرى إلا إذا دخل أحد المساجد الثلاثة فيندب له الإعادة. ومن صلى منفرداً جازت له الإعادة في جماعة: اثنين فأكثر، لا مع واحد، إلا إذا كان إماماً راتباً بمسجد، فيعيد معه؛ لأن الراتب كالجماعة، ويعيد كل الصلوات غير المغرب، والعشاء بعد الوتر، فتحرم إعادتها لتحصيل فضل الجماعة، أما المغرب فلا تعاد؛ لأنها تصير مع الأول شفعاً؛ لأن المعادة في حكم النفل، والعشاء تعاد قبل الوتر، ولا تعاد بعده؛ لأنه إن أعاد الوتر يلزم مخالفة قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا وتران في ليلة» ، وإن لم يعد، لزم مخالفة: «اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً» .
ولكل منفرد إعادة الصلاة إلا من صلى منفرداً في أحد المساجد الثلاثة، فلا يندب له إعادتها جماعة خارجها، ويندب إعادتها جماعة فيها.
ويعيد إذا كان مأموماً، ولا يصح أن يكون إماماً، كما قال الحنفية. وينوي المعيد الفرض، مفوضاً لله تعالى في قبول أي الصلاتين.
__________
(1) فتح القدير:337/1.
(2) بداية المجتهد:137/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص68، الشرح الصغير: 427/1 وما بعدها.(2/334)
وقال الشافعية (1) : يسن للمصلي وحده، وكذا للجماعة في الأصح: إعادة الفرض بنية الفرض في الأصح مع منفرد أو جماعة يدركها في الوقت ولو ركعة فيه على الراجح، ولو كان الوقت وقت كراهة، وتكون الإعادة مرة واحدة على الراجح، ولا يندب أن يعيد الصلاة المنذروة ولا صلاة الجنازة، إذ لا يتنفل بها، ويشترط أن تكون الصلاة الثانية صحيحة وإن لم تغن عن القضاء، وألا ينفرد وقت الإحرام بالصلاة الثانية من قيام لقادر، وأن تكون الجماعة مطلوبة في حق من يعيدها، فإن كان عارياً فلا يعيدها في غير ظلام. ويصح أن يكون المعيد إماماً.
وإذا صلى وأعاد مع الجماعة، فالفرض هو الأول في المذهب الجديد، لخبر يزيد بن الأسود السابق، إذ اعتبر النبي فيه الصلاة الثانية نافلة، ولأنه أسقط الفرض بالصلاة الأولى، فوجب أن تكون الثانية نفلاً. وينوي إعادة الصلاة المفروضة، حتى لا تكون نفلاً مبتدءاً.
وقال الحنابلة (2) : يستحب لمن صلى فرضه منفرداً أو في جماعة أن يعيد الصلاة إذا أقيمت الجماعة وهو في المسجد، ولو كان وقت الإعادة وقت نهي، سواء أكانت الإعادة مع الإمام الراتب أو غيره، إلا المغرب، فلا تسن إعادتها؛ لأن المعادة تطوع، وهو لا يكون بوتر. وتكون صلاته الأولى فرضه، لحديث يزيد ابن الأسود السابق. وينوي بالثانية كونها معادة؛ لأن الأولى أسقطت الفرض. وإن نوى المعادة نفلاً صح، لمطابقته الواقع، وإن نواها ظهراً مثلاً، صحت، وكانت نفلاً.
أما من كان خارج المسجد، فوجد جماعة تقام: فإن كان الوقت وقت نهي، لم يستحب له الدخول، حتى تفرغ الصلاة، وتحرم عليه الإعادة ولم تصح، سواء قصد بدخوله المسجد تحصيل الجماعة أم لا. وأما إذا لم يكن الوقت وقت نهي، وقصد المسجد للإعادة، فلا تسن له الإعادة، وإن لم يقصد ذلك، كانت الإعادة مسنونة.
__________
(1) مغني المحتاج:233/1 وما بعدها، المهذب:95/1.
(2) كشاف القناع:537/1 وما بعدها.(2/335)
الحادي عشر ـ وقت استحباب القيام للجماعة أو الصلاة:
عرفنا في بحث أحكام الإقامة للصلاة أن للفقهاء آراء أربعة في وقت استحباب القيام لصلاة الجماعة، نوجزها هنا:
ذهب الحنفية: إلى أن المصلي يقوم عند «حي على الفلاح» وبعد قيام الإمام.
وذهب الحنابلة: إلى أنه يقوم عند «قد قامت الصلاة» .
ورأي الشافعية: أنه يقوم بعد انتهاء المقيم من الإقامة.
وقال المالكية: ذلك موكول إلى قدر طاقة الناس، حال الإقامة أو أولها أو بعدها، إذ ليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة السابق: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذ أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني» قال ابن رشد: فإن صح هذا ـ وقد بينا أنه حديث متفق عليه ـ وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه، أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل واحد، فحسن (1) .
الثاني عشر ـ أعذار ترك الجماعة والجمعة:
يعذر المرء بترك الجمعة والجماعة، فلا تجبان للأسباب الآتية (2) :
1ً - المرض الذي يشق معه الحضور كمشقة المطر، وإن لم يبلغ حداً يسقط القيام في الفرض، بخلاف المرض الخفيف كصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر. ومثله تمريض من لا متعهد له ولو غير قريب ونحوه؛ لأن دفع الضرر عن الآدمي من المهمات، ولأنه يتألم على القريب أكثر مما يتألم بذهاب المال. وغير القريب كالزوجة والصهر والصديق والأستاذ.
__________
(1) بداية المجتهد: 145/1.
(2) الدر المختار:519/1 وما بعدها، مراقي الفلاح: ص48، البدائع:155/1، مغني المحتاج:234-236، المهذب:94/1، المجموع:100/4-102، كشاف القناع:583/1-587، المغني629/1-630، القوانين الفقهية: ص69 ومابعدها، الشرح الصغير:514/1-516.(2/336)
ودليل عذر المرض: قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج:78/22] وأنه صلّى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (1) ويعذر في ذلك خائف حدوث المرض، لما روى ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم فسر العذر: بالخوف والمرض (2) . فلا تجب الجماعة على مريض ومقعد وزمِن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط، ومفلوج وشيخ كبير عاجز وأعمى وإن وجد قائداً في رأي الحنفية، ولا يعذر حينئذ عند الحنابلة والمالكية والشافعية في ترك الجمعة دون الجماعة كما سيأتي.
2ً - أن يخاف ضرراً في نفسه أو ماله أو عرضه أو مريضاً يشق معه الذهاب كما ذكر، بدليل ما روى ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من سمع النداء، فلم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يارسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» .
فلا تجب الجماعة والجمعة بسبب خوف ظالم، وحبس معسر، أو ملازمة غريم معسر، وعُرْي، وخوف عقوبة يرجى تركها كتعزير لله تعالى، أو لآدمي، وقَوَد (قصاص) وحد قذف مما يقبل العفو إن تغيب أياماً، وخوف زيادة المرض أو تباطئه. فإن لم يتضرر المريض بإتيانه المسجد راكباً أو محمولاً أو تبرع أحد بأن يركبه أو يحمله أو يقوده إن كان أعمى، لزمته عند الحنابلة والمالكية والشافعية الجمعة لعدم تكررها دون الجماعة. ولا تجب الجماعة والجمعة بسبب الخوف عن الانقطاع عن الرفقة في السفر ولو سفر نزهة. أو بسبب الخوف من تلف مال كخبز في تنور، وطبيخ على نار ونحوه، أو الخوف من فوات فرصة كالخوف من ذهاب شخص يدله على ضائع في مكان ما.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أبو داود وغيره، وفي إسناده رجل مدلس، ولم يضعفه أبو داود.(2/337)
3ً - المطر، والوَحَل (الطين) والبرد الشديد، والحر ظهراً، والريح الشديدة في الليل لا في النهار، والظلمة الشديدة، بدليل ما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: «كنا إذا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سفر، وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة، نادى مناديه: أن صلوا في رحالكم» (1) ، والثلج والجليد كالمطر.
4ً - مدافعة الأخبثين (البول والغائط) أو أحدهما، لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها. وحضور طعام تتوقه نفسه، أي جوع وعطش شديدان، لخبر أنس في الصحيحين: «لا تعجلن حتى تفرغ منه» ، وإرادة سفر، ويخشى أن تفوته القافلة أي تأهب لسفر مع رفقة ترحل، أما السفر نفسه فليس بعذر، وغلبة نعاس ومشقة؛ لأن رجلاً صلى مع معاذ، ثم انفرد، فصلى وحده عند تطويل معاذ، فلم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلم حين أخبره. لكن الصبر والتجلد على دفع النعاس، والصلاة جماعة أفضل، لما فيه من نيل فضل الجماعة. وأضاف الحنفية: واشتغاله بالفقه لابغيره.
5ً - أكل منتن نيء إن لم يمكنه إزالته، ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو فجلاً ونحوه، حتى يذهب ريحه، لتأذي الملائكة بريحه، ولحديث: «من أكل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» (1) . ومثله جزار له رائحة منتنة، ونحوه من كل ذي رائحة منتنة، لأن العلة الأذى. وكذا من به برص أو جذام يتأذى به قياساً على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى.
6ً - الحبس في مكان، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:286/2] .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، ولفظهما: «ألا صلوا في الرحال» والرحال: المنازل، سواء أكانت من مدر (طين) أو شعر أو وبر أو غير ذلك. ورواه ابن ماجه بإسناد صحيح، ولم يقل: في السفر. وهناك أحاديث أخرى في الموضوع (نيل الأوطار:155/3) .(2/338)
7ً - أضاف الشافعية: تقطير سقوف الأسواق والزلزلة، والسموم: وهي ريح حارة ليلاً أو نهاراً، والبحث عن ضالة يرجوها، والسعي في استرداد مغصوب، والسمن المفرط، والهم المانع من الخشوع، والاشتغال بتجهيز ميت، ووجود من يؤذيه في طريقه أو في المسجد، وزفاف زوجته إليه في الصلاة الليلية، وتطويل الإمام على المشروع، وترك سنة مقصودة، وكونه سريع القراءة والمأموم بطيئاً، أو ممن يكره الاقتداء به، وكونه يخشى وقوع فتنة له أو به.
وأيدهم الحنابلة في عذر تطويل الإمام، وزفاف الزوجة أو العرس. وتسقط الجمعة والجماعة عند المالكية لمدة ستة أيام بسبب الزفاف، ولا تسقط عن العروس في السابع على المشهور. وأضافوا كالشافعية: يعذر من عليه قصاص (قَوَد) إن رجا العفو عنه، ومن عليه حد القذف، إن رجا العفو أيضاً؛ لأنه حق آدم. أما من عليه حد لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر وقطع السرقة، فلا يعذر في ترك الجمعة ولا الجماعة؛ لأن الحدود لا يدخلها المصالحة، بخلاف القصاص.
وخلاصة ما يسقط به حضور الجماعة عند الحنفية: واحد من ثمانية عشر أمراً: مطر، وبرد، وخوف، وظلمة، وحبس، وعمى، وفلج، وقطع يد ورجل، وسقام، وإقعاد، ووحل، وزمانة، وشيخوخة، وتكرار فقه بجماعة تفوته، وحضور طعام تتوقه نفسه، وإرادة سفر، وقيامه بمريض، وشدة ريح ليلاً لا نهاراً. وإذا انقطع عن الجماعة لعذر من أعذارها المبيحة للتخلف يحصل له ثوابها.
المطلب الثاني ـ الإمامة:
تعريفها، نوعاها، شروط الأئمة أو من تصح إمامته، الأحق بالإمامة، مكروهات الإمامة ومن تكره إمامته، متى تفسد صلاة الإمام دون المؤتم، ما تفسد به صلاة الإمام والمأمومين، ما يحمله الإمام عن المأموم، الأحكام الخاصة بالإمام.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن جابر، وفي لفظ: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا» .(2/339)
أولاً ـ تعريف الإمامة ونوعاها:
كل من يقتدى به ويتبع في خير أو شر، فهو إمام، قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} [الأنبياء:73/21] ، وقال: {وجعلناهم أئمة يَدْعون إلى النار} [القصص:41/28] .
والإمامة نوعان (1) : كبرى وصغرى.
فالكبرى: استحقاق تصرف عام على الأنام أي على الخلق، والمقصود بالتصرف العام: طاعة الإمام. أو هي رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. قال الماوردي (2) : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وتعيين الإمام واجب شرعي من أهم الواجبات باتفاق العلماء (3) ، ويشترط كونه مسلماً حراً ذكراً عاقلاً بالغاً، قادراً، قرشياً، ولا يشترط كونه هاشمياً علوياً (أي من أولاد علي كما قال به بعض الشيعة) معصوماً كما قالت الإمامية والإسماعيلية. ويكره تقليد الفاسق، ويعزل بالفسق إلا لفتنة، ويجب أن يدعى له بالصلاح. وتصح الإمامة بأحد أمور ثلاثة:
اختيار أهل الحل والعقد، والوراثة (الإمامة بالعهد) ، والغلبة والقهر للضرورة، بلا مبايعة أهل الحل والعقد (4) .
والإمامة الصغرى: هي إمامة الصلاة، وهي ارتباط صلاة المؤتم بالإمام.
ثانياً ـ شروط صحة الإمامة أو الجماعة:
تصح إمامة الإمام بالشروط التالية (5) :
1 - الإسلام: فلا تصح إمامة الكافر بالاتفاق. وذكر الحنابلة (6) : إذا صلى خلف من شك في إسلامه، أو كونه خنثى، فصلاته صحيحة، ما لم يبن كفره، وكونه خنثى مشكلاً؛ لأن الظاهر من المصلين الإسلام، لاسيما إذا كان إماماً، والظاهر السلامة من كونه خنثى، لاسيما من يؤم الرجال. فإن تبين بعد الصلاة أنه كان كافراً أو خنثى مشكلاً فعليه الإعادة. ويحكم بإسلام الشخص بالصلاة، سواء أكان في دار الحرب أم في دار الإسلام، وسواء صلى جماعة أو منفرداً، فإن أقام بعد ذلك على الإسلام، فلا كلام، وإن لم يقم عليه، فهو مرتد، يجري عليه أحكام المرتدين.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:511/1-513.
(2) الأحكام السلطانية: ص3.
(3) المرجعان السابقان، الأحكام السلطانية لأبي يعلى: ص3.
(4) المراجع السابقة.
(5) الدر المختار: 513/1 وما بعدها، و539-554، اللباب:82/1، البدائع:156/1ومابعدها، الشرح الصغير:433/1-436، القوانين الفقهية: ص67، المهذب:97/1، مغني المحتاج:238/1، 241، كشاف القناع:559/1-560، 564-568، 570، المغني:192/1، 194-195، 197-201، 228، المجموع:147/4-162.
(6) المغني: 200/1 وما بعدها.(2/340)
وإن مات قبل ظهور ما ينافي الإسلام فهو مسلم، يرثه ورثته المسلمون دون الكافرين.
وكذلك قال الشافعية (1) : لو بان كون الإمام كافراً أو امرأة، وجبت إعادة الصلاة.
2 - العقل: فلا تصح الصلاة خلف مجنون؛ لأن صلاته لنفسه باطلة. فإن كان جنونه متقطعاً، صحت الصلاة وراءه حال إفاقته، ولكن يكره الاقتداء به، لئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها، لوجود الجنون فيها، والصلاة صحيحة؛ لأن الأصل السلامة، فلا تفسد بالاحتمال. ويلاحظ أن عدَّ هذين الشرطين من شروط الإمام مسامحة، إذ هما شرطان في الصلاة مطلقاً. والمعتوه والسكران مثل المجنون لاتصح الصلاة خلفهما، كما لاتصح صلاتهما.
3 - البلوغ: فلا تصح إمامة المميز عند الجمهور للبالغ، في فرض أو نفل عند الحنفية، وفي فرض فقط عند المالكية والحنابلة، أما في النفل ككسوف وتراويح فتصح إمامته لمثله، لأنه متنفل يؤم متنفلاً، ودليلهم ما روى الأثرم عن ابن مسعود وابن عباس: «لا يؤم الغلام حتى يحتلم» ولأن الإمامة حال كمال، والصبي ليس من أهل الكمال، ولأنه لا يؤمن الصبي لإخلاله بشروط الصلاة أو القراءة.
__________
(1) مغني المحتاج:241/1.(2/341)
وقال الشافعية: يجوز اقتداء البالغ بالصبي المميز، لما روي عن عمرو بن سلمة قال: «أممت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا غلام ابن سبع سنين» (1) والأصح صحة إمامة الصبي عندهم في الجمعة أيضاً، مع الكراهة.
4 - الذكورة المحققة إذا كان المقتدي به رجلاً أو خنثى: فلا تصح إمامة المرأة والخنثى للرجال، لا في فرض ولا في نفل. أما إن كان المقتدي نساء فلا تشترط الذكورة في إمامهن عند الشافعية والحنابلة، فتصح إمامة المرأة للنساء عندهم، بدليل ما روي عن عائشة وأم سلمة وعطاء: أن المرأة تؤم النساء، وروى الدارقطني عن أم ورقة: أنه صلّى الله عليه وسلم «أذن لها أن تؤم نساء دارها» .
ولا تكره عند الشافعية جماعة النساء، بل تستحب وتقف وسطهن (2) ، وروي عن أحمد روايتان (3) : رواية أن ذلك مستحب، ورواية أن ذلك غير مستحب.
ولا تصح إمامة النساء عند المالكية، وتشترط الذكورة في الإمام (4) .
وقال الحنفية (5) : يكره تحريماً جماعة النساء وحدهن بغير رجال ولو في التراويح، في غير صلاة الجنازة، فلاتكره فيها؛ لأنها فريضة غير مكررة، فإن فعلن وقفت الإمام وسطهن كما يصلى للعراة. ودليل الكراهة: قوله صلّى الله عليه وسلم: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» (6) ، ولأنه يلزمهن أحد محظورين: إما قيام الإمام وسط
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه عن جابر، ورواه البخاري والنسائي بنحوه عن عمرو بن سلمة (نيل الأوطار:165/3) .
(2) المجموع: 96/4.
(3) المغني:202/1، كشاف القناع:564/1.
(4) الشرح الصغير:433/1.
(5) تبيين الحقائق:13/1، الدر المختار:528/1 وما بعدها، اللباب:82/1.
(6) أخرجه أبو داود عن ابن مسعود، وأخرج أحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية نحوه (نيل الأوطار:132/3) .(2/342)
الصف، وهو مكروه، أو تقدم الإمام، وهو أيضاً مكروه في حقهن، فصرن كالعراة لم يشرع في حقهن الجماعة أصلاً، ولهذا لم يشرع لهن الأذان، وهو دعاء إلى الجماعة، ولولا كراهية جماعتهن لشرع.
كما يكره عندهم حضورهن الجماعة مطلقاً ولو الجمعة والعيد والوعظ ليلاً، أما نهاراً فجائز إن أمنت الفتنة، على المذهب المفتى به كما بينا سابقاً، وتكره أيضاً إمامة الرجل لهن في بيت ليس معهن رجل غيره، ولا محرم منه كأخته أو زوجته، فإذا كان معهن واحد ممن ذكر، أو أمهن في المسجد، لا يكره، وهذا موافق لمذهب الحنابلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية» ولما فيه من مخالطة الوسواس.
5 - الطهارة من الحدث والخبث: فلا تصح إمامة المحدث، أو من عليه نجاسة لبطلان صلاته، سواء عند الجمهور أكان عالماً بذلك أم ناسياً. وقال المالكية: الشرط: عدم تعمد الحدث، وإن لم يعلم الإمام بذلك إلا بعد الفراغ من الصلاة، فإن تعمد الإمام الحدث، بطلت صلاته وصلاة من اقتدى به، وإن كان ناسياً، فصلاته صحيحة إن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الفراغ من الصلاة؛ لأن الطهارة من الخبث شرط لصحة الصلاة مع العلم فقط عندهم، ولا يصح الاقتداء بالمحدث أو الجنب إن علم ذلك، وتصح صلاة المقتدين، ولهم ثواب الجماعة باتفاق المذاهب الأربعة إلا في الجمعة عند الشافعية والحنابلة إذا كان المصلون بالإمام أربعين مع المحدث أو المتنجس، إن علموا بحدث الإمام أو بوجود نجاسة عليه، بعد الفراغ من الصلاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صلى الجنب بالقوم، أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم» (1) .
__________
(1) رواه محمد بن الحسين الحراني عن البراء بن عازب، وروي مثله عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر (كشاف القناع:565/1)(2/343)
وقال الشافعية: لا يصح الاقتداء بمن تلزمه إعادة الصلاة كمقيم تيمم لفقد الماء، ومن على بدنه نجاسة يخاف من غسلها، ومحدث صلى لفقد الطهورين.
6 - إحسان القراءة والأركان: أي أن يحسن الإمام قراءة ما لا تصح الصلاة إلا به، وأن يقوم بالأركان، فلا يصح اقتداء قارئ بأمي (1) عند الجمهور، وتجب الإعادة على القارئ المؤتم به، كما لاتصح الصلاة خلف أخرس ولو بأخرس مثله، ولا خلف عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود أو استقبال القبلة، أو اجتناب النجاسة، إلا بمثله، فتصح الصلاة خلف المماثل، إلا ثلاثة عند الحنفية: الخنثى المشكل والمستحاضة والمتحيرة (2) لاحتمال الحيض.
وقال المالكية: يشترط في الإمام القدرة على الأركان، فإن عجز عن ركن منها، قولي كالفاتحة أوفعلي كالركوع أو السجود أو القيام، لم يصح الاقتداء به، إلا إذا تساوى الإمام والمأموم في العجز، فيصح اقتداء أمي بمثله إن لم يوجد قارئ على الأصح، ويصح اقتداء أخرس بمثله، وعاجز عن القيام صلى جالساً بمثله، إلا المومئ أي الذي فرضه الإيماء من قيام أو جلوس أو اضطجاع، فلا يصح له على المشهور الاقتداء بمثله.
7 - كونه غير مأموم: فلا يصح الاقتداء بمأموم (مقتد) بغيره، في حال قدرته؛ لأنه تابع لغيره يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال، وأن يتحمل هو سهو غيره، فلا يجتمعان، وهذا إجماع.
أما الاقتداء بمن كان مقتدياً بالإمام (وهو المسبوق) بعد انقطاع القدوة: ففيه آراء.
__________
(1) الأمي: هو من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، أو يخل بحرف منها، وإن كان يحسن غيرها. فلا يجوز لمن يحسنها أن يأتم به، ويصح لمثله أن يأتم به.
(2) وتسمى الضالة والمضلة: وهي من نسيت عادتها.(2/344)
قال الحنفية (1) : لا يجوز اقتداء المسبوق بغيره ولا الاقتداء به، لأنه في الأصل تبع لغيره، فهو في موضع الاقتداء، والاقتداء بناء التحريمة على التحريمة، فالمقتدي عقد تحريمته لما انعقدت له تحريمة الإمام، فكلما انعقدت له تحريمة الإمام، جاز البناء من المقتدي، وما لا فلا.
وكذلك قال المالكية (2) : لا يجوز الاقتداء بمسبوق قام لقضاء ما عليه، فاقتدى به غيره، ولو لم يعلم بأن إمامه مأموم، إلا بعد الفراغ من صلاته. أما المدرك: وهو من أدرك مع الإمام ما دون ركعة، فيصح الاقتداء به إذا قام لصلاته، وينوي المدرك الإمامية بعد أن كان ناوياً المأمومية؛ لأنه منفرد لم يثبت له حكم المأمومية.
وقال الحنابلة (3) : إن سلم الإمام، فائتم أحد المصلين بصاحبه في قضاء ما فاتهما، صح، أو ائتم مقيم بمثله فيما بقي من صلاتهما إذا سلم إمام مسافر، صح ذلك؛ لأنه انتقال من جماعة إلى جماعة أخرى، لعذر، فجاز كالاستخلاف، بدليل قصة أبي بكر: وهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم جاء وأبو بكر في الصلاة، فتأخر أبو بكر، وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلم، فأتم بهم الصلاة وفعل هذا مرة أخرى، وكلا الحديثين صحيح متفق عليهما.
كما يصح الاقتداء بمن كان مسبوقاً بعد أن سلم إمامه، أو بعد أن نوى مفارقة الإمام، وتصح عندهم نية المفارقة، في غير الجمعة، أما فيها فلا يصح الاقتداء.
وقال الشافعية (4) : تنقطع القدوة بمجرد خروج الإمام من صلاته بسلام من حدث أو غيره، لزوال الرابطة، وحينئذ فيسجد لسهو نفسه، ويقتدي بغيره، وغيره به.
والخلاصة: إن الحنفية والمالكية لا يجيزون الاقتداء بمن كان مقتدياً بعد سلام إمامه، ويصح عند الشافعية والحنابلة، وهو أولى.
__________
(1) فتح القدير:277/1.
(2) الشرح الصغير:434/1.
(3) المغني:105/2، 233، كشاف القناع:376/1 وما بعدها.
(4) مغني المحتاج: 259/1.(2/345)
8 - اشتراط الحنفية والحنابلة (1) : السلامة من الأعذار: كالرعاف الدائم، وانفلات الريح، وسلس البول، ونحوها، فلا تصح إمامة من قام به عذر من هذه الأعذار إلا لمعذور مثله، بشرط أن يتحد عذرهما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «صلى بأصحابه في المطر بالإيماء» ، فإن اختلف العذر لم يجز، فيصلي من به سلس البول خلف مثله، أما إذا صلى خلف من به السلس وانفلات الريح، لا يجوز؛ لأن الإمام صاحب عذرين، والمؤتم صاحب عذر واحد. والذي يصح هو اقتداء ذي عذرين بذي عذر، ولا عكسه.
ولم يشترط المالكية هذا الشرط، وإنما يكره أن يؤم صاحب العذر من ليس به عذر، لأنه يصح عندهم إمامة من به سلس البول إذا لازمه ولو نصف الزمن، وكذا من به انفلات ريح أو غير ذلك مما لا ينقض الوضوء عندهم.
وكذلك لم يشترط الشافعية هذا الشرط، فتصح إمامة صاحب العذر الذي لاتجب معه إعادة الصلاة لمقتد سليم.
9 - أن يكون الإمام صحيح اللسان، بحيث ينطق بالحروف على وجهها، فلا تصح إمامة الألثغ وهو من يبدل الراء غيناً، أو السين ثاء، أو الذال زاياً، لعدم المساواة، إلا إذا كان المقتدي مثله في الحال.
ويعد كالألثغ عند الحنفية: التمتام: وهو الذي يكرر التاء في كلامه، والفأفاء وهو الذي يكرر الفاء، لا تصح إمامتهما عندهم إلا لمن يماثلهما.
واستثنى الحنابلة: من يبدل ضاد المغضوب والضالين بظاء، فتصح إمامته بمن لا يبدلها ظاء، لأنه لا يصير أمياً بهذا الإبدال.
والأرت: وهو من يدغم في غير موضع الإدغام، كقارئ المستقيم بتاء أو سين مشددة فيقول: المتقيم، ومن يخل بحرف أو تشديدة من الفاتحة، يعدان كالألثغ عند الشافعية، لا تصح إمامتهما إلا للمثل.
وقال الجمهور غير الحنفية: تصح إمامة التمتام والفأفاء ولو لغير المماثل مع الكراهة.
__________
(1) كشاف القناع: 560/2 وما بعدها، 570، الدر المختار ورد المحتار: 541/1.(2/346)
الصلاة وراء المخالف في المذهب:
10 - اشتراط الحنفية والشافعية: أن تكون صلاة الإمام صحيحة في مذهب المأموم: فلو صلى حنفي خلف شافعي سال منه دم، ولم يتوضأ بعده، أو صلى شافعي خلف حنفي لمس امرأة مثلاً، فصلاة المأموم باطلة؛ لأنه يرى بطلان صلاة إمامه.
وزاد الحنفية (1) أنه تكره الصلاة خلف شافعي. وقال الشافعية (2) : الأفضل الصلاة خلف إمام شافعي، لا حنفي أو غيره ممن لا يعتقد وجوب بعض الأركان والشروط، وإن علم الإتيان بها؛ لأنه مع ذلك لا يعتقد وجوب بعض الأركان.
وقال المالكية والحنابلة (3) : ما كان شرطاً في صحة الصلاة، فالعبرة فيه بمذهب الإمام فقط، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي بحنفي أو شافعي لم يمسح جميع الرأس في الوضوء، لأنه شرط عند الأولين، فصلاته صحيحة، لصحة صلاة الإمام في مذهبه.
وأما ما كان شرطاً في صحة الاقتداء، فالعبرة فيه بمذهب المأموم، فلو اقتدى مالكي أو حنبلي في صلاة فرض بشافعي يصلي نفلاً، فصلاته باطلة، لأن صلاة المفترض بالمتنفل باطلة عند المالكية والحنابلة، وشرط الاقتداء: اتحاد صلاة الإمام والمأموم.
وأرى لزوم الأخذ بمذهبي المالكية والحنابلة في الشق الأول، لأنه الأصح منطقاً، وتكون الصلاة خلف المخالفين في الفروع المذهبية صحيحة غير مكروهة؛ إذ العبرة بمذهب الإمام؛ لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتمّ ببعض مع اختلافهم في الفروع، فكان ذلك إجماعاً، وبه تنتهي آثار العصبية المذهبية.
11 - اشتراط الحنابلة أن يكون الإمام عدلاً، فلا تصح إمامة الفاسق (4) ولو بمثله، فلو صلى شخص خلف الفاسق، ثم علم بفسقه، وجبت عليه إعادة الصلاة، إلا في صلاة الجمعة والعيدين، فإنهما تصحان خلف الفاسق إن لم تتيسر الصلاة خلف عدل.
واشتراط المالكية: أن يكون الإمام سليماً من الفسق المتعلق بالصلاة، كأن يتهاون في شرائطها أو فرائضها، كمن يصلي بلا وضوء أو يترك قراءة الفاتحة. أما إن كان الفسق لا يتعلق بالصلاة كالزاني، أو شارب الخمر، فتصح إمامته مع الكراهة على الراجح.
__________
(1) الدر المختار: 526/1.
(2) الحضرمية: ص 64.
(3) الشرح الصغير: 444/1، المغني: 190/2، كشاف القناع: 557/1، 563.
(4) الفاسق: هو من اقترف كبيرة، أو داوم على صغيرة.(2/347)
12 - اشتراط المالكية والحنفية والحنابلة: ألا يكون الإمام معيداً صلاته لتحصيل فضيلة الجماعة، فلا يصح اقتداء مفترض بمعيد؛ لأن صلاة المعيد نفل، ولا يصح فرض وراء نفل، وأن يكون الإمام عالماً بكيفية الصلاة على الوجه الذي تصح به، وعالماً بكيفية شرائطها، كالوضوء والغسل على الوجه الصحيح، وإنه لم يميز الأركان من غيرها.
ثالثاً - الأحق بالإمامة:
أحق الناس بالإمامة في ظروفنا الحاضرة: هو الأفقه الأعلم بأحكام الصلاة، وهذا هو المفهوم فقهاً، إلا أن الفقهاء ذكروا ترتيباً يحسن بيانه في كل مذهب على حدة.
مذهب الحنفية (1) : الأحق بالإمامة: الأعلم بأحكام الصلاة فقط صحة وفساداً بشرط اجتنابه الفواحش الظاهرة، وحفظه من القرآن قدر فرض: أي ما تجوز به الصلاة.
ثم الأحسن تلاوة وتجويداً للقراءة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة..» (2) .
ثم الأورع أي الأكثر اتقاء للشبهات، والتقوى: اتقاء المحرمات، لقوله عليه السلام: «إن سركم أن تقبل صلاتكم، فليؤمكم علماؤكم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» (3) .
__________
(1) الدر المختار: 520/1 - 522، فتح القدير: 245/1-248، الكتاب مع اللباب: 81/1 ومابعدها، البدائع:157/1 ومابعدها.
(2) رواه الجماعة إلا البخاري من حديث أبي مسعود الأنصاري (نصب الراية: 24/2) .
(3) رواه الطبراني في معجمه، والحاكم إلا أنه قال: «فليؤمكم خياركم» وسكت عنه، من حديث أبي مرثد الغنوي (المصدر السابق: ص 26) .(2/348)
ثم الأسن: أي أكبرهم سناً؛ لأنه أكثر خشوعاً ولأن في تقديمه تكثير الجماعة، لقوله عليه السلام لابن أبي مليكة: «وليؤمكما أكبركما» (1) .
ثم الأحسن خلُقاً (إلفة بالناس) ، ثم الأحسن وجهاً (أي أكثرهم تهجداً) ، ثم الأشرف نسباً، ثم الأنظف ثوباً.
فإن استووا في ذلك كله يُقْرَع بينهم، أو الخيار إلى القوم، وإن اختلفوا اعتبر الأكثر.
فإن كان بينهم سلطان، فالسلطان مقدَّم، ثم الأمير، ثم القاضي، ثم صاحب المنزل، ولو مستأجراً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمَّهم رجل منهم» (2) . ويقدم القاضي على إمام المسجد.
وعلى هذا يقدم السلطان أو القاضي، فإن لم يوجد أحدهما يقدم صاحب البيت، ومثله إمام المسجد الراتب، فهذا أولى بالإمامة من غيره مطلقاً.
مذهب المالكية (3) : يندب تقديم سلطان أو نائبه ولو بمسجد له إمام راتب، ثم الإمام الراتب في المسجد، ثم رب المنزل فيه، ويقدم المستأجر على المالك؛ لأنه مالك لمنافعه. وإن كان صاحب المنزل امرأة أنابت من يصلح للإمامة؛ لأن إمامتها لا تصح، والأولى لها استخلاف الأفضل.
ثم الأفقه (الأعلم بأحكام الصلاة) ، ثم الأعلم بالسنة أو الحديث حفظاً ورواية، ثم الأقرأ، أي الأدرى بطرق القرآن أو بالقراءة والأمكن من غيره في
__________
(1) أخرجه الأئمة الستة عن مالك بن الحويرث (المصدر السابق: ص 26) .
(2) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن مالك بن الحويرث (نيل الأوطار: 159/3) .
(3) الشرح الصغير: 454/1-457، بداية المجتهد: 139/1، القوانين الفقهية: ص 68، الشرح الكبير: 342/1-345.(2/349)
مخارج الحروف، ثم الأعبد، أي الأكثر عبادة من صوم وصلاة وغيرهما، ثم الأقدم إسلاماً، ثم الأرقى نسباً كالقرشي، ومعلوم النسب يقدم على مجهوله، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن لباساً، أي الأجمل وهو لابس الجديد المباح غير الحرير، واللباس الحسن شرعاً: هو البياض خاصة، جديداً أو لا. فإن تساووا قدم الأورع (1) والزاهد والحر على غيرهم، ويقدم الأعدل على مجهول الحال، والأب على الابن، والعم على ابن أخيه، فإن تساووا في كل شيء، أقرع بينهم، إلا إذا رضوا بتقديم أحدهم.
مذهب الشافعية (2) : أحق الناس بالإمامة: الوالي في محل ولايته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يُؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» (3) . قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس لاصاحب البيت ونحوه. فيتقدم أو يقدم غيره ولو في ملك غيره، ولو كان غيره أكثر منه قرآناً وفقهاً وورعاً وفضلاً، فالوالي في محل ولايته أولى من الأفقه والمالك.
ثم الإمام الراتب، ثم الساكن بحق إن كان أهلاً لها (ومالك المنفعة أولى بالإمامة من الأفقه، والأصح تقديم المكتري على المكري، والمعير على المستعير) ، فإن لم يكن أهلاً فله التقديم.
ثم يقدم الأفقه، فالأقرأ، فالأورع، فالأقدم هجرة، ثم الأسبق إسلاماً، فالأفضل نسباً، فالأحسن سيرة، فالأنظف ثوباً، ثم نظيف البدن، ثم طيّب الصَّنْعة، ثم الأحسن صوتاً، فالأحسن صورة، أي وجهاً، فالمتزوج.
__________
(1) هو التارك للشبهات خوف الوقوع في المحرمات.
(2) المهذب: 98/1-99، مغني المحتاج: 242/1-244، الحضرمية: ص 72-73.
(3) رواه أحمد ومسلم، وفي رواية أبي داود: «ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه» ورواية سعيد ابن منصور «لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه..» (نيل الأوطار:157/3) .(2/350)
فإن استووا في جميع ما ذكر وتنازعوا، أقرع بينهم، والعدل أولى من الفاسق (وإن كان أفقه أو أقرأ) ، والبالغ أولى من الصبي (وإن كان أفقه أو أقرأ) ، والحر أولى من العبد، والمقيم أولى من المسافر، وولد الحلال أولى من ولد الزنا، والأعمى مثل البصير؛ لأن الأعمى لا ينظر إلى ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر إلى الخبث فهو أحفظ لتجنبه، أي أبعد عن النجاسة.
مذهب الحنابلة (1) : الأولى بالإمامة الأجود قراءة الأفقه، لحديث أبي سعيد الخدري: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (2) ، وقدم النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر لأنه كان حافظاً للقرآن وكان مع ذلك من أفقه الصحابة رضي الله عنهم. ومذهب أحمد تقديم القارئ على الفقيه، لحديث أبي مسعود السابق: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ، وهذا خلاف مذاهب الأئمة الآخرين، فإنه يقدم عندهم الأفقه كما بينا، لأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، بخلاف ما عليه الناس اليوم، ولأن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة.
ثم الأجود قراءة الفقيه، ثم الأجود قراءة فقط، وإن لم يكن فقيهاً، إذا كان يعلم أحكام الصلاة وما يحتاجه فيها، ثم الأفقه والأعلم بأحكام الصلاة، ويقدم قارئ لا يعلم فقه صلاته على فقيه أمي لا يحسن الفاتحة؛ لأنها ركن في الصلاة، بخلاف معرفة أحكامها، فإن استووا في عدم القراءة قدم الأعلم بأحكام الصلاة.
فإن استووا في القراءة والفقه، قدم أكبرهم سناً، لحديث مالك بن الحويرث المتقدم: «وليؤمكم أكبركم» ، ثم الأشرف نسباً: وهو من كان قرشياً، قياساً على
__________
(1) المغني: 181/2 - 185، كشاف القناع: 554/1 - 556.
(2) رواه مسلم، وروى أبو داود عن ابن عباس مرفوعاً: «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم» .(2/351)
الإمامة الكبرى، لقوله صلّى الله عليه وسلم «الأئمة من قريش» (1) ، ثم الأقدم هجرة بسبقه إلى دار الإسلام مسلماً (2) ، ومثله الأسبق إسلاماً، لحديث أبي مسعود المتقدم: «فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم مسلماً» أي إسلاماً.
ثم الأتقى لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13/49] .
فإن استووا فيما تقدم أقرع بينهم.
ويقدم السلطان مطلقاً على غيره، كما يقدم في المسجد الإمام الراتب، وفي البيت صاحبه إن كان صالحاً للإمامة.
رابعاً ـ من تكره إمامته ومكروهات الإمامة:
تكره إمامة بعض الأشخاص الآتية (3) وهم:
1ً - الفاسق العالم، ولو لمثله عند المالكية والشافعية والحنابلة، لعدم اهتمامه بالدين. واستثنى الحنابلة صلاة الجمعة والعيد، فتصح إمامته للضرورة، وأجاز الحنفية إمامته لمثله. ودليل الكراهة ما روى ابن ماجه عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لاتؤمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا يؤمن فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه» .
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والضياء عن أنس (الفتح الكبير: 504/1) ويؤيده حديث «قدموا قريشاً ولاتقدموها» رواه الشافعي والبيهقي عن الزهري بلاغاً، وابن عدي عن أبي هريرة، والبزار عن علي، والطبراني عن عبد الله بن السائب، بأسانيد صحيحة (الجامع الصغير) .
(2) وعلم منه بقاء الهجرة.
(3) الدر المختار: 522/1 - 531، مراقي الفلاح: ص 49، فتح القدير: 347/1 - 249، البدائع: 156/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 439/1 - 449، القوانين الفقهية: ص67، 69، مغني المحتاج: 232/1، 242، المغني: 193/2-198، 209-211، كشاف القناع: 549/1، و566-571، 581، الحضرمية: ص70.(2/352)
وإنما صحت إمامته، لما روى الشيخان: أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج، وروي «صلوا خلف كل بر وفاجر» (1) .
2ً - المبتدع الذي لا يكفر ببدعته: كالفاسق، بل أولى. والمبتدع: صاحب البدعة: وهي اعتقاد خلاف المعروف عن الرسول صلّى الله عليه وسلم، لا بمعاندة، بل بنوع شبهة، كمسح الشيعة على الرجلين، وإنكارهم المسح على الخفين ونحو ذلك.
ويلاحظ: أن كل من كان من أهل قبلتنا لا يكفر بالبدعة المبنية على شبهة، حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب الرسول صلّى الله عليه وسلم، وينكرون صفاته تعالى، وجواز رؤيته، لكونه عن تأويل وشبهة، بدليل قبول شهادتهم.
فإن أنكر المبتدع بعض ما علم من الدين بالضرورة (البداهة) كفر، كقوله: إن الله تعالى جسم كالأجسام، وإنكاره صحبة الرسول عليه السلام الصديق، لما فيه من تكذيب قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه} [التوبة:40/9] ، فلا يصح الاقتداء به أصلاً.
3ً - الأعمى: تكره إمامته تنزيهاً عند الحنفية والمالكية والحنابلة، لأنه لا يتوقى النجاسة، واستثنى الحنفية حالة كونه أعلم القوم، فهو أولى.
وأجاز الشافعية إمامته بدون كراهة، فهو كالبصير، إذ الأعمى أخشع، والبصير يتجنب النجاسة، ففي كلٍ مزية ليست في الآخر، وتصح إمامته عند الكل؛ لأن الصحيح عن ابن عباس: أنه كان يؤم وهو أعمى.
__________
(1) أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة، وهو حديث منقطع، ولله الحمد، وروى ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع: «لا تكفروا أهل ملتكم، وإن عملوا الكبائر، وصلوا مع كل إمام، وجاهدوا مع كل أمير، وصلوا على كل ميت من أهل القبلة» وفيه مجهول (نصب الراية: 26/2-27، نيل الأوطار: 162/3) .(2/353)
وقال أنس: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم، يؤم الناس، وهو أعمى» (1) ، ولأن العمى فقد حاسة لايخل بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها، فأشبه فقد الشم. والأعشى وهو سيء البصر ليلاً ونهاراً كالأعمى، والأصم كالأعمى عند الحنابلة والشافعية، الأولى صحة إمامته. وكذلك أقطع اليدين تصح إمامته في رواية اختارها القاضي أبو يعلى، وفي رواية مرجوحة: لاتصح إمامته. ولا يصح الائتمام بأقطع الرجلين.
4ً - أن يؤم قوماً هم له كارهون: والكراهة تحريمية عند الحنفية، لحديث: «لايقبل الله صلاة من تقدم قوماً، وهم له كارهون» (2) .
5ً - يكره تطويل الصلاة على القوم تطويلاً زائداً على قدر السنة في قراءة وأذكار، والكراهة تحريمية عند الحنفية، سواء رضي القوم أم لا.
واستثنى الشافعية والحنابلة: حالة الرضا بالتطويل من جماعة محصورين فإنه تستحب الإطالة، لزوال علة الكراهة، وهي التنفير.
ودليل كراهة التطويل: أحاديث: منها حديث أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، فإذا صلى لنفسه، فليطوِّل ما شاء» (3) وعن أبي مسعود الأنصاري وعقبة بن عامر قالا: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما
__________
(1) رواه أبو أداود وأحمد (نيل الأوطار: 160/3) وروى البخاري والنسائي أن عتبة بن مالك كان يؤم قومه، وهو أعمى (المصدر السابق) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو، وروى الترمي عن أبي أمامة: «ثلاثة لاتجاوز صلاتهم آذانهم، منهم: وإمام قوم وهم له كارهون» (نيل الأوطار: 176/3) .
(3) رواه الجماعة، وروى أحمد والشيخان عن أنس حديثين في تخفيف النبي صلّى الله عليه وسلم صلاته (نيل الأوطار: 3/731، نصب الراية: 29/2) .(2/354)
يطيل بنا، قال: فما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: ياأيها الناس، إن منكم منفِّرين، فأيكم أم بالناس فليوجز، فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة» (1) ومعناه أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة.
6ً - انتظار الداخل: قال الجمهور غير الشافعية (2) : يكره للإمام انتظار الداخل لأن انتظاره تشريك في العبادة، فلا يشرع كالرياء، ودفعاً للمشقة عن المصلين؛ لأنه يبعد أن يكون فيهم من لا يشق عليه، والذين مع الإمام أعظم حرمة من الداخل، فلا يشق على من معه لنفع الداخل.
وقال الشافعية (3) : يستحب على المذهب للإمام والمنفرد انتظار الداخل لمحل الصلاة مريداً الاقتداء به في الركوع غير الثاني من صلاة الكسوف، وفي التشهد الأخيرمن صلاة تشرع فيها الجماعة، بشرط ألا يطول الانتظار بحيث لو وزع على جميع الصلاة لظهر أثره، ولا يميز بين الداخلين لصداقة أو شرف أو سيادة ونحو ذلك، للإعانة على إدراك الركعة، أو إدراك فضل الجماعة. وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم، ولأن منتظر الصلاة في صلاة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم ينتظر الجماعة، وشرع الانتظار في صلاة الخوف لتدركه الطائفة الثانية.
ووافق ابن قدامة الحنبلي الشافعية، وقال القاضي من الحنابلة: الانتظار جائز غير مستحب، وإنما ينتظر من كان ذا حرمة، كأهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل.
__________
(1) متفق عليه، وروى البخاري ومسلم مثله عن معاذ، لاتكن فتاناً، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر» (نصب الراية: 29/2 - 30) .
(2) الشرح الصغير: 432/1، القوانين الفقهية: ص 69، كشاف القناع: 55/1، المغني: 236/2.
(3) الحضرمية: ص65، المغني، المكان السابق، مغني المحتاج: 232/1.(2/355)
7ً - تكره إمامة اللّحّان (كثير اللحن) الذي لا يحيل المعنى كجر دال (الحمد) ونصب هاء (الله) ونصب ياء (الرب) ونحوه من الفاتحة، وتصح صلاته بمن لا يلحن؛ لأنه أتى بفرض القراءة.
8ً - تكره إمامة من لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف، وتصح إمامته، سواء أكان أعجمياً أم عربياً. وتكره عند الجمهور غير الحنفية كما بينا: إمامة التمتام (وهو من يكرر التاء) والفأفاء (وهو من يكرر الفاء) ، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، ويزيدان زيادة، وهما مغلوبان عليها، فعفي عنها، ويكره تقديمهما لهذه الزيادة.
9ً - تكره إمامة الأعرابي (وهو ساكن البادية) لغيره من أهل الحاضرة ولو بسفر لا لمثله. وذكر الحنفية أن التركمان والأكراد والعامي كالأعرابي، لما فيه من الجفاء والإمام شافع، فينبغي أن يكون ذا لين ورحمة، وبسبب الجهل، وإمامة الجاهل سواء أكان بدوياً أم حضرياً مكروهة مع وجود العالم. وقال الحنابلة: لا بأس بالصلاة وراء الأعرابي إذا صلح دينه.(2/356)
10ً - يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين بقدر ذراع فأكثر، سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد، لحديث حذيفة وأبي مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أم الرجل القوم، فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم» (1) وكان ابن مسعود ينهى عن ذلك. ويكره أيضاً عند الحنفية والمالكية والشافعية ارتفاع المقتدين عن مكان الإمام بقدر ذراع أيضاً، وتتقيد الكراهة عندهم بما إذا لم يكن في الحالتين مع الإمام في موقفه واحد على الأقل من المقتدين، فإ ن وجد معه واحد فأكثر لم يكره، واستثنى المالكية من ذلك صلاة الجمعة فإنها على سطح المسجد باطلة، كما استثنوا مع الشافعية العلو لأجل ضرورة أو حاجة أو قصد تعليم للمأمومين كيفية الصلاة، فيجوز، وبطلت صلاة الإمام والمأموم إن قصد بعلوه الكبر، لمنافاته الصلاة.
وتختص الكراهة عند الحنابلة بمن هو أسفل من الإمام، لا بمن يساويه أو هو أعلى منه؛ لأن المعنى وجد بمن هو أسفل دون غيرهم.
ولا بأس عند الحنابلة والمالكية بالعلو اليسير مثل درجة المنبر، أي حوالي الشبر أو الذراع، كما استثنى المالكية العلو لضرورة كتعليم الناس الصلاة، لحديث سهل أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلَّى على الدرجة السفلى من المنبر (2) .
11ً - تكره الصلاة عند غير الحنابلة خلف ولد الزنا إن وجد غيره يؤم الناس؛ إذ ليس له أب يربيه ويؤدبه ويعلمه، فيغلب عليه الجهل، ولنفرة الناس عنه. وقيد الحنفية كراهة إمامته بحالة كونه جاهلاً، إذ لو كان عالماً تقياً لا تكره إمامته؛ لأن الكراهة للنقائص لا لذاته، كما قيد المالكية كراهة إمامته فيما إذا جعل إماماً راتباً، وأجاز الشافعية إمامته لمثله.
مكروهات الإمامة في المذاهب:
مذهب الحنفية (3) :
__________
(1) رواهما أبو داود (نيل الأوطار: 193/3) .
(2) متفق عليه (المصدر السابق) .
(3) الدر المختار ورد المحتار: 525/1 ومابعدها، و531.(2/357)
يكره تنزيهاً إمامة الأمرد الصبيح الوجه، وإن كان أعلم القوم، إن كان يخشى من إمامته الفتنة والشهوة، وإلا فلا كراهة على الأظهر. وتكره إمامة السفيه (وهو الذي لا يحسن التصرف على مقتضى الشرع أو العقل) والمفلوج، والأبرص الذي انتشر برصه، والمجذوم، والمجبوب، والحاقن بالبول، والأعرج الذي يقوم ببعض قدمه، ومقطوع اليد، وشارب الخمر (1) ، وآكل الربا، والنمام: (وهو من ينقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، والنميمة من الكبائر، ويحرم على الإنسان قبولها) ، والمرائي: (وهو من يقصد أن يراه الناس، سواء تكلف تحسين الطاعات أو لا) والمتصنع: (من يتكلف تحسين الطاعات) . ومن أمَّ الناس بأجر إلا إذا شرط الواقف له أجراً، فلا تكره إمامته؛ لأنه يأخذه كصدقة ومعونة. ويكره تنزيهاً قيام الإمام الراتب في غير المحراب إذا أم جماعة كثيرة، لئلا يلزم عدم قيامه في الوسط، فلو لم يلزم ذلك لا يكره.
ويكره تحريماً جماعة النساء، كما بينا سابقاً.
مذهب المالكية (2) :
تكره إمامة ذي سلس كبول ونحوه، وذي قَرْح أي دمل سائل لصحيح، ومثلهما كل من تلبس بنجاسة معفو عنها لسالم منها، لا لمثله.
وكره إمامة أقلف أو أغلف (غير المختون) ، ومجهول أي لم يعلم حاله أهو عدل أو فاسق، ومثله مجهول النسب.
وتكره إمامة بعض الأشخاص في حالة دون حالة:
يكره جعل الخصي ومن يتكسر في كلامه كالنساء وولد الزنا إماماً راتباً في فرض أو سنة كعيد، ولا يكره إذا لم يجعل إماماً راتباً.
وتكره الصلاة بين الأساطين أي الأعمدة، وصلا ة المأموم أمام أو قُدَّام الإمام بلا ضرورة، وإلا لم تكره.
__________
(1) هذا ومن ذكر بعده إلى المتصنع يدخل في صفة الفاسق.
(2) الشرح الصغير: 439/1-449.(2/358)
ويكره اقتداء من بأسفل السفينة بمن بأعلاها، لعدم تمكنهم من ملاحظة الإمام، وقد تدور، فيختل عليهم أمر الصلاة، بخلاف العكس، أي اقتداء الأعلى بالأسفل. كما يكره اقتداء من بأبي قبيس بمن يصلي بالمسجد الحرام، وهو جبل عال تجاه ركن الحجر الأسود، لعدم تمام التمكن من أفعال الإمام.
وكره صلاة رجل بين نساء وعكسه أي امرأة بين رجال.
وكره إمامة بمسجد بلا رِداء يلقيه الإمام على كتفيه، بخلاف المأموم والمنفرد، فلا يكره لهما عدم الرداء، بل هو خلاف الأولى، مما يدل على أن الرداء يندب لكل مصل، والندب للإمام أوكد.
وكره تنفل الإمام بالمحراب؛ لأنه لا يستحقه إلا حال كونه إماماً، ولأنه قد يوهم غيره أنه في صلاة فرض، فيقتدي به.
وكره صلاة جماعة في المسجد قبل الإمام الراتب، وحرم معه، كما يكره صلاة جماعة بعد صلاة الإمام الراتب، وإن أذن لغيره في ذلك، كما بينا سابقاً في تكرار الجماعة.
وتجوز إمامة بعض الأشخاص مع كونها خلاف الأولى في كل ما يأتي:
فتجوز كما بينا إمامة الأعمى، وإمامة مخالف في الفروع، وإمامة ألكن: وهو من لايكاد يخرج بعض الحروف من مخارجها لعجمة أو غيرها، مثل أن يقلب الحاء هاء، أو الراء لاماً، أو الضاد دالاً.
وإمامة محدود لقذف أو شرب أو غيرها، وإمامة عنِّين (1) ، وإمامة أقطع يداً أو رجلاً، وأشل، على الراجح فيهما، ومجذوم (أي من قام به داء الجذام) لكن إن اشتد جذامه، وجب تنحيته عن الإمامة، بل عن الاجتماع بالناس. وجاز إمامة صبي بمثله، وجاز إسراع لإدراك الصلاة جماعة بلا خبب (هرولة) كما بينا.
وجاز بمسجد قتل عقرب وحية وفأرة. وجاز إحضار صبي شأنه لا يعبث، أو ينكف إذا نهي، وإلا منع إحضاره.
__________
(1) وهو من له ذكر صغير لايتأتى به الجماع، أو من لاينتشر ذكره.(2/359)
وجاز البصق القليل في مسجد فيه حصباء أو تراب أو تحت حصيرة، ويمنع الكثير أو البصق في المسجد المبلَّط، أو فوق الحصيرة، أو على حائط المسجد لتقذيره. ويندب البصق في الثوب، وجهة اليسار أو تحت القدم اليسرى، فإن تعسر عليه ذلك بصق جهة يمينه، فإن تعسر بصق أمامه.
وجاز كما بينا خروج امرأة متجالَّة (لا أرب للرجال فيها) لمسجد الجماعة والعيد ونحوه، على التفصيل السابق في خروج النساء للمساجد.
وجاز فصل مأموم عن إمامه بنهر صغير أو طريق أو زرع، لا يمنع من رؤية أفعال الإمام أو سماعه، للأمن من الخلل في صلاته.
وجاز مع خلاف الأولى كما بينا علو مأموم على إمامه ولو بسطح في غير جمعة، لأن الجمعة لا تصح بسطح المسجد. ويكره علو إمام على المأموم إلا العلو اليسير أو لضرورة أو لقصد تعليم المأمومين كيفية الصلاة، وبطلت الصلاة إن قصد بالعلو الكبر.
وجاز التبليغ خلف الإمام واقتداء الناس بسبب سماع المبلِّغ.
وجاز اقتداء برؤية الإمام أو المأموم، وإن كان المأموم بدار مثلاً، والإمام بمسجد، ولا يشترط إمكان التوصل إليه.(2/360)
مذهب الشافعية (1) :
تكره إمامة المتغلب على الإمامة ولايستحقها، ومن لا يتحرز عن النجاسة، ومن يحترف حرفة دنيئة كالحجام، ومن يكرهه أكثر القوم لأمر مذموم كإكثار الضحك، ومجهول الأب وولد الزنا إلا لمثله، كما بينا، وتكره إمامة الأقلف ولو بالغاً، كما تكره إمامة الصبي ولو أفقه من البالغ، كما ذكرنا، وإمامة الفأفاء والوأواء والتمتام واللاحن بما لم يغير المعنى كضم هاء (لله) ، وضم صاد الصراط، وهمزة {اهدنا} [الفاتحة:6/1] ونحوه، فإن لحن لحناً غيَّر المعنى كضم تاء {أنعمت} [الفاتحة:7/1] أو كسرها أبطل صلاة من أمكنه التعلم، فإن عجز لسانه أو لم يمض زمن إمكان تعلمه: فإن كان في الفاتحة فهو كالأمي ولا تصح قدوة قارئ بأمي في الجديد، أما في غير الفاتحة، كما إذا قرأ بجر اللام لرسوله في قوله تعالى: {أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُه} [التوبة:3/9] فتصح صلاته والقدوة به إذا كان عاجزاً، أو جاهلاً لم يمض زمن إمكان تعلمه، أو ناسياً؛ لأن الكلام اليسير بهذه الشروط لا يقدح في الصلاة.
وتكره كما بينا إمامة مخالف في الفروع، وارتفاع مكان الإمام عن مكان المأموم وعكسه من غير حاجة كضيق المسجد. ولا تكره إمامة الأعمى.
مذهب الحنابلة (2) :
بينا أنه تكره عندهم إمامة الأعمى والأعشى والأصم، والأقلف ولو بالغاً (3) ،ومقطوع اليدين أو إحداهما، ولا تصح إمامة مقطوع الرجلين إلا بمثله؛
__________
(1) مغني المحتاج:239/1 -241، الحضرمية: ص73.
(2) المغني:193/2،198،200،209،230 ومابعدها، كشاف القناع:556/1،568،570،581.
(3) للاختلاف في صحة إمامته، والنجاسة تحت القلفة بمحل لاتمكنه إزالتها منه: معفو عنها، لعدم إمكان إزالتها، ومثل هذه النجاسة لاتؤثر في صحة الصلاة.(2/361)
لأنه ميؤوس من قيامه، فلم تصح إمامته كالمريض الزمِن، وتصح على الأصح مع الكراهة إمامة مقطوع الرجلين أو إحداهما الذي يمكنه القيام؛ لأنه يسجد على الباقي من رجله أو حائلها، بأن يتخذ له رجلين من خشب أو نحوه.
وتكره إمامة مقطوع الأنف ومن تُضحك رؤيته أو صورته، ومن اختلف في صحة إمامته، والموسوس في رأي لئلا يقتدي به عامي، وظاهر كلامهم: لا يكره.
وتكره كما ذكرنا إمامة الفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف، واللحان الذي يلحن ولا يغير المعنى كجر دال {الحمد لله} [الفاتحة:2/1] ، وتصح صلاته بمن لا يلحن؛ لأنه أتى بفرض القراءة.
ويكره كما بينا أيضاً ارتفاع مكان الإمام عن المأموم ذراعاً فأكثر، لا العكس فلا كراهة في ارتفاع مكان المأموم، ولا يعيد الجمعة من يصليها فوق سطح المسجد، روى الشافعي عن أبي هريرة: «أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام» ورواه سعيد بن منصور عن أنس. ويكره أن يؤم قوماً أكثرهم يكرهه بحق، لخلل في دينه أو فضله، فإن كرهه نصفهم لم يكره، والأولى ألا يؤمهم، إزالة لذلك الاختلاف، ولا يكره الائتمام به؛ لأن الكراهة في حقه دونهم.
وتكره إمامة الرجل للنساء الأجنبيات، ولا رجل معهن، لأنه صلّى الله عليه وسلم «نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية» (1) ولما فيه من مخالطة الوسواس. ولا بأس أن يؤم بذوات محارمه، أو أجنبيات معهن رجل فأكثر؛ لأن النساء كن يشهدن مع النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة.
__________
(1) روى البخاري ومسلم عن ابن عباس: «لايخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرم، ولاتسافر المرأة إلا مع ذي محرم» (سبل السلام:183/2) .(2/362)
وتكره إمامة المفضول مع وجود الأفضل، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أمَّ الرجل القوم، وفيهم من هو خير منه، لم يزالوا في سَفال» (1) .
ولا بأس بإمامة ولد زنا ولقيط، ومنفي بلعان، وخصي، وجندي، وأعرابي إذا سلم دينهم وصلحوا للإمامة، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم» ، وصلى السابقون خلف ابن زياد، وهو ممن في نسبته نظر، وقالت عائشة: «ليس عليه من وزر أبويه شيء» قالت: قال تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:17/15] ، ولأن كلاً منهم حر مرضي في دينه، يصلح لها كغيره.
خامساً ـ متى تفسد صلاة الإمام دون المؤتم؟
قال الحنفية (2) : إن كان بالإمام حدث أو جنابة أو مفسد للصلاة سابق على تكبيرة الإمام، أو مقارن لتكبيرة المقتدي، أو سابق عليها بعد تكبيرة الإمام، بطلت صلاة الإمام والمقتدي، لتضمن صلاة الإمام صلاة المؤتم صحة وفساداً، أي أن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي، فإذا صحت صلاة الإمام صحت صلاة المقتدي، إلا لمانع آخر، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه متى فسد الشيء فسد ما في ضمنه. فمن اقتدى بإمام ثم علم المقتدي أن الإمام على غير وضوء، أعاد الصلاة اتفاقاً، لظهور بطلانها.
أما لو طرأ المفسد أو خلل الشرط أو الركن، فإن الصلاة تنعقد أولاً ثم تبطل صلاة الإمام عند وجود الخلل أو الحدث مثلاً، ولا يعيد المقتدي صلاته، كما لو ارتد الإمام، أو سعى إلى الجمعة بعد ما صلى الظهر بجماعة فسدت صلاته فقط. وكذا لو عاد إلى سجود التلاوة بعد ما تفرق المقتدون، ولو سلم القوم قبل الإمام، بعدما قعد قدر التشهد، ثم عرض له الحدث، فإنها تبطل صلاته وحده.
__________
(1) ذكره أحمد في رسالته، والسفال: ضد العلو.
(2) الدر المختار ورد المحتار:553/1 ومابعدها،567، الكتاب بشرح اللباب:84/1.(2/363)
ففي هذه المسائل تفسد صلاة الإمام، وتصح صلاة المؤتم، ولاتنتقض القاعدة السابقة (صلاة الإمام متضمنة لصلاة المؤتم) بذلك؛ لأن هذا الفساد طارئ على صلاة الإمام بعد فراغ الإمامة، فلا إمام ولا مؤتم في الحقيقة.
وقال المالكية (1) : إذا صلى الإمام بجنابة أو على غير وضوء، بطلت صلاته اتفاقاً في العمد والنسيان. وتبطل صلاة المأموم في العمد دون النسيان.
وقال الشافعية (2) : إذا بان الإمام امرأة أو كافراً، وجب على المقتدي إعادة الصلاة، لأنه مقصر بترك البحث عن الإمام الصالح، ولعدم أهلية الإمام للإمامة.
أما لو بان كون الإمام جنباً أو محدثاً أو ذا نجاسة خفية في ثوبه أو بدنه، فلا تجب على المقتدي إعادة الصلاة لانتفاء التقصير، إلا في الجمعة إذا كان المصلون مع الإمام أربعين فقط مع المحدث أو ذي النجاسة. وتجب الإعادة على المقتدي إذا كانت النجاسة ظاهرة، لتقصيره في هذه الحالة. والنجاسة الظاهرة: ما تكون بحيث لو تأمَّلها المأموم لرآها. والخفية بخلافها.
وقال الحنابلة (3) : إذا بان الإمام امرأة أو كافراً، وجبت إعادة الصلاة على المؤتم كما قال الشافعية، إذ تمتاز المرأة بالصوت والهيئة وغيرهما، والكفر لا يخفى غالباً، فالجاهل بذلك مفرط.
ولا تصح إمامة محدث أو متنجس يعلم ذلك؛ لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة، فأشبه المتلاعب، ويجب على المقتدي في حال علم الإمام بحدثه أو نجسه أن يعيد صلاته، وإن كان جاهلاً بحال الإمام.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص69.
(2) مغني المحتاج:241/1، المهذب:97/1.
(3) كشاف القناع:559/1،564، 565، المغني:99/3.(2/364)
أما لو كان الإمام جاهلاً بالحدث أو النجس، وكذلك المأمومون يجهلون ذلك، حتى قضوا الصلاة، فتصح صلاة المأموم وحده، دون الإمام، للحديث السابق: «إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم» .
وعليه إذا صلى الإمام بالجماعة محدثاً أو جنباً غير عالم بحدثه، فلم يعلم هو ولا المأمومون، حتى فرغوا من الصلاة، فصلاتهم صحيحة اتفاقاً وصلاة الإمام باطلة.
سادساً ـ ما تفسد به صلاة الإمام والمأمومين:
تبين من الفقرة السابقة: أن العلماء اتفقوا على أنه إذا طرأ الحدث في الصلاة على الإمام، فتفسد صلاته، وتظل صلاة المأمومين صحيحة.
أما لو صلى الإمام بالناس وهو جنب أو محدث، وعلم بذلك المأمومون بعد الصلاة، فهل تفسد صلاتهم أم لا؟ أجيب عنه في الفقرة السابقة (1) وموجزه ما يأتي: فقال الحنفية: صلاتهم فاسدة مطلقاً.
وقال المالكية: تبطل صلاتهم في حال العمد دون النسيان.
وقال الشافعية والحنابلة: صلاتهم صحيحة، إلا في الجمعة إذا كان المصلون مع الإمام أربعين فقط، فتفسد حينئذ.
وسبب الاختلاف: هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام، أم ليست مرتبطة؟
فمن رآها مرتبطة وهم الحنفية، قال: صلاتهم فاسدة.
ومن رآها غير مرتبطة وهم الشافعية والحنابلة، قال: صلاتهم صحيحة.
ومن فرق بين السهو والعمد، وهم المالكية، أخذ بظاهر الأثر الآتي: عن أبي بكرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استفتح، فكبَّر ثم أومأ إليهم: أن مكانكم، ثم دخل، ثم خرج ورأسه يقطر، فصلى بهم، فلما قضى الصلاة، قال: إنما أنا بشر مثلكم، وإني كنت جُنُباً» (2) فظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم.
ورأى الشافعية والحنابلة أنه لو كانت الصلاة مرتبطة، للزم أن يبدؤوا بالصلاة مرة ثانية.
__________
(1) بداية المجتهد:150/1 وما بعدها.
(2) نيل الأوطار:175/3.(2/365)
سابعاً ـ ما يحمله الإمام عن المأموم:
يتحمل الإمام سهو المأموم، واتفق الفقهاء على أنه لا يحمل الإمام من فرائض الصلاة شيئاً عن المأموم ما عدا القراءة، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال (1) :
أحدها ـ للمالكية والحنابلة: أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه، ولا يقرأ معه فيما جهر به. وكذلك يقرأ عند الحنابلة في الجهرية إذا لم يسمع، ولا يقرأ إذا سمع (2) .
والثاني ـ للحنفية: أنه لا يقرأ معه أصلاً.
والثالث ـ للشافعية: أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب (الفاتحة) وغيرها، وفيما جهر أم الكتاب فقط.
والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الموضوع، وهي أربعة أحاديث سبق ذكرها في أركان الصلاة وهي:
1 - حديث «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» .
2 - حديث مالك عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي منكم أحد آنفاً؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله، فقال رسول الله: إني أقول ما لي أنازع القرآن؟ فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
3 - حديث عبادة بن الصامت، قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف، قال: إني لأراكم تقرؤون وراء الإمام؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن (3) .
__________
(1) بداية المجتهد:149/1 ومابعدها.
(2) قالوا: تسن قراءة المأموم الفاتحة في سكتات الإمام، ولو كان سكوته لتنفس، ولا يضر تفريقها أي الفاتحة، وتسن قراءته فيما لا يجهر الإمام فيه، لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله قال: «كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب» (كشاف القناع:544/1) .
(3) قال ابن عبد البر: حديث عبادة هنا من رواية مكحول وغيره، متصل السند، صحيح.(2/366)
4 - حديث جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من كان له إمام، فقراءته له قراءة» وفي معناه حديث خامس صححه أحمد بن حنبل وهو: «إذا قرأ الإمام فأنصتوا» .
اختلف الفقهاء في الجمع بين هذه الأحاديث، فالشافعية استثنوا من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط عملاً بحديث ابن الصامت.
والمالكية والحنابلة: استثنوا من عموم حديث «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» المأموم فقط في صلاة الجهر، للنهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة، وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204/7] قا لوا: وهذا إنما ورد في الصلاة.
والحنفية: استثنوا القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط، سراً كانت
الصلاة أو جهراً، وجعلوا الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط، عملاً بحديث جابر، فصار حديث جابر مخصصاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «واقرأ ما تيسر معك فقط» لأنهم لا يرون وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة، وإنما يرون وجوب القراءة مطلقاً، لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل:20/73] .
ما ذكره الحنابلة فيما يتحمله الإمام عن المأموم:
قال الحنابلة (1) : يتحمل الإمام عن المأموم ثمانية أشياء:
الفاتحة، وسجود السهو إذا دخل معه في الركعة الأولى (وهو اللاحق) ، والسترة قدَّامه، لما تقدم «سترة الإمام سترة لمن خلفه» ، والتشهد الأول إذا سبقه بركعة من رباعية لوجوب المتابعة، وسجود تلاوة أتى بها المأموم في الصلاة خلف الإمام، وفيما إذا سجد الإمام لتلاوة سجدة قرأها في صلاة سرية، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ملء السموات وملء الأرض ... الخ بعد التحميد، ودعاء القنوت إن كان يسمع المأموم، فيؤمن فقط، وإلا قنت.
ويوافقهم الحنفية والمالكية في الفاتحة وقول سمع الله لمن حمده، وقول: ملء السموات كما يوافقهم سائر المذاهب في الباقي.(2/367)
ثامناً ـ الأحكام الخاصة بالإمام:
هناك أربع مسائل خاصة بالإمام وهي: هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة الفاتحة، أو المأموم هو الذي يؤمن فقط، ومتى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام، وهل يفتح على الإمام إذا أرتج عليه أو لا، وهل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين؟
قد عرفنا أحكام هذه المسائل في المذاهب ما عدا الثانية منها، ونوجز هنا الكلام فيها (1) .
المسألة الأولى ـ هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة الفاتحة، أو المأموم هو الذي يؤمن فقط؟
ذهب مالك إلى أنه لا يؤمن.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء.
وسبب اختلافهم حديثان متعارضان في الظاهر:
أحدهما ـ حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» (2) .
والثاني ـ حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين (3) .
فالحديث الأول نص في تأمين الإمام. والحديث الثاني: يستدل منه على أن الإمام لا يؤمن؛ لأنه لو كان يؤمن، لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من الفاتحة قبل أن يؤمن الإمام؛ لأن الإمام، كما قال عليه الصلاة والسلام إنما جعل ليؤتم به.
فرجح مالك الحديث الثاني الذي رواه، لكون السامع هو المؤمن، لا القارئ الداعي.
ورجح الجمهور الحديث الأول لكونه نصاً في الموضوع؛ لأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام، وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط، لا في: هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن.
__________
(1) بداية المجتهد:141/1-143.
(2) رواه الجماعة (تيل الأوطار:222/2) .
(3) رواه مالك، وفي رواية أبي داود وابن ماجه: قال: آمين (نيل الأوطار:224/2) .(2/368)
المسألة الثانية ـ متى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام؟
قال الجمهور: لا يكبر الإمام إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف.
وقال الحنفية: إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة، واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة.
وسبب الخلاف تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال.
أما حديث أنس: فقال: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يكبر في الصلاة، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من راء ظهري (1) . وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة، مثلما روي عن عمر: أنه كان إذا تمت الإقامة، واستوت الصفوف، حينئذ يكبر.
وأما حديث بلال: فإنه روى أنه كان يقيم للنبي صلّى الله عليه وسلم، فكان يقول له: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين (2) . فهذا يدل على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يكبر، والإقامة لم تتم.
المسألة الثالثة ـ هل يفتح على الإمام إذا أرتج عليه أو لا؟
ذكر البحث فيها في مبطلات الصلاة، وقد عرفنا أن المذاهب الأربعة وغيرها أجازوا الفتح على الإمام إذا أرتج عليه وهو مشهور عن ابن عمر.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم (المجموع:124/4) .
(2) أخرجه الطحاوي.(2/369)
ومنعه بعض العلماء وهو مشهور عن علي. وسبب الخلاف: اختلاف الآثار، فقد روي أنه «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك آية، فقال له رجل: يا رسول الله، آية كذا وكذا، قال: فهلا ذكرتنيها؟!» (1) ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «يا علي، لاتفتح على الإمام في الصلاة» (2) . والرأي الأول أصح رواية وعملاً.
المسألة الرابعة ـ ارتفاع الإمام عن المأمومين:
بينا سابقاً أنه يجوز في المذاهب الأربعة ارتفاع الإمام عن المأمومين مع الكراهة، إلا الارتفاع اليسير فلا كراهة فيه عند المالكية والحنابلة، وإلا حالة الضرورة أو قصد التعليم عند الشافعية. ومنع قوم ذلك.
وسبب الخلاف فيه حديثان متعارضان:
أحدهما ـ الحديث الثابت أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة، وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر (3) .
والثاني ـ ما رواه أبو داود أن حذيفة أمَّ الناس على دكَّان (4) فأخذ ابن مسعود بقميصه، فجذبه، فلما فرغ من صلاته، قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك (5) .
مسألة خامسة ملحقة ـ هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أو لا؟
ذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه، لحديث ابن عباس أنه قام إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد دخوله في الصلاة.
ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لا بد من ذلك؛ إذ كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين. وسنعود لهذا البحث.
__________
(1) رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن مُسوَّر بن يزيد المالكي (نيل الأوطار:322/2) وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تردد في آية، فلما انصرف، قال: أين أُبيّ، ألم يكن في القوم، أي يريد الفتح عليه.
(2) أخرجه أبو داود عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي، لكن لم يثبت سماع السبيعي عن الأعور، ورواه عبد الرزاق بلفظ «لا تفتحن على الإمام وأنت في الصلاة» .
(3) هذا حديث سهل بن سعد، وهو متفق عليه (نيل الأوطار:193/3) .
(4) الدكان: الحانوت، وأصله الدَّكة: وهو المكان المرتفع يجلس عليه.
(5) رواه أبو داود عن هَمَّام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ... الحديث (نيل الأوطار:193/3) .(2/370)
المطلب الثالث ـ القدوة:
شروط القدوة، نية مقارنة الإمام وقطع القدوة، أحوال المقتدي (المدرك، اللاحق، المسبوق) ، ما يفعله المقتدي بعد فراغ إمامه من واجب وغيره.
أولاً ـ شروط صحة القدوة:
ذكر الشافعية (1) سبعة شروط لصحة القدوة يمكن فهمها من فروع المطلب الثاني السابق وهي ما يأتي:
1ً - ألا يعلم المقتدي بطلان صلاة إمامه بحدث أو غيره، وألا يعتقد بطلانها من حيث الاجتهاد في غير اختلاف المذاهب في الفروع: كمجتهدين اختلفا في القبلة أو في إناءين من الماء: طاهر ونجس، بأن أدى اجتهاد أحدهما إلى غير ما أدى إليه اجتهاد الآخر في المسألتين.
فإن تعدد الطاهر من الآنية: كأن كانت الأواني ثلاثة، والطاهر منها اثنان والمجتهدون ثلاثة، وظن كل منهم طهارة إنائه فقط، فالأصح صحة اقتداء بعضهم ببعض، ما لم يتعين إناء الإمام للنجاسة.
فإن ظن واحد باجتهاده طهارة إناء غيره، جاز له الاقتداء به قطعاً.
أما اختلاف المذاهب في الفروع: فلو اقتدى شافعي بحنفي مسَّ فرجه، أو افتصد، فالأصح الصحة في الفصد، دون المس، اعتباراً باعتقاد المقتدي لأنه محدث عنده بالمس، دون الفصد.
2ً - ألا يعتقد وجوب قضاء الصلاة: كمقيم تيمم، لفقد ماء بمحل يغلب فيه وجوده.
__________
(1) مغني المحتاج:237/1-240، الحضرمية: ص67.(2/371)
3ً - ألا يكون مأموماً، فلا تصح قدوة بمقتد في حال قدوته؛ لأنه تابع لغيره يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال، وأن يتحمل هو سهو غيره، فلا يجتمعان، وهذا إجماع.
4ً - ألا يكون مشكوكاً في كونه إماماً أو مأموماً: فإن شك لم يصح اقتداؤه به.
5ً - ألا يكون أمياً: وهو من لا يحسن حرفاً من الفاتحة، أو يخل بتشديدة منها، إلا إذا اقتدى به مثله.
6ً - ألا يقتدي الرجل بالمرأة. فلو صلى خلفه ثم تبين كفره أو جنونه أو كونه امرأة أو مأموماً أو أمياً، أعادها، إلا إن بان محدثاً أو جنباً أو عليه نجاسة خفية، أو قائماً بركعة زائدة فاقتدى به، فلا إعادة عليه.
ولو نسي حدث إمامه، ثم تذكره، أعاد.
ثانياً ـ نية مفارقة الإمام وقطع القدوة:
عرفنا سابقاً أنه عند الشافعية: تنقطع القدوة بمجرد خروج الإمام من صلاته، بحدث أو غيره. وقال الشافعية والحنابلة (1) : إن أحرم الشخص مأموماً، ثم نوى مفارقة الإمام وإتمام صلاته منفرداً، جاز عند الشافعية سواء أكان لعذر، أم لغير عذر مع الكراهة، لمفارقته للجماعة المطلوبة وجوباً أو ندباً مؤكداً. وجاز لعذر فقط عند الحنابلة، أما لغير عذر ففيه روايتان: إحداهما: تفسد صلاته وهي الأصح والثانية: تصح. واستثنى الشافعية الجمعة فلا تصح نية المفارقة في الركعة الأولى منها، والصلاة التي يريد إعادتها جماعة، فلا تصح نية المفارقة في شيء منها، وكذا الصلاة المجموعة تقديماً.
ومن العذر: تطويل الإمام، أو تركه سنة مقصودة، كتشهد أول وقنوت، فله فراقه ليأتي بتلك السنة، أو المرض، أو خشية غلبة النعاس أو شيء يفسد صلاته، أو خوف فوات ماله أو تلفه، أو فوت رفقته، أو من يخرج من الصف ثم لا يجد من يقف معه.
ودليلهم مافي الصحيحين: «أن معاذاً صلى بأصحابه العشاء، فطوَّل عليهم، فانصرف رجل، فصلى، ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأخبره بالقصة، فغضب وأنكر على معاذ، ولم ينكر على الرجل، ولم يأمره بالإعادة» .
وأجاز الحنفية (2) فقط مع الكراهة سلام المقتدي قبل الإمام، ولا تجوز المفارقة. وقال المالكية (3) : من اقتدى بإمام لم يجز له مفارقته.
__________
(1) مغني المحتاج:259/1، المغني:233/2، كشاف القناع:372/1 ومابعدها. المهذب:97/1.
(2) الدر المختار:560/1.
(3) الشرح الصغير:449/1.(2/372)
ثالثاً ـ أحوال المقتدي (المدرك، اللاحق، المسبوق) :
للمقتدي أحوال ثلاثة: مدرك، ولاحق، ومسبوق، ولأحكامهم تفصيل في المذاهب.
مذهب الحنفية (1) :
المدرك: من صلى جميع الصلاةكاملة مع الإمام. وهذا صلاته تامة لا شيء فيها.
واللاحق: من فاتته الركعات كلها أو بعضها مع الإمام، على الرغم من ابتدائه الصلاة معه، كأن عرض له عذر كغفلة أو نوم أو زحمة (2) أو سبق حدث، أو صلاة خوف (أي في الطائفة الأولى، وأما الثانية فمسبوقة) أو كان مقيماً ائتم بمسافر، أو بلا عذر: كأن سبق إمامه في ركوع وسجود، فإنه يقضي ركعة.
وحكمه: أنه كمؤتم حقيقة فيما فاته، فلا تنقطع تبعيته للإمام، فلا يقرأ في قضاء مافاته من الركعات، ولا يسجد للسهو لأنه لا سجود على المأموم فيما يسهو به خلف إمامه، ولا يتغير فرضه، فيصير أربعاً، بنية الإقامة إن كان مسافراً، ويبدأ بقضاء ما فاته أثناء صلاة الإمام، ثم يتابعه فيما بقي إن أدركه ويسلم معه، فإن لم يدركه، مضى في صلاته إلى النهاية.
وإذا كان اللاحق مسبوقاً بأن بدأ مع الإمام في الركعة الثانية، ثم فاتته ركعة فأكثر خلف الإمام، فعليه القراءة في قضاء ما سبق به.
والمسبوق: من سبقه الإمام بكل الصلاة أو ببعضها (3) . وحكمه أنه كالمنفرد بعد البدء بقضاء ما فاته، فيأتي بدعاء الثناء، والتعوذ لأنه للقراءة، ويقرأ؛ لأنه
__________
(1) الدر المختار:555/1-560، فتح القدير:277/1 ومابعدها، تبيين الحقائق:137/3 ومابعدها.
(2) بأن زحمه الناس في الجمعة مثلاً، فلم يقدر على أداء الركعة الأولى مع الإمام، وقدر على الباقي، فيصليها، ثم يتابعه.
(3) أن يُسبق بكل الركعات: بأن اقتدى بالإمام بعد ركوع الركعة الأخيرة. وسبقه ببعضها: بأن يفوته بعض الركعات.(2/373)
يقضي أول صلاته في حق القراءة، فلو ترك القراءة، فسدت صلاته، كما يقضي آخر صلاته في حق التشهد.
ومحل إتيانه بالثناء: إن كان في ركعة سرية أتى بالثناء بعد تكبيرة الإحرام، وإن أدرك الإمام في ركعة جهرية، لا يأتي به مع الإمام على الصحيح، بل يأتي به عند قضاء ما فاته، وعندئذ يتعوذ ويبسمل للقراءة كالمنفرد.
والمسبوق: إن أدرك الإمام وهو راكع، كبر للإحرام قائماً، ثم ركع معه، وتحسب له هذه الركعة.
وإن أدركه بعد الركوع، كبر للإحرام قائماً، ثم تابعه فيما هو فيه من أعمال الصلاة، ولا تحسب الركعة، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام، ويقرأ الفاتحة وسورة بعدها في قضاء كل من الركعتين الأولى والثانية من صلاته، فلو فاتته هاتان الركعتان قرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة، ولو فاته ركعة مثلاً قضى ركعة وقرأ فيها الفاتحة والسورة.
والمسبوق كالمنفرد إلا في أربع مسائل فهو كمقتد:
إحداها ـ لا يجوز اقتداؤه بغيره ولا الاقتداء به.
ثانيها ـ لو كبَّر ناوياً استئناف صلاة جديدة وقطعها، صار مستأنفاً وقاطعاً للصلاة الأولى، بخلاف المنفرد.
ثالثها ـ لو قام إلى قضاء ما سبق به، وعلى الإمام سجدتا سهو، ولو قبل اقتدائه، فعليه أن يعود فيسجد معه، ما لم يقيد الركعة التي قام لقضائها بسجدة، فإن لم يعد حتى سجد، يمضي في صلاته، وعليه إن يسجد في آخر صلاته، بخلاف المنفرد، فإنه لا يلزمه السجود لسهو غيره.
كذلك يلزمه متابعة الإمام في قضاء سجدة التلاوة، على التفصيل المذكور. رابعها ـ يأتي بتكبيرات التشريق (1) اتفاقاً بين الحنفية، بخلاف المنفرد، حيث لا يأتي بها عند أبي حنيفة.
__________
(1) يجب عند الحنفية: تكبير التشريق في عيد الأضحى من بعد فجر عرفة إلى عصر العيد مرة، فور كل فرض، أدي بجماعة مستحبة، على إمام مقيم.(2/374)
ومن أحكام المسبوق:
أنه يكره تحريماً أن يقوم المسبوق لقضاء ما فاته قبل سلام إمامه إذا قعد قدر التشهد، إلا في مواضع تعتبر عذراً:
الأول: إذا خاف المسبوق الماسح زوال مدته إذا انتظر سلام الإمام.
الثاني: إذا خاف خروج الوقت، وكان صاحب عذر، حتى لا ينتقض وضوءه.
الثالث: إذا خاف في الجمعة دخول وقت العصر، إذا انتظر سلام الإمام.
الرابع: إذا خاف المسبوق دخول وقت الظهر في العيدين، أو خاف طلوع الشمس في الفجر، إذا انتظر سلام الإمام.
الخامس: إذا خاف المسبوق أن يسبقه الحدث.
السادس: إذا خاف أن يمر الناس بين يديه إذا انتظر سلام الإمام، ففي هذه المواضع كلها للمسبوق أن يقوم فيها لإكمال صلاته قبل سلام إمامه.
مذهب المالكية (1) :
المدرك: الذي أدرك جميع الصلاة مع الإمام، صلاته تامة، ولاقضاء عليه بعد سلام إمامه؛ لأنه لم يفته شيء من الصلاة.
واللاحق: الذي فاته شيء من الصلاة بعد الدخول مع الإمام لعذر كزحمة أو نعاس لا ينقض الوضوء، له أحوال ثلاثة: أن يفوته ركوع أو اعتدال منه، أن تفوته سجدة أو سجدتان، أن تفوته ركعة فأكثر.
الحالة الأولى ـ وهي أن يفوت المأموم الركوع أو الرفع منه مع الإمام، فإما أن يكون ذلك في الركعة الأولى أو غيرها. فإن كان في الركعة الأولى اتبع الإمام فيما هو فيه من الصلاة، وألغى هذه الركعة، وقضى ركعة بعد سلام الإمام.
وإن كان ذلك الفوات في غير الركعة الأولى: فإن أمكنه تدارك الإمام في السجود ولو في السجدة الثانية، فعل مافاته ليدرك الإمام، وإن لم يتمكن من تدارك الإمام في السجود، فإنه يلغي هذه الركعة، ويقضيها بعد سلام الإمام.
__________
(1) الشرح الصغير:458/1-461، الشرح الكبير:345/1-349، القوانين الفقهية: ص70 ومابعدها، بداية المجتهد:181/1-182.(2/375)
الحالة الثانية ـ أن يفوته سجدة أو سجدتان: فإن أمكنه السجود وإدراك الإمام في ركوع الركعة التالية، فعل ما فاته ولحق الإمام وتحسب له الركعة. وإن لم يمكنه السجود على النحو المذكور، ألغى الركعة واتبع الإمام فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد سلام الإمام، ولا يسجد للسهو، لأن الإمام يتحمل عنه سهوه.
الحالة الثالثة ـ أن تفوته ركعة أو أكثر بعد الدخول مع الإمام: فيقضي مافاته بعد سلام الإمام، على النحو الذي فاته بالنسبة للقراءة والقنوت.
أما المسبوق: الذي فاته ركعة أو أكثر قبل الدخول مع الإمام، فحكمه أنه يجب عليه أن يقضي بعد سلام الإمام ما فاته من الصلاة. والمشهور أنه يقضي القول، ويبني على الأفعال، علماً بأن المراد بالقول هو القراءة، والمراد بالفعل هو ماعدا القراءة، فيشمل التسميع والتحميد والقنوت.
ومعنى قضاء القول: أن يجعل ما فاته المسبوق قبل دخوله مع الإمام بالنسبة إليه هو أول صلاته، وما أدركه معه هو آخرها، فيأتي بالقراءة على صفتها من سر أو جهر.
ومعنى البناء على الفعل (1) : أن يجعل ما أدركه مع الإمام أول صلاته، ومافاته آخر صلاته، فيكون كالمصلي وحده. فهو عكس البناء على القول.
وتوضيح ذلك: إن أدرك المسبوق الركعة الرابعة فقط من العشاء، فإذا سلم الإمام، أتى بركعة يقرأ فيها جهراً بالفاتحة والسورة؛ لأنها أولى صلاته بالنسبة للقراءة، ثم يجلس بعدها للتشهد؛ لأنها ثانية له بالنسبة للجلوس. ثم يقوم فيأتي بركعة، يقرأ فيها جهراً بالفاتحة والسورة؛ لأنها ثانية له بالنسبة للقراءة، ولا يجلس بعدها للتشهد لأنها ثالثة له بالنسبة للجلوس. ثم يأتي بركعة ثالثة يقرأ فيها سراً، ثم يجلس للتشهد الأخير؛ لأنها رابعة بالنسبة للأفعال، ثم يسلم.
__________
(1) الفعل: هو ماعدا القراءة بصفتها، فيشمل التسميع والتحميد والقنوت كما تقدم.(2/376)
ومدرك الركعة الثانية في صلاة الصبح مع الإمام، يقنت في ركعة القضاء؛ لأنها الثانية بالنسبة للفعل، الذي منه القنوت، ويجمع بين التسميع والتحميد؛ لأن الركعة الثانية آخرته، وهو فيها كالمصلي وحده.
أما إن سجد الإمام سجود سهو: فإن كان قبلياً سجد معه، وإن كان بعدياً أخره حتى يفرغ من قضاء ما عليه.
وأما التكبير أثناء نهوض المسبوق لقضاء ما عليه: فإن أدرك مع الإمام ركعتين أو أقل من ركعة، كبر حال القيام؛ لأن جلوسه في محله، فيقوم بتكبير، وإلا فلا يكبر حال القيام، بل يقوم ساكتاً؛ لأن جلوسه في غير محله، وإنما هو لموافقة الإمام.
وإن أدرك المسبوق ركوع الإمام، فمكن من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك الركعة. وإن لم يدرك المسبوق ركوع الركعة الأخيرة، فدخل في السجود أو الجلوس، فقد فاتته الصلاة كلها، فيقوم فيصليها كاملة؛ فإن جرى له ذلك في صلاة الجمعة، صلاها ظهراً أربعاً.
الشافعية (1) :
المقتدي: إما موافق أو مسبوق. والموافق: هو من أدرك مع الإمام قدر الفاتحة، سواء الركعة الأولى وغيرها. والمسبوق: هو من لم يدرك مع الإمام من الركعة الأولى أو غيرها قدراً يسع الفاتحة.
والموافق: إن تخلف عن الإمام بركن فعلي عامداً بلا عذر، بأن فرغ الإمام منه، وهو فيما قبله، لم تبطل صلاته في الأصح؛ لأنه تخلف يسير، سواء أكان طويلاً، كأن ابتدأ الإمام رفع الاعتدال، والمأموم في قيام القراءة، أم قصيراً، كأن رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، وهوى من الجلسة بعدها للسجود، والمأموم في السجدة الأولى.
وإن تخلف بركنين فعليين، بأن فرغ الإمام منهما، وهو فيما قبلهما، كأن ابتدأ الإمام هويّ السجود، والمأموم في قيام القراءة.
أ - فإن لم يكن عذر، كأن تخلف لقراءة السورة أو لتسبيحات الركوع والسجود، بطلت صلاته، لكثرة المخالفة.
ب ـ وإن كان عذر: بأن اشتغل بدعاء الافتتاح، أو ركع إمامه فشك في الفاتحة، أو تذكر تركها أو أسرع الإمام قراءته مثلاً، أو كان المأموم بطيء القراءة لعجز، لا لوسوسة، وركع أي الإمام قبل إتمام المأموم الفاتحة، فالصحيح أن المأموم يتم فاتحته، ويسعى خلف إمامه على نظم صلاة نفسه، ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة في نفسها، طويلة أي ما لم يسبق بثلاثة فما دونها، وهي الركوع والسجودان، أخذاً من صلاته صلّى الله عليه وسلم بعُسْفان، فلا يعد منها القصير: وهو الاعتدال والجلوس بين السجدتين.
__________
(1) مغني المحتاج:256/1 -258، المهذب:95/1، حاشية الباجوري:204/1، الحضرمية: ص71 ومابعدها.(2/377)
فإن سبق بأكثر من الأركان الثلاثة، بأن لم يفرغ من الفاتحة إلا والإمام قائم عن السجود، أو جالس للتشهد، فالأصح أنه لا تلزمه المفارقة، بل يتبع الإمام فيما هو فيه، ثم يتدارك بعد سلام الإمام ما فاته، كالمسبوق، لما في مراعاة نظم صلاته في هذه الحالة من المخالفة الفاحشة. وهذا كله مفرع على شرط متابعة المقتدي للإمام.
أما المسبوق: فيسن له ألا يشتغل بسنة بعد التحرم، بل بالفاتحة، إلا أن يظن إدراكها مع اشتغاله بالسنة. فإن لم يشتغل بسنة، تبع إمامه في الركوع وجوباً، وسقط عنه ما بقي من الفاتحة، فإن تخلف لإتمام قراءته، حتى رفع الإمام من الركوع، فاتته الركعة، ولا تبطل صلاته، إلا إذا تخلف عنه بركنين فعليين بلا عذر.(2/378)
وإن اشتغل المسبوق بسنة كدعاء الافتتاح أو التعوذ، قرأ بقدرها من الفاتحة وجوباً، ثم إن فرغ مما عليه، وأدرك الركوع مطمئناً يقيناً مع الإمام أدرك الركعة. وإن فرغ مما عليه، والإمام في الاعتدال، وافقه فيه وفاتته الركعة. وإن لم يفرغ مما عليه واستمر في القراءة وأراد الإمام الهويّ للسجود، تعينت نية المفارقة؛ لأنه إن هوى الإمام للسجود، ولم ينو المفارقة، بطلت صلاته، وإن هوى معه، بطلت صلاته أيضاً. وإن لم يشتغل بسنة، قطع القراءة، وركع مع الإمام.
ولو علم المأموم في ركوعه أنه ترك الفاتحة، لم يعد إليها، بل يصلي ركعة بعد سلام الإمام.
ولو علم المأموم ترك الفاتحة أو شك فيه، وقد ركع الإمام، ولم يركع هو، قرأها وجوباً لبقاء محلها، ويعد متخلفاً بعذر، ويطبَّق عليه حكم بطيء القراءة، في الموافق.
والمسبوق الذي فاته بعض ركعات الصلاة مع الإمام: إن أدرك مع الإمام مقدار الركوع الجائز بأن أدركه راكعاً واطمأن معه، فقد أدرك الركعة، وإن لم يدرك ذلك أو أدركه في ركوع زائد أو في الثاني من صلاة الكسوفين، لم يدرك الركعة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة يوم الجمعة، فليضف إليها أخرى، ومن لم يدرك الركوع، فليصل الظهر أربعاً» (1) .
وإن أدركه ساجداً، كبر للإحرام، ثم سجد من غير تكبير، على المذهب.
وإن أدركه في آخر الصلاة، كبر للإحرام، وقعد، وحصل له فضيلة الجماعة، فإن أدرك معه الركعة الأخيرة، كان ذلك أول صلاته، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «ما أدركت فهو أول صلاتك» وعن ابن عمر أنه قال: «يكبر، فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلاته» وبه تقررت قاعدة المذهب وهي: ما أدركه المسبوق أول صلاته، وما يتداركه آخرها، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم
__________
(1) هذا الحديث بهذا اللفظ غريب، ورواه الدارقطني بإسناد ضعيف ولفظه: «من أدرك من الجمعة ركعة، فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوساً، صلى الظهر أربعاً» (المجموع:113/4) .(2/379)
فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (1) . وهذا بخلاف مذاهب الأئمة الآخرين فعندهم: ما أدركه آخر صلاته وما يتداركه أول صلاته، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» (2) .
وإن كانت الصلاة فيها قنوت، فقنت مع الإمام أعاد القنوت في آخر صلاته؛ لأن مافعله مع الإمام فعله للمتابعة، فإذا بلغ إلى موضعه، أعاد كما لو تشهد مع الإمام، ثم قام إلى ما بقي، فإنه يعيد التشهد.
ويسن للمسبوق الذي فاتته الركعتان الأوليان أو إحداهما أن يقرأ سورة بعد الفاتحة في الركعتين الأخيرتين أو الأولى منهما، لئلا تخلو صلاته من سورة.
الحنابلة (3) :
المسبوق يشمل عندهم (اللاحق) عند الحنفية والمالكية، فمن اقتدى بالإمام من أول الصلاة، أو بعد ركعة فأكثر وفاته شيء منها فهو في الحالتين مسبوق. أما اللاحق الذي بدأ صلاته مع الإمام من أولها، وتخلف عنه بركن أو ركنين لعذر من نوم لا ينقض الوضوء أوغفلة أو سهو أوعجلة ونحوه كزحام، فيجب عليه أن يفعله ويلحق به إذا لم يخش فوت الركعة التالية؛ لأنه أمكنه استدراكه من غير محذور، فلزمه، وتصح الركعة التي أتى بها. وإن لم يأت بها أو خشي فوت الركعة التالية مع الإمام، وجب عليه متابعة إمامه، ولغت الركعة، ووجب عليه قضاؤها على صفتها بعد سلام الإمام.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من طرق كثيرة، فهذه الرواية أولى، كما قال البيهقي (المجموع:120/4) .
(2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي (المصدر السابق) .
(3) كشاف القناع:540/1-543،546 -549.(2/380)
والإتيان بها على صفتها معناه: أنه لو فاتته الركعة الأولى، أتى بها بالاستفتاح والتعوذ وقراءة سورة بعد الفاتحة. وإن كانت الثانية قرأ سورة بعد الفاتحة، وإن كانت الثالثة أو الرابعة قرأ الفاتحة فقط.
وإن تخلف عن السجود مع الإمام لعذر، تابع إمامه في السجود الثاني وتمت له الركعة، على أن يقضي ما فاته على صفته بعد سلام الإمام.
وإن تخلف عن إمامه بركعة فأكثر، لعذر من نوم أو غفلة أو نحوه، تابعه فيما بقي من صلاته، وقضى المأموم ما تخلف به بعد سلام إمامه، كمسبوق.
وأما إن تخلف المقتدي عن إمامه بركن بلا عذر، فهو كسبق الإمام بركن: إن فعل ذلك عامداً عالماً، بطلت صلاته، لأنه ترك فرض المتابعة متعمداً. وإن فعل ذلك جاهلاً أو ناسياً، بطلت تلك الركعة إذا لم يأت بما فاته مع إمامه؛ لأنه لم يقتد بإمامه في الركوع، وتصح صلاته، لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
وأما المسبوق: فإن سبق بالركوع أو بركنين عمداً بطلت صلاته مطلقاً، وإن سبقه بغير ركوع كالهوي للسجود، أو سبقه سهواً لم تبطل صلاته، لكن يجب إعادة ما أتى به بعد إمامه، فإن لم يأت به، ألغيت الركعة.
وما أدرك المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته، كما بينا، فإن أدركه فيما بعد الركعة الأولى كالثانية أو الثالثة، لم يستفتح ولم يستعذ، ومايقضيه المسبوق هو أول صلاته، فيستفتح له، ويتعوذ، ويقرأ السورة، لحديث أبي هريرة السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» (1) .
__________
(1) رواه الشيخان وأحمد والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، قال مسلم: أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة: «فاقضوا» ولا أعلم رواها عن الزهري غيره.(2/381)
ويتورك المسبوق مع إمامه في موضع توركه؛ لأنه آخر صلاته، وإن لم يعتد به، كما يتورك المسبوق فيما يقضيه للتشهد الثاني، فلو أدرك ركعتين من رباعية، جلس مع الإمام متوركاً متابعة له للتشهد الأول، وجلس بعد قضاء الركعتين أيضاً متوركاً؛ لأنه يعقبه سلامه. ويندب أن يكرر التشهد الأول، حتى يسلم إمامه التسليمتين؛ لأنه تشهد واقع في وسط الصلاة، فلم تشرع فيه الزيادة على الأول.
وإذا سلم المسبوق مع إمامه سهواً، وجب عليه أن يسجد للسهو في آخر صلاته. وكذا يسجد للسهو إن سها فيما يصليه مع الإمام، وفيما انفرد بقضائه، ولو شارك الإمام في سجوده لسهوه. وإذا لم يسجد الإمام لسهو، وجب على المسبوق سجود السهو بعد قضاء ما فاته.
ويعتبر المسبوق مدركاً للجماعة متى أدرك تكبيرة الإحرام قبل سلام إمامه التسليمة الأولى، ولا يكون مدركاً للركعة إلا إذا ركع مع الإمام قبل رفع رأسه من الركوع، غير شاكّ في إدراك الإمام راكعاً، ولو لم يدرك معه الطمأنينة إذا اطمأن هو، ثم لحق إمامه، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» (1) .
رابعاً: ما يفعله المقتدي بعد فراغ إمامه من واجب وغيره:
ذكر الحنفية (2) بعض الأحكام الفرعية المتعلقة بالمقتدي بعد فراغ إمامه وهي:
أـ لو سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من قراءة التشهد، فعليه أن يتمه، ثم يسلم.
ب ـ لو سلم الإمام قبل فراغ المقتدي من الصلوات الإبراهيمية أو الدعاء، يتركها، ويسلم مع الإمام.
جـ ـ إذا قام الإمام قبل فراغ المقتدي من قراءة التشهد الأول، أتمه ثم تابع إمامه.
د ـ إذا رفع الإمام رأسه من الركوع أو السجود قبل فراغ المقتدي من إتمام ثلاث تسبيحات، تابعه، وتركها.
هـ ـ إذا زاد الإمام سجدة، أو قام بعد القعود الأخير ساهياً، لا يتبعه المقتدي ولو تابعه فسدت صلاته، بل ينتظره، ويسبح لتنبيه الإمام لخطئه، فإن عاد الإمام قبل تقييده الزائدة بسجدة، سجد الإمام للسهو، وسلم المقتدي معه، فإن أتى بسجدة بعد الزائد، سلم المقتدي وحده، لخروج الإمام إلى غير صلاته.
وإن سلم المقتدي قبل أن يقيد الإمام ما زاده بسجدة، فسد فرضه.
وـ يكره سلام المقتدي بعد تشهد الإمام قبل سلامه، لتركه المتابعة، وصحت صلاته، كما صحت صلاة الإمام على الصحيح.
ز ـ يكره تحريماً الخروج من مسجد بعد الأذان، حتى يصلي الشخص، إلا إذا كان إماماً أو مؤذناً لمسجد آخر، أو خرج بعد صلاته منفرداً.
ح ـ لو ظن الإمام السهو، فسجد له، فتابعه المقتدي، فبان أن لا سهو، فالأشبه الفساد لصلاة المقتدي، لاقتدائه في موضع الانفراد.
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد حسن.
(2) مراقي الفلاح: ص50، الدر المختار:560/1.(2/382)
المطلب الرابع ـ الأمور المشتركة بين الإمام والمأموم:
شروط الاقتداء بالإمام، موقف الإمام والمأموم، أمر الإمام بتسوية الصفوف، صلاة المنفرد عن الصف.
أولاً ـ شروط الاقتداء بالإمام:
عرفنا شروط كل من الإمام والمقتدي الخاصة بهما، ونبحث هنا شروط ارتباط المقتدي بالإمام أو شروط صحة الجماعة وهي ما يأتي (1) :
1 - نية المؤتم الاقتداء باتفاق المذاهب:
أي ينوي المأموم مع تكبيرة الإحرام الاقتداء أو الجماعة أو المأمومية، فلو ترك هذه النية أو مع الشك فيها، وتابعه في الأفعال، بطلت صلاة المقتدي، ولا يجب تعيين الإمام باسمه، فإن عينه وأخطأ بطلت صلاته عند الشافعية.
__________
(1) الدر المختار:513/1، 515،552، البدائع:138/1،146، الكتاب مع اللباب:84/1، الشرح الصغير:449/1،453، الشرح الكبير:337/1-341، القوانين الفقهية: ص68ومابعدها، مغني المحتاج:252/1-258، الحضرمية: ص68،71، المغني:213/2 ومابعدها،231-234، كشاف القناع:565/1،571،579 ومابعدها.(2/383)
لكن لابد من تعيين إمام معين بصفة الإمامة، فلو نوى الائتمام بأحد رجلين يصليان، لا بعينه، لم يصح، حتى يعين الإمام بوصفه، لأن تعيينه شرط، ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد، فلو نوى الائتمام بإمامين لم يجز؛ لأنه لا يمكن اتباعهما معاً.
وشرط النية: أن تكون مقارنة للتحريمة عند الشافعية، وأجاز الحنفية أن تكون متقدمة على التحريمة بشرط ألا يفصل بينها وبين التحريمة فاصل أجنبي (1) ، والأفضل عندهم وعند الحنابلة: أن تكون مقارنة خروجاً من الخلاف. واشترط المالكية المقارنة للتحريمة أو قبلها بزمن يسير، كما تقدم في بحث اشتراط النية في الصلاة.
وبناء على هذا الشرط: لو شرع امرؤ في الصلاة منفرداً، لم يجز له الانتقال للجماعة إلا في حالة الاستخلاف، كما سيأتي، كما لا يجوز عكسه عند الحنفية والمالكية، وهو أن ينتقل للانفراد، بأن ينوي مفارقة الإمام، وأجاز الشافعية والحنابلة كما بينا نية مفارقة الإمام، وإتمام الصلاة منفرداً، لعذر عند الحنابلة، أو لغير عذر مع الكراهة عند الشافعية، كما بينا سابقاً.
__________
(1) قال الحنفية: من أراد الدخول في صلاة غيره، يحتاج إلى نيتين: نية نفس الصلاة، ونية المتابعة للإمام بأن ينوي فرض الوقت، والاقتداء بالإمام فيه.(2/384)
أما نية الإمام الإمامة: فلا تشترط عند الجمهور غير الحنابلة، بل تستحب ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو لم تحصل له، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى.
واستثنى الشافعية والمالكية الصلاة التي تتوقف صحتها على الجماعة، كالجمعة، والمجموعة للمطر، والمعادة، وصلاة الخوف، فلا بد فيها من نية الإمام الإمامة.
واستثنى الحنفية اقتداء النساء بالرجل، فإنه يشترط نية الرجل الإمامة لصحة اقتداء النساء به.
وقال الحنابلة: تشترط أيضاً نية الإمامة، فينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم، وإلا فسدت الصلاة. لكن لو أحرم الشخص منفرداً، ثم جاء آخر، فصلى معه، فنوى إمامته، صح في النفل، عملاً بحديث ابن عباس، وهو أنه قال: «بتُ عند خالتي ميمونة، فقام النبي صلّى الله عليه وسلم متطوعاً من الليل، فقام إلى القربة، فتوضأ، فقام، فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن» (1) .
أما في الفريضة: فإن كان المصلي ينتظر أحداً، كإمام المسجد، فإنه يُحرم وحده، وينتظر من يأتي، فيصلي معه، فيجوز ذلك أيضاً عند الحنابلة؛ لأن النبيصلّى الله عليه وسلم أحرم وحده، ثم جاء جابر وجبارة، فأحرما معه، فصلى بهما، ولم ينكر فعلهما. والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين. أما في غير هذه الحالة، فلا يصح الاقتداء لمن لم ينو الإمامة.
__________
(1) متفق عليه.(2/385)
2 ـ اتحاد صلاتي الإمام والمأموم:
للفقهاء آراء في تحديد هذا الاتحاد، فقال الحنفية (1) : الاتحاد أن يمكنه (أي المقتدي) الدخول في صلاة بنية صلاة الإمام، فتكون صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي. فلا يصلي المفترض خلف المتنفل؛ لأن الاقتداء بناء، ووصف الفرضية معدوم في حق الإمام، فلا يتحقق البناء على المعدوم، ولا من يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر؛ لأن الاقتداء شركة وموافقة، فلا بد من الاتحاد سبباً وفعلاً ووصفاً. لأن الاقتداء بناء التحريمة على التحريمة، كما بينا أي أن الاتحاد في الفرضية ونوع الفريضة.
ويصلي المتنفل خلف المفترض؛ لأن فيه بناء الضعيف على القوي، وهو جائز، إلا التراويح في الصحيح؛ فلا يصح الاقتداء فيها بالمفترض لأنها سنة على هيئة مخصوصة، فيراعى وضعها الخاص للخروج عن العهدة أي التبعة أو المسؤولية.
ويصح اقتداء متنفل بمتنفل ومنه ناذر نفل بناذر آخر، ومن يرى الوتر واجباً (وهم الحنفية) بمن يراه سنة، ومن اقتدى في العصر، وهو مقيم، بعد الغروب، بمن أحرم قبله، لاتحاد صلاة الإمام مع صلاة المقتدي في الصور الثلاث.
ويصح اقتداء متوضئ بمتيمم، وغاسل بماسح على خف أو جبيرة، وقائم بقاعد يركع ويسجد، لا مومئ؛ فالمومئ يصلي خلف مثله، إلا أن يومئ المؤتم قاعداً، والإمام مضطجعاً؛ لأن القعود معتبر، فتثبت به القعدة، أما صلاة القائم بالقاعد فلأنه صلّى الله عليه وسلم صلى آخر صلاته قاعداً، والناس قيام (2) ، وأبو بكر يبلغهم تكبيره، كما يصح اقتداء قائم بأحدب الظهر، وإن بلغ حدبه الركوع على المعتمد، وكذا الاقتداء بأعرج. ويصح اقتداء مومئ بمثله إلا أن يومئ الإمام مضطجعاً، والمؤتم قاعداً أو قائماً فإنه لا يجوز، على المختار، لقوة حال المأموم.
__________
(1) الكتاب بشرح اللباب:84/1، الدر المختار ورد المحتار:514/1،550-552، فتح القدير:261/1-265.
(2) أخرجه البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعو د (نصب الراية:41/2) .(2/386)
وقال المالكية (1) : يشترط الاتحاد في ذات الصلاة، فلا يصح اقتداء بصلاة ظهر خلف عصر مثلاً، وفي صفة الصلاة أداء وقضاء، فلا يصح أداء خلف قضاء ولا عكسه، وفي زمن الصلاة، وإن اتفقا في القضاء، فلا يصح ظهر يوم السبت خلف ظهر يوم الأحد، ولا عكسه، ولا يصح اقتداء في صلاة صبح بعد طلوع شمس بمن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس؛ لأنها للإمام أداء، وللمأموم قضاء.
ويصح اقتداء نفل خلف فرض كركعتي الضحى، خلف صبح بعد الشمس، وركعتي نفل خلف صلاة سفرية، أو أربع خلف صلاة حضرية.
وقال الحنابلة (2) : الاتحاد في نوع الفرض وقتاً واسماً، فلا يصح ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، أو غيرهما كالعشاء، وعكسه، كما لا تصح صلاة مفترض خلف مفترض بفرض غيره وقتاً واسماً؛ لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ،ولا يصح اقتداء مفترض بمتنفل، لهذا الحديث، ولأن صلاة المأموم لا تؤدى بنية الإمام، فأشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر. ولا يصح أن يؤم من عدم الماء والتراب، أو به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بأحدهما بمن تطهر بأحدهما.
ولا يصح الاقتداء في صلاة تخالف الأخرى في الأفعال، كصلاة الكسوف أو الجمعة خلف من يصلي غيرهما، وصلاة غيرهما وراء من يصليهما؛ لأنه يفضي إلى مخالفة إمامه في الأفعال، وهو منهي عنه.
ويصح اقتداء متنفل بمفترض، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم في إعادة الصلاة جماعة: «من يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه» ويصح ائتمام متوضئ بمتيمم؛ لأنه أتى بالطهارة على الوجه الذي يلزمه، والعكس أولى. ويصح ائتمام ما سح على حائل بغاسل، لأن الغسل رافع للحدث.
__________
(1) الشرح الصغير:451/1.
(2) كشاف القناع:561/1 ومابعدها،570 ومابعدها، المغني:220/2-227.(2/387)
ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، وعكسه؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت.
ويصح ائتمام قاضي ظهر يوم، بقاضي ظهر يوم آخر، لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت. ويلاحظ أن هاتين الحالتين خلاف مذهب المالكية.
ويجوز للعاجز عن القيام أن يؤم مثله.
ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون إمام الحي؛ لأنه لا حاجة بالناس إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة، والنبي صلّى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك، كان هو الإمام الراتب.
الثاني: أن يكون مرضه يرجى زواله، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه، ولأن اتخاذ الزَّمِن ومن لا يرجى قدرته على القيام إماماً راتباً، يفضي إلى تركهم القيام، ولا حاجة إليه.
وعليه لا تصح الصلاة خلف عاجز عن القيام؛ لأنه عجز عن ركن من أركان الصلاة، فلم يصح الاقتداء به، كالعاجز عن القراءة إلا بمثله، إلا إمام الحي، المرجو زوال علته: وهو كل إمام مسجد راتب.
وإذا صلى إمام الحي جالساً، صلى من وراءه جلوساً، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون» (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيته، وهو شاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعون» (2) ، ولأنها حالة قعود الإمام، فكان على المأمومين متابعته كحال التشهد.
فإن صلوا قياماً خلف إمام الحي المرجو زوال علته، صحت صلاتهم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يأمر من صلى خلفه قائماً بالإعادة، ولأن القيام هو الأصل.
والأفضل لهذا الإمام إذا مرض أن يستخلف؛ لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فيخرج من الخلاف، ولأن صلاة القائم أكمل، فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة.
__________
(1) متفق عليه قال ابن عبد البر: روي هذا مرفوعاً من طرق متواترة.
(2) وروى أنس ونحوه، أخرجهما البخاري ومسلم، وروى جابر عن النبي ص مثله، أخرجه مسلم، ورواه أسيد بن حضير، وعمل به. قال ابن عبد البر: روي هذا الحديث عن النبي ص من طرق متواترة، من حديث أنس، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة، كلها بأسانيد صحاح.(2/388)
واكتفى الشافعية (1) باشتراط توافق نظم صلاتي الإمام والمقتدي، فإن اختلف نظم صلاتيهما كصلاة مكتوبة وصلاة كسوف، أو مكتوبة وصلاة جنازة، لم تصح القدوة فيها على الصحيح؛ لتعذر المتابعة باختلاف فعلهما.
وتصح قدوة المؤدي بالقاضي (الأداء خلف القضاء) وعكسه، والمفترض بالمتنفل، وعكسه، والظهر خلف العصر وعكسه، وكذا الظهر بالصبح والمغرب، ويكون المقتدي حينئذ كالمسبوق، يتم صلاته بعد سلام إمامه، ولا تضر في هذه الحالة متابعة الإمام في القنوت والجلوس الأخير في المغرب، وللمقتدي فراق الإمام إذا اشتغل بالقنوت والجلوس، مراعاة لنظم صلاته.
وتجوز صلاة الصبح خلف الظهر في الأظهر، فإذا قام الإمام للركعة الثالثة، فإن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلِّم معه، وانتظاره أفضل. وإن أمكنه أي المقتدي القنوت في الركعة الثانية قنت وإلا تركه، وله فراق الإمام ليقنت.
والخلاصة: إن أشد المذاهب في شرط اتحاد صلاتي الإمام والمؤتم هو المالكي، ثم الحنفي، ثم الحنبلي، ثم الشافعي، ولايجيز المالكية خلافاً للجمهور صلاة القائم خلف القاعد، ويصلي المأموم قاعداً عند الحنابلة خلف الجالس.
3 - ألا يتقدم المأموم على إمامه بعقبه (مؤخر قدمه) ، أو بأليته (عجزه) إن صلى قاعداً أو بجنبه إن صلى مضطجعاً. فإن ساواه جاز وكره، ويندب تخلفه عنه قليلاً، وإن تقدم عليه لم تصح صلاته، وهذا شرط عند الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) (2) ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ولأنه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه، ولأن ذلك لم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولا هو في معنى المنقول.
__________
(1) مغني المحتاج:253/1 ومابعدها، الحضرمية: ص70.
(2) المجموع:194/1.(2/389)
والعبرة في ذلك التقدم بالعقب، فإن تقدمت أصابع المقتدي لكبر قدمه على قدم الإمام، ما لم يتقدم أكثر القدم، صحت صلاته.
وأجاز الحنفية والحنابلة التقدم على الإمام في الصلاة حول الكعبة. وكذلك أجاز الشافعية التقدم على الإمام إذا كان المأموم في غير جهة إمامه، فإن كان المأموم والإمام في جهة واحدة، لم يصح تقدمه عليه، ويكره التقدم لغير ضرورة كضيق المسجد، وإلا فلا كراهة. وتبطل الصلاة في الجديد إن تقدم المأموم على إمامه؛ لأنه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال، فأشبه إذا وقف في موضع نجس.
وقال المالكية: لا يشترط هذا الشرط، فلو تقدم المأموم على إمامه ولو كان المتقدم جميع المأمومين، صحت الصلاة على المعتمد، لكن يكره التقدم لغير ضرورة، لأن ذلك لايمنع الاقتداء به، فأشبه من خلفه.
4 ـ اتحاد مكان صلاة الإمام والمقتدي برؤية أو سماع ولو بمبلِّغ، فلو اختلف مكانهما لم يصح الاقتداء، على تفصيل بين المذاهب. وهذا شرط عند الجمهور غير المالكية؛ لأن الاقتداء يقتضي التبعية في الصلاة، والمكان من لوازم الصلاة، فيقتضي التبعية في المكان ضرورة، وعند اختلاف المكان تنعدم التبعية في المكان، فتنعدم التبعية في الصلاة، لانعدام لازمها.(2/390)
أما المالكية فقالوا: لا يشترط هذا الشرط، فاختلاف مكان الإمام والمأموم لا يمنع صحة الاقتداء، ووجود حائل من نهر أو طريق أو جدار لا يمنع الاقتداء، متى أمكن ضبط أفعال الإمام برؤية أو سماع، ولا يشترط إمكان التوصل إليه، إلا الجمعة، فلو صلى المأموم في بيت مجاور للمسجد مقتدياً بإمامه، فصلاته باطلة؛ لأن الجامع شرط في صحة الجمعة.
وأما تفصيل رأي الحنفية (1) : فهو أن اختلاف المكان بين الإمام والمأموم مفسد للاقتداء، سواء اشتبه على المأموم حال إمامه أو لم يشتبه على الصحيح. فلو اقتدى راجل براكب، أو بالعكس، أو راكب براكب دابة أخرى، لم يصح الاقتداء لاختلاف المكان، فلو كانا على دابة واحدة صح الاقتداء لاتحاد المكان.
ومن كان بينه وبين الإمام طريق عام يمر فيه الناس، أو نهر عظيم، أو خلاء (أي فضاء) في الصحراء، أو في مسجد كبير جداً كمسجد القدس يسع صفين فأكثر، أوصف من النساء بلا حائل قدر ذراع أو بغير ارتفاعهن قدر قامة الرجل، لا يصح الاقتداء؛ لأن ذلك يوجب اختلاف المكانين عرفاً، مع اختلافهما حقيقة، فيمنع صحة الاقتداء، لقول عمر رضي الله عنه: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء، فلا صلاة له» .
ومقدار الطريق العام الذي يمنع صحة الاقتداء: هو مقدار ما تمر فيه العجلة (العربة) أو تمر فيه الأحمال على الدواب. والمراد بالنهر: ما يسع زورقاً يمر فيه.
فإن كانت الصفوف متصلة على الطريق، كما يحصل في الحرمين أو في المساجد المزدحمة بالمصلين، جاز الاقتداء؛ لأن اتصال الصفوف أخرجه من أن يكون ممر الناس، فلم يبق طريقاً، بل صار مصلى في حق هذه الصلاة. وكذلك إن كان على النهر جسر وعليه صف متصل.
والحائل كجدار كبير لا يمنع الاقتداء إن لم يشتبه حال إمامه بسماع من الإمام أو مبلِّغ عنه أو رؤية ولو لأحد المقتدين ولو من باب مشبك يمنع الوصول، ولم يختلف المكان حقيقة كمسجد، وبيت، فإن المسجد مكان واحد، إلا إذا كان المسجد كبيراً جداً، وكذا البيت حكمه حكم المسجد في ذلك لاحكم الصحراء.
__________
(1) البدائع:145/1 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار:514/1،547-549.(2/391)
وبه تبين أن الحائل لا يمنع الاقتداء بشرط عدم الاشتباه وعدم اختلاف المكان، ولا يشترط إمكان الوصول إلى الإمام وعدمه.
فالاقتداء بالإمام في أقصى المسجد، والإمام في المحراب، يجوز؛ لأن المسجد على تباعد أطرافه، جعل في الحكم كمكان واحد. ولو قصد المبلِّغ بتكبيرة الإحرام مجرد التبليغ، فتبطل صلاة من يقتدي بتبليغه.
ولو وقف المقتدي على سطح المسجد أو على سطح بناء بجنب المسجد متصل به ليس بينهما طريق، واقتدى بالإمام: فإن كان وقوفه خلف الإمام أو بحذائه، أجزأه؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه وقف على سطح، واقتدى بالإمام، وهو في جوفه، ولأن سطح المسجد تبع للمسجد، وحكم التبع حكم الأصل، فكأنه في جوف المسجد. وهذا إذا كان لا يشتبه عليه حال إمامه، فإن كان يشتبه لا يجوز.
وإن كان وقوفه متقدماً على الإمام لا يجزئه، لانعدام معنى التبعية.
أما لو اقتدى رجل في داره بإمام المسجد، وكانت داره منفصلة عن المسجد بطريق ونحوه، فلا يصح الاقتداء لاختلاف المكان.
والخلاصة: إن اختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء، سواء اشتبه على المأموم حال إمامه أو لم يشتبه، واتحاد المكان في المسجد أو البيت مع وجود حائل فاصل يمنع الاقتداء إن اشتبه حال الإمام. أما وجود فاصل يسع صفين أو أكثر في الصحراء أو في المسجد الكبير جداً، فيمنع الاقتداء.(2/392)
وأما الشافعية (1) فقالوا: يشترط لصحة القدوة أن يعلم المتقدي بانتقالات إمامه، بأن يراه أو يرى بعض صف، أو يسمعه، ولو من مبلِّغ، وإن لم يكن مصلياً.
أـ فإن كان الإمام والمأموم مجتمعين في مسجد، صح الاقتداء، وإن بعدت المسافة بينهما فيه أكثر من ثلاث مئة ذراع، أو حالت بينهما أبنية كبئر وسطح ومنارة، أو أغلق الباب أثناء الصلاة، فلو صلى شخص في آخر المسجد والإمام في أوله، صح الاقتداء بشرط إمكان المرور بأن لا يوجد بينهما حائل يمنع وصول المأموم إلى الإمام كباب مسمَّر قبل الدخول في الصلاة. ولا فرق في إمكان الوصول إلى الإمام بين أن يكون الشخص مستقبلاً القبلة أو مستدبراً لها.
ويعد سطح المسجد ورحبته ونحوهما في حكم المسجد.
ب ـ أما إن كان الإمام والمأموم في غير مسجد، كصحراء: فتصح الصلاة بشرط ألا يكون بينهما، وبين كل صفين، أكثر من ثلاث مئة ذراع تقريباً (2) ، فلا يضر زيادة ثلاثة أذرع مثلاً، وألا يكون بينهما جدار أو باب مغلق أو مردود أو شباك. ولو كان الإمام في المسجد والمأموم خارجه، فالثلاث مئة ذراع محسوبة من آخر المسجد. ولا يضر على الصحيح وجود فاصل أو تخلل الشارع، أو النهر الكبير الذي تجري فيه السفن ويسبح فيه السباحون، ولا تخلل البحر بين سفينتين.
وإن كان الإمام والمأموم في بناءين كغرف المدارس، أو العمارتين، صح الاقتداء في أصح الطريقين على النحو التالي: فإن كان بناء المأموم يميناً أو شمالاً، وجب اتصال صف من أحد البناءين بالآخر، ولا تضر في الأصح فُرجة لا تسع واقفاً. وإن كان بناء المأموم خلف بناء الإمام، فالصحيح صحة القدوة بشرط ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاث مئة ذراع.
وإن صح اقتداء الشخص في بناء آخر، صح اقتداء من خلفه أو بجنبه، وإن حال بينه وبين الإمام جدار.
__________
(1) مغني المحتاج:248/1-251، الحضرمية: ص69ومابعدها.
(2) بذراع الآدمي المعتدل وهو شبران.(2/393)
ولو وقف المقتدي في علو في غير المسجد، كالشرفة في وسط دار مثلاً، وإمامه في سفل، كصحن تلك الدار، أو عكسه أي كان الوقوف عكس الوقوف المذكور، يشترط بالإضافة لشرط اتصال صف من أحدهما بالآخر، محاذاة (موازاة) بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام، بأن يحاذي رأس الأسفل قدم الأعلى، مع اعتدال قامة الأسفل.
وأما الحنابلة (1) فلهم تفصيل آخر مستقل قالوا فيه: اختلاف مكان الإمام والمأموم يمنع صحة الاقتداء على النحو التالي:
أـ إن كان الإمام والمأموم في المسجد، صح الاقتداء، ولو كان بينهما حائل أو لم ير الإمام، متى سمع تكبيرة الإحرام، ولو لم تتصل الصفوف عرفاً؛ لأن المسجد بني للجماعة، فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة، بخلاف خارج المسجد، فإنه ليس معداً للاجتماع فيه، فلذلك اشترط الاتصال فيه.
ب ـ وإن كانا خارج المسجد، فيصح الاقتداء بشرط رؤية الإمام أو مشاهدة من وراء الإمام، ولو في بعض أحوال الصلاة كحال القيام أو الركوع، ولو كان بينهما أكثر من ثلاث مئة ذراع، ولو كانت الرؤية مما لا يمكن النفاذ منه كشباك ونحوه، فإن لم ير المأموم الإمام أو بعض من وراءه، لم يصح اقتداؤه به، ولو سمع التكبير، لقول عائشة لنساء كن يصلين في حجرتها: «لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب» ، ولأنه لا يمكن الاقتداء به في الغالب. ودليل اشتراط الرؤية حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي من الليل، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته، وأصبحوا يتحدثون بذلك، فقام الليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته» (2) والظاهر أنهم كانوا يرونه في حال قيامه.
__________
(1) كشاف القناع:579/1-580، المغني:206/2-209.
(2) رواه البخاري.(2/394)
ولا يشترط اتصال الصفوف خارج المسجد، لعدم الفارق بين المسجد وخارجه، إذا حصلت الرؤية المعتبرة وأمكن الاقتداء أي المتابعة.
جـ ـ إن كان بينهما نهر تجري فيه السفن، لم تصح القدوة، كما لا تصح إن كان بينهما طريق، ولم تتصل فيه الصفوف عرفاً، وكان الصلاة مما لا تصح في الطريق كصلاة الجمعة والعيد والاستسقاء والكسوف والجنازة.
فإن اتصلت الصفوف في الطريق، صحت القدوة وصلاة المأموم. أما إن انقطعت الصفوف في الطريق مطلقاً، سواء أكانت تلك الصلاة مما تصح في الطريق أم لا، لم تصح صلاة المأموم؛ لأن الطريق ليست محلاً للصلاة، فصار ذلك كوجود النهر.
ولا تصح أيضاً صلاة من بسفينة وإمامه في أخرى غير مقرونة بها؛ لأن الماء طريق، وليست الصفوف متصلة، إلا في شدة الخوف، فلا يمنع ذلك الاقتداء للحاجة.
ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف، فالعلو لا يمنع الاقتداء بالإمام.
5 - متابعة المأموم إمامه:
هذا شرط لصحة القدوة؛ لأن الاقتداء يقتضي التبعية في أفعال الصلاة، وتتحقق التبعية بأن يصير المقتدي مصلِّياً ما صلاَّه الإمام. لخبر الصحيحين: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا» .
وللمذاهب آراء في تحقيق معنى هذا الشرط، الذي لولاه لفسدت صلاة المقتدي، ويتصور تنفيذ المتابعة بإحدى صور ثلاث: المقارنة، بأن يقارن فعل المأموم فعل إمامه، كأن يقارنه في التحريمة أو الركوع ونحوه، والتعقيب: بأن يكون فعل المأموم الفعل عقب فعل إمامه مباشرة، والتراخي في الفعل: بأن يأتي به بعد إتيان الإمام بفعله متراخياً عنه، ويدركه قبل الدخول في ركن آخر بعده.(2/395)
قال الحنفية:
المتابعة بإحدى صورها الثلاث المذكورة تكون فرضاً في فروض الصلاة، وواجبة في الواجب، وسنة في السنة. فلو ترك الركوع مع الإمام بأن ركع قبله أو بعده، ولم يشاركه فيه، أو سجد قبل الإمام أو بعده ولم يشاركه في السجود، تلغى الركعة التي لم تتحقق فيها المتابعة، ويجب عليه قضاؤها بعد سلام الإمام وإلا بطلت صلاته. ولو ترك المتابعة في القنوت أثم؛ لأنه ترك واجباً، ولو ترك المتابعة في تسبيح الركوع مثلاً فقد ترك السنة.
ولا تلزم المتابعة في أمور أربعة:
الأول: إذا زاد الإمام عمداً في صلاته سجدة.
الثاني: إذا زاد في تكبيرات العيد.
الثالث: إذا زاد في تكبيرات الجنازة، كأن كبر خمساً.
الرابع: أن يقوم الإمام سهواً إلى ركعة زائدة عن الفرض بعد القعود الأخير، فإن عاد بعد تنبيه المقتدي له، صحت الصلاة، ووجب سجود السهو، وإن قيّد ركعته الزائدة بسجدة، سلم المقتدي وحده. وإن قام الإمام قبل القعود الأخير وقيد ركعته الزائدة بسجدة، بطلت صلاتهم جميعاً.
وللمقتدي أن يأتي بأمور تسعة ولا يتابع في تركها وهي: رفع اليدين في التحريمة، وقراءة الثناء، وتكبيرات الركوع، وتكبيرات السجود، والتسبيح فيهما، والتسميع، وقراءة التشهد، والسلام، وتكبير التشريق.
ويتابع المقتدي الإمام في ترك أمور خمسة وهي:
تكبيرات العيد، والقعدة الأولى، وسجدة التلاوة، وسجود السهو، والقنوت إذا خاف فوت الركوع، فإن لم يخف ذلك فعليه القنوت.
والمتابعة في تكبيرة الإحرام أفضل، فإن كبر قبل الإمام فلا تصح صلاته، وإن تراخى في التكبير، فقد فاته إدراك وقت فضيلة التحريمة، وإن كبر مع تكبيرة الإمام جاز، فإن فرغ قبله لم يجزه.
وكذلك المتابعة في السلام أفضل: بأن يسلم المأموم مع إمامه، إن أتم تشهده، لا قبله، ولا بعده، فإن سلم قبله بعد أن أتم تشهده صحت صلاته مع الكراهة إن كان بغير عذر، وإن سلم بعده فقد ترك الأفضل.
وإن لم يتم المقتدي تشهده، أتمه، ثم سلم.(2/396)
وقال المالكية (1) :
المتابعة: أن يكون فعل المأموم عقب فعل الإمام، فلا يسبقه ولا يساويه ولا يتأخر عنه. والمتابعة للإمام بهذا المعنى شرط في الإحرام والسلام فقط، بأن يكبر للإحرام بعده، ويسلم بعده. فلو ساواه بطلت صلاته، ويصح أن يبتدئ بعد الإمام ويختم بعده قطعاً أو معه على الصحيح، ولا يصح أن يختم قبله.
وأما المتابعة في غير الإحرام والسلام، فليست بشرط، فلو ساوى المأموم إمامه في الركوع أو السجود مثلاً، صحت صلاته مع الكراهة، وحرم عليه أن يسبق الإمام في غير الإحرام والسلام من سائر الأركان، لكن إن سبقه لا تبطل به الصلاة إن اشترك مع الإمام.
فإن سبقه في الركوع أو السجود وانتظر الإمام فيه حتى ركع أو سجد صحت صلاته، وأثم إن كان متعمداً لهذا السبق.
وإن لم ينتظره، بل رفع قبله، بطلت صلاته. وإن رفع ساهياً، عاد إليه وصحت صلاته.
وإذا تأخر عن إمامه، كأن ركع بعد أن رفع الإمام من الركوع، فإن حصل ذلك في الركعة الأولى عمداً، بطلت صلاته، لإعراضه عن المأمومية. وإن حصل ذلك سهواً، ألغى هذه الركعة، وقضاها بعد سلام إمامه.
أما إن رفع قبل إمامه في غير الركعة الأولى، فلا تبطل الصلاة، وأثم إن كان عامداً.
وإن ترك المأموم القنوت في الصبح، مع إتيان الإمام به، فلا إثم عليه، لأن القنوت مندوب.
ولا يتابع المأموم الإمام في أمور هي:
أن يزيد الإمام في تكبيرات العيد، ولو كانت الزيادة بحسب مذهب الإمام.
وأن يزيد في تكبير الجنازة عن أربع.
وأن يقوم الإمام لركعة زائدة سهواً، فعلى المأموم أن يجلس، وإن تابعه فيها عمداً بطلت صلاته. وللمقتدي أن يفعل أموراً ولو تركها الإمام وهي:
__________
(1) الشرح الصغير:452/1-454، الشرح الكبير:340/1ومابعدها، بداية المجتهد:148/1(2/397)
رفع اليدين في تكبيرة الإحرام لأنه مندوب، وتكبيرات الصلاة، لأنها سنة، وتكبيرات التشريق عقب الصلاة، لأنها مندوبة، وسجود السهو عن إمامه بشرط أن يدرك معه ركعة وإلا بطلت صلاته، لأنه سنة، وتكبيرات العيد؛ لأنها سنة.
ويتابع المقتدي إمامه في ترك الجلوس الأول، والعودة له قبل أن يفارق الأرض بيديه وركبتيه، كما يتابعه في ترك سجود التلاوة إن تركه.
وتبطل الصلاة إن ترك الإمام السلام، ولو أتى به المأموم لأنه ركن لا بد منه لكل مصلٍ.
وقال الشافعية (1) :
تجب المتابعة في أفعال الصلاة لا في أقوالها، بأن يتأخر ابتداء فعل المأموم عن ابتداء فعل الإمام، ويتقدم ابتداء فعل المأموم على فراغ الإمام من الفعل، وتندب المتابعة في الأقوال، لما في الصحيحين: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ، فإن قارنه في فعل أو قول، لم يضر أي لم يأثم؛ لأن القدوة منتظمة لا مخالفة فيها، بل هي مكروهة ومفوِّتة لفضيلة الجماعة، لا رتكابه المكروه.
إلا تكبيرة الإحرام، فإن قارن المأموم الإمام فيها، بطلت.
وكذا تبطل الصلاة إن تقدم المأموم على إمامه أو تأخر بركنين فعليين بلا عذر أي أنه يشترط تيقن تأخر جميع تكبيرته للإحرام عن جميع تكبيرة إمامه، وألا يتقدم أو يتأخر عن إمامه بركنين فعليين لغير عذر وألا يتقدم سلامه عن سلام الإمام.
وعلى هذا لا تبطل الصلاة إن قارنه في غير التحرم، أو تقدم عليه بركن فعلي، أو تأخر عنه به، في الأصح، لكن المقارنة في السلام مكروهة فقط، والسلام قبل الإمام مبطل للصلاة، وإن سبق الإمام بركنين فعليين بلا عذر كأن سجد والإمام في القراءة، بطلت الصلاة. ولا يضر السبق بركنين غير فعليين كتشهد وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، ولكن يكره بلا عذر، ولا يضر السبق بركنين أحدهما قولي والآخر فعلي كقراءة الفاتحة والركوع ولكن يحرم الركن الفعلي.
__________
(1) مغني المحتاج:255/1 ومابعدها، الحضرمية: ص71، المهذب:96/1.(2/398)
فيحرم على المقتدي تقدمه على الإمام بركن فعلي تام، كأن ركع أو رفع والإمام قائم، لخبر الصحيح: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار» (1) .
وإن تخلف المقتدي عن الإمام بعذر كبطء قراءة بلا وسوسة، واشتغال الموافق بدعاء الافتتاح أو ركع إمامه، فشك في الفاتحة، أو تذكر تركها، أو أسرع الإمام قراءته، عذر إلى ثلاثة أركان طويلة، كما بينا في بحث الموافق، فإن زاد، فالأصح يتبعه فيما هو فيه، ثم يتدارك بعد سلام الإمام.
وقال الحنابلة (2) :
المتابعة: ألا يسبق المأموم إمامه بفعل من أفعال الصلاة، أو بتكبيرة الإحرام أو بالسلام، وألا يتخلف عنه بفعل من الأفعال. ويستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام مما كان فيه، للحديث السابق: «إنما جعل الإمام ليؤتم به..» .
فإن سبقه بالركوع عمداً بأن ركع ورفع قبل ركوع الإمام، بطلت صلاته.
وإن سبقه بركن غير الركوع كالهوي للسجود، أو القيام للركعة التالية، لم تبطل صلاته، ولكن يجب عليه الرجوع ليأتي بما فعله بعد إمامه. أما إن فعل شيئاً من ذلك سهواً أو جهلاً، فصلاته صحيحة، لكن يجب عليه إعادة ما فعله بعد إمامه.
ويحرم سبق الإمام عمداً بشيء من أفعال الصلاة، للحديثين السابقين: «إنما جعل الإمام..» «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه..» ولا يكره للمأموم سبق الإمام ولا موافقته بغير الإحرام والسلام، كالقراءة والتسبيح والتشهد.
وإن سبقه بركنين عمداً بطلت صلاته، وإن سبقه سهواً لم تبطل لكنه يعيد ما أتى به، فإن لم يعده، ألغيت الركعة.
ومقارنة المقتدي لإمامه في أفعال الصلاة مكروهة كالشافعية.
وإن سبقه أو ساواه في تكبيرة الإحرام، بطلت صلاته، عمداً أو سهواً.
وإن سبقه في السلام عمداً بطلت صلاته، وإن كان سهواً، أتى به بعد سلام إمامه، وإلا بطلت صلاته.
__________
(1) متفق عليه.
(2) كشاف القناع:546/1-549.(2/399)
ولو تأخر المقتدي عن إمامه بركن عمداً: فإن كان الركن ركوعاً، بطلت صلاته، وإن كان غير الركوع أو كان التأخر سهواً أو جهلاً، وجب عليه الإتيان به، ما لم يخف فوات الركعة التالية، فإن خاف ذلك، تابع الإمام، ولغت الركعة، وعليه الإتيان بها بعد سلام إمامه.
ولو كان التأخر عن الإمام بركنين عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً وجب عليه الإتيان بهما إذا لم يخف فوات الركعة التالية، وإلا ألغيت الركعة، وأتى بها بعد سلام الإمام.
وإن تخلف المأموم عن إمامه بركن بلا عذر فهو كتفصيل حكم السبق به، وإن تخلف عنه بعذر من نوم أو غفلة ونحوهما، فعله ولحق بإمامه وجوباً، وإن لم يأت به، لم تصح الركعة، ويأتي بها بعد سلام الإمام.
ولو سبق الإمام المأموم بالقراءة، وركع الإمام، تبعه المأموم وقطع القراءة، لأنها في حقه مستحبة، والمتابعة واجبة، ولا تعارض بين واجب ومستحب. أما التشهد: فإن سبق به الإمام، أتمه المأموم، ثم سلم، لعموم الأوامر بالتشهد.
والخلاصة: إن المقارنة مع تكبيرة الإمام جائزة عند الحنفية والحنابلة، مبطلة للصلاة عند المالكية والشافعية، كما أن السبق بها مبطل اتفاقاً، أما من رفع رأسه قبل الإمام، فقد أساء عند الجمهور (منهم أئمة المذاهب) ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع، فيتبع الإمام.
6 - اشترط الشافعية أيضاً: الموافقة للإمام في سنة تفحش المخالفة بها، فلو ترك الإمام سجدة التلاوة، وسجدها المأموم، أو عكسه، أو ترك الإمام التشهد الأول، وأتى به المأموم، بطلت صلاته إن علم وتعمد.
وإن تشهد الإمام، وقام المأموم عمداً، لم تبطل صلاته؛ لأنه انتقل إلى فرض آخر، وهو القيام، لكن يندب له العود، خروجاً من خلاف من أوجبه.
فالموافقة في سنة تنحصر في ثلاث سنن: سجدة التلاوة في صبح يوم الجمعة، وسجود السهو، والتشهد الأول. أما القنوت، فلا يجب على المقتدي متابعة إمامه فيه، فعلاً ولا تركاً.(2/400)
واشترط الشافعية أيضاً: أن يكون الإمام في صلاة لا تجب إعادتها، فلا يصح الاقتداء بفاقد الطهورين؛ لأن صلاته تجب إعادتها.
7 - اشترط الحنفية أيضاً عدم محاذاة المرأة ولو كانت محرماً في الصف، وإلا بطلت صلاة ثلاثة: المحاذي يميناً وشمالاً ومن خلفها بالشروط الستة الآتية (1) عملاً بما وردت به النصوص:
الأول ـ أن تكون المرأة المحاذية مشتهاة، بأن كانت بنت سبع سنين وهي ضخمة تصلح للجماع، أو ثمان أو تسع فأكثر، ولا تفسد بالمجنونة لعدم جواز صلاتها.
الثاني ـ أن تكون الصلاة مطلقة أي كاملة الأركان، وهي التي لها ركوع وسجود، وإن كانا يصليان إيماء، أو لم تتحد صلاتهما كصلاة ظهر بمصلي عصر على الصحيح. وخرج بالمطلقة صلاة الجنازة، فلا تبطل بالمحاذاة للمرأة.
الثالث ـ أن تكون الصلاة مشتركة بينهما تحريمة وأداء: ومعنى المشتركة تحريمة: أن يكونا بانيين تحريمتهما على تحريمة الإمام. ومعنى المشتركة أداء: أن يكون لهما إمام فيما يؤديانه تحقيقاً أو تقديراً (2) ، وذلك يشمل المدرك: الذي أدرك أول الصلاة مع الإمام وأدرك جميع الصلاة كاملة مع الإمام، واللاحق: وهو الذي أدرك أول الصلاة، وفاته من آخرها شيء بسبب النوم أو الحدث.
أما المسبوق فلا تفسد صلاته فيما يقضيه أو يتمه مما فاته من صلاته.
وأما المحاذاة في الصلاة بدون اشتراك فمكروه.
الرابع ـ ألا يكون بينهما حائل: بمقدار ذراع في غلظ إصبع على الأقل، أو فرجة تسع رجلاً.
الخامس ـ أن تكون المحاذاة في ركن كامل، فلو تحرمت في صف، وركعت في آخر، وسجدت في ثالث، فسدت صلاة من عن يمينها ويسارها وخلفها من كل صلاة.
__________
(1) تبيين الحقائق: 137/1 ومابعدها، فتح القدير:257/1 ومابعدها، الدر المختار ورد المحتار:514، و535-537.
(2) الأداء تحقيقاً أي حال المحاذاة، وتقديراً: أي فيما يتمه اللاحق، فكأنه خلف الإمام تقديراً.(2/401)
السادس ـ أن تتحد الجهة: فإن اختلفت كالصلاة في جوف الكعبة، وصلاة التحري في الليلة المظلمة، فلا تبطل.
وجامع هذه الشروط: أن يقال: محاذاة مشتهاة، منوية الإمامة، في ركن، صلاة مطلقة، مشتركة تحريمة وأداء، مع اتحاد مكان وجهة، دون حائل ولا فرجة.
والمرأة الواحدة: تفسد صلاة ثلاثة: واحد عن يمينها، وآخر عن شمالها، وآخر خلفها إلى آخر الصفوف، ليس غير، لأن من فسدت صلاته يصير حائلاً بينها وبين الذي يليه.
والمرأتان تفسدان صلاة أربعة: وهم اثنان خلفهما إلى آخر الصفوف، واثنان عن يمين وشمال. والثلاث في الصحيح يفسدن صلاة واحد عن يمينهن، وآخر عن شمالهن، وثلاثة ثلاثة إلى آخر الصفوف.
ومحاذاة الأمرد الصبيح المشتهى، لا يفسد الصلاة على المذهب؛ لأن الفساد في المرأة غير معلل بالشهوة، بل بترك فرض المقام.
وقال الجمهور غير الحنفية (1) :
إن وقفت المرأة في صف الرجال، لم تبطل صلاة من يليها ولاصلاة من خلفها، فلا يمنع وجود صف تام من النساء اقتداء من خلفهن من الرجال، ولا تبطل صلاة من أمامها، ولا صلاتها، كما لو وقفت في غير صلاة، والأمر بتأخير المرأة «أخروهن من حيث أخرهن الله» (2) لا يقتضي الفساد مع عدمه؛ لأن ترتيب الصفوف سنة نبوية فقط، والمخالفة من الرجال أو النساء لا تبطل الصلاة، بدليل أن ابن عباس وقف على يسار النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم تبطل صلاته، وأحرم أبو بكرة خلف الصف وركع ثم مشى إلى الصف، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصاً ولا تَعُد» .
__________
(1) الشرح الصغير:458/1، المهذب:100/1، كشاف القناع:575/1، المغني:215/1،243، القوانين الفقهية: ص69.
(2) قال عنه الزيلعي: حديث غريب مرفوعاً، وهو في مصنف عبد الرزاق موقوف على ابن مسعود من طريق عبد الرزاق، رواه الطبراني في معجمه (نصب الراية:36/2) .(2/402)
واشترط الحنفية أيضاً لصحة الاقتداء: ألا يفصل بين الإمام والمأموم صف من النساء، فإن كن ثلاثاً فسدت صلاة ثلاثة من الرجال إلى آخر الصفوف، وإن كن اثنتين فسدت صلاة اثنين من الرجال خلفهما إلى آخر الصفوف، وإن كانت واحدة، فسدت صلاة محاذيها يميناً وشمالاً، ومن كان خلفها أي صلاة رجل واحد إلى آخر الصفوف.
وقال غير الحنفية: يكره أن يصلي وأمامه امرأة أخرى تصلي لحديث: «أخروهن من حيث أخرهن الله» أما في غير الصلاة فلايكره، لخبر عائشة، وروى أبو حفص عن أم سلمة، قالت: «كان فراشي حيال مصلى النبي صلّى الله عليه وسلم» .
وذكر الحنفية شرطاً آخر لصحة الاقتداء وهو كما قدمنا شرط في الإمام: وهو صحة صلاة الإمام، فلو تبين فسادها فسقاً من الإمام، أو نسياناً لمضي مدة المسح على الخف، أو لوجود الحدث أو غير ذلك، لم تصح صلاة المقتدي، لعدم صحة البناء على صلاة الإمام.
كذلك لا يصح الاقتداء إن كانت الصلاة صحيحة في زعم الإمام، فاسدة في زعم المقتدي، لبنائه على الفاسد في زعمه، فلا يصح. أما لو فسدت الصلاة في زعم الإمام وهو لا يعلم به، وعلمه المقتدي، صحت الصلاة في قول الأكثر، وهو الأصح؛ لأن المقتدي يرى جواز صلاة إمامه، والمعتبر في حقه رأي نفسه (1) .
8- اشترط الحنابلة (2) أن يقف المأموم إن كان واحداً عن يمين الإمام، فإن خالف ووقف عن يساره أو خلفه مع خلو يمينه، وصلى ركعة كاملة، بطلت صلاته إن كان ذكراً أو خنثى، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم أدار ابن عباس وجابراً إلى اليمين وهو في الصلاة. فإن كان امرأة، فلا تبطل صلاتها بالوقوف خلف الإمام؛ لأنه موقفها المشروع.
وإذا وقف المأموم عن يسار الإمام، أحرم أو لا، سُنَّ للإمام أن يديره من ورائه إلى يمينه، ولم تبطل تحريمته، لفعله صلّى الله عليه وسلم السابق بابن عباس وجابر.
ثانياً: موقف الإمام والمأموم:
للصلاة جماعةً كيفية منظمة على نحو مرتب معين ثابت في السنة النبوية، بحيث يتقدم الإمام، ويقف المأمومون خلفه رجالاً كانوا أو نساء؛ لفعله صلّى الله عليه وسلم: «كان إذا قام إلى الصلاة قام أصحابه خلفه» (3) ويتقدم الإمام إلا إمام العراة، فيقف وجوباً وسطهم عند الحنابلة وندباً عند غيرهم، وإلا إمامة النساء فيستحب للمرأة أن تقف وسطهن، لما روي عن عائشة، ورواه سعيد بن منصور عن أم سلمة أنهما أمتا نساء وسطهن (4) ، ولأنه يستحب لها التستر، وهذا أستر للمرأة الإمام.
__________
(1) رد المحتار:514/1.
(2) كشاف القناع:573/1.
(3) رواه أحمد وأبو داود عن أبي مالك الأشعري (نصب الراية:36/2، نيل الأوطار:182/3) .
(4) رواهما الشافعي في مسنده والبيهقي في سننه بإسنادين حسنين.(2/403)
وكيفية وقوف المأمومين على النحو التالي (1) :
أـ إذا كان مع الإمام رجل واحد أو صبي مميز، استحب أن يقف عن يمين الإمام، مع تأخره قليلاً بعقبه. وتكره عند الجمهور مساواته له، أو الوقوف عن يساره أو خلفه لمخالفته السنة، وتصح الصلاة ولا تبطل. وقال الحنابلة كما بينا: تبطل الصلاة إن صلى على هذا النحو المخالف ركعة كاملة.
ودليل هذه الكيفية ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه» (2) .
ب ـ إن كان رجل وامرأة، قام الرجل عن يمين الإمام، والمرأة خلف الرجل. وقال الحنابلة: إن أم الرجل خنثى مشكلاً وحده، فالصحيح أن يقف عن يمين الإمام احتياطاً لاحتمال أن يكون رجلاً. فإن كان مع الخنثى رجل، وقف الرجل عن يمين الإمام، والخنثى عن يساره، أو عن يمين الرجل، ولا يقفان خلفه، لجواز أن يكون امرأة، وإن كان رجلاً وخنثى وقف الثلاثة صفاً خلف الإمام.
جـ ـ إن كان رجلان أو رجل وصبي، صفَّا خلف الإمام، وكذا إن كان امرأة أو نسوة، تقوم أو يقمن خلفه بحيث لا يزيد ما بينه وبين المقتدين عن ثلاثة أذرع، لخبر مسلم عن جابر قال: «صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقمت عن يمينه، ثم جاء جابر ابن صخر، فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعاً حتى أقامنا خلفه» (3) .
__________
(1) الدر المختار:529/1-534، فتح القدير:254/1، الكتاب بشرح اللباب:82/1 ومابعدها، الشرح الصغير:457/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص69، المهذب:99/1 ومابعدها، المجموع186ومابعدها، مغني المحتاج:246/1 ومابعدها، كشاف القناع:571/1-579، المغني:204/2، 212-219، بداية المجتهد:143/1.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم، وأبو داود ولفظ الأخير: «أن جابراً وجباراً ... » .(2/404)
أما الرجل والصبي والمرأة والنسوة، فلما في الصحيحين عن أنس: «أنه عليه الصلاة والسلام صلى في بيت أم سليم، فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا» (1) ، فلو حدثت مخالفة لما ذكر كره.
وقال الحنابلة في الصبي والرجل: يقف الرجل عن يمين الإمام والصبي يقف عن يمينه أو يساره، لا خلفه. وقال الحنفية في هذا: لا تكره المساواة مع الإمام.
__________
(1) نيل الأوطار:182/3، وروى الجماعة عن أنس: أنه قام مع اليتيم خلف النبي، وقامت العجوز من ورائهما (المصدر نفسه) .(2/405)
د ـ إذا اجتمع رجال وصبيان وخناثى وإناث: صف الرجال ثم الصبيان، ثم الخناثى ولو منفردة، ثم النساء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق» (1) ، وعلى هذا: السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن، ويلي الإمام أكملهم، ويؤخر الصبيان والغلمان، ولا يلون الإمام. والزائد يقف خلف الصف، ولو قام واحد بجنب الإمام، وخلفه صف، كره إجماعاً.
هـ ـ يقف الإمام وسط القوم في الصف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وسطوا الإمام وسدّوا الخلل» (2) ، والسنة أن يقوم في المحراب ليعتدل الطرفان لأن المحاريب نصبت وسط المساجد، وقد عينت لمقام الإمام فإن وقف عن يمينهم أو يسارهم، فقد أساء بمخالفة السنة، والإساءة عند الحنفية دون كراهة التحريم، وأفحش من كراهة التنزيه (3) . قال أبو حنيفة وقوله هو الأصح: أكره أن يقوم الإمام بين الساريتين، أو في زاويةأو في ناحية المسجد، أو إلى سارية؛ لأنه خلاف عمل الأمة.
__________
(1) روي من حديث ابن مسعود، والبراء بن عازب، فأما الأول فأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وأما الثاني فرواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وأما الثالث فرواه الحاكم في المستدرك (نصب الراية:37/2) .
(2) رواه أبو داود.
(3) رد المحتار:530/1 ومابعدها. وتقدم الإمام عند الحنفية أمام الصف: واجب.(2/406)
فضل الصف الأول: المستحب أن يتقدم الناس في الصف الأول (1) ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لو يعلمون ما في الصف المقدم لكانت قرعة» (2) وروى البراء رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» (3) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» (4) وهذا التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال وأنه خيرها لما فيه من إحراز الفضيلة، وكون شرها آخرها لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول. وكون خيرها آخرها للنساء للبعد عن مخالطة الرجال.
والمستحب أن يعتمدوا يمين الإمام، لما روى البراء قال: «كان يعجبنا عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يبدأ بمن عن يمينه، فيسلم عليه» (5) .
فإن وجد في الصف الأول فرجة استحب أن يسدها، لما روى أنس رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتموا الصف الأول، فإن كان نقص ففي المؤخر» (6) .
وـ محاذاة المرأة الرجل في الصلاة: يرى الحنفية أنه إذا صلت امرأة في صف الرجال أو رجل في صف النساء، فسدت صلاة من حاذته المرأة من الرجال، ولا تفسد صلاة المرأة. وذهب الجمهور إلى كراهة ذلك، وقالوا:
__________
(1) القوانين الفقهية: ص69، بداية المجتهد:144/1، المجموع:195/4، الدر المختار:532/1.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(4) رواه الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة (نيل الأوطار:183/3) .
(5) رواه مسلم، ولفظه: «كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه» .
(6) رواه أبو داود بإسناد حسن.(2/407)
لا تفسد صلاة أحد من الرجال ولامن النساء (1) .
ثالثاً ـ أمر الإمام بتسوية الصفوف وسد الثغرات:
يستحب للإمام أن يأمر بتسوية الصفوف، وسد الخلل (الثغرات) (2) ، وتسوية المناكب (3) ، لحديث أَنس: «اعتدلوا في صفوفكم، وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري، قال أنس: فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه» (4) ويقول الإمام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» لحديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (5) .
رابعاً ـ صلاة المنفرد عن الصف:
اختلف الفقهاء في صحة الصلاة خلف الصفوف منفرداً على رأيين (6) : فقال الجمهور غير الحنابلة: إذا صلى إنسان خلف الصف وحده، فصلاته تجزئ، بدليل حديث أنس المتقدم المتضمن قيام العجوز وحدها خلف الصف، وحديث أبي بكرة: «أنه انتهى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال:
__________
(1) الهداية57/2، المهذب: 100/1، المغني:37/2.
(2) الخلل: انفراج ما بين الشيئين.
(3) المجموع:124/4 ومابعدها، بداية المجتهد:144/1.
(4) رواه البخاري ومسلم (نيل الأوطار:187/3) وروى الجماعة إلا البخاري عن النعمان بن بشير: «عباد الله، لتسوُّن بين صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين وجوهكم» (المصدر نفسه) .
(5) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله، ورواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر.
(6) البدائع:146/1، بداية المجتهد:144/1، المجموع:192/4، الحضرمية: ص68، المغني 211/2 ومابعدها،234، القوانين الفقهية: ص69.(2/408)
زادك الله حرصاً، ولا تعُد» (1) وحديث ابن عباس قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم من آخر الليل، فصليت خلفه، فأخذ بيدي، فجرَّني حتى جعلني حِذَاءه» (2) .
إلا أن الشافعية والحنفية قالوا: الصلاة صحيحة مع الكراهة، وقال الشافعية: فإن لم يجد المصلي سعة أحرم، ثم جرَّ واحداً من الصف إليه، ليصطف معه، خروجاً من الخلاف، وحملوا الحديثين الآتيين الواردين بالإعادة على الاستحباب جمعاً بين الأدلة، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة للذي خلف الصف» أي لا صلاة كاملة، كقوله صلّى الله عليه وسلم «لا صلاة بحضرة طعام» وهذا أولى الآراء، لقوة دليله. لكن ذكر الحنفية: أنه لو انفرد ثم مشى ليلحق بالصف، فإن مشى في صلاته مقدار صف واحد لا تفسد، وإن مشى أكثر من ذلك فسدت. ولم يوافق المالكية الشافعية فقالوا: من لم يجد مدخلاً في الصف، صلى وراءه، ولم يجذب إليه رجلاً.
وقال الحنابلة: صلاة المنفرد إذا صلى ركعة كاملة خلف الصف وحده فاسدة غير مجزئة، وتجب إعادتها، بدليل حديث وابصة بن معبد: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد صلاته» (3) وحديث علي بن شيبان: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف، حتى انصرف الرجل، فقال له: استقبل صلاتك، فلا صلاة لمنفرد خلف الصف» (4) .
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار:184/3) .
(2) رواه أحمد (المصدر السابق نفسه) .
(3) رواه االخمسة إلا النسائي (نيل الأوطار:184/3) .
(4) رواه أحمد وابن ماجه (المصدر السابق) .(2/409)
المطلب الخامس ـ الاستخلاف في الصلاة:
الاستخلاف: إنابة الإمام غيره من المقتدين إذا كان صالحاً للإمامة، لإتمام الصلاة بدل الإمام لعذر قام به. فيصير الثاني إماماً، ويخرج الأول عن الإمامة، ويصبح في حكم المقتدي بالثاني.
وطريقته: أن يأخذ الإمام بثوب المقتدي ولو مسبوقاً، ويجره إلى المحراب، لكن استخلاف المدرك أولى. ويتأخر الإمام محدود باً واضعاً يده على أنفه، موهماً أنه قد رعف قهراً. ويتم الاستخلاف بالإشارة لا بالكلام، ويشير بأصبعه لعدد الركعات الباقية. ويضع يده على ركبته لترك ركوع، وعلى جبهته لترك سجود، وعلى فمه لقراءة.
وسببه: طروء عذر للإمام من حدث أو مرض شديد أو عجز عن القراءة الواجبة كالفاتحة ونحو ذلك.
وفي أحكامه وأسبابه وشروطه تفصيل بين المذاهب:
فقال الحنفية (1) :
الاستخلاف جائز، بدليل حديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من أصابه قيء أو رعاف، أو قَلَس (2) ، أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم» (3) وذكره الكاساني في البدائع عن أبي هريرة بلفظ لم أجده: «إذا صلى أحدكم، فقاء أو رعف في صلاته، فليضع يده على فمه، وليقدم من لم يسبق بشيء من صلاته، ولينصرف وليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم» .
والأصح من ذلك: حديث عائشة في استخلاف النبي صلّى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، ثم تأخر أبي بكر، وصلاة النبي صلّى الله عليه وسلم بالناس، وافتتاحه القراءة من الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر (4) .
__________
(1) البدائع:220/1-233، الدر المختار:560/1-574، فتح القدير:267/1-276، تبيين الحقائق:147/1 ومابعدها، الكتاب مع اللباب:86/1.
(2) القلس: ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء.
(3) أخرجه ابن ماجه والدارقطني، والصحيح أنه مرسل، وفيه ضعيف (نصب الراية:61/2، نيل الأوطار:187/1) وروي في معناه عن ابن عباس عند الدارقطني وغيره وفيه متروك، وعن أبي سعيد عند الدارقطني وفيه متروك أيضاً (نيل الأوطار:188/1) .
(4) رواه البخاري ومسلم.(2/410)
وعن عمر رضي الله عنه أنه سبقه الحدث فتأخروقدم رجلاً. وعن عثمان رضي الله عنه مثله، ولأن بالناس حاجة إلى إتمام صلاتهم بالإمام، وقد التزم الإمام بذلك، فإذا عجز عن الوفاء بما التزم بنفسه، استعان بمن يقدر عليه، رعاية لمصلحة المأمومين، كيلا تبطل صلاتهم بالمنازعة.
وبناء عليه: إن سبق الإمام الحدث، انصرف، فإن كان إماماً استخلف وتوضأ وبنى على صلاته، واستئناف الصلاة في حق جميع المصلين أفضل، خروجاً من الخلاف لمن منعه. ويتعين الاستئناف إن لم يكن قعد قدر التشهد الأخير بسبب الجنون أو الحدث عمداً أو الاحتلام بنوم أو تفكير أو نظر أو مس بشهوة، أو إغماء أو قهقهة، لأنه يندر وجود هذه العوارض، فلم يكن في معنى ما ورد به النص، ويستأنف الوضوء والصلاة.
وسبب الاستخلاف: إما سبق حدث اضطراري، لا اختيار للإمام فيه ولا في سببه ومنه الحدث من نحو عطاس، أو عجز عن قراءة قدر المفروض في رأي أبي حنيفة، لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لما أحس بالنبي صلّى الله عليه وسلم حَصِر عن القراءة، فتأخر، وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وأتم الصلاة.
ولا يستخلف بسبب حصر بول أو غائط، أو بسبب عجز عن الركوع السجود، لأن له أن يتم قاعداً، أو بسبب خوف أو نسيان قراءة أصلاً؛ لأنه صار أمياً، فتفسد صلاة القوم، أو بسبب إصابة نجاسة من غيره كبول كثير من غير سبق حدثه، أو كشف عورته في صلاته بقدر ركن؛ لأن صلاته حينئذ تفسد، ويفسد معها صلاة المأمومين.
ويشترط لصحة الاستخلاف عند الحنفية شروط ثلاثة:
أولها ـ توافر شروط البناء على الصلاة السابقة؛ لأن الاستخلاف في الحقيقة بناء من الخليفة على ما صلاه الإمام، وهي ثلاثة عشر شرطاً:(2/411)
كون الحدث قهرياً، من بدنه لا من نجاسة غيره، وكونه غير موجب للغسل كإنزال بتفكر، وغير نادر كالإغماء والجنون والقهقهة، وألا يؤدي ركناً مع الحدث، أو يمشي، ولم يفعل منافياً عمداً كأن يحدث باختياره، ولا ما لا حاجة له به كالذهاب لماء بعيد مع وجود القريب، وألا يتراخى قدر ركن بغير عذر كزحمة، وألا يتبين أنه كان محدثاً سابقاً قبل الدخول في الصلاة، وألا يتذكر فائتة إن كان صاحب ترتيب مطلوب منه (بأن خرج وقت الصلاة السادسة بعد الفائتة) لأنه تفسد الصلاة الوقتية التي يصليها بذلك السبب، وألا يُتم المؤتم في غير مكانه، فمن سبقه الحدث إماماً أو مأموماً وجب عليه أن يعود بعد الوضوء ليصلي مع الإمام إذا لم يكن قد فرغ إمامه من صلاته، فلو أتم في مكانه فسدت صلاته، أما المنفرد فله أن يتم في مكانه أوغيره، وألا يستخلف الإمام غير صالح للإمامة كصبي وامرأة وأمي، فإذا استخلف أحدهم فسدت صلاته وصلاة القوم.
ثانيها ـ ألا يخرج الإمام من المسجد أو المصلى العام في الصحراء، أو الدار التي كان يصلي فيها قبل الاستخلاف، لأنه على إمامته ما لم يجاوز هذا الحد، فإن خرج بطلت الصلاة، أي صلاة القوم والخليفة دون الإمام في الأصح، ما لم يتقدم أحد المصلين بنفسه ناوياً الإمامة.
ثالثها ـ ألا يجاوز الصفوف قبل الاستخلاف إن ذهب يمنة أو يسرة، وألا يجاوز السترة قدامه، أو موضع السجود إن لم تكن له سترة على المعتمد، إن كان يصلي في الصحراء.
وإذا لم يحصل استخلاف، وأتم القوم الصلاة فرادى، بطلت صلاة الجميع.
ولو استخلف الإمام مسبوقاً أو لاحقاً أو مقيماً وهو مسافر، صح لكن المدرك أولى. فلو أتم المسبوق صلاة الإمام قدم غيره مدركاً ليقوم بالسلام أي ليسلم بالقوم. ولو كان الخليفة مسبوقاً بركعتين، فرضت عليه القعدتان؛ لأن القعدة الأولى فرض على إمامه، وهو قائم مقامه، والثانية فرض عليه.(2/412)
ولو جهل الخليفة المقدار الباقي من الصلاة، قعد في كل ركعة احتياطاً، للاحتمال في كل ركعة أنها آخر صلاة الإمام.
وقال المالكية (1) :
الاستخلاف: هو استنابة الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصلاة بهم لعذر قام به. وحكمه: الندب في غير الجمعة، والوجوب فيها.
وطريقته: أن يستخلف بالإشارة أو بالكلام واحداً من الجماعة ليتم الصلاة بالقوم. وندب استخلاف الأقرب للإمام من الصف الذي يليه، لأنه أدرى بأفعاله ولتيسر تقدمه، فيقتدون به. وندب تقدم المستخلف إلى موضع الإمام الأصلي إن قرب كالصفين، وندب ترك كلام في حالة الحدث وتذكره، ورعاف يقطع الصلاة. ويندب للإمام إذا خرج من الصلاة أن يمسك بأنفه، موهماً أنه راعف ستراً على نفسه.
وشرطه: أن يكون الخليفة قد دخل في الصلاة قبل طروء العذر. فإن لم يستخلف، قدم الجماعة واحداً منهم، فإن لم يقدموا تقدم واحد منهم، فإن لم يفعلوا صلوا فرادى، وصحت صلاتهم إلا في الجمعة. أما الجمعة فتبطل إن أتموها فرادى لاشتراط الجماعة فيها.
ويبدأ الخليفة من حيث وقف الإمام الأول.
وأعذار أو أسباب الاستخلاف ثلاثة:
الأول ـ الخوف على مال للإمام أو لغيره، أو على نفس من التلف لو استمر في صلاته. فإذا خاف الإمام سرقة أوغصباً، أو خاف على صبي الوقوع في بئر أو نار، فيهلك أو يحصل له شدة أذى، وجب عليه قطع الصلاة لحفظ المال، وإنقاذ النفس من الهلاك.
__________
(1) الشرح الصغير:465/1-472، الشرح الكبير:349/1-358، القوانين الفقهية: ص69ومابعدها.(2/413)
الثاني ـ أن يطرأ على الإمام ما يمنعه من الإمامة، كالعجز عن ركن كالقيام أو الركوع، أو قراءة الفاتحة، أو حصول رعاف مانع للإمامة وهو ماكان دون درهم، أما رعاف القطع أي قطع الصلاة فهو من موانع الصلاة بأن زاد عن درهم وسال ولطخ المكان أو خاف تلويث المسجد، فيندب فيه للإمام الاستخلاف وإن وجب عليه قطع الصلاة، ولا تبطل الصلاة بسببه على المأمومين على المعتمد، ومثله سقوط النجاسة على الإمام أو تذكره لها فيها على المعتمد.
الثالث ـ أن يطرأ على الإمام ما يبطل الصلاة: كأن يسبقه الحدث من بول أو ريح أو غيرهما، وهو يصلي، أو يتذكر أنه كان محدثاً قبل الصلاة، أو غلبت عليه القهقهة أو طرأ عليه جنون أو إغماء أو موت، أو رعف رعافاً تبطل به الصلاة على المشهور، أو طرأ عليه شك هل دخل الصلاة بوضوء أو لا، أو تحقق الطهارة والحدث وشك في السابق منهما، أما إن شك هل انتقض وضوءه فلا يقطع الصلاة ويستمر فيها، ثم إن بان الطهر لم يعد الصلاة، وإلا أعاد الإمام فقط.
وينتظر المسبوق سلام المستخلف، فإن لم ينتظره بطلت صلاته، وإن كان المستخلف مسبوقاً، أشار لهم جميعاً بأن يجلسوا، وقام لقضاء ما عليه.
وإن جهل الخليفة المسبوق ما صلى الأول، أشار لهم، فأفهموه بالإشارة أوالكلام إن لم يفهم الإشارة. وإن قيل للخليفة: أسقطت ركوعاً مثلاً، عمل بذلك إن لم يعلم خلافه.
وعلى الخليفة أن يراعي نظم صلاة الإمام، ويندب أن يقرأ من انتهاء قراءة الإمام إن علم بانتهاء قراءته، وإلا ابتدأ القراءة وجلس في محل الجلوس، وهكذا بحسب كون الصلاة سرية أو جهرية.(2/414)
وقال الشافعية (1) :
يجوز الاستخلاف في المذهب الجديد، فإذا خرج الإمام من صلاة الجمعة أو غيرها بحدث تعمده أو سبقه أو نسيه، أو غيره كرعاف وتعاطي فعل مبطل للصلاة، أو بلا سبب، جاز الاستخلاف في الأظهر الجديد، لأنها صلاة بإمامين، وهي جائزة، وصح «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يصلي بالناس، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجلس إلى جنبه، فاقتدى به أبو بكر، والناس» (2) ، وقد استخلف عمر رضي الله عنه حين طعن (3) .
والاستخلاف مندوب للإمام، ولو تقدم واحد بنفسه جاز، واستخلاف المصلين أولى من استخلاف الإمام، لأن الحق في ذلك لهم، إلا في الركعة الأولى من الجمعة، فإنه واجب عليهم أن يستخلفوا واحداً منهم لتدرك بها الجمعة، دون الركعة الثانية، فلا يلزم الاستخلاف، لإدراكهم مع الإمام ركعة كالمسبوق، فيتمونها فرادى جمعة.
ويشترط لصحة الاستخلاف في الجمعة شرطان:
أحدهما ـ أن يستخلف الإمام للجمعة مقتدياً به قبل حدثه، فلا يصح استخلاف من لم يكن مقتدياً بالإمام. ولا يشترط كون المقتدي حضر الخطبة لا الركعة الأولى في الأصح فيهما.
والثاني ـ أن يستخلف عن قرب، بألا يمضي زمن قبل الاستخلاف يسع ركناً قصيراً من أركان الصلاة.
فإن كان الخليفة قد أدرك الركعة الأولى من الجمعة مع الإمام، تمت الجمعة مطلقاً للخليفة والمأمومين. وإن لم يدرك الركعة الأولى تمت الجمعة للمقتدين دونه في الأصح فيهما. ولا يلزم المقتدين في الجمعة وغيرها استئناف نية القدوة في الأصح.
__________
(1) المجموع:139/4-146، مغني المحتاج:297/1 ومابعدها، المهذب:96/1 ومابعدها،117.
(2) رواه الشيخان، كما بينا.
(3) رواه البيهقي.(2/415)
أما في غير الجمعة فلا يشترط شيء لصحة الاستخلاف، بل يجوز أن يستخلف غير مقتد، وأن يستخلف بعد طول الفصل، لكن يحتاج المقتدون لنية الاقتداء بالقلب إن كان الخليفة غير مقتد قبل الاستخلاف، وكانت صلاته مخالفة لصلاة الإمام، كأن كان في الركعة الأولى مثلاً، والإمام في الثانية. كما يحتاجون لنية القدوة إذا طال الفصل بأن مضى زمن يسع ركناً فأكثر. وعلى الخليفة أن يراعي نظم صلاة الإمام وجوباً في الواجب وندباً في المندوب. وعلى المسبوق أيضاً أن يراعي نظم صلاة الإمام، فإذا صلى ركعة تشهد، وأشار إليهم ليفارقوه أو ينتظروا.
وإذا لم يستخلف أحد في غير الجمعة نوى المقتدون المفارقة، وأتموا صلاتهم فرادى، وصحت. أما الجمعة فلهم نية المفارقة إذا أدركوا الركعة الأولى جماعة، وأتموا فرادى في الثانية إذا بقي العدد أربعين إلى آخر الصلاة.
وقال الحنابلة (1) :
يجوز الاستخلاف لعذر كخوف ومرض شديد، وعجز عن ركن قولي كالفاتحة أو واجب قولي كتسبيحات الركوع والسجود.
ولا يجوز الاستخلاف لسبق الحدث للإمام، لأن صلاته تبطل به، ويلزمه استئنافها، خلافاً لبقية الأئمة، ودليلهم حديث علي بن طلق: «إذا فسا أحدكم في صلاته، فلينصرف، فليتوضأ، وليعد الصلاة» (2) ورأي الجمهور أصح بدليل استخلاف عمر لعبد الرحمن بن عوف لما طعن.
والمستخلف ولو كان من غير المقتدين كما قال الشافعية يبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءة أو ركعة أو سجدة، ويقضي من سبق ببعض الصلاة بعد فراغ صلاة المأمومين. فإذا كان مسبوقاً استخلف قبل السلام من يسلم بهم، وقام لقضاء ما سبقه به الإمام، فإن لم يستخلف كان للمصلي الخيار بين أن يسلموا لأنفسهم، أو ينتظروه جالسين حتى يقضي ما فاته، ويسلم بهم.
وإذا لم يستخلف الإمام، جاز للقوم أن يستخلفوا بدله، ليتم بهم الصلاة، كما جاز لهم أن يتموها فرادى.
وإن قدمت كل طائفة من المأمومين لهم إماماً يصلي بهم، جاز عندهم كالشافعية. وقال الحنفية: تفسد صلاتهم كلهم.
ويبني الخليفة الذي كان مع الإمام في الصلاة على فعل: أي ترتيب الإمام؛ لأنه نائبه، حتى في القراءة يأخذ من حيث بلغ الإمام؛ لأن قراءة الإمام قراءة له. أما الخليفة الذي لم يكن مع الإمام في الصلاة، فإنه يبتدئ الفاتحة، ولا يبني على قراءة الإمام؛ لأنه لم يأت بفرض القراءة، ولم يوجد ما يسقطه عنه؛ لأنه لم يصر مأموماً بحال، لكن يسرّ ما كان قرأه الإمام من الفاتحة، ثم يجهر بما بقي من القراءة ليحصل البناء على فعل الإمام.
فإن لم يعلم الخليفة المسبوق، أو الذي لم يدخل مع الإمام في الصلاة، ماصلى الإمام الأول، بنى الخليفة على اليقين، كالمصلي يشك في عدد الركعات. فإن سبَّح له المأموم للتنبيه، رجع إليه، ليبني على ترتيب الأول.
والخلاصة: إن أكثر المذاهب سعة في قضية الاستخلاف هو مذهب الشافعية إذ إنهم أجازوه لغير سبب، وبالكلام من الإمام، ثم المالكية، ثم الحنفية، ثم الحنابلة.
__________
(1) المغني:102/2-105، كشاف القناع:374/1-377.
(2) رواه أبو داود بإسناد جيد.(2/416)
المبحث الثاني ـ صلاة الجمعة
فرضيتها ومنزلتها، وفضل السعي إليها وحكمتها، ومن تجب عليه، كيفيتها ومقدارها، شروط صحتها، سنن الخطبة ومكروهاتها، سنن الجمعة ومكروهاتها، مفسدات الخطبة، صلاة الظهر يوم الجمعة، ففي هذا المبحث تسعة مطالب.
وسميت جمعة لاجتماع الناس لها، وقيل: لما جمع في يومها من الخير، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، أو لاجتماعه فيه مع حواء في الأرض. واسمها القديم في الجاهلية يوم العروبة: أي المبين المعظم، وقيل: يوم الرحمة.
المطلب الأول ـ فرضية الجمعة ومنزلتها:
صلاة الجمعة فرض عين (1) ، يكفر جاحدها لثبوتها بالدليل القطعي، وهي فرض مستقل ليست بدلاً عن الظهر، لعدم انعقادها بنية الظهر ممن لا تجب الجمعة عليه كالمسافر والمرأة، وهي آكد من الظهر، بل هي أفضل الصلوات، ويومها أفضل الأيام، وخير يوم طلعت فيه الشمس، يعتق الله فيه ست مئة ألف عتيق من النار، من مات فيه كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر، ودليل فضل يومها حديث مرفوع: «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها، وأعظم عند الله من يوم الفطر، ويوم الأضحى (2) .
__________
(1) الدر المختار:747/1، الشرح الصغير:493/1، مغني المحتاج:276/1، المغني:294/2 ومابعدها، كشاف القناع:21/2.
(2) ذكره البيهقي في فضائل الأوقات من حديث أبي لبانة بن عبد المنذر.(2/417)
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» .
وأدلة فرضيتها العينية المستقلة، لا الكفائية: القرآن: وهو قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:9/62] أي امضوا إلى ذكر الله، فأمر بالسعي، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، ونهى عن البيع لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهي عن البيع من أجلها، والمراد بالسعي ههنا: الذهاب إليها، لا الإسراع.
والسنة: وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن وَدْعهم الجُمعات، أو ليختِمَنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين» (1) وقوله: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم» (2) وقوله عليه السلام أيضاً: «من ترك الجمعة ثلاث جمع تهاوناً، طبع الله على قلبه» (3) .
وتاركها يستحق العقاب، لقوله صلّى الله عليه وسلم لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمُر رجلاً يُصلّي بالناس، ثم أحّرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» (4) .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن عمر وابن عباس (نيل الأوطار:221/3) .
(2) رواه النسائي عن حفصة رضي الله عنها، ورواه أبو داود عن طارق بن شهاب بلفظ «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» (نيل الأوطار:226/3) .
(3) رواه الخمسة عن أبي الجَعْد الضَّمْري، وله صحبة وصححه الحاكم، ولأحمد وابن ماجه من حديث جابر نحوه (نيل الأوطار:221/3) .
(4) رواه أحمد ومسلم عن ابن مسعود (نيل الأوطار:221/3) .(2/418)
والإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الجمعة.
وفرضت بمكة قبل الهجرة، لما روى الدارقطني عن ابن عباس قال: «أذن للنبي صلّى الله عليه وسلم في الجمعة قبل أن يهاجر، فلم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: «أما بعد، فانظر إلى اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله بركعتين» .
فأول من جمّع مصعب بن عمير حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر. وكان أسعد بن زرارة هو الذي جمع الناس، وكان مصعب نزيلهم، وكان يصلي بهم، ويقرئهم ويعلمهم الإسلام، وكان يسمى المقرئ، فأسعد دعاهم، ومصعب صلى بهم.
والدليل على أن الجمعة فرض مستقل، وأنها ليست ظهراً مقصوراً، وإن كان وقتها وقت الظهر، وتدرك به: هو أن الظهر لايغني عنها، ولقول عمر رضي الله عنه: «الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلم، وقد خاب من افترى» (1) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد وغيره، وقال النووي في المجموع: إنه حسن.(2/419)
المطلب الثاني ـ فضل السعي إلى الجمعة وحكمتها:
حكمتها: الجمعة شرعت لدعم الفكر الجماعي، وتجمع المسلمين وتعارفهم وتآلفهم، وتوحيد كلمتهم، وتدريبهم على طواعية القائد، والتزام متطلبات القيادة، وتذكيرهم بشرع الإسلام دستوراً وأحكاماً وأخلاقاً وآداباً وسلوكاً، وتنفيذاً لأوامر الجهاد، وما تتطلبه المصلحة العامة في الداخل والخارج، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. والخلاصة: إن تكرار الوعظ والتذكير الدائم كل أسبوع له أثر واضح في إصلاح الفرد والجماعة لقوله تعالى: {وذكِّر، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات:55/51] .
السعي إليها: ومن أجل تلك الأهداف والغايات السامية، ولكسب الثواب الأخروي، كان السعي للجمعة واجباً، حكمه حكم الجمعة؛ لأنه ذريعة إليها لقوله سبحانه: {فاسعَوْا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/62] ، والتبكير إليها فضيلة، وكان ترك أعمال التجارة من بيع وشراء ومختلف شؤون الحياة أمراً لازماً لئلا يتشاغل عنها ويؤدي ذلك إلى إهمالها أو تعطيلها.
ويبدأ وجوب السعي إليها عند الجمهور بالنداء إليها بالأذان الذي بين يدي الخطيب، وعند الحنفية بالأذان الأول عند الزوال، إلا إذا كان بعيد الدار عن المسجد، فيجب عليه السعي بقدر ما يدرك الفريضة (1) .
وللتبكير إلى الجمعة درجات في الثواب، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرَّب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (2) .
وقت الرواح المرغب فيه إلى الجمعة: اعتقد جماعة منهم الجمهور غير المالكية: أن هذه الساعات هي من أول النهار إلى الزوال، وتنقسم إلى خمس، فندبوا الرواح من أول النهار، لكن الأظهر ما ذكرته المالكية: أنها أجزاء ساعة قبل
__________
(1) المغني:297/2.
(2) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه (نيل الأوطار:237/3) .(2/420)
الزوال؛ لأن الساعة شرعاً ولغة هي الجزءمن أجزاء الزمان، ولم ينقل عند أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس أو بعدها بقليل (1) .
وأداء الجمعة بآدابها يغفر للمؤمن ما بين الجمعتين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر» (2) ولقوله عليه السلام: «من اغتسل ثم أتى الجمعة حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلِّي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضلُ ـ أي زيادة ـ ثلاثة أيام» (3) .
ساعة الإجابة: وفيها ساعة يستجاب الدعاء فيها، «عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، أشار ـ أي النبي صلّى الله عليه وسلم ـ بيده يقللها» (4) ، وفي تحديد وقت هذه الساعة أقوال أصحها ـ كما ثبت عن أبي بردة في صحيح مسلم ـ: أنها فيما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن يقضي الصلاة.
خصوصيات الجمعة: وللجمعة مزايا متعددة هي مئة مزية أوضحها الإمام السيوطي في كتاب خاص بعنوان (خصوصيات يوم الجمعة) (5) ، ومنها أنه تجتمع الأرواح فيها، وتزار القبور، ويأمن الميت من عذاب القبر، ومن مات فيه أو
__________
(1) بداية المجتهد:160/1، نيل الأوطار:230/3.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب:92/2) .
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن أبي أيوب بلفظ آخر، ورواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، ورواه البزار والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو ابن العاص (سبل السلام:54/2، نيل الأوطار:236/3) .
(4) متفق عليه (سبل السلام:54/2) .
(5) طبع دار الفكر بدمشق عام 1964.(2/421)
في ليلته أمن فيه من عذاب القبر، ولا تسجر فيه جهنم، وفيه يزور أهل الجنة ربهم تعالى (1) .
التشريك في العبادة: ومن سعى يريد الجمعة، وحوائجه، وكان معظم مقصوده الجمعة، نال ثواب السعي إليها، قال الحنفية (2) : وبهذا يعلم أن من شرَّك في عبادته، فالعبرة للأغلب.
البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: يجب السعي لأداء الجمعة كما بينا عند الجمهور عند الأذان الثاني الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر، وقال الحنفية في الأصح: يجب السعي بعد الأذان الأول، وإن لم يكن في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، بل في زمن عثمان رضي الله عنه.
ويكره تحريماً عند الحنفية، ويحرم عند غيرهم التشاغل عن الجمعة بالبيع وغيره من العقود من إجارة ونكاح وصلح وسائر صنايع الأعمال، وذلك عند الجمهور بعد الشروع في الأذان بين يدي الخطيب، مما فيه تشاغل عن السعي إلى الجمعة، لقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:9/62] ، فورد النص على البيع، وقيس عليه غيره، سواء أكان عقداً أم لا، لأن كل ذلك يمنع عن تحقيق الغاية المطلوبة وهي أداء الجمعة (3) .
وأضاف الشافعية أنه يكره البيع ونحوه قبل الأذان بعد الزوال.
__________
(1) الدر المختار: 773/1.
(2) الدر المختار: 772/1.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 770/1، البدائع: 270/1، بداية المجتهد: 160/1، و167/2، القوانين الفقهية: ص31، المهذب: 110/1، حاشية الدسوقي: 386/1، مغني المحتاج: 25/1 ومابعدها.(2/422)
وقال الحنابلة (1) : لا يحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح؛ لأن النهي مختص بالبيع، وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي، لقلة وجوده، فلا يصح قياسه على البيع.
غير أني لا أتردد في تصويب الرأي الأول، وعدم الالتفات للرأي الثاني، لأن الأمور بمقاصدها، ولأن الحنابلة القائلين بسد الذرائع يلزمهم سد كل الوسائل المؤدية إلى إهمال الجمعة.
وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة، أما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين، فلا يثبت في حقهم ذلك.
وهل البيع إذا وقع وقت النداء صحيح، أو باطل يفسخ (2) ؟ قال الحنفية: البيع صحيح مكروه تحريماً؛ لأن الأمر بترك البيع ليس لعين البيع، بل لترك استماع الخطبة، ويقرب من قولهم قول الشافعية: البيع صحيح حرام.
وقال المالكية: إنه من البيوع الفاسدة، ويفسخ على المشهور، وكذلك قال الحنابلة: لا يصح هذا البيع.
وسبب اختلافهم: هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه، أو لا؟.
__________
(1) المغني:297/2 ومابعدها.
(2) المراجع السابقة، تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي: 378/2، الشرح الصغير:514/1.(2/423)
المطلب الثالث ـ من تجب عليه الجمعة أو شروط وجوب الجمعة:
الجمعة كغيرها من الصلوات الخمس في الأركان والشروط والآداب، وتختص بشروط لوجوبها وصحتها ولزومها، وبآداب.
تجب الجمعة على كل مكلف (بالغ عاقل) حر، ذكر، مقيم غير مسافر، بلا مرض ونحوه من الأعذار، سمع النداء، فلا تجب على صبي ومجنون ونحوه، وعبد، وامرأة ومسافر، ومريض، وخائف وأعمى وإن وجد قائداً عند أبي حنيفة، ويجب عليه إن وجد من يقوده عند المالكية والشافعية، والحنابلة والصاحبين من الحنفية، ومن لم يسمع النداء، على تفصيل آتٍ، ولا على معذور بمشقة مطر ووَحَل وثلج. لكن إن حضر هؤلاء وصلوا مع الناس، أجزأهم ذلك عن فرض الوقت،؛ لأنهم تحملوا المشقة، فصاروا كالمسافر إذا صام، ولأن كل من صحت ظهره ممن لا تلزمه الجمعة صحت جمعته بالإجماع، لأنها إذا أجزأت عمن لا عذر له، فصاحب العذر أولى، وإنما سقطت عنه رفقاً به، فترك الجمعة للمعذور رخصة، فلو أدى الجمعة سقط عنه الظهر، وتقع الجمعة فرضاً، وترك الترخص يعيد الأمر إلى العزيمة، أي أنه إن تكلف حضورها وجبت عليه، وانعقدت به، ويصح أن يكون إماماً فيها. روى أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض» .
وبه يتبين أن شروط وجوب الجمعة هي ما يأتي:
يشترط لوجوب الجمعة شروط وجوب الطهارة والصلاة، وهي ثلاثة عند الجمهور: (الإسلام والبلوغ والعقل) وعشرة عند المالكية وهي: الإسلام والبلوغ والعقل، وعدم الحيض والنفاس، ودخول الوقت، وعدم النوم، وعدم النسيان، وعدم الإكراه، ووجود الماء أو الصعيد، والقدرة على الفعل بقدر الإمكان.
ويزاد عليها أربعة شروط (1) :
__________
(1) الدر المختار: 762/1-764، البدائع: 256/1، الكتاب مع اللباب: 111/1-113، فتح القدير: 714/1، الشرح الصغير: 494/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص79، بداية المجتهد: 151/1، مغني المحتاج: 276/1 ومابعدها، المهذب: 109/1، كشاف القناع: 23/2-25، المغني: 298/2، 327-332، 338-324.(2/424)
1 - الذكورة: فلا تجب الجمعة على أنثى.
2 - الحرية: فلا تجب على عبد.
3 - الإقامة في محل الجمعة: فلا تجب على مسافر لم ينو الإقامة (1) لحديث «لاجمعة على مسافر» (2) ، وفي هذا تفصيل المذاهب: قال الحنفية: يشترط الإقامة في مصر أي بلد كبير: وهو ما لا يسع أكبر مساجدها أهلها المكلفين بالجمعة، والقرية بخلافها. فلا تجب الجمعة على مقيم بقرية.
وتجب الجمعة أيضاً على من كان في فِناء المصر أي ما امتد من جوانبها، وقدروه بفرسخ (5544 م) في المختار للفتوى.
أما من كان خارج المصر: فتجب عليه الجمعة إن كان يسمع النداء من المنائر بأعلى صوت. وهو قول محمد، وبه يفتى، لحديث أبي داود: «الجمعة على كل من سمع النداء» .
ولا جمعة على من يقيم في أطراف المصر، ويفصل بينه وبينها مسافة من مزارع ونحوها، وإن بلغه النداء. وتقدير البعد بغَلوة سهم أي مقدار رمية وهي (أربع مئة ذراع) أو ميل، ليس بشيء.
والخلاصة: تجب الجمعة على من يسكن المصر، أو ما يتصل به، فلا تجب على أهل السواد (القرى) ولو كان قريباً، وتجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة لمدة خمسة عشر يوماً، وليس الاستيطان (دوام الإقامة) شرطاً لوجوب الجمعة.
__________
(1) مدة الإقامة خمسة عشر يوماً عند الحنفية، وأربعة أيام عند الشافعية والمالكية والحنابلة.
(2) روي مرفوعاً، لكن قال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن عمر.(2/425)
وروى الدارقطني وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فعليه الجمعة إلا امرأة ومسافراً وعبداً ومريضاً» . وقال المالكية: تجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة أربعة أيام صحاح فأكثر، وإن لم تنعقد به. وتجب الجمعة على مقيم ببلد الجمعة، وعلى المقيم بقرية أو خيمة بعيدة عن بلد الجمعة بنحو فرسخ أو ثلاثة أميال وثلث، لا أكثر، وتقدر المسافة من المنارة التي في طرف البلد. ولا يشترط في بلد الجمعة أن يكون مصراً، فتصح في القرية، وفي الأخصاص (وهي بيوت الجريد أو القصب) ، ولا تصح ولا تجب في بيوت الشعر؛ لأن الغالب عليهم الارتحال، إلا إذا كانوا قريبين من بلد الجمعة، كما لا تصح ولا تجب على من أقام مؤقتاً في مكان ولو لشهر مثلاً، إذ لا بد من الاستيطان: وهو الإقامة في بلد على التأبيد.
وقال الشافعية: تجب الجمعة على المقيم في بلد، مصر أو قرية، سمع النداء أو لم يسمعه، وعلى من في خارجه إن سمع النداء، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجمعة على من سمع النداء» (1) فلا جمعة على الحصادين، إلا إذا سمعوا النداء. والاعتبار في سماع النداء: أن يقف المؤذن في طرف البلد، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وهو مستمع، فإذا سمع النداء لزمه، وإن لم يسمع لم يلزمه.
وتجب الجمعة على مسافر نوى الإقامة أربعة أيام، أو سافر يوم الجمعة بعد فجر يومها، فإن سافر قبل الفجر فلا جمعة عليه، ولكن لا تنعقد الجمعة بالعدد المطلوب وهوأربعون بالمسافر، بل لا بد من كون الأربعين متوطنين، فالاستيطان شرط الانعقاد لا شرط الوجوب للجمعة، كما أن شرط صحة الجمعة هو وقوعها في بناء لا صحراء. روى البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة» وروى أبو داود عن كعب بن مالك
__________
(1) رواه أبو داود، والدارقطني وقال فيه: «إنما الجمعة على من سمع النداء» من حديث عبد الله بن عمرو (نيل الأوطار: 225/3) .(2/426)
رضي الله عنه: «أن أول من جمَّع بهم ـ أي في المدينة ـ أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكانوا يومئذٍ أربعين» .
ومذهب الحنابلة: تجب الجمعة على مستوطنين ببناء أو ماقاربه من الصحراء، مقيم في بلد وإن لم يكن مصراً تقام فيه الجمعة، ولو كان بينه وبين موضع إقامة الجمعة فرسخ، ولو لم يسمع النداء؛ لأنه بلد واحد، فلا فرق بين البعيد والقريب، ولأن بُعد الفرسخ في مظنة القرب.
كما تجب الجمعة على من كان خارج البلد الذي تقام فيه الجمعة إذا كان بينه وبين موضعها فرسخ تقريباً فأقل كما قال المالكية؛ لأنه من أهل الجمعة، ويسمع النداء كأهل المصر، والعبرة بسماعه من المنارة، لا بين يدي الإمام. والمعتبر مظنة السماع غالباً، كما قال الشافعية: إذا كان المؤذن صيِّتاً، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية.
وتجب على المسافر إذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر، أو كان سفره معصية، لئلا تكون المعصية سبباً للتخفيف عنه، أو كان بينه وبين بلد إقامته فرسخ فأقل، أو سافر مسافة دون مسافة القصر.
ولا تجب الجمعة على من كان في قرية لا يبلغ عددهم أربعين، أو كان مقيماً في خيام (ما يبنى من عيدان الشجر) ونحوها كبيوت الشعر، أو كان مسافراً سفراً لمسافة القصر (98كم) ، أو كان بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ، أو مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف أو في بعض السنة؛ لأنهم ليسوا من أهلها، ولا يسمعون نداءها، ولأنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر.(2/427)
ولا جمعة بمنى وعرفة نصاً؛ لأنه لم ينقل فعلها هناك.
السفر يوم الجمعة: للفقهاء رأيان في مشروعية السفر يوم الجمعة بعد الفجر (1) ، فأجازه الحنفية والمالكية، ومنعه الشافعية والحنابلة إن خيف فوت الجمعة، واتفقوا على منعه بعد دخول وقت الظهر (أي بعد الزوال) وقبل أداء صلاتها.
قال الحنفية: لابأس بالسفر يوم الجمعة إذا خرج عن عمران المصر قبل دخول وقت الظهر، والصحيح أنه يكره السفر بعد الزوال وقبل أن يصلي الجمعة، ولا يكره قبل الزوال.
وكذلك قال المالكية: يجوز السفر يوم الجمعة قبل الزوال، ولكنه يكره لمن لا يدركها في طريقه، ويحرم ويمنع بعد الزوال وقبل الصلاة اتفاقاً. ودليلهم قول عمر: «الجمعة لا تحبس عن سفر» .
وقال الشافعية والحنابلة: يحرم على من تجب عليه الجمعة السفر قبل الزوال وبعده، إلا أن تمكنه الجمعة في طريقه أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة أو كان السفر واجباً كالسفر لحج ضاق وقته وخاف فوته، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من سافر من دار إقامة يوم الجمعة، دعت عليه الملائكة، لا يُصحَب في سفره، ولا يعان على حاجته» (2) ، وهذا وعيد لا يلحق بالمباح، ولأن الجمعة قد وجبت عليه، فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كاللهو والتجارة.
كذلك كره الشافعية السفر ليلة الجمعة، جاء في الإحياء للغزالي: «من سافر ليلة الجمعة دعا عليه ملكان» .
وفي تقديري أن رأي المالكية والحنفية أصح، تيسيراً على الناس، ومنعاً للحرج، ولضعف حديث الفريق الثاني.
__________
(1) الدر المختار: 771/1، الشرح الصغير: 512/1، القوانين الفقهية: ص80، المهذب: 110/1، مغني المحتاج: 278/1 وما بعدها، المغني: 362/2-364، الشرح الصغير: 514/1-516، خصوصيات يوم الجمعة للسيوطي: ص73، الشرح الكبير: 387.
(2) رواه الدارقطني في الأفراد، وأخرجه الخطيب في الرواة عن مالك بسند ضعيف عن أبي هريرة.(2/428)
4 - السلامة من الأعذار: فلا بد لمن تجب عليه الجمعة من الصحة، والأمن، والحرية، والبصر، والقدرة على المشي، وعدم الحبس، وعدم المطر الشديد والوحل والثلج ونحوها، كما بينا في بحث أعذار مسقطات الجماعة والجمعة.
فلا تجب الجمعة على مريض لعجزه عن ذلك، وممرِّض إن بقي المريض ضائعاً، وشيخ فانٍ، وخائف على نفسه أو ماله أو لخوف غريم أو ظالم أو فتنة، وعبد؛ لأنه مشغول بخدمة مولاه، وأعمى عند أبي حنيفة، ويجب عليه عند الحنابلة والصاحبين والمالكية والشافعية إذا وجد، أي الأعمى قائداً، ولا يجب عليه إن وجد قائداً عند أبي حنيفة، ولا تجب على مفلوج الرِّجل ومقطوعها وزَمِن، ومحبوس، ومعذور بمشقة مطر ووحل وثلج. ولا تجب على قروي عند الحنفية.
سقوط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام عند الحنابلة:
قال الحنابلة (1) : كما تسقط الجمعة عن ذوي الأعذار أو الأشغال كمريض ونحوه، تسقط عمن حضر العيد مع الإمام إن اتفق عيد في يوم جمعة إسقاط حضور، لا إسقاط وجوب، إلا الإمام، فإنها لا تسقط عنه، إلا أن لايجتمع له من يصلي به الجمعة، ويصح أن يؤم فيها، والأفضل حضورها خروجاً من الخلاف.
ودليلهم: حديث زيد بن أرقم: «من شاء أن يُجمِّع فليُجمِّع» (2) ، وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمِّعون» (3) ، ولأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة، وقد حصل سماعها في العيد، فأجزأه عن سماعها ثانياً، ولأن وقتها واحد، فسقطت إحداهما بالأخرى كالجمعة مع الظهر.
وقوله: (إنا مجمعون) يدل على أن الإمام لاتسقط عنه، ولأنه لو تركها، لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس.
__________
(1) المغني: 358/2، كشاف القناع: 44/2.
(2) رواه الإمام أحمد، وأبو داود ولفظه «من شاء أن يصلي فليصل» .
(3) رواه ابن ماجه. وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم نحو ذلك.
[التعليق]
* انظر: (2 / 543)
صلاة الجمعة في يوم العيد
* أبو أكرم الحلبي(2/429)
المطلب الرابع ـ كيفية الجمعة ومقدارها:
الجمعة: ركعتان وخطبتان قبلها (1) ، قال عمر: «صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، وقد خاب من افترى» (2) فلها ركنان: الصلاة والخطبة، والصلاة ركعتان بقراءة جهرية إجماعاً، والخطبة: فرض وهي خطبتان قبل الصلاة، وشرط في صحة الجمعة على الأصح، وأقل ما يسمى خطبة عند العرب، تشمل على حمد لله تعالى وصلاة على رسوله، ووعظ في أمور الدين والدنيا، وقرآن. ويسن قبلها أربع ركعات اتفاقاً، وبعدها عند الجمهور غير المالكية أربع أيضاً.
المطلب الخامس ـ شروط صحة الجمعة:
يشترط لصحة الجمعة زيادة على شروط صحة الصلاة الإحدى عشرة المتقدمة سبعة شرائط عند الحنفية والشافعية، وخمسة شرائط عند المالكية وأربعة لدى الحنبلية (3) .
1 - وقت الظهر:
فتصح فيه فقط، ولا تصح بعده، ولا تقضى جمعة، فلو ضاق الوقت، أحرموا، بالظهر، ولا تصح عند الجمهور غير الحنابلة قبله، أي قبل وقت الزوال، بدليل مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم على صلاة الجمعة إذا زالت الشمس، قال أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (4) أي إلى الغروب، وهو الزوال، وعلى ذلك جرى الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولأن الجمعة والظهر فرْضا وقت واحد، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر وصلاة السفر.
وقال الحنابلة: يجوز أداء الجمعة قبل الزوال، وأول وقتها أول وقت صلاة العيد، لقول عبد الله بن سَيْدان السُّلَمي، «شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك، ولا أنكره» (5) فكان كالإجماع، ولأنها صلاة عيد، أشبهت العيدين.
__________
(1) البدائع: 256/1، بداية المجتهد: 155/1، القوانين الفقهية: ص81، مغني المحتاج: 276/1، كشاف القناع: 21/2، 41.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والنسائي.
(3) الدر المختار: 747/1-761، فتح القدير:408/1-416، البدائع: 256/1، 262، 266، اللباب: 110/1-112، الشرح الصغير: 495/1-500، الشرح الكبير: 372/1-378، بداية المجتهد: 152/1-154، القوانين الفقهية: ص80-81، مغني المحتاج: 279/1-285، المهذب: 110/1 ومابعدها، 117، حاشية الشرقاوي: 261/1-266، كشاف القناع: 27/2، 34، 42 ومابعدها، المغني: 295/2، 327-337، 356-359.
(4) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي (نيل الأوطا: 259/3) .
(5) رواه الدارقطني وأحمد واحتج به، وقال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية: «أنهم صلوها قبل الزوال» (نيل الأوطار: 259/3) .(2/430)
وتفعل قبل الزوال جوازاً أو رخصة، وتجب بالزوال، وفعلها بعد الزوال أفضل لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمِّع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّع الفيء» (1) .
وآخر وقت الجمعة: آخر وقت الظهر بغير خلاف، ولأنها بدل منها، أو واقعة موقعها، فوجب الإلحاق بها، لما بينهما من المشابهة.
متى تدرك الصلاة جمعة؟
للفقهاء رأيان في إدراك جزء من صلاة الجمعة مع الإمام.
فقال الحنفية على الراجح (2) : من أدرك الإمام يوم الجمعة في أي جزء من صلاته، صلى معه ما أدرك، وأكمل الجمعة، وأدرك الجمعة، حتى وإن أدركه في التشهد أو في سجود السهو. وهو رأي أبي حنيفة وأبي يوسف، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ماأدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» (3) .
وقال الجمهور (4) : إذا أدرك الركعة الثانية مع الإمام، فقد أدرك الجمعة، وأتمها جمعة، وإن لم يدرك معه الركعة الثانية، أتمها ظهراً، لإطلاق قوله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى» وفي لفظ: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» وفي رواية: «من أدرك في الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة» (5) .
__________
(1) رواه الشيخان: البخاري ومسلم (نيل الأوطار: المكان السابق) .
(2) فتح القدير: 419/1، الكتاب مع اللباب: 114/1.
(3) رواه أحمد وابن حبان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً. قال مسلم: أخطأ ابن عيينة في هذه اللفظة، ولا أعلم رواهاعن الزهري غيره. أخرجه الأئمة الستة بلفظ: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» (نصب الراية: 200/2) .
(4) مغني المحتاج: 299/1 ومابعدها، كشاف القناع: 28/2، 33، المغني: 312/2.
(5) اللفظ الأول لابن ماجه، والثاني متفق عليه عند الشيخين، والثالث رواه الأثرم.(2/431)
2 - البلد:
أي كونها في مصر جامع، أو في مصلى المصر عند الحنفية: وهو كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، هذا في مشهور المذهب الحنفي، لكن المفتى به عند أكثر الحنفية، أن المصر كما قدمنا: هو ما لا يسع أكبر مساجدها أهلها المكلفين بالجمعة. وهذا شرط وجوب وصحة، فلا يصح أداء الجمعة إلا في المصر وتوابعه، ولا تجب على أهل القرى التي ليست من توابع المصر، ولا يصح أداء الجمعة فيها. ودليلهم على اشتراط المصر: ما رواه عبد الرزاق عن علي موقوفاً: «لا جمعة، ولا تشريق إلا في مصر جامع» .(2/432)
وقال المالكية: كونها في موضع الاستيطان، وهو إما بلد أو قرية، مبنية بأحجار ونحوها، أو بأخصاص من قصب أو أعواد شجر، لا خيم من شعر أو قماش؛ لأن الغالب على أهلها الارتحال، فأشبهوا المسافرين. وهذا شرط صحة ووجوب عند المالكية؛ لأن الصحيح عندهم أن الشروط الأربعة وهي الإمام والجماعة والمسجد وموضع الاستيطان هي شروط وجوب وصحة معاً، ولا بد أن تستغني القرية بأهلها عادة، بالأمن على أنفسهم، والاكتفاء في معاشهم عن غيرهم. ولا يحدون بحد كمئة أو أقل أو أكثر.
وقرر الشافعية: أن تقام الجمعة في خِطّة بلد أو قرية، وإن لم تكن في مسجد. ولا تلزم الجمعة في الأظهر أهل الخيام وإن استقروا في الصحراء أبداً؛ لأنهم على هيئة المسافرين أو المستوفزين للسفر، وليس لهم أبنية المستوطنين، ولأن قبائل العرب الذين كانوا مقيمين حول المدينة ما كانوا يصلونها، وما أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بها.
والمراد بالخِطَّة: الأرض التي خُطَّ عليها أعلام للبناء فيها. ويقصد بها هنا الأمكنة المعدودة من البلد. وهي تشبه المخطط التنظيمي لكل بلد في عصرنا. ولا بد أن تكون الأبنية مجتمعة بحسب العرف.
واشترط الحنابلة: أن يكون المكلفون بالجمعة وهم أربعون فأكثر مستوطنين أي مقيمين بقرية مجتمعة البناء، بما جرت العادة بالبناء به، من حجر أو لبن أو طين أو قصب أو شجر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «كتب إلى قرى عُرينة أن يصلوا الجمعة» ولا جمعة على أهل الخيام وبيوت الشعر والحركات، ولا تصح منهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالباً.
والخلاصة: لا بد لإقامة الجمعة عند الجمهور من كونها في مدينة أو قرية، ولابد أن تكون القرية كبيرة عند الحنفية، فلا تجب على سكان القرى الصغيرة، أي لا بد من المصر عندهم، أما عند غيرهم فلا يشترط المصر، والقرية والبلد سواء.(2/433)
3 - الجماعة:
الجماعة شرط، لما رواه أبو داود: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة..» وانعقد الإجماع على ذلك. وأقل الجماعة عند أبي حنيفة ومحمد في الأصح: ثلاثة رجال سوى الإمام، ولو كانوا مسافرين أو مرضى؛ لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، والجماعة شرط مستقل في الجمعة، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/62] والجمعة مشتقة من الجماعة، ولا بد لهم من مذكر وهو الخطيب. فإن تركوا الإمام أو نفروا بعد التحريمة قبل السجود، فسدت الجمعة، وصليت الظهر. وإن عادوا وأدركوا الإمام راكعاً، أو بقي ثلاثة رجال يصلون مع الإمام. أو نفروا بعد الخطبة وصلى الإمام بآخرين، صحت الجمعة، فوجود الجماعة: شرط انعقاد الأداء، لا شرط دوام وبقاء إلى آخر الصلاة، ولا يتحقق الأداء إلا بوجود تمام الأركان وهي القيام والقراءة والركوع والسجود، فلو نفروا بعد التحريمة قبل السجود فسدت الجمعة، ويستقبل (يستأنف) لظهر، كما بينا.
وقال المالكية: يشترط حضور اثني عشر رجلاً للصلاة والخطبة، لما روي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عِير (إبل تحمل التجارة) من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: {وإذا رأ وا تجارة أو لهواً، انفضوا إليها، وتركوك قائماً} (1) [الجمعة:11/62] .
ويشترط لهذا الشرط شرطان أيضاً:
الأول ـ أن يكون العدد من أهل البلد، فلا تصح من المقيمين به لنحو تجارة، إذا لم يحضرها العدد المذكور من المستوطنين بالبلد.
الثاني ـ أن يكونوا باقين مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام من صلاتها، فلو فسدت صلاة واحد منهم، ولو بعد سلام الإمام، بطلت الجمعة، أي أن بقاء الجماعة إلى كمال الصلاة شرط على المشهور.
وقال الشافعية والحنابلة: تقام الجمعة بحضور أربعين فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين، بحيث لا يظعن منه أحدهم شتاء ولاصيفاً إلا لحاجة، ولو كانوا مرضى أو خرساً أو صماً، لا مسافرين، لكن يجوز كون الإمام مسافراً إن زاد العدد عن الأربعين، ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، لحديث كعب المتضمن أن عدد المصلين في أول صلاة جمعة بالمدينة مع أسعد بن زرارة كانوا أربعين رجلاً (2) . وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم جمع بالمدينة
__________
(1) حديث الانفضاض هذا رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه (نيل الأوطار: 278/3) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجه (نيل الأوطار: 230/3) .(2/434)
وكانوا أربعين رجلاً. ولم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بأقل من أربعين، فلا تجوز بأقل منه. فلو انفض الأربعون أو بعضهم في الخطبة، لم تصح الجمعة؛ لأن سماع الأربعين جميع أركان الخطبة مطلوب، والمقصود من الخطبة إسماع الناس، فإن نقصوا عن الأربعين قبل إتمام الجمعة استأنفوا ظهراً ولم يتموها جمعة؛ لأن العدد شرط، فاعتبر في جميعها كالطهارة.
ويظهر لي أن الجمعة تتطلب الاجتماع، فمتى تحققت الجماعة الكثيرة عرفاً، وجبت الجمعة وصحت، وليس هناك نص صريح في اشتراط عدد معين. والجماعة في الجمعة شرط بالاتفاق، إذ كان معلوماً من الشرع أنها حال موجودة في الصلاة. فإن سبق أحد المصلين بركعة، صحت جمعته، وأتى بركعة ثانية، فإن لم يدرك مع الإمام ركوع الركعة الثانية، أتم صلاته ظهراً، والدليل ما رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته» .(2/435)
4 - كون الأمير أو نائبه هو الإمام، والإذن العام من الإمام بفتح أبواب الجامع للواردين عليه.
اشترط الحنفية هذين الشرطين:
الأول ـ أن يكون السلطان ولو متغلباً أو نائبه، أو من يأذن له بإقامة الجمعة كوزارة الأوقاف الآن هو إمام الجمعة وخطيبها؛ لأنها تقام بجمع عظيم، وقد تقع منازعة في شؤون الجمعة، فلا بد منه تتميماً لأمره، ومنعاً من تقدم أحد.
والثاني ـ الإذن العام: وهو أن تفتح أبواب الجامع ويؤذن للناس بالدخول إذناً عاماً، بأن لا يمنع أحد ممن تصح منه الجمعة عن دخول الموضع الذي تصلى فيه؛ لأن كل تجمع يتطلب الإذن بالحضور، ولأنه لا يحصل معنى الاجتماع إلا بالإذن، ولأنها من شعائر الإسلام، وخصائص الدين، فلزم إقامتها على سبيل الاشتهار والعموم.
ولم يشترط غير الحنفية هذين الشرطين، فلا يشترط إذن الإمام لصحة الجمعة، ولا حضوره؛ لأن علياً صلى بالناس، وعثمان محصور، فلم ينكره أحد، وصوبه عثمان (1) ، ولأن الجمعة فرض الوقت، فأشبهت الظهر في عدم هذين الشرطين (2) .
5 - أن تكون بالإمام وفي الجامع:
اشترط المالكية هذين الشرطين وهما: أن تصلى بإمام مقيم، فلا تصح أفراداً، وأن يكون مقيماً غير مسافر، ولو لم يكن متوطناً، وأن يكون هوالخطيب إلا لعذر يبيح الاستخلاف كرعاف ونقض وضوء، وأن يكون حراً فلا تصح إمامة العبد. ولا يشترط أن يكون الإمام والياً، خلافاً للحنفية.
وأن تكون الصلاة بجامع يجمع فيه على الدوام، فلا تصح في البيوت ولا في رحبة دار، ولا في خان، ولا في ساحة من الأرض، وفي الجملة: لا تصح المواضع المحجورة كالدور والحوانيت.
وللجامع شروط أربعة: أن يكون مبنياً، وأن يكون بناؤه بحسب العادة والعرف فيجوز بالقصب ونحوه، وأن يكون متحداً، ومتصلاً بالبلد، فالجمعة لا تكون إلا متحدة في البلد، وإذا تعددت الجمع، فالذي تصح الجمعة فيه هو الجامع العتيق الأقدم؛ دون غيره، والمراد بالعتيق: ما أقيمت فيه الجمعة ابتداء، ولو تأخر بناؤه عن غيره.
__________
(1) رواه البخاري بمعناه.
(2) كشاف القناع: 41/2.(2/436)
ولا يشترط كون الجامع مسقفاً على الراجح، ولا قصد تأبيد إقامة الجمعة فيه، ولا قصد إقامة الصلوات الخمس فيه.
وتصح الجمعة في رحاب المسجد: وهي ما زيد خارج محيطه لتوسعته، وتصح في طرق المسجد المتصلة به من غير فصل ببيوت أو حوانيت أو أشياء محجورة، سواء ضاق المسجد أو اتصلت الصفوف أم لا، وتكره في الرحاب والطرق من غير ضرورة.
ولا تجوز الجمعة على سطح المسجد، ولو ضاق بالناس، ولا في الأماكن المحجورة كالدور والحوانيت.
6 - عدم تعدد الجمع لغير حاجة:
اشترط الشافعية لصحة الجمعة ألا يسبقها ولا يقارنها جمعة في البلد أو القرية، إلا لكبر البلد وعسر اجتماع الناس في مكان، وتعسر الاجتماع: إما لكثرة الناس، أو لقتال بينهم، أو لبعد أطراف البلد، بأن يكون من بطرفها لا يبلغهم صوت المؤذن بالشروط السابقة في وجوب الجمعة.
ودليل هذا الشرط أنه صلّى الله عليه وسلم وصحبه والخلفاء الراشدين والتابعين لم يقيموا سوى جمعة واحدة، ولأن الاقتصار على واحدة أدعى لتحقيق المقصود من إظهار شعار الاجتماع، واجتماع الكلمة.
فإن سبقت إحدى الجمع غيرها فهي الصحيحة، وما بعدها باطل؛ لأنه لا يزاد على واحدة وإن تقارنتا فهما باطلتان. والعبرة في السبق والمقارنة: بالراء من تكبيرة إحرام الإمام. فإن علم السابق ثم نسي، وجبت الظهر على الجميع، لالتباس الصحيحة بالفاسدة، وإن علمت المقارنة أو لم يعلم سبق ولا مقارنة، أعيدت الجمعة إن اتسع الوقت، لعدم وقوع جمعة مجزئة. وإن تعددت الجمعة لحاجة، بأن عسر اجتماع بمكان، جاز التعدد، وصحت صلاة الجميع على الأصح، سواء وقع إحرام الأئمة معاً أو مرتباً، وسن صلاة الظهر احتياطاً، فالاحتياط لمن صلى ببلد تعددت فيه الجمعة لحاجة، ولم يعلم سبق جمعته: أن يعيدها ظهراً، خروجاً من خلاف من منع التعدد، ولو لحاجة. وينوي آخر ظهر بعد صلاة الجمعة أو ينوي الظهر احتياطاً، خروجاً عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر.(2/437)
وصلاة الظهر بعد الجمعة: إما واجبة إن تعددت الجمع لغير حاجة، أو مستحبة إذا كان التعدد بقدر الحاجة فقط، أو زائداً عليها ولم يدر هل التعدد لحاجة أو لا، أو حرام فيما إذا كان بالبلد جمعة واحدة فقط كبعض قرى الأرياف.
وكذلك قرر المالكية على الراجح: أنه يمنع تعدد الجمعة في مسجدين أو أكثر في مصر واحد، ولا تكون الجمعة إلا متحدة في البلد، فإن تعددت صحت جمعة الجامع الأقدم أو العتيق: وهو المسجد الذي أقيمت فيه أول جمعة في البلد، ولو تأخر بناؤه عن غيره، كما بينا (1) .
والحنابلة مع الشافعية والمالكية فيما ذكر (2) : وهو إن كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع أو في حال خوف الفتنة بأن يكون بين أهل البلد عداوة، أو في حال سعة البلد وتباعد أطرافه، فصلاه الجمعة في جميعها جائزة؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد، وقد ثبت أن علياً رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى، ويستخلف على ضعَفَة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. وأما ترك النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إقامة جمعتين، فلعدم الحاجة إليه، ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته عليه السلام، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم، لأنه المبلغ عن الله تعالى.
ولما دعت الحاجة إلى تعدد الجمعات في الأمصار، صليت في أماكن، ولم ينكر أحد، فكان إجماعاً.
وإن تحققت الحاجة بجمعتين اثنتين، لم تجز الجمعة الثالثة لعدم الحاجة إليها، وهكذا الرابعة والخامسة.
ويحرم إقامة الجمعة والعيد بأكثر من موضع من البلد لغير حاجة، ويحرم إذن الحاكم في إقامة جمعة زائدة عند عدم الحاجة إليها، كما يحرم الإذن فيما زاد على قدر الحاجة.
__________
(1) الشرح الصغير: 500/1، القوانين الفقهية: ص80 ومابعدها.
(2) المغني: 334/2 ومابعدها، كشاف القناع: 42/2-44.(2/438)
فإن أقيمت الجمعة في موضعين فأكثر مع عدم الحاجة، فجمعة الإمام (الحاكم) التي باشرها أو أذن فيها: هي الصحيحة؛ لأن في تصحيح غيرها افتياتاً عليه، وتفويتاً لجمعته.
فإن استويا في الإذن وعدم إذن الإمام، فالسابقة هي الصحيحة، والثانية باطلة. والسبق يكون بتكبيرة الإحرام، كما قال الشافعية، لا بالشروع في الخطبة ولا بالسلام. وإن تقارنتا معاً، واستوتا في الإذن أو عدمه، بطلتا؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما.
وإن جهلت الجمعة الأولى ببلد لغير حاجة، أو لم يعلم سبق إحداهما، أو علم الحال ثم أنسي، صلوا ظهراً.
والخلاصة: إن رأي الجمهور (المالكية على المشهور، والشافعية والحنابلة) والكاساني من الحنفية: هو عدم جواز التعدد إلا لحاجة. أما الحنفية (1) على المذهب وعليه الفتوى فقالوا: يؤدى أكثر من جمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة دفعاً للحرج؛ لأن في إلزام اتحاد الموضع حرجاً بيناً، لتطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولم يوجد دليل على عدم جواز التعدد، والضرورة أو الحاجة تقضي بعدم اشتراطه، لا سيما في المدن الكبرى.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 755/1 ومابعدها. قال في شرح المنية: الأولى هو الاحتياط: لأن الخلاف في جواز التعدد عدمه قوي، وكون الصحيح جواز التعدد للضرورة للفتوى: لايمنع شرعية الاحتياط للتقوى.(2/439)
والحق: رجحان هذا الرأي، لاتساع البنيان، وكثرة الناس، وللحاجة في التيسير عليهم في أداء الجمعة، ولأن منع التعدد لم يقم عليه دليل صحيح، قال ابن رشد (1) : لو كان شرط عدم التعدد، واشتراط المصر والسلطان واشتراط مالك المسجد شروطاً في صحة صلاة الجمعة، لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها، لقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44/16] ، ولقوله تعالى: {إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} [النحل:64/16] ، وتعدد الجمع اليوم يتفق مع مبدأ يسر الإسلام ودفع الحرج عن المصلين، ولا تجب صلاة الظهر على أحد من المصلين، كما قرر بعض الشافعية كالرملي في المدن الكبرى كالقاهرة وبغداد ودمشق، وأما كون الجمعة لمن سبق فمعناه زيادة الأجر لمن بكر في المجيء للمسجد. قال ابن تيمية: إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء، ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك أكثر العلماء (2) .
__________
(1) بداية المجتهد: 154/1.
(2) فتاوى ابن تيمية 208/24.(2/440)
7 - الخطبة قبل الصلاة:
اتفق الفقهاء على أن الخطبة شرط في الجمعة، لا تصح بدونها (1) ، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/62] والذكر: هو الخطبة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بدون الخطبة (2) ، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وعن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: قصرت الصلاة لأجل الخطبة. والأصح عند الحنفية: أن الخطبة ليست قائمة مقام ركعتين، بل كشطرها في الثواب، لما ورد به الأثر من أن الخطبة كشطر الصلاة.
وهي خطبتان قبل الصلاة اتفاقاً، واختلف الفقهاء في شروط الخطبة.
فقال الحنفية (3) :
يخطب الإمام بعد الزوال قبل الصلاة خطبتين خفيفتين بقدر سورة من طوال المفصل، يفصل بينهما بقَعْدة قدر قراءة ثلاث آيات، ويخفض جهره بالثانية عن الأولى، ويخطب قائماً، مستقبل الناس، على طهارة من الحدثين، وستر عورة، ولو كان الحاضرون صُمَّاً أو نياماً.
ولو خطب قاعداً أو على غير طهارة، جاز لحصول المقصود، إلا أنه يكره لمخالفته الموروث، وللفصل بينها وبين الصلاة لتجديد طهارته، فالطهارة والقيام سنةعندهم، والسبب في ذلك أنها لا تقوم مقام الركعتين في الأصح؛ لأنها تنافي الصلاة، لما فيها من استدبار القبلة والكلام، فلا يشترط لها شرائط الصلاة.
__________
(1) تبيين الحقائق: 219/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 499/1، مغني المحتاج: 285/1، المغني: 302/2.
(2) ذكره البيهقي، واستدل ابن الجوزي على وجوب الخطبة بهذا، مع حديث «صلوا كما رأيتموني أصلي» وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً ... » وأخرج أبو داود عن ابن عمر، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعِد المنبر حتى يفرغ أذان المؤذن، ثم يقوم، ثم يجلس، فلا يتكلم، ويقوم، فيخطب» وفي أحد رواته: فيه مقال (نصب الراية 196/2) .
(3) فتح القدير مع العناية:413/1-415، الدر المختار: 757/1-760، مراقي الفلاح: ص87، البدائع: 262/1، تبيين الحقائق: 219/1 ومابعدها.(2/441)
ولو اقتصر الخطيب على ذكر الله تعالى كتحميدة أو تهليلة أو تسبيحة، فقال: الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله، جاز عند أبي حنيفة مع الكراهة، لقوله تعالى: {فاسعَوْا إلى ذكر الله} [الجمعة:9/62] والمراد به الخطبة باتفاق المفسرين، وقد أطلق عليها الذكر، من غير فصل بين قليل وكثير، فالزيادة عليها نسخ، وروي أن «عثمان رضي الله عنه: لما صعد المنبر أول جمعة ولّي، قال: الحمد لله، فأرتج (أي أغلق) ، فنزل، وصلى» وكان بمحضر من علماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فدل على أن هذا المقدار كاف.
وقال الصاحبان: لا بد من ذِكْر طويل يسمى خطبة، وأقله قدر التشهد؛ لأن الخطبة هي الواجبة، والتسبيحة أو التحميدة لا تسمى خطبة. وشروط الخطبة عند الحنفية ستة: أن تكون قبل الصلاة، وبقصد الخطبة، وفي الوقت، وأن يسمعها واحد ممن تنعقد بهم الجمعة على الأقل في الصحيح، فيكفي حضور عبد أو مريض أو مسافر ولو جنباً، ولا تصح بحضور صبي أو امرأة فقط، ولا يشترط سماع جماعة.
ويشترط أيضاً ألا يفصل فاصل كثير أجنبي كتناول غداء أو غسل بين الخطبة والصلاة، فإن وجد أعيدت الخطبة، لبطلان الخطبة الأولى. ولا يشترط اتحاد الإمام والخطيب، لكن لا ينبغي أن يصلي غير الخطيب؛ لأنهما كشيء واحد. وأجازوا الخطبة، بغير العربية ولو لقادر عليها، سواء أكان القوم عرباً أم غيرهم. ويبدأ قبل الخطبة الثانية بالتعوذ سراً، ثم يحمد الله تعالى والثناء عليه، ويأتي بالشهادتين، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والعظة والتذكير، ويندب ذكر الخلفاء الراشدين والعمّين (حمزة والعباس) ، ولا يندب الدعاء للسلطان، وجوزه بعضهم، فقد ثبت أن أبا موسى الأشعري أمير الكوفة دعا لعمر، ويكره تحريماً وصفه بما ليس فيه.
واشترط المالكية (1) تسعة شروط لخطبتي الجمعة هي:
الأول ـ أن يكون الخطيب قائماً، والأظهر أن هذا واجب غير شرط، فإن جلس أتم خطبته وصحت.
__________
(1) الشرح الصغير: 499/1، الشرح الكبير: 372/1،378 ومابعدها، 386.(2/442)
الثاني ـ أن تكون الخطبتان بعد الزوال، فإن تقدمتا عليه، لم يجز.
الثالث ـ أن يكونا مما تسميه العرب خطبة، ولو سجعتين نحو: اتقوا الله فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، فإن سبح أو هلل أو كبر، لم يجزه. وندب ثناء على الله، وصلاة على نبيه، وأمر بتقوى، ودعا بمغفرة وقراءة شيء من القرآن، فإذا قال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم عن معصيته ومخالفته، قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة:7/99-8] . ثم يجلس ويقول بعد قيامه بعد الثناء والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم: أما بعد، فاتقوا الله فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، يغفر الله لنا ولكم، لكان آتياً بالخطبة على الوجه الأكمل باتفاق العلماء.
الرابع ـ كونهما داخل المسجد كالصلاة، فلو خطبهما خارجه، لم يصحا.
الخامس ـ أن يكونا قبل الصلاة، فلا تصح قبلهما، فإن أخرهما عنهما، أعيدت الصلاة إن قرب الزمن عرفاً، ولم يخرج من المسجد، فإن طال الزمن أعيدتا؛ لأنهما مع الصلاة كركعتين من الظهر.
السادس ـ أن يحضرهما الجماعة: الاثنا عشر، فإن لم يحضروا من أولهما، لم يجزيا؛ لأنهما كركعتين.
السابع والثامن والتاسع ـ أن يجهر بهما، وأن يكونا بالعربية، ولو للأعاجم، واتصال أجزائهما ببعض وأن تتصل الصلاة بهما، وليس من شرط الخطبتين الطهارة على المشهور، لكن كره فيهما ترك الطهر من الحدثين الأصغر والأكبر، ووجب انتظاره لعذر قرب زواله بالعرف كحدث حصل بعد الخطبة، أو رعاف يسير والماء قريب.
ولا يصلي غير من يخطب إلا لعذر، فيشترط اتحاد الإمام والخطيب إلا لعذر طرأ عليه كجنون ورعاف مع بعد الماء.(2/443)
وقال الشافعية (1) :
للخطبة خمسة أركان أو فروض: حمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والوصية بالتقوى، وتجب هذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة في إحدى الخطبتين، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بأمر أخروي.
أما الأول وهو الحمد فلما رواه مسلم، وأما الثاني فلأن الخطبة عبادة، فتفتقر إلى ذكر الله تعالى وذكر رسوله، كالأذان والصلاة، وأما الثالث فلما رواه مسلم، ولأن المقصود من الخطبة الوعظ والتحذير، ولا يتعين لفظ الوصية بالتقوى الصحيح؛ لأن الفرض الوعظ والحمل على طاعة الله تعالى، فيكفي ما دل على الموعظة، طويلاً كان أو قصيراً كأطيعوا الله وراقبوه. وأما الرابع: فلما رواه الشيخان، سواء أكانت الآية وعداً أم وعيداً أم حكماً أم قصة. وأما الخامس: فلنقل الخلف له عن السلف. وكون الدعاء في الثانية؛ لأنه يليق بالخواتم.
والأصح أن ترتيب الأركان ليس بشرط، وإنما هو سنة.
وشروط كل من الخطبتين خمسة عشر هي ما يأتي:
كونهما قبل الصلاة، عدم الانصراف عنهما بصارف، القيام لمن قدر عليه اتباعاً للسنة، وكونهما بالعربية، وفي الوقت بعد الزوال، والجلوس بينهما بالطمأنينة كالجلوس بين السجدتين بقدر سورة الإخلاص استحباباً، أما القاعد فيفصل بسكتة، وإسماع العدد الذي تنعقد به الجمعة: بأن يرفع الخطيب صوته بأركانهما حتى يسمعها تسعة وثلاثون غيره كاملون، فلا بد من الإسماع والسماع بالفعل، لا بالقوة، فلو كانوا صُماً أو بعضهم لم تصح كبعدهم. وإلا كان الخطيب من الأربعين فيشترط أن يسمع نفسه، فلو كان أصم لم يكف.
والولاء بين كلمات كل من الخطبتين، وبينهما وبين الصلاة اتباعاً للسنة، فلا يجوز الفصل الطويل بين الخطبة والصلاة، كما قال الحنفية.
__________
(1) مغني المحتاج: 285/1-287، 111/1، المهذب: 111/1، الحضرمية: ص80.(2/444)
وطهارة الحدثين وطهارة النجس في الثوب والبدن والمكان، وستر العورة، اتباعاً للسنة؛ لأن الخطبة قائمة مقام الركعتين، فتكون بمنزلة الصلاة، حتى يشترط لها دخول الوقت، فيشترط لها سائر شروط الصلاة من ستر العورة وطهارة الثوب والبدن والمكان.
وأن تقع الخطبتان في مكان تصح فيه الجمعة، وأن يكون الخطيب ذكراً، وأن تصح إمامته بالقوم، وأن يعتقد العالم الركن ركناً والسنة سنة، وغير العالم ألا يعتقد الفرض سنة.
وقال الحنابلة (1) :
يشترط للجمعة أن يتقدمها خطبتان، للأدلة السابقة، وهما بدل ركعتين لما تقدم عن عمر وعائشة، ولا يقال: إنهما بدل ركعتين من الظهر؛ لأن الجمعة ليست بدلاً عن الظهر، بل الظهر بدل عنها إذا فاتت.
ويشترط لصحة كل من الخطبتين ما يأتي: حمد الله بلفظ: الحمد لله، فلا يجزئ غيره، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» (2) أي أقطع، وعن ابن مسعود قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تشهد قال: الحمد لله» (3) .
والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان. ولا يجب السلام عليه مع الصلاة عليهصلّى الله عليه وسلم.
وقراءة آية كاملة لقول جابر: «كان صلّى الله عليه وسلم يقرأ آيات، ويذكِّر الناس» (4) ، ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، والخطبة فرض، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، ولا تتعين آية، وإنما يقرأ ما شاء، ولو قرأ: {ثم نظر} [المدثر:21/74] ، و {مدهامتان} [الرحمن:64/55] لم يكف.
__________
(1) المغني: 302/2- 310، كشاف القناع: 34/2- 37، 40.
(2) رواه أبو داود، ورواه جماعة مرسلاً.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه مسلم.(2/445)
والوصية بتقوى الله تعالى؛ لأنه المقصود، ولا يتعين لفظها، وأقلها: اتقوا الله، وأطيعوا الله ونحوه، وهذه الشروط أو الأركان الأربعة متفقة مع الشافعية. وإن أراد الخطيب الدعاء لإنسان دعا، فالدعاء للمسلمين والمسلمات سنة، ولا بأس بالدعاء لمعين حتى السلطان والدعاء له مستحب في الجملة؛ لأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم، وكان أبو موسى يدعو لعمر وأبي بكر، كما قدمنا.
ولو اقتصر على (اطيعوا الله، واجتنبوا معاصيه) فالأظهر لا يكفي، والتسبيح والتهليل لا يسمى خطبة ولا بد من اسم الخطبة عرفاً. وتبطل الخطبة بكلام محرم في أثنائها ولو يسيراً، كما يبطل الأذان من باب أولى.
ويشترط في الخطبة اثنا عشر شرطاً هي ما يأتي: الشروط السابقة، والقيام لمن قدر، فإن قعد لعجز عن القيام أو لعذر من مرض، فلا بأس، كما تصح الصلاة من القاعد العاجز عن القيام، والراجح أن القيام سنة لا واجب.
والموالاة بين الخطبتين وبين أجزائها، وبين الصلاة، فلا يصح الفصل الطويل بين ما ذكر، فإن فصل بكلام طويل أو سكوت طويل نحوه، استؤنفت الخطبة.
والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة. وإن احتاج إلى الطهارة تطهر وبنى على خطبته ما لم يطل الفصل.
وتشترط النية، لحديث «إنما الأعمال بالنيات» فلو خطب بغير النية، لم يعتد بها عندهم وعند الحنفية، ولم يشترط المالكية النية، كما لم يشترطها الشافعية، وإنما اشترطوا عدم الصارف، فلو حمد الله للعطاس لم يكف للخطبة.
ورفع الصوت بحيث يسمع العدد المعتبر وهو أربعون، إن لم يعرض مانع من السماع، كنوم أوغفلة أو صمم بعضهم، فإن لم يسمعوا الخطبة لخفض صوت الخطيب أوبُعده عنهم، لم تصح الخطبة لعدم حصول المقصود بها. فإن كان عدم السماع لنوم أو غفلة أو مطر ونحوه كصمم وطرش أو كان أعاجم والخطيب سميع عربي، صحت الخطبة والصلاة.(2/446)
وأن تكون بالعربية، فلا تصح الخطبة بغير العربية مع القدرة عليها، كقراءة القرآن، فإنها لا تجزئ بغير العربية، وتصح الخطبة لا القراءة بغير العربية مع العجز عنها.
وإسماع العدد المعتبر للجمعة: وهو أربعون فأكثر، لسماع القدر الواجب؛ لأنه ذكْر اشترط للصلاة، فاشترط له العدد كتكبيرة الإحرام.
وأن تكون الخطبة في الوقت، وأن يكون الخطيب ممن تجب عليه الجمعة، فلا تجزئ خطبة عبد أو مسافر.
ولا تشترط للخطبتين الطهارة عن الحدثين: الأصغر والأكبر، ولا ستر العورة وإزالة النجاسة، وإنما السنة أن يخطب متطهراً مزيلاً النجاسة ساتر العورة، وقال ابن قدامة: والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة من الجنابة.
ولا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة؛ لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة، وإنما السنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتولاهما بنفسه، وكذلك خلفاؤه من بعده. وإن خطب رجل، وصلى آخر لعذر، جاز.
كما لا يشترط أن يتولى الخطبتين رجل واحد، لأن كلاً منهما منفصلة عن الأخرى، بل يستحب ذلك، خروجاً من الخلاف في كل ما ذكر.
ويستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (1) . فإن خطب جالساً لعذر فصل بين الخطبتين بسكتة.
ويسن أن يستقبل الخطيب الناس بوجهه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولأنه أبلغ في سماع الناس، وأعدل بينهم. ولو خالف هذا واستدبر الناس واستقبل القبلة، صحت الخطبة لحصول المقصود بدونه.
المطلب السادس ـ سنن الخطبة ومكروهاتها:
أما سنن الخطبة فهي عند الحنفية ثماني عشرة سنة، وهي ما يأتي، مع بيان آراء الفقهاء الآخرين (2) .
1 - الطهارة وستر العورة سنة عند الجمهور، شرط لصحة الخطبة عند الشافعية كما بينا، والطهارة من الجنابة شرط عند الحنابلة.
2 - كونها على منبر، بالاتفاق، اتباعاً للسنة كما روى الشيخان، ويسن أن يكون المنبر على يمين المحراب (أي مصلى الإمام) إذ هكذا وضع منبره صلّى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون بين المنبر والقبلة قدر ذراع أو ذراعين.
فإن لم يتيسر المنبر فعلى موضع مرتفع، لأنه أبلغ في الإعلام، فإن تعذر استند إلى نحو خشبة كما كان يفعل صلّى الله عليه وسلم قبل إيجاد المنبر، وكان النبي قد خطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم فالتزمه أو مسحه.
__________
(1) قال ابن عمر: «كان صلّى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس» متفق عليه.
(2) مراقي الفلاح: ص88 ومابعدها، البدائع: 263/1-265، فتح القدير: 421/1، الدر المختار: 758/1-760، 769-772، الشرح الصغير: 503/1، 505-510، القوانين الفقهية: ص81، بداية المجتهد: 152/1 ومابعدها، 158، المهذب: 112/1، مغني المحتاج: 288/1-290، الحضرمية: ص81، كشاف القناع: 38/2-41، 49-55، المغني: 295/2-300، حاشية الباجوري: 230/1، المجموع: 420/4-424.(2/447)
وكان منبره صلّى الله عليه وسلم ثلاث درجات غير درجة المستراح. ويستحب أن يقف على الدرجة التي تليها، كما كان يفعل النبي عليه السلام.
3 - الجلوس على المنبر قبل الشروع في الخطبة، عملاً بالسنة لحديث ابن عمر السابق عند أبي داود، وهو متفق عليه.
4 - استقبال القوم بوجهه دون التفات يميناً وشمالاً، سنة بالاتفاق، لما روى ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله الناس بوجوههم.(2/448)
5 - أن يسلم على الناس إذا صعد المنبر، اتباعاً للسنة، عند الشافعية والحنابلة، وحال خروجه للخطبة عند المالكية، لما روى ابن ماجه عن جابر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم» (1) ؛ لأنه استقبال للناس بعد استدبار في صعوده، أشبه من فارق قوماً، ثم عاد إليهم. ويجب رد السلام.
ولا يسلم على القوم عند الحنفية؛ لأنه يلجئهم إلى ما نهوا عنه من الكلام، والحديث الثاني غير مقبول.
6 - أن يؤذن مؤذن واحد، لا جماعة، بين يدي الخطيب، إذا جلس على المنبر، وهذا هو الأذان الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهذا متفق عليه، روى البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: «النداء يومَ الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثُر الناس زاد النداء الثالث على الزَّوراء (2) ، ولم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد» (3) .
7 - البداءة بحمد الله والثناء عليه، والشهادتين، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والعظة والتذكير، وقراءة آية من القرآن، وخطبتان، والجلوس بين الخطبتين. وإعادة الحمد والثناء، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم في ابتداء الخطبة الثانية، والدعاء فيها للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة لهم وإجراء النعم ودفع النقم، والنصر على الأعداء، والمعافاة من الأمراض والأدواء، والاستغفار.
وهذا كله سنة عند الحنفية، مندوب عند المالكية، ومنها أركان خمسة عند الشافعية، وهي شروط أربعة ما عدا الدعاء عند الحنابلة، بيناها.
__________
(1) ورواه الأثرم عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن الزبير، ورواه البخاري عن عثمان. لكن في إسناد حديث جابر: ابن لهيعة (نيل الأوطار: 261/3) .
(2) الزوراء: موضع بسوق المدينة، على المعتمد، وهذا النداء الثالث: هو في الواقع الأذان الأول على المنابر، وسمي ثالثاً باعتبار كونه مزيداً، ويسمى ثانياً باعتبار الأذان الحقيقي، وعبر عنه بالنداء الثالث، لأن الإقامة هي النداء الثاني.
(3) ورواه أيضاً النسائي وأبو داود (نيل الأوطار: 262/3) .(2/449)
وروي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً..} [الأحزاب:33/70] إلى قوله تعالى {فوزاً عظيماً} (1) [الأحزاب:33/71] ويندب عند المالكية ختم الخطبة الأولى بشيء من القرآن، وختم الثانية بقول: يغفر الله لنا ولكم. كما يندب الترضي على الصحابة، والدعاء لولي الأمر بالنصر على الأعداء وإعزاز الإسلام به.
وقال الشافعية: يسن أن يختم الخطبة الثانية بقوله: أستغفر الله لي ولكم.
8 - إسماع القوم الخطبة، ورفع الصوت بها: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية؛ لأنه أبلغ في الإعلام، روى مسلم عن جابر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله ... » .
9 - اعتماد الخطيب بيساره أثناء قيامه على نحو عصا أو سيف أو قوس: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على النبي صلّى الله عليه وسلم، فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف أو قوس أو عصا، مختصراً» (2) ، ولأنه أمكن له، فالاستناد إلى شيء يعطي قوة للخطيب. كما أنه يجعل يمناه على المنبر.
10- تقصير الخطبتين، وكون الثانية أقصر من الأولى: سنة عند الجمهور، مندوب عند المالكية، لما روى مسلم عن عمار مرفوعاً: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة فقهه، فأطيلوا الصلاة، وقصِّروا الخطبة» (3) .
ويسن أيضاً كون الخطبة بليغة مفهومة بلا تمطيط كالأذان، وأن يتعظ الخطيب بما يعظ به الناس، ليحصل الانتفاع بوعظه، ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} [الصف:2/61-3] (4) .
11 - الإنصات أثناء الخطبة: سنة عند الشافعية (5) للحاضرين، ويكره لهم الكلام فيها، وفي الجديد: لا يحرم عليهم الكلام، لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [الأعراف:204/7] ذكر كثير من المفسرين أنه ورد في الخطبة.
__________
(1) الأحزاب: 70.
(2) رواه أبو داود، وحقق ابن المقيم في زاد المعاد أن ذلك كان قبل اتخاذ المنبر.
(3) ورواه أحمد أيضاً. والمئنة: العلامة والمظنة (نيل الأوطار: 269/3) .
(4) وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: «عرض علي قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقيل لي: هؤلاء خطباء من أمتك يقولون ما لا يفعلون» .
(5) مغني المحتاج: 287/1 ومابعدها.(2/450)
وكراهة الكلام، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت» (1) وقوله عليه السلام: «ومن قال: صَهْ، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» (2) قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على سقوط فرض الوقت عنه. وروى أحمد عن ابن عباس حديثاً: «من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة» .
وعدم حرمه الكلام في الخطبة: للأخبار الدالة على جوازه، كخبر الصحيحين عن أنس: «بينما النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام أعرابي، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا» فلم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجوب السكوت، والحاضرون كلهم في ذلك سواء.
واستثنى الشافعية ومثلهم الحنابلة من الإنصات أموراً: منها إنذار أعمى من الوقوع في بئر، أو من دب إليه عقرب مثلاً، ويستحب أن يقتصر على الإشارة إن أغنت، ومنها: تحية المسجد للداخل بركعتين خفيفتين يقتصر فيهما على الواجبات، ومنها تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وحمد العاطس إذا عطس خفية، ومنها رد السلام، وإن كان البدء به للداخل مكروهاً، لأن رد السلام واجب، ومنها: الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند سماع ذكره.
__________
(1) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: 271/3) .
(2) رواه أحمد وأبو داود عن علي (المصدر السابق) .(2/451)
وأباح الحنابلة أيضاً: الكلام إذا شرع الخطيب في الدعاء؛ لأنه يكون قد فرغ من أركان الخطبة، والدعاء لا يجب الإنصات له، وأباحوا لمن بعد عن الخطيب ولم يسمعه الاشتغال بالقراءة والذكر والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم خفية، وفعله أفضل من سكوته لتحصيل الأجر، ويسجد للتلاوة لعموم الأدلة، وليس له الجهر بصوته، ولا إقراء القرآن، ولا المذاكرة في الفقه، لئلا يشتغل غيره عن الاستماع، ولا أن يصلي؛ لأنه يحرم ابتداء غير تحية مسجد بعد خروج الإمام، ولا أن يجلس في حلقة؛ لأنه يكره التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» (1) .
ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة عند المالكية والحنابلة، وبمجرد صعود الإمام المنبر عند أبي حنيفة (2) ، ويحرم الكلام عند المالكية والحنابلة من غير الخطيب، ولا يسلم ولا يرد السلام ولا يشمِّت العاطس عند المالكية، ويكره تحريماً عند الحنفية الكلام من قريب أو بعيد، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكل ما حرم في الصلاة حرم في الخطبة، فيحرم أكل وشرب وكلام ولو تسبيحاً أو أمراً بمعروف، بل يجب عليه أن يستمع ويسكت. وإشارة الأخرس المفهومة ككلام لقيامها مقامه في البيع وغيره.
ويباح الكلام قبل البدء في الخطبة وبعد الفراغ منها اتفاقاً، وفي أثناء الجلوس بين الخطبتين عند الحنابلة والشافعية وأبي يوسف، ويحرم في أثناء الجلوس المذكور عند المالكية ومحمد بن الحسن.
ويندب عند المالكية حمد الله تعالى سراً لعاطس حال الخطبة، ويجوز عندهم مع خلاف الأولى ذكر الله تعالى كتسبيح وتهليل سراً إذا قل، حال الخطبة، ومنع الكثير جهراً؛ لأنه يؤدي إلى ترك واجب، وهو الاستماع.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(2) البدائع: 264/1، الكتاب مع اللباب: 115/1، مراقي الفلاح: ص88، الشرح الكبير: 387/1، الشرح الصغير: 509/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 320/2-325، كشاف القناع:37/2.(2/452)
ولا يحرم الكلام على الخطيب، ولا على من سأله الخطيب، كأن يأمر إنساناً لغا أو خالف السنة أو ينهاه، فيقول: أنصت، أو لا تتكلم، أو لا تتخط أعناق الناس ونحو ذلك، وجاز للمأمور إجابته إظهاراً لعذره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «سأل سليكاً الداخل، وهو يخطب: أصليت؟ قال: لا» (1) وعن ابن عمر: «أن عمر بينا هو يخطب يوم الجمعة، إذ دخل رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أية ساعة هذه قال: إني شغلت اليوم، فلم أتقلب إلى أهلي، حتى سمعت النداء، فلم أزد على أن توضأت، قال عمر: الوضوء أيضاً؟! وقد علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل» (2) ،ولأن تحريم الكلام علته الاشتغال عن الإنصات الواجب وسماع الخطبة، ولا يحصل ههنا. وكذلك من كلم الإمام لحاجة، أو سأله عن مسألة، بدليل الخبر المذكور.
__________
(1) رواه مسلم، وروي في موضوعه عن جابر (نيل الأوطار: 256/3) .
(2) متفق عليه.(2/453)
الترقية بين يدي الخطيب:
وهي قراءة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب:56/33] وإيراد الحديث المتفق عليه: «إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت» . وحكمها أنها بدعة لحدوثها بعد الصدر الأول، قيل: لكنها حسنة لما فيها من التذكير بمضمون الحديث والآية، غير أنها مكروهة تحريماً عند أبي حنيفة لحرمة أي كلام بعد صعود الإمام المنبر، وجائزة عند الصاحبين، وبدعة مكروهة عند المالكية إلا إذا شرطها الواقف في كتاب وقفه، وقال الشافعية: هي بدعة حسنة فيها تذكير بخير، وأجاز الحنابلة الكلام قبل الخطبة وفي الجلوس بين الخطبتين.
21 - تحية المسجد للداخل والإمام يخطب: سنة عند الشافعية والحنابلة (1) لما روى جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس، فقال: «وصليت يا فلان؟» قال: لا، قال: «قم فاركع» وفي رواية: «فصل ركعتين» (2) وقال صلّى الله عليه وسلم في رواية: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، فليصل ركعتين» (3) وماعدا التحية تحرم الصلاة بمجرد صعود الخطيب المنبر، حتى وإن لم يباشر بالخطبة.
وقال أبو حنيفة ومالك (4) : إذا خرج الإمام إلى المنبر فلا صلاة ولا كلام، فلا تصلى تحية المسجد وتكره، وإنما يجلس الداخل ولا يركع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس: «اجلس، قد آذيت» (5) وأجاز المالكية التحية لداخل يقتدى به من عالم أو سلطان أو إمام، لا لغيرهم.
13 - نزول الإمام عن المنبر: قال الشافعية: يبادر الخطيب بالنزول عن المنبر ليبلغ المحراب، مع فراغ المؤذن من الإقامة، مبالغة في تحقيق الموالاة ما أمكن بين الخطبة والصلاة.
__________
(1) المجموع: 427/4 ومابعدها، المهذب: 115/1، المغني: 319/2.
(2) متفق عليه، بل رواه الجماعة، وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي سعيد الخدري مثله (نيل الأوطار: 255/3) .
(3) رواه مسلم بلفظه، والبخاري بمعناه عن جابر، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما» (نيل الأوطار: 256/3) .
(4) اللباب: 115/1، مراقي الفلاح: ص88 ومابعدها، رد المحتار: 769/1، القوانين الفقهية: ص81، بداية المجتهد: 158/1.
(5) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأحمد عن عبد الله بن بسر، وزاد أحمد: «وآنيت» أي أبطأت وتأخرت (نيل الأوطار: 252/3) .(2/454)
وقال الحنابلة: إذا فرغ الإمام من الخطبة، نزل عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، كما يقوم إلى الصلاة عندهم غير الخطيب حينئذ. ويستحب أن يكون حال صعود الخطيب على تؤدة، وإذا نزل يكون مسرعاً من غير عجلة، مبالغة في الموالاة بين الخطبتين والصلاة.
والجمهور غير الشافعية الذين لم يشترطوا الطهارة في الخطبتين، جعلوها سنة.(2/455)
مكروهات الخطبة:
مكروهات الخطبة عند الحنفية والمالكية: هي ترك سنة من السنن المتقدمة، ومن أهمها تطويل الخطبة وترك الطهارة، فكلاهما مكروه، ومنها عند الحنفية: أن يسلم الخطيب على القوم إذا استوى على المنبر.
ويكره باتفاق العلماء تخطي الرقاب (1) أثناء الخطبة لغير الإمام ولغير فرجة؛ لأنه يؤذي الجالسين، ولنهي النبي صلّى الله عليه وسلم عنه في حديث عبد الله بن بُسْر المتقدم: «اجلس فقد آذيت» (2) والكراهة تحريمية عند الحنفية والشافعية على المختار، ويجوز إن كان هناك فُرْجة لتقصير القوم بإخلاء فرجة، مع كونه خلاف الأولى عند المالكية، وكراهة التخطي عند الشافعية والحنابلة مطلقة، سواء أكان قبل الخطبة أم أثناءها، لأن العلة هي إيذاء الجالسين، ويكره التخطي عند المالكية قبل جلوس الخطيب على المنبر لغير فرجة، لأنه يؤذي الجالسين، ولكنهم أجازوا التخطي بعد الخطبة للصلاة، وقبل الصلاة لفرجةأو غيرها، كما أجازوا مع غيرهم المشي بين الصفوف مطلقاً ولو حال الخطبة؛ لأنه ليس من التخطي.
وأجاز الحنابلة التخطي لفرجة لمن عادته الصلاة في موضع، كذلك أجاز الشافعية التخطي لفرجة، وأضافوا أنه يجوز التخطي إذا كان المتخطي ممن لا يتأذى به كرجل صالح أو عظيم، أو كانت الصفوف الأولى ممن لا تنعقد بهم الجمعة كالصبيان، فيجب التخطي في هذه الحالة.
وقال الحنفية: لا بأس بالتخطي بشرطين: الأول ـ ألا يؤذي أحداً به بأن يطأ ثوبه أو يمس جسده، والثاني ـ أن يكون ذلك قبل شروع الإمام في الخطبة، وإلا كره تحريماً، إلا إذا كان التخطي لضرورة كأن لم يجد مكاناً إلا بالتخطي. فلا بأس بالتخطي عندهم ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ولم يؤذ أحداً.
وليس ترك السنن المتقدمة عند الشافعية والحنابلة مكروهاً على إطلاقه، بل منه ما هو مكروه، ومنه ما هو خلاف الأولى.
__________
(1) التخطي: أن يرفع رجله ويخطى بها كتف الجالس.
(2) وروى أحمد أيضاً عن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي: «الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام، كالجارّ قُصْبه (أي أمعاءه) في النار» (نيل الأوطار: 252/3) .(2/456)
فمن المكروه في الخطبة عند الشافعية: أن يتكلم سامعها أثناءها، وأن يؤذّن جماعة بين يدي الخطيب وهو مكروه أيضاً عند الحنابلة، وأن يلتفت الإمام في الخطبة الثانية، وأن يشير بيده أو غيرها، وأن يدق درج المنبر. ويكره الاحتباء (1) للحاضرين في الخطبة، لما صح من النهي عنه (2) ، ولأنه يجلب النوم.
ومن خلاف الأولى عند الشافعية: أن يغمض السامع والإمام عينيه لغير حاجة حال الخطبة. ومن نعس سن انتقاله من مكانه إن لم يتخط أحداً في انتقاله، لحديث الترمذي وصححه وأبي داود: «إذا نعس أحدكم في مجلسه، فليتحول إلى غيره» فالسنة مطاردة النعاس ومغالبته.
ومن المكروه عند الحنابلة (3) : استدبار الخطيب القوم حال الخطبة، ورفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وفاقاً للمالكية والشافعية وغيرهم.
وأجاز الحنابلة الاحتباء مع ستر العورة، لأنه فعله جماعة من الصحابة، وضعّفوا حديث النهي عنه، كما أجازوا القرفصاء: وهي الجلوس على أليتيه رافعاً ركبتيه إلى صدره، مفضياً بأخمص قدميه إلى الأرض. وكان الإمام أحمد يقصد هذه الجلسة، ولا جلسة أخشع منها.
__________
(1) الاحتباء: الجلوس على الأليتين، وضم الفخدين والساقين إلى البطن بالذراعين ليستند.
(2) رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه عن سهل بن معاذ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة، والإمام يخطب» .
(3) المغني: 326/2، كشاف القناع: 379/1، 40/2 ومابعدها.(2/457)
ويكره عند الحنابلة والشافعية التشبيك في المساجد، ومن حين يخرج المصلي من بيته قاصداً المسجد، لخبر أبي سعيد أنه صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يشبكنَّ، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ماكان في المسجد حتى يخرج منه» (1) قال بعض العلماء: إذا كان ينتظر الصلاة، جمعاً بين الأخبار، فإنه ورد أنه «لما انفتل صلّى الله عليه وسلم من الصلاة التي سلم قبل إتمامها، شبك بين أصابعه» .
وأما كراهةالتشبيك أثناء الذهاب للمسجد: فلحديث كعب بن عُجرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبِّك بين أصابعه، فإنه في صلاة» (2) .
ويكره العبث حال الخطبة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من مس الحصى فقد لغا» (3) ، ويكره الشرب مالم يشتد عطشه.
التصدق وقت الخطبة:
قال الحنفية (4) : يكره تحريماً التخطي للسؤال بكل حال. واختاربعض الحنفية: جواز السؤال والإعطاء إن كان لا يمر السائل بين يدي المصلي، ولا يتخطى الرقاب، ولا يسأل إلحافاً.
وكذلك قال الحنابلة (5) وغيرهم: ولا يتصدق على سائل وقت الخطبة؛ لأن السائل فعل ما لا يجوز له فعله، فلا يعينه المرء على مالا يجوز، قال أحمد: وإن حصب السائل كان أعجب إلي؛ لأن ابن عمر فعل ذلك لسائل سأل، والإمام يخطب يوم الجمعة، ولا ينال السائل الصدقة حال الخطبة؛ لأنه إعانة على محرم.
فإن سأل أحد الصدقة قبل الخطبة، ثم جلس للخطبة، جاز التصدق عليه ومناولته الصدقة.
وأجاز الحنابلة الصدقة حال الخطبة على من لم يسأل، وعلى من سألها الإمام له.
والصدقة على باب المسجد عند الدخول والخروج أولى من الصدقة حال الخطبة.
__________
(1) رواه أحمد، ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، وهو حديث حسن، وصححه الترمذي.
(4) الدر المختار: 772/1.
(5) كشاف القناع: 53/2 ومابعدها، المغني: 326/2.(2/458)
المطلب السابع ـ سنن الجمعة ومكروهاتها:
يسن لصلاة الجمعة ما يأتي (1) :
1ً - الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب لمن يأتي الجمعة: سنة عند الجمهور، مستحب عند المالكية، لحديث أبي هريرة السابق في التبكير إلى الجمعة: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بَدَنة..» ولخبر البيهقي بسند صحيح: «من أتى الجمعة من الرجال والنساء، فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل» . وقد سبق ذكر حديثين في الأغسال المسنونة وهما: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» والوجوب محمول على السنية، للحديث الثاني: «من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» . وروى البخاري ومسلم: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» .
ووقت الغسل من فجر الجمعة إلى الزوال، وتقريبه من ذهابه للصلاة أفضل؛ لأنه أبلغ في المقصود من انتفاء الرائحة الكريهة، ويشترط عند المالكية: اتصاله بالرواح إلى المسجد، ولا يضر الفصل اليسير، فإن فصل كثيراً أو تغذى خارج المسجد، أو نام خارجه اختياراً أو اضطراراً، أعاده لبطلانه فلا يجزئ الغسل عندهم قبل الفجر، ولا غير متصل بالرواح. ويفتقر الغسل إلى النية؛ لأنه عبادة محضة، فاحتاج إلى النية كتجديد الوضوء، فإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلاً واحداً، ونواهما، أجزأه بلا خلاف. والغسل سنة مؤكدة.
__________
(1) البدائع: 269/1 ومابعدها، الدر المختار: 772/1، الشرح الصغير: 503/1-509، بداية المجتهد: 158/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص81، مغني المحتاج: 290/1-295، حاشية الباجوري: 228/1-230، المهذب: 113/1 ومابعدها، كشاف القناع: 46/2-53، المغني:350/2-355،365 ومابعدها(2/459)
وأما التطيب ولبس أحسن الثياب أو التجمل فلحديث: «من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن الثياب ثم خرج وعليه السكينة، حتى يأتي المسجد، فيركع إن بَدَا له ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج إمامه، حتى يصلي، كانت له كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» (1) والمندوب لبس الأبيض يوم الجمعة، فالثياب البيض أفضل الثياب لحديث «البسوا الثياب البيض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم» (2) .
2ً - التبكير للجمعة ماشياً بسكينة ووقار والاقتراب من الإمام. والاشتغال في طريقه بقراءة أو ذكر؛ لما ثبت في السنة، كحديث أبي هريرة السابق، وخبر: «من غَسَل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» (3) .
وقال المالكية: الذهاب للجمعة وقت الهاجرة، وتبتدئ بقدر ساعة قبل الزوال. وفي حديث آخر مفاده أن الاقتراب من الإمام مطلوب: «احضروا الذِّكْر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد، حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها (4) » والمشي بالسكينة، لحديث الصحيحين: «إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة يجوز الركوب لعذر في الذهاب والإياب.»
والاشتغال بالقراءة أو الذِّكر: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث، وإن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه» (5) فدل أن شأن المصلي الاشتغال بالقراءة والذكر. والتبكير للجمعة سنة لغير الإمام، أما هو فلا يسن له التبكير......
__________
(1) رواه أحمد عن أبي أيوب رضي الله عنه (نيل الأوطار: 236/3.
(2) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم عن سمرة، وهو صحيح حسن.
(3) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه وأبو داود وابن ماجه. وقوله غسل: يجوز بالتشديد والتخفيف أرجح، والمراد: غسل ثيابه ورأسه ثم اغتسل، أو غسل زوجته بأن جامعها فألجأها إلى الغسل ثم اغتسل، كما هو السنة عند الحنابلة في يوم الجمعة، أو غسل أعضاء الوضوء بأن توضأ ثم اغتسل.
(4) رواه أبو داود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(5) رواه الشيخان.(2/460)
3ً - تنظيف الجسد وتحسين الهيئة قبل الصلاة: بتقليم الأظفاروقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة ونحو ذلك كإزالة الرائحة الكريهة بالسواك للفم وغيره من مواطن الرائحة في الجسم. ويسن للإمام أن يزيد في حسن الهيئة والعِمَّة والارتداء، اتباعاً للسنة، ولأنه منظور إليه.
وكما يسن أخذ الظفر إن طال يوم الجمعة، يسن أيضاً يوم الخميس، ويوم الاثنين، دون بقية الأيام.
ودليل كون التحسين يوم الجمعة ما روى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يأخذ أظفاره وشاربه كل جمعة» .
وقال الحنفية (1) : الأفضل حلق الشعر وقلم الظفر بعدها أي بعد الجمعة، ويكره ذلك في يوم الجمعة قبل الصلاة، لما فيه من معنى الحج، والحلق ونحوه قبل الحج غير مشروع.
4ً - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها: لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (2) وفي رواية: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أو ليلتها، وقي فتنة الدجال» وقراءتها نهاراًآكد، والحكمة من قراءتها: أن الساعة تقوم يوم الجمعة، كما ثبت في صحيح مسلم، والجمعة مشبهة بها لما فيها من اجتماع الخلق، وفي الكهف ذكر أهوال القيامة.
5ً - الإكثار من الدعاء يومها وليلتها: أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة؛ «لأنه صلّى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقللها» (3) وفي رواية لمسلم: «وهي ساعة خفيفة» والصواب في ساعة الإجابة ـ كما بينا ـ ما ثبت في صحيح مسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: هي ما بين أن يجلس الإمام، إلى أن يقضي الصلاة» .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 772/1،788.
(2) رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وروى الدرامي والبيهقي: «من قرأها ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» وفي بعض الطرق: «غفر له إلى الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام، وصلى عليه ألف ملك، حتى يصبح وعوفي من الداء، وذات الجنب والبرص والجذام وفتنة الدجال» .
(3) رواه الشيخان، وذكر في رواية: وهو قائم يصلي، والمراد بالصلاة: انتظارها، وبالقيام: الملازمة.(2/461)
6ً -الإكثار من الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومها وليلتها: لخبر: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» (1) وخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فمن صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً» (2) .
وصيغة الصلاة أن يقول: (اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي) أو (اللهم صل على محمد، كلما ذكرك الذاكرون، وصل على محمد وعلى آل محمد، كلما غفل عن ذكره الغافلون) .
7ً - يقرأ الإمام جهراً بعد الفاتحة في الركعة الأولى «الجمعة» وفي الثانية «المنافقون» اتباعاً للسنة ـ رواه مسلم. وروي أيضاً أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة: سبح اسم ربك الأعلى، و: «هل أتاك حديث الغاشية» .
8ً - قراءة: الم. السجدة، و: هل أتى على الإنسان: سنة في صلاة الصبح يوم الجمعة: لما روى ابن عباس وأبو هريرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: الم. تنزيل و: هل أتى على الإنسان حين من الدهر» (3) ولا تستحب المداومة عليها؛ لأن لفظ الخبر يدل عليها، وخشية ظن افتراضها.
9ً - صلاة أربع ركعات قبل الجمعة، وأربع بعدها، كالظهر مستحب عند الجمهور: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يركع من قبل الجمعة أربعاً» (4) وكان الصحابة يصلون قبل الجمعة أربع ركعات، وكان ابن مسعود يصلي قبل الجمعة أربع ركعات، وبعدها أربع ركعات (5) .
__________
(1) رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة.
(2) رواه البيهقي بإسناد جيد.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه ابن ماجه.
(5) رواه سعيد بن منصور.(2/462)
وروى الجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم ركعتين» (1) . وأكثر السنة بعدها ست ركعات لقول ابن عمر: «كان صلّى الله عليه وسلم يفعله» (2) ، أو أربع ركعات لما رواه مسلم عن أبي هريرة. والتنفل قبل الجمعة ما لم يخرج الإمام إلى المنبر إلا تحية المسجد، لما رواه أحمد عن نبيشة الهذلي عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد، لا يؤذي أحداً، فإن لم يجد الإمام خرج، صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج، جلس، فاستمع وأنصت، حتى يقضي الإمام جمعته، إن لم يُغفر له في جمعته تلك ذنوبُه كلها: أن تكون كفارة للجمعة التي تليها» .
وقال المالكية (3) : يكره التنفل عند الأذان الأول، لا قبله، لجالس في المسجد، لا داخل يقتدي به من عالم أو سلطان أو إمام، لا لغيرهم، خوف اعتقاد العامة وجوبه. ويكره التنفل بعد صلاة الجمعة أيضاً إلى أن ينصرف الناس.
ويسن لمن صلى السنة: أن يصليها عند الحنابلة في مكانه في المسجد، وأن يفصل عند الشافعية والحنابلة بينها وبين الجمعة بكلام أو انتقال من مكانه، أوخروج إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد، قال: «صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلَّم الإمام قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعُد لما فعلت، إذا صليت الجمعة، فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج» قال الشافعية (4) : يسن ألا يصل صلاة الجمعة بصلاة، للاتباع، ورواه مسلم، ويكفي الفصل بينهما بكلام أو تحول أو نحوه.
__________
(1) رواه أبو داود من حديث ابن عمر. وروى الجماعة عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته (نيل الأوطار: 280/3) .
(2) رواه أبو داود.
(3) الشرح الصغير: 511/1.
(4) مغني المحتاج: 295/1.(2/463)
10ً - قراءة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين بعد الجمعة: روى ابن السني من حديث أنس مرفوعاً: «من قرأ إذا سلم الإمام يوم الجمعة قبل أن يثني رجليه فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، والمعوذتين سبعاً، غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وأعطي من الأجر بعدد من آمن بالله ورسوله» .
11ً - يستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول عن موضعه، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه، فليتحول إلى غيره» (1) .
مكروهات الجمعة:
يكره يوم الجمعة ما يأتي بالإضافة لمكروهات الخطبة السابقة:
1ً - قال الحنفية (2) : يكره تحريماً صلاة الظهر يوم الجمعة بجماعة، في مكان إقامة الجمعة وهو المصر، في سجن أو غير سجن، كما روي عن علي رضي الله عنه.
2ً - وقال الحنفية أيضاً: يكره تحريماً البيع والشراء يوم الجمعة إذا صعد الإمام المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع} [الجمعة:62/9] ، والأمر بترك البيع يكون نهياً عن مباشرته، وأدنى درجات النهي الكراهة.
3ً - يكره التخطي باتفاق العلماء، على التفصيل المذكور في مكروهات الخطبة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو مسعود أحمد بن الفرات في سننه.
(2) البدائع: 270/1.(2/464)
4ً - يحرم أن يقيم إنساناً من مكانه، ويجلس فيه (1) ، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل ـ يعني أخاه ـ من مقعده، ويجلس فيه» (2) ، ولأن المسجد بيت الله، والناس فيه سواء، قال الله تعالى: {سواء العاكف فيه، والباد} [الحج:25/22] ، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» (3) .
وإن وجد مصلىً مفروشاً في موضع، فليس لغيره عند الحنابلة على الراجح رفعه؛ لأنه كالنائب عنه، ولما فيه من الافتيات على صاحبه، والتصرف في غير ملكه بغير إذنه، ولأنه ربما أفضى إلى الخصومة، ولأنه سبق إليه، فكان كمتحجر الموات، وذلك ما لم تحضر الصلاة، فله حينئذ رفعه والصلاة مكانه؛ لأنه لا حرمة له بنفسه، وإنما الحرمة لصاحبه، ولم يحضر. ويكره الجلوس والصلاة عليه.
5ً - قال المالكية (4) : يكره ترك العمل يوم الجمعة لأجله، لما فيه من التشبه باليهود والنصارى في السبت والأحد. ويحرم السلام من داخل أو جالس على أحد، ويحرم رد السلام ولو بالإشارة، وتشميت عاطس والرد عليه، ونهي لاغ أو إشارة له بأن ينكف عن اللغو.
السجود على الظهر ونحوه في الزحمة:
قال الحنفية والشافعية والحنابلة (5) : متى قدر المزحوم على السجود على ظهر
__________
(1) كشاف القناع: 49/2 ومابعدها، المغني: 351/2 ومابعدها.
(2) متفق عليه، ولفظ مسلم: «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم ليخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا» .
(3) رواه أبو داود.
(4) الشرح الصغير: 511/1-513.
(5) مغني المحتاج: 298/1 ومابعدها، المهذب: 115/1، المغني: 313/2 ومابعدها، كشاف القناع: 32/2.(2/465)
إنسان أو قدميه، لزمه ذلك وأجزأه، لما روي عن عمر: «إذا اشتد الزحام، فليسجد على ظهر أخيه» (1) ، ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز، فصح، كالمريض يسجد على المِرْفقة.
ولا يحتاج هنا إلى إذنه؛ لأن الأمر فيه يسير.
وقال المالكية: لا يفعل، وتبطل الصلاة، إن فعل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم «ومكِّن جبهتك من الأرض» .
المطلب الثامن ـ مفسدات الجمعة:
تفسد الجمعة بما تفسد به سائر الصلوات الأخرى، ويضاف إليها مفسدات أخرى خاصة بها هي ما يلي (2) :
1 - خروج وقت الظهر في خلال الصلاة عند الجمهور، وقال المالكية لاتفسد؛ لأن الجمعة كغيرها فرض مؤقت بوقت، وهو وقت الظهر، وخروج الوقت لا يفسد.
وكذا تفسد عند أبي حنيفة بخروج الوقت بعدما قعد قدر التشهد، ولا تفسد عند الصاحبين.
2 - فوت الجماعة الجمعة قبل أن يقيد الإمام الركعة بالسجدة، بأن نفر الناس عنه عند أبي حنيفة. وعند الصاحبين: لا تفسد. أما فوت الجماعة أي انفضاضها بعد تقييد الركعة بالسجدة، فلا تفسد باتفاق أبي حنيفة وصاحبيه.
فإن فسدت الجمعة بسبب خروج الوقت أو بفوت الجماعة، تصلى ظهراً.
وإن فسدت بما تفسد به عامة الصلوات من الحدث العمد والكلام وغير ذلك، تصلى جمعة عند وجود شرائطها.
__________
(1) رواه البيهقي بإسناد صحيح، وسعيد بن منصور في سننه.
(2) البدائع: 269/1.(2/466)
المطلب التاسع ـ صلاة الظهر يوم الجمعة:
بالرغم من أن صلاة الجمعة هي الفريضة الأصلية، فإنه قد تصلى الظهر بدلاً عنها في حالات:
صلاتها بعد الجمعة، وصلاتها في المنزل قبل الجمعة بغير عذر، وصلاتها بجماعة من أصحاب الأعذار، وتعجيلها ممن لا تجب عليه الجمعة، وصلاة الظهر بسبب خروج الوقت، أو بسبب اختلال شرط من شرائط صحة الجمعة.
أولاً ـ صلاة الظهر بعد الجمعة:
إن كانت الجمعة في البلد موحدة، فهي صحيحة باتفاق الفقهاء، ولا تطلب الظهر من أحد، بل تحرم.
أما إن تعددت الجمع في أجزاء متعددة من كل بلد، كما هو المشاهد في عصرنا، فجمعة الجامع العتيق الذي صليت فيها أول جمعة هي الصحيحة عند المالكية، وعلى المصلين في الجوامع الأخرى أداء الظهر.
وجمعة الحاكم التي اشترك فيها هي الصحيحة عند الحنابلة، وعلى الجوامع الأخرى صلاة الظهر.
والجمعة السابقة براء تكبيرة الإحرام: هي المنعقدة عند الشافعية، وعلى أرباب الجمعات الأخرى صلاة الظهر، والظهر واجبة على من تأخر، أو في حالالعلم بسبق جمعة ولم تتعين، أو تعينت ونسيت، إن كان التعدد لغير حاجة، كما هو الغالب في المدن الإسلامية. وتستحب الظهر احتياطاً إن تعددت الجمع لحاجة. وهذا الافتراض يصعب ضبطه الآن بغير إحصاء شامل.
وتصح الجمعات كلها في البلد الواحد في المذهب الحنفي دفعاً للحرج، ويكره تحريماً صلاة الظهر بعد الجمعة بجماعة.(2/467)
وقد سبق بيان ذلك كله في شرط عدم تعدد الجمعة لغير حاجة. والحق أن الجمعة هي فرض الوقت الأصلي، وليس لمن اشترط عدم تعدد الجمع إلا الواقع العملي في صدر الإسلام، وهو لا يصلح دليلاً، وإن كان الأفضل وحدة الجمعة، ولمن شاء أن يصلي الظهر منفرداً فلا مانع، وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين، ولا يصح قياس حالة البلدان الكبرى وكثرة سكانها على حالة (المدينة) في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة، والخليفة خطيب المسلمين، ومنبره وسيلة إعلام لجميع المسلمين في شؤون الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى. وبما أن الجمعة كانت واحدة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، فلم يكن هناك مجال لإعادة صلاة الظهر بعد الجمعة، ولا مجال أيضاً على سبيل الإيجاب إقامة صلاة الظهربجماعة بعد الجمعة بسبب كون تعدد الجمعة في المدن الكبرى والقرى المتسعة لحاجة واضحة، فيبقى الأمر القرآني بأداء صلاة الجمعة هو الواجب فعله فقط دون غيره.
ثانياً ـ صلاة الظهر في المنزل يوم الجمعة بغير عذر:
قال الحنفية (1) : من صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، قبل صلاة الإمام، ولاعذر له، حرم ذلك، وجازت صلاته جوازاً موقوفاً: فإن بدا له، ولو بمعذرة على المذهب أن يحضر الجمعة، فتوجه إليها، والإمام إليها، والإمام فيها، ولم تُقَم بعد، بطلت صلاة الظهر، وصارت نفلاً عند أبي حنيفة بالسعي، وإن لم يدركها؛ لأن السعي إلى الجمعة من خصائص الجمعة، فينزل منزلتها في حق ارتفاض الظهر احتياطاً، بخلاف ما بعد الفراغ منها؛ لأنه ليس يسعى إليها.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 113/1 ومابعدها، البدائع: 257/1، الدر المختار: 764/1 ومابعدها، فتح القدير: 417/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص89.(2/468)
وقال الصاحبان: لا تبطل حتى يدخل مع الإمام؛ لأن السعي دون الظهر، فلا ينقضه بعد تمامه، والجمعة فوق الظهر، فينقضها، وصار كما لو توجه إلى الجمعة بعد فراغ الإمام.
واتفق أبو حنيفة وصاحباه على أن السعي إذا كان بعدما فرغ الإمام من الجمعة، لم يبطل ظهره اتفاقاً.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية في الجديد والحنابلة) (1) : لا تصح للمرء صلاته الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة إن ظن أنه يدركها؛ لأنها المفروضة عليه، فإن أدركها معه صلاها، وإن فاتته فعليه صلاة الظهر، وإن ظن أنه لا يدركها، انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى، ثم يصلي الظهر، والخلاصة: إنه إن صلى الظهر قبل الجمعة لا تصح وتجب عليه الجمعة، فإن كان بعد صلاة الجمعة أجزأه مع عصيانه.
ودليلهم: أنه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به، فلم تصح، كما لو صلى العصر مكان الظهر، ولا نزاع في أنه مخاطب بالجمعة، فسقطت عنه الظهر، كما لو كان بعيداً، ولا خلاف في أنه يأثم بتركه، وترك السعي إليها.
ثالثاً ـ صلاة الظهر جماعة من أصحاب الأعذار:
قال الحنفية (2) : يكره تحريماً أن يصلي المعذورون من مسافر ومسجون ومريض وغيرهم الظهر بجماعة يوم الجمعة في موطن إقامة الجمعة (في المصر) قبل الجمعة وبعدها؛ لما فيه من الإخلال بالجمعة، إذ هي جامعة للجماعات، وربما يتطرق غير المعذور إلى الاقتداء بهم، ولما فيه من صورة معارضة الجمعة بإقامة غيرها. أما أهل القرى ممن لا جمعة عليهم فلهم صلاة الظهر بجماعة، ويكره أيضاً لمن فاتتهم الجمعة من أهل المصر صلاة الظهر جماعة، وإنما يصلونها فرادى بغير جماعة ولا أذان ولا إقامة، ويستحب للمريض تأخير الظهر إلى فراغ الإمام، وكره إن لم يؤخر على الصحيح.
__________
(1) المغني: 342/2 ومابعدها، كشاف القناع:25/2 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص80، الشرح الصغير: 508/1
(2) فتح القدير: 419/1، الدر المختار: 766/1 ومابعدها.(2/469)
وقال الجمهور غير الحنفية (1) : يجوز لمن فاتتهم الجمعة لعذر أو لمن لا تجب عليه الجمعة أن يصلوها ظهراً في جماعة، تحصيلاً لثواب الجماعة المذكور في الحديث: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة» وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة، فصلى بعلقمة والأسود.
لكن قال المالكية: تكره صلاة الظهر جماعة يوم الجمعة لغير أرباب الأعذار الكثيرة الوقوع، والأولى الجماعة لأرباب الأعذار الكثيرة الوقوع.
ورأى الحنابلة أنه: لا يستحب إعادتها جماعة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه، وتكره أيضاً في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة؛ لأنه يؤدي إلى التهمة كالرغبة عن الجمعة، أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام، أو يعيد الصلاة معه فيه، وربما أفضى إلى فتنة أو لحوق ضرر به وبغيره، وإنما يصليها في منزله أو في موضع لاتحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه.
واتفق الجمهور مع الحنفية على أنه يستحب لمن يرجو زوال عذره أن يؤخر الظهر إلى اليأس عن إدراك الجمعة؛ لأنه قد يزول عذره، فإن زال عذره بعد الفراغ من الظهر كأن قدم من السفر، أو شفي من المرض، أو انفك من وثاقه، أعاد الجمعة إن أدركها. كذلك الصبي يعيد الجمعة إذا بلغ بعد أن صلى الظهر.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص 80، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي: 508/1، مغني المحتاج: 279/1، المهذب: 109/1، المغني: 344/2 ومابعدها، كشاف القناع: 26/2.(2/470)
رابعاً ـ تعجيل صلاة الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة:
قال أكثر أهل العلم (1) : من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة والمريض المزمن وسائر المعذورين، له أن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في الجمعة؛ لأنه لم يخاطب بالجمعة، فصحت منه الظهر، كما لو كان بعيداً من موضع الجمعة.
فإن صلاها، ثم سعى إلى الجمعة، لم تبطل ظهره عند الجمهور، وكانت الجمعة نفلاً في حقه، سواء زال عذره، أو لم يزل. وقال أبو حنيفة كما قال في الحالة الأولى: تبطل ظهره بالسعي إليها.
خامساً ـ صلاة الظهر بسبب خروج وقت الظهر:
إذا انتهى وقت الظهر أو ضاق عن الجمعة بأن لم يبق منه ما يسع الخطبة والركعتين، سقطت الجمعة، فلا تقضى جمعة باتفاق العلماء (2) ، وإنما تصلى ظهراً، لأن القضاء على حسب الأداء، والأداء فات بشرائط مخصوصة، يتعذر تحصيلها على فرد، فتسقط، بخلاف سائر المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها.
سادساً ـ صلاة الظهر بسبب اختلال شرط من شرائط الجمعة:
إذا لم يتوافر شرط من شرائط صحة الجمعة الأخرى غير دخول الوقت، كأن نقص عدد المصلين عن المطلوب، أو لم يدرك المسبوق ركعة مع الإمام عند الجمهور، أو أي جزء من الصلاة ولو سجود السهو عند الحنفية، أو لم يتوافر البنيان وغير ذلك، صلى الناس الظهر بدلاً عن الجمعة (3) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) البدائع: 269/1، مغني المحتاج: 279/1، المغني: 318/2، حاشية الباجوري: 223/1.
(3) البدائع: 269/1، مغني المحتاج: 279/1، المغني: 312/2،316،332 كشاف القناع: 31/2.(2/471)
المبحث الثالث ـ صلاة المسافر (القصر والجمع)
وفيه مطلبان: الأول ـ قصر الصلاة، مشروعيته، وسببه، وشروطه، حالة اقتداء المسافر بالمقيم وبالعكس، ما يمنع القصر، قضاء الصلاة الفائتة في السفر، وصلاة السنن في السفر.
الثاني ـ الجمع بين الصلاتين، أسبابه، وشروطه.
المطلب الأول ـ قصر الصلاة الرباعية:
أولاً ـ مشروعية القصر، وهل القصر عزيمة أو رخصة؟
القصر جائز بالقرآن والسنة والإجماع (1) .
أما القرآن: فقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء:101/4] والقصر جائز سواء في حالة الخوف أم الأمن، لكن تعليق القصر على الخوف في الآية، كان لتقرير الحالة الواقعة؛ لأن غالب أسفار النبي صلّى الله عليه وسلم لم تخل منه. قال يعلى بن أمية لعمر بن الخطاب: «ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» (2) .
وأما السنة: فقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقصر في أسفاره حاجاً ومعتمراً وغازياً محارباً، وقال ابن عمر: «صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك» (3) .
وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفراً تقصر في مثله الصلاة، سواء كان السفر واجباً كسفر الحج إلى المسجد الحرام والجهاد والهجرة والعمرة، أو مستحباً كالسفر لزيارة الإخوان، وعيادة المرضى، وزيارة أحد المسجدين: مسجد المدينة والأقصى، وزيارة الوالدين أو أحدهما، أو مباحاً كالسفر لنزهة أو فرجة أو تجارة، أو مكرهاً على السفر، كأسير أوزانٍ مغرَّب: وهو الزاني غير المحصن الذي ينفى سنة بعد الجلد، أو مكروهاً كسفر المنفرد بنفسه دون جماعة.
والقصر: هو اختصار الصلاة الرباعية إلى ركعتين.
والذي يقصر إجماعاً (4) : هو الصلاة الرباعية من ظهر وعصر وعشاء، دون الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قصر الفجر، بقي منه ركعة، ولا نظير لها في الفرض، وإذا قصر المغرب الذي هو وتر النهار، بطل كونه وتراً.
__________
(1) المغني: 254/2، كشاف القناع: 593/1 ومابعدها، مغين المحتاج: 262/1 ومابعدها.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه، وروي مثله في الصحيحين عن ابن مسعود، وأنس.
(4) كشاف القناع: 595/1، المغني: 267/2.(2/472)
روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين، إلا المغرب، فإنه وتر النهار، ثم زيدت في الحضر، وأقرت في السفر على ما كانت عليه» . وروى علي بن عاصم عن عائشة حديثاً يتضمن استثناء صلاة المغرب وصلاة الغداة (الصبح) وصلاة الجمعة من جواز القصر.
والأحكام المتعلقة بالسفر: هي القصر، والجمع، والمسح على الخف ثلاثة أيام، وإباحة الفطر في رمضان، وهذه الأربعة تختص بالسفر الطويل، وحرمة
خروج المرأة بغير محرم، وسقوط الجمعة والعيدين والأضحية، وإباحة أكل الميتة للمضطر، والصلاة على الراحلة، والتيمم وإسقاط الفرض به، وهذه متعلقة بالسفر القصير، إلا أن أكل الميتة والتيمم لا يختصان بالسفر (1) .
حكم القصر أو هل القصر رخصة أو عزيمة واجب؟
وبعبارة أخرى: هل المسافر ملزم شرعاً بالقصر، أم أنه مخير بينه وبين الإتمام، وأيهما أفضل: القصر أم الإتمام؟
تتردد أقوال الفقهاء المعتمدة بين آراء ثلاثة: إنه فرض، إنه سنة، إنه رخصة مخير فيها المسافر (2) .
قال الحنفية: القصر واجب ـ عزيمة، وفرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، لا تجوز له الزيادة عليهما عمداً، ويجب سجود السهو إن كان سهواً، فإن أتم الرباعية وصلى أربعاً، وقد قعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، أجزأته الركعتان عن فرضه، وكانت الركعتان الأخريان له نافلة، ويكون مسيئاً، وإن لم يقعد في الثانية مقدار التشهد، بطلت صلاته، لاختلاط النافلة بها قبل إكمالها.
ودليلهم أحاديث ثابتة، منها حديث عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر» (3) وحديث ابن عباس:
__________
(1) اللباب شرح الكتاب: 106/1، كشاف القناع: 608/1، مغني المحتاج: 275/1، المغني: 261/2 ومابعدها.
(2) الدر المختار: 735/1، مراقي الفلاح: ص72، الكتاب مع اللباب: 107/1، بداية المجتهد: 161/1، القوانين الفقهية: ص84، الشرح الكبير: 358/1، مغني المحتاج: 271/1، المهذب: 101/1، كشاف القناع: 601/1، المغني: 267/2-270.
(3) أخرجه الشيخان في الصحيحين، وفي لفظ: «فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، فأتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى» (نصب الراية: 188/2) .(2/473)
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة» (1) .
وقال المالكية على المشهور الراجح: القصر سنة مؤكدة؛ لفعل النبيصلّى الله عليه وسلم، فإنه لم يصح عنه في أسفاره أنه أتم الصلاة قط، كما في الحديث المتقدم عن ابن عمر وغيره.
وقال الشافعية والحنابلة: القصر رخصة على سبيل التخير، فللمسافر أن يتم أو يقصر، والقصر أفضل من الإتمام مطلقاً عند الحنابلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم داوم عليه، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده، وهو عند الشافعية على المشهور أفضل من الإتمام إذا وجد في نفسه كراهة القصر، أو إذا بلغ ثلاث مراحل عند الحنفية تقدر بـ 69 كم اتباعاً للسنة، وخروجاً من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة. لكن الصوم في السفر أفضل من الفطر إن لم يتضرر به لقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة:184/2] .
ودليلهم:
1ً - الآية السابقة: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء:101/4] ، وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص.
2ً - والحديث السابق عن عمر: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم، ورواه الطبراني بلفظ «افترض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركعتين في السفر، كما افترض في الحضر أربعاً» (نصب الراية: 189/2) .
(2) رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، وعن ابن مسعود بنحوه موقوفاً على الأصح، وذكره أحمد عن ابن مسعود بلفظ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» وهو ضعيف.(2/474)
3ً - وثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (1) .
4ً - وقالت عائشة: «خرجت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في عُمْرة في رمضان، فأفطر وصُمتُ، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي، أفطرتَ وصمتُ، وقصرتَ وأتممتُ، فقال: أحسنت ياعائشة» (2) .
يظهر من هذه الأدلة الأربعة أن القصر رخصة، وهو الراجح المتبادر للذهن.
ثانياً ـ سبب مشروعية القصر:
الحكمة من القصر: هو دفع المشقة والحرج الذي قد يتعرض له المسافر غالباً، والتيسير عليه في حقوق الله تعالى، والترغيب في أداء الفرائض، وعدم التنفير من القيام بالواجب، فلا يبقى لمقصر أو مهمل حجة أوذريعة في ترك فرض الصلاة.
وسبب مشروعية القصر: هو السفر الطويل، المباح عند الجمهور غير الحنفية. والكلام عن السفر المبيح للقصر الذي تتغير به الأحكام الشرعية يتطلب بحث أمور أربعة وهي: المسافة التي يجوز فيها القصر، نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة: المباح أم أي سفر، الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر (أول السفر) ، مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع.
__________
(1) قاله النووي في شرح مسلم، لكن ليس في صحيح مسلم قوله: «فمنهم القاصر ومنهم المتم» .
(2) رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن (نيل الأوطار: 3/202) .(2/475)
الموضوع الأول - المسافة التي يجوز فيها القصر:
اختلف الفقهاء في تقدير مسافة السفر التي يقصر فيها، فقال الحنفية (1) : أقل ما تقصر فيه الصلاة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها من أقصر أيام السنة في البلاد المعتدلة (2) ، بسير الإبل ومشي الأقدام، ولا يشترط سفر كل يوم إلى الليل، بل أن يسافر في كل يوم منها من الصباح إلى الزوال (الظهر) ، فالمعتبر هو السير الوسط مع الاستراحات العادية، فلو أسرع وقطع تلك المسافة من أقل من ذلك كما في وسائل المواصلات الحديثة، جاز له القصر. فإذا قصد الإنسان موضعاً بينه وبين مقصده مسيرة ثلاثة أيام، جاز له القصر، فإن لم يقصد موضعاً، وطاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة ثلاثة أيام لا يترخص بالقصر.
والتقدير بثلاث مراحل قريب من التقدير بثلاثة أيام؛ لأن المعتاد من السير في كل يوم مرحلة واحدة، خصوصاً في أقصر أيام السنة. ولا يصح القصر في أقل من هذه المسافة، كما لا يصح التقدير عندهم بالفراسخ (3) على المعتمد الصحيح، ودليلهم القياس على مدة المسح على الخف المقدرة بالسنة، وهي نص حديث: «يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» (4) .
والمعتبر في البحر والجبل: مايناسبه أو ما يليق بحاله لقطع المسافة، ففي البحر تعتبر تلك المسافة بحسب اعتدال الريح، لا ساكنة ولا عالية، وفي الجبل يعتبر السير فيه بثلاثة أيام ولياليها بحسب طبيعته، وإن كانت تلك المسافة في السهل تقطع بما دونها.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 732/1-735، فتح القدير: 392/1-394، اللباب:106/1، مراقي الفلاح: ص71.
(2) أي البلاد التي يمكن قطع المرحلة المذكورة في معظم اليوم من أقصر أيامها، فلا يرد أن أقصر أيام السنة في بلاد البلغار قد يكون ساعة أو أكثر أو أقل.
(3) الفرسخ: ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع.
(4) رواه ابن أبي شيبة عن علي (نصب الراية: 183/2) .(2/476)
ومجموع مدة الثلاثة الأيام بالساعات يختلف بحسب كل بلد، ففي مصر وما ساواها من العرض عشرون ساعة وربع، في كل يوم سبع ساعات إلا ربعاً، ومجموع الثلاثة الأيام في الشام عشرون ساعة إلا ثلث ساعة تقريباً في كل يوم ست ساعات وثلثي ساعة إلا درجة ونصفاً.
وقال الجمهور غير الحنفية (1) : السفر الطويل المبيح للقصر المقدر بالزمن: يومان معتدلان أو مرحلتان بسير الأثقال ودبيب الأقدام، أي سير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد من سير وحط وترحال وأكل وشرب وصلاة كالمسافة بين جدة ومكة أو الطائف ومكة أو من عُسفان إلى مكة، ويقدر بالمسافة ذهاباً: بأربعة بُر ُد أو ستة عشر فرسخاً، أو ثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً، والميل: ستة آلاف ذراع (2) ، كما ذكر الشافعية والحنابلة، وقال المالكية على الصحيح: الميل ثلاثة آلاف وخمس مئة ذراع، وتقدر بحوالي (89 كم) وعلى وجه الدقة:88.704 كم ثمان وثمانين كيلو وسبع مئة وأربعة أمتار، ويقصر حتى لو قطع تلك المسافة بساعة واحدة، كالسفر بالطائرة والسيارة ونحوها؛ لأنه صدق عليه أنه سافر أربعة برد.
والمسافة في البحر كالمسافة في البر.
ودليلهم: قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد، من مكة إلى عُسْفان» (3) وما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرُد، فما فوق، ولأن في هذا القدر تتكرر مشقة الشد والترحال، وفيما دونه لا تتكرر.
__________
(1) بداية المجتهد:162/1، الشرح الصغير: 474/1 ومابعدها، الشرح الكبير:358/1-361، المهذب:102/1، المغني: 255/2 ومابعدها، المجموع: 213/4 ومابعدها.
(2) الذراع: أربعة وعشرون أصبعاً كما ذكر الشافعية والحنابلة، أو 32 أصبعاً كما بينا في جدول المقاييس، والذراع: 2،46 سم، والإصبع: ست شعيرات معتدلات، وتساوي 925،1سم.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عباس، وروي موقوفاً على ابن عباس، قال الخطابي: هو أصح الروايتين عن ابن عمر. وقول الصحابي عند الحنابلة حجة، خصوصاً إذا خالف القياس.(2/477)
وهذه المسافة عند الشافعية محددة تماماً، فيضر نقص المسافة مهما قل. وهي تقريباً لا تحديداً عند الحنابلة والمالكية، فلا يضر عند الحنابلة نقصان المسافة عن هذا المقدار بشيء قليل كميل أو ميلين، ولا يضر عند المالكية نقصان ثمانية أميال.
واستثنى المالكية خلافاً لغيرهم (الجمهور) من هذه المسافة أهل مكة ومنى ومزدلفة والمُحَصَّب إذا خرجوا في الحج للوقوف بعرفة، فإنه عملاً بالسنة يسن لهم القصر في الذهاب والإياب إذا بقي عليهم شيء من أعمال الحج التي تؤدى في غير وطنهم، وإلا بأن وصلوا وطنهم أتموا الصلاة.
وناقش ابن قدامة (1) أدلة الجمهور: بأنه روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف المذكور، وأنه معارض لظاهر القرآن؛ لأن ظاهره إباحة القصر لكل من ضرب في الأرض بدون تحديد مسافة، وأنه مخالف لسنة النبي صلّى الله عليه وسلم، قال أنس: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين» (2) ،وقال ابن قدامة في نهاية نقاشه: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه.
__________
(1) المغني: 257/2 ومابعدها.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي أنه سأل أنساً.. والتردد بين الأميال والفرسخ شك من الراوي: شعبة (نيل الأوطار: 205/3) .(2/478)
الثاني ـ نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة:
قال الحنفية (1) : يجوز القصر في كل سفر، سواء أكان قربة أم مباحاً أم معصية، فيجوز القصر لقاطع الطريق ونحوه ممن كان عاصياً بسفره؛ لأن القبح المجاور لشيء مشروع لا يعدم المشروعية، والقبح المجاور: هو ما يقبل الانفكاك كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فإنه قبُح لترك السعي، وهو قابل للانفكاك، إذ قد يوجد ترك السعي للجمعة، بدون البيع، وبالعكس، فكذا السفر، فإنه يمكن قطع الطريق والسرقة مثلاً بلا سفر، وبالعكس. أما القبح لعينه كالكفر، أو القبح شرعاً كبيع الحر، فإنه يعدم المشروعية. ودليلهم بعبارة أخرى على أن العاصي والمطيع في سفرهما سواء في الرخصة: هو إطلاق النصوص وهو: {وإذا ضربتم في الأرض..} [النساء:101/4] ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر.
وقال الجمهور غير الحنفية (2) : لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثاً والصلاة على الراحلة تطوعاً في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطريق، والتجارة في الخمر والمحرمات، وهذا هو العاصي بسفره أي الذي أنشأ سفراً لأجل المعصية أو يقصد محلاً لفعل محرم، فلا يقصر الصلاة، ويحرم عليه القصر؛ لأن السفر سبب الرخصة، فلا تناط بالمعصية، فيكون المبدأ عندهم: (الرخص لا تناط بالمعاصي) حتى أكل الميتة، لقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه} [البقرة:173/2] ، أباح الأكل إن لم يكن عادياً ولا باغياً، فلا يباح لباغ ولاعاد، ولأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد
__________
(1) الدر المختار: 733/1، 736، تبيين الحقائق: 215/1 ومابعدها، فتح القدير: 405/1 ومابعدها.
(2) بداية المجتهد: 163/1، الشرح الصغير: 477/1، مغني المحتاج: 268/1، المهذب: 102/1، المغني: 261/2 ومابعدها، 597/8، كشاف القناع: 596/1،194/6.(2/479)
المباح توصلاً إلى المصلحة، فلو شرع ههنا، لشرع إعانة على المحرم، تحصيلاً للمفسدة، والشرع منزه عن هذا.
وذكر المالكية أنه يكره القصر للاهٍ بالسفر.
أما العاصي في السفر: وهو الذي قصد سفراً لغرض مشروع، لكنه ارتكب في أثناء السفر معصية كزنا أو سرقة أو غصب، أو قذف أو غيبة، فيجوز له الترخص من قصر وغيره؛ لأنه لم يقصد السفر لذلك أي للمعصية، وإنما لغرض مشروع، فهو كالمقيم العاصي.
قال النووي الشافعي: لو أنشأ امرؤ سفراً مباحاً ثم جعله معصية فلا ترخص في الأصح، ولو أنشأه عاصياً ثم تاب، فمنشئ للسفر من حين التوبة.
الثالث ـ الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ـ أول السفر:
لا تكفي نية السفر لقصر الصلاة قبل مباشرة السفر وتجاوز حدود البلد، بل لا بد من مباشرة السفر حتى يحق له القصر والفطر، وقد اتفق الفقهاء (1) على أن أول السفر الذي يجوز به القصر ونحوه: هو أن يخرج المسافر من بيوت البلد التي خرج منها ويجعلها وراء ظهره، أو يجاوز العمران من الجانب الذي خرج منه، وإن لم يجاوزها من جانب آخر؛ لأن الإقامة تتعلق بدخولها، فيتعلق السفر بالخروج عنها، لقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء:101/4] ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج. وسيأتي تفصيل المذاهب في هذا الموضوع.
ولا يُتم صلاته حتى يدخل أول بيوت البلد الذي يقصده للإقامة فيه.
ولا يزال المسافر على حكم السفر حتى ينوي الإقامة مدة معينة سنذكرها.
__________
(1) الكتاب مع اللباب: 107/1، مراقي الفلاح: ص71، فتح القدير: 396/1، بداية المجتهد: 163/1، الشرح الصغير: 476/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 263/1 ومابعدها، المهذب: 102/1، المغني: 259/2-261.(2/480)
الرابع ـ مقدار الزمان الذي يقصر فيه إذا أقام المسافر في موضع:
يظل للمسافر حق القصر ما لم ينو الإقامة في بلد مدة معينة، وقد اختلف الفقهاء على رأيين في تقدير هذه المدة (1) .
فقال الحنفية: يصير المسافر مقيماً، ويمتنع عليه القصر إذا نوى الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فإن نوى تلك المدة، لزمه الإتمام، وإن نوى أقل من ذلك قصر.
ودليلهم: القياس على مدة الطهر للمرأة؛ لأنهما مدتان موجبتان العودة إلى الأصل، فإن مدة الطهر توجب إعادة ما سقط بالحيض، والإقامة توجب إعادة ما سقط بالسفر، فكما قدر مدة الطهر بخمسة عشر يوماً، فكذلك يقدر أدنى مدة الإقامة. وهذا التقرير مأثور عن ابن عباس وابن عمر، قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر، وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوماً، فأكمل الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر.
وإن كان ينتظر قضاء حاجة معينة، له القصر ولو طال الترقب سنين، فمن دخل بلداً، ولم ينو أن يقيم فيه خمسة عشر يوماً، وإنما يترقب السفر، ويقول: أخرج غداً أو بعد غد مثلاً، حتى بقي على ذلك سنين، صلى ركعتين أي قصر؛ لأن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يقصر، وروي عن جماعة من الصحابة مثل ذلك.
وإذا دخل العسكر أرض الحرب، فنووا الإقامة بها خمسة عشر يوماً، أو حاصروا فيها مدينة أو حصناً، قصروا، ولم يتموا الصلاة، لعدم صحة النية؛ لأن الداخل قلق غير مستقر، فهو متردد بين أن يَهزِم العدو فيَقر، أو يُهزَم من عدوه فيفر. وهذا موافق لمذهب المالكية أيضاً.
__________
(1) فتح القدير مع العناية: 397/1 ومابعدها، اللباب: 107/1 ومابعدها، بداية المجتهد: 63/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 481/1، مغني المحتاج: 264/1 ومابعدها، المهذب: 103/1، كشاف القناع: 605/1، القوانين الفقهية: ص85، الشرح الكبير: 364/1.(2/481)
وقال المالكية والشافعية: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام بموضع، أتم صلاته؛ لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، والسنة بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر، ففي الصحيحين: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً» وأقام النبي صلّى الله عليه وسلم بمكة في عمرته ثلاثاً يقصر (1) .
وقدر المالكية المدة المذكورة بعشرين صلاة في مدة الإقامة، فإذا نقصت عن ذلك قصر.
ولم يحسب المالكية والشافعية يومي الدخول والخروج على الصحيح عند الشافعية؛ لأن في الأول حط الأمتعة، وفي الثاني الرحيل، وهما من أشغال السفر.
وقال الحنابلة: إذا نوى أكثر من أربعة أيام أو أكثر من عشرين صلاة، أتم، لحديث جابر وابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة ذي الحجة، فأقام بها أما حديث الصحيحين فهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم حرم الإقامة بمكة على المهاجرين، ثم رخص لهم أن يقيموا ثلاثة أيام (المجموع: 243/4) . الرابع والخامس والسادس، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقال أنس: «أقمنا بمكة عشراً نقصر الصلاة» (2) ، قال ابن حجر في الفتح: ولاشك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام، لا سواها، لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى بمنى.
ويحسب من المدة عند الحنابلة يوم الدخول والخروج.
فإن كان ينتظر قضاء حاجة يتوقعها كل وقت أو يرجونجاحها أو جهاد عدو أو على أهبة السفر يوماً فيوماً، جاز له القصر عند المالكية والحنابلة، مهما طالت المدة، ما لم ينو الإقامة، كما قرر الحنفية.
__________
(1) راجع نيل الأوطار: 207/3 ومابعدها.
(2) متفق عليهما (المصدر السابق) .(2/482)
وقال الشافعية: له القصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول والخروج؛ لأنهصلّى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن، يقصر الصلاة (1) .
ثالثاً ـ شروط القصر:
اشترط الفقهاء لصحة القصر الشروط الآتية (2) :
1 - أن يكون السفر طويلاً مقدراً بمسيرة مرحلتين أو يومين أو ستة عشر فرسخاً عند الجمهور، أو ثلاث مراحل أو ثلاثة أيام بلياليها عند الحنفية، على الخلاف السابق بيانه.
2 - أن يكون السفر مباحاً غير محرم أو محظور كالسفر للسرقة أو لقطع الطريق، ونحو ذلك، في رأي الجمهور غير الحنفية. فإن قصر المرء في سفر المعصية لا تنعقد صلاته عند الشافعية والحنابلة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه كمن صلى وهو يعتقد أنه محدث، ويصح القصر مع الإثم عند المالكية.
ولا يقصر عند الحنابلة لسفر مكروه، ويقصر عند المالكية والشافعية.
ويرى الحنفية: أنه يجوز القصر في السفر المحرم والمكروه والمباح كما بينا ويقصر لسفر التجارة والتنزه والتفرج، ولزيارة المساجد والآثار، والقبور، وهو الصحيح عند الحنابلة في زيارة القبور.
3 - مجاوزة العمران من موضع إقامته: كما بينا، وللفقهاء تفريعات في توضيح هذا الشرط.
__________
(2) رواه أبو داود عن عمران بن حصين، والترمذي وحسنه، وإن كان في سنده ضعيف؛ لأن له شواهد تجبره كما قال ابن حجر. ورويت روايات أخرى أصحها أنها تسعة عشر، كما قال البيهقي، وقدمت رواية الثمانية عشر على التسعة عشر مع كونها أصح، لأن الأولى عن عمران سليمة من الاضطراب، والأخرى عن ابن عباس مضطربة، ففيها تسعة عشر، وسبعة عشر.
(3) تبيين الحقائق: 209/1-216، القوانين الفقهية: ص84-85، الشرح الصغير: 486/1، مغني المحتاج: 266/1-271، المهذب: 101/1-103، الحضرمية: ص76 ومابعدها، كشاف القناع: 593/1-603، مراقي الفلاح: ص71.(2/483)
فقال الحنفية (1) : أن يجاوز بيوت البلد التي يقيم فيها من الجهة التي خرج منها، وإن لم يجاوزها من جانب آخر. وأن يجاوز كل البيوت ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من البلد، وأن يجاوز ما حول البلد من مساكن، والقرى المتصلة بالبلد. ويشترط أن يجاوز الساحة (الفناء) المتصلة بموضع إقامته: وهو المكان المعد لصالح السكان كركض الدواب ودفن الموتى وإلقاء التراب.
ولا يشترط أن تغيب البيوت عن بصره، ولا مجاوزة البيوت الخربة، ولا مجاوزة البساتين؛ لأنها لا تعتبر من العمران، وإن اتصلت بالبناء أو سكنها أهل البلدة.
وإذا كان ساكناً في الأخبية (الخيام) فلا بد من مجاوزتها، وإذا كان مقيماً على ماء أو محتطب فلا بد من مفارقته، ما لم يكن المحتطب واسعاً جداً، والنهر بعيد المنبع أو المصب، وإلا فالعبرة بمجاوزة العمران.
وقال المالكية (2) : المسافر إما حضري، أو بدوي، أو جبلي.
فالحضري: الساكن في مدينة أو بلد أو قرية ولولا جمعة فيها، لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حولها والبساتين المتصلة بها ولو حكماً: بأن يرتفق أو ينتفع سكانها بها بنار أو خبز أو طبخ، والمسكونة بأهلها ولو في بعض العام. ولا يشترط مجاوزة المزارع والبساتين المنفصلة، أو غير المسكونة في وقت من العام.
والبدوي: ساكن البادية أو الخيام، لا يقصر إلا إذا جاوز جميع خيام أو بيوت القبيلة أو القبائل المتعاونة فيما بينها، ولو كانت متفرقة، حيث جمعهم اسم الحي والدار (3) ، أو الدار فقط.
والجبلي: ساكن الجبال يقصر إذا جاوز محله أو مكانه.
وساكن القرية التي لا بساتين فيها مسكونة: يقصر إذا جاوز بيوت القرية والأبنية الخرا ب التي في طرفها.
وساكن البساتين: يقصر بمجرد انفصاله عن مسكنه، سواء أكانت تلك البساتين متصلة بالبلد أم منفصله عنها.
__________
(1) رد المحتار: 732/1 ومابعدها.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي: 359/1 ومابعدها.
(3) المراد بالحي: القبيلة، والمراد بالدار: المنزل الذي ينزلون فيه، والحلة والمنزل بمعنى واحد.(2/484)
وقال الشافعية (1) : إن كان للبلد أو القرية سور، فأول السفر مجاوزة السور، وإن كان وراءه عمارة في الأصح.
وإن لم يكن للبلد أو القرية سور: فأول السفر مجاوزة آخر العمران، وإن تخلله نهر أو بستان أو خراب، حتى لا يبقى بيت متصل أو منفصل عن محل الإقامة، ولا يشترط مجاوزة الخراب المهجور الخارج عن العمران؛ لأنه ليس محل إقامة، كما لا يشترط مجاوزة البساتين والمزارع، وإن اتصلت بما سافر منه. ولا بد من مجاوزة المقابر المتصلة بالقرية التي لا سور لها.
وساكن الخيام: يقصر إن جاوز الحِلَّة، أي البيوت التي يجتمع أهلها فيها للسمر، ويستعير بعضهم من بعض، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة، وجاوز أيضاً مرافق الخيام كمطرح الرماد وملعب الصبيان ومرابط الخيل؛ لأنها معدودة من مواضع إقامتهم.
ويعتبر مع مجاوزة المرافق عرض الوادي إن سافر في عرضه، ومجاوزة المهبط إن كان في ربوة (مرتفع) ، والمصعد إن كان في وَهْدة (منخفض) ، هذا إن اعتدلت الثلاثة (الوادي والمهبط والمصعد) ، فإن اتسعت اكتفي بمجاوزة الحلة عرفاً.
وساكن غير الأبنية والخيام يبتدئ سفره بمجاوزة محل رحله ومرافقه. هذا كله في سفر البر، أما السفر في البحر: فيبتدئ من أول تحرك أو جري السفينة أو الزورق، فإن جرت السفينة محاذية للأبنية التي في البلدة فلا بد من مجاوزة تلك الأبنية.
وينتهي السفر بوصوله سور وطنه، أو عمرانه إن كان غير مسور.
__________
(1) مغني المحتاج: 263/1 ومابعدها.(2/485)
وقال الحنابلة (1) : يقصر المسافر إذا فارق خيام قومه، أو بيوت قريته العامرة، سواء أكانت داخل السور أم خارجه، بما يعد مفارقة عرفاً؛ لأن الله تعالى إنما أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، فإن اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة أو بساتين يسكنها أهلها ولو ضيفاً مثلاً وقت النزهة، فلا يقصر إلا بمفارقة الجميع من الخراب والعامر والبساتين المسكونة.
ولو كان للبلد محال، كل محلة منفردة عن الأخرى، كبغداد في الماضي، فمتى خرج من محلته، أبيح له القصر إذا فارق أهله. وإن كان بعضها متصلاً ببعض كاتصال أحياء المدن المعاصرة، لم يقصر حتى يفارقها جميعها.
ولو كانت قريتان متدانيتين (متقاربتين) ، واتصل بناء إحداهما بالأخرى، فهما كالواحدة، وإن لم يتصل بناؤهما، فلكل قرية حكم نفسها.
والملاح الذي يسير بسفينته وليس له بيت سوى سفينته، فيها أهله وتنوره وحاجته، لا يباح له الترخص.
4 - أن يقصد من ابتداء السفر موضعاً معيناً، ويعزم أن يقطع مسافة القصر من غير تردد فلا قصر ولا فطر لهائم: وهو من خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لمن خرج يطلب آبقاً أو حيواناً هارباً، أو غريماً يرجع متى وجده، ولا لسائح لا يقصد مكاناً معيناً، كما لا قصر لمن طاف الأرض كلها من غير قصد إلى قطع مسافة القصر المطلوبة؛ لأنه لم يقصد قطع المسافة، وكذلك لا يقصر عند الجمهور إذا نوى قطع المسافة ونوى الإقامة أثناءها بما يقطع السفر، كما سنبين.
وقال الحنفية: له أن يقصر حتى يقيم بالفعل، ولا تضر نية الإقامة السابقة، وهذا هو المعقول الأولى بالاتباع.
__________
(1) المغني:261/2، كشاف القناع: 598/1.(2/486)
5 - الاستقلال بالرأي: فمن كان تابعاً غيره ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده والطالب مع أستاذه، ولا يعرف كل واحد منهم مقصده، لا يقصر؛ لأن شرط قصد موضع معين لم يتحقق. وهذا الشرط عند الشافعية مقيد بما قبل قطع مسافة القصر، فإن قطعوا مسافة القصر، قصروا، وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم.
وأضاف الشافعية: أن التابع إن نوى الرجوع من سفره متى تخلص من التبعية، كالجندي إذا شطب اسمه، والخادم إذا ترك الخدمة، لا يقصر حتى يقطع مسافة القصر وهي المرحلتان أو اليومان.
أما عند الحنفية فهذا الشرط مطلق، فليس للتابع القصر ما لم ينو متبوعه السفر. ولا يلزم التبع بإتمام الصلاة إلا إن علم بنية المتبوع الإقامة في الأصح، فلو صلى مخالفاً له قبل علمه صحت في الأصح.
6 - ألا يقتدي من يقصر بمقيم أو بمسافر يتم الصلاة، أو بمشكوك السفر عند الشافعية والحنابلة: فإن فعل ذلك وجب عليه إتمام الصلاة، ولو اقتدى به في التشهد الأخير.
لكن الحنفية لم يجيزوا اقتداء المسافر بالمقيم إلا في الوقت، فيتم صلاته؛ لأن فرضه يتغير من اثنين إلى أربع. أما بعد خروج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ لأن فرضه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلا يتغير فرضه إلى أربع بعد خروج الوقت، فإن خالف واقتدى به بطلت صلاته. 7 - أن ينوي القصر عند الإحرام بالصلاة: وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة؛ لأن الأصل الإتمام، وإطلاق النية ينصرف إليه، فكان لا بد من نية القصر.
واكتفى المالكية باشتراط نية القصر في أول صلاة يقصرها في السفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصلوات كنية الصيام أول رمضان، فإنها تكفي عن باقي الشهر.
أما الحنفية: فاكتفوا بنية السفر قبل الصلاة، فمتى نوى السفر، كان فرضه القصر ركعتين، فلا ينويه عند الإحرام لكل صلاة.(2/487)
8 - البلوغ: شرط عند الحنفية، فلا يقصر الصبي الصلاة في السفر. ولم يشترطه جمهور الفقهاء، فيصح للصبي القصر؛ لأن كل من له قصد صحيح، ونوى سفراً يبلغ المسافة المقررة يقصر.
9 - اشترط الشافعية أن يدوم سفره من أول الصلاة إلى آخرها: فإن انتهت به سفينته إلى محل إقامته، أو سارت به منها، أو شك هل نوى الإقامة، أو هل هذه البلدة التي وصلها هي بلده أو لا، وهو في أثناء الصلاة في الجميع، أتم صلاته، لزوال سبب الرخصة، أو الشك في زواله.
خلاصة آراء الفقهاء في شروط القصر:
مذهب الحنفية: يقصر من نوى السفر، وقصد موضعاً معيناً، ولو عاصياً بسفره، متى جاوز بيوت محل إقامته، وجاوز ما اتصل به من فناء البلد، والفناء: المكان المعد لمصالح البلد، كركض الدواب ودفن الموتى. كما يشترط أن يجاوز ربض البلد: وهو ماحول المدينة من بيوت ومساكن، فإنه في حكم المصر، وكذا يشترط في الصحيح مجاوزة القرى المتصلة بربض البلد. ويشترط لصحة نية السفر ثلاثة أمور:
الاستقلال بالحكم على الأوضاع من إقامة وسفر، والبلوغ، وعدم نقصان السفر عن ثلاثة أيام.
مذهب المالكية: شروط القصر ستة:
طول السفر وهي ثمانية وأربعون ميلاً على المشهور، وأن يعزم من أول سفره على قطع المسافة من غير تردد، وأن يقصد جهة معينة، وأن يكون السفر مباحاً، وأن يجاوز البلد وما يتصل به من الأبنية والبساتين المعمورة، وألا يعزم في خلال سفره على إقامة أربعة أيام بلياليها.(2/488)
مذهب الشافعية: شروط القصر ثمانية:
أن يكون السفر طويلاً وهو ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية (1) ، أو مرحلتان وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين، أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو يوم وليلة معتدلين، بسير الأثقال، والبحر كالبر؛ وقصد موضع معين أول سفره ليعلم أنه طويل، فيقصر أو لا؛ وأن يكون السفر مباحاً فلا قصر لعاص بسفره، ولا لناشزة من زوجها؛ والعلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلاً به لم تصح صلاته لتلاعبه؛ وأن ينوي القصر في الإحرام للصلاة؛ وأن يتحرز عما ينافي نية القصر في أثناء دوام الصلاة، كنية الإتمام، فلو نواه بعد نية القصر أتم؛ وألا يقتدي ولو لحظة بمتم ولا بمشكوك السفر ولا بإمام محدث، فإن اقتدى به في أي جزء من صلاته، لزمه الإتمام، لخبر الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس: «سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» .
ويشترط أخيراً كونه مسافراً في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة فيها، أو بلغت سفينته دار إقامته، أتم.
مذهب الحنابلة: شروط القصر ثمانية:
إذا كان السفر طويلاً وهو ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية، وواجباً أو مباحاً؛ وأن يجاوز بيوت قريته، ويجعلها وراء ظهره بما يعد مفارقة عرفاً، وأن ينوي سفراً يبلغ تلك المسافة، والمعتبر نية المسافر سفر المسافة، لا حقيقتها، فمن نوى ذلك قصر، ولو رجع قبل استكمال المسافة؛ وأن يقصد موضعاً معيناً في ابتداء السفر؛ وأن ينوي القصر عند أول الصلاة؛ وألا يقتدي بمقيم ولا بمشكوك في سفره ولا بمن تلزمه إعادة الصلاة كمن يقتدي بمقيم يحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه تامة في الابتداء، فلا يجوز أن تعاد مقصورة؛ وكونه مسافراً في جميع الصلاة، كما قال الشافعية.
__________
(1) الهاشمية: هي المنسوبة لبني أمية.(2/489)
ويرى ابن تيمية في مقدار السفر عدم تحديده بمسافة معينة، فكل ما يسمى سفراً عن الأماكن في عادات الناس يجوز فيه القصر، وليس للسفر حد مقدر في الشرع ولا في اللغة، بل ما سموه سفراً فهو سفر (1) .
رابعاً ـ اقتداء المسافر بالمقيم وعلى العكس:
اقتداء المسافر بالمقيم: اتفق الفقهاء (2) على أنه يجوز اقتداء المسافر بالمقيم، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة المسافر سنته من القصر، وعلى أنه إذا اقتدى المسافر بالمقيم، يجب عليه إتمام الصلاة أربعاً، متابعة للإمام، ويتغير فرضه عند الحنفية إلى الأربع، كما يتغير بنية الإقامة.
واشترط الحنفية لجواز الاقتداء بقاء الوقت، ولو قدر ما يسع التحريمة، أما عند خروج الوقت فلا يصح اقتداء المسافر بالمقيم؛ لأن فرضه لا يتغير بعد الوقت، لانقضاء السبب، كما لا يتغير عندهم بنية الإقامة.
والدليل على وجوب الإتمام من السنة: هو ما ذكرناه عن ابن عباس أنه قيل له: «ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» (3) ، وقال نافع: «كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام، صلاها أربعاً، وإذا صلى وحده صلاها ركعتين» (4) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» .
وأضاف الشافعية والحنابلة: أنه لو رَعَف الإمام المسافر، واستخلف غيره، أتم المقتدون دون الإمام.
اقتداء المقيم بالمسافر: اتفق الفقهاء (5) أيضاً على أنه يجوز اقتداء المقيم بالمسافر، مع الكراهة عند المالكية، لمخالفة نية إمامه، فإذا صلى المسافر بالمقيمين ركعتين سلم، ثم أتم المقيمون صلاتهم. ويستحب للمسافر الإمام أن يقول عقب التسليمتين: أتموا صلاتكم، فإني مسافر، لدفع توهم أنه سها، ولئلا يشتبه على الجاهل عدد ركعات الصلاة، فيظن أن الرباعية ركعتان.
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 12/24-18، 135.
(2) الكتاب مع اللباب: 109/1، مراقي الفلاح: ص72، الدر المختار: 740/1 ومابعدها، فتح القدير: 399/1، الشرح الصغير: 482/1، القوانين الفقهية: ص 84، المهذب:103/1، مغني المحتاج: 269/1، كشاف القناع: 602/1، المغني: 284/2، المجموع:236/4-242.
(3) رواه أحمد في المسند. وقوله «السنة» ينصرف إلى سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) المراجع السابقة، الكتاب، مراقي، الدر، فتح القدير: ص401، القوانين، الشرح الصغير: ص482، 484، المغني: ص286.(2/490)
وذكر الحنفية أنه ينبغي أن يقول ذلك قبل شروعه في الصلاة، وإلا فبعد سلامه.
ودليل الجواز: ما رواه عمران بن حصين قال: «ما سافر رسول الله صلّى الله عليه وسلم سَفَراً إلا صلى ركعتين، حتى يرجع، وإنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة، يصلي بالناس ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم يقول: يا أهل مكة، قوموا فصلوا ركعتين أخريين، فإنا قوم سَفْر» (1) .
وإذا قام الإمام للإتمام سهواً أو جهلاً بعد نية القصر، سبّح له المأموم، بأن يقول: سبحان الله، فإن رجع سجد لسهوه، وإن لم يرجع فلا يتبعه، بل يجلس حتى يسلم إمامه.
خامساً ـ ما يمنع القصر:
ينتهي سفر المسافر، ويمتنع القصر، ويجب الإتمام بنية الإقامة في موضع أثناء سفره مدة معينة بيناها (51 يوماً عند الحنفية، و4 أيام عند المالكية والشافعية، وأكثر من 4 أيام عند الحنابلة) ، وبالرجوع فعلاً إلى محل إقامته المعتادة، وبغيرها من حالات أخرى مقررة في المذاهب.
1 - أن ينوي المسافر الإقامة مدة معينة:
لما روي عن أبي هريرة أنه «صلى مع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة في المسير والمُقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين» (2) وبما أنه لم يحدد النص مدة الإقامة فقد اختلف الفقهاء في تقدير المدة:
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والبيهقي، وفي إسناده ضعيف، وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، كما قال الحافظ ابن حجر. وروى مالك في الموطأ مثله عن عمر، ورجال إسناده أئمة ثقات (نيل الأوطار: 166/3) .
(2) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (نيل الأوطار: 207/3) .(2/491)
فقال الحنفية (1) :
يمتنع القصر بنية الإقامة ولو في الصلاة ما لم يخرج وقتها ولم يكن لاحقاً مدة نصف ظهر (15 يوماً) كاملة فأكثر، فإن نوى الإقامة أقل من هذه المدة ولو بساعة، أو نواها بعد أن خرج الوقت وهو فيها، أو كان لاحقاً مدركاً الإمام أول الصلاة، والإمام مسافر، فأحدث أو نام، فانتبه بعد فراغ الإمام، ونوى الإقامة، لم يتم الصلاة، وإنما يقصرها ولو بقي سنين مسافراً؛ لأن الإقامة لا تتحقق بأقل من نصف الشهر، ولأن الواجب بعد خروج الوقت استقر في الذمة كما هو في الوقت، ولأن اللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام.
ولا تمنع نية الإقامة القصر إلا بشروط أربعة:
الأول ـ أن يترك السير بالفعل: فلو نوى الإقامة وهو ما يزال مسافراً يسيراً، لايكون مقيماً، ويجب عليه القصر.
الثاني ـ أن يكون موضع الإقامة صالحاً لها كمدينة أو قرية لكل الناس، أو برية لأهل الخيام، فلو نوى الإقامة في موضع غير صالح كبحر أو جزيرة مهجورة أو صحراء خالية من الناس، قصر.
الثالث ـ أن يكون الموضع واحداً غير متعدد: فلو نوى الإقامة خمسة عشر يوماً ببلدتين مستقلتين كمكة ومنى، لم تصح نيته ويقصر؛ إذ لا بد من نية الإقامة تلك المدة في موضع واحد.
الرابع ـ أن يكون ناوي الإقامة مستقلاً بالرأي: أما لو كان تابعاً لغيره كالمرأة والخادم وإن نوى الإقامة، فيقصر ولا يتم، إلا إن علم نية متبوعه الإقامة في الأصح، فيتم الصلاة مثله، كما سبق.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 736/1-738، الكتاب مع اللباب: 107/1-108.(2/492)
ومن ترقب السفر غداً أو بعده، أو انتظر قادماً أو قافلة مثلاً ما لم يعلم تأخرها نصف شهر، أو كان مع العسكر الذين نووا الإقامة في دار الحرب، أو حاصر حصناً في دار الحرب، قصر الصلاة، ولم يتمها، كما بينا سابقاً.
وقال المالكية (1) :
يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحاح غير يومي الدخول والخروج، تستلزم عشرين صلاة، وإلا فلا، أو العلم بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل ما، بأن كانت عادةالقافلة أن تقيم في ذلك المحل أربعة أيام، فإنه يتم. فإن لم تجب عليه العشرون صلاة، كأن دخل بلداً قبل فجر السبت مثلاً، ونوى الإقامة إلى غروب يوم الثلاثاء، وخرج قبل العشاء، قصر، ولم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن كانت الأربعة الأيام صحاحاً، إلا أنه لم يجب عليه عشرون صلاة.
وإن لم يقم أربعة أيام كأن دخل بلداً قبل العصر، ولم يكن صلى الظهر، ونوى الارتحال بعد صبح اليوم الخامس، لم ينقطع حكم سفره؛ لأنه وإن وجب عليه عشرون صلاة، إلا أنه لم يقم إلا ثلاثة أيام صحاح.
فلا بد من الأمرين أو الشرطين معاً: إقامة أربعة أيام صحاح، ووجوب عشرين صلاة.
ومن أقام لحاجة متى قضيت سافر، فلا ينقطع القصر، ولو طالت المدة، إلا إذا علم أنها لا تقضى حاجته إلا بعد الأربعة الأيام. ومثله من لم ينو الإقامة وأقام مدة طويلة، له أن يقصر.
ومن نوى الإقامة وهو في الصلاة، قطع الصلاة، وندب أن يشفع إن صلى ركعة بسجدتيها، ولا تجزئ صلاة تامة إن أتمها، ولا مقصورة إن قصرها. وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الصلاة، أعادها بوقت اختياري أي وقتها المعتاد.
__________
(1) الشرح الكبير: 364/1، الشرح الصغير: 364/1، القوانين الفقهية: ص 85.(2/493)
ولا يشترط في محل الإقامة: أن يكون صالحاً للإقامة فيه. ويستثنى من نية الإقامة حالة العسكر في دار الحرب الذي ينوي إقامة أربعة أيام فأكثر، فلا ينقطع حكم سفره، ويقصر.
وقال الشافعية (1) :
يمتنع القصر إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام تامة بلياليها، أو نوى الإقامة مطلقاً، غير يومي الدخول والخروج، على الصحيح، بموضع صالح للإقامة أو غير صالح كصحراء على الأصح، فإن نوى أقل من أربعة أيام، قصر. وإن كانت له حاجة وجزم بأنها لا تقضى في أربعة أيام، أتم ولم يقصر، سواء نوى الإقامة أم لا.
أما إن أقام ببلد بنية أن يرحل إذا تحققت حاجة يتوقعها كل وقت، فله القصر إلى ثمانية عشر يوماً، كما ذكرت.
وقال الحنابلة (2) :
يمتنع القصر لو نوى المسافر إقامة مطلقة بأن لم يحدها بزمن معين، ولو في مكان غير صالح للإقامة كبادية ودار حرب، أو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أو أكثر من أربعة أيام مع يومي الدخول والخروج، وأتم صلاته.
لكن إن أقام لحاجة يتوقع قضاءها، فله القصر، ولو استمر سنين، وهذا هو رأي الجمهور، وقصره الشافعية على ثمانية عشر يوماً كما بينا.
2 - العودة إلى محل الإقامة الدائمة، أو نية العودة:
سأبحث هذه الحالة في ضوء المصطلحات الحديثة للإقامة والوطن بالاعتماد على اصطلاح الفقهاء في الماضي، والاصطلاحات الحديثة هي ما يلي:
أـ الوطن: هو إقليم الدولة التي ينتمي إليها ويحمل جنسيتها بحسب التقسيم الإقليمي للدول المعاصرة. وهذا المفهوم لا صلة له ببحثنا.
ب - محل الإقامة الدائمة: هو محل العمل الذي يسكن فيه، أو محل المعيشة.
جـ ـ محل الميلاد: هو البلد الذي ولد ونشأ فيه، وفيه أهله وعشيرته، ويشمل هذين الاثنين عند الحنفية: الوطن الأصلي إذ هو موطن الولادة، أو التزوج، أو التوطن.
__________
(1) مغني المحتاج: 264/1 ومابعدها.
(2) كشاف القناع: 605/1.(2/494)
د ـ محل الإقامة المؤقتة: هو المكان الذي يقيم فيه لفترة زمنية مؤقتة أو لمهمة قد تطول وقد تقصر، ويقابله عند الحنفية «وطن الإقامة» إذا كانت نصف شهر فأكثر، ووطن السكنى إذا أقام دون نصف شهر.
هـ ـ بلد الزوجة: هو البلد الذي له فيه زوجة إما الزوجة الوحيدة أو الثانية ويدخل تحت مفهوم الوطن الأصلي.
وبحثنا يتردد بين هذه المصطلحات الأربعة الأخيرة.
قال الحنفية (1) :
الوطن ثلاثة أنواع:
الوطن الأصلي: هو الذي ولد فيه أو تزوج، أو لم يتزوج وقصد التعيش فيه، لا الارتحال عنه.
ووطن الإقامة: موضع نوى الإقامة فيه نصف شهر فما فوقه.
ووطن السكنى: هو ما ينوي الإقامة فيه دون نصف شهر، وهذا لم يعتبره المحققون في حالة تغيير الموطن.
متى يتم المسافر الصلاة عادة؟ إذا دخل المسافر بلده أي محل إقامته الدائمة، أتم الصلاة، وإن لم ينو الإقامة فيه، كأن دخله لقضاء حاجة؛ لأنه معين للإقامة، وقد زال سبب الرخصة وهو السفر. هذا إن سار مدة السفر (3 أيام بلياليها) ، وإلا بأن رجع إلى بلده قبل قطع مسافة السفر، أتم بمجرد نية العودة، لعدم تحقق السفر المجيز للقصر. وإذن فيجب عليه الإتمام في هاتين الحالتين: العودة للوطن، ونية العودة قبل قطع مسافة القصر، فإن عاد بعد قطع مسافة القصر، يقصر حتى يعود لبلده بالفعل.
__________
(1) اللباب: 109/1، مراقي الفلاح: ص 73، الدر المختار ورد المحتار: 736/1، 742 ومابعدها، فتح القدير: 403/1 ومابعدها.(2/495)
متى يتم المسافر الصلاة ومتى يقصر حالة الانتقال عن الوطن؟
أـ الانتقال عن الوطن الأصلي: يتم الصلاة إذا انتقل من محل الإقامة الدائمة كمركز الوظيفة اليوم إلى موطن آخر له فيه زوجة، أو إلى محل الميلاد الذي بقي له فيه أهل أي زوجة، كالريف، فمن كان موظفاً في دمشق مثلاً ثم سافر إلى قريته الأصلية في الريف لزيارة الأهل (الزوجة) ، أتم الصلاة، سواء أكانت المسافة بين مقر العمل أو الوظيفة وبين الريف مسافة القصر أم لا؛ لأنه في هذه الحالة يكون له موطنان، وكل منهما وطن أصلي له.
فإن لم يبق له أهل في الريف، وإن بقي فيه عقار (أرض أو دار) ، قصر الصلاة؛ لأن محل الميلاد وإن كان وطناً أصلياً له، إلا أنه بطل بمثله وهو مقر عمله، وبه يتبين أن الوطن الأصلي للإنسان يبطل إذا هاجر بنفسه وأهله ومتاعه إلى بلد آخر، فإن عاد إلى بلده الأول لعمل مثلاً، وجب عليه قصر الصلاة.
كذلك يقصر الصلاة إن عاد إلى بلد مقر الوظيفة، بعد أن انتقل عنها بكل أهله، واستوطن بلداً غيرها؛ لأنه لم يبق له وطناً، إذ إن الوطن الأصلي يبطل بمثله، دون السفر عنه، بدليل أنه عليه السلام بعد الهجرة عد نفسه بمكة من المسافرين، أما لو سافر عنه إلى بلد آخر مدة مؤقتة كأن ترك دمشق إلى حلب، ثم عاد إليه فيتم الصلاة؛ لأن الوطن الأصلي لا يبطل حكمه بوطن الإقامة ولا بالسفر؛ لأن الشيء لا يبطل بما هو دونه، بل بما هو مثله أو فوقه.
ب ـ الانتقال عن محل الإقامة المؤقتة (وطن الإقامة) : من تنقل في البلدان فأقام في بلد نصف شهر مثلاً، ثم عاد إليه، قصر الصلاة فيه مالم ينو الإقامة مجدداً نصف شهر؛ لأن وطن الإقامة يبطل حكمه بمثله، وبالسفر عنه أي بإنشاء السفر منه، كما يبطل بالوطن الأصلي.
ولا يبطل وطن الإقامة بإنشاء السفر من غيره، مادام المسافر يمرّ عليه، ومادامت المسافة بينه وبين المكان الذي أنشأ السفر منه دون مسافة القصر.(2/496)
وقال المالكية (1) :
يمتنع القصر على المسافر وعليه الإتمام إن عاد إلى بلدته الأصلية التي نشأ فيها وينتسب إليها، أو مرّ فيها، أو إلى البلد التي نوى فيها إقامة دائمة، أو إلى بلد الزوجة التي دخل بها وكانت غير ناشز وإن لم ينو إقامة أربعة أيام، أو إلى البلد التي نوى فيها الإقامة أربعة أيام فأكثر. أما دخول بلد الزوجة التي لم يدخل بها أو كانت ناشزاً، فلا يمنع القصر.
أما في أثناء الرجوع، فإن الرجوع في حقه سفر مستقل، فإن كان هناك مسافة قصر، قصر الصلاة، وإلا فلا، ويتم الصلاة حينئذ.
ويمتنع القصر أيضاً بنية دخوله وطنه أو مكان زوجته في أثناء الطريق، إن لم يكن بينه وبين المحل المنوي دخوله مسافة القصر الشرعية.
وقال الشافعية (2) :
الوطن: هو محل الإقامة الدائمة صيفاً وشتاءً. ويمتنع القصر برجوعه إلى وطنه، وإلى موضع نوى الإقامة فيه مطلقاً، أو أربعة أيام صحيحة، أو لحاجة لا تنقضي إلا في المدة المذكورة، كما يمتنع القصر بنية الرجوع إلى وطنه أو بالتردد فيه وهو ماكث غير سائر، ومستقل غير تابع، ولو بمحل لا يصلح للإقامة كمفازة، من دون مسافة القصر، فإن نوى الرجوع وهو سائر أو تابع لغيره كالزوجة لزوجها فيقصر حتى يرجع فعلاً.
وكذلك يقصر إذا كان قاصداً المرور بوطنه فقط دون الإقامة، كما أنه يقصر في بلد أقام فيها إن كان يتوقع قضاء حاجة كل وقت إلى ثمانية عشر يوماً، ويقصر أيضاً بالرجوع إلى غير وطنه (وهو غير محل الإقامة الدائمة) وإن كان له فيه أهل أو عشيرة، ولا يقصر بنية الرجوع إلى غير وطنه إذا كان الرجوع لغير حاجة، فإن كان لحاجة كتطهر فيقصر.
__________
(1) الشرح الكبير: 362/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 480/1 ومابعدها.
(2) مغني المحتاج: 264/1.(2/497)
وقال الحنابلة (1) :
من رجع إلى الوطن الذي سافر منه، أو نوى الرجوع قبل قطع مسافة القصر، فلا يقصر وإنما يتم الصلاة، كما إنه يتمها إذا مرّ (أي مسافر) بوطنه، ولو لم يكن له حاجة سوى المرور؛ لأنه في حكم المقيم إذ ذاك.
أو مر ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه، حتى يفارقه، لأنه كما سبق في حكم المقيم إذ ذاك.
أو مر ببلد تزوج فيه، حتى يفارقه، لحديث عثمان، سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من تأهل في بلد، فليصل صلاة المقيم» (2) وظاهره: ولو بعد فراق الزوجة، أما لو كان له به أقارب كأم وأب أو ماشية أو مال، لم يمتنع عليه القصر، إذا لم يكن مما سبق.
خلاصة آراء المذاهب في الحالات التي يمتنع فيها القصر ويصبح المسافر فيها في حكم المقيم:
الحنفية (3) : يمتنع القصر بنية الإقامة نصف شهر ببلد أو قرية واحدة، لا ببلدتين لم يعين المبيت بإحداهما، وبالعودة إلى وطنه (محل إقامته الدائمة) ، إن قطع مسافة القصر عن بلده، وباقتداء المسافربالمقيم، وبعدم الاستقلال بالرأي، وبعدم قصد جهة معينة.
المالكية (4) : يقطع القصر أحد أمور خمسة:
الأول ـ دخول بلدِه الراجع هو إليه، سواء أكانت وطنه أم لا، وإن لم ينو إقامة أربعة أيام إلا مقيماً ببلد إقامة مؤقتة تركه ناوياً السفر، ثم عاد إليه، فله القصر.
والمراد ببلده الذي سافر منه: هو وطنه أو محل زوجته الكائن في أثناء المسافة. وإنما كان دخول البلد قاطعاً للقصر؛ لأن دخول البلد مظنة للإقامة، فإذا كفت نية الإقامة في قطع القصر، ففعل الإقامة أولى.
الثاني ـ الرجوع إلى وطنه أو محل زوجته المدخول بها قبل أن يقطع مسافة القصر، ومجرد الأخذ في الرجوع يقطع حكم السفر.
__________
(1) كشاف القناع:600/1.
(2) رواه أحمد.
(3) اللباب شرح الكتاب: 107/1-108، مراقي الفلاح: ص72، الدر المختار: 736/1-738.
(4) الشرح الكبير: 362/1-364، الشرح الصغير: 480/1-481.(2/498)
الثالث ـ دخول وطنه أثناء المرور عليه، بأن كان بمحل آخر غير وطنه، وسافر منه إلى بلد آخر.
الرابع ـ نية الإقامة أربعة أيام صحاح تستلزم عشرين صلاة، أو العلم مسبقاً بإقامة الأربعة الأيام عادة في محل، اعتادت القافلة أن تقيم فيه.
الخامس ـ دخول مكان زوجة دخل بها فقط؛ لأنه في حكم الوطن. أما دخول مكان الأقارب كأم أو أب، فلا يقطع السفر ولا يمنع القصر.
الشافعية (1) : يمتنع القصر بنية الإقامة أربعة أيام صحيحة، وبالعودة لوطنه (محل الإقامة الدائمة) ، وباقتداء المسافر بالمقيم أو بمشكوك السفر، وبعدم قصد جهة معينة، وبعدم الاستقلال بالرأي دون مسافة القصر، وبسفر المعصية، وبانقطاع السفر أثناء الصلاة، وبعدم نية القصر أثناء الإحرام.
الحنابلة (2) : يمنع القصر ويجب الإتمام في إحدى وعشرين صورة:
الأولى ـ مرور المسافر بوطنه ولو لم يكن له حاجة سوى المرور عليه.
الثانية ـ المرور ببلد له فيه امرأة، ولو لم يكن وطنه.
الثالثة ـ المرور ببلد تزوج فيه، وقد سبق ذكر هذه الحالات قريباً.
الرابعة ـ إن أحرم مقيماً في حضر، ثم سافر.
الخامسة ـ إن دخل عليه وقت صلاة في الحضر، ثم سافر.
السادسة ـ إن أحرم بالصلاة الرباعية في سفر، ثم أقام، كراكب سفينة وصلت إلى وطنه أثناء الصلاة، تغليباً لحكم الحضر.
السابعة والثامنة ـ إن ذكر صلاة حضر في سفر، أوعكسه: أي صلاة سفر في حضر، لزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، فغلِّب حكم الحضر.
التاسعة والعاشرة ـ ائتم بمقيم أو بمن يلزمه الإتمام.
الحادية عشرة ـ ائتم بمن يشك في كونه مسافراً، أو بمن يغلب على ظنه أنه مقيم، ولو بان بعدئذ كونه مسافراً، لعدم الجزم بكونه مسافراً عند الإحرام.
__________
(1) مغني المحتاج: 267/1-271.
(2) كشاف القناع: 600/1-605.(2/499)
الثانية عشرة ـ أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، ففسدت وأعادها: كمن يقتدي بمقيم فيحدث في أثناء الصلاة، فيلزمه إعادتها تامة؛ لأنها وجبت عليه أولاً تامة، فلا يجوز أن تعاد مقصورة.
الثالثة عشرة ـ إن لم ينو القصر عند دخوله الصلاة أي عند إحرامه، فيلزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، وإطلاق النية ينصرف إليه.
الرابعة عشرة ـ إن شك في الصلاة: هل نوى القصر أم لا، ولو تذكر بعدئذ في أثناء الصلاة، لزمه أن يتم، لوجود ما أوجب الإتمام في بعضها، فغلب؛ لأنه الأصل. الخامسة عشرة ـ إن تعمد ترك صلاة أو بعضها في سفر، بأن أخرها بلا عذر، حتى خرج وقتها، فيلزمه أن يتم، قياساً على السفر المحرَّم، لأنه صار عاصياً بتأخيرها متعمداً من غير عذر.
السادسة عشرة ـ العزم على قلب السفر لمعصية كقطع الطريق، ونية الرجوع في مكان بينه وبين موطنه دون مسافة القصر.
السابعة عشرة ـ إن تاب في الصلاة من سفر المعصية، لزمه أن يتم، وكذلك يتم إن قصر معتقداً تحريم القصر، ولو أنه مخطئ في اعتقاده.
الثامنة عشرة ـ إن نوى المسافر في الصلاة الإتمام، بعد أن نوى القصر، أتم وجوباً؛ لأنه رجع إلى الأصل.
التاسعة عشرة ـ إن نوى إقامة مطلقة: بأن لم يحدها بزمن، في بلد، ولو في دار حرب، أو في بادية لا يقام فيها، لزوال السفر المبيح للقصر بنية الإقامة.
العشرون ـ إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أتم.
الحادية والعشرون ـ إن شك في نيته: هل نوى إقامة ما يمنع القصر أم لا، أتم؛ لأن الإتمام هو الأصل، فلا ينتقل عنه مع الشك في مبيح الرخصة.
سادساً ـ قضاء الصلاة الفائتة في السفر:
سبق بيانه في بحث قضاء الفوائت، وأوجز هنا آراء الفقهاء فيه:
قال الحنفية والمالكية (1) :
من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين، كما فاتته في السفر، ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السفر أربعاً؛ لأنه بعدما تقرر لا يتغير؛ ولأن القضاء بحسب الأداء.
__________
(1) فتح القدير: 405/1، مراقي الفلاح: ص72، اللباب: 110/1، القوانين الفقهية: ص71، الشرح الكبير: 263/1.(2/500)
وقال الشافعية والحنابلة (1) :
الصلاة الفائتة في الحضر، تقضى أربعاً سواء في السفر أم في الحضر؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر، فيبطل بزواله كالمسح ثلاثة أيام، ولأنها ثبتت في ذمته تامة، وفائتة السفر تقضى مقصورة في السفر دون الحضر، في الأظهر عند الشافعية؛ لأنها وجبت في السفر، فينظر إلى وجود السبب.
وقد تعادل في نظري الرأيان، وللمرء الأخذ بأحدهما، ويختار بحسب ما يراه أحوط ديناً.
سابعاً ـ صلاة السنن في السفر:
قال النووي (2) : قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فتركها ابن عمر وآخرون، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور.
ودليلهم أولاً ـ الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب، وحديث صلاته صلّى الله عليه وسلم الضحى في يوم الفتح، وركعتي الصبح، حين ناموا حتى طلعت الشمس، وأحاديث أخر ذكرها أصحاب السنن.
وثانياً ـ القياس على النوافل المطلقة.
وأما ما في الصحيحين عن ابن عمر، أنه قال: صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم أره يُسبِّح ـ أي يتنفل ـ في السفر، وفي رواية: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكروعمر وعثمان كذلك، فقال النووي: لعل النبي صلّى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله، ولا يراه ابن عمر، فإن النافلة في البيت أفضل، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيهاً على جواز تركها.
__________
(1) مغني المحتاج: 263/1، المغني: 282/2 ومابعدها.
(2) نيل الأوطار: 219/3 ومابعدها.(2/501)
وقال الحنفية (1) : ويأتي المسافر بالسنن الرواتب إن كان في حال أمن وقرار أي نازلاً مستقراً، وإلا بأن كان في حال خوف وفرار، أي في السير، لا يأتي بها، وهو المختار.
وحرر ابن تيميمة الموضوع قائلاً: فعل السنن الرواتب في السفر جائز، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها باتفاق الأئمة، والفعل أحياناً أفضل لحاجة الإنسان إليها، والترك أحياناً أفضل إذا اشتغل الإنسان بما هو أفضل منها، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يصلي من الرواتب إلا ركعتي الفجر والوتر. أما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب، فلم ينقل أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك في السفر (2) .
المطلب الثاني ـ الجمع بين الصلاتين:
أولاً ـ مشروعية الجمع:
يجوز عند الجمهور غير الحنفية (3) الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الأولى، وتأخيراً في وقت الثانية، والجمعة كالظهر في جمع التقديم، وبين المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً أيضاً في السفر الطويل كما في القصر (89كم) .
فالصلوات التي تجمع: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت إحداهما ويسمى الجمع في وقت الصلاة الأولى: جمع التقديم، والجمع في وقت الصلاة الثانية: جمع التأخير. والأفضل عدم الجمع خروجاً من الخلاف، ولعدم مداومة النبي صلّى الله عليه وسلم عليه، ولو كان أفضل لأدامه كالقصر.
ودليل جمع التأخير: الثابت في الصحيحين عن أنس وابن عمررضي الله عنهما، أما حديث الأول، فقال أنس: كا ن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ ـ تميل ظهراً ـ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم ركب (4) .
__________
(1) الدر المختار: 742/1.
(2) فتاوى ابن تيمية 279/22-280.
(3) الشرح الكبير:368/1، مغني المحتاج:271/1 ومابعدها، المهذب: 104/1، كشاف القناع: 3/2، المغني: 271/2.
(4) متفق عليه (نيل الأوطار: 212/3) .(2/502)
وأما حديث ابن عمر فهو: أنه استُغيث على بعض أهله، فجدَّ به السير، فأخر المغرب حتى غاب الشَّفَق، ثم نزل، فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السير (1) .
ودليل جمع التقديم: الصحيح من حديث معاذ رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» (2) .
وقال الحنفية (3) : لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة للمحرم بالحج جمع تقديم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين؛ لأن العصر يؤدى قبل وقته المعهود، فيفرد بالإقامة إعلاماً للناس. وفي ليلة المزدلفة جمع تأخير بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لأن العشاء في وقتها فلم تحتج للإعلام.
واحتجوا بأن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر الواحد.
وقال ابن مسعود فيما يرويه الشيخان: «والذي لا إله غيره، ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة قط إلا لوقتها، إلا صلاتين، جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجَمْع» أي بالمزدلفة.
والحق: جواز الجمع لثبوته بالسنة، والسنة مصدر تشريعي كالقرآن.
ثانياً ـ أسباب الجمع بين الصلاتين وشروطه:
اتفق مجيزو الجمع تقديماً وتأخيراً على جوازه في أحوال ثلاثة: هي السفر، والمطر ونحوه من الثلج والبرد، والجمع بعرفة والمزدلفة، واختلفوا فيما سواها، وفي شروط صحة الجمع.
__________
(1) رواه الترمذي بهذا اللفظ، ومعناه عند الجماعة إلا ابن ماجه. وروي حديث جمع التأخير أيضاً عن معاذ بن جبل وابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار: 213/3ومابعدها) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، والدارقطني والحاكم، والبيهقي وابن حبان وصححاه (المصدر السابق) .
(3) اللباب: 185/1، 187.(2/503)
فقال المالكية (1) : أسباب الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً ستة: هي السفر، والمطر، والوحل مع الظلمة، والمرض كالإغماء ونحوه، وجمع عرفة، ومزدلفة، وكلها يرخص لها الجمع جوازاً للرجل أو المرأة، إلا جمع عرفة ومزدلفة، فهو سنة.
أما السفر: فيجوز فيه الجمع مطلقاً، سواء أكان طويلاً أم قصيراً في مسافة القصر، إذا كان في البرّ لا في البحر، قصراً للرخصة على موردها، وكان غير عاص بالسفر وغير لاه.
ويشترط لجواز جمع التقديم في السفر شرطان:
1ً - أن تزول عليه الشمس (يدخل الظهر) وهو مسافر في مكان نزوله للاستراحة.
2ً - أن ينوي الارتحال قبل وقت العصر، والنزول للاستراحة بعد غروب الشمس فإن نوى الاستراحة قبل اصفرار الشمس، صلى الظهر فقط، وأخر العصر وجوباً لوقتها الاختياري، فإن قدمه أجزأته الصلاة.
وإن نوى الاستراحة بعد الاصفرار وقبل الغروب، صلى الظهر في وقته، وخُيِّر في العصر إن شاء قدمها، وإن شاء أخَّرها حتى ينزل للاستراحة.
وإن دخل وقت الظهر (أي بزوال الشمس) وهو سائر: فإن نوى النزول وقت الاصفرار أو قبله، أخر الظهر، وجمعها مع العصر جمع تأخير، وإن نوى النزول بعد الغروب، فيجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً، فيصلي الظهر في آخر وقتها الاختياري، والعصر في أول وقتها الاختياري.
والمغرب والعشاء له حكم هذا التفصيل، مع ملاحظة أن غروب الشمس ينزل منزلة الزوال عند الظهر، وطلوع الفجر كالغروب، وابتداء الثلثين الأخيرين من الليل كاصفرار الشمس.
وأما المرض كالمبطون أوغيره فيجيز الجمع الصوري: بأن يصلي الفرض المتقدم في آخر وقته الاختياري، والفرض الثاني في أول وقته الاختياري، وفائدته عدم الكراهة. أما الصحيح فله الجمع الصوري مع الكراهة.
__________
(1) الشرح الصغير: 487/1 - 492، الشرح الكبير: 368/1 - 372، القوانين الفقهية: ص82، بداية المجتهد: 165، 167.(2/504)
ومن خاف إغماء أو دَوْخة أو حمى عند دخول وقت الصلاة الثانية (العصر أو العشاء) فله تقديم الثانية عند الأولى؛ جوازاً على الراجح.
والخلاصة: إن المريض يجمع إن خاف أن يغيب على عقله أو إن كان الجمع أرفق به، ووقته في وقت الأولى.
وأما المطر أو البرد أو الثلج، أو الطين مع الظلمة الواقع أو المتوقع: فيجيز جمع التقديم فقط لمن يصلي العشاءين (المغرب والعشاء) بجماعة في المسجد، إذا كان المطر غزيراً يحمل أوساط الناس على تغطية رؤوسهم، والوحل أو الطين كثيراً يمنع أواسط الناس من لبس المداس. ولا يجوز الجمع إلا باجتماع الوحل مع الظلمة، لا بأحدهما فقط.
ولو انقطع المطر بعد الشروع في الجمع، جاز الاستمرار فيه.
والمشهور أن يكون هذا الجمع بأذان وإقامة لكل واحدة من الصلاتين ويكون الأذان الأول للمغرب على المنارة بصوت مرتفع والثاني بصوت منخفض في المسجد، لا على المنارة، ويؤخر البدء بالمغرب ندباً بعد الأذان بقدر ثلاث ركعات، ثم ينصرف الناس إلى منازلهم من غير تنفل في المسجد؛ لأن النفل حينئذ مكروه، فلا نفل بعد الجمع في المسجد، ولا وتر حتى يغيب الشفق.
ولا يتنفل بين الصلاتين، والنفل مكروه لا يمنع صحة الجمع، ولا يجوز هذا الجمع لجار المسجد، ولو كان مريضاً يشق عليه الخروج للمسجد، أو كان امرأة ولا يخشى منها الفتنة.
وكذلك لا يجوز هذا الجمع لمن صلى منفرداً في المسجد إلا أن يكون إماماً راتباً له منزل ينصرف إليه، فإنه يجمع وحده، وينوي الجمع والإمامة؛ لأنه ينزل منزلة الجماعة.
وتجب نية الجمع في الصلاة الأولى كنية الإمامة.(2/505)
وأما الجمع في الحج فهو سنة اتفاقاً، فيسن للحاج أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم بعرفة، سواء أكان من أهلها أم أهل غيرها من أماكن النسك كمنى ومزدلفة، أو من أهل الآفاق، ويقصر من لم يكن من أهل عرفة للسنة، وإن لم تكن المسافة مسافة قصر. ويسن أيضاً للحاج أن يصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويسن قصر العشاء لغير أهل مزدلفة؛ لأن القاعدة أن الجمع سنة لكل حاج، والقصر خاص بغير أهل المكان الذي فيه وهو عرفة ومزدلفة.
الشافعية (1) : أجازوا الجمع فقط في السفر والمطر والحج بعرفة ومزدلفة.
أما الجمع بسبب المطر أو الثلج والبرد الذائبين: فالأظهر جوازه تقديماً لمن صلى بجماعة في مسجد بعيد، وتأذى بالمطر في طريقه، والمذهب الجديد منع جمع التأخير فيه؛ لأن استدامة المطر غير متيقنة فقد ينقطع، فيؤدي إلى إخراج الصلاة عن وقتها من غير عذر.
ودليلهم على جواز جمع التقديم: ما في الصحيحين عن ابن عباس «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً» زاد مسلم «من غير خوف ولا سفر» . وشرط جواز التقديم: وجود المطر عند السلام من الصلاة الأولى، ليتصل المطر بأول الثانية، فلا بد من امتداده بينهما، ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك.
ويجمع العصر مع الجمعة في المطر جمع تقديم، وإن لم يكن موجوداً حال الخطبة؛ لأنها ليست من الصلاة.
والمشهور في المذهب عدم جواز الجمع بسبب الوحل والريح والظلمة والمرض لحديث مواقيت الصلاة، ولايجوز مخالفته إلا بنص صريح.
و «لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مرض أمراضاً كثيرة، ولم ينقل جمعة بالمرض صريحاً» .
ولأن من كان ضعيفاً ومنزله بعيداً عن المسجد بعداً كثيراً، لا يجوز له الجمع، مع المشقة الظاهرة، فكذا المريض.
__________
(1) المجموع: 253/4،269 المهذب: 104/1 ومابعدها، مغني المحتاج: 271/1-275.(2/506)
ويندب جمع التقديم للحاج بعرفة، وجمع التأخير بمزدلفة، كما قال المالكية.
وأما الجمع بسبب السفر فيجوز تقديماً وتأخيراً إذا كان السفر طويلاً كما في القصر.
ويشترط لجمع التقديم ستة شروط:
الأول ـ نية الجمع: أي أن ينوي جمع التقديم، في أول الصلاة الأولى، وتجوز في أثنائها في الأظهر، ولو مع السلام منها.
الثاني ـ الترتيب أي البُداءة بالأولى صاحبة الوقت: وهو أن يقدم الأولى، ثم يصلي الثانية؛ لأن الوقت للأولى، وإنما يفعل الثانية تبعاً للأولى، فلا بد من تقديم المتبوع، فلو صلاهما مبتدئاً بالأولى، فبان فسادها بفوات شرط أو ركن، فسدت الثانية أيضاً، لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، ولكن تنعقد الثانية نافلة على الصحيح.
الثالث ـ الموالاة أي التتابع بألا يفصل بينهما فاصل طويل؛ لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة أي فلا يفرق بينهما، كما لا يجوز أن يفرق بين الركعات في صلاة واحدة، فإن فصل بينهما بفصل طويل ولو بعذر كسهو وإغماء، بطل الجمع، ووجب تأخير الصلاة الثانية إلى وقتها، لفوات شرط الجمع، وإن فصل بينهما بفصل يسير، لم يضر، كالفصل بينهما بالأذان والإقامة والطهارة، لما في الصحيحين عن أسامة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما جمع بنمرة، أقام للصلاة بينهما» . ويعرف طول الفصل بالعرف؛ لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
وللمتيمم الجمع بين الصلاتين على الصحيح، كالمتوضئ، فلايضر تخلل طلب خفيف للماء؛ لأن ذلك من مصلحة الصلاة، فأشبه الإقامة، بل أولى؛ لأنه شرط دونها.
ويلاحظ أن هذه الشروط الثلاثة (نية الجمع، والترتيب والموالاة) لا تجب في جمع التأخير على الصحيح.
الرابع ـ دوام السفر إلى الإحرام بالصلاة الثانية، حتى ولو انقطع سفره بعد ذلك أثناءها. أما إذا نقطع سفره قبل الشروع في الثانية، فلا يصح الجمع، لزوال السبب.
الخامس ـ بقاء وقت الصلاة الأولى يقيناً إلى عقد الصلاة الثانية.(2/507)
السادس ـ ظن صحة الصلاة الأولى: فلو جمع العصر مع الجمعة في مكان تعددت فيه لغير حاجة، وشك في السبق والمعية، لا يصح جمع العصر معها جمع تقديم.
ويشترط لجمع التأخير شرطان فقط:
الأول ـ نية التأخير قبل خروج وقت الصلاة الأولى، ولو بقدر ركعة: أي بزمن لو ابتدئت فيه، كانت أداء. وإلا فيعصي، وتكون قضاء. ودليل اشتراط النية: أنه قد يؤخر للجمع، وقد يؤخر لغيره، فلا بد من نية يتميز بها التأخير المشروع عن غيره.
الثاني ـ دوام السفر إلى تمام الصلاة الثانية، فإن لم يدم إلى ذلك بأن أقام ولو في أثنائها، صارت الأولى (وهي الظهر أو المغرب) قضاء؛ لأنها تابعة للثانية في الأداء للعذر، وقد زال قبل تمامها. أما الترتيب: فليس بواجب؛ لأن وقت الثانية وقت الأولى، فجاز البداية بما شاء منهما. وأما التتابع: فلا يجب أيضاً؛ لأن الأولى مع الثانية كصلاة فائتة مع صلاة حاضرة، فجاز التفريق بينهما. وإنما الترتيب والتتابع سنة، وليس بشرط.
أما سنة الصلاة: فإذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها، سواء أجمع تقديماً أم تأخيراً، ولو توسيطها إن جمع تأخيراً، سواء قدم الظهر أم العصر. وإذا جمع المغرب والعشاء، أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيراً، وقدم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيراً وقدم العشاء. وما سوى ذلك ممنوع.
الحنابلة (1) : يجوز جمع التقديم والتأخير في ثمان حالات:
إحداها ـ السفر الطويل المبيح للقصر، أي قصر الصلاة الرباعية: بأن يكون السفر غير حرام ولا مكروه، ويبلغ مسافة يومين، لأنه أي الجمع رخصة تثبت لدفع المشقة في السفر، فاختصت بالطويل كالقصر والمسح ثلاثاً.
الثانية ـ المرض: الذي يؤدي إلى مشقة وضعف بترك الجمع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «جمع من غير خوف ولا مطر» وفي رواية «من غير خوف ولا سفر» (2) ، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض، واحتج أحمد بأن المرض أشد من السفر. والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر، فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى.
الثالثة ـ الإرضاع: يجوز الجمع لمرضع، لمشقة تطهير النجاسة لكل صلاة، فهي كالمريضة.
__________
(1) كشاف القناع: 3/2-8، المغني: 273/2-281.
(2) رواهما مسلم من حديث ابن عباس.(2/508)
الرابعة ـ العجز عن الطهارة بالماء أو التيمم لكل صلاة: يجوز الجمع لعاجز عنهما، دفعاً للمشقة؛ لأنه كالمسافر والمريض.
الخامسة ـ العجز عن معرفة الوقت: يجوز الجمع لعاجز عن ذلك كالأعمى.
السادسة ـ الاستحاضة ونحوها: يجوز الجمع لمستحاضة ونحوها كصاحب سلس بول أو مذي أو رعاف دائم ونحوه، لما جاء في حديث حَمْنة السابق حين استفتت النبي صلّى الله عليه وسلم في الاستحاضة، حيث قال فيه: «فإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، فافعلي» (1) ومن به سلس البول ونحوه في معناها.
السابعة والثامنة: العذر أو الشغل: يجوز لمن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة، كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه. وهذا منفذ يلجأ إليه العمال وأصحاب المزارع للسقي في وقت النوبة (أو الدور) .
والجمع للمطر: جائز بين المغرب والعشاء، كما قال المالكية، لما قال أبو سلمة ابن عبد الرحمن: «إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» (2) وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، لقول أبي سلمة السابق، فلم يرد إلا في المغرب والعشاء. والجمع للمطر يكون في وقت الأولى، لفعل السلف، ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة، أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء. وإن اختار الناس تأخير الجمع جاز. والمطر المبيح للجمع: هو ما يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داودوالترمذي وصححه.
(2) رواه الأثرم.(2/509)
والثلج والبرد كالمطر في ذلك. أما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح.
وأما الوحل بمجرده فهو عذر في الأصح؛ لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب، كما تلحق بالمطر؛ لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويعرض الإنسان للزلق فيتأذى به بنفسه وثيابه، وذلك أعظم من البلل.
وأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة: فيبيح الجمع في الأصح؛ لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة، روى نافع عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح: صلوا في رحالكم» (1) .
وهذه الأعذار كلها تبيح الجمع تقديماً وتأخيراً، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد ولو كان طريقه مسقوفاً، ولمقيم في المسجد ونحوه كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، ولو لم ينله إلا مشقة يسيرة.
وفعل الأرفق من جمع التقديم أو التأخير لمن يباح له أفضل بكل حال، لحديث معاذ السابق، المتضمن التخيير بحسب الحاجة بين التقديم والتأخير (2) ، وروى مالك عن معاذ: «وأخر النبي صلّى الله عليه وسلم الصلاة يوماً في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعاً» (3) ، فإن استويا فالتأخير أفضل لأنه أحوط، وفيه خروج من الخلاف، وعمل بالأحاديث كلها.
__________
(1) رواه ابن ماجه.
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وروى الشافعي وأحمد نحوه عن ابن عباس (نيل الأوطار: 213/3) .
(3) قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت الإسناد.(2/510)
قال ابن تيمية: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الصلاتين في السفر والحضر أيضاً لئلا يحرج أمته، روى مسلم وغيره عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر» (1) .
لكن الجمع في أثناء الحج يكون تقديماً بين الظهر والعصر في عرفة، وتأخيراً في المزدلفة بين المغرب والعشاء، لفعله صلّى الله عليه وسلم، لاشتغاله وقت العصر بعرفة بالدعاء، ووقت المغرب ليلة المزدلفة بالسير إليها.
شروط الجمع: يشترط لصحة الجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً: مراعاة الترتيب بين الصلوات، فيقدم الأولى على الثانية، ولا يسقط ـ على الصحيح في المذهب ـ الترتيب هنا بالنسيان، كما يسقط في قضاء الفوائت.
ويشترط لصحة جمع التقديم شروط أربعة أخرى:
الأول ـ نية الجمع عند الإحرام بالصلاة الأولى: لحديث «إنما الأعمال بالنيات» .
الثاني ـ الموالاة: فلا يفرق بين المجموعتين إلا بقدر الإقامة والوضوء الخفيف؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة، ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل، والخفيف أمر يسير وهو معفو عنه، وهما من مصالح الصلاة.
الثالث ـ وجود العذر المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه عند افتتاح الصلاتين المجموعتين، وعند سلام الأولى؛ لأن افتتاح الأولى من موضع النية وفراغها، وافتتاح الثانية موضع الجمع، فلو انقطع المطر، ولم يوجد وحل بعده قبل ذلك، بطل الجمع.
الرابع ـ دوام العذر إلى فراغ الثانية شرط في السفر والمرض: فلو انقطع السفر قبل ذلك، بطل الجمع. ولا يشترط دوام العذر إلى فراغ الثانية في جمع مطر ونحوه كثلج وبرد إن خلفه وحل.
ويشترط لجمع التأخير شرطان:
__________
(1) فتاوى ابن تيمية 64/24،72 ومابعدها.(2/511)
الأول ـ نية الجمع في وقت الصلاة الأولى ما لم يضق وقتها عن فعلها، فإن ضاق وقت الأولى عن فعلها، لم يصح الجمع؛ لأن تأخيرها إلى القدر الذي يضيق عن فعلها حرام، ويأثم بالتأخير.
الثاني ـ استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية؛ لأن المجوِّز للجمع العذر، فإذا لم يستمر، وجب ألا يجوز، لزوال المقتضي، كالمريض يبرأ، والمسافر يقدم، والمطر ينقطع. ولا أثر لزوال العذر بعد دخول وقت الثانية؛ لأنهما صارتا واجبتين في ذمته، فلا بد له من فعلهما.
ويشترط الترتيب في كل من الجمعين، كما قدمنا. ولا تشترط الموالاة في جمع التأخير، فلا بأس بالتطوع بينهما، كما لا تشترط نية الجمع في الثانية؛ لأنها مفعولة في وقتها، فهي أداء بكل حال.
ولا يشترط في نوعي الجمع اتحاد إمام ولا مأموم، فلو تنوع الإمام في صلاتي الجمع، أو نوى الجمع إماماً بمن لا يجمع، صح الجمع؛ لأن لكل صلاة حكم نفسها، وهي منفردة بنيتها.
وإذا بان فساد الأولى بعد الجمع بنسيان ركن أو غيره، بطلت الأولى والثانية. السنن: إذا جمع في وقت الأولى: فله أن يصلي سنة الثانية منهما، ويوتر قبل دخول وقت الثانية؛ لأن سنتها تابعة لها، فيتبعها في فعلها ووقتها. وبما أن وقت الوتر: ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، وقد صلى العشاء، فإن وقته يدخل بعد صلاة العشاء جمعاً.(2/512)
المبحث الرابع ـ صلاة العيدين
سبب التسمية: سمي العيد بهذا الاسم؛ لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان أي أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام، منها الفطر بعد المنع عن الطعام وصدقة الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي وغيرها؛ ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور غالباً بسبب ذلك، وأصل معنى (عيد) لغةً: عود، والعود هو الرجوع، فهو يعود ويتكرر بالفرح كل عام.
مضمون البحث: الكلام عن صلاة العيد يتناول أدلة مشروعيتها، وحكمها الفقهي، ووقتها وموضعها، وكيفيتها أو صفتها، وخطبتها، وحكم التكبير في العيدين، وسنن العيد أو مستحباته أو وظائفه، والتنفل قبل العيد وبعده، كيفية صلاته صلّى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر والأضحى وكيفية خطبته.
أولاً ـ أدلة مشروعية صلاة العيد:
شرعت صلاة العيد في السنة الأولى من الهجرة، بدليل ما روى أنس: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر» .
وأدلة مشروعيتها: الكتاب والسنة والإجماع (1) .
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} [الكوثر:108/2] المشهور في التفسير: أن المراد بذلك صلاة العيد أي صلاة الأضحى والذبح.
وأما السنة: فثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالتواتر كان يصلي صلاة العيدين. وأول عيد صلاه صلّى الله عليه وسلم: عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة. قال ابن عباس: «شهدت صلاة الفطر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكلهم يصليها قبل الخطبة» وعنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة» (2) .
ثانياً ـ حكمها الفقهي:
يتردد حكم صلاة العيد بين آراء ثلاثة: كونها فرض كفاية، أو واجباً، أو سنة.
__________
(1) المغني: 367/2، مغني المحتاج: 310/1.
(2) متفق عليهما.....(2/513)
فقال الحنابلة في ظاهر المذهب (1) : صلاة العيد فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، أي كصلاة الجنازة، للآية السابقة {فصل لربك وانحر} [الكوثر:108/2] وهي صلاة العيد في المشهور في السِّيَر، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يداومون عليها، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة كالجهاد، ولم تجب عيناً على كل مسلم، لحديث الأعرابي الآتي: «إلا أن تطَّوع» المقتضي نفي وجوب صلاة، سوى الخمس، وإنما وجب العيد بفعل النبي صلّى الله عليه وسلم، ومن صلى معه.
فإن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر، قاتلهم الإمام كالأذان؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين.
وقال الحنفية في الأصح (2) : تجب صلاة العيدين على من تجب عليه الجمعة بشرائطها المتقدمة سوى الخطبة، فإنها سنة بعدها.
ودليلهم على الوجوب: مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلم عليها.
وقال المالكية والشافعية (3) : هي سنة مؤكدة تلي الوتر في التأكيد، لمن تجب عليه الجمعة: وهو الذكر البالغ الحر المقيم ببلد الجمعة، أو النائي عنه كبعد فرسخ (5544م) منه، ولا تندب عند المالكية لصبي وامرأة وعبد ومسافر لم ينو إقامة تقطع حكم السفر، وندبت لغير المرأة الشابة، ولا تندب لحاج ولا لأهل منى، ولو غير حاجين.
وتشرع عند الشافعية للمنفرد كالجماعة، والعبد والمرأة والمسافر والخنثى والصغير، فلا تتوقف على شروط الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد وغيرهما. وهي أفضل في حق غير الحاج بمنى من تركها بالإجماع.
ودليلهم على سنيتها: قوله صلّى الله عليه وسلم للأعرابي السائل عن الصلاة: «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده، قال له: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطَّوع» (4) وكونها مؤكدة: لمواظبته صلّى الله عليه وسلم عليها.
والتهنئة بالعيد والأعوام والأشهر مشروعة مباحة، لا سنة فيها ولا بدعة (5) .
__________
(1) المغني: 267/2، كشاف القناع: 55/2
(2) فتح القدير: 422/1، الدر المختار: 774/1، تبيين الحقائق: 223/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص89.
(3) الشرح الصغير: 523/1، القوانين الفقهية: ص85، مغني المحتاج: 310/1، المهذب:118/1.
(4) أخرجه البخاري ومسلم عن طلحة بن عبيد الله (نصب الراية: 208/2) .
(5) مغني المحتاج: 316/1.(2/514)
شرائط وجوبها وجوازها:
قال الحنفية (1) : كل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو شرط وجوب صلاة العيدين، وجوازها، من الإمام والجماعة، والمصر، والوقت، إلا الخطبة فإنها سنة بعد الصلاة، ولو تركها جازت صلاة العيد.
أما الإمام أي حضور السلطان أو الحاكم أو نائبه: فهو شرط أداء العيد كالجمعة، لما ثبت في السنة، ولأنه لو لم يشترط السلطان، لأدى إلى الفتنة، بسبب تجمع الناس، وتنازعهم على التقدم للإمامة لما فيها من الشرف والعلو والرفعة.
وأما المصر: فلقول علي موقوفاً عليه: «لا جمعة ولا تشريق، ولا صلاة فطر، ولا أضحى، إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة» (2) .
وأما الجماعة: فلأنها ما أديت إلا بجماعة.
وأما الوقت: فإنها لا تؤدى إلا في وقت مخصوص، كما جرى به التوارث عن السلف.
والذكورة والعقل والبلوغ والحرية وصحة البدن والإقامة من شرائط وجوبها، كما هي من شرائط وجوب الجمعة، فلا تجب على النسوان والصبيان والمجانين والعبيد بدون إذن مواليهم، ولا على الزمنى والمرضى والمسافرين، كما لاتجب عليهم الجمعة.
أما الحنابلة (3) فقالوا: يشترط لصحة صلاة العيد استيطان أربعين عدد الجمعة ولا يشترط لها إذن، ويفعلها المسافر والعبد والمرأة والمنفرد تبعاً لأهل وجوبها.
__________
(1) البدائع: 275/1، وانظر أيضاً ص 261.
(2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه عبد الرزاق بلفظ «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» (نصب الراية: 195/2)
(3) كشاف القناع: 58/2، المغني: 392/2.(2/515)
خروج النساء إلى صلاة العيد:
اتفق الفقهاء منهم الحنفية والمالكية (1) على أنه لا يرخص للشابات من النساء الخروج إلى الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة، لقوله تعالى: {وقَرْن في بيوتكن} [الأحزاب:33/33] والأمر بالقرار نهي عن الانتقال، ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وأما العجائز: فلا خوف في أن يرخص لهن الخروج في الفجر والمغرب والعشاء، والعيدين، واختلفوا في الظهر والعصر والجمعة، كما بينا سابقاً. وهذا التفصيل بين الشابة والعجوز هو مذهب الآخرين أيضاً.
وعبارة الشافعية والحنابلة (2) : لا بأس بحضور النساء مصلى العيد غير ذوات الهيئات فلا تحضر المطيبات، ولا لابسات ثياب الزينة أو الشهرة، لما روت أم عطية، قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج العَواتِق والحُيَّض، وذوات الخدور في العيد، فأما الحُيَّض فكن يعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» (3) .
وإذا أراد النساء الحضور تنظفن بالماء، ولا يتطيبن، ولا يلبسن الشهرة من الثياب، أي الثياب الفاخرة، ويعتزلن الرجال فلا يختلطن بهم، ويعتزل الحُيَّض المُصلَّى للحديث السابق، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلات» (4) أي غير عطرات، ولأن المرأة إذا تطيبت ولبست الشهرة من الثياب، دعا ذلك إلى الفساد.
__________
(1) البدائع: 275/1، الشرح الصغير: 530/1، بداية المجتهد: 211/1.
(2) مغني المحتاج: 310/1، المهذب: 119/1، المجموع:96/4،365، 11/5، المغني: 375/2، كشاف القناع: 58/2.
(3) رواه الجماعة. والعواتق: جمع عاتق، وهي المرأة الشابة أول ماتدرك. وذوات الخدور: جمع خِدْر وهو ناحية في البيت يجعل عليها ستر، فتكون فيه البنت البكر، وهي المخدَّرة أي خدرات في الخدور. والحيض جمع حائض وهذه ذات الدم في العادة الشهرية.
(4) رواه البخاري ومسلم.(2/516)
ثالثاً ـ وقتها:
اتفق الفقهاء على أن وقت صلاة العيد: هو ما بعد طلوع الشمس قدر رمح أو رمحين، أي بعد حوالي نصف ساعة من الطلوع، إلى قبيل الزوال، أي قبل دخول وقت الظهر، وهو وقت صلاة الضحى؛ للنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، فتحرم عند الشروق، وتكره بعدها عند الجمهور، فإذا صلوا قبل ارتفاع الشمس قدر رمح لا تكون عند الحنفية صلاة عيد، بل نفلاً محرماً (1) .
تعجيل الصلاة وتأخيرها: يسن تعجيل صلاة الأضحى في أول وقتها بحيث يوافق الحجاج بمنى في ذبحهم، وتأخير صلاة الفطر عن أول وقتها قليلاً، لما روى الشافعي مرسلاً أن النبي صلّى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم، وهو بنجران: «أن عجِّل الأضحى، وأخر الفطر، وذكِّر الناس» ولأنه يتسع لذلك وقت الأضحية، ووقت صدقة الفطر.
هل تقضى صلاة العيد وهل تصلى منفرداً؟ للفقهاء رأيان:
قال الحنفية والمالكية (2) : من فاتته صلاة العيد مع الإمام، لم يقضها؛ لفوات وقتها، والنوافل لا تقضى، ولأنها لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد، فلو أمكنه الذهاب لإمام آخر فعل، لأنها تؤدى بمواضع اتفاقاً. ولا تجوز للمنفرد وإنما تصلى جماعة.
وقال الشافعية والحنابلة (3) : من فاتته صلاة العيد مع الإمام، سنَّ له قضاؤها على صفتها، لفعل أنس، ولأنه قضاء صلاة، فكان على صفتها كسائر الصلوات. وله قضاؤها متى شاء في العيد وما بعده متى اتفق، والأفضل قضاؤها في بقية اليوم.
وتجوز صلاة العيد للمنفرد والعبد والمسافر والمرأة، كما بينا.
__________
(1) فتح القدير: 424/1، اللباب: 117/1، مراقي الفلاح: ص90، الدر المختار: 779/1، البدائع: 276/1، الشرح الصغير: 524/1، القوانين الفقهية: ص85، مغني المحتاج: 310/1، المهذب: 118/1، كشاف القناع: 56/2.
(2) فتح القدير: 429/1، اللباب: 118/1، الشرح الصغير: 524/1، القوانين الفقهية: ص85.
(3) مغني المحتاج: 315/1، المهذب: 120/1، كشاف القناع: 58/2،63، المغني: 390/2-392.(2/517)
المدرك عند الشافعية والحنابلة: إن أدرك المصلي الإمام في الخطبة، صلى تحية المسجد ثم جلس فسمعها، ولو كان بمسجد، ثم صلى العيد متى شاء، قبل الزوال أو بعده على صفتها، ولو منفرداً أو بجماعة دون أربعين؛ لأنها عند الشافعية نفل، فجاز للمنفرد فعلها كصلاة الكسوف، وتصير عند الحنابلة القائلين بفرضيتها تطوعاً لسقوط فرض الكفاية بالطائفة الأولى (1) .
وإن أدرك المرء الإمام في التشهد، جلس معه، فإذا سلم الإمام، قام فصلى ركعتين، يأتي فيهما بالتكبير؛ لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع، فقضاها على صفتها كسائر الصلوات.
صلاتها في اليوم الثاني إذا تأخر إثبات العيد لما بعد الزوال:
إذا لم يعلم قوم بالعيد إلا بعد زوال الشمس (أي ظهر العيد) ،أو غُمَّ الهلال على الناس، فشهدوا عند الإمام برؤية الهلال بعد الزوال، أو حصل عذر مانع كمطر شديد، ففي جواز صلاة العيد في اليوم التالي رأيان:
قال المالكية (2) : لا تصلى من الغد، ولا تنوب عن صلاة الجمعة؛ لفوات وقتها.
وقال الجمهور (3) : تصلى في اليوم التالي من الغد، وفي عيد الأضحى إلى ثلاثة أيام، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «غمَّ علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم» (4) أي إلى المصلى كما في رواية البيهقي.
وهذا هو الراجح، قال أبو بكر الخطيب: «سنة النبي صلّى الله عليه وسلم أولى أن تتبع» ، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب، وكالفرائض.
__________
(1) كشاف القناع: 63/2
(2) القوانين الفقهية: ص58 ومابعدها.
(3) الدر المختار:783/1، تبيين الحقائق: 226/1، الفتاوى الهندية: 142/1، مراقي الفلاح: ص91، المهذب: 121/1، مغني المحتاج: 315/1، المغني: 391/2 ومابعدها، كشاف القناع: 56/2.
(4) رواه أبو داود والدارقطني وحسنه، والنسائي بأسانيد صحيحة، ورواه البيهقي أيضاً، ثم قال: وهذا إسناد صحيح (المجموع: 31/5)(2/518)
وإن شهد اثنان برؤية هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين صلوا بالاتفاق في الغد، ولا يكون ذلك قضاء؛ لأن فطرهم غداً، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون» (1) .
رابعاً ـ موضع أداء صلاة العيد:
للفقهاء رأيان متقاربان (2) ، فقال الجمهور غير الشافعية: موضعها في غير مكة: المصلى (الصحراء خارج البلد، على أن يكون قريباً من البلد عرفاً عند الحنابلة) لا المسجد، إلا من ضرورة أو عذر، وتكره في المسجد، بدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلم، والكراهة لمخالفة فعله عليه السلام. فإن كان عذر لم تكره، لقول أبي هريرة: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد» (3) وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر.
أما في مكة: فالأفضل فعلها في المسجد الحرام، لشرف المكان، ومشاهدة الكعبة، وذلك من أكبر شعائر الدين.
__________
(1) حديث صحيح رواه الترمذي وغيره (المرجع السابق) .
(2) تبيين الحقائق: 224/1، مراقي الفلاح: ص90، القوانين الفقهية: ص85، الدر المختار ورد المحتار: 777/1، الفتاوى الهندية: 140/1، مغني المحتاج: 312 ومابعدها، المجموع: 5/5 ومابعدها، المهذب: 118/1، كشاف القناع: 59/2.
(3) رواه أبو داود بإسناد جيد، ورواه الحاكم وقال: هو صحيح (المجموع: 6/5) .(2/519)
وقال الشافعية: فعل صلاة العيد في المسجد أفضل؛ لأنه أشرف وأنظف من غيره، إلا إذا كان مسجد البلد ضيقاً، فالسنة أن تصلى في المصلى، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى (1) ، ولأن الناس يكثرون في صلاة العيد، وإذا كان المسجد ضيقاً تأذى الناس. قال الشافعية رحمه الله: فإن كان المسجد واسعاً، فصلى في الصحراء فلا بأس، وإن كان ضيقاً، فصلى فيه ولم يخرج إلى المصلى، كرهت.
فإن كان في الناس ضعفاء، استخلف الإمام في مسجد البلد من يصلي بهم، لما روي أن علياً رضي الله عنه استخلف أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه، ليصلي بضعَفة الناس في المسجد (2) .
وقال الحنفية: ولا يخرج المنبر إلى المصلى (الجبانة) يوم العيد، ولا بأس ببنائه دون إخراجه.
خامساً ـ كيفية صلاة العيد أو صفتها:
__________
(1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري.
(2) رواه الشافعي بإسناد صحيح. والضعفة: بفتح الضاد والعين: بمعنى الضعفاء جمع ضعيف.(2/520)
صلاة العيد ركعتان بالاتفاق، لقول عمر رضي الله عنه: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى» (1) وهي تشمل بعد الإحرام على تكبيرات: ثلاث عند الحنفية، وست في الأولى وخمس في الثانية عند المالكية والحنابلة، وسبع في الأولى وخمس في الثانية عند الشافعية قبل القراءة في الركعتين إلا عند الحنفية في الركعة الثانية يكون التكبير بعد القراءة، ويندب بعد الفاتحة قراءة سورتين هما عند الجمهور: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:87/1] و {الغاشية} [الغاشية:88] ، ولكن عند المالكية يقرأ في الثانية سورة {والشمس} [الشمس:91] ونحوها، وعند الشافعية: {ق} [ق:50/1]
و {اقتربت} [القمر:54/1] . ولا يؤذَّن لها ولا يقام، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «شهدت العيد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم صلى قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة» (2) والسنة أن ينادى لها: «الصلاة جامعة» لما روي عن الزهري أنه كان ينادَى به (3) وقياساً على صلاة الكسوف.
ويبدأ بها عند الجمهور غير المالكية بالنية بقلبه ولسانه فيقول: (أصلي صلاة العيد لله تعالى) إماماً أو مقتدياً، ويأتي بعد الإحرام بدعاء الافتتاح أو الثناء.
كيفيتها في المذاهب:
الحنفية (4) :
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وغيرهما.
(2) حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، إلا أنه قال: وعمر أو عثمان. ورواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وجابر: قالا: «لم يكن يؤذن يوم الفطر والأضحى» .
(3) رواه الشافعي بإسناد ضعيف مرسلاً. ويغني عن هذا الحديث الضعيف القياس على صلاة الكسوف، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة، وعبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلّى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي لما كسفت الشمس: «الصلاة جامعة» (المجموع: 17/5) والشرح الصغير: 191/2.
(4) اللباب: 117/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص90، فتح القدير: 425/1 - 427، تبيين الحقائق: 225/1، الدر المختار: 779/1 - 782، البدائع: 277/1 ومابعدها، الفتاوى الهندية: 141/1.....(2/521)
ينادى (الصلاة جامعة) ، ثم ينوي المصلي إماماً أو مقتدياً صلاة العيد بقلبه ولسانه قائلاً: (أصلي صلاة العيد لله تعالى) إماماً للإمام، ومقتدياً للمؤتمين، ثم يكبر تكبيرة الإحرام ثم يضع يديه تحت سرته، ثم يقرأ الإمام والمؤتم الثناء: (سبحانك اللهم وبحمد ك..الخ) ، ثم يكبر الإمام والقوم ثلاثاً تسمى تكبيرات الزوائد، لزيادتها على تكبيرة الإحرام والركوع، رافعاً يديه في كل منها، ثم يرسلها، ويسكت بعد كل تكبيرة مقدار ثلاث تسبيحات، ولا يسن ذِكْر معين، ولابأس بأن يقول: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، ثم توضع اليدان تحت السرة.
ثم يتعوذ الإمام ويسمي سراً، ثم يقرأ جهراً الفاتحة، وسورة بعدها، وندب أن تكون سورة {الأعلى} [الأعلى:6/87] تماماً، ثم يركع الإمام والقوم.
فإذا قام للركعة الثانية: ابتدأ بالبسملة، ثم بالفاتحة، ثم بالسورة ليوالي بين القراءتين، وهو الأفضل عندهم، وندب أن تكون سورة {الغاشية} [الغاشية:1/88] (1) .
ثم يكبر الإمام والقوم تكبيرات الزوائد ثلاثاً مع رفع اليدين كما في الركعة الأولى، لأثر ابن مسعود، قال: «يكبر تكبيرة، ويفتتح به الصلاة، ثم يكبر بعدها ثلاثاً، ثم يقرأ، ثم يكبر تكبيرة، يركع بها، ثم يسجد، ثم يقوم، فيقرأ، ثم يكبر ثلاثاً، ثم يكبر تكبيرة، يركع بها» (2) ، ثم تتم الركعة الثانية إلى السلام.
__________
(1) رواه أبو حنيفة يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: «كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» ورواه مرة في العيدين فقط. ورواه أحمد عن سمرة في العيدين (نيل الأوطار: 296/3) .
(2) رواه الطحاوي في الآثار: ص40 (نصب الراية: 214/2 في الحاشية) .(2/522)
فإن قدم التكبيرات في الثانية على القراءة جاز، وكذا إذا كبر زيادة على الثلاث إلى ست عشرة تكبيرة، فإذا زاد لا يلزم المؤتم المتابعة.
وإن نسي الإمام التكبيرات وركع، فإنه يعود ويكبر، ولا يعيد القراءة، ويعيد الركوع.
أما المسبوق الذي سبقه الإمام: فإن كان قبل التكبيرات الزوائد، يتابع الإمام على مذهبه، ويترك رأيه. وإن أدركه بعدما كبر الإمام الزوائد وشرع في القراءة، فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح، ويأتي بالزوائد برأي نفسه لا برأي الإمام؛ لأنه مسبوق.
وإن أدرك الإمام في الركوع: فإن لم يخف فوت الركعة مع الإمام، يكبر للافتتاح قائماً، ويأتي بالزوائد، ثم يتابع الإمام في الركوع. وإن خاف إن كبر أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، كبر للافتتاح، ثم كبر للركوع، وركع؛ لأنه لو لم يركع يفوته الركوع والركعة، وهذا لايجوز. ثم إذا ركع يكبر تكبيرات العيد في الركوع عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن للركوع حكم القيام. وقال أبو يوسف. لا يكبر؛ لأنه فات عن محله، وهو القيام، فيسقط كالقنوت.
وعلى الرأي الأول الراجح: إن أمكنه الجمع بين التكبيرات والتسبيحات جمع بينهما، وإن لم يمكنه الجمع بينهما يأتي بالتكبيرات دون التسبيحات؛ لأن التكبيرات واجبة، والتسبيحات سنة، والاشتغال بالواجب أولى. فإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يتمها رفع رأسه؛ لأن متابعة الإمام واجبة، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه فات محلها.(2/523)
هذا إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى. فإن أدركه في الركعة الثانية، كبر للافتتاح، وتابع إمامه في الركعة الثانية، فإذا فرغ الإمام من صلاته، قام إلى قضاء
ما سبق به، متبعاً رأي نفسه؛ لأنه منفرد فيما يقضي، بخلاف اللاحق؛ لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام.
وتقدم صلاة العيد على صلاة الجنازة إذا اجتمعتا، وتقدم صلاة الجنازة على الخطبة.
المالكية (1) :
كالحنفية في أداء صلاة العيد ركعتين جهراً بلا أذان ولا إقامة، واستحباب قراءة {سبح} [الأعلى:87] ونحوها، وسورة {والشمس} [الشمس:91] ونحوها، إلا أن التكبير في الركعة الأولى ست بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس غير تكبيرة القيام، قبل القراءة ندباً، فإن أخر التكبير عن القراءة صح، وخالف المندوب. ولا يتبع المؤتم الإمام في التأخير عن القراءة ولا في الزيادة عن هذا القدر. ودليلهم على عدد التكبير عمل أهل المدينة، وقول ابن عمر: «شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمساً قبل القراءة» .
ويندب موالاة التكبير إلا الإمام فيندب له الانتظار بعد كل تكبيرة، حتى يكبر المقتدون به، ويرفع يديه في تكبيرة الإحرام فقط، ولا يرفع يديه مع التكبيرات في المشهور، ويكره الرفع. ويسكت المكبر. ويكره أن يقول شيئاً من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو غيرها.
والتكبيرات سنة مؤكدة، فلو نسي الإمام شيئاً منها، وتذكره في أثناء قراءته أوبعدها، كبَّر، ما لم يركع، وأعاد القراءة، وسجد بعد السلام سجود السهو، لزيادة القراءة الأولى.
__________
(1) الشرح الصغير: 525/1 ومابعدها، الشرح الكبير: 397/1، 400، القوانين الفقهية: ص86، بداية المجتهد: 209/1 ومابعدها.(2/524)
وإن تذكره بعد أن ركع، استمرَ في صلاته وجوباً، ولا يرجع له، إذ لا يرجع من فرض لنفل، وإلا بطلت الصلاة، ويسجد الإمام للسهو ولو لترك تكبيرة واحدة، إذ كل تكبيرة منها سنة مؤكدة. وأما المؤتم فالإمام يحمله عنه.
وإذا لم يسمع المقتدي تكبير الإمام تحرّى تكبيره وكبر.
والمسبوق: لا يكبر ما فاته أثناء تكبير الإمام، ويكمل ما فاته بسبب تأخر اقتدائه بعد فراغ الإمام منه، وإذا اقتدى بالإمام أثناء القراءة بعد التكبير، فإنه يأتي بالتكبير بعد إحرامه، سواء في الركعة الأولى أو الثانية. ويأتي بست تكبيرات في الأولى، وبخمس في الثانية. وإذا فاتته الركعة الأولى يقضيها ستاً غير تكبيرة القيام، وإن أدرك مع الإمام أقل من ركعة، قضى ركعتين بعد سلام الإمام، يكبر في الأولى ستاً، وفي الثانية خمساً.
الشافعية (1) :
هم كالحنفية في دعاء الافتتاح والتعوذ والجهر بالقراءة، إلا أن التكبير عندهم سبع في الأولى، خمس في الثانية، قبل القراءة مع رفع اليدين في الجميع، يقف بين كل ثنتين كآية معتدلة، يهلل ويكبر ويمجِّد (أي يعظم الله) ، واضعاً يمناه على يسراه بينهما، تحت صدره، ويحسن في ذلك الباقيات الصالحات: (سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (2) ثم يتعوذ ويقرأ. والتكبير ليس فرضاً ولا بعضاً من أبعاض الصلاة، وإنما هو سنة أو هيئة كالتعوذ ودعاء الافتتاح، فلا يسجد للسهو لتركهن عمداً ولا سهواً، وإن كان الترك لكلهن أو بعضهن مكروهاً.
ولو نسيها المصلي وتذكرها قبل الركوع، وشرع في القراءة، ولو لم يتم الفاتحة، لم يتداركها، وفاتت في المذهب الجديد لفوات محله، فلو عاد لم تبطل صلاته، ولو عاد إلى القيام في الركوع أوبعده ليكبر، فإن صلاته تبطل إن كان عالماً متعمداً. والجهل كالنسيان.
__________
(1) مغني المحتاج: 310/1-311، المهذب: 120/1، المجموع: 18/5 ومابعدها.
(2) ولو قال مااعتاده الناس وهو: (الله أكبر تكبيراً، والحمد لله؛ كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً) لكان حسناً، ولايأتي به بعد التكبيرة السابقة، وإنما يتعوذ ويقرأ الفاتحة كغيرها من الصلوات.(2/525)
ولو زاد الإمام عن عدد التكبير لا يتابعه المأموم، وإذا ترك الإمام التكبير تابعه المأموم في تركه، فإن فعل بطلت صلاته إذا رفع يديه ثلاث مرات متوالية؛ لأنه فعل كثير تبطل به الصلاة، وإلا فلا تبطل. وإذا كبر الإمام أقل من هذا العدد تابعه المؤتم. والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته.
ودليلهم على عدد التكبير: ما رواه الترمذي وحسنه (1) : «أنه صلّى الله عليه وسلم كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة» .
ودليلهم على التسبيح والتحميد بين التكبيرات: ما رواه البيهقي عن ابن مسعود قولاً وفعلاً، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة: صدق. وهي الباقيات الصالحات، قال تعالى: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} [الكهف:18/46] وهي عند ابن عباس وجماعة.
ودليلهم على رفع اليدين: ما روي أن عمر رضي الله عنه «كان يرفع يديه في كل تكبيرة في العيد» (2) .
والسنة أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى: {ق} [ق:1/50] ، وفي الثانية: {اقتربت} [القمر:54/1] ، بكمالهما جهراً، بدليل ما رواه أبو واقد الليثي: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق والقرآن المجيد} [ق:50/1] ، و {اقتربت الساعة} [القمر:54/1] (3) ، والجهر بالقراءة لنقل الخلف عن السلف.
ولو قرأ في الأولى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:87/1] ، وفي الثانية: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية:1/88] ، كان سنة أيضاً، لثبوته أيضاً في صحيح مسلم. وله أن يقرأ أيضاًَ في الأولى (الكافرون) [الكافرون:109/1] وفي الثانية (الإخلاص) [الإخلاص:112] .
__________
(1) عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، ورواه ابن ماجه، ولم يذكر القراءة ورواه أيضاً أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (نيل الأوطار: 297/3) .
(2) رواه البيهقي في حديث مرسل عن عطاء، ورواه في السنن عن عمر بإسناد منقطع وضعيف.
(3) رواه الجماعة إلا البخاري، وأبو واقد: اسمه الحارث بن عوف (نيل الأوطار: 296/3، المجموع: 19/5-20) .(2/526)
الحنابلة (1) :
هم كالجمهور غير المالكية في دعاء الافتتاح والتعوذ قبل القراءة، وكالمالكية في عدد التكبير: في الأولى ستاً زوائد، وفي الثانية خمساً، لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة» (2) وعدوا السبع مع تكبيرة الإحرام، خلافاً للشافعية.
ويرفع يديه مع كل تكبيرة، لحديث وائل بن حجر: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في التكبير» ويقول بين كل تكبيرتين زائدتين: «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً» لحديث ابن مسعود السابق في رأي الشافعية. وإن أحب قال غير ذلك من الذكر؛ إذ ليس فيه ذِكْر مؤقت أي محدود. ولا يأتي بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين بذكر أصلاً.
والتكبير والذكر بين التكبيرات كما قال الشافعية: سنة، وليس بواجب، ولا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً. فإن نسي التكبير وشرع في القراءة، لم يعد إليه، لأنه سنة فات محلها، كما لو نسي الاستفتاح أو التعوذ، حتى شرع في القراءة، أو نسي قراءة سورة حتى ركع.
__________
(1) المغني:376/2-384، 396، كشاف القناع: 59/2-61، 63، 65.
(2) قال الترمذي: حديث حسن، وهو أحسن حديث في الباب، ورواه ابن ماجه، وصححه ابن المديني. وفي رواية: «التكبير سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما» رواه أبو داود والدارقطني. وقال أحمد: اختلف أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز، وقال ابن الجوزي: ليس يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم في التكبير في العيدين حديث صحيح.(2/527)
كذلك لا يأتي بالتكبير إن أدرك الإمام قائماً بعد التكبير الزائد أو بعضه، لفوات محله، كما لو أدرك الإمام راكعاً. والمسبوق ولو بنوم أو غفلة ببعض صلاته يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته، وهو قول أكثر أهل العلم، ويعمل في القضاء بمذهبه، ودليلهم عموم قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، ومافاتكم فاقضوا» .
ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسبح، وفي الثانية بعد الفاتحة بالغاشية لحديث سمرة بن جندب «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية» (1) ؛لأن في سورة {الأعلى} [الأعلى:87] حثاً على الصدقة والصلاة في قوله {قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى:87/14-15] (2) .
ويجهر بالقراءة، لما روى الدارقطني عن ابن عمر قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء» .
سادساً ـ خطبة العيد:
تسن عند الجمهور وتندب عند المالكية خطبتان للعيد كخطبتي الجمعة في الأركان والشروط والسنن والمكروهات، بعد صلاة العيد خلافاً للجمعة، بلا خلاف بين المسلمين، يذكِّر الإمام في خطبة عيد الفطر بأحكام زكاة الفطر (3) ،
__________
(1) رواه أحمد ولابن ماجه من حديث ابن عباس والنعمان بن بشير مثله، وروي عن عمر وأنس.
(2) هكذا فسره سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز.
(3) اللباب: 118/1-119، مراقي الفلاح: ص91، تبيين الحقائق: 226/1، الفتاوى الهندية: 141/1، فتح القدير: 428/1 ومابعدها، الدر المختار:782/1-784، الشرح الصغير: 530/1، الشرح الكبير: 400/1، القوانين الفقهية: ص86، مغني المحتاج: 311/1 ومابعدها، المهذب: 120/1، المجموع: 36/5، المغني:384/2-387، كشاف القناع: 61/2-62.(2/528)
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» (1) ، وفي عيد الأضحى بأحكام الأضحية وتكبيرات التشريق ووقوف الناس بعرفة وغيرها، تشبهاً بالحجاج، وما يحتاجون إليه في يومهم، ويحسن تعليمهم ذلك في خطبة الجمعة السابقة على العيد. وإذا صعد على المنبر لا يجلس عند الحنفية، ويجلس عند الحنابلة والمالكية والشافعية ليستريح.
ودليل سنية الخطبة: التأسي بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبخلفائه الراشدين فلا يجب حضورها ولا استماعها، لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم العيد، فلما انقضت الصلاة، قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة، فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» (2) ولو ترك الخطبة جازت صلاة العيد.
وكونها بعد الصلاة اتباعاً للسنة أيضاً، فإن ابن عمر قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» (3) فلو خطب الإمام قبل الصلاة صح عند الحنفية وأساء، لترك السنة، لأن التأخير سنة.
ويبدأ الخطيب خطبته بالتكبير، كما يكبر في أثنائها، من غير تحديد عند المالكية، وقيل عندهم: سبعاً في أولها. وعند الجمهور: يكبر في الخطبة الأولى تسع تكبيرات متوالية، وفي الثانية: يكبر في الثانية بسبع متوالية أيضاً، لما روى سعيد بن منصور عن عبيد الله بن عتبة، قال: «كان يكبر الإمام يومي العيد قبل أن
__________
(1) انظر كشاف القناع: 62/2.
(2) رواه ابن ماجه، وإسناده ثقات، وأبو داود والنسائي، وقالا: مرسل (نيل الأوطار:305/3) .
(3) متفق عليه. وروى الشيخان أيضاً عن أبي سعيد: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم..» (نيل الأوطار: 303/3) .(2/529)
يخطب تسع تكبيرات، وفي الثانية: سبع تكبيرات» ويستحب عند الحنفية أيضاً أن يكبر الإمام قبل نزوله من المنبر أربع عشرة مرة، ويندب للإمام بعد فراغه من الخطبة أن يعيدها لمن فاته سماعها، ولو نساء، اتباعاً للسنة، رواه الشيخان.
ويلاحظ أن الخطب المشروعة عشر: خطبة الجمعة، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، والزواج، وأربع في الحج عند الشافعية، وثلاث عند الحنفية، وكلها بعد الصلاة إلا خطبتي الجمعة وعرفة فقبلها، وخطبة الزواج لا تقترن بصلاة، وكل منها ثنتان إلا الثلاثة الباقية في الحج عند الشافعية ما عدا خطبة عرفة، وخطبة النكاح، ففرادى، ويبدأ بالتحميد في ثلاث: خطبة الجمعة والاستسقاء والزواج، ويبدأ بالتكبير في خمس أوست: خطبة العيدين، وثلاث أو أربع خطب الحج. إلا التي بمكة وعرفة، يبدأ فيها بالتكبير ثم بالتلبية، ثم بالخطبة.
وتختلف خطبة العيد عن خطبة الجمعة في أمور:
منها ـ أن خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، وخطبة العيد بعد الصلاة، فإذا قدمها لم تصح عند غير الحنفية، ويندب إعادتها بعد الصلاة. ومنها ـ أن خطبتي الجمعة تبدآن بالحمد لله، وهو شرط أو ركن عند الشافعية والحنابلة، سنة عند الحنفية، مندوب عند المالكية، أما خطبتا العيدين فيسن افتتاحهما بالتكبير.
ومنها ـ يسن بالمستمع خطبة العيد عند الحنفية والحنابلة والمالكية أن يكبر سراً عند تكبير الخطيب، أما خطبة الجمعة فيحرم الكلام فيها، ولو ذكراً عند الجمهور، وقال الحنفية: لا يكره الذكر في خطبة الجمعة والعيد على الأصح. ويحرم الكلام غير التكبير عند الحنابلة في كل من خطبة العيد والجمعة.(2/530)
وقال الشافعية: الكلام مكروه لا محرم في خطبة الجمعة والعيد، ولا يكبر الحاضرون في حال الخطبة، بل يستمعونها. ومنها ـ أن الخطيب عند الحنفية خلافاً للجمهور لايجلس إذا صعد المنبر، ويجلس في خطبة الجمعة.
ومنها ـ أن الخطيب عند المالكية إذا أحدث في أثناء خطبة العيد يستمر ولا يستخلف، بخلاف خطبة الجمعة، فإنه إذا أحدث فيها يستخلف.
ومنها ـ أن خطبة العيد عند الشافعية لا يشترط فيها شروط خطبة الجمعة من قيام وطهارة وستر عورة وجلوس بين الخطبتين، وإنما يسن ذلك فقط.
سابعاً ـ حكم التكبير في العيدين:
اتفق الفقهاء على مشروعية التكبير في العيدين في الغدو إلى الصلاة، وفي إدبار الصلوات أيام الحج. أما التكبير في الغدو إلى صلاة العيد: فقال أبو حنيفة (1) : يندب التكبير سراً في عيد الفطر في الخروج إلى المصلى لحديث «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي» (2) ، ويقطعه إذا انتهى إلى المصلى في رواية، وفي رواية: إلى الصلاة. وقال الصاحبان: يكبر جهراً، واتفقوا على التكبير جهراً في عيد الأضحى في الطريق.
وقال الجمهور (3) : يكبر في المنازل والمساجد والأسوق والطرق أي عند الغدو إلى الصلاة جهراً، إلى أن تبدأ الصلاة، وعند الحنابلة: إلى فراغ الخطبة، وهو في الفطر آكد من تكبير ليلة الأضحى لقوله تعالى: {ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم، ولعلكم تشكرون} [البقرة:185/2] ولما فيه من إظهار شعائر الإسلام، وتذكير الغير.
__________
(1) فتح القدير: 423/1، الفتاوى الهندية: 142/1، مراقي الفلاح: ص90، اللباب: 117/1، الدر المختار: 784/1-785.
(2) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان عن سعد.
(3) الشرح الصغير: 529/1، القوانين الفقهية: ص86، المجموع: 36/5-37. مغني المحتاج: 314/1 ومابعدها، كشاف القناع: 63/2-64، المغني: 368/2، 369، 372-374، 393-595.(2/531)
ويندب التكبير المطلق (وهو ما لا يكون عقب الصلاة) عند الشافعية والحنابلة: من غروب شمس ليلة عيد الفطر، لا ما قبلها: ولا يسن التكبير المقيد (وهو المفعول عقب الصلاة) ليلة الفطر عند الحنابلة وفي الأصح عند الشافعية، لعدم وروده.
وصيغة التكبير:
عند الحنفية والحنابلة شفعاً: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر (ثنتين) ، ولله الحمد) عملاً بخبر جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم الآتي، وهو قول الخليفتين الراشدين، وقول ابن مسعود.
وصيغته عند المالكية والشافعية في الجديد ثلاثاً: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) ، وهذا هو الأحسن عند المالكية، فإن زاد (لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد) فهو حسن، عملاً بما ورد عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم، ويستحب أن يزيد عند الشافعية بعد التكبيرة الثالثة: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) كما قاله النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا. ويسن أن يقول أيضاً بعد هذا: (لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر) . وهذه الزيادة إن شاءها عند الحنفية، ويختمها بقوله: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى أصحاب محمد، وعلى أزواج محمد، وسلم تسليماً كثيراً) .
وأما التكبير في إدبار الصلوات أيام الحج في عيد الأضحى:
فقال الحنفية (1) :
يجب على الرجال والنساء تكبير التشريق (2) في الأصح مرة، وإن زاد عليها يكون فضلاً، عقب كل فرض عيني بلا فصل يمنع البناء على الصلاة (كالخروج من المسجد أو الكلام أو الحدث عامداً) ويؤدى بجماعة أو منفرداً، ولو قضاء، ويكون التكبير للرجال جهراً، وتخافت المرأة بالتكبير، ولا يكبر عقب الوتر وصلاة العيد.
ومدته: من فجر يوم عرفة إلى عصر يوم العيد عند أبي حنيفة، وإلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق عند الصاحبين، وبقولهما يفتى، فهي ثلاث وعشرون صلاة.
والتكبير واجب عقيب الصلوات المفروضات على كل من صلى المكتوبة، ولو منفرداً أو مسافراً أو مقتدياً؛ لأنه تبع لها، على المفتى به من قول الصاحبين. والمسبوق يكبر وجوباً كاللاحق، بعد قضاءما فاته من الصلاة مع الإمام، ولو ترك الإمام التكبير يكبر المقتدي.
ويبدأ المحرم بالتكبير، ثم بالتلبية (3) ،ولا يفتقر التكبير للطهارة، ولا لتكبير الإمام، فلو تركه الإمام كبر المقتدي.
__________
(1) الدر المختار: 784/1-787، تبيين الحقائق: 226/1 ومابعدها، اللباب: 119/1 ومابعدها، فتح القدير: 430/1-431.
(2) التشريق: تقديم اللحم بالقائه في المشرقة تحت ضوء الشمس، وقد جرت العادة بتشريق لحوم أضاحي في الأيام الثلاثة بعد العيد، فسميت أيام التشريق، وأيام التشريق: هي الأيام المعدودات، أما الأيام المعلومات فهي أيام العشر من أول ذي الحجة.
(3) ذكر في الدر المختار أن المحرم يبدأ بالتلبية.(2/532)
ودليلهم على إيجاب التكبير ومدته: قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:203/2] وحديث جابر: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، حين يسلِّم من المكتوبات» وفي لفظ: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة، أقبل على أصحابه، فيقول: على مكانكم، ويقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، فيكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر، من آخر أيام التشريق» (1) .
__________
(1) رواه الدارقطني، وفيه جابر الجعفي سيء الحال، وعمرو بن شمر أسوأ حالاً منه، بل هو من الهالكين (نصب الراية: 223/2 ومابعدها) والأصح أن صيغة التكبير مأثورة عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة، بسند جيد. وقال الصنعاني في (سبل السلام: 72/2) : وأما صفة التكبير فأصح ماورد فيه: مارواه عبد الرزاق عن سلمان بسند صحيح قال: «كبروا، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً» ، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي ليلى، وقول للشافعي، وزاد فيه «ولله الحمد» .(2/533)
وقال المالكية (1) :
يندب للجماعة والفرد التكبير إثر كل صلاة من الصلوات المكتوبات من خمس عشرة فريضة وقتية، من ظهر يوم النحر إلى صبح اليوم الرابع، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:28/22] وهذا الخطاب وإن كان مقصوداً به أهل الحج، فإن الجمهور رأوا أنه يعم الحجاج وغيرهم، وتلقى الناس ذلك بالعمل، والناس تبع للحجيج وهم يكبرون من الظهر.
ولا يكبر بعد نافلة، ولا مقضية من الفرائض، وإن نسي التكبير كبَّر إذا تذكر إن قرب الزمن، لا إن خرج من المسجد أو طال عرفاً. وكبّر مؤتم ندباً ترك إمامه التكبير، وندب تنبيه الناسي ولو بالكلام.
__________
(1) بداية المجتهد: 213/1، الشرح الصغير:531/1، القوانين الفقهية: ص86، الشرح الكبير: 401/1.(2/534)
وقال الشافعية في الأظهر (1) :
يكبّر الحاج عقب الصلوات من ظهر النحر، لأنها أول صلاته بمنى ووقت انتهاء التلبية ويختم بصبح آخر التشريق لأنها آخر صلاة يصليها بمنى، كما قال المالكية؛ وغير الحاج كالحاج في الأظهر والمشهور في المذهب؛ لأن الناس تبع للحجيج، ولإطلاق حديث مسلم: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى» وقيل: من صبح عرفة إلى عصر آخر التشريق، والعمل على هذا في الأمصار، وصح من فعل عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، واختاره النووي، وقال: إنه الأصح. ولا يكبر الحاج ليلةالأضحى، بل يلبي؛ لأن التلبية شعاره، والمعتمر يلبي إلى أن يشرع في الطواف.
والأظهر أنه يُكَّبر في هذه الأيام للفائتةوالراتبة والمنذورة والنافلة المطلقة أو المقيدة، وذات السبب كتحية المسجد؛ لأنه شعار الوقت.
والتكبير سنة في العيدين في المنازل والطرق والمساجد والأسواق برفع الصوت، لما روى نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد الله بن عباس، وعلي وجعفر، والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن، رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، ويأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلَّى (2) .
ويكبر لرؤية الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} [الحج:28/22] .
__________
(1) مغني المحتاج: 314/1، المهذب: 121/1، المجموع:24/5-42.
(2) المصلى: مكان صحراوي كان قرب المدينة، قرب المسجد النبوي الشريف، وقد دخل الآن في مبانيها، وأقيم فيه مسجد الغمامة الآن.(2/535)
وقال الحنابلة (1) :
يسن التكبير مطلقاً في العيدين، ويسن إظهاره في المساجد والمنازل والطرق، حضراً وسفراً، في كل موضع يجوز فيه ذكر الله، ويسن الجهر به لغير أنثى، من كل من كان من أهل الصلاة من مميز وبالغ، حر أوعبد، ذكر أو أنثى، من أهل القرى والأمصار، عقب كل فريضة ولو مقضية، تصلى في جماعة في المشهور، في ثلاث وعشرين فريضة من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، لحديث جابر السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة، وأقبل علينا، فقال: «الله أكبر، الله أكبر» ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق (2) ، وفي بعضها «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد» . والمسافر كالمقيم، والحاج المحرم كغير الحاج في مدة التكبير؛ لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية، ويبدأ بالتكبير ثم يلبي. لأن التكبير من جنس الصلاة.
ولا يكبر من صلى وحده، لقول ابن مسعود: «إنما التكبير على من صلى جماعة» (3) ، ولأنه ذكر مختص بوقت العيد، فأشبه الخطبة.
ويكبر مأموم نسي إمامه التكبير ليحوز الفضيلة، كقول: آمين.
ويأتي بالتكبير الإمام مستقبل الناس، لحديث جابر السابق أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان يقبل بوجهه على أصحابه، ويقول: على مكانكم، ثم يكبر» ويكبر غير الإمام مستقبل القبلة؛ لأنه ذكر مختص بالصلاة، أشبه الأذان والإقامة. ويجزئ التكبير مرة واحدة، وإن زاد على مرة فلا بأس، وإن كرره ثلاثاً فحسن. والأولى أن يُكبَّر عقب صلاة العيد؛ لأنها صلاة مفروضة في جماعة، فأشبهت صلاة الفجر، ولأن هذه الصلاة أخص بالعيد، فكانت أحق بتكبيره.
ويستحب التكبير أيضاً في أيام العشر من ذي الحجة وهي الأيام المعلومات، لقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} [الحج:28/22] .
__________
(1) كشاف القناع: 63/2-67، المغني: 393/2-398.
(2) أخرجه الدارقطني من طرق، وقد بينا ضعفه.
(3) رواه ابن المنذر.(2/536)
ثامناً ـ سنن العيد أو مستحباته أو وظائفه:
يستحب في مقدمات عيد الأضحى الاجتهاد في عمل الخير، أيام عشر ذي الحجة، من ذِكْر الله تعالى والصيام والصدقة وسائر أعمال البر؛ لأنها أفضل الأيام، لحديث «مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع بشيء من ذلك» (1) .
ويندب الامتناع عن تقليم الأظفار وحلق الرأس في عشر ذي الحجة، لما ورد في صحيح مسلم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل العشر، وأراد بعضكم أن يضحي، فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً» .
ويندب في العيد عدا التكبير ما يأتي (2) :
1ً - إحياء ليلتي العيد بطاعة الله تعالى أي بالعبادة من ذكر وصلاة وتلاوة قرآن، وتكبير وتسبيح واستغفار، ويحصل ذلك بالثلث الأخير من الليل، والأولى إحياء الليل كله، لقوله صلّى الله عليه وسلم:
__________
(1) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما (نيل الأوطار: 312/3) .
(2) مراقي الفلاح:89/1 ومابعدها، تبيين الحقائق: 224/1 ومابعدها، فتح القدير: 423/1،429، الفتاوى الهندية: 140/1، الدر المختار: 776/1 ومابعدها، اللباب: 116/1 ومابعدها، الشرح الصغير: 527/1-531، مغني المحتاج: 312/1 ومابعدها، المهذب: 119/1، المغني: 369/2-374، 389،399، كشاف القناع: 56/2-58.(2/537)
«من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى محتسباً، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (1) .
ويقوم مقام ذلك: صلاة العشاء والصبح في جماعة.
والدعاء في ليلتي العيد مستجاب، فيستحب كما يستحب في ليلة الجمعة وليلتي أول رجب ونصف شعبان.
2ً - الغسل والتطيب والاستياك ولبس الرجال أحسن الثياب، قياساً على الجمعة، وإظهاراً لنعمة الله وشكره. ويدخل وقت الغسل عند الشافعية بنصف الليل، وعند المالكية: بالسدس الأخير من الليل، ويندب كونه بعد صلاة الصبح، وعند الحنفية والحنابلة بعد الصبح قبل الذهاب إلى المصلى، وهو غسل عند الحنفية للصلاة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر (2) ، وكان علي وعمر رضي الله عنهما يغتسلان يوم العيد.
وكان عليه السلام يتطيب يوم العيد، ولو من طيب أهله. وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم بردة حمراء يلبسها يوم العيد (3) . وتخرج النساء كما بينا ببذلة بلا طيب خشية الافتتان بها.
ويتنظف ويتزين بإزالة الظفر والريح الكريهة كالجمعة، والإمام بذلك آكد؛ لأنه منظور إليه من بين سائر الناس.
3ً - تبكير المأموم ماشياً إن لم يكن عذر إلى الصلاة بعد صلاة الصبح ولو قبل الشمس بسكينة ووقار: ليحصل له الدنو من الإمام من غير تخط للرقاب، وانتظار الصلاة فيكثر ثوابه، لقول علي: «من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً» (4) ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة.
وأما الإمام فيسن له التأخر إلى وقت الصلاة، لحديث أبي سعيد عند مسلم: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة» .
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت، ورواه الدارقطني موقوفاً، قال النووي: وأسانيده ضعيفة. وأخرجه ابن ماجه عن أبي أمامة، وهو حديث حسن بلفظ: «من قام ليلتي العيد، محتسباً لله تعالى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» .
(2) رواه ابن ماجه عن ابن عباس، وهو ضعيف (نصب الراية: 85/1) .
(3) رواه البيهقي عن ابن عباس، ورواه ابن عبد البر وابن خزيمة في صحيحه عن جابر: «كان للنبي حلة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة» .
(4) رواه الترمذي: وقال: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم.(2/538)
ولا بأس بالركوب في العود، لقول علي: «ثم تركب إذا رجعت» ؛ لأنه غير قاصد إلى قربة. وقال الحنفية: لا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه.
وعبر الحنفية عن هذا بمندوبين: التبكر: وهو سرعة الانتباه أول الوقت أو قبله لأداء العبادة بنشاط، والابتكار: وهو المسارعة إلى المصلى لينال فضيلته والصف الأول.
ويذهب الإمام وغيره ندباً إلى المصلى كمافي صلاة الجمعة من طريق، ويرجع من أخرى، اتباعاً للسنة، كما روى البخاري (1) لتشهد له الطريقان، أو لزيادة الأجر، ويخص الذهاب بأطولهما تكثيراً للأجر، ويرجع في أقصرهما.
ويندب للإمام الإسراع في الخروج إلى صلاة الأضحى والتأخر قليلاً في الخروج إلى صلاة الفطر، لما ورد مرسلاً من أمره صلّى الله عليه وسلم بذلك، وليتسع الوقت للتضحية ولإخراج الفطرة، كما سبق.
4ً - أن يأكل في عيد الفطر قبل الصلاة، وأن يكون المأكول تمرات وتراً، ويؤخر الأكل في الأضحى حتى يرجع من الصلاة، والأكل في الفطر آكد من الإمساك في الأضحى، لحديث أنس: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» (2) وزاد في رواية منقطعة «ويأكلهن وتراً» وحديث بريدة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، وكان لا يأكل يوم النحر، حتى يصلي» (3) ليأكل من الأضحية إن ضحى، والأولى من كبدها؛ لأنه أسرع هضماً وتناولاً. فإن لم يضح خير عند الحنابلة بين الأكل قبل الصلاة وبعدها.
ويندب تأخير الأكل في الأضحى مطلقاً، ضحى أم لا.
__________
(1) رواه البخاري عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق» ورواه مسلم من حديث أبي هريرة.
(2) رواه البخاري (نصب الراية: 208/2) .
(3) رواه الترمذي وابن ماجه (المصدر السابق) .(2/539)
5ً - أن يؤدي صدقة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة، ولا بأس بأدائها قبل العيد بأيام، تمكيناً للفقير من الانتفاع بها في العيد، قال ابن عباس: فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطعْمه للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (1) .
6ً - التوسعة على الأهل، وكثرة الصدقة النافلة بحسب الطاقة زيادة عن عادته، ليغنيهم عن السؤال.
7ً - إظهار البشاشة والفرح في وجه من يلقاه من المؤمنين، وزيارة الأحياء من الأرحامـ والأصحاب، إظهاراً للفرح والسرور، وتوثيقاً لرابطة الأخوة والمحبة.
8ً - قال الحنفية: يندب صلاة الصبح في مسجد الحي، لقضاء حقه، ثم يذهب إلى المصلى. ورأى جمهور الفقهاء أنه يندب إيقاع الصلاة في المصلى في الصحراء لا في المسجد، والسنة عند الشافعية أيضاً أن تصلى صلاة العيد في المصلى إذا كان المسجد ضيقاً، وإلا فالمسجد أفضل، كما بينا في موضع صلاة العيد.
تاسعاً ـ التنفل قبل العيد وبعده:
للفقهاء رأيان: رأي الجمهور: لا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها، وهو الأصح لدي، ورأي الشافعية: يصلى قبلها بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، وبعدها أيضاً. وتفصيل الآراء ما يأتي:
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه: (نيل الأوطار: 4 / 184) .(2/540)
رأي الحنفية (1) :
يكره التنفل قبل صلاة العيد مطلقاً في المصلى والبيت وبعدها في المصلى فقط، ويجوز في البيت، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما» (2) وحديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنه كان لا يُصلِّي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» (3) .
__________
(1) فتح القدير: 424/1، الدر المختار: 777/1 ومابعدها، اللباب: 117/1، مراقي الفلاح: ص90.
(2) رواه الجماعة (نيل الأوطار:300/3) ويؤيده حديث ابن عمر عند أحمد والترمذي وصححه، وللبخاري عن ابن عباس: أنه كره الصلاة قبل العيد.
(3) رواه ابن ماجه وأحمد بمعناه (نيل الأوطار: 301/3) .(2/541)
المالكية في المشهور (1) :
يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى لحديث ابن عباس وابن عمر لا في المسجد، ففي المسجد لا يكره قبلها ولا بعدها، أما عدم كراهته قبلها فلأن السنة الخروج بعد الشمس، والتحية حينئذ مطلوبة اتفاقاً، وأما عدم كراهته بعد صلاتها، فلندور حضور أهل البدع لصلاة الجماعة في المسجد.
الحنابلة (2) :
يكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة، سواء أكان في المصلى أم المسجد، لحديث ابن عباس السابق، ونحوه عن ابن عمر، ولنهي الصحابة عنه وعملهم به، ولأنه وقت نهي عن التنفل فيه كسائر أوقات النهي.
ويكره أيضاً قضاء فائتة في مصلى العيد قبل مفارقته، إماماً كان أو مأموماً، في صحراء أو في مسجد، لئلا يقتدي به.
ولا بأس بالتنفل إذا خرج من المصلى في منزل أو غيره، لما روى حرب عن ابن مسعود «أنه كان يصلي يوم العيد إذا رجع إلى منزله أربع ركعات أو ركعتين» . فهذا كالحنفية تماماً.
ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبل الله منا ومنك.
الشافعية (3) :
لا يكره النفل قبل صلاة العيد بعد ارتفاع الشمس لغير الإمام، لانتفاء الأسباب المقتضية للكراهة، فهو ليس بوقت منهي عن الصلاة فيه، ولما روي عن أبي بردة وأنس والحسن وجابر بن زيد أنهم كانوا يصلون يوم العيد قبل خروج الإمام.
أما قبل ارتفاع الشمس: فإنه وقت كراهة. وأما الإمام فيكره له النفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفته فعل النبي صلّى الله عليه وسلم. وأما غير الإمام بعد صلاة العيد فإن كان يسمع الخطبة فيكره له، وإلا فلا.
ومن دخل والخطيب يخطب، فإن كان في مسجد بدأ بالتحية، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين» ، كما بينا في النوافل، ثم بعد فراغ الخطبة يصلي في المسجد صلاة العيد، فلو صلى فيه بدل تحية العيد، وهو أولى، حصل له ثواب التحية والعيد. ولو دخل وعليه مكتوبة يفعلها ويحصل بها التحية.
وإن كانت الصلاة في صحراء: سن له الجلوس ليستمع الخطبة؛ إذ لا تحية، وأخر صلاة العيد إلا إن خشي الداخل فواتها، فيقدمها على الاستماع. وإذا أخرها فهو مخير بين أن يصليها في المصلى، وبين أن يصليها بغيره إلا إن خشي الفوات بالتأخير.
عاشراً ـ كيفية صلاته صلّى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر والأضحى وكيفية خطبته:
يحسن ختم هذا المبحث ببيان هذه الكيفية، كما رواها الثقات. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «التكبير في الفطر ـ أي صلاته ـ سبع في الأولى، وخمس في الأخرى، والقراءة ـ الحمد وسورة ـ بعدهما كلتيهما» (4) .
__________
(1) بداية المجتهد: 212/1، الشرح الكبير: 401/1، الشرح الصغير: 531/1.
(2) كشاف القناع: 62/2-63، المغني: 387/2-389،399.
(3) المهذب: 119/1، مغني المحتاج: 313/1.
(4) أخرجه أبو داود، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه، وأخرجه أحمد وعلي بن المديني وصححاه (سبل السلام:86/2) .(2/542)
وعن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس على صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم» (1) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: «شهدت مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على الطاعة، ووعظ الناس وذكرَّهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن» (2) .
وعن سعد المؤذن رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير في خطبة العيدين» (3) .
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه قال: «السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس» (4) .
حادي عشر - صلاة الجمعة في يوم العيد:
إن صادف وجود العيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام، فإنها لاتسقط عنه إلا أن لايجتمع له من يصلي به الجمعة. وهذا مذهب الحنابلة، لما رواه أبو داود والإمام أحمد عن إياس بن أبي رملة الشامي (5) قال: «شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم، هل شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد، ثم رخص في الجمعة» فقال: «من شاء أن يصلي فليصل» أو «من شاء أن يجمّع فليجمِّع» وروى ابن ماجه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمّعون» . ولأنه تحقق المقصود بسماع خطبة العيد، فأجزأ ذلك عن سماعها ثانياً، ولأن وقتها واحد في رأيهم وهو الساعة السادسة، فسقطت إحداهما بالأخرى، كالجمعة مع الظهر.
وقال الجمهور (بقية المذاهب) : تجب الجمعة، لعموم الآية الآمرة بها، والأخبار الدالة على وجوبها؛ ولأنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى، كالظهر مع العيد (6) .
__________
(1) متفق عليه (المرجع السابق: ص67) .
(2) رواه مسلم والنسائي (نيل الأوطار:304/3) .
(3) رواه ابن ماجه وفيه ضعيف، وقد أخرج نحوه البيهقي من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع تكبيرات تترى (نيل الأوطار:305/3) ،
(4) رواه الشافعي (المصدر السابق) .
(5) هو مجهول، ولكن الحديث صححه علي بن المديني.
(6) المغني لابن قدامة:358/2.
[التعليق]
* للاستزادة انظر (2/429)
سقوط الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام عند الحنابلة
* أبو أكرم الحلبي(2/543)
المبحث الخامس ـ صلاة الكسوف والخسوف
معنى الكسوف والخسوف، مشروعية صلاة الكسوفين ونحوها، صفتها (كيفيتها، الجهر والإسرار بالقراءة فيها، وقتها، هل من شرطها الخطبة؟، الجماعة فيها وموضعها. هل خسوف القمر مثل كسوف الشمس؟) متى يدركها المسبوق؟، هل تقدم صلاة الكسوف على غيرها عند اجتماعها معها؟.
أولاً ـ معنى الكسوف والخسوف:
الكسوف والخسوف: شيء واحد، ويقال لهما كسوفان وخسوفان، والأشهر في تعبير الفقهاء: تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر.
والكسوف: هو ذهاب ضوء الشمس أو بعضه في النهار لحيلولة ظلمة القمر بين الشمس والأرض.
والخسوف: هو ذهاب ضوء القمر أو بعضه ليلاً لحيلولة ظل الأرض بين الشمس والقمر. ولا يحدث عادة كسوف الشمس إلا في الاستسرار آخر الشهر إذا اجتمع النيِّران، كما لا يحدث خسوف القمر إلا في الإبدار، إذا تقابل النيِّران.(2/544)
ثانياً ـ مشروعية صلاة الكسوفين ونحوها وحكمها الفقهي:
صلاة الكسوف والخسوف سنة (1) ثابتة مؤكدة باتفاق الفقهاء (2) ، بدليل قوله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت:37/41] أي أنه يصلى عند كسوفهما. وقوله صلّى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فصلوا وادعوا، حتى ينكشف ما بكم» (3) .
وهي مشروعة حضراً وسفراً للرجال والنساء، أي في حق كل من هو مخاطب بالمكتوبات الخمس؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم فعلها لكسوف الشمس، كما رواه الشيخان، ولخسوف القمر، كما رواه ابن حبان في كتابه الثقات، وللصبيان والعجائز حضورها كالجمعة والعيدين. ويؤمر بها من تجب عليه الجمعة اتفاقاً.
وإنما لم تجب لخبر الصحيحين المتقدم: «هل علي غيرها؟ ـ أي الخمس ـ قال: لا، إلا أن تطَّوّع» .
وتشرع بلا أذان ولا إقامة وتسن فيها الجماعة، ويندب أن ينادى لها: «الصلاة جامعة» ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «بعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة» (4) .
__________
(1) يرى المالكية والحنفية: أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة، وصلاة الخسوف مندوبة.
(2) البدائع:280/1، الدر المختار:788/1، الشرح الصغير:532/1،536، القوانين الفقهية: ص88، مغني المحتاج:316/1، المهذب:122/1، المغني:426/1 ومابعدها، كشاف القناع:67/2 ومابعدها.
(3) متفق عليه بين البخاري ومسلم وأحمد (نيل الأوطار:326/3) وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من حديث عائشة والمغيرة، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث ابي مسعود الأنصاري، وأخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، والحاكم من حديث النعمان بن بشير (نصب الراية:231/2) .
(4) متفق عليه عن عبد الله بن عمرو (نيل الأوطار:325/3) .(2/545)
وتصلى جماعة أو فرادى، سراً أو جهراً، بخطبة أو بلا خطبة، على التفصيل الآتي بين المذاهب، لكن فعلها في مسجد الجمعة والجماعة أفضل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في المسجد (1) .
ولا يشترط لها إذن الإمام، كصلاة الاستسقاء؛ لأن كلاً منهما نافلة، وليس إذنه شرطاً في نافلة.
ويسن الغسل لها (2) ، كما تقدم بيانه في بحث الأغسال المسنونة؛ لأنها صلاة يشرع لها الاجتماع، والخطبة عند الشافعية، والوعظ ندباً عند المالكية، فيسن لها الغسل، كصلاة الجمعة والعيدين.
الصلاة عند الفزع:
قال المالكية (3) : لا يؤمر المرء بالصلاة عند الزلازل والمخاوف والآيات التي هي عبرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يصل لغير الكسوفين، وقد كان في عصره بعض هذه الآيات، وكذلك خلفاؤه من بعده، لم يصلوا.
وقال الجمهور (4) : يصلى للزلزلة فرادى لا جماعة، لفعل ابن عباس (5) ، ولا يصلى عند الحنابلة لغيرها من سائر الآيات، كالصواعق والريح الشديدة والظلمة بالنهار، والضياء بالليل، لعدم نقل ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، مع أنه وجد في زمانهم انشقاق القمر، وهبوب الرياح والصواعق.
__________
(1) لحديث عائشة وغيره المتفق عليه.
(2) المهذب:122/1، كشاف القناع:172/1،86/2، مغني المحتاج:319/1.
(3) القوانين الفقهية: ص88.
(4) مراقي الفلاح: ص92، البدائع:282/1، الحضرمية: ص88، المجموع:58/5 ومابعدها، المهذب:123/1، المغني:429/2، كشاف القناع:73/2.
(5) رواه سعيد بن منصور والبيهقي.(2/546)
وأضاف الحنفية والشافعية: أنه يندب أن يصلي الناس فرادى ركعتين مثل كيفية الصلوات، لا على هيئة الخسوف لنحو الزلازل، كالصواعق والظلمة الهائلة نهاراً، والريح الشديدة مطلقاً ليلاً أو نهاراً، والفزع بانتشار الكواكب والضوء الهائل ليلاً، والثلج والأمطار الدائمة، وعموم الأمراض، والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأنها آيات مخوفة للعباد، ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله تعالى التي بها فوزهم وصلاحهم، قياساً على صلاة الكسوف (1) ، وصلاة الكسوف التجاء إلى الله تعالى لكشف الغمة، وهكذا شأن المؤمن يلجأ إلى الله سبحانه كلما ألم به مكروه، واشتد به الضر، وأحدق به الخطر، لذا يسن لكل أحد أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل والرياح الشديدة والصواعق والخسف، لئلا يكون غافلاً؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به.
ثالثاً ـ صفة صلاة الكسوف:
اختلف الفقهاء في أمور ستة تتعلق بصفة صلاة الكسوف وهي ما يلي:
1 ً ـ كيفيتها:
للفقهاء في كيفية صلاة الكسوف رأيان:
رأي الحنفية (2) :
صلاة الكسوف ركعتان كهيئة الصلوات الأخرى من صلاة العيد والجمعة
__________
(1) وذكر الحنفية حديثاً غريباً بلفظ «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فارغبوا إلى الله بالدعاء» أو «فاذكروا الله واستغفروه» (نصب الراية:234/2-235) .
(2) البدائع:280/1، فتح القدير:234/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص92، الدر المختار:788/1 ومابعدها، الكتاب واللباب:120/1 ومابعدها.(2/547)
والنافلة، بلا خطبة ولا أذان ولا إقامة، ولا تكرار ركوع في كل ركعة، بل ركوع واحد، وسجدتان، لما رواه أبو داود في سننه: «أنه عليه الصلاة والسلام صلى ركعتين، فأطال فيهما القيام، ثم انصرف، وانجلت الشمس، فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا، كأحدث صلاة صليتموهامن المكتوب» (1) قال الكمال بن الهمام: وهي الصبح، فإن كسوف الشمس كان عند ارتفاعها قيد رمحين.
رأي الجمهور (2) :
صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة قيامان، وقراءتان وركوعان، وسجودان. والسنة أو الأكمل أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو نحوها في الطول، وفي القيام الثاني بعد الفاتحة دون ذلك أي بقدر مئتي آية مثل آل عمران، وفي القيام الثالث بعد الفاتحة دون ذلك، أي بقدر مئة وخمسين آية، مثل النساء، وفي القيام الرابع بعد الفاتحة دون ذلك بقدر مئة تقريباً مثل المائدة.
فيقرأ أولاً المقدار الأول، ثم يركع، ثم يرفع، ويقرأ المقدار الثاني، ثم يركع ثم يرفع، ثم يسجد كما يسجد في غيرها، ويطيل الركوع، والسجود في الصحيح عند الشافعية، ويكرر ذلك في الركعة الثانية.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن قبيصة بن مخارق الهلالي (نصب الراية:230/2) وهناك حديثان آخران، عند البخاري عن أبي بكرة، وعند مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة، يدل ظاهرهما أن الركعتين بركوع واحد (نصب الراية:229/2، نيل الأوطار:331/3) كما أنه ورد مثلهما عن ابن عمر والنعمان بن بشير.
(2) القوانين الفقهية: ص88، بداية المجتهد:203/1، الشرح الصغير:532/1، مغني المحتاج:317/1، المهذب:122/1، المغني:422/2-426، كشاف القناع:69/2-72.(2/548)
ويسبح في الركوع الأول قدر مئة من البقرة، وفي الثاني ثمانين، والثالثة سبعين، والرابع خمسين تقريباً.
وأخيراً ذكر الحنابلة أنه يجوز فعل صلاة الكسوف على كل صفة وردت عن الشارع، إن شاء أتى في كل ركعة بركوعين وهو الأفضل؛ لأنه أكثر في الرواية، وإن شاء صلاها بثلاثة ركوعات في كل ركعة. لما روى مسلم عن جابر: أن النبي صلّى الله عليه وسلم «صلى ست ركعات بأربع سجدات» أو أربعة ركوعات في كل ركعة، لما روى ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلى في كسوف: قرأ، ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، والأخرى مثلها» (1) .
أوخمسة ركوعات في كل ركعة، لما روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: «انكسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وأنه صلى بهم، فقرأ سورة من الطوال، ثم ركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام إلى الثانية، فقرأ سورة من الطوال، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها» (2) ، ولا يزيد على خمسة ركوعات في كل ركعة؛ لأنه لم يرد به نص، والقياس لا يقتضيه.
وإن شاء فعل صلاة الكسوف كنافلة بركوع واحد؛ لأن ما زاد عليه سنة.
ومهما قرأ به جاز، سواء أكانت القراءة طويلة أم قصيرة، وقد روي عن عائشة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أر بع ركعات وأربع سجدات، وقرأ في الأولى بالعنكبوت والروم، وفي الثانية بيس» (3) .
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وفي لفظ «صلى النبي ص حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات» رواه أحمد ومسلم والنسائي.
(2) رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد.
(3) أخرجه الدارقطني.(2/549)
ودليل الجمهور على تعدد الركوع اثنين: حديث عبد الله بن عمرو، قال: «لما كُسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم نودي أن «الصلاة جامعة» ، فركع النبي صلّى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جُلِي عن الشمس، قالت عائشة: ما ركعت ركوعاً قط، ولا سجدت سجوداً قط، كان أطول منه» (1) .
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث منادياً: الصلاة جامعةً، فقام فصلى أربع رَكَعات في ركعتين، وأربع سَجَدات» (2) .
وهذان الحديثان ونحوهما ثابتة في الصحيحين، فهي أشهر وأصح، فقدمت على بقية الروايات. قال ابن عبد البر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب.
ودليلهم على إطالة القراءة والركوع والقيام: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «خَسَفت الشمس، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف، وقد تجلَّت الشمس ... الخ» (3) .
ودليلهم على تطويل السجود: حديث ثبت في الصحيحين في صلاته صلّى الله عليه وسلم لكسوف الشمس من حديث أبي موسى.
__________
(1) المراد بالسجدة هنا: الركعة بتمامها، وبالركعتين: الركوعان: كما في رواية عائشة وابن عباس، والحديث متفق عليه (نيل الأوطار:325/3) .
(2) حديث متفق عليه (المصدر السابق) .
(3) متفق عليه (المصدر نفسه) .(2/550)
2 ً ـ الجهر والإسرار بالقراءة في صلاة الكسوفين:
للفقهاء آراء ثلاثة في الجهر بالقراءة أو الإخفات والإسرار في صلاتي الكسوف والخسوف.
فقال أبو حنيفة (1) : يخفي الإمام القراءة في صلاة الكسوف، لحديث ابن عباس وسمرة رضي الله عنهما، أما حديث الأول فقال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلم الكسوف فلم أسمع منه حرفاً من القراءة» (2) ، وأما حديث سمرة فقال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كسوف، لا يسمع له صوتاً» (3) ، والأصل في صلاة النهار الإخفاء.
وأما صلاة الخسوف فتصلى فرادى سراً.
وقال الصاحبان: يجهر الإمام في صلاة الكسوف، لحديث عائشة: أنه صلّى الله عليه وسلم جهر فيها (4) .
__________
(1) فتح القدير:433/1-436، البدائع:281/1-282، الدر المختار:789/1، اللباب:121/1، مراقي الفلاح: ص92.
(2) رواه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والبيهقي والطبراني وأبو نعيم في الحليمة، وفيه ابن لهيعة (نصب الراية:233/2) .
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح (نصب الراية:234/2) .
(4) رواه البخاري ومسلم، وللبخاري مثله من حديث أسماء بنت أبي بكر، ورواه أبو داود والترمذي وابن حبان (نصب الراية:232/2، نيل الأوطار:331/3) .(2/551)
وقال المالكية والشافعية (1) : يسر الإمام في صلاة الكسوف، لحديثي ابن عباس وسمرة المتقدمين، ولأنها صلاة نهارية، كما قال الحنفية، ويجهر في صلاة خسوف القمر؛ لأنها صلاة ليل أو ملحقة بها، وقد جهر النبي صلّى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته، في حديث عائشة المذكور.
وقال الحنابلة (2) : يجهر في صلاتي الكسوف والخسوف، لقول عائشة: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات» (3) وفي لفظ: «صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها» (4) .
والخلاصة: الإسرار في صلاة الكسوف مذهب الجمهور، ولكني أرجح مذهب الحنابلة والصاحبين في الجهر بصلاة الكسوف والخسوف، قال الشوكاني: الجهر أولى من الإسرار، لأنه زيادة.
3 ً ـ وقت صلاة الكسوف والخسوف:
تصلى هذه الصلاة وقت حدوث الكسوف والخسوف. وهل تصلى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؟ الجمهور: لا تصلى فيها؛ لأن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة، والشافعية: تصلى فيها؛ لأن تلك الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات خمسة تختص بالنوافل، وصلاة الكسوف سنة، فتجوز في أي وقت.
__________
(1) بداية المجتهد:204/1، الشرح الصغير:534/1،536، القوانين الفقهية: ص88، مغني المحتاج:318/1، المهذب:122/1.
(2) المغني:423/2، كشا ف القناع:69/2.
(3) رواه البخاري ومسلم (نصب الراية، ونيل الأوطار: المكان السابق) .
(4) صححه الترمذي.(2/552)
وتفصيل آراء المذاهب كما يأتي، قال الحنفية (1) : وقت صلاة الكسوف هو الوقت الذي يستحب فيه أداء سائر الصلوات دون الأوقات المكروهة؛ لأن أداء النوافل أو الواجبات في هذه الأوقات مكروهة، كسجدة التلاوة وغيرها.
وقال المالكية (2) : لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة، فوقتها كالعيد والاستسقاء من حلّ النافلة إلى الزوال، وهذه رواية المدونة عن مالك، فإذا كسفت بعد الزوال لم تُصلَّ. وعلى رواية غير المدونة: يصلى لها حالاً، ويصلى لها بعد العصر.
وأما صلاة الخسوف: فيندب تكرارها حتى ينجلي القمر، أو يغيب في الأفق، أو يطلع الفجر، فإن حصل واحد من هذه الثلاثة فلا صلاة.
وقال الشافعية (3) : تصلى صلاة الكسوفين في جميع الأوقات؛ لأنها ذات سبب، وتفوت صلاة كسوف الشمس، بالانجلاء لجميع المنكسف، وبغروب الشمس كاسفة، دليل الأول خبر: «إذا رأيتم ذلك ـ أي الكسوف ـ فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف مابكم» (4) فدل على عدم الصلاة بعد ذلك.
ودليل الثاني: أن الانتفاع بالصلاة يبطل بغروبها نيرة أو مكسوفة لزوال سلطانها.
وتفوت صلاة خسوف القمر: بالانجلاء لحصول المقصود، وبطلوع الشمس وهو ـ أي القمرـ منخسف لعدم الانتفاع حينئذ بضوئه. ولا تفوت في الجديد بطلوع الفجر لبقاء ظلمة الليل والانتفاع به، كما لاتفوت بغروب القمر خاسفاً، لبقاء محل سلطنته وهو الليل، فغروبه كغيبوبته تحت السحاب خاسفاً.
__________
(1) البدائع:282/1.
(2) بداية المجتهد:205/1، الشرح الصغير:533/1، 536.
(3) مغني المحتاج:319/1، المجموع:57/5.
(4) حديث متفق عليه عن المغيرة بن شعبة، بلفظ « ... فإذا رأيتموها ـ أي الشمس والقمر ـ فادعوا الله تعالى، وصلوا حتى ينجلي» (نيل الأوطار:334/3) .(2/553)
وقال الحنابلة (1) : وقتها: من حين الكسوف إلى حين التجلي، لحديث المغيرة السابق وغيره، وإن تجلى الكسوف وهو فيها أتمها خفيفة على صفتها، لقوله صلّى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود: «فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» (2) ، ولأن المقصود التجلي وقد حصل. ولا يقطع الصلاة، لقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد:33/47] ولكن شرع تخفيفها حينئذ لزوال السبب.
وإن شك في التجلي لنحو غيم أتمها من غير تخفيف؛ لأن الأصل عدمه، فيعمل بالأصل في حال بقاء الكسوف، ويعمل بالأصل في وجود الكسوف إذا شك فيه، فلا يصلي؛ لأن الأصل عدمه.
وتفوت صلاة الكسوفين بالتجلي قبل الصلاة، أو بغيبوبة الشمس كاسفة،
أو بطلوع الشمس والقمر خاسف، أو بطلوع الفجر والقمر خاسف؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بهما (3) .
وإن وقع الكسوف في وقت نهي عن الصلاة، دعا الله وذكره بلا صلاة، لعموم أحاديث النهي. ويؤيده ما روى قتادة قال: «انكسفت الشمس بعد العصر، ونحن بمكة، فقاموا يدعون قياماً، فسألت عن ذلك فقال: هكذا كانوا يصنعون» (4) .
__________
(1) كشاف القناع:68/2-71، المغني:428/2.
(2) متفق عليه.
(3) لا عبرة بقول المنجمين في كسوف ولا غيره مما يخبرون به، ولا يجوز العمل به؛ لأنه من الرجم بالغيب.
(4) رواه الأثرم. وإن فاتت صلاة الكسوف بفوات وقتها لم تقض، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فصلوا حتى ينجلي» .(2/554)
4 ً - هل لصلاة الكسوف خطبة؟
ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاة الكسوف وقد تجلت الشمس، حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ... » الحديث (1) .
فقال جماعة: إنه خطب؛ لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة، كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء.
وقال آخرون: إن خطبة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كانت يومئذ؛ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام.
وتفصيل آراء المذاهب هو مايأتي (2) :
قال الحنفية والحنابلة: لا خطبة لصلاة الكسوف؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر بالصلاة دون الخطبة» وإنما خطب بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة.
وكذلك قال المالكية: لا يشترط لهذه الصلاة خطبة، وإنما يندب وعظ بعدها مشتمل على الثناء على الله، والصلاة والسلام على نبيه، لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك.
وقال الشافعية: السنة أن يخطب الإمام لصلاة الكسوفين خطبتين بعد الصلاة، كخطبة العيد والجمعة بأركانهما، اتباعاً للسنة، قالت عائشة: «إن النبي صلّى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته، قام، فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر ... » (3) ويحث فيهما السامعين على التوبة من الذنوب، وعلى فعل الخير كصدقة ودعاء واستغفار، للأمر بذلك في البخاري وغيره، ويحذرهم الاغترار والغفلة، ويذكر في كل وقت من الحث والزجر ما يناسبه.
لكن لا يخطب الإمام ببلد فيها وال إلا بأمر الوالي، وإلا فيكره.
ذكر الله تعالى والدعاء: اتفق الفقهاء على أنه يستحب ذكر الله تعالى والدعاء والاستغفار والصدقة والتقرب إلى الله تعالى بما استطاع من القرب، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا» وفي لفظ: «إذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» (4) ولأنه تخويف من الله تعالى، فينبغي أن يبادر إلى طاعة الله تعالى ليكشفه عن عباده.
والدعاء يكون بعد الصلاة، يدعو الإمام جالساً مستقبل القبلة إن شاء، أو قائماً مستقبل الناس.
5 ً ـ الجماعة في صلاة الكسوف وموضعها:
اتفق الفقهاء (5) على أن صلاة الكسوف تسن جماعةً في المسجد، وينادى لها (الصلاة جامعة) ، اتباعاً للسنة كما في الصحيحين، قالت عائشة: «خرج النبي
__________
(1) حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها (نيل الأوطار:325/3) .
(2) اللباب:121/1، البدائع:282/1، بداية المجتهد:205/1 ومابعدها، الشرح الصغير:535/1، المهذب:122/1، كشاف القناع:68/2 ومابعدها، المغني:425/2.
(3) هو الحديث المتفق عليه عن عائشة السابق.
(4) متفق عليهما، الأول عن عائشة، والثاني عن أبي موسى رضي الله عنهما (نيل الأوطار:334/3) .
(5) البدائع:282/1، رد المحتار:788/1، فتح القدير:436/1، بداية المجتهد:203/1،206، الشرح الصغير:533/1،535، مغني المحتاج:318/1، المغني:420/2، كشاف القناع:68/2، القوانين الفقهية: ص88.(2/555)
صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه» (1) . ويصلي بالناس الإمام الذي يصلِّي بهم الجمعة.
وأجاز الحنابلة والشافعية: صلاتها فرادى؛ لأنها نافلة، ليس من شرطها الاستيطان، فلم تشترط لها الجماعة كالنوافل. وقال الحنفية: إن لم يحضر إمام الجمعة صلاها الناس فرادى ركعتين أو أربعاً، في منازلهم.
وأما صلاة خسوف القمر، ففيها رأيان: قال الحنفية والمالكية: إنها تصلى فرادى (أفذاذاً) كسائر النوافل؛ لأن الصلاة بجماعة في خسوف القمر لم تنقل عن النبي صلّى الله عليه وسلم، مع أن خسوفه كان أكثر من كسوف الشمس، ولأن الأصل أن غير المكتوبة لا تؤدى بجماعة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة» إلا إذا ثبت بالدليل كما في العيدين وقيام رمضان وكسوف الشمس، ولأن الاجتماع بالليل متعذر، أو سبب الوقوع في الفتنة.
وتصلى عند الشافعية والحنابلة صلاة الخسوف جماعة كالكسوف، لما روي عن ابن عباس أنه صلى بالناس في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2) ، ولحديث محمود بن لبيد: «فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلى المساجد» (3) .
وهذا الرأي أولى؛ إذ لا فرق بين الخسوف والكسوف، وتسقط عمن له عذر في التخلف عن أداء الجماعة.
أما سبب الاختلاف بين الرأيين: فهو اختلافهم في مفهوم قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه الشافعي في مسنده عن الحسن البصري (نيل الأوطار:333/3) .
(3) رواه أحمد والحاكم وابن حبان (المصدر السابق) .(2/556)
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله، وصلوا، حتى يكشف مابكم، وتصدقوا» (1) فالفريق الثاني الذي فهم من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحداً: وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس، رأى أن الصلاة فيها جماعة.
والفريق الأول الذي فهم من ذلك معنى مختلفاً؛ لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في خسوف القمر مع كثرة دورانه، قال: المفهوم من ذلك أقل ما ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع، وهي النافلة فذاً.
ولا تقضى صلاة الخسوف والكسوف؛ لأنها مقرونة بسببها، فإذا زال السبب، فات موجبها، وهو انجلاء الشمس وغياب القمر أو الشمس كاسفاً.
6 ً ـ هل صلاة خسوف القمر مثل صلاة الكسوف؟
قال الحنفية (2) : تصلى صلاة الخسوف ركعتين أو أربعاً فرادى، كالنافلة، في المنازل.
وقال المالكية (3) : يندب لخسوف القمر ركعتان جهراً كالنوافل بقيام وركوع فقط على العادة.
وقال الشافعية والحنابلة (4) : صلاة الخسوف كالكسوف، بجماعة، بركوعين وقيامين وقراءتين وسجدتين في كل ركعة، لكنها تؤدى جهراً لا سراً عند الشافعية، كما هو المقرر فيهما عند الحنابلة، لقول عائشة:
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم.
(2) البدائع:282/1، مراقي الفلاح: ص92، الكتاب:121/1.
(3) القوانين الفقهية: ص88، بداية المجتهد:206/1، الشرح الصغير:536/1.
(4) مغني المحتاج:318/1، المغني:424/2، كشاف القناع:69/2.(2/557)
«إن النبي صلّى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات» (1) .
رابعاً ـ متى يدركها المسبوق؟
عرفنا أن لهذه الصلاة هيئة مخصوصة تتميز عند غير الحنفية بركوعين في كل ركعة، فهل يدركها المسبوق بالركوع الأول أو بالثاني؟
قال المالكية (2) : تدرك الركعة من ركعتي الكسوف مع الإمام بالركوع الثاني، فيكون هو الفرض، وأما الأول فهو سنة، والراجح أن الفاتحة فرض مطلقاً.
وقال الشافعية (3) : من أدرك الإمام في ركوع أول، أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، أما من أدركه في ركوع ثان أو قيام ثان، فلا يدرك الركعة في الأظهر؛ لأن الأصل هو الركوع الأول وقيامه، والركوع الثاني وقيامه في حكم التابع.
وهذا هو الراجح لدي، لأنه المتبادر للذهن، والثاني استثناء.
وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة (4) : إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني، احتمل أن تفوته الركعة؛ لأنه قد فاته من الركعة ركوع، كما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة. ويحتمل أن صلاته تصح؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق.
خامساً ـ هل تقدم صلاة الكسوف على غيرها عند اجتماعها معها؟
إذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو فرض آخر أو العيد، أو الجنازة أو الوتر فأيهما يقدم؟
قال الشافعية والحنابلة (5) :يقدم الفرض إن خيف فوته، لضيق وقته، وإلا بأن لم يخف فوت الفرض، يقدم الكسوف، ثم يخطب للجمعة متعرضاً للكسوف، ثم تصلى الجمعة، وتكفي عند الشافعية خطبة الجمعة عن خطبة الكسوف.
ولو اجتمع عيد أوكسوف مع صلاة جنازة، قدمت الجنازة على الكسوف والعيد إكراماً للميت، ولأنه ربما يتغير بالانتظار، كما تقدم الجنازة على صلاة الجمعة إن لم يخف فوتها.
وتقدم صلاة الكسوف على صلاة العيد والمكتوبة إن أمن الفوت.
ويقدم الخسوف على الوتر باتفاق الشافعية والحنابلة، كما يقدم عند الشافعية على التراويح، وإن خيف فوت الوتر أو التراويح؛ لأنه آكد، ولأن الوتر يمكن تداركه بالقضاء. وتقدم التراويح على الخسوف عند الحنابلة إذا تعذر فعلهما؛ لأنها تختص برمضان وتفوت بفواته.
__________
(1) متفق عليه.
(2) الشرح الصغير:535/1.
(3) مغني المحتاج: 319/1.
(4) المغني:428/2.
(5) مغني المحتاج:319/1 ومابعدها، المهذب:123/1، كشاف القناع: 72/2 ومابعدها، المغني:421/2 وما بعدها.(2/558)
المبحث السادس ـ صلاة الاستسقاء
تعريف الاستسقاء وسببه، مشروعية صلاة الاستسقاء، صفة الصلاة، ووقتها والمكلف بها، والجهر بالقراءة فيها، خطبتها والدعاء فيها وبعدها، ما يستحب في الاستسقاء قبل الصلاة وبعدها (وظائف الاستسقاء) ، الدعاء عند المطر وغيره من الأحداث، التنفل في المصلى.
أولاً ـ تعريف الاستسقاء وسببه:
الاستسقاء: لغة: طلب السقيا، وشرعاً: طلب السقي من الله تعالى بمطر عند حاجة العباد إليه على صفة مخصوصة (1) أي بصلاة وخطبة واستغفار وحمد وثناء.
وسببه: قلة الأمطار: وشح المياه، والشعور بالحاجة لسقي الزرع وشرب الحيوان، ويحدث الجفاف عادة ابتلاء من الله تعالى، بسبب غفلة الناس عن ربهم، وتفشي المعاصي بينهم (2) ، فيحتاج الأمر للتوبة والاستغفار والتضرع إلى الله
__________
(1) الشرح الصغير:537/1، مغني المحتاج:321/1، كشاف القناع:74/1، مراقي الفلاح: ص93.
(2) روى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث له: أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لم ينقُص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسِّنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمْنعوا زكاة أموالهم، إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا» (نيل الأوطار:2/4) .(2/559)
تعالى، فإذا فعل العباد ذلك، تفضل عليهم خالقهم وأنعم عليهم بإنزال المطر، كما قص علينا القرآن الكريم من دعاء الأنبياء نوح وموسى وهود عليهم السلام لإغاثة أقوامهم، قال تعالى عن نوح: {فقلت: استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً} [نوح:71/10-11-12] وقال عن موسى: {وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر..} [البقرة:60/2] وقال عن موسى: {ويا قوم استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويزدكم قوة إلى قوتكم} [هود:52/11] .
ثانياً ـ مشروعية صلاة الاستسقاء:
قال أبو حنيفة رحمه الله (1) : ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإذا صلى الناس فرادى أو وُحداناً، جاز من غير كراهة؛ لأنها نفل مطلق، وإنما الاستسقاء: دعاء واستغفار؛ لأنه السبب لإرسال الأمطار، بلا جماعة مسنونة، وبلا خطبة، وبلا قلب رداء، وبلا حضور ذمي، لقوله تعالى: {فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح:71/10] ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم استسقى، ولم يرو عنه الصلاة.
ورد الحافظ الزيلعي فقال (2) : أما استسقاؤه عليه السلام، فصحيح ثابت، وأما إنه لم يرو عنه الصلاة، فهذا غير صحيح، بل صح أنه صلى فيه، كما سيأتي، وليس في الحديث أنه استسقى، ولم يصل، بل غاية ما يوجد ذكر الاستسقاء، دون ذكر الصلاة، ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه.
__________
(1) الكتاب مع اللباب:121/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص93، فتح القدير:437/1، البدائع:282/1، الدر المختار:790/1ومابعدها.
(2) نصب الراية:238/2.(2/560)
وقال جمهور الفقهاء منهم الصاحبان (1) : صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة حضراً وسفراً، عند الحاجة، ثابتة بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه، رضي الله عنهم. وتكرر في أيام ثانياً وثالثاً وأكثر، إن تأخر السقي، حتى يسقيهم الله تعالى، فإن الله يحب الملحين في الدعاء (2) .
ودليل سنيتها أحاديث متعددة، منها حديث ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين، كصلاة العيد (3) .
وحديث عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم خطب في الاستسقاء «ثم نزل فصلى ركعتين ... » (4) وحديث أبي هريرة وعبد الله بن زيد وعباد بن تميم عن عمه (5) .
وإن تأهب الناس لصلاة الاستسقاء، فسقوا وأمطروا قبلها، صلوها عند المالكية لطلب سعة، واجتمعوا عند الشافعية (6) للشكر والدعاء، ويصلون صلاة الاستسقاء المعروفة شكراً أيضاً، على الصحيح، كما يجتمعون للدعاء ونحوه، والأصح أنه يخطب بهم الإمام أيضاً، ولو سقوا في أثنائها أتموها، جزماً.
وعند الحنابلة (7) : لا يخرج الناس حينئذ للصلاة، وشكروا الله على نعمته، وسألوه المزيد من فضله. أما إن خرجوا فأمطروا قبل أن يصلوا، صلوا شكراً لله تعالى، وحمدوه ودعوه.
__________
(1) بداية المجتهد:207/1، القوانين الفقهية: ص87، الشرح الصغير:538/1، مغني المحتاج:321/1، المهذب:123/1، المغني:439/2 ومابعدها، كشاف القناع:74/2.
(2) رواه ابن عدي والعقيلي عن عائشة، وضعفاه، وفي الصحيحين: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» .
(3) أخرجه أصحاب السنن الأربعة (نصب الراية:239/2، نيل الأوطار:6/4) .
(4) رواه أبو داود (نيل الأوطار:3/4) .
(5) الأول رواه أحمد وابن ماجه، والثاني رواه أحمد، والثالث رواه أبو داود والترمذي والبخاري ومسلم، وهو صحيح (نيل الأوطار: 4/4، المجموع:65/5) .
(6) مغني المحتاج:321/1، الشرح الصغير:540/1 ومابعدها.
(7) المغني:440/2.(2/561)
ثالثاً ـ صفة صلاة الاستسقاء ووقتها والمكلف بها والقراءة فيها:
اتفق الجمهور غير أبي حنيفة (1) على أن صلاة الاستسقاء ركعتان بجماعة في المصلى بالصحراء خارج البلد، بلا أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها (الصلاة جامعة) ؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لم يقمها إلا في الصحراء، وهي أوسع من غيرها في المصلى، ويجهر فيهما بالقراءة، كصلاة العيد، بعدد تكبيراته عند الشافعية والحنابلة بعد الافتتاح قبل التعوذ، سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً في الثانية برفع يديه ووقوفه بين كل تكبيرتين كآية معتدلة، قال ابن عباس: «سنة الاستسقاء سنة العيدين» فتسن في الصحراء، مع تكبير العيد، بلا أذان ولا إقامة لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة.
ويجعل عند المالكية والشافعية، والصاحبين من الحنفية في المشهور الاستغفار بدل التكبير، فليس في الاستسقاء تكبير، بل فيه الاستغفار بدل التكبير.
ويقرأ في الصلاة ما شاء جهراً، كما في صلاة العيدين، والأفضل أن يقرأ فيهما عند المالكية بسبح، والشمس وضحاها، وعند الحنابلة والصاحبين مثلما يقرأ في صلاة العيد بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، كما في حديث ابن عباس المتقدم وحديث أنس عند ابن قتيبة في غريب الحديث، وإن شاء قرأ في الركعة الأولى بـ {إنا أرسلنا نوحاً} [نوح:71/1] لمناسبتها الحال، وفي الركعة الثانية سورة أخرى من غير تعيين.
__________
(1) القوانين الفقهية: ص87، الشرح الكبير:405/1، الشرح الصغير:537/1، مغني المحتاج:323/1 ومابعدها، المهذب:123/1 ومابعدها، كشاف القناع:74/2-75، المغني:430/2-432.(2/562)
وعند الشافعية: يقرأ في الأولى جهراً بسورة {ق} [ق:50/1] وفي الثانية: {اقتربت} [القمر:54/1] في الأصح، أو بسبح والغاشية، قياساً لا نصاً. ودليل الجهر بالقراءة حديث عبد الله بن زيد وغيره: «ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (1) ، وكما تفعل جماعة ـ وهو الأفضل ـ تفعل فرادى.
والمستحب الخروج إلى الصحراء، إلا في مكة والمدينة وبيت المقدس ففي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فيخرج الناس ثلاثة أيام مشاة في ثياب خَلِقة غَسِيلة، متذللين متواضعين، خاشعين لله تعالى، ناكسين رؤوسهم، مقدمين الصدقة كل يوم قبل خروجهم، ويجددون التوبة، ويستسقون بالضَّعَفة والشيوخ والعجائز والأطفال.
ولا يشترط إذن الإمام لصلاة الاستسقاء عند أبي حنيفة؛ لأن المقصود هو الدعاء فلا يشترط له إذن الإمام، ويشترط ذلك عند الشافعية، وعن الإمام أحمد روايتان (2) .
وأما وقتها: فليس لها وقت معين، ولا تختص بوقت العيد، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي عن الصلاة، بغير خلاف؛ لأن وقتها متسع، فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي. ويسن فعلها أول النهار، وقت صلاة العيد، لحديث عائشة: «أنه صلّى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس» (3) ، ولأنها تشبه صلاة العيد في الموضع والصفة، فكذلك في الوقت؛ لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس؛ لأنها ليس لها يوم معين، فلا يكون لها وقت معين.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار: 4/4) .
(2) البدائع:284/1، مغني المحتاج:325/1، المغني:438/2 ومابعدها.
(3) رواه أبو داود.(2/563)
ولا تتقيد بزوال الشمس ظهراً، فيجوز فعلها بعده، كسائر النوافل (1) . وإن استسقى الناس عقب صلواتهم أو في خطبة الجمعة، أصابوا السنة، فيجوز الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة لحديث عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي، فصعد المنبر فقال: «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً، استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، ثم نزل، فقيل: يا أمير المؤمنين، لو استسقيت؟ فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر» (2) .
والمكلف بها (3) : الرجال القادرون على المشي، ولا يؤمر بها النساء والصبيان غير المميزين على المشهور عند المالكية، وقال الشافعية والحنفية: يندب خروج الأطفال والشيوخ والعجائز، ومن لا هيئة لها من النساء، والخنثى القبيح المنظر؛ لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، إذ الكبير أرق قلباً، والصغير لا ذنب عليه، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» (4) . ويكره خروج الشابات والنساء ذوات الهيئة، خوف الفتنة.
__________
(1) بداية المجتهد:209/1، الشرح الصغير:538/1، مغني المحتاج:324/1، المغني:432/2،440 ومابعدها، كشاف القناع:75/2.
(2) رواه البيهقي عن الشعبي، والمجاديح: جمع مجدح، وهو كل نجم كانت العرب تقول: يمطر به، فأخبر عمر رضي الله عنه: أن الاستغفار: هو المجاديح الحقيقية التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء، وإنما قصد التشبيه. وقيل: مجاديحها: مفاتيحها، وقد جاء في رواية: بمفاتيح السماء (المجموع:76/5،78 ومابعدها) .
(3) البدائع:283/1 ومابعدها، اللباب:123/1، فتح القدير:441/1، مراقي الفلاح: ص93، الدر المختار:791/1، المجموع:72/5،83، القوانين الفقهية: ص87، الشرح الصغير:538/1، مغني المحتاج:322/1-323، المهذب:123/1-125، المغني:430/2،439، 441، كشاف القناع:76/2-77، 82.
(4) رواه البخاري.(2/564)
إخراج الدواب: ولا يستحب عند المالكية والحنابلة إخراج البهائم والمجانين؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعله.
ويستحب إخراجها مع أولادها عند الحنفية، والشافعية في الأصح، ويباح ذلك عند الحنابلة؛ لأن الرزق مشترك بين الكل (1) ، وليحصل التحنّن، ويظهر الضجيج بالحاجات، روى البزار مرفوعاً بسند ضعيف: «لولا أطفال رُضَّع، وعباد رُكَّع، وبهائم رُتَّع، لصب عليكم العذاب صباً» . وروي أن سليمان عليه السلام «خرج يستسقي، فرأى نملة مستلقية، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم» (2) .
التوسل بذوي الصلاح:
ويستحب إخراج أهل الدين والصلاح، لأنه أسرع لإجابتهم، وقد استسقى عمر بالعباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، واستسقى به الضحاك بن قيس مرة أخرى، فلابأس بالتوسل بالصالحين، قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم إن هذا عمُّ نبيك صلّى الله عليه وسلم نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل. وقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يايزيد، ارفع يديك، فرفع يديه، ودعا الله تعالى، فثارت في الغرب سحابة مثل الترس، وهب لها ريح، فسقوا، حتى كادوا لايبلغون منازلهم (3) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث استسقاء النملة رواه الحاكم بمعناه بإسناده عن أبي هريرة، وهو صحيح الإسناد (المجموع:68/5) .
(3) حديث عمر رواه البخاري من رواية أنس أن عمر كان يفعله، وحديث استسقاء معاوية بيزيد مشهور (المجموع:68/5، نيل الأوطار:6/4) .(2/565)
وهيئة الخارج للاستسقاء كما بينا: أن يكون متضرعاً لله تعالى، متبذلاً أي في ثياب البذلة، لافي ثياب الزينة، ولا يتطيب؛ لأنه من كمال الزينة، ويكون متخشعاً في مشيه، وجلوسه في خضوع، متضرعاً إلى الله تعالى، متذللاً له، راغباً إليه. قال ابن عباس: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متضرعاً (1) .
وهل يخرج أهل الذمة؟
قال الحنفية: لا يحضر أهل الذمةلاستسقاء؛ لأن الخروج للدعاء، وقد قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [الرعد:14/13] ، ولأنه لاستنزال الرحمة، وإنما تنزل عليهم اللعنة، وإن كان الراجح أن دعاء الكافر قد يستجاب استدراجاً. وأما الآية السابقة {وما دعاء} [الرعد:14/13] ففي الآخرة.
وقال الجمهور: لا يمنع أهل الذمة من الخروج مع المسلمين، وأمروا أن يكونوا منفردين لا يختلطون بنا في مصلانا، ولا عند الخروج، ويكره اختلاطهم بنا، كما يكره خروجهم عند الشافعي، ولا يؤمن على دعائهم؛ لأن دعاء الكافر غير مقبول. وكونهم لا يمنعون الحضور؛ لأنهم يسترزقون ويطلبون أرزاقهم من ربهم، وفضل الله واسع، وقد يجيبهم الله تعالى استدراجاً، وطعمة في الدنيا، قال تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف:182/7] والله ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين.
وانفرادهم عن المسلمين؛ لأنه لا يؤمن أن يصيبهم عذاب، فيعم من حضرهم، فإن قوم عاد استسقوا، فأرسل الله عليهم ريحاً صرصراً فأهلكتهم.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:6/4) .(2/566)
رابعاً ـ خطبة الاستسقاء:
قال أبو حنيفة (1) لاخطبة للاستسقاء؛ لأنها تبع للجماعة، ولا جماعة لها عنده، وإنما دعاء واستغفار يستقبل فيهما الإمام القبلة. قال ابن عباس حينما سئل عن صلاة الاستسقاء: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً (2) ، متخشعاً، متضرعاً، فصلى ركعتين، كما يُصلَّى في العيد، لم يخطب خطبتكم هذه (3) .
وقال الصاحبان: يصلي الإمام بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، ثم يخطب، ويستقبل القبلة بالدعاء. ويخطب خطبتين بينهما جلسة كالعيد عند محمد، وخطبة واحدة عند أبي يوسف، ويكون معظم الخطبة الاستغفار.
وقال الجمهور (4) : يخطب الإمام للاستسقاء بعد الصلاة على الصحيح خطبتين كصلاة العيد عند المالكية والشافعية، لقول ابن عباس: صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الاستسقاء كما صنع في العيدين، وخطبة واحدة عند الحنابلة؛ لأنه لم ينقل أنهصلّى الله عليه وسلم خطب بأكثر منها.
ودليلهم على طلب الخطبة وكونها بعد الصلاة: حديث أبي هريرة: «خرج نبي الله صلّى الله عليه وسلم يوماً يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (5) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية:439/1 ومابعدها، البدائع:283/1 ومابعدها، اللباب: 122/1 ومابعدها.
(2) أي لا بساً ثياب البذلة (المهنة والعمل) تاركاً ثياب الزينة، تواضعاً لله تعالى.
(3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه (نيل الأوطار:6/4) .
(4) الشرح الصغير:539/1، القوانين الفقهية: ص87، بداية المجتهد:208/1، المجموع:75/5 ومابعدها، مغني المحتاج:324/1 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير:406/1، كشاف القناع:80/2، المغني:433/2-436.
(5) رواه أحمد وابن ماجه (نيل الأوطار: 4/4) وروى أحمد مثله عن عبد الله بن زيد.(2/567)
وتجوز عند الشافعية الخطبة قبل الصلاة، لحديث عبد الله بن زيد: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي، فحوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» (1) .
وتختلف عن خطبة العيد في رأي المالكية والشافعية أن الإمام يستغفر الله تعالى بدل التكبير، فيقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) ويكثر فيها بالاتفاق الاستغفار؛ لأنه سبب لنزول الغيث، روى سعيد: «أن عمر خرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يُستنزَل به المطر، ثم قرأ: استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً» (2) .
ولا حد للاستغفار عند المالكية في أول الخطبة الأولى والثانية.
ويستغفر الخطيب في الخطبة الأولى عند الشافعية تسعاً، وفي الثانية سبعاً، ويستحب أن يكثر من الاستغفار، لقوله تعالى: {استغفروا ربكم، إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح:71/10-11] . ويفتتح الإمام عند الحنابلة الخطبة بالتكبير تسعاً نسَقاً كخطبة العيد، ويكثر فيها عندهم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنها معونة على الإجابة، قال عمر: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك» (3) ، ويقرأ كثيراً: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} [نوح:71/10] وسائر الآيات التي فيها الأمر به، فإن الله تعالى وعدهم بإرسال الغيث إذا استغفروه.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، لكن لم يذكر مسلم الجهر بالقراءة (المصدر السابق) .
(2) سبق تخريجه عند البيهقي، وعن علي نحوه (نيل الأوطار:7/4) ومجاديح السماء، أنواؤها، والمراد بالأنواء: النجوم التي يحصل عندها المطر عادة، فشبه الاستغفار بها.
(3) رواه الترمذي.(2/568)
الدعاء بالخطبة: ويدعو الإمام في الخطبة الأولى: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً مَريعاً، غَدَقاً، مجلِّلاً، سَحَّاً، طَبَقاً دائماً، لحديث ابن عباس (1) .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين (أي الآيسين بتأخير المطر) ،اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق من اللأواء (شدة الجوع) ، والجَهد (قلة الخير وسوء الحال) ، والضنك (أي الضيق) ، ما لا نشكو إلا إليك.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض. اللهم ارفع عنا الجهد والعُرْي والجوع، واكشف عنا من البلاء، ما لا يكشفه غيرك.
اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً أي دراً، والمراد مطراً كثيراً. وكل ذلك ثابت بحديث واحد عن عبد الله بن عمر.
ويبالغ في الدعاء سراً وجهراً لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} [الأعراف:55/7] ويؤمن القوم على دعائه، فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، إنك لا تخلف الميعاد (2) . وكان من دعائه صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين» (3) .
__________
(1) رواه ابن ماجه، ومعناه: اللهم اسقنا مطراً، منقذاً من الشدة بإروائه، طيباً لا ينغصه شيء، محمر العاقبة، ذا ريع أي نماء، كثير الماء والخير، يجلل الأرض أي يعمها، شديد الوقع على الأرض، مطبقاً على الأرض أي مستوعباً لها، دائماً إلى انتهاء الحاجة (نيل الأوطار:9/4) .
(2) لقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة:2/186] والدعاء سراً: أقرب إلى الإخلاص، وأبلغ في الخشوع والخضوع، وأسرع في الإجابة.
(3) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم عن عائشة (سنن أبي داود:267/1، نيل الأوطار:3/4) .(2/569)
أما الناس فيسرون بالدعاء إن أسر الإمام، ويجهرون به إن جهر.
ويستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الدعاء، لحديث عبد الله بن زيد المتقدم. وهذا ما قرره الصاحبان، وهو أن الإمام يستقبل القبلة بالدعاء في الخطبة.
وقال المالكية: يستقبل القبلة بوجهه قائماً بعد الفراغ من الخطبتين، ويبالغ في الدعاء برفع الكرب والقحط وإنزال الغيث والرحمة وعدم المؤاخذة بالذنوب، ولا يدعو لأحد من الناس.
وقال الشافعية: يستقبل الإمام القبلة بعد صدر (نحو ثلث) الخطبة الثانية، ثم يدعو (1) سراً وجهراً، ثم يستقبل الناس بوجهه ويحثهم على الطاعة، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ويقرأ آية أو آيتين، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويختم بقوله: أستغفر الله لي ولكم.
وقال الحنابلة: يستقبل القبلة في أثناء الخطبة.
رفع الأيدي في الدعاء: ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء، لحديث أنس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه، حتى يُرى بياض إبطيه» (2) وفي حديث أيضاً لأنس: فرفع النبي صلّى الله عليه وسلم ورفع الناس أيديهم.
قلب الرداء أو تحويله: قال الصاحبان أبو يوسف ومحمد: يقلب الإمام رداءه عند الدعاء، لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم: «لما استسقى حوَّل ظهره إلى الناس، واستقبل القبلة، وحوَّل رداءه» (3) .
__________
(1) قال النووي: فيه استحباب استقبال القبلة للدعاء، ويلحق به الوضوء والغسل والتيمم والقراءة وسائر الطاعات، إلا ما خرج بدليل كالخطبة.
(2) متفق عليه بين أحمد والبخاري ومسلم (نيل الأوطار:8/4) .
(3) سبق تخريجه، وقال الزيلعي: رواه الأئمة الستة، وأحمد (نصب الراية:242/2) .(2/570)
وصفة القَلْب: إن كان مربَّعاً جعل أعلاه أسفله، وإن كان مُدَوَّراً كالجبة، جعل الجانب الأيمن على الأيسر.
ولا يقلب القوم أرديتهم؛ لأنه لم ينقل أنه عليه السلام أمرهم بذلك ولا يسن القلب عند أبي حنيفة؛ لأن الاستسقاء دعاء عنده، فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية.
وقال الجمهور: يحول الإمام رداءه عند استقبال القبلة، على الخلاف السابق في وقت الاستقبال، ويحول الناس الذكور مثله أي مثل الإمام، وهم جلوس، لحديث عبد الله بن زيد، وحديث عائشة، وحديث أبي هريرة كما تقدم (1) وليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخصب، وجاء هذا المعنى في بعض الحديث، روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلم حول رداءه ليتحول القحط» (2) .
وصفة التحويل: أن يجعل يمينه يساره وعكسه أي يجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، بلا تنكيس للرداء عند المالكية والحنابلة، أي فلا يجعل الحاشية السفلى التي على رجليه على أكتافه.
ومع التنكيس في المذهب الجديد للشافعي، فيجعل أعلاه أسفله وعكسه، لحديث: «أنه صلّى الله عليه وسلم استسقى، وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فثقُلت عليه، فقلَبها الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» (3) .
__________
(1) انظر نيل الأوطار:3/4-4، قال السهيلي: وكان طول ردائه صلّى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعين وشبراً.
(2) رواه الدارقطني عن جعفر بن محمد عن أبيه.
(3) رواه أحمد وأبو داود، والخميصة: كساء أسود مربع له علَمان (نيل الأوطار:11/4-12) .(2/571)
ودليل التحويل للناس: حديث عبد الله بن زيد: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين استسقى لنا، أطال الدعاء، وأكثر المسألة، ثم تحول إلى القبلة، وحول رداءه، فقلبه ظهراً لبطن، وتحول الناس معه» (1) .
قال الحنابلة: ويظل الرداء محولاً حتى يُنزغ مع الثياب بعد الوصول إلى المنزل، لعدم نقل إعادته. والخلاصة: إن تحويل الرداء للتفاؤل بتحويل الحال من الشدة إلى الرخاء، و «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن» (2) .
خامساً ـ ما يستحب في الاستسقاء أو وظائف الاستسقاء:
يستحب للاستسقاء ما يأتي (3) بالإضافة لما ذكر سابقاً في الخطبة والخروج للصلاة:
1ً - يأمر الإمام الناس بالتوبة من المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر والخير من صدقة وغيرها، والخروج من المظالم وأداء الحقوق؛ لأن ذلك أرجى للإجابة، قال تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً} [هود:52/11] ، ولأن المعاصي والمظالم سبب القحط ومنع القطر، والتقوى سبب البركات، لقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف:7/96] ويأمرالإمام أيضاً بصيام ثلاثة أيام متتابعة قبل صلاة الاستسقاء، ويخرج الناس في يوم آخر صياماً، أو في اليوم الرابع إلى الصحراء صياماً فتصير أيام الصيام أربعة؛ لأنه وسيلة إلى نزول الغيث لما فيه من الرياضة والخشوع، وقد روي:
__________
(1) رواه أحمد (نيل الأوطار:11/4) .
(2) رواه الشيخان عن أنس بلفظ: «يعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، والكلمة الطيبة» وفي رواية لمسلم «وأحب الفأل الصالح» .
(3) الدر المختار: 792/1، البدائع:284/1، اللباب:122/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص93، القوانين الفقهية: ص67، الشرح الصغير:538/1-540، مغني المحتاج:321/1-326، المهذب:123/1-125، المغني:430/2، 438، كشاف القناع:75/2 ومابعدها.(2/572)
«ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم» (1) .
قال الشافعية: ويلزم الناس امتثال أمر الإمام. وقال الحنابلة: ولا يلزم الصيام والصدقة بأمره.
ويأمرهم الإمام أيضاً بالصدقة؛ لأنها متضمنة للرحمة المفضية إلى رحمتهم بنزول الغيث. كما يأمرهم بترك التشاحن من الشحناء وهي العداوة؛ لأنها تحمل على المعصية والبهت، وتمنع نزول الخير بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت» (2) ويعين الإمام يوماً يخرج الناس فيه (3) .
2ً - أن يخرج الإمام والناس مشاة إلى الاستسقاء في الصحراء ثلاثة أيام متتابعة، إلا في مكة والمدينة وبيت المقدس، فيجتمعون في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، كما قدمنا.
وإن لم يخرج الإمام خرج الناس لصلاة الاستسقاء عند الحنفية، وإذا خرجوا، اشتغلوا بالدعاء، ولم يصلوا بجماعة إلا إذا أمر الإمام إنساناً أن يصلي بهم جماعة؛ لأن هذا دعاء، فلا يشترط له حضور الإمام. وإن خرجوا بغير إذن الإمام، جاز؛ لأنه دعاء، فلا يشترط له إذن الإمام.
وقال الشافعية: إذا كان الوالي بالبلد لا يخرج الناس إلى الصحراء حتى يأذن لهم، لخوف الفتنة. وعند الحنابلة روايتان: إحداهما ـ لا يستحب إلا بخروج الإمام أو نائبه، فإذا خرجوا دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة. وفي رواية أخرى: إنهم يصلون لأنفسهم، ويخطب بهم أحدهم.
3ً - التنظيف للاستسقاء بغسل وسواك وإزالة رائحة وتقليم أظفار ونحوه، لئلا يؤذي الناس، وهو يوم يجتمعون له كالجمعة.
ولا يستحب التطيب؛ لأنه يوم استكانة وخضوع، ولأن الطيب للزينة وليس هذا وقت زينة.
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حديث حسن، ورواه البيهقي عن أنس، وقال: «دعوة الصائم والوالد والمسافر» .
(2) رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار:277/4) وتلاحى: تنازع.
(3) رواه أبو داود عن عائشة (نيل الأوطار:3/4) .(2/573)
4ً - يخرج المرء إلى المصلى متواضعاً متذللاً، متخشعاً (خاضعاً) متضرعاً (مستكيناً) متبذلاً (في ثياب بَذْلة) ، لحديث ابن عباس السابق: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشعاً، حتى أتى المصلى» (1) .
5ً - التوسل بأهل الدين والصلاح والشيوخ والعلماء المتقين والعجائز والأطفال والدواب، تحصيلاً للتحنن، وإظهار الضجيج بالحاجات، كما بينا سابقاً (2) ، ويسن لكل من حضر أن يستشفع سراً بخالص عمله.
6ً - الخروج إلى المصلى في الصحراء: لحديث عائشة: «شكا الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى» (3) ، ولأن الجمع يكثر، فكان المصلى أرفق بهم.
7ً - الدعاء بالمأثور في الخطبة كما بينا، وعند نزول الغيث، لما روى البيهقي «أن الدعاء يستجاب في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف، ونزول الغيث، وإقامة الصلاة ورؤية الكعبة» ولما روى البخاري عن عائشة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر، قال: صيباً نافعاً» أي مطراً شديداً. ومجموع الدعاء عند نزول المطر من أحاديث متفرقة: «اللهم صيّباً هنيئاً، وسيباً ـ أي عطاء ـ نافعاً، مطرنا بفضل الله ورحمته» ويقول عند التضرر بكثرة المطر: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر» (4) «اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هَدْم ولا غَرَق» (5) .
__________
(1) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) اتفق الأئمة على أن الدعاء عند قبر رجاء الإجابة بدعة، لا قربة. وقال أحمد وغيره: في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق» : الاستعاذة لا تكون بمخلوق (كشاف القناع:77/2) .
(3) رواه أبو داود بإسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(4) متفق عليه عن أنس. والظراب جمع ظرب: وهي الرابية الصغيرة (نيل الأوطار:13/4) .
(5) رواه الشافعي في مسنده، وهو مرسل (نيل الأوطار:10/4) .(2/574)
ويكره أن يقول: مطرنا بنَوْء كذا:
أي بوقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة الأمطار إلى الأنواء، لإيهامه أن النوء ممطر حقيقة. فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر، وعليه يحمل ما في الصحيحين، حكاية عن الله تعالى: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب» .
ويكره سب الريح، بل يسن الدعاء عندها لخبر: «الريح من روح الله ـ أي رحمته ـ تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها» (1) بل يقول كما قدمنا: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» (2) «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» (3) .
ويسبح عند الرعد والصواعق، فيقول: «سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته» (4) وعند البرق يقول: «سبحان من يريكم البرق خوفاً وطمعاً» ويستحب ألا يُتْبع بصرَه البرقَ؛ لأن السلف الصلاح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سُبُّوح قُدُّوس» فيختار الاقتداء بهم في ذلك.
ويقول عند انقضاض الكوكب: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله» (5) .
وإذا سمع نهيق حمار، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، لخبر الشيخين.
وإذا سمع نُباح كلب، استعاذ، فيقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لحديث أبي داود.
وإذا سمع صياح الديكة، سأل الله من فضله، لخبر الشيخين.
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن أبي هريرة.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الطبراني في الكبير.
(4) رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن الزبير. وقيس بالرعد البرق. وروى الترمذي بعد هذا الدعاء: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» وروى أبو نعيم في الحلية عن أبي زكريا: «من قال: سبحان الله وبحمده عن البرق، لم تصبه صاعقة» .
(5) لخبر رواه ابن السني والطبراني في الأوسط.(2/575)
8ً - يستحب لأهل الخصب أن يدعو لأهل الجدب؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى.
9ً - وقال الشافعية: يستحب لكل أحد أن يبرز (يظهر) لأول مطر السنة، وأول كل مطر ويكشف من جسده غير عورته ليصيبه شيء من المطر تبركاً. وروى مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلم حسر عن ثوبه حى أصابه المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه» (1) أي بخلقه وتنزيله وتكوينه، ويستحب أيضاً أن يغتسل أو يتوضأ بماء السيل، لما روى الشافعي في الأم، بإسناد منقطع: «أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال: اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهوراً، فنتطهر به، ونحمد الله عليه» .
10ً - قال المالكية: جاز التنفل في المصلى أو المسجد قبل صلاة الاستسقاء وبعدها؛ لأن المقصود من الاستسقاء الإقلاع عن الخطايا، والاستكثار من فعل الخير.
وذلك بخلاف العيد، فإنه - كما قدمنا- يكره عند الجمهور غير الشافعية التنفل قبل صلاته وبعدها بالمصلى، لا في المسجد عند المالكية، وفي المسجد أيضاً عند الحنفية والحنابلة، لكن لا بعدها عند الحنفية.
والدعاء يكون ببطن الكف إذا كان لطلب شيء وتحصيله، وبظهر الكف إلى السماء إذا أريد به رفع البلاء (2) .
11 - تعاد صلاة الاستسقاء ثانياً وثالثاً إن لم يُسْقَوْا، فإن تأهبوا للصلاة، فسقوا قبلها اجتمعوا للشكر والدعاء بالزيادة، ويصلون صلاة الاستسقاء المعروفة شكراً لله تعالى، كما يجتمعون للدعاء ونحوه. جاء في الصحيحين: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل، يقول: دعوت، فلم يستجب لي» وقال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7/14] . حكي عن أصبغ أنه قال: استُسقي للنيل بمصر خمسة وعشرين يوماً متوالية.
__________
(1) ورواه أيضاً أحمد وأبو داود (نيل الأوطار:12/4) .
(2) هذا مستفاد من حديث خلاد بن السائب عن أبيه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سأل، جعل بطن كفيه إلى السماء، وإذا استعاذ جعل ظهرهما إليها» وروى مسلم عن أنس «أن النبي صلّى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفه إلى السماء، وروى ابن عباس ـ وإن كان ضعيفاً ـ «سلوا الله ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهرها» (سبل السلام:83/2) .(2/576)
المبحث السابع ـ صلاة الخوف
مشروعيتها، سببها وشروطها، كيفيتها أو صفتها، صفة ما يقضيه المسبوق فيها، متى تفسد؟ الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف.
أولاً ـ مشروعية صلاة الخوف:
صلاة الخوف مشروعة عند جمهور الفقهاء (1) ، هي سنة ثابتة بالكتاب والسنة في أثناء قتال الكفار: أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة. فلتقم طائفة منهم معك، وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ودَّ الذين كفروا لو تغفُلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة..} الآية (2) وماثبت في حقه عليه السلام ثبت في حق أمته، مالم يقم دليل على اختصاصه؛ لأن الله تعالى أمر باتباعه، وتخصيصه بالخطاب: {وإذا كنت} [النساء:102/4] لا يقتضي تخصيصه بالحكم، بدليل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة:103/9] .
وأما السنة: فقد ثبت وصح أنه صلّى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في أربعة مواضع:
__________
(1) فتح القدير:441/1، الدر المختار:792/1، اللباب:124/1، بداية المجتهد:169/1، الشرح الصغير:517/1، القوانين: ص83، مغني المحتاج:327/1، المهذب:105/1، المغني:400/2 ومابعدها، كشاف القناع:9/3.
(2) النساء:102.(2/577)
في غزوة ذات الرِّقاع التي حدثت بعد الخندق على الصواب، وبطن نخل (اسم موضع في نجد بأرض غطفان) وعُسْفان (يبعد عن مكة نحو مرحلتين) ، وذي قَرَد (ماء على بريد من المدينة، وتعرف بغزوة الغابة، في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية) (1) وصلاها النبي صلّى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين مرة. وقد وردت بها الأحاديث الآتية في صفة صلاتها، مع خبر «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
وأجمع الصحابة على فعلها، وصلاها علي وأبو موسى الأشعري وحذيفة، وهي عند الجمهور والمشهور من المذهب المالكي جائزة في السفر والحضر، وقصرها ابن الماجشون من المالكية على حالة السفر.
وقال أبو يوسف: إن صلاة الخوف مختصة بالنبي صلّى الله عليه وسلم، فكانت مشروعة في حياته عليه السلام، لقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} [النساء:102/4] ، وحكمة مشروعيتها في حياته صلّى الله عليه وسلم أن ينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه، وهم كانوا حراصاً على درك هذه الفضيلة، وقد ارتفع بعده عليه الصلاة والسلام، وكل طائفة تتمكن من أداء الصلاة بإمام خاص، فلا يجوز أداؤها بصفة فيها ذهاب ومجيء ونحوهما مما يخالف صفة الصلاة. ولا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم بإمام واحد، وإنما تصلى بعده بإمامين، يصلي واحد منهما بطائفة ر كعتين، ثم يصلي الآخربطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضاً، وتحرس التي قد صلت.
ورد هذا الاستدلال: بأن الصحابة قد أقاموها بعده عليه الصلاة والسلام، وهم أعرف بانتهاء الجواز أو بقائه.
والغاية من تشريعها: هو حرص الإسلام على أداء الصلاة جماعة، لتظل رابطة التجمع قوية صلبة دائمة، حتى في أشد أوقات المحن والمخاطر والأزمات.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار:794/1-795.(2/578)
وتأثير الخوف في تغيير هيئة الصلاة وصفتها، لا في تغيير عدد ركعاتها، فلا يغيره الخوف، في قول الأكثرين.
ثانياً ـ سبب صلاة الخوف وشروطها:
إن الخوف من هجوم العدو سبب لهذه الصلاة، كما رأى ابن عابدين (1) ، وحضور العدو شرط، كما في صلاة المسافر، فإن المشقة سبب لها، والسفر الشرعي شرط. والمراد بالخوف: حضرة العدو، لا حقيقة الخوف، فإن حضرة العدو أو وجوده أقيمت مقام الخوف. ولا تختص صلاة الخوف بالقتال، بل تجوز في كل خوف، كهرب من سيل أو حريق أوسبع أو جمل أو كلب ضار أو صائل أو لص أو حية ونحو ذلك، ولم يجد معدلاً عنه (2) .
ويشترط لصلاة الخوف ما يأتي (3) :
1ً - أن يكون القتال مباحاً: أي مأذوناً فيه، سواء أكان واجباً كقتال الكفار الحربيين، والبغاة، والمحاربين (قطاع الطرق) القاصدين سفك الدماء وهتك الحرمات، لقوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء:101/4] ، أم جائزاً كقتال من أراد أخذ مال المسلمين.
فلا تصح صلاة الخوف من البغاة والعصاة بالسفر؛ لأنها رحمة وتخفيف ورخصة، فلا يجوز أن تتعلق أو تباح بالمعاصي، أي أن صلاة الخوف لا تجوز في القتال المحظور أو الحرام، كقتال أهل العدل وقتال أصحاب الأموال لأخذ أموالهم.
__________
(1) رد المحتار:793/1.
(2) المجموع:319/4.
(3) الدر المختار:794، فتح القدير:441/1، اللباب:125/1، شرح الرسالة:253/1-254، الشرح الصغير:517/1، مغني المحتاج:305/1-306، المهذب:105/1، كشاف القناع:9/3، القوانين الفقهية: ص83-84، المغني:406/3،408،416،418 ومابعدها، الشرح الكبير:391/1-394.(2/579)
2ً - حضور العدو أو السبع، أو خوف الغرق أو الحَرَق: فمن خاف العدو أو الخطر، سواء أكان الخوف على النفس أم المال، جاز له صلاة الخوف عند الجمهور والمشهور من مذهب المالكية في السفر والحضر وفي البحر والبر، في القتال أوغيره، لعموم قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء:102/4] فهو عام في كل حال. فلو رأوا سواداً ظنوه عدواً، فصلوها، فإن تبين الأمر كما ظنوا صحت صلاتهم، وإن ظهر خلافه، لم تجز، فإذا كانت الصلاة من غير خوف فسدت، قال الشافعية والحنابلة: من أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، ومن كان آمناً فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. وقال المالكية: من أمن صلى صلاة أمان. وتكون صلاة الحضر تامة، وصلاة السفر الرباعية مقصورة؛ لأن الخوف كما قدمنا لا يؤثر في عدد الركعات، ففي السفر الذي يبيح القصر (98كم) يصلي الإمام بكل طائفة ركعة، وفي الحضر يصلي الإمام بكل طائفة ركعتين.
ثالثاً ـ كيفية أداء صلاة الخوف أو صفتها:
اتفق الفقهاء على ناحيتين مهمتين:
أولاهما ـ أنه يجوز للجيش أن يصلوا بإمامين، كل طائفة بإمام.
وثانيتهما ـ أنه في اشتداد الخوف وتعذر الجماعة، يجوز للجنود أن يصلوا فرادى ركباناً وراجلين، في مواقعهم وخنادقهم، يومئون إيماء بالركوع والسجود إلى أي جهة شاءوا، إلى القبلة وإلى غيرها، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها؛ لأن هذه صلاة للضرورة، تسقط بها الأركان والتوجه إلى القبلة. وأما صلاة الخوف جماعة لكل الجنود، بإمام واحد: فتجوز صلاتها على أي صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد جاءت الأخبار بأنها على ستة عشر نوعاً، في صحيح مسلم بعضها، ومعظمها في سنن أبي داود، وفي صحيح ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان صلّى الله عليه وسلم يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.(2/580)
والمشهور من ذلك سبع صفات، اختار الجمهور منها أقواها وأصحها لديهم، وأجازها كلها الحنابلة، واختار الإمام أحمد منها حديث سهل، وهي ما يأتي (1) :
الأولى ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في عسفان (2) : اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدو في جهة القبلة: وهي أن يصف الإمام الناس خلفه صفين فأكثر، ويصلي بهم جميعاً ركعة إلى أن يسجد، فإذا سجد سجد معه الصف الذي يليه، وحرس الصف الآخر حتى يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، فإذا قام سجد الصف المتخلف، ولحقوه.
وفي الركعة الثانية سجد معه الصف الذي حرس أولاً في الركعة الأولى، وحرس الصف الآخر. فإذا جلس الإمام للتشهد سجد من حرس، وتشهد بالصفين، وسلم بهم جميعاً. فهي صلاة مقصورة لكونها في السفر. وقد اشترط الحنابلة لهذه الصفة: ألا يخاف المسلمون كميناً يأتي من خلف المسلمين، وألا يخفى بعض الكفار عن المسلمين، وأن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين، كل طائفة ثلاثة فأكثر؛ لأن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع {فإذا سجدوا..} [النساء:102/4] وأقل الجمع ثلاثة. فإن خاف المسلمون كميناً (يكمن في الحرب) ، أو خفي بعضهم عن المسلمين، أو كان المسلمون أقل من ستة أشخاص، صلوا على غير هذا الوجه.
__________
(1) اللبا ب:125/1 ومابعدها، فتح القدير:441/1-443، بداية المجتهد:170/1-171، المغني:401-416، مغني المحتاج:301/1-305، الشرح الصغير:518/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص83، كشاف القناع:10/2-17، نيل الأوطار:316/3-322، الشرح الكبير:391/1 ومابعدها، شرح الرسالة:253/1.
(2) روى هذه الصفة أبو داود من حديث أبي عياش الزرقاني، قال: «فصلاها النبي صلّى الله عليه وسلم مرتين: مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم» ورواها أيضاً أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث جابر (نيل الأوطار:319/3) .(2/581)
الثانية ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع (1) : وهي التي اختارها الشافعية (2) والحنابلة إذا كان العدو في غير جهة القبلة، كما اختارها المالكية مطلقاً في مشهور المذهب، سواء أكان العدو في جهة القبلة أم لا. وهي أن يقسم الإمام العسكر طائفتين: طائفة معه، وأخرى تحرس العدو، فيصلي بأذان وإقامة بالطائفة الأولى التي معه في الصلاة الثنائية ركعة، وفي الثلاثية والرباعية ركعتين، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون، ثم يذهبون ويحرسون.
وتأتي الطائفة الثانية، فيقتدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية في الثنائية، والركعتين الأخريين في الرباعية، والثالثة في المغرب، ويسلم الإمام، ويتمون صلاتهم بفاتحة وسورة، ولكن بعد سلامه عند المالكية، وينتظر الإمام في التشهد عند الشافعية والحنابلة ثم يسلم بهم، كما هو نص الحديث، ويقرأ الإمام بعد قيامه للركعة الثانية الفاتحة وسورة بعدها في زمن انتظاره الفرقة الثانية، ويكرر التشهد أو يطيل الدعاء فيه. ولا يسلم قبلهم عند الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا، فليصلوا معك} [النساء:102/4] فيدل على أن صلاتهم كلها معه، وتحصل المعادلة بين الفرقتين، فإن الأولى أدركت مع الإمام فضيلة الإحرام، والثانية فضيلة السلام.
__________
(1) روى هذه الصفة الجماعة إلا ابن ماجه عن صالح بن خَوَّات عن سهل بن أبي حَثْمة وهي التي قال عنها أحمد: «وأما حديث سهل، فأنا أختاره» وسميت الغزوة بذات الرقاع؛ لأن أقدامهم نقبت، فلفوا على أرجلهم الخرق (نيل الأوطار:316/3) .
(2) والأصح عند الشافعية أنها أفضل من صلاة بطن نخل الآتية.(2/582)
الثالثة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم كما رواها ابن عمر (1) ، وهي التي اختارها الحنفية: أن يجعل الناس طائفتين: طائفة في وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بهذه الطائفة ركعة وسجدتين وتتمم صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة الفاتحة وتسلم وتذهب للحراسة. وقال الحنفية: ثم تمضي إلى وجه العدو للحراسة بدون إتمام الصلاة.
وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويتشهد ويسلم وحده لتمام صلاته، ولم يسلموا عند الحنفية لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو. وتتم هذه الطائفة صلاتها عند الجمهور بقراءة سورة مع الفاتحة ثم تعود لمواقعها. وقال الحنفية: ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلاً للمشي، فتتم صلاتها وحدها بغير قراءة عند الحنفية؛ لأنهم في حكم اللاحقين، وتشهدوا وسلموا، وعادوا لحراسة العدو.
ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة؛ لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين. ومذهب أشهب تلميذ مالك موافق في هذه الكيفية لمذهب الحنفية.
كيفية أداء الصلوات الخمس حال الإقامة:
فإن كان الإمام مقيماً صلى بالطائفة الأولى ركعتين من الرباعية، وبالطائفة الثانية ركعتين، تسوية بينهما. ويصلي ـ في المذاهب الأربعة ـ بالطائفة الأولى ركعتين من المغرب، وبالثانية ركعة؛ لأنه إذا لم يكن بدّ من التفضيل فالأولى أحق به، وما فات الثانية ينجبر بإدراكها السلام مع الإمام. ويصلي الصبح بكل طائفة ركعة.
__________
(1) حديث متفق عليه (نيل الأوطار:318/3) .(2/583)
الرابعة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في بطن نخل (مكان من نجد بأرض غطفان) (1) ، واعتمدها الشافعية بعد صلاة ذات الرقاع إذا كان العدو في غير جهة القبلة: وهي أن يصلي الإمام مرتين صلاة كاملة، بكل طائفة مرة، ويسلم بكل طائفة. وصفتها حسنة قليلة الكلفة لا تحتاج إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة، وليس فيها أكثر من أن الإمام في الصلاة الثانية متنفل يؤم مفترضين، وهو جائز اتفاقاً، وعند الحنابلة والحنفية جائز في صلاة الخوف فقط، ممنوع في غيرها.
الخامسة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم في ذات الرقاع كما رواها جابر (2) : وهي أن يصلي الإمام الصلاة الرباعية تامة أربعاً بالنسبة إليه، وتصلي معه كل طائفة صلاة مقصورة ركعتين، بلا قضاء للركعتين، فكان للإمام أربع تامة، وللقوم ركعتان مقصورة.
السادسة ـ صلاة النبي صلّى الله عليه وسلم بذي قَرَد (ماء على بريد:22176 م من المدينة) . رواها ابن عباس، وحذيفة، وزيد بن ثابت (3) وغيرهم، ومنعها أكثر الفقهاء، فقال الشافعي عن حديث ابن عباس: «لا يثبت» ؛ لأن الخوف لا يؤثر في نقص الركعات، وأجازها الإمام أحمد والمحدثون لصحة الأحاديث فيها: وهي أن يصف الإمام الناس صفين: صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، ويصلي الرباعية الجائز قصرها بكل طائفة ركعة فقط، بلا قضاء ركعة أخرى.
السابعة ـ صلاته صلّى الله عليه وسلم بأصحابه عام غزوة نجد، رواها أبو هريرة (4) : وهي
__________
(1) رواه الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، ورواه الشافعي والنسائي عن جابر مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلم (نيل الأوطار:320/3) .
(2) متفق عليه بين أحمد والشيخين: البخاري ومسلم (نيل الأوطار:319/3) .
(3) حديث ابن عباس رواه النسائي بإسناد رجاله ثقات، وحديث حذيفة رواه أبو داود والنسائي، وحديث زيد رواه النسائي (نيل الأوطار:321/3-322) .
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي (نيل الأوطار:320/3-321) .(2/584)
أن تقوم مع الإمام طائفة، وتبقى طائفة أخرى تجاه العدو، وظهرها إلى القبلة، ثم يحرم وتحرم معه الطائفتان، وتصلي معه إحدى الطائفتين ركعة، ثم يذهبون فيقومون في وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى، فتصلي لنفسها ركعة، والإمام قائم، ثم يصلي بهم الركعة التي بقيت معه. ثم تأتي الطائفة القائمة في وجه العدو، فيصلون لأنفسهم ركعة، والإمام قاعد، ثم يسلم الإمام ويسلمون جميعاً، أي أن ابتداء الصلاة وانتهاءها تم باشتراك الطائفتين مع الإمام.
حمل السلاح في أثناء الصلاة: يسن للمصلي عند الشافعية والحنابلة (1) في صلاة شدة الخوف حمل السلاح في أثناء الصلاة احتياطاً، ليدفع به العدو عن نفسه، لقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم} [النساء:102/4] وقوله {ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم} [النساء:102/4] فدل على الجناح (الإثم) عند عدم ذلك، لكن لا يحمل في الصلاة سلاحاً نجساً، ولا ما يتأذى به الناس من الرمح في وسط الناس.
صلاة الجمعة في حال الخوف: قال الشافعية والحنابلة (2) : تصلى الجمعة في حال الخوف ببلد حضراً لا سفراً، بشرط كون كل طائفة أربعين رجلاً فأكثر ممن تصح بهم الجمعة، ويسمعون الخطبة.
وتكون الصلاة كصلاة عسفان وكذات الرقاع، لا كصلاة بطن نخل التي تتعدد في صلاة الإمام مرتين بكل طائفة مرة؛ إذ لا تقام جمعة بعد أخرى، ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين، ويصلي بالأخرى، حتى يصلي معه من حضر الخطبة.
__________
(1) مغني المحتاج:304/1، كشاف القناع:17/2، المهذب:107/1.
(2) مغني المحتاج:303/1، المغني:405/2، كشاف القناع:17/2.(2/585)
سهو الإمام في صلاة الخوف: قال المالكية والشافعية والحنابلة (1) : إذا فرق الإمام العسكر فرقتين كما حدث في صلاة ذات الرقاع أو صلاة عسفان، فسهو الإمام في الركعة الأولى يلحق الجميع، فيسجد المفارقون للسهو عند تمام صلاتهم؛ لأن صلاة الإمام ذاتها نقص في صلاتهم، إلا أن المالكية قالوا: تسجد الفرقة الأولى للسجود القبلي قبل السلام، والبعدي بعده، وتسجد الفرقة الثانية السجود القبلي مع الإمام، وتسجد السجود البعدي بعد قضاء ما عليها.
أما بعد المفارقة في الركعة الثانية: فلا يلحق سهو الإمام الأولين؛ لمفارقتهم الإمام قبل السهو.
وتسجد الفرقة الثانية مع الإمام آخر صلاته، ويلحقهم سهوه في حال انتظارهم.
أما سهو كل فرقة في الركعة الأولى للفرقة الأولى، وفي الركعة الثانية للفرقة الثانية، فيتحمله الإمام، لاقتداء الفرقة الأولى بالإمام حقيقة في الركعة الأولى، واقتداء الفرقة الثانية حكماً في الركعة الثانية.
رابعاً ـ صفة ما يقضيه المسبوق في صلاة الخوف، هل هو أول صلاته أو آخرها؟
سبق بحث هذا الموضوع في صلاة الجماعة ـ بحث المسبوق، وملخصه (2) : أن الشافعي قال: ما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يقضيه آخر صلاته لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» وهذا هو المتبادر للذهن المتفق مع ترتيب ما أنجز من أعمال الصلاة، فمن أدرك ركعة في صلاة المغرب، قام إلى ركعة واحدة، فقرأ الفاتحة وسورة، ثم جلس للتشهد، ثم أتى بركعة يقرأ فيها الفاتحة فقط.
__________
(1) الشرح الصغير:520/1، مغني المحتاج:303/1-304، كشاف القناع:12/2، المهذب:106/1.
(2) المغني:407/2-408، بداية المجتهد:181/1 ومابعدها.(2/586)
وقال الحنفية والحنابلة في ظاهر المذهب: ما يقضيه المسبوق أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها، أي عكس ترتيب ما أنجز من أعمال الصلاة، لخبر «ماأدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» ، فيقرأ دعاء الافتتاح ويتعوذ، ويقرأ السورة بعد الفاتحة، وإذا أدرك مع الإمام ركعة من المغرب فقط، صلى ركعتين من غير أن يجلس بينهما، ثم قام.
وقال المالكية: يفرق بين الأقوال والأفعال، فيقضي في الأقوال أي القراءة، كالحنفية والحنابلة، ويبني في الأفعال أي الأداء كالشافعية.
خامساً ـ متى تبطل صلاة الخوف؟
قال الحنفية (1) : تفسد صلاة الخوف بمشي لغير اصطفاف، وسبق حدث، وركوب مطلقاً أي لاصطفاف أو غيره؛ لأن الركوب عمل كثير، وهو مما لا يحتاج إليه، بخلاف المشي، فإنه أمر لا بد منه، حتى يصطفوا بإزار العدو.
كما تفسد بقتال كثير، لا بقليل كرَمْية سهم، فلا يقاتل المصلون حال الصلاة لعدم الضرورة إليه، فإذا فعلوا ذلك، وكان كثيراً، بطلت صلاتهم لمنافاته للصلاة من غير ضرورة إليه، بخلاف المشي، فإنه ضروري لأجل الاصطفاف.
قال النووي (2) : لا يجوز الصياح ولا غيره من الكلام بلا خلاف، فإن صاح فبان منه حرفان، بطلت صلاته بلا خلاف؛ لأنه ليس محتاجاً إليه، بخلاف المشي وغيره.
ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف؛ لأنها لا تضر في غير الخوف ففيه أولى.
وأما الأفعال الكثيرة: فإن لم تتعلق بالقتال، بطلت الصلاة بلا خلاف. وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية، فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف أيضاً؛ لأنها عبث.
وإن احتاج إليها فالأصح عند الأكثرين: أن الصلاة لا تبطل؛ قياساً على المشي، ولأن مدار القتال على الضرب، ولا يحصل المقصود غالباً بضربة وضربتين، ولا يمكن التفريق بين الضربات.
__________
(1) الدر المختار:794/1، فتح القدير:444/1، اللباب:126/1.
(2) المجموع:317/4، المهذب:107/1.(2/587)
سادساً ـ الصلاة عند التحام القتال واشتداد الخوف:
اتفق الفقهاء ـ كما أشرنا - على أنه ليس للصلاة كيفية معينة عند اشتداد الخوف من العدو، ويصلي العسكر إيماء. وعبارات الفقهاء في ذلك ما يأتي:
قال الحنفية (1) : إن اشتد خوف العسكر بحيث لا يدعهم العدو يصلون وعجزوا عن النزول، صلوا ركباناً فرادى؛ لأنه لا يصح الاقتداء لاختلاف المكان بين الإمام والمأمومين، ويومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا، إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} [البقرة:239/2] ، وسقط التوجه للقبلة للضرورة، كما سقطت أركان الصلاة.
والسابح في البحر: إن أمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة صلى بالإيماء، وإلا لاتصح صلاته، كصلاة الماشي والسائف، وهو يضرب بالسيف، فلا يصلي أحد حال المسايفة.
وقال الجمهور: تجوز الصلاة إيماء عند اشتداد الخوف وفي حال التحام القتال، وهي صلاة المسايفة.
وعبارة المالكية (2) : تجوز الصلاة عند اشتداد الخوف، وفي حال المسايفة أو مناشبة الحرب، في آخر الوقت المختار، إيماء بالركوع والسجود إن لم يمكنا، ويخفض للسجود أكثر من الركوع، فرادى (وُحداناً) ، بقدر الطاقة، مشاة أو ركباناً، وقوفاً أو ركضاً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
فيحل للمصلي صلاة الالتحام للضرورة مشي وهرولة وجري وركض، وضرب وطعن للعدو، وكلام من تحذير وإغراء، وأمر ونهي، وعدم توجه للقبلة، ومسك سلاح ملطخ بالدم. فإن أمنوا في صلاة الالتحام أتموا صلاة أمن بركوع وسجود.
__________
(1) الدر المختار:794/1، فتح القدير:445/1، مراقي الفلاح: ص94، اللباب:127/1.
(2) بداية المجتهد:172/1، الشرح الصغير:520/1- 521، شرح الرسالة:254/1، القوانين الفقهية: ص83.(2/588)
وعبارة الشافعية (1) : إذا التحم القتال أو اشتد الخوف يصلي كل واحد كيف أمكن راكباً وماشياً، وأومأ للركوع والسجود، إن عجز عنهما، والسجود أخفض. ويعذر في ترك القبلة، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح، ولا يعذر في الصياح بل تبطل به الصلاة، ويُلقي السلاح إذا دُمي دماً لا يعفى عنه، حذراً من بطلان الصلاة، فإن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد، أمسكه للحاجة. ولاقضاء للصلاة حينئذ في الأظهر.
وله أن يصلي هذه الصلاة (أي شدة الخوف) حضراً وسفراً، في كل قتال وهزيمة مباحين وهرب من حريق وسيل وسبع وغريم عند الإعسار، وخوف حبسه.
وعبارة الحنابلة (2) : إذا كان الخوف شديداً، وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم كالمريض، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها. ويتقدمون ويتأخرون، ويضربون ويطعنون، ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها.
ويصح أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة، بل تجب، رجالاً وركباناً، بشرط إمكان المتابعة، فإن لم تمكن لم تجب الجماعة ولا تنعقد.
ولا يضر تأخر الإمام عن المأموم في شدة الخوف، للحاجة إليه.
ولا يضر تلويث سلاحه بدم ولو كان كثيراً، وتبطل الصلاة بالصياح والكلام لعدم الحاجة إليه.
وتجوز هذه الصلاة لمن هرب من عدو هرباً مباحاً كخوف قتل أو أسر محرَّم بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو هرب من سيل أو سبع ونحوه، كنار أو غريم ظالم، أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله من شيء مما سبق.
__________
(1) مغني المحتاج:304/1 ومابعدها، المهذب:107/1.
(2) المغني:416/2-418، كشاف القناع:18/2 ومابعدها.(2/589)
المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور
وفيه أربعةمطالب، علماً بأن المراد بالجنازة ـ بفتح الجيم أو كسرها ـ الميت في النعش:
المطلب الأول ـ ما يطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز.
المطلب الثاني ـ حقوق الميت (الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، وحمل الجنازة والدفن) .
المطلب الثالث ـ التعزية والبكاء على الميت.
المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله.
وفي كل مطلب فروع كثيرة، أبحث كل مطلب منها على حدة.
المطلب الأول ـ مايطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز:
الاستعداد للموت: الموت جسر بين حياتين: حياة الدنيا الفانية، وحياة الآخرة الخالدة، والدنيا مزرعة للآخرة، فمن عمل صالحاً في دنياه، نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة، وكان من الخالدين في جنان الله، ومن عمل سوءاً كان من المعذبين في نار جهنم إلا أن يعفو الله عنه. والموت انتقال من عالم لآخر، وليس فناء، وإنما هو مفارقة الروح للبدن، والروح عند جمهور المتكلمين: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو باق لايفنى عند أهل السنة. وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر:39/42] تقديره عند موت أجسادها.(2/590)
والمستحب لكل إنسان ذكر الموت والاستعداد له (1) ، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» (2) يعني الموت، والهاذم: القاطع. زاد البيهقي والنسائي: «فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا كثره» أي كثير من الدنيا، وقليل من العمل. ولحديث ابن مسعود: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: نستحيي يانبي الله، والحمد لله، قال: ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء» (3) .
والاستعداد للموت: بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، والإقبال على الطاعات، لقوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولايشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف:18/110] ولما روى البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبراً، فبكى حتى بلَّ الثرى بدموعه، وقال: «إخواني لمثل هذا فأعدوا» (4) أي تأهبوا واتخذوا له عُدة، وهي ما يعد للحوادث.
ويسن للمريض عند الاحتضار أن يحسن الظن بالله تعالى، متناسياً آثامه وسيئاته، معتقداً أنه مقبل على رب كريم غفار للذنوب كلها، ما دام مؤمناً، للحديث القدسي الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: «أنا عند ظن عبدي بي» .
__________
(1) المهذب:126/1، مغني المحتاج:329/1، كشاف القناع:87/2، المغني:448/2. (2) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر بلفظ «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت» ورواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة، ورواه آخرون عن أنس، وهو صحيح.
(3) رواه الترمذي بإسناد حسن.
(4) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.(2/591)
عيادة المريض: تسن عيادة المريض (1) ، قال البراء: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المريض» (2) ، وعن أبي هريرة مرفوعاً: «حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتْبعه» (3) ، وعن علي رضي الله عنه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة» (4) .
الرقية: إذا دخل الرجل على مريض دعا له بالصلاح والعافية ورقاه، قال ثابت لأنس: يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس: أفلا أرقيك برقية رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: «اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقماً» ، وروى أبو سعيد قال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، وعين حاسدة، الله يشفيك» (5) .
__________
(1) مغني المحتاج:257/1، المهذب:126/1، المجموع:94/5-103، المغني:449/2، كشاف القناع:85/2-91.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(4) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5) قال أبو زرعة: كلا هذين الحديثين صحيح........(2/592)
والمستحب أن يقول: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات، لما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من عاد مريضاً لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، عافاه الله تعالى من ذلك المرض» (1) .
ويستحب أن يقرأ عنده فاتحة الكتاب، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «وما يدريك أنها رقية؟» ، وأن يقرأ عنده سورة الإخلاص والمعوذتين. فقد ثبت ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم، وروى أبو داود: «أنه صلّى الله عليه وسلم قال: إذا جاء رجل يعود مريضاً، فليقل: اللهم اشف عبد ك ينكأ بك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة» ، وصح أن جبريل عاد النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسمه أرقيك» وأنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا دخل على من يعوده، قال: «لا بأس، طهور إن شاء الله» .
مجاملة المريض: ويسأل العائد المريض عن حاله، وينفِّس له في الأجل بما يطيب نفسه، إدخالاً للسرور عليه، ولقولهصلّى الله عليه وسلم: «إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في الأجل، فإنه لا يرد من قضاء الله شيئاً، وإنه يطيب نفس المريض» (2) ويرغِّبه في التوبة والوصية، لحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده» (3) .
ولا يطيل العائد الجلوس عند المريض خوفاً من الضجر، وتكره العيادة وسط النهار، ويعاد بكرة أوعشياً، ويعاد في رمضان ليلاً، لأنه ربما رأى من المريض مايضعفه.
الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى: ويخبر المريض عن حاله من الوجع، ولو لغير طبيب بلا شكوى، بعد أن يحمد الله، لحديث ابن مسعود مرفوعاً: «إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاكٍ»
__________
(1) حديث صحيح رواه أبو داود والحاكم والترمذي والنسائي عن ابن عباس، قال الترمذي: هو حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري.
(2) رواه ابن ماجه، وهو ضعيف.
(3) متفق عليه من حديث ابن عمر.(2/593)
ويستحب أن يصبَّر المريض وكل مبتلى، للأمر به في قوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} [النحل:16/127] وقوله: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:39/10] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء» (1) ، وروي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك، فقالت: أصبر ولا حساب علي» (2) .
والصبر الجميل: صبر بلا شكوى إلى المخلوق، والشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر، بل هي مطلوبة، ومن الشكوى إلى الله قول أيوب: «رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» وقول يعقوب: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله» .
وينبغي كما تقدم أن يكون المريض حسن الظن بالله تعالى، لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» (3) ومعناه: أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك كرماً ورحمة ومسامحة؛ لأنه أكرم الأكرمين يعفو عن السيئات، ويقيل العثرات، فيقدم الرجاء على الخوف، كما في الحديث الصحيح: «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (4) .
كراهة تمني الموت: يكره تمني الموت لضر نزل بالمرء في بدنه أو ضيق في دنياه أو نحو ذلك، جاء في الصحيحين: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي.
» ولا يكره تمني الموت لضرر بدينه أو خوف فتنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون» .
__________
(1) رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري.
(2) رواه البغوي بلفظه عن أبي هريرة، ورواه بلفظ آخر البخاري ومسلم عن ابن عباس.
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً، زاد أحمد: «إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله» .(2/594)
وتمني الشهادة في سبيل الله ليس من تمني الموت المنهي عنه:
التداوي: قال الشافعية: ويسن للمريض التداوي، لخبر: «إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير المحرَّم» (1) ، وخبر ابن مسعود: «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه، فعليكم بألبان البقر، فإنها تُرِمُّ من كل الشجر» (2) أي تأكل. وخبر أبي الدرداء: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بالحرام» (3) ويكره إكراه المريض على التداوي وعلى الطعام، لما في ذلك من التشويش عليه.
قال النووي في المجموع (4) : إن ترك التداوي توكلاً، فهو فضيلة.
وكذلك قال الحنابلة (5) : ترك الدواء أفضل؛ لأنه أقرب إلى التوكل. ولا يجب التداوي ولو ظن نفعه، لكن يجوز اتفاقاً، ولا ينافي التوكل، لخبر أبي الدرداء السابق. ويحرم التداوي بسُمْ لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195/2] .
__________
(1) قال الترمذي: حسن صحيح.
(2) رواه ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود.
(3) رواه أبو داود في سننه بإسناد فيه ضعف، ولم يضعفه هو، وما لم يضعفه فهو عنده صحيح أو حسن. وروى البخاري عن أبي هريرة «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء» .
(4) المجموع:95/5.
(5) كشاف القناع:85/2.(2/595)
عيادة الذمي: قال الحنابلة (1) : تحرم عيادة الذمي كبداءته بالسلام.
وقال الشافعية (2) : لا تستحب عيادة الذمي، لكن تجوز إن كان هناك جوار أو قرابة أو نحوهما كرجاء إسلامه، وفاء بصلة الرحم وحق الجوار. جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي صلّى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» .
توبة اليأس وإيمان اليأس (3) : اتفق العلماء على أن إيمان اليأس لا يقبل، لقوله تعالى: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} [غافر:40/85] واليأس: معاينة أسباب الموت بحيث يعلم قطعاً أن الموت يدركه لا محالة.
وقال الأشاعرة: إن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس، لعدم الاختيار، وعدم توافر ركن التوبة: وهو العزم بطريق التصميم على ألا يعود في المستقبل إلى ما ارتكب من المعاصي.
والمختار عند الحنفية: أن توبة اليأس مقبولة، لا إيمان اليأس؛ لأن الكافر غير عارف بالله تعالى، ويبدأ إيماناً وعرفاناً جديداً، والفاسق عارف، وحاله حال البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (4) والغرغرة تكون قرب كون الروح في الحلقوم، وحينئذ فلا يمكن النطق.
موت الفجأة وهيئة البعث: صح أن الميت يبعث بالحالة التي يموت فيها من الأعمال، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «يبعث كل عبد على مامات عليه» (5) . وصح أن موت الفجأة أخذة أسف، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم استعاذ من موت الفجأة. والتوفيق بين الأمرين: أن يحمل الأول على من له تعلقات يحتاج بسببها إلى الإيصاء والتوبة، أما المتيقظون فإنه تخفيف ورفق بهم، روي عن ابن مسعود وعائشة: أن موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذة غضب للكافر (6) .
ما يستحب حال الاحتضار: يستحب للمحتضر وهو من حضره الموت ولم يمت ما يأتي (7) ، علماً بأن علامة الاحتضار: استرخاء قدميه، واعوجاج منخره، وانخساف صد غيه، والاحتضار: هو ظهور دلائل الموت على المريض.
أ - إضجاعه على جنبه الأيمن إلى القبلة، اتباعاً للسنة، لقوله صلّى الله عليه وسلم عن البيت الحرام: «قبلتكم أحياء وأمواتاً» (8) ، ولقول حذيفة: «وجهوني» وقول فاطمة الزهراء لأم رافع: «استقبلي بي القبلة» (9) .
__________
(1) كشاف القناع:88/2.
(2) المجموع:99/1، مغني المحتاج:329/1-330.
(3) رد المحتار والدر المختار:796/1....
(4) أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وهو حديث حسن.
(5) رواه مسلم وابن ماجه عن جابر.
(6) مغني المحتاج:368/1.
(7) الدر المختار ورد المحتار:795-800، فتح القدير:446/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص94ومابعدها، اللباب:127/1 ومابعدها، بداية المجتهد:218/1، القوانين الفقهية: ص91، الشرح الصغير:561/1-563، الشرح الكبير:423/1، مغني المحتاج:330/1-332، المهذب:126/1 ومابعدها، المغني:449/2-453، كشاف القناع:92/2-96.
(8) رواه أبو داود، وقال عليه السلام: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .
(9) أخرجه أحمد (نصب الراية:250/2) .(2/596)
فإن تعذر ذلك لضيق المكان ونحوه يوضع مستلقياً على قفاه ووجهه وقدماه نحو القبلة؛ لأنه أيسر لخروج روحه. وإن شق عليه ترك على حاله. ويسن تجريع المحتضر بماء بارد بملعقة أو قطنة مثلاً.
ب - تلقينه الشهادة مرة: وهي «لا إله إلا الله» بأن يقول القريب عنده ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» (1) وزيد في رواية: «فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلا أنجته من النار» وروى أبو داود والحاكم حديثاً عن معاذ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة» .
وقال الحنفية المالكية: يلقن ندباً الشهادتين قبل الغرغرة، لأن الأولى لا تقبل بدون الثانية. وذلك عند الجميع في لطف ومداراة. من غير إلحاح عليه ولا تكرار ولا أمر، لئلا يضجر، فإن تكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون «لا إله إلا الله» آخر كلامه.(2/597)
وأضاف الحنفية: لا يلقن بعد تلحيده: وضعه في القبر، وإن فعل فالتلقين مشروع عند أهل السنة، ويكفي أن يقال: «يا فلان ابن فلان، أو يا عبد الله بن عبد الله، اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقل: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً» (2) . ويغتفر في حق المحتضر ما ظهر منه من كلمات كفرية، ويعامل معاملة موتى المسلمين، حملاً على أنه في حال زوال عقله.
وقد أجمع أهل السنة على أن سؤال الملكين في القبر حق، وأن كل ذي روح من بني آدم يسأل في القبر. والأرجح عند ابن عبد البر والسيوطي: أن الآثار دلت على أنه لا يكون السؤال إلا لمؤمن أو منافق، ممن يكون منسوباً إلى أهل القبلة بظاهر الشهادة، دون الكافر الجاحد.
وذكر السيوطي أن من لايسأل ثمانية: الشهيد والمرابط، والمطعون، والميت زمن الطاعون إذا كان صابراً محتسباً، والصدِّيق، والأطفال، والميت يوم الجمعة أو ليلتها، والقارئ كل ليلة: تبارك الملك. وضم بعضهم إليها السجدة، والقارئ في مرض موته: قل هو الله أحد.
__________
(1) أخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي سعيد الخدري، وروي أيضاً عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعائشة وعبد الله بن جعفر وواثلة بن الأسقع، وابن عمر (نصب الراية:253/2) .
(2) روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أمر بالتلقين بعد الدفن، فيقول: «يا فلان ابن فلان، اذكر دينك الذي كنت عليه، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً»(2/598)
جـ ـ قراءة القرآن عند المحتضر: قال المالكية: تكره القراءة عند الموت إن فعله استناناً كما يكره القراءة بعد الموت، وعلى القبر؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله. وقال الجمهور: يندب قراءة {يس} لحديث «اقرؤوا على موتاكم يس» (1) واستحسن بعض متأخري الحنفية والشافعية قراءة {الرعد} أيضا ً، لقولجابر: «إنها تهون عليه خروج روحه»
.والحكمة من قراءة {يس} أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها، فإذا قرئت عنده، تجدد له ذكر تلك الأحوال.
د ـ أن يتولى أرفق أهل المريض به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه تعالى إذا مات لا قبل الموت: إغماض عينيه، وشد لَحْييه (الفك السفلي) بعصابة من أسفلهما، وتربط فوق رأسه، تحسيناً له، ويقول: «بسم الله، وعلى ملة رسول الله، اللهم يسِّر عليه أمره، وسهِّل عليه ما بعده، وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيراً مما خرج عنه» قال الحنفية: ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، لامتناع حضور الملائكة بسببهم.
__________
(1) رواه أبو داود وابن حبان وصححه، وابن ماجه وأحمد (نيل الأوطار:22/4)(2/599)
ويحضر عنده الطيب كبخور، وتلين مفاصله (1) من اليدين والرجلين، وتلين أصابعه، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف كما فعل بالنبي صلّى الله عليه وسلم إذ سُجِّي (غطي) ببُرد حِبرة (ثوب في أعلام) ، ويوضع على بطنه شيء ثقيل من أنواع الحديد، لئلا ينتفخ فيقبح منظره، ويوضع على سرير ونحوه مما هو مرتفع لئلا تسرع له هوام الأرض، وتنزع ثيابه عنه لئلا يسرع فساده، ويوجه للقبلة كمحتضر، كما تقدم، وتوضع يداه بجنبيه، ولا يجوز وضعهما على صدره؛ لأنه من عمل الكفار، وتكره عند الحنفية قراءة القرآن عنده حتى يغسل. وجاز تقبيل الميت تبركاً ومودة واحتراماً؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبَّل عثمان بن مظعون، وقبل أبو بكر النبي بعد موته (2) وإن أحب أهل الميت أن يروه لم يمنعوا، لقول جابر: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي.
هـ ـ النعي: قال الجمهور غير الحنابلة (3) : لا بأس بإعلام الناس بموت إنسان للصلاة وغيرها، لما روى الشيخان: أنه صلّى الله عليه وسلم نعى لأصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأنه نعى جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة. واستحسن بعض متأخري الحنفية وهو الأصح النداء في الأسواق لجنازة الشخص إن كان عالماً أوزاهداً، أو ممن يتبرك به.
وهذا هو الأولى لا سيما في عصرنا لتعلق حقوق معينة بالميت، والتزامه بالواجبات.
ويكره نعي الجاهلية: وهو النداء بذكر مفاخر الميت ومآثره، للنهي عنه، كما صححه الترمذي. وهو أمر يخالف مجرد الإعلام بالموت.
__________
(1) بأن يرد ساعده إلى عضده ثم يمده، ويرد ساقه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ويردهما.
(2) الحديث الأول رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن عائشة، والحديث الثاني رواه البخاري والنسائي وابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار:24/4-25) .
(3) الدر المختار:840/1، مراقي الفلاح: ص95، الشرح الصغير:562/1، مغني المحتاج:357/1.(2/600)
وقال الحنابلة (1) : يكره النعي: وهو أن يبعث منادياً ينادي في الناس: أن فلاناً قد مات، ليشهدوا جنازته، لما روى حذيفة قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم ينهى عن النعي (2) ، وقال حذيفة: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً، فإني أخاف أن يكون نعياً، وقال ابن عمر: «الإيذان بالميت نعي الجاهلية» . وقد قرر صاحب المهذب عند الشافعية كراهة نعي الميت، إلا أن المعتمد هو ما ذكره النووي أولاً.
وـ الإسراع بالتجهيز: إذا تيقنا من الموت يستحب الإسراع في أمور ثلاثة: التجهيز، وقضاء الديون، وتفريق وصيته.
أما التجهيز: فيستحب المسارعة فيه، خوفاً من تغير الميت، قال الإمام أحمد: «كرامة الميت تعجيله» لما روي أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلم يعوده، فقال: «إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجِّلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن يُحبَس بين ظهري أهله» (3) . وتؤيده أحاديث الإسراع بالجنازة، مثل حديث علي: «ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً» (4) .
ولا بأس أن ينتظر بالجنازة مقدار ما يجتمع لها جماعة، للدعاء له في الصلاة عليه، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس.
__________
(1) المغني:570/2، المهذب:132/1.
(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) رواه أبو داود عن الحصين بن وَحْوَح، وفي إسناده مجهولان (نيل الأوطار:22/4) .
(4) أخرجه أحمد والترمذي إلا أنه قال: «لا تؤخرها» مكان «لا يؤخرون» (نيل الأوطار:23/4) .(2/601)
وأما الإسراع بقضاء الدين: فلتخفيف المسؤولية عن الميت، قال صلّى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن معلّقة بدينه، حتى يقضى عنه» (1) هذا إذا كان له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له، ومات عازماً على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، مثل حديث أبي أمامة: «من دان بدين، في نفسه وفاؤه، ومات، تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه، ومات، اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة» (2) وحديث ابن عمر: «الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه، فذلك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم» (3) .
وأما المسارعة إلى تفريق وصيته: فذلك ليعجل له ثوابها، بانتفاع الموصى له بها، علماً بأن الوصية بعد الدين، وقبل حقوق الورثة.
المطلب الثاني ـ حقوق الميت:
للميت على ذويه وإخوانه حقوق أربعة، هي فروض كفائية بالإضافة إلى حق أو واجب التجهيز السابق ذكره: وهي الغسل والتكفين والصلاة عليه، ودفنه وحمل جنازته واتباعه، لإجماع العلماء، وللأمر به في الأخبار الصحيحة في غير الدفن، إلا أن اتباعه سنة كما سيأتي، فلو دفن قبل غسله أو تكفينه لزم نبشه، ثم يتدارك ما حدث:
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي: وقال: حديث حسن، من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعاً.
(3) أخرجه الطبراني أيضاً (راجع الأحاديث في نيل الأوطار:23/4) .(2/602)
الفرض الأول ـ تغسيل الميت:
حكم الغسل، وصفة الغاسل، وحالة المغسول وشروطه، وكيفية الغسل ومقداره ومندوباته، هل يوضأ الميت؟ (1) .
أولاً ـ حكم الغسل:
غسل الميت فرض كفاية، لقوله في الذي سقط من بعيره: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبيه» (2) . وتسن المبادرة لغسل الميت عند التيقن من موته، ولو دفن قبل الغسل، لزم نبشه ويغسل. فإن لم يوجد إلا بعض الميت يغسل ويصلى عليه عند الشافعية والحنابلة، لفعل الصحابة. وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد الأكثر، صلي عليه، وإلا فلا. ويقوم التيمم مقام غسل الميت عند فقد الماء أوتعذر الغسل، كما إذا خيف تقطع بدنه إذا غسل، وإلا فإنه يغسل بصب الماء عليه.
ثانياً ـ صفة الغاسل:
1 ً - من هو الأولى بالغسل؟ يغسل الرجل الرجل، وتغسل المرأةُ المرأةَ، فكل منهما أولى بجنسه اتفاقاً، حتى لو حضر الميت الرجل كافر ومسلمة أجنبية غسله الكافر عند الجمهور، والمرأة الأجنبية أولى بالغسل من الزوج خروجاً من الخلاف. وهل يغسل الرجل زوجته وبالعكس؟
قال الحنفية: لا يجوز للرجل غسل زوجته ومسها لانقطاع النكاح، ويجوز له النظر إليها في الأصح؛ لأن النظر أخف من المس، فجاز لشبهة الاختلاف. ويجوز للمرأة أن تغسل زوجها، ولو كانت معتدة من طلاق رجعي لبقاء العدة، أو كانت ذمية، بشرط بقاء الزوجية إلى وقت الغسل.
__________
(1) الدر المختار:800/1-806، فتح القدير:448/1-451، مراقي الفلاح: ص96 ومابعدها، اللباب:128/1-130، الشرح الصغير:542/1-549، القوانين الفقهية: ص 92، بداية المجتهد:218/1-225، مغني المحتاج:332/1-336، المهذب:127/1-129، المغني:453/2-464، 523، 537-539، كشاف القناع:96/2- 112.
(2) متفق عليه، والسدر: ورق النبق، لأن له رغوة كالصابون.(2/603)
وقال الجمهور: يجوز لكل من الزوجين غسل الآخر بعد الموت، ويلفان خرقة على اليد، ولا مس، سواء أكانت المرأة مسلمة أم ذمية خلافاً للحنابلة في الذمية، إذا اتصلت الرابطة الزوجية إلى الموت، اتفاقاً، وكذا للمرأة غسل زوجها وإن انقطعت الرابطة الزوجية عند الشافعية بأن انقضت عدتها وتزوجت، عملاً بحديث عائشةالثاني الآتي. وقال غير الشافعية: المرأة البائنة كالأجنبية، والمطلقة الرجعية كالزوجة فعلاً. وينظر أحد الزوجين إذا غسل الآخر غير العورة.
ودليلهم على غسل أحد الزوجين الآخر: حديث عائشة: قالت: رجع إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعاً في رأسي، وأقول: وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه، ما ضرَّك لو متِّ قبلي، فغسَّلتكِ وكفنتكِ، ثم صليت عليك ودفنتكِ (1) .
وكانت عائشة تقول: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم إلا نساؤه» (2) .
وغسَّل علي فاطمة رضي الله عنهما، وأوصى الصديق زوجته أسماء أن تغسله فغسلته.
ويغسل الرجل ذوات محارمه من فوق ثوب.
ويجوز اتفاقاً للرجل والمرأة تغسيل صبي وصبية لم يشتهيا؛ لحل النظر والمس له. ويصح عند الحنابلة مع الكراهة كون الغاسل صبياً مميزاً.
وأولى الناس بغسل الميت الرجل: أولاهم بالصلاة عليه، وأولى الناس بالمرأة: قراباتها، ويقدّمن على زوج، في الأصح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية: يقدم الزوجان على العصبة وعلى قرابة المرأة من المحارم، بحكم الحاكم عند التنازع.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (راجعهما في نيل الأوطار:27/4) .(2/604)
فأولى الناس بالرجل: هم الرجال العصبات من النسب، فيقدم الأب ثم الجد، ثم الابن ثم ابن الابن، ثم الأخ ثم ابن الأخ، ثم العم ثم ابن العم؛ لأنهم أحق بالصلاة عليه، فكانوا أحق بالغسل، ويقدم الأفقه على الأسن، ثم الزوجة بعدهم في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجانب أولى من الزوجة خروجاً من الخلاف. ثم المرأة المحرم كأم وبنت وأخت وعمة وخالة عند المالكية، فإن لم توجد امرأة محرم ولو بمصاهرة يممته امرأة أجنبية.
وقدم الحنابلة على العصبات: وصي الميت إن كان عدلاً، فهو أولى الناس بغسل الميت؛ لأنه حق للميت، فقدم فيه وصيه على غيره، كباقي حقوقه، ولأن أبا بكر أوصى أن تغسله زوجته أسماء، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين.
وأولى الناس بالمرأة: ذات القرابة المحرمية: وهي كل امرأة لو كانت رجلاً، لم يحل له نكاحها بسبب القرابة؛ لأنهن أشد في الشفقة، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم، ثم المرأة الأجنبية، ثم الزوج في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجنبية أولى من زوج، خروجاً من الخلاف، ثم رجال القرابة المحارم كترتيب أولويتهم في الصلاة، وابن العم كالأجنبي. فإن ماتت امرأة بين رجال فقط، أو مات رجل بين نساء فقط، يممه المَحْرم، فإن لم يكن يممه الأجنبي عند الحنفية والحنابلة والشافعية بخرقة أو حائل، وقال المالكية: يمم الرجل المرأة الأجنبية إلى كوعيها، وتيممه إلى مرفقيه.
2 ً - شروط الغاسل: يشترط في الغاسل عند الحنابلة ما يأتي:
أ - الإسلام: فلا يصح كون الغاسل كافراً؛ لأن الغسل عبادة، وليس الكافر من أهلها.
ب ـ النية: لحديث «إنما الأعمال بالنيات» .
جـ ـ العقل: لأن غير العاقل ليس أهلاً للنية.(2/605)
ولم يشترط الجمهور شرطي الإسلام والنية، فيصح غسل الكافر، ويجزئ الغسل بدون نية، لكن يجب غسل الغريق، فيحرك في الماء بنية الغسل ثلاثاً؛ لأنا مأمورون بغسل الميت. لكن قال الحنفية: النية ليست لصحة الطهارة، بل شرط لإسقاط الفرض عن المكلفين.
3 ً - ما يستحب في الغاسل: يستحب أن يكون الغاسل ثقة أميناً عارفاً بأحكام الغسل، لقول ابن عمر: «لا يغسل موتاكم إلا المأمونون» (1) .
وينبغي للغاسل ولمن حضر غض أبصارهم إلا من حاجة، وأن يستر ما يطلع عليه من عيب يحب الميت أن يستره ولا يحدث به، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (2) وقوله: «من غسَّل ميتاً، فأدى فيه الأمانة، ولم يُفْش عليه ما يكون منه عند ذلك، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه، وقال: ليله أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم، فمن ترون عنده حظاً من ورع وأمانة» (3) وقوله: «من غسل ميتاً وكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة» (4) ، وإن رأى الغاسل حسناً، مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك، استحب إظهاره، ليكثر الترحم عليه، ويحصل الحث على مثل طريقته، والتشبه بجميل سيرته.
ويستحب أن يستر الميت عن العيون؛ لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه، كما ذكرت، لحديث «اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم» (5) .
ويستحب ألا يغسل تحت السماء، ولايحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل، فيغسل في بيت.
ويستحب ألا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية، وإن احتاج إلى معين، استعان بمن لا بد له منه، ويكره حضور غير المعين للغسل.
__________
(1) ورواه ابن ماجه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ليغسل موتاكم المأمونون» .
(2) متفق عليه عن ابن عمر (نيل الأوطار:25/4) .
(3) رواه أحمد عن عائشة، وفي إسناده جابر الجعفي وفيه كلام كثير (المصدر السابق) .
(4) رواه الحاكم عن أبي رافع وهو صحيح.
(5) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وهو صحيح.(2/606)
ويستحب أن يكون بقربه مجمرة بخور، حتى إن كانت له رائحة لم تظهر ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورة الميت ابن سبع فأكثر، لقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت» (1) ولا يجوز أن يمس عورته؛ لأنه إذا لم يجز النظر، فالمس أولى.
ويستحب ألا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لابد منه، ويستحب ألا يمس سائر بدنه؛ لأن علياً رضي الله عنه غسل النبي صلّى الله عليه وسلم وبيده خرقة يتبع بها ماتحت القميص. فالواجب استعمال خرقة أو نحوها حال غسل العورة، والمندوب استعمالها لغسل سائر الجسد.
والأفضل أن يغسل الميت مجاناً، ويكره عند الحنابلة أخذ الأجرة على شيء من الغسل والتكفين والحمل والدفن. وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالغاسل، إن وجد غيره، وإلا بأن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه، أي لأنه صار واجباً عليه عيناً، ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة. وهذا رأي المتقدمين، وأجاز المتأخرون أخذ الأجرة على الطاعات للضرورة.
__________
(1) رواه أبو داود بلفظ «لا تبرز فخذك، ولاتنظر إلى فخذ حي أو ميت» .(2/607)
ويستحب عند الجمهور لمن غسل ميتاً أن يغتسل بعد فراغه من غسله، لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» (1) .
ثالثاً ـ حالة المغسول (2) :
الأكمل وضع الميت بموضع خال عن الناس مستور على لوح، والأفضل أن يكون تحت سقف؛ لأنه أستر له.
وإن كان الميت مقطوع الرأس، أو كانت أعضاؤه مقطوعة، لفق أو ربط بعضها إلى بعض بالتقميط والطين الحر، حتى لايتبين تشويهه، فإن سقط من الميت شيء كأسنانه غسل وجعل معه في الكفن.
والمستحب أن يجلسه الغاسل إجلاساً رفيقاً مائلاً إلى ورائه، واضعاً يمينه على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، مسنداً ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمسح بطنه مسحاً بليغاً ليخرج ما فيه، وكلما أمرَّ اليد على البطن، صب عليه ماء كثيراً، حتى لا تظهر رائحة ما قد يخرج منه، ثم يضجعه مستلقياً إلى قفاه.
ويجب ستر عورة المغسول، إلا من له دون سبع سنين، فلا بأس بغسله مجرداً، كما ذكر الحنابلة، ثم يجرد عند الجمهور من ثيابه ندباً، لأنه أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له من التنجيس، إذ يحتمل خروج النجاسة منه.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان، وقال البيهقي: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة (المجموع:141/5) .
(2) الدر المختار:800/1 ومابعدها، الشرح الصغير:546/1-548، المهذب:128/1، مغني المحتاج:332/1 ومابعدها، كشاف القناع:103/2، 111، المغني:457/2،539، بداية المجتهد:222/1(2/608)
ولو غسله في قميص خفيف واسع الكمين، جاز. وقال الشافعية: لا يجرد وإنما يغسل ندباً في قميص؛ لأنه أستر له، وقد غسل صلّى الله عليه وسلم في قميص (1) .
رابعاً ـ شروط إيجاب الغسل:
أما شروط إيجاب غسل الميت فهي ما يلي (2) :
1 ً - أن يكون مسلماً: فلا يجب غسل الميت الكافر: بل يحرم عند الجمهور، وأجاز الشافعية غسله؛ لأن غسل الميت للنظافة، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم «أمر علياً، فغسل والده وكفنه» (3) ، والأصح عند الشافعية وجوب تكفين الميت ودفنه.
2 ً - أحكام السِّقط: أن يكون معلوم الحياة: فلا يصلى عند المالكية على مولود ولا سِقْط (الولد الميت أو غير التام الأشهر) إلا أن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو استهلال (صراخ) ولو لحظة، لحديث: «الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يَستَهِلَّ» (4) . وروى ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا استهلّ السِّقْطَ صُلِّي عليه وورث» .
وقال الحنفية: يغسل المولود ويصلى عليه ويرث ويورث إن استهل: أي وجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل يغسل ويسمى عند أبي يوسف وهو الأصح، فيفتى به على خلاف ظاهر الرواية، إكراماً لبني آدم، أي أنه إذا نزل حياً فهو كالكبير، وإن لم يظهر منه صراخ، فإن نزل ميتاً فيغسل إن كان تام الخَلْق، ولا يغسل إن لم يكن تام الخلق، بل ظهر بعض خلقه، وإنما يصب عليه الماء ويلف في خرقة ويدفن ويسمى، لأنه يحشر يوم القيامة.
وقال الشافعية: إن ظهرت أمارات الحياة كاختلاج، غُسِّل، وصلي عليه في الأظهر لاحتمال الحياة وللاحتياط، وإن لم تظهرعليه أمارات الحياة لم يُصَلَّ عليه وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر، لعدم ظهور حياته، ولكن يجب غسله وتكفينه ودفنه، في الحالة الأخيرة، ولا يغسل على المذهب قبل أربعة أشهر. وقال الحنابلة: إذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل وصلي عليه. لحديث: «والسقط يصلى عليه» (5) .
والخلاصة: إن الفقهاء اتفقوا على وجوب غسل السقط إن خرج حياً واستهل، ويصلى عليه. فإن لم تظهر عليه أمارات الحياة غسل وكفن ودفن مطلقاً عند الحنفية، وعند الشافعية إن بلغ أربعة أشهر، ولم يصل عليه. ويغسل ويصلى عليه عند الحنابلة إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، فالشافعية والحنابلة متفقون على عدم غسله قبل أربعة أشهر.
__________
(1) رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.
(2) الدر المختار:804/1،829، الشرح الصغير:542/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص93 ومابعدها، مغني المحتاج:348/1 ومابعدها، المهذب:134/1، المغني:522/2،539، كشاف القناع:126/2،133.
(3) رواه أبو داود والنسائي.
(4) رواه الترمذي. والاستهلال: الصياح أوالعطاس أو أي حركة تدل على الحياة.
(5) رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ للترمذي: «والطفل يصلى عليه» وقال: هذا حديث حسن صحيح.(2/609)
3 ًً - أن يوجد جسد الميت، أو أكثره عند الحنفية والمالكية، بأن وجد عند الحنفية أكثر البدن أو نصفه مع الرأس، وإن وجد عند المالكية ثلثا بدنه ولو مع الرأس، وإلا كان غسله مكروهاً. وقال الشافعية والحنابلة: إن لم يوجد إلا بعض الميت ولو كان قليلاً غسل وصلي عليه، لفعل الصحابة.
4 ً - ألا يكون شهيداً قتل في معركة لإعلاء كلمة الله: فالشهيد ـ كما سيأتي ـ لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه وينزع عنه سلاحه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولكن يصلى عليه. والدليل على عدم الغسل قوله صلّى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصل عليهم» (1) .
خامساً ـ هل يوضأ الميت؟
اتفق أئمة المذاهب على أن الغاسل يوضئ الميت غير الصغير كالحي بعد إزالة ما به من نجس أو وسخ، بالسدر أو الصابون، وغسل سوأتيه بخرقة، لكن بدون مضمضة واستنشاق عند الحنفية والحنابلة، للحرج، لأنه إذا دخل الماء في الفم والأنف، فوصل إلى جوفه حرك النجاسة. وبهما قليلاً عند المالكية والشافعية بأن يضع الغاسل الماء في فمه عند إمالة رأسه. فإن كان الميت جنباً أو حائضاً أو نفساء، فُعلا اتفاقاً، تتميماً للطهارة.
وعلى هذا فيبدأ بالوضوء في غسل الميت، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» (2) وفي حديث أم عطية:
__________
(1) رواه أحمد.
(2) متفق عليه.(2/610)
«فإذا فرغت من غسل سفلتها غسلاً نقياً بماء وسدر، فوضئيها وضوء الصلاة، ثم اغسليها» (1) .
سادساً ـ كيفية الغسل ومقداره ومندوباته:
غسل الميت كغسل الجنابة الواجب فيه كونه مرة واحدة، يعمم فيها الجسد، بعد إزالة النجس، بشرط كون الماء طهوراً، فيوضع الميت على سرير، وتستر عورته ما بين سرته وركبته، بعد تجريده عن ثيابه عند الجمهور، وبقميص عند الشافعية، وتغسل عورته بخرقة ملفوفة على يد الغاسل، ثم يوضأ، كما سبق بيانه.
ثم يغسل الرأس ثم اللحية بسدر (ورق النبق يستعمل في التنظيف) أو خطْمي، بأن يسحق ويضرب بماء قليل في إناء حتى تبدو له رغوة، ثم يعرك به الموضع، لإزالة الوسخ، ثم يصب عليه الماء الطهور، الذي هو شرط لصحة الغسل، فإن لم يوجد سدر فيستعمل الصابون أو نحوه من أشنان، أوغاسول يعرك به الموضع، ثم يفاض عليه الماء للتنظيف. ويدخل أصبعه في فيه، ويسوك بها أسنانه، ولا يفتح فاه، وينظف ما تحت أظفاره.
ثم يغسل الشق الأيمن إلى القدم بعد إضجاعه على شقه الأيسر، ثم الأيسر، بالصابون ونحوه، ثم يصب عليه الماء الخالص. فهذه هي الغسلة الأولى الواجبة.
ويندب تكرار الغسل ثلاثاً، فتزاد غسله ثانية وثالثة، ثم ينشف في ثوب، ويجعل الحنوط (وهو العطر المركب من الأشياء الطيبة غير زعفران وورس) على رأسه ولحيته، ويوضع الكافور على مواضع سجوده (2) . سواء فيه المحرم بالحج أو العمرة وغيره عند الحنفية والمالكية، فيطيب المحرم ويغطى رأسه عندهم، لعموم الأمر بالغسل مطلقاً.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يغطى رأس المحرم إذا مات، ولا يمس طيباً، لحديث ابن عباس، قال: «أُتي النبي صلّى الله عليه وسلم برجل وقصته (رمته فكسرت عنقه) راحلته، فمات، وهو محرم، فقال: كفنوه في ثوبين، واغسلوه بماء وسدر، ولا تخمِّروا رأسه ولا تقربوه طيباً،
__________
(1) رواه الجماعة عن أم عطية (نيل الأوطار:30/4) .
(2) وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان(2/611)
فإنه يبعث يوم القيامة يلبي» (1) فالمحرم الميت كالمحرم الحي لبقاء إحرامه عندهم.
ويغسل بالماء البارد الخالص، مع قليل كافور لغير المحرم عند الشافعية والحنابلة لأمره صلّى الله عليه وسلم (2) ، ولأنه يقوي البدن ويدفع الهوام، لكن قال الحنفية: يسخن الماء إن تيسر؛ لأنه أبلغ في التنظيف، وقال الحنابلة: ولا بأس بغسله في حمام، بماء حار، إن احتيج إليه لشدة برد أو وسخ لا يزول إلا به، فإن لم تكن حاجة كره.
ويكون الغسل وتراً، لحديث «إن الله وتر يحب الوتر» (3) من غير إعادة وضوء، فإن لم ينق الميت بالثلاث الغسلات، غسل إلى سبع، فإن لم ينق بسبع غسلات، فالأولى غسله حتى ينقى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن» (4) .
هل يسرح شعر الميت ويؤخذ ظفره وشعره (5) :
قال الحنفية والمالكية: لا يسرح ولا يحلق شعره ولا يقص ظفره إلا المكسور، ولا شعره من رأسه ولحيته، ولا يختن، إذ لاحاجة إليه، لأنه للزينة وقد استغني عنها، فهذا مكروه، والكراهة عند الحنفية تحريمية. فلو قطع ظفره أو شعره، أدرج معه في الكفن. وهذا هو الرأي الأولى؛ لأن الميت يحتاج للستر بكل ماله وما عليه.
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار:40/4) .
(2) وهو «واجعلن في الأخيرة كافوراً» متفق عليه من حديث أم عطية، أي في الغسلة الأخيرة.
(3) رواه ابن نصر عن أبي هريرة وعن ابن عمر، ورواه الترمذي عن علي وابن ماجه عن ابن مسعود بلفظ «إن الله تعالى وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن» .
(4) رواه الجماعة من حديث أم عطية (نيل الأوطار:30/4) .
(5) الدر المختار:803/1، مراقي الفلاح: ص96، القوانين الفقهية: ص93، الشرح الصغير:568/1، مغني المحتاج:333/1،336، المغني:541/2 ومابعدها، كشاف القناع:110/2.(2/612)
وقال الشافعية في الجديد: يسرح شعر رأسه ولحيته بمشط واسع الأسنان برفق، ويرد المنتوف إليه. والأظهر كراهة أخذ شعر رأسه، وظفره وشعر إبطه وعانته وشاربه؛ لأن أجزاء الميت محترمة، ولم يثبت فيه شيء فهو محدث، وصح النهي عن محدثات الأمور، ولا يختن الميت إذا كان أقلف.
وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: ويقص شارب غير مَحْرم، ويقلم أظفاره إن طالا، ويؤخذ شعر إبطيه؛ لأن ذلك تنظيف لا يتعلق بقطع عضو، فأشبه إزالة الأوساخ والأدران، ويعضد ذلك العمومات في سنن الفطرة، ويجعل ما أخذ من الشارب والأظفار وشعر الإبطين مع الميت، كعضو ساقط، لما روى أحمد من حديث أم عطية قالت: «يغسل رأس الميتة، فما سقط من شعرها في أيديهم، غسلوه، ثم ردوه في رأسها» . ولأن دفن الشعر والظفر مستحب في حق الحي، ففي حق الميت أولى. ويعاد غسل ما أخذ من الميت من شعر وظفر، لقول أم عطية: «غسلوه ثم ردوه» ، ولأنه جزء من الميت كعضو من أعضائه.
أما المرأة فالمعتمد عن المالكية والحنفية وباقي المذاهب: أنه يندب ضَفْر شعرها.
استعمال القطن: قال الحنفية: ليس في الغسل استعمال القطن في الروايات الظاهرة، لكن قال الزيلعي وصاحب الدر المختار: لا بأس بأن يجعل القطن على وجه الميت وأن يحشى به مخارقه كالدبر والقبل والأذنين والأنف والفم. وكذلك قال فقهاء المذاهب الأخرى: لا بأس أن يحشى بقطن مخرجه وغيره، حتى لا يخرج منه شيء من نجاسة أو دم، ويجعل على رأسه قطن عند الحنابلة.
خلاصة مندوبات الغسل: يندب في غسل الميت ما يأتي:
1 - أن يوضأ كوضوء الحي في أول الغسلات، بعد إزالة ما عليه من نجاسة أو وسخ بالسدر أو الصابون.
2 - ستر العورة لأحد الزوجين بغسل صاحبه، أي إذا غسل أحدهما الآخر.....(2/613)
3 - تجريد الميت من ثيابه بعد ستر عورته عند الجمهور، وعند الشافعي: يغسل بقميص ونحوه. ويسن ستر الميت حالة الغسل عن العيون، منعاً من الاطلاع على عورته أو عيب فيه، ويكره النظر إلى الميت ولو من غاسل، لغير حاجة، لأن جميعه صار عورة إكراماً له.
4 - استعمال السدر أو الصابون في الغسلات، والكافور في الغسلة الأخيرة، وعند الشافعية: أن يجعل في كل غسلة قليل كافور، وذلك إن تيسر وإلا فماء خالص بارد، أو ساخن عند الحاجة.
5 - إيتار الغسل: أي جعله وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ولا يتكرر الوضوء بتكرر الغسل، ويستحب كون الغسل ثلاثاً، والواجب فيه مرة واحدة. وإن خرج من الميت شيء من أحد السبيلين أو غيرهما بعد الغسلات الثلاث أعيد وضوءه وغسله عند الحنابلة، ويكتفى بإزالة النجس عند غيرهم.
6 - عصر بطنه حال الغسل برفق، لإخراج ما في بطنه من النجاسة.
7 - كثرة صب الماء في حال غسل مخرجيه لإزالة النجاسة، وتقليل العفونة؛ لأن الشأن في الأموات كثرة ذلك، ثم ينشف لئلا تبتل الأكفان.
8 - لف خرقة كثيفة على يد الغاسل حال غسل العورة من تحت السرة، ويستحب للغاسل ألا يمس سائر بدن الميت إلا بخرقة.
9 - تعهد أسنانه وأنفه بخرقة نظيفة عند المضمضة والاستنشاق في رأي المالكية والشافعية، وكذلك عند الحنابلة: تنظف أسنانه ومنخراه بخرقة مبلولة، دون أن يدخل الماء في الفم والأنف. وينظف ما تحت أظفاره أيضاً.
10 - إمالة رأسه برفق للتمكن من غسل الفم والأنف في حال المضمضة والاستنشاق، لئلا يدخل الماء في جوفه. وندب تنشيق الميت بخرقة طاهرة قبل التكفين.
11- عدم حضور غير مساعد أو معين للغاسل.
12 - التيامن في الغسل: بأن يغسل الشق الأيمن ثم الأيسر، ثم يحرّفه الغاسل إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن من القفا والظهر إلى القدم، ثم يفعل كذلك بشقه الأيمن. ويصب عليه الماء عند كل إضجاع ثلاث مرات، أو أكثر بحسب الحاجة، كما أبنت.....(2/614)
13 - يستحب عند الحنابلة خضب لحية رجل ورأس امرأة، ولو غير شائبين بحناء، لقول أنس: «اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم» .
14 - يجعل الحَنُوط (العطر المركب من الأشياء الطيبة) على رأسه ولحيته، والكافور على مساجده (وهي مواضع سجوده وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان) كرامة لها، سواء فيه عند المالكية والحنفية وغيره، فيطيب ويغطى رأسه. ويبخر (يجمر) سريره وتراً، إخفاء لكريه الرائحة، وتعظيماً للميت.
الفرض الثاني ـ تكفين الميت:
حكمه والملزم بالكفن، ومقدار الكفن وصفته وكيفيته، وما يندب فيه (1) :
أولاً ـ حكم التكفين والملزم بالكفن:
تكفين الميت فرض كفاية على جماعة المسلمين، لقوله صلّى الله عليه وسلم في المحرم «كفِّنوه في ثوبيه» (2) .
ونفقات التكفين ومؤنة التجهيز من حمل للمقبرة ودفن ونحوه: من تركة الميت، أي ماله الخاص الذي لم يتعلق به حق الغير كالمرهون، ويقدم على الدين والوصية، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته في حال الحياة، وعلى الزوج تكفين زوجته عند الحنفية، والشافعية في الأصح؛ لأنها في نفقته في الحياة، أما عند المالكية والحنابلة فلا يلزم الزوج كفن امرأته ولا مؤنة تجهيزها؛ لأن النفقة والكسوة وجبا في حال الزواج للتمكين من الاستمتاع، بدليل سقوطها بالنشوز والبينونة، وقد انقطع ذلك بالموت، فأشبهت غير الزوجة (الأجنبية) . ولا شك أن المقبول هو الرأي الأول إذ لا يعقل التفريق في هذا بين الموت والحياة، وأما سقوط النفقة بالنشوز ونحوه فلحملها على العودة لبيت الزوجية.
فإن لم يوجد أحد تلزمه نفقة الميت، فنفقة تكفينه وتجهيزه من بيت المال إن وجد، وإلا فعلى جماعة المسملين المستطيعين.
__________
(1) اللباب:130/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص97، فتح القدير:452/1-455، الدر المختار ورد المحتار:806/1-810، القوانين الفقهية: ص 93، الشرح الصغير:551/1ومابعدها، بداية المجتهد:224 ومابعدها، مغني المحتاج:336/1-340، المهذب:129/1-131، المغني:464/2-472،537، كشاف القناع:118/2-126.
(2) رواه الجماعة عن ابن عباس (نيل الأوطار:40/4) .(2/615)
ثانياً ـ صفة الكفن ومقداره وكيفيته:
يكفن الميت بعد غسله بما يحل له لبسه في حال الحياة (1) فيكفن في الجائز من اللباس، ولا يكفن الرجل بالحرير، وتكفن المرأة به عند الجمهور، ولا تكفن به عند الحنابلة. ويشترط في الكفن ألا يصف البشرة؛ لأن ما يصفها غير ساتر، فوجوده كعدمه. ويجب أن يكون الكفن طاهراً، فلا يجوز تكفينه بالمتنجس مع القدرة على الطاهر.
ويجب أن يكفن الميت عند الحنابلة، وندباً عند المالكية والحنفية في ملبوس مثله في الجمع والأعياد مالم يوص بدونه فتتبع وصيته، لأمر الشارع بتحسينه.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كفن أحدكم أخاه، فليُحْسن كفنه» (2) وتحسين الكفن واجب عند الحنابلة، مستحب عند غيرهم.
وأقل الكفن: ثوب واحد يستر جميع البدن، إلا رأس المحرم عند الشافعية والحنابلة، ولا تُنفَّذ وصيته بإسقاطه. وأكثره سبع. والأفضل للرجل ثلاثة، وللمرأة خمسة. أما الرجل فلقول عائشة رضي الله عنها: «كُفِّن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية (3) جُدَد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أُدرج فيها إدراجاً» (4) .
وأما المرأة: فلزيادة الستر في حقها، ولحديث ليلى الثقفية الآتي. وللفقهاء تفصيلات في ذلك:
__________
(1) مغني المحتاج:336/1.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر، ورواه ابن ماجه والترمذي عن أبي قتادة بلفظ: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه» .
(3) نسبة إلى سحول: قرية باليمن.
(4) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار:36/4) .(2/616)
قال الحنفية: الكفن ثلاثة أنواع: كفن الضرورة، وكفن الكفاية، وكفن السنة، كل منها إما للرجل أو للمرأة، فأقل ما يكفن فيه الرجل عادة ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب، وأقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب.
1 - كفن الضرورة للرجل والمرأة: هو مقدار ما يوجد حال الضرورة أو العجز، أما الذي يسقط به الفرض عن المكلفين فهو أقل الكفن، وأقله ما يعم البدن؛ لأن مصعب بن عمير رضي الله عنه حين استشهد، كفن في ثوب واحد (1) .
2 - كفن الكفاية: وهو أدنى ما يلبس حال الحياة، وكفنه: كسوته بعد الوفاة. وهو ثوبان للرجل: إزار ولفافة، في الأصح، وللمرأة: ثوبان وخمار، ويكره أقل من ذلك.
أما الرجل: فلقول أبي بكر حين حضره الموت: «كفنوني في ثوبيّ هذين اللذين كنت أصلي فيهما، واغسلوهما، فإنهما للمُهل والتراب» (2) ،ولأنه أدنى لباس الأحياء.
والإزار: خلاف إزار الحي من الفَرْق (أعلى الرأس) إلى القدم، واللِّفافة مثله: من القَرْن (الخُصلة من الشعر) إلى القدم أي من الرأس إلى القدم. وقال ابن الهمام: أنا لا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزا ر الحي من السنة.
وأما المرأة: فلسترها بالخمار: وهو غطاء الوجه والرأس.
3 - وكفن السنة: هو أكمل الأكفان، وهو للرجل: ثلاثة أثواب: إزار، وقميص، ولِفافة. والقميص: من أصل العُنُق إلى القدمين بلا دِخْرِيص (ما يضاف لتوسعة القميص من الجانبين) ولا كمين.
وللمرأة خمسة أثواب: إزار، وقميص (درع) ، وخمار، وخِرْقة يُربط بها ثَدْياها، وعرضها من الثدي إلى السرة، ولفافة.
__________
(1) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن خبّاب بن الأرت (نيل الأوطار:33/4) .
(2) رواه ابن سعد في الطبقات، وذكره محمد بن الحسن في الآثار بلاغاً. والمهل: القيح والصديد (نصب الراية:263/2) ورواه البخاري بمعناه.(2/617)
أما الرجل: فلحديث ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلَّة نجرانية، الحلة: ثوبان» (1) وهذا دليل للحنفية والمالكية الذين قالوا باستحباب القميص. وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب، لحديث عائشة السابق: «ليس فيها قميص ولاعمامة» .
وتكره العِمَامة للميت عند الحنفية في الأصح، وهي ما يلف على الرأس، لحديث عائشة المذكور. واستحسنها المتأخرون للعلماء والأشراف.
ولا بأس بالزيادة على الثلاثة، إلى خمسة.
وأما المرأة: فلحديث ليلى بنت قانف الثقفية، المتضمن تكفين أم كُلْثوم بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم عند وفاتها بخمسة أثواب (2) .
ويكره التكفين للرجال بالحرير والمعصفر والمزعفر ونحوها إلا إذا لم يوجد غيرها، ويجوز ذلك للنساء.
وكيفية التكفين: أن يبسط للرجل اللفافة أولاً، ثم يبسط عليها الإزار، ثم يقمص، ثم يطوى الإزار عليه، ويبتدأ بالجانب الأيسر، فيلقى عليه، ثم بالأيمن ليكون على الأيسر، كما في حالة الحياة، ثم اللفافة.
وأما المرأة: فتبسط لها اللفافة والإزار، ثم توضع على الإزار وتلبس القميص، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص، ثم يجعل الخمار فوق الشعر، تحت اللفافة، ثم يطوى الإزار واللفافة، ثم تربط الخرقة فوق الأكفان، وفوق القدمين.
وقال المالكية: أقله ثوب واحد، وأكثره سبع، ويستحب الوتر في الكفن، فالثلاثة أفضل من الاثنين، ومن الأربعة، والواجب من الكفن للذكر ما يستر العورة، والباقي سنة، ومازاد عن ذلك مندوب. وأما المرأة فيجب ستر جميع بدنها.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، وفي سنده يزيد بن أبي زياد، وهو مجمع على ضعفه (نيل الأوطار:36/4) .
(2) رواه أحمد وأبو داود، وفي بعض رجاله كلام عند البعض (نصب الراية:263/2، نيل الأوطار:39/4) .(2/618)
والأفضل في مشهور المذهب أن يكفن الرجل بخمسة أثواب: إزار (من سرته لركبته) وقميص له أكمام، وعمامة، ولفافتان؛ لأن المقصود بحديث عائشة: هو الإباحة لا التقدير.
والأفضل أن تكفن المرأة بسبعة أثواب: بزيادة لفافتين، فتكون اللفائف أربعة؛ لأن المقصود من حديث ليلى الثقفية بيان الإباحة لا التقدير، كما في الرجل.
وندب خمار (1) يلف على رأس المرأة ووجهها، بدل العمامة للرجل.
وندب عَذَبة قدر ذراع تجعل على وجه الرجل. ويكره التكفين بالحرير والخز (2) والنجس إن وجد غيره، وإلا فلا يكره.
وقال الشافعية: أقل الكفن ثوب ساتر للعورة، وهي في الرجل: ما بين السرة والركبة، وفي المرأة: غير الوجه والكفين. أما بالنسبة لحق الميت، فيجب ثوب يعم به جميع البدن، إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة، تكريماً له، وستراً لما يعرض له من التغير.
ويحرم تكفين الرجل بالحرير والمزعفر إذا وجد غيرهما، ويجوز مع الكراهة تكفين المرأة بهما.
والأفضل للرجل ثلاث لفائف عملاً بحديث عائشة المتقدم، وكما قال الحنفية، والأفضل ألا يكون فيه قميص ولا عمامة، لحديث عائشة المذكور، ويجوز بلا كراهة رابع وخامس بزيادة قميص وعمامة تحتهن؛ لأن ابن عمر كفن ابناً له في خمسة أثواب:
__________
(1) سمي خماراً لتخمير الرأس والعنق، أي تغطيتها به.
(2) الخز: هو مانسج من صوف وحرير، أو هو الحرير.(2/619)
قميص وعمامة، وثلاث لفائف (1) .
والأفضل للمرأة والخنثى خمس لفائف: إزار، ثم قميص، ثم خمار، ثم لفافتان، لزيادة الستر في حقها، وتكره الزيادة على ذلك. وكيفية التكفين: أن يبسط أحسن اللفائف وأوسعها، وتوضع الثانية فوقها، وكذا الثالثة، ويوضع على كل واحدة حنوط وكافور (2) ، ويوضع الميت فوقها مستلقياً، وعليه حنوط وكافور، ويُشد ألياه، ويجعل على منافذ بطنه قطن، ويلف عليه اللفائف وتشد، فإذا وضع في قبره نزعت الأربطة ولا يلبس المحرم الذكر مخيطاً، ولا يستر رأسه ولا وجه المحرمة.
وقال الحنابلة: الكفن الواجب: ثوب يستر جميع بدن الميت، رجلاً أو امرأة. والأفضل ـ كما قال الشافعية ـ أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، يدرج فيها إدراجاً، ويجعل الحنوط (الطيب) فيما بينهما، وليس فيها قميص ولا عمامة لا يزاد عليها، ولا ينقص، لحديث عائشة السابق. ويجوز التكفين في ثوبين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته دابته: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبين» (3) وتكره الزيادة على الثلاث، لما فيه من إضاعة المال المنهي عنه.
والمحرم بناء على هذا الحديث يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيباً، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى رأسه ولا رجلاه.
ويكفن الصبي في خرقة، وإن كفن في ثلاثة فلا بأس. فإن لم يجد الرجل ثوباً يستر جميعه، ستر رأسه، وجعل على رجليه حشيشاً أو ورقاً.
والأفضل أن تكفن المرأة في خمسة أثواب: قميص، ومئزر، ولفافة، وقناع (أي خمار للرأس والوجه) ، وخامسة تشد بها فخذاها، لحديث ليلى الثقفية، ولما روت أم عطية أن النبي صلّى الله عليه وسلم ناولها إزاراً، ودرعاً (قميصاً) وخماراً، وثوبين.
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) هو أيضاً نوع من الطيب، فهو من عطف الجزء على الكل، ولأنه يستحب الإكثار منه.
(3) رواه البخاري.(2/620)
وكيفية التكفين: كما تقدم عند الشافعية، علماً بأن الخمار يجعل على الرأس والإزار في الوسط، والقميص يلبس، وتبخر الأكفان، ولا يوضع شيء من الحنوط على ظهر اللفافة العليا، لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة ذلك، ولا يوضع الحنوط أيضاً على الثوب الذي يجعل على النعش؛ لأنه ليس من الكفن، ويوضع الطيب على مواضع سجوده كجبهته وأنفه وركبتيه وأطراف قدميه، تشريفاً لها، لكنها مختصة بالسجود، وعلى مغابنه كطي ركبتيه، وتحت إبطيه، وكذا سرته؛ لأن ابن عمر كان يُتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك. ويطيب رأسه ولحيته، ويكره أن يطيب داخل عينيه؛ لأنه يفسدهما.
ويرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها
الأيمن على شقه الأيسر؛ لأنه عادة لبس الحي في قباء ورداء ونحوهما. ثم ترد اللفافة الثانية والثالثة كذلك. ويجعل ما عند رأس الميت من فاضل الكفن أكثر مما عند رجليه لشرفه، ولأنه أحق بالستر. ويجعل الفاضل عن وجهه ورجليه عليهما، ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر، ثم تعقد اللفائف إن خف انتشارها، ثم تحل العُقَد في القبر؛ لقول ابن مسعود: «إذا أدخلتم الميت اللحد، فحلوا العُقَد» (1) .
وإن كفن الميت في قميص كقميص الحي بكمين ودخاريص، وفي إزار ولفافة، جاز من غير كراهة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم «ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات» (2) ،ولا يزرُّ القميص على الميت، لعدم الحاجة.
ويحرم التكفين للرجل والمرأة بحرير ومنسوج بذهب أو فضة إلا عند الضرورة، بأن لم يوجد غيره، والتحريم للمرأة لأنه إنما أبيح لها في حال الحياة، لأنه محل الزينة والشهوة، وقد زال ذلك بموتها.
ثالثاً - ما يندب في الأكفان:
يندب ما يأتي، مع ما ذكر من صفة الكفن ومقداره في البحث السابق:
1ً - بياض الكفن من كتان، أو قطن وهو أولى، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البَسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (3) .
__________
(1) رواه الأثرم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) إلا النسائي وصححه الترمذي عن ابن عباس، ورواه أيضاً الشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه ابن القطان (نيل الأوطار:38/4) .(2/621)
2ً - تجمير الكفن (أي تبخيره بالعود ونحوه) وتراً: أي ثلاثاً، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أجمرتم الميت ـ أي بخرتموه ـ فأجمروه ثلاثاً» (1) .
إلا المحرم فلا يُطيَّب عند الشافعية والحنابلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تجمروا رأسه، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبياً» (2) .
وخالف المالكية والحنفية في ذلك، وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها، فتختص به. واعتذر الداودي عن مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة كونه في النسك، وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم ثبت لغيره، حتى يثبت التخصيص.
ويندب أيضاً وضع الحنوط (الطيب) من كافور أو غيره داخل كل لفافة من الكفن، ويجعل على قطن يلصق بمنافذه (عينيه وأنفه وفمه وأذنيه ومخرجه) ويجعل أيضاً على مساجده (جبهته وكفيه وركبتيه وأصابع رجليه) ومغابنه (إبطيه وباطن ركبتيه ومنخره وخلف أذنيه) .
3ً - الزيادة على الكفن الواحد: فالاثنان أفضل من الواحد، وإن كان وتراً، تكريماً وستراً للميت.
4ً - كون الكفن وتراً: فالثلاثة أفضل من الاثنين ومن الأربعة.
5ً - تحسين الكفن من غير مغالاة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي والبزار، قيل: ورجاله رجال الصحيح (نيل الأوطار:40/4) .
(2) رواه الجماعة عن ابن عباس (المصدر السابق) .(2/622)
كفنه» (1) وتحسين الكفن عند المالكية والحنفية بأن يكون ندباً، بثياب كالثياب الشرعية التي يلبسها في الجمعة، لحصول البركة بثياب مشاهد الخير.
وعند الحنابلة يجب أن يكفن في ملبوس مثله في الجمع والأعياد، لأمر الشارع بتحسينه.
وعند الشافعية: المستحب أن يبسط أحسن الأكفان وأوسعها، لأن المراد بإحسان الكفن: بياضه ونظافته وسبوغه وكثافته، لا ارتفاعه، إذ تكره المبالغة فيه للنهي عنه، فيكون المغسول أفضل من الجديد؛ لأن مآله للبلا، والقطن أفضل من غيره؛ لأنه كفنه كان كذلك.
واتفق الكل على عدم المغالاة في الكفن، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «لاتغلوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً» (2) .
الفرض الثالث ـ الصلاة على الميت:
حكمها، من الأولى بها، حالة اجتماع الجنائز، أركانها، مكان وقوف الإمام من الجنازة، حالة المسبوق، شروطها، كيفيتها وسننها، وقتها، الصلاة على الميت بعد الدفن، الصلاة على الغائب، الصلاة على الميت في المسجد والمقبرة، الصلاة على المولود.
أولاً ـ حكم الصلاة على الميت:
الصلاة على الميت غير الشهيد فرض كفاية على الأحياء بالإجماع، كالتجهيز والغسل والتكفين والدفن (3) ، إذا فعلها البعض ولو واحداً سقط الإثم عن الباقين، وهي من خصائص هذه الأمة، كالإيصاء بالثلث. وقد صلى الصحابة على النبي، وأمر النبي بالصلاة على السقط والطفل، وصلى النبي على النجاشي (4) .
وإذا أريدت الصلاة، نودي «الصلاة على الميت» .
__________
(1) رواه ابن ماجه والترمذي، وسبق ذكر رواية أخرى عن جابر عند أحمد ومسلم والترمذي (نيل الأوطار:34/4 ومابعدها) .
(2) رواه أبو داود عن علي، وهو حديث حسن.
(3) الدر المختار ورد المحتار:811/1،814، مراقي الفلاح: ص98، العناية بهامش فتح القدير: 455/1، المهذب:132/1.
(4) روى الصلاة على النبي ابن ماجه عن ابن عباس، وروى أحمد وأبو داود الصلاة على السقط عن المغيرة، وروى أحمد والنسائي والترمذي الصلاة على الطفل، وروى أحمد والشيخان الصلاة على النجاشي (نيل الأوطار:41/4،45،48) .(2/623)
وهي عند الحنفية (1) فرض على مسلم مات إلا أربعة: هم البغاة وقطاع الطرق، إذا قتلوا في الحرب، وأهل العُصْبة، أو أهل العصبية، والمكابر في مصر ليلاً بسلاح، أو بخناق (وهو من تكرر منه الخنِق في المصر) .
أما البغاة: وهم قوم مسلمون خرجوا على طاعة الإمام بغير حق، فلا يغسلون ولا يصلى عليهم، إهانة لهم، وزجراً لغيرهم عن فعلهم، وذلك إذا قتلوا في أثناء حربهم. أما إذا قتلوا بعد استيلاء السلطة الحاكمة عليهم، فإنهم يغسلون ويصلى عليهم؛ لأن قتلهم حينئذ للسياسة أو لكسر شوكتهم، فهو في حكم الحد، لعود نفعه إلى الجماعة.
وأما قطاع الطرق: وهم جماعة من المسلمين خرجوا على المارة بقصد أخذ أموالهم، فلايغسلون ولا يصلى عليهم كالبغاة إذا قتلوا في الحرب، ويغسلون ويصلى عليهم إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم؛ لأن قتل قاطع الطريق في هذه الحالة حد أو قصاص، ومن قتل بذلك يغسل ويصلى عليه. ويكون قتله قصاصاً في حالة سقوط الحد كقطع الطريق على قريب محرم.
فلو مات واحد من البغاة أو القطاع حتف أنفه قبل الأخذ أو بعده، يصلى عليه.
وأما أهل العُصْبة أو العصبية: وهم الذين يتعاونون على الظلم، ويغضبون للقوم أو القبيلة (2) ، فحكم المقتولين منهم في العصبية كحكم أهل البغي على التفصيل السابق. ومنهم الواقفون الناظرون إليهم إن أصابهم حجر أو غيره، وماتوا في تلك الحالة. أما لو ماتوا بعد تفريقهم فيصلى عليهم.
__________
(1) الدر المختار:814/1 ومابعدها، مغني المحتاج:361/1.
(2) العصبي: من يعين قومه على الظلم، ويغضب لعصبته، ومنه الحديث «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» حديث حسن رواه أبو داود عن جبير بن مطعم.(2/624)
وأما المكابر في مصر بسلاح أو خنق: فهو قاطع طريق على الرأي المفتى به عند الحنفية، وهو قول أبي يوسف، إذا كان في المصر ليلاً مطلقاً، أو نهاراً بسلاح أو بتكرر الخنق منه، يقتل سياسة لسعيه بالفساد، ولدفع شره. وحكمه كقاطع الطريق، أو البغاة، لا يغسل ولا يصلى عليه.
ولا يصلى على قاتل أحد أبويه إهانة له إذا قتله الإمام قصاصاً، فإن مات حتف أنفه يصلى عليه.
ومن قتل نفسه عمداً يغسل ويصلى عليه، على المفتى به عند الحنفية، وعند الشافعية، وإن كان أعظم وزراً من قاتل غيره؛ لأنه فاسق غير ساع في الأرض بالفساد، وإن كان باغياً على نفسه كسائر فساق المسلمين.
ورأى قوم كأبي يوسف وابن الهمام أنه لا يصلى عليه، لما في صحيح مسلم أنه عليه السلام أتي برجل قتل نفسه، فلم يصل عليه (1) .
وقال المالكية (2) : ولا يصلي الإمام على من قتله في حد أو قصاص، ويصلي عليه غيره، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه (3) .
وقال المالكية أيضاً: وينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على المبتدعة، ومظهري الكبائر، ردعاً لأمثالهم.
واستثنى الحنابلة من فرضية صلاة الجنازة الشهيد والمقتول ظلماً، كما استثنى الجمهور غير الحنفية الشهيد كما سيأتي. وقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلم ترك الصلاة على الغالّ (الخائن) من الغنيمة، وقاتل نفسه (4) .
ثانياً ـ من الأولى بالصلاة على الجنازة؟
للفقهاء آراء ثلاثة (5) :
الرأي الأول ـ للحنفية: السلطان إن حضر أو نائبه أحق بالصلاة على الميت بسبب السلطنة، ولأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي؛ لأنه
__________
(1) رواه مسلم عن جابر بن سمرة.
(2) بداية المجتهد:231/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص94، شرح الرسالة:276/1.
(3) أخرجه أبو داود.
(4) الأول رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن زيد بن خالد الجهني، والثاني رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر بن سمرة (نيل الأوطار:46/4-47) .
(5) فتح القدير:457/1،463، الدر المختار:823/1 ومابعدها، اللباب:131/1 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص98، بداية المجتهد:233/1، القوانين الفقهية: ص94، الشرح الصغير:558/1، مغني المحتاج:346/1 ومابعدها، المغني:480/2-485، كشاف القناع:127/2.(2/625)
صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيقدم إمام الحي؛ لأنه رضيه في حياته، فكان أولى بالصلاة عليه في مماته، ثم يقدم الولي الذكر المكلف بترتيب عصوبة أو أولياء النكاح إلا الأب فيقدم على الابن، ويقدم الأقرب فالأقرب كترتيبهم في ولاية الزواج. ولمن له حق التقدم أن يأذن لغيره. ومن له ولاية التقدم أحق ممن أوصى له الميت بالصلاة عليه على المفتى به؛ لأن الوصية باطلة.
فإن صلى عليه غير الولي والسلطان ونائبه، فللولي إعادة الصلاة، ولو على قبره إن شاء، لأجل حقه، لا لإسقاط الفرض. وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يُصلي عليه بعده؛ لأن الفرض تأدى بالأول، والتنفل بالصلاة على الجنازة غير مشروع.
فإن دفن ولم يُصَلَّ عليه، صلِّي على قبره، ما لم يغلب على الظن تفسخه، لاختلاف الحال والزمان والمكان.(2/626)
الرأي الثاني ـ للمالكية والحنابلة: أحق الناس بالصلاة على الميت: من أوصى الميت أن يصلي عليه، عملاً بفعل الصحابة، فقد أوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ... إلخ، ثم الوالي أو الأمير، للحديث السابق: «لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه» ، ثم الأولياء العصبات على ترتيب ولايتهم في النكاح، فيقدم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، فيقدم الأخ، ثم العم ثم ابن العم، وهكذا.
لكن يقدم الأخ وابنه عند المالكية على الجد؛ لأنه يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة. ويصلي النساء في المذهب المالكية عند عدم الرجال دفعة واحدة أفذاذاً، إذ لا تصح إمامتهن لديهم.
ويقدم الأفضل فالأفضل، فيقدم الرجال على النساء، والكبار على الصغار، ومن له مزية دينية، فإن استووا قدم بالسن، فإن استووا قدم بالقرعة أو التراضي. هذا قول المالكية. وعبارة الحنابلة: يقدم الأحق بالإمامة في المكتوبات، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» .
الرأي الثالث ـ للشافعية في الجديد: أن الولي أولى بالإمامة من الوالي، وإن أوصى الميت لغير الولي، لأن الصلاة حقه، فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث، لأن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت، ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه. وأما وصايا الصحابة بالصلاة عليهم، فمحمولة على أن أولياءهم أجازوا الوصية. فيقدم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأخ، والأظهر تقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم لأب، ثم بقية العصبة النسبية على ترتيب الإرث، فيقدم عم شقيق ثم لأب، ثم ابن عم شقيق ثم لأب.
ثم ذوو الأرحام، يقدم الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو الأم، ثم الأخ لأم، ثم الخال، ثم العم لأم.(2/627)
ولو اجتمع وليان في درجة كابنين أو أخوين، وكلاهما صالح للإمامة، فالأسن في الإسلام العدل أولى من الأفقه ونحوه.
ثالثاً ـ حالة اجتماع الجنائز:
اتفقت المذاهب (1) على جواز الصلاة على الجنائز المتعددة دفعة واحدة، وعلى أن إفراد كل جنازة بصلاة أفضل، ويقدم الأفضل فالأفضل؛ لأن الإفراد أكثر عملاً وأرجى قبولاً.
وفي حال اجتماع الجنائز قال الحنفية: تصف صفاً عريضاً، ويقوم الإمام عند أفضلهم، أو تصف صفاً طويلاً مما يلي القبلة، بحيث يكون صدر كل واحد منهم قدام الإمام، محاذياً له.
رابعاً ـ أركان صلاة الجنازة وسننها وكيفيتها:
لصلاة الجنازة ركنان عند الحنفية، وخمسة عند المالكية، وسبعة عند الشافعية والحنابلة.
أما مذهب الحنفية (2) : فللصلاة عندهم ركنان: التكبيرات الأربع، والقيام. والتكبيرة الأولى ـ تكبيرة الإحرام ركن لا شرط، فلم يجز بناء تكبيرة أخرى عليها. والتكبيرات أربع، كل تكبيرة قائمة مقام ركعة. ويجب السلام مرتين بعد التكبيرة الرابعة. فالواجب عندهم شيء واحد هو السلام، والركن: اثنان: التكبير والقيام. والنية شرط لا ركن، ولا تجوز الصلاة على الجنازة راكباً ولا قاعداً عذر استحساناً.
وسنن الصلاة: ثلاث: التحميد والثناء، والدعاء فيها، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، أما التحميد والثناء: فهو (سبحانك اللهم وبحمدك) بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة. ويندب أن تكون صفوف المصلين ثلاثة للحديث الآتي: «من صلى عليه ثلاثة صفوف غفر له» .
__________
(1) مراقي الفلاح: ص99، الدر المختار:821/1-822، القوانين الفقهية: ص95، مغني المحتاج: 348/1، المغني:562/2.
(2) الدر المختار:813/1،816، مراقي الفلاح: ص98، فتح القدير:459/1 ومابعدها.(2/628)
وكيفيتها: أن يرفع المصلي يديه في التكبيرة الأولى فقط، ويدعو بعدها بدعاء الثناء: وهو (سبحانك اللهم وبحمدك) ، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، كما في التشهد بعد التكبيرة الثانية؛ لأن تقديمها سنة الدعاء (1) ، ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين، ثم يكبر الرابعة ويسلم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر أربعاً في آخر صلاة صلاها (2) ، فنسخت ما قبلها، فكان ما بعد التكبيرة الرابعة أوان التحلل، وذلك بالسلام. وليس بعد هذه التكبيرة دعاء إلا السلام في ظاهر الرواية. واختار بعض مشايخ الحنفية أن يقال: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة:2/201] أو {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.. الآية} [آل عمران:3/8] .
ولا قراءة ولا تشهد فيها، ولو كبر الإمام خمساً، لم يتبع، فيمكث المؤتم حتى يسلم معه إذا سلم. ولا يتعين للدعاء شيء معين، والدعاء بالمأثور بعد التكبيرة الثالثة أحسن وأبلغ لرجاء قبوله، ومنه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُله، ووسِّع مَدْخله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله داراً خيراً من داره،
__________
(1) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا أراد أحدكم أن يدعو فليحمد الله، وليصل على النبي، ثم يدعو» .
(2) روي من حديث ابن عباس عند الحاكم، ومن حديث عمر بن الخطاب عند البيهقي والطبراني، ومن حديث ابن أبي حثمة عند ابن عبد البر، ومن حديث أنس عند الحارث بن أبي أسامة في مسنده (نصب الراية:267/2) .(2/629)
وأهلاً خيراً من أهله (1) وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار» (2) .
ومن المأثور أيضاً: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا (3) وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منا، فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلَّنا بعده» (4) .
ولا يستغفر لمجنون وصبي، إذ لا ذنب لهما، ويقول في الدعاء: «اللهم اجعله لنا فَرَطاً، واجعله لنا أجراً وذخراً، واجعله لنا شافعاً ومشفعاً» (5) .
وأما مذهب المالكية (6) : فلصلاة الجنازة عندهم خمسة أركان:
أولها - النية: بأن يقصد الصلاة على هذا الميت، أو على من حضر من أموات المسلمين، ولا يشترط معرفة كونه ذكراً أو أنثى، ولا يضر عدم استحضار أنها فرض كفاية، ولا اعتقاد الذكورة أو الأنوثة، إذ المقصود هذا الميت.
وثانيها - أربع تكبيرات، لا يزاد عليها ولاينقص عن الأربعة، كل تكبيرة بمنزلة ركعة في الجملة.
__________
(1) المراد إبدال الأوصاف لا إبدال الذوات.
(2) رواه مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك، وقال: «حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت» (سبل السلام:104/2) .
(3) أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة، وإلا فلا ذنب له، والمراد: استيعاب الدعاء، فالمعنى: اغفر للمسلمين كلهم.
(4) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة (سبل السلام:105/2) والمراد بكلمة «الإسلام» المعنى اللغوي وهو الاستسلام والانقياد لله تعالى، والمراد بكلمة «الإيمان» المعنى الشرعي وهو التصديق القلبي، والإسلام مناسب لحال الحياة: وهو الانقياد بالأعمال الظاهرة، والإيمان مناسب لحال الوفاة لأن العمل غير موجود.
(5) فرطاً: أي أجراً متقدماً، والفرط: هو الذي يتقدم الإنسان من ولده، وذخراً: ذخيرة، وشافعاً مشفعاً أي مقبول الشفاعة.
(6) الشرح الصغير:553/1 ومابعدها، القوانين الفقهية: ص94، شرح الرسالة:280/1-284، الشرح الكبير:41/1-413، بداية المجتهد:226/1 ومابعدها.(2/630)
فإن زاد الإمام خامسة عمداً أو سهواً لم ينتظر، بل يسلّمون قبله، وصحت لهم وله أيضاً، إذ التكبير ليس كالركعات من كل وجه. فإن انتظروا سلموا معه وصحت الصلاة.
وإن نقص عن الأربع سبِّح له، فإن رجع، وكبر الرابعة كبروا معه وسلموا بسلامه، وإلا يرجع كبروا لأنفسهم وسلموا وصحت.
وإنما خالفت صلاة الجنازة غيرها؛ لأن بعض السلف كان يرى أنها أكثر من أربع تكبيرات، وبعضهم يرى أنها أقل.
ويرى الشيعة الإمامية (1) أنها خمس تكبيرات بينها أربعة أدعية، ولا يتعين دعاء. ودليل القائلين بالزيادة على أربع حديث حذيفة: أنه صلى على جنازة فكبر خمساً، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولاوَهِمت، ولكن كبرت كما كبر النبي صلّى الله عليه وسلم، صلى على جنازة فكبر خمساً (2) .
ورجح جمهور أهل السنة كون التكبير أربعاً بمرجحات منها: أنها في الصحيحين، ولإجماع الصحابة على العمل بها، وأنها آخر ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم (3) .
وثالثها: الدعاء للميت بين التكبيرات بما تيسر، ولو: «اللهم اغفر له» ويدعو بعد التكبيرة الرابعة إن أحب، وإن أحب لم يدع وسلم، والمشهور عدم وجوب الدعاء، والمختار عند الدردير: وجوب الدعاء بعد هذه التكبيرة، وليس في الصلاة قراءة الفاتحة، لكن من الورع مراعاة الخلاف.
__________
(1) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص64.
(2) رواه أحمد، وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري، وهو متكلم عليه. وروى البخاري عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: إنه شهد بدراً (نيل الأوطار:59/4) .
(3) أخرج الحاكم عن ابن عباس: «آخر ما كبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجنائز أربع» (نيل الأوطار:58/4) .(2/631)
ويثنِّي إن كان الميت اثنين، ويجمع إن كانوا جماعة، فيقول في حال التثنية: «اللهم إنهما عبداك وابنا عبيدك، وابنا أمتيك كانا يشهدان» ويقول للجماعة: «اللهم إنهم عبيدك، وأبناء عبيدك، وأبناء إمائك كانوا يشهدون» ويغلَّب الذكر على الأنثى إن اجتمع ذكور وإناث.
ودليل مشروعية الدعاء للميت حديث: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء» (1) . والدعاء من الإمام والمأموم بعد كل تكبيرة، وأقله: «اللهم اغفر له» أو ارحمه وما في معناه.
وأحسنه دعاء أبي هريرة رضي الله عنه وهو أن يقول بعد الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه: «اللهم إنه عبدك وابن عبادك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» (2) .
ويقول في المرأة: «اللهم إنها أمتك وبنت عبدك، وبنت أمتك» وفي الطفل الذكر: «اللهم إنه عبدك وابن عبدك، أنت خلقته ورزقته وأنت أمتَّه وأنت تحييه، اللهم اجعله لوالديه سلفاً وذخراً وفرطاً (3) ، وأجراً، وثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنا وإياهما بعده، اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وعافه من فتنة القبر، وعذاب جهنم» .
__________
(1) رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجه وفيه ابن إسحاق، وقد عنعن (نيل الأوطار:63/4) .
(2) وروي أيضاً عن أبي قتادة، رواه أحمد والبيهقي وذكره الشافعي، وسنده ضعيف (المجموع:193/5-195) .
(3) أي أجراً يتقدمهما حتى يردا عليه، كما سبق بيانه. ورابعها: تسليمة واحدة يجهر بها الإمام بقدر التسميع، وندب لغير الإمام إسرارها.(2/632)
وخامسها: قيام لها لقادر على القيام، لا لعاجز عنه.
ومندوباتها:
1 - رفع اليدين حذو المنكبين عند التكبيرة الأولى فقط.
2 - وابتداء الدعاء بحمد الله والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم، بأن يقول: «الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وعلى آل براهيم، في العالمين إنك حميد مجيد» .
3 - وإسرار الدعاء.
4 - ووقوف إمام وسط الميت الذكر، وحذو منكبي غيره من أنثى أو خنثى، جاعلاً رأس الميت عن يمين الإمام، إلا في الروضة الشريفة، فتجعل رأسه على يسار الإمام تجاه رأس النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلا لزم قلة الأدب.
ودليلهم حديث سمرة: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها» (1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أورد المصنف (البخاري) الترجمة، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها.
وكيفية الصلاة على المشهور: أن يكبر، ثم يبتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله ـ الصلاة الإبراهيمية، ويدعو للميت، يقول هذا إثر كل تكبيرة، ويقول بعد الرابعة: اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثاناً، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا، فتوفه على الإسلام، وأسعدنا بلقائك، وطيبنا للموت وطيبه لنا، واجعل فيه راحتنا ومسرتنا. ثم يسلّم.
__________
(1) رواه الجماعة وحسنه الترمذي (نيل الأوطار:66/4) .(2/633)
وقال الشافعية والحنابلة (1) : لصلاة الجنازة أركان سبعة إلا أن النية عند الحنابلة شرط لا ركن، كما قال الحنفية.
1ً - النية كسائر الصلوات، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وصفة النية: أن ينوي الصلاة على هذا الميت، أو هؤلاء الموتى إن كانوا جماعة. وتكفي نية مطلق الفرض. ولا يجب تعيين الميت، فإن عين وأخطأ، بطلت الصلاة عند الشافعية.
ويضع يمينه على شماله بعد حطهما، أوفراغ التكبير، ويجعلهما عند الحنابلة تحت سرته، وعند الشافعية: ما بين سرته وصدره. ويتعوذ ويبسمل قبل الفاتحة، ولايستفتح أي لا يقرأ دعاء الافتتاح؛ لأنها صلاة مبنية على التخفيف، ولذلك لم يشرع فيها قراءة سورة بعد الفاتحة.
2ً - أربع تكبيرات بتكبيرة الإحرام: لما في الصحيحين عن أنس وغيره: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعاً» وفي صحيح مسلم: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات» وفي مسلم أيضاً عن ابن عباس: «أنه صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، وكبر أربعاً» (2) وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن خمَّس الإمام لم تبطل الصلاة، في الأصح عند الشافعية، ولا يتابعه المأموم، بل يسلِّم أو ينتظره ليسلم معه.
وقال الحنابلة: إن كبر الإمام خمساً كبر المقتدي بتكبيره، ولا تجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا أنقص من أربع، والأفضل ألا يزيد على أربع خروجاً من الخلاف.
__________
(1) مغني المحتاج:-340/1-342، 361، المهذب:133/1 ومابعدها، المجموع:184/5-198، المغني:485/2-492، 514-516، كشاف القناع:130/2-135.
(2) قد ثبت الأربع في رواية أبي هريرة وابن عباس وجابر (نيل الأوطار: 48/4 ومابعدها،57) .(2/634)
3ً - قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى: كغيرها من الصلوات، ولخبر البخاري وغيره: «أن ابن عباس قرأ بها في صلاة الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة» . ومحلها بعد التكبيرة الأولى، كما روى البيهقي. والمعتمد لدى الشافعية أنه تجزئ الفاتحة بعد غير التكبيرة الأولى من الثانية والثالثة والرابعة.
4ً - الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم (الصلاة الإبراهيمية) بعد الثانية، لفعل السلف، والصحيح عند الشافعية أن الصلاة على الآل لا تجب. وتجب عند الحنابلة وتكون كما في التشهد، ولا يزاد عليه.
5ً - الدعاء للميت بعد الثالثة بخصوصه؛ لأنه المقصود الأعظم من الصلاة، وما قبله مقدمة له، للحديث السابق: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» وأقله: «اللهم ارحمه، واللهم اغفر له» والأكمل ما سيأتي. ولا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. ويجب أن يكون الدعاء بعد التكبيرة الثالثة، اتباعاً للسنة، ولا يجب بعد الرابعة.
6ً - السلام بعد التكبيرات وهو في صلاة الجنازة تسليمتان كغيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده. روى البيهقي بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يفعل التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة» .
7ً - القيام إن قدر عليه، كغيرها من الفرائض، ولا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز لأحد أن يصلي على الجنازة، وهو راكب؛ لأنه يفوت القيام الواجب.
وسننها: رفع اليدين في التكبيرات حذو المنكبين، ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت صدره عند الشافعية، وتحت سرته عند الحنابلة.(2/635)
وإسرار القراءة. والأصح عند الشافعية، والحنابلة: ندب التعوذ دون الافتتاح، والتأمين بعد الفاتحة. وتسوية الصف في الصلاة على الجنازة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في الصلاة على النجاشي، وأضاف الشافعية: التحميد قبل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي، والتسليمة الثانية. وأضاف الحنابلة: ويسن وقوف المصلي مكانه حتى ترفع الجنازة، كما روي عن ابن عمر ومجاهد، ويستحب في المذهبين ثلاثة صفوف، لحديث: «من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب» (1) .
واتفق الفقهاء على أنه تسن صلاة الجنازة جماعة، لحديث «ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت» (2) وتجوز فرادى لأن النبي صلّى الله عليه وسلم مات فصلى عليه الناس فوجاً فوجاً.
كيفية الصلاة: يقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة فقط من غير سورة سراً ولو ليلاً، لفعل النبي صلّى الله عليه وسلم (3) ، كما تقدم، ثم يصلي سراً على النبي صلّى الله عليه وسلم بعد التكبيرة الثانية، لما روى الشافعي والأثرم بإسنادهما عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم «أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم، ويخلص الدعاء للميت، ثم يسلم» (4) .
وتكون الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم، كما في التشهد؛ لأنه صلّى الله عليه وسلم لما سألوه: «كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك» كما تقدم، ولا يزيد على ما في التشهد.
__________
(1) رواه الخلال بإسناده، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(2) حديث حسن رواه أبو داود والترمذي.
(3) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس، ورواه الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل (نيل الأوطار:60/4) .
(4) نيل الأوطار:60/4، وفي إسناده مطرف، وقد قواه البيهقي في المعرفة من حديث الزهري، وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر، وأخرجه أيضاً النسائي وعبد الرزاق، قال في الفتح: وإسناده صحيح.(2/636)
ويدعو للميت في التكبيرة الثالثة سراً بأحسن ما يحضره، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» ولا تحديد في الدعاء للميت، ويسن الدعاء بالمأثور، فيقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا ... » و «اللهم اغفر له وارحمه..» الخ مما سبق ذكره عند الحنفية، و «اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لا قيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إنه نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين» (1) .
ويقول في الطفل: «اللهم اجعله فَرَطاَ لأبويه، وسلفاً وذخراً، وعظة واعتباراً، وشفيعاً، وثقِّل به موازينَهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما» لأن ذلك مناسب للحال.
__________
(1) جمع ذلك الشافعي رضي الله عنه من الأخبار، واستحسنه الأصحاب.(2/637)
ويقول عند الشافعية بعد التكبيرة الرابعة: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر لنا وله» ويسن أن يطول الدعاء بعد هذه التكبيرة الرابعة، لثبوته عنه صلّى الله عليه وسلم (1) ويقرأ آية: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به..} [غافر:7/40] الآية.
ويقف عند الحنابلة بعد التكبيرة الرابعة قليلاً. لما روى الجوزجاني عن زيد بن أرقم أن النبي «كان يكبر أربعاً، ثم يقف ما شاء الله، فكنت أحسب هذه الوقفة لتكبير آخر الصفوف» ولا يشرع بعدها دعاء.
والخلاصة: إن صلاة الجنازة تبدأ بالنية وتشتمل على أربع تكبيرات ودعاء للميت حال القيام، وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم وفاتحة وسلام إلا أن النية شرط لا ركن عند الحنفية والحنابلة، ومحل الدعاء عند الجمهور بعد التكبيرة الثالثة، وعقب كل تكبيرة حتى الرابعة على المعتمد عند المالكية، والصلاة على النبي مسنونة عند الحنفية، مندوبة عند المالكية، ركن عند الآخرين، والسلام واجب عند الحنفية ركن عند الجمهور، وقراءة الفاتحة مكروهة تحريماً بنية التلاوة جائزة بنية الدعاء عند الحنفية، ومكروهة تنزيهاً عند المالكية وركن عند الآخرين. ولو زاد الإمام عن أربع تكبيرات لا يتابعه المقتدي في الزيادة، وإنما ينتظره ليسلم معه عند الحنفية والشافعية، ويسلم عند المالكية، ويتابعه إلى سبع تكبيرات عند الحنابلة.
خامساً ـ مكان وقوف الإمام من الجنازة:
اختلف الفقهاء في تحديد مكان وقوف الإمام أمام الجنازة على آراء (2) :
فقال الحنفية: يندب أن يقوم الإمام بحذاء الصدر مطلقاً للرجل والمرأة؛ لأنه محل الإيمان، والشفاعة لأجل إيمانه، وعملاً بما روي عن ابن مسعود.
وقال المالكية: يقف الإمام عند وسط الرجل، وعند منكبي المرأة.
وقال الشافعية: يندب أن يقف المصلي إماماً أو منفرداً عند رأس الرجل، وعند عجز الأنثى، أي ألياها، اتباعاً للسنة، كما روى الترمذي وحسنه، وحكمة المخالفة: المبالغة في ستر الأنثى. أما المأموم فيقف في الصف حيث كان.
__________
(1) رواه الحاكم وصححه.
(2) الدر المختار:819/1، بداية المجتهد:228/1ومابعدها، القوانين الفقهية: ص95، مغني المحتاج:348/1، المغني:517/2، فتح القدير:462/1، الشرح الكبير مع الدسوقي:418/1.(2/638)
وقال الحنابلة: يقوم الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. ومنشأ الخلاف: اختلاف الآثار في ذلك: ففي حديث سمرة بن جندب قال: «صليت وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصلاة وسطها» (1) وفي حديث أبي غالب الحنَّاط قال: «شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رُفِعت أُتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العلوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة، قال: يا أبا حمزة: هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقوم من الرجل حيث قمتُ، ومن المرأة حيث قمتُ، قال: نعم» (2) وفي لفظ لأبي داود: «فقال العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعاً، ويقوم عند رأس الرجل، وعَجيزة المرأة، قال: نعم» .
فمنهم من أخذ بحديث سمرة للاتفاق على صحته، وقال: المرأة في ذلك والرجل سواء؛ لأن الأصل أن حكمهما واحد، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
ومنهم من صحح حديث أبي غالب، وقال: فيه زيادة على حديث سمرة، فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلاً.
__________
(1) رواه الجماعة (نيل الأوطار:66/4) .
(2) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود (المصدر السابق) .(2/639)
سادساً ـ حالة المسبوق في صلاة الجنازة:
اتفق الفقهاء على أن المسبوق يتابع الإمام فيما لحقه، ويتم ما فاته، ولكن لهم تفصيلات في كيفية الإتمام (1) .
فقال الحنفية: المسبوق ببعض التكبيرات يكبر للتحريمة ثم لا يكبر في الحال، بل ينتظر تكبير الإمام ليكبر معه للافتتاح؛ لأن كل تكبيرة ركعة، كما سبق، ثم يكبر ما فاته كالمدرك الحاضر، بعد فراغ الإمام، تكبيراً متتابعاً، بلا دعاء إن خشي رفع الميت على الأعناق.
أما لو جاء المسبوق بعد تكبيرة الإمام الرابعة فقد فاتته الصلاة، لتعذر الدخول في تكبيرة الإمام.
وكذلك قال المالكية: يكبر المسبوق للتحريمة، ثم يصبر وجوباً إلى أن يكبر الإمام، فإن كبر صحت صلاته، ولا يعتد بها عند أكثر المشايخ، ثم يدعو المسبوق بعذ فراغ الإمام إن تركت الجنازة، وإلا بأن رفعت والى التكبير بلا دعاء وسلم. فالمالكية كالحنفية تماماً.
وقال الشافعية: يكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة، وإن كان الإمام في تكبيرة أخرى غير الأولى، فإن كبر الإمام تكبيرة أخرى قبل شروع المأموم في الفاتحة بأن كبر عقب تكبيره، كبر معه، وسقطت القراءة، وتابعه في الأصح، كما لو ركع الإمام عقب تكبير المسبوق، فإنه يركع معه، ويتحملها عنه. وإذا سلم الإمام وجب على المسبوق تدارك باقي التكبيرات بأذكارها.
وقال الحنابلة: من فاته شيء من التكبير قضاه متتابعاً، فإن سلم مع الإمام ولم يقض، فلا بأس وصحت صلاته، أي أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها على صفته، عملاً بقول ابن عمر: إنه لا يقضي.
__________
(1) الدر المختار:819/1-821، الشرح الصغير:556/1، مغني المحتاج:344/1، المغني:494/2 مابعدها، كشاف القناع: 139/2، القوانين الفقهية: ص95، بداية المجتهد:230/1.(2/640)
ولما روي عن عائشة أنها قالت: «يا رسول الله، إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير؟ قال: ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» (1) .
فإن خشي المسبوق رفع الجنازة، تابع بين التكبير من غير قراءة ولا صلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم ولا دعاء للميت، سواء رفعت الجنازة أم لا.
ومتى رفعت الجنازة بعد الصلاة عليها لم توضع لأحد يريد أن يصلي عليها، تحقيقاً للمبادرة إلى مواراة الميت، أي يكره ذلك.
سابعاً ـ شروط الصلاة على الميت:
يشترط في المصلي لصحة صلاة الجنازة شروط الصلاة (2) من إسلام وعقل وتمييز وطهارة وستر عورة (مع أحد العاتقين عند الحنابلة) وطهارة أو اجتناب نجاسة في البدن والثوب والمكان، واستقبال القبلة، والنية، وغيرها من الشروط إلا الوقت، لأنها صلاة، فهي كغيرها من الصلوات، سوى الوقت، والجماعة فلا يشترطان فيها، أما الوقت فمطلق غير مقيد بزمن معين، وأما الجماعة فلا تشترط فيها كالمكتوبة، بل تسن لخبر مسلم: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه» ويسقط فرض الصلاة بواحد؛ لأن الجماعة لا تشترط فيها، ولا يسقط الفرض بالنساء، وهناك رجال، في الأصح عند الشافعية؛ لأن فيه استهانة بالميت.
وإنما صلت الصحابة على النبي صلّى الله عليه وسلم فرادى (3) ـ كما رواه البيهقي وغيره ـ لعظم أمره، وتنافسهم في ألا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، أو لأنه لم يكن قد تعين إمام يؤم القوم، فلو تقدم واحد في الصلاة، لصار مقدماً في كل شيء وتعين للخلافة.
ويشترط على المذهب عند الشافعية ألا يتقدم المصلي على الجنازة الحاضرة، ولا على القبر إذا صلي عليه، اتباعاً لفعل السلف، ولأن الميت كالإمام.
ويشترط في الميت لفرضية الصلاة عليه ما يأتي (4) :
__________
(1) ذكر الحديث في المغني وكشاف القناع، المكان السابق.
(2) رد المحتار:811/1، القوانين الفقهية: ص95، مغني المحتاج:344/1، كشاف القناع:134/2،136، المهذب:132/1،135، بداية المجتهد:235/1، الشرح الصغير:574/1.
(3) أي جماعات بعد جماعات.
(4) الدر المختار ورد المحتار:811/1-813، القوانين الفقهية: ص 93 ومابعدها، مراقي الفلاح: ص98، المهذب:132/1، المجموع:165/5، كشاف القناع:126/2، المغني:558/2 وما بعدها.(2/641)
1ً - أن يكون الميت مسلماً: ولو بطريق التبعية لأحد أبويه، أو للدار، فلا يصلى على كافر أصلاً لقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً} [التوبة:9/84] ، ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم.
2َ - أن يكون جسده هو أو أكثره موجوداً، وهذا شرط عند الحنفية والمالكية. فلا يصلى على عضو.
3ً - أن يكون حاضراً موضوعاً على الأرض أمام المصلي، في اتجاه القبلة: وهذا شرط عند الحنفية، فلا يصلى على غائب، محمول على نحو دابة، وموضوع خلف الإمام، ووافقهم المالكية على اشتراط كون الميت حاضراً.
وأما الصلاة على النجاشي فهي خصوصية له. وأما وضع الميت أمام المصلي فمندوب عند المالكية. وتجوز الصلاة عند الشافعية والمالكية على الميت المحمول على دابة أو أيدي الناس أو أعناقهم.
4ً - أن يكون قبل الصلاة عليه معلوم الحياة: وهذا شرط عند الجمهور خلافاً للحنابلة، فلا يصلى على مولود ولا سِقْط، إلا إن علمت حياته بارتضاع أو حركة، أو يستهل صارخاً، كما سأبين.
5ً - طهارة الميت: فلا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل أو التيمم.
6ً - ألا يكون شهيداً: وهو من مات في معترك الجهاد، وهذا شرط عند الجمهور، فلايغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه، وينزع عنه السلاح. وقال الحنفية: يكفن الشهيد ويصلى عليه، ولا يغسل. فإن قتل المسلم في غير الجهاد ظلماً أو أخرج من المعترك حياً، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل، وصلي عليه في المشهور عند المالكية، ولدى بقية الفقهاء.(2/642)
ومن قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه عند المالكية والشافعية، وقال الحنفية كما أبنت: لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال الحنابلة: يغسل الباغي ويكفن ويصلى عليه، وأما أهل العدل فلا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم؛ لأنهم كالشهداء في معركة المشركين (1) .
ثامناً ـ وقت الصلاة على الجنازة:
سبق الكلام عن ذلك في بحث الأوقات التي تكره فيها الصلاة، وملخصه (2) :
قال الحنفية: يكره تحريماً ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي عند طلوع الشمس، وغروبها، واستوائها في منتصف النهار، ومابعد صلاة الصبح حتى الطلوع، وما بعد صلاة العصر حتى الغروب.
وقال المالكية والحنابلة: تحرم ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الطلوع والغروب وزوال الشمس لظاهر حديث عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا..» الحديث. وتجوز الصلاة في الوقتين الآخرين وهما ما بعد صلاتي الصبح والعصر إلى الطلوع والغروب.
وقال الشافعية: يجوز فعل صلاة الجنازة في جميع الأوقات؛ لأنها صلاة لها سبب، فجاز فعلها في كل وقت.
وأرى الأخذ بمذهب الشافعية في حال الضرورة أو الحاجة، ويمتنع من الصلاة في الأحوال الأخرى، رعاية للخلاف.
__________
(1) الكتاب مع اللباب:136/1، القوانين الفقهية: ص94، مغني المحتاج:350/1، المغني:534/2.
(2) انظر بداية المجتهد:234/1، المهذب:132/1، المغني:554/2 ومابعدها.(2/643)
تاسعاً ـ الصلاة على الميت بعد الدفن وتكرار الصلاة عليه قبل الدفن:
يكره عند الحنفية والمالكية تكرار الصلاة على الجنازة حيث كانت الأولى في جماعة، فإن لم تكن في جماعة أعيدت ندباً بجماعة قبل الدفن (1) .
وأجاز الشافعيةوالحنابلة تكرار الصلاة على الجنازة مرة أخرى، لمن لم يصل عليها أولاً، ولو بعد الدفن (2) ، بل يسن ذلك عند الشافعية، فقد فعله عدد من الصحابة، وفي حديث متفق عليه عن ابن عباس قال: «انتهى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصفوا خلفه، وكبرأربعاً» .
أما الصلاة على الميت بعد الدفن: فجائزة باتفاق الفقهاء إذا لم يكن صلي عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة من الأنصار (3) . ويحسن ذكر عبارات الفقهاء لمعرفة القيود الشرعية للصلاة:
قال الحنفية (4) : إن دفن الميت ولم يصل عليه، صلي على قبره، استحساناً ما لم يغلب على الظن تفسخه، والمعتبر في معرفة عدم التفسخ أكبر الرأي من غير تقدير في الأصح، لاختلاف الحال والزمان والمكان.
وقال المالكية (5) : إن كان لم يصل على الميت، أخرج للصلاة عليه مالم يفرغ من دفنه، فإن دفن صلي على القبر، ما لم يتغير.
__________
(1) الشرح الصغير:596/1.
(2) المغني:511/2-512، مغني المحتاج:361/1.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من حديث خارجة بن زيد بن ثابت (نصب الراية:265/2) .
(4) فتح القدير:458/1 ومابعدها، الكتاب مع اللباب:132/1، مراقي الفلاح: ص99، الدر المختار:826/1 ومابعدها.
(5) الشرح الكبير مع الدسوقي:412/1، القوانين الفقهية: ص95، بداية المجتهد:230/1 ومابعدها.(2/644)
وقال الشافعية (1) : إذا دفن الميت قبل الصلاة، صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصل إليه في القبر. وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يخش عليه الفساد في نبشه، نبش وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب فعله. وإن خشي عليه الفساد، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر.
وإن أدخل القبر ولم يهل التراب عليه، يخرج ويصلى عليه.
وقال الحنابلة (2) : إذا دفن الميت غير متوجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، نبش ووجه إليها، تداركاً لذلك الواجب، وصلي عليه، ليوجد شرط الصلاة. كذلك يخرج ليكفن إن دفن قبل تكفينه.
ودليلهم على الصلاة: أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكر رجلاً مات، فقال: «فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه» (3) .
لكن لا يصلى على القبر بعد شهر، لما روى سعيد بن المسيب «أن أم سعد ماتت والنبي صلّى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» (4) قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجازت الصلاة عليه فيها كما قبل الثلاث، وكالغالب.
وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم لا يصلى عليه؛ لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر (5) .
عاشراً ـ الصلاة على الغائب:
للفقهاء رأيان في الصلاة على الغائب عن البلد (6) :
رأي الحنفية والمالكية: عدم جواز الصلاة على الغائب، وصلاة النبي على النجاشي لغوية أو خصوصية، وتكون الصلاة حينئذ مكروهة.
ورأى الشافعية والحنابلة: جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وإن قربت المسافة، ولم يكن في جهة القبلة، لكن المصلي يستقبل القبلة، لما روى جابر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعاً» (7) .
وتتوقت الصلاة على الغائب عند الحنابلة بشهر، كالصلاة على القبر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش أكثر من ذلك.
__________
(1) المهذب:138/1، المجموع:264/5.
(2) كشاف القناع:97/2، المغني:511/2،519.
(3) متفق عليه (نيل الأوطار: 51/4) .
(4) أخرجه الترمذي (المصدر السابق) .
(5) عن ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد شهر» . وعنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلى على ميت بعد ثلاث» رواهما الدارقطني (نيل الأوطار:51/4) .
(6) الدر المختار:813/41، القوانين الفقهية: ص94، الشرح الصغير:571/1، المجموع:209/5، المهذب:134/1، مغني المحتاج:345/1، المغني:512/2 ومابعدها، كشاف القناع:126/2.
(7) متفق عليه، وروى أحمد مثله عن أبي هريرة، كما روى ذلك أحمد والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار:48/4 ومابعدها) .(2/645)
الحادي عشر ـ الصلاة على المولود:
يصلى على المولود أو السقط عند الحنابلة (1) إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، ويغسل أيضاً، والسقط: الولد تضعه المرأة ميتاً، أو لغير تمام، فأما إن خرج حياً واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف.
واستدلوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (2) وفي لفظ رواية النسائي والترمذي: «والطفل يصلى عليه» وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل» ، ولأنه نسمة نفخ فيه الروح، فيصلي عليه كالمستهل، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم أخبر في حديثه الصادق المصدوق أنه ينفخ فيه الروح لأربعة أشهر.
وقال الجمهور (3) : يصلى على المولود إن ظهرت عليه أمارات الحياة. وعباراتهم ما يأتي:
قال الحنفية: إن استهل المولود سمي وغسل وصلي عليه، واستهلال الصبي: أن يرفع صوته بالبكاء عند الولادة، أو أن يوجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل غسل وسمي في الأصح المفتى به على خلاف ظاهر الرواية، ويدرج في خرقة إكراماً لبني آدم، ولم يصل عليه.
ودليلهم حديث علي: أنه سمع سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في السقط: «لا يصلى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صلي عليه، وعُقل، وورِّث، وإن لم يستهل لم يصل عليه، ولم يورث ولم يُعقل» (4) أي لادية له وهي خمسون ديناراً.
__________
(1) المغني:522/2، كشاف القناع:116/2 ومابعدها.
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي، وقال عن حديثه: هذا حديث حسن صحيح.
(3) فتح القدير:465/1، الدر المختار:828/1-830، مراقي الفلاح: ص99 ومابعدها، الشرح الصغير:574/1، القوانين الفقهية: ص93 ومابعدها، مغني المحتاج:349/1، المهذب:134/1، بداية المجتهد: 232/1 ومابعدها.
(4) رواه ابن عدي، وروى أيضاً مثله عن ابن عباس بلفظ «إذا استهل الصبي صلي عليه، وورث» وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر موقوفاً عليه في الأصح: «الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل» (نصب الراية:277/2-278) .(2/646)
وقال الشافعية: السقط إن استهل أو بكى ككبير، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن لتيقن موته بعد حياته. وإن لم يستهل أو لم يبك: فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج صلِّي عليه في الأظهر، لاحتمال الحياة بهذه القرينة الدالة عليها وللاحتياط. وإن لم تظهر لم يصل عليه، وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر.
والسقط: هو الذي لم يبلغ تمام أشهره، أما من بلغها فيصلى عليه مطلقاً. ودليلهم حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (1) وحديث «صلوا على أطفالكم فإنها من أفراطكم» (2) .
وقال المالكية: يصلى على المولود أو السقط إن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو يستهل صارخاً. ويكره غسله والصلاة عليه إن لم يستهل صارخاً، ولو تحرك أو بال أو عطس إن لم تتحقق حياته. ويغسل دم السقط ويلف بخرقة ويوارى وجوباً فيهما، وندباً في الأول: وهو الغسل.
الثاني عشر ـ مكان الصلاة:
يصلى على الميت في المصلى، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم حينما برز للمصلى في صلاته على النجاشي.
__________
(1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم، وقال: على شرط البخاري، وفي سنده اضطراب (نصب الراية:279/2) .
(2) حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة (المصدر السابق) .(2/647)
وأما الصلاة في المقبرة على الجنازة فهي ـ كما بينا في مكروهات الصلاة ـ مكروهة عند الحنفية والشافعية للنهي الوارد عن الصلاة فيها: «نهي صلّى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله العتيق» ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (1) .
وأجاز المالكية والحنابلة الصلاة على الجنازة في المقبرة، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» .
واستثنى الشافعية من الكراهة مقابر الأنبياء وشهداء المعركة لأنهم أحياء في قبورهم (2) . ويكره استقبال القبر في الصلاة لخبر مسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» ويحرم استقبال قبره صلّى الله عليه وسلم وقبور سائر الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام (3) . ورأي المالكية والحنابلة أقوى في تقديري لعدم صحة حديث النهي عن الصلاة في الأماكن السبعة. وأما الحديث الثاني فيحتمل تخصيص صلاة الجنازة منه.
وأما الصلاة على الجنازة في المسجد:
ففيها رأيان: الكراهة عند الحنفية والمالكية، والجواز عند الشافعية والحنابلة (4) .
__________
(1) الحديث الأول رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقوي، والحديث الثاني رواه أحمد وابن حبان والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد.
(2) البدائع:115/1، بداية المجتهد:235/1، مغني المحتاج:203/1، المغني:294/2.
(3) مغني المحتاج: المكان السابق.
(4) الدر المختار:89/1، فتح القدير:463/1 ومابعدها، اللباب:133/1، مراقي الفلاح: ص 99، بداية المجتهد:234/1، القوانين الفقهية: ص95، الشرح الصغير:568/1، مغني المحتاج:361/1، المهذب:132/1، المغني:493/2.(2/648)
أما الاتجاه الأول وهو كراهة الصلاة، سواء أكانت الجنازة في المسجد أم خارجه، فلحديث أبي هريرة: «من صلى على ميت في المسجد، فلا شيء له» (1) ، ولأن المسجد بني لأداء المكتوبات وتوابعها كنافلة وأذكار وتدريس علم، ولأنه يحتمل تلويث المسجد، والكراهة تحريمية عند الحنفية، تنزيهية عند المالكية.
وكما تكره الصلاة على الجنازة في المسجد، يكره إدخالها فيه.
وأما الاتجاه الثاني: وهو إباحة الصلاة على الجنازة في المسجد، بل إنه يستحب ذلك عند الشافعية إن لم يخش تلويثه، فلأن المسجد أشرف، وعملاً بما ثبت في السنة عن عائشة: «والله لقد صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه» وفي رواية: «ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في جوف المسجد» (2) ، وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد» (3) .
ويظهر لي أن الاتجاه الثاني أقوى؛ لأن حديث أبي هريرة غير ثابت، أو غير متفق على ثبوته، قال النووي: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. وقال أحمد بن حنبل: حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة، وهو ضعيف.
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجه وابن عدي، وابن أبي شيبة، ولفظ الأخير «فلا صلاة له» وهو ضعيف (نصب الراية:275/2، نيل الأوطار:68/4 ومابعدها) .
(2) اللفظ الأول رواه مسلم، والثاني رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار:68/4، نصب الراية:276/2) .
(3) رواه سعيد وروى الثاني مالك (نيل الأوطار، المكان السابق) .(2/649)